فهذه روح النائم متعلقة ببدنه وهي في السماء تحت العرش ، وترد إلى البدن في أقصر وقت ، فروح النائم مستقرها البلد تصعد حتى تبلغ السماء ، وترى ما هنالك ولم تفارق البدن فراقاً كلياً وعكسه أرواح الأنبياء والصديقين والشهداء مستقرها في عليين وترد إلى البدن أحياناً ، ولم تفارق مستقرها ، ومن لم ينشرح صدره لفهم هذا والتصديق به فلا يبادر إلى رده وإنكاره بغير علم ، فإن للأرواح شأناً آخر غير شأن الأبدان ، وقد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : (( أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد(1) ، وهذا قرب الروح نفسها من الرب ولم تفارق البدن ، والرب تعالى فوق سمواته على عرشه )) .
ولا يتلفت إلى كثافة طبع الجهمي وغلظ قلبه ، ورقة إيمانه ومبادرته على تكذيب ما لم يحط بعلمه ، فالروح تقرب حقيقة بنفسها في حال السجود من ربها تبارك وتعالى لا سيما في النصف الأخير من الليل حين يجتمع القرباء ، إذا أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد ، وأقرب ما يكون ( الرب ) من عبده في جوف الليل حين ينزل إلى السماء الدنيا ويدنو من عبادة ، فتحس الروح بقربها حقيقة من ربها سبحانه .
ومع هذا فهي بدنها وهو ( سبحانه ) فوق سمواته على عرشه ، وقد دنا من عباده ونزل إلى السماء الدنيا ، فإن علوه سبحانه وعلى خلقه أمر ذاتي ، له معلوم بالعقل والفطرة وإجماع الرسل ، فلا يكون فوقه شيء البتة ، ومع هذا فيدنوا عشية عرفة من أهل الموقف وينزل إلى سماء الدنيا (2)، وهذا الذي ذكرناه من دنو الرب تبارك وتعالى من عباده مع كونه عالياً على خلقه هو قول كثير من المحققين من أهل السنة .
قالوا : وإذا كان شأن الأرواح ما ذكرنا وهي مخلوقة محصورة متحيزة ، فكيف بالخالق الذي يحيط ولا يحاط به ؟
__________
(1) الحديث أخرجه مسلم 482 وأبو داود 875 وغيرهما .
(2) لشيخ الإسلام ابن تيمية شرح لحديث النزول فراجعه فإنه مقيد للغاية فجزاه الله خيراً .(54/318)
وأعلم أن السلف الصالح ومن سلك سبيلهم من الخلف متفقون على إثبات نزول الرب تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا وكذلك هم مجمعون على إثبات الإتيان والمجيء ، وسائر ما ورد من الصفات في الكتاب والسنة من غير تحريف ولا تعطيل ، ولا تكييف ولا تمثيل ، ولم يثبت عن أحد من السلف أنه تأول شيئاً من ذلك .
وأما المعتزلة " الجهمية فإنهم يردون ذلك ولا يقبلونه ، وحديث النزول متواتر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : قال عثمان بن سعيد الدارمي : هو أغيظ حديث للجهمية ، وقال أبو عمر بن عبد البر : هو حديث ثابت من جهة النقل الصحيح الإسناد لا يختلف أهل الحديث في صحته .
وقال سليمان بن حرب سأل بشر بن السري حماد بن زيد فقال : يا أبا إسماعيل الحديث الذي جاء : ينزل الله إلى السماء الدنيا يتحول من مكان إلى مكان ، فسكت حماد ، ثم قال : هو في مكانه يقرب من خلقه كيف يشاء .
وقال إسحاق بن راهوية : جمعني وهذا المبتدجع - يعني إبراهيم بن صالح - مجلس الأمير عبد الله بن طاهر ، فسألني الأمير عن أخبار النزول فسردتها ، فقال إبراهيم: كفرت برب ينزل من سماء إلى سماء ، فقلت : آمنت برب يفعل ما يشاء ، قال :فرضي عبد الله كلامي ، وأنكر على إبراهيم .
وسأل رجل عبد الله بن المبارك عن النزول فقال : يا أبا عبد الرحمن كيف ينزل ؟ فقال عبد الله : " كدخداي خويش كد " ينزل كيف يشاء ، وقال أبو الطيب أحمد بن عثمان حضرت عند أبي جعفر الترمذي فسأله سائل عن حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - : (( إن الله ينزل إلى سماء الدنيا )) فالنزول كيف يكون يبقى فوقه علو ؟ فقال أبو جعفر الترمذي : البنزول معقول ، والكيف مجهول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة .(54/319)
وأبو جعفر هذا اسمه محمد بن أحمد بن نصر(1) ، وكان من كبار فقهاء الشافعية ومن أهل العلم والفضل والزهد في الدنيا أثنى عليه الدارقطني وغيره ، وقد قال في النزول كما قال مالك رحمه الله في الاستواء ، وهكذا القول في سائر الصفات .
وقد اختلف المثبتون للنزول هل يلزم منه خلو العرش منه أم لا ، ونحن نشير إلى ذلك إشارة مختصرة فنقول : قالت طائفة : لا يلزم منه خلو العرش ، بل ينزل إلى سماء الدنيا وهو فوق العرش ، قالوا وكذلك كلم موسى من الشجرة وهو فوق عرشه وكذلك يحاسب الناس يوم القيامة ، ويجيء ويأتي وينطلق وهو فوق العرش ، لأنه سبحانه أكبر من كل شيء ، كما دل عليه السمع والعقل ،وهو العلي العظيم ،فلا يزال سبحانه علياً على المخلوقات كلها العرش وغيره في كل وقت ، وفي كل حال من نزول وإتيان وقرب وغير ذلك ، فلو خلا منه العرش حال نزوله لكان فوقه شيء ، وكان غير عال وهذا ممتنع في حقه سبحانه ، لأن علوه من لوازم ذاته فلا يكون غير عال أبداً ، ولا يكون فوقه شيء أصلاً .
__________
(1) كان زاهداً ورعاً سكن بغداد وكان شيخ الشافعية بالعراق ابن شريح وتفقه على الربيع ابن سليمان المرادي وغيره من أصحاب الشافعي وكان حنفياً ثم صار شافعياً لمنام رآه قال الدارقطني ثقة مأمون ناسك ، من مؤلفاته ،" اختلاف أهل الصلاة " ولد في ذي الحجة سنة مائتين وتوفي في المحرم سنة خمس وتسعين ومئتين ، انظر ترجمته في البداية والنهاية 11/107 والأنساب للمسعاني 3/43 ووفيات الأعيان 3/334 وشذرات الذهب 2/220 والعبر 2/103 وطبقات الشافعية لابن هداية ص37 ، وتاريخ بغداد 1/365 .(54/320)
وقالت طائفة أخرى : بل خلوا العرش منه من لوازم نزوله ، فتقول : ينزل إلى سماء الدنيا ويخلو منه العشر إذا نزل ، لأن النزول الحقيقي يستلزم ذلك ، والقول بإثبات النزول معكونه فوق العرش غير معقول ، وكذلك القول بأنه يحاسب الناس يوم القيامة في الأرض ، وأنه يجيء ويقبل ويأتي وينطلق ويتبعونه ، وأنه يمر أمامهم ، وأنه يطوف في الأرض ويهبط عن عرضه إلى كرسيه ، أو غيره ، ثم يرتفع إلى عرشه كما ورد هذا كله في الحديث ، وأنه كلم موسى عليه السلام من الشجرة حقيقة(1) ، وهو مع ذلك كله فوق عرشه أملا يتصوره العقل ، ولم يدل عليه النقل فيجب القول به والانقياد له ، بل هو شيء لا يخطر ببال من سمع الأحاديث في ذلك وكان سليم الفطرة إلا أنه يوافقه عليه من يعتقد فيقرره في ذهنه .
وقد علم أن نزول الرب تبارك وتعالى أمر معلوم معقول كاستوائه وباقي صفاته ، وأن كانت الكيفية مجهولة غير معقولة ، وهو ثابت حتى حقيقة لا يحتاج إلى تحريف ، ولكن يصان عن الظنون الكاذبة ، وما لزم الحق فهو عين الحق .
__________
(1) نؤمن أن موسى تلقى كلام الله تعالى حقيقة وأنه سمعه بأذنيه ولقد أخطأ سيد قطب رحمه الله تعالى حيث قال في 5/2692 من الظلال في سورة القصص .. تلقاه لا تدري كيف وبأي جارحة ، ولسيد قطب رحمه الله أخطاء في كتابه الظلال خصوصاً في باب العقيدة وأرشد القارئ إلى مراجعة ما كتبه الشيخ الدويش رحمه الله في كتابه ( الموارد الزلال في التنبيه على أخطاء الظلال )(54/321)
قال هؤلاء : ونحن أقرب إلى الحق وأولى بالصواب ممن خالفنا ، لأننا قلنا بالنصوص كلها ، ولم نرد منها شيئاً ولم نتأوله ، بل أثبتنا نزول الرب تبارك وتعالى حقيقة مع إقرارنا بأنه العلي العظيم الكبير المتعال ، فلا شيء أعلى منه ، ولا أعظم منه ولا إله غيره ولا رب سواه هو الأول الذي ليس قبله شيء والآخر الذي ليس بعده شيء ، والظاهر الذي ليس فوقه شيء ، والباطن الذي ليس دونه شيء ، وكونه علياً عظيماً لا ينافي نزوله حقيقة عند من عقل معنى النصين وفهم معنى الخبرين ، قالوا : فنحن قلنا بموجب النصين العلو والنزول .
وأما مخالفتنا القائل بأنه ينزل ولا يخلو منه العرش فحقيقة قوله إما نفي معنى النزول بالكلية ، وإثبات مجرد لفظه ، وإما حمله له على أمر لا يعقل أصلاً ، وأما تفسيره بما يخالف ظاهر اللفظ وحقيقته وهو القول بنزول بعض الذات .
ثم إنه يرد على قائل هذا ما أورده علينا من أنه يبقى شيء من المخلوقات فوق بعض الذات ، وذلك ينافي العلو المطلق الذي هو من لوازم ذاته ، فمخالفتنا يلزمه أمران :
أحدهما : ما أورده علينا .
والآخر : مخالفته اللفظ وحمله ( له ) على المجاز دون الحقيقة من غير دليل ، ونحن لا يلزمنا محذور أصلاً ، فإنا جمعنا بين نصوص الكتاب والسنة وقلنا بها كلها وحملناها على الحقيقة دون المجاز لم نتأول منها شيئاً برأينا ولا صرفنا منها شيئاً عن ظاهر بعقلنا .
قالت الطائفة الأولى القائلة بعدم الخلو : بل نحن أولى بالحق منكم ، فإنا نحن القائلون بالنصوص كلها الجامعون بين الأدلة العقلية والسمعية .(54/322)
وأما أنتم فيلزمكم مخالفة ما ورد من نصوص العظمة ، وأن يكون المخلوق محيطاً بالخالق ، وما ذكرتموه من استلزم النزول بخلو العرش هو عين الجهل ، وإنما ذلك لازم في نزول المخلوق والله تعالى ليس كمثله شيء لا في ذاته ، ولا في صفاته ،ولا في أفعاله ، وهو العالي في دنوه ، القريب في علو ، ليس فوقه شيء ولا دونه شيء بل هو العالي على جميع خلقه في حال نزوله ، وفي غير حال نزوله ، وهو الواسع العليم ، أكبر من كل شيء وأعظم من كل شيء ،وهو المحيط بكل شيء ولا يحيط به شيء ما السموات السبع والأرضون السبع وما فيهن وما بينهن في يده إلا كخردلة في يد أحدكم ، وهو الموصوف بالعلو المطلق ، ولم يزل عالياً ولا يكون إلا عالياً سبحانه وتعالى .
وفي هذا كله ما يبطل قولكم إنه إذا نزل يخلوا منه العرش ، فإن ذلك يلزم منه أمور ممتنعة ، منها إحاطة المخلوق بالخالق ، وأن لا يكون الخالق أكبر من كل شيء ولا أعظم من كل شيء وكل ذلك محال .
وقالوا : وأما نحن فنقول لا يخلو منه العرش إذا نزل ، بل هو فوق عرشه يقرب من خلقه كيف شاء وإن كنا قد نقول إنه غير موصوف بالاستواء حال النزول ، فإن الاستواء علو خاص ،وهو أمر معلوم بالسمع .(54/323)
وأما مطلق العلو فإنه معلوم بالعقل ، وهو من لوازم ذاته ، فقربه إلى خلقه حال نزوله لا ينافي مطلق علوه على عرشه ، قالوا : وما ذكره مخالفنا من أنا ننفي معنى النزول بالكلية أو نفسره بأمر لا يعقل ، باطل ، بل النزول عندنا أمر معلوم معقول غير مجهول ، وهو قرب الرب تبارك وتعالى من خلقه كيف يشاء ، وقول المصطفى صلوات الله وسلامه عليه (( ينزل ربنا )) (1) كقوله تعالى { فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا } (الأعراف 143) وقد ثبت أن الذي تجلى منه مثل الخنصر ، أو مثل طرف الخنصر مع إضافة التجلي إليه ، فكذلك النزول من غير فوق ، ولا يلزمنا على هذا ما لزمكم من إحاطة المخلوق بالخالق وكونه غير علي عظيم .
وقد ثبت أن جبريل عليه السلام كان يأتي النبي - صلى الله عليه وسلم - في صورة دحية ، مع العلم بأن صورته التي خلق عليها لم تزل ولم تعدم في تلك الحال ، بل تمثل له بعضها في صورة دحية ، فخاطبه ، ولبس في الشرع ولا في العقل ما ينافي ذلك .
قالت الطائفة الأخرى القائلة بالخلو : الواجب علينا كلنا اتباع النصوص كلها والجمع بينها وأن لا نضرب بعضها ببعض ، ولا يخفى أن جميع ما ورد من نصوص العظمة نحن به مصدقون ، وإليه منقادون وبه موقنون ، وما ذكرتموه من العلو والعظمة لا ينافي حقيقة النزول ، ونحن لا نمثل نزول الرب تبارك وتعالى بنزول المخلوق ولا استواءه باستوائه ، وكذلك سائر الصفات نعوذ بالله من التمثيل والتعطيل .
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب التهجد ( الباب الرابع عشر الدعاء والصلاة من آخر الليل ) وفي كتاب الدعوات ( باب الدعاء نصف الليل ) وفي التوحيد ( باب قوله تعالى يريدون أن يبدلوا كرام الله ) ومسلم 1/521 .(54/324)
لكن إثبات القدر المشترك لا بد منه كما في الوجود ، وباقي الصفات ، وإلا لزم التعطيل المحض ، فنحن نثبت النزول على وجه يليق بجلال الله وعظمته ، من غير تحريف ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل ، ونقول قد أخبر ( به ) الصادق وما أخبر به فهو عين الحق ، وما لزم الحق فهو حق ، ونقول : أن النزول الحقيقي يستلزم ما ذكرناه وما استروح إليه مخالفتنا من أن المراد نزول بعض الذات كما في قوله { فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا } (الأعراف 143) والمراد تجلي البعض أمر غير معقول منه ، والفرق بين الموضوعين ظاهر والدليل هناك دل على إرادة البعض فلا يلزم من الحمل على إرادة البعض في مكان بديل الحمل على إرادة البعض في مكان آخر من غير دليل .
وما ذكر من أمر جبير وتمثل بعضه للنبي- صلى الله عليه وسلم - في صورة دحية ، أمر لم يدل على عقل ولا شرع ، فلا يجوز المصير إليه بمجرد الرأي ،ـ بل الذي كان يأتي النبي - صلى الله عليه وسلم - في صورة دحية هو جبريل حقيقة ، ولعظيم مرتبته وعلو منزلته أقدره الله تعالى على أن يتحول من صورة إلى صورة ، ومن حال إلى حال ، فيرى مرة كبيراً ، ومرة صغيراً كما رآه النبي - صلى الله عليه وسلم - ولله سبحانه وتعالى المثل الأعلى في السموات والأرض .
وقد دل العقل والنقل على قيام الأفعال الاختيارية به فهو الفاعل المختار بفعل ما يشاء ويختار ، ذو القدرة التامة والحكمة البالغة والكمال المطلق ، وقد ثبت في الصحيح أنه يتحول من صورة إلى صورة وثبت أنه يتبدى لهم في صورة غير الصورة التي رأوه فيها أول مرة ثم يعود في الصورة التي رأوه فيها أول مرة .
وهذا كله حق لأن الصادق المصدوق المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى قد أخبر به ،وليس في العقل ما ينفيه ، بل جميع ما أمر به صاحب الشرع يوافقه العقل الصحيح ويؤيده وينصره ولا يخالفه أصلاً .(54/325)
وإذا عرف هذا فقد يقال ما ورد من الأدلة الدالة على العظمة وكبر الذات ، ليس بينها وبين ما قيل إنه يعارضها منافاة ولا معارضة ، بل جميع ذلك حق والجمع بين ذلك كله سهل يسير بعد العلم بإثبات الأفعال الاختيارية ،وأن الله هو الفعال لما يريد وهو الفاعل المختار يفعل ما يشاء ويختار لا إله غيره ولا رب سواه .
وقالت طائفة ثالثة : نحن لا نوافق الطائفة الأولى ولا الثانية ، بل نقول :ينزل كيف يشاء غير مثبتين للخلو ولا نافعين له بل مقتصرين على ما جاء في الحديث سالكين في ذلك طريق السلف الصالح .
وقد روى ( أبو ) الشيخ عن إسحاق بن راهويه ، قال : سألني ابن طاهر عن حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - يعني في النزول ، فقلت له : النزول بلا كيف ، وروى الأوزاعي عن الزهري ومكحول أنهما قالا : امضوا الأحاديث على ما جاءت ، وقال الأوزاعي ومالك والثوري والليث بن سعد وغيرهم من الأئمة : أمروا الأحاديث كما جاءت بلا كيف ، ولبسط الكلام في هذا موضع آخر والله سبحانه وتعالى أعلم .
الباب الثالث
فيما ورد في السفر إلى زيارته - صلى الله عليه وسلم - صريحاً وبيان أن ذلك لم يزل قديماً وحديثاً
قال المعترض(54/326)
وممن روي ذلك عنه من الصحابة ، بلال بن رباح مؤذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سافر من الشام إلى المدينة لزيارة قبره - صلى الله عليه وسلم - روينا ذلك بإسناد جيد إليه وهو نص في الباب ، وممن ذكره الحافظ أبو القاسم بن عساكر بالإسناد الذي سنذكره ، وذكر الحافظ أبو محمد عبد الغني المقدسي في الكمال في ترجمة بلال فقال : ولم يؤذن لأحد بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما روي إلا مرة واحدة في قدمة قدمها المدينة لزيارة قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - طلب إليه الصحابة ذلك فأذن ولم يتم الأذان ، وقيل : أنه أذن لأبي بكر الصديق رضي الله عنه في خلافته ، وممن ذكر ذلك أيضاً الحافظ أبو الحجاج المزي ، وها أنا أذكر إسناد ابن عساكر في ذلك : أنبأنا عبد المؤمن بن خلف وعلي بن محمد بن هارون وغيرهما قال : أنبأنا القاضي أبو نصر محمد بن هبة الله بن محمد بن مميل الشيرازي إذناً ، أنبأنا الحافظ أبو القاسم علي بن الحسن بن هبة الله بن عساكر الدمشقي قراءة عليه ، وأنا أسمع قال : أنبأنا أبو القاسم زهران بن طاهر ، أنبأنا أبو سعيد محمد بن عبد الرحمن ، أنبأنا أبو أحمد محمد بمن محمد أنبأنا أبو الحسن محمد بن الفيض الغسائي بدمشق ، حدثنا أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن سليمان بن بلال بن أبي الدرداء ، حدثني أبي محمد بن سليمان عن ابيه سليمان بن بلال ، عن أم الدرداء ، عن أبي الدرداء ، قال : لما دخل(1) عمر بن الخطاب رضي الله عنه فتح بيت المقدس وصار إلى الجابية سأله بلال أن يقره بالشام ففعل ذلك ، فقال : وأخي أبو رويحه الذي آخى بيني وبينه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ،فنزل ( دارياً ) في خولان فأقبل هو وأخوه إلى قوم من خولان فقال لهم : قد أتيناكم خاطبين ، وقد كنا كافرين فهدانا الله ، ومملوكين فأعتقنا الله ، وفقيرين فأغننا الله ، فإن
__________
(1) الظاهر أنها (رحل ) وهو يقتضيه السياق ووقع نفس الخطأ في كتاب شفاء السقام للسبكي.(54/327)
تزوجونا فالحمد لله وإن ت ردونا فلا حول ولا قوة إلا بالله فزوجهما .
ثم إن بلالاً رأى في منامه النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يقول له : ما هذه الجفوة يا بلال أما آن لك أن تزورني يا بلال ، فأنتبه حزناً وجلاً خائفاً فركب راحلته وقصد المدينة فأتى قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - فجعل يبكي عنده ويمزغ وجه عليه ، فأقبل الحسن والحسن فجعل يضمهما ويقبلهما ، فقالا له : يا بلال نشتهي نسمع أذانك الذي كنت تؤذن به لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المسجد ، ففعل ، فعلا سطح المسجد فوقف موقفه الذي كان يقف فيه ، فلما أن قال : الله أكبر الله أكبر ارتجت المدينة ، فلما أن قال : أشهد أن لا إله إلا الله ازداد رجتها ، فلما أن قال : أشهد أن محمداً رسول الله خرجن العوائق من خدورهن ، وقالوا : بعث رسول الله ، فلما رؤي يوماً أكثر باكياً ولا باكية بالمدينة بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من ذلك اليوم ، كذا ذكره ابن عساكر في ترجمة بلال .(54/328)
وذكره أيضاً في ترجمة إبراهيم بسند آخر إلى محمد بن الفيض ، أنبأنا جماعة عن جماعة ، عن ابن عساكر قال : : أنبأنا أبو محمد بن الأكفاني ، حدثنا عبد العزيز بن أحمد حدثنا تمام بن محمد ، حدثنا محمد بن سليمان ، حدثنا محمد بن الفيض فذكره سواء إلا أنه أسقط منه من فتح بيت المقدس ، وقال : آخي بيني وبينه ولم يقل خاطبين ، أبو رويحة أسمه عبد الله بن عبد الرحمن الخثعمي ، وفي الطبقات(1) أن مؤاخاته لبلال لم يثبتها محمد بن عمرو أثبتها ابن إسحاق وغيره واختار أنس أن يجعل ديوانه معه فضمه عمر إليه وضم ديوان الحبشة إلى خثعم لمكان بلال منهم ، وسليمان بن بلال بن أبي الدرداء ، روى عن جدته وأبيه بلال روى عنه ابنه محمد ، وأيوب بن مدرك الحنفي ، وذكر له ابن عساكر حديثاً ، ولم يذكر فيه تخريجاً وابنه محمد بن سليمان بن بلال ، ذكره مسلم في الكنى وأبو بشر الدولابي ، والحاكم أبو أحمد ، وابن عساكر كنيته أبو سليمان .
قال ابن أبي حاتم سألت أبي عنه فقال : ما يحديثه بأس ، وأبنه إبراهيم بن محمد بن سليمان أبو إسحاق ذكره الحاكم أبو أحمد ، وقال : كنا لنا محمد بن الفيض .
وذكر ابن عساكر وذكر حديثه ، ثم قال : ابن الفيض : توفي سنة اثنتين وثلاثين ومائتين ومحمد بن الفيض بن محمد بن الفيض : أبو الحسن الغساني الدمشقي روى عن خلائق ، وروى عنه جماعة منهم أبو أحمد بن عدي وأبو أحمد الحاكم ، وابو بكر بن المقري في معجمه وذكره ابن زبر ، وابن عساكر في التاريخ توفي سنة خمس عشرة وثلاثمائة ومولده سنة تسع عشر ومائتين ،ومدار هذا الإسناد عليه ، فلا حاجة إلى النظر في الإسنادين اللذين رواهما ابن عساكر بهما ، وإن كان رجالهما معروفين مشهورين وليس اعتمادنا في الاستدلال بهذا الحديث على رؤيا المنام فقط ، بل على فعل بلال وهو صحابي لا سيما في خلافة عمر رضي الله عنه والصحابة متوافرون .
__________
(1) انظر الطبقات 3/223 .(54/329)
ولا يخفى عنهم هذه القصة ، ومنام بلال ورؤياه للنبي الذي لا يتمثل به الشيطان ، وليس فيه ما يخالف ما ثبت في اليقظة فيتأكد به فعل الصحابي ، انتهى ما ذكره المعترض.
والجواب أن يقال : هذا الأثر المذكور عن بلال ليس بصحيح عنه ولو كان صحيحاً عنه لم يكن فيه دليل على محل النزاع ، وقول ( المعترض ) أن إسناده جيد خطأ منه ، وكذلك قوله : إنه نص في الباب ، وقد ذكر هذا الأثر الحاكم أبو أحمد محمد بن أحمد بن إسحاق النيسابوري الحافظ في الجزء الخامس من فوائده ، ومن طريقة ذكره ابن عساكر في ترجمة بلال ، وهو أثر غريب منكر وإسناده مجهول وفيه انقطاع ، وقد انفرد به محمد بن الفيض الغساني(1) ، عن إبراهيم بنمحمد بن سليمان بن بلال(2) عن أبيه(3) ، عن جده وإبراهيم بن محمد هذا شيخ لم يعرف بثقة وأمانة ولا ضبط وعدالة ، بل هو مجهول غير معروف بالنقل ولا مشهور بالرواية ، ولم يرو عنه غير محمد بن الفيض روى عنه هذا الأثر المنكر ، ولما ذكره الحاكم أبو أحمد في الكنى قال : كناه لنا أبو الحسن محمد بن الفيض الغسائي الدمشقي ، وأخبرنا عنه بحديث ولم يذكره ، وأشار إلى هذا الخبر الذي رواه ( بكماله ) من طريقة في غير الكنى ، وروى بعضه في الكنى في ترجمة أبي رويحة ، وقد (رحل) أبو زرعة وأبو حاتم الرازيان ومحمد بن مسلم بن وارة ويعقوب بن سفيان
__________
(1) هو محمد بن الفيض بن محمد بن الفياض المحدث المعمر المسند أبو الحسن الغسائي الدمشقي ، قال فيه الذهبي في السير 14/427 وهو صدوق إن شاء الله ما علمت فيه جرحاً وانظر شذرات الذهب 2/271 .
(2) انظر ترجمته في الميزان قال الذهبي : فيه جهالة حدث عنه محمد بن الفيض الغسائي ، وذكره الحافظ ابن حجر في اللسان وذكر هذه القصة التي أخرجها ابن عساكر عنه في تاريخه وقال ابن حجر فيها : وهي قصة بينه الوضع . أ هـ .
(3) ترجمته في الجرح والتعديل 7/267 قال فيه أبو حاتم ،منكر الحديث ، وانظر التاريخ الكبير1/98 .(54/330)
الفسوي وغيرهم من الحفاظ إلى دمشق ، وكان هذا الشيخ موجوداً في ذلك الوقت ولم يرو عنه أحد منهم ،وهو من ولد أبي الدرداء .
فلو كان من أهل الحديث أو كان عنده علم ، أو له رواية لرووا عنه وسمعوا منه ، وقد كان أبو حاتم الرازي من أحرص الناس على لقاء الشيوخ ، كما ذكر قد ذلك عن نفسه ، وقد كتب بعضهم عن إبراهيم بن هشام بن يحيى ( بن يحيى ) الغساني الدمشقي ، كما روى عنه يعقوب الفسوي ، والحسن بن سفيان ، وجماعة من أهل الحديث وإبراهيم بن هشام في طبقة إبراهيم بن محمد بن سليمان كانا جميعاً في وقت واحد ووفاتهما متقاربة ، وقد علم أن إبراهيم بن هشام شيخ متهم بالكذب لا يعرف الحديث ولا يدريه ولا يحتج بروايته (1)، وقد روى عنه غير واحد من أهل الحديث من الرحالة وغيرهم ولم يرو أحد منهم عن إبراهيم بن محمد .
فلو كان من أهل النقل والرواية ، أو عنده علم أو حديث لأخذوا عنه وسمعوا منه كما أخذوا عن إبراهيم بن هشام ، فلما لم يرووا عنه بل تركوه وأعرضوا عنه مع حرصهم على لقاء الشيوخ وشدة اعتنائهم بالرواية ، دل على أنه عندهم أسوأ حالاً من إبراهيم بن هشام .
وقد ذكر أبو حاتم الرازي وغيره عن إبراهيم بن هشام ما يدل على أنه لا يعي الحديث ،وقال ابن أبي حاتم في كتاب الجرح والتعديل(2) : سمعت أبي يقول : قلت لأبي زرعة : لم لا تحدث عن إبراهيم بن هشام بن يحيى ( بن يحيى ) قال :ذهبت إلي قريته ، وأخرج إلي كتاباً زعم أنه سمعه من سعيد بن عبد العزيز ، فنظرت فيه ، فإذا فيه أحاديث ضمرة عن رجاء بن أبي سلمة ، وعن ابن شوذب ، وعن يحيى بن أبي عمرو الشيباني ، فنظر إلى حديث فاستحسنته من حديث ليس بن سعيد عن عقيل فقلت له اذكر هذا فقال : حدثنا سعيد بن عبد العزيز ، عن ليس بن سعد عن قيل بالكسر .
__________
(1) انظر الجرح والتعديل 2/142-143 .
(2) انظر الجرح والتعديل 2/143 .(54/331)
ورأيت في كتابه أحاديث ، عن سويد بن عبد العزيز ، عن مغيرة وحصين ، وقد قلبها على سعيد بن عبد العزيز ، وأظنه لم يطلب العلم وهو كذاب .
قال : فقلت هذه أحاديث سويد بن عبدالعزيز ، قال : فقال : صدقت نعم ، حدثنا سعيد بن عبد العزيز عن سويد قال ابن أبي حاتم : ذكرت لعلي بن الحسين بن الجنيد بعض هذا الكلام عن أبي ، فقال : صدق أبو حاتم ينبغي أن لا يحدث عنه .
قلت وإبراهيم بن هشام هذا هو صاحب حديث أبي ذر(1)
__________
(1) حديث أبي ذر طويل الذي أشار إليه الإمام ابن عبد الهادي هنا ساقه الحافظ ابن كثير في تفسيره في الكلام على قوله تعالى : { ورسلاً لم نقصصهم عليك من قبل } . قال : قال محمد بن الحسين الأجري حدثنا أبو بكر جعفر بن محمد بن الغفرياني إملاء في شهر رجب سنة سبع وتسعين ومائتين حدثنا إبراهيم بن هشام بن يحيى الغساني حدثنا أبي عن جده عن أبي إدريس الخولاني عن أبي ذر قال دخلت المسجد فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس وجده فجلس إليه فقلت يا رسول الله إنك أمرتني بالصلاة قال : " الصلاة خير موضوع فاستكثر أو استقل " قال : قلت يا رسول الله فأي الأعمال أفضل قال : " إيمان بالله وجهاد في سبيله " قلت يا رسول فأي المؤمنين أفضل ؟ قال : " أحسنهم خلقاً " قلت يا رسول الله فأي المسلمين أسلم قال : " من سلم الناس من لسانه ويده " قل يا رسول الله فأي الهجرة أفضل ؟ قال : " من هجر السيئات " قلت يا رسول الله أي الصلاة أفضل ؟ قال " طول القنوت " فقلت يا رسول الله فأي الصيام أفضل ؟ قال : " فرض مجزي وعند الله أضعاف كثيرة " قلت يا رسول الله فأي الجهاد أفضل ؟ قال : " من عقر جواده وأهريق دمه " قلت يا رسول الله فأي الرقاب أفضل ؟ قال " أغلاها ثمناً وأنفسها عند أهلها " قلت يا رسول الله فأي الصدقة أفضل ؟ قال : " جهد من مقل وسر إلى فقير " قلت يا رسول الله فأي آية ما أنزل عليك أعظم ؟ قال : " آية الكرسي كفضل الفلاة على الحقلة " قال قلت يا رسول الله كم الأنبياء ؟ قال : " مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا " قال : قلت يا رسول الله كم الرسل من ذلك ؟ قال : " ثلاثمائة وثلاثة عشر جمع غفير كير طيب " قلت فمن كان أولهم ؟. قال "آدم " قلت : أنبي مرسل ؟ قال : " نعم خلقه الله بيده ونفه فيه منروحه وسواه قبيلاً " ثم قال : يا أبا ذر " أربعة سريانيون آدم وشيث وخنوخ وهو إدريس وهو أول من خط بقلم ونوح ، وأربعة من العرب هود وشعيب وصالح ونبيك يا ابا ذر وأول أنبياء بني إسرائيل موسى ، وآخرهم عيسى وأول الرسل آدم وآخرهم محمد " قال : قلت : يا رسول الله كم كتاب أنزله الله ؟ قال : " مائة كتاب وأربعة كتاب = =أنزل الله على ثيث خمسين صحيفة وعلى خنوخ ثلاثين صحيفة وعلى إبراهيم عشر صحائف وأنزل على موسى من قبل التوراة عشر صحائف وأنزل التوراة والإنجيل والزبور والفرقان ، قال : قلت : يا رسول الله ما كانت صحف إبراهيم ؟ قال : " كانت كلها يا أيها الملك المسلط المبتلى المغرور إني لم أبعثك لتجمع الدنيا بعضها على بعض ولكني بعثتك لترد عني دعوة المظلوم فإني لا أردها ولو كانت من كافر ، وكان فيها أمثال وعلى العاقل أن يكون له ساعات : ساعة يناجي فيها ربه ،وساعة يحاسب فيها نفسه ،وساعة يفكر في صنع الله ، وساعة يخلو فيها لحاجته من المطعم والمشرب " وعلى العاقل أن لا يكون ظاعناً إلا لثلاث تزود لمعاد أو مرمة لمعاش أو لذة في غير محرم ، وعلى العاقل أن يكون بصيراً بزمانه مقبلاً على شأنه ،حافظاً للسانة ، ومن حسب كلامه من عمله قل كلامه إلا فيما يعنيه " قال قلت : يا رسول الله فما كانت صحف موسى ؟ قال : " كانت عبراً كلها عجت لمن أيقن بالموت ثم هو يفرح ،وعجبت لمن أيقن بالحساب غداص ثم هو لا يعمل " قال قلت يا رسول الله فهل في يدينا شيء مما كان في أيدي إبراهيم وموسى وما أنزل الله عليك ؟ قال : " نعم إقرأ يا أيا ذر " { قد أفلح من تزكى وذكر اسم ربه فصلى بل تؤثرون الحياة الدنيا والآخرة خير وأبقى ، إن هذا لفي الصحف الأولى صحف إبراهيم وموسى } قال قلت : يا رسول الله فأوصني قال : " أوصيك بتقوى الله فإنه رأس أمرك ، قال قلت يا رسول الله زدني ؟ قال : عليك بتلاوة القرآن وذكر الله فإن ذكر لك في السماء نور لك في الأرض ، قال قلت يارسول الله زدني : قال: " عليك بالجهاد فإنه رهبانية أمتي " قلت زدني قال : " عليك بالصمت إلا من خير فإنه مطردة للشيطان وعون لك على أمر دينك " قلت زدني قال : " انظر إلى من هو تحتك ولا تنظر إلى من هو فوقك فإن أجدر لك أن لا تزدري نعمة الله عليك " قلت : زدني قال : أحبب المساكين فإنه أجدر أن لا تزدري نعمة الله عليك قلت زدني قال : " صل قرابتك وإن قطعوك " قلت : زدني قال : " قل الحق وإن كان مراً " زدي قال لا تخف في الله لومة لائم " قلت : زدني قال : بردك عن الناس ما تعرف من نفسك ولا تجد عليهم فيما تحب وكفى بك عيباً أن تعرف من الناس ما تجهل من نفسك أو تجد عليهم فيما تحب " ثم ضرب بيده صدري فقال : " يا أبا ذر لا عقل كالتدبير ولا ورع كالكف ولا حسب كحسن الخلق هكذا ساقه ابن كثير في تفسيره عن طريق الأجري وكان قد ذكره قطعة منه قبل ذلك من طريق ابن مردويه ثم قال : وقد روى هذا الحديث بطوله الحافظ أبو حاتم بن حبان البستي في كتابه " الأنواع والتقاسيم " وقد سمه بالصحة وخالفه أبو الفرج بن الجوزي فذكر هذا الحديث في كتابه الموضوعات واتهم به إبراهيم بن هشام هذا ولا شك أنه قد تكلم فيه غير واحد من أئمة الجرح والتعديل من أجل هذا الحديث . أهـ=
=كلام الحافظ ابن كثير في تفسريه وقال شيخه الحافظ الذهبي في ترجمة إبراهيم بن هشام بن يحيى الغساني " هو صاحب حديث أبي ذر الطويل انفرد به عن أبيه عن جده قال الطبراني لم يرو هذا عن يحي إلا ولده وهم ثقات ، وذكره ابن حبان في الثقات وأخرج حديث في الأنواع ، وأما ابن أبي حاتم فقال : قلت لأبي لم لا تحدث عن إبراهيم بن هشام الغساني فقال :ذهبت إلى قريته " فساق الذهبي القصة التي بين إبراهيم بن هشام وبين أبي حاتم كما ساقها الحافظ بن عبد الهادي مؤلف الصارم المنكي وذكر الذهبي في ترجمة يحيى بن سعيد القرشي العبشمي السعدي وقيل السعدي أحد الضعفاء أنه روى عن ابن جريح عن عطاء عن عبيد بن عمر عن أبي ذر حديث الطويل وأن ابن حبان ذكر طرفاً من روايته لهذا الحديث ثم قال : " وأشبه ما روى فيه حديث عبد الرحمن بن هشام بن يحيى الغساني عن أبيه عن جده عن أبي إدريس عن أبي ذر ثم قال الذهبي : " وكذا قال - أي ابن حبان - والصواب إبراهيم بن هشام أحد المتروكين الذين مشاهم ابن حبان فلم يصب " أ هـ .(54/332)
الطويل تفرد به عن أبيه عن جده ، وقد رواه أبو القاسم الطبراني ، وابو حاتم بن حبان البستي في كتاب الأنواع والتقاسيم من حديث مجموع من أحاديث كثيرة بعضها في الصحاح وبعضها في المساند والسنن ، وبعضها لا أصل له .
وقد ذكر ابن أبي حاتم إبراهيم بن هشام في كتاب الجرح والتعديل(1) ، وذكر عنه ما حكيناه ، ولم يذكر إبراهيم بن محمد بن سليمان فيه ولم يرو عنه أحد ممن رحل من الحفاظ وأهل الحديث ، ولم يأخذ عنه من أهل بلده غير محمد بن الفيض ، وروى عنه هذا الخبر الذي لم يتابع عليه ، فعلم أنه ليس بمحل للرواية عنه .
ونحن نطالب هذا المعترض الذي يتكلم بلا علم ، فنقول له : لم قلت أن هذا الأثر الذي تفرد به إبراهيم بن محمد إسناده جيد ، ومن قال هذا قبلك ، ومن وثق إبراهيم بن محمد هذا ، أو احتج بروايته ، أو أنثى عليه من أهل العلم والحديث ؟ والمجتمع بالحديث عليه أن يبين صحة إسناده ودلالته على مطلوبة ، وأنت لم تذكر في إبراهيم المتفرد بهذا الخبر شيئاً يقتضي الاحتجاج بروايته والرجوع إلى قبول خبره ، فقولك فيما تفرد به ولم يتابع عليه " إن إسناده جيد " دعوى مجردة مقابلة بالمنع والرد وعدمن القبول والله أعلم. .
وأما محمد بن سليمان بن بلال والد إبراهيم ، فإنه شيخ قليل الحديث لم يشتهر من حاله ما يوجب قبول أخباره ، وقد ذكره البخاري في تاريخه (2)، وذكر له حديثاً يرويه عن أمه ، عن جدتها ، رواه عن هشام بن عمار ، وهو الذي أشار إليه أبو حاتم ، وأما أبو سليمان بن بلال فإنه رجل غير معروف ، بل هو مجهول الحال قليل الرواية ، لم يشتهر بحمل العلم ونقله ، ولم يوثقه أحد من الأئمة فيما علمناه ولم يذكر له البخاري ترجمة في كتابه ، وكذلك ابن أبي حاتم ، ولا يعرف له سماع من أم الدرداء .
__________
(1) 2/143\
(2) 1/98(54/333)
ونحن نطالب المستدل برواية والمحتج بخبره فنقول له : من وثقه من الأئمة واحتج بحديثه من الحفاظ ،أو أثنى عليه من العلماء حتى يصار إلى روايته ويحتج بخبره ويعتمد على نقله ؟
والحاصل أن مثل هذا الإسناد لا يصلح الاعتماد عليه ولا يرجع عند التنازع إليه عند أحد من أئمة هذا الشأن ، مع أن المعترض لم يذكر شيئاً في محل النزاع أمثل منه ولا أعتمد على شيء في المسألة أقرب منه ، ولهذا زعم أنه نص في الباب ، وهو مع هذا ليس بثابت ولا صحيح ، ولو كان ثابتاً لم يكن فيه حجة على محل النزاع فإن الذي فيه أن يلالا ركب راحلته وقصد المدينة ، وقاصد المدينة قد يقصد المسجد وحده وقد يقصد القبر وحده ، وقد يقصدهما جميعاً ، وليس في الخبر أنه قصد مجرد القبر .
وشيخ الإسلام إنما ذكر الخلاف بين العلماء في جواب السؤال الذي سئل عنه فيمن قصد مجرد القبر ، ولهذا قال في رده على بعض من اعترض عليه من المالكية فيقال لفظ الجواب : أما من سافر لمجرد زيارة قبور الأنبياء والصالحين ، فهل يجوز له قصر الصلاة على قولين ، معروفين ، وقوله : من سافر لمجرد زيارة قبور الأنبياء احتراز عن السفر المشروع كالسفر إلى زيارة قر النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا سافر السفر المشروع ، فسافر إلى مسجده ، وصلى فيه ، وصلى عليه وسلم ( عليه ) ودعا وأثنى كما يحبه الله ورسوله ، فهذا سفر مشروع مستحب باتفاق المسلمين وليس فيه نزاع فإن هذا لم يسافر لمجرد زيارة القبور .(54/334)
وقال أيضاً : الناس أقسام منهم من يقصد السفر الشرعي إلى مسجده ثم قال إذا صار في مسجده فعل في مسجده المجاور لبيته الذي فيه قبره ما هو مشروع ، فهذا سفر مجمع على استحبابه وقصر الصلاة فيه ومنهم من لا يقصد إلا مجرد القبر ولا يقصد الصلاة في المسجد ، ولا يصلي فيه ن فهذا لا ريب أنه ليس بمشروع ، ومنهم من يقصد هذا وهذا فهذا لم يذكر في الجواب إنما ذكر في الجواب من لم يسافر إلا لمجرد زيارة قبور الأنبياء والصالحين .
ومن الناس من لا يقصد إلا القبر لكن إذا أتى المسجد صلى فيه ، فهذا أيضاً يثاب على ( ما ) فعله من المشروع كالصلاة في المسجد والصلاة على النبي والسلام عليه ونحو ذلك من الدعاء والثناء عليه ومحبته وموالاته والشهادة له بالرسالة والبلاغ وسؤال الله الوسيلة له ونحو ذلك مما هو من حقوقه المشروعة في مسجده بأبي هو وأمي - صلى الله عليه وسلم -.
ومن الناس من لا يتصور ما هو الممكن المشروع من الزيارة حتى يرى المسجد والحجرة بل يسمع لفظ زيارة قبره فيظن ذلك كما هو المعروف المعهود من زيارة القبور إنه يصل إلى القبر ويجلس عنده ويفعل ما يفعل من زيارة شرعية ، أو بدعية ، فإذا رأى المسجد والحجرة تبين له إن لا سبيل لأحد أن يزور قبره كالزيارة المعهودة عند قبر غيره ، وإنما يمكن الوصول إلى مسجده والصلاة فيه ، وفعل ما يشرع للزائر في المسجد ،لا في الحجرة عند القبر بخلاف قبر غيره ، انتهى كلامه .(54/335)
فقد تبين أن شيخ الإسلام إنما ذكر الخلاف في الجواب فيمن قصد مجرد القبر ، فأما من قصد الزيارة وغيرها كالصلاة في المسجد ، فلم يذكر فيه نزاعاً ، فليس فيما روى عن بلال حجة عليه ، فإنه يحتمل أن يكون قصد الصلاة في المسجد وزيارة القبر معاً ولا يعلم أنه قصد مجرد القبر ، ولم يقصد المسجد إلا بإخباره عن نفسه بذلك ، فإن القصد ، محله القلب ، ولا سبيل لنا ( إلى ) الإطلاع عليه إلا بخبر من قام به ، وبلال لم يخبر عن نفسه بأنه قصد مجرد زيارة القبر .
وإنما في الأثر المروي عنه أنه ركب راحلته وقصد المدينة ، وليس في ذلك دليل على أنه جرد النية للقبر ( فقط ) ولو فرض أنه لم يقصد إلا القبر فقط ، ولم يقصد الصلاة والسلام في المسجد كان ذلك على سبيل الاجتهاد منه ، وكان ممن يحتج لفعله ، وقد علم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : (( لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد ، المسجد الحرام ومسجدي هذا والمسجد الأقصى )) ولم ينقل عن أحد من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - لا من الخلفاء الراشدين ولا من غيرهم ، مثل هذا الذي روي عن بلال ، وقد قال الله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ (#ûqمYtB#uن أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ ÷Lنêôمu""uZs? فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ حچ½zFy$# y7د9¨sŒ ضژِچyz وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا } (النساء 059)(54/336)
والذي يظهر أن ما نقل عن بلال في هذا ليس بصحيح عنه ، بل بعض ألفاظه الخبر يشهد ببطلانه عنه ، وقد ثبت عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما إنه كان إذا قدم من سفر أتى قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : (( السلام عليك يا رسول الله السلام عليكم يا أبا بكر السلام عليك يا أبتاه )) وهذا صحيح ثابت عن ابن عمر ، بل هو مجمع على حصته عنه ، وليس فيه شد رحل ولا إعمال مطي ،ومع هذا فقد قال ابن ابن أخيه الإمام الحافظ الفقيه أحد الأعلام أبو عثمان عبيد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب العمري المدني : ما نعلم أحد من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ( فعل ) ذلك إلا ابن عمر ، هكذا ذكره عبد الرزاق في مصنفه عن معمر عن عبيد الله بن عمر .
وقد كان عبيد الله من سادات أهل المدينة وأشراف قريش فضلاً وعلماً وعبادة وحفظاً وإتقاناً ، بل هو أحفظ آل عمر في زمانه وأثبتهم وأعلمهم ، وقد قال ما قال فيما كان ابن عمر يفعله ، مع أن مالكاً وغيره من العلماء صاروا إلى ما روي عن ابن عمر في ذلك.
فإذا كان هذا قول عبيد الله بن عمر فيما روي عن ابن عمر في ذلك ، مع أنه أقرب بكثير مما روي عن بلال ، فإن الذي فيه مجرد السلام عند القدوم من السفر ، وليس فيه شد رحل ، ولا إعمال مطي ، ولا غير ذلك مما روي عن بلال ، فكيف يقال فيما روي عن بلال من فعله المتضمن شد الرحال ، وإعمال المطي ، وغير ذلك مما ينقل عن غيره عن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - والتابعين لهم بإحسان والله أعلم .
قال المعترض
وقد استفاض عن عمر بن عبد العزيز أنه كان يبرد البرد من الشام يقول له : سلم (لي) على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وممن ذكر ذلك ابن الجوزي ، ونقلته من خطة في كتاب : مثير العزم الساكن ، وقد ضبطه بإسكان الياء الموحدة وكسر الراء المخففة ، وهو كذلك يقال: أبرد فهو مبرد .(54/337)
وذكر ( أيضاً ) الإمام أبو بكر أحمد بن عمر بن أبي عاصم ( النبيل ) ووفاته سنة سبع وثمانين ومائتين في مناسك له لطيفة جردها من الأسانيد ملتزماً فيها الثبوت قال فيها: وكان عمر بن عبد العزيز يبعث بالرسول قاصداً من الشام إلى المدينة ليقرئ النبي - صلى الله عليه وسلم - السلام ثم يرجع ، وهذه المناسك رواية شيخنا الدمياطي .
ثم ذكر إسناد شيخه ( إلى ) ابن أبي عاصم وقال : فسفر بلال في زمن صدر الصحابة ورسول عمر بن عبد العزيز في زمن صدر التابعين من الشام إلى المدينة لم يكن إلا للزيارة والسلام على النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يكن الباعث على السفر غير ذلك ، لا من أمر الدنيا ولا من أمر الدين ، لا من قصد المسجد ، ولا من غيره ، انتهى ملام المعترض .
وللجواب : من وجوه :
أحدهما : المطالبة بصحة الإسناد إلى عمربن عبد العزيز ، ولم يذكر المعترض الإسناد في ذلك إلى عمر لينظر فيه ، هل هو صحيح أم لا ؟ وكأنه لم يظفر به ، فإنه لو ظفر به ووقف عليه لبادر إلى ذكره ، ولو كان إسناداً ضعيفاً كما هي عادته ، وكما ذكر إسناد الأثر المروي عن بلال ، وإن كان غير صحيح .
الوجه الثاني : إن ما نقل عن عمر بن عبد العزيز من إيراده البريد من الشام قاصداً إلى المدينة لمجرد الزيارة ، ليس بصحيح عنه ، بل في إسناده عنه ضعيف وانقطاع وأمثل ما روي عنه في ذلك ما ذكره البيهقي في كتاب : شعب الإيمان فقال : حدثنا أبو سعيد بن ابي عمرو ، أنبأنا أبو عبد الله الصفار ، حدثنا ابن أبي الدنيا حدثنا إسحاق بن أبي حاتم المدائني ، حدثنا ابن أبي فديك ، عن رباح بن أبي بشير ، عن يزيد بن أبي سعيد مولى المهري ، قال : قدمت على عمر بن عبد العزيز إذا كان خليفة بالشام ، فلما ودعته قال : إن لي إليك حاجة إذا أتيت المدينة سترى قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - فأقرئه مني السلام .(54/338)
هذا أجود ما روي عن عمر بن عبد العزيز في هذا الباب مع أن في ثبوته عنه نظراً فإن رباح بن أبي بشير شيخ مجهول(1) لم يرو عنه غير ابن أبي فيدك ، ولو فرض أنه شيخ معروف ثقة ، فليس في روايته ذكر إيراد البريد لمجرد الزيارة ، وإنما فيها إرسال السلام مع بعض من قدم على عمر من أهل المدينة ، فإن يزيد بن أبي سعيد مولى المهري ، هو من أهل المدينة ، وكان قدم منها إلى الشام على عمر بن عبد العزيز ، فلما ودعه وأرد الرجوع إلى بلده ، قال له عمر : سترى قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - فاقرئه مني السلام ، وقد عرف أن شيخ الإسلام لم يذكر نزاعاً في الجواب فيمن سافر إلى المدينة لحاجة ، وزار عند قدومه ، أو اجتمع في سفره قصد الزيارة مع قصد آخر .
وإنما ذكر الخلاف فيمن قصد مجرد القبر ، ويزيد بن أبي سعيد قصد الرجوع إلى بلده المدينة ، وانضم إلى ذلك قصد آخر ، وليس هذا محل النزاع ، وإنما الخلاف في شد الرحل وأعمال المطي إلى مجرد زيارة القبور .
وقول المعترض : فسفر بلال في زمن صدر الصحابة ورسول عمر بن العبد العزيز في زمن صدر التابعين من الشام إلى المدينة لم يكن إلا للزيارة هو مجرد دعوى عرية عن الدليل فتقابل بالمنع والرد ( وعدم القبول ) بل إنما كان لها ولغيرها كما قد بينا ذلك والله أعلم .
فإن قيل : ذكر البيهقي في آخر الأثر المذكور أن ( عمر ) كان يرد البريد ، فإن فيه بعد قوله : فأقرئه مني السلام ، قال محمد بن إسماعيل بن أبي فديك ، فحدث به عبد الله بن جعفر ، فقال : أخبرني فلان أن عمر كان يبرد إليه البريد من الشام .
__________
(1) الذي في الجرح والتعديل 3/490 رباح بنبشير أبو بشر روى عن يزيد بن أبي سعيد روى عنه ابن أبي فديك سمعت أبي يقول : هو مجهول ، وانظر اللسان 2/442 .(54/339)
فالجواب : أن هذا ليس بصحيح بل ( هو ) ضعيف منقطع ، وعبد الله بن جعفر محدث أبي فديك هو والد ابن المديني ، وهو ضعيف غير محتج بخبره ، قال يحيى بن معين ليس بشيء(1) ، وقال النسائي(2) ، متروك الحديث ، والمخبر لعبد الله بن جعفر رجل مبهم وهو أسوأ حالاً من المجهور .
فإن قيل : قد روى البيهقي ، نحو هذا من وجه آخر ، فقال : حدثنا عبد الله بن يوسف الأصبهاني ، أنبأنا إبراهيم بن فراس بمكة ، حدثني محمد بن صالح الرازي ، حدثنا زياد بن يحيى ، عن حاتم بن وردان ، قال : كان عمر بن عبد العزيز يوجه بالبريد قاصداً إلى المدينة ليقرئ عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - السلام . كذا رواه في شعب الإيمان وهذه الرواية هي التي ذكرها المعترض من المناسك لابن أبي عاصم بلا سند .
والجواب : أن يقال هذه روية منقطعة غير ثابتة وحاتم بن وردان(3) شيخ من أهل البصرة لم يلق عمر بن عبد العزيز ،ولم يدركه فروايته عنه مرسلة غير متصلة ،ـ وقد توفي عمر بن عبد العزيز سنة إحدى ومائة ، وكانت وفاة حاتم بن وردان سنة أربع وثمانين ومائة وأكبر شيخ لحاتم ، أيوب السختياني ،وكانت وفاة أيوب سنة إحدى وثلاثين ومائة .
__________
(1) انظر كلامه في الميزان .
(2) انظر الضعفاء والمتروكين ص148 ، رقم 346 ، وانظر ترجمته في التاريخ الكبير للبخاري 5/62 والصغير ص64 والجرح والتعديل 5/22 والمجروحين لابن حبان 2/14 والميزان 2/401 والكاشف 2/69 والمغني 1/334 واللسان 7/259 والتهذيب 5/174 وأحوال الرجال للجوزجاني ص110 ، رقم 175 ، قال الذهبي ، متفق على ضعفه وقال ابن المديني ، أبي ضعيف ، وقال الجوةزجاني واه .
(3) ترجمته في الجرح والتعديل 3/260 ، قال ابن معين ثقة وقال أبو حاتم : لا بأس به ، مات سنة 184 كما في التقريب .(54/340)
الوجه الثالث : إنه لو ثبت عن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه ، أنه كان يبرد البريد من الشام قاصداً إلى المدينة لمجرد الزيارة والسلام ، كان في فعله ذلك من جملة المجتهدين ، ومن المعلوم أنه رضي الله عنه أحد الخلفاء الراشدين ومن كبار الأئمة المجتهدين ، فإذا قال قولاً باجتهاده وفعل فعلاً برأيه : فإن قام دليله وظهرت حجته تعين المصير إليه والاعتماد عليه ، وإلا فهو ممن يحتج لقوله : ويستدل لفهعله ، وقد قال الله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ (#ûqمYtB#uن أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ ÷Lنêôمu""uZs? فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ حچ½zFy$# y7د9¨sŒ ضژِچyz وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا } (النساء 059) وقد ذكر فيما تقدم عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه كان يأتي إلى القبر للسلام عند القدوم من سفر ، ومع هذا فقد قال عبيد الله بن عمر العمري الكبير الثقة (الثبت ) ما نعلم أحداً من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - فعل ذل إلا ابن عمر .
وقال شيخ الإسلام في أثناء كلامه في الصلاة والسلام على النبي - صلى الله عليه وسلم - في كل مكان : وأما السلام عليه عند القبر ، فقد عرف أن الصحابة والتابعين المقيمين بالمدينة لم يكونوا يفعلونه ، إذا دخلوا المسجد وخرجوا منه - إلى أن قال ولهذا كان أكثر السلف لا يفرقون بين الغرباء وأهل المدينة ، ولا بين حال السفر وغيره ، فإن استحباب هذا لهؤلاء ، وكراهته لهؤلاء ، حكم شرعي يفتقر إلى دليل شرعي ، ولا يمكن أحداً أن ينقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه شرع لأهل المدينة الاتيان عند الوداع للقبر ، وشرع لهم ولغيرهم ذلك عند القدوم من سفر وشرع للغرباء تكرير ذلك كلما دخلوا المسجد وخرجوا منه .(54/341)
ولم يشرع ذلك لأهل المدينة ، فمثل هذه الشريعة ليس منقولاً عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ،ولا عن خلفائه ولا هو معروف من عمل الصحابة ، وإنما نقل عن ابن عمر السلام عند القدوم من السفر ، وليس هذا من عمل الخلفاء وأكابر الصحابة ن كما كان ابن عمر يتحرى الصلاة والنزول والمرور حيث حل ونزل وعبر في السفر ، وجمهور الصحابة لم يكونوا يصنعون ذلك ، بل ( أبوه ) عمر كان ينهي عن مثل ذلك ، والله أعلم .
قال المعترض
وفي فتوح الشام أنه لما كان أبو عبيدة منازلاً بيت المقدس أرسل كتاباً إلى عمر مع ميسرة بن مسروق يستدعيه الحضور ، فلما قدم ميسرة مدينة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دخلها ليلاً ، ودخل المسجد وسلم على قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وعلى قبر أبي بكر الصديق ، وفيه أيضاً أن عمر لما صالح أهل بيت المقدس ،وقدم عليه كعب الأحبار وأسلم وفرح عمر بإسلامه ، قال عمر ( له ) هل لك أن تسير معي إلى المدينة ،وتزور قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - وتتمتع بزيارته ؟ فقال :نعم يا أمير المؤمنين ، أنا أفعل ذلك ، ولما قدم عمر المدينة أول ما بدأ بالمسجد وسلم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - انتهى ما ذكره .,
وهو مطالب :أولاً بيان صحته ، وثانياً : بيان دلالته على مطلوبه ، ولا سبيل له إلى واحد من الأمرين .(54/342)
ومن المعلوم أن هذا من الأكاذيب والموضوعات على عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، وفتوح الشام فيه كذب كثير ، وهذا لا يخفى على آحاد طلبة العلم ، ولكن شأن هذا المعترض الاحتجاج دائماً بما يظنه موافقاً لهواه ،ولو كان من المنخنقة والموقوذة والمتردية ، وليس هذا شأن العلماء ،بل المستدل بحديث أو أثر عليه أن يبين صحته ودلالته على مطلوبه ،وهذا المنقول عن عمر رضي الله عنه لو كان ثابتاً عنه ، لم يكنفيه دليل على محل النزاع ،وقد عرف أن شيخ الإسلام لا ينكر الزيارة على الوجده المشروع ولا يكرهها ، ( بل يحض عليها ) ويندب إلى فعلها ، والله الموفق للصواب .
ثم قال المعترض
وقد ذكر المؤرخون والمحدثون منهم أبو عمر بن عبد البر في الاستيعاب ، وأحمد بن يحيى البلاذري في تاريخ الأشراف ، وابن عبد ربه في العقد أن زياد بن أبيه أراد الحج فأتاه أبو بكرة ، وهو لا يكلمه فأخذ ابنه فأجلسه في حجرة ليخاطبه ويسمع زياداً فقال :إن أباك فعل وفعل وأنه يريد الحج ، وأم حبيبة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - هناك ( فإن ) أذنت له فأعظم بها مصيبة وخيانة لرسول الله ، وإن هي حجته فأعظم بها حجة عليه ، فقال زياد : ما تدع النصيحة لأخيك ، وترك الحج في تلك السنة ، هكذا حكاها البلاذري .
وحكى ابن عبد البر ثلاثة أقوال .
أحدهما : أنه حج ولم يزر من أجل قول أبي بكرة.
والثاني : أنه دخل المدينة وأراد الدخول على أم حبيبة ، فذكر قوله أبي بكرة فانصرف عن ذلك .
والثالث : أن أم حبيبة حجته ولم تأذن له ، والقصة على كل تقدير تشهد ، لأن زيارة الحاج كانت معهودة من ذلك الوقت ، وإلا فكان زياد يمكنه أن يحج من غير طريق المدينة ، بل هي أقرب إليه لأنه كان بالعراق ، والإتيان من العراق إلى مكة أقرب ، ولكن كان إتيان المدينة عندهم أمراً لا يترك ، انتهى ما ذكره .(54/343)
فالجواب : أن يقال : هذا من نمط ما قبله في الاحتجاج بما ليس بثابت عند العلماء وليس فيه دليل على المطلوب ، بل هو على نقيض مراد المعترض أدل منه على مطلوبة ، وهذه القصة المروية في أمر أبي بكرة وزياد ، مختلف فيها ، وعلى كل تقدير فزياد بن أبيه ،ليس ممن يحتج بقوله ، ولا يعرج على فعله ، وزياد الحاج لم ينكرها الشيخ ولا كرهها ، بل استحبها كغيره من العلماء ، وذكرها في مناسكه ومصنفاته وفتاويه وقد قال في بعض مناسكه .
باب زيارة قبر النبي - صلى الله عليه وسلم -
ثم ذكر ما يقوله إذا دخل ( المسجد ) وقال : ثم يأتي قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - فيستقبل جدار القبر ولا يمسه ، ولا يقبله ، ثم يقول : السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته ، السلام عليك يا نبي الله وخيرته من خلقه ، السلام عليك يا سيد المرسلين وخاتم النبين وقائد الغر المحجلين ، ثم ذكر الكلام إلى آخره ، وذكر السلام على أبي بكر و عمر رضي الله عنهما فقد تبين أن الشيخ رحمه الله لم ينكر زيارة الحاج قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى يشنع عليه بما لم يقله ، أو يضاف إليه ما لم يعتقده ، وإنما ذكر نزاع العلماء في شد الرحال وأعمال المطي إلى مجرد زيارة القبور ، ومال إلى النهي عن ذلك محتجاً بما ثبت عن المصطفى - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : (( لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد )) (1) والله أعلم .
__________
(1) تقدم تخريج هذا الحديث .(54/344)
ثم قال المعترض : واختلف السلف في أن الأفضل البداءة بالمدينة قبل مكة ، أو بمكة قبل المدينة ، قال : وممن نص على هذه المسألة وذكر الخلاف فيها الإمام أحمد في كتاب المناسك الكبير من تأليفه ، ثم ذكر أن ابن ناصر رواها بإسناد له ذكره إلى عبد الله بن أحمد عن أبيه ، وقال في هذه المناسك ، سئل عمن يبدأ بالمدينة قبل مكة ، فذكر بإسناده عن عبد الرحمن بن يزيد وعطاء ومجاهد ، قالوا : إذا أردت مكة فلا تبدأ بالمدينة وابدأ بمكة ، فإذا قضيت حجتك فأمرر بالمدينة إن شئت .
قال : وذكر بإسناده عن الأسود قال : أحب أن يكون نفقتي وجهادي وسفري أن أبدأ بمكة وعن إبراهيم النخي إذا أردت مكة فاجعل كل شيء لها تبعاً ، وعن مجاهد إذا أردت الحج أوالعمرة فبدأ بمكة واجعل كل شيء لها تبعاً ، وعن إبراهيم قال : إذا حججت فابدأ بمكة ثم مر بالمدينة بعد .(54/345)
وذكر الإمام أحمد أيضاً بإسناده عن عدي بن ثابت أن نفراً من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانوا يبدأون بالمدينة إذا حجوا يقولون : نهل من حيث أحرم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وذكر ابن أبي شيبة في مصنفه هذا الأثر أيضاً ، وذكر بإسناده عن علقمة والأسود ، وعمر بن ميمون أنهم بدأوا بالمدينة قبل مكة ، ثم قال : وقال الموفق ابن قدامة : قال : - يعني أحمد - : إذا حج الذي لم يحج فقط يعني من غير طريق الشام ، لا يأخذ على طريق المدينة لأني أخاف أن يحدث به حدث فينبغي أن يقصد مكة من أقصد الطرق ولا يتشاغل بغيره ، قال : وهذا في العمرة متجه ، لأنه يمكنه فعلها متى وصل إلى مكة ، وأما الحج فله وقت مخصوص ، فإذا كان الوقت متسعاً لم يفت عليه بمروره بالمدينة شيء ، وممن نص على هذه المسألة من الأئمة أبو حنيفة ، وقال : الأحسن أن يبدأ بمكة ، روى ذلك الحسن بن زياد عنه (1)، فيما حكاه أبو الليث السمرقندي ، انتهى كلامه .
وهذا الذي ذكره في البداية بمكة ليس فيه ما يحصل مراده ومطلوب ثم قال : فانظر كلام السلف والخلف في إتيان المدينة ، إما قبل مكة ، وإما بعدها ، ومن أعظم ما تؤتي له المدينة الزيارة ، ثم أخذ في الاستدلال على هذه الدعوى المجردة بما لا يصلح أن يكون شبه فقال : ألا ترى أن بيت المقدس لا يأتيه إلا القليل من الناس ، وأن كان مشهوداً له بالفضل والصلاة فيه مضاعفة فتوفر الهمم خلفاً عن سلف على إتيان المدينة ، إنما هو لأجل الزيارة ، وإن اتفق معها قصد عبادات أخرى فهو مغمور بالنسبة إليها .
__________
(1) انظر ترجمته في الضعفاء والمجروحين 35 والجرح والتعديل 3/15 وتاريخ بغداد 7/314 وميزان الاعتدال 1/491 واللسان 2/208 وشذرات الذهب 2/12 وأخبار القضاء 3/188 وسير أعلام النبلاء 9/543 وغيرها .(54/346)
ولا يخفى على من له أدنى فهم ومعرفة بالمعلم أن ما زعمه المعترض من الحكم ودليله في هذا المحل دعوي مجردة عن دليل ، فتقابل بالمنع وعدم القبول ، وقد ذكر قريباً عن النفر عن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أنهم كانوا إذا حجوا يبدأون بالمدينة وأنهم عللوا ذلك بما زعمه وادعاه .
ثم ذكر المعترض في هذا المكان كلاماً عليه فيه مؤاخذات ومناقشات يطول الكتاب بذكرها ، ثم ذكر كلام الأجري في الشريعة ، وابن بطة في الإبانة المتضمن للرد على بعض الملحدة في إنكاره دفن أبي بكر وعمر مع النبي - صلى الله عليه وسلم - واشتمل كلامهما على ذكر زيارة قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - فزعم المعترض أنه استفيد منه السفر للزيارة ، وأن ذلك لم يزل في السلف والخلف .
وهذا الذي زعمه غير مقبول منه ، وليس في كلامهما ذكر السفر للزيارة ، وإنما فيه ذكر الزيارة فقط والسلام على النبي - صلى الله عليه وسلم - وعلى أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ، وهذا المعترض لا يفرق بين السفر لزيارة القبور ، وبين زيارتها بلا سفر ، بل كل منهما مندوب مستحب ، والعلماء قد فرقوا بين الحكمين وميزوا بين المسألتين .
وابن بطه الذي ألزم المعترض كلامه مالا يلزمه ، قد ذكر الزيارة وصفتها فيما حكاه عنه من العلم بأنه أحد القائلين بالنهي عن السفر إلى القبور .
وقد ذكر ذلك في الإبانة الصغرى التي يذكر فيها جمل أقوال أهل السنة وما خالفها من البدع فقال : ومن البدع البناء على القبور وتحصينها ، وشد الرحال إلى زيارتها ، فأبن بطه(1) يستحب الزيارة مع نهيه عن شد الرحل لمجردها ، فعلم أنه يفرق بين السفر ، وبين الزيارة بلا سفر لا كما زعمه المعترض .
__________
(1) انظر ترجمته في ميزان الاعتدال 3/15 ولسان الميزان 4/112-115 وسير أعلام النبلاء 16/529 وتاريخ بغداد 10/371 - 375 والعبر 3/35 وطبقات الحنابلة 2/114-153 وشذرات الذهب 3/122-124 وهو متكلم فيه وحديثه أنزل من الحسن(54/347)
ثم قال : قال القاضي عياض : قال إسحاق بن إبراهيم الفقيه ، مما لم يزل من شأن من حج المرور بالمدينة والقصد إلى الصلاة في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والتربك برؤية روضته ومنبره ومجلسه وملامس يديه ومواطئ قدميه والعمود الذي كان يستند إليه ، وينزل جبريل بالوحي فيه عليه ،وبمن عمره وقصده من الصحابة وأئمة المسلمين والاعتبار بذلك كله ، ثم قال : وسنذكر في الباب الرابع من كلام العبدي المالكي في شرح الرسالة أن المشي إلى المدينة لزيارة قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أفضل من الكعبة ومن بيت المقدس .
وقال في الباب الرابع : وقال العبدي في شرح الرسالة : وأما النذر بالمشي إلى المسجد الحرام ،والمشي إلى مكة فله اصل في الشرع وهو الحج والعمرة وإلى المدينة لزيارة قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أفضل من الكعبة ومن بيت المقدس ، وليس عنده حج ولا عمره ، فإذا نذر المشي إلى هذه الثلاث لزمه فالكعبة متفق عليها ، ويختلف أصحابنا وغيرهم في المسجدين الآخرين .
قال المعترض : قلت : الخلاف الذي أشار إليه في نذر إتيان المسجدين لا في الزيارة انتهى كلامه .
وهذا الذي حكاه عن هذا العبدي المالكي مكرراً له في غير موضع من الكتاب راضياً به ومقرراً له ومتبعاً له بيان موضع الخلاف ، وأنه في إتيان المسجدين لا في الزيارة شيء لم يسق قائله إليه ، ولم يتابعه أحد من العلماء عليه ، بل قول القائل : إن المشي إلى المدينة لمجرد زيارة القبر أفضل من الكعبة قول محدث في الإسلام ،مخالف لإجماع جميع العلماء الأعلام من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من علماء المسلمين المتقدمين منهم والمتأخرين ، وذلك كاف في رده وظهور بطلانه والله أعلم.(54/348)
ثم قال المعترض : وأكثر عبارات الفقهاء أصحاب المذاهب ممن حكينا كلامهم في باب الزيارة يقتضي استحباب السفر ، هكذا قال ، وذلك خطأ منه ، فإن القول باستحباب الزيارة لا يقتضي استحباب السفر لها كما سيأتي بيان ذلك ( مستوفي ) إن شاء الله تعالى ، والفقهاء الذي حكينا كلامهم ، في الزيارة متفقون على استحبابها ، مع أنه مختلفون في السفر لمجردها ، فلو كان استحباب الزيارة مقتضياً لاستحباب السفر لم يقع بينهم فراغ في السفر لها .
قال : وحكاية الأعرابي المشهورة التي ذكرها المصنفون في مناسكهم وفي بعض طرقها أن الأعرابي ركب راحلته وانصرف وذلك يدل أنه كان مسافراً ، والحكاية المذكورة ذكرها جماعة من الأئمة عن العتبي ، وأسمه محمد بن عبد الله بن عمرو بن معاوية بن عمرو بن عتبة بن أبي سفيان : صخر بن حرب كان من أفصح الناس صاحب أخبار ورواية للأدب ، وحدث عن أبيه وسفيان بن عيينة ، توفي سنة ثمان وعشرين ومائتين ، يكنى أبا عبد الرحمن .
وذكرها ابن عساكر في تاريخه وابن الجوزي في مثير العزم الساكن وغيرهما بأسانيد إلى محمد بن حرب الهلالي قال : دخلت المدينة فأتيت قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - فزرته فجلست حذاءه فجاء إعرابي فزاره ثم قال : يا خير الرسل إن الله أنزل عليك كتاباً صادقاً قال فيه : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ (#ûqكJ
أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ uچxےَّtGَ™$#ur لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا } (النساء 064) وقد جئتك مستغفراً من ذنبي مستشفعاً بك إلى ربي ثم بكى وأنشأ يقول :
ڑٹ
ا خير من دفنت بالقاع أعظمه
نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه
أقول والدمع من عيني منسجم
والناس يغشونه ياك ومنقطع
فما تمالكت أن نأديت من حرق
يا خير من دفنت بالقاع أعظمه
نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه
وفيه شمس التقى والدين قد غربت(54/349)
حاشى لوجهك أن يبلى وقد هديت
وإن تمسك أيدي الترب لامسة
لقيت ربك والإسلام صارمه
فقمت فيه مقام المرسلين إلى
لئن رأيناه قبراً إن باطنه
طافت به من نواحيه ملائكة
لو كنت أبصرت حباً لقلت له
هدي به الله قوماً قال قائلهم
إن مات أحمد فالرحمن خالقه
ڑڑفطاب من طيبهن القاع والأكم
فيه العفاف وفيه الجود والكرم
لما رأيت جدار القبل يستسلم
من المهابة أو ذاع فملتزم
في الصدر كادت لها الأحشاء تضطرم
فطاب من طبيهن القاع والأكم
فيه العفاف وفيه الجود والكرم
من بعد ما أشرقت من نوره الظلم
في الشرق والغرب من أنواره الأمم
وأنت بين السموات العلى علم
ماض وقد كان يحر الكفر يلتطم
إن عز فهو على الأديان يحتكم
لروضه من رياض الخلد يبتسم
تغشاه في كل ما يوم وتزدحم
لا تمش إلا على خدي لك القدم
بطن حكه لما ضمه الرحم
حين ونعبده ما أروق السلم
ڑ
قال الجوهري : الرجم بالتحريك القبر ، هذا آخر ما أو رده المعترض في الباب الثالث ، وهذه الحكاية التي ذكرها بعضهم يرويها عن العتبي ، بلا إسناد ، وبعضهم يرويها عن محمد بن حرب الهلالي ، وبعضهم يرويها عن محمد بن حرب عن أبي الحسن الزعفراني ، عن الأعرابي ، وقد ذكرها البيهقي في كتاب شعب الإيمان بإسناد مظلم عن محمد بن روح بن يزيد بن البصري ، حدثني أبو حرب الهلالي قال: حج أعرابي فلما جاء إلى باب مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أناخ راحلته فعقلها ، ثم دخل المسجد حتى أتى القبر ، ثم ذكر نحو ما تقدم ، وقد وضع لها بعض الكذابين إسناداً إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه كما سيأتي ذكره .
وفي الجملة : ليست هذه الحكاية المنكورة عن الأعرابي مما يقوم به حجة وإسنادها مظلم مختلف ولفظها مختلف أيضاً ،ولو كانت ثابتة لم يكن فيها حجة على مطلوب المعترض ، ولا يصلح الاحتجاج بمثل هذه الحكاية ، ولا الاعتماد على مثلها عند أهل العلم وبالله التوفيق .
الباب الرابع
في نصوص العلماء على استحباب زيارة قبر(54/350)
سيدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبيان أن ذلك مجمع عليه بين المسلمين
قال المعترض
قال القاضي عياض ( رحمه الله ) زيارة قبره - صلى الله عليه وسلم - سنة بين المسلمين مجمع عليها وفضيلة مرغب فيها .
قلت : هذا الإجماع الذي حكاه القاضي عياض رحمه الله تعالى حكاه شيخ الإسلام أيضاً ، في غير موضع ، وقد قدمناه غير مرة ذكر في مصنفاته وفتاويه ومناسكه استحباب زيارة قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - على الوجه المشروع ، ولم يذكر في ذلك نزاعاً بين العلماء ، وإنما ذكر الخلاف بينهم في السفر لمجرد زيارة القبور ، واختار المنع من ذلك كما هو مذهب مالك وغيره من أهل العلم ، وهو الذي اختاره القاضي عياض مع حكايته هذا الاجماع .
ومقصوده المعترض الاحتجاج على الشيخ بهذا الإجماع الذي ذكره القاضي عياض ، والشيخ لا يخالف هذا الإجماع ، بل يوافقه ويذهب إليه ويحكيه في مواضع مع قوله بالنهي عن السفر لزيارة القبور ، كما ذهب إليه القاضي عياض ناقل هذا الإجماع ، وينبغي للمعترض وأمثاله أن يعرفوا الفرق بين مواقع الاجتماع ومحال النزاع ولا يخلطوا بعضها ببعض .
ولا ريب أن الإنسان إذا أتى مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - استحب له أن يفعل فيه ما يشرع له من الصلاة والصلاة على الرسول والتسليم والثناء ( عليه ) ونشر فضائله ومناقبه وسننه وما يوجب محبته وتعظيمه والإيمان به وطاعته ، وهذا هو المقصود من الزيارة الشرعية والسفر إلى مسجده للصلاة فيه ، وما يتبع ذلك مستحب بالنص والإجماع ، والسفر لمجرد زيارة القبر فيه نزاع .(54/351)
قال الشيخ في أثناء كلامه (1): والقاضي عياض مع مالك وجمهور أصحابه يقولون : إن السفر إلى غير المساجد الثلاث محرم كقبور الأنبياء ، فقول القاضي عياض : إن زيارة قبره سنة مجمع عليها وفضيلة مرغب فيها ، المراد ، به الزيارة الشرعية ، كما ذكره مالك وأصحابه من أنه يسافر إلى مسجده ، ثم يسلم عليه ويصلي عليه كما ذكره في كتبهم ، ثم أطال الكلام وقال .
والمقصود أمن ما حكى القاضي عياض فيه الاجتماع لم ينه عنه في الجواب ، بل السفر إلى مسجده وزيارته على الوجه المشروع سنه مجمع عليها ، كما ذكره القاضي عياض وبعضهم يسميها زيارة لقبره ، وبعضهم يكره أن يسميها زيارة ، ولا يدخل في ذلك السفر إلى غير المساجد الثلاث ، كالسفر إلى قبور الأنبياء والصالحين ومن سافر لمجرد قبورهم فلم يزر زيارة شرعية بل بدعية ، فلهذا يقول أحمد أنه مجمع على أنه سنة ، ولكن هذا الموضع مما يشكل على كثير من الناس ؛ فينبغي لمن أراد أن يعرف دين الإسلام أن يتأمل النصوص النبوية ، ويعرف ما كان يفعله الصحابة والتابعون وما قاله أئمة المسلمين ليعرف المجتمع عليه من المتنازع فيه .
فإن الزيارة فيها مسائل متعددة فيها ، ولكن لم يتنازعوا فيها علمت في استحباب السفر إلى مسجده واستحباب الصلاة والسلام عليه فيه ونحو ذلك مما شرعه الله في مسجده ولم يتنازع الأئمة الأربعة والجمهور في أن السفر إلى غير الثلاثة ليس بمستحب لا لقبور الأنبياء والصالحين ولا غفير ذلك فإن قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : (( لا تشد الرحال )) حديث متفق على صحته وعلى العمل به عند الأئمة المشهورين ، وعلى أن السفر إلى زيارة القبور داخل فيه ، فإما أن يكون نهياً ، وإما أن يكون نفياً للاستحباب ، وقد جاء في الصحيح بصيغة النهي صريحاً فتعين أنه نهي .
__________
(1) انظر الرد على الأخنائي ص167 .(54/352)
فهذان طرفان لا أعلم فيهما نزاعاً بين الأئمة الأربعة والجمهور ، والأئمة الأربعة وسائر العلماء لا يوجبون الوفاء على نذر أن يسافر إلى أثر نبي من الأنبياء قبورهم ، أو غير قبورهم ، وما علمت أحداً أوجبه غير ابن حزمن فإنه أوجب الوفاء على ما نذر مشياً أو ركوباً ، أو نهوضاً إلى مكة ، أو المدينة ، أو بيت المقدس .
قال : وكذلك إلى أثر من آثار الأنبياء ، قال : فإن نذر مشياً ، أو نهوضاً أو ركوباً إلى مسجد من المساجد غير الثلاث لم يلزمه ، وهذا عكس قول الليث بن سعد فإنه قال :من نذر المشي إلى مسجد من المساجد مشى إلى ذلك المسجد ، وابن حزم فهم من قوله : ((لاتشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد )) أي لا تشد إلى مسد ، وهو لا يقول بفحوى الخطاب وتنبيهه ، فلا يجعل هذا نهياً عما هو دون المساجد في الفضيلة بطريق الأولى بل يقول في قول النبي - صلى الله عليه وسلم - (( لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ثم يغتسل فيه )) إنه لو بال ، ثم صب البول فيه لم يكن منهياً عن الاغتسال فيه وداود الظاهري عنه في فحوى الخطاب ، روايتان هذه إحداهما ، وابن حزم ومن قال بإحدى روايتي داود الظاهري ، يقولون : إن قوله : (( ولا تقل لهما أف )) لا يدل على تحريم الشتم والضرب ، وهذا قول ضعيف جداً ، في غاية الفساد عند عامة العلماء ، فإنهم يقولون : إذا كان البائل الذي يحتاج إلى البول قد نهى أن يبول فيه ، ثم يغتسل فيه ، فالذي بال في إناء ، ثم صبه فيه أولى بالنهي ، كما أنه لما نهى عن الاستجمار بطعام الجن وطعام دوابهم العظام والروث كان ذلك تنبعاً على النهي ، عن الاستجمار بطعام الإنس بطريق الأولى ، وكل ما نهى عنه الاستجمار به فتلطيخه بالعذرة أولى بالنهي ، فإنه لا حاجة إلى ذلك ، ولهذا فهم الصحابة من نهيه أن يسافر إلى غير المساجد الثلاث ، أن السفر إلى طور سيناء داخل في النهي وإن لم يكن مسجداً ، كما جاء عن بصره بن أبي بصرة وأبي سعيد وابن عمر وغيرهم.(54/353)
وحديث بصرة معروف في السنن والموطأ قال لأبي هريرة ، وقد أقبل من الطور لو أدركتك قبل أن تخرج إليه لما خرجت ، سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : (( لا تعمل المطي إلا إلى ثلاث مساجد : المسجد الحرام ومسجدي هذا والمسجد الأقصى )) .
وأما ابن عمر فروي أبو زيد شبه النميري في كتاب أخبار المدينة حدثنا ابن أبي الوزير حدثنا سفيان عن عمرو بن دينار ، عن طلق عن قزعة قال : أتيت ابن عمر فقلت : إني أريد الطور ؟ فقال : إنما تشد الرحال إلى ثلاثة مساجد : المسجد الحرام ، ومسجد المدينة ، والمسجد الأقصى ، فدع عنك الطور فلا تأته ، رواه أحمد بن حنبل في مسنده ، وهذا النهي من بصرة بن أبي بصرة ، وابن عمر ، ثم موافقة أبي هريرة يدل على أنهم فهموا من حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - النهي ، فلذلك نهوا عنه لم يحملوه على مجرد نفي الفضيلة .
وكذلك أبو سعيد الخدري وهو رواية أيضاً ، وحديثه في الصحيحين ، فروى أبو زيد حدثنا هشام بن عبد الملك ، حدثنا عبد الحميد بن بهرام ، حدثنا شهر بن حوشب ، قال سمعت أبا سعيد وذكر عنده الصلاة ، في الطور ، فقال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( لا ينبغي للمطي أن تشد رحالها إلى مسجد تبتغي فيه الصلاة غير المسجد الحرام ، ومسجدي هذا والمسجد الأقصى )) (1) فأبو سعيد جعل الطور مما نهى عن شد الرحال إليه ، مع أن اللفظ الذي ذكره إنما فيه النهي عن شدها إلى المساجد ، فدل على أنه علم أن غير المساجد أولى بالنهي .
__________
(1) تقدم تخريجه بلفظ لا تشد الرحال .. وهذا الإسناد وفيه شهر بن حوشب .(54/354)
والطور إنما يسافر من يسافر إليه لفضيلة البقعة ، وأن الله سماها الوادي المقدس والبقعة المباركة ، وكلم الله موسى هناك ، وما علمت المسلمين بنوا هناك مسجداً فإنه ليس هناك قرية للمسلمين ، وأن كان هناك مسجد فإذا نهى الصحابة عن السفر إلى تلك البقعة وفيها مسجد ، فإذا لم يكن فيها مسجد كان النهي عنها أقوى .
وهذا ظاهر لا يخفى على أحد فالصحابة سمعوا الحديث من النبي - صلى الله عليه وسلم - فهموا منه النهي ، وفهموا منه تناوله لغير المساجد ، وهم أعلم الناس بما سمعوه ، وبسط هذا له موضع آخر .
والمقصود هنا ذكر ما تنازع فيهما الأئمة المشهورين ، أو غيرهم ، وما لم يتنازعوا فيه ، فإن بين الطرفين الذين لم يتنازع فيهما الأئمة مسائل متعددة فيها نزاع ، ولكن طائفة من المتأخرين يستحبون السفر إلى زيارة قبور الأنبياء والصالحين ويفعلون ذلك ويعظمونه ، لكن هل في هؤلاء أحد من المجتهدين الذين تحكى أقوالهم ، وتجعل خلافاً على من قبلهم من أئمة المسلمين ؟ هذا مما يجب النظر فيه ، والله أعلم .
قال المعترض
وقال القاضي أبو الطيب : ويستحب أن يزور قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد أن يحج ويعتمر ، ثم حكى كلام جماعة من الشافعية في الزيارة كالمحاملي(1) والحليمي(2)
__________
(1) هو الفقيه الإمام أبو الحسن محمد بن أحمد بن القاسم بن إسماعيل الضبي المحاملي البغدادي من كبار الشافعية ،انظر ترجمته في طبقات الشافعية 4/103 - 104 وشذرات الذهب 3/185 والعبر 3/97 وتاريخ بغداد 1/333 وسير أعلام النبلاء 17/265 .
(2) هو القاضي العلامة رئيس المحدثين والمتكلمين ، بما وراء النهر أبو عبد الله الحسين بن الحسن بن محمد بن حليم البخاري الشافعي .
انظر ترجمته في تذكرة الحفاظ 3/103 والعبر 3/48 وطبقات السبكي 4/333 وطبقات الأسنوي 1/404 -405 وطبقات ابن هداية الله 120 وسير أعلام النبلاء 17/231-232 وكشف الظنون 2/1047 وشذرات الذهب 3/407-408 .(54/355)
والماوردي(1) وصاحب المذهب (2)، والقاضي حسن(3) والروياني(4)
__________
(1) هو الإمام العلامة أقضى القضاة أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب البصري الماوردي الشافعي صاحب التصانيف ، انظر ترجمته في تاريخ بغداد 12/102-103 والكامل لابن الأثير 9/651 ووفيات الأعيان 3/282-284 وميزان الاعتدال 3/155 وطبقات السبكي 5/267-285 وطبقات الأسنوي 2/387-388 والبداية والنهاية 12/80 وسير أعلام النبلاء 18*-64 ولسان الميزان 4/260-261 وطبقات المفسرين للداوردي 1/423-425 وطبقات المفسرين للسيوطي 25 وطبقات ابن هداية الله 151-152 وشذرات الذهب 3/285-287 وهداية العارفين 1/689 وانظر كشف الظنون وغيرها .
(2) هو يحي بن شرف بن مري بن حسن بن حسين بن جمعة بن حزام الفقيه الحافظ الزاهد أحد الأعلام شيخ الإسلام محي الدين أبو زكريا النووي ، انظرترجمته في طبقات السبكي 5/165 والبداية والنهاية 13/278 وشذرات الذهب 5/354 وطبقات ابن قاض شهبند 2/153 .
(3) هو القاضي حسين بن محمد بن أحمد العلامة شيخ الشافعية بخراسان أبو علي المروذي
انظر ترجمته في وفيات الأعيان 2/134-135 وطبقات السبكي 4/356-365 والعبر 3/249 وسير أعلام النبلاء 18/260-362 وطبقات الأسنوي 1/407-408 وطبقات ابن هداية الله 163-164 وشذرات الذهب 3/310 وكشف الظنون 1/424-517 وغيرها .
(4) هو القاضي العلامة فخر الإسلام شيخ الشافعية أبو المحسن عبد الواحد بن إسماعيل بن أحمد بن محمد الروياني الطبري الشافعي ؟
انظر ترجمته في الكامل في التاريخ 10/473 ووفيات الأعيان 3/198-199 والعبر 4/4-5 وطبقات السبكي 7/193 وطبقات الأسنوي 1/565-566 وشذرات الذهب 4/4 وكشف الظنون 1/266-355 وهداية العارفين 1/634 وسير أعلام النبلاء 19-260-262 .(54/356)
، ثم قال : ولا حاجة إلى تتبع كلام الأصحاب في ذلك مع العلم بإجماعهم ،وإجماع سائر العلماء عليه ، ثم نقل كلام غير واحد من الحنفية في ذلك ثم قال : وكذلك نص عليه الحنابلة أيضاً ، قال : أبو الخطاب محفوظ بن أحمد الكلوذاني(1) الحنبي في كتاب الهداية في آخر باب صفحة الحج .
فإذا فرغ من الحج استحب له زيارة قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وقبره صاحبيه رضي الله عنهما . ثم ذكر كلام صاحب المستوعب ، وقال بعد حكايته : وأنظر هذا المنصف من الحنابلة الذين الخصم متمذهب بمذهبهم ،كيف نص على التوجيه بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ، ثم نقل كلام صاحب المغني ، وابن حمدان ، وذكر أن ابن الجوزي عقد لذلك باباً في كتاب مثير العزم الساكن إلى أشرف الأماكن ، ثم قال : وكذلك نص عليه المالكية ، وقد تقدم حكاية القاضي عياض الإجماع ، وفي كتاب : تهذيب الطالب(2) ، لعبد الحق الصقلي عن الشيخ أبي عمران المالكي ، أن زيارة قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - واجبة ، قال عبد الحق : يعني من السنن الواجبة .
__________
(1) هو الشيخ الإمام العلامة الورع شيخ الحنابلة أبو الخطاب محفوظ بن أحمد بن حسن بنحسن العراقي الكلوذاني ثم البغدادي الأزجي ، انظر ترجمته في الكامل لابن الأثير 10/524 والعبر 4/21 وسير أعلام النبلاء 19/348-350 وسذرات الذهب 4/27-28 .
(2) في كتاب السبكي " تهذيب الطالب " وهو خطأ والصحيح ما ها هنا كما في " معجم المؤلفين 5/94 لعمر رضا كحالة : قال : عبد الحق بن محمد بن هارون السهمي القرشي الصقلي أبو محمد فقيه حج مرات وتوفي بالإسكندرية من تصانيفه : كتاب النكت والفروق لمسائل مدونة وتهذيب الطالب استدراك على مختصر البرادعي وجزء في ضبط ألفاظ المدونة .(54/357)
وهذا الذي نقله المعترض عن هؤلاء الفقهاء من أتباع الأئمة الأربعة بمعزل عما ذكر فيه الشيخ النزاع بين العلماء ، فلا حاجة إلى التطويل باستقصاء ذكر كلامهم ، وما نقله عبد الحق الصقلي عن الشيخ أبي عمران فيه نظر وإيهام ، والوجوب لم يذهب إليه أحد من العلماء ، ثم ذكر فرعاً فيمن استؤجر بمال وشرط عليه الزيارة ،وحكى فيه بعض كلام المالكية والشافعية ، ثم قال : وقد روى القاضي عياض في ( الشفاء ) .
قال حدثنا القاضي أبو عبد الله محمد بن عبد الرحمن الأشعري ، وأبو القاسم أحمد بن بقي الحاكم وغير واحد فيما أجازونيه ، قالوا : حدثنا أبو العباس أحمد بن عمر بن دلهاث ، حدثنا أبو الحسن علي بن فهر ، حدثنا أبو بكر محمد بن أحمد بن الفرج ، حدثنا أبو الحسن عبد الله بن المنتاب ، حدثنا يعقوب بن إسحاق بن أبي إسرائيل ، حدثنا ابن حميد(1) قال : ناظر أبو جعفر أمير المؤمنين ملكاً في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال له مالك : يا أمير المؤمنين ، لا ترفع صوتك في هذا المسجد ، فإن الله عز وجل أدب قومه فقال : { لَا (#ûqمèsùِچs? ِNن3s?¨uqô¹r& فَوْقَ إVِq|¹ النَّبِيِّ } (الحجرات 002) ومدح قوماً فقال : { إِنَّ الَّذِينَ ڑcq'زنَtƒ ِNكgs?¨uqô¹r& عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ } (الحجرات 003) وذم قوماً فقال : { إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ دN¨uچàfçtù:$# } (الحجرات 004) وأن حرمته ميتاً كحرمته حياً ، فاستكان لها أبو جعفر ، وقال يا ابا عبد الله : استقبل القبلة وأدعو أم استدبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقال ولم تصرف وجهك عنه وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم عليه السلام ( إلى الله يوم القيامة ) بل استقبله واستشفع به يشفعه الله فيك قال الله تعالى : {
__________
(1) هو محمد بن حميد الرازي ولم يشهد القصة ولو شهدها فلا يعتمد عليه فهو ضعيف وكذبه أبو زرعة وابن واره ،انظر التوسل ص64 وسيأتي كلام المصنف ونقل أقوال أهل العلم فيه .(54/358)
وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ (#ûqكJn=
أَنْفُسَهُمْ } (النساء 064)
قال المعترض
فانظر هذا الكلام من مالك رحمه الله تعالى ، وما اشتمل عليه من الزيارة والتوسل بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وحسن الأدب معه .
قلت : المعروف عن مالك أنه لا يستقبل القبر عند الدعاء ، وهذه الحكاية التي ذكرها القاضي عياض ورواها بإسناد عن مالك ليست بصحيحة عنه ، وقد ذكر المعترض في موضع من كتابه أن إسنادها إسناد جيد ، وهو مخطئ في هذا القول خطأ فاحشاً ، بل إسنادها إسناد ليس بجيد ، بل هو إسناد مظلم منقطع ، وهو مشتمل على من يتهم بالكذب وعلى من يجهل حاله وابن حميد هو محمد بن حميد الرازي ، وهو ضعيف كثير المناكير غير محتج بروايته ، ولم يسمع من مالك شيئاً ولم يلقه ،بل روايته عنه منطقة غير متصلة وقد ظن المعترض أنه أبو سفيان محمد بن حميد المعمري أحد الثقات المخرج لهم في صحيح مسلم قال :فإن الخطيب ذكره في الرواة عن مالك وقد أخطأ فيما ظنه خطأ فاحشاً ووهم وهماً قبيحاً .
فإن ومحمد بن حميد المعمري رجل متقدم لم يدركه يعقوب بن إسحاق بن أبي إسرائيل راوي الحكاية عن ابن حميد ، بل بينهما مفازة بعيدة ، وقد روى المعمري عن هشام بن حسان ومعمر الثوري ، وتوفي سنة اثنتي وثمانين ومائة قبل أن يولد يعقوب بن إسحاق بن أبي إسرائيل ، وأما محمد بن حميد الرازي فإنه في طبقة الرواة عن المعمري كان خيثمة وابن نمير وعمرو والناقد وغيرهم ، وكانت وفاته سنة ثمان وأربعين ومائتين فرواية يعقوب بن إسحاق عنه ممكنة بخلاف روايته عن المعمري ، فإنها غير ممكنة ، وقد تكلم في محمد بن حميد الرازي ، وهو الذي رويت عنه هذه الحكاية من غير واحد من الأئمة ونسبه بعضهم إلى الكذب .(54/359)
قال يعقوب بن شيبة الدوسي(1) : محمد بن حميد الرازي كثير المناكير ، وقال البخاري(2) ، حديثه فيه نظر ، وقال النسائي(3) ليس بثقة ، وقال إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني(4) : رديء المذهب غير ثقة ، وقال فضلك الرازي(5) عندي عن ابن حميد خمسون ألف حديث ، لا أحدث عنه بحرف ، وقال أبو العباس أحمد بن محمد الأزهري(6) : سمعت إسحاق بن منصور يقول : أشهد على محمد بن حميد وعبيد بن إسحاق العطار بين يدي الله أنهما كذابان ، وقال صالح بن محمد الحافظ (7): كان كل ما بلغه من حديث سفيان يحيله على مهران وما بلغه من حديث منصور يحيله على عمرو بن ( أبي ) قيس ، وما بلغه من حديث الأعمش يحيله على مثل هؤلاء وعلى عنبسة ، ثم قال : كل شيء كان يحدثنا ابن حميد كنا نتهمه فيه .
وقال في موضع آخر : كانت أحاديثه تزيد وما رأيت أحد أجرأ على الله منه كان يأخذ أحاديث الناس فيقلب بعضها على بعض ، وقال في موضع آخر : ما رأيت أحداً أحذق بالكذب من رجلين : سليمان الشاذكوني ، ومحمد بن حميد الرازي كان يحفظ حديثه كله ، وكان حديثه كل يوم يزيد ، وقال أبو القاسم : عبد الله بن محمد بن عبد الكريم الرازي ابن أخي أبي زرعة : سألت أبا زرعة عن محمد بن حميد فأومأ بأصبعه إلى فمه فقلت له : كان يكذب ؟ فقال : برأسه : نعم .
__________
(1) انظر كلامه في التهذيب 9/129 .
(2) انظر التاريخ الكبير 1/69 والضعفاء الصغير له ص205 رقم 315 .
(3) الضعفاء والمتروكين ص32 .
(4) انظر أحوال الرجال ص207 رقم 382 .
(5) انظر التهذيب 9/129
(6) انظر التهذيب 9/129
(7) انظر التهذيب 9/129 .(54/360)
فقلت له ( كان ) قد شاخ لعله يعمل عليه ويدلس عليه ؟ فقال : لا ، بني كان يتعمد وقال أبو حاتم(1) الرازي : حضرت محمد بن حميد وحضره عون بن جرير ، فجعل ابن حميد يحدث بحديث عن جرير فيه شعر فقال عون : ليس هذا الشعر في الحديث ، إنما هو من كلام أبي فتغافل ابن حميد فمر فيه .
وقال أبو نعيم عبد الملك بن محمد بن عدي(2) : سمعت أبا حاتم محمد بن إدريس الرازي في منزله ، وعنده عبد الرحمن بن يوسف بن خراش ، وجماعة من مشايخ أهل الرأي وحفاظهم للحديث ، فذكروا ابن حميد فأجمعوا على أنه ضعيف في الحديث جداً وأنه يحدث بما لم يسمعه ، وأنه يأخذ أحاديث لأهل البصرة والكوفة فيحدث بها عن الرازيين . وقال ابن عباس بن سعيد : سمعت داود بن يحي يقول : حدثنا عنه يعني محمد بن حميد أبو حاتم قديماً ، ثم تركه بآخره ، قال : سمعت عبد الرحمن بن يوسف بن خراش ، يقول حدثنا ابن حميد ، وكان والله يكذب .
__________
(1) انظر الجرح والتعديل 7/232 - 233 .
(2) انظر الكامل 6/2277 .(54/361)
وقال أبو حاتم بن حبان البستي في كتاب الضعفاء(1): محمد بن حميد الرازي كنيته أبو عبد الله : يروي عن ابن المبارك وجرير ، حدثنا عنه شيوخنا مات سنة ثمان وأربعين ومائتين ، كان ممن ينفرد عن الثقات بالأشياء المقلوبات ، ولا سيما إذا حدث عن شيوخ بلده ، سمعت إبراهيم بن عبد الواحد البغدادي ، يقول : قال صالح بن أحمد بن حنبل كنت يوماً عند أبي إذ دق عليه الباب ، فخرجت فإذا أبو زرعة ومحمد بن مسلم بن واره يستأذنان على الشيخ فدخلت وأخبرته فأذن لهم فدخلوا وسلموا عليه فأما ابن واره فباس يده فلم ينكر عليه ذلك ، وأما أبو زرعة ، فصافحة فتحدثوا ساعة فقال ابن واره : يا أبا عبد الله إن رأيت تذكر حديث أبي القاسم بن أبي الزناد فقال : نعم حدثنا أبو القاسم ابن أبو الزناد عن إسحاق بن حازم ، عن ابن مقسم يعني عبيد الله ، عن جابر بن عبد الله أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل عن ماء البحر ؟ فقال : (( الطهور ماؤه ، الحلال ميتته )) وقام فقالوا : ما له قلنا شك في شيء ثم خرج والكتاب بيده فقال في كتابه ميته بتاء واحدة والناس يقولون ميتته ، ثم تحدثوا ساة فقال له ابن واره : يا أبا عبد الله رأيت محمد بن حميد ، قال نعم ، قال : كيف رأيت حديثه ؟ قال : إذا حدث عن العراقيين يأتي بأشياء مستقيمة ، وإذا حدث عن أهل بلده مثل إبراهيم بن المختار وغيره أتى بأشياء لا تعرف لا يدري ما هي .
قال : فقال أبو زرعة وابن واره : صح عندنا أنه يكذب ، قال : فرأيت أبي بعد ذلك إذا ذكر ابن حميد نفض يده .
وقال العقيلي في كتاب الضعفاء (2): حدثني إبراهيم بن يوسف ، قال : كتب أبو زرعة ومحمد بن مسلم ، عن محمد بن حميد ، حديثاً كثيراً ، ثم تركا الرواية عنه ، وقال الحاكم أبو أحمد في كتاب الكنى : أبو عبد الله محمد بن حميد الرازي ليس بالقوي عندهم تركه أبو عبد الله بن يحيى الذهلي ، وأبو بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة .
__________
(1) 2/303 .
(2) 4/61 .(54/362)
فإذا كانت هذه حال محمد بن حميد الرازي عند أئمة هذا الشأن ، فكيف يقال في حكاية رواها منقطعة : إسنادها جيد مع أن في طريقها إليه من ليس بمعروف .
وقد قال المعترض بعد أن ذكر هذه الحكاية ، وتكلم على رواتها : فانظر هذه الحكاية وثقة رواتها وموافقتها ، لما رواه ابن وهب عن مالك ، هكذا قال ، والذي حمله على ارتكاب هذه السقطة قلة علمه ومتابعته هواه ، نسأل الله التوفيق.
والذي ينبغي أن يقال : فانظر هذه الحكاية وضعفها وانقطاعها وتكارتها وجهالة بعض رواتها ونسبة بعضهم إلى الكذب ومخالفتها لما ثبت عن مالك وغيره من العلماء .
وقد قال شيخ الإسلام في كتاب : اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم(1) ولم يكن أحد من السلف يأتي إلى قبر نبي أو غير نبي لأجل الدعاء عنده ، ولا كان الصحابة يقصدون الدعاء عند قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا عند قبر غيره من الأنبياء ، وإنما كانوا يصلون ويسلمون على النبي - صلى الله عليه وسلم - ،وعلى صاحبه واتفق الأئمة على أنه إذا دعا بمسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - ، لا يستقبل قبره وتنازعوا عند السلام عليه ، فقال مالك وأحمد وغيرهما : يستقبل قبره ويسلم عليه وهو الذي ذكره أصحاب الشفاعي ، وأظنه منصوباً عنه ، وقال أبو حنيفة : بل يستقبل القبلة ويسلم عليه هكذا في كتب أصحابه .
__________
(1) ص393-394 .(54/363)
وقال مالك فيما ذكره إسماعيل بن إسحاق في المبسوط ، والقاضي عياض وغيرهما : لا أرى أن يقف عند قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - يدعو ولكن يسلم ويمضي ، وقال أيضاً في المبسوط : لا بأس لمن قدم من سفر أو خرج أن يقف على قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - ويدعو له ولأبي بكر وعمر(1) ، فقيل له : فإن ناساً من أهل المدينة لا يقدمون من سفر ولا يريدونه يفعلون ذلك في اليوم مرة ، أو أكثر ، وربما وقفوا في الجمعة أو في الأيام المرة والمرتين ، أو أكثر عند القبر فيسلمون ويدعون ساعة ، فقال : لم يبلغني هذا عن أحد من أهل الفقه ببلدنا ، وتركه واسع ، ولا يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها ، ولم يبلغني عن أول هذه الأمة وصدرها أنهم كانوا يفعلون ذلك ويكره إلا لمن جاء من سفر أو أراده .
وقد تقدم في ذلك من الآثار عن السلف والأئمة ما يوافق هذا ، ويؤيده من أنهم كانوا إنما يستحبون عند قبره ما هو من جنس الدعاء له والتحية كالصلاة والسلام ويكرهون قصده للدعاء والوقوف عنده للدعاء ،ومن يرخص منهم في شيء من ذلك ، فإنه إنما يرخص فيما إذا سلم عليه ، ثم أراد الدعاء أن يدعو مستقبلاً القبلة ، إما مستدبراً القبر ، وإما منحرفاً عنه ، وهو أن يستقبل القبلة ويدعوا ولا يدعو مستقبلاً القبر ،وهكذا المنقول عن سائر الأئمة ليس في أئمة المسلمين من استحب للمرء أن يستقبل قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - ويدعو عنده .
__________
(1) في اقتضاء الصراط المستقيم ص394 ويصلي عليه ويدعو لأبي بكر وعمر .(54/364)
وهذا الذي ذكرناه عن مالك والسلف يبين حقيقة الحكاية المأثورة عنه ، وهي الحكاية التي ذكرها القاضي عياض عن محمد بن حميد قال : ناظر أبو جعفر أمير المؤمنين مالكاً في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال له مالك : يا أمير المؤمنين لا ترفع صوتك في هذا المسجد فإن الله أدب قوماً فقال { لَا (#ûqمèsùِچs? ِNن3s?¨uqô¹r& فَوْقَ إVِq|¹ النَّبِيِّ } (الحجرات 002) وذكر باقي الحكاية ، ثم قال : فهذه الحكاية على هذا الوجه ، إما أن تكون ضعيفة ، أو مغيرة ، وإما أن تفسر بما يوافق مذهبه ، إذا قد يفهم منها ما هو خلاف مذهبه المعروف بنقل الثقات من أصحابه ، فإنه لا يختلف مذهبه أنه لا يستقبل القبر عند الدعاء وقد نص على أنه لا يقف عند الدعاء مطلقاً ، وذكر طائفة من أصحابه أنه يدنوا من القبر ويسلم على النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم يدعو مستقبلاً القبلة ،ويوليه ظهره وقيل : لا يوليه ظهره .
فاتفقوا في استقبال القبلة وتنازعوا في تولية القبر ظهره ، وقت الدعاء ويشبه والله أعلم أن يكون مالك رحمه الله سئل عن استقبال القبر عند السلام عليه ،وهو يسمى ذلك دعاء ، فإنه قد كان من فقهاء العراق من يرى أنه عند السلام عليه يستقبل القبلة أيضاً ، ومالك يرى استقبال القبر في هذه الحال كما تقدم ، وكما قال في رواية ابن وهب عنه : إذا سلك على النبي - صلى الله عليه وسلم - يقف ووجهه إلى القبر لا إلى القبلة ويدنوا ويسلم ويدعو ولا يمس القبر بيده ، وقد تقدم قوله أنه يصلي عليه ويدعو له .(54/365)
ومعلوم أن الصلاة عليه والدعاء له يوجب شفاعته للعبد يوم القيامة ، كما قال في الحديث الصحيح : (0 إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول ثم صلوا علي فإنه من صلى علي مرة صلى الله عليه عشراً ثم سلوا الله لي الوسيلة فإنها درجة في الجنة لا ينبغي إلا لعبد من عباد الله وأرجو أن أكون ذلك العبد ، فمن سأل الله لي الوسيلة حلت عليه شفاعتي يوم القيامة (1)، فقول مالك في هذه الحكاية : إن كان ثابتاً عنه معناه أنك إذا استقبلته وصليت عليه وسلمت عليه ، وسألت الله له الوسيلة يشفع فيك يوم القيامة ، فإن الأمم يوم القيامة يتوسلون بشفاعته واستشفاع العبد به في الدنيا هو فعلما يشفع به له يوم القيامة كسؤال الله تعالى له الوسيلة ونحو ذلك .
وكذلك ما نقل عنه من رواية ابن وهب ، إذا سلم على النبي - صلى الله عليه وسلم - ودعا يقف ووجه إلى القبر لا إلى القبلة ،ويدعوا ويسلم ، يعني دعاء للنبي - صلى الله عليه وسلم - وصاحبه ، فهذا هو المشروع هناك كالدعاء عند زيارة قبور سائر المؤمنين وهو الدعاء لهم ، فإنه أحق الناس أن يصلي عليه ويسلم عليه ، ويدعي له بأبي هو وأمي - صلى الله عليه وسلم - وبهذا تتفق أقوال مالك ويفرق بني الدعاء الذي أحبه ، والدعاء الذي كرهه وذكر أنه بدعة ، وأما الحكاية في تلاوة مالك هذه الآية : (( ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم )) الآية فهو والله أعلم باطل ، فإن هذا لم يذكره أحد من الأئمة فيما أعلم ، ولم يذكر أحد منهم أنه يستحب أن يسأل بعد الموت لا استغفاراً ولا غيره وكلامه المنصوص عنه وعن أمثاله يتنافى هذا ، وإنما يعرف مثل هذا في حكاية ذكرها طائفة من متأخري الفقهاء عن أعرابي أنه أتى قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - وتلا هذه الآية وأنشد بيتين :
يا خير من دفنت بالقاع أعظمه
نفس الغداء لقبر أنت ساكنه
ڑڑفطاب من طبيهن القاع والأكم
فيه العفاف وفيه الجود والكرم
__________
(1) تقدم تخريجه .(54/366)
ولهذا استحب طائفة من متأخري الفقهاء من أصحاب الشافعي وأحمد مثل ذلك واحتجوا بهذه الحكاية التي لا يثبت بها حكم شرعي لا سيما في مثل هذا الأمر الذي لو كان مشروعاً مندوباً ، لكان الصحابة والتابعون أعلم به وأعمل به من غيرهم ، بل قضاء الله حاجة مثل هذا الأعرابي وأمثاله ولها أسباب قد بسطت في غير هذا الموضع ، وليس كل من قضيت حاجته بسبب يقتضي أن يكون السبب مشروعاً مأموراً به ، فقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسأل في حياته المسألة فيعطيها لا يرد سائلاً ، وتكون المسألة محرمة في حق السائل حتى قال : (( إني لأعطي أحدهم العطية فيخرج بها يتأبطها ناراً )) قالوا : يا رسول الله فلم تعطيهم ؟ قال : (( يأبون إلا أن يسألوني ويأبى الله لي البخل )) (1) .
وقد يفعل الرجل العمل الذي يعتقده صالحاً ولا يكون عالماً أنه منهي عنه فيثاب على حسن قصده ، ويعفى عنه لعدم علمه ،وهذا باب واسع وعامة العبادات المبتدعة المنهي عنها قد يفعلها بعض الناس يحصل له بها نوع من الفائدة ، وذلك لا يدل على أنها مشروعة ، ولو لم تكن مفسدتها أغلب من مصلحتها لما نهى عنها ، ثم الفاعل قد يكون متأولاً ،أو مختطئاً ، وقد بسط هذا في غير هذا الموضع .
والمقصود هنا أنه قد علم أن مالكاً من أعلم الناس بمثل هذه الأمور ، فإنه مقيم بالمدينة يرى ما يفعله التابعون وتابعوهم ويسمع ما ينقلون عن الصحابة وأكابر التابعين ، على عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه فاستسقى بالعباس ، ففي صحيح البخاري(2) عن أنس أن عمر استسقى بالعباس ، وقال : اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبيك فتسقينا ، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا ، فيسقون فاستسقوا به ، كما كانوا يستسقون بالنبي - صلى الله عليه وسلم - في حياته .
__________
(1) رواه أحمد في مسنده ¾ من حديث أبي سعيد بسند صحيح .
(2) أخرجه البخاري 2/494 رقم 1010 وأنظره أيضاً برقم 3710 .(54/367)
وهم إنما كانوا يتوسلون بدعائه وشفاعته لهم فيدعو لهم ويدون معه كالإمام والمأمومين من غير أن يكونوا يقسمون على الله بمخلوق ، كما ليس لهم أن يقسم بعضهم على بعض بمخلوق ولما مات - صلى الله عليه وسلم - توسلوا بدعاء العباس واستسقوا به ، ولهذا قال الفقهاء ، يستحب الاستسقاء بأهل الخيل والدين والأفضل أن يكونوا من أهل بيت النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد استسقى معاوية بيزيد بن الأسود الجرشي ، وقال اللهم إنا نستسقي إليك بيزيد بن الأسود ، يا يزيد الرفع يديك فرفع يديه ودعا ودعا الناس حتى أمطروا ، ولم يذهب أحد من الصحابة إلى قبر نبي ولا غيره يستسقي عنده ، ولا به العلماء استحبوا السلام على النبي - صلى الله عليه وسلم - للحديث الذي في سنن أبي داود، عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : (( ما من رجل يسلم علي إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام )) (1).
هذا مع ما في النسائي وغيره عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : (( إن الله وكل بقبري ملائكة يبلغوني عن أمتي السلام )) (2) وفي سنن أبي داود وغيره عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : (( أكثروا علي من الصلاة وليلة الجمعة ويوم الجمعة فإن صلاتكم معروضة علي )) فقالوا يا رسول الله : كيف تعرض صلاتنا وقد أرمت أي بليت ، فقال : (( إن الله حرم على الأرض أن تأكل لحوم الأنبياء )) (3).
__________
(1) تقدم تخريجه .
(2) أخرجه النسائي في سننه كتاب السهو - باب السلام على النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم 3/43 وأخرجه أيضاً الدارمي 1/317 وأحمد في مسنده 1/387 ، 441 ، 452 وإسماعيل القاضي في فضل الصلاة على النبي رقم 21 جميعاً في حديث ابن مسعود لكنه لفظه ، (( وإن لله ملائكة سياحين يبلغونني من أمتي السلام )) وسنده صحيح .
(3) تقدم تخريجه .(54/368)
فالصلاة عليه بأبي وأمي والسلام عليه مما أمر الله به ورسوله : وقد ثبت في الصحيح أنه قال : (( من صلى علي مرة صلى الله عليه عشراً ، والمشروع لنا عند زيارة الأنبياء والصالحين وسائر المؤمنين هو من جنس المشروع عند جنائزهم ، فكما أن المقصود بالصلاة على الميت الدعاء له ، فالمقصود بزيارة قبره الدعاء له كما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الصحيح والسنن والمسند أنه كان يعلم أصحابه إذا زاروا القبور أن يقول قائلهم : (( السلام عليكم أهل دار قوم مؤمنين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون ويرحم الله المستقدمين منا ومنكم والمستأخرين ، نسأل الله لنا ولكم العافية ، اللهم لا تحرمنا أجرهم ولا تفتنا بعدهم واغفر لنا ولهم (1)، فهذا دعاء خاص للميت كما في دعاء الصلاة على الجنازة ، الدعاء العام والخاص .
وقال الشيخ : وقد قال الله تعالى في حق المنافقين { وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى ے¾دnخژِ9s% ِNهk®Xخ) كَفَرُوا بِاللَّهِ ¾د&د!qك™u'ur } (التوبة 084)
الآية فلما نهى سبحانه نبيه عن الصلاة عليهم والقيام على قبورهم لأجل كفرهم ، دل ذلك بطريق التعليل والمفهوم على أن المؤمن يصلي عليه ، ويقام على قبره ، ولهذا جاء في السنن أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا دفن الرجل من أصحابه يقوم على قبره ثم يقول : ((سلوا له التثبيت فإنه الآن يسأل )) (2) .
__________
(1) تقدم الكلام على بعض أحاديث الزيارة صفحة 31 حاشية ( 1 ) .
(2) أخرجه أبو داود 3/550 رقم 3221 من حديث عثمان بإسناد جيد .(54/369)
فأما أن يقصد بالزيارة سؤال الميت والإقسام به على الله أو استجابة الدعاء عند تلك البقعة ، فهذا لم يكن من فعل أحد من سلف الأمة لا الصحابة ولا التابعين لهم بإحسان وإنما حدث ذلك بعد ذلك ، بل قد كره مالك وغيره من العلماء أن يقول القاتل زرنا قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - يم حكى ما ذكره القاضي عياض في تأويل قول مالك هذا وسيأتي .
قال المعترض
وقال القاضي عياض : قال أين حبيب : ويقول : إذا دخل مسجد الرسول - صلى الله عليه وسلم - بسم الله وسلام على رسول الله ، السلام علينا من ربنا وصلى الله وملائكته على محمد اللهم اغفر لي ذنوبي ، وافتح لي أبواب رحمتك وجنتك واحفظني من الشيطان الرجيم ثم أقصد إلى الروضة وهي ما بين القبر والمنبر فأركع فيها ركعتين قبل وقوفك بالقبر ، ثم تقف بالقبر متواضعاً متوقراً فتصلي عليه وتثني عليه ، بما يحضرك وتسلم على أبي بكر وعمر وتدعو لهما ، ولا تدع أن تأتي مسجد قباء وقبور الشهداء .
ثم ذكر ما تقدم ذكره غير مرة مما حكاه القاضي عياض في الشفا عن مالك وبعض أصحابه في الصلاة والسلام عليه ، ثم قال فهذه نقول المذاهب الأربعة ، وكذلك غيرهم من الصحابة والتابعين ومن بعدهم ، فقد صح من وجوه كثيرة عن عبد الله بن عمر أنه كان يأتي القبر فيسلم على النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم روى بإسناده إلى دعلج قال : أنبأنا محمد بن علي بن زيد الصائغ ، حدثنا سعيد بن منصور ، حدثنا مالك بن أنس ، عن نافع ، عن ابن عمر أنه كان يأتي البر فيسلم على النبي - صلى الله عليه وسلم - وعلى أبي بكر وعمر ، قال دعلج : هذا الحديث في الموطأ عن عبد الله بن دينار ، عن ابن عمر .(54/370)
قلت : وما ذكره المعترض من نقول المذاهب الأربعة وغيرهم هو في غير المحل الذي ذكر الشيخ فيه النزاع بين العلماء كما بيناه غير مرة ، وما نقله عن ابن عمر رضي الله عنهما من التسليم وإتيان القبر ، فهو عند القدوم من سفر ، كما تقدم ذكره مراراً وقد روى عبد الرزاق في مصنفه(1) ، عن معمر ، عن أيوب عن نافع قال : كان ابن عمر إذا قدم من سفر أتى قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : السلام عليك يا رسول الله ، السلام عليك يا أبا بكر السلام عليك يا أبتاه .
قال معمر : فذكرت ذلك لعبيد الله بن عمر فقال : ما نعلم أحداً من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - فعل ذلك إلا ابن عمر. وقال إسماعيل بن إسحاق القاضي في كتاب الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - : حدثنا علي ، حدثنا سفيان قال : حدثني عبد الله بن دينار قال : رأيت ابن عمر إذا قدم من سفر دخل المسجد فقال : السلام عليك يا رسول الله السلام على أبي بكر على أبي ويصلي ركعتين(2) .
حدثنا سليمان بن حرب ، حدثنا حماد بن زيد ، عن أيوب ، عن نافع ، عن ابن عمر أنه كان إذا قدم من سفر دخل المسجد ، ثم أتى القبر فقال : السلام عليك يا رسول الله ، السلام عليك يا أبا بكر ، السلام عليك يا أبتاه وهذا إنما يعرف عن ابن عمر وحده كما قاله عبيد الله بن عمر وغيره .
__________
(1) انظر المصنف 3/576
(2) أخرجه إسماعيل القاضي ص81-82 رقم 99 وسنده صحيح .(54/371)
قال شيخ الإسلام(1) : وروى الشيخ الصالح شيخ العراق في زمنه عند الخاصة والعامة أبو الحسن علي بن عمر القزويني في أماليه عن عبد الله الزهري ، عن أبيه عن عبد الله بن أحمد عن أبيه عن نوح بن يزيد قال : حدثنا أبو إسحاق ، يعني إبراهيم بن سعد - قال : ما رأيت أبي قط يأتي قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - وكان يكره إتيانه ، قال الشيخ نوح بن يزيد بن يسار المؤدب : هذا الراوي عن إبراهيم بن سعد هو ثقة معروف بصحة إبراهيم وله اختصاص به ، روى عنه أحمد بن حنبل (2).
قلت : وروى أبو داود عن محمد بن يحيى الذهلي عنه ، قال أبو بكر الأثرم : ذكر لي أبو عبد الله نوح بن يزيد المؤدب فقال : هذا شيخ كيس أخرج إلى كتاب إبراهيم بن سعد فرأيت فيه ألفاظاً .
قال أبو عبد الله : نوح لم يكن به بأس كان مستثبتاً ، وقال محمد بن المثنى البزار : سألت أحمد بن حنبل عنه فقال : أكتب عنه فإنه ثقة حج مع إبراهيم بن سعد ، وكان يؤدب ولده (3)، وقال محمد بن سعد(4) ، كان ثقة فيه عسر ، وقال النسائي(5) : ثقة وذكر ابن حبان في كتاب الثقات(6) ، قال : وأما إبراهيم بن سعد فإنه من أكابر علماء المدينة وأكثرهم علماً وأوثقهم ، وكان قد خرج إلى بغداد روى عنه الشافعي وأحمد بن حنبل وطبقتها (7)، ومن سعة علمه روى عنه الليث بن سعد وهو أقدم وأجل منه .
__________
(1) انظر الرد على الأخنائي ص170
(2) في الرد على الأخنائي زيادة ( وأبو داود وغيرهما ) .
(3) كلام أحمد انظره في التهذيب 10/489 .
(4) انظر الطبقات 7/362
(5) انظر التهذيب 10/489 .
(6) لم أقل على كلامه في الثقات .
(7) في الرد على الأخنائي ( روى عنه الناس أحمد بن حنبل وطبقتهما ) .(54/372)
وأما أبوه سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف الزهري الذي ذكر عنه ابنه إبراهيم أنه قال : مارأيت أبي قط يأتي قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وكان يكره إتيانه ، فهو من أفضل أهل المدينة في زمن التابعين(1) ومن أصلحهم وأعبدهم ، وكان قاضي المدينة في زمن التابعين ، وقد أدرك بناء الوليد بن عبدالملك للمسجد وإدخال الحجرة فيه ، وأدرك ما كان عليه السلف قبل ذلك من الصحابة والتابعين
قال أبو حاتم بن حبان البستي(2): هو من جلة أهل المدينة وقدماء شيوخهم ، كان على القضاء بها ، وقد ذكروا أنه رأى عبد الله بن عمر ، وروى عن عبد الله بن حفر ، وقد خرج من المدينة غير مرة ، تارة إلى الحج ، وتارة كان قد استعمل على الصدقات ، ومرة خرج على العراق ، وروى عنه سفيان الثوري وشعبة والعراقيون ، وقد أدرك المدينة جابر بن عبد الله ، وسهل بن سعد وغيرهما من الصحابة ، ورأى أكابر التابعين مثل سعيد بن المسيب ، وسائر الفقهاء السبعة وغيرهم ، ومعلوم أنه لم يكن ليخالفهم فيما اتفقوا عليه ، بل لقد يخالف ابن عمر ، فإن ما نقله عنه ابنه يقتضي أنه لا يأتيه لا عند السفر ولا غيره بل يكره إتيانه مطلقاً ، كما كان جمهور الصحابة على ذلك لما فهموا من نهيه عن ذلك وأنه أمر بالصلاة عليه والسلام في كل زمان ومكان ، وقال : (( لا تتخذوا قبري عيداً)) وقال : (( اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد )) كما قد بين هذا في مواضع والله أعلم .
قال المعترض
__________
(1) في الرد على الأخنائي بعد قوله : في زمن التابعين ما لفظه : ( في زمن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق وأمثاله ) .
(2) في الرد على الأخنائي الرازي بدلاً من البستي ولم أقف على كلامه في الثقات .(54/373)
وقال عبد الرزاق في مصنفه(1) ، باب السلام على قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - وروى فيه آثار منها بإسناد صحيح أن ابن عمر كان إذا قدم من سفر أتى قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : (( السلام عليك يا رسول الله ، السلام عليك يا أبا أبا بكر السلام عليك يا أبتاه )) .
هكذا ذكره المعترض من مصنف عبد الرزاق ، ولم يذكر في آخره ما رواه عبد الرزاق بن محمد ، عن عبيد الله بن عمر أنه قال : ما نعلم أحداً من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - فعل ذلك إلا ابن عمر ، ولو ذكر قوله عبيد الله عقيب ذكر ما روى عن ابن عمر في ذلك ، كما فعله عبد الرزاق ، لكان أحسن وأتم فائدة ، ولكن المعني الذي ترك ذكره لأجله مفهوم وعبيد الله بن عمر هو العمري الكبير ، وكان من سادات أهل المدينة وأشراف قريش فضلاً وعلماً وعبادة ، وشرفاً ، وحفظاً ، وإتقاناً ، وكان في زمن التابعين .
وروى عن خلق منهم كسالم بن عبد الله بن عمر والقاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق ، ونافع مولى ابن عم ر وسعيد المقيري ، وثابت البنائي وعبد الله بن دينار ، وعطاء بن أبي رباح ، ومحمد بن المنكدر ، وأبي الزبير المكي ، ووهب بن كيسان وأبي حازم سلمة بن دينار الأعرج وعمرو بن دينار والزهري وغيرهم .
وروى عنه مثل سفيان الثوري وشعبة بن الحجاج وابن جريح ، وحماد بن سلمة ، وحماد بن زيد وسفيان بن عيينة وعبد الله بن المبارك ، والليث بن سعد ومعمر بن راشد وزائدة بن قدامة وعبد الله بن إدريس ، وعيسى بن يونس ، وفضيل بن عياض ، ويحيى بن سعيد القطان وأشباههم وأمثالهم من الأئمة الأعلام .
وقد قال جعفر بن محمد بن أبي عثمان الطيالسي(2) : سمعت يحيى بن معين يقول : عبيد الله بن عمر عن القاسم عن عائشة : الذهب المشبك بالدر ، فلقت له هو أحب إليك أو الزهري عن عروة عن عائشة ؟ فقال : هو أحب إلي .
__________
(1) 3 / 576 .
(2) أنظر التهذيب 7/39 .(54/374)
وقال أبو حاتم(1) : سألت أحمد بن حنبل عن مالك وعبيد الله بن عمر وأيوب أيهم أثبت في نافع ؟ فقال : عبد الله أثبتهم وأحفظهم وأكثرهم رواية ، وقال علي بن الحسن الهسنجاني : سمعت أحمد بن صالح يقول : عبيد الله بن عمر أحب إلي من مالك في حديث نافع .
وقال قطن بن إبراهيم النيسابوري ، عن الحسين بن الوليد النيسابوري : كنا عند مالك بن أنس فقال : كنا عند الزهري ومعنا عبيد الله بن عمر ومحمد بن إسحاق ، فأخذ الكتاب محمد بن إسحاق فقرأ فقال : أنتسب ، فقال : أنا محمد بن إسحاق بن يسار ، فقال : ضع الكتاب في يدك ، قال فأخذه مالك ، فقال : أنتسب ؟ فقال : أنا مالك بن أنس بن مالك بن أبي عامر الاصبحي ، فقال : ضع الكتاب من يدك ، قال : فأخذ عبيد الله بن عمر الكتاب ، فقال : أنتسب ، فقال : أنا عبيد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب ، فقال له ، اقرأ فجميع ما سمع أهل المدينة يومئذ قراءة عبيد الله بن عمر .
وروى عن سفيان بن عيينة قال : علينا عبيد الله بن عمر الكوفة فاجتمعوا عليه فقال : شتم العلم وأذهبتم نوره ، لو أدركنا عمر وإياكم ، أوجعنا وإياكم ضرباً ، وقال أبو حاتم بن حبان البستي(2) : عبيد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب أبو عثمان من أشراف قريش وأفاضل أهل المدينة ومتقنيهم ، مات سنة أربع أو خمس وأربعين ومائة .
__________
(1) انظر الجرح والتعديل 5/326 .
(2) انظر الثقات 7/149 والكلام هنا مختصر .(54/375)
فقد تبين أن عبيد الله بن عمر كان من كبار علماء أهل المدينة وقد أخذ العلم عن خلق من التابعين وأتباعهم ، وقد أدرك جماعة من كبار التابعين ، وأدرك ما كان عليه السلف ، وهو من أقارب عبد الله بن عمر ، وقد قال فيما فعله ابن عمر : ما نعلم أحداً من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - فعل ذلك إلا ابن عمر ، فلو كان ما فعله ابن عمر مأثوراً عن غيره أو منقولاً عن أحد من الصحابة والتابعين لم يخف على عبيد الله بن عمر وغيره من العلماء أهل المدينة الذين هم أعلم الناس بهذا الشأن والله أعلم .
قال المعترض
وروى عبد الرزاق في هذا الباب أيضاً أن سعيد بن المسيب رأى قوماً يسلمون على النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقال : ما مكث نبي في الأرض أكثر من أربعين يوماً ، ثم روى عبد الرزاق فيه قوله : (( مررت بموسى ليلة أسري بي وهو قائم يصلي في قبره )) كأنه قصد بذلك رد ما روي عن سعيد بن المسيب ، وهو رد صحيح ، وما ورد عن ابن المسيب ورد فيه حديث نذكره في باب حياة الأنبياء ، وقد روي عثمان بن عفان أنه لما حصر أشار بعض الصحابة عليه بأن يلحق بالشام فقال :لن أفارق دار هجرتي ، ومجاورة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما وهو مخالف لما قال ابن المسيب وهو الصحيح ، وكذلك ما ذكرناه عن ابن عمر ثم لو صح قول ابن المسيب لم يمنع من استحباب زيارة القبر لشرفه بحلوله فيه ونسبته إليه كما قال الشاعر :
أمر على الديار ديار ليلى
وما حب الديار شغفن قلبي
ڑڑأقبل ذا الجدار وذا الجدارا
ولكن حب من سكن الديارا(54/376)
قلت : هذا الذي رواه عبد الرزاق عن ابن المسيب لم يتابع عليه ابن المسيب ، بل في صحته عنه نظر ، وما بناه المعترض عليه على تقدير صحته عنه ، ليس بمقبول منه ، بل هو بناء ضعيف على ضعيف ، ولم يذكر البيهقي في الجزء الذي جمعه في حياة الأنبياء بعد وفاتهم قول ابن المسيب هذا وإنما روى بإسناد ضعيف غير ثابت عن أنس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : (( إن الأنبياء لا يتركون في قبورهم بعد أربعين ليلة ، ولكنهم يصلون بين يدي الله عز وجل حتى ينفخ في الصور ، وسنذكر علة هذا الحديث وسبب ضعفه فيما بعد إن شاء الله تعالى وقد روى نحو هذا الحديث من وجه آخر بزيادة يختلف بها المعنى .
قال : أبو حاتم بن حبان البستي في كتاب المجروحين (1): أخبرنا الحسن بن سفيان حدثنا هشام بن خالد الأزرق ، حدثنا الحسن بن يحيى الخشني ، عن سعيد بن عبد العزيز ، عن يزيد بن أبي مالك ، عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( ما من نبي يموت فيقيم في قبره إلا أربعين صباحاً حتى ترد إليه روحه )) .
هكذا رواه بهذه الزيادة ، وقال هذا خبر باطل موضوع ، والحسن بن يحيى الخشني منكر الحديث جداً ؛ يروي عن الثقات ما لا أصل له ، وعن المتقنين ما لا يتابع عليه ، وقال النسائي(2) : الحسن بن يحيى الخشني ليس بثقة ، وقال الدارقطني(3) : متروك ، وقال عبد الغني بن سعيد المصري(4) : ليس بشيء ، وذكر أبو الحسن بن الزاغوني في بعض كتبه حديثاً متنه : (( إن الله لا يترك نبياً في قبره أكثر من نصف يوم )) .
__________
(1) انظر المجروحين لابن حبان 1/235 .
(2) انظر الضعفاء والمتروكين للنسائي ص87 رقم 152 .
(3) انظر الضعفاء والمتروكين للدارقطني ص82 رقم 190 ، وانظر التاريخ الكبير 2/309 والجرح والتعديل 3/44 والميزان 1/534 والمغني 1/168 والكاشف 1/167 والتهذيب 2/326 .
(4) انظر التهذيب 2/326 .(54/377)
وحكى عن بعضهم أنه قال : أراد به نصف يوم من أيام الدنيا ، ثم يعيد أرواحهم إلى أجسادهم فيكونون أحياء في قبورهم ،وعن بعضهم أن المراد به نصف يوم من أيام الآخرة ، وهذا الحديث الذي ذكره الزاغوني حديث منكر غير صحيح ، وسنذكر ما ورد في هذا الباب ، والكلام عليه فيما بعد إن شاء الله تعالى .
وسعيد بن المسيب رضي الله عنه ، وإن كامن من سادات التابعين علماً وعملاً وزهداً وورعاً ، فهذا الذي رواه عبد الرزاق عنه لا يعرف عن غيره من الصحابة والتابعين وأتباعهم ، وعبد الرزاق يرويه عن الثوري عن أبي المقدام عنه ، ولم يذكر الثوري السماع في روايته ، وأبو المقدام هو ثابت بن هرمز(1) الكوفي الحداد والد عمرو بن أبي المقدام ، وهو شيخ صالح لكن ما تفرد به ولم يتابعه غير عليه لا ينبغي أن يقبل منه ، والله أعلم .
قال المعترض
فإن قلت : قد كره مالك رحمه الله تعالى أن يقال : زرنا قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - ، قلت : قال القاضي عياض ، وقد اختلف في معنى ذلك فقيل كراهية الاسم لما ورد من قوله - صلى الله عليه وسلم - ((لعن اله زوارات القبور ، وهذا يرده قوله (( كنت قد نهيتكم عن زيارة القبور فزروها )) وقوله : (( من زار قبري )) فقد أطلق اسم الزيارة وقيل : لأن ذلك لما قيل : إن الزائر أفضل من المزور ، وهذا أيضاً ليس بشيء إذ ليس كل زائر بهذه الصفة وليس عموماً .
__________
(1) قال فيه أحمد ثقة ، وقال ابن معين ثقة وقال أبو حاتم صالح ، أنظر الجرح والتعديل 2/459 وقال فيه التقريب : صدوق يهم .(54/378)
وقد ورد في حديث أهل الجنة زيارتهم لربهم ولم يمنع هذا الفظ في حقه والأولى عندي أن منعه وكراهة مالك له لإضافة إلى قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنه لو قال : زرنا النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكرهه لقوله - صلى الله عليه وسلم - : (( اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد )) (1) فحمى إضافة هذا اللفظ إلى القبر والتشبيه بفعل أولئك قطعاً للذريعة ، وحسماً للباب والله أعلم .
قال المعترض : هذا كلام القاضي وما اختاره يشكل عليه قوله : (( من زار قبري)) فقد أضاف الزيارة إلى القبر إلا أن يكون هذا الحديث لم يبلغ مالكاً فحينئذ يحسن ما قاله القاضي في الاعتذار عنه ، لا في إثبات هذا الحكم في نفس الأمر ، ولعله يقول : إن ذلك من قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لا محذور فيه ، والمحذور إنما هو ف يقول غيره .
قلت : هذا الإشكال الذي ذكره المعترض على كلام القاضي ليس بشيء ، وما ذكره من الخبر الذي فيه إضافة الزيارة إلى قبره ليس بثابت عند مالك ولا في نفس الأمر ، بل هو حديث ضعيف غير ثابت عن أهل العلم بالحديث ، كما قد بينا ذلك فيما تقدم ،ولو كان ثابتاً لم يحسن من عالم أنيف رق في إطلاق لفظه بين كونه من قول النبي - صلى الله عليه وسلم - ، أومن قول غيره كما ذكره .
ثم قال : وقد قال عبد الحق الصقلي ، عن أبي عمران المالكي أنه قال : إنما كره مالك أن يقال : زرنا قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - لأن الزيارة من شاء فعلها ، ومن شاء تركها وزيارة قبره - صلى الله عليه وسلم - واجبة .
قال عبد الحق : يعني من السنن الواجبة ينبغي أن لا تذكر الزيارة فيه كما تذكر في زيارة الأحياء الذين من شاء زارهم ومن شاء ترك ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - أشرف وأعلى من أن يسمى أنه يزار .
__________
(1) تقدم تخريجه .(54/379)
قال المعترض : وهذا الجواب بينه وبين جواب القاضي بون في شيئين : أحدهما أنه يقتضي تأكيد نسبة معنى الزيارة إلى القبر ، وأنه يجتنب لفظها ، وجواب القاضي يقتضي عدم نسبتها إلى القبر .
والثاني أنه يقتضي التسوية في كراهية اللفظ بين قوله زرت القبر وقوله وزرت النبي - صلى الله عليه وسلم - وجواب القاضي يقتضي الفرق بينهما .
قلت : هذا الذي قال أبو عمران المالكي لم يتابع عليه ، بل هو متضمن للغلو والكلام بغير حجة ، ولم يذهب أحد من أهل العلم المتقدمين منهم والمتأخرين إلى القول بوجوب الزيارة ، وإنما كره مالك والله أعلم إطلاق هذا اللفظ لأنه لم يثبت عنده فيه حديث ، ولم يصح فيه عنده خبر بخصوص ، وقد ذكرنا الأحاديث المروية في ذلك وبينا عللها وسبب ضعفها وعدم ثبوتها ، ولأن هذا اللفظ قد صار يستعمل في عرف كثير من الناس في الزيارة الشرعية ، ولأن زيارة قبره لا يتمكن منها أحد كما يتمكن من الزيارة المعروفة عند قبر غيره .
قال الشيخ رحمه الله تعالى في كتاب اقتضاء الصراط المستقيم(1) بعد أن ذكر قول مالك وما تأوله القاضي عياض به قلت : غلب في عرف كثير من الناس استعمال لفظ زرنا في زيارة قبور الأنبياء والصالحين على استعمال لفظ زيارة القبور في الزيارة البدعية الشركية ، لا في الزيارة الشرعية ، ولم يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حديث واحد في زيارة قبر مخصوص ، ولا روى أحد في ذلك شيئاً لا أهل الصحاح ، ولا أهل السنن ، ولا الأئمة المصنفون في المسند كالإمام أحمد وغيره .
__________
(1) 2/763 - 764 التي حققها الدكتور العقل .(54/380)
وإنما روى ذلك من جمع الموضوع وغيره ، وأجل حديث روي في ذلك حديث رواه الدارقطني(1) وهو ضعيف باتفاق أهل العلم ، بل الأحاديث المروية في زيارة قبره كقوله ((من زارني وزار أبي إبراهيم الخليل في عام واحد ضمنت له على الله الجنة )) و(( من زارني بعد مماتي فكأنما زارني في حياتي ، ومن حج ولم يزرني فقد جفاني )) (2) ونحو هذه الأحاديث كلها مكذوبة وموضوعة ، ولكن النبي - صلى الله عليه وسلم - رخص في زيارة القبور مطلقاً بعد أن كان قد نهى عنها ، كما ثبت عنه في الصحيح أنه قال : (( كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها )) (3) وفي الصحيح عنه أنه قال : (( استأذنت ربي في أن استغفر لأمي ، فلم يأذن لي ، واستأذنته في أن أزور قبرها فأذن لي ، فزوروا القبور فإنها تذكركم الآخرة)) (4) فهذه زيارة لأجل تذكرة الآخرة .
ولهذا تجوز زيارة قبر الكافر لأجل ذلك ،وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يحرج إلى البقيع فيسلم على موتى المسلمين ويدعو لهم ، فهذه زيارة مختصة بالمسلمين ، كما أن الصلاة على الجنازة تختص بالمؤمنين .
وقال أيضاً في أثناء كلامه في بعض مصنفاته المتأخرة(5): وذلك أن لفظ زيارة قبره ليس المراد بها نظير المراد بزيارة قبر غيره ، فإن قبر غيره يوصل إليه ويجلس عنده ويتمكن الزائر مما يفعله الزائرون للقبور عندها من سنة ويدعه .
__________
(1) قال النووي في المجموع 8/481 وهذا باطل ليس هو مروياً عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ولا يعرف في كتاب صحيح ولا ضعيف بل وضعه بعض الفجرة أ هـ وقد تقدم هذا .
(2) انظر المقاصد الحسنة ص427-428 وكشف الخفاء 2/346، 347 ،348 والفوائد المجموعة 117-118 .
(3) تقدم تخريجه .
(4) تقدم تخريجه .
(5) انظر الرد على الأخنائي ص136 .(54/381)
وأما هو - صلى الله عليه وسلم - فلا سبيل لأحد أن يصل إلا إلى مسجده لا يدخل أحد بيته ولا يصل إلى قبره ، بل دفنوه في بيته بخلاف غيره ، فإنهم دفنوه في الصحراء ، كما في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : في مرض موته : (( لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)) (1) يحذر ما فعلوا قالت عائشة ولولا ذلك لأبرز قبره ، لكن كره أن يتخذ مسجداً فدفن في بيته لئلا يتخذ قبره مسجداً ولا وثناً ولا عيداً ، فإن في سنن أبي داود من حديث أحمد بن صالح عن عبد الله بن نافع أخبرني ابن أبي ذئب عن سعيد المقبري ، عن أبي صالح عن عبد الله بن نافع أخبرني ابن أبي ذئب عن سعيد المقبري ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال :قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( لا تجعلوا بيوتكم قبوراً ولا تجعلوا قبري عيداً وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم )) (2) .
وفي الموطأ وغيره عنه أنه قال : (( اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد ، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد )) (3) .
وفي صحيح مسلم عنه أنه قال : قبل أن يموت بخمس : (( أن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد ، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك )) فلما لعن من يتخذ القبور مساجد تحذيراً لأمته من ذلك ونهاهم أن يتخذوا قبره عيداً ، دفن في حجرته لئلا يتمكن أحد من ذلك ، وكانت عائشة ساكنة فيها ، فلم يكن في حياتها يدخل أحد لذلك ، إنما يدخلون إليها هي ، ولما توفيت لم يبق بها أحد ، ثم لم أدخلت في المسجد سدت وبنى الجدار البراني عليها ، فما بقي أحد يتمكن من زيارة قبره ، كالزيارة المعروفة عند قبر غيره ، سواء كان سنية أو بدعية ، بل إنما يصل الناس إلى مسجده .
__________
(1) أخرجه البخاري 1/532 وأخرجه في مواضع كثيرة ومسلم 1/377 .
(2) تقدم تخريجه .
(3) تقدم تخريجه .(54/382)
ولم يكن السلف يطلقون على هذا زيارة لقبره ، ولا يعرف عن أحد من الصحابة لفظ زيارة قبر البتة ولم يتكلموا بذلك ، وكذلك عامة التابعين لا يعرف هذا في كلامهم فإن هذا المعنى ممتنع عندهم فلا يعبر عن وجوده ، وهو قد نهى عن اتخاذ بيته وقبره عيداً ، وسأل الله أن لا يجعله وثناً ، ونهى عن اتخاذ القبور مساجد بيته وقبره عيداً ، وسأل الله أن لا يجعله وثناً ، ونهى عن اتخاذ القبور مساجد ، فقال : (( اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد )) (1) ، ولهذا كره مالك وغيره أن يقال : زرنا قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - ولو كان السلف ينطقون بهذا لم يكرهه مالك ، وقد باشر التابعين بالمدينة ،وهم أعلم الناس بمثل ذلك .
ولو كان في هذا حديث معروف عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لعرفه هؤلاء ، ولم يكره مالك وأمثاله من علماء المدينة الأخبار بلفظ تكلم به النبي - صلى الله عليه وسلم - فقد كان رضي الله عنه يتحرى ألفاظ الرسول في الحديث فيكف يكره النطق بلفظه؟ ولكن طائفة من العلماء سموا هذا زيارة لقبره ، وهم لا يخالفون مالكاً ومن معه في المعنى ، بل الذي يستحبه أولئك من الصلاة والسلام وطلب الوسيلة ونحو ذلك في مسجده يستحبه هؤلاء ، لكن هؤلاء سموا هذه زيارة لقبره وأولئك كرهوا أن يسموا هذه زيارة ، وقد ذكرنا كلام الشيخ هذا وأمثاله في هذا المعنى فيما تقدم ، والله أعلم .
قال المعترض
__________
(1) تقدم تخريجه .(54/383)
وقد قال أبو الوليد محمد بن رشد في البيان والتحصيل قال مالك : أكره أن يقال الزيارة لزيارة البيت الحرام ، وأكره ما يقول الناس : زرت التي وأعظم ذلك أن يكون - صلى الله عليه وسلم - يزار ، قال محمد بن رشد ، ما كره مالك هذا والله أعلم إلا من جهة أن كلمة أعلى من كلمة ، فلما كانت الزيارة تستعمل في الموتى ، وقد وقع فيها من الكراهة ما وقع كره أن يذكر مثل هذه العبارة في النبي - صلى الله عليه وسلم - كما كره أن يقال أيام التشريق ، واستحب أن يقال الأيام المعدودات كما قال الله تعالى ، وكما كره أن يقال :العتمة ويقال : العشاء الآخرة ونحو هذا ،وكذلك طواف الزيارة كأنه استحب أن يسمي بالإفاضة ، كما قال الله تعالى في كتابه { فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ ;M"sùuچtم } (البقرة 198) فاستحب أن يشتق له الاسم من هذا .
وقيل إنه كره لفظ الزيارة في الطواف بالبيت والمضي إلى قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - ،لأن المضي إلى قبره عليه السلام ليس ليصله بذلك ، ولا لينفعه ، وكذلك الطواف بالبيت ، وإنما يفعل تأدية لما يلزمه من فعله ورغبة في الثواب على ذلك من عند الله عز وجل ،وبالله التوفيق ، انتهى كلامه ابن رشد .
وقد وقع منه كراهة مالك قول الناس : زرت النبي - صلى الله عليه وسلم - ،وهو يرد ما قاله القاضي عياض ، فأما كراهة إسناده الزيارة إلى القبر ، فيحتمل أن يكون العلة فيه ما قاله القاضي عياض ، ويحتمل أن يكون العلة ما قاله أبو عمران وابن رشد ، وأما إضافة الزيارة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - إن ثبت ذلك عن مالك فيتعين أن يكون العلة فيه ما قاله أبو عمران وابن رشد والمختار في تأويل كلام مالك رحمه الله ما قاله ابن رشد دون ما قاله القاضي عياض ، لأن ابن المواز حكى في كتابه الحج في باب ما جاء في الوداع .(54/384)
قال أشهب : قيل لمالك فيمن قدم معتمراً ، ثم أراد أن يخرج إلى رباط أعليه أن يودع ؟ قال : هو من ذلك في سعة ، ثم قال : إنه لا يعجبني أن يقول أحد الوداع ، وليس هو من الصواب ، إنما هو الطواف .
قال تعالى : { وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ } (الحج 029) قال: وأكره ما يقال الزيارة ، وأكره ما يقول الناس : زرت النبي - صلى الله عليه وسلم - وأعظم ذلك أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - يزار وقال مالك في وداع البيت ، ما يعرف في كتاب الله ولا سنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - الوداع ، إنما هو الطواف بالبيت ، قلت لمالك ، افترى هذا الطواف بالبيت ، قيل لمالك : الذي يلتزم أترى له أن يتعلق بأستار الكعبة عند الوداع ؟ قال : لا ولكن يقف ويدعو ، قيل له : وكذلك عند قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - ؟ قال : نعم . انتهى ما أردت نقله من المؤازنة ، وهي من أجل كتب المالكية القديمة المعتمد عليها.
وسياقه حكاية أشهب عن مالكم ترشد إلى المراد ، وأن مالكاً رحمه الله إنما كره اللفظ كما كره في طواف الوداع ، أفترى يتوهم مسلم ،أو عاقل أن مالكاً كره طواف الوداع.
وانظر في آخر كلام مالك كيف اقتضى أنه يقف ويدعو عند قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - ، كما يقف ويدعو عند الكعبة في طواف الوداع ، فأي دليل أبين من هذا في أن إتيان قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - والوقوف والدعاء عنده من الأمور المعلومة التي نزل قبل مالك وبعده ، لو عرف مالك رحمه الله أن أحداً يتوهم عليه ذلك من هذا اللفظ لما نطق به ، ولا لوم على مالك ،فإن لفظه لا إيهام فيه وإنما يلتبس على جاهل أو متجاهل .(54/385)
والمختار عندنا أنه لا يكره إطلاق هذا اللفظ أيضاً ، لقوله : من زار قبري وقد تقدم الاعتذار عن مالك فيه ، ولا يرد عليه قوله ، زوروا القبور ، لأن زيارة قبور غير الأنبياء لينفعهم ويصلهم بها وبالدعاء والاستغفار ، ولهذا قال : أبو محمد عبد الله بن عبد الرحمن بن عمر المالكي المعروف بالشارمساحي في كتاب تلخيص محصول المدونة من الأحكام الملقب بنظم الدر في كتاب الجامع في الباب الحادي عشر في السفر : إن قصد الانتفاع بالميت بدعة إلا في زيارة قبر المصطفى - صلى الله عليه وسلم - وقبور المرسلين صلوات الله عليهم أجمعين .
وهذا الذي ذكره في الانتفاع بقبور المرسلين صحيح ،وكذلك سائر الأنبياء وأما ما ذكره في غير الأنبياء فستكلم عليه إن شاء الله تعالى في زيارة قبور غير الأنبياء .
وأما زيارة أهل الجنة لله تعالى ، فإن صح الحديث فيها فلا يرد على شيء من المعاني التي قالها عبد الحق ، وابن رشد ، لأنها ليست واجبة ، فإن الآخرة ليست دار تكليف ، وقد انقطع الالحاق بزيارة الموتى في توهم الكراهة .
فقد بان لك بهذا وجه كلام مالك رحمه الله وإنه على جواب القاضي عياض ، إنما كره زيارة القبر لا زيارة النبي - صلى الله عليه وسلم - وعلى جواب غيره ، إنما كره اللفظ فيها دون المعنى ، وكذلك أكثر ما حكيناه من كلام أصحابه أتوا فيه بمعنى الزيارة دون لفظها ، فمن نقل عن مالك أن الحضور عند قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - لزيارة المصطفى والسلام عليه والدعاء عنده ليس بقربة ، فقد كذب عليه ومن فهم عنه ذلك فقد أخطأ في فهمه وضل ، وحاشى مالكاً وسائر علماء الإسلام ، بل وعوامهم ممن وقر الإيمان في قلبه .(54/386)
انتهى ما ذكره المعترض من النقل والتصرف فيه ، ولا يخفى ما في كلامه وتصرفه في كلام غيره من الخطأ والتلبيس ، والقصور في الفهم ، والتقصير في النظر كفهمه من كلام العلماء ما لم يريدوه ، ومخالفته لهم فيما قصدوه ، وإلزامه لهم لم يعتقدوه ،وحكمه عليهم بالظن الكاذب ، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - (( إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث)) (1) ، بل دأب هذا المعترض التمسك بالأمور المتشابهة الخفية والإعراض عن الأشياء المحكمة الواضحة ، كما عادته الاعتماد على حديث ضعيف أو مكذوب ، وأو خبر متشابه لا يدل على المطلوب ، وليس هذا طريق العلماء القاصدين لإيضاع الدين وإرشاد المسلمين : نعوذ بالله من أتباع الهوى .
ولا ريب أن زيارة القبور منقسمة ، فمنها شرعي ومنها بدعي ، ولم ينقل أحد من العلماء لا شيخ الإسلام ولا غيره عن مالك أنه كره معنى الزيارة الشرعية لا لقبر النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ولا غيره من القبور ، وإنما الذي نقل عنه أشياء منها كراهية قول القائل : زرنا قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - وإنما كره ذلك لشدة تمسكه بالأحاديث والآثار ، فإنه لم يكن عنده في إطلاق حديث صحيح ، ولا أثر ثابت ، ولا له فيه سلف ، ولا غير ذلك من المعاني التي سبق ذكرها.
وأما قول المعترض : (( والمختار عندنا أنه لا يكره إطلاق هذا اللفظ لقوله من زار قبري ، وقد تقدم الاعتذار عن مالك فيه )) فجواب قوله عندنا معروف ، وأما دليله الذي ذكره وهو غاية عمدته فقد بين ضعفه ووهاءه ، وعدم صحته فيما تقدم بالأدلة الواضحة والحجيج البينة .
وأما اعتذاره عن مالك فتركه أولى من ذكره ، ومن الأمور المنقولة عن مالك ما تقدم ذكره غير مرة ، وهو ما ذكره القاضي عياض في الشفاء قال :
__________
(1) أخرجه مسلم 4/1985.(54/387)
وقال مالك في المبسوط : لا أرى أن يقف عند قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - يدعو ، ولكن يسلم ويمضي ،فلأي معنى أعرض المعترض عن هذا النقل الصحيح الواضع عن إمام دار الهجرة ، وتعلق بلفظ متشابه مذكور في الموازنة قائلاً بعد حكايته ، وانظر في آخر كلام مالك كيف يقتضي أنه يقف ويدعو عند قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - كما يقف ويدعو عند الكعبة في طواف الوداع ، فأي دليل أبين من هذا في أن إتيان قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - ، والوقوف والدعاء عنده من الأمور المعلومة التي لم تزل قبل مالك وبعده .
فالنظر أيها المنصف في قول هذا المعترض ودعواه ما لم يكن وإلزامه قول مالك ما لم يلزمه وإضافته إليه ما لم يقله بل كرهه ونهى عنه ، وليس ذلك ببدع من صنعه ، فإني سمعته يقول بحضرة بعض ولاة الأمر في شيء ثبت وصح عن مالك : هذا كذب على مالك ،وسنذكر فيما بعد إن شاء الله تعالى ونبين خطأه في قوله : (( إنه كذب )) هذا مع تصحيحه الحكاية المتقدمة عن مالك وهي باطلة عنه كما بينا ذلك ، وهذا دأبه يصحح الضعيف ، ويضعف الصحيح بلا حجة(1) ، ومن الأشياء المأثورة عن مالك ما تقدم ذكره مراراً وذكره القاضي عياض أيضاً فقال : وقال مالك في المبسوط : وليس يلزم من دخل المسجد وخرج منه من أهل المدينة الوقوف بالقبر وإنما ذلك للغرباء
__________
(1) بل هو اتباع الهوى كما يفعل بعضهم اليوم يضعف الحديث ولو كان في الصحيح أو يطرحونه ولا يعملون به نظراً لأنه خالف المذهب كما يقولون .
وهذا كقوله أصحاب حلقة البخاري التي تقام سنوياً في الحديدة .
وممن يعمل هذا العمل : الصابوني ( محمد بن علي ) ومحمد علوي مالكي .(54/388)
وقال فيه أيضاً : لا بأس لمن قدم من سفر أو خرج إلى سفر أن يقف على قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - فيصلي عليه ويدعو له ولأبي بكر وعمر ، فقيل له : إن ناساً من أهل المدينة لا يقدمون من سفر ولا يريدونه يفعلون ذلك في اليوم مرة أو أكثر وربما وقفوا في الجمعة ، وفي الأيام المرة والمرتين ، أو أكثر عنده فيسلمون ويدعون ساعة ، فقال : لم يبلغني هذا عن أحد من أهل الفقه ببلدنا وتركه واسع ، ولا يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها ، ولم يبلغني عن أول هذه الأمة وصدرها أنهم كانوا يفعلون ذلك ، ويكره إلا لمن جاء من سفر أو أراده .
فانظر إلى قول مالك رحمه الله لم يبلغني هذا عن أحد من أهل الفقه ببلدنا ومخالفته لقول المعترض ،فأي دليل أبين من هذا في إتيان قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - والوقوف والدعاء عنده من الأمور المعلومة التي لم تزل قبل مالك وبعده .
فهذا المعترض يزعم أن قول مالك يقتضي أن هذا الأمر من الأمور المعلومة التي لم تنزل قبل مالك وبعده ، ومالك يقول لم يبلغني عن أول هذه الأمة وصدرها أنهم كانوا يفعلون ذلك .
فأي حجة أوضح من هذه ؟ وأي دليل أبين من هذا في إبطال قول المعترض ودعواه والتزامه أقوال الأئمة نقيض مرادهم ، وما أحسن قول مالك رضي الله عنه : (( ولا يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها )) ، وأما قوله :ويكره إلا لمن جاء من سفر ، أو أراده ، فهذا إنما ذهب إليه اتباعاً لابن عمر ، فإنه قد صح عنه إنه كان إذا قدم من سفر أتى قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : السلام عليك يا رسول ، السلام يا أبا بكر ، السلام عليك يا أبتاه ، ثم ينصرف .(54/389)
وقد قال عبيد الله بن عمر العمري : ما نعلم أحد من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - فعل ذلك إلا ابن عمر ، فهذا قاله عبيد الله فيما كان ابن عمر يفعله من السلام إذا قدم من سفر ، وأما هذا الذي زعم المعترض أنه من الأمور المعلومة التي لم نزل قبل مالك وبعده فإنه لم ينقل عن أحد من السلف لا من الصحابة رضي الله عنهم ، ولا من التابعين لهم بإحسان ، بل نحن نطالب هذا المعترض بالنقل ، فنقول له : من روى هذا من الأئمة ، وأين إسناده وفي أي كتاب هو ، وعمن تأثره من الصحابة والتابعين ، وهل وقفت عليه في ديوان ، أو أنت تقوله برأيك وتلزمه بكلام من لم يلزمه .
وما أحسن قول سفيان الثوري : الإسناد سلاح المؤمن ، فإذا لم يكن له سلاح فبأي شيء يقاتل وقول عبد الله بن المبارك ، الإسناد من الدين ، ولولا الإسناد لقال : من شاء ما شاء ، ولكن إذا قيل من حدثك نفي ,
وقد قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى في كتاب اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم في أثناء كلامه ، وأما ما ذكر في المناسك أنه يستقبل القبلة ويجعل الحجرة عن يساره لئلا يستدبره ، وذلك بعد تحيته والصلاة والسلام ، وثم يدعو لنفسه .
وذكروا أنه إذا حياه وصلى عليه يستقبله بوجهه بأبي هو وأمي - صلى الله عليه وسلم - ، فإذا أراد الدعاء جعل الحجرة عن يساره واستقبل القبلة ودعا ، وهذا مراعاة منهم ، لذلك فإن الدعاء عند القبر لا يكره مطلقاً بل ، يؤمر به للميت ،كما جاءت به السنة فيما تقدم ضمناً وتبعاً ، وإنما المكروه أن يتحرى المجيء للقبر للدعاء عنده .
وكذلك ذكر أصحاب مالك قالوا : يدنوا من القبر فيسلم على النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ثم يدعو مستقبل القبلة يوليه ظهره وقيل / لا يوليه ظهره ، فإنما اختلفوا لما فيه من استدباره ، فأما إذا جعل الحجرة عن يساره فقد زال المحذور بلا خوف ، وصار في الروضة ، أو أمامها .(54/390)
ولعل هذا الذي ذكره الأئمة أخذوه من كراهة الصلاة إلى القبر ، فإن ذلك قد ثبت النهي فيه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - كما تقدم(1) ، فلما نهى أن يتخذ القبر مسجداً أو قبلة أمروا بأن لا يتحرى الدعاء إليه ، كما لا يصلي إليه ، ولهذا والله أعلم حرفت الحجرة وثلثت لما بنيت فلم يجعل حائكها الشمالي على سمت القبلة ، ولا جعل مسطحها ، وكذلك قصدوا قبل أن تدخل الحجرة في المسجد ، فروى ابن بطة بإسناده معروف عن هشام بن عروة ، حدثني أبي قال : كان الناس يصلون إلى القبر ، فأمر عمر بن عبد العزيز فرفع حتى لا يصلى إليه الناس ، فلما هدم بدت قدم بساق وربكة قال : ففزع من ذلك عمر بن عبد العزيز فأتاه عروة فقال : هذه ساق عمر بن الخطاب رضي الله عه وركبته ، فسرى عن عمر بن عبد العزيز وهذا أصل مستمر فإنه لا يستحب للداعي أن يستقبل إلا ما يستحب أن يصلي إليه .
ألا ترى أن الرجل(2) لما نهى عن الصلاة إلى جهة المشرق وغيرها فإنه ينهى أن يتحرى استقبالها وقت الدعاء، ومن الناس من يتحرى وقت دعائه واستقبال الجهة التي يكون فيها الرجل الصالح سواء كانت المشرق أو غيره ، وهذا ضلال بين وشرك واضح ، وكما أن بعض الناس يمتنع من استدبار الجهة التي فيها الصالحون وهو يستدبر الجهة التي فيها بيت الله وقبر رسوله ، وكل هذه الأشياء من البدع التي تضارع دين النصارى .
__________
(1) يعني قوله عليه الصلاة والسلام (( لا تصل إلى قبر )) وقد تقدم تخريجه وسيأتي أيضاً .
(2) في اقتضاء الصراط المستقيم : ( المسلم ) بدل قوله : الرجل .(54/391)
ومما يبين لك ذلك أن نفي السلام على النبي - صلى الله عليه وسلم - قد راعوا فيه السنة حتى لا يخرج إلى الوجه المكروه الذي قد يجر إلى إطراء النصارى عملاً بقوله - صلى الله عليه وسلم - : (( لا تتخذوا قبري عيداً )) (1) وبقوله : (( لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم )) فإنما أنا عبد ،فقولوا عبد الله ورسوله )) (2) وكان بعضهم يسأل عن السلام على القبر خشية أن يكون من هذا الباب حتى قيل له : إن ابن عمر كان يفعل ذلك ولهذا كره مالك رضي الله عنه وغيره من أهل العلم لأهل المدينة كلما دخل أحدهم المسجد أن يجيء فيسلم على قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - وصاحبه .
قال : وإنما يكون ذلك لأحدهم إذا قدم من سفر ، أو أراد سفر ، أو نحو ذلك ، ورخص بعضهم في السلام عليه إذا دخل المسجد للصلاة ونحوها ،وأما قصده دائماً للصلاة والسلام فما علمت أحداً رخص فيه ، لأن ذلك نوع من اتخاذه عيداً ، مع أنا قد شرع لنا إذا دخلنا المسجد أن نقول : السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته(3) ، كما نقول ذلك في آخر صلاتنا ، بل قد استحب ذلك لكل من دخل مكاناً ليس فيه أحد أن يسلم على النبي - صلى الله عليه وسلم - فيسلم ، لما تقدم من أن السلام عليه يبلغه في كل موضع ،فخاف مالك وغيره أن يكون فعل ذلك عند القبر كل ساعة نوعاً من اتخاذ القبر عيداً .
__________
(1) تقدم تخريجه .
(2) تقدم تخريجه
(3) انظر رسالتنا : إتحاف الراكع الساجد بأذكار الدخول والخروج من المساجد .(54/392)
وأيضاً فإن ذلك بدعة فقد كان المهاجرون والأنصار على عهد أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم يجيئون إلى المسجد كل يوم خميس مرات يصلون ، ولم يكونوا يأتون مع ذلك إلى القبر يسلمون عليه لعلمهم رضي الله عنهم بما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يكرهه من ذلك وما نهاهم عنه وأنهم يسلمون عليه حين دخول المسجد والخروج منه ، وفي التشهد كما كانوا يسلمون عليه كذلك في حياته ، والمأثور عن ابن عمر يدل على ذلك .
وقال سعيد في سننه : حدثنا عبد الرحمن بن زيد(1) ، حدثني أبي عن ابن عمر أنه كان إذا قدم من سفر أتى قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - فسلم ، وصلى عليه ، وقال : السلام عليك يا أبا بكر السلام عليك يا أبتاه ، وعبد الرحمن بن زيد وإن كان يضعف ، لكن الحديث المتقدم عن نافع الصحيح يدل على أن ابن عمر ما كان يفعل ذلك دائماً ولا غالباً ، وما أحسن ما قال مالك : لن يصلح هذه الأمة إلا ما أصلح أولها ولكن كلما ضعف تمسك الأمم بعهود أنبيائهم ونقص إيمانهم عوضوا عن ذلك بما أحدثوا من البدع والشرك وغيره انتهى ما ذكره شيخ الإسلام رحمه الله تعالى .
ومن الأشياء المنقولة عن مالك ما ذكره إسماعيل بن إسحاق القاضي ، وهو من أجل علماء المسلمين في كتابه المبسوط لما ذكر قول محمد بن مسلمة ، أن من نذر أن يأتي مسجد قباء ، فعليه أن يأتيه ، قال : إنما هذا فيمن كان من أهل المدينة وقربها ممن لا يعمل المطي إلى مسجد قباء ، لأن أعمال المطي اسم للسفر ، ولا يسافر إلا إلى المساجد الثلاثة على ما جاء عن النبي في نذر ولا غيره ، قال وقد روي عن مالك أنه سئل عمن نذر أن يأتي قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : إن كان أراد المسجد فليأته ، وليصل فيه ، وإن كان إنما أراد القبر ، فلا يفعل للحديث الذي جاء : (( ولا تعمل المطي إلا إلى ثلاث مساجد)) الحديث (2).
__________
(1) عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ضعيف جداً .
(2) تقدم تخريجه .(54/393)
وهذا الذي نقله في المبسوط عن مالك لا يعرف عن أحد من الأئمة الثلاثة خلافة ولم يذكر المعترض في موضع من كتابه ، فإما أنه لم يقف عليه ، وإما أنه وقف عليه وتركه عمداً(1) .
وقد سمعت أخا شيخ الإسلام يذكر هذا النقص الذي حكاه القاضي إسماعيل في المبسوط عن مالك لهذا المعترض يحضره بعض ولاة الأمر ، فغضب المعترض غضباً شديداً ، ولم يجبه بأكثر من قوله : هذا كذب على مالك ، فانظر إلى جراءة هذا المعترض وإقدامه على تكذيب ما لم يحط بعلمه بغير برهان ولا حجة ، بمجرد الهوى والتخرص ، وليس هذا ببدع منه ، فإنه قد عرف منه مثل ذلك في غير موضع ، وهو من أشد الناس مخالفة لمالك في هذا المواضع التي لا يعرف لأحد من كبار الأئمة أنه خالف مالكاً فيها ، بل قد حمله فرط غلوه ومتابعته هواه على نسبة أمور عظيمة لا أحب ذكرها إلى من قال يقول مالك في هذه المواضع التي لا يعرف عن إمام متبوع مخالفته فيها نعوذ بالله من الخذلان.
ومن العجب أن هذا المعترض صحح الحكاية المنقولة عن مالك مع أبي جعفر المنصور ، لأن فيها ما يتابع هواه مع أنها غير صحيحة ، بل هي باطلة موضوعة ، وكذب هذا النقل الثابت الذي ذكره القاضي إسماعيل في المبسوط لشدة مخالفته لهواه ، وما ذهب إليه ، وأعرض عما ذكره أيضاً في المبسوط من قول مالك : لا أرى أن يقف عند قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - يدعو ، ولكن يسلم ويمضي ، لأنه مخالف لهواه ، وتمسك بما تقدم ذكره في الموازنة لمتابعته هواء في ظنه ، وهكذا عادته ودأبه يكذب النصوص الثابتة أو يعرض عنها ، ويقبل الأشياء الواهية التي لم تثبت والأمور المجملة الخفية ويتمسك بها بكلتا يديه ، وليس هذا شأن من يقصد الحق وإيضاح الدين للخلق نسأل الله التوفيق .
__________
(1) وهذا يشبه عمل محمد بن علي الصابوني ومحمد بن علوي مالكي فإنهما يحرفان الكلم عن مواضعه ويقطعون كلام أهل العلم بما يتمشى مع أهوائهما .(54/394)
وأما ما ذكره عن أبي محمد الشارمساحي المالكي من قوله .. إن قصد الانتفاع بالميت بدعة إلا في زيارة قبر المصطفى وقبور المرسلين ، فهذا القول يحتاج إلى نظر كما سنذكر ، وقد وافق المعترض الشارمساحي المالكي في الجملة الثانية ، وأما في الأولى فقال : وهذا الذي ذكره في الانتفاع بقبور المرسلين صحيح ، وكذلك سائر الأنبياء ، وأما ما ذكره في غير الأنبياء ، فسأتكلم عليه إن شاء الله تعالى في زيارة قبور غير الأنبياء .
ثم قال في موضع آخر : وهذا الذي استثناه من قبور الأنبياء والمرسلين صحيح ، وأما حكمه في غيرهم بالبدعة ففيه نظر ، ولا ضرورة بنا هنا في تحقيق الكلام فيه ، هذا هو الذي وعد بذكره ، ولم يأت بشيء غير قوله : وأما حكمه في غيرهم بالبدعة ففيه نظر ، وكأنه يميل إلى أن قصد الانتفاع بالميت ليس ببدعة مطلقاً ، ولكنه لم يجسر على التفوه بذلك ، مع أنه قد جسر على ما هو أشد من ذلك .
وأعلم أن قول الشارمساحي إن قصد الانتفاع بالميت بدعة صحيح ، وهو سر الفرق بين الزيارة المشروعة وغيرها ، فإن الزيارة التي شرعها الله ورسوله مقصودها نفع الميت والإحسان إليه ، وأن يفعل عند قبره من جنس ما يفعل على نعشه من الدعاء والاستغفار له والترحم عليه ، فإن عمله قد انقطع وصار محتاجاً إلى ما يصل إليه من نفع الأحياء له ، ولهذا يقال عند زيارته : ما علمه النبي - صلى الله عليه وسلم - لأمته أن يقولوه إذا زاروا القبور ولو كان أهلها سادات أولياء الله وخيار عباده : (( السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين ، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون ، يرحم الله المتقدمين منا ومنكم والمتسأخرين ، نسأل الله لنا ولكم العافية ، اللهم لا تحرمنا أجرهم ، ولا تفتنا بعدهم وأغفر لنا ولهم )) (1).
__________
(1) تقدم الكلام على بعض أحاديث الزيارة صفحة 31 حاشية ( 1 )(54/395)
فهذا من جنس الدعاء له عند الصلاة عليه ، وهذا غير الدعاء به والدعاء عنده ، فالمراتب ثلاثة ، فالذي شرعه الله عزوجل ورسوله للأمة الدعاء للميت عند الصلاة عليه ، وعند زيارة قبره ، دون الدعاء به والدعاء عنده ،وهذه سنته بحمد الله إليها التحاكم والتخاصم ، ولا التفات إلى تحكيم غيرها البتة كائناً ما كان ، وأما انتفاع الزائر فليس بالميت ، بل بعمله هو وزيارته ودعائه له والترحم عليه ، والإحسان إليه كما ينتفع المحسن بإحسانه(1) ، يوضحه أن الميت قد انقطع عمله الذي ينتفع به نفسه ، ولم يبق عليه منه إلا ما تسبب في حياته في شيء يبقى نفعه كالصدقة وتعليم العلم النافع ، ودعاء الولد الصالح ، فكيف يبقى نفعه للحي وهو عمل يعمله له ، وهل هذا إلا باطل شرعاً وقدراً ، ومن جعل زيارة الميت من جنس زيارة الفقير للغني لينال من بره وإحسانه فقد أتى بما هو أعظم الباطل المتضمن لقب الحقيقة والشريعة ، ولو كان ذلك مقصود الزيارة لشرع من دعاء الميت والتضرع إليه وسؤال ما يناسب هذا المطلوب ،ولكن هذا يناقض ما دعا )) إليه الرسول - صلى الله عليه وسلم - من التوحيد وتجريده مناقضة ظاهرة ، ولا ينبغي الاقتصار على ذلك بأنه بدعة ، بل فتح لباب الشرك وتوسل إليه بأقرب وسيلة وهل أصل عبادة الأصنام إلا ذلك كما قال ابن عباس(2) في قوله تعالى : { وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آَلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ #[ژô£nSur } (نوح 023) قال : هؤلاء كانواً قوماً صالحين في قومهم ، فلما ماتوا عكفوا على قبورهم ، ثم صوروا تماثيلهم ، فلما طال عليهم الأمد عبدوهم فهؤلاء لما قصدوا الانتفاع بالموتى قادهم ذلك إلى عبادة الأصنام .
__________
(1) قلت :وهذا هو الصحيح .
(2) انظر فتح الباري 8/667 والأثر متكلم فيه انظر مقدمة الفتح .(54/396)
يوضحه أن الذين تكلموا في زيارة الموتى من أهل الشرك صرحوا بأن القصد هو انتفاع الزائر بالمزور ، وقالوا من تمام الزيارة أن يعلق همته وروحه بالميت وقبره ، فإذا فاض على روح الميت من العلويات الأنوار فاض منها على روح الزائر بواسطة ذلك التعليق والتوجه إلى الميت ، كما ينعكس النور على الجسم المقابل للجسم الشفاف بواسطة مقابلته ، وهذا المعنى يعنيه ذكره عباد الأصنام في زيارة القبور وتلقاه عنهم من تلقه ممن لم يحط علماً بالشرك وأسبابه ووسائله .
ومن ههنا يظهر سر مقصود النبي - صلى الله عليه وسلم - بنهيه عن تعظيم القبور واتخاذ المساجد عليها والسرج ، ولعنه فاعل ذلك وأخباره بشدة غضب الله عليه ونهيه عن الصلاة إليها ونهيه عن اتخاذ قبره عيداً ، وسؤاله ربه تعالى أن لا يجعل قبره وثناً يعبد ،فهذا نهيه عن تعظيم القبور ، وذلك تعليمه وإرشاده للزائر أن يقصد نفع الميت والدعاء له والإحسان إليه ، ولا الدعاء به ، ولا الدعاء عنده .
وأما استثناؤه قبور المرسلين من ذلك فيقال أولاً : قد ذكرنا الدليل على مقصود الشارع من زيارة القبور ، وأنها تتضمن نفع المزور وانتفاع الزائر بعمله لا غير ، فما الدليل على تخصيص زيارة قبور الأنبياء والمرسلين بأنها شرعت لانتفاع الزائر بهم وتوسله بزيارتهم إلى جلب المنافع له ودفع المضار عنه وجعلهم وسائط بين الزائر وبين الله في النفع والضر ، وهل دل على ذلك دليل شرعي ، وأو قاله أحد من سلف الأمة وخيار القرون .
ويقال ثانياً : بل الأدلة الشرعية مصرحة بخلاف ذلك ، وإن نفع الأنبياء والرسل لأممهم هو بالهداية والإرشاد والتعليم ، وما يعين على ذلك ، وأما النفع والضر بغير ذلك فقد قال تعالى : { قُلْ 'دoTخ) لَا à7د=ّBr& لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا } (الجن 021) فإذا كان هذا قوله لهم في حياته فكيف بعد وفاته ؟(54/397)
وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين أنزل عليه : { وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ ڑْüخ/uچّ%F{$# } (الشعراء 214) (( يا معشر قريش اشتروا أنفسكم من الله لا أغني عنكم من الله شيئاً يا بني عبد المطلب لا أغني عنكم من الله شيئاً يا عباس بن عبد المطلب لا أغني عنك من الله شيئاً(1)، يا فاطمة بنت رسول الله ساليني ما شئت لا أغني عنك من الله شيئاً))(2).
فدعوى المدعي أن الأنبياء والرسل يملكون لمن زارهم ودعا بهم أو دعاهم وأشرك بهم من الضر والنفع ما لم يملكوه في حياتهم من أبين الباطل المتضمن للكذب على الشرع والقدر .
ويقال ثالثاً : دعوى ذلك مناقضة صريحة لما قصده الرسول ، فإن ذها يوجب من تعظيم قبورهم وقصد انتيابها في الحاجات والرغبات ، وجعلها من أجل الأعياد واتخاذ المساجد والسرج عليها ما يكون أدعى إلى هذا المطلوب ، وهذا ضد مقصود الرسول من كل وجه ودعاء إلى ما حذر منه ،وترغيب تام فيما نهى عنه فليتدبر اللبيب هذا الموضع ، فإنه سر الفرق بين التوحيد ووسائله ، والشرك ووسائله ، ومن ظن أن ذلك تعظيم لهم فهو غالط جاهل ، فإن تعظيمهم إنما هو بطاعتهم واتباع أمرهم ومحبتهم وإحلالهم ، فمن عظمهم بما هو عاص لهم به لم يكن ذلك تعظيماً ، بل هو ضد التعظيم فإنه متضمن مخالفتهم ومعصيتهم ، فلو سجد العبد لهم أو دعاهم من دون الله ، أو سبحهم ، أوطاف بقبورهم واتخذ عليها المساجد والسرج ، أو أثبت لهم خصائص الربوبية ونزهمم عن لوازم العبودية ، وادعى أن ذلك تعظيم لهم ، كان من أجهل الناس وأضلهم ، وهو من جنس تعظيم النصارى للمسيح حتى أخرجوه عن العبودية .
__________
(1) هنا سقط وهو قبل قوله يا فاطمة . ونصه (( يا صفية عمة رسول الله لا أغني عنك من الله شيئاً )) .
(2) الحديث أخرجه مسلم في كتاب الإيمان 350 والترمذي في الزهد 7 من تفسيره سوره 26 وابن ماجه في الجهاد 16 .(54/398)
وكل من عظم مخلوقاً بما يكرهه ذلك المعظم ويبغضه ويمقت فاعله ، فلم يعظمه في الحقيقة ، بل عامله بضد تعظيمه ، فتعظيم الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن تطاع أوامره وتصدق أخباره ، ولا يقدم على ما جاء به غيره .
فالتعظيم نوعان : أحدهما : ما يحبه المعظم ويرضاه ويأمره ويثني على فاعله ، فهذا هو التعظيم في الحقيقة .
والثاني : ما يكره ويبغضه ويذم فاعله ، فهذا ليس بتعظيم ، بل هو غلو مناف للتعظيم ، ولهذا لم يكن الرافضة معظمين لعلي بدعواهم فيه الإلهية والنبوة ، أو العصمة ونحو ذلك ، ولم يكن النصارى معظمين للمسيح بدعواهم فيه ما ادعوا ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - قد أنكر على من عظمه بما لم يشرعه ، فأنكر على معاذ سجوده له(1) ، وهو محض التعظيم .
وفي المسند بإسناد صحيح على شرط مسلم عن أنس بن مالك أن رجلاً قال : يا محمد ، يا سيدنا ، وابن سيدنا وخيرنا ، وابن خيرنا فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( عليكم بقولكم ولا يستهوينكم الشيطان أنا محمد بن عبد الله ، عبد الله ورسوله ، مأ (4) أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله عز وجل )) (2)، وقال - صلى الله عليه وسلم - : (( لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم فإنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله )) (3) وكان يكره من أصحابه أن يقوموا له إذا رأوه ، ونهاهم أن يصلوا خلفه قياماً ، وقال : ((إن كنتم آنفاً لتفعلون فعل فارس والروم يقومون على ملوكهم )) (4) وكل هذا من التعظيم الذي يبغضه ويكرهه .
__________
(1) تقدم تخريجه .
(2) رواه أبو داود 5/154 - 155 رقم 4806 وأحمد 3/153 ، 241 ، 4/25 ، 40 .
(3) تقدم تخريجه
(4) رواه مسلم 1/309 وأبو داود 1/405 رقم 606 .
بعد قوله : بعض الناس وقع سقط واستدركناه من الجواب الباهر ص83 :(54/399)
ولقد غلا بعض الناس في تعظيم القبور حتى قال : إن البلاء يندفع عن أهل البلد أو الإقليم بمن هو مدفون عندهم من الأنبياء والصالحين ، قال شيخ الإسلام في أثناء كلامه في الجواب الباهر : وأما ما يظنه بعض الناس(1) ، أنه يدفع البلاء عن أهل بغداد بقبور ثلاثة : أحمد بن حنبل وبشر الحافي ومنصور بن عمار ، ويظن بعضهم أنه يندفع البلاء عن أهل الشام بمن عندهم من قبور الأنبياء الخليل ، وغيره عليهم السلام ، وبعضهم يظن أن يندفع البلاء عن أهل مصر بنفسية ، أو غيرها ، أو يندفع البلاء عن أهل الحجاز بقبر النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وأهل البقيع أو غيرهم ، فكل هذا غلط مخالف لدين المسلمين مخالف للكتاب والسنة والإجماع ، فالبيت المقدس كان عنده من قبور الأنبياء والصالحين ما شاء الله ، فلما عصوا الأنبياء وخالفوا ما أمر الله به ورسله سلط عليهم منن انتقم منهم ، والرسل الموتى ما عليهم إلا البلاغ المبين وقد بلغوهم رسالة ربهم .
__________
(1) وأما ما يظنه بعض الناس : من أن البلاء يندفع عن أهل بلدة أو إقليم بمن هو مدفهون عندهم من الأنبياء والصالحين كما يظن بعض الناس أنه يندفع .(54/400)
وكذلك نبينا قال الله تعالى في حقه : أن عليك إلا البلاغ ، وقال : { وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ } (النور 054) وقد ضمن الله لكل من أطاع الرسول أن يهديه وينصره ، فمن خالف أمر الرسول استحق العذاب ولم يغن عنه أحد من الله شيئاً كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : (( يا عباس عمر رسول اله - صلى الله عليه وسلم - لا أغني عنك من الله شيئاً ، يا فاطمة بنت محمد لا أغني عنك من الله شيئاً )) (1) وقال لمن والاه من أصحابه : لألفين أحدكم يأتي يوم القيامة على رقبته بعير له رغاء يقول يا رسول الله أغثني فأقول لا أملك لك من الله شيئاً قد بلغتك )) (2).
وكان أهل المدينة في خلافة أبي بكر وعمر وصدر من خلافة عثمان على أفضل أمور الدنيا والآخرة لتمسكهم بطاعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، ثم تغيروا بعض التغير ، فقتل عثمان وخرجت الخلافة خلافة النبوة من عندهم وصاروا رعية لغيرهم ، ثم تغيروا بعض التغير فجرى علهم عام الحرة من النهب ، والقتل وغير ذلك من المصائب ما لم يجر عليهم قبل ذلك ، والذي فعل بهم ذلك ، وإن كان ظالماً متعدياً فليس هو أظلم ممن فعل بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابهما فعل وقد قال الله تعالى : { أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ ×pt7ٹإء-B قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } (آل عمران 165)
__________
(1) وقع سقط قبل قوله يا فاطمة وهو قوله : يا صفية عمة رسول لا أغني عنك من الله شيئاً ، وهو هكذا بالزيادة في الجواب الباهر ،والحديث تقدم تخريجه صفحة 282 حاشية (1)
(2) أخرجه أبو داود 5/12 رقم 4605 والترمذي رقمه 2665 وابن ماجه في المقدمة رقم13(54/401)
وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - والسابقون الأولون مدفونين بالمدينة وكذلك الشام كان أهله في أول الإسلام في سعادة الدنيا والدين ، ثم جرت فتن وخرج الملك من أيديهم ، ثم سلط عليهم المنافقون الملاحدة والنصارى بذنوبهم ، واستولوا على بيت المقدس وقبر الخليل وفتحو البناء الذي كان عليه وجعلوه كنيسة ، ثم صلح دينهم فأعزلهم الله ونصرهم على عدوهم لما أطاعوا الله ورسوله ، واتبعوا ما أنزل إليهم من ربهم ، فطاعة الله ورسوله هي قطب السعادة وعليها تدور : (( ومن يطلع الله ورسوله فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين )) .(54/402)
وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول في خطبته : (( من يطع الله ورسوله فقد رشد ومن يعصيهما فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً )) (1) ، ومكة نفسها لا تدفع البلاء عن أهلها ويجلب لهم الرزق إلا بطاعتهم لله ورسوله ، كما قال الخليل عليه السلام : { رَبَّنَا 'دoTخ) أَسْكَنْتُ مِنْ سةLƒحh'èŒ بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ ü"بq÷ksE ِNخkِژs9خ) وَارْزُقْهُمْ مِنَ دN¨uچyJ¨W9$# لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ } (إبراهيم 037) وكانوا في الجاهلية يعظمون حرمة الحرم ويحجون ويطوفون بالبيت ، وكانوا خير من غيرهم من المشركين والله لا يظلم مثقال ذرة ، فكانوا يكرهون ما لا يكرم غيرهم ويؤتون ما يؤتاه غيرهم (2). لكونهم كانوا متمسكين من دين إبراهيم بأعظم مما تمسك به غيرهم وهم في الإسلام إن كانوا أفضل من غيرهم كان جزاؤهم بحسب فضلهم ، وإن كانوا أسوأ عملاً من غيرهم كان جزاؤهم بحسب سيآتهم.
فالمساجد والمشاعر إنما نفع فضيلتها ، لمن عمل فيها بطاعة الله وإلا فمجرد البقاع لا يحصل بها ثواب ولا عقاب ، وإنما الثواب والعقاب على الأعمال المأمور بها والمنهي عنها ، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد آخى بين سلمان الفارسي وأبي الدرداء ، وكان أبو الدرداء بدمشق وسلمان بالعراق ، فكتب أبو الدرداء إلى سلمان هلموا إلى الأرض المقدسة فكتب إليه سلمان أن الأرض لا تقدس أحداً ، وإنما يقدس الرجل عمله والمقام بالثغور للجهاد أفضل من سكنى الحرمين باتفاق العلماء .
__________
(1) أخرجه أبو داود 2/592 رقم 2119 من حديث ابن مسعود وفي إسناده عمران بن داود إلى الضعف أقرب .
(2) يشير إلى قوله تعالى : { أولم نمكن لهم حرماً آمناً تجبى إليه ثمرات كل شيء ، رزقاً من لدنا ولكن أكثرهم لا يعلمون } .(54/403)
ولهذا كان سكنى الصحابة بالمدينة أفضل للهجرة والجهاد ، والله هو الذي خلق الخلق وهو الذي يهديهم ويرزقهم وينصرهم ، وكل من سواه لا يملك شيئاً من ذلك كما قال تعالى : { قُلِ (#qممôٹ$# الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا ڑcqà6د=ôJtƒ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي دN¨uq"yJ،،9$# وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ 78ِژإ° وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22) وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ } (سبأ 022-023) وقد فسروها بأن يؤذن للشافع والمشفوع له جميعاً ، فإن سيد الشفعاء يوم القيامة محمد - صلى الله عليه وسلم - ، وإذا أراد الشفاعة قال : فإذا رأيت ربي خررت له ساجداً فأحمده بمحامد يفتحها علي لا أحسنها الآذن فيقال لي : (( ارفع رأسك وقل يسمع ، وسل تعطه واشفع تشفع )) ، قال فيحد لي حداً فأدخلهم الجنة(1) ، وكذلك ذكره في المرة الثانية والثالثة ولهذا قال : { وَلَا à7د=ôJtƒ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ y‰خky بِالْحَقِّ } (الزخرف 086) فأخبر أنه لا يملكها أحد دون الله ، وقوله : (( إلا من شهد بالحق )) وهم يعلمون استثناء منقطع ، أي من شهد بالحق وهم يعلمون هم أصحاب الشفاعة منهم الشافع ومنهم المشفوع له .
__________
(1) تقدم حديث أنس في الشفاعة وأن أحاديث الشفاعة متواترة .(54/404)
وقد ثبت في الصحيح عن أبي هريرة أنه قال : من أسعد الناس بشفاعتك يا رسول لله ؟ فقال : (( لقد ظننت يا أبا هريرة أن لا يسألني عن هذا الحديث أحد أولى منك لما رأيت من حرصك على الحديث )) (( أسعد الناس بشافعي من قال لا إله إلا اله خالصاً من قبل نفسه )) رواه البخاري (1)، فجعل أسعد الناس بشفاعته أكملهم إخلاصاً ، وقال في الحديث : (( إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول ثم صلوا علي فإن من صلى علي مرة صلى الله عليه بها عشراً ، ثم سلوا الله لي الوسيلة فإنها درجة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله وأرجو أن أكون ذلك العبد فمن سأل الله الوسيلة حلت عليه شفاعتي يوم القيامة )) (2) فالجزاء من جنس العمل .
فقد أخبر - صلى الله عليه وسلم - أنه من صلى عليه مرة صلى الله عليه بها عشراً(3) ، قال : ومن سأل لي الوسيلة حلت عليه شفاعتي يوم القيامة ، ولم يقل كان أسعد الناس بشفاعتي ، بل قال : أسعد الناس بشفاعتي من قال : (( لا إله إلا الله خالصاً من قبل نفسه )) .
فعلم أن ما يحصل للعبد بالتوحيد والإخلاص من شفاعة الرسول وغيرها لا يحصل بغيره من الأعمال ، وإن كان صالحاً كسؤال الوسيلة للرسول ، فكيف بما لم يأمر به من الأعمال ، بل نهى عنه ، فذلك لا ينال به خيراً لا في الدنيا ، ولا في الآخرة مثل غلو النصارى في المسيح ، فإنه ينصرهم ولا ينفعهم .
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب العلم في صحيحه .
(2) تقدم تخريجه .
(3) تقدم تخريجه .(54/405)
ونظير هذا في الصحيح عنه أنه قال : (( إن لكل نبي دعوة مجابة ، وإن أختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة ، فهي قائلة إن شاء الله من مات لا يشرك بالله شيئاً))(1). وكذلك في أحاديث الشفاعة كلها إنما يشفع في أهل التوحيد ، فيحسب توحيد العبد لربه وإخلاصه دينه لله يستحق كرامة الله بالشفاعة وغيرها وهو سبحانه علق الوعد والوعيد والثواب والعقاب والحمد والذم بالإيمان وتوحيده وطاعته فمن كان أكمل في ذلك كان أحق بتولي الله له بخير الدنيا والآخرة .
ثم جمع عبادة مسلمهم وكافرهم هو الذي رزقهم ، وهو الذي يدفع عنهم المكاره وهو الذي يقصدونه في الثواب قال تعالى : { وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ } (النحل 053) وقال تعالى : { قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ } (الأنبياء 042) أي بدلاً عن الرحمن ، هذا أصح القولين كقوله تعالى : { وَلَوْ نَشَاءُ $sYù=yèpgm: مِنْكُمْ مَلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ } (الزخرف 060) أي لجعلنا بدلاً منكم كما قال عامة المفسرين ومنه قول الشاعر
فليت لنا من ماء زمزم شربة مبردة باتت على طهيان
__________
(1) تقدم .(54/406)
أي بدلاً من ماء زمزم : فلا يكلأ الخلق بالليل والنهار فيحفظهم ويدفع عنهم المكاره إلا الله قال تعالى : { أَمْ مَنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ Oن.مژفاZtƒ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ (20) أَمْ مَنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي 5cqçGمم وَنُفُورٍ } (الملك 020-021) ومن ظن أرضاً معينة تدفع عن أهلها البلاء مطلقاً بخصوصها ، أو لكونها فيها قبور الأبياء والصالحين فهو غالك ، فأفضل البقاع مكة ،وقد عذب الله أهلها عذاباً شديداً عظيماً فقال : { وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ ZpsYدB#uن Zp¨Zح³yJôـ-B يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ ôNuچxےx6sù بِأَنْعُمِ اللَّهِ $ygs%¨sŒr'sù اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (112) وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ڑcqكJد="sك } (النحل 112-113)
قال المعترض
فإن قلت : فقد روى عبد الرزاق في مصنفه بسنده إلى الحسن بن الحسن بن علي أنه رأى قوماً عند القبر ، فنهاهم ، وقال :إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : (( لا تتخذوا قبري عيداً ولا تتخذوا بيوتكم قبوراً وصلوا علي حيثما كنتم فإن صلاتكم تبلغني )) .(54/407)
قلت : قد روى القاضي إسماعيل في كتاب فضل الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - (1)، بسنده إلى علي بن الحسين بن علي ، وهو زين العابدين أن رجلاً كان يأتي كل غداة فيزور قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - ويصلي عليه ، ويضع من ذلك ما انتهره عليه علي بن الحسين ، فقال له علي بن الحسين : ما يحملك على هذا قال : أحب التسليم على النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقال له علي بن الحسين : هل لك أن أحدثك حديثاً عن أبي ؟ قال : نعم . فقال له علي بن الحسين أخبرني أبي عن جدي أنه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لا تجعلوا قبري عيداً ولا تجعلوا بيوتكم قبوراً وصلوا علي وسلموا حيثما كنتم فسيبلغني سلامكم وصلاتكم )) وهذا الأثر يبين لنا أن ذلك الرجل زاد في الحد ، وخرج عن الأمر المسنون ، فيكون كلام علي بن الحسين موافقاً لما تقدم عن مالك ، وليس إنكاراً لأصل الزيارة ، أو يكون أراد تعليمه أن السلام يبلغ من الغيبة لما رآه يتكلف الإكثار من الحضور ، وعلى ذلك يحمل ما ورد عن حسن بن حسن وغيره من ذلك ولم يذكر هذا الأثر ليحتج به ، بل للتأنيس به بأمر محتمل في ذلك الأثر المطلق وإبداء وجهه من وجوه التأويل ، وكيف يتخيل في أحد من السلف منهم من زيارة المصطفى ، وهم مجمعون على زيارة سائر الموتى ، وسنذكر ذلك وما ورد من الأحاديث والآثار في زيارتهم ، فالنبي - صلى الله عليه وسلم - وسائر الأنبياء الذين ورد فيهم أنهم أحياء كيف يقال فيهم هذه المقالة ، انتهى كلام المعترض .
والجواب من وجوه :أحدهما : أن يقال :
__________
(1) ص 33-34 ووقع فيه : ما اشتهره عليه والصواب ما ها هنا .(54/408)
هذا الحديث الذي ذكره القاضي إسماعيل قد رواه أبويعلي الموصلي والحافظ أبو عبدالله المقدسي في الأحاديث المختارة وهو حديث محفوظ عن علي بن الحسين زين العابدين ، وله شواهد كثيرة ، وتقدم ذكرها ، وهو وأمثاله من الأحاديث مناف لما ذهب إليه المعترض ، وأشباهه من الغلو في هذا الباب منافاة ظاهرة ،وقول المعترض : أن ذلك الرجل زاد في الحد وخرج عن الأمر المسنون ، فيقال له: قد زدت أن في الحد أكثر من زيادة ذلك الرجل ، وخرجت عن الأمر المسنون أبلغ من خروجه ، وقلت باستحباب قصد القبور للدعاء عندها وشد الرحال ، وإعمال المطي لمجرد زيارتها ، وغير ذلك من الأمور التي لم يقلها ذلك الرجل ، فزيادتك في الحد وخروجك عن الأمر المشروع في هذا الباب أبلغ بكثير من زيادة ذلك الرجل وخروجه .
الوجه الثاني : أن قوله فيكون كلام علي بن الحسين موافقاً لما تقدم عن مالك وليس إنكاراً لأصل الزيارة - كلام فيه تلبيس - ، فإن أصل الزيارة لم ينكرها شيخ الإسلام ، وإنما أنكر الزيارة المبتدعة المتضمنة لترك مأمور وفعل محظور ، وأما الزيارة الشرعية فلم ينكرها ، بل ندب إليها وحض عليها ، كما تقدم ذكره غير مرة .
لوجه الثالث : قوله ولم يذكر هذا الأثر ليحتج به ، بل للتأنيس بأمر محتمل في ذلك الأثر المطلق وإبداء وجه من وجوه التأويل ، فيقال له لم لم تحتج بهذا الأثر ، وأي شيء منعك من الاستدلال به ، مع أنه خبر محفوظ مشهور وشواهده كثيرة ، وهو أقوى بكثير مما احتجت به من الأحاديث المتقدمة ومعناه موافق لما ورد في الأحاديث الصحيحة والأخبار الثابتة التي سبق ذكرها غير مرة والله الموفق .(54/409)
الوجه الرابع : أن قوله : وكيف يتخيل في أحد من السلف منعهم من زيارة المصطفى(1) أو نقله عن أحد منهم أو اعتقده في طائفة منهم ، ومن المعلوم أن شيخ الإسلام وغيره من العلماء الأعلام لم يمنعوا من زيارة المصطفى صلوات الله عليه ، وإنما قالوا : الزيارة منها ما هو شرعي ، ومنها ما هو غير شرعي ، فالشرعي مندوب إليه ، والبدعي ممنوع منه ، وتكلموا في شد الرحال لمجرد زيارة القبور ، فمن مانع لذلك كمالك والجمهور ، ومن مبيح له كطائفة من المتأخرين ، وهذا المعترض يخالف القولين ، فيقول إن طاعة وقربة مع العلم بأن ما ذهب إليه ليس من الصحابة والتابعين وأئمة المسلمين ولا فرق عنده بين من قصد الحج فزار في طريقة ، وبين من سافر لمجرد الزيارة ، بل كلاهما عنده مستحب وطاعة وقربة ، وغير من العلماء فرقوا بين الأمرين فقالوا :إن من قصد الحج فزار في طريقه الزيارة الشرعية ، فهو مثاب مأجور ، واختلفوا فيمن سافر لمجرد زيارة القبر فمنهم من قال : سفره مباح وهم الأقلون ، ومنهم من قال : سفره منهي عنه وهم الأكثرون .
والحجة معهم ولم يقل أحد من مجتهديهم ان سفره طاعة وقربة ، وإنما ذهب إلى ذلك المعترض وأمثاله ممن ليس لهم سلف في ذلك ولا دليل عليه وكفى هذا المعترض مخالفة لأهل العلم حتى نسب من قال منهم بالقول الذي عليه الجمهور إلى أنه منع من الزيارة ونهي عنها ، وهذه النسبة غنما صدرت منه عن الفهم الفاسد والهوى المتبع(2) والله الموفق .
__________
(1) وقع سقط بعد قوله ( من زيارة المصطفى ) وهو قوله : وهم مجمعون على زيارة سائر الموتى كلام في إيهام عظيم وتلبيس شديد ومن اذلي تخيل في أحد من السلف منعهم من زيارة المصطفى أو نقله .
(2) قلت : نعم إنه الهوى المتبع فمثله ليس بجاهل .(54/410)
وقال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى في أثناء كلامه في الجواب الباهر(1) : وأما السفر إلى قبور الأنبياء والصالحين فهذا لم يكن موجوداً في الإسلام في زمن مالك ،وإنما حدث هذا بعد القرون الثلاثة قرن الصحابة والتابعين وتابعيهم ، فأما هذه القرون التي أثنى عليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فلم يكن هذا ظاهر فيها ، ولكن بعدها ظهر الإفك والشرك ، ولهذا لما سأل سائل لمالك عن رجل نذر أن يأتي قبر النبي ، فقال : إن كان أراد المسجد فليأته ، وليصل فيه ، وإن كان أراد القبر فلا يفعل للحديث الذي جاء : (( لا تعمل المطي إلا إلى ثلاثة مساجد )) (2) ، وكذلك من يزور قبور الأنبياء والصالحين ليدعوهم ، أو يطلب منهم الدعاء ، أو يقصد الدعاء عندهم لكونه أقرب إجابة في ظنه ، فهذا لم يكن يعرف على عهد مالك لا عند قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا غيره ، وإذا كان مالك يكره أن يطيل الوقوف عنده للدعاء ، فكيف بمن لا يقصد لا السلام عليه ، والدعاء له ، وإنما يقصد دعاءه وطلب حوائجه منه ، ويرفع صوته عنده فيؤذي الرسول ويشرك بالله ويظلم نفسه .
__________
(1) ص 50-62 .
(2) تقدم تخريجه .(54/411)
ولم يعتمد الأئمة الأربعة ولا غير الأربعة على شيء من الأحاديث التي يرويها بعض الناس في ذلك مثل ما يروون أنه قال : (( من زارني في مماتي فكأنما زارني في حياتي )) (1)، ومن قوله : (( من زارني وزار أبي في عام واحد ضمنت له على الله الجنة))(2) ،ونحو ذلك ، فإن هذا لم يروه أحد من أئمة المسلمين ولم يعتمدوا عليها ولم يروها لا أهل الصحاح ، ولا أهل السنن التي يعتمد عليها كأبي داود والنسائي ، لأنها ضعيفة ، بل موضوعة ، كما قد بين العلماء الكلام عليها ، ومن زاره في حياته كان من المهاجرين إليه ، والواحد بعدهم لو أنفق مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه ، وهو إذا أتى بالفرائض لا يكون مثل الصحابة ، فكيف يكون مثلهم في النوافل ، أو بما ليس قربة(3) ، أو بما هو منهي عنه .
وكره مالك رحمه الله تعالى أن يقول القائل : زرت قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - كره هذا اللفظ ، لأن السنة لم تأت به في قبره ، وقد ذكروا في تعليل ذلك وجوهاً ورخص غيره في هذا اللفظ للأحاديث العامة في زيارة القبور ، ومالك يتحسب ما يستحبه سائر العلماء من السفر إلى المدينة والصلاة في مسجده ، وكذلك السلام عليه ،وعلى صاحبيه عند قبورهم اتباعاً لابن عمر ، ومالك رضي الله عنه من أعلم الناس بهذا ، لأنه قد رأى التابعين الذين رأوا الصحابة بالمدينة ، ولهذا كان يستحب اتباع السلف في ذلك ويكره أن يبتدع أحد هناك بدعة ، فكره أن يطيل الرجل القيام والدعاء عند قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - ، لأن الصحابة لم يكونوا يفعلون ذلك وكره لأهل المدينة كما دخل إنسان المسجد أن يأتي قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - ، لأن السلف لم يكونوا يفعلون ذلك .
__________
(1) تقدم تخريجه والكلام عليه .
(2) تقدم تخريجه والكلام عليه .
(3) في الجواب الباهر ( بفريضة ) بدلاً من قوله : قربة .(54/412)
قال مالك : ولا يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها ، بل كانوا يأتون إلى مسجده فيصلون خلف أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم أجمعين ، فإن هؤلاء الأربعة صلوا أئمة في مسجده والمسلمون يصلون خلفهم ، كما كانوا يصلون خلفه وهم يقولون في الصلاة : السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته ، كما كانوا يقولون ذلك في حياته ، ثم إذا قضوا الصلاة قعدوا ، أو خرجوا ولم يكونوا يأتون القبر للسلام لعلمهم بأن الصلاة والسلام عليه في الصلاة أكمل وأفضل وهي المشروعة .
وأما دخولهم عند قبره للصلاة والسلام عليه هناك ، أو الصلاة والدعاء فإنه لم يشرعه لهم ، بل نهاهم ، وقال : (( لا تتخذوا قبري عيداً وصلوا علي حيثما كنتم فإن صلاتكم تبلغني )) فبين أن الصلاة تصل إليه من البعيد ،وكذلك السلام ، ومن صلى عليه مرة صلى الله عليه بها عشراً ،ومن سلم عليه سلم الله عليه عشراً ، وتخصيص الحجرة بالصلاة والسلام جعل لها عيداً ، وهو قد نهاهم عن ذلك ونهاهم أن يتخذوا قبره ، وأو قبر غيره ، مسجداً ، ولعن من فعل ذلك ليتخذوا أن يصيبهم مثل ما أصاب غيرهم من اللعنة .
وكان أصحابه خير القرون وهم أعلم الناس بسنته وأطوع الأمة لأمره ، وكانوا إذا دخلوا إلى المسجد لا يذهب أحد منهم إلى قبره ، لا من داخل الحجرة ولا من خارجها ، وكانت الحجرة في زمانهم يدخل إليها من الباب إذا كانت عائشة فيها وبعد ذلك إلى أن بني الحائط الأخر ، وهم مع ذلك التمكن من الوصول إلى قبره لا يدخلون إليه لسلام ، ولا لصلاة عليه ، ولا لدعاء لأنفسهم ، ولا لسؤال عن حديث أو علم ،ولا كان الشيطان يمطع فيهم حتى يسمعهم كلاماً أو سلاماً فيظنون أنه هو كلمهم ، واقناعهم وبين لهم الأحاديث أو أنه قد رد عليهم السلام بصوت يسمع من خارج ، كما طمع الشيطان في غيرهم فأضلهم عند قبره وقبر غيره ، حتى ظنوا أن صاحب القبر يحدثهم ويفتيهم ،ويأمرهم وينهاهم في الظاهر .(54/413)
وأنه يخرج من القبر ويرونه خارجاً من القبر ويظنون أن نفس أبدان الموتى خرجت من القبر تكلمهم ، أو أن روح الميت تجسدت لهم فرأوها كما رآهم النبي - صلى الله عليه وسلم - ليلة المعراج يقظة لا مناماً .
فإن الصحابة رضوان الله عليهم خير قرون هذه الأمة التي هي خير أمة أخرجت للناس ،وهم تلقوا الدين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بلا واسطة ، ففهموا من مقاصده وعاينوا من أفعاله ، وسمعوا منه شفاهاً مل ملم يحصل لمن بعدهم ، ولذلك كان يستفيد بعضهم من بعض ما لم يحصل لمن بعدهم ، وهم قد فارقوا جميع أهل الأرض وعادوهم وهاجروا جميع الطوائف وأديانهم وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم قال - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح : (( لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه )) (1) .
وهذا قاله لخالد بن الوليد لما تشاجر هو وعبد الرحمن بن عوف ، لأنه عبد الرحمن بن عوف كان من السابقين الأولين ، وهم الذين أنفقوا من قبل الفتح وقاتلوا وهو فتح الحديبية ، وخالد هو وعمرو بن العاص وعثمان بن طلحة أسلموا في مدة الهدنة بعد الحديبية وقبل فتح مكة ، فكانوا من المهاجرين التابعين لا من المهاجرين الأولين .
وأما الذين أسلموا عام فتح مكة فليسوا بمهاجرين ،لأنه لا هجرة بعد الفتح ، بل كان الذين أسلموا من أهل مكة لهم الطلقاء ، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أطلقهم بعد الاستيلاء عليهم عنوة ، كما يطلق الأسير ، والذين بايعوه تحت الشجرة ، ومن كان من مهاجرة الحبشة هم السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار .
__________
(1) تقدم تخريجه .(54/414)
وفي الصحيح عن جابر قال : قال لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الحديبية : (( أنتم خير أهل الأرض )) (1) .وكنا ألفاً وأربعمائة ولهذا لم يطمع الشيطان أن ينال منهم من الإضلال والإغواء ما نال ممن بعدهم ، فلم يكن فيهم أحد من أهل البدع المشهورة كالخوارج والروافض والقدرية والمرجئة والجهمية ، بل كل هؤلاء إنما حدثوا فيمن بعدهم ، ولم يكن فيهم من طمع الشيطان أن يتراءى له في صورة بشر ، ويقول : أنا الخضر ، أو أنا إبراهيم ، أو موسى ، أو عيسى ، أو المسيح ، أو أن يكلمه عند قبره ، حتى يظن أن صاحبه كلمه ، بل هذا إنما ناله فيمن بعدهم ، وناله أيضاً من النصارى حيث أتاهم من الصلب وقال : أنا هو المسيح ، وهذه مواضع المسامير ، ولا يقول أنا شيطان ، فإن الشيطان لا يكون جسداً ، أو كما قال : وهذا هو الذي أعتمد عليه النصارى في أنه صلب لا في مشاهدته ، فإن أحداً منهم لم يشاهد الصلب ، وإنما حضره بعض اليهود وعلقوا المصلوب ، وهم يعتقدون أنه المسيح ، ولهذا جعل الله هذا من ذنوبهم وإن لم يكونوا صلبوه ، ولكنهم قصدوا هذه الفعل وفرحوا به ، قال تعالى : { ِNدdحچّےن3خ/ur وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ $·Z"tF÷kو5 عَظِيمًا (156) وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا (157) بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ } (النساء 156-158) وسبط هذا له موضع آخر .
__________
(1) رواه البخاري 7/443 رقم 4154 .(54/415)
والمقصود أن الصحابة رضي الله عنهم لم يطمع الشيطان أن يضلهم كما أضل به غيرهم من أهل البدع الذين تأولوا القرآن على غير تأويله وجهلوا السنة إذا رأوا أو سمعوا أموراً من الخوارق فظنوها من جنس آيات الأنبياء والصالحين ، وكانت من أفعال الشياطين كما أضل النصارى ، وأهل البدع بمثل ذلك ، فهم يتبعون المتشابه من الكتاب ويدعون المحكم ، ولذلك يتمسكون بالمتشابه من الحجج العقلية والحسية كما يسمع ويرى أموراً فيظن أنه رحماني ، وإنما هو شيطاني ، ويدعون البين الحق الذي لا إجمال فيه ، وكذلك لم يطمع الشيطان ، أن يتمثل في صورته ويغيث من استغاث به ، أو أن يحمل إليهم صوتاً يشبه صوته ، لأن الذين رأوه قد علموا أن هذا شرك لا يحل ، ولهذا أيضاً لم يطمع فيهم أن يقول أحد منهم لأصحابه ، إذا كان لكن حاجة فتعالوا إلى قبري ولا استغيثوا بي لا في محياه ، ولا في مماته ، كما جرى مثل هذا لكثير من المتأخرين ، ولا طمع الشيطان أن يأتي أحدهم ، ويقول : أنا من رجال الغيب ، أو الأوتاد الأربعة ، أو من السبعة أو الأربعين ، أو يقول له : أنت منهم إذا كان هذا عندهم من الباطل الذي لا حقيقة له ، ولا طمع الشيطان أن يأتي أحدهم فيقول :أنا رسول الله ويخاطبه عند القبر ، كما وقع ذلك لكثير ممن بعدهم عند قبر وقبر غيره وعند غير القبور ، كما يقع كثير من ذلك للمشركين ، وأهل الكتاب يرون بعد الموت من يعظمونه ، فأهل الهند يرون من يعظمونه من شيوخهم الكفار وغيرهم ، والنصارى يرون من يعظمونه من الأنبياء والحواريين وغيرهم ، والضلال من أهل القبلة يرون من يعظمونه إما النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وإما غيره من الأنبياء يقظة ويخاطبهم ويخاطبونه ، وقد يستفتونه ويسألونه عن أحاديث فيجيبهم ، ومنهم ن يخيل له أن الحجرة قد انشقت وخرج منها النبي - صلى الله عليه وسلم - وعانقه هو وصاحباه ،ومنهم من يخيل إليه أنه رفع صوته بالسلام حتى وصل مسيرة أيام إلى مكان بعيد(54/416)
.
وهذا وأمثاله أعرف ممن وقع له هذا وأشباهه عدداً كثيراً ، وقد حدثني بما وقع له في ذلك ، وبما أخبر به غيره من الصادقين من يطول هذا الموضع بذكرهم .
وهذا موجود عند خلق كثير ، كما هو موجود عند النصارى والمشركين ، لكن كثير من الناس يكذب بهذا ، وكثير منهم إذا صدق به يعتقد أنه من الآيات الإلهية ، وأن اذلي رأى ذلك رآه لصالحه ودينه ولم يعلم أنه من الشيطان ، وأنه أضل من فعل به ذلك وأنه بحسب قلة علم الرجل يضله الشيطان ومن كان أقل علماً قال له : ما يعلم أنه مخالف للشريعة خلافاً ظاهراً ، ومن عنده علم بها لا يقول له ما يعلم أنه مخالف للشريعة ولا مفيد فائدة في دينه ، بل يضله عن بعض ما كان يعرفه ، فإن هذا فعل الشياطين ، وهو وإن ظن أنه قد استفاد شيئاً فالذي خسره من دينه أكثر ، ولهذا لم يقل قط أحد من الصحابة أن الخضر أتاه ولا موسى ولا عيسى ، ولا أنه سمع رد النبي - صلى الله عليه وسلم - .
وابن عمر كان يسلم إذا قدم من سفر لم يقل قط أنه سمع الرد ، وكذلك التابعون وتابعوهم ، وإنما حدث هذا في بعض المتأخرين ، وكذلك لم يكن أحد من الصحابة يأتيه فيسأله عند القبر عن بعض ما تنازعوا فيه وأشكل عليهم من العلم لا خلفاؤه الأربعة ولا غيرهم ، مع أنهم أخص الناس به ، حتى ابنته فاطمة لم يطمع الشيطان أن يقول لها اذهبي إلى قبره ، فسليه هل يورث أم لا يورث كما أنهم أيضاً لم يطمع الشيطان فيهم فيقول لهم : اطلبوا منه أن يدعو لكم بالمطر لما أجدبوا ، ولا قال : أطلبوا منه أن يستنصر لكم ، ولا أن يستغفر لكم كما كانوا في حياته يطلبونه منه أن يستسقي لهم ، وأن يستغفر لهم ، فلم يطمع الشيطان فيهم بعد موته أن يطلبوا منه ذلك ، ولا طمع بذلك في القرون الثلاثة ، وإنما ظهرت هذه الضلالات ممن قل علمه بالتوحيد والسنة فأضله الشيطان ، كما أضل النصارى في أمور لقلة علمهم بما جاء به المسيح ومن قبله من الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه .(54/417)
وكذلك لم يطمع الشيطان أن يطير بأحدهم في الهواء ، ولا أن يقطع به الأرض في مدة قريبة كما يقع مثل هذا الكثير من المتأخرين ، لأن الأسفار التي كانوا يسافرونها كانت طاعات ؛ كسفر الحج والعمرة والجهاد وهم يثابون على كل خطوة يخطونها فيه ، وكلما بعدت المسافة كان الأجر أعظم ، كالذي يخرج من بيته إلى المسجد فخطواته إحداهما ترفع درجة ، والأخرى تحط خطيئة ، فلم يمكن الشيكان أن يفوتهم ذلك الأجر بأن يحملهم في الهواء أو يؤزهم في الأرض أزاً حتى يقطعوا المسافة البعيدة بسرعة ، وقد علموا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما أسري به الله من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ليريه من آياته وأنه أراه من آياته الكبرى وكان هذا من خصائصه ، فليس لمن بعده مثل هذا المعراج ، ولكن الشياطين تخيل إليه معارج شيطانية ، كما خيلتها لجماعة من المتأخرين .
وأما قطع النهر الكبير بالسير على الماء ، فهذا قد يحتاج إليه المؤمنون أحياناً مثل أن لا يمكنهم العبور إلى العدو وتكميل الجهاد إلا بذلك ، فلهذا كان الله يكرم من يحتاج إلى ذلك من الصحابة والتابعين بمثل ذلك أكرم به الملاء بنت الحضرمي وأصحابه وأبا مسلم الخولاني وأصحابه ، وبسط هذا له موضع آخر غير هذا الكتاب .
لكن المقصود أن يعرف أن الصحابة خير القرون وأفضل الخلق بعد الأنبياء فما ظهر فيهم بعدهم مما يظن أنها فضيلة للمتأخرين ، ولم تكن فيهم فإنها من الشيطان وهي نقيصة لا فضيلة سواء كانت من جنس العلوم ، أو من جنس العبادات ، أو من جنس الخوارق والآيات ، أو من جنس السياسة والملك ، بل خير الناس بعدهم أتباعهم لهم .(54/418)
قال ابن مسعود رضي الله عنه : من كان منكم مسنناً فليستن بمن قد مات ، فإين الحين لا تؤمن عليه الفتنة ، أولئك أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - أبر هذه الأمة قلوباً وأعمقها علماً وأقلها تكلفاً ، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه ولإقامة دينه ، فأعرفوا لهم حقهم ، وتمسكوا بهديهم فإنهم كانوا على الهدى المستقيم ، وبسط هذا له موضع آخر .
والمقصود هنا أن الصحابة تركوا البدع المتعلقة بالقبور بقبره وقبر غيره لنهيه - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك ولئلا يتشبهوا بأهل الكتاب الذين اتخذوا قبور الأنبياء أوثاناً ، وإنما كان بعضهم يأتي من خارج فيسلم عليه إذا قدم من سفر كما كان بن عمر يفعل ، بل كانوا في حياته يسلمون عليه ، ثم يخرجون من المسجد لا يأتون إليه عند كل صلاة ، وإذا جاء أحد سلم عليه رد عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وكذلك من سلم عليه عند قبره رد عليه ، وكانوا يدخلون على عائشة فكانون يسلمون عليه كما كانوا يسلمون في حياته ، ويقول أحدهم السلام عليك يا أيها النبي ورحمة الله وبركاته، وقد جاء هذا عاماً في جميع قبور المؤمنين ما من رجل يمر بقبر الرجل كان يعرفه في الدنيا فيسلم عليه إلا رد الله عليه لروحه حتى يرد عليه السلام (1)، فإذا كان رد السلام موجوداً في عموم المؤمنين ، فهو في أفضل الخلق أولى ، وإذا سلم المسلم عليه في صلاته ، فإنه وإن لم يرد عليه لكن الله يسلم عليه عشراً ، كما في الحديث : (( من سلم علي مرة سلم الله عليه عشراً )) (2) ، فالله يجزيه على هذا السلام أفضل مما يحصل بالرد ، كما أنه من صلى عليه مرة صلى الله عليه عشراً ، وكان ابن عمر يسلم عليه ، ثم ينصرف ، ولا يقف لدعاء له ، أو لنفسه ، ولهذا كره مالك ما زاد على فعل ابن عمر من وقوف ودعاء له أو لنفسه لأن ذلك لم ينقل عن أحد من الصحابة فكان بدعة محضة .
__________
(1) تقدم .
(2) تقدم تخريجه .(54/419)
قال مالك : لن يصلح آخر الأمة إلا ما أصلح أولها ، مع أن فعل ابن عمر إذا لم يفعل مثله سائر الصحابة إنما يصلح للتسويغ كأمثال ذلك فيما يفعله بعض الصحابة وأما القول بأن هذا الفعل مستحب ، أو منهي عنه ، أو مباح فلا يثبت إلا بدليل شرعي ، فالجواب والندب والإباحة والاستحباب والكراهة والتحريم لا يثبت شيء منها إلا بالأدلة الشرعية ، والأدلة الشرعية كلها مرجعها إليه صلوات الله وسلامه عليه فالقرآن هو الذي بلغه والسنة هو الذي عملها ، والإجماع بقوله عرف أنه معصوم ، والقياس إنما يكون حجه إذا علما أن الفرع مثل الأصل ، أو أن علة الأصل في الفرع ، وقد علما أنه - صلى الله عليه وسلم - لا يتناقض فلا يحكم في المتماثلين بحكمين متناقضين ، ولا يحكم بالحكم لعلة تارة ويمنعه أخرى مع وجود العلة إلا لاختصاص إحدى الصورتين بما يوجب التخصيص ، فشرعه هو ما شرعه ، وسنته هي ما سنها لا يضاف إليه قول غيره وفعله ، وإن كان من أفضل الناس إذا وردت سنته ، بل ولا يضاف إليه إلا بدليل يدل على الإضافة .
ولهذا كان الصحابة كأبي بكر وعمر وابن مسعود يقولون باجتهادهم ، ويكونون مصيبين موافقين لسنته ، لكن يقول أحدهم : اقول في هذا برأيي ، فإن يكن صواباً فمن الله ، وإن كان خطأ فمني ، ومن الشيطان والله ورسوله بريئان منه .
فإن كل ما خالف سنته فهو شرع منسوخ أن مبدل لكن المجتهدين وإن قالوا برأيهم وأخطأوا فلهم أجر وخطأهم مغفور لهم ، وكان الصحابة إذا أراد أحدهم أن يدعو لنفسه استقبل القبلة ، ودعا لنسفه كما كانوا يفعلون في حياته ،لا يقصدون الدعاء عند الحجرة ولا يدخل أحدهم إلى القبر .(54/420)
والسلام عليه قد شرع للمسلمين في كل صلاة وشرح للمسلمين ، إذا دخل أحدهم المسجد أي مسجد كان ، فالنوع الأول كل صلاة يقول المصلي : السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته ، ثم يقول :السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين ، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : (( فإذا قلتم ذلك أصابت كل عبد صالح لله في السموات والأرض )) (1) فقد شرع للمسلمين في كل صلاة أن يسلموا على النبي - صلى الله عليه وسلم - خصوصاً وعلى عباد الله الصالحين من الملائكة والإنس والجن عموماً .
وفي الصحيحين عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : كما نقول خلف النبي - صلى الله عليه وسلم - في الصلاة : السلام على فلان وفلان ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : (( إن الله هو السلام فإذا فقد أحدكم في الصلاة فليقل التحيات لله والصلوات والطيبات السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته ، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله )) (2) وقد روى عنه التشهد بألفاظ أخرى ، كما رواه مسلم من حديث ابن عباس ، وكما كان عمر يعلم الناس التشهد ، ورواه مسلم من حديث أبي موسى ، لكن مثل تشهد ابن مسعود ، ولكن لم يخرج البخاري إلا تشهد ابن مسعود ، وكل ذلك جائز فإن القرآن أنزل على سبعة أحرف فالتشهد أولى .
والمقصود أنه - صلى الله عليه وسلم - ذكر أن المصلي إذا قال : السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين ، أصابت كل عبد صالح لله في السموات والأرض ، وهذا يتناول الملائكة وصالحي الإنس والجن ،كما قال تعالى عنهم : { وَأَنَّا مِنَّا tbqكsد="¢ء9$# وَمِنَّا دُونَ y7د9¨sŒ كُنَّا t,ح!#uچsغ قِدَدًا } (الجن 011)
__________
(1) تقدم تخريجه .
(2) تقدم تخريجه بقية أحاديث التشهد .(54/421)
والنوع الثاني : السلام عليه عند دخول المسجد ، كما في المسند والسنن عن فاطمة بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : (( إذا دخل أحدكم المسجد فليقل بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله ، اللهم اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب رحمتك وإذا خرج قال بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله اللهم اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب فضلك )) (1) .
وروى مسلم في صحيحه الدعاء عند دخول المسجد بأن يفتح له أبواب رحمته وعند خروجه بسؤال الله من فضله ، وهذا الدعاء مؤكد في دخول مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ولهذا ذكره العلماء فيما صنفوه من المناسك لمن أتى إلى مسجده ، أن يقول ذلك ، فإن السلام عليه مشروع عند دخول المسجد ، والخروج ، وفي نفس كل صلاة ، وهذا أفضل وأنفع من السلام عند قبره وأدوم ، وهذا مصلحة محضة ، لا مفسدة فيها ، يرضي الله ويوصل نفع ذلك إلى رسول الله وإلى المؤمنين .
__________
(1) قد حقننا أحاديث أذكار الدخول والخروج من المسجد في رسالتنا ( إتحاف الراكع الساجد بأذكار الدخول والخروج من المساجد ) فراجعها هناك .(54/422)
وهذا مشروع في كل صلاة وعند دخول المسجد ، والخروج منه بخلاف السلام عند القبر مع أن قبره من حين دفن لم يمكن أحد من الدخول إليه لا لزيارة ، ولا لصلاة ولا لدعاء ولا غير ذلك ، ولكن كانت عائشة فيه ، لأنه بيتها ، وكانت ناحية من القبور ، لأن القبور في مقدم الحجرة ، وكانت هي في مؤخرة الحجرة ، ولم يكن الصحابة يدخلون إلى هناك ، وكانت الحجرة على عهد الصحابة خارجة عن المسجد متصلة به ، وإنما دخلت فيه في خلافة الوليد بن عبد الملك بن مروان بعد موت العبادلة ابن عمر وابن عباس وابن الزبير ، وابن عمرو ، بل بعد موت جميع الصحابة الذين كانوا بالمدينة(1) ، ولم يكن الصحابة يدخلون إلى عند القبرولا يقفون عنده خارجاً مع أنهم يدخلون إلى مسجده ليلاً ونهاراً .
وقد قال - صلى الله عليه وسلم - : (( صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام )) (2) . وقال : (( لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام ومسجدي هذا ومسجد بيت المقدس )) (3) وكانوا يقدمون من الأسفار للاجتماع بالخلفاء الراشدين وغير ذلك فيصلون في مسجده ويسلمون عليه في الصلاة ، وعند دخول المسجد والخروج منه ،ولا يأتون القبر إذا كان عندهم مما لم يأمرهم به ولم يسنه لهم ، وإنما أمرهم وسن لهم الصلاة والسلام عليه في الصلاة ، وعند دخولهم المساجد وغير ذلك ولكن ابن عمر كان يأتيه فيسلم عليه وعلى صاحبه عند قدومه من السفر ، وقد يكون فعله غير ابن عمر أيضاً .
__________
(1) في الجواب الباهر بعد قوله ( .. الذين كانوا بالمدينة فإن آخر من مات بها جابر بن عبد الله في بضع وسبعين سنة ووسع المسجد في بضع وثمانين سنة ولم يكن الصحابة … )
(2) تقدم تخريجه .
(3) تقدم تخريجه .(54/423)
فهكذا رأى من رأى من العلماء هذا جائز ، اقتداء بالصحابة رضي الله عنهم وابن عمر كان يسلم ، ثم ينصرف ولا يقف يقول : السلام عليك يا رسول الله السلام عليك يا أبا بكر ، السلام عليك يا ابت ثم ينصرف ولم يكن جمهور الصحابة يفعلون كما فعل ابن عمر بل كان الخلفاء وغيرهم يسافرون للحج وغيره ويرجعون ولا يفعلون ذلك إذا لم يكن هذا سنة سنها لهم ، وكذلك أزواجه كن على عهد الخلفاء وبعهدهم يسافرون للحج ، ثم ترجع كل واحدة إلى بيتها كما وصاهن بذلك وكانت امداد اليمن الذين قال اله فليهم { فَسَوْفَ 'دAù'tƒ اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ } (المائدة 054)
على عهد أبي بكر وعمر يأتون أفواجاً من اليمن للجهاد في سبيل الله ، ويصلون خلف أبي بكر وعمر في مسجده ، ولا يدخل أحد منهم إلى داخل الحجرة ولا يقف في المسجد خارجاً منها لا لدعاء ولا صلاة ولا سلام ، ولا غير ذلك ، وكانوا عالمين بسنته كما علمهم الصحابة والتابعون وأن حقوقه ملازمة لحقوق الله ، وإن جميع ما أمر الله به وأحبه من حقوقه وحقوق رسوله فإن صاحبها يؤمر بها في جميع المواضع والبقاع ، فليس الصلاة والسلام عليه عند قبره ، بأوكد من ذلك في غير ذلك المكان ، بل صاحبها مأمور بها حيث كان إما مطلقاً وإما عند الأسباب المؤكدة لها كالصلاة والدعاء والأذان ، ولم يكن شيء من حقوقه ولا شيء من العبادات هو عند قبر أفضل منه في غير تلك البقعة ، بل نفس مسجده له فضيلة لكونه مسجده )) .(54/424)
ومن اعتقد أنه قبل القبر لم يكن له فضيلة إذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي فيه والمهاجرين والأنصار ، وإنما حدثت له الفضيلة في خلافة الوليد بن عبد الملك لما أدخل الحجرة في مسجده ، فهذا لا يقوله إلا جاهل مفرط في الجهل ، أو كافر فهو مكذوب لما جاء به مستحق للقتل ، وكان الصحابة يدعون في مسجده كما كانوا يدعونه في حياته لم يتجدد لهم شريعة غير الشريعة التي علمهم إياها في حياته ، وهو لم يأمرهم إذا كان لأحدهم حاجة أن يذهب إلى قبر نبي ، أو صالح فيصلي عنده ،ويدعوه ، أو يدعو بلا صلاة ، أو يسأله حوائجه ، أو يسأله أن يسأل ربه .
فقد علم الصحابة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يأمرهم بشيء من ذلك ولا أمرهم أن يخصوا قبره أو حجرته إلى جوانب حجرته لا بصلاة ولا دعاء لا له ولا لأنفسهم ، بل قد نهاهم أن يتخذوا بيته عيداً ، فلم يقل لهم كما يقول بعض الشيوخ الجهال لأصحابه ، إذا كان لكن حاجة فتعالوا إلى قبري ، بل نهاهم عما هو أبلغ من ذلك أن يتخذوا قبره ، أو قبر غيره مسجداً يصلون فيه لله لسيد ذريعة الشرك .
فصلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً ، وجزاه عنا أفضل ما جزى نبياً عن أمته قد بلغ الرسالة ، وأدى الأمانة ونصح الأمة ، وجاهد في الله حق جهاده وعبد الله حتى أتاه اليقين من ربه ، فكان إنعام الله به أفضل نعمة أنعم بها على أهل الأرض ، وقد دلهم - صلى الله عليه وسلم - على أفضل العبادات ،وأفضل البقاع كما في الصحيحين عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : قلت يا رسول الله : أي العمل أفضل قال : (( الصلاة على مواقيتها )) قلت : ثم أي : قال : (( ثم بر الوالدين )) ، قلت ثم أي : (( الجهاد في سبيل الله)) سألته عنهن ، ولو استزدته لزادني (1).
__________
(1) تقدم تخريجه .(54/425)
وفي المسند وسنن ابن ماجة عن ثوبان ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : استقيموا ولن تحصوا واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن(1) ، والصلاة قد سن للأمة أن تتخذ لها مساجد وهي أحب البقاع إلى الله ، كما ثبت عنه في صحيح مسلم وغيره أنه قال : أحب البقاع إلى الله المساجد ، وأبغض البقاع إلى الله الأسواق(2) ، ومع هذا فقد لعن من يتخذ قبور الأنبياء والصالحين مساجد ، وهو في مرض الموت نصيحة للأمة وحرصاً منه على هذا ، كما نعت الله بقوله : { لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ ëبƒحچxm عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ } (التوبة 128)
وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت ، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مرضه الذي لم يقم منه ، : (( لعن الله اليود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد قال عائشة : ولولا ذلك لأبرز قبره ، ولكن كره أن يتخذ مسجداً ، وفي رواية خشي أن يتخذ مسجداً )) (3) .
وعان عائشة وابن عباس قالا : لما نزل برسول الله - صلى الله عليه وسلم - طفق يطرح خميصه له على وجه ، فإذا اغتم كشفها عن وجهة ، فقال : وهو كذلك لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد يحذر ما صنعوا(4) ، ومن حكمة اله تعالى أن عائشة أم المؤمنين صاحبه الحجرة التي دفن فيها تروي هذه الأحاديث ، وقد سمعتها منه ، وأن كان غيرها من الصحابة سمعها أيضاً كابن عباس وأبي هريرة وجندب بن عبد الله وابن مسعود رضي الله عنهم .
__________
(1) أخرجه أحمد في مسنده 5/276 وابن ماجدة في سننه رقم 277 .
كلاهما من طريق سالم بن أبي الجعد عن ثوبان به قال أحمد بن حنبل سالم بن أبي الجعد لم يلق ثوبان بينما معدان , نفى البخاري سماع سالم من ثوبان . انظر جامع التحصيل .
(2) أخرجه مسلم 1/464 .
(3) تقدم تخريجه .
(4) تقدم تخريجه .(54/426)
وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي اله عنه قال : قال رسول - صلى الله عليه وسلم - : قاتل الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد )) (1) وفي الصحيحين عن عائشة أن لم حبيبة ، ولم سلمه ذكرنا كنيسة رأيتها بأرض الحبشة فيها تصاوير لرسول الله- صلى الله عليه وسلم - ، فقال : إن أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا علي قبره مسجداً وصروراً فيه فيه تلك الصورة أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة )) (2).
وفي صحيح مسلم عن جندب قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل أن يموت بخمس وهو يقول : (( إن أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل فإن الله قد أتخذني خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً ولو كنت متخذاً من أهل الأرض خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً ، ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإن أنهاكم عن ذلك)) (3).
وفي صحيح مسلم عن أبي مرثد الغنوي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : (( لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها )) (4) وفي المسند وصحيح أبي حاتم أنه قال : أن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء والذي يتخذون القبور مساجد )) (5) وقد تقدم نهيه أن يتخذ قبري عيداً .
__________
(1) تقدم تخريجه .
(2) تقدم تخريجه .
(3) أخرجه مسلم 1/377 .
(4) أخرجه مسلم 2 /668 .
(5) أخرجه أحمد 1/405 وابن حبان 8/299 ، وابن خزييمة 2/6 رقم 789 والطبراني في الكبير 10/232 رقم 10413 .(54/427)
فلما علم الصحابة أنه قد نهاهم عن أن يتخذوه مصلى لقبر التي يتقرب بها إلى الله لئلا يتشبهوا بالمشركين الذين يتخذونها ويصلون بها وينذرون لها كان نهيهم عن دعائها أعظم وأعظم ، كما أنه لما نهاهم عن الصلاة عند طلوع الشمس وغروبها لئلا يتشبهوا بمن يسجد للشمس كان نهيهم ع السجود للشمس أولى وأحرى فكان الصحابة يقصدون الصلاة والدعاء والذكر في المساجد التي بنيت لله دون قبور الأنبياء والصالحين التي نهوا أن يتخذوها مساجد ، وإنما هي بيوت المخلوقين وكانوا يفعلون بعد موته ما كانوا يفعلون في حياته صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليماً .
قال المعترض وأما قوله - صلى الله عليه وسلم - : (( لا تجعلوا قبري عيداً )) فرواه أبو داود السجستاني ، وفي سنده عبد الله بن نافع الصائغ ، روى له أربعة ومسلم قال البخاري: تعرف حفظ وتنكر ، وقال أحمد بن حنبل لم يكن صاحب حديث كان ضيفاً(1) فيه ، ولم يكن في الحديث بذلك ، وقال أبو حاتم الرازي : ليس بالحافظ هو لين تعرف حفظه وتنكر ، ووثقه يحيى بن معين ، وقال أبو زرعة : لا بأس به ، وقال ابن عدي : روى عن مالك غرائب ، وهو في رواياته مستقيم الحديث ، فإن لم يثبت هذا الحديث فلا كلام ، وإن ثبت وهو الأقرب ، فقال الشيخ زكي الدين المنذري : يحتمل أن يكون المراد به الحث على كثرة زيارة قبره - صلى الله عليه وسلم -، وأن لا يهمل حتى لا يزار إلا في بعض الأوقات كالعيد الذي لا يأتي في العام إلا مرتين .
وقال : ويؤيد هذا التأويل ما جاء في الحديث نفسه لا تجعلوا بيوتكم قبوراً أي لا تتركوا الصلاة في بيوتكم حتى تجعلوا كالقبور التي لا يصلي فيها .
__________
(1) في كتاب السبكي : ضعيفاً بدلاً من قوله ضيفاً ، وفي التهذيب : ضعيفاً كذلك وهو الصواب.(54/428)
قلت : ويحتمل أن يكون المراد لا تتخذوا له وقتاً مخصوصاً لا تكون الزيارة إلا في كما ترى كثيراً من المشاهدة لزيارتها يوم معين كالعيد وزيارة قبره - صلى الله عليه وسلم - ليس لها يوم بعينه بل أي يوم كان ، ويحتمل أيضاً أن يراد أن يجعل كالعبد في العكوف عليه وإظهار الزينة والاجتماع وغير ذلك مما يجعل في الأعياد ، بل لا يؤتى إلا للزيارة والسلام والدعاء ، ثم ينصرف عنه ، والله أعلم بمراد نبيه ، انتهى ما ذكره .
والجواب أن يقال : هذا الحديث الذي رواه أبو داود هو حديث حسن جيد الإسناد وله شواهد كثيرة يرتقي بها إلى درجة الصحة ، وقد ذكرناه مع شواهد فيما تقدم ، والمعترض قد اعترف بأن الأقرب ثبوته لكنه لم يقل بموجبه ومقتضاه ، بل سلط عليه التحريف والتأويل المستنكر المردود ، فأما ما حكاه عن عبد العظيم المنذري في تأويله فهو من أظهر الأشياء بطلاناً ، بل هو مناقض لمقصود الحديث ومخالف له ، وآخر الحديث يبطله وهو قوله صلوا علي حيثما كنتم ، والتأويل الثاني باطل أيضاً ، والثالث : متضمن للحق وغيره .
وقد قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى في كتاب اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم(1) ، بعد أن ذكر هذا الحديث وقواه وذكر شواهده قال : ووجه الدلالة أن قبر رسول اله - صلى الله عليه وسلم - أفضل قبر على وجه الأرض ، وقد نهى عن اتخاذه عيداً فقبر غيره أولى بالنهي كائناً من كان ثم أنه قرن ذلك بقوله - صلى الله عليه وسلم - : (( لا تتخذوا بيوتكم قبوراً )) (2)، أي لا تعطلوها من الصلاة فيها والدعاء والقراءة فتكون بمنزلة القبور ، فأمر يتحرى العبادة في البيوت ، ونهى عن تحريها عند القبور عكس ما يفعله المشركون من النصارى ، ومن تشبه بهم .
__________
(1) ص323 .
(2) أخرجه أبو داود رقم 2042 وأحمد 2/367 وقد تقدم مراراً .(54/429)
ثم أنه - صلى الله عليه وسلم - أعقب النهي عن اتخاذها عيداً بقوله : وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم ، وفي الحديث فإن تسليمكم يبلغني أينما كنتم يشير بذلك - صلى الله عليه وسلم - إلى أن ما ينالني منكم من الصلاة والسلام يحصل مع قربكم من قبري وبعدكم منه ، فلا حاجة بكم إلى اتخاذه عيداً .
ثم إن أفضل التابعين من أهل بيته علي بن الحسين رضي الله عنهما نهى ذلك الرجل أن يتحرى الدعاء عند قبره - صلى الله عليه وسلم - ، واستدل بالحديث ، وهو راوي الحديث الذي سمعه من أبيه الحسين عن جده علي ، وأعلم بمعناه من غيره ، فبين أن قصده للدعاء ونحوه اتخاذ له عيداً ، وكذلكم ابن عمه حسن بن حسن شيخ أهل بيته كره أن يقصد الرجل القبر للسلام عليه ونحوه عند غير دخول المسجد ، ورأى أن ذلك من اتخاذه عيداً .
فانظر هذه السنة كيف مخرجها من أهل المدينة وأهل البيت رضي الله عنهم ، الذي لهم مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قرب النسب وقرب الدار ، لأنهم إلى ذلك أحوج من غيرهم ، فكانوا أضبط ، والعيد إذا جعل أسماً للمكان ، فهو المكان الذي يقصد الاجتماع فيه وانتيابه للعبادة عنده ، أو لغير العبادة ، كما أن المسجد الحرام ومنى ومزدلفة وعرفة جعلها الله عيداً مثابة للناس يحجون فيها ، وينتابونها للدعاء والذكر والنسك ، وكان للمشركين أمكنة ينتابونها للاجتماع عندها ، فلما جاء الإسلام محا الله ذلك كله ، وهذا النوع من الأمكنة يدخل فيه قبور الأنبياء والصالحين والقبور التي يجوز أن تكون قبوراً لهم بتقدير كونها قبوراً لهم ، بل وسائر القبور أيضاً داخلة في هذا .
انتهى ما أردت نقله من كلام الشيخ رحمه الله تعالى .(54/430)
وقال غيره في الكلام على قوله - صلى الله عليه وسلم - : (( ولا تجعلوا قبري عيداً وصلوا علي حيثما كنتم فإن صلاتكم تبلغني )) (1) ، خرج هذا الحديث منه - صلى الله عليه وسلم - مخرج نهيه عن اتخاذ القبور مساجد ، عن الصلاة إليها وإيقاد السرج ومخرج دعائه ربه تبارك وتعالى أن لا يجعل قبره وثناً ومخرج أمره بتسوية القبور المشرفة ونحو ذلك .
كل هذا لئلا يحصل الافتتان بها ويتخذ العكوف عليها وإيقاد السرج والصلاة فيها وإليها وجعلها عيداً ذريعة إلى الشرك لا سيما أصل الشرك وعبادة الأصنام في الأمم السابقة ، إنما هو من الأفتتان بالقبور وتعظيمها ، فاتخاذه القبر عيداً هو مثل اتخاذه مسجداً والصلاة وإليه ، بل أبلغ وأحق بالنهي ، فإن اتخاذه مسجداً يصلى فيه لله ليس فيه من المفسدة ما في اتخاذ نفسه عيداً بحيث يعتاد انتيابه والاختلاف إليه والازدحام عنده ، كما يحصل في أمكنة الأعياد وأزمنتها ، فإن العيد يقال في لسان الشارع على الزمان والمكان كما في حديث الذي نذر أن ينحر ببوانه وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : (( هل كان فيها وثن ، هل كان فيها عيد ؟ )) قالوا : لا قال : (( أوف بنذرك )) وهو حديث حسن صحيح ، رواه أبو داود في سننه ، فقال : حدثنا داود بن رشيد ، حدثنا شعيب بن إسحاق عن الأوزاعي ، عن يحيى بن أبي كثير ، قال : حدثني أبو قلابة ، قال : حدثني ثابت بن الضحاك قال : نذر رجل على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن ينحر إبلاً ببوانه ، فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - : إني نذرت أن أنحر إبلاً ببوانة ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : (( وهل كان فيها وثن من أوثان الجاهلية بعيد ؟ )) قالوا : لا . قال : (( هل كان فيها عيد من أعيادهم ؟ )) قالوا : لا . قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( أوف بنذرك ، فإن لا وفاء لنذر في معصية الله ، ولا فيما لا يملك ابن آدم )) (2)
__________
(1) هو من تمام الحديث الذي قبله .
(2) أخرجه أبو داود 3/607 رقم 3313 .(54/431)
.
وفي هذا الحديث دلالة على أن تعظيم المكان المتخذ عيداً بالذبح عنده لا يجوز كما ذبح عند الوثن ، كل هذا سد للذريعة المفضية إلى الشرك وحماية وصيانة لجانب التوحيد ، فإذا كان - صلى الله عليه وسلم - قد منع الذبح عند المكان المتخذ عيداً سواء كان قبراً أو غيره فنهيه عن اتخاذ القبر عيداً أولى وأحرى : إذا المفسدة في اتخاذ القبر عيداً أعظم بكثير من مفسدة الذبح عند المكان الذي اتخذه عيداً .
وهذه الأحاديث تدل كلها على تحريم تخصيص القبور بما يوجب انتيابها وكثرة الاختلاف إليها من الصلاة عندها واتخاذها مساجد ، واتخاذها عيداً ، وإيقاد السرج عليه والصلاة إليها والذبح عندها ، ولا يخفى مقاصد هذه الأحاديث وما اشتركت فيه على من شم رائحة التوحيد المحض .
وبهذا يعلم بطلان تأويل من تأول قوله - صلى الله عليه وسلم - : (( لا تجعلوا قبري عيداً )) أي لا تجعلوه في قلة الاختلاف إليه وانتيابه ومتابعة قصده بمنزلة العيد الذي إنما يكون في السنة مرتين ، بل اقصدوه في كل وقت واحتشدوا للمجيء إليه وواظبوا على إتيانه من القرب والبعد ، واجعلوا ذلك دأبكم وعادتكم ، ومعلوم أن هذا مناقض لما علم من سننه في قبره الكريم ، وغيره أشد مناقضة وترغيب للنفوس في الوقوع فيما حذر منه أمته ، وخاف عليهم منه ومعاكسة له في قصده ، ومن المعلوم أن من أراد هذا المعنى الذي ذكره المتأول بقوله : (( لا تتخذوا قبري عيداً )) فهو إلى الألغاز ضد البيان أقرب منه إلى الإرشاد والبيان كيف والسنة المعلومة تناقضه أبين مناقضة ، بل نفس هذا الحديث يرد هذا التأويل ويبطله ، وهو قوله : (( وصلوا علي حيثما كنتم )) .(54/432)
ثم لو كان هذا مراده وحاشاه من ذلك لأني بلفظ صريح أو ظاهر في الترغيب في قصده ن وكثرة الاختلاف إليه كما جاء عنه الترغيب في كثرة الاختلاف إلى المساجد كقوله في الحديث المتفق على صحته : (( من عذر إلى المسجد ، أو راح أعد الله له نزلاً في الجنة كلما غدا أو راح))(1) وقوله في الحديث الصحيح : (( من تطهر في بيته ثم مشى إلى بيت من بيوت الله ليقضي فريضة من فرائض الله كانت خطواته إحداهما تحط خطيئة والأخرى ترفع درجة )) (2) وقوله في الحديث المخرج في السنن : (( بشر المشائين في الظلم إلى المسجد بالنور التام يوم القيامة )) (3) ، وقوله في الحديث الآخر الذي رواه الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه وابن خزيمة ، وأبن حبان في صحيحيهما ، (( إذا رأيتم الرجل يعتاد المساجد فاشهدوا له بالإيمان )) (4) قال تعالى : { إِنَّمَا يَعْمُرُ y‰إf"|،tB اللَّهِ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ حچ½zFy$# } (التوبة 018)
إلى غير ذلك من الأحاديث الدالة على الترغيب في انتياب أمكنة المساجد والحث عليها ، فمن تأملها وتأمل الأحاديث الواردة في القبر تبين له الفرق المبين بين الهدى والضلال والغي والرشاد والشك واليقين .
__________
(1) أخرجه البخاري 2/148 رقم 662 ومسلم 1/463 .
(2) رواه مسلم 1/462 وابن حبان 3/245 . رواه مسلم 1/462 وابن حبان 3/245 ، وأخرج ابن ماجه نجوه 1/781 من حديث أنس .
(3) أخرجه أبو داود 1/379 رقم 561 وأخرج الترمذي رقم 223 ، وأخرج ابن ماجه نجوه 1/781 من حديث أنس.
(4) أخرجه الترمذي 5/12 رقم 2617 وابن ماجه 1/802 وأحمد 3/68 و 75-76 وابن حبان 3/110 جميعاً من طريق دراج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدري والحديث ضعيف من أجل دراج(54/433)
ومما يبين بطلان هذا التأويل الذي لم يعرف عن أحد من السلف والخلف قبل هذا المتأول ، إنه لو كان هو المراد لكان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والتابعيون لهم بإحسان أحق الناس بالعكوف على قبره ، وكثر انتيابه والازدحام عنده وتقبيله والتمسح به ، وكانوا أشد الناس ترغيباً للأمة في ذلك ، بل المحفوظ عنهم الزجر عن مثل ذلك والنهي عنه .
وقد روى عبد الرزاق في مصنفه عن الثوري عن ابن عجلان عن رجل يقال له سهيل ، عن الحسن بن الحسن بن علي أنه رأى قوماً عند القبر فنهاهم وقال : إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : (( لا تتخذوا قبري عيداً ولا تتخذواً بيوتكم قبوراً وصلوا علي حيثما كنتم فإن صلاتكم تبلغني )) (1).
وروى سعيد بن منصور في سننه عن عبد العزيز بن محمد فقال : أخبرني سهيل بن أبي سهيل قال : رآني الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عند القبر فناداني وهو في بيت فاطمة بتعشى ، فقال : هلم إلى العشاء فقال : فقلت : لا أريده ، فقال : مالي رأيتك عند القبر ، فقلت : سلمت على النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : إذا دخلت المسجد فسلم ، ثم قال : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : (( لا تتخذوا بيتي عيداً ولا تتخذوا بيوتكم مقابر ، لعن الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ، وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني ، حيثما كنتم ، ما أنتم من بالأندلس إلا سواء )) (2).
__________
(1) تقدم .
(2) تقدم .(54/434)
وروى أبو يعلي الموصلي في مسنده عن أبي بكر بن أبي شيبة ، عن زيد بن الحباب ، عن جعفر بن إبراهيم من ولد ذي الجناحين عن علي بن عمر ، عن أبيه ، عن علي بن الحسين أنه رأى رجلاً يجيء إلى فرجة كانت عند قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - فيدخل فيها فيدعوا فنهاه فقال : ألا أحدثكم حديثاً سمعته من أبي عن جدي ، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : (( لا تتخذوا قبري عيداً ، ولا بيوتكم قبوراً فإن تسليمكم يبلغني أينما كنتم )) (1) .
وروى نوح بن يزيد المؤدب عن أبي إسحاق يعني إبراهيم بن سعد قال : ما رأيت أبي قط يأتي قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - وكان يكره إتيانه ، وابو إبراهيم سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف الزهري التابعي أحد الأئمة الأعلام ، وكان قاضي المدينة في زمان التابعين .
قال الإمام أحمد بن حنبل(2) : ولي قضاء المدينة وكان فاضلاً ، وقال يعقوب بن إبراهيم بن سعد(3) : سرد سعد الصوم قبل أن يموت بأربعين سنة وقال حجاج بن محمد : كان شعبة إذا ذكر سعد بن إبراهيم ، قال : حدثني حبيبي سعد بن إبراهيم يصوم الدهر ويختم القرآن في كل يوم وليلة (4).
__________
(1) تقدم .
(2) انظر كلامه في سير الأعلام 5/419 .
(3) انظر السير 5/419 .
(4) انظر السير 5/419 وانظر ترجمته في التاريخ الكبير 4/51 والصغير 1/324 وتاريخ الفسوي 1/411 وتاريخ الطبري 7/227 والجرح والتعديل 4/79 وتهذيب التهذيب 3/463 وشذرات الذهب 1/173 .(54/435)
فهذا سعد بن إبراهيم من سادات أهل المدينة وعلمائهم وقضائهم ، وكان لا يأتي القبر ويكره إتيانه ، وقد قال مالك في المبسوط ، لا بأس لمن قدم من سفر ، أو أخرج إلى سفر أن يقف على قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - فيصلي عليه ويدعو له ولأبي بكر وعمر ، فقيل له : فإن ناساً من أهل المدينة لا يقدمون من سفر ولا يريدونه يفعلون ذلك في اليوم مرة ، أو أكثر ، وربما وقفوا في الجمعة ، أو في الأيام المرة أو المرتين ، أو أكثر عند القبر فيسلمون ويدعون ساعة ، فقال : لم يبلغني هذا عن أحد من أهل الفقه ببلدنا وتركه واسح ، ولا يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها ، ولم يبلغني عن أول هذه الأمة وصدرها أنهم كانوا يفعلون ذلك ، ويكره إلا لمن جاء من سفر أو أراده والله أعلم .
الباب الخامس
في تقرير كون الزيارة قربة وذلك بالكتاب والسنة
والإجماع والقياس
قال المعترض
وأما الكتاب : فقوله تعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ (#ûqكJ
أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ uچxےَّtGَ™$#ur لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا } (النساء 064) دلت الآية على حث على المجيء إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والاستغفار عنده واستغفاره لهم ، وذلك وإن كان ورد في حال الحياة فهي رتبة له - صلى الله عليه وسلم - لا تنقطع بموته تعظيماً له .(54/436)
فإن قلت : المجيء إليه في حال الحياة ليستغفر لهم وبعد الموت ليس كذلك قلت : دلت الآية على تعليق وجدانهم الله تواباً رحيماً بثلاثة أمور : المجيء واستغفارهم واستغفار الرسول ، فأما استغفار الرسول فإنه حاصل لجميع المؤمنين ،لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استغفر للمؤمنين لقوله تعالى : ((واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات )) ولهذا قال عاصم بن سليمان - وهو تابعي - لعبد اله بن سرجس الصحابي : استغفر لك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . فقال : نعم ولك ، ثم تلا هذه الآية . رواه مسلم (1).
فقد ثبت أحد الأمور الثلاثة ، وهو استغفار الرسول - صلى الله عليه وسلم - لكل مؤمن ومؤمنة ، فإذا وجد مجيئهم واستغفارهم تكملت الأمور الثلاثة الموجبة لتوبة الله ورحمته ، وليس في الآية ما يعين أن يكون استغفار الرسول بعد استغفارهم ، بل هي محتملة (2).
والمعنى يقتضي بالنسبة إلى استغفار الرسول أنه سواء تقدم ، أم تأخر ، فإن المقصود إدخالهم بمجيئهم واستغفارهم تحت من يشمله استغفار الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، وإنما يحتاج إلى المعنى المذكور إذا جعلنا استغفر لهم الرسول معطوفاً على فاستغفروا الله أما إن جعلناه معطوفاً على جاءوك لم يحتج إليه ، هذا كله إن سلمنا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يستغفر بعد الموت ، ونحن لا نسلم ذلك لما سنذكره من حياته - صلى الله عليه وسلم - واستغفاره لأمته بعد موته ، جاء مستغفراً ربه تعالى ، فقد ثبت على كل تقدير أن الأمور الثلاثة المذكورة في الآية حاصلة لمن يجيء إليه - صلى الله عليه وسلم - مستعفراً في حياته وبعد مماته .
والآية وإن وردت في أقوام معينين في حالة الحياة فتعم بعموم العلة كل من وجد فيه ذلك الوصف في الحياة وبعد الموت .
__________
(1) أخرجه مسلم 4/1823 - 1824 والترمذي في الشمائل رقم 22 .
(2) في كتاب السبكي ( مجملة ) بدلاً من قوله ( محتمله ) .(54/437)
ولذلك فهم العلماء من الآية العموم في الحالتين ، واستحبوا لمن أتى قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يتلوا هذه الآية ويستغفر الله تعالى ، وحكاية العتبي في ذلك مشهورة وقد حكاها المصنفون في المناسب من جميع المذاهب والمؤرخون وكلهم استحسنوها ورأوها من أدب الزائر ، ومما ينبغي له أن يفعله ، وقد ذكرناها في آخر الباب الثالث ، انتهى ما ذكره .
والجواب : أن يقال : قوله : وهي قربة بالكتاب والسنة والإجماع والقياس ، الكلام عليه من وجوه .
الأول : مطالبته بتصحيح دعواه وإلا كانت مجردة عما يثبتها .
الثاني : أن القربة هي ما يجعله الله ورسوله قربة ، إما بأمره ، وإما باختياره إنها قربة وإما بالثناء على فاعلها ، وإما يجعل الفعل سبباً لثواب يتعلق عليه ، أو تكفير سيئات ، أو غير ذلك من الوجوه التي يستدل بها على كون الفعل محبوباً لله مقرباً إليه .
الثالث : إنه لا يكفي مجرد كون الفعل محبوباً له في كونه قربة ، وإنما يكون قربة إذا لم يستلزم أمراً مبغوضاً مكروهاً له ، أو تفويت أمر هو أحب إليه من ذلك الفعل ، وأما إذا استلزم ذلك فلا يكون قبرة ، وهذا كما أن إعطاء غير المؤلفة قلوبهم من فقراء المسلمين وذوي الحاجات منهم ؛ وإن كان محبوباً لله فإنه لا يكون قربة إذا تضمن فوات ما هو أحب إليه من إعطاء من يحصل بعطيته قوة في الإسلام وأهله ،وإن كان قوياً غنياً غير مستحق .
وكذلك التخلي لنوافل العبادات إنما يكون قربة إذا لم يستلزم تعطيل الجهاد الذي هو أحب إلى الله سبحانه من تلك النوافل ، وحينئذ فلا يكون قربة في تلك الحال ، وإن كان قربة في غيرها .
وكذلك الصلاة في وقت النهي إنما لم تكن قربة لاستلزامها ما يبغضه الله سبحانه ويكرهه من التشبه ظاهراً بأعدائه الذين يسجدون للشمس في ذلك الوقت .
فها هنا أمران يمنعان كون الفعل قربة : استلزمه لأمر بمغوض مكروه وتفويته لمحبوب هو أحب إلى الله من ذلك الفعل .(54/438)
ومن تأمل هذا الموضع أحق التأمل أطلعه على سير الشريعة ومراتب الأعمال وتفاوتها في الحب والبغض والضر والنفع ، بحسب قوة فهمه وإدراكه ومواد توفيق الله له ، بل مبنى الشريعة على هذه القاعدة ، وهي تحصيل خير الخيرين ، وتفويت أدناهما وتعطيل شر الشرين باحتمال أدناهما ، بل مصالح الدنيا كلها قائمة على هذا الأصل .
وتأمل نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - أولاً عن زيارة القبور سداً للذريعة الشرك ، وإن فاتت مصلحة الزيارة ، ثم لما استقر التوحيد في قلوبهم وتمكن منها غاية التمكن إذن في القدر النافع من الزيارة ، وحرم ما هو داع إلى غيره ، فحرم اتخاذ المساجد عليها وإيقاد السرج عليها والصلاة إليها فحرم جعلها قبلة ومسجداً ، ونهى عن اتخاذ قبره الكريم عيداً وسأل ربه تعالى أن لا يجعل قبره وثناً يعبد ، وقد استجاب له ربه تعالى بأن حال يبين قبره وبين المشركين بما لم يبق معه لهم وصول إلى عبادة قبره ، وأمر الأمة بالصلاة عليه حيثما كانوا عقب قوله : (( لا تتخذوا قبري عيداً )) فقال : (( وصلوا علي حيثما كنتم فإن صلاتكم تبلغني )) (1) .
فهو - صلى الله عليه وسلم - أحرص الناس على تحصيل القرب لأمته وقطع أسباب أضدادها عنهم ، وإنما دخل الداخل على من ضعفت بصيرته في الدين ، وكانت بضاعته في العلم مزجاة فلم يتسع صدره للجمع بين الأمرين ، ولم يفطن لارتباط أحدهما بالآخر .
وهذا القدر بعينه هو الذي ضاقت عنه عقول الخوارج ، وقصرت عنه أفهامهم حتى قال له قائلهم في قسمته ، أعدل فإنك لم تعدل(2) ، فإنه لما لحظ مصلحة التسوية ولم يلتفت إلى مصلحة الإيثار ، وما يترتب على فواته من المفاسد قال ما قال ، هؤلاء سلف كل متمعقل متمعلم على ما جاء به الرسول ، بعقله أو رأيه أو قياسه أو ذوقه .
__________
(1) تقدم مراراً .
(2) أخرجه البخاري 10/552 و 12/290 ومسلم 2/470 - 744 وابن ماجة رقم 172 وأحمد 3/56 ، 65 ، 353 ، 355 .(54/439)
والمقصود أن كون الفعل قربة ملحوظة فيه هذان الأمران .
الوجه الرابع : أنه كيف يتقرب إلى الرسول صلوات الله وسلامه عليه بعين ما نهى عنه وحذر منه الأمة بقوله : (( لا تتخذوا قبري عيداً )) (1) ومعلوم أن جعل الزيارة من أفضل القرب مستلزم لجعل القبر من أجل الأعياد ، وهذا ضد ما حذر منه الأمة ونهاهم عنه وهو تقرب إليه بما يسخطه ويبغضه .
الوجه الخامس : الكلام على ما ذكره من الأدلة مفصلاً وبيان عدم دلالته على ما ادعاه وأنه هو وغيره عاجز عن إقامة دليل واحد فضلاً عن الكتاب والسنة والإجماع والقياس .
فأما استدلاله بقوله تعالى : { وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ (#ûqكJn=
أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ } (النساء 064) فالكلام فيها في مقامين .
أحدهما : عدم دلالتها على مطلوبة .
الثاني : بيان دلالتها على نقيضه ، وإنما يتبين الأمران بفهم الآية ، وما أريد بها وسيقت له وما فهمه منها أعلم الأمة بالقرآن ومعانيه ، وهم سلف الأمة ومن سلك سبيلهم ولم يفهم منها أحد من السلف والخلف إلا المجيء إليه في حياته ليستغفر لهم ، وقد ذم تعالى من تخلف عن هذا المجيء إذا ظلم نفسه وأخبر أنه من المنافقين فقال تعالى : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ tbrمژة9ُ3tGَ،-B } (المنافقون 005) وكذلك هذه الآية إنما هي في المنافق الذي رضي بحكم كعب بن الأشرف وغيره من الطواغيت دون حكم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فظلم نفسه بهذا أعظم ظلم، ثم لم يجيء إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليستغفر له ، فإن المجيء إليه ليستغفر له توبة وتنصل من الذنب ، وهذه كانت عادة الصحابة معه - صلى الله عليه وسلم - أن أحدهم متى صدر منه ما يقتضي التوبة جاء إليه فقال : يا رسول الله فعلت كذا وكذا فاستغفر لي وكان هذا فرقاً بينهم وبين المنافقين .
__________
(1) تقدم .(54/440)
فلما استأثر الله عز وجل بنبيه - صلى الله عليه وسلم - ونقله من بين أظهرهم إلى دار كرامته لم يكن أحد منهم قط يأتي إلى قبره ويقول يا رسول الله فعلت كذا وكذا فاستغفر لي ، ومن نقل هذا عن أجد منهم فقد جاهر بالكذب والبهت ، وافترى على الصحابة والتابعين وهم خير القرون على الإطلاق هذا الواجب الذي ذم الله سبحانه من تخلف عنه وجعل التخلف عنه من أمارات النفاق ، ووفق له لمن لا توبة له من الناس ولا يعد في أهل العلم ، وكيف أغفل هذا الأمر أئمة الإسلام وهداة الأنام من أهل الحديث والفقه والتفسير ومن لهم لسان صدق في الأمة فلم يدعوا إليه ولم يحضوا عليه ولم يرشدوا إليه ولم يفعله أحد منهم البتة ، بل المنقول الثابت عنهم ما قد عرف مما يسود الغلاة فيما يكرهه وينهي عنه من الغلو والشرك الجفاة عما يحبه ويأمر به من التوحيد والعبودية .
ولما كان هذا المنقول شيخاً في حلوق البغاة وقذى في عيونهم ، وريبة في قلوبه قابلوه بالتكذيب ، والطعن في الناقل ، ومن استحيي منهم من أهل العلم بالآثار قابله بالتحريف والتبديل ، ويأتي الله إلا أن يعلي منار الحق ، ويظهر أدلته ليهتدي المسترشد وتقوم الحجة على المعاندة فيعلي الله بالحق من يشاء ، ويضع برده ويطرده وعغمص أهله من يشاء .
وبالله العجب أكان ظلم الأمة لأنفسها ونبيها حي بين أظهرها موجود ، وقد دعيت فيه إلى المجيء إليه ليستغفر لها وذم من تخلف عن هذا المجيء ، فلما توفي - صلى الله عليه وسلم - ارتفع ظلمها لأنفسها بحيث لا يحتاج أحد منهم إلى المجيء إليه ليستغفر له ؟ وهذا يبين أن هذا التأويل الذي تأول عليه المعترض هذه الآية تأويل باطل قطعاً ، ولو كان حقاً لسبقونا إليه علماً وعملاً وإرشاداً ونصيحة .(54/441)
ولا يجوز إحداث تأويل في آية أو سنة لم يكن على عهد السلف ولا عرفوه ولا بينوه للأمة ، فإن هذا يتضمن أنهم جهلوا الحق في هذا وضلوا عنه ، واهتدى إليه هذا المعترض المستأخر ، فكيف إذا كان التأويل يخالف تأويلهم ويناقضه ، وبطلان هذا التأويل أظهر من أن يطنب في رده ، وإنما ننبه عليه بعض التنبيه .
ومما يدل على بطلان تأويله قطعاً أنه لا يشك مسلم أن من دعي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حياته ، وقد ظلم نفسه ليستغفر له فأعرض عن المجيء ، واباه مع قدرته عليه كان مذموماً غاية الذم مغموصاً بالنفاق ، ولا كذلك من دعى إلى قبره ليستغفر له ، ومن سوى بين الأمرين وبين المدعويين وبين الدعوتين ، فقد جاهر بالباطل ، وقال على الله وكلامه ورسوله وأمناء دينه غير الحق .
وأما دلالة الآية على خلاف تأويله فهو أنه سبحانه صدرها بقوله : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ (#ûqكJn=Oك أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ } (النساء 064) وهذا يدل على أن مجيئهم إليه ليستغفر لهم إذ ظلموا أنفسهم طاعة له ، ولهذا ذم من تخلف عن هذه الطاعة ، ولم يقل مسلم أن علي من ظلم نفسه بعد موته أن يذهب إلى قبره ويسأله أن يستغفر له ، ولو كان هذا طاعة له لكان خير القرون قد عصوا هذه الطاعة وعطلوها ووفق لها هؤلاء الغلاة العصاة وهذا بخلاف قوله : { فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ 4س®Lxm يُحَكِّمُوكَ فِيمَا uچyfx© َOكgsY÷ t/ } (النساء 065) فإنه نفى الإيمان عمن لم يحكمه وتحكيمه هو تحكيم ما جاء به حياً أو ميتاً ففي حياته كان هو الحاكم بينهم بالوحي ، وبعد وفاته نوابه وخلفاؤه ، يوضح ذلك أنه قال : (( لا تجعلوا قبري عيداً )) ولو كان يشرع لكل مذنب أن يأتي إلى قبره ليستغفر له ، لكان القبر أعظم أعياد المذنبين ، وهذه مضادة صريحة لدينه وما جاء به .
فصل(54/442)
والمعترض قرر هذا التأويل على تقدير حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - وموته ، وقد تبين بطلانه ولو قدر أنه - صلى الله عليه وسلم - حي في قبره مع أن هذا التأويل الباطل إنما يتم به وقوله : (( إن من شفقته - صلى الله عليه وسلم - على أمته أنه لا يترك الاستغفار لمن جاء من أمته )) ، فهذا من أبين الأدلة على بطلان هذا التأويل ، فإن هذا لو كان مشروعاً بعد موته لأمر به أمته وحضهم عليه ورغبهم فيه ، ولكان الصحابة وتابعوهم بإحسان أرغب شيء فيه وأسبق إليه ، ولم ينقل عن أجد منهم قط وهم القدوة بنوع من أنواع الأسانيد أنه جاء إلى قبره ليستغفر له ، ولا شكى إليه ولا سأله والذي صح عنه من الصحابة مجيء القبر هو ابن عمر وحده ، إنما كان يجيء للتسليم عليه - صلى الله عليه وسلم - وعلى صاحبيه عند قدومه من سفر ، ولم يكن يزيد عل التسليم شيئاً البتة ، ومع هذا فقد قال عبيد الله بن عمر العمري الذي هو أجل أصحاب نافع مولى ابن عمر ، أو من أجلهم ، لا نعلم أحداً من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - فعل ذلك إلا ابن عمر .
ومعلوم أنه لا هدي أكمل من هدي الصحابة ، ولا تعظيم للرسول فوق تعظيمهم ولا معرفة لقدره فوق معرفتهم ، فمن خالفهم إما أن يكون أهدى منهم ، أو مرتكباً لنوع بدعة ، كما قال عبد الله بن مسعود لقوم قد رآهم اجتمعو على ذكر يقولنه بينهم : لأنتم أهدى من أصحاب محمد ، أو أنتم على شعبه ضلالة(1) .
فتبين أنه لو كان استغفاره لمن جاءه مستغفراً بعد موته ممكناً ، أو مشروعاً لكان كما شفقته ورحمته ، بل رافقه مرسله ورحمته بالأمة يقتضي ترغيبهم في ذلك وحضهم عليه ومبادرة خير القرون إليه .
__________
(1) انظر البدع لابن وضاح ص11 فما بعدها .(54/443)
وأما قول المعترض : وأما الآية(1) وإن وردت في أقوام معينين في حال الحياة فإنها تعم بعموم العلة فحق فإنها تعم ما وردت فيه ، وكان مثله عامة في حق كل من ظلم نفسه وجاءه كذلك ، وأما دلالتها على المجيء إليه في قبره بعد موته فقد عرف بطلانه ، وقوله : وكذلك فهم العلماء من الآية العموم في الحالتين ، فيقال له : من فهم هذا من سلف الأمة وأئمة الإسلام ، فاذكر لنا عن رجل واحد من الصحابة أو التابعين ، أو تابعي التابعين أو الأئمة الأربعة ، أو غيرهم من الأئمة وأهل الحديث والتفسير أنه فهم العوم بالمعنى الذي ذكرته ، أو عمل به أو أرشد إليه ، فدعواك على العلماء بطريق العموم هذا الفهم دعوي باطله ظاهره البطلان .
وأما حكاية العتبي الذي أشر إليها فإنها حكاية ذكرها بعض الفقهاء والمحدثين وليست بصحيحة ولا ثابتة إلى العتبي ، وقد رويت عن غيره بإسناد مظلم كم بينا ذلك فيما تقدم ، وهي في الجملة حكاية لا يثبت بها حكم شرعي لا سيما في مثل هذا الأمر الذي لو كان مشروعاً مندوباً ، لكان الصحابة والتابعون أعلم به وأعمل به من غيرهم وبالله التوفيق .
فإن قيل : فقد روى أبو الحسن علي بن إبراهيم بن عبد الله بن عبد الرحمن الكرخي عن علي بن محمد بن علي ، حدثنا أحمد بن محمد بن الهيثم الطائي ، قال : حدثني أبي عن أبيه عن سلمة بن كهيل عن أبي صادق عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال قدم علينا أعرابي بعدما دفنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بثلاثة أيام فرمى بنفسه إلى قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وحثى على رأسه من ترابه ، وقال : يا رسول الله قلت فسمعنا قولك ، وعينا عن الله عز وجل فما وعينا عنك ، وكان فيما انزل الله عز وجل عليك : وقد ظلمت نفسي وجئتك تستغفر لي فنودي من القرب أنه قد غفر لك .
__________
(1) في كتاب السبكي ( والآية ) بدلاً من قوله ( وأما الآية ) .(54/444)
والجواب أن هذا خبر منكر موضوع وأثر مختلق مصنوع لا يصح الاعتماد عليه ، ولا يحسن المصير إليه ، وإسناده ظلمات بعضها فوق بعض ، والهيثم جد أحمد بن الهيثم أظنه ابن عدي الطائي ، فإن يكن هو ، فهو متروك كذاب ، وإلا فهو مجهول ،وقد ولد الهيثم بن عدي بالكوفة ، ونشأ وأدرك زمان سلمة بن كهيل فيما قيل ، ثم أنتقل إلى بغداد فسكنها .
قال عباس الدوري(1) : سمعت يحيى بن معين يقول : الهيثم بن عدي كوفي ليس بثقة كان يكذب ، وقال المجلي وأبو داود(2) كذاب ، وقال أبو حاتم الرازي(3) والنسائي(4) والدولابي(5) والأزدي (6): متروك الحديث ، وقال البخاري(7) : سكنوا عنه أي تركوه ، وقال ابن عدي(8) ، ما أقل ماله من المسند ، وإنما هو صاحب أخبار وأسماء ونسب وأشعار ، وقال ابن حبان (9): كان من علماء الناس بالسير ، وأيام الناس ، وأخبار العرب إلا أنه روى عن الثقات أشياء كأنها موضوعات يسبق إلى القلب أنه كان يدلسها .
وقال الحاكم أبو أحمد : ذاهب الحديث ، وقال الحاكم أبو عبد الله الهيثم بن عدي الطائي في علمه ومحله حديث عن جماعة من الثقات أحاديث منكرة ، وقال العباس بن محمد(10) ، سمعت بعض أصحابنا يقول : قالت جارية الهيثم : كان مولاي يقوم عامة الليل يصلي ، فإذا أصبح جلس يكذب .
قال المعترض
__________
(1) ص 245 .
(2) انظر كتاب التاريخ لابن معين رقم 1767 .
(3) انظر الميزان 4/324 .
(4) الجرح والتعديل 9/85 .
(5) انظر الضعفاء والمتروكين ص241 رقم 637 .
(6) انظر الكامل لابن عدي 7/2563 .
(7) انظر التاريخ الكبير 8/218 والصغير 117 .
(8) انظر الكامل 7/2563
(9) انظر المجروحين 3/92 ، وانظر أيضاً المغني 2/717 ، ولسان الميزان 6/209 والضعفاء للعقيلي 4/252 وتاريخ بغداد 14/53 .
(10) انظر تاريخ ابن معين رقم 1768 .(54/445)
وأما السنة فما ذكرناه في الباب الأول والثاني من الأحاديث ،وهي أدلة على زيارة قبره - صلى الله عليه وسلم - بخصوصه ، وفي السنة الصحية المتفق عليها الأمر بزيارة القبور وقال - صلى الله عليه وسلم - (( كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزروها )) (1) وقال - صلى الله عليه وسلم - (( زوروا القبور فإنها تذكركم الآخرة)) .
وقال الحافظ أبو موسى الأصبهاني في كتابه آداب زيارة القبور : ورد الأمر بزيارة القبور من حديث بريدة وأنس وعلي وابن عباس ، وابن مسعود وأبي هريرة وعائشة وأبي بن كعب ، وأبي ذر رضي الله عنههم ، انتهى كلام أبي موسى الأصبهاني ، فقبر النبي - صلى الله عليه وسلم - سيد القبور داخل في عموم القبور المأمور بزيارتها ، انتهى ما ذكره المعترض .
وقد تقدم الكلام على ذكره من الأحاديث مستوفى وبين أن الزيارة المتضمنة ترك مأمور ، أو فعل محظور ليست بمشروعه ، وقد قال شيخ الإسلام في أثناء كلامه في الجواب الباهر لمن سأل من ولاة الأمر عما أفتى به في زيارة المقابر ، وقد تنازع المسلمون في زيارة القبور فقال طائفة من السلف : إن ذلك كله منهي عنه لم ينسخ ، فإن أحاديث النسخ لم يروها البخاري ، ولم تشتهر ، ولما ذكر البخاري باب زيارة القبور احتج بحديث المرأة التي بكت على القبر .
__________
(1) تقدم .(54/446)
ونقل ابن بطال عن الشعبي قال : لولا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن زيارة القبور لزرت قبر ابنتي(1) ، وقال النخعي كانوا يكرهون زيارة القبور ، وعن ابن سيرين مثله قال ابن بطال : وقد سئل مالك عن زيارة القبور ، فقال : قد كان نهي عنه عليه السلام ، أذن فلو فعل ذلك إنسان ولم يقل إلا خيراً لما بذلك بأساً ، من عمل الناس ، وروي عنه أنه كان يضعف زيارتها وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد نهى أولاً عن زيارة القبور ، باتفاق العلماء ، فقيل : لأن ذلك يقضي إلى الشرك ،وقيل لأجل الناحية عندها ، وقيل : لأنهم كانوا يتفاخرون بها ، وقد ذكر طائفة من العلماء في قوله : { أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1) 4س®Lxm زُرْتُمُ uچخ/$s)yJّ9$# } (التكاثر 001-002) أنهم كانوا يتكاثرون بقبور الموتى ، وممن ذكره ابن عطية في تفسيره قال : وهذا ت|أنيب على الإكثار من زيارة القبور ، أي حتى جعلتم أشغالكم القاطعة لكم العبادة والعلم زيارة القبور تكثراً بمن سلف وإشادة بذكره ، ثم قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : (( كنت قد نهيتكم عن زيارة القبور فزروها ولا تقولوا هجراً )) (2) فكان نهيه عن معنى الآية ، ثم أباح الزيارة بعد لمعنى اتعاظ لا لمعنى المباهاة والتفاخر وتسنيمها بالحجارة الرخام وتلوينها سرفاً وبنيان النواويس عليها ، هذا لفظ ابن عطية .
__________
(1) سيأتي هو وأثر النخعي بإسناديهما إن شاء الله .
(2) تقدم .(54/447)
والمقصود أن العلماء متفقون على أنه كان نهي عن زيارة البور ،ونهي عن الانتباذ في الدباء والحنتم والمزفت والنقير ، واختلفوا هل نسخ ذلك ، فقالت طائفة : لم ينسخ ذلك لأن أحاديث النسخ ليست مشهورة ولهذا لم يخرج البخاري ما فيه نسخ عام ، وقال الأكثرون ، بل نسخ ذلك ، ثم قالت طائفة منهم : إنما نسخ إلى الإباحة فزيارة القبور مباحة لا مستحبة ، وهذا قول في مذهب مالك وأحمد وقالوا : لأن صيغة افعل بعد الحظر ، إنما تفيد الإباحة ، كما قال في الحديث ، (( كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزروها وكنت نهيتكم عن الانتباذ في الأوعية فانتبذوا ولا تشربوا مسكراً)) (1).
وقد روى ولا تقولوا هجراً وهذا يدل على أن النهي كان لما يقال عندها من الأقوال المنكرة سداً للذريعة كالنهي عن الانتباذ في الأوعية كان لأن الشدة المطربة تذب فيها ولا يدري بذلك فيشرب الشارب الخمر وهو لا يدري .
__________
(1) انظر صحيح مسلم 3/1584 - 1585 .(54/448)
وقال الأكثرون : زيارة قبور المؤمنين مستحبة للدعاء للموتى مع السلام عليهم ، كما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يخرج إلى البقيع فيدعو لهم ، وكما ثبت عنه في الصحيحين أنه خرج إلى شهداء أحد فصلى عليهم صلاته على الموتى كالمودع للأحياء والأموات(1) ، وثبت في الصحيحين أنه كان يعلم أصحابه إذا زاروا القبور أن يقولوا السلام عليكم أهل دار قوم مؤمنين ، وإنا إن شاء الله بكم لا حقون ، يرحم الله المستقدمين منا ومنكم والمستأخرين نسأل الله لنا ولكن العافية ، اللهم لا تحرمنا أجرهم ، ولا تفتنا بعدهم ، واغفر لنا ولهم (2)، وهذا في زيارة قبور المؤمنين ، وأما زيارة قبر الكافر فرخص فيه لأجل تذكار الآخرة ، ولا يجوز الاستغفار لهم ، وقد ثبت في الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه زار قبر أمه فبكى وأبكى من حوله ، وقال : (( استأذنت ربي في أن أزور فبرها فأذن لي واستأذنته في أن أستغفر لها فلم يأذن لي فزوروا القبور فإنها تذكركم الآخرة (3).
__________
(1) أخرجه البخاري 3/209 رقم 1344 وانظره برقم 3596 ، 4042 ، 4085 ، 6426 ، 6590 ومسلم 4/1795 ، 1796 وأبو داود 3/551 رقم 3223 و 3224 والنسائي 4/61 رقم 1954 جميعاً من حديث عقبة بن عامر .
(2) تقدم ، وانظر صحيح مسلم 1/218 و 2/69 ، 670 ، +671 .
(3) تقدم تخريجه .(54/449)
والعلماء المتنازعون كل منهم يحتج بدليل شرعي ،ويكون عند بعضهم من العلم ما ليس عند الآخر، فإن العلماء ورثة الأنبياء ، قال الله تعالى : { وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي د^ِچutù:$# إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ مNsYxî الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (78) $yg"sYôJ£gxےsù سُلَيْمَانَ وَكُلًّا $sY÷ s?#uن حُكْمًا وَعِلْمًا } (الأنبياء 078-079) والأقوال الثلاثة صحيحة باعتبار ، فإن الزيارة إذا تضمنت أمراً محرماً من شرك ،أو كذب ، أو ندب ، أو نياحة ، وقول هجر ، فهي محرمة بالإجماع كزيارة المشركين بالله والساخطين لحكم الله ، وفإن هؤلاء زيارتهم محرمة ، فإن لا يقبل دين إلا الإسلام وهو الاستسلام لخلقه ، وأمره ، فنسلم لما قدره الله وقضاه ، ونسلم لما يأمر به ويحبه ، وهذا نفعله وندعو إليه وذلك نسلمه ونتوكل فيه عليه ، فنرضى بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد نبياً ،و نقول في صلاتنا ( إياك نعبد وإياك نستعين ) مثل قوله ( فأعبده وتوكل عليه ) وقوله : { وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ دo4qn=¢ء9$#ur $pk®Xخ)ur لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى tûüدèد±"sƒù:$# } (البقرة 045) { وَأَقِمِ الصَّلَاةَ ا'nûuچsغ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ دM"uZ|،utù:$# يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ y7د9¨sŒ 3"uچّ.دŒ ڑْïحچد.¨©%#د9 (114) ِژة9ô¹$#ur فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ uچô_r& الْمُحْسِنِينَ } (هود 114-115)(54/450)
والنوع الثاني : زيارة القبور لمجرد الحزن على الميت لقرابته ، أو صداقته فهذه مباحة كما يباح البكاء على الميت بلا ندب ، ولا نياحة ، كما زار النبي - صلى الله عليه وسلم -قبر أمه فبكى وأبكى من حوله ، وقال : (( زوروا القبور فإنها تذكركم الآخرة )) فهذه الزيارة كان ينهي عنها لما كانوا يصنعون من المنكر ، فلما عرفوا الإسلام أذن فيها لأن فيها مصلحة وهو تذكر الموت ، فكثير من الناس إذا رأى قريبة وهو مقبور ذكر الموت واستعد للآخرة وقد يحصل منه جزع فيتعارض الأمران ، ونفس الجنس مباح أن قصد به طاعة كان طاعة وإن عمل معصية كامن ومعصية .
وأما النوع الثالث : فهو زيارتها للدعاء لها كالصلاة على الجنازة ، فهذا هو المستحب الذي دلت السنة على استحبابه ، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - فعله ، وكان يعلم أصحابه ما يقولون إذا زاروا القبور ، وأما زيارة قباء فيستحب لمن أتى المدينة أن يأتي قباء فيصلي فيه مسجدها ، وكذلك يستحب له عند الجمهور أن يأتي البقيع وشهداء أحد ، كما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يفعل ، فزيارة القبور للدعاء للميت من جنس الصلاة على الجنائز يقصد فيها الدعاء لهم ، لا يقصد فيها أن يدعو مخلوقاً من دون الله ، ولا يجوز أن تتخذ مساجد ، ولا تقصد لكون الدعاء عندها أو بها أفضل من الدعاء في المساجد والبيوت والصة على الجنائز أفضل باتفاق المسلمين من الدعاء للموتى ، عند قبورهم ، وهذا مشروع ، بلهو فرض على الكفاية متواتر متفق عليه بين المسلمين .(54/451)
ولو جاء إنسان إلى سرير الميت يدعوه من دعوه من دون الله ويستغيث به ، كان هذا شركاً محرماً بإجماع المسلمين ، ولو ندبه وناح لكان أيضاً محرماً ، وهو دون الأول ، فمن احتج بزيارة النبي - صلى الله عليه وسلم - لأهل البقيع وأهل أحد ، على الزيارة التي يفعلها أهل الشرك وأهل النياحة ، فهو أعظم ضلالاً ممن يحتج بصلاته على الجنازة، على أنه يجوز أن يشرك بالميت ويدعي من دون الله ويندب ويناح عليه ، كما يفعل ذلك من يستدل بهذا اذلي فعله الرسول وهو عبادة الله وطاعة له يثاب عليه الفاعل ، وينتفع المدعو له ويرضى به الرب على أنه يجوز أن يفعل ما هو شرك بالله وإيذاء الميت وظلم من العبد لنفسه ، كزيارة المشركين وأهل الجزع لا يخلصون لله الذين ، ولا يسلمون لما حكم به سبحانه وتعالى .
فكل زيادة تتضمن فعل ما نهى عنه وترك ما أمر به كالتي تتضمن الجزع وقول الهجرة ، وترك الصبر ، أو تتضمن الشرك أو دعاء وترك إخلاص الدين لله فهي منهي عنها ، وهذه الثانية أعظم إثماً من الأولى ، ولا يجوز أن يصلي إليها ، بل ولا عندها ، بل ذلك مما نهى عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : (( لا تصلوا إلى القبور ولا تجلسوا عليها )) رواه مسلم في صحيحه(1) .
فزيارة القبور على وجهين : وجه نهى عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واتفق العلماء على أنه غير مشروع ، وهو أن يتخذها مساجد ويتخذها وثناً ويتخذها عيداً فلا يجوز أن تقصد للصلاة الشرعية ، ولا أن تعبد كما تعبد الأوثان ، ولا أن تتخذ عيداً يجتمع إليها في وقت معين ، كما يجتمع المسلمون في عرفة ومنى .
وأما الزيارة الشرعية فهي مستحبة عند الأكثرين ، وقيل :كلها منهي عنها كما تقدم والذي تدل عليه الأدلة الشرعية أن يحمل المطلق من كلام العلماء على المقيد .
__________
(1) رواه مسلم 2/68 وقد تقدم أيضاً .(54/452)
وتفصيل الزيارة على ثلاثة أنواع : منهي عنه ،ومباح ، ومستحب ،وهو الصواب قال مالك وغيره : لا تأت إلا هذه الآثار ، مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - ومسجد قباء ، وأهل البقيع ، وأحد فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يقصد إلا هذين المسجدين وهاتيتن المقبرتين ، كان يصلي يوم الجمعة في مسجده ،ويوم السبت يذهب إلى قباء كما في الصحيحين عن ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يأتي قباء كل سبت راكباً وماشياً ، فيصلي فيه ركعتين(1).
وأما أحاديث النهي فكثيرة ومشهورة في الصحيحين وغيرهما : كقوله - صلى الله عليه وسلم - : ((لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد )) (2) ثم ذكر الأحاديث الواردة في ذلك ، وقد سبق ذكرها غير مرة ، ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه ابن مسعود : (( إن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء والذين يتخذون القبور مساجد )) (3) ، ورواه الإمام أحمد في مسنده ، وأبو حاتم في صحيحه ، وفي سنن أبي داود عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : (( لا تتخذوا قبري عيداً وصلوا علي حيثما كنتم فإن صلاتكم تبلغني )) (4) ، وفي موطأ مالك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : (( اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد ، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد )) (5) .
__________
(1) تقدم تخريجه .
(2) تقدم تخريجه .
(3) تقدم تخريجه ,
(4) تقدم تخريجه
(5) تقدم(54/453)
ثم ذكر الأثر المشهور في سنن سعيد بن منصور ، وقال(1) : فلما أراد الأئمة اتباع سننه في زيارة قبره والسلام طلبوا ما يعتمدون عليه من سننه ، فاعتمد الإمام أحمد على الحديث الذي في السنن عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : (( ما من رجل يسلم على إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام )) (2) ، وعنه أخذ أبو داود ذلك ، فلم يذكر في زيارة قبره غير هذا الحديث ، وترجم عليه ( باب زيارة القبر ) مع أن دلالة الحديث على المقصود فيها نزاع وتفصيل ، فإنه لا يدل على كل ما يسميه الناس زيارة باتفاق المسلمين .
ويبقى الكلام المذكور فيه ، هل هو السلام عند القبر ، كما كان من دخل عليه عائشة يسلم عليه ، أو يتبادل هذا والسلام عليه من خارج الجرة ، فاذلين استدلوا به جعلوه متناولاً لهذا ، وهذا هوغاية ما كان عندهم في هذا الباب عنه - صلى الله عليه وسلم - وهو - صلى الله عليه وسلم - يسمع السلام من القرب ، وتبلغه الملائكة عن أمتي السلام )) (3) ، وفي السنن عن أوس بن أوس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : (( وأكثروا علي من الصلاة يوم الجمعة وليلة الجمعة ، فإن صلاتكم معروضة علي ، قالوا كيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت فقال : (( إن الله حرم على الأرض أن تأكل لحوم الأنبياء )) صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليماً (4).
__________
(1) انظر الجواب الباهر ص49-50 .
(2) تقدم .
(3) تقدم تخريجه .
(4) تقدم تخريجه(54/454)
وذكر مالك في موطئه أن عبد الله بن عمر كان يأتي فيقول : السلام عليك يا رسول الله السلام عليك يا أبا بكر ، السلام عليك يا أبت(1) ، ثم ينصرف ، وفي رواية كان إذا قدم من سفر ، وعلى هذا اعتمد مالك رحمه الله فيما يفعل عند الحجرة إذ لم يكن عنده إلا أثر ابن عمر ، وأما ما زاد على ذلك مثل الوقوف للدعاء للنبي - صلى الله عليه وسلم - ، ومع كثرة الصلاة والسلام عليه ، فقد كره مالك ،وذكر أنه بدعة لم يفعلها السلف ولا يصلح آخر هذه الأمة ، إلا ما أصلح أولها والله تعالى أعلم .
قال المعترض
وأما الإجماع فقد حكاه القاضي عياض على ما سبق في الباب الرابع ، وأعلم أن العلماء مجمعون على أن يستحب للرجال زيارة القبور ، بل قال بعض الظاهرية بوجوبها للحديث المذكور ، ومن حكى إجمال المسلمين على الاستحباب أبو زكريا النووي وقد رأيت في مصنف ابن أبي شيبة عن الشعبي ، قال : لولا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن زيارة القبور لزرت قبر ابنتي ، وهذا إن صح يحمل مع أن الشعبي لم يبلغ الناسخ من أن الشعبي لم يصرح بقول له ومثل هذا لا يقدح ، وكذلك رأيت فيه عن إبراهيم قال : كانون يكرهون زيارة القبور ، وهذا لم يثبت عندنا ولم يبين إبراهيم الكراهة عمن ولا كيف هي .
فقد تكون محمولة على نوع من الزيارة مكروة ، ولم أجد شيئاً يمكن أن يتعلق به الخصم غير هذين الأثرين ومثلهما لا يعارض الأحاديث الصريحة والسنن المستفيضة والمعلومة من سير الصحابة والتابعين ومن بعدهم ، بل لو صح عن الشعبي والنخي التصريح بالكراهة ، لكان ذلك من الأقوال الشاذة التي لا يجوز اتباعها والتعويل عليها . انتهى كلامه .
__________
(1) تقدم تخريجه وهو صحيح .(54/455)
والجواب : من وجوه ؛ أحدها : أن يقال شيخ الإسلام لم يذهب إلى ما نقل عن الشعبي والنخعي في هذا الباب ولم يقل أن زيارة القبور محرمة ، ولا مكروهة ،بل ذكر أنها على أنواع كما تقدم ذكره قريباً ، وقال : إن زيارة قبور المؤمنين مستحبة للدعاء للموتى مع السلام عليهم ، فقول المعترض : ولم أجد شيئاً يمكن أن يتعلق به الخصم غير هذين الأثرين ، كلام في نهاية السقوط .
الوجه الثاني : وهذا لم يثبت عندنا فيما رواه ابن أبي شيبة عن إبراهيم النخعي كلام ساقط أيضاً ، وذلك أن هذا الأثر المذكور عن إبراهيم ، رواه عن منصور بن المعتمر وهو من أثبت الناس في إبراهيم أو أثبتهم ورواه عن منصور سفيان الثوري وهو أثبت الناس فيه بلا خلاف ، ورواه عن الثوري عبد الرزاق وغيره ، فقول المعترض : (( هذا لم يثبت عندنا )) بعد إطلاعه على إسناده ووقوفه عليه يقيناً يدل على أنه في غاية الجهالة ، وفي نهاية العناد واتباع الهوى ، وقد علم المبتدئون في هذا العلم القاصرون فيه أن ما رواه سفيان الثوري ، عن منصور بن المعتمر عن إبراهيم النخعي من أثبت الروايات وأصح الأسانيد ، بل أصح أسانيد أهل الكوفة على الإطلاق الثوري عن منصور عن إبراهيم ، فإذا قال القائل فيما نقل بهذا الإسناد ، وهذا لم يثبت عندنا دل على فرط جهله ، وعمى بصيرته أو على شدة معاندته ومتابعته هواه نسأل الله التوفيق .(54/456)
الوجه الثالث : أنه ليس في المسألة إجماع لتحقيق ثبوت الخلاف فيها عن بعض المجتهدين ، وإن كان قوله ضعيفاً من حيث الدليل ، قال شيخ الإسلام في أثناء كلامه (1)، مع أن نفس زيارة القبور مختلف في جوازها قال ابن بطال في شرح البخاري : كره قوم زيارة القبور ، لأنه روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أحاديث في النهي عنها وقال الشعبي : لولا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن زيارة القبور لزرت قبر ابنتي ، وقال إبراهيم النخعي : كانوا يكرهون زيارة القبور ، وعن أبن سيرين مثله ، قال : وفي مجموعة قال علي بن زياد : سئل مالك عن زيارة القبور ، فقال: كان قد نهى عنه عليه الصلاة والسلام ثم أذن فيه ، فلو فعل ذلك إنسان ،ولم يقل إلا خيراً لم أر بذلك بأساً وليس من عمل الناس ، وروي عنه أنه كان يضعف زيارتها .
فهذا قول طائفة من السلف ، ومالك في القول الذي رخص فيها يقول : ليس من عمل الناس ، وفي الآخر ضعفها ، فلم يستحبها إلا في هذا ، ولا في هذا انتهى ما حكاه الشيخ .
وما رواه ابن |أبي شيبة في مصنفه(2) عن الشعبي قد رواه عبد الرزاق في مصنفه أيضاً عنه ، فروى الثوري ، عن مجالد بن سعيد(3)
__________
(1) انظر الرد على الأخنائي ص77 .
(2) انظر المصنف 3/569 باب زيارة القبور .
(3) قال فيه البخاري : كان يحيى بن سعيد يضعفه وكان ابن مهدي لا يروي عنه وكان أحمد بن حنبل لا يراه شيئاً ، وقال ابن المديني قلت ليحيى بن سعيد مجالد قال في نفسي منه شيء وقال أحمد بن سنان القطان سمعت ابن مهدي يقول : حديث مجالد عند الأحداث أبي أسامة وغيره : ليس بشيء ..يعني أنه تغير حفظه في آخر عمره .
وقال أبو طالب عن أحمد :ليس بشيء يرفع حديثاً كثيراً لا يرفعه الناس وقد احتمله الناس وقال الدوري عن ابن معين : لا يحتج بحديثه وقال ابن أبي خثيمة عن ابن معين : ضعيف واهي الحديث .
كان يحيى بن سعيد يقول لو أردت أن يرفع لي مجالد حديثه كله رفعه ، قلت ولو يرفعه قال للضعف وقال ابن أبي حاتم سئل أبي يحتج بمجالد قال : لا وهو أحب إلي من بشر بن حرب وأبي هارون العبدي وشهر بن حوشب وعيسى الخياط ودجاود الأودي وليس مجالد بقوي في الحديث .
وقال النسائي : ليس بالقوي ووثقه مرة وقال ابن عدي له عن الشعبي عن جابر أحاديث صالحة وعن غير جابر وعامة ما يروه غير محفوظ ، وقال عمرو بن علي وغيره مات سنة أربع وأربعين ومائة في ذي الحجة حديثه عند مسلم مقرون قلت : وقال يعقوب بن سفيان تكلم الناس فيه وهو صدوق وقال الدارقطني يزيد بن أبي زياد أرجح منه ومجالد لا يعتبر به وقال الساحي قال محمد بن المثنى يحتمل حديثه أصدقه ، وقال ابن سعد كان ضعيفاً في الحديث وقال العجيلي جائز الحديث إلا أن ابن المهدي كان يقول أشعث بن سوار كان أقرأ منه قال المجلي بن مجالد أرفع من أشعث وكان يحيى بن سعيد يقول : كان مجالد يلقن في الحديث إذا لقن وقال البخاري صدوق وقال ابن حبان لا يجوز الاحتجاج به وقال الذهبي أورد البخاري في كتاب الضعفاء في ترجمة مجالد حديثاً من طريق عن الشعبي عن ابن عباس في فضل فاطمة ،وهو موضوع صريح ما كان ينبغي أن يذكر في ترجمة مجالد فإن المتهم به رواة واه عن عبد الله بن نمير والآفة من الراوي المذكور فيه أهـ . من تهذيب التهذيب 10/39-41
انظر التاريخ الكبير للبخاري 8/9 والصغير ص112 والميزان 3/438 والمغني 2/542 والكاشف 3/106 ولسان الميزان 7/349 والجرح والتعديل 8/360 وطبقات ابن سعد 6/349 والضعفاء للعقيلي 4/232 والكامل لابن عدي 6/2414 - 2417 والعبر وشذرات الذهب 1/216 وتاريخ خليفة 420 وطبقاته 16 والكامل في التاريخ 5/512 .(54/457)
، قال : سمعت الشعبي يقول : لولا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن زيارة القبور لزرت قبر ابنتي ، ومجالد من أصحاب الشعبي ، وفيه مقال لبعض أهل العلم من قبل حفظه ، وكان الشعبي سمع النهي عن زيارة القبور ، ولم يبلغه الناسخ ، وروى عبدالرزاق أيضاً عن معمر ، عن قتادة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : (( من زار القبور فليس منا )) (1) وهذا مرسل من مراسيل قتادة وهو منسوخ .
وروى عبد الرزاق (2)، عن الثوري ، عن منصور عن إبراهيم قال : كانوا يكرهون زيارة القبور ، وهذا صحيح ثابت إلى إبراهيم وهو الذي ضعفه المعترض عنه بلا علم ، وكثيراً ما يقول إبراهيم النخعي : كانوا يفعلون كذا ، وكانون يكرهون كذا ، والظاهر أنه يريد بهم شيوخه ، ومن يحمل عنه العلم من أصحاب علي وابن مسعود وغيرهما .
والمقصود أن الإجماع المذكور في هذه المسألة غير محقق ، وإن كان قوله من خالف الجمهور فيها ضعيفاً ، وشيخ الإسلام لم يذهب إلى هذا القول المخالف لقول الجمهور ، وإنما حكاه غيره من أهل العلم والله أعلم .
قال المعترض
__________
(1) انظر مصنف عبد الرزاق 3/569 .
(2) انظر مصنف عبد الرزاق 3/569 وإسناده صحيح .(54/458)
فإنا نقطع ونتحقق من الشريعة بجواز زيارة القبور للرجال وقبر النبي - صلى الله عليه وسلم - داخل في هذا العموم ولكن مقصودنا إثبات الاستحباب له بخصوصه للأدلة الخاصة بخلاف غيره ممن لا يستحب زيارة قبره لخصوصه ، بل لعموم زيارة القبور ، وبين المعنيين فرق لما لا يخفى ، فزيارته - صلى الله عليه وسلم - مطلوبة بالعموم والخصوص بل أقول : إنه لو ثبت خلاف في زيارة قبر غير النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يلزم من ذلك إثبات خلاف في زيارته ، لأن زيارة القبر تعظيم ، وتعظيم النبي - صلى الله عليه وسلم - واجب وأما غيره فليس كذلك ، ولهذا المعنى أقول والله أعلم : أنه لا فرق في زيارته - صلى الله عليه وسلم - بين الرجال والنساء لذلك ولعدم المحذور في خروج النساء إليه ،وأما سائر القبور فمحل الإجماع على استحباب زيارتها للرجال ، وأما النساء ففي زيارتهن للقبور أربعة أوجه في مذهبنا أشهرها ، أنها مكروهة جزم بهالشيخ أبو حامد المحاملي وابن الصباغ والجرجاني ونصر المقدسي ، وابن أبي عصرون وغيرهم .
وقال الرافعي : إن الأأكثرين لم يذكروا سواه ، وقال النووي : قطع به الجمهور وصرح بأنها كراهة تنزيه .
والثاني : أنها لا تجوز قال صاحب المذهب وصاحب البيان .
والثالث : لا تستحب ولا تكره ، بل تباع قاله الروياني .
والرابع : إن كانت لتجديد الحزن والبكاء بالتعديد والنوح على ما جرت به عادتهم فهو حرام ، وعليه يحمل الخبر ، وإن كانت للاعتبار بغير تعديد ولا نياحة كره إلا أن تكون عجوزاً لا تشتهي فلا يكره كحضور الجماعة في المساجد ، قاله الشاشي ، وفرق بين الرجل والمرأة بأن الرجل معه من الضبط والقوة بحيث لا يبكي ولا يجزع بخلاف المرأة .(54/459)
واحتج المانعون بقوله - صلى الله عليه وسلم - : (( لعن زوارات القبور )) (1) رواه الترمذي من حديث أبي هريرة ، وقال : حسن صحيح ، ورواه ابن ماجه من حديث حسان بن ثابت .
واحتج المجوزون بأحاديث منها قوله - صلى الله عليه وسلم - : (( كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزروها )) وأجاب المانعون بأن هذا خطاب الذكور ، ومنها قوله - صلى الله عليه وسلم - للمرأة التي رآها عند قبر تبكي : (( اتقي الله واصبري ولم ينهها عن الزيارة )) (2) وهو استدلال صحيح ، ومنه قول عائشة ، كيف أقول يا رسول الله قال : (( قولي السلام على أهل الديار من المؤمنين))(3) ،وسنذكره في خروج النبي - صلى الله عليه وسلم - للبقيع وهو استدلال صحيح . انتهى ما ذكره.
والجواب : أن يقال : هذا المعترض لو نوقش على جميع ما يقع في كلامه من الدعاوي والخلل واللفظ المجمل لطال الخطاب ، ولكن التنبيه على بعض ذلك كاف لمن له أدنى فهم وعنده أدنى علم ، وقوله : زيارة القبور تعظيم ، وتعظيم النبي - صلى الله عليه وسلم - واجب الكلام عليه من وجوه .
أحدهما أن يقال : هتان المقدمتان إن أخذتا على إطلاقهما أنتجتا أن زيارة قبره واجبه وهو إنتاج لازم للمقدمتين لزوماً بيناً(4)
__________
(1) أخرجه البخاري 3/371 رقم 1056 وابن ماجة 1/502 بإسناد صحيح ، وأخرجه ابن ماجة 1/502 رقم 1574 من حديث حسان بن ثابت ورقم 1575 من حديث ابن عباس .
أما حديث حسان فضعيف في إسناده عبد الرحمن بن يهمان وهو مقبول كما في التقريب لكن يشهد له حديثاً أبي هريرة وابن عباس ، فهو حسن لغيره وحديث ابن عباس حسن إن شاء الله تعالى .
(2) أخرجه البخاري 3/148 رقم 1283 من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه .
(3) رواه مسلم وقد تقدم تخريجه .
(4) قلت : وهكذا يقال لأصحاب بدعة الموالد فإنهم يقولون : المولد تعظيم للنبي صلى الله عليه وسلم وعلى آله وسلم وتعظيمه واجبه .
فيجاب عليهم بنفس الجواب الذي أجاب به الحافظ ابن عبد الهادي ها هنا .(54/460)
، فإن الضرب الأول من الشكل الأول والحد الأوسط فيه محمول في الأولى موضوع في الثانية ، فتكون النتيجة موضوع الأولى ومحمول الثانية ، وهي زيارة قبره واجبة ، ثم يلزم على هذا لوازم منها أن تارك زيارة قبره عاص آثم مستحق للعقوبة منتفي العدالة لا تصح شهادته ، ولا تقبل روايته ولا فتواه ، وفي هذا تفسيق جميع الصحابة إلا من صح عنه منهم الزيارة ، ولا ريب أن هذا شر من قول الرافضة الذين فسوقا جمهورهم بتركهم توليه علي ، بل هو من جنس قول الخوارج الذين يكفرون بالذنب .
لأن تارك هذه الزيارة عنده تارك لتعظيمه ، وترك تعظيمه كفر أو ملزوم للكفر ، فإن تعظيم الرسول - صلى الله عليه وسلم - من لوازم الإيمان فعدمه مستلزم للكفر ، وعلى هذا فكل من لم يزر قبره فهو كافر ، لأنه تارك لتعظيمه - صلى الله عليه وسلم - ولا ريب أن الرافضة والخوارج لم يصلوا إلى هذا الجهل والكذب على الله ورسوله وعلى الأمة .
يوضحه الوجه الثاني : أن الخوارج إنما كفروا الأمة بمخالفة أمره ومعصيته وتمسكوا بنصوص متشابهة لم يردوها إلى المحكم ، وأما عباد القبور فكفروا بموافقة الرسول في نفس مقصوده ، وجعلوا تجريد التوحيد كفراً وتنقصاً فأين المكفر بالذنب إلى المكفر بموافقة الرسول وتجريد التوحيد ؟
يوضحه الوجه الثالث : أن زيارة قبره لو كانت تعظيماً له لكانت مما لا يتم الإيمان إلا بها ، ولكان فرضاً معيناً على كل من استطاع إليها سبيلاً ، من قرب أو بعد ، ولما أضاع السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان هذا الفرض قام به الخلف الذين خلفوا من بعدهم يزعمون أنهم بذلك أولياء الرسول وحزبه القائمون بحقوقه ، وما كانوا أولياء إن أولياؤه إلا أهل طاعته والقيام بما جاء به علماً ومعرفة وعملاً وإرشاداً وجهاداً ، والذين جردوا التوحيد الخالق وعرفوا للرسول حقه ، ووافقواه في تنفيذ ما جاء به والدعوة إليه والذب عنه .(54/461)
الوجه الرابع : أنه إذا كان زيارة قبره واجبة على الأعيان كانت الهجرة إلى القبر أكد من الهجرة إليه في حياته ، فإن الهجرة إلى المدينة انقطعت بعد الفتح كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : (( لا هجرة بعد الفتح )) (1).وعند عباد القبور أن الهجرة إلى القبر فرض معين على من استطاع إليه سبيلاً ، وليس بخاف أن هذا مراغمة صريحة لما جاء به الرسول وإحداث في دينه ما لم يأذن به ،وكذب عليه وعلى الله ، هذا من أقبح التنقص .
وقد ذكر المعترض في موضع من كتابه أنه رأس فتيا بخط شيخ الإسلام وفيها : ولهذا كانت زيارة القبور على وجهين : زيارة شرعية ،وزيارة بعدية .
فالزيارة الشرعية : مقصودها السلام على الميت والدعاء له إن كان مؤمناً وتذكر الموت سواء كان الميت مؤمناً أم كافراً ، قال : وبعد ذلك : فالزيارة لقرب المؤمن نبياً كان أو غير نبي من جنس الصلاة على جنازته يدعي كما يدعي إذا صلى على جنازته .
وأما الزيارة البدعية : فمن جنس زيارة النصارى مقصودها الإشراك بالميت مثل: طلب الحوائج منه أو به ، أو التمسح بقبره وتقبيله ، أو السجود له ونحو ذلك ، فهذا كله لم يأمر اله به ، ولا رسوله ، ولا استحبه أحد من أئمة المسلمين ولا أحد من السلف يفعله لا عند قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا غيره .
قال المعترض : بعد حكايته هذا الكلام عن الشيخ : وبقي قسم لم يذكره وهو أن تكون للتبرك به من غير إشراك به فهذه ثلاثة أقسام .
أولها : السلام والدعاء له ، وقد سلم جوازه وأنه شرعي .
__________
(1) أخرجه البخاري 6/283 وأخرجه أيضاً في كتاب الحج الباب رقم 43 وفي الجهاد باب رق 193 وباب رقم 1/وباب رقم 27 ومسلم 2/986 و 3/1486 وأبو داود رقم 2480 والترمذي 4/148 - 149 رقم 1590 والنسائي 7/147 رقم 4170 والدارمي 2/239 وأحمد في مسنده رقم 1991 ، 2396 ، 2898 طبعة أحمد شاكر ، جميعاً من حديث ابن عباس .
وأخرجه مسلم 3/1488 من حديث عائشة رضي الله عنها .(54/462)
والقسم الثاني : التبرك به والدعاء عنده للزائر ، وقال :وهذا القسم يظهر من فحوى كلام ابن تيمية أنه يلحقه بالقسم الثالث ، ولا دليل له على ذلك ، بل نحن نقطع ببطلان كلامه فيه ، وأن المعلوم من الدين وسير السلف الصالحين التبرك ببعض الموتى من الصالحين ، فكيف بالأنبياء والمرسلين ، ومن أدعى أن قبور الأنبياء وغيرهم من أموات المسلمين سواء فقد أتى أمراً عظيماً نقطع ببطلانه وخطئه فيه ، وفيه حظ لرتبة النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى درجة من سواه من المؤمنين وذلك كفر بيقين .
فإن من حط رتبة النبي - صلى الله عليه وسلم - عما يجب له فقد كفر ، فإن قال : إن هذا ليس يحط ، ولكنه منع من التعظيم فوق ما يجب له ، قلت هذا جهل وسوء أدب ، وقد تقدم في أول الباب الخامس الكلام في ذلك ونحن نقطع بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - يستحق التعظيم أكثر من هذا المقدار في حياته وبعد موته ، ولا يرتاب في ذلك من في قلبه شيء من الإيمان ، هذا كله كلام المعترض .
فانظر إلى ما تضمنه من الغلو والجهل والتكفير بمجرد الهودى وقلة العلم ، أفلا يستحي من هذا مبلغ علمه أن يرمي أتباع الرسول وحزبه وأولياءه برأيه اذلي يشهد به عليه كلامه ، لكن من يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئاً .(54/463)
الوجه الخامس : أن يقال لهذا المعترض وأشباهه من عباد القبور : أتوجبون كل تعظيم للرسول - صلى الله عليه وسلم - أو نوعاً خاصاً من التعظيم ؟ فإن أوجبتم كل تعظيم لزمكم أن توجبوا السجود لقبره وتقبيله واستلامه والطواف به ، لأنه من تعظيمه ، وقد أنكر - صلى الله عليه وسلم - على من عظمه بما لم يأذن به كتعظيم من سجد له ، وقال : (( لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم فإنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله )) (1) ، ومعلوم أن مطرية أنما قصد تعظيمه وقال - صلى الله عليه وسلم - لمن قال له يا محمد ، يا سيدنا وابن سيدنا وخيرنا ،وأبن خيرنا : (( عليكم بقولكم ولا تستهوينكم الشيكان أنا محمد بن عبد الله ورسوله )) والله ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله عز وجل(2) ، فمن عظمه بما لا يحب فإنما أتى بضد التعظيم ، وهذا نفس ما حرمه الرسول صلوات الله وسلامه عليه ، ونهى عنه وحذر منه .
وأيضاً فإن الحلف به تعظيم له ، فقولوا : يجب على الحالف أن يحلف به ، لأنه تعظيم له وتعظيمه واجب ، وكذلك تسبيحه وتكبيره والتوكل عليه والذبح باسمه ،كل هذا تعظيم له ، معلوم أن إيجاب هذا مثل إيجاب الحج إليه بالزيارة على م استطاع إليه سبيلاً ، ولا فرق بينهما ، وإن قلتم إنما نوجب نوعاً خاصاً من التعظيم طولبتم بضابط هذا النوع وحده ، والفرق بينه وبين التعظيم الذي لا يجب ولا يجوز ، وبيان أن الزيارة من هذا النوع الواجب ، وإلا كنتم متناقضين موجبين في الدين ما لم يوجبه الله وشارعين شرعاً لم يأذن به الله .
__________
(1) تقدم تخريجه .
(2) تقدم تخريجه .(54/464)
الوجه السادس : أن يقال : الصلاة عليه - صلى الله عليه وسلم - كلما خطر بالبال تعظيم له فأرجوا له هذا التعظيم ، وحكموا على من قال : لا يجب بأنه تارك لتعظيمه ، بل حكموا على من قال : لا تجب الصلاة عليه كلما ذكر ،ولا تجب الصلاة عليه في الصلاة أولا تجب في العمر إلا مرة ، أولا تجب أصلاً بأنه تارك للتعظيم ، لأن الصلاة عليه تعظيم له بلا ريب ، فهل كان أئمة الإسلام وعلماء الأمة نافين لتعظيمه تاركين له بنفيهم الوجوب ،أم كانوا أشد تعظيماً له منكم وأعرف بحقوقه وأحفظ لدينه أن يزاد فيه ما ليس منه .
يوضحه الوجه السابع : إن الذين كرهوا من الفقهاء الصلاة عليه عند الذبح يكونون على قولكم تاركين لتعظيمه ، وذلك قادح في إيمانهم ، وكذلك من كره ، أو حرم الحلف به وقال : لا تعتقد يمين الحالف به يكون على قولكم تاركاً لتعظيمه ، لأن الحلف به تعظيم له بلا ريب .
الوجه الثامن : إن القول بعدم وجوب زيارة قبره ، أو بعدم استحبابها ، أو بعد جواز شد الرحال لا يقدح في تعظيمه بوجه من الوجوه ، وهو بمنزلة قول من قال من أئمة الإسلام : لا تجب الصلاة عليه في التشهد الأخير وبمنزلة قول من قال منهم : تكره الصلاة عليه عند الذبح ، وبمنزلة قوله من قال : لا تستحب الصلاة عليه في التشهد الأول ، ولا عند التشهد في الأذان ، بل قول من نفى وجوب الزيارة ، أو جواز شد الرحال إلى أولى أن لا يكون منافياً للتعظيم من قول من نفى وجوب الصلاة عليه ، أو استحبابها في بعض المواضع ، لأن الصلاة عليه مأمور بها ، وقد ضمن للمصلي عليه مرة أن يصلي الله عليه عشراً ، بل الصلاة عليه محض التعظيم له ، فنفي وجوبها أو استحبابها في موضع ليس بترك للتعظيم ، وليس إنكار وجوب كل من الأمرين قادحاً في تعظيمه ، بل ذلك عين تعظيمه يدل عليه .(54/465)
الوجه التاسع : أن تعظيمه هو موافقته في محبة ما يحب وكراهة ما يكره ، والرضا بما يرضى به ، ولفعل ما أمر به ، وترك ما نهى عنه ، والمبادرة إلى ما رغب فيه والبعد عما جذر منه ، وأن لا يتقدم بين يديه ولا يقدم على قول أحد سواه ، ولا يعارض ما جاء به بمعقول ، ثم يقدم المعقول عليه كما يقوله أئمة هذا المعترض الذين تلقى عنهم أصول دينه ، وقدم آرائهم وهو أحسن ظنونهم على كلام الله ورسوله ، ثم ينسب ورثة الرسول الموافقين مع أوقاله المخالفين لما خلفها من ترك التعظيم والتنقيص ، وأي إخلاف بتعظيمه وأي تنقص فوق من عزل كلام الرسول عن إفادة اليقين ، وقدم عليه آراء الرجال وزعم أن العقل يعارض ما جاء به ، وأن الواجب تقديم المعقول ، وآراء الرجال على قوله.
الوجه العاشر : أن إيجاب زيارة قبرة ، واستحبابها وشد الرحال إليه لأجل تعظيمه يتضمن جعل القبر منسكاً يحج إلي البيت العتيق كما يفعله عباد القبور ولا سيما فإنهم يأتون عنده بنظير ما يأتي به الحاج من الوقوف والدعاء والتضرع ، وكثير منهم يطوف بالقبر ويستلمه ويقبله ويتمسح به ، فلم يبق عليه من الأعمال المناسك إلا الحلق والنحر ورمي الجمار ، فإيجاب الوسيلة إلى هذا المحذور ، أو استحبابها من أعظم الأمور منافاة لما شرعه الله ورسوله .
وقد آل الأمر بكثير من الجهال إلى النحر عند قبور من يشدون الرحال إلى قبورهم وحلق رؤوسهم عند قبورهم ، وتسمية زيارتها حجاً ومناسك ، وصنف فيه بعضهم كتاباً سماه مناسك حج المشاهد وكان سبب هذا هو الغلو الذي يظنه من علمه تعظيماص ولا ريب أن هذا أكره شيء إلى الرسول قصداً ووسيلة .(54/466)
الوجه الحادي عشر : أن هذا الذي قصده عباد القبور من التعظيم هو بعينه السبب الذي لأجله حرم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اتخاذ القبور مساجد وإيقاد السرج عليها ، ولعن فاعل ذلك ، ونهى عن الصلاة إليها وحرم اتخاذ قبره عيداً ، ودعا ربه أن لا يجعل قبره وثناً يعبد ولأجله نهى فضلاء الأمة وساداتها عن ذلك ، ولأجله أمر عمر بتعفية قبر دنيال(1) لما ظهر في زمان الصحابة ، ولأجله منع مالك من نذر إتيان المدينة ، وأراد القبر أن يوفي بنذره ولأجله كره الشافعي أن يعظم قبر مخلوق حتى يجعل مسجداً كما قال : وأكره أن يعظم مخلوق حتى يجعل قبره مسجداً ، ولأجله كره مالك أن يقول القائل : زرت قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - ، لما يوهم هذا اللفظ من أنه قصد المدينة لأجل زيارة القبر .
ولما فيه من تعظيم القبر الزيارة إليه مع كونه أعظم القبور على الإطلاق وأجلها وأشرف قبر على وجه الأرض ، فالفتنة بتعظيمه أقرب من الفتنة بتعظيم غيره من القبور ، فحمى مالك رحمه الله تعالى الذريعة حتى في اللفظ ، ومنع الناذر من إتيانه ، ولو كان إتيانه قربة عنده لأوجب الوفاء به ، فإن من أصله أن كل طاعة تجب بالنذر سواء كان من جنسها واجب بالشرع ، أو لم يكن .
__________
(1) انظر هذه القصة في فضائل الشام ودمشق للربعي تخريج الشيخ ناصر ، ص50 .(54/467)
ولهذا يوجب إتيان مسجد المدينة على من نذر إتيانه وقد منع ناذر القبر من الوفاء بنذره ، فلو كان ذلك عنده قربة لألزمه الوفاء به ، ومن رد هذا النقل عنه وكذب الناقل فهو من جنس من افترى الكذب وكذب بالحق لما جاءه ، فإن ناقله ممن له لسان صدق في الأمة بالعلم والإمامة والصدق والجلالة ، وهو القاضي أبو إسحاق إسماعيل بن إسحاق بن إسماعيل بن حماد بن زيد أحد الأئمة الأعلام ، وكان نظير الشافعي ، وإماماً في سائر العلوم حتى قال المبرد : إسماعيل القاضي أعلم مني بالتصريف ، وروى عن يحيى بن أكثم أنه رآه مقبلاً فقال : قد جاءت المدينة ، وقد ذكر هذا النقل عن مالك في أشهر كتبه عند أصحابه وأجلها عندهم وهو المبسوط فمن فهو بمنزلة من كذب مالكاً والشافعي وأبا يوسف ونظراءهم .
ومتى وصل الهوى بصاحبه إلى هذا الحد فقد فضح نفسه وكفى خصمه مؤنته ،ومن جمع أقوال مالك وأجوبته وضم بعضها إلى بعض ، ثم جمعها إلى أقوال السلف وأجوبتهم قطع بمرادهم وعلم نصيحتهم للأمة ، وتعظيمهم للرسول وحرصهم على اتباعه وموافقته في تجريد التوحيد وقطع أسباب الشرك ، وبهذا جعلهم الله أئمة وجعل لهم لسان صدق في الأمة ، وفلو ورد عنهم شيء خلاف هذا لكان من المتشابه الذي يرد إلى المحكم من كلامهم وأصولهم ، فكيف ولم يصح عنهم حرف واحد يخالفه .
فتبين أن هذا التعظيم الذي قصده عباد القبور هو الذي كرهه أهل العلم وهو الذي حذر منه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونهى أمته عنه ، ولعن فاعله ، وأخبر بشدة غضب الله عليه حيث يقول : (( اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد )) (1) ،ويقول : (( لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد )) (2) ، ومعلوم قطعاً أنهم إنما فعلوا ذلك تعظيماً لهم ولقبورهم ، فعلم أن من التعظيم للقبور ما يعلن الله فاعله ويشتد غضبه عليه.
__________
(1) تقدم تخريجه .
(2) تقدم تخريجه .(54/468)
الوجه الثاني عشر : أن هذا الذي يفعله عباد القبور من المقاصد والوسائل ليس بتعظيم ، فإن التعظيم محله القلب واللسان ، والجوارح وهم أبعد الناس منه ، فالتعظيم بالقلب ما يتبع اعتقاد كونه رسولاً من تقديم محبته على نفسه والولد والوالد والناس أجمعين ويصدق هذه المحبة أمران :
أحدهما : تجريد التوحيد ، فإنه - صلى الله عليه وسلم - كان أحرص الخلق على تجريده حتى قطع أسباب الشرك ووسائله من جميع الجهات ، ونهى عن عبادة الله بالتقرب إليه بالنوافل من الصلوات في الأوقات التي يسجد فيها عباد الشمس لها ، بل قبل ذلك الوقت بعد أن تصلي الصبح والعصر لئلا ينشبه الموحدون بهم في وقت عبادتهم ،ونهى أن يقال :/ ما شاء الله وشاء فلان(1) ، ونهى أن يحلف بغير الله ، وأخبر أن ذلك شرك(2)
__________
(1) يشير إلى ما أخرجه النسائي 7/6 رقم 3773 من حديث قتيله أن يهودياً أتى النبي صلى الله عليه وعله آله وسلم فقال : (( إنكم تندون وإنكم تشركون تقولون ما شاء الله وشئت وتقولون والكعبة فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم إذا أرادوا أن يحلفوا أن يقولوا ورب الكعبة ويقولون ما شاء الله ثم شئت .
وإسناده صحيح كما بينه في رسالتي ( تمام المنة في تخريج حديثي أفلح وأبيه إن صدق وأما أبيك لتنبأنه )
(2) يشير إلى حديث ابن عمر رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول : (( من حلف بغير الله فقد أشرك )) وهو حديث صحيح .
وقد خرجته وجمعت طرقه في تحقيقي على رسالة شيخ الإسلام ابن تيمية ( الواسطة بين الحق والخلق ) .(54/469)
ونهى أن يصلي إلى القبر(1) ، أو يتخذ مسجداً(2) ، أو عيداً(3) ، أو يوقد عليه سراج وذم(4) ، من شرك بين اسمه واسم ربه تعالى في لفظ واحد ، فقال له : بئس الخطيب أنت(5) ، بل مدار دينه على هذا الأصل الذي هو قطب رحى النجاة ، ولم يقرر أحد ما قرره - صلى الله عليه وسلم - بقوله وفعله وهديه ، وسد الذرائع المنافية له ، فتعظيمه - صلى الله عليه وسلم - بموافقته على ذلك لا بمناقضته فيه .
الثاني : تجريد متابعته وتحكيمه وحده في الدقيق والجليل من أصول الدين وفروعه والرضا بحكمه والانقياد له والتسليم والإعراض عمن خالفه وعدم الالتفات إليه حتى يكون وحده الحاكم المتبع المقبول قوله ، كما كان ربه تعالى وحده المعبود المألوه المخوف المرجو المستغاث المستعان به المتوكل عليه الذي إليه الرغبة والرهبة ، وإليه الوجهة والعمل الذي يؤمل وحده لكشف الشدائد وتفريج الكربات ومغفرة الذنوب ، والذي خلق الخلق وحده ورزقهم وحده وأحياهم وحده ، وأماتهم وحده ويبعثهم وحده ويغفر ويرحم ويهدي ويضل ويسعد ويشقي وحده ، وليس لغيره من الأمر شيء ، كائناً من كان بل الأمر كله لله .
__________
(1) يشير إلى ما أخرجه مسلم في صحيحه ( لا تصلوا إلى القبور … ) تخريجه .
(2) يشير إلى قوله عليه الصلاة والسلام ( لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد )) يحذر ما فعلوا ولولا ذلك لأبرز قبره ، عليه الصلاة والسلام ، وتقدم تخريجه .
(3) يشير إلى قوله عليه الصلاة والسلام ( لا تجعلوا قبري عيداً ) وتقدم تخريجه .
(4) يشير إلى قوله عليه الصلاة والسلام ( لعن الله زوارات القبور والمتخذين عليها السرج ) وتقدم تخريجه .
(5) الحديث أخرجه مسلم 2/594 من حديث عدي بن حاتم .(54/470)
وأقرب الخلق إليه وسيلة وأعظمهم عنده جاهاً وأرفعهم لديه ذكراً وقدراً وأعمهم عنده شفاعة ليس له من الأمر شيء ولا يعطي أحد شيئاً ، ولا يمنع أحد شيئاً ، ولا يملك لأحد ضراً ولا رشداً ، وقد قال الأقرب الخلق إليه وهم ابنته وعمه وعمدته : (( يا فاطمة بنت محمد لا أغني عليك من الله شيئاً ، يا عباس عم رسول الله لا أغني عنك من الله شيئاً ، يا عباس عم رسول اله لا أغني عنك من الله شيئاً ، يا صفية عمة رسول اله - صلى الله عليه وسلم - لا أغني عنك من الله شيئاً )) (1) .
فهذا هو التعظيم الحق المطابق لحال المعظم النافع للمعظم في معاشه ومعاده الذي هو لازم إيمانه وملزومه ، وأما التعظيم باللسان فهو الثناء عليه بما هو أهله مما أثنى به على نفسه ، وأثنى به عليه ربه من غير غلو ولا تقصير ، فكما أن المقصر المفرط تارك لتعظيمه ، فالغالي المفرط كذلك ، وكل منهما شر من الأجر من وجه دون وجه ، وأولياءه سلكون بين ذلك قواماً ؛ وأما التعظيم بالجوارح فهو العمل بطاعته والسعي في إظهار دينه وإعلانه كلماته ونصر ما جاء به وجهاد ما خالفه .
وبالجملة :فالتعظيم النافع هو تصديقه فيما أخبر وطاعته فيما أمر والموالاة والمعاداة والحب والبغض لأجله وفيه وتحكيمه وجدة والرضا بحكمه ، وأن لا يتخذ من دونه طاغوت يكون التحاكم إلى أقواله : فما وافقها من قول الرسول قبله وما خالفها رده ، أو تأوله أو فوضه ،أو أعرض عنه ، والله سبحانه يشهد وكفى به شهيداً وملائكته ورسله وأولياؤه إن عباد القبور وخصوم الموحدين ليسوا كذلك ، وهم يشهدون على أنهم بذلك .
__________
(1) تقدم تخريجه .(54/471)
وما كان لهم أن ينصروا دينه ورسوله - صلى الله عليه وسلم - شاهدين على أنفسهم بتقديم آراء شيوخهم ،وأقوال متبوعهم على قوله ، وأنه لا يستفاد من كلامه يقين ، وأنه إذاعارضة الرجال قدمت عليه ، وكان الحكم ما تحكم به ، أفلا يستحي من الله ومن العقلاء من هذا حالة في أصول دينه وفروعه أن يستر بتعظيم القبر ليوهم الجهال أنه معظم لرسوله ناصر له منتصر له ممن ترك تعظيمه وتنقصه ، ويأبى الله ذلك ورسوله - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنون : ((وما كانوا أولياءه إن أولياؤه إلا المتقون ، ولكن أكثرهم لا يعلمون)) ((وقيل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنين وستردون إلى عال الغيب والشهادة فينبكم بما كنتم تعملون )) .
قال المعترض
وقد خرجنا عن المقصود إلى غرضنا وهو الاستدلال على أن زيارة قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - قربة ؛ وما يدل على ذلك القياس ، وذلك على زيارة النبي - صلى الله عليه وسلم - البقيع وشهداء أحد وسنيين أن ذلك غير خاص به - صلى الله عليه وسلم - ، بل مستحب لغيره ، وإذا استحب زيارة قبر غيره - صلى الله عليه وسلم - فقبره أولى لماله من الحق ووجوب التعظيم .
فإن قلت : الفرق أن غيره يزار للاستغفار له لاحتياجه إلى ذلك ، كما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - في زيارة أهل البقيع والنبي - صلى الله عليه وسلم - مستغن عن ذلك .
قلت : زيارته - صلى الله عليه وسلم - إنما هي لتعظيمه والتبرك به ولتنالنا الرحمة بصلاتنا وسلامنا عليه كما إنا مأمورون بالصلاة عليه والتسليم ، وسؤال الله له الوسيلة وغير ذلك مما يعلم أنه حاصل له - صلى الله عليه وسلم - بغير سؤالنا ولكن النبي - صلى الله عليه وسلم - أرشدنا إلى ذلك لتكون بدعائنا له متعرضين للرحمة التي رتبها الله على ذلك .
فإن قلت : الفرق أيضاً أن غيره لا يخشى فيه محذور ، وقبره - صلى الله عليه وسلم - يخشى الإفراط في تعظيمه أن يعبد .(54/472)
قلت : هذا كلام تقشعر منه الجلود ، ولولا خشية اغترار الجهال به لما ذكرته فإن فيه تركاً لما دلت عليه الدلالة الشرعية بالآراء الفاسدة الخالية ، وكيف يقدم على تخصيص قوله - صلى الله عليه وسلم - (( زوروا القبور )) وعلى ترك قوله : (( من زار قبري وجبت له شفاعتي )) وعلى مخالفة إجماع السلف والخلف بمثل هذا الخيال الذي لم يشهد به كتاب ولا سنة ، وهذا بخلاف النهي عن اتخاذه مسجداً وكون الصحابة احترزوا عن ذلك للمعنى المذكور ، لأن ذلك قد ورد النهي فيه ، وليس لنا نحن أن نشرع أحكاماً من قبلنا : { أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ } (الشورى 021) فمن منع زيارة قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - فقد شرع من الدين ما لم يأذن له ، وقوله مردود عليه ، ولو فتحنا باب هذا الخيال الفاسد لتركنا كثيراً من السنن ، بل ومن الواجبات ، والقرآن كله والإجماع المعلوم من الدين بالضرورة وسير الصحابة والتابعين وجميع علماء المسلمين والسلف الصالحين على وجوب تعظيم النبي - صلى الله عليه وسلم - والمبالغة في ذلك .(54/473)
ومن تأمل القرآن العزيز وما تضمنه من التصريح والإيماء إلى وجوب المبالغة ف بتعظيمه وتوقيره والأدب معه ،وما كانت الصحابة يعاملونه به من ذلك املآ قلبه إيماناً واحتقر هذا الخيال الفاسد ، واستكف أن يصغي إليه والله تعالى هو الحافظ لدينه ، ومن يهدي الله فهو المهتدي ، ومن يضلل فلا هادي له ، وعلماء المسلمين متكلفون بأن يبينوا للناس ما يجب من الأدب والتعظيم والوقوف عند الحد الذي لا يتجوز مجاوزته بالأدلة الشرعية ، وبذلك يحصل الأمن من عبادة غير الله ، ومن أراد الله إضلاله من أفراد الجهال فلن يستطيع أحد هدايته ، فمن ترك شيئاً من التعظيم المشروع لمنصب النبوة زاعماً بذلك الأدب مع الربوبية فقد كذب على الله تعالى وضيع ما أمر به في حق رسله ، وكما أن من أفرط وجاوز الحد إلى جانب الربوبية فقد كذب على رسول الله وضيع ما أمروا به في حق ربهم سبحانه وتعالى ، والعدل حفظ ما أمر الله به في الجانبين ، وليس في الزيارة المشروعة من التعظيم ما يفضي إلى محذور ، انتهى ما ذكره .
والجواب : أن يقال : لا يخفى ما في هذا الكلام من التلبيس والتمويه والغلو والتخليط ، والقول بغير علم ، والمناقشة على جميع ذلك نفضي إلى التطويل ، ولكن التنبيه على البعض كاف لمن وفقه الله .
وأعلم أن هذا المعترض من أكثر الناس تلبيساً وخلطاً للحق بالباطل(1)
__________
(1) قلت وهو إمام المضللين في عصرنا هذا وبه يقتدون التلبيس على العوام ويخلط الحق بالباطل وبتحريف الكلم عن مواضعه وذلك مثل محمد علوي مالكي ومحمد علي الصابوني والرفاعي وغيرهم .
وانظر كتاب المالكي الذي سماه ( مفاهيم يجب أن تصحح ) وإلى كتاب الصابوني الذي سماه (الهدي النبوي الصحيح في صلاة التراويح ) وإلى كتاب الرفاعي الذي سماه ( أهل السنة والجماعة) وأنظر إلى ما فيهما من التلبيس والخيانة ولبس الحق بالباطل .(54/474)
، ولهذا قد يروج كلامه على كثير منهم ، وقوله : إن زيارة قبره قياساً على زيارته - صلى الله عليه وسلم - البقيع وشهداء أحد هو من أفسد القياس لما بين الزيارتين من الفرق المبين ، وقد أقر المعترض بالفرق بأن زيارته - صلى الله عليه وسلم - لهم إحصان إليهم وترحم عليهم واستغفار لهم ، وأن زيارة قبره إنما هي لتعظيمه والتبرك به وكيف يقاس على الزيارة التي لا يتعلق بها مفسدة البتة ، بل هي مصلحة محضة ، الزيارة التي يخشى بها أعظم الفتنة وتتخذ وسيلة إلى ما يبغضه المزور ويكرهه ويمقت فاعله حتى لو كانت الزيارة من أفضل القربات ، وكانت ذريعة ووسيلة إلى ما يكرهه المزور ويبغضه لنهي عنها طاعة له وتعظيماً ومحبة وتوقيراً وسعياً في محابه ، كما نهى عن الصلاة التي هي قربة إلى الله في الأوقات المخصوصة لما يستلزم من حصول ما يكرهه الله ويبغضه ، ولم يكن في ذلك إخلال بتعظيم الله بل هذا عين تعظيمه وإجلاله وطاعته ، فتأمل هذا الموضع حق التأمل فإنه سر الفرق بين عباد القبور وأهل التوحيد .(54/475)
وقوله : إن زيارته سبب لأن تنالنا الرحمة بصلاتنا وسلامنا عليه ، فيقال له : كأ، الرحمة لا تنال بالصلاة والسلام عليه عندك إلا من صلى عليه وسلم عند قبره ،وهذا ما لا تقوله أنت ولا أحد من المسلمين معك ، فهو كلام فيه تمويه وتلبيس ، قوله : فإن قلت : الفرق أيضاً أن غيره لا يخشى فيه محذور وقبره يخشى الإفراط في تعظيمه أن يعيده ، سؤال لا تخفى صحته وقوته على أهل العلم والإيمان ، وقوله في جوابه : هذا الكلام تقشعر منه الجلود ولولا خشية اغترار الجهال به لما ذكرته ، فيقال نعم تقشعر منه جلود عباد القبور ، الذين إذا دعو إلى عبادة الله وحدة وأن لا يشرك به ولا يتخذ من دونه وثن يعبد اشمأزت قلوبهم واقشعرت جلودهم وأكفهرت وجوههم ، ولا يخفى أن هذا نوع شبه موافقة للذين قال الله فيهم { وَإِذَا uچد.èŒ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ دouچ½zFy$$خ/ } (الزمر 045) ثم يقال : أما جلود أهل التوحيد المتبعين للرسول العالمين بمقاصده الموافقين له فيما أحبه ورغب فيه وكرهه وحذر منه ، فإنها لا تقشعر من هذا الفرق ، بل تزيد قلوبهم وجلودهم طمأنينة وسكينة وهم يستبشرون ، وأما الذين في قلوهم مرض فلا تزيدهم قواعد التوحيد وأدلته وحقائقه وأسراره إلا رجساً إلى رجسهم ، وإذا سلك التوحيد في قلوبهم دفعته قلوبهم وأنكرته ظناً منهم أنه تنقص وهضم الأكابر وإزراء بهم ، وحط لهم من مراتبهم واتباع هؤلاء ضعفاء العقول ، وهم أتباع كل ناعق ، يميلون مع كل صائح لم يستضيئوا بنور العلم ، ولم يلجأوا إلى ركن وثيق .(54/476)
وأما أهل العلم والإيمان فإنما تقشعر جلودهم من مخالفة الرسول فيما أمر ومن ترك قبول فيما أخبر ، ومنقول القائل وإقراره بأن اليقين لا يستفاد بقوله وأنه يجب تقديم عقول الرجال وآرائهم على قوله إذا خالفها وأنه يجب أو يشرع الحج إلى قبره ، ويحعل من أعظم الأعياء ويحتج بفعل العوام والطغام على أن هذا من دينه ويقدم هديهم على هدي المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان ، ويستحل تكفير من نهى عن أسباب الشرك والبدع ودعى إلى ما كان عليه خيار الأمة وسادتها ، ويستحل عقوبته وينسب إلى التنقص والازراء ، ، فهذا وأمثاله تقشعر منه جلودهم أهل العلم والإيمان .
وقوله : إن في هذا الفرق تركاً لما دلت عليه الأدلة الشرعية بالآراء الفاسدة الخالية - ففي هذا الكلام من قلب الحقائق وترك موجب النصوص النبوية والقواعد الشرعية والمحكم الخاص المقيد إلى المجمل المتشابه العام المطلق ، كما يفعله أهل الأهواء الذين في قلوبهم زيغ ما نبينه بحول الله ومعونته وتأييده ، فإن النصوص التي صحت عنه - صلى الله عليه وسلم - بالنهي عن تعظيم القبور بكل نوع يؤدي إلى الشرك ووسائله من الصلاة عندها وإليها واتخاذها مساجد وإيقاد السرج عليها وشد الرحال إليها ، وجعلها أعياداً يجتمع لها كما يجتمع للعبد ، ونحو ذلك صحيحة صريحة محكمة فيما دلت عليه ، وقبور المعظمين مقصودة بذلك النص والعلة ولا ريب أن هذا من أعظم المحاذير .(54/477)
وهو أصل أسباب الشرك والفتنة به في العالم ، فكيف يناقض هذا ويعارض بإطلاق زوار القبور ، وبأحاديث لا يصح شيء منها البتة في زيارة قبره ، ولا يثبت منها خبر واحد ، ونحن نشهد بالله أنه لم يقل شيئاً منها كما نشهد بالله أنه قال :تلك النصوص الصحيحة الصريحة ، وهؤلاء فرسان الحديث وأئمة النقل ومن إليهم المرجع في الصحيح والسقيم من الآثار ، وقد ذكرنا فيما تقدم أنهم لم يصححوا منها خبراً واحداً ، ولم يحتجوا منها بحديث واحد ، بل ضعفوا جميع ما ورد في ذلك وطعنوا فيه وبينوا سبب ضعفه وحكم عليه جماعة منهم بالكذب والوضع .
وكذلك دعواه إجماع السلف والحلف على قوله ، فإذا أراد بالسلف المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان فلا يخفى أن دعوى إجماعهم مجاهرة بالكذب ، وقد ذكرنا غير مرة فيما تقدم أنه لم يثبت عن أحد من الصحابة شيء من هذا إلا عن ابن عمر وحده ، فإن ثبت عنه إتيان القبر للسلام عند القدوم من سفر ولم يصح هذا عن أحد غيره ولم يوافقه عليه أحد من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا من الخلفاء الراشدين ولا من غيرهم .(54/478)
وقد ذكر عبد الرزاق في مصنفه عن معمر عن عبيد الله بن عمر أنه قال : ما نعم أن أحداً من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - فعل ذلك إلا ابن عمر ، وكيف ينسب مالك إلى مخالفة إجماع السلف والخلف في هذه المسألة ، وهو أعلم أهل زمانه بعمل أهل المدينة قديماً وحديثاً ، وهو يشاهد التابعين الذين شهدوا الصحابة وهم جيرة المسجد وأتبع الناس للصحابة ، ثم يمنع الناذر من إتيان القبر ويخالف إجماع الأمة ، وهذا لا يظنه بمالك إلا جاهل كاذب على الصحابة والتابعين وأهل الإجماع ، وقد نهى علي بن الحسين زين العابدين الذي هو أفضل أهل بيته وأعلمهم في وقته ذلك الرجل الذي كان يجيء إلى فرجة كانت عند القبر فيدخل فيها فيدعوا واحتج عليه بما سمعه من أبيه عن جده علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : (( لا تتخذوا قبري عيداً ولا بيوتكم قبوراً فإن تسليمكم يبلغي أينما كنتم )) (1) ، وكذلك ابن عمه حسن بن حسن بن علي شيخ أهل بيته كره أن يقصد الرجل القبر للسلام عليه ونحوه عند غير دخول القبر : ما لي رأيتك عند القبر ، فقال : سلمت على النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : إذا دخلت المسجد فسلم ، ثم قال : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : (( لا تتخذوا بيتي عيداً ولا تتخذوا بيوتكم مقابر لعن الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيثما كنتم(2) ، ما أنتم ومن بالأندلس إلا سواء )) .
__________
(1) تقدم تخريجه .
(2) تقدم تخريجه الحديث وبينا أن لفظه بيتي خطأ .(54/479)
وكذلك سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف الزهري أحد الأئمة الأعلام وقاضي المدينة في عصر التابعين ذكر عنه ابنه إبراهيم أنه كان لا يأتي القبر قط ، وكان يكره إتيانه أفيظن بهؤلاء السادة الأعلام أنهم خالفوا الإجماع ، وتركوا تعظيم صاحب القبر وتنقصوا به ، فهذا لعمر الله هو الكلام الذي تقشعر منه الجلود وليس مع عباد القبور من الإجماع إلا ما رأوا عليه العوام والطغام في الأعصار التي قل فيها العلم والدين ، وضعفت فيها السنن وصار المعروف فيها منكراً ، والمنكر معروفاً من اتخاذ القبر عيداً ، والحجج إليه واتخاذه منسكاً للوقوف والدعاء ، كما يفعل عند موقف الحج بعرفة ومزدلفة وعند الجمرات وحول الكعبة ، ولا ريب أن هذا وأمثاله في قلوب عباد القبور لا ينكرونه ولا ينهون عنه ، بل يدعون إليه ويرغبون فيه ، ويحضون عليه ظانين أنه من تعظيم الرسول - صلى الله عليه وسلم - والقيام بحقوقه .
وإن من لم يوافقهم على ذلك خالفهم فيه فهو منتقص تارك للتعظيم الواجب ، وهذا قلب لدين الإسلام وتغيير له .
ولولا أن الله سبحانه ضمن لهذا الدين أن لا يزال طائفة من الأمة قائمة به لا يضرهم من خذلهم ، ولا من خالفهم إلى قيام الساعة لجرى عليه ما جرى على دين أهل الكتاب قبله ، وكل ذلك باتباع المتشابه وما لا يصح من الحديث وترك النصوص المحكمة الصحيحة الصريحة .
وقوله أن من منع زيارة قبره فقد شرع من الدين ما لم يأذن به الله ، وليس لنا ذلك جوابه أن يقال : أما من منع مما منع الله ورسوله منه وحذر مما حذر منه الرسول بعينه ونبيه على المفاسد التي حذر منها الرسول - صلى الله عليه وسلم - بتعظيم القبور وجعلها أعياداً واتخاذها أوثناناً ومناسك يحج إليها كما يحج إلى البيت العتيق ، ويوقف عندها للدعاء والتضرح والابتهال كما يفعل عند مناسك الحج وجعلها مستغاثاً للعالمين ، ومقصداً للحاجات ونيل الرغبات وتفريج الكربات .(54/480)
فإنه لم يشرع ديناً لم يأذن به الله ، وإنما شرعه من خالف ذلك ودعا إليه ورغب فيه وحض النفوس عليه ، واستحب الحج إلى القبر وجعله عيداً يجتمع إليه كما يجتمع للعبد ، وجعله منسكاً للوقوف والسؤال والاستغاثة به ، فأي الفريقين الذي شرع من الدين ما لم يأذن به الله إن كنتم تعلمون .
ونحن نناشد عباد القبور : هل هذا الذي ذكرناه عنهم وأضعافه كذب عليهم ، أو هو أكبر مقاصدهم وحشو قلوبهم ، والله المستعان .
قوله : والقرآن كله والإجماع المعلوم من الدين بالضرورة وسير الصحابة والتابعين وجميع علماء المسلمين والسلف الصالحين على وجوب تعظيم الني - صلى الله عليه وسلم - والمبالغة في ذلك - جوابه أنه قد عرف بما قررناه أهل تعظيمه المتبعون له الموافقون لما جاء به والتارك لتعظيمه بتقرير خلاف ما جاء به والحض على ما حذر منه والتحذير مما رغب فيه وترك ما جاء به لآراء الرجال وعقولهم وتقريره وتقرير سلفه أن اليقين والهدى لا يستفاد بكلامه ، وأن ما عليه عباد القبور هو من الغلو لا من التعظيم الذي هو من لوازم الإيمان فلا حاجة إلى إعادته .(54/481)
قوله : ومن تأمل القرآن وما تضمنه من التصريح والإيماء إلى وجوب المبالغة في تعظيمه وتوقيره والأدب معه ، وما كنت الصحابة تعامله به من ذلك امتلأ قلبه إيماناً واحتقر هذا الخيال الفاسد واستكشف أن يصغي إليه ، وجوابه : أن يقال : أنت وأضرابك من أقل الناس نصيباً من ذلك التعظيم ، وإن كان نصيبكم من الغلو الذي ذمه وكره ونهى عنه نصيباً وافراً ، فإن أصل هذا التعظيم وقاعدته التي يبنى عليها هو طاعته فيما أمر ، وتصديقه فيما أخبر ، وأنت وأضرابك اكتفيتم من طاعته بأن أقمتم غيره مقامه : تطيعونه فيما قاله وتجعلون كلامه بمنزلة النص المحكم وكلامه المعصوم إن التفتم إليه بمنزلة المتشابه ، فما وافق نصوص من اتخذتموه من دونه وقبلتموه وما خالفها تأولتموه ، أوردتموه ، أو أعرضتم عنه ووكلتموه إلى عالمه ، فنحن ننشدكم الله هل تتركون نصوص من قلدتموه لنصه ، أو تتركون نصه لنص من قلدتموه واكتفيتم من خبره عن الله وأسمائه وصفاته بخبر من عظمتموه من المتكلمين الذين أجمع الأئمة الأربعة والسلف على ذمهم والتحذير منهم ، والحكم عليهم بالبدعة والضلالة فاكتفيتم من خبره عن الله وصفاته بخبر هؤلاء وجعلتهم خبرهم قواطع عقلية ، وأخباره ظواهر لفظية لا تفيد اليقين ولا يجوز تقديمها على أقوال المتكلمين .(54/482)
ثم مع هذا العزل الحقيقي عظمتم ما يكره تعظيمه من القبور وشرعتم فيها وعندها ضد ما شرعه ، وعدتم بها التعظيم على مقصوده بالإبطال ، فعظمتم بزعمكم ما يكره تعظيمه وتقربتم إليه بما يباعدكم منه واستهنتم بما الإيمان كله في تعظيمه ونبذتموه وراء ظهوركم ،واتخذتم من دونه من عظمتم أقواله غاية التعظيم حتى قدمتموها عليه ، وما أشبه هذا بغلو الرافضة في عطي ، وهم أشد الناس مخالفة له ، وكذلك غلو النصارى في المسيح ، وهم من أبعد الناس منه ، وإن ظنوا أنهم معظمون له فالشأن كل الشأن في التعظيم الذي لا يتم الإيمان إلا به وهو لازم وملزوم له والتعظيم الذي لا يتم الإيمان إلا بتركه ،فإن إجلاله عن هذا الإجلال واجب وتعظيمه عن هذا التعظيم متعين .
وقوله : إن المبالغة في تعظيمه واجبة - أيريد بها المبالغة بحسب ما يراه كل أجد تعظيماً حتى الحج إلى قبره والسجود له والطواف به ، واعتقاد أنه يعلم الغيب ، وأنه يعطي ويمنع ، ويملك لمن استغاث به من دون الله الضر والنفع ، وأنه يقضي حوائج السائلين ويفرج كربات المكروبين ، وأنه يشفع فيمن يشاء ويدخل الجنة من يشاء ، فدعوى وجوب المبالغة في هذا التعظيم مبالغة في الشرك وانسلاخ من جملة الدين ، أم يريد بها التعظيم الذي شرعه الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - من وجوب محبته وطاعته ومعرفة حقوقه وتصديق أخباره ، وتقديم كلامه على كلام غيره ومخالفة غيره لموافقته ولوازم ذلك ، فهذا التعظيم لا يتم الإيمان إلا به ، ولكن هذا المعترض وأضرابه عن هذا بمعزل ، وإذا أخذ الناس منازلهم من هذا التعظيم فمنزلتهم منه أبعد منزل وهو وخصومه كما قال الأول .
نزلوا بمكة في قبائل هاشم ونزلت بالبيداء أبعد منزل(54/483)
وقوله : (( إن من ترك شيئاً من التعظيم المشروع لمنصب النبوة زاعماً بذلك الأدب مع الربوبية إلى آخر كلامه ، فنعم ، ولكن الشأن في التعظيم المشروع وتركه وهل هو إلا طاعته وتقديمها على طاعة غيره وتقديم خبره على خبر غيره ، وتقديم محبته على محبة الولد والوالد والناس أجمعين ، فمن ترك هذا فقد كذب على الله وعصى أمره ، وترك ما أمر به من التعظيم ، وأما جعل قبره الكريم عيداً تشد المطايا إليه كما تشد إلى البيت العتيق ، ويصنع عنده ما يكره الله ورسوله ويمقت فاعله ويتخذ موقفاً للدعاء وطلب الحاجات وكشف الكربات ، فمن جعل ذلك من دينه ، فقد كذب عليه وبدل دينه ، وبالله تعالى التوفيق
تم الكتاب بإعانة رب الأرباب فالله الحمد على كل حال وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين .(54/484)
الصواعق السنية الدمشقية في رد شبهة من شبه شد الرحال للقبر عند القبورية
يقول الشيخ الفاضل عبدالرحمن دمشقية حفظه الله في موسعته الفذة "موسوعة أهل السنة" :
( واحتجوا بقوله تعالى {ولو أنهم إذ ظلموا جاؤوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله تواباً رحيماً} مع مخالفتهم لما فهمه السلف منها حيث معناها المجيء إليه في حياته.
فلا يجوز إحداث تأويل في آية أو حديث لم يكن على عهد السلف ولا عرفوه لأنه يلزم من ذلك الطعن بهم أنهم جهلوا الحق الذي اهتدى إليه الخلوف من بعدهم ، أو أنهم علموه ولكن كتموه عن الأمة.
وقد ذم الله من تخلف عن هذا المجيء واعتبرهم منافقين مستكبرين غير مغفور لهم فقال: {وإذا قيل لهم تعالوا يستغفر لكم رسول الله لوّوا رؤوسهم ورأيتهم يصدون وهم مستكبرون سواء عليهم استغفرت لهم أم لم تستغفر لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم إن الله لا يهدي القوم الفاسقين} .
ولم يثبت أن أحداً من الصحابة أتى قبر النبي صلى الله عليه وسلم وسأله الاستغفار وهذا يقتضي دخول الصحابة في المنافقين المستكبرين وأن الله لن يغفر لهم لأنهم ما عملوا بهذه الآية ؛ بل ثبت تركهم للتوسل به بعد موته والتوسل بغيره.
ولا يعقل أن يعطل الصحابة تطبيق الآية ثم يأتي هؤلاء الخلوف ويفهمون منها ما لم يفهمه ولم يطبقه الصحابة.
ثم إن إيجاب مجيء القبر على كذب مذنب من أمة محمد صلى الله عليه وسلم تكليف بما لا يطاق ، فإن الأمة لا تستطيع مجيء القبر عند ارتكاب كل ذنب.
أن هذا الفهم إلغاء لدور الحج والعمرة ؛ بل يصير القبر حَرَمَاً يحج إليه الناس. وحينئذ: فلماذا يحج الناس إلى مكة؟ أليس ليعودوا من ذنوبهم كوم ولدتهم أمهاتهم؟ ولماذا يفعلون ذلك والآية تنص بزعمهم على وجوب حج المذنبين إلى قبره صلى الله عليه وسلم؟ وكأنهم يقولون:من حج إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه!!!!!(55/1)
ويلزم أن يصير القبر عيداً ؛ بل أعظم أعياد المذنبين ، وهذا مخالفة للنبي صلى الله عليه وسلم فإنه نهى عن أن يُتخذ قبره عيداً.
أن الآية خاصة بحياة النبي صلى الله عليه وسلم حيث نزلت فيمن ترك الرسول صلى الله عليه وسلم وتحاكم إلى الطاغوت فهو بذلك أساء إلى الرسول وترك حقاً شرعياً لا تتحقق التوبة منه إلا بالمجيء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وإعلان التحاكم إليه. فوضح من ذلك أن هذه الآية نزلت في المنافقين {وإذا قيل لهم تعالوا يستغفر لكم رسول الله لووا رؤسهم ورأيتهم يصدون وهم مستكبرون} )
أعده:
أبو عمر الدوسري(المنهج) - شبكة الدفاع عن السنة(55/2)
دراسات في الفرق
الصوفية
نشأتها وتطورها
تأليف
محمد العبْده طارق عبد الحليم
الطبعة الرابعة
1422 هـ - 2001 م
قامت شبكة الدفاع عن السنة بنشر هذا الكتاب على الإنترنت ، نسأل الله أن يجعل عملنا خالصاً لوجهه الكريم
" عندما يكون الفكر الإسلامي في حالة أفول ـ كما هو حاله في الوقت الحاضر ـ فإنه يغرق في التصوف وفي المبهم وفي المشوش , وفي النزعة إلى التقليد الأعمى ".
مالك بن نبي
" حين خبت تلك النار داخل الصدور بدأ المسلمون يزحفون إلى المقامات ".
محمد إقبال
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
إن الحمد لله نحمده ونستغفره, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا, من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له, وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم وبعد:
فإن هذا البحث عن الصوفية لم يقصد به الاستقصاء لكل ما كتب عن الصوفية أو كل ما كتب الصوفية أو كل ما كتب الصوفية عن أنفسهم والتفتيش عن أقوالهم وآرائهم وطرقهم بالتفصيل, فإن هذا شيء يطول وليس عن غرضنا, بل الهدف الذي وضعناه نصب أعيننا هو إعطاء فكرة مركزة موجزة عن الصوفية لأناس ينشدون الحق وتحصيله بعيداً عن هذا الركام من الفرق والتفرق, ولذلك فإن معرفة أصولهم ومراحل تطورهم, والبدع التي وقعوا فيها ورؤوس طرقهم تكفي لمعرفة حالهم وأما الغارقون في التصوف فقد قال السلف عنهم: إن صاحب البدعة قل أن يرجع عنها.
نحن لا نكتب عن صوفية كانت وبادت أو هي جزء من التراث كما يقال اليوم بل هي موجودة موصلة بالماضي, بل نستطيع أن نقول أنهم عادوا بعد أن انحسر ظلهم قليلاً, عادوا بقوة لغاية في نفس من يستفيد من عودتهم ليزاحم بهم دعوة الإسلام الحق, فالبريلوية في المشرق والتجانية في المغرب و بينهما الشاذلية والبرهانية .. إلى آخر أسماء الطرق التي لا تنتهي, عادوا إلى المدينة ومكة بعد أن خلت منهم عشرات السنين. فلماذا لا ننبه المسلمين إلى أخطائهم وخطرهم؟(56/1)
عندما نتكلم عن الصوفية فإنما نقصد المعنى الاصطلاحي, أي الصوفية التي جاءت بكتب ومصطلحات خاصة, فيها إشكالات وبعد عن المنهج الإسلامي الصحيح أدت فيما بعد إلى أمور خطيرة مثل الإتحاد والحلول, فهذا لا شك أنه تفرق وبعد عن خط أهل السنة والجماعة, وأما الذين يقولون: إنما نعني بالصوفية السلوك الإسلامي وترقيق القلوب والزهد في الدنيا فيقال لهم: لماذا تسمون هذه الأشياء صوفية وقد أصبحت علماً على رموز وأشكال تخالف الإسلام فهلاّ ابتعدتم عن الشبهات وتركتم هذه الأسماء التي ما أنزل الله بها من سلطان " والزهد لم يذمه أحد وقد ذموا التصوف"(1).
"والذين اكتفوا بحسن الخلق والزهد في الدنيا والتأدب بآداب الشرع لقبوا بالنساك والقراء والزهاد والعباد, والذين أقبلوا على دراسة النفوس وآفاتها وما يرد على القلب من خواطر وحرصوا على الصيغة المذهبية لقبوا بالصوفية"(2).
__________
(1) ابن الجوزي: تلبيس إبليس/165 .
(2) زكي مبارك: التصوف الإسلامي في الأدب والأخلاق 2/21.(56/2)
فالقضية ليست قضية سلوك وإنما هي أساليب مستحدثة مخترعة أعجمية في الرياضات الروحية أدت إلى الشطح والقول على الله بغير على فغاية الصوفية الاتصال بالله ـ بزعمهم ـ والبعد عن الناس, وهذا مضاد لمنهج الأنبياء الذين لم يبعثوا إلا ليهزوا أركان العالم ويوقظوا الناس من سباتهم, ولذلك فنحن لا نعتبر أعلام الزهاد والعباد كإبراهيم بن أدهم والفضيل بن عياض وأمثالهم داخلين في الصوفية بهذا المعنى الذي نقرره (1), فضلاً عن أن نعتبر أمثال الحسن البصري ومن قبله كما يحاول الصوفية أن يقرروا وبدون حياء كما يصفهم ابن الجوزي, وكل فرقة تحاول التمويه على الناس وتنسب إليها أعلام أهل السنة, فكل الأحاديث الباطلة والمضحكة عند الشيعة الإمامية تنسب إلى جعفر الصادق وهو بريء منها وهو من أئمة أهل السنة.
والفرق بين الزهد الأول والتصوف هو كالفرق بين التشيع بمعناه اللغوي الذي هو المناصرة والمحبة لعلي رضي الله عنه بدون غلو وبين التشيع الذي استقر أخيراً كفرقة لها عقائدها المميزة بعد أن أدخلت الباطنية الغلو في علي توسلاً إلى الطعن في الصحابة, وهكذا بثت الباطنية تعاليمها الإلحادية في غلاة الصوفية(2).
إن اعتبار الصوفية (فرقة ) لا بد أن يثير الاستغراب والتساؤل, لأن الاعتقاد السائد أنهم من غمار أهل السنة.
__________
(1) جاء في دائرة المعارف الإسلامية 1/33 ط1933:" وعبثاً نحاول أن نجد أي أثر للنزعة النظرية التي نمت في القرن الثاني, ولا نستطيع أن نعتبر إبراهيم بن أدهم واحداً من هؤلاء الذين تخطوا تلك الحدود وأساس مذهبه الإعراض عن الدنيا وتأديب النفس".
(2) انظر رشيد رضا: تاريخ الإمام 1/116.(56/3)
وجواباً على هذا الاعتراض نقول: إذا كانت الصوفية تعتقد أن طريق الوصول إلى الله سبحانه وتعالى بالكشف والذوق والرياضيات الروحية التي ما أنزل الله بها من سلطان, فلا شك أن هذا تفرق مذموم فكيف بمن يتكلم بالحلول والإتحاد, فهذا كفر صريح. وإذا كان علماء السلف قد ذموا علم الكلام وما جرَّ وراءه من بدع وتفرق, وإن كان بعض العلماء الذين خاضوا فيه قصدوا الدفاع عن الإسلام بنوايا حسنة, فكيف لا يذم من ابتدع طريق التصوف الأعجمي في الفناء والرهبانية وذكر الله بالرقص والدف " ومن يعتقد أن لأحد طريقاً إلى الله من غير متابعة محمد صلى الله عليه وسلم فهو كافر من أولياء الشيطان"(1).
ثم إن هناك من العلماء الذين كتبوا في موضوع (الفرق) من اعتبرها كذلك, كالرازي في كتابه (اعتقادات فرق المسلمين والمشركين ) قال: " اعلم أن أكثر من قص فرق الأمة لم يذكر الصوفية وذلك خطأ .. "(2), ثم ذكر طبقاتهم وفرقهم. وقد جعل ابن النديم في كتابه (الفهرست) المقالة الخامسة ( في السياح والزهاد والعباد والمتصوفة المتكلمين على الخطرات والوساوس )(3) .
وعقد ابن حزم في كتابه ( الفصل في الملل والنحل ) فصلاً لذكر ( شنع قوم لا تعرف فرقهم ) ثم قال: " وادعت طائف من الصوفية أن في أولياء الله من هو أفضل من جميع الأنبياء, وأن من عرف الله فقد سقطت عنه الأعمال"(4).
وجاء في كتاب ( البرهان في معرفة عقائد أهل الأديان ) لعباس بن منصور الحنبلي: " ولم يشذ أحد منهم ـ أي عن أهل السنة والجماعة ـ سوى فرقة واحدة تسمت بالصوفية يتقربون لأهل السنة وليسوا منهم وقد خالفوهم في الاعتقاد والأفعال " (5) والظاهر أن المؤلف يتكلم عن غلاة الصوفية.
__________
(1) البقاعي: تنبيه الغبي /21.
(2) فخر الدين الرازي: اعتقادات فرق المسلمين /72.
(3) الفهرست /260.
(4) ابن حزم: الفصل في الملل والنحل 4/226.
(5) مقدمة كتاب اعتقادات فرق المسلمين /11.(56/4)
والقصد أننا لا نعني بكلمة فرقة إلا التفرق المذموم في الشرع وهو الابتعاد عن أصالة الإسلام الذي يمثله جيل الصحابة ومن تبع أثرهم. ونحن نعلم أن هناك أفاضل ينتسبون إلى التصوف ولكن هذا لا يمنع من الكلام عن الصوفية بشكل عام, وهؤلاء العلماء أخذوا بجانب الصوفية لظنهم أنها الطريق الوحيد لتربية النفس, وهذا خطأ منهم, ومع ذلك فهم لا يتعمقون في التصوف المنحرف المؤدي إلى البطالة أو الكفر, والمرجئة كذلك تصنف مع الفرق ومع ذلك فقد ابتلي بها بعض العلماء فإذا اعتبرنا الصوفية فرقة ابتعدت قيلاً أو كثيراً عن منهج السلف فلا يعني هذا أن كل من انتسب إليها ضال منحرف, فقد يكون من أعظم العباد ولكن فيه نقصاً في جانب من جوانب الإسلام الشامل المتكامل والمسلم يكون فيه من النقص بمقدار ابتعاده عن السنة.
ونحن لا ننكر أن أوائل الصوفية أثروا الجانب الروحي ـ إذا صح التعبير ـ بكلامهم عن أعمال القلوب و خطراتها والتركيز على الإخلاص والتوكل والإنابة والخشية لله سبحانه وتعالى ولكنهم تشددوا في هذا ونقبوا عما لم ينقب عليه من هو أفضل منهم, كما أننا لا ننكر أن البعض في الطرف المقابل قد يكون عنده قسوة قلب وهذا مرفوض أيضاً, بل هذا فيه شبه باليهود الذي وصفهم الله سبحانه في القرآن بأن قلوبهم أشد قسوة من الحجارة, كما أن عبادة الله دون علم فيه شبه بالنصارى والتوسط المعتدل هو المطلوب, " صراط الذين أنعمت عليهم " فلا نكون كالمغضوب عليهم وهم اليهود, ولا كالضالين وهم النصارى.(56/5)
إن التصوف بالمعنى الاصطلاحي الذي قررناه مستمر إلى الآن وله أثر سلبي واضح في تربية الأجيال المسلمة, تربية الإذلال والعبودية للشيخ, وتصديق كل ما هو غير معقول؟! إنها مأساة حقيقة أن يظهر بين الفينة والأخرى دجال كذاب يمشي وراءه شباب من طلبة الكليات العلمية وغير العلمية, عدا العوام وأنصاف العوام. هذه التربية جعلت من هؤلاء الشباب أصفاراً بلهاء ينتظرون كلمة من الشيخ أو معجزة خارقة على يديه.
يقول ابن عقيل محذراً من الصوفية والمتكلمين:
[ ما على الشريعة أضرمن المتكلمين والمتصوفين, فهؤلاء ( المتكلمون ) يفسدون عقائد الناس بتوهمات شبهات العقول, وهؤلاء ( المتصوفة ) يفسدون الأعمال ويهدمون قوانين الأديان. فالذي يقول: حدثني قلبي عن ربي فقد استغني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, وقد خبرت طريقة الفريقين فغاية هؤلاء ( المتكلمين ) الشك, وغاية هؤلاء ( المتصوفة ) الشطح ] (1).
__________
(1) تلبيس إبليس /375 .(56/6)
لهذه الأسباب ولاستمرار المتصوفة في تخريب الأجيال الإسلامية في كل مكان كان لا بد من الكتابة عنهم, ونحن إن شاء الله لا نبخس الناس أقدارهم ولكن كل طائفة أو فرقة تظن أنها وحدها على الحق, وكل حزب بما لديهم فرحون, فهم يظنون أنهم أفضل الخلق, وأنهم صفوة أوليائه, فالغزالي(1) يعتقد أن هذا هو الطريق ولا طريق غيره لتصفية النفس, وكأنه لم يسمع بشيء اسمه أهل السنة والجماعة أو أهل الحديث, أهل العلم والعمل أمثال أحمد بن حنبل وعبد الله بن المبارك وأئمة أهل الفقه والحديث وهم كثيرون جداً(2).
__________
(1) أبو حامد محمد بن محمد بن محمد الطوسي الغزّالي, تفقه على إمام الحرمين ومهر في الكلام والجدال وتأثر بكتب ابن سيناء وإخوان الصفا ثم ترك ذلك ومال إلى الصوفية, وكان من الأذكياء, صاحب ذهن سيال جوال ولذلك يلاحظ عليه التقلب بين الفقه والالتزام بآداب الشرع وبين الخوض في الفلسفة والكلام والصوفية , وله في ذلك ألفاظ مستبشعة جداً سقط فيها على أم رأسه, له تآليف مشهورة في الفقه والتصوف والرد على الفلاسفة. انظر: سير أعلام النبلاء 19/322 وما نقله من أقوال العلماء فيه, مبالغة منه في الأنصاف. توفي أبو حامد سنة 505 هـ ببلدة طوس.
(2) انظر كتاب الغزالي: المنقذ من الضلال, فقد قسم فيه الطرق الموصلة للحق إلى أربعة: الفلسفة, الكلام, الإمام المعصوم, الكشف ثم رضي بالأخير دليلاً له إلى الحق.(56/7)
والذي يقرأ في أول شدوه للعلم كتب الغزالي أو الحارث المحاسبي(1)يظن أن هذا هو الطريق ولا طريق غيره, وتبقى الحقيقة وراء كل ذلك قائمة كالشمس في رابعة النهار, تلوح لمن صح قصده, وأصاب علمه, وانتهج الصراط المستقيم.
وأخيراً نرجو من الله سبحانه وتعالى أن نوفق لعرض نشأة الصوفية وتطورها بدون تعصب أو تحامل والله من وراء القصد, والحمد لله رب العالمين.
* * *
الفصل الأوَّل
تطوّر الصوفيَّة
تمهيد
لم تكن الصوفية ـ بطبيعتها ـ فرقة واضحة متميزة حتى يمكن للباحث تتبع تطورها طوراً طوراً عبر السنين وإنما هي فرقة ( هلامية ) ليس لها شكل محدد, فقد تجد معتنقي أفكارها مَنْ هم من الفقهاء, أو تجدهم متميزين ببدعهم مدعين الانتساب لأهل السنة, وهذا الأمر مما يُصّعب مهمة الباحث في أطوار الصوفية عندما يقصد إلى التحديد الدقيق لمراحلها المختلفة.
ومن ثم سنحاول بيان هذه الأطوار بذكر المعالم الرئيسية التي مرت بها الفرق عبر القرون, وما قد يكون من ظهور أفكار كبرى تصلح أن يعتبرها الباحث مرحلة من المراحل, فهو تطور امتزج فيه التاريخ بالفكر, فما أصعب أن تنفصل عرى الارتباط الذي دام من منشأ هذا التفرق حتى يوم الناس هذا.
وقد قسمنا مراحل تطور الصوفية إلى ثلاثة مراحل مسبوقة بتمهيد لها وهو ظهور طبقة العباد والزهاد في المجتمع الإسلامي.
__________
(1) هو الحارث بن أسد المحاسبي البغدادي, له كتب كثيرة في الزهد, رفض تركة أبيه لخوضه في علم الكلام. سئل أبو زرعة الرازي عن كتبه فنهى عنها وقال: ( عليك بالأثر وهل بلغكم أن مالكاً والثوري والأوزاعي صنفوا في الخطرات والوساوس ) توفي المحاسبي سنة 143 هـ. انظر: صفة الصفوة 2/367 سير أعلام النبلاء 2/110.(56/8)
ثم أول المراحل وهم أوائل الصوفية الذين يصح أن يقال فيهم: من هنا بدأ التفرق, تتبعها مرحلة المصطلحات التي استقلت بها الفرقة, ثم ظهور فكرة وحدة الوجود وتداخلها في فكر الصوفية مع امتزاجها بالفلسفة الغنوصية اليونانية .
* * *
المبْحثُ الأَوَّل
المجتمع الإسلاميُ وظهُور طبقة العُبَّاد
نشأ المجتمع الإسلامي الأول نشأة طبيعية متكاملة غير متكلفة, جمعت بين بقايا من الفطرة السليمة والوحي المنزل من عند الله سبحانه وتعالى, كان العرب يومها وخاصة أهل المدن كقريش و الأوس والخزرج أقرب إلى الفطرة من الأمم الأخرى, فلا ريب أن الله اختار لنبيه أفضل الأجيال, رباهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بكنفه ورعايته فكانوا: " كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار ... "(1). وعندما يبدر من أحدهم أي اجتهاد يخالف الحنيفية السمحة كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصحح لهم الطريق ويعود بهم إلى الجادة المستقيمة, وعندما همّ ثلاثة من الصحابة بترك الدنيا من نساء وأموال بادر رسول الله صلى الله عليه وسلم بردهم إلى الطريق الوسط قائلاً لهم: " أما أنا فأصوم وأفطر وأصلي وأنام وأتزوج النساء, فمن رغب عن سنتي فليس مني "(2).
فالتوسط هو الأصل " وإذا نظرت في عمومات الشريعة, فتأملها تجدها حاملة على الوسط, فطرف التشديد يؤتي به في المقابلة من غلب عليه الانحلال, وطرف التخفيف في مقابلة من غلب عليه الحرج الشديد فإذا لم يكن هذا ولا ذاك رأيت التوسط لائحاً وهو الأصل الذي يرجع إليه "(3).
__________
(1) سورة الفتح / 29.
(2) جامع الأصول لابن الأثير 1/294 باب الاقتصاد في الأعمال
(3) الموافقات للشاطبي 2/113. ط . دار الفكر بتعليق الخضر حسين.(56/9)
كان الصحابة رضوان الله عليهم فيهم الفقير والغني, وفيهم التاجر والمزارع والعامل وكان بعضهم يتناوب الحضور للتعلم من النبي صلى الله عليه وسلم ويبلغه للآخرين, وأما أهل الصفة فإنهم لم ينقطعوا للعبادة أو العلم باختيارهم وإنما كان أحدهم إذا وجد عملاً ترك حاله الأولى, هكذا كانت حياة الصحابة حياة طبيعية تجمع بين العلم والعمل والجهاد في سبيل الله, وبينما هو متعلم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا هو بين أهله وولده وضيعة يمارس حياته اليومية المعتادة. والتزام أحدهم بعبادة معينة أكثر من الآخرين كفعل عبد الله بن عمرو بن العاص لا يغير من الصورة شيئاً, فهو شخصية متكاملة ولا تزال الفوارق الفردية تمايز بين الناس في جانب دون آخر. فهم كما وصفهم الإمام الجويني: " ولم يرهق وجوههم الكريمة وهج البدع والأهواء ولم يقتحموا جراثيم اختلاف الآراء كالبيضة التي لا تتشظى"(1).
وكان التابعون وكثير من تابعي التابعين على مثل ذلك, يجمعون بين العلم والعمل, بين العبادة والبعد عن الناس مع علمهم وفضلهم والتزامهم بآداب الشريعة, ولأسباب معينة قد يغلب على أحدهم الخوف الشديد والبكاء المستمر, فهؤلاء وإن كانت أحوالهم عالية جداً, ولكن أحوال الصحابة ومن اقتفى أثرهم من التابعين أفضل, ولذلك قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه لأصحابه: " أنتم أكثر صوماً وصلاة من أصحاب محمد وهم كانوا خيراً منكم قالوا: لم يا أبا عبد الرحمن؟ قال: لأنهم كانوا أزهد في الدنيا وأرغب في الآخرة"(2).
ومن هؤلاء العباد في المدينة:
عامر بن عبد الله بن الزبير: كان يواصل في الصوم فيقول والده: رأيت أبا بكر وعمر ولم يكونا هكذا(3).
__________
(1) عبد الملك بن عبد الله الجويني: الغيائي/42.
(2) ابن تيمية: الفتاوى 22/304 .
(3) الإمام الذهبي: سير أعلام النبلاء 5/219.(56/10)
صفوان بن سليم: من الثقات قال عنه أحمد بن حنبل: يستشفى بحديثه وينزل القطر من السماء بذكره, وكان يصلي على السطح في الليلة الباردة لئلا يجيئه النوم, وقد أعطى الله عهداً أن لا يضع جنبه على فراش حتى يلحق بربه, توفي سنة 132هـ (1). فإذا كان ما أورده الذهبي صحيحاً فهذا خلاف قوله صلى الله عليه وسلم ( وأصلي وأنام ).
ومنهم في البصرة طلق بن حبيب العنزي, من كبار العاملين, وعطاء السلمي بكى حتى عمش(2).
ومنهم كرز بن وبر الحارثي نزيل جرجان: من العباد والزهاد قال عنه الذهبي:" هكذا كان زهاد السلف وعبادهم أصحاب خوف وخشوع وتعبد وقنوع لا يدخلون في الدنيا وشهواتها ولا في عبارات أحدثها المتأخرون من الفناء والاتحاد"(3).
ومنهم في الكوفة: الأسود بن يزيد بن قيس: كان يجهد نفسه في الصوم والعبادة حتى يصفرَّ جسمه(4). وداود الطائي, يذكر عنه أنه ورث بيتاً فكان لا يعمره إذا خربت ناحية منه حتى خرب البيت كله وجلس في زاوية منه, وقد نحل جداً من قلة الأكل(5).
ويبدو أن من أسباب ظهور طبقة العباد والزهاد في القرن الثاني الهجري هو إقبال الناس على الدنيا يجمعون منها ويتفاخرون(6), فكانت ردة الفعل عند البعض هي الابتعاد الكلي عنها, ولا بد أن هناك أسباباً أخرى قد تكون شخصية, وقد تكون من أثر إقليم معين أو مدينة معينة, فإن من الخطأ تفسير ظاهرة ما بسبب واحد.
__________
(1) المصدر السابق 5/367.
(2) سير أعلام النبلاء 4/601.
(3) المصدر السابق 6/86.
(4) ابن الجوزي: صفة الصفوة 3/23.
(5) المصدر السابق 3/139.
(6) ابن خلدون: المقدمة/467.(56/11)
ثم حدثت مرحلة انتقالية بين هذا الزهد المشروع وبين التصوف حين أصبح له تآليف خاصة, ويمثل هذه النقلة مالك دينار فنراه يدعو إلى أمور ليست عند الزهاد السابقين, منها التجرد أي ترك الزواج, وهو نفسه امتنع عن الزواج وكان يقول: " لا يبلغ الرجل منزلة الصديقين حتى يترك زوجته كأنها أرملة ويأوي إلى مزابل الكلاب"(1). ويقول: " إنه لتأتي عَلَيّ السنة لا آكل فيها لحماً إلا في يوم الأضحى, فإني آكل من أضحيتي"(2). وكثيراً ما يقول: قرأت في بعض الكتب, قرأت في التوراة,ويروى عن عيسى عليه السلام: " بحق أقول لكم, إن أكل الشعير والنوم على المزابل مع الكلاب لقليل في طلب الفردوس " أو قوله: " أوحى الله إلى نبي من الأنبياء " أو " قرأت في الزبور ... " (3).
فمن الواضح ومن خلال قراءة ترجمته في كتب الطبقات أنه متأثر بما ترويه الكتب القديمة عن الزهاد والرهبان .. ومن الواضح أن هذه الكتب قد حرفت ولسنا مأمورين بقراءتها بل منهيون عن الأخذ منهم وتقليدهم.
__________
(1) سير أعلام النبلاء 8/156, عبد الرحمن بدوي : تاريخ التصوف 198ـ حلية الأولياء 2/359. وقد علق محقق السير الشيخ شعيب على هذا الكلام فقال: " منزلة الصديقين لا تنال بهذا النسك الأعجمي المخالف لما صح عنه صلى الله عليه وسلم من ترك التبتل والرهبنة".
(2) تاريخ التصوف /193.
(3) انظر ترجمة في حلية الأولياء 2/357 .(56/12)
وربما يكون عبد الواحد بن زيد ورابعة العدوية (1) من أقطاب هذه المرحلة الانتقالية, واستحدثت كلمة العشق للتعبير عن المحبة بين العبد والرب ويرددون أحاديث باطلة في ذلك مثل: " إذا كان الغالب على عبدي الاشتغال بي جعلت نعيمه ولذته في ذكري عشقني وعشقته " وبدأ الكلام حول العبادة لا طمعاً في الجنة ولا خوفاً من النار, وإنما قصد الحب الإلهي, وهذا مخالف للآية الكريمة: " يدعوننا رغبا ورهباً " (2). ومثل قول رابعة لرجل رأته يضم صبياً من أهله ويقبله : " ما كنت أحسب أن في قلبك موضعاً فارغً لمحبة غيره تبارك اسمه " (3). وهذا تعمق وتكلف لأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يقبل أولاد ابنته ويحبهم .
__________
(1) تكلم فيها أبو داود السجستاني واتهمها بالزندقة, فلعله بلغه عنها أمر, توفيت بالقدس سنة 185هـ. انظر : ابن كثير/ البداية والنهاية 10/186 . قال ابن تيمية: قال بعضهم : مَنْ عَبَدَ الله بالحب وحده فهو زنديق, ومَنْ عَبَدَ الله بالخوف وحده فهو مؤمن موحد. انظر الفتاوى 10/81.
(2) الأنبياء/90.
(3) سير أعلام النبلاء 8/156.(56/13)
يقول ابن تيمية : ملاحظاً : هذا التطور : " في أواخر عصر التابعين حدث ثلاثة أشياء : الرأي , والكلام, والتصوف, فكان جمهور الرأي في الكوفة, وكان جمهور الكلام والتصوف في البصرة, فإنه بعد موت الحسن وابن سيرين ظهر عمرو بن عبيد وواصل بن عطاء وظهر أحمد بن علي الهجيمي(1) وبنى دويرة للصوفية وهي أول ما بني في الإسلام ( أي دار خاصة للالتقاء على ذكر أو سماع ) وصار لهم من التعبد المحدث طريق يتمسكون به, مع تمسكهم بغالب التعبد المشروع, وصار لهم حال من السماع والصوت, وكان أهل المدينة أقرب من هؤلاء في القول والعمل, وأما الشاميون فكان غالبهم مجاهدين "(2).
كما لخص هذا التطور الإمام ابن الجوزي فقال : " في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم كانت كلمة مؤمن ومسلم, ثم نشأت كلمة زاهد وعابد, ثم نشأ أقوام وتعلقوا بالزهد والتعبد واتخذوا في ذلك طريقة تفردوا بها, هكذا كان أوائل القوم ولبَّس عليهم إبليس أشياء ثم على من بعدهم إلى أن تمكن من المتأخرين غاية التمكن " (3).
هؤلاء الذين اتخذوا طريقة تفردوا بها ويسميهم ابن الجوزي ( أوائل القوم ) الذين جمعوا بين الزهد وبين التعمق والتشدد والتفتيش على الوساوس والخطرات مما لم يكن على عهد السلف الأول, هؤلاء هم الذين سنتكلم عنهم في الفصل القادم إن شاء الله.
المبحث الثاني
أوائل الصوفية
تمهيد
__________
(1) كان تلميذ شيخ البصرة عبد الواحد بن زيد, وكان يتكلم في القدر, وقف داراً بالبصرة لمتعبدين. قال الدارقطني : متروك الحديث قال الذهبي : ما كان يدري الحديث, ولكنه عبد صالح وقع في القدر نعوذ بالله من ترهات الصوفية. توفي سنة 200هـ انظر: سير أعلام النبلاء 9/408.
(2) الفتاوى : 10/359.
(3) تلبيس إبليس /161.(56/14)
تطورت الصوفية حتى وصلت إلى الغلو, من البدع العملية إلى البدع القولية الإعتقادية, بعد أن دخلت عليها عناصر خارجية, وهي كأي تفرق يبدأ بسيطاً ساذجاً ثم ينتقل إلى التأصيل والتفريع ثم الإيغال في الضلال. ويمكن تقسيم هذا التطور إلى ثلاث مراحل: أوائل الصوفية ومن مشى على طريقتهم ثم تقيد الصوفية بمصطلحات خاصة ثم دخول الفلسفة الغنوصية وظهور نظريات الاتحاد ووحدة الوجود. هذه المراحل أو الطبقات(1) ليست منفصلة عن بعضها وغير محددة بزمن معين وانتهت, بحيث أن كل مرحلة تسلم إلى المرحلة التي تليها, ولكن هذا التطور حصل في العصور الإسلامية فكان الغالب على بدايات التصوف عدم الغلو, ثم إن التصوف بلغ قمة الانحراف في القرن السابع على يد ابن عربي وابن الفارض وأمثالهما, وصوفية اليوم مزيج من الانحراف العملي والعلمي فر يزال يوجد من يردد أقوال الغلاة عن علم وعن غير علم.
__________
(1) نعني بالطبقة هنا الذين يجمعهم منهج واحد وطريقة واحدة ولا نعني الجيل الواحد كما هو معروف في مصطلح المؤرخين من كتاب الطبقات.(56/15)
إن من أعلام المرحلة الأولى من هو في القرن الثالث كالجنيد(1) والسري السقطي(2), ومنهم في القرن الرابع كأبي طالب المكي(3) وبداية القرن الخامس كأبي عبد الرحمن السلمي (4) كما أنه ظهر مبكراً من يقول بالحلول كالحلاج (5) ولكن هذا كان شاذاً بالنسبة لانتشار الغلو في القرون المتأخرة . فالقصد أن هذا التقسيم هو للغالب على كل مرحلة .
أوائل الصوفية
عرف التصوف في بداياته بأنه رياضات نفسية ومجاهدات للطباع , وكسر لشهوات النفوس وتعذيب للجسد كي تصفو الروح , وإذا كان هذا الصفاء الروحي يأتي بدون تكلف عند السلف نتيجة التربية المتكاملة فنحن هنا بصدد تشدد وتكلف لحضور هذا الصفاء , وبصدد تنقير وتفتيش عن الإخلاص يصل إلى حد الوساوس , وسنرى من أقوالهم وأحوالهم ما يؤيد هذا .
__________
(1) هو أبو القاسم الخزاز , أصله من نهاوند ومولده في بغداد, من أقواله : الطريق إلى الله مسدود على الخلق إلا على المقتفين آثار الرسول صلى الله عليه وسلم , تفقه على أبي ثور, توفي سنة 298هـ , انظر صفة الصفوة 2/416.
(2) هو السري بن المغلس خال الجنيد وأستاذه, يحب العزلة, تكلم في موضوع المحبة لا طمعاً في الجنة ولا خوفاً من النار, ومن أقواله قليل في سنة خير من كثير في بدعة.. توفي 253هـ, انظر : طبقات الشعراني 1/74.
(3) محمد بن عطية, كان رجلاً صالحاً, ذكر أحاديث في ( قوت القلوب ) لا أصل لها. بدَّعه الناس في بعض أقواله وهجروه توفي 386هـ. انظر: البداية والنهاية 11/319.
(4) محمد بن الحسين الأزدي السلمي , له عناية بأخبار الصوفية , صنف لهم تفسيراً على طريقتهم . قال عنه محمد بن يوسف القطان النيسابوري : لم يكن ثقة , وكان يضع للصوفية الأحاديث , وفي تفسيره أشياء لا تسوغ أصلاً , توفي سنة 412هـ . انظر : سير أعلام النبلاء 17/247.
(5) انظر ترجمته في القسم المخصص للملاحق .(56/16)
قال الجنيد – ويسمونه سيد الطائفة - : " ما أخذنا التصوف عن القيل والقال بل عن الجوع وترك الدنيا وقطع المألوفات " (1) . ويصف معروف الكرخي نفسه فيقول : " كنت أصبح دهري كله صائماً , فإن دعيت إلى طعام أكلت ولم أقل إني صائم " (2) ويقول بشر الحافي (3) : " إني لأشتهي شواء ورقاقاً منذ خمسين سنة ما صفا لي درهم " (4). ويرى الجنيد عند شيخه السري السقطي خرف كوز مكسور فيسأله عن ذلك فيقول : أبردت لي ابنتي ماء في هذا الكوز ثم غلبتني عيني فرأيت جارية فسألتها لمن أنت ؟ فقالت : لمن لا يشرب الماء البارد وضربته بيدها فانكسر (5). ويروي الجنيد عن بعض الكبراء أنه إذا نام ينادي : أتنام عني! إن نمت لأضربنك بالسياط , وحكى الغزالي عن سهل بن عبد الله أنه كان يقتات ورق النبق مرة , ويشجع الغزالي على السياحة في البراري بشرط التعود على أكل أعشاب البرية والصيد !؟
__________
(1) سير أعلام النبلاء : 14/69.
(2) صفة الصفوة : 2/32.
(3) هو بشر بن الحارث اشتغل بالعبادة واعتزل الناس , اثني عليه في عبادته وورعه ونسكه , وله أخوات ثلاث كن مثله توفي عام 227هـ . انظر : سير أعلام النبلاء 10/41.
(4) صفوة الصفوة 2/329.
(5) الكلاباذي : التعرف /155.(56/17)
ومن آداب الصوفية عند أبي نصر السراج : ( إيثار الذل على العز , واستحباب الشدة على الرخاء ) (1) , ورتبوا أموراً لمن يريد الدخول معهم أو للمريد ومنها : اشتراط الخروج من المال كما يذكر القشيري في رسالته , وأن يقلل من غذائه بالتدريج شيئاً بعد شيء وأن يترك التزوج ما دام في سلوكه (2), و أما أبو طالب المكي فيطلب من المريد ألا يزيد على رغيفين في اليوم والليلة (3), والجنيد يطلب من المريد ألا يشغل نفسه بالحديث (4) . كل هذه الأمور تخالف التوسط والحنيفية السمحاء وتخالف ما كان علية الصحابة ومن ميزات هذه المرحلة :
استحداث ما يسمونه ( السماع ) وهو الاستماع إلى القصائد الزهدية المرققة , أو إلى قصائد ظاهرها الغزل ويقولون : نحن نقصد بها الرسول صلى الله عليه وسلم , ومنشدهم يسمونه ( القوّال ) ويستعمل الألحان المطربة .
بدأ الكلام عن كيان خاص مميز يسمى ( الصوفية ) وظهرت كلمات مثل ( طريقتنا ) و ( مذهبنا ) و ( علمنا) يقول الجنيد : " علمنا هذا مشتبك بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم "(5) .
ويقول أبو سليمان الداراني : " إنه لتمر بقلبي النكتة من نكت القوم فلا أقبلها إلا بشاهدي عدل من الكتاب والسنة " (6).
فلماذا (علمنا) ولماذا ( من نكت القوم ) .
__________
(1) اللمع /28.
(2) الشاطبي : الإعتصام 1/214.
(3) تلبيس إبليس /141
(4) ربما كان مقصوده الانتباه إلى تزكية النفس في بداية الطريق دون التعمق في مصطلحات الحديث وإلا فإن ترك الحديث يؤدي إلى الكفر .
(5) ابن القيم : مدارج السالكين 3/142.
(6) المصدر السابق 3/142.(56/18)
صنفت الكتب التي تجمع أخبار الزهد والزهاد وتخلط الصحيح بغير الصحيح وتتكلم عن خطرات النفوس والقلوب والدعوة إلى الفقر وتنقل عن أهل الكتاب , مثل كتب الحارث المحاسبي , وأبي طالب المكي في ( قوت القلوب ) , وصنف لهم أبو عبد الرحمن السلمي في التفسير , وأبو نعيم الأصفهاني في ( حلية الأولياء ) . يقول ابن خلدون : " أصل طريقتهم محاسبة النفس والكلام في هذه الأذواق ثم ترقوا إلى التأليف في هذا الفن فألفوا في الورع والمحاسبة كما فعل القشيري في ( الرسالة ) وذلك بعد أن كانت الطريقة عبادة فقط " (1).
ولنا على هذه المرحلة الملاحظات التالية :
هذا التعمق والتشدد في العبادات مع ترك المباحات لم يعهد عند السلف رضوان الله عليهم , وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكل اللحم ويحب الحلوى ويستعذب له الماء البارد (2), ولم يأمر صلى الله عليه وسلم أحداً من أصحابه بالخروج عن ماله , والتشدد في الدين كدوام الصيام والقيام هو داء رهبان اليهود والنصارى (3), وترك التزوج وإدامة الجوع فيه شبه بالتبتل الذي رده الرسول صلى الله عليه وسلم على بعض أصحابه , وبسبب هذه الرياضات فقد ابن عطاء الأدمي البغدادي عقله ثمانية عشر عاماً , وقال الذهبي معلقاً على ذلك : " ثبت الله علينا عقولنا فمن تسبب في زوال عقله بجوع ورياضة صعبة فقد عصى وأثم " (4).
وأما السياحة ف البراري فهي من السياحة المنهي عنها , وهي من الرهبانية المبتدعة , وكأنهم لم يسمعوا بالحديث الذي رواه أبو داود عن أبي أمامة أن رجلاً قال : يا رسول الله أئذن لي في السياحة , قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن سياحة أمتي الجهاد في سبيل الله " (5).
__________
(1) المقدمة /469.
(2) تلبيس إبليس / 151.
(3) الدهلوي : حجة الله البالغة /120.
(4) سير أعلام النبلاء : 14/153.
(5) سنن أبو داود 3/5 كتاب الجهاد .(56/19)
يقول ابن تيمية : " وأما السياحة التي هي الخروج في البرية فليست من عمل هذه الأمة " (1), وقول الإمام الذهبي : " الطريقة المثلي هي المحمدية , وهو الأخذ من الطيبات , وتناول الشهوات المباحة من غير إسراف , فلم يشرع لنا الرهبانية ولا الوصال ولا صوم الدهر والجوع أبو جاد الترهب " (2). " وقد لُبِّس عليهم في ترك المال كله , وكانت مقاصدهم حسنة وأفعالهم خطأ والعجيب من الحارث المحاسبي والغزالي كيف حثوا على ذلك , وأما استشهاد الحارث بأن عبدالرحمن بن عوف يوقف في عرصة القيامة بسبب مال كسبه من حلال فهذا خطأ وجهل بالعلم وقصة حبس ابن عوف غير صحيحة , ولم ينه الله عز وجل عن جمع المال وإنما النهي عن القصد بالجمع " (3).
إن السلف عندما فهموا الإسلام فهماً صحيحاً لم يتعمقوا ويشددوا على أنفسهم , فهذا سيد التابعين سعيد بن المسيب يقول له مولاه برد : ما رأيت أحسن ما يصنع هؤلاء , قال سعيد : ما يصنعون ؟ قال : يصلي أحدهم الظهر ثم لا يزال صافاً رجليه يصلي حتى العصر , قال سعيد : ويحك يا برد, أما والله ما هي بالعبادة , تدري ما العبادة ؟ إنما العبادة التفكر في أمر الله والكف عن محارم الله (4).
__________
(1) ابن تيمية : اقتضاء الصراط المستقيم /105 وقد نقل كلام الإمام أحمد بن حنبل .
(2) سير أعلام النبلاء 12/89 ويعني بكلمة ( أبو جاد ) البداية والمقدمة .
(3) تلبيس إبليس /180.
(4) ابن سعد : الطبقات 5/135 .(56/20)
إن هذا الجسد مطية للنفس فإذا لم تعط هذه المطية حقها لم تستطع أن تحمل النفس بآمالها الكبيرة , ولكن عندما يحدث الزهد غير المشروع والتبتل والجوع وترك اللحم , الاقتصار على كسرة الخبز وشربة الماء و عندئذ تلزمه خطرات النفس ويسمع أشياء تتولد عن الجوع والسهر , وربما أدى به إلى أمراض نفسية , " والوصول إلى العبادة لا يكون إلا بالحياة الدنيا ولا سبيل إلى ذلك إلا بحفظ البدن " (1) " ومجرد ترك الدنيا ليس في كتاب الله ولا سنة نبيه وما فيه ضرر في الدنيا مذموم إذا لم يكن نافعاً في الآخرة " (2).
إن الزهد الحقيقي هو الزهد في الدنيا حتى يستوي عنده ذهبها وترابها والزهد في مدح الناس أو ذمهم , فمن كان هكذا فهو من أطباء القلوب , فإن بدا منه ما يخالف الشريعة نَرُدَّ عليه بدعته ونضربها في وجهه (3). وقد مدح الخليفة العباسي المنصور عمرو بن عبيد المعتزلي على زهده فعلق ابن كثير : " الزهد لا يدل على صلاح فإن بعض الرهبان قد يكون عنده من الزهد مالا يطيقه عمرو ولا كثير من المسلمين " (4) .
قد يظن العوام الذين يرون عبادة هؤلاء أنهم أفضل من الصحابة , لأنهم لم يسمعوا أن الصحابة كانوا يفعلون مثل هذا والناس يعجبون بالغرائب والتشدد , ولا يعلمون أن الشريعة جاءت بالطريق الأوسط الأعدل , وقلة العلم بالآثار والسنن هي التي أوصلت بعض هؤلاء الناس إلى التشدد , وظنوا أن القصد من الشريعة هو العمل ولذلك فلا داعي للعلم , وإذا كان من الصعب تكامل الشخصية الإسلامية على مستوى جيل من الناس كما وجد عند الصحابة فلا أقل من اقتفاء آثارهم ما أمكننا ذلك ولا نتطرف في ناحية دون أخرى .
__________
(1) الذريعة إلى مكارم الشريعة / 53 لراغب الأصفهاني .
(2) ابن تيمية : الفتاوى 20/148 .
(3) أبجد العلوم : 2/ 374 للقنوجي نقلاً عن الشوكاني .
(4) البداية والنهاية : 10/80 .(56/21)
إن السماع الذي استحدثوه هو الذي أنكره الشافعي رضي الله عنه عندما زار بغداد وقال : " خلفت ببغداد شيئاً يسمونه التغيير يصدون به الناس عن القرآن " (1), ويقول ابن تيمية : " وهذا حدث في أواخر المائة الثانية وكان أهله من خيار الصوفية " (2) ويقول أيضاً: " وهذه القصائد الملحنة والاجتماع عليها لم يحضرها أكابر الشيوخ كالفضيل بن عياض وإبراهيم بن أدهم والكرخي , وقد حضرها طائفة منهم ثم تابوا وكان الجنيد لا يحضره في آخر عمره " (3).
قلنا أنه بدأ الكلام عن كيان خاص يسمى ( الصوفية ) وقد يقول معترض : إذا كانت القضية قضية أسماء مستحدثة فقد حدث الانتساب إلى الفقه الشافعي والمالكية ... أو الانتساب إلى الحديث , والجواب هو أنه إذا كانت الأسماء المستحدثة تنسب على علم شرعي يحبه الله ورسوله مثل تعلم الفقه والحديث , ولا يؤدي هذا الانتساب إلى تعصب حول شخص معين فلا مانع من ذلك " والانتساب قد يكون محموداً شرعاً مثل المهاجرون والأنصار وقد يكون مباحاً كالانتساب إلى القبائل والأمصار بقصد التعريف فقط , وقد يكون مكروهاً أو محرماً كالانتساب إلى ما يفضي إلى بدعة أو معصية " (4).
__________
(1) يقول ابن القيم : " فإذا كان هذا قول الشافعي في التغيير وهو شعر يزهد في الدنيا ولكنه ينشد بألحان فليت شعري ما يقول في سماع التغيير عنده تفلة في بحر . انظر : إغاثة اللهفان 1/239.
(2) الاستقامة 1/297 .
(3) الفتاوى 11/534 , والمقصود بـ ( لا يحضره ) ما يسمى عند الصوفية بالسماع .
(4) ابن تيمية : اقتضاء الصراط المستقيم /71 .(56/22)
إن الكتب التي صنفت في هذه الفترة والتي ذكرنا بعضاً منها , هذه الكتب كان للعلماء فيها رأي , قال ابن الجوزي عن كتاب ( قوت القلوب ) : ذكر فيه الأحاديث الباطلة والموضوعة وقال عن ( حلية الأولياء ) لأبي نعيم : لم يستح أن يذكر في الصوفية أبا بكر وعمر وعثمان وعلياً وسادات الصحابة (1) عليه وسئل أبو زرعة عن كتب المحاسبي فقال : إياك وهذه الكتب , فقيل له : في هذه عبرة , قال : من لم يكن له في كتاب الله عز وجل عبرة فليس له في هذه الكتب عبرة (2).
في هذه المرحلة المبكرة يبدو أن هناك تأثيراً للنصارى في تكون القناعات بتعذيب الجسد كي تصفو الروح . روى أحمد بن أبي الحواري قصة لقائه براهب دير حرملة وقد سأله عن سبب رهبانيته فقال : البدن خلق من الأرض والروح خلقت من ملكوت السماء فإذا جاع بدنه وأعراه وأسهره نازع الروح إلى الموضع الذي خرج منه وإذا أطعمه وأراحه أخلد إلى الأرض وأحب الدنيا . حدث أبي الحواري شيخه أبا سليمان الداراني بمقالة الراهب هذه فقال الشيخ " ( إنهم يصفون ) وكأنه أعجب بكلام الراهب ولذلك علق الذهبي عليه بقوله : ( الطريقة المثلي المحمدية ) (3).
__________
(1) تلبيس إبليس / 165 .
(2) نفس المصدر / 167.
(3) سير أعلام النبلاء : 12/89.(56/23)
إن أهل هذه الطبقة من الصوفية صادقون في زهدهم وبعدهم عن الدنيا ولكن فيهم تعمق وتشدد ووساوس لم يأمر بها الشارع بل لا يحبها ونحن لا نستبعد أن يكون هناك من يريد إفساد عقائد المسلمين فإدخال العقائد الباطنية ويكون فعله هذا من وراء ستار كما أخذوا التشيع بالمعنى السياسي وأدخلوه في دهاليز الباطنية (1), ولذلك يبدر منهم أحياناً كلمات تجعلنا نتوقف عندها طويلاً كما يروى عن الجنيد أنه قال للشبلي : نحن حبرنا هذا العلم تحبيراً ثم خبأناه في السراديب فجئت أنت فأظهرته على رؤؤس الملأ " (2). مع أن بعض العلماء يستبعد كلمات تنسب إليه مثل قوله ( انتهى عقل العقلاء إلى الحيرة ) يقول ابن تيمية : " فيه نظر , هل قاله؟ والجنيد الاستقامة غالبة عليه "(3) .
هذه هي حال الطبقة الأولى فيها زهد مشروع خلط بغير المشروع مع أن أحوالهم في العبادة والأذكار والبعد عن الرياء أحوال عالية , ثم تطور الأمر بعد هذا بإدخال مصطلحات فيها حق وباطل أو تحتمل هذا وذاك وزاد الانحراف واتسعت الفرجة والبعد عن السنة وهو ما سنتكلم عنه الفصل القادم إن شاء الله .
* * *
المبحث الثالث
المصطلحات والغموض
__________
(1) يقول رشيد رضا : " الذي أستنبطه من طول البحث والمقارنة أن أكثر الذين خلفوا نصوص الشريعة بأقوالهم وكتبهم من لابسي لباس التصوف هم باطنية في الحقيقة ثم قلدهم كثير من المسلمين وهم لا يعرفون أصلها " انظر : تاريخ الإمام 1/115 .
(2) الكلاباذي : التعرف / 145 .
(3) منهج ابن تيمية رحمه الله في الجنيد وأمثاله من أوائل الصوفية هو الاعتذار عن بعض كلماتهم واستبعادها لما يرى من صدقهم في عبادتهم , وهذا منهج سديد حيث يغلب الاحتياط لدين المسلم حتى لا يقع في الرجال . ولكن عندما ننظر إلى مجموع ما نقل عن الجنيد ونظرائه فإن الأمر يختلف , فإن كثرة ما روي عنه تشجع على اعتباره من مؤسسي التصوف .(56/24)
إن أي انحراف عن السنة ولو كان قليلاً فإنه يزداد مع الأيام , وتأتي الروافد من هنا وهناك باجتهادات خاطئة أو تصورات باطلة فيتسع الخرق ويقوى الباطل , وقد وقع المتصوفة منذ نهاية القرن الثالث الهجري بمشكله المصطلحات الغامضة المبهمة التي يستطيع كل متصوف تفسيرها حسب ما يشاء فالمبتدئ يفسرها تفسيراً بريئاً والمتعمق منهم يفسرها حسب غلوه وضاله , وهذه المشكلة ( المصطلحات ) وعدم وضوحها هي من أسباب ضلال الأمم قبلنا , فالكلمات التي تحتمل الصواب والخطأ هي من بعض أسباب وقوع النصارى في القول بألوهية المسيح عليه السلام, فعندما يقول سبحانه عن عيسى ( وروح منه ) فهذا لا يعني أنه جزء منه بل هذه إضافة تشريف , كما يقول تعالى ( ناقة الله ) أو كما يوصف أحد الصحابة بأنه ( أسد الله ) أو ( سيف الله ) أو قوله تعالى ( سخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعاً منه ) ولذلك حذر القرآن الكريم في إتباع المتشابه وأنه يجب رد المتشابه إلى المحكم , والمحكم : ( قل هو الله أحد , الله الصمد , لم يلد ولم يولد ..) قال الإمام أحمد : بكلمة ( كن) كان عيسى عليه السلام وليس هو الكلمة نفسها , وقال تعالى في حق بني إسرائيل ( ولا تلبسوا الحق بالباطل ) .
تكلم المتصوفة في مصطلحاتهم عن الفناء والبقاء والصحو والمحو , والتجريد والتفريد و وهي ألفاظ تحتمل الحق والباطل , بل هي أقرب إلى الباطل , وقد اعترف مؤلفوهم باستحداث مصطلحات خاصة بهم .
قال أبو بكر الكلاباذي " إن للقوم عبارات تفردوا بها , واصطلاحات فيما بينهم لا يكاد يستعملها غيرهم " (1) ومن أوائل من تكلم بهذه المصطلحات أبو حمزة الصوفي البغدادي ( ت 296) والبسطاني وأبو سعيد الخراز ( ت277 ) .
وهذه أمثلة لبعض مصطلحاتهم وتعريفهم لها ثم نتكلم عن الآثار المترتبة عليها :
*الفناء :
__________
(1) التعرف لمذهب التصوف / 111 .(56/25)
هذه كلمة مبهمة مجملة قد تعني وجهاً باطلاً بل كفراً وهو ما يسمونه ( الفناء عن وجود السوّي ) أي ليس موجوداً إلا الله سبحانه وكل ما عداه ليس له وجود حقيقي , وهذه هي وحدة الوجود التي سنتكلم عليها في المبحث القادم إن شاء الله .
وقد تعني هذه الكلمة ( الفناء ) أن يغيب عن الناس والخلق ولا يشهد سوى الله ويقع في ( الغيبوبة ) ويغيب حتى عن العبادة , وقد يتوهم أنه صار هو والإله شيئاً واحداً " ويظن أنه تضمحل ذاته في ذاته وصفاته في صفاته " (1) وقد يسمونه : الجمع أو السُكر وهذا إذا عاد إليه عقله يعلم أنه كان غالطاً في ذلك وأن الرب رب والعبد عبد .
وقد تعني هذه الكلمة ما يسمونه ( الفناء عن إرادة السوى ) أي لا يحب إلا الله ولا يوالي إلا فيه ولا بيغض إلا فيه , فهذا صحيح وإن كان لا يسلم لهم بالتعبير بـ ( الفناء ) لأن فيه كما قلنا غموض واشتباه , وأما الفناء الذي يسمونه فناء النفس عن التشاغل بما سوى الله فلا يسلم لهم أيضاً " بل أمرنا الله بالتشاغل بالمخلوقات ورؤيتها والإقبال عليها " (2) .
* الجمع والفرق :
قالوا عن الجمع أنه إشارة إلى حق بلا خلق , والفرق إشارة إلى خلق بلا حق . ويقصدون أن الفرق هو ما يكون كسباً للعبد من إقامة العبودية لله , والجمع هو مشاهدة الربوبية , والجمع قريب من الفناء بالمعنى الأول الذي هو وحدة الوجود .
* السكر والصحو :
قالوا عن السكر : حال تبدو للعبد لا يمكنه معها ملاحظة السبب ولا مراعاة الأدب (3), والصحو هو رجوع العارف إلى الإحساس بعد غيبته وزوال إحساسه (4).
* العشق :
واستحدثوا هذه الكلمة وهذا لا يوصف به الرب تبارك وتعالى ولا العبد في محبته ربه .
__________
(1) البقاعي : تنبيه الغبي / 81 .
(2) الذهبي : سير أعلام النبلاء 15/393.
(3) الكلاباذي : العرف / 114 .
(4) الجرجاني : التعريفات /132 .(56/26)
هذه نماذج من مصطلحاتهم وهي كثيرة جداً و كلها رموز وألغاز فتكلموا عن الحال والمقام والعطش والدهش , وجمع الجمع ... الخ , وإذا أخذنا واحدة من هذه المصطلحات لنرى هل هي صحيحة من ناحية شرعية ؟ هل الفناء عن المخلوقات وعدم التشاغل بها من الإسلام ؟ والجواب بالنفي لأن الله يقول : " قل انظروا ماذا في السماوات والأرض " وقال عليه السلام " حبب إلي من دنياكم النساء والطيب " وكان يجب عائشة وأباها ويحب أولاد ابنته الحسن والحسين , ويجب العسل , ويحب وطنه , ويحب الأنصار ... " (1). وأما محاولتهم للفناء في الله فهذا مستحيل , لن الله سبحانه هو الخالق وهم مخلوقون , فكيف يتحد المخلوق بالخالق ؟ وقد يحاولون التمويه فيقولون ( بالصحو بعد المحو ) ( أو الفرق في الجمع ) أي أن يرجع الإنسان إلى حال العبودية وقد يتكلمون هذا باللسان فقط أي أنه رجع إلى العبودية .
والحقيقة أن كل هذا أوهام , والإسلام يحث على حفظ العقل , فكيف يسعى مسلم لزوال عقله , والصوفي عندما يتحدث عن أسرار الربوبية يحاول شيئاً لا يطيقه الإنسان , لذلك سيصل إلى كارثة ( وحدة الوجود ) التي هي كفر , ويفقد فيها الاتزان النفسي , وهي نزعة خفية عند الإنسان الذي لا يخضع للوحي وهي نزعة التكبر والتأله , ويحاول أن يأت بها عن طريق ( وحدة الوجود ) وهي نزعة فرعونية عندما قال " أنا ربكم الأعلى " .
إن فكرة ( الفناء ) موجودة في الديانة البوذية وتسمى عندهم ( نرفانا) وربما أخذها الصوفية عنهم .
النتائج المترتبة على مثل هذا الخلط :
إن الدخول في هذه المتاهات يبعد المسلم عن العلم النافع والعبادة والعمل فيتكلم في أشياء ليس لها وجود ولا تعني في عالم الواقع شيئاً , والمسلم مأمور بإعمار الدنيا لتكون جسراً إلى الآخرة وهذه المصطلحات تسيطر على الجاهل وتربك العاقل إذا لم يكن دينه قوياً .
__________
(1) الذهبي : سير إعلام النبلاء 15/394 .(56/27)
ليس في الإسلام أسرار , فالقرآن واضح , والسنة واضحة , وهذه الألغاز تجعل الدين وكأنه بحاجة إلى (هيئة) لحل هذه الأسرار , ويتحول الأمر إلى باطنية تفسر كل شيء حسب أهوائها فكل شيء نسبي , وذاتي " ولذلك يمنعون من قراءة كتبهم لكل أحد " (1).
إن الاسترسال في هذه المصطلحات سيؤدي حتماً إلى عقيدة ( وحدة الوجود ) وهذا انسلاخ من الدين , فالمسلمون يرجعون إلى الكتاب والسنة , والصوفية يرجعون إلى الذوق والكشف والخيالات وكلام مشايخهم, وهذا أمر مشكل لأن لكل إنسان ذوق فالنصراني يتذوق التثليث , والمشرك يتذوق الشرك ... الخ .
كما تتميز هذه المرحلة عند الصوفية بما يسمونه ( المقامات ) كالتوكل والرضا .. وانحرفوا فيه أيضاً عن الفهم الإسلامي الصحيح , فالتوكل عندهم هو عد الأخذ بالأسباب , قال الهروي : " التوكل في طريق الخاصة عمىً عن التوحيد ورجوع إلى الأسباب " ويقول أبو سعيد الخراز " كنت في البادية فنالني جوع شديد فطالبتني نفسي إن أسأل الله طعاماً , فقلت : ليس هذا من فعل المتوكلين " (2).
فهذا الشيخ خالف السنة في الخروج إلى البادية دون زاد , وفهم التوكل فهماً خاطئاً , والله سبحانه وتعالى خلق الأسباب وطلب من العباد الأخذ بها والمسلم لا يعتمد على الأسباب وحدها ولكن يفعلها ويتوكل على الله ويطلب النتائج من الله .
وقالوا عن مقام ( الرضا ) أنه الاسترسال مع القدر , فيكون مستسلماً لما يأتي من عند الله , وهذا الكلام تنقصه الدقة , فالمسلم لا يعترض على قدر الله كالمرض والفقر ولكن يدفع قدر الله بقدر الله , فهو يدفع المرض بالدواء ويدفع الفقر بالعمل والكسب . أما إذا كان هناك أمر ديني مثل الصلاة والصوم فلا يقول : أنا لا أصلي لأن الله لم يقدر لي الصلاة فهذا من الحيل الشيطانية , ويشبه كلام المشركين فلأوامر الشرعية يجب أن تنفذ والمصائب تدفع بقدر الله ويصبر عليها .
__________
(1) حقائق التصوف /527 .
(2) الكلاباذي التعرف / 150 .(56/28)
والخلاصة أن هذه الألفاظ المستحدثة عند الصوفية هي كما وصفها ابن القيم " تسمع جعجعة ولا ترى طحناً " (1).
* * *
المبحث الرابع
الصوفية الوجودية
تعتبر هذه المرحلة من أخطر مراحل الصوفية , حيث تسربت إليها الفلسفة اليونانية فابتعدت بها عما سبقها من مراحل التصوف بل جعلتها من الصوفية الخارجة عن الإسلام فكانت شبيهة بالنصرانية عندما دخلها الروم ومزجوها بالتثليث والفلسفة ولذلك فيل إن النصرانية ترومت ولم يتنصر الروم , بل نستطيع أن نجزم من خلال استقراء ما طرأ على الرسالات السماوية التي بدلت وحرفت كاليهودية والنصرانية أن للفلسفة دوراً كبيراً في هذا التبديل ؛ فبسبب نقد الفلاسفة للنصوص التوراتية واتهامها بأنها ساذجة أو أساطير , تحت هذا الضغط راح علماء اليهود يؤولن النصوص تأويلات رمزية كما فعل (فيلون) اليهودي , فأولوا إبراهيم عليه السلام بأنه النور , وزوجته سارة بأنها الفضيلة وهكذا فعلوا بقصة آدم وحواء وقصة بني آدم وقصة يوسف عليه السلام . ومن ( فيلون انتقلت طريقة التأويل الرمزي إلى النصرانية خصوصاً عندما هاجمها رجال الأفلاطونية المحدثة وممثلو الثقافة اليونانية , وأقر رجال اللاهوت النصراني على أنه ورد في الأناجيل أشياء غير معقول فأولوها تأويلاً يرضى عنه الفلاسفة (2).
__________
(1) مدارج السالكين 3/437 .
(2) انظر البحث الذي كتبه د . عبد الرحمن بدوي عن التأويل بالباطل وأثره في التوراة والإنجيل في كتابه مذاهب الإسلاميين الجزء الثاني(56/29)
وفي الإسلام جاء الفلاسفة بعد ترجمة الكتب اليونانية ككتاب " التاسوعات" لأفلاطين الإسكندري , نقله إلى العربية عبد المسيح بن ناعمة الحمصي بعنوان " الأثولوجيا" أي الربوبية (1), كما ترجم كتاب " أثولكوجيا " للأرسطوطاليس وفيه نظرية الفيض والإشراق التي ستلعب دوراً خطيراً في التصوف خصوصاً عند السهروردي (2) وابن عربي (3). وتحت ضغط الفلسفة قام المعتزلة بحذف أو تأويل كل نص يناقض العقل – بزعمهم – كما غرقوا في الجدل العميق الذي يدور حول ألفاظ ( الجوهر – والجزء الذي لا يتجزأ – والجسم – والمتحيز و .... الخ ) , ومثلوا دور الترف الفكري أحسن تمثيل , فانحرفوا بذلك عن الإسلام العملي الإيجابي .
__________
(1) أحمد أمين : ظهر الإسلام 4/156.
(2) يحيى بن حبش بن أميرك السهروردي من مؤيدي فلسفة الإشراق التي من زعمائها أفلوطين , ثبت عليه الانحلال من الدين وادعاء النبوة فأفتى علماء حلب بكفره وقتل سنة 587هـ . انظر الذهبي : سير أعلام النبلاء 21/201 وبدوي : شخصيات قلقة /95.
(3) هو أبو بكر محي الدين محمد بن علي بن محمد الحاتمي الطائي الأندلسي ولد ( بمرسية ) سنة 560هـ ونشأ بها ثم ارتحل وطاف البلدان فجاء بلاد الشام والروم والمشرق ودخل بغداد , كان يكتب الإنشاء لبعض ملوك المغرب , اختلف الناس في شأنه فذهب طائفة إلى أنه زنديق وقال آخرون إنه ولي ولكن يحرم النظر في كتبه , والصحيح أنه اتحادي خبيث , ولم يشتهر أمره وكتبه إلا بعد موته لأنه كان منقطعاً عن الناس إنما يجتمع به آحاد الاتحادية ولهذا تمادى في أمره ثم فضح وهتك , توفي سنة 637هـ . انظر : شذرات الذهب لابن عماد 5/190 والبقاعي / 178 , وبدوي : تاريخ التصوف / 41 .(56/30)
وأما الصوفية فقد دخلت عليهم الفلسفة من باب ( التشبه بالإله على قدر الطاقة ) فحاولوا إثبات تشبه العبد بالرب في الذات والصفات والأفعال , كما فعل الغزالي ومن تبعه في كتابه : ( المضنون به على غير أهله ) (1) , ثم جاء ابن عربي وتلامذته فقالوا بالوحدة المطلقة , لأن الفلاسفة يقولون: الوجود الحقيقي هو للعلة الأولي ( الله ) لاستغنائه بذاته , فكل ما هو مفتقر إليه فوجوده كالخيال . ومن هنا نشأت نظرية " وحدة الوجود " عند ابن عربي وقد انطلقت ابتداء مما يردده الصوفية بشكل عام من أن الموجود الحق هو الله سبحانه , ويعنون بذلك أن الموجودات والكائنات إنما هي صور زائفة ومجرد أوهام وليست ذاتاً منفصلة قائمة بنفسها , فمثلها لا يستحق أن يطلق عليه الوجود الحقيقي (2), ولكنها حرفت عند ابن عربي عن مفهومها لدى الصوفية بحيث انتهى إلى القول بوحدة الوجود فقال أن الوجود الحقيقي هو الله سبحانه , ولكننا نرى هذه الكثرة والتعدد قائمة أمام أعيننا فلا يمكن إنكارها ومن ثم فهذه الموجودات كلها ليست سوى الله ذاته – تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً – وكلها
__________
(1) ابن تيمية : درء تعارض العقل والنقل 5/82 .
(2) بعض المفكرين في هذا العصر – وهم من أهل السنة – من أطلق عبارة : أن الموجود والحق هو الله سبحانه وإنما قصد بذلك معنى لا يصادم الشرع وهو أن الله سبحانه وهو الباقي السرمدي بخلاف الموجودات الغائبة التي لا تستطيع القيام بنفسها بل هي مستندة إلى وجود الله سبحانه و وهو معنى وإن لم يصادم الشرع إلا أنه مدخل لكثير من التصورات التي قد تؤدي للوقوع في البدعة , والالتزام بالألفاظ الشرعية أولى وأهل السنة يعتقدون أن الله سبحانه وتعالى حق قيوم على مخلوقاته , وأنه خلق الكائنات وجعل لها ذوتاً منفصلة لا علاقة لها بذاته , وهي موجودة حقيقة وليست صوراً أو أوهاما وأنها تفني في هذه الحياة الدنيا , وأن وجودها مستقل عن الخالق المعبود .(56/31)
مظهر من مظاهره وتجل من تجلياته , وليست آية من آياته كما مفهوم أهل السنة فحقيقة الرب إذن أنه وجود مطلق لا اسم له ولا صفة ولا يرى في الآخرة , وليس له كلام ولا علم ولا غير ذلك ولكن يُرى في الكائنات (1) فكل كائن هو الله والله هو كل كائن , فاتحد بذلك الوجود مع الخالق المعبود , وتم له ما أراد من هدم صرح التوحيد وكان هذا القول أشد شركاً من قول النصارى , إذ أن الكل في هذا التصور المريض إله يعبد .
ويحاول ابن خلدون شرح فكرة ابن عربي , إذ أن هذه التصورات الباطلة عادة ما تكون غامضة ومتناقضة حتى على أصحابها , يقول ابن خلدون : يعنون بهذه الوحدة أن الوجود له قوى ذاتية فالقوة الحيوانية فيها قوة المعدن وزيادة , والقوة الإنسانية فيها قوة الحيوان وزيادة , والفلك يتضمن الإنسانية وزيادة , وكذلك الذوات الروحانية (الملائكة ) ثم القوة الجامعة التي انبثت في جميع الموجودات , فالكل واحد هو نفس الذات الإلهية " (2).
__________
(1) انظر البقاعي في كتابه : تنبيه الغبي 19/40 وابن تيمية في الإيمان الأوسط /132 والشوكاني في قطر الولي /190 .
(2) المقدمة /471 .(56/32)
وحين يرد السؤال : كيف يقال بوحدة الوجود ؟ وهناك خالق ومخلوق ومؤمنون وكفار والكفار يعذبون في النار فمن الذي يعذبهم ؟ ... حتى لا يرد هذا السؤال راح ابن عربي يحرف كل آيات القرآن الكريم ويطبق باطنيته وكفره في كتاب ( فصوص الحكم ) فموسى عليه السلام لم يعاقب هارون عليه السلام إلا لأن هارون أنكر على بني إسرائيل عبادة العجل , وهم ما عبدوا إلا الله لأن الله قضى ألا نعبد إلا إياه , ولذلك كان موسى أعلم من هارون (1). والريح التي دمرت عاد هي من الراحة لأنها أراحتهم من أجسامهم المظلمة وفي هذه الريح عذاب وهو من العذوبة (2). ويحكم ابن عربي بإيمان فرعون بقوله تعالى : " قرة عين لي ولك " فكان قرة عين لفرعون بالإيمان الذي أعطاه الله عند الغرق (3). وهكذا راح يعيث فساداً في بقية قصص الأنبياء ومن شاء فليرجع إلى كتبه ففي كل سطر سيجد رائحة ( وحدة الوجود) . وكلامه هذا في الحقيقة هو إبطال للدين من أصله لأن وعيد الله للكفار لا يقع منه شيء فهو وتلامذته يتسترون بإظهار شعائر الإسلام وإقامة الصلاة والتزي بزي النسك والتقشف وتزويق الزندقة باسم التصوف (4).
__________
(1) البقاعي / 120 نقلاً عن فصوص الحكم – فص 192 .
(2) المصدر السابق / 95 – فص رقم 109 .
(3) المصدر السابق 128 وفي هذا المقام لا بد من القول بأن اعتذار البعض عن ابن عربي بأنه يقصد كذا أو كذا ويؤولون كلامه , هذا غير مقبول . قال العراقي " لا يقبل ممن اجترأ على مثل هذه المقالات القبيحة أن يقول أردت بكلامي هذا خلاف ظاهره ولا يؤول كلامه ولا كرامة " .
(4) انظر تنبيه الغبي إلى تكفير ابن عربي للشيخ برهان الدين البقاعي .(56/33)
فالفلاسفة لم يقولوا بوحدة الوجود على طريقة ابن عربي ولكنهم هم الذين مهدوا الطريق لهذه النظرية الباطنية بقولهم على الله مالا يعلمون ووصفهم إياه بصفات من نسج خيالهم , وهذا كله بسبب بعدهم عن الشرائع السماوية والأخذ من نور الأنبياء , ولذلك تخيلوا الإله ذاتاً بسيطة منزهة عن أي شائبة من شوائب التركيب , والصفات مثل العليم القدير السميع البصير هي عندهم تركيب , فقالوا أن من أحق صفاته ( الوجود ) وإذا قيل لهم وجود أي شيء ؟ فالجواب ليس بوجود شيء , فهو هكذا وجود بلا أية صفة فليس هذا الوجود هو الله سبحانه الذي نعرفه نحن المسلمين والذي أرسل الأنبياء ونزل الكتب , وإنما هو عندهم وجود هو الله سبحانه الذي نعرفه نحن المسلمين والذي أرسل الأنبياء ونزل الكتب , وإنما هو عندهم وجود مطلق بلا أية صفة فليس هذا الوجود هو الله سبحانه الذي نعرفه نحن المسلمين والذي أرسل الأنبياء ونزل الكتب , وإنما هو عندهم وجود مطلق بلا أية صفة , وطبعاً هذا لا يكون إلا تصورات باطلة في أذهانهم وهو غير الواقع . وبما أن هذه الصفة ( الوجود ) هي أخص وصف لله , تركب في عقولهم أن كل وجود هو واجب مثل وجود لله , وبما أن العالم موجود فهو الله , تعالى الله عن قولهم علواً كبيراً (1).
هذا الكلام من الفلاسفة كان الإرهاص الذي أدى بابن عربي إلى القول بوحدة الوجود , وإن كان مذهبه أكثر شراً من مذهب الفلاسفة , خاصة وأنه آيات القرآن لتنسجم مع نظريته الباطلة وخاصة أن كثيراً من المسلمين المغفلين من يعظمه ويسميه " الشيخ الأكبر " .
__________
(1) انظر تنبيه الغبي إلى تكفير ابن عربي للشيخ برهان الدين البقاعي .(56/34)
طبعاً هناك روافد أخرى أوصلت هؤلاء الناس إلى هذا القول الشنيع الذي يعتبر من أشد المخالفات للإسلام وعقيدة التوحيد , و من هذه الروافد الفناء الذي تحدثنا عنه في المبحث السابق , كما أن نفي صفات الله التي قالت بها الجهمية وانتشر شيء من أثرها في صفوف المسلمين , يمكن أن يساعد على نظرية الوحدة , إن نفي صفة العلو مثلاً يؤدي إلى القول بأنه سبحانه في كل مكان , ثم وزعوه في الموجودات كلها , مع ذلك فسيبقى للفلسفة الدور الأكبر في محاولة تخريب العقيدة الإسلامية الصافية السهلة , بل بتخريب المجتمعات الإنسانية , لأنها تقوم على نظريات في الذهن وليست في الواقع , وهذا مما حدا بعالم كبير كابن تيمية أن يقول محذراً منها بعد أن نقذ إلى أعماقها : " ولا شك أن كل من كان أقرب إلى الشرائع السماوية كان اقرب إلى العقل ومعرفة الحقيقة .
وهل رأيت فيلسوفاً أقام مصلحة قرية من القرى " (1). وهو هنا يلتقي مع مفكر غربي هو الدكتور ألكسس كاريل الذي يرى أن الفلسفة أساءت كثيراً للمجتمعات الغربية حين كانت تنظر في الكتب فقط دون معرفة الواقع العملي , ويقول: " ليس هناك مذهب فلسفي قد استطاع أن يحظى بقبول جميع الناس , وكل استنباطات الفلاسفة ما هي إلا فروض " (2) و يتابع نقده للفلسفة : " كان من الممكن للعلم أن يكفل لنا نجاح حياتنا الفردية والاجتماعية ولكننا فضلنا نتائج التفكير الفلسفي فارتضينا أن نأسن وسط المعاني المجردة , ولا شك أن فلاسفة عصر النور هم الذين مكنوا لعبادة الحرية بصورة عمياء في أوروبا وأمريكا " (3) .
__________
(1) درء تعارض العقل والنقل 5/65 وابن تيمية هنا يقصد الفيلسوف الذي يعيش بنظريات بعيدة جداً عن الواقع ويعيش بعيداً عن واقع الناس , ومشكلة الفلاسفة أنهم يعالجون أموراً ليست من اختصاصهم , وقد جاء الأنبياء والرسل بحلها بأقرب السبل وأيسرها .
(2) تأملات في سلوك الإنسان 1/47 .
(3) المصدر السابق 1/7 .(56/35)
إذا المشكلة واحدة في القديم والحديث , فعندما يبتعد الناس عن الشرائع السماوية التي جاءت لخير الإنسان في الدنيا والآخرة , تأتيهم الأزمات تلو الأزمات , أزمات اجتماعية وسياسية واقتصادية , نتيجة هذا الفصام النكد بين ما فطر الإنسان عليه من التوجه إلى بارئه وبين شياطين الإنس وما يوحون به ويبدو أن النفس الإنسانية يصعب عليها الإستمرار في طريق الإعتدال فهي إما أن تميل إلى التشدد والغلو أو إلى التساهل والترخص والخروج عن التكاليف وقد يسول الشيطان لمن أحس من نفسه زيادة فهم أنه إن رضي في علمه ومذهبه بظاهر السنة كان مثل العامة ولذلك لا بد من التنطع والتبدع والإتيان بالغرائب وهذه شهوات خفية لا يدركها ولا يبتعد عنها إلا العلماء الربانيون .
ولعله من المناسب قبل أن ننهي هذا المبحث أن نذكر رأي بعض العلماء في ابن عربي وتلامذته باعتباره زعيم هذه المدرسة الوجودية .
قال الشيخ أبو محمد بن عبد السلام في ابن عربي هو شيخ سوء مقبوح كذاب , يقول بقدم العالم ولا يحرم فرجاً " (1). ويروي ابن تيمية عن الشيخ إبراهيم الجعيري أنه كان يقول : " رأيت ابن عربي هو شيخ نجس يكذب بكل كتاب أنزله الله, وبكل نبي أرسله الله " (2).
وقال ابن تيمية (3): ورأيت بخطه في كتابه ( الفتوحات المكية ) هذين البيتين :
الرب حق , والعبد حق ياليت شعري من المكلف
إن قلت عبد , فذاك رب أو قلت رب أني يكلف
ويقول البقاعي قاطعاً الطريق على من يؤول لابن عربي :
" قال الأصوليون : لو نطق بكلمة الردة وزعم أنه أضمر تورية , كفر ظاهراً وباطناً " (4).
ومن تلامذة ابن عربي : ابن الفارض الذي يؤكد وحدة الوجود دون خجل أو مواربة , وفي قصيدته المشهور ( بالتائية )
يعيد هذه الفكرة ويكررها حتى لا يبقى شك عند القارئ أو السامع مثل قوله :
__________
(1) الفتاوى لا بن تيمية 2/240 .
(2) نفس المصدر 2/240 .
(3) الفتاوى 2/242 .
(4) تنبيه الغبي /23 .(56/36)
لها صلاتي بالمقام أقيمها وأشهد أنها لي صلت
كلانا مصل عابد ساجد إلى حقيقة الجمع في كل سجدة
وما كان صلي سواي فلم تكن صلاتي لغيري في أدا كل ركعة
ومازلت إياها وإياي لم تزل ولا فرق بل ذاتي لذاتي أحبت
فهل بعد هذا من تصريح , صلاته لنفسه لأنها هي الله والعياذ بالله , وحتى لا يظن أحد أن هذا ( سكر) الصوفية , يؤكد أنه في حالة صحو:
ففي الصحو بعد المحو لم أك غيرها وذاتي بذاتي إذا تحلت تجلت
ولا يزال الصوفية إلى الآن يعجبون بهذه التائية ويسمون صاحبها ( سلطان العاشقين ) رغم ما فيها من كفر , ورغم ما يقولون عنه أنه كان يحب الجمال , وأنه كان يذهب إلى قرية ( البهنسا) فيرقص على الدف مع النساء وهكذا يدجلون على الناس ويقولون بأن هذا الرقص من الدين والحقيقة أنها مواخير يخجل منها أي مسلم استروح رائحة الإسلام , لقد ابتلي المسلمون بمن فسد من هؤلاء الصوفية فبثوا فيهم أوهاماً قد تملك الجاهل وتربك العاقل إذا لم يغلبها بالتمسك بمنهج أهل السنة من الصحابة والتابعين رضوان الله عليهم .
* * *
الفصل الثاني
البدع العلمية للصوفية
تمهيد
وقع المتصوفة في بدع علمية وعملية ونعني بالعلمية الأمور النظرية التي اعتنقوها وابتدعوا فيها في العقيدة الإسلامية وأما الأمور العملية فهي الشعائر التي يمارسونها عملياً والتي ابتعدوا فيها أيضاً عن المنهج الإسلامي الصحيح .
وبما أن العمل تابع للعلم فقد قدمنا الكلام عن البدع العلمية , فمن انحرف وابتدع في العلم فسوف ينحرف في العمل , وكل هذا بسبب الابتعاد عن منهج أهل السنة والجماعة في الاستدلال والنظر .(56/37)
وتسمية هذا الانحراف بدعة لا يخفف من خطره , فقد تكون البدعة صغيرة وقد تكون كبيرة تصل إلى حد الكفر , فمن يعتقد بوحدة الأديان وأن القطب الغوث يتصرف في الكون فقد كفر وأشرك . وأصل البلاء كله هو عدم متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم والقرون المفضلة ومحاولة الزيادة على ذلك عن سوء نية أو عن حسن نية .
ولا يسلم لهم قولهم بالبدعة الحسنة لأن البدعة لا تكون إلا سيئة كما جاءت منكرة في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم " وكل بدعة ضلالة" وهي بهذا الوصف تحتاج إلى تعريف محدد واضح ونختار هنا التعريف الذي جاء في كتاب ( الاعتصام ) قال : " طريقة في الدين مخترعة تضاهي الشرعية يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد لله سبحانه " (1). فهي طريقة في دين وليس في الدنيا فلو قال المبتدع لماذا لا تقولون أن استعمال الآلات الحديثة بدعة لقلنا : هذه طريقة في الدنيا , وهي طريقة مخترعة يعهد مثلها من قبل وليس لها أصل أما العلوم المخترعة كعلم النحو وأصول الفقه فهذه لها أصل من حفظ الدين وتدخل في باب المصالح المرسلة , الحقيقة كذلك ولم يكن هناك تشابه لما أتى بها المبتدع لأن الضرر المحض تنفر النفوس منه , ولكن شبهة التشابه هي التي أوقعته في مأزق الابتداع . والحقيقة أن البدعة تكاد أن تكون علماً على الصوفية لما اشتهرت به من البدع العملية ومع أن كل الفرق قد ابتدعت في الدين ما لم يأذن به الله .
* * *
المبحث الأول
الشرعيَّة والحقيقة
مصطلح يردده المتصوفة كثيراً , ويقرنون بينه وبين مصطلح آخر لهم هو الظاهر والباطن , وسنحاول من خلال هذا المبحث التعرف على معاني هذه المصطلحات وعلاقتها بعضها ببعض .
__________
(1) الشاطبي : الاعتصام 1/27 .(56/38)
فالشريعة – كما يرونها – هي مجموعة الأحكام العملية التكليفية أي ما يسمى ( بالفقه الإسلامي ) , والحقيقة هي ما وراء هذه الأحكام من إشارات وأسرار , فالفقهاء يعلمّون الناس أركان الصلاة وسننها والصوفية يهتمون بأعمال القلوب من المحبة والخشية .. هذا رأي المعتدلين منهم أما غلاتهم فقالوا : إن هذه الأحكام لعوام المسلمين نظراً لضيق عقولهم وقلوبهم عن استيعاب المعاني العلوية دون الالتزام برسوم وأشكال معينة فالصلاة خمس مرات بشكل وترتيب معين ... هو أشبه ما يكون بالمعلم الذي يلزم الطالب بواجبات مدرسية لما يعلم عنه من عدم الاستفادة من العلم إن لم يعمل بتلك الواجبات , والمقصود هو العلم فإن كان من الخواص الذين يدركون المقصود الأساسي من الشرائع – وهو ما أطلقوا عليه الحقيقة – فقد حصل المقصود وإن لم يلتزم بها , فالصلاة هي دوام الصلة مع الله فإن استدامت فالحاجة للصلاة تصبح مجرد الوقوف مع الأوامر الشرعية احتراماً لها وإن كانت غير ذي فائدة , بل إنها انحرفت بعد ذلك عند البعض إلى القول بإسقاط التكاليف لمن أدرك الحقيقة .
إن بداية الانحراف كانت في هذا الفصل بين الشريعة والحقيقة , وعند أهل السنة الشريعة هي الحقيقة فالصلاة حركات معينة ولكنها تستلزم الخشية والإنابة , وهكذا كل الأحكام الشرعية القيام بها يعني الإتيان بها على تمامها كما أرادها الله سبحانه وتعالى .(56/39)
وقد جرهم ذلك إلى مصطلح آخر وهو الظاهر والباطن . فقد ادعى الصوفية أن للقرآن ظاهراً وباطناً , فالظاهر هو ما يؤخذ من ألفاظه حسب الفهم العربي أو السياق أو غير ذلك من الأصول المرعية في التفسير وهو ما يهتم به علماء الظاهر أو ما يطلقونه عليهم ( علماء الرسوم ) زراية بهم, أما الباطن فهو العلم الخفي وراء تلك الألفاظ وهو المراد الحقيقي بها وهذا لا يطلع عليه الخواص من أصحاب المقامات السامية ويطلقون عليه ( الإشارات ) , وهم يغمزون أهل الفقه بأنهم لا يهتمون بأعمال القلوب .
... ويسأل أحدهم عن قيمة الزكاة فيجيب : أما على العوام فربع العشر وأما نحن فيجب علينا بذل الجميع ؟!! " وإذا وقع خلاف في مسألة بين علماء الشرع وبقيت غامضة , فالقول فيها ما يقوله علماء الباطن أهل التصوف " (1). وفي تفسير قوله تعالى : " ولكن لا تفقهون تسبيحهم " (2). قال الغزالي : " وهذا الفن مما يتفاوت أرباب الظواهر وأرباب البصائر في عمله " (3).
والحقيقة أن هذه التفرقة غير صحيحة بل هي باطلة وقبيحة , وأي تجزئة للإسلام فهي من قبيل اتخاذ القرآن عضين , والإسلام كل متكامل كالجسم الواحد , فليس هناك ظاهر وباطن ولكن هناك فهم صحيح كما عقله الصحابة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم , نعم هناك أعمال للجوارح وأعمال للقلوب والإيمان يزيد حتى يصبح كالجبال وينقص حتى يكون كالنبتة الصغيرة الضعيفة , ولكن كل هذا اسمه شريعة أو إسلام أو دين وكل تقسيم يشعر بأن هناك تضاداً أو تغايراً كمن يفرق بين العقل والنقل وكأن النقل مضاد للعقل , أو بين العلم والدين وكأن العلم يخالف الدين , كل هذا لا يكون إلا من ضعف وانحسار أمام أعداء هذا الدين , هذا إن أحسناً الظن بهم .
__________
(1) شكيب أرسلان : حاضر العالم الإسلامي 2/160 والكلام لأحمد الشريف السنوسي .
(2) الإسراء / 44 .
(3) زكي مبارك : التصوف 2/25.(56/40)
انتقد ابن الجوزي هذا التقسيم فقال : " هذا قبيح لأن الشريعة ما وضعه الحق لصالح الخلق , فما الحقيقة بعدها سوى ما وقع في النفوس من إلقاء الشياطين , وبغضهم الفقهاء أكبر الزندقة " (1).
كما أن هذه التفرقة بين الظاهر والباطن أدت بهم في موضع التفسير إلى تأويل الآيات وتحريفها تخريفاً شنيعاً , وهذا التأويل المذموم حاولت كل الفرق الضالة الباطنية أن تجد له نصيراً من كتاب الله يتناسب وأهواءها . ولذلك ضبط علم التفسير عند أهل السنة بـ ( أصول التفسير ) حتى لا يتحول الأمر إلى فوضى لا نهاية لها , ففي تفسير آية " فلما جن عليه الليل رأى كوكباً قال هذا ربي " (2) قال صاحب منازل السائرين : " رأى هذه حالة العطش كأن إبراهيم عليه السلام لشدة عطشه إلى لقاء محبوبه لما رأى الكواكب قال : هذا ربي, فإن العطشان إذا رأى السراب ذكر به الماء" .
__________
(1) تلبيس إبليس /337 .
(2) الأنعام / 76.(56/41)
ويعقب ابن القيم : " هذا ليس معنى الآية مطلقاً وإنما القوم مولعون بالإشارات " (1) , وآية " فاخلع نعليك " فسرها الشيخ عبد المغني النابلسي – وهو من المتأخرين – " أي صورتك الظاهرة والباطنة يعني جسمك وروحك فلا تنظر إليها لأنها نعلاك " (2), وفسر بعضهم هذه الآية: يعني اخلع دنياك وآخرتك إلى آخر هذا الهراء ويبدو أن البعض منهم كان يشعر بخطأ هذه التفرقة , فيحذر وينصح , قال سهل ابن عبدالله: " احفظوا السواد على البياض ( يعني العلم ) فما أحد ترك الظاهر إلا تزندق " (3). ولكن القوم استمروا في إشاراتهم البعيدة عن العلم فقالوا عن آية " وإن يأتوكم أسارى " أي غرقى في الذنوب , " والجار ذي القربى " أي القلب " والجار الجنب " أي النفس حتى أنه يروى عن سهل بن عبد الله نفسه أنه فسر " ولا تقربا هذه الشجرة " بقوله : ( لم يرد معنى الأكل في الحقيقة وإنما أراد أن لا تهتم بشيء غيري ) قال الشاطبي : وهذا الذي ادعاه في الآية خلاف ما ذكره الناس (4).
__________
(1) مدارج السالكين 3/61.
(2) بدوي : شطحات الصوفية /195.
(3) تلبيس إبليس / 325.
(4) القاسمي : محاسن التأويل 1/73.(56/42)
وقد جمع لهم أبو عبد الرحمن السلمي تفسيراً للقرآن الكريم من كلامهم الذي أكثره هذيان نحو مجلدين , وليته لم يصنفه فإنه تحريف (1) وشيخهم السراج يهاجم الفقهاء لأن علمهم أقرب إلى حظوظ النفس , وأن علومهم قد يحتاج إليها في العمر مرة وعلوم الصوفية يحتاج إليها دائماً (2) بينما نجد أن الصحابة لم يتعمقوا في كلامهم ولم يخوضوا في الأمور المتكلفة ولا بد في فهم الشريعة من إتباع مفهوم العرب الذي نزل القرآن بلسانهم , وتفسير القرآن بالمعاني التي تخطر على قلوب المتصوفة غير صحيح ومثل هذا التفسير لم ينقل عن السلف بل هو أشبه بمذهب الباطنية , وبسبب طموح النفوس إلى التكلف والأشياء المستغربة نشأ التفرق والفرق(3).
ولقد صدق الشاعر محمد إقبال حين صوّر الشيخ الصوفي بهذه الأبيات:
" متاع الشيخ ليس إلا أساطير قديمة
كلامه كله ظن وتخمين
حتى الآن إسلامه زناري
وحين صار الحرم ديراً أصبح هو من براهمته "(4)
* * *
المبحث الثاني
الحقيقة المحمَدية
شعبة من شعب الغلو الذي وقعت فيه الصوفية بل من شعب الكفر , وهو مزيج من الغلو في رسول الله صلى الله عليه وسلم والتأثر بالفلسفة اليونانية في تقريرها لأول مخلوق , والتأثر بالنصرانية التي أضفت صفات الربوبية على المسيح عليه السلام .
__________
(1) محمد حسين الذهبي : التفسير والمفسرون 2/386 نقلاً عن الإمام الذهبي .
(2) اللمع / 36.
(3) انظر تعليق الشيخ الخضر حسين على كتاب الموافقات للشاطبي 2/52.
(4) ديوان أرمغان حجاز / 130 تحقيق د ز سمير عبد الحميد . ويعني ( إسلام زناري ) تأثرهم بالنصارى الرهبان الذين يلبسون الزنار على وسطهم .(56/43)
والمشكلة أن هذه التي يسمونها ( الحقيقة المحمدية ) هي غموض كامل وعماء في عماء , ولأنها نشأت في الأصل من خيال مريض وأوهام ليس لها أي رصيد في الواقع , ولذلك نلاحظ أن أقوالهم في تعريفها أو الكلام عنها غامضة أيضاً , فالرسول صلى الله عليه وسلم أول موجود وأول مخلوق وهو القطب الذي تدور عليه أفلاك الوجود من أوله إلى آخره(1) , وهو الذي منه انشقت الأسرار ولا شيء إلا وهو به منوط (2), وهو عين الإيمان والسبب في وجود كل إنسان (3). وكأن الصوفية لم يستسيغوا أن يقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو كما وصفه القرآن الكريم بشراً رسولاً وقد جعلوا أقطابهم تتصف بما وصف الله سبحانه وتعالى نفسه , فكيف برسول الله صلى الله عليه وسلم فابتدعوا ما أسموه ( الحقيقة المحمدية ) وعلى أساس هذه النظرية ندرك مغزى ما يقول البوصيري :
وكل آي أتى الرسل الكرامُ بها فإنما اتصلت من نوره بهم
وقوله:
وكيف تدعو إلى الدنيا ضرورة من لولاه لم تخرج الدنيا من العدم
وقول ابن نباته المصري :
لولاه ما كان أرض ولا أفق ولا زمان ولا خلق ولا جبل
__________
(1) ظهر الإسلام 4/220 ومعنى القطب الذي تدور عليه الأفلاك أنه المتحكم في حركتها وسكناتها , وهو الذي يدير مادق وجل من أمورها وهذه هي حقيقة الألوهية وهي عن نظرية العقل الفعال المستمدة من الفلسفة اليونانية .
(2) هذه هي الصوفية / 87 والكلام لابن مشيش.
(3) زكي مبارك : التصوف 1/233.(56/44)
وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخشى على أمته من الغلو فقال صلى الله عليه وسلم محذراً : " لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم , إنما أنا عبد الله ورسوله " (1). ولكن الذي فعله هؤلاء هو أكبر من الغلو , إنه الشرك والضلال , و إلا كيف تفسر قول الشيخ الدباغ " إن مجمع نوره لو وضع على العرش لذاب " (2) وقول أبي العباس المرسي : " جميع الأنبياء خلقوا من الرحمة ونبينا هو عين الرحمة " قال تعالى : " وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين " (3). فانظر إلى هذا الاستنتاج العجيب .
إنها المضاهات بعينها , فإذا كان المسيح ابن الله عند النصارى فلماذا لا يخترع الصوفية ( الحقيقة المحمدية ) , وهذا ناتج نظريتهم في وحدة الوجود(4) .
ومن المؤسف أن المستشرق ( نيكلسون ) يتكلم في كتابه كلاماً صحيحاً عن شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم بينما غلاة الصوفية تاهوا في معمياتهم وسراديبهم , يقول : " إذا بحثنا في شخصية محمد صلى الله عليه وسلم في ضوء ما ورد في القرآن , وجدنا الفرق شاسعاً بينهما وبين الصورة التي صور بها الصوفية أوليائهم , ذلك أن الولي الصوفي أو الإمام المعصوم عند الشيعة , قد وُصفا بجميع الصفات الإلهية , بينما وصف الرسول في القرآن الكريم بأنه بشر(5) " .
* * *
المبحث الثالث
وحدة الأديان
__________
(1) أخرجه الترمذي في الشمائل المحمدية . انظر : مختصر الشمائل للشيخ الألباني / 174, وقال عنه : حديث صحيح .
(2) هذه هي الصوفية / 87.
(3) لطائف المنن /12 .
(4) انظر : التصوف لزكي مبارك .
(5) هذه هي الصوفية / 85 .(56/45)
خرافة كبيرة من خرافات الصوفية , وشطحة من شطحاتهم الكثيرة , وهي لا تخرج إلا من خيال مريض يظن أنه يتسامح إنسانياً , ولكنها في نفس الوقت فكرة خطيرة لأنها تصادم سنن الله في الكون والحياة ومنها سنة الصراع بين الحق والباطل , بين الخير والشر , والجمع بين الكل على قد المساواة هو خبث مركز لهدم الإسلام أو هذيان مقلد لا يدري ما يقول , و إلا فكيف نسوي بين من يعبد الله سبحانه وتعالى وحده وبين من يعبد البقر , أو حرف كتب الله وعبد أنبيائه , كيف نجمع بين الإيمان والكفر هذا لا يكون إلا ممن يؤمن بوحدة الوجود كابن عربي وتلامذته الذين يعتقدون أن كل موجود على الأرض صحيح ولا داعي للتفرقة , والله أوسع من أن يحصره عقيدة معينة فالكل مصيب " وأما عذاب أهل النار فهو مشتق من العذوبة " (1)؟!!.
ويترجم ابن عربي هذه العقيدة شعراً فيقول :
لقد صار قلبي قابلاً كل صورة فمرعى لغزلان ودير لرهبان
وبيت لأوثان وكعبة طائف وألواح توراة ومصحف قرآن
أدين بدين الحب أنّى توجهت ركائبه فالحب ديني وإيماني
وينسج على منواله صديقة ابن الفارض فيقول :
وما عقد الزنار حكماً سوى يدي وإن حل بالإقرار فهي حلت
وإن خرّ للأحجار في البد عاكف فلا وجه للإنكار بالعصبية
وإذا كان بعض المعتدلين يحذرون من كتب ابن عربي , مع أنهم لا يعتقدون بكفره ويبررون أقواله ويأولونها فإننا لم نسمع منهم أحداً يحذر من شعر جلال الدين الرومي مع أن المعجبين به كثر وخاصة بين مسلمي الهند وتركيا , وهذه إحدى قصائده يتشبه فيها بأستاذه ابن عربي :
انظر إلى العمامة أحكمها فوق رأسي ...
بل انظر إلى زنار زاردشت حول خصري ...
فلا تنأ عني لا تنأ عني ...…
مسلم أنا ولكني نصراني وبرهمي وزرادشتي ...
توكلت عليك أيها الحق الأعلى ...
ليس لي سوى معبد واحد ...
مسجداً أو كنيسة أو بيت أصنام ...
ووجهك الكريم فيه غاية نعمني ...
__________
(1) هذه هي الصوفية / 95 .(56/46)
فلا تنأ عني , لا تنأ عني(1) .
فصلوات اليهود , وعقد زنار النصارى , وبد الوثنية في الهند ومساجد الله كلها عند هؤلاء ساح فساح يعبد فيها الله (2).
ونحن وإن كنا لا نتهم كل الصوفية بهذه البدعة لأن القول بها ضلال وكفر وانحراف ولا يقول به إلا غلاتهم , إلا أن أجواء الصوفية ربما تساعد على نشوء مثل هذه الأفكار أو قريباً منها , فالاستغراق في توحيد الربوبية وأن الله رب كل شيء ومليكه , وفي القضاء والقدر الكوني الذي يسري على المؤمن والكافر , دون الإلتفات إلى جانب المر والنهي الشرعيين والمخاطب بهما المؤمنين والذي هو جانب توحيد الألوهية , والاستغراق في كلمات ذوقية مثل الحب الإلهي والعشق الإلهي , كل هذا أدى إلى قول أبي يزيد البسطامي عندما اجتاز بمقبرة اليهود : " معذورون" ومر بمقبرة المسلمين فقال " مغرورون " ثم يخاطب الله سبحانه وتعالى : " ما هؤلاء حتى تعذبهم حطام جرت عليهم القضايا , اعف عنهم " (3) وكأنه يريد أن يثبت رحمته للجنس البشري كله , وكأنه أرحم من الله سبحانه بعباده , ومن هذا القبيل ما روى الأمير شكيب أرسلان عن أحمد الشريف السنوسي(4) أن عمه الأستاذ المهدي كان يقول له : " لا تحتقرن أحداًً لا مسلماً ولا نصرانياً ولا يهودياً ولا كافراً لعله يكون في نفسه عند الله أفضل منك إذ أنت لا تدري تكون خاتمتك " (5) . وهذا الكلام غير صحيح من الشيخ السنوسي لأننا عندما نحتقر الكافر نحتقره لكفره وعندما يسلم نحترمه لإسلامه ونحن لنا الظاهر , ولكن أثر التصوف واضح فيه وإن كنت لا أعتقد أنه ممن يقول بوحدة الأديان .
__________
(1) مجلة العروة الوثقى عدد 61 لعام 1403 هـ برئاسة تحرير عبد الحكيم الطيبي .
(2) هذه هي الصوفية .
(3) يدوي : تاريخ التصوف / 28 .
(4) من زعماء الحركة السنوسية التي ظهرت في ليبيا في العصر الحاضر ولهم مواقف ضد الإستعار الإيطالي .
(5) حاضر العالم الإسلامي 2/164.(56/47)
إن هذه العقيدة شبيهة بأفكار الماسونية التي تدعو إلى وحدة الإنسانية وترك الاختلاف بسبب الأديان فليترك كل واحد دينه وعقيدته وإنما تجمعنا الإنسانية , دعوة خبيثة ملمسها ناعم ولكنها تحمل السم الزعاف في أحشائها .
* * *
المبحث الرابع
الأولياء والكرامات
من أكثر الأشياء التي يدندن حولها الصوفية قديماً وحديثاً موضوع الأولياء والكرامات التي تحصل لهم , وقبل إن نتكلم عن مدى مطابقة ما يذهبون إليه للكتاب والسنة , قبل هذا لا بد تعريف الولي وكيف تطورت هذه اللفظة لتصبح مصطلحاً خاصاً علماً على فئة معينة ثم نتكلم عن الكرامات وما هو مقبول منها وما هو مردود .(56/48)
جاء في كتاب ( قَطْر الولي على حديث الولي ) (1) : الولي في اللغة : القريب والولاية ضد العداوة , وأصل الولاية المحبة والتقريب , والمراد بأولياء الله خلص المؤمنين , وقد فسر سبحانه هؤلاء الأولياء قوله : " الذين آمنوا وكانوا يتقون " (2) أي يؤمنون بما يجب الإيمان به ويتقون ما يجب عليهم اتقاؤه من المعاصي , قال ابن تيمية : الولي سمي ولياً من موالاته للطاعات أي متابعته لها , وهذا المعنى الذي يدور بين الحب والقرب والنصرة هو الذي أراده القرآن الكريم من كلمة ولي مشتقاتها في كل موضع أتى بها فيه , سواء في جانب أولياء الله أو في جانب أعداء الله. ومن ثم فليس لنا أن نخرج هذا المصطلح عن المعنى الذي حدده القرآن بلسان عربي مبين . يقول ابن حجر العسقلاني : " المراد بولي الله : العالم بالله تعالى , المواظب على طاعته . " , هكذا كان استعمالها وظلت النظرة إليها بهذا المعنى إلى أن دخلت أوساط الشيعة ثم في دائرة الصوفية فأطلقوها على أئمتهم ومشايخهم مراعين فيه اعتبارات أخرى , غير هذه الاعتبارات الإسلامية فأصبحت محصورة في طائفة خاصة بعد أن كانت صفة محتملة لي إنسان يقوم بنصرة دين الله من عباده المسلمين , وأول من صرف هذا المعنى إلى معنى خاص هم الشيعة فأطلقوها على أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب رضي الله عنه على اعتبار أنه هو وذريته ( بشراً نورانين من طينة مكنونة تحت العرش ) ثم أضاف لها الشيعة والصوفية ( العلم اللدني لأن الشيعة يعتقدون أن علي ابن أبي طالب أخذ علماً خاصاً عن الرسول صلى الله عليه وسلم .
__________
(1) هذا الجزء من المبحث عن الولي مختصر من هذا الكتاب للإمام الشوكاني مع مقدمة وتحقيق الدكتور إبراهيم هلال .
(2) يونس /63.(56/49)
والقشيري من الصوفية يرى : " بأن من أجل الكرامات التي تكون للأولياء العصمة من المعاصي والمخالفات " وهذه قلدوا فيها الشيعة الذين يعتقدون العصمة لأئمتهم , وربما تلطف الصوفية فسموها ( الحفظ ) كما يقول الكلاباذي " ولطائف الله في عصمة أنبيائه وحفظ أوليائه .... " وأكبر مقامات الولي عند الصوفية هو ( الفناء ) وهو باب الولاية ومقامها أما عند ابن عربي فهي مراتب ومنها مرتبة الولاية الخاصة وهو الورثة لأنهم أخذوا علمهم عن الله مباشرة !!؟ , وهم عن ابن عربي أفضل من الأنبياء نظراً لما هم عليه من ذوق أدركوا به علم الوجود ووقفوا على سر القدر .(56/50)
هذا هو التحديد التعسفي لمفهوم الولاية عند الصوفية , أما شخصية الولي في القرآن الكريم فهي شخصية إيجابية يترسم خطى الدين في كل ما أمر أو نهي , والصحابة ومن تبع أثرهم من العلماء العاملين هم أولي الناس بهذا اللفظ ويصدق عليهم حديث : " من عادى لي ولياً .... " وطريق الوصول إلى الولاية عند الصوفية طريق معكوس لأن الغاية من مجاهداتهم هي معرف الله أو الفناء و والمفروض أن معرفة الله سبحانه هي خطوة أولى للإيمان وهذه المعرفة فطرية كما يحدثنا القرآن , والعمل الصالح هو الذي يوصل إلى أن يحب الله عبدَه , وأما فناؤهم فهو يوصلهم إلى كفر الإتحاد والحلول فطريق الولاية عند أهل السنة سهل ميسر ومن أول هذا الطريق تبدأ المحبة بين الله سبحانه وعبده بينما طريق الصوفية طريق شكلي آلي , لا بد أن يمر المريد بكذا وكذا ثم يصل إلى شطحات يظن فيها أنه شاهد الحق . وأفضل الأولياء عند أهل السنة الأنبياء والرسل بينما عند الصوفية النبي يقصر عن الفلاسفة المتألهين في البحث والحكمة كما يقول السهروردي المقتول على يد صلاح الدين الأيوبي رحمه الله , فالولي عند أهل السنة هو ذاك المسلم الإيجابي الذي يقوم بالطاعات , والولي عند الصوفية هو المستغرق في الفناء(1) .
بعد هذا البيان والإيضاح لكلمة الولي وكيف تطورت , والمعنى السني لها , لا بد من توضيح المقصود بـ ( الكرامات ) وما هو رأي أهل السنة فيها وهل التزم الصوفي بهذا الرأي ؟ وهل هناك ارتباط بين الولاية والكرامة فنقول :
__________
(1) انتهى ما نقلناه مختصراً وبتصرف عن كتاب ( قطر الولي ) .(56/51)
خلق الله سبحانه وتعالى هذا الكون وسيره على سنن محكمة مطردة لا تتعارض ولا تتخلف , وربط المسببات بأسبابها والنتائج بمقدماتها وأودع في الأشياء خواصها , فالنار للإحراق , والماء للإرواء والطعام للجائع , ثم هذا النظام الكوني البديع المتناسق الشمس والقمر والنجوم , وتعاقب الليل والنهار .. كل بنظام محكم , فإذا لم ترتبط الأسباب بنتائجها وخرقت هذه العادة المألوفة بإذن الله لمصلحة دينية أو دعاء رجل صالح , فهذا الخرق إذا كان لنبي فهو معجزة , وإذا كان لأناس صالحين فهو كرامة وهذه الكرامة إن حصلت لولي حقاً فهي الحقيقة تدخل في معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم وتحصل ببركة إتباعه .
وهذه الخوارق إما أن تكون من جهة العلم بأن يسمع النبي ما لا يسمع غيره أو يرى ما لا يراه غيره يقظة ومناماً أو يعلم مالا يعلم غيره حياً وإلهاماً و أو فراسة صادقة لعبد صالح , وإما أن تكون من باب القدرة والتأثير مثل دعوة مستجابة أو تكثير الطعام وعدم إحراق النار , وقد حصل للصحابة رضوان الله عليهم كرامات من هذا النوع وكانت إما لحاجة أو حجة في الدين , كما أكرم الله سبحانه أم أيمن عندما هاجرت وليس معها زاد ولا ماء فكادت تموت من العطش وكانت صائمة , فلما كان وقت الفطر سمعت حساً على رأسها فإذا دلو معلق فشربت منه , وكان البراء بن مالك إذا أقسم على الله أبّر قسمه , وكان سعد بن أبي وقاص مستجاب الدعوة , مشى أمير الجيوش الإسلامية في البحرين العلاء بن الحضرمي وجنوده فوق الماء لما أعترضهم البحر ولم يكن معهم سفن تحملهم وأُلقي أبو مسلم الخولاني في النار فلم تحرقه(1) .
__________
(1) ابن تيمية : الفتاوى 11/279 وفي هذا الجزء بحث قيم حول المعجزات والكرامات .(56/52)
هذه حوادث صحيحة وقعت للصحابة رضوان الله عليهم , وأكثر منها وقع في عصر ما بعد التابعين . فأهل السنة لا ينكرون الكرامات كما ينكرها المبتدعة , وهو يعلمون أن الله الذي وضع الأسباب ومسبباتها قادر على خرق هذه السنن لعبد من عباده , ولكن الصوفية جعلوا مجرد وقوعها دليلاً على فضل صاحبها حتى ولو وقعت من فاجر قالوا هذه كرامة لشيخ الطريقة ولذلك لا بد من ملاحظات وتحفظات حول هذا الموضوع .
أولاً: هذه الخوارق كانت تقع للصحابة دون تكلف منهم أو تطلب لها أو رياضات روحية يستجلبون بها هذه الخوارق , بل تقع إكراماً من الله لهم أو دعاء يرون فيه مصلحة دينية إما لحجة أو لحاجة للمسلمين كما كانت معجزات نبيهم صلى الله عليه وسلم , أما المتأخرون فيطلبونها ويتكلفون لها الرياضات الروحية وربما أفسد جسمه ونفسيته بسبب هذا مع أن " طلب الكرامات ليس عليه دليل , بل الدليل خلاف ذلك فإنما غيب عن الإنسان ولا هو من التكاليف لا يطالب به " (1) وهذا من التأثير بالفلاسفة حيث يقررون رياضات معينة للوصول إلى هذه الخوارق .
__________
(1) الشاطبي : الموافقات 2/283 .(56/53)
ثانياً : إن كرامات أولياء الله لا بد أن يكن سببها الإيمان والتقوى والولي لله هو المحافظ على الفرائض والسنن والنوافل , عالماً بأمر الله عاملاً بما يعلم فمن صفت عقيدته وصح عمله كان ولياً لله يستحق إكرام الله له إن شاء , فهذا إذا خرقت له العادة لا تضر ولا يغتر بذلك ولا تصيبه رعونه , وقد لا تحصل لمن هو أفضل منه فليست هي بحد ذاتها دليلاً على الأفضلية , فالصديق رضي الله عنه لم يحتج إليها , وحصلت لغيره من الصحابة , كما أنه ليس كل من خرقت له العادة يكون ولياً لله كما أنه ليس كل من حصل له نِعَمٌ دنيوية تعد كرامة له , بل قد تخرق العادة لمن يكون تاركاً للفرائض مباشراً للفواحش فهذه لا تعدوا أن تكون إما مساعدة من شياطين الجن ليضلوا الناس عن سبيل الله , أو استدراج من الله ومكر به أو رياضة مثل الرياضات التي يمارسها الهنود والبوذيون الكفرة ثم يضربون أنفسهم بآلات حادة ولا تؤثر فيهم أو يتركون الطعام أياماً عديدة إلى غير ذلك ويظن الفسقة أن هذه كرامة لهم .
ثالثاً : هناك سؤال مهم في هذا الصدد وهو لماذا كانت هذه الحوادث من خرق العادات قليلة في زمن الصحابة والتابعين ثم كثرت بعدئذ ؟(56/54)
يجيب ابن تيمية : " أنها بحسب حاجة الرجل فإذا احتاج إليها ضعيف الإيمان أو المحتاج أتاه فيها ما يقوي إيمانه ويكون من هو أكمل ولاية منه مستغنياً عن ذلك لعلو درجته (1) , كما أن عدم وجودها لا يضر المسلم ولا ينقص ذلك في مرتبته والصحابة مع علو مرتبتهم جاءتهم هذه الخوارق إكراماً لهم أو لحاجة في الدين , وكثرتها في المتأخرين دليل على ما قاله ابن تيمية أو لتطلبهم إياها بالرياضة الروحية (2).
رابعاً : إن معجزة هذا الدين الكبرى هو القرآن الكريم الذي أنزله الله على قلب محمد صلى الله عليه وسلم , وعندما طلب منه صلى الله عليه وسلم معجزات مادية رفض ذلك لأن هذا ليس هو منهج هذا الدين وقد ذكر القرآن الكريم هذا الطلب , قال تعالى : " وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعاً , أو تكون لك جنة من نخيل فتفجر الأنهار خلالها تفجيراً أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفاً , أو تأتي بالله والملائكة قبيلاً أو يكون لك بيت من زخرف أو ترقى في السماء ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتاباً نقرؤه , قل سبحان ربي هل كنت إلا بشراً رسولاً "(3).
__________
(1) هذا فيما ثبت صحة نقله من الكرامات إلا أننا لا نغفل أنه بعد هذا العصر بدأ أهل الأهواء والبدع في نشر مذاهبهم ولا نرى مانعاً من أن يكون هؤلاء قد استظهروا على صحة مذاهبهم باختلاف كرامات لا أساس لها من الصحة تناقلتها الألسن فكثرت فيها الكرامات فيما تلى ذلك من العصور .
(2) الفتاوى : 11/323.
(3) الإسراء : 90/93 .(56/55)
كما أمر صلى الله عليه وسلم أن يبرأ من دعوى الغنى والقدرة وعلم الغيب إلا ما علمه الله سبحانه وتعالى : " قل لا أقول لكم عندي خزائن الله , ولا أعلم الغيب , و لا أقول لكم إني ملك إن أتبع إلا ما يوحى إلي " (1), ولذلك كانت حياته وسيرته تجري كبقية عادات البشر ومألوفاتهم مع ما أعطي من شرف المنزلة (2), وعندما هاجر صلى الله عليه وسلم إلى المدينة لم يطر في الهواء ولم تطو له الأرض وإنما سار كما يسير أي راكب ويقطع المسافة في تسعة أيام , لماذا ؟ لأن هذا هو الأصل , الأصل أن يسير الناس على السنن الكونية التي أودعها الله في الخلق , ولكن كثرة الناس يؤذيها أن يكون الكون سائراً على قانون محكم ويسعدها أن يكون هذا القانون بيد المجاذيب والدراويش يتصرفون به (3) .
وتبقى الحقيقة أن الاستقامة على طريق الهدى , طريق السنة والإتباع , طريق الصحابة ومن تبعهم بإحسان , هذه الاستقامة هي عين الكرامة , فإن حصل بعدئذ خرق العادة إكراماً من الله سبحانه وتعالى لمؤمن صادق فهذه يجب أن يخفيها ولا يذيعها ويشكر الله سبحانه على ما منّ به عليه .
المبحث الخامس
الأقطاب و الأوتاد
بعد أن حرف كلمة ولي عن معناها الذي أراده القرآن الكريم اخترعوا ما يسمونه بالأقطاب والأوتاد والأبدال . تسميات ما أنزل الله بها من سلطان , يرتبون بها أوليائهم ترتيباً فيه مضاهاة للنصارى الذين يرتبون رجال الدين عندهم بدأ بالشماس وانتهاء بالبابا كما أنه فيه تشبه بالشيعة في ترتيب الأئمة وكذلك ترتيب النصيرية والإسماعيلية في أئمتهم كالسابق والتالي والناطق والأساس (4), وقد رتبوا أوليائهم حسب أهميتهم على الشكل التالي :
القطب .
الأوتاد الأربعة .
الأبدال وعددهم أربعون وهم بالشام ... ؟ !
__________
(1) الأنعام / 50.
(2) الشاطبي : الموافقات 2/248.
(3) انظر : زكي نجيب محمود في كتابه : ثقافتنا / 72 .
(4) انظر الفتاوى لابن تيمية 11/439.(56/56)
النجباء وهم الذين يحملون عن الخلق أثقالهم .
النقباء .
وما هي حقيقة القطب عندهم؟ يجيب مؤسس الطريقة التيجانية : " إن حقيقة القطبانية هي الخلافة عن الحق مطلقاً , فلا يصل إلى الخلق شيء من الحق ( الله ) إلا بحكم القطب " (1) , ثم قسموا القطب إلى نوعين : نوع هو من البشر مخلوق موجود على هذه الأرض , يتخلف بدلاً عنه حال موته أقرب الأبدال له ( التشبه بالنصارى ) وقطب لا يقوم مقامه أحد وهو الروح المصطفوي وهو يسري في الكون سريان الروح في الجسد (2). أما الرفاعي فقد تعدى هذه الأطوار فيقول أحد تلامذته : " نزه شيخك عن القطبية "(3) وعند أبي العباس المرسى مقام القطبية فوقه مقام الصديقية(4) وعند الشاذلي " يكشف له عن حقيقة الذات "(5) .
وأما الأوتاد فهم أربع رجال منازلهم على منازل الأركان الأربعة من العالم شرق وغرب وشمال وجنوب (6).
والأبدال سبعة رجال من سافر من موضع ترك جسداً على صورته حياً بحياته (7).
__________
(1) هذه هي الصوفية / 125 .
(2) المصدر السابق /125 وانظر هامش كتاب تنبيه الغبي / 32 .
(3) طبقات الشعراني 1/144.
(4) لطائف المنن / 109.
(5) نفس المصدر / 12.
(6) الجرحاني : التعريفات / 39.
(7) المصدر السابق / 23.(56/57)
إن المسلم ليمتلكه العجب عندما يقرا أو يسمع ما يقوله هؤلاء من أمثال الجرجاني وغيره الذين يدعون العلم والمعرفة , إن هذه أمور خطيرة تمس جوهر العقيدة الإسلامية , إن الاعتقاد بأن أحداً غير الله سبحانه يتصرف في هذه الكون هو شرك أكبر مع أن الله سبحانه وصف أكابر أوليائه بالصديقين كأبي بكر وسيدة مريم والدة المسيح عليه السلام فيأتي هؤلاء ليحادوا الله ورسوله ويقولوا : القطبية هي مرتبه فوق الصديقية وأما مصادمة كلامهم للعقل من البديهيات الأولية و لأن الخرافة لا يمكن أن يصدق بها عقل . أوتاد وأقطاب يتحكمون في العالم وهؤلاء سبعة وأولئك أربعة من أين جاءوا بهذا التحديد وهذا العدد ؟ ومن أين جاءوا بهذا القطب الذي جعلوه نائباً لله ؟ كأن الله سبحانه ملك من الملوك يحتاج إلى نواب سبحانك هذا بهتان عظيم وإفك مبين(1) , وهذا الكلام وكلامهم عن الحقيقة المحمدية ووحدة الأديان لا نستطيع أن نصنفه بأنه هلوسة وتخبطات مصروع لا غير , لأننا نكون عندئذ غافلين عن حقيقة هذه المذاهب , وإنما هي غنوصية(2)
__________
(1) جاء في ( الفتاوى البزازية ) :" من قال أن أرواح المشايخ حاضرة تعلم يكفر " انظر كتاب ( غاية الأماني ) لشكري الآلوسي 3/66 وما نقله عن الشيخ صنع الله الحنفي في موضوع الأولياء والأقطاب والأوتاد 2/66 من نفس الكتاب أيضاً .
(2) الغنوصية : فرقة دينية فلسفية متعددة الصور مبدؤها أن المعرفة الحقة هو الكشف عن طريق الحدس الحاصل عن اتحاد العارف بالمعروف وليس عن طريق العلم والإستدلال , فهي نوع من التصوف يزعم أنه المثل الأعلى للمعرفة , ويعتقد أنه ليس هناك حواجز أو فروق بين الأديان , ومن هنا كان خطرها , وهي مأخوذة من اللفظ اليوناني ( غنوسيس ) يعني ( معرفة ) وقد نشأت في القرن الأول الميلادي بتأثير اختلاط الثقافة اليوناينة بثقافة الشرق ومن زعمائها ( أفلوطين ) فيلسوف القرن الثالث الميلادي , انظر إبراهيم هلال في مقدمة الولاية والطريق إليها /77.(56/58)
لهدم الإسلام .
المبحث السادس
الشطح واللامعقول
يروى عن الشافعي رضي الله عنه أنه قال : " لو أن رجلاً تصوف أول النهار لا يأتي الظهر حتى يصير أحمق " (1), وسواء صحت هذه الرواية عن الشافعي أم لم تصح فإن الاتجاه العام لدى الصوفية هو الابتعاد عن العقل والعقلانية , وذلك لأنهم يرون أنه لا يمكن الوصول إلى الأحوال والمقامات العالية إلا بإلغاء العقل , ولذلك يذكرون حوادث لمشايخهم ويقررون أموراً يأباها العقل بل يكذبها , ومع أن العقل شرط في معرفة العلوم وهو بمنزلة البصر في العين فإذا اتصل به نور الإيمان والقرآن كان كنور العين إذا اتصل بنور الشمس وإن إبعاد العقل وعزله تماماً هو رجوع إلى الأحوال الحيوانية(2) ومن العلوم أن مناط التكليف في الإسلام هو العقل ولكن الصوفية كل شيء عندهم ممكن , وكل شيء يصدق مهما كانت غرابته , لأنه لا شيء يؤد على مشايخهم , وإذا رددت فأنت محجوب لا تفهم في مثل هذه الأمور , ولذلك أصبحت قصصهم أضحوكة لأهل الأديان المنسوخة كما يقول الآلوسي (3).
ولأن الناس عجزوا بعد سقوط بغداد عن ربط الأسباب بالمسببات فربما كان التصوف هو الوحيد الذي نجا من تلك الكارثة فهرع الناس إلى المتصوفة يمنحونهم البركة فامتلأت البلاد بأرباب الطرق (4) .
__________
(1) تلبيس إبليس / 370
(2) انظر ما كتبه ابن تيمية في الفتاوى 3/338 كما أ،ه كتب عشر مجلدات في بيان أنه لا تعارض بين الشريعة المنقولة والحقيقة المعقولة .
(3) محاكمة الأحمدين / 490.
(4) انظر أحمد أمين : ظهر الإسلام 4/219.(56/59)
وحتى لا يظن أننا نظلم ونتهم فهذه صور من اللا معقول عند الصوفية منتزعة من كتاب ( الطبقات الكبرى ) للشعراني . هو يترجم لهؤلاء ولا يعلق بشيء لاعتقاده بصحتها , بل ينقل قصص المجاذيب ويترضى عنهم, وقد يقال بأنها مكذوبة عليهم ولكن الشعراني نقلها ولم ينكرها والذين يقرأون للشعراني من عصره وحتى هذا الوقت لا يقولون : نحن ننكر مثل هذه الأمور ويجب أن تحذف من كتبنا , فالمشكلة في هؤلاء الذين يبررونها ويصدقونها فعلاً وهذه النماذج مأخوذة من عصور مختلفة إلى عصر المؤلف في القرن العاشر الهجري .
ذكر في ترجمة الشيخ أحمد الرفاعي أنه : " إذا تجلى الحق تعالى عليه بالتعظيم يذوب حتى يكون بقعة ماء , ثم يتداركه اللطف فيصير يجمد شيئاً فشيئاً حتى يعود إلى جسمه المعتاد ويقول : لولا لطف الله ربي ما رجعت إليكم " (1).
الشيخ أبو عمرو بن مرزوق القرشي :…" كان الرجل العربي إذا اشتهى أن يتكلم بالأعجمية أو العجمي يريد أن يتكلم العربية يتفل الشيخ في فمه فيصير يعرف تلك اللغة كأنها لغته الأصلية "(2) .
مساكين الطلبة الذين يدرسون اللغات الأجنبية في هذا العصر فلو أن الشيخ يعيش معهم لاستراحوا وأراحوا ...
قال تقي الدين السبكي : " حضرت سماعاً فيه الشيخ رسلان فكان يثب في الهواء ويدور دورات ثم ينزل إلى الأرض يسيراً يسيراً , فلما استقر سند ظهره إلى شجرة تين قد يبست فأورقت واخضرت وأينعت وحملت التين في تلك السنة " (3) والعجب هنا ليس من الشيخ رسلان ولكن من عالم مثل السبكي كيف يقبل بأن يذكر الله بالرقص في الهواء وكيف يقبل مثل هذا الهراء , هذا إذا صحت رواية الشعراني عن السبكي .
__________
(1) الطبقات 1/143.
(2) الطبقات 1/154.
(3) الطبقات 1/152.(56/60)
أبو العباس أحمد الملثم : يقول الشعراني عنه : " وكان الناس مختلفين في عمره , فمنهم من يقول : هذا من قوم يونس , ومنهم من يقول : إنه رأى الإمام الشافعي , فسئل عن ذلك , فقال عمري الآن نحو أربعمائة سنة وكان أهل مصر لا يمنعون حريمهم منه في الرؤية والخلوة(1) .
الشيخ إبراهيم الجعبري : كان له مريدة تسمع وعظه وهو بمصر وهي بأرض السودان من أقصى الصعيد(2) .
حسين أبو علي : " من كمّل العارفين , كان كثير التطورات , تدخل عليه فتجده جندياً , ثم تدخل عليه فتجده سبعاً , ثم تدخل فتجده فيلاً ( يا ألطاف الله ) " (3). تخيل هذا الذي من كمّل العارفين يتحول إلى سبع وإلى فيل .... ؟!
إبراهيم بن عصيفير : " كان يغلب عليه الحال وكان يمشي أمام الجنازة ويقول زلابيه و هريسة وأحواله غريبة , وكان يحبني وأنا في بركته وتحت نظره " (4). قد يكون هذا مجنون لا تكليف عليه , أما أن يقول الشعراني : سيدي إبراهيم , وكنت في بركته وتحت نظره , فهذا مما لا ينقضي من العجب , وما رأي صوفية اليوم هل ينكرون على الشعراني هذا الكلام ؟ لا أعتقد , بل يبدوا أن هؤلاء وأمثالهم هم أقرب إلى الظن بأن الحقيقة إنما ينطق بها البلهاء قبل أن ينطق بها العلماء .
__________
(1) نفس المصدر 1/157 .
(2) الطبقات 1/203.
(3) الطبقات 2/87.
(4) نفس المصدر 2/140.(56/61)
ومن أثر الصوفية وكتب الشعراني وغيره أن أساتذة في جامعات مصر , أساتذة في الطب والفيزياء والكيمياء و تكون عقولهم سليمة عند البحث العلمي وتمسخ عند الحديث عن الولي الفلاني كيف طار في الهواء أو غاص في الماء(1) , لا شك أنها ازدواجية تحتاج إلى تحليل نفسي لمعرفة أسبابها ودوافعها , وقد رأينا طلاب جامعات في بلاد الشام كيف يتبعون دجالاً مخرفاً , ظاهر الكذب والاحتيال , إن هؤلاء المشايخ يقومون بعملية غسل دماغ للمريد بطريقة شيطانية خبيثة تجعل طلاب الجامعات بل وأساتذتهم يسيرون وراء الشيخ كالقطيع , وتبقى أجواء الصوفية غير العقلانية هي العامل الأهم .
إن قمة إلغاء العقل عند الصوفية هو ما يسمونه ( بالشطح ) وهي أن يتكلم أحد مشاهيرهم بكلمات غير معقولة أو تتضمن كفراً وزندقة في الظاهر ويقولون : إنه قالها في حالة جذب وسكر أما في حالة الصحو فيتراجع عنها وقيل في تعريف ( الشطح ) :" كلمة عليها رائحة الرعونة والدعوى تصدر عن أهل المعرفة باضطرار وإضراب " (2).
وهذه نماذج من شطحاتهم : قال أبو يزيد البسطامي " إن جهنم إذا رأتني تخمد فأكون رحمة للخلق , وما النار والله لئن رأيتها لأطفأنها بطرف مرقعتي "(3).
والدسوقي يعلن أن أبواب الجنة بيديه ومن زاره أسكنه جنة الفردوس(4) وأبو الحسن الشاذلي يعوم في عشرة أبحر : خمسة من الآدميين : محمد وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي , وخمسة من الروحانيين : جبريل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل والروح (5) وأحمد بن سليمان الزاهد شفعه الله في جميع أهل عصره(6) .
__________
(1) لاحظ هذا الانفصام الدكتور زكي نجيب محمود وطبعاً الدكتور هنا لا يدافع عن الإسلام الحقيقي وإنما يدافع عن العقل وتأثره بالمذهب الوضعي المنطقي العلماني الاتجاه .
(2) بدوي : شطحات الصوفية 1/22.
(3) انظر : تاريخ التصوف لعبد الرحمن بدوي .
(4) هذه هي الصوفية / 121.
(5) لطائف المنن / 57.
(6) طبقات الشعراني 2/82.(56/62)
شطحاتهم لا تنتهي ونكتفي بما أوردنا كنموذج للرعونة والدعوى وأقوالهم هذه مرفوضة جملة وتفصيلاً ولا تستحق بذل الجهد لتبريرها فقاعدة الإسلام الركينة أننا نحكم بالظاهر كما دلت جملة الأحكام الشرعية, فلا مجال لمدع أن يقول بأن باطن أقوالهم مخالف لظاهرها , ويجب أن يصان الإسلام عن مثل هذا الشطح واللامعقول , بل الشرك لأن ممن يتصرف في الجنة والنار فقد اتخذ نفسه نداً لله وشركاً و قال ابن عقيل " ومن قال هذا كائناً من كان فهو زنديق يجب قتله " (1).
وإذا كانت الجنة بيد الدسوقي فلينم البطالون وليستريحوا من عناء الجهد والتعب والأمر لا يحتاج إلى علم أو عبادة أو جهاد بل مجرد زيارة الشيخ تفتح له أبواب الجنة أليست هذه نسخة أخرى عن صكوك الغفران , وأما نحن فنستغفر الله حتى من إيراد أقوالهم .
* * *
الفصل الثالث
البدع العَمليََّة للصُّوفية
المبحث الأول
تربية ذليلة
"أنت أسير في قيد الملا والصوفي , أنت لا تأخذ
الحياة عن حكمة القرآن , ليس لك بآيات القرآن
شأن , إلا أن تموت بسهولة بسورة يس "
إقبال
وضع الصوفية قواعد عامة لتربة مريديهم وكلها تحوم حول الخضوع التام من المريد للشيخ , بحيث يتحول التلميذ المسكين إلى آلة جوفاء تردد ما يقال لها بلا تفكير ولا شخصية مستقلة , بل انقياد أعمى , وحتى تتم هذه التربية الذليلة ألزموهم بلبس معين ومشية معينة وشيخ معين وطريقة معينة . ومن هذه القواعد المتعارفة بينهم :
كن بين يدي الشيخ كالميت بين يدي المغسل .
لا تعترض فتنطرد .
من قال لشيخه لِمَ ؟ لا يفلح .
من لم يكن له شيخ فشيخه الشيطان .
__________
(1) تلبيس إبليس / 343.(56/63)
ومشت الجماهير المغفلة وراء الشيوخ يقبلون الأيدي وينحنون لهم بالتعظيم كلما رأوهم , لا يتكلمون إلا إذا تكلم الشيخ , يصدقون بكل ما يقول , ويحملون له حذاءه وسجادته . وقد فلسفوا كل هذا في كتبهم تحت عنوان ( آداب المريد ) فقالوا : " ومن الأدب تعظيمه ظاهراً وباطناً , ولا تصاحب له عدواً ولا تعادي له صديقاً , ولا تكتم عنه شيئاً مما خطر ببالك ( مثل اعترافات النصارى ) , ولا تسافر ولا تتزوج إلا بإذنه , وأعظم من هذا قالوا : وحرم على المريدين السؤال لأن الشيخ قد يكون جاهلاً فينفضح(1).
وهذا الأسلوب في تربية الأتباع ليس مستحدثاً بل تلكم عنه القشيري في ( رسالته ) فقال : " من صحب شيخاً من الشيوخ ثم اعترض عليه بقلبه فقد نقض عهد الصحبة ووجبت عليه التوبة , ثم إن الشيوخ قالوا : حقوق الأستاذين لا توبة منها " (2).
وقد أدى هذا الأسلوب إلى الغلو في المشايخ , الغلو في الصالحين فالغزالي هو صاحب الصديقية العظمى برأي أبي العباس المرسي (3), والشيخ نجم الدين يستحي أن يصلي باتجاه القبلة وخلف الشيخ أبو العباس المرسي ( القطب ) فأدار وجهه باتجاه القطب !! ولكن أبا العباس كان متواضعاً فقال له : أنا لا أرضي خلاف السنة (4) فقط خلاف السنة ترك القبلة ؟! وقد كان أحمد الشريف السنوسي – من المعاصرين – شديد الاعتقاد بعمه محمد المهدي الذي لا يرى فوق طبقته أحداً إلا سيد الكائنات محمد صلى الله عليه وسلم " (5).
وانتقلت عدوى هذه الطريقة في التربية إلى الآباء فربوا أبناءهم على الطاعة العمياء وأجبروهم على عادات معينة فيخرج الطفل شخصية ضعيفة .
ولنا على هذه التربية الملاحظات التالية :
__________
(1) إن ما أورده أهل السنة من آداب المتعلم بين يدي العالم , واحترام العلماء وتوقيرهم , يختلف عن ذلة الخضوع النفسي عند مريدي الصوفية .
(2) هذه هي الصوفية / 101.
(3) لطائف المنن / 77.
(4) لطائف المنن / 74.
(5) شكيب أرسلان : حاضر العالم الإسلامي 2/160.(56/64)
هذه الأساليب في تربية المريدين هي أساليب ماكرة إما لتغطية ما على الشيخ من جهل بالدين وقلة بضاعة في العلم , أو لممارسة أشد أنواع السيطرة على عقول وقلوب الناس وباسم احترام الشيخ . وقولهم ( العلم في الصدور لا في السطور ) إنما هو صرف للتلاميذ عن كتب الفقه والحديث لأنه إذا قرأ فربما يتفتح عقله – فينتبه لما عند الشيخ من دجل وخرافات .
لم يترب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه التربية الخانعة ولكنهم تربوا تربية القيادة والرجولة , فكان أحدهم يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم : أوَحيٌ هذا أم هو الرأي والمشورة؟ فإن كان الرأي والمشورة أدلى برأيه كما فعل سعد بن معاذ في غزوة الخندق عندما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم مصالحة قبائل غطفان , وكان صلى الله عليه وسلم بقيادته الحكيمة يستمع لهم ويناقشهم وجوه الرأي ولا يقول لهم : كيف تعترضون علي وأنا سيد الخلق ورسول من رب العالمين ؟ ومع حبهم الشديد لرسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا لا يقومون له ولا يقبلون يديه كلما دخل وذلك لمعرفتهم أنه يكره المبالغة في تعظيم البشر , وعقل الصحابة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه التربية فكان أول ما تكلم به أبو بكر الصديق رضي الله عنه عندما تولى الخلافة " وإن أسأت فقوموني " ويقول : " أي سماء تظلني وأي ارض تقلني إذا قلت في كتاب الله برأي " والصوفية يقولون : الشيخ يسلم إليه طريقته , وأي طريقة مع الشرع ؟ ويكتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه لقادة الجيوش وأمراء الأقاليم : " لا تضربوا أبشار الناس فتذلوهم " ذلك لأن الشعب الذليل لا خير فيه , كما ذكر القرآن الكريم قصة بني إسرائيل عندما كانوا أذلاء تحت حكم فرعون , فلما أراد موسى إخراجهم إلى العزة والكرامة قالوا له : " فاذهب أنت وربك فقاتلا , إنا ها هنا قاعدون " (1).
__________
(1) سورة المائدة 24.(56/65)
وعقل التابعون هذه التربة فكانوا يكرهون " أن توطأ أعقابهم "(1) وهو أن يمشي التلاميذ وراء الشيخ , ويقولون : " إنها فتنة للتابع والمتبوع " (2) , ولم يعتد الصحابة تقبيل يد رسول الله صلى الله عليه وسلم وإذا وقع فيكون نادراً , وذهب بعض العلماء إلى كراهية تقبيل اليد مطلقاً كالإمام مالك , قال سليمان بن حرب : هي السجدة الصغرى(3). وعن أنس بن مالك قال : " قلنا يا رسول الله أينحني بعضنا لبعض ؟ قال: لا " (4) .
أما لماذا تسير هذه الألوف من البلهاء وراء شيوخ الصوفية ربما يكون هروباً من الواقع , ولعلها تصادف متنفساً غير حقيقي لمشاكلهم وأرجح أنه ابتعاد عن التكليف الذي يفرضه الإسلام وخاصة في أوقات الشدة والعسرة , وبعض الناس يصدقون أغرب القصص لمجرد رغبتهم في أن تكون هذه القصص صحيحة والواقع أنها غير صحيحة (5) .
* * *
المبحث الثاني
المتصَوفة وعلم الحَديث
__________
(1) زهير بن حرب : كتاب العلم / 146 المنشور مع ثلاث رسائل بعنوان الإيمان – تحقيق الألباني .
(2) زهير بن حرب : كتاب العلم / 138 .
(3) المسائل السجدية 2/123 ط . 1344هـ .
(4) سنن ابن ماجة 2/1220 كتاب الأدب .
(5) انظر كتاب : كيف تفكر , تعريب منير البعلبكي – ط . دار العلم للملايين .(56/66)
من أصعب الأمور على المتصوفة وخاصة المتأخرين منهم الاهتمام بالعلوم الشرعية وخاصة الحديث والفقه , لأن هذه العلوم تكشف ما هم عليه من جهل وإذا دخلت في قلوب وعقول التلاميذ فلا يبقى حولهم أحد , أما المتقدمون فكان لهم عناية بالعلوم الشرعية ولكن إما أن يكون أحدهم مفصوم الشخصية فتجده عالماً في الفقه وأصوله ولكن عندما يتكلم في التصوف ينقلب إلى شخصية أخرى كأبي حامد الغزالي , وإما أن يترك العلم بعد أن يكون قد أخذ بقسط وافر منه , باعتبار أن العلم وسيلة للعمل فإذا وصل إلى العمل فلا داعي للعلم , وهذه مغالطة لأن المسلم يحتاج للعلم حتى آخر لحظة من حياته , وقد رمى أحمد بن أبي الحواري كتبه في البحر وقال : نِعمَ الدليل كنتِ .
وأبو حامد الغزالي يبرر هذا البعد عن علوم الشريعة وهذا الميل من المتصوفة إلى علم الكشف فيقول : " اعلم أن ميل أهل التصوف إلى الإلهية دون التعليمية , ولذلك لم يتعلموا ولم يحرصوا على دراسة العلم بل قالوا الطريق تقديم المجاهدات والإقبال على الله ويقطع الإنسان همه من المال والولد والعلم ويقتصر على الفرائض والرواتب ولا يقرن همه بقراءة القرآن ولا يكتب الحديث " .
يقول ابن الجوزي معلقاً على كلام الغزالي : " عزيز علي أن يصدر هذا الكلام من فقيه فإنه لا يخفي قبحه , فإنه في الحقيقة طي لبساط الشريعة " (1). ومن الأوهام التي وقعوا فيها قولهم : نحن نأخذ علمنا عن الحي الذي لا يموت وأهل الحديث يأخذون علمهم ميتاً عن ميت وأنشد أحد شيوخه : (2)
إذا طالبوني بعلم الورق برزت عليهم بعلم الخرق
__________
(1) تلبيس إبليس / 323.
(2) هو أبو بكر الشبلي قال عنه الذهبي : كان يحصل له جفاف دماغ فيقول أشياء يعتذر عنه فيها وله مجاهدات عجيبة انحرف فيها مزاجه , انظر سير أعلام النبلاء 15/368.(56/67)
وبسبب إعراضهم عن الحديث جمعوا الغث والسمين والموضوع والضعيف في كتبهم مثل ( الإحياء ) و ( الرسالة ) و ( حقائق التفسير ) وهذه بعض الأحاديث الضعيفة أو الموضوعة الباطلة وكيف استندوا إليها وقرروا بها مذهبهم :
قال بعض العارفين : أول المعرفة حيرة وآخرها حيرة وذكروا حديثاً باطلاً : " زدني فيك تحيراً " قال ابن تيمية : هذا حديث كذب والرسول صلى الله عليه وسلم يقول : " ربي زدني علماً " (1) .
ذكر محمد بن طاهر المقدسي في مسألة ( السماع ) حديث الأعرابي الذي أنشد النبي صلى الله عليه وسلم هذه الأبيات :
قد لسعت حية الهوى كبدي فلا طبيب لها ولا راقي إلا الحبيب الذي شغفت به فعنده رقيتي وترياقي وأنه صلى الله عليه وسلم توجد عندما سمع ذلك حتى سقطت البردة عن منكبيه , قال ابن تيمية : " هذا حديث مكذوب موضوع " (2) ولا ندري كيف يروون هذا وأين عقولهم ؟ ولعلّ الحيات لسعت عقولهم وليس قلوبهم .
رووا حديثاً " لو أحسن أحدكم ظنه بحجر لنفعه " وهو من كلام أهل الشرك والبهتان وقد سمعنا بعض مشايخ الصوفية في هذا العصر يحدث به ويعتقده .
" ألبسوا الصوف , وشمروا , وكلوا في أنصاف البطون تدخلوا ملكوت السماء " ذكرها أبو طالب المكي في ( قوت القلوب ) (3), وهل يتكلم الرسول صلى الله عليه وسلم بمثل هذا الكلام , وهل هذا إلا اختراع لتأييد مذهب التصوف بلبس الصوف .
هذه نماذج قليلة وغيض من فيض مما امتلأت به كتبهم كالرسالة للقشيري حيث ذكر فيها الصحيح والضعيف والموضوع وحيث يروي عن الفضل بن عيس الرقاشي وهي من أوهى الأحاديث وأسقطها , (4) وارجع إلى ( الإحياء ) لترى العجب العجاب , مما يدلنا على عدم احتفائهم بعلم الحديث أو الفقه , بل ضربهم بالعلم كافة عرض الحائط .
* * *
المبحث الثالث
البطالة والانحِلاَل
__________
(1) الفتاوى 11/384 .
(2) الفتاوى 11/563.
(3) زكي مبارك : التصوف 1/44.
(4) الفتاوى لأبن تيمية : 10/680.(56/68)
كان أوائل الصوفية أصحاب مجاهدات وعبادات , صادقين مع أنفسهم وإن كانت بعض أعمالهم فيها تعمق وتشدد ومخالفة للسنة ما سبق أن قررنا , ثم ظهر بعد ذلك أجيال بنوا التكايا والزوايا وهي دكاكين للبطالة والطبل , مستريحين من كدّ المعاش , متشاغلين بالأكل والشرب والغناء والرقص , يطلبون الدنيا من كل ظالم , وأين جوع ( بشر ) وورع ( السري ) وأين جد ( الجنيد ) (1), مع أن بناء الربطة والتكايا ولو لتعبد والإنفراد هو بدعة في حد ذاته لأن بناء آهل الإسلام المساجد , وبناء التكايا فيه تشبه بالنصارى لإنفراده بالأديرة . وقد قيل لبعض الصوفية أتبيع جبتك ؟ قال : إذا باع الصياد شبكته فبأي شيء يصطاد وقد استغرب الإمام محمد بن الحسن الشيباني من أكلهم الطعام عند الناس لا يسألون عن حلال أو حرام (2) .
ونسو أو تناسوا أن الإسلام يأبى الركون إلى الكسل والبطالة , وأن الزهد هو ترك ما في أيدي الناس والاستغناء عنه تنزهاً , وليس الحصول على ما في أيدي الناس تنطعاً , وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن السؤال وأمر بالاكتساب والعمل فقال : " لأن يحتزم أحدكم حزمة من حطب على ظهره فيبيعها خير من أن يسأل رجلاً فيعطيه ؟ أو يمنعه "(3), وقال صلى الله عليه وسلم " اليد العليا خير من اليد السفلى " (4) .
وكان سعيد بن المسيب يتجر بالزيت وكان أبو حنيفة يتجر بالقامش ... هكذا كان كبار العلماء والزهاد يعملون بأيديهم ويتحرون الكسب الحلال .
__________
(1) انظر ما كتبه ابن الجوزي وأطال في بطلات الصوفية في كتابه : تلبيس إبليس .
(2) الكسب / 44.
(3) النسائي 3/93 باب الزكاة .
(4) نفس المصدر 3/60.(56/69)
وكان الأوائل يمتنعون عن الزواج تشدداً وتعمقاً ثم تطور الأمر بالمتأخرين من الصوفية إلى مؤاخاة النساء وإعطاء الطريقة للمريد , وحفلات الذكر المختلطة , مما يشعر بدنوهم من مذهب الإباحية عند الباطنية لأن نظرية وحدة الوجود – التي استفحلت عند متأخري الصوفية – تشجع على الإباحية " لأن الثواب والعقاب يصبح من المشكلات فمن الذي يثيبنا حين نحسن ؟ ومن الذي يعاقبنا حين نسيء ؟ إذا كان الإنسان جزأ من الله , إنها خطر على عالم الأخلاق , بل تأتي على قواعده من الأساس , ولذلك عاش بعض الصوفية عيشة التفكك والانحلال (1) , وقد كان لابن الفارض وهو من شيوخ وحدة الوجود , كان له مغنيات بالقرب من قرية ( البهنسا ) يذهب إليهن فيغنين له بالدف والشابة وهو يرقص ويتواجد (2) .
لم يرض عن هذا التطور بعض الصوفية المعتدلون كالشيخ أبي سعيد الأعرابي الذي يقول في كتابه ( طبقات النساك ) : " إن آخر من تكلم في هذا العلم الجنيد وأنه ما بقي بعد إلا من يستحي من ذكره " (3) , كما حكى عن سهل التستري قوله : " بعد سنة ثلاثمائة لا يحل أن يتكلم بعلمنا هذا لأنه يحدث قوم يتصنعون للخلق (4) ولكن الصوفية استمرت في تدهورها وأصبحت اكتساباً وتملقاً , ولبسوا جلود الضأن وحملوا قلوب الذئاب .
* * *
المبحث الرابع
السَّمَاع وَ الذِكر
__________
(1) زكي مبارك : التصوف 1/155 وانظر ابن حزم : الملل والنحل 4/226 .
(2) الآلوسي : جلاء العينين /75 .
(3) آدم متز : الحضارة الإسلامية 2/39 .
(4) المصدر السابق 2/39.(56/70)
في البداية , وعند أوائل الصوفية كانوا يحضرون مجلس ( السماع ) وهو الاجتماع في مكان معين لسماع منشد صاحب صوت حسن مع استعمال الإيقاع الموسيقي , ينشد قصائد الزهد وترقيق القلوب , ثم تطوروا إلى إنشاد قصائد الغزل وذكر ( ليلى ) و ( سعدى ) ويقولون نحن نقصد بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم , هذه القصائد التي تهيج الحب المطلق , الحب غير المعين , فكلٌ يأخذه حسب هواه وما يعتلج في قلبه من حب الأوطان أو حب النساء ...
وقد أباح لهم هذا السماع أبو حامد الغزالي وأبو عبد الرحمن السلمي وغيرهم , واحتجوا بأشياء واهية ضعيفة , وليس هذا موضوع مناقشة حكم الإسلام في الغناء , فقد رد عليهم العلماء مثل ابن الجوزي وأجاد ابن القيم في مناقضة هذا الموضوع في كتابه ( إغاثة اللهفان ) , وتبقى الحقيقة أن الأمة المسلمة أمة جادة ولا يحلل هذا الغناء إلا من لا يفقه الإسلام حق الفقه .
ولم يقتصر الأمر على هذه القصائد بل تطور إلى ذكر الله بالرقص والدف والغناء , وعندما تقام الحضرة (1) تبدأ التراتيل بذكر اسم الله المفرد ( الله ) بصوت واحد , ولكن عندما يشتد الرقص ويلعب الشيطان برؤوسهم يرفعون عقيرتهم أكثر ويتحول اسم الله إلى ( هو ) ثم لا تسمع بعدها إلا همهمة , وقد يجتمع مع هذا الصراخ والقفز في الهواء أخلاط الناس من النساء والأولاد لرؤية هذا ( التراث الشعبي ) , حقاً إنها مهزلة اتبعوا فيها سنن الذين من قبلنا فقد جاء في مزامير العهد القديم عن اليهود " ليبتهج بنو صهيون بملكهم , ليسبحوا اسمه برقص , بدف وعود , سبحوه برباب , سبحوه بصنوج الهتاف " (2) .
__________
(1) مصطلح عند الصوفية يعني الاجتماع على ذكر الله بالرقص على شكل حلقة يكون الشيخ في وسطها وكأنه قائد أوركسترا .
(2) هذه هي الصوفية / 143 .(56/71)
جاء في ( ترتيب المدارك ) للقاضي عياض : " قال التنيسي : كنا عند مالك بن أنس وأصحابه حوله فقال رجل من أهل نصيبين : عندنا قوم يقال لهم الصوفية يأكلون كثيراً ثم يأخذون في القصائد , ثم يقومون فيرقصون. فقال مالك : أصبيان هم ؟ فقال : لا . قال : أمجانين هم ؟ قال : لا هم مشايخ وعقلاء . قال : ما سمعت أن أحداً من أهل الإسلام يفعل هذا " (1).
وقد يكون من أسباب فعلتهم هذه هو أن النفس ترى أن تغطي شهواتها باسم الدين والذكر والحضرة . ولو كشفت بصراحة عن نوازعها لكان الخطب أهون , لأنها عندئذ تبقى في دائرة المعصية وهي أقل خطراً من البدعة . والله سبحانه وتعالى وصف الذاكرين له باطمئنان قلوبهم وخشوعهم وإخباتهم , وقد كان السلف إذا سمعوا القرآن خافوا وبكوا واقشعرت جلودهم , وهذا عكس الرقص والطرب , ولم يأمر الله سبحانه حين أمر الناس بالعبادة – أن يأكلوا أكل البهائم ثم يقوموا للرقص , بل هذا الرقص الذي يسمونه ( ذكراً ) وما يرافقه من منكرات مستقبح ديناً وعقلاً , هو وصمة عار أن يكون في المسلمين من يفعل هذا , وصدق قول الشاعر فيهم :
ألا قل قول عبد نصوح وحق النصيحة أن تستمع
متى علم الناس في ديننا بأن الغنا سنة تتبع
وأن يأكل المرء أكل الحمار ويرقص في الجمع حتى يقع
وقالوا : سكرنا بحب الإله وما أسكر القوم إلا القصع
ويسكره الناي ثم الغنا و ( يسن ) لو تليت ما انصدع (2)
* * *
المبحَث الخامِس
المتصَوفة والجهَاد
__________
(1) ترتيب المدارك 4/5 ط . المغرب وقد حاو ل صاحب الكتاب ( حقائق عن التصوف ) محاولة سمجة للاستشهاد بالإمام مالك والإمام الشافعي على أنهما يمدحان الصوفية وهؤلاء الأئمة أعقل وأكبر من هذا .
(2) ابن القيم : إغاثة اللهفان(56/72)
تربى المسلمون الأوائل تربية جهادية , فهم مستعدون دائماً لمصاولة الباطل والدفاع عن الحق , والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر , ينفذون في ذلك سنن الله سبحانه وتعالى , فالشر لا بد من دفعه بالخير و إلا فسدت الأرض , وكان علماء السلف يرابطون في الثغور للحصول على فضيلة الجهاد , مثل الإمام أحمد بن حنبل والإمام عبد الله بن المبارك , وقصة ما كتبه ابن المبارك للفضيل بن عياض يعاتبه فيها على تفرغه للعبادة في مكة وعدم مشاركته في حماية الحدود الإسلامية هي قصة مشهورة , فما هو موقف الصوفية من هذا الموضوع المهم ؟ حتى يتبين لنا هذا لا بد من الوقوف على بعض أقوالهم وأفعالهم :
ألف أبو حامد الغزالي كتابه ( إحياء علوم الدين ) في فترة تغلب الصليبين على بلاد الشام , وتذكر المؤلف كل شيء من أعمال القلوب ولم يتذكر أن يكتب فصلاً عن الجهاد .
يستشهدون دائماً بحديث ليس له أصل ويظنون أنه من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم على عادتهم في ذكر الأحاديث الضعيفة وهو : " رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر " ويعنون بالجهاد الأصغر القتال في سبيل الله والجهاد الأكبر هو جهاد النفس, وهذا الكلام ليس من هدي النبوة ولم يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم شيء من هذا , كما أن فيه مغالطة واضحة وأي جهاد أعظم من تقديم المسلم نفسه في سبيل الله , وقولهم هذا ما هو إلا محاولة للهروب من تبعية القتال في سبيل الله , بل هو صرف المسلمين عن هذا العمل العظيم .(56/73)
استرسل كثير منهم مع القدر الكوني وفهموا هذه المسألة فهماً خاطئاً فظنوا أن الاستسلام لما يقدره الله من عدو أو مرض أو فقر هو من باب الرضى بالقضاء , ولذلك استكانوا للحكام الظلمة وقالوا : هذه إرادة الله وكيف نخالف هذه الإرادة , فهم دائماً مع الحاكم سواء كان مؤمناً أم كافراً , صديقاً أم زنديقاً (1)ولم يعلموا أن قدر الله الكوني يدفع بالقدر الشرعي , فالمرض يدفع بالدواء , والعدو يدفع بالجهاد...
وفي العصر الحديث وعندما اقتسمت بريطانيا وفرنسا أكثر بلاد المسلمين كانت بعض فرق الصوفية غارقة في أذكارها وكأن شيئاً لم يكن , بل يقام للمعتمد البريطاني لدى سورية الجنرال ( سبيرس) حفلة ( ذكر ) على طريقة المولوية يدعوه إليها الشيخ هاشم العيطة شيخ الطريقتين السعيدية والبدرية حيث أنشدت الأناشيد وفتلت المولوية , ثم خطب صاحب الدار باسمه واسم إخوانه مثنياً على رئيس الجمهورية والملك جورج السادس والمستر تشرشل والجنرال سبيرس , فأجاب الجنرال شاكراً (2) .
__________
(1) الفتاوى : 2/101.
(2) خليل مردم بك : يوميات الخليل /62 .(56/74)
وفي الجزائر كانت فرنسا تشجع الطرق الصوفية وتسمح لهم بإقامة أذكارهم والخروج في أعيادهم بالطبول والرايات ولذلك : " تساند الطرقيين والمعمرين على المصلحين " (1) " وكانوا يحضرون اجتماعات جمعية العلماء لا خدمة لغايتها ولكن عيوناً لفرنسا والإدارة المحلية ولكن الجمعية أخرجتهم منها " (2) , ولذلك كان أول عمل قام به باعث النهضة الإسلامية في الجزائر في هذا العصر الشيخ عبد الحميد بن باديس هو محاربة الطرق الصوفية وذلك أثناء تفسيره للقرآن الكريم في الجامع الكبير في مدينة قسنطية . وإذا كان الأمير عبد القادر الجزائري قد حارب فرنسا فإنه وبتأثير تربيته الصوفية لم يكمل هذا القتال , فقد عارض في استمرار الثورة ضد المحتل الفرنسي على يد ولده لأن الشيخ عاهد فرنسا ألا يرفع في وجهها سيفاً مادام حياً (3) . وعندما نفي الأمير إلى دمشق واستقر بها كان على رأس العاملين على إعادة نشر تراث ابن عربي المملوء بفكرة ( وحدة الوجود ) الخبيثة الفاجرة .
وفي الهند وبعد ثورة 1857م المشهورة التي قام بها المسلمون ضد الإنجليز , بعد هذه الثورة قتل من علماء المسلمين العدد الكثير ومنهم المحدث حسن الدهلوي . في هذه الفترة كتب أحمد رضا مؤسس الطريقة الصوفية ( البريلوية ) رسالة مستقلة باسم ( إعلام الأعلام بأن هندوستان دار الإسلام ) ووصفه لبلاد الهند بأنها دار الإسلام هو خدمة لبريطانيا حتى لا يقام فيها الجهاد ضد الكفرة ثم قال بصراحة : " إنه لا جهاد علينا مسلمي الهند بنصوص القرآن العظيم , ومن يقول بوجوبه فهو مخالف للمسلمين ويريد إضرارهم " (4) .
__________
(1) مبارك الميلي : رسالة الشرك ومظاهره , انظر المقالة التي كتبها محمد الميلي في مجلة ( الوطن العربي ) بتاريخ 9/11/1984 عن العيون الأجنبية وحركة الإصلاح الجزائرية .
(2) المصدر السابق .
(3) شكيب أرسلان : حاضر العالم الإسلامي 2/172 .
(4) إحسان إلهي ظهير : البريلوية / 43.(56/75)
ولذلك يقول ابن تيمية عنهم : " وأما الجهاد فالغالب عليهم أنهم أبعد من غيرهم , حتى نجد في عوام المؤمنين من الحب للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والحب والتعظيم لأمر الله والغضب والغيرة لمحارم الله ما لا يوجد فيهم . حتى أن كثيراً منهم يعدون ذلك ( أي الجهاد ) نقصاً في طريق الله وعيباً " (1) وربما يظنون أن الذكر والتفكر والفناء والبقاء هو الأصل والأهم .
بعد هذا الإستعراض لبعض أقوالهم وأفعالهم نستطيع أن نقرر أن التربية الصوفية بطبيعتها بعيدة عن فكرة الجهاد والقتال لأنها تعتبر الرياضات الروحية هي الأصل والأساس , وهذه الرياضات لا تنتهي إلا إذا وصل أحدهم لمرحلة الفناء , وإذا فني فكيف يجاهد ؟!!
ونحن نتكلم عن الصفة الغالبة عليهم , و إلا فقد يوجد منهم من له مشاركة في دفع الظالمين , ولكن الأكثرية هم مع المطاع المتغلب ولهذا قيل : " إن كل شعر التصوف ظهر في زمان ضعف المسلين السياسي "(2) .
* * *
الصُّوفية اليَوم
هل تغيرت الصوفية عما ذكرناه في الصفحات السابقة , هل تركوا وحدة الوجود أو الغلو في المشايخ والسير وراء الأقطاب والأوتاد , هل تركوا البدع التي وقعوا فيها والتي تخالف سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم , أم أنهم متمسكون بكل هذا التراث ؟ الواقع أنهم موجودون بكل الفئات التي ذكرناها وبكل العقائد الفاسدة والخرافات اللا معقول , وبكل طرقهم الكثيرة المنتشرة على رقعة العالم الإسلامي كالشاذلية والنقشبندية والرفاعية والقادرية والتجانية والبريلوية .. الخ من الطرق , والتفرق لا ينتهي عند حد معين .
__________
(1) ابن تيمية : الاستقامة 1/268.
(2) إقبال : الأسرار والرموز / 12 ترجمة عبد الوهاب عزام .(56/76)
وصوفية اليوم منهم العوام الجهلة الذين لا يعرفون إلا الأذكار الجماعية والتماس البركات من الشيخ , ومنهم الغلاة الذين يعتقدون بما يقوله ابن عربي وابن الفارض , ومنهم علماء الفقه ولكنهم ينتسبون إلى طريقة من الطرق المشهورة وكأن الانتساب لها ضربة لازب , أو كأنه يحس بنقص إذا لم يكن منتسباً إلى القوم , فلا بد أن يكون الشافعي مذهباً والشاذلي طريقاً ... ونجد هذا الفقيه لا يمارس طقوسهم ولا يعتقد الكثير من عقائدهم ولكنه التقليد والخوف من الخروج عن المألوف .
كان أحد مشايخ الصوفية من بلاد الشام يجلس في المسجد الحرام في مكة المكرمة ووجهه إلى الكعبة ولكن تلامذته يجلسون صامتين ووجوههم إلى الشيخ لأن النظر إلى وجه الشيخ عبادة , ولم يكن يلقي عليهم درساً .
وعندما يقوم من مجلسه يسرعون لخدمته فأحدهم يمسك له الحذاء وآخر يناوله العصا , ويمشون وراءه كأن على رؤوسهم الطير . أليست هذه هي التربية الذليلة التي تكلمنا عنها ؟
وصوفي آخر من بلاد الشام يوزع على تلامذته ( ورد الشاذلية ) وأوله بالحرف الواحد : " اللهم انشلني من أوحال التوحيد وأغرقني في عين بحر الوحدة " أليست هذه هي وحدة الوجود بعينها ؟
وعندما أراد الشيخ عبد الحليم محمود شيخ الأزهر سابقاً أن يكتب سيرة سيده أبي العباس المرسي ذهب إلى قبر ( البدوي ) يستأذنه في الكتابة فأذن له !!(1) ويُدعى الشيخ إلى الهند للمشاركة في احتفال إقامة قبة على قبر شيخ من شيوخ الصوفية هناك فيلبي الدعوة , ألا يعلم شيخ الأزهر أن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك ؟ ألا يعلم الصوفية أن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن اتخاذ القبور مساجد ؟ فلماذا لا يمتثلون أمره إذا كانوا يحبونه كما يدعون ؟ ولكنه الهوى الذي يخرم العقل والدين معاً .
__________
(1) راجع تقدمة الكتاب المذكور لمؤلفه .(56/77)
ولا يزال أصحاب الطريقة الرفاعية عندما يجتمعون ( للحضرة ) يضرب أحدهم نفسه بآلة حادة تسمى ( الشيش ) وإذا لم تؤثر فيه يقولون : هذه كرامة له , وإذا كان فاسقاً قالوا : هذه كرامة لشيخ الطريقة !!
وإذا ذهبت إلى شمالي بلاد الشام أو مصر أو المغرب ترى هذه البهلوانية على الطريقة الرفاعية . وما يفعل في مصر من احتفالات مولد البدوي أو الحسين , حيث حفلات الرقص الطبل والزمر , وحيث الاختلاط بالنساء وتضييع الفرائض شيء يخجل منه أهل الإسلام ويتبرأ منه دينه وشرعه , والأزهر بجوارهم وما من منكر عليهم , وتقام الصلاة في مسجد الحسين ولا يدخلون للصلاة لأنهم جاءوا للاحتفال ( بسيدنا الحسين ) وليس للصلاة .
وللطرق في مصر شيخ مشايخ ولهم مجلة تذكر في عددها ( 57) أن الطريقة الحامدية الشاذلية أقامت احتفالاً بذكرى سيدهم إبراهيم سلامة الراضي , واعتذر شيخ المشايخ عن الحضور لأنه مشغول باحتفالات مولد ( البدوي ) والعدد القادم للمجلة يحتفل بعيد المولد النبوي ... وهكذا أيامهم كلها أعياد واحتفالات لا تنتهي , ولكل طريقة احتفالاتها :
وكم في مصر من المضحكات ولكنه ضحك كالبكاء
وأما في إفريقيا فالبلاء أعظم والخطب أعم و فالطريقة التيجانية تسيطر على غرب القارة وخاصة في السنغال , ويكفي للتدليل على قلة عقولهم وضلالهم قول مؤسس هذه الطريقة : " من حصل له النظر فينا يوم الجمعة والاثنين يدخل الجنة بغير حساب ولا عقاب " (1) , وقوله : " وسألته صلى الله عليه وسلم لكل من أخذ عني ورداً أن تغفر لهم جميع ذنوبهم ما تقدم منها وما تأخر " (2) أليست هذه دعوة إلى الانحلال وترك التكاليف ( فالنظر إلى الشيخ يدخل الجنة بلا حساب ) !!
__________
(1) علي الدخيل الله : التيجانية / 238 ط . دار طيبة – الرياض .
(2) المصدر السابق / 222 .(56/78)
وإذا يممت وجهك صوب المشرق فَثمَّ البلاء كله , فالهنود مغرمون بالمبالغات والقصص الغريبة عن شيوخ الصوفية . وقد انتشرت في هذا العصر الطريقة ( البريلوية ) وامتدت إلى باكستان ولها أتباع كثيرون من الحمقى والمغفلين , ومبادؤها تمثل الغلو في شخص الرسول صلى الله عليه وسلم ومعاداة أهل السنة (1) , قال مؤسس الطريقة أحمد رضا (2) موضحاً منهج الصوفية في الابتعاد عن التوحيد : " إذا تحيرتم فاستعينوا بأصحاب القبور " (3) ويقول في غلوه في شخص الرسول صلى الله عليه وسلم : " إن رسول الله صلى الله عليه وسلم متصرف في كل مكان وهو ملك الأرضين , ومالك الناس " (4) , وأما عن علاقته بالمسلمين في الهند فهو معاد لأهل الحديث يسب ويشتم أمثال القائد العالم إسماعيل الدهلوي الذي استشهد في معركة مع طائفة ( السيخ ) الكفرة .
__________
(1) كتب عنهم الأستاذ إحسان إلهي ظهير بعنوان ( البريلوية عقائد وتاريخ ) وبين فساد منهجهم وضلالهم .
(2) ولد في مدينة ( بريلي ) من مدن الهند عام 1865 يصفونه بأنه حاد المزاج لعاناً بذيئاً سريع التكفير لمخالفيه , توفي عام 1921.
(3) البريلوية / 60.
(4) المصدر السابق / 69.(56/79)
وأخيراً هناك سؤال لا بد منه وهو : لماذا هذا الاهتمام بالصوفية من دوائر الإستشراق , بل يمكن القول بأن كثيراً من بحوث التصوف الحديثة ترجع إلى عمل المستشرقين , الذين اهتموا بالتعليق على موضوعاته و إخراج المؤلفات الصوفية وطبعها ونشرها , وقد ترجمت إلى الألمانية تائية ابن الفارض في مدينة فيينا سنة 1854 , كما ترجمها إلى الإيطالية ( أكنيزوا ) في روما عام 1917 وإلى الإنجليزية ( نيكلسون ) عام 1921 (1). وقد أمضى المستشرق الفرنسي ( ماسينون ) كل حياته متفرغاً للكتابة عن الحسين ابن منصور الحلاج الذي أفتى علماء بغداد بقتله لقوله بالحلول وقد كتب ( ماسينون ) عن الحلاج ثلاثة مجلدات (2) . والمستشرقون لم يهتموا بالصوفية وإبراز الغلاة منهم فقط , بل بكل الفرق كالمعتزلة والشيعة والخوارج , فلماذا هذا الإهتمام إن لم يكن لإبراز الوجه الآخر لتاريخ المسلمين وليستمر الضالون في ضلالهم .
كلمَة أخيرة
__________
(1) بدوي : تاريخ التصوف / 30 .
(2) جاء في مقدمة شرح ديوان الحلاج للدكتور كامل مصطفى الشيبي رواية يرويها قس سرياني عراقي مقيم في باريس يدعي دهان الموصلي يقول هذا القس أن المستشرق لويس ماسينون كلفه في ربيع 1953 بإقامة قداس خاص على روح الحسين بن منصور الحلاج في البيعة التي يشرف عليها في العاصمة الفرنسية يوم ذكرى وفاته , ويذكر الموصلي أنه دهش لطلبه وذكره بأن الحلاج مسلماً فقال ماسينون : الحلاج رجل متصوف روحاني وأن فوارق الأديان لا يحسب لها حساب في حالته , انظر المقال الذي كتبه جهاد فاضل في مجلة الحوادث العدد 1420.(56/80)
إن المهمة الرئيسية التي ترجوها من وراء بحثنا هذا هي تجلية أسباب التفرق وما ينشأ عنه من الابتعاد عن الصراط المستقيم وعن منهج أهل السنة والجماعة , ولذلك سنذكر بعض العوامل والصفات المشتركة التي ساعدت على تشكل الصوفية وإظهارها بصورتها الحالية , وأعطتها ملامحها الأساسية التي تعرف بها وتميزها عن غيرها , وبذلك يسهل على المسلم معرفة الخير من الشر ويسهل عليه تمييز الواقع الحالي لدعاتها ومنتسبيها , وسنذكر هذه الصفات والعوامل بإيجاز مركز .
أولاً : ضعف العلم الشرعي :
وهو – كما يقول ابن الجوزي – من أول تلبيس إبليس عليهم , إذ قالوا: المقصود هو العمل , ونحن نعبد الله ونذكره دائماً و وقد تركنا الدنيا واتجهنا إلى الله . ومن هذا التصور بدأ مصباح العلم يخفت ضوؤه شيئاً فشيئاً و فعرضوا عن العلم الشرعي الذي هو طريق العمل الصحيح كالحديث والفقه والتفسير , فغلب عليهم الجهل وانتشرت البدعة والخرافة بينهم . فعبادات أكثر المتصوفة وخاصة العوام منهم حشوها البدع , وذلك لما أشاعه مشايخهم من مفاهيم مغلوطة عن البدع حسنتها في عقولهم .
ثانياً : التأويل :
وهي مشكلة عامة الفرق , البلاء المشرك بينها , فقد جنحوا إلى تأويل النصوص وتحريفها عن ظاهرها المتبادر إلى معان لا تليق بها حتى يستدلوا بها على مذهبهم وأقوالهم الفاسدة , وقد رأينا من قبل أمثلة من تأويلهم للآيات القرآنية في مبحث ( الشريعة والحقيقة ) وأنهم قد أغروا بالإتيان بمفهوم مخالف للفهم المستقيم ظناً منهم أن تلك هي مرتبة الخواص, والتأويل بهذا المعنى من شيم الباطنية , وخصلة من خصال أهل الكتاب الذي قال الله فيهم : " من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه " (1) .
ثالثاً : الغلو في المشايخ :
__________
(1) سور النساء / 46.(56/81)
تحدثنا عن هذه الظاهرة خلال سردنا لمعتقداتهم في الأقطاب والأوتاد وفي الأولياء والكرامات وانعكاس ذلك على التربية الذليلة التي يراض بها المريدون خضوعاً لذوي العصمة من مشايخهم , ولا شك أن هذه الظاهرة من الصفات المميزة المقبوحة لدى الصوفية , وهي كالتأويل صفة مشتركة بينهم وبين الشيعة , وبينهم وبين النصارى , فالشيعة غالوا في أئمتهم فقالوا بعصمتهم والنصارى غالوا في المسيح عليه السلام فرفعوه إلى مرتبة الألوهية , وهو ما حذر منه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم إنما أنا عبد الله ورسوله " (1) . وقد قال بعض العلماء : " من فسد من علمائنا ففيه شبه باليهود , ومن فسد من عبادنا ففيه شبه بالنصارى " والموفق من أنجاه الله من براثن الغلو ومن التشبه بإحدى هاتين الطائفتين .
رابعاً : البعد عن منهج السَّلف :
كانت النتيجة الطبيعية لابتداع الأفكار والأعمال لدى الصوفية أن بعدت مناهجهم في الاعتقادات والعبادات جميعاً عن السنة وعن مناهج الصحابة والتابعين , وانحط تقديرهم للسلف – وإن أظهروا غير ذلك – لأنهم ربما نظروا إليهم على أنهم فهموا الإسلام فهماً سطحياً وأن المشايخ والأولياء قد تقربوا إلى الله بما لم يتقرب إليه أحد من الرعيل الأول , وأنهم وصلوا إلى مراتب لم يصلها أحد من السابقين الأولين , وكان من نتيجة ذلك عدم العودة إلى منهج الصحابة والتابعين عند الاختلاف و وحرموا الاستفادة من خير الأجيال .
خامساً : الصِّلة بين التصَّوف والتشيع :
__________
(1) أخرجه الترمذي في الشمائل المحمدية . انظر : مختصر الشمائل للشيخ الألباني / 174, وقال عنه : حديث صحيح .(56/82)
إن صلة الصوفية بالتشيع شيء مؤكد , فمرجعهم دائماً من الصحابة هو علي بن أبي طالب أو الحسن بن علي " الذي هو أول الأقطاب (1) " وقالت الصوفية بالقطب والأبدال وهذا من أثر الإسماعيلية والشيعة (2) . وعوامل نشأة الفرقتين وطبيعة كل منها توجب أن يقترب التشيع والتصوف , فالشيعة انهزموا في ميدان السياسة , والصوفية انهزموا في ميدان الحياة , وأهل فارس هم أكثر الناس تصوفاً بين الأمم الإسلامية (3), وقد أخذ الصوفية فكرة الحياة المستمرة لبعض الأشخاص من الشيعة الذين يقولون بمهدية فلان أو فلان وأنه حي إلى الآن . قال ابن حزم : " وسلك في هذا السبيل بعض نوكي الصوفية فزعموا أن الخضر وإلياس عليهما السلام حيّان إلى اليوم " (4) .
وقد اعتمد السلمي في تفسيره على ما يروى عن جعفر الصادق من تأويلات للقرآن مخالفة للمنهاج الصحيح في التفسير , فإذا قالت الشيعة في تفسير قوله تعالى " وعلى الأعراف رجال " هو علي بن أبي طالب يعرف أنصاره بأسمائهم , قال السلمي : أصحاب المعرفة أصحاب الأعراف , وقال ابن عربي : " رجال هم العرفاء أهل الله وخاصته " (5) .
ويذكر السراج أنه " لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه من بين جميع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم خصوصية بمعان جليلة و إشارات لطيفة وألفاظ مفردة وعبارة وبيان للتوحيد والمعرفة والعلم , تعلق وتخلق بها أهل الحقائق من الصوفية " (6) , وعلي رضي الله عنه من علماء الصحابة وأفضلهم بعد سابقيه في الخلافة فلماذا هذه الخصوصية ؟
__________
(1) لطائف المنن / 67 .
(2) صديق حسن خان : أبجد العلوم 2/160 .
(3) زكي مبارك 2/28 .
(4) د. مصطفى الشيبي : الصلة بين التصوف والتشيع / 136 .
(5) المصدر السابق / 191 .
(6) نفس المصدر / 343 .(56/83)
كما أخذ الصوفية مسألة عصمة الولي من الشيعة الذين يقولون بعصمة الأئمة ولكنهم أخفوها فترة من الزمن فسموها ( الحفظ ) ثم صرح بها القشيري فقال : " واعلم أن من أجل الكرامات التي تكون للأولياء دوام التوفيق للطاعات والعصمة من المعاصي والمخالفات , ويجوز أن يكون من جملة كرامات ولي الله أن يعلم أنه ولي " (1) . ومن الموافقات الغريبة أن كل زعماء الطرق الصوفية يرجع نسبهم إلى علي بن أبي طالب ويتوارثون زعامة الطريقة كالإمامة عند الشيعة , وإذا كانت المشيخة هي محصول المجاهدة والسلوك فهل ولد الشيخ يجب أن يكون شيخاً ؟
إن الشيخ عبد القادر الجيلاني يرجع نسبه إلى آل البيت وكذلك الشيخ أحمد الرفاعي والبدوي وأبو الحسن الشاذلي والبكتاشي والسنوسي والمهدي وكل زعماء الطرق حتى في البلاد الأعجمية مثل محمد نور بخش وخواجه اسحق وباليم سلطان ... (2) .
__________
(1) د . مصطفى الشيبي : الصلة بين التصوف والتشيع / 386 .
(2) المصدر السابق / 446 .(56/84)
وأخيراً فإننا لم نكتب عن الصوفية إلا لتوضيح منهج أهل السنة ونميزه عن غيره لأنه لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها , ولأنه دين الله الذي أنزله على رسوله صلى الله عليه وسلم وفهمه السلف وهو لا يحتمل هذه الطرق التي تفرق به عن سبيله , ولا يمكن أن تكون الصوفية – وبأقل درجاتها وأقصى اعتدالها – لا يمكن أن تكون هي منهج الإسلام, لهذه الأسباب كتبنا عنها وأما الذين يقولون : إن الصوفية ما هي إلا سلوك وتهذيب للنفس ورياضة روحية , هؤلاء يقال لهم : إذا لم تكن توجيهات القرآن الكريم وتوجيهات السنة النبوية فيهما تهذيب للنفس والسمو بها إلى درجات يحبها الله ورسوله فلا خير فيما خالف هذه التوجيهات في سواء الصوفية أو غيرها وإذا كان قدماء الصوفية قد تكلموا بكلمات مقبولة عن خبايا النفس الإنسانية وتعرجاتها , ومعالجة أمراض القلوب , فهذا شيء طيب وهو من أمر الله ورسوله ولا نسميه صوفية لأنها أصبحت علماً على كل ما ذكرناه من البدع , ولا بد لمن يأخذ بها أن يصيبه شيء منها , فالغزالي الذي تكلم فأجاد عن أمراض القلوب قد وقع في حبائلهم الوجودية عندما قال : " ترقى العارفون من حضيض المجاز إلى ذروة الحقيقة فرأوا بالمشاهدة أن ليس في الوجود إلا الله " وهذا هو القول بوحدة الوجود (1) .
شيء آخر لا بد أن يكون واضحاً وهو أنه عند توضيحنا لمنهج الصوفية فهذا لا يعني أن كل فرد من أفرادهم قد حكمنا عليه بفساد المعتقد وسوء المنقلب , فكثيراً ما يلتبس الحق بالباطل ويجتمع في الرجل الواحد الخير والشر والسنة والبدعة ومن العدل أن نذكر هذا وهذا لأن بعض الناس يظنون أن الصوفية هي الطريق الصحيح لما نشأوا عليه من صغرهم أو ما شاهدوه من آبائهم ومشايخهم , ولكن لا بد من تبصيرهم بدينهم الحق وإبعادهم عن البدع التي يحسبونها صغيرة وهي عند الله كبيرة .
__________
(1) مصطفى صبري : موقف العقل 3/94 .(56/85)
إن ابن تيمية – الذي يعتبرونه العدو الأكبر لهم – عند مفاضلته بين الصوفية والمتكلمين يفضل الجانب العبادي العملي عند المتصوفة بالمقارنة مع الجدل النظري عند المتكلمين , والظاهر أنه لاحظ ما عليه أوائل الصوفية من استقامة على المنهج الصحيح في موضوع الأسماء والصفات مع كثرة عبادتهم , ولكنه لم يلاحظ أنهم هم أنفسهم يخلطون في أمور التوحيد والعلم والعمل و فالكلاباذي الذي يوصف بأنه معتدل يعرف التوحيد " أن لا يشهدك الحق إياك " (1) وهو تعريف يحتمل الحق والباطل , ونجد القشيري يتكلم عن عصمة الأولياء , وأخطاء السلمي في التفسير عجيبة , وقصص الغزالي في الإحياء أعجب , حتى القدامى منهم كالجنيد والشبلي والمحاسبي لهم أخطاء واضحة , وهؤلاء يوصفون بالاعتدال .
وابن تيمية كثيراً ما يقرن بينهم وبين المتكلمين فيقول : هؤلاء انحرفوا في كذا , وهؤلاء انحرفوا في كذا , والمقصود طبعاً غلاة المتكلمين كالرازي والآمدي , و إلا فهل يقارن بين أبي بكر الباقلاني وأمثاله من متكلمي الأشاعرة وبين خزعبلات الصوفية , وأين علم أبي بكر ودفاعه عن الإسلام وفقهه من شطحات وغموض الصوفية ؟ ولذلك كان عالم آخر كابن عقيل صريحاً أكثر في رأيه عندما يقول : " والمتكلمون عندي خير من الصوفية لأن المتكلمين قد يزيلون الشك والصوفية يوهمون التشبيه , ومن قال حدثني قلبي عن ربي صرح بأنه غني عن الرسول صلى الله عليه وسلم (2) .
__________
(1) التعرف /135 .
(2) تلبيس إبليس / 375 .(56/86)
والقشيري يعتبر الصوفية أفضل الناس بعد الأنبياء والرسل , وهم غياث الخلق !! ولا أدري ماذا ترك للصحابة والتابعين والعلماء العالمين . وصدق الله تعالى : " كل حزب بما لديهم فرحون " (1) ولو أنصفوا وقاسوا أنفسهم بمقياس الشريعة المعصومة لعلموا أنهم مبتدعون , ولكنه التعصب والإعجاب بالنفس . والقضية ليست في قول فلان من الناس : هذا هو طريقي أو ما أرضاه لنفسي ولكن القضية أنه ليس هناك إلا طريق واحد هو الحق , طريق أهل السنة والجماعة , وليس بعده إلا الظلال .
ونحن ندعو دائماً مع الرسول صلى الله عليه وسلم :
" اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل , فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة , أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون , اهدنا لما اختلف فيه من الحق بإذنك , إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم " (2) .
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .
ملاحق البَّحث
( أ ) رأي العلماء في كتب الصُّوفية
كتاب ( إحياء علوم الدِّين ) لأبي حَامد الغزالي :
قال ابن تيمية : " الإحياء فيه فوائد كثيرة , كلن فيه مواد مذمومة فإنه
فيه مواد فاسدة من كلام الفلاسفة تتعلق بالتوحيد والنبوة والمعاد , وقد أنكر أئمة الدين على أبي حامد هذا في كتبه وقالوا : أمرضه الشفاء , يعنون ( كتاب الشفاء ) لابن سينا في الفلسفة , وفي الإحياء أحاديث وآثار ضعيفة بل موضوعة : كثيرة , وفيه أشياء من أغاليط الصوفية وترهاتهم , وفيه مع ذلك من كلام المشايخة الصوفية المستقيمين في أعمال القلوب الموافق للكتاب والسنة , وأما ما فيه من الكلام في ( المهلكات ) مثل الكلام على الكبِر والعجب والحسد فغالبه منقول من كلام الحارث المحاسبي في ( الرعاية ) , ومنه ما هو مقبول وما هو مردود " (3) .
__________
(1) سورة المؤمنون / 53 .
(2) جامع الأصول 4/188 , قال : أخرجه مسلم والترمذي وأبو داود والنسائي .
(3) الفتاوى : 10/ 551.(56/87)
وقال ابن الجوزي : " وإني لأتعجب من أبي حامد كيف يأمر بهذه الأشياء التي تخالف الشريعة , كيف يحل القيام على الرأس طول الليل , وكيف يحل إضاعة المال , وكيف يحل السؤال لمن يقدر على الكسب فما أرخص ما باع أبو حامد الفقه بالتصوف وسبحان من أخرجه من دائرة الفقه بتصنيفه كتاب الإحياء " (1) .
وقال أبو بكر الطرطوشي : " شحن أبو حامد كتاب الإحياء بالكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم , وما على بسيط الأرض أكثر كذباً منه شبكه بمذاهب الفلاسفة ومعاني رسائل إخوان الصفا " (2) .
وقال الذهبي : " فيه من الأحاديث الباطلة جملة , وفيه خير كثير لولا ما فيه من آداب ورسوم وزهد من طريق الحكماء ومخرف الصوفية " (3).
كتاب ( قوت القلوب ) لأبي طالب المكي :
قال الشاطبي : " لأبي طالب آراء خالف فيها العلماء , حتى أنه ربما
خالف الإجماع في بعض المواضع , لكن له كلام حسن في الوعظ والتذكير والتحريض على طلب الآخرة , فلذلك إذا احتاج الطلبة إلى كتاب طالعوه متحرزين , وأما العوام فلا يحل لهم مطالعته " (4) .
قال ابن كثير : " كان رجلاً صالحاً له كتاب ( قوت القلوب ) ذكر فيه
أحاديث لا أصل لها , بدّعه الناس وهجروه " (5) .
تفسير أبو عبد الرحمن السَّلمي:
قال ابن تيمية : " يوجد في كتبه من الآثار الصحيحة والكلام المنقول
ما ينتفع به في الدين , ويجد فيه من الآثار السقيمة والكلام المردود ما يضر من لا خبرة له , وبعض الناس توقف في روايته " (6) .
__________
(1) تلبيس إبليس / 353 .
(2) عبد اللطيف آل الشيخ : الرسائل 3/137 .
(3) المصدر السابق 3/140 .
(4) الإفادات والإنشادات / 44 .
(5) البداية والنهاية 11/319 .
(6) الفتاوى 1/578 .(56/88)
قال الذهبي : " له كتاب يقال له ( حقائق التفسير ) وليته لم يصنفه , فإنه تحريف وقرمطة , ودونك الكتاب فسترى العجب " (1) . قال الواحدي : " فإن كان اعتقد أن ذلك التفسير فقد كفر " (2) .
( ب ) الخلوات عند الطريقة الرِّفاعية
" يتقدم المريد إلى رتبة الجاويش أو المقدم بعد اجتياز خلواتها الأربعة :
الأولى : ثلاثة أيام والابتداء فيها يكون يوم الأحد .
الثانية : ثلاثة أيام والابتداء فيها يكون يوم الاثنين .
الثالثة : أربعة أيام والابتداء فيها يكون يوم الثلاثاء .
الرابعة : خمسة أيام والابتداء فيها يكون يوم الأربعاء .
ويفصل بين كل منها عشرة أيام .
وشرط الأكل فيها ألا يأكل المتريض إلا في الصباح والمغرب , ولا يزيد فيها على ما يسد الرمق , وبشرط ألا يدخل شيئاً ذا روح " (3) وأن يكون محجوباً عن الناس تماماً في مكان مخصوص طاهر لا يدخله أحد , ويشتغل بالذكر وهو ( يا حميد ) بعدد أقله ثلاثة آلاف مرة عقب كل صلاة , وفي الرياضة الثانية يكون ذكره ( يا رحيم ) أقله أربعة آلاف مرة , وفي الرياضة الثالثة ( يا وهاب ) وأقله خمسة آلاف مرة وإلى جانب هذه الخلوات المخصوصة , بمختلف الدرجات , على كل الإخوان في الطريق الرفاعي , وكل من أخذ العهد أن يقوم بخلوة سبعة أيام ابتداء من اليوم التالي من عاشوراء وشروطها صياح السبعة أيام المذكورة , ولا ينام في تلك الأيام السبعة مع عياله بفراش قطعاً ولا يأكل من ذي روح . وقد قال الرفاعي : إن خلوة السبعة سبب الفيض للسالك والمريد الصادق " (4)
__________
(1) محمد حسين الذهبي : التفسير والمفسرون 2/386 .
(2) المصدر السابق 2/386 .
(3) لاحظ أثر الهندوكية والنصرانية .
(4) عامر النجار : الطرق الصوفية 100/ 104 , وانظر : أبي المعالي الآلوسي في كتابه : غاية الأماني 1/230 .
ويعلق الدكتور الشيبي : " فهذه الأيام السبعة تعني إظهار الحزن الشديد على الحسين : كما يفعل الشيعة على صورة فيها مبالغة ولكن تقادم أنس أصحاب بالطريقة وغيرهم دلالات مراسمها فلم يلتفتوا إلى الممرات السرية التي تصلهم بالتشيع " . الطرق الصوفية / 104.
قال ابن خلدون : " قد كثر الزغل في أصحاب الشيخ أحمد وتجددت لهم أحوال شيطانية منذ أخذ التتار العراق مثل دخول النيران واللعب بالحيات , وهذا لا يعرف الشيخ ولا صلحاء أصحابه " . انظر غاية الأماني 1/371 .(56/89)
.
( ج ) ورد ( جَوهَرة الكمال ) في الطريقة التيجانية
" اللهم صل وسلم على عين الرحمة الربانية , والياقوتة المتحققة الحائطة بمركز الفهوم والمعاني ونور الأكوان المتكونة الآدمي , صاحب الحق الرباني , البرق الأسطع بمزون الأرياح المائلة لكل متعرض من البحور والأواني , اللهم صل على عين الحق التي تتجلى منها عروش الحقائق عين المعارف الأقوام , صراطك التام الأسقم , اللهم صل على طلعة الحق بالحق الكنز الأعظم . صلى الله عليه وسلم وعلى آله صلاة تعرفنا بها إياه " (1) .
( د ) كلمَات لأبي سُليمَان الداراني
" مفتاح الآخرة الجوع , ومفتاح الدنيا الشبع , وأصل كل خير في الدنيا والآخرة الخوف من الله تعالى " .
" ليس العبادة عندنا أن تصف قدميك وغيرك يفت لك ولكن أبدأ برغيفيك فاحرزههما ثم تعبد , ولا خير في قلب يتوقع قرع الباب , يتوقع إنساناً يجيء يعطيه شيئاً " .
" ما رأيت صوفياً فيه خير إلا واحداً عبد الله بن مرزوق وأنا أرق لهم ".
" من كان يومه مثل أمسه فهو في نقصان "
" لولا الليل ما أحببت البقاء في الدنيا , وما أحب البقاء في الدنيا لتشقيق الأنهار ولا لغرس الأشجار " (2) .
( هـ ) ترجمَة الحَلاج
__________
(1) علي الدخيل الله : التيجانية / 262 , وهذا عدا ما فيه من البدع أو الكفر فيه تكلف شديد تمجه الفطرة السليمة , وأكثر أوراد الطرق الأخرى فيها هذا التكلف .
(2) انظر : حلية الأولياء 9/259 – 263 وكذلك صفوة الصفوة 4/223 .(56/90)
قال ابن كثير : " ونحن نعوذ بالله أن نقول عليه ما لم يكن قاله أو نتحمل عليه في أقواله وأفعاله فنقول : هو الحسن بن منصور الحلاج , كان جده مجوسياً من أهل فارس , نشأ بواسط ودخل بغداد وتردد إلى مكة , وكان يصابر نفسه ولا يجلس إلا تحت السماء في وسط المسجد الحرام , وقد صحب جماعة من سادات الصوفية كالجنيد وعمرو بن عثمان المكي وأبي الحسين النووي قال الخطيب البغدادي والصوفية مختلفون فيه فأكثرهم نفى أن يكون الحلاج منهم وقبله بعضهم كأبي العباس البغدادي ومحمد بن خفيف وإبراهيم بن محمد وصححوا حاله .
حكى عن غير واحد من العلماء إجماعهم على قتله وأنه قتل كافراً . وكان مشعوذاً متلوناً فهو مع كل قوم على مذهبهم إن كانوا أهل سنة أو رافضة أو معتزلة أو صوفية أو فساقاً وغيرهم , وما زال يضل الناس ويسموه عليهم حتى ادعى الربوبية فسجن في بغداد وأجمع الفقهاء على كفره وزندقته وأنه ساحر ممخرق , قتل ببغداد بعد فتوى الفقهاء " (1) .
قال الاصطخري الحلاج كان رجلاً ينتحل النسك فما زال يرتقي به طبقاً عن طبق حتى انتهى به الحال إلى زعم أنه ممن هذب في الطاعة نفسه وأشغل بالأعمال الصالحة قلبه وصبر على مفارقة اللذات , ارتقى بها إلى مقام المقربين ثم لا يزال يتنزل في درج المصافاة حتى يصفو عن البشرية في طبعه وعندئذ يحل فيه روح الله الذي كان من عيسى بن مريم فلا يريد شيئاً إلا كان " (2) .
* * *
ثبت المراجع
ابن تيمية ... أحمد بن عبد الحليم
الفتاوى : ط . الرياض
اقتضاء الصراط المستقيم
درء تعارض العقل والنقل: تحقيق رشاد سالم
الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح
الاستقامة : تحقيق رشاد سالم
ابن القيم ... محمد بن أبي بكر
مدراج السالكين
إغاثة اللهفان
ابن الجوزي ... عبد الرحمن بن علي
صفة الصفوة
تلبيس إبليس
ابن عطاء الله السكندري ... لطائف المنن
__________
(1) البداية والنهاية 11/138 .
(2) آدم متز : الحضارة الإسلامية 2/63.(56/91)
أبو الحسن الأشعري ... مقالات الإسلاميين
أبو الحسن الأشعري ... اللمع
أبو نصر السراج ... المقدمة
ابن خلدون ... إسماعيل بن كثير
ابن كثير ... البداية والنهاية
الآلوسي ... أبو المعالي محمد شكري
غاية الأماني في الرد على النبهاني
الآلوسي ... نعمان خير الدين
جلاء العينين في محاكمة الحمدين
البقاعي ... برهان الدين
تنبيه الغبي لتكفير ابن عربي : تحقيق الوكيل
البيروني ... أبو الريحان محمد بن أحمد – تحقيق
ما للهند من مقولة : ط . حيدر أباد
الجيلاني ... عبد القادر – الفتح الرباني
الجرجاني ... التعريفات
الذهبي ... محمد بن أحمد بن عثمان
سير أعلام النبلاء : ط . مؤسسة الرسالة
ابن سعد ... الطبقات
الشاطبي
الشاطبي ... أبو إسحاق إبراهيم بن موسى – الاعتصام من البدع
الموافقات – الإفادات والإنشادات
الشيباني ... الإمام محمد بن الحسين
الكسب : تحقيق سهيل زكار
الشوكاني ... محمد بن علي – قطر الولي على حديث الولي : تحقيق إبراهيم هلال
الشعراني ... عبد الوهاب – الطبقات الكبرى
الرازي ... اعتقادات فرق المسلمين
الراغب الأصفهاني ... الحسين بن محمد – الذريعة إلى مكارم الشريعة
الكلاباذي ... أبو بكر محمد – التعرف لمذهب التصوف
احمد أمين ... ظهر الإسلام
إحسان إلهي ظهير ... الشيعة وآل البيت
خليل مردم بك ... يوميات الخليل
زكي مبارك ... التصوف الإسلامي في الآداب والأخلاق
سميع عاطف الزين ... الصوفية
شكيب أرسلان ... حاضر العالم الإسلامي
صديق بن حسن القنوجي ... أبجد العلوم
عامر النجار ... الطرق الصوفية
عبد الله سلوم السامرائي ... الغلو والفرق الغالية في الحضارة الإسلامية
عبد القادر عيسى ... حقائق عن التصوف
عبد الرحمن الإفريقي ... الأنوار الرحمانية لهداية الفرق التيجانية
عبد الرحمن بدوي ... الإنسان الكامل في الإسلام – شخصيات قلقة في الإسلام – من تاريخ التصوف الإسلامي – من تاريخ الإلحاد – شطحات صوفية(56/92)
د. مصطفى الشيبي ... الصلة بين التصوف والتشيع ط . دار المعارف
عبد الرحمن الوكيل ... هذه هي الصوفية ط . دار الكتب العلمية
علي بن محمد الدخيل الله ... التيجانية – نشر دار طيبة
مالك بن نبي ... مشكلة الأفكار
مصطفى صبري ... موقف العقل والعلم والعالم من رب العالمين
رشيد رضا ... تاريخ الإمام
ولي الله الدهلوي ... حجة الله البالغة
آدم متز ... الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري
الكسيس كاريل ... تأملات في سلوك الإنسان – نشرة جامعة الدول العربية(56/93)
دراسات في الفرق
الصوفية
نشأتها وتطورها
تأليف
محمد العبْده طارق عبد الحليم
الطبعة الرابعة
1422 هـ - 2001 م
قامت شبكة الدفاع عن السنة بنشر هذا الكتاب على الإنترنت ، نسأل الله أن يجعل عملنا خالصاً لوجهه الكريم
" عندما يكون الفكر الإسلامي في حالة أفول ـ كما هو حاله في الوقت الحاضر ـ فإنه يغرق في التصوف وفي المبهم وفي المشوش , وفي النزعة إلى التقليد الأعمى ".
مالك بن نبي
" حين خبت تلك النار داخل الصدور بدأ المسلمون يزحفون إلى المقامات ".
محمد إقبال
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
إن الحمد لله نحمده ونستغفره, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا, من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له, وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم وبعد:
فإن هذا البحث عن الصوفية لم يقصد به الاستقصاء لكل ما كتب عن الصوفية أو كل ما كتب الصوفية أو كل ما كتب الصوفية عن أنفسهم والتفتيش عن أقوالهم وآرائهم وطرقهم بالتفصيل, فإن هذا شيء يطول وليس عن غرضنا, بل الهدف الذي وضعناه نصب أعيننا هو إعطاء فكرة مركزة موجزة عن الصوفية لأناس ينشدون الحق وتحصيله بعيداً عن هذا الركام من الفرق والتفرق, ولذلك فإن معرفة أصولهم ومراحل تطورهم, والبدع التي وقعوا فيها ورؤوس طرقهم تكفي لمعرفة حالهم وأما الغارقون في التصوف فقد قال السلف عنهم: إن صاحب البدعة قل أن يرجع عنها.
نحن لا نكتب عن صوفية كانت وبادت أو هي جزء من التراث كما يقال اليوم بل هي موجودة موصلة بالماضي, بل نستطيع أن نقول أنهم عادوا بعد أن انحسر ظلهم قليلاً, عادوا بقوة لغاية في نفس من يستفيد من عودتهم ليزاحم بهم دعوة الإسلام الحق, فالبريلوية في المشرق والتجانية في المغرب و بينهما الشاذلية والبرهانية .. إلى آخر أسماء الطرق التي لا تنتهي, عادوا إلى المدينة ومكة بعد أن خلت منهم عشرات السنين. فلماذا لا ننبه المسلمين إلى أخطائهم وخطرهم؟(57/1)
عندما نتكلم عن الصوفية فإنما نقصد المعنى الاصطلاحي, أي الصوفية التي جاءت بكتب ومصطلحات خاصة, فيها إشكالات وبعد عن المنهج الإسلامي الصحيح أدت فيما بعد إلى أمور خطيرة مثل الإتحاد والحلول, فهذا لا شك أنه تفرق وبعد عن خط أهل السنة والجماعة, وأما الذين يقولون: إنما نعني بالصوفية السلوك الإسلامي وترقيق القلوب والزهد في الدنيا فيقال لهم: لماذا تسمون هذه الأشياء صوفية وقد أصبحت علماً على رموز وأشكال تخالف الإسلام فهلاّ ابتعدتم عن الشبهات وتركتم هذه الأسماء التي ما أنزل الله بها من سلطان " والزهد لم يذمه أحد وقد ذموا التصوف"(1).
"والذين اكتفوا بحسن الخلق والزهد في الدنيا والتأدب بآداب الشرع لقبوا بالنساك والقراء والزهاد والعباد, والذين أقبلوا على دراسة النفوس وآفاتها وما يرد على القلب من خواطر وحرصوا على الصيغة المذهبية لقبوا بالصوفية"(2).
__________
(1) ابن الجوزي: تلبيس إبليس/165 .
(2) زكي مبارك: التصوف الإسلامي في الأدب والأخلاق 2/21.(57/2)
فالقضية ليست قضية سلوك وإنما هي أساليب مستحدثة مخترعة أعجمية في الرياضات الروحية أدت إلى الشطح والقول على الله بغير على فغاية الصوفية الاتصال بالله ـ بزعمهم ـ والبعد عن الناس, وهذا مضاد لمنهج الأنبياء الذين لم يبعثوا إلا ليهزوا أركان العالم ويوقظوا الناس من سباتهم, ولذلك فنحن لا نعتبر أعلام الزهاد والعباد كإبراهيم بن أدهم والفضيل بن عياض وأمثالهم داخلين في الصوفية بهذا المعنى الذي نقرره (1), فضلاً عن أن نعتبر أمثال الحسن البصري ومن قبله كما يحاول الصوفية أن يقرروا وبدون حياء كما يصفهم ابن الجوزي, وكل فرقة تحاول التمويه على الناس وتنسب إليها أعلام أهل السنة, فكل الأحاديث الباطلة والمضحكة عند الشيعة الإمامية تنسب إلى جعفر الصادق وهو بريء منها وهو من أئمة أهل السنة.
والفرق بين الزهد الأول والتصوف هو كالفرق بين التشيع بمعناه اللغوي الذي هو المناصرة والمحبة لعلي رضي الله عنه بدون غلو وبين التشيع الذي استقر أخيراً كفرقة لها عقائدها المميزة بعد أن أدخلت الباطنية الغلو في علي توسلاً إلى الطعن في الصحابة, وهكذا بثت الباطنية تعاليمها الإلحادية في غلاة الصوفية(2).
إن اعتبار الصوفية (فرقة ) لا بد أن يثير الاستغراب والتساؤل, لأن الاعتقاد السائد أنهم من غمار أهل السنة.
__________
(1) جاء في دائرة المعارف الإسلامية 1/33 ط1933:" وعبثاً نحاول أن نجد أي أثر للنزعة النظرية التي نمت في القرن الثاني, ولا نستطيع أن نعتبر إبراهيم بن أدهم واحداً من هؤلاء الذين تخطوا تلك الحدود وأساس مذهبه الإعراض عن الدنيا وتأديب النفس".
(2) انظر رشيد رضا: تاريخ الإمام 1/116.(57/3)
وجواباً على هذا الاعتراض نقول: إذا كانت الصوفية تعتقد أن طريق الوصول إلى الله سبحانه وتعالى بالكشف والذوق والرياضيات الروحية التي ما أنزل الله بها من سلطان, فلا شك أن هذا تفرق مذموم فكيف بمن يتكلم بالحلول والإتحاد, فهذا كفر صريح. وإذا كان علماء السلف قد ذموا علم الكلام وما جرَّ وراءه من بدع وتفرق, وإن كان بعض العلماء الذين خاضوا فيه قصدوا الدفاع عن الإسلام بنوايا حسنة, فكيف لا يذم من ابتدع طريق التصوف الأعجمي في الفناء والرهبانية وذكر الله بالرقص والدف " ومن يعتقد أن لأحد طريقاً إلى الله من غير متابعة محمد صلى الله عليه وسلم فهو كافر من أولياء الشيطان"(1).
ثم إن هناك من العلماء الذين كتبوا في موضوع (الفرق) من اعتبرها كذلك, كالرازي في كتابه (اعتقادات فرق المسلمين والمشركين ) قال: " اعلم أن أكثر من قص فرق الأمة لم يذكر الصوفية وذلك خطأ .. "(2), ثم ذكر طبقاتهم وفرقهم. وقد جعل ابن النديم في كتابه (الفهرست) المقالة الخامسة ( في السياح والزهاد والعباد والمتصوفة المتكلمين على الخطرات والوساوس )(3) .
وعقد ابن حزم في كتابه ( الفصل في الملل والنحل ) فصلاً لذكر ( شنع قوم لا تعرف فرقهم ) ثم قال: " وادعت طائف من الصوفية أن في أولياء الله من هو أفضل من جميع الأنبياء, وأن من عرف الله فقد سقطت عنه الأعمال"(4).
وجاء في كتاب ( البرهان في معرفة عقائد أهل الأديان ) لعباس بن منصور الحنبلي: " ولم يشذ أحد منهم ـ أي عن أهل السنة والجماعة ـ سوى فرقة واحدة تسمت بالصوفية يتقربون لأهل السنة وليسوا منهم وقد خالفوهم في الاعتقاد والأفعال " (5) والظاهر أن المؤلف يتكلم عن غلاة الصوفية.
__________
(1) البقاعي: تنبيه الغبي /21.
(2) فخر الدين الرازي: اعتقادات فرق المسلمين /72.
(3) الفهرست /260.
(4) ابن حزم: الفصل في الملل والنحل 4/226.
(5) مقدمة كتاب اعتقادات فرق المسلمين /11.(57/4)
والقصد أننا لا نعني بكلمة فرقة إلا التفرق المذموم في الشرع وهو الابتعاد عن أصالة الإسلام الذي يمثله جيل الصحابة ومن تبع أثرهم. ونحن نعلم أن هناك أفاضل ينتسبون إلى التصوف ولكن هذا لا يمنع من الكلام عن الصوفية بشكل عام, وهؤلاء العلماء أخذوا بجانب الصوفية لظنهم أنها الطريق الوحيد لتربية النفس, وهذا خطأ منهم, ومع ذلك فهم لا يتعمقون في التصوف المنحرف المؤدي إلى البطالة أو الكفر, والمرجئة كذلك تصنف مع الفرق ومع ذلك فقد ابتلي بها بعض العلماء فإذا اعتبرنا الصوفية فرقة ابتعدت قيلاً أو كثيراً عن منهج السلف فلا يعني هذا أن كل من انتسب إليها ضال منحرف, فقد يكون من أعظم العباد ولكن فيه نقصاً في جانب من جوانب الإسلام الشامل المتكامل والمسلم يكون فيه من النقص بمقدار ابتعاده عن السنة.
ونحن لا ننكر أن أوائل الصوفية أثروا الجانب الروحي ـ إذا صح التعبير ـ بكلامهم عن أعمال القلوب و خطراتها والتركيز على الإخلاص والتوكل والإنابة والخشية لله سبحانه وتعالى ولكنهم تشددوا في هذا ونقبوا عما لم ينقب عليه من هو أفضل منهم, كما أننا لا ننكر أن البعض في الطرف المقابل قد يكون عنده قسوة قلب وهذا مرفوض أيضاً, بل هذا فيه شبه باليهود الذي وصفهم الله سبحانه في القرآن بأن قلوبهم أشد قسوة من الحجارة, كما أن عبادة الله دون علم فيه شبه بالنصارى والتوسط المعتدل هو المطلوب, " صراط الذين أنعمت عليهم " فلا نكون كالمغضوب عليهم وهم اليهود, ولا كالضالين وهم النصارى.(57/5)
إن التصوف بالمعنى الاصطلاحي الذي قررناه مستمر إلى الآن وله أثر سلبي واضح في تربية الأجيال المسلمة, تربية الإذلال والعبودية للشيخ, وتصديق كل ما هو غير معقول؟! إنها مأساة حقيقة أن يظهر بين الفينة والأخرى دجال كذاب يمشي وراءه شباب من طلبة الكليات العلمية وغير العلمية, عدا العوام وأنصاف العوام. هذه التربية جعلت من هؤلاء الشباب أصفاراً بلهاء ينتظرون كلمة من الشيخ أو معجزة خارقة على يديه.
يقول ابن عقيل محذراً من الصوفية والمتكلمين:
[ ما على الشريعة أضرمن المتكلمين والمتصوفين, فهؤلاء ( المتكلمون ) يفسدون عقائد الناس بتوهمات شبهات العقول, وهؤلاء ( المتصوفة ) يفسدون الأعمال ويهدمون قوانين الأديان. فالذي يقول: حدثني قلبي عن ربي فقد استغني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, وقد خبرت طريقة الفريقين فغاية هؤلاء ( المتكلمين ) الشك, وغاية هؤلاء ( المتصوفة ) الشطح ] (1).
__________
(1) تلبيس إبليس /375 .(57/6)
لهذه الأسباب ولاستمرار المتصوفة في تخريب الأجيال الإسلامية في كل مكان كان لا بد من الكتابة عنهم, ونحن إن شاء الله لا نبخس الناس أقدارهم ولكن كل طائفة أو فرقة تظن أنها وحدها على الحق, وكل حزب بما لديهم فرحون, فهم يظنون أنهم أفضل الخلق, وأنهم صفوة أوليائه, فالغزالي(1) يعتقد أن هذا هو الطريق ولا طريق غيره لتصفية النفس, وكأنه لم يسمع بشيء اسمه أهل السنة والجماعة أو أهل الحديث, أهل العلم والعمل أمثال أحمد بن حنبل وعبد الله بن المبارك وأئمة أهل الفقه والحديث وهم كثيرون جداً(2).
__________
(1) أبو حامد محمد بن محمد بن محمد الطوسي الغزّالي, تفقه على إمام الحرمين ومهر في الكلام والجدال وتأثر بكتب ابن سيناء وإخوان الصفا ثم ترك ذلك ومال إلى الصوفية, وكان من الأذكياء, صاحب ذهن سيال جوال ولذلك يلاحظ عليه التقلب بين الفقه والالتزام بآداب الشرع وبين الخوض في الفلسفة والكلام والصوفية , وله في ذلك ألفاظ مستبشعة جداً سقط فيها على أم رأسه, له تآليف مشهورة في الفقه والتصوف والرد على الفلاسفة. انظر: سير أعلام النبلاء 19/322 وما نقله من أقوال العلماء فيه, مبالغة منه في الأنصاف. توفي أبو حامد سنة 505 هـ ببلدة طوس.
(2) انظر كتاب الغزالي: المنقذ من الضلال, فقد قسم فيه الطرق الموصلة للحق إلى أربعة: الفلسفة, الكلام, الإمام المعصوم, الكشف ثم رضي بالأخير دليلاً له إلى الحق.(57/7)
والذي يقرأ في أول شدوه للعلم كتب الغزالي أو الحارث المحاسبي(1)يظن أن هذا هو الطريق ولا طريق غيره, وتبقى الحقيقة وراء كل ذلك قائمة كالشمس في رابعة النهار, تلوح لمن صح قصده, وأصاب علمه, وانتهج الصراط المستقيم.
وأخيراً نرجو من الله سبحانه وتعالى أن نوفق لعرض نشأة الصوفية وتطورها بدون تعصب أو تحامل والله من وراء القصد, والحمد لله رب العالمين.
* * *
الفصل الأوَّل
تطوّر الصوفيَّة
تمهيد
لم تكن الصوفية ـ بطبيعتها ـ فرقة واضحة متميزة حتى يمكن للباحث تتبع تطورها طوراً طوراً عبر السنين وإنما هي فرقة ( هلامية ) ليس لها شكل محدد, فقد تجد معتنقي أفكارها مَنْ هم من الفقهاء, أو تجدهم متميزين ببدعهم مدعين الانتساب لأهل السنة, وهذا الأمر مما يُصّعب مهمة الباحث في أطوار الصوفية عندما يقصد إلى التحديد الدقيق لمراحلها المختلفة.
ومن ثم سنحاول بيان هذه الأطوار بذكر المعالم الرئيسية التي مرت بها الفرق عبر القرون, وما قد يكون من ظهور أفكار كبرى تصلح أن يعتبرها الباحث مرحلة من المراحل, فهو تطور امتزج فيه التاريخ بالفكر, فما أصعب أن تنفصل عرى الارتباط الذي دام من منشأ هذا التفرق حتى يوم الناس هذا.
وقد قسمنا مراحل تطور الصوفية إلى ثلاثة مراحل مسبوقة بتمهيد لها وهو ظهور طبقة العباد والزهاد في المجتمع الإسلامي.
__________
(1) هو الحارث بن أسد المحاسبي البغدادي, له كتب كثيرة في الزهد, رفض تركة أبيه لخوضه في علم الكلام. سئل أبو زرعة الرازي عن كتبه فنهى عنها وقال: ( عليك بالأثر وهل بلغكم أن مالكاً والثوري والأوزاعي صنفوا في الخطرات والوساوس ) توفي المحاسبي سنة 143 هـ. انظر: صفة الصفوة 2/367 سير أعلام النبلاء 2/110.(57/8)
ثم أول المراحل وهم أوائل الصوفية الذين يصح أن يقال فيهم: من هنا بدأ التفرق, تتبعها مرحلة المصطلحات التي استقلت بها الفرقة, ثم ظهور فكرة وحدة الوجود وتداخلها في فكر الصوفية مع امتزاجها بالفلسفة الغنوصية اليونانية .
* * *
المبْحثُ الأَوَّل
المجتمع الإسلاميُ وظهُور طبقة العُبَّاد
نشأ المجتمع الإسلامي الأول نشأة طبيعية متكاملة غير متكلفة, جمعت بين بقايا من الفطرة السليمة والوحي المنزل من عند الله سبحانه وتعالى, كان العرب يومها وخاصة أهل المدن كقريش و الأوس والخزرج أقرب إلى الفطرة من الأمم الأخرى, فلا ريب أن الله اختار لنبيه أفضل الأجيال, رباهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بكنفه ورعايته فكانوا: " كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار ... "(1). وعندما يبدر من أحدهم أي اجتهاد يخالف الحنيفية السمحة كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصحح لهم الطريق ويعود بهم إلى الجادة المستقيمة, وعندما همّ ثلاثة من الصحابة بترك الدنيا من نساء وأموال بادر رسول الله صلى الله عليه وسلم بردهم إلى الطريق الوسط قائلاً لهم: " أما أنا فأصوم وأفطر وأصلي وأنام وأتزوج النساء, فمن رغب عن سنتي فليس مني "(2).
فالتوسط هو الأصل " وإذا نظرت في عمومات الشريعة, فتأملها تجدها حاملة على الوسط, فطرف التشديد يؤتي به في المقابلة من غلب عليه الانحلال, وطرف التخفيف في مقابلة من غلب عليه الحرج الشديد فإذا لم يكن هذا ولا ذاك رأيت التوسط لائحاً وهو الأصل الذي يرجع إليه "(3).
__________
(1) سورة الفتح / 29.
(2) جامع الأصول لابن الأثير 1/294 باب الاقتصاد في الأعمال
(3) الموافقات للشاطبي 2/113. ط . دار الفكر بتعليق الخضر حسين.(57/9)
كان الصحابة رضوان الله عليهم فيهم الفقير والغني, وفيهم التاجر والمزارع والعامل وكان بعضهم يتناوب الحضور للتعلم من النبي صلى الله عليه وسلم ويبلغه للآخرين, وأما أهل الصفة فإنهم لم ينقطعوا للعبادة أو العلم باختيارهم وإنما كان أحدهم إذا وجد عملاً ترك حاله الأولى, هكذا كانت حياة الصحابة حياة طبيعية تجمع بين العلم والعمل والجهاد في سبيل الله, وبينما هو متعلم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا هو بين أهله وولده وضيعة يمارس حياته اليومية المعتادة. والتزام أحدهم بعبادة معينة أكثر من الآخرين كفعل عبد الله بن عمرو بن العاص لا يغير من الصورة شيئاً, فهو شخصية متكاملة ولا تزال الفوارق الفردية تمايز بين الناس في جانب دون آخر. فهم كما وصفهم الإمام الجويني: " ولم يرهق وجوههم الكريمة وهج البدع والأهواء ولم يقتحموا جراثيم اختلاف الآراء كالبيضة التي لا تتشظى"(1).
وكان التابعون وكثير من تابعي التابعين على مثل ذلك, يجمعون بين العلم والعمل, بين العبادة والبعد عن الناس مع علمهم وفضلهم والتزامهم بآداب الشريعة, ولأسباب معينة قد يغلب على أحدهم الخوف الشديد والبكاء المستمر, فهؤلاء وإن كانت أحوالهم عالية جداً, ولكن أحوال الصحابة ومن اقتفى أثرهم من التابعين أفضل, ولذلك قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه لأصحابه: " أنتم أكثر صوماً وصلاة من أصحاب محمد وهم كانوا خيراً منكم قالوا: لم يا أبا عبد الرحمن؟ قال: لأنهم كانوا أزهد في الدنيا وأرغب في الآخرة"(2).
ومن هؤلاء العباد في المدينة:
عامر بن عبد الله بن الزبير: كان يواصل في الصوم فيقول والده: رأيت أبا بكر وعمر ولم يكونا هكذا(3).
__________
(1) عبد الملك بن عبد الله الجويني: الغيائي/42.
(2) ابن تيمية: الفتاوى 22/304 .
(3) الإمام الذهبي: سير أعلام النبلاء 5/219.(57/10)
صفوان بن سليم: من الثقات قال عنه أحمد بن حنبل: يستشفى بحديثه وينزل القطر من السماء بذكره, وكان يصلي على السطح في الليلة الباردة لئلا يجيئه النوم, وقد أعطى الله عهداً أن لا يضع جنبه على فراش حتى يلحق بربه, توفي سنة 132هـ (1). فإذا كان ما أورده الذهبي صحيحاً فهذا خلاف قوله صلى الله عليه وسلم ( وأصلي وأنام ).
ومنهم في البصرة طلق بن حبيب العنزي, من كبار العاملين, وعطاء السلمي بكى حتى عمش(2).
ومنهم كرز بن وبر الحارثي نزيل جرجان: من العباد والزهاد قال عنه الذهبي:" هكذا كان زهاد السلف وعبادهم أصحاب خوف وخشوع وتعبد وقنوع لا يدخلون في الدنيا وشهواتها ولا في عبارات أحدثها المتأخرون من الفناء والاتحاد"(3).
ومنهم في الكوفة: الأسود بن يزيد بن قيس: كان يجهد نفسه في الصوم والعبادة حتى يصفرَّ جسمه(4). وداود الطائي, يذكر عنه أنه ورث بيتاً فكان لا يعمره إذا خربت ناحية منه حتى خرب البيت كله وجلس في زاوية منه, وقد نحل جداً من قلة الأكل(5).
ويبدو أن من أسباب ظهور طبقة العباد والزهاد في القرن الثاني الهجري هو إقبال الناس على الدنيا يجمعون منها ويتفاخرون(6), فكانت ردة الفعل عند البعض هي الابتعاد الكلي عنها, ولا بد أن هناك أسباباً أخرى قد تكون شخصية, وقد تكون من أثر إقليم معين أو مدينة معينة, فإن من الخطأ تفسير ظاهرة ما بسبب واحد.
__________
(1) المصدر السابق 5/367.
(2) سير أعلام النبلاء 4/601.
(3) المصدر السابق 6/86.
(4) ابن الجوزي: صفة الصفوة 3/23.
(5) المصدر السابق 3/139.
(6) ابن خلدون: المقدمة/467.(57/11)
ثم حدثت مرحلة انتقالية بين هذا الزهد المشروع وبين التصوف حين أصبح له تآليف خاصة, ويمثل هذه النقلة مالك دينار فنراه يدعو إلى أمور ليست عند الزهاد السابقين, منها التجرد أي ترك الزواج, وهو نفسه امتنع عن الزواج وكان يقول: " لا يبلغ الرجل منزلة الصديقين حتى يترك زوجته كأنها أرملة ويأوي إلى مزابل الكلاب"(1). ويقول: " إنه لتأتي عَلَيّ السنة لا آكل فيها لحماً إلا في يوم الأضحى, فإني آكل من أضحيتي"(2). وكثيراً ما يقول: قرأت في بعض الكتب, قرأت في التوراة,ويروى عن عيسى عليه السلام: " بحق أقول لكم, إن أكل الشعير والنوم على المزابل مع الكلاب لقليل في طلب الفردوس " أو قوله: " أوحى الله إلى نبي من الأنبياء " أو " قرأت في الزبور ... " (3).
فمن الواضح ومن خلال قراءة ترجمته في كتب الطبقات أنه متأثر بما ترويه الكتب القديمة عن الزهاد والرهبان .. ومن الواضح أن هذه الكتب قد حرفت ولسنا مأمورين بقراءتها بل منهيون عن الأخذ منهم وتقليدهم.
__________
(1) سير أعلام النبلاء 8/156, عبد الرحمن بدوي : تاريخ التصوف 198ـ حلية الأولياء 2/359. وقد علق محقق السير الشيخ شعيب على هذا الكلام فقال: " منزلة الصديقين لا تنال بهذا النسك الأعجمي المخالف لما صح عنه صلى الله عليه وسلم من ترك التبتل والرهبنة".
(2) تاريخ التصوف /193.
(3) انظر ترجمة في حلية الأولياء 2/357 .(57/12)
وربما يكون عبد الواحد بن زيد ورابعة العدوية (1) من أقطاب هذه المرحلة الانتقالية, واستحدثت كلمة العشق للتعبير عن المحبة بين العبد والرب ويرددون أحاديث باطلة في ذلك مثل: " إذا كان الغالب على عبدي الاشتغال بي جعلت نعيمه ولذته في ذكري عشقني وعشقته " وبدأ الكلام حول العبادة لا طمعاً في الجنة ولا خوفاً من النار, وإنما قصد الحب الإلهي, وهذا مخالف للآية الكريمة: " يدعوننا رغبا ورهباً " (2). ومثل قول رابعة لرجل رأته يضم صبياً من أهله ويقبله : " ما كنت أحسب أن في قلبك موضعاً فارغً لمحبة غيره تبارك اسمه " (3). وهذا تعمق وتكلف لأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يقبل أولاد ابنته ويحبهم .
__________
(1) تكلم فيها أبو داود السجستاني واتهمها بالزندقة, فلعله بلغه عنها أمر, توفيت بالقدس سنة 185هـ. انظر : ابن كثير/ البداية والنهاية 10/186 . قال ابن تيمية: قال بعضهم : مَنْ عَبَدَ الله بالحب وحده فهو زنديق, ومَنْ عَبَدَ الله بالخوف وحده فهو مؤمن موحد. انظر الفتاوى 10/81.
(2) الأنبياء/90.
(3) سير أعلام النبلاء 8/156.(57/13)
يقول ابن تيمية : ملاحظاً : هذا التطور : " في أواخر عصر التابعين حدث ثلاثة أشياء : الرأي , والكلام, والتصوف, فكان جمهور الرأي في الكوفة, وكان جمهور الكلام والتصوف في البصرة, فإنه بعد موت الحسن وابن سيرين ظهر عمرو بن عبيد وواصل بن عطاء وظهر أحمد بن علي الهجيمي(1) وبنى دويرة للصوفية وهي أول ما بني في الإسلام ( أي دار خاصة للالتقاء على ذكر أو سماع ) وصار لهم من التعبد المحدث طريق يتمسكون به, مع تمسكهم بغالب التعبد المشروع, وصار لهم حال من السماع والصوت, وكان أهل المدينة أقرب من هؤلاء في القول والعمل, وأما الشاميون فكان غالبهم مجاهدين "(2).
كما لخص هذا التطور الإمام ابن الجوزي فقال : " في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم كانت كلمة مؤمن ومسلم, ثم نشأت كلمة زاهد وعابد, ثم نشأ أقوام وتعلقوا بالزهد والتعبد واتخذوا في ذلك طريقة تفردوا بها, هكذا كان أوائل القوم ولبَّس عليهم إبليس أشياء ثم على من بعدهم إلى أن تمكن من المتأخرين غاية التمكن " (3).
هؤلاء الذين اتخذوا طريقة تفردوا بها ويسميهم ابن الجوزي ( أوائل القوم ) الذين جمعوا بين الزهد وبين التعمق والتشدد والتفتيش على الوساوس والخطرات مما لم يكن على عهد السلف الأول, هؤلاء هم الذين سنتكلم عنهم في الفصل القادم إن شاء الله.
المبحث الثاني
أوائل الصوفية
تمهيد
__________
(1) كان تلميذ شيخ البصرة عبد الواحد بن زيد, وكان يتكلم في القدر, وقف داراً بالبصرة لمتعبدين. قال الدارقطني : متروك الحديث قال الذهبي : ما كان يدري الحديث, ولكنه عبد صالح وقع في القدر نعوذ بالله من ترهات الصوفية. توفي سنة 200هـ انظر: سير أعلام النبلاء 9/408.
(2) الفتاوى : 10/359.
(3) تلبيس إبليس /161.(57/14)
تطورت الصوفية حتى وصلت إلى الغلو, من البدع العملية إلى البدع القولية الإعتقادية, بعد أن دخلت عليها عناصر خارجية, وهي كأي تفرق يبدأ بسيطاً ساذجاً ثم ينتقل إلى التأصيل والتفريع ثم الإيغال في الضلال. ويمكن تقسيم هذا التطور إلى ثلاث مراحل: أوائل الصوفية ومن مشى على طريقتهم ثم تقيد الصوفية بمصطلحات خاصة ثم دخول الفلسفة الغنوصية وظهور نظريات الاتحاد ووحدة الوجود. هذه المراحل أو الطبقات(1) ليست منفصلة عن بعضها وغير محددة بزمن معين وانتهت, بحيث أن كل مرحلة تسلم إلى المرحلة التي تليها, ولكن هذا التطور حصل في العصور الإسلامية فكان الغالب على بدايات التصوف عدم الغلو, ثم إن التصوف بلغ قمة الانحراف في القرن السابع على يد ابن عربي وابن الفارض وأمثالهما, وصوفية اليوم مزيج من الانحراف العملي والعلمي فر يزال يوجد من يردد أقوال الغلاة عن علم وعن غير علم.
__________
(1) نعني بالطبقة هنا الذين يجمعهم منهج واحد وطريقة واحدة ولا نعني الجيل الواحد كما هو معروف في مصطلح المؤرخين من كتاب الطبقات.(57/15)
إن من أعلام المرحلة الأولى من هو في القرن الثالث كالجنيد(1) والسري السقطي(2), ومنهم في القرن الرابع كأبي طالب المكي(3) وبداية القرن الخامس كأبي عبد الرحمن السلمي (4) كما أنه ظهر مبكراً من يقول بالحلول كالحلاج (5) ولكن هذا كان شاذاً بالنسبة لانتشار الغلو في القرون المتأخرة . فالقصد أن هذا التقسيم هو للغالب على كل مرحلة .
أوائل الصوفية
عرف التصوف في بداياته بأنه رياضات نفسية ومجاهدات للطباع , وكسر لشهوات النفوس وتعذيب للجسد كي تصفو الروح , وإذا كان هذا الصفاء الروحي يأتي بدون تكلف عند السلف نتيجة التربية المتكاملة فنحن هنا بصدد تشدد وتكلف لحضور هذا الصفاء , وبصدد تنقير وتفتيش عن الإخلاص يصل إلى حد الوساوس , وسنرى من أقوالهم وأحوالهم ما يؤيد هذا .
__________
(1) هو أبو القاسم الخزاز , أصله من نهاوند ومولده في بغداد, من أقواله : الطريق إلى الله مسدود على الخلق إلا على المقتفين آثار الرسول صلى الله عليه وسلم , تفقه على أبي ثور, توفي سنة 298هـ , انظر صفة الصفوة 2/416.
(2) هو السري بن المغلس خال الجنيد وأستاذه, يحب العزلة, تكلم في موضوع المحبة لا طمعاً في الجنة ولا خوفاً من النار, ومن أقواله قليل في سنة خير من كثير في بدعة.. توفي 253هـ, انظر : طبقات الشعراني 1/74.
(3) محمد بن عطية, كان رجلاً صالحاً, ذكر أحاديث في ( قوت القلوب ) لا أصل لها. بدَّعه الناس في بعض أقواله وهجروه توفي 386هـ. انظر: البداية والنهاية 11/319.
(4) محمد بن الحسين الأزدي السلمي , له عناية بأخبار الصوفية , صنف لهم تفسيراً على طريقتهم . قال عنه محمد بن يوسف القطان النيسابوري : لم يكن ثقة , وكان يضع للصوفية الأحاديث , وفي تفسيره أشياء لا تسوغ أصلاً , توفي سنة 412هـ . انظر : سير أعلام النبلاء 17/247.
(5) انظر ترجمته في القسم المخصص للملاحق .(57/16)
قال الجنيد – ويسمونه سيد الطائفة - : " ما أخذنا التصوف عن القيل والقال بل عن الجوع وترك الدنيا وقطع المألوفات " (1) . ويصف معروف الكرخي نفسه فيقول : " كنت أصبح دهري كله صائماً , فإن دعيت إلى طعام أكلت ولم أقل إني صائم " (2) ويقول بشر الحافي (3) : " إني لأشتهي شواء ورقاقاً منذ خمسين سنة ما صفا لي درهم " (4). ويرى الجنيد عند شيخه السري السقطي خرف كوز مكسور فيسأله عن ذلك فيقول : أبردت لي ابنتي ماء في هذا الكوز ثم غلبتني عيني فرأيت جارية فسألتها لمن أنت ؟ فقالت : لمن لا يشرب الماء البارد وضربته بيدها فانكسر (5). ويروي الجنيد عن بعض الكبراء أنه إذا نام ينادي : أتنام عني! إن نمت لأضربنك بالسياط , وحكى الغزالي عن سهل بن عبد الله أنه كان يقتات ورق النبق مرة , ويشجع الغزالي على السياحة في البراري بشرط التعود على أكل أعشاب البرية والصيد !؟
__________
(1) سير أعلام النبلاء : 14/69.
(2) صفة الصفوة : 2/32.
(3) هو بشر بن الحارث اشتغل بالعبادة واعتزل الناس , اثني عليه في عبادته وورعه ونسكه , وله أخوات ثلاث كن مثله توفي عام 227هـ . انظر : سير أعلام النبلاء 10/41.
(4) صفوة الصفوة 2/329.
(5) الكلاباذي : التعرف /155.(57/17)
ومن آداب الصوفية عند أبي نصر السراج : ( إيثار الذل على العز , واستحباب الشدة على الرخاء ) (1) , ورتبوا أموراً لمن يريد الدخول معهم أو للمريد ومنها : اشتراط الخروج من المال كما يذكر القشيري في رسالته , وأن يقلل من غذائه بالتدريج شيئاً بعد شيء وأن يترك التزوج ما دام في سلوكه (2), و أما أبو طالب المكي فيطلب من المريد ألا يزيد على رغيفين في اليوم والليلة (3), والجنيد يطلب من المريد ألا يشغل نفسه بالحديث (4) . كل هذه الأمور تخالف التوسط والحنيفية السمحاء وتخالف ما كان علية الصحابة ومن ميزات هذه المرحلة :
استحداث ما يسمونه ( السماع ) وهو الاستماع إلى القصائد الزهدية المرققة , أو إلى قصائد ظاهرها الغزل ويقولون : نحن نقصد بها الرسول صلى الله عليه وسلم , ومنشدهم يسمونه ( القوّال ) ويستعمل الألحان المطربة .
بدأ الكلام عن كيان خاص مميز يسمى ( الصوفية ) وظهرت كلمات مثل ( طريقتنا ) و ( مذهبنا ) و ( علمنا) يقول الجنيد : " علمنا هذا مشتبك بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم "(5) .
ويقول أبو سليمان الداراني : " إنه لتمر بقلبي النكتة من نكت القوم فلا أقبلها إلا بشاهدي عدل من الكتاب والسنة " (6).
فلماذا (علمنا) ولماذا ( من نكت القوم ) .
__________
(1) اللمع /28.
(2) الشاطبي : الإعتصام 1/214.
(3) تلبيس إبليس /141
(4) ربما كان مقصوده الانتباه إلى تزكية النفس في بداية الطريق دون التعمق في مصطلحات الحديث وإلا فإن ترك الحديث يؤدي إلى الكفر .
(5) ابن القيم : مدارج السالكين 3/142.
(6) المصدر السابق 3/142.(57/18)
صنفت الكتب التي تجمع أخبار الزهد والزهاد وتخلط الصحيح بغير الصحيح وتتكلم عن خطرات النفوس والقلوب والدعوة إلى الفقر وتنقل عن أهل الكتاب , مثل كتب الحارث المحاسبي , وأبي طالب المكي في ( قوت القلوب ) , وصنف لهم أبو عبد الرحمن السلمي في التفسير , وأبو نعيم الأصفهاني في ( حلية الأولياء ) . يقول ابن خلدون : " أصل طريقتهم محاسبة النفس والكلام في هذه الأذواق ثم ترقوا إلى التأليف في هذا الفن فألفوا في الورع والمحاسبة كما فعل القشيري في ( الرسالة ) وذلك بعد أن كانت الطريقة عبادة فقط " (1).
ولنا على هذه المرحلة الملاحظات التالية :
هذا التعمق والتشدد في العبادات مع ترك المباحات لم يعهد عند السلف رضوان الله عليهم , وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكل اللحم ويحب الحلوى ويستعذب له الماء البارد (2), ولم يأمر صلى الله عليه وسلم أحداً من أصحابه بالخروج عن ماله , والتشدد في الدين كدوام الصيام والقيام هو داء رهبان اليهود والنصارى (3), وترك التزوج وإدامة الجوع فيه شبه بالتبتل الذي رده الرسول صلى الله عليه وسلم على بعض أصحابه , وبسبب هذه الرياضات فقد ابن عطاء الأدمي البغدادي عقله ثمانية عشر عاماً , وقال الذهبي معلقاً على ذلك : " ثبت الله علينا عقولنا فمن تسبب في زوال عقله بجوع ورياضة صعبة فقد عصى وأثم " (4).
وأما السياحة ف البراري فهي من السياحة المنهي عنها , وهي من الرهبانية المبتدعة , وكأنهم لم يسمعوا بالحديث الذي رواه أبو داود عن أبي أمامة أن رجلاً قال : يا رسول الله أئذن لي في السياحة , قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن سياحة أمتي الجهاد في سبيل الله " (5).
__________
(1) المقدمة /469.
(2) تلبيس إبليس / 151.
(3) الدهلوي : حجة الله البالغة /120.
(4) سير أعلام النبلاء : 14/153.
(5) سنن أبو داود 3/5 كتاب الجهاد .(57/19)
يقول ابن تيمية : " وأما السياحة التي هي الخروج في البرية فليست من عمل هذه الأمة " (1), وقول الإمام الذهبي : " الطريقة المثلي هي المحمدية , وهو الأخذ من الطيبات , وتناول الشهوات المباحة من غير إسراف , فلم يشرع لنا الرهبانية ولا الوصال ولا صوم الدهر والجوع أبو جاد الترهب " (2). " وقد لُبِّس عليهم في ترك المال كله , وكانت مقاصدهم حسنة وأفعالهم خطأ والعجيب من الحارث المحاسبي والغزالي كيف حثوا على ذلك , وأما استشهاد الحارث بأن عبدالرحمن بن عوف يوقف في عرصة القيامة بسبب مال كسبه من حلال فهذا خطأ وجهل بالعلم وقصة حبس ابن عوف غير صحيحة , ولم ينه الله عز وجل عن جمع المال وإنما النهي عن القصد بالجمع " (3).
إن السلف عندما فهموا الإسلام فهماً صحيحاً لم يتعمقوا ويشددوا على أنفسهم , فهذا سيد التابعين سعيد بن المسيب يقول له مولاه برد : ما رأيت أحسن ما يصنع هؤلاء , قال سعيد : ما يصنعون ؟ قال : يصلي أحدهم الظهر ثم لا يزال صافاً رجليه يصلي حتى العصر , قال سعيد : ويحك يا برد, أما والله ما هي بالعبادة , تدري ما العبادة ؟ إنما العبادة التفكر في أمر الله والكف عن محارم الله (4).
__________
(1) ابن تيمية : اقتضاء الصراط المستقيم /105 وقد نقل كلام الإمام أحمد بن حنبل .
(2) سير أعلام النبلاء 12/89 ويعني بكلمة ( أبو جاد ) البداية والمقدمة .
(3) تلبيس إبليس /180.
(4) ابن سعد : الطبقات 5/135 .(57/20)
إن هذا الجسد مطية للنفس فإذا لم تعط هذه المطية حقها لم تستطع أن تحمل النفس بآمالها الكبيرة , ولكن عندما يحدث الزهد غير المشروع والتبتل والجوع وترك اللحم , الاقتصار على كسرة الخبز وشربة الماء و عندئذ تلزمه خطرات النفس ويسمع أشياء تتولد عن الجوع والسهر , وربما أدى به إلى أمراض نفسية , " والوصول إلى العبادة لا يكون إلا بالحياة الدنيا ولا سبيل إلى ذلك إلا بحفظ البدن " (1) " ومجرد ترك الدنيا ليس في كتاب الله ولا سنة نبيه وما فيه ضرر في الدنيا مذموم إذا لم يكن نافعاً في الآخرة " (2).
إن الزهد الحقيقي هو الزهد في الدنيا حتى يستوي عنده ذهبها وترابها والزهد في مدح الناس أو ذمهم , فمن كان هكذا فهو من أطباء القلوب , فإن بدا منه ما يخالف الشريعة نَرُدَّ عليه بدعته ونضربها في وجهه (3). وقد مدح الخليفة العباسي المنصور عمرو بن عبيد المعتزلي على زهده فعلق ابن كثير : " الزهد لا يدل على صلاح فإن بعض الرهبان قد يكون عنده من الزهد مالا يطيقه عمرو ولا كثير من المسلمين " (4) .
قد يظن العوام الذين يرون عبادة هؤلاء أنهم أفضل من الصحابة , لأنهم لم يسمعوا أن الصحابة كانوا يفعلون مثل هذا والناس يعجبون بالغرائب والتشدد , ولا يعلمون أن الشريعة جاءت بالطريق الأوسط الأعدل , وقلة العلم بالآثار والسنن هي التي أوصلت بعض هؤلاء الناس إلى التشدد , وظنوا أن القصد من الشريعة هو العمل ولذلك فلا داعي للعلم , وإذا كان من الصعب تكامل الشخصية الإسلامية على مستوى جيل من الناس كما وجد عند الصحابة فلا أقل من اقتفاء آثارهم ما أمكننا ذلك ولا نتطرف في ناحية دون أخرى .
__________
(1) الذريعة إلى مكارم الشريعة / 53 لراغب الأصفهاني .
(2) ابن تيمية : الفتاوى 20/148 .
(3) أبجد العلوم : 2/ 374 للقنوجي نقلاً عن الشوكاني .
(4) البداية والنهاية : 10/80 .(57/21)
إن السماع الذي استحدثوه هو الذي أنكره الشافعي رضي الله عنه عندما زار بغداد وقال : " خلفت ببغداد شيئاً يسمونه التغيير يصدون به الناس عن القرآن " (1), ويقول ابن تيمية : " وهذا حدث في أواخر المائة الثانية وكان أهله من خيار الصوفية " (2) ويقول أيضاً: " وهذه القصائد الملحنة والاجتماع عليها لم يحضرها أكابر الشيوخ كالفضيل بن عياض وإبراهيم بن أدهم والكرخي , وقد حضرها طائفة منهم ثم تابوا وكان الجنيد لا يحضره في آخر عمره " (3).
قلنا أنه بدأ الكلام عن كيان خاص يسمى ( الصوفية ) وقد يقول معترض : إذا كانت القضية قضية أسماء مستحدثة فقد حدث الانتساب إلى الفقه الشافعي والمالكية ... أو الانتساب إلى الحديث , والجواب هو أنه إذا كانت الأسماء المستحدثة تنسب على علم شرعي يحبه الله ورسوله مثل تعلم الفقه والحديث , ولا يؤدي هذا الانتساب إلى تعصب حول شخص معين فلا مانع من ذلك " والانتساب قد يكون محموداً شرعاً مثل المهاجرون والأنصار وقد يكون مباحاً كالانتساب إلى القبائل والأمصار بقصد التعريف فقط , وقد يكون مكروهاً أو محرماً كالانتساب إلى ما يفضي إلى بدعة أو معصية " (4).
__________
(1) يقول ابن القيم : " فإذا كان هذا قول الشافعي في التغيير وهو شعر يزهد في الدنيا ولكنه ينشد بألحان فليت شعري ما يقول في سماع التغيير عنده تفلة في بحر . انظر : إغاثة اللهفان 1/239.
(2) الاستقامة 1/297 .
(3) الفتاوى 11/534 , والمقصود بـ ( لا يحضره ) ما يسمى عند الصوفية بالسماع .
(4) ابن تيمية : اقتضاء الصراط المستقيم /71 .(57/22)
إن الكتب التي صنفت في هذه الفترة والتي ذكرنا بعضاً منها , هذه الكتب كان للعلماء فيها رأي , قال ابن الجوزي عن كتاب ( قوت القلوب ) : ذكر فيه الأحاديث الباطلة والموضوعة وقال عن ( حلية الأولياء ) لأبي نعيم : لم يستح أن يذكر في الصوفية أبا بكر وعمر وعثمان وعلياً وسادات الصحابة (1) عليه وسئل أبو زرعة عن كتب المحاسبي فقال : إياك وهذه الكتب , فقيل له : في هذه عبرة , قال : من لم يكن له في كتاب الله عز وجل عبرة فليس له في هذه الكتب عبرة (2).
في هذه المرحلة المبكرة يبدو أن هناك تأثيراً للنصارى في تكون القناعات بتعذيب الجسد كي تصفو الروح . روى أحمد بن أبي الحواري قصة لقائه براهب دير حرملة وقد سأله عن سبب رهبانيته فقال : البدن خلق من الأرض والروح خلقت من ملكوت السماء فإذا جاع بدنه وأعراه وأسهره نازع الروح إلى الموضع الذي خرج منه وإذا أطعمه وأراحه أخلد إلى الأرض وأحب الدنيا . حدث أبي الحواري شيخه أبا سليمان الداراني بمقالة الراهب هذه فقال الشيخ " ( إنهم يصفون ) وكأنه أعجب بكلام الراهب ولذلك علق الذهبي عليه بقوله : ( الطريقة المثلي المحمدية ) (3).
__________
(1) تلبيس إبليس / 165 .
(2) نفس المصدر / 167.
(3) سير أعلام النبلاء : 12/89.(57/23)
إن أهل هذه الطبقة من الصوفية صادقون في زهدهم وبعدهم عن الدنيا ولكن فيهم تعمق وتشدد ووساوس لم يأمر بها الشارع بل لا يحبها ونحن لا نستبعد أن يكون هناك من يريد إفساد عقائد المسلمين فإدخال العقائد الباطنية ويكون فعله هذا من وراء ستار كما أخذوا التشيع بالمعنى السياسي وأدخلوه في دهاليز الباطنية (1), ولذلك يبدر منهم أحياناً كلمات تجعلنا نتوقف عندها طويلاً كما يروى عن الجنيد أنه قال للشبلي : نحن حبرنا هذا العلم تحبيراً ثم خبأناه في السراديب فجئت أنت فأظهرته على رؤؤس الملأ " (2). مع أن بعض العلماء يستبعد كلمات تنسب إليه مثل قوله ( انتهى عقل العقلاء إلى الحيرة ) يقول ابن تيمية : " فيه نظر , هل قاله؟ والجنيد الاستقامة غالبة عليه "(3) .
هذه هي حال الطبقة الأولى فيها زهد مشروع خلط بغير المشروع مع أن أحوالهم في العبادة والأذكار والبعد عن الرياء أحوال عالية , ثم تطور الأمر بعد هذا بإدخال مصطلحات فيها حق وباطل أو تحتمل هذا وذاك وزاد الانحراف واتسعت الفرجة والبعد عن السنة وهو ما سنتكلم عنه الفصل القادم إن شاء الله .
* * *
المبحث الثالث
المصطلحات والغموض
__________
(1) يقول رشيد رضا : " الذي أستنبطه من طول البحث والمقارنة أن أكثر الذين خلفوا نصوص الشريعة بأقوالهم وكتبهم من لابسي لباس التصوف هم باطنية في الحقيقة ثم قلدهم كثير من المسلمين وهم لا يعرفون أصلها " انظر : تاريخ الإمام 1/115 .
(2) الكلاباذي : التعرف / 145 .
(3) منهج ابن تيمية رحمه الله في الجنيد وأمثاله من أوائل الصوفية هو الاعتذار عن بعض كلماتهم واستبعادها لما يرى من صدقهم في عبادتهم , وهذا منهج سديد حيث يغلب الاحتياط لدين المسلم حتى لا يقع في الرجال . ولكن عندما ننظر إلى مجموع ما نقل عن الجنيد ونظرائه فإن الأمر يختلف , فإن كثرة ما روي عنه تشجع على اعتباره من مؤسسي التصوف .(57/24)
إن أي انحراف عن السنة ولو كان قليلاً فإنه يزداد مع الأيام , وتأتي الروافد من هنا وهناك باجتهادات خاطئة أو تصورات باطلة فيتسع الخرق ويقوى الباطل , وقد وقع المتصوفة منذ نهاية القرن الثالث الهجري بمشكله المصطلحات الغامضة المبهمة التي يستطيع كل متصوف تفسيرها حسب ما يشاء فالمبتدئ يفسرها تفسيراً بريئاً والمتعمق منهم يفسرها حسب غلوه وضاله , وهذه المشكلة ( المصطلحات ) وعدم وضوحها هي من أسباب ضلال الأمم قبلنا , فالكلمات التي تحتمل الصواب والخطأ هي من بعض أسباب وقوع النصارى في القول بألوهية المسيح عليه السلام, فعندما يقول سبحانه عن عيسى ( وروح منه ) فهذا لا يعني أنه جزء منه بل هذه إضافة تشريف , كما يقول تعالى ( ناقة الله ) أو كما يوصف أحد الصحابة بأنه ( أسد الله ) أو ( سيف الله ) أو قوله تعالى ( سخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعاً منه ) ولذلك حذر القرآن الكريم في إتباع المتشابه وأنه يجب رد المتشابه إلى المحكم , والمحكم : ( قل هو الله أحد , الله الصمد , لم يلد ولم يولد ..) قال الإمام أحمد : بكلمة ( كن) كان عيسى عليه السلام وليس هو الكلمة نفسها , وقال تعالى في حق بني إسرائيل ( ولا تلبسوا الحق بالباطل ) .
تكلم المتصوفة في مصطلحاتهم عن الفناء والبقاء والصحو والمحو , والتجريد والتفريد و وهي ألفاظ تحتمل الحق والباطل , بل هي أقرب إلى الباطل , وقد اعترف مؤلفوهم باستحداث مصطلحات خاصة بهم .
قال أبو بكر الكلاباذي " إن للقوم عبارات تفردوا بها , واصطلاحات فيما بينهم لا يكاد يستعملها غيرهم " (1) ومن أوائل من تكلم بهذه المصطلحات أبو حمزة الصوفي البغدادي ( ت 296) والبسطاني وأبو سعيد الخراز ( ت277 ) .
وهذه أمثلة لبعض مصطلحاتهم وتعريفهم لها ثم نتكلم عن الآثار المترتبة عليها :
*الفناء :
__________
(1) التعرف لمذهب التصوف / 111 .(57/25)
هذه كلمة مبهمة مجملة قد تعني وجهاً باطلاً بل كفراً وهو ما يسمونه ( الفناء عن وجود السوّي ) أي ليس موجوداً إلا الله سبحانه وكل ما عداه ليس له وجود حقيقي , وهذه هي وحدة الوجود التي سنتكلم عليها في المبحث القادم إن شاء الله .
وقد تعني هذه الكلمة ( الفناء ) أن يغيب عن الناس والخلق ولا يشهد سوى الله ويقع في ( الغيبوبة ) ويغيب حتى عن العبادة , وقد يتوهم أنه صار هو والإله شيئاً واحداً " ويظن أنه تضمحل ذاته في ذاته وصفاته في صفاته " (1) وقد يسمونه : الجمع أو السُكر وهذا إذا عاد إليه عقله يعلم أنه كان غالطاً في ذلك وأن الرب رب والعبد عبد .
وقد تعني هذه الكلمة ما يسمونه ( الفناء عن إرادة السوى ) أي لا يحب إلا الله ولا يوالي إلا فيه ولا بيغض إلا فيه , فهذا صحيح وإن كان لا يسلم لهم بالتعبير بـ ( الفناء ) لأن فيه كما قلنا غموض واشتباه , وأما الفناء الذي يسمونه فناء النفس عن التشاغل بما سوى الله فلا يسلم لهم أيضاً " بل أمرنا الله بالتشاغل بالمخلوقات ورؤيتها والإقبال عليها " (2) .
* الجمع والفرق :
قالوا عن الجمع أنه إشارة إلى حق بلا خلق , والفرق إشارة إلى خلق بلا حق . ويقصدون أن الفرق هو ما يكون كسباً للعبد من إقامة العبودية لله , والجمع هو مشاهدة الربوبية , والجمع قريب من الفناء بالمعنى الأول الذي هو وحدة الوجود .
* السكر والصحو :
قالوا عن السكر : حال تبدو للعبد لا يمكنه معها ملاحظة السبب ولا مراعاة الأدب (3), والصحو هو رجوع العارف إلى الإحساس بعد غيبته وزوال إحساسه (4).
* العشق :
واستحدثوا هذه الكلمة وهذا لا يوصف به الرب تبارك وتعالى ولا العبد في محبته ربه .
__________
(1) البقاعي : تنبيه الغبي / 81 .
(2) الذهبي : سير أعلام النبلاء 15/393.
(3) الكلاباذي : العرف / 114 .
(4) الجرجاني : التعريفات /132 .(57/26)
هذه نماذج من مصطلحاتهم وهي كثيرة جداً و كلها رموز وألغاز فتكلموا عن الحال والمقام والعطش والدهش , وجمع الجمع ... الخ , وإذا أخذنا واحدة من هذه المصطلحات لنرى هل هي صحيحة من ناحية شرعية ؟ هل الفناء عن المخلوقات وعدم التشاغل بها من الإسلام ؟ والجواب بالنفي لأن الله يقول : " قل انظروا ماذا في السماوات والأرض " وقال عليه السلام " حبب إلي من دنياكم النساء والطيب " وكان يجب عائشة وأباها ويحب أولاد ابنته الحسن والحسين , ويجب العسل , ويحب وطنه , ويحب الأنصار ... " (1). وأما محاولتهم للفناء في الله فهذا مستحيل , لن الله سبحانه هو الخالق وهم مخلوقون , فكيف يتحد المخلوق بالخالق ؟ وقد يحاولون التمويه فيقولون ( بالصحو بعد المحو ) ( أو الفرق في الجمع ) أي أن يرجع الإنسان إلى حال العبودية وقد يتكلمون هذا باللسان فقط أي أنه رجع إلى العبودية .
والحقيقة أن كل هذا أوهام , والإسلام يحث على حفظ العقل , فكيف يسعى مسلم لزوال عقله , والصوفي عندما يتحدث عن أسرار الربوبية يحاول شيئاً لا يطيقه الإنسان , لذلك سيصل إلى كارثة ( وحدة الوجود ) التي هي كفر , ويفقد فيها الاتزان النفسي , وهي نزعة خفية عند الإنسان الذي لا يخضع للوحي وهي نزعة التكبر والتأله , ويحاول أن يأت بها عن طريق ( وحدة الوجود ) وهي نزعة فرعونية عندما قال " أنا ربكم الأعلى " .
إن فكرة ( الفناء ) موجودة في الديانة البوذية وتسمى عندهم ( نرفانا) وربما أخذها الصوفية عنهم .
النتائج المترتبة على مثل هذا الخلط :
إن الدخول في هذه المتاهات يبعد المسلم عن العلم النافع والعبادة والعمل فيتكلم في أشياء ليس لها وجود ولا تعني في عالم الواقع شيئاً , والمسلم مأمور بإعمار الدنيا لتكون جسراً إلى الآخرة وهذه المصطلحات تسيطر على الجاهل وتربك العاقل إذا لم يكن دينه قوياً .
__________
(1) الذهبي : سير إعلام النبلاء 15/394 .(57/27)
ليس في الإسلام أسرار , فالقرآن واضح , والسنة واضحة , وهذه الألغاز تجعل الدين وكأنه بحاجة إلى (هيئة) لحل هذه الأسرار , ويتحول الأمر إلى باطنية تفسر كل شيء حسب أهوائها فكل شيء نسبي , وذاتي " ولذلك يمنعون من قراءة كتبهم لكل أحد " (1).
إن الاسترسال في هذه المصطلحات سيؤدي حتماً إلى عقيدة ( وحدة الوجود ) وهذا انسلاخ من الدين , فالمسلمون يرجعون إلى الكتاب والسنة , والصوفية يرجعون إلى الذوق والكشف والخيالات وكلام مشايخهم, وهذا أمر مشكل لأن لكل إنسان ذوق فالنصراني يتذوق التثليث , والمشرك يتذوق الشرك ... الخ .
كما تتميز هذه المرحلة عند الصوفية بما يسمونه ( المقامات ) كالتوكل والرضا .. وانحرفوا فيه أيضاً عن الفهم الإسلامي الصحيح , فالتوكل عندهم هو عد الأخذ بالأسباب , قال الهروي : " التوكل في طريق الخاصة عمىً عن التوحيد ورجوع إلى الأسباب " ويقول أبو سعيد الخراز " كنت في البادية فنالني جوع شديد فطالبتني نفسي إن أسأل الله طعاماً , فقلت : ليس هذا من فعل المتوكلين " (2).
فهذا الشيخ خالف السنة في الخروج إلى البادية دون زاد , وفهم التوكل فهماً خاطئاً , والله سبحانه وتعالى خلق الأسباب وطلب من العباد الأخذ بها والمسلم لا يعتمد على الأسباب وحدها ولكن يفعلها ويتوكل على الله ويطلب النتائج من الله .
وقالوا عن مقام ( الرضا ) أنه الاسترسال مع القدر , فيكون مستسلماً لما يأتي من عند الله , وهذا الكلام تنقصه الدقة , فالمسلم لا يعترض على قدر الله كالمرض والفقر ولكن يدفع قدر الله بقدر الله , فهو يدفع المرض بالدواء ويدفع الفقر بالعمل والكسب . أما إذا كان هناك أمر ديني مثل الصلاة والصوم فلا يقول : أنا لا أصلي لأن الله لم يقدر لي الصلاة فهذا من الحيل الشيطانية , ويشبه كلام المشركين فلأوامر الشرعية يجب أن تنفذ والمصائب تدفع بقدر الله ويصبر عليها .
__________
(1) حقائق التصوف /527 .
(2) الكلاباذي التعرف / 150 .(57/28)
والخلاصة أن هذه الألفاظ المستحدثة عند الصوفية هي كما وصفها ابن القيم " تسمع جعجعة ولا ترى طحناً " (1).
* * *
المبحث الرابع
الصوفية الوجودية
تعتبر هذه المرحلة من أخطر مراحل الصوفية , حيث تسربت إليها الفلسفة اليونانية فابتعدت بها عما سبقها من مراحل التصوف بل جعلتها من الصوفية الخارجة عن الإسلام فكانت شبيهة بالنصرانية عندما دخلها الروم ومزجوها بالتثليث والفلسفة ولذلك فيل إن النصرانية ترومت ولم يتنصر الروم , بل نستطيع أن نجزم من خلال استقراء ما طرأ على الرسالات السماوية التي بدلت وحرفت كاليهودية والنصرانية أن للفلسفة دوراً كبيراً في هذا التبديل ؛ فبسبب نقد الفلاسفة للنصوص التوراتية واتهامها بأنها ساذجة أو أساطير , تحت هذا الضغط راح علماء اليهود يؤولن النصوص تأويلات رمزية كما فعل (فيلون) اليهودي , فأولوا إبراهيم عليه السلام بأنه النور , وزوجته سارة بأنها الفضيلة وهكذا فعلوا بقصة آدم وحواء وقصة بني آدم وقصة يوسف عليه السلام . ومن ( فيلون انتقلت طريقة التأويل الرمزي إلى النصرانية خصوصاً عندما هاجمها رجال الأفلاطونية المحدثة وممثلو الثقافة اليونانية , وأقر رجال اللاهوت النصراني على أنه ورد في الأناجيل أشياء غير معقول فأولوها تأويلاً يرضى عنه الفلاسفة (2).
__________
(1) مدارج السالكين 3/437 .
(2) انظر البحث الذي كتبه د . عبد الرحمن بدوي عن التأويل بالباطل وأثره في التوراة والإنجيل في كتابه مذاهب الإسلاميين الجزء الثاني(57/29)
وفي الإسلام جاء الفلاسفة بعد ترجمة الكتب اليونانية ككتاب " التاسوعات" لأفلاطين الإسكندري , نقله إلى العربية عبد المسيح بن ناعمة الحمصي بعنوان " الأثولوجيا" أي الربوبية (1), كما ترجم كتاب " أثولكوجيا " للأرسطوطاليس وفيه نظرية الفيض والإشراق التي ستلعب دوراً خطيراً في التصوف خصوصاً عند السهروردي (2) وابن عربي (3). وتحت ضغط الفلسفة قام المعتزلة بحذف أو تأويل كل نص يناقض العقل – بزعمهم – كما غرقوا في الجدل العميق الذي يدور حول ألفاظ ( الجوهر – والجزء الذي لا يتجزأ – والجسم – والمتحيز و .... الخ ) , ومثلوا دور الترف الفكري أحسن تمثيل , فانحرفوا بذلك عن الإسلام العملي الإيجابي .
__________
(1) أحمد أمين : ظهر الإسلام 4/156.
(2) يحيى بن حبش بن أميرك السهروردي من مؤيدي فلسفة الإشراق التي من زعمائها أفلوطين , ثبت عليه الانحلال من الدين وادعاء النبوة فأفتى علماء حلب بكفره وقتل سنة 587هـ . انظر الذهبي : سير أعلام النبلاء 21/201 وبدوي : شخصيات قلقة /95.
(3) هو أبو بكر محي الدين محمد بن علي بن محمد الحاتمي الطائي الأندلسي ولد ( بمرسية ) سنة 560هـ ونشأ بها ثم ارتحل وطاف البلدان فجاء بلاد الشام والروم والمشرق ودخل بغداد , كان يكتب الإنشاء لبعض ملوك المغرب , اختلف الناس في شأنه فذهب طائفة إلى أنه زنديق وقال آخرون إنه ولي ولكن يحرم النظر في كتبه , والصحيح أنه اتحادي خبيث , ولم يشتهر أمره وكتبه إلا بعد موته لأنه كان منقطعاً عن الناس إنما يجتمع به آحاد الاتحادية ولهذا تمادى في أمره ثم فضح وهتك , توفي سنة 637هـ . انظر : شذرات الذهب لابن عماد 5/190 والبقاعي / 178 , وبدوي : تاريخ التصوف / 41 .(57/30)
وأما الصوفية فقد دخلت عليهم الفلسفة من باب ( التشبه بالإله على قدر الطاقة ) فحاولوا إثبات تشبه العبد بالرب في الذات والصفات والأفعال , كما فعل الغزالي ومن تبعه في كتابه : ( المضنون به على غير أهله ) (1) , ثم جاء ابن عربي وتلامذته فقالوا بالوحدة المطلقة , لأن الفلاسفة يقولون: الوجود الحقيقي هو للعلة الأولي ( الله ) لاستغنائه بذاته , فكل ما هو مفتقر إليه فوجوده كالخيال . ومن هنا نشأت نظرية " وحدة الوجود " عند ابن عربي وقد انطلقت ابتداء مما يردده الصوفية بشكل عام من أن الموجود الحق هو الله سبحانه , ويعنون بذلك أن الموجودات والكائنات إنما هي صور زائفة ومجرد أوهام وليست ذاتاً منفصلة قائمة بنفسها , فمثلها لا يستحق أن يطلق عليه الوجود الحقيقي (2), ولكنها حرفت عند ابن عربي عن مفهومها لدى الصوفية بحيث انتهى إلى القول بوحدة الوجود فقال أن الوجود الحقيقي هو الله سبحانه , ولكننا نرى هذه الكثرة والتعدد قائمة أمام أعيننا فلا يمكن إنكارها ومن ثم فهذه الموجودات كلها ليست سوى الله ذاته – تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً – وكلها
__________
(1) ابن تيمية : درء تعارض العقل والنقل 5/82 .
(2) بعض المفكرين في هذا العصر – وهم من أهل السنة – من أطلق عبارة : أن الموجود والحق هو الله سبحانه وإنما قصد بذلك معنى لا يصادم الشرع وهو أن الله سبحانه وهو الباقي السرمدي بخلاف الموجودات الغائبة التي لا تستطيع القيام بنفسها بل هي مستندة إلى وجود الله سبحانه و وهو معنى وإن لم يصادم الشرع إلا أنه مدخل لكثير من التصورات التي قد تؤدي للوقوع في البدعة , والالتزام بالألفاظ الشرعية أولى وأهل السنة يعتقدون أن الله سبحانه وتعالى حق قيوم على مخلوقاته , وأنه خلق الكائنات وجعل لها ذوتاً منفصلة لا علاقة لها بذاته , وهي موجودة حقيقة وليست صوراً أو أوهاما وأنها تفني في هذه الحياة الدنيا , وأن وجودها مستقل عن الخالق المعبود .(57/31)
مظهر من مظاهره وتجل من تجلياته , وليست آية من آياته كما مفهوم أهل السنة فحقيقة الرب إذن أنه وجود مطلق لا اسم له ولا صفة ولا يرى في الآخرة , وليس له كلام ولا علم ولا غير ذلك ولكن يُرى في الكائنات (1) فكل كائن هو الله والله هو كل كائن , فاتحد بذلك الوجود مع الخالق المعبود , وتم له ما أراد من هدم صرح التوحيد وكان هذا القول أشد شركاً من قول النصارى , إذ أن الكل في هذا التصور المريض إله يعبد .
ويحاول ابن خلدون شرح فكرة ابن عربي , إذ أن هذه التصورات الباطلة عادة ما تكون غامضة ومتناقضة حتى على أصحابها , يقول ابن خلدون : يعنون بهذه الوحدة أن الوجود له قوى ذاتية فالقوة الحيوانية فيها قوة المعدن وزيادة , والقوة الإنسانية فيها قوة الحيوان وزيادة , والفلك يتضمن الإنسانية وزيادة , وكذلك الذوات الروحانية (الملائكة ) ثم القوة الجامعة التي انبثت في جميع الموجودات , فالكل واحد هو نفس الذات الإلهية " (2).
__________
(1) انظر البقاعي في كتابه : تنبيه الغبي 19/40 وابن تيمية في الإيمان الأوسط /132 والشوكاني في قطر الولي /190 .
(2) المقدمة /471 .(57/32)
وحين يرد السؤال : كيف يقال بوحدة الوجود ؟ وهناك خالق ومخلوق ومؤمنون وكفار والكفار يعذبون في النار فمن الذي يعذبهم ؟ ... حتى لا يرد هذا السؤال راح ابن عربي يحرف كل آيات القرآن الكريم ويطبق باطنيته وكفره في كتاب ( فصوص الحكم ) فموسى عليه السلام لم يعاقب هارون عليه السلام إلا لأن هارون أنكر على بني إسرائيل عبادة العجل , وهم ما عبدوا إلا الله لأن الله قضى ألا نعبد إلا إياه , ولذلك كان موسى أعلم من هارون (1). والريح التي دمرت عاد هي من الراحة لأنها أراحتهم من أجسامهم المظلمة وفي هذه الريح عذاب وهو من العذوبة (2). ويحكم ابن عربي بإيمان فرعون بقوله تعالى : " قرة عين لي ولك " فكان قرة عين لفرعون بالإيمان الذي أعطاه الله عند الغرق (3). وهكذا راح يعيث فساداً في بقية قصص الأنبياء ومن شاء فليرجع إلى كتبه ففي كل سطر سيجد رائحة ( وحدة الوجود) . وكلامه هذا في الحقيقة هو إبطال للدين من أصله لأن وعيد الله للكفار لا يقع منه شيء فهو وتلامذته يتسترون بإظهار شعائر الإسلام وإقامة الصلاة والتزي بزي النسك والتقشف وتزويق الزندقة باسم التصوف (4).
__________
(1) البقاعي / 120 نقلاً عن فصوص الحكم – فص 192 .
(2) المصدر السابق / 95 – فص رقم 109 .
(3) المصدر السابق 128 وفي هذا المقام لا بد من القول بأن اعتذار البعض عن ابن عربي بأنه يقصد كذا أو كذا ويؤولون كلامه , هذا غير مقبول . قال العراقي " لا يقبل ممن اجترأ على مثل هذه المقالات القبيحة أن يقول أردت بكلامي هذا خلاف ظاهره ولا يؤول كلامه ولا كرامة " .
(4) انظر تنبيه الغبي إلى تكفير ابن عربي للشيخ برهان الدين البقاعي .(57/33)
فالفلاسفة لم يقولوا بوحدة الوجود على طريقة ابن عربي ولكنهم هم الذين مهدوا الطريق لهذه النظرية الباطنية بقولهم على الله مالا يعلمون ووصفهم إياه بصفات من نسج خيالهم , وهذا كله بسبب بعدهم عن الشرائع السماوية والأخذ من نور الأنبياء , ولذلك تخيلوا الإله ذاتاً بسيطة منزهة عن أي شائبة من شوائب التركيب , والصفات مثل العليم القدير السميع البصير هي عندهم تركيب , فقالوا أن من أحق صفاته ( الوجود ) وإذا قيل لهم وجود أي شيء ؟ فالجواب ليس بوجود شيء , فهو هكذا وجود بلا أية صفة فليس هذا الوجود هو الله سبحانه الذي نعرفه نحن المسلمين والذي أرسل الأنبياء ونزل الكتب , وإنما هو عندهم وجود هو الله سبحانه الذي نعرفه نحن المسلمين والذي أرسل الأنبياء ونزل الكتب , وإنما هو عندهم وجود مطلق بلا أية صفة فليس هذا الوجود هو الله سبحانه الذي نعرفه نحن المسلمين والذي أرسل الأنبياء ونزل الكتب , وإنما هو عندهم وجود مطلق بلا أية صفة , وطبعاً هذا لا يكون إلا تصورات باطلة في أذهانهم وهو غير الواقع . وبما أن هذه الصفة ( الوجود ) هي أخص وصف لله , تركب في عقولهم أن كل وجود هو واجب مثل وجود لله , وبما أن العالم موجود فهو الله , تعالى الله عن قولهم علواً كبيراً (1).
هذا الكلام من الفلاسفة كان الإرهاص الذي أدى بابن عربي إلى القول بوحدة الوجود , وإن كان مذهبه أكثر شراً من مذهب الفلاسفة , خاصة وأنه آيات القرآن لتنسجم مع نظريته الباطلة وخاصة أن كثيراً من المسلمين المغفلين من يعظمه ويسميه " الشيخ الأكبر " .
__________
(1) انظر تنبيه الغبي إلى تكفير ابن عربي للشيخ برهان الدين البقاعي .(57/34)
طبعاً هناك روافد أخرى أوصلت هؤلاء الناس إلى هذا القول الشنيع الذي يعتبر من أشد المخالفات للإسلام وعقيدة التوحيد , و من هذه الروافد الفناء الذي تحدثنا عنه في المبحث السابق , كما أن نفي صفات الله التي قالت بها الجهمية وانتشر شيء من أثرها في صفوف المسلمين , يمكن أن يساعد على نظرية الوحدة , إن نفي صفة العلو مثلاً يؤدي إلى القول بأنه سبحانه في كل مكان , ثم وزعوه في الموجودات كلها , مع ذلك فسيبقى للفلسفة الدور الأكبر في محاولة تخريب العقيدة الإسلامية الصافية السهلة , بل بتخريب المجتمعات الإنسانية , لأنها تقوم على نظريات في الذهن وليست في الواقع , وهذا مما حدا بعالم كبير كابن تيمية أن يقول محذراً منها بعد أن نقذ إلى أعماقها : " ولا شك أن كل من كان أقرب إلى الشرائع السماوية كان اقرب إلى العقل ومعرفة الحقيقة .
وهل رأيت فيلسوفاً أقام مصلحة قرية من القرى " (1). وهو هنا يلتقي مع مفكر غربي هو الدكتور ألكسس كاريل الذي يرى أن الفلسفة أساءت كثيراً للمجتمعات الغربية حين كانت تنظر في الكتب فقط دون معرفة الواقع العملي , ويقول: " ليس هناك مذهب فلسفي قد استطاع أن يحظى بقبول جميع الناس , وكل استنباطات الفلاسفة ما هي إلا فروض " (2) و يتابع نقده للفلسفة : " كان من الممكن للعلم أن يكفل لنا نجاح حياتنا الفردية والاجتماعية ولكننا فضلنا نتائج التفكير الفلسفي فارتضينا أن نأسن وسط المعاني المجردة , ولا شك أن فلاسفة عصر النور هم الذين مكنوا لعبادة الحرية بصورة عمياء في أوروبا وأمريكا " (3) .
__________
(1) درء تعارض العقل والنقل 5/65 وابن تيمية هنا يقصد الفيلسوف الذي يعيش بنظريات بعيدة جداً عن الواقع ويعيش بعيداً عن واقع الناس , ومشكلة الفلاسفة أنهم يعالجون أموراً ليست من اختصاصهم , وقد جاء الأنبياء والرسل بحلها بأقرب السبل وأيسرها .
(2) تأملات في سلوك الإنسان 1/47 .
(3) المصدر السابق 1/7 .(57/35)
إذا المشكلة واحدة في القديم والحديث , فعندما يبتعد الناس عن الشرائع السماوية التي جاءت لخير الإنسان في الدنيا والآخرة , تأتيهم الأزمات تلو الأزمات , أزمات اجتماعية وسياسية واقتصادية , نتيجة هذا الفصام النكد بين ما فطر الإنسان عليه من التوجه إلى بارئه وبين شياطين الإنس وما يوحون به ويبدو أن النفس الإنسانية يصعب عليها الإستمرار في طريق الإعتدال فهي إما أن تميل إلى التشدد والغلو أو إلى التساهل والترخص والخروج عن التكاليف وقد يسول الشيطان لمن أحس من نفسه زيادة فهم أنه إن رضي في علمه ومذهبه بظاهر السنة كان مثل العامة ولذلك لا بد من التنطع والتبدع والإتيان بالغرائب وهذه شهوات خفية لا يدركها ولا يبتعد عنها إلا العلماء الربانيون .
ولعله من المناسب قبل أن ننهي هذا المبحث أن نذكر رأي بعض العلماء في ابن عربي وتلامذته باعتباره زعيم هذه المدرسة الوجودية .
قال الشيخ أبو محمد بن عبد السلام في ابن عربي هو شيخ سوء مقبوح كذاب , يقول بقدم العالم ولا يحرم فرجاً " (1). ويروي ابن تيمية عن الشيخ إبراهيم الجعيري أنه كان يقول : " رأيت ابن عربي هو شيخ نجس يكذب بكل كتاب أنزله الله, وبكل نبي أرسله الله " (2).
وقال ابن تيمية (3): ورأيت بخطه في كتابه ( الفتوحات المكية ) هذين البيتين :
الرب حق , والعبد حق ياليت شعري من المكلف
إن قلت عبد , فذاك رب أو قلت رب أني يكلف
ويقول البقاعي قاطعاً الطريق على من يؤول لابن عربي :
" قال الأصوليون : لو نطق بكلمة الردة وزعم أنه أضمر تورية , كفر ظاهراً وباطناً " (4).
ومن تلامذة ابن عربي : ابن الفارض الذي يؤكد وحدة الوجود دون خجل أو مواربة , وفي قصيدته المشهور ( بالتائية )
يعيد هذه الفكرة ويكررها حتى لا يبقى شك عند القارئ أو السامع مثل قوله :
__________
(1) الفتاوى لا بن تيمية 2/240 .
(2) نفس المصدر 2/240 .
(3) الفتاوى 2/242 .
(4) تنبيه الغبي /23 .(57/36)
لها صلاتي بالمقام أقيمها وأشهد أنها لي صلت
كلانا مصل عابد ساجد إلى حقيقة الجمع في كل سجدة
وما كان صلي سواي فلم تكن صلاتي لغيري في أدا كل ركعة
ومازلت إياها وإياي لم تزل ولا فرق بل ذاتي لذاتي أحبت
فهل بعد هذا من تصريح , صلاته لنفسه لأنها هي الله والعياذ بالله , وحتى لا يظن أحد أن هذا ( سكر) الصوفية , يؤكد أنه في حالة صحو:
ففي الصحو بعد المحو لم أك غيرها وذاتي بذاتي إذا تحلت تجلت
ولا يزال الصوفية إلى الآن يعجبون بهذه التائية ويسمون صاحبها ( سلطان العاشقين ) رغم ما فيها من كفر , ورغم ما يقولون عنه أنه كان يحب الجمال , وأنه كان يذهب إلى قرية ( البهنسا) فيرقص على الدف مع النساء وهكذا يدجلون على الناس ويقولون بأن هذا الرقص من الدين والحقيقة أنها مواخير يخجل منها أي مسلم استروح رائحة الإسلام , لقد ابتلي المسلمون بمن فسد من هؤلاء الصوفية فبثوا فيهم أوهاماً قد تملك الجاهل وتربك العاقل إذا لم يغلبها بالتمسك بمنهج أهل السنة من الصحابة والتابعين رضوان الله عليهم .
* * *
الفصل الثاني
البدع العلمية للصوفية
تمهيد
وقع المتصوفة في بدع علمية وعملية ونعني بالعلمية الأمور النظرية التي اعتنقوها وابتدعوا فيها في العقيدة الإسلامية وأما الأمور العملية فهي الشعائر التي يمارسونها عملياً والتي ابتعدوا فيها أيضاً عن المنهج الإسلامي الصحيح .
وبما أن العمل تابع للعلم فقد قدمنا الكلام عن البدع العلمية , فمن انحرف وابتدع في العلم فسوف ينحرف في العمل , وكل هذا بسبب الابتعاد عن منهج أهل السنة والجماعة في الاستدلال والنظر .(57/37)
وتسمية هذا الانحراف بدعة لا يخفف من خطره , فقد تكون البدعة صغيرة وقد تكون كبيرة تصل إلى حد الكفر , فمن يعتقد بوحدة الأديان وأن القطب الغوث يتصرف في الكون فقد كفر وأشرك . وأصل البلاء كله هو عدم متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم والقرون المفضلة ومحاولة الزيادة على ذلك عن سوء نية أو عن حسن نية .
ولا يسلم لهم قولهم بالبدعة الحسنة لأن البدعة لا تكون إلا سيئة كما جاءت منكرة في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم " وكل بدعة ضلالة" وهي بهذا الوصف تحتاج إلى تعريف محدد واضح ونختار هنا التعريف الذي جاء في كتاب ( الاعتصام ) قال : " طريقة في الدين مخترعة تضاهي الشرعية يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد لله سبحانه " (1). فهي طريقة في دين وليس في الدنيا فلو قال المبتدع لماذا لا تقولون أن استعمال الآلات الحديثة بدعة لقلنا : هذه طريقة في الدنيا , وهي طريقة مخترعة يعهد مثلها من قبل وليس لها أصل أما العلوم المخترعة كعلم النحو وأصول الفقه فهذه لها أصل من حفظ الدين وتدخل في باب المصالح المرسلة , الحقيقة كذلك ولم يكن هناك تشابه لما أتى بها المبتدع لأن الضرر المحض تنفر النفوس منه , ولكن شبهة التشابه هي التي أوقعته في مأزق الابتداع . والحقيقة أن البدعة تكاد أن تكون علماً على الصوفية لما اشتهرت به من البدع العملية ومع أن كل الفرق قد ابتدعت في الدين ما لم يأذن به الله .
* * *
المبحث الأول
الشرعيَّة والحقيقة
مصطلح يردده المتصوفة كثيراً , ويقرنون بينه وبين مصطلح آخر لهم هو الظاهر والباطن , وسنحاول من خلال هذا المبحث التعرف على معاني هذه المصطلحات وعلاقتها بعضها ببعض .
__________
(1) الشاطبي : الاعتصام 1/27 .(57/38)
فالشريعة – كما يرونها – هي مجموعة الأحكام العملية التكليفية أي ما يسمى ( بالفقه الإسلامي ) , والحقيقة هي ما وراء هذه الأحكام من إشارات وأسرار , فالفقهاء يعلمّون الناس أركان الصلاة وسننها والصوفية يهتمون بأعمال القلوب من المحبة والخشية .. هذا رأي المعتدلين منهم أما غلاتهم فقالوا : إن هذه الأحكام لعوام المسلمين نظراً لضيق عقولهم وقلوبهم عن استيعاب المعاني العلوية دون الالتزام برسوم وأشكال معينة فالصلاة خمس مرات بشكل وترتيب معين ... هو أشبه ما يكون بالمعلم الذي يلزم الطالب بواجبات مدرسية لما يعلم عنه من عدم الاستفادة من العلم إن لم يعمل بتلك الواجبات , والمقصود هو العلم فإن كان من الخواص الذين يدركون المقصود الأساسي من الشرائع – وهو ما أطلقوا عليه الحقيقة – فقد حصل المقصود وإن لم يلتزم بها , فالصلاة هي دوام الصلة مع الله فإن استدامت فالحاجة للصلاة تصبح مجرد الوقوف مع الأوامر الشرعية احتراماً لها وإن كانت غير ذي فائدة , بل إنها انحرفت بعد ذلك عند البعض إلى القول بإسقاط التكاليف لمن أدرك الحقيقة .
إن بداية الانحراف كانت في هذا الفصل بين الشريعة والحقيقة , وعند أهل السنة الشريعة هي الحقيقة فالصلاة حركات معينة ولكنها تستلزم الخشية والإنابة , وهكذا كل الأحكام الشرعية القيام بها يعني الإتيان بها على تمامها كما أرادها الله سبحانه وتعالى .(57/39)
وقد جرهم ذلك إلى مصطلح آخر وهو الظاهر والباطن . فقد ادعى الصوفية أن للقرآن ظاهراً وباطناً , فالظاهر هو ما يؤخذ من ألفاظه حسب الفهم العربي أو السياق أو غير ذلك من الأصول المرعية في التفسير وهو ما يهتم به علماء الظاهر أو ما يطلقونه عليهم ( علماء الرسوم ) زراية بهم, أما الباطن فهو العلم الخفي وراء تلك الألفاظ وهو المراد الحقيقي بها وهذا لا يطلع عليه الخواص من أصحاب المقامات السامية ويطلقون عليه ( الإشارات ) , وهم يغمزون أهل الفقه بأنهم لا يهتمون بأعمال القلوب .
... ويسأل أحدهم عن قيمة الزكاة فيجيب : أما على العوام فربع العشر وأما نحن فيجب علينا بذل الجميع ؟!! " وإذا وقع خلاف في مسألة بين علماء الشرع وبقيت غامضة , فالقول فيها ما يقوله علماء الباطن أهل التصوف " (1). وفي تفسير قوله تعالى : " ولكن لا تفقهون تسبيحهم " (2). قال الغزالي : " وهذا الفن مما يتفاوت أرباب الظواهر وأرباب البصائر في عمله " (3).
والحقيقة أن هذه التفرقة غير صحيحة بل هي باطلة وقبيحة , وأي تجزئة للإسلام فهي من قبيل اتخاذ القرآن عضين , والإسلام كل متكامل كالجسم الواحد , فليس هناك ظاهر وباطن ولكن هناك فهم صحيح كما عقله الصحابة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم , نعم هناك أعمال للجوارح وأعمال للقلوب والإيمان يزيد حتى يصبح كالجبال وينقص حتى يكون كالنبتة الصغيرة الضعيفة , ولكن كل هذا اسمه شريعة أو إسلام أو دين وكل تقسيم يشعر بأن هناك تضاداً أو تغايراً كمن يفرق بين العقل والنقل وكأن النقل مضاد للعقل , أو بين العلم والدين وكأن العلم يخالف الدين , كل هذا لا يكون إلا من ضعف وانحسار أمام أعداء هذا الدين , هذا إن أحسناً الظن بهم .
__________
(1) شكيب أرسلان : حاضر العالم الإسلامي 2/160 والكلام لأحمد الشريف السنوسي .
(2) الإسراء / 44 .
(3) زكي مبارك : التصوف 2/25.(57/40)
انتقد ابن الجوزي هذا التقسيم فقال : " هذا قبيح لأن الشريعة ما وضعه الحق لصالح الخلق , فما الحقيقة بعدها سوى ما وقع في النفوس من إلقاء الشياطين , وبغضهم الفقهاء أكبر الزندقة " (1).
كما أن هذه التفرقة بين الظاهر والباطن أدت بهم في موضع التفسير إلى تأويل الآيات وتحريفها تخريفاً شنيعاً , وهذا التأويل المذموم حاولت كل الفرق الضالة الباطنية أن تجد له نصيراً من كتاب الله يتناسب وأهواءها . ولذلك ضبط علم التفسير عند أهل السنة بـ ( أصول التفسير ) حتى لا يتحول الأمر إلى فوضى لا نهاية لها , ففي تفسير آية " فلما جن عليه الليل رأى كوكباً قال هذا ربي " (2) قال صاحب منازل السائرين : " رأى هذه حالة العطش كأن إبراهيم عليه السلام لشدة عطشه إلى لقاء محبوبه لما رأى الكواكب قال : هذا ربي, فإن العطشان إذا رأى السراب ذكر به الماء" .
__________
(1) تلبيس إبليس /337 .
(2) الأنعام / 76.(57/41)
ويعقب ابن القيم : " هذا ليس معنى الآية مطلقاً وإنما القوم مولعون بالإشارات " (1) , وآية " فاخلع نعليك " فسرها الشيخ عبد المغني النابلسي – وهو من المتأخرين – " أي صورتك الظاهرة والباطنة يعني جسمك وروحك فلا تنظر إليها لأنها نعلاك " (2), وفسر بعضهم هذه الآية: يعني اخلع دنياك وآخرتك إلى آخر هذا الهراء ويبدو أن البعض منهم كان يشعر بخطأ هذه التفرقة , فيحذر وينصح , قال سهل ابن عبدالله: " احفظوا السواد على البياض ( يعني العلم ) فما أحد ترك الظاهر إلا تزندق " (3). ولكن القوم استمروا في إشاراتهم البعيدة عن العلم فقالوا عن آية " وإن يأتوكم أسارى " أي غرقى في الذنوب , " والجار ذي القربى " أي القلب " والجار الجنب " أي النفس حتى أنه يروى عن سهل بن عبد الله نفسه أنه فسر " ولا تقربا هذه الشجرة " بقوله : ( لم يرد معنى الأكل في الحقيقة وإنما أراد أن لا تهتم بشيء غيري ) قال الشاطبي : وهذا الذي ادعاه في الآية خلاف ما ذكره الناس (4).
__________
(1) مدارج السالكين 3/61.
(2) بدوي : شطحات الصوفية /195.
(3) تلبيس إبليس / 325.
(4) القاسمي : محاسن التأويل 1/73.(57/42)
وقد جمع لهم أبو عبد الرحمن السلمي تفسيراً للقرآن الكريم من كلامهم الذي أكثره هذيان نحو مجلدين , وليته لم يصنفه فإنه تحريف (1) وشيخهم السراج يهاجم الفقهاء لأن علمهم أقرب إلى حظوظ النفس , وأن علومهم قد يحتاج إليها في العمر مرة وعلوم الصوفية يحتاج إليها دائماً (2) بينما نجد أن الصحابة لم يتعمقوا في كلامهم ولم يخوضوا في الأمور المتكلفة ولا بد في فهم الشريعة من إتباع مفهوم العرب الذي نزل القرآن بلسانهم , وتفسير القرآن بالمعاني التي تخطر على قلوب المتصوفة غير صحيح ومثل هذا التفسير لم ينقل عن السلف بل هو أشبه بمذهب الباطنية , وبسبب طموح النفوس إلى التكلف والأشياء المستغربة نشأ التفرق والفرق(3).
ولقد صدق الشاعر محمد إقبال حين صوّر الشيخ الصوفي بهذه الأبيات:
" متاع الشيخ ليس إلا أساطير قديمة
كلامه كله ظن وتخمين
حتى الآن إسلامه زناري
وحين صار الحرم ديراً أصبح هو من براهمته "(4)
* * *
المبحث الثاني
الحقيقة المحمَدية
شعبة من شعب الغلو الذي وقعت فيه الصوفية بل من شعب الكفر , وهو مزيج من الغلو في رسول الله صلى الله عليه وسلم والتأثر بالفلسفة اليونانية في تقريرها لأول مخلوق , والتأثر بالنصرانية التي أضفت صفات الربوبية على المسيح عليه السلام .
__________
(1) محمد حسين الذهبي : التفسير والمفسرون 2/386 نقلاً عن الإمام الذهبي .
(2) اللمع / 36.
(3) انظر تعليق الشيخ الخضر حسين على كتاب الموافقات للشاطبي 2/52.
(4) ديوان أرمغان حجاز / 130 تحقيق د ز سمير عبد الحميد . ويعني ( إسلام زناري ) تأثرهم بالنصارى الرهبان الذين يلبسون الزنار على وسطهم .(57/43)
والمشكلة أن هذه التي يسمونها ( الحقيقة المحمدية ) هي غموض كامل وعماء في عماء , ولأنها نشأت في الأصل من خيال مريض وأوهام ليس لها أي رصيد في الواقع , ولذلك نلاحظ أن أقوالهم في تعريفها أو الكلام عنها غامضة أيضاً , فالرسول صلى الله عليه وسلم أول موجود وأول مخلوق وهو القطب الذي تدور عليه أفلاك الوجود من أوله إلى آخره(1) , وهو الذي منه انشقت الأسرار ولا شيء إلا وهو به منوط (2), وهو عين الإيمان والسبب في وجود كل إنسان (3). وكأن الصوفية لم يستسيغوا أن يقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو كما وصفه القرآن الكريم بشراً رسولاً وقد جعلوا أقطابهم تتصف بما وصف الله سبحانه وتعالى نفسه , فكيف برسول الله صلى الله عليه وسلم فابتدعوا ما أسموه ( الحقيقة المحمدية ) وعلى أساس هذه النظرية ندرك مغزى ما يقول البوصيري :
وكل آي أتى الرسل الكرامُ بها فإنما اتصلت من نوره بهم
وقوله:
وكيف تدعو إلى الدنيا ضرورة من لولاه لم تخرج الدنيا من العدم
وقول ابن نباته المصري :
لولاه ما كان أرض ولا أفق ولا زمان ولا خلق ولا جبل
__________
(1) ظهر الإسلام 4/220 ومعنى القطب الذي تدور عليه الأفلاك أنه المتحكم في حركتها وسكناتها , وهو الذي يدير مادق وجل من أمورها وهذه هي حقيقة الألوهية وهي عن نظرية العقل الفعال المستمدة من الفلسفة اليونانية .
(2) هذه هي الصوفية / 87 والكلام لابن مشيش.
(3) زكي مبارك : التصوف 1/233.(57/44)
وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخشى على أمته من الغلو فقال صلى الله عليه وسلم محذراً : " لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم , إنما أنا عبد الله ورسوله " (1). ولكن الذي فعله هؤلاء هو أكبر من الغلو , إنه الشرك والضلال , و إلا كيف تفسر قول الشيخ الدباغ " إن مجمع نوره لو وضع على العرش لذاب " (2) وقول أبي العباس المرسي : " جميع الأنبياء خلقوا من الرحمة ونبينا هو عين الرحمة " قال تعالى : " وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين " (3). فانظر إلى هذا الاستنتاج العجيب .
إنها المضاهات بعينها , فإذا كان المسيح ابن الله عند النصارى فلماذا لا يخترع الصوفية ( الحقيقة المحمدية ) , وهذا ناتج نظريتهم في وحدة الوجود(4) .
ومن المؤسف أن المستشرق ( نيكلسون ) يتكلم في كتابه كلاماً صحيحاً عن شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم بينما غلاة الصوفية تاهوا في معمياتهم وسراديبهم , يقول : " إذا بحثنا في شخصية محمد صلى الله عليه وسلم في ضوء ما ورد في القرآن , وجدنا الفرق شاسعاً بينهما وبين الصورة التي صور بها الصوفية أوليائهم , ذلك أن الولي الصوفي أو الإمام المعصوم عند الشيعة , قد وُصفا بجميع الصفات الإلهية , بينما وصف الرسول في القرآن الكريم بأنه بشر(5) " .
* * *
المبحث الثالث
وحدة الأديان
__________
(1) أخرجه الترمذي في الشمائل المحمدية . انظر : مختصر الشمائل للشيخ الألباني / 174, وقال عنه : حديث صحيح .
(2) هذه هي الصوفية / 87.
(3) لطائف المنن /12 .
(4) انظر : التصوف لزكي مبارك .
(5) هذه هي الصوفية / 85 .(57/45)
خرافة كبيرة من خرافات الصوفية , وشطحة من شطحاتهم الكثيرة , وهي لا تخرج إلا من خيال مريض يظن أنه يتسامح إنسانياً , ولكنها في نفس الوقت فكرة خطيرة لأنها تصادم سنن الله في الكون والحياة ومنها سنة الصراع بين الحق والباطل , بين الخير والشر , والجمع بين الكل على قد المساواة هو خبث مركز لهدم الإسلام أو هذيان مقلد لا يدري ما يقول , و إلا فكيف نسوي بين من يعبد الله سبحانه وتعالى وحده وبين من يعبد البقر , أو حرف كتب الله وعبد أنبيائه , كيف نجمع بين الإيمان والكفر هذا لا يكون إلا ممن يؤمن بوحدة الوجود كابن عربي وتلامذته الذين يعتقدون أن كل موجود على الأرض صحيح ولا داعي للتفرقة , والله أوسع من أن يحصره عقيدة معينة فالكل مصيب " وأما عذاب أهل النار فهو مشتق من العذوبة " (1)؟!!.
ويترجم ابن عربي هذه العقيدة شعراً فيقول :
لقد صار قلبي قابلاً كل صورة فمرعى لغزلان ودير لرهبان
وبيت لأوثان وكعبة طائف وألواح توراة ومصحف قرآن
أدين بدين الحب أنّى توجهت ركائبه فالحب ديني وإيماني
وينسج على منواله صديقة ابن الفارض فيقول :
وما عقد الزنار حكماً سوى يدي وإن حل بالإقرار فهي حلت
وإن خرّ للأحجار في البد عاكف فلا وجه للإنكار بالعصبية
وإذا كان بعض المعتدلين يحذرون من كتب ابن عربي , مع أنهم لا يعتقدون بكفره ويبررون أقواله ويأولونها فإننا لم نسمع منهم أحداً يحذر من شعر جلال الدين الرومي مع أن المعجبين به كثر وخاصة بين مسلمي الهند وتركيا , وهذه إحدى قصائده يتشبه فيها بأستاذه ابن عربي :
انظر إلى العمامة أحكمها فوق رأسي ...
بل انظر إلى زنار زاردشت حول خصري ...
فلا تنأ عني لا تنأ عني ...…
مسلم أنا ولكني نصراني وبرهمي وزرادشتي ...
توكلت عليك أيها الحق الأعلى ...
ليس لي سوى معبد واحد ...
مسجداً أو كنيسة أو بيت أصنام ...
ووجهك الكريم فيه غاية نعمني ...
__________
(1) هذه هي الصوفية / 95 .(57/46)
فلا تنأ عني , لا تنأ عني(1) .
فصلوات اليهود , وعقد زنار النصارى , وبد الوثنية في الهند ومساجد الله كلها عند هؤلاء ساح فساح يعبد فيها الله (2).
ونحن وإن كنا لا نتهم كل الصوفية بهذه البدعة لأن القول بها ضلال وكفر وانحراف ولا يقول به إلا غلاتهم , إلا أن أجواء الصوفية ربما تساعد على نشوء مثل هذه الأفكار أو قريباً منها , فالاستغراق في توحيد الربوبية وأن الله رب كل شيء ومليكه , وفي القضاء والقدر الكوني الذي يسري على المؤمن والكافر , دون الإلتفات إلى جانب المر والنهي الشرعيين والمخاطب بهما المؤمنين والذي هو جانب توحيد الألوهية , والاستغراق في كلمات ذوقية مثل الحب الإلهي والعشق الإلهي , كل هذا أدى إلى قول أبي يزيد البسطامي عندما اجتاز بمقبرة اليهود : " معذورون" ومر بمقبرة المسلمين فقال " مغرورون " ثم يخاطب الله سبحانه وتعالى : " ما هؤلاء حتى تعذبهم حطام جرت عليهم القضايا , اعف عنهم " (3) وكأنه يريد أن يثبت رحمته للجنس البشري كله , وكأنه أرحم من الله سبحانه بعباده , ومن هذا القبيل ما روى الأمير شكيب أرسلان عن أحمد الشريف السنوسي(4) أن عمه الأستاذ المهدي كان يقول له : " لا تحتقرن أحداًً لا مسلماً ولا نصرانياً ولا يهودياً ولا كافراً لعله يكون في نفسه عند الله أفضل منك إذ أنت لا تدري تكون خاتمتك " (5) . وهذا الكلام غير صحيح من الشيخ السنوسي لأننا عندما نحتقر الكافر نحتقره لكفره وعندما يسلم نحترمه لإسلامه ونحن لنا الظاهر , ولكن أثر التصوف واضح فيه وإن كنت لا أعتقد أنه ممن يقول بوحدة الأديان .
__________
(1) مجلة العروة الوثقى عدد 61 لعام 1403 هـ برئاسة تحرير عبد الحكيم الطيبي .
(2) هذه هي الصوفية .
(3) يدوي : تاريخ التصوف / 28 .
(4) من زعماء الحركة السنوسية التي ظهرت في ليبيا في العصر الحاضر ولهم مواقف ضد الإستعار الإيطالي .
(5) حاضر العالم الإسلامي 2/164.(57/47)
إن هذه العقيدة شبيهة بأفكار الماسونية التي تدعو إلى وحدة الإنسانية وترك الاختلاف بسبب الأديان فليترك كل واحد دينه وعقيدته وإنما تجمعنا الإنسانية , دعوة خبيثة ملمسها ناعم ولكنها تحمل السم الزعاف في أحشائها .
* * *
المبحث الرابع
الأولياء والكرامات
من أكثر الأشياء التي يدندن حولها الصوفية قديماً وحديثاً موضوع الأولياء والكرامات التي تحصل لهم , وقبل إن نتكلم عن مدى مطابقة ما يذهبون إليه للكتاب والسنة , قبل هذا لا بد تعريف الولي وكيف تطورت هذه اللفظة لتصبح مصطلحاً خاصاً علماً على فئة معينة ثم نتكلم عن الكرامات وما هو مقبول منها وما هو مردود .(57/48)
جاء في كتاب ( قَطْر الولي على حديث الولي ) (1) : الولي في اللغة : القريب والولاية ضد العداوة , وأصل الولاية المحبة والتقريب , والمراد بأولياء الله خلص المؤمنين , وقد فسر سبحانه هؤلاء الأولياء قوله : " الذين آمنوا وكانوا يتقون " (2) أي يؤمنون بما يجب الإيمان به ويتقون ما يجب عليهم اتقاؤه من المعاصي , قال ابن تيمية : الولي سمي ولياً من موالاته للطاعات أي متابعته لها , وهذا المعنى الذي يدور بين الحب والقرب والنصرة هو الذي أراده القرآن الكريم من كلمة ولي مشتقاتها في كل موضع أتى بها فيه , سواء في جانب أولياء الله أو في جانب أعداء الله. ومن ثم فليس لنا أن نخرج هذا المصطلح عن المعنى الذي حدده القرآن بلسان عربي مبين . يقول ابن حجر العسقلاني : " المراد بولي الله : العالم بالله تعالى , المواظب على طاعته . " , هكذا كان استعمالها وظلت النظرة إليها بهذا المعنى إلى أن دخلت أوساط الشيعة ثم في دائرة الصوفية فأطلقوها على أئمتهم ومشايخهم مراعين فيه اعتبارات أخرى , غير هذه الاعتبارات الإسلامية فأصبحت محصورة في طائفة خاصة بعد أن كانت صفة محتملة لي إنسان يقوم بنصرة دين الله من عباده المسلمين , وأول من صرف هذا المعنى إلى معنى خاص هم الشيعة فأطلقوها على أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب رضي الله عنه على اعتبار أنه هو وذريته ( بشراً نورانين من طينة مكنونة تحت العرش ) ثم أضاف لها الشيعة والصوفية ( العلم اللدني لأن الشيعة يعتقدون أن علي ابن أبي طالب أخذ علماً خاصاً عن الرسول صلى الله عليه وسلم .
__________
(1) هذا الجزء من المبحث عن الولي مختصر من هذا الكتاب للإمام الشوكاني مع مقدمة وتحقيق الدكتور إبراهيم هلال .
(2) يونس /63.(57/49)
والقشيري من الصوفية يرى : " بأن من أجل الكرامات التي تكون للأولياء العصمة من المعاصي والمخالفات " وهذه قلدوا فيها الشيعة الذين يعتقدون العصمة لأئمتهم , وربما تلطف الصوفية فسموها ( الحفظ ) كما يقول الكلاباذي " ولطائف الله في عصمة أنبيائه وحفظ أوليائه .... " وأكبر مقامات الولي عند الصوفية هو ( الفناء ) وهو باب الولاية ومقامها أما عند ابن عربي فهي مراتب ومنها مرتبة الولاية الخاصة وهو الورثة لأنهم أخذوا علمهم عن الله مباشرة !!؟ , وهم عن ابن عربي أفضل من الأنبياء نظراً لما هم عليه من ذوق أدركوا به علم الوجود ووقفوا على سر القدر .(57/50)
هذا هو التحديد التعسفي لمفهوم الولاية عند الصوفية , أما شخصية الولي في القرآن الكريم فهي شخصية إيجابية يترسم خطى الدين في كل ما أمر أو نهي , والصحابة ومن تبع أثرهم من العلماء العاملين هم أولي الناس بهذا اللفظ ويصدق عليهم حديث : " من عادى لي ولياً .... " وطريق الوصول إلى الولاية عند الصوفية طريق معكوس لأن الغاية من مجاهداتهم هي معرف الله أو الفناء و والمفروض أن معرفة الله سبحانه هي خطوة أولى للإيمان وهذه المعرفة فطرية كما يحدثنا القرآن , والعمل الصالح هو الذي يوصل إلى أن يحب الله عبدَه , وأما فناؤهم فهو يوصلهم إلى كفر الإتحاد والحلول فطريق الولاية عند أهل السنة سهل ميسر ومن أول هذا الطريق تبدأ المحبة بين الله سبحانه وعبده بينما طريق الصوفية طريق شكلي آلي , لا بد أن يمر المريد بكذا وكذا ثم يصل إلى شطحات يظن فيها أنه شاهد الحق . وأفضل الأولياء عند أهل السنة الأنبياء والرسل بينما عند الصوفية النبي يقصر عن الفلاسفة المتألهين في البحث والحكمة كما يقول السهروردي المقتول على يد صلاح الدين الأيوبي رحمه الله , فالولي عند أهل السنة هو ذاك المسلم الإيجابي الذي يقوم بالطاعات , والولي عند الصوفية هو المستغرق في الفناء(1) .
بعد هذا البيان والإيضاح لكلمة الولي وكيف تطورت , والمعنى السني لها , لا بد من توضيح المقصود بـ ( الكرامات ) وما هو رأي أهل السنة فيها وهل التزم الصوفي بهذا الرأي ؟ وهل هناك ارتباط بين الولاية والكرامة فنقول :
__________
(1) انتهى ما نقلناه مختصراً وبتصرف عن كتاب ( قطر الولي ) .(57/51)
خلق الله سبحانه وتعالى هذا الكون وسيره على سنن محكمة مطردة لا تتعارض ولا تتخلف , وربط المسببات بأسبابها والنتائج بمقدماتها وأودع في الأشياء خواصها , فالنار للإحراق , والماء للإرواء والطعام للجائع , ثم هذا النظام الكوني البديع المتناسق الشمس والقمر والنجوم , وتعاقب الليل والنهار .. كل بنظام محكم , فإذا لم ترتبط الأسباب بنتائجها وخرقت هذه العادة المألوفة بإذن الله لمصلحة دينية أو دعاء رجل صالح , فهذا الخرق إذا كان لنبي فهو معجزة , وإذا كان لأناس صالحين فهو كرامة وهذه الكرامة إن حصلت لولي حقاً فهي الحقيقة تدخل في معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم وتحصل ببركة إتباعه .
وهذه الخوارق إما أن تكون من جهة العلم بأن يسمع النبي ما لا يسمع غيره أو يرى ما لا يراه غيره يقظة ومناماً أو يعلم مالا يعلم غيره حياً وإلهاماً و أو فراسة صادقة لعبد صالح , وإما أن تكون من باب القدرة والتأثير مثل دعوة مستجابة أو تكثير الطعام وعدم إحراق النار , وقد حصل للصحابة رضوان الله عليهم كرامات من هذا النوع وكانت إما لحاجة أو حجة في الدين , كما أكرم الله سبحانه أم أيمن عندما هاجرت وليس معها زاد ولا ماء فكادت تموت من العطش وكانت صائمة , فلما كان وقت الفطر سمعت حساً على رأسها فإذا دلو معلق فشربت منه , وكان البراء بن مالك إذا أقسم على الله أبّر قسمه , وكان سعد بن أبي وقاص مستجاب الدعوة , مشى أمير الجيوش الإسلامية في البحرين العلاء بن الحضرمي وجنوده فوق الماء لما أعترضهم البحر ولم يكن معهم سفن تحملهم وأُلقي أبو مسلم الخولاني في النار فلم تحرقه(1) .
__________
(1) ابن تيمية : الفتاوى 11/279 وفي هذا الجزء بحث قيم حول المعجزات والكرامات .(57/52)
هذه حوادث صحيحة وقعت للصحابة رضوان الله عليهم , وأكثر منها وقع في عصر ما بعد التابعين . فأهل السنة لا ينكرون الكرامات كما ينكرها المبتدعة , وهو يعلمون أن الله الذي وضع الأسباب ومسبباتها قادر على خرق هذه السنن لعبد من عباده , ولكن الصوفية جعلوا مجرد وقوعها دليلاً على فضل صاحبها حتى ولو وقعت من فاجر قالوا هذه كرامة لشيخ الطريقة ولذلك لا بد من ملاحظات وتحفظات حول هذا الموضوع .
أولاً: هذه الخوارق كانت تقع للصحابة دون تكلف منهم أو تطلب لها أو رياضات روحية يستجلبون بها هذه الخوارق , بل تقع إكراماً من الله لهم أو دعاء يرون فيه مصلحة دينية إما لحجة أو لحاجة للمسلمين كما كانت معجزات نبيهم صلى الله عليه وسلم , أما المتأخرون فيطلبونها ويتكلفون لها الرياضات الروحية وربما أفسد جسمه ونفسيته بسبب هذا مع أن " طلب الكرامات ليس عليه دليل , بل الدليل خلاف ذلك فإنما غيب عن الإنسان ولا هو من التكاليف لا يطالب به " (1) وهذا من التأثير بالفلاسفة حيث يقررون رياضات معينة للوصول إلى هذه الخوارق .
__________
(1) الشاطبي : الموافقات 2/283 .(57/53)
ثانياً : إن كرامات أولياء الله لا بد أن يكن سببها الإيمان والتقوى والولي لله هو المحافظ على الفرائض والسنن والنوافل , عالماً بأمر الله عاملاً بما يعلم فمن صفت عقيدته وصح عمله كان ولياً لله يستحق إكرام الله له إن شاء , فهذا إذا خرقت له العادة لا تضر ولا يغتر بذلك ولا تصيبه رعونه , وقد لا تحصل لمن هو أفضل منه فليست هي بحد ذاتها دليلاً على الأفضلية , فالصديق رضي الله عنه لم يحتج إليها , وحصلت لغيره من الصحابة , كما أنه ليس كل من خرقت له العادة يكون ولياً لله كما أنه ليس كل من حصل له نِعَمٌ دنيوية تعد كرامة له , بل قد تخرق العادة لمن يكون تاركاً للفرائض مباشراً للفواحش فهذه لا تعدوا أن تكون إما مساعدة من شياطين الجن ليضلوا الناس عن سبيل الله , أو استدراج من الله ومكر به أو رياضة مثل الرياضات التي يمارسها الهنود والبوذيون الكفرة ثم يضربون أنفسهم بآلات حادة ولا تؤثر فيهم أو يتركون الطعام أياماً عديدة إلى غير ذلك ويظن الفسقة أن هذه كرامة لهم .
ثالثاً : هناك سؤال مهم في هذا الصدد وهو لماذا كانت هذه الحوادث من خرق العادات قليلة في زمن الصحابة والتابعين ثم كثرت بعدئذ ؟(57/54)
يجيب ابن تيمية : " أنها بحسب حاجة الرجل فإذا احتاج إليها ضعيف الإيمان أو المحتاج أتاه فيها ما يقوي إيمانه ويكون من هو أكمل ولاية منه مستغنياً عن ذلك لعلو درجته (1) , كما أن عدم وجودها لا يضر المسلم ولا ينقص ذلك في مرتبته والصحابة مع علو مرتبتهم جاءتهم هذه الخوارق إكراماً لهم أو لحاجة في الدين , وكثرتها في المتأخرين دليل على ما قاله ابن تيمية أو لتطلبهم إياها بالرياضة الروحية (2).
رابعاً : إن معجزة هذا الدين الكبرى هو القرآن الكريم الذي أنزله الله على قلب محمد صلى الله عليه وسلم , وعندما طلب منه صلى الله عليه وسلم معجزات مادية رفض ذلك لأن هذا ليس هو منهج هذا الدين وقد ذكر القرآن الكريم هذا الطلب , قال تعالى : " وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعاً , أو تكون لك جنة من نخيل فتفجر الأنهار خلالها تفجيراً أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفاً , أو تأتي بالله والملائكة قبيلاً أو يكون لك بيت من زخرف أو ترقى في السماء ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتاباً نقرؤه , قل سبحان ربي هل كنت إلا بشراً رسولاً "(3).
__________
(1) هذا فيما ثبت صحة نقله من الكرامات إلا أننا لا نغفل أنه بعد هذا العصر بدأ أهل الأهواء والبدع في نشر مذاهبهم ولا نرى مانعاً من أن يكون هؤلاء قد استظهروا على صحة مذاهبهم باختلاف كرامات لا أساس لها من الصحة تناقلتها الألسن فكثرت فيها الكرامات فيما تلى ذلك من العصور .
(2) الفتاوى : 11/323.
(3) الإسراء : 90/93 .(57/55)
كما أمر صلى الله عليه وسلم أن يبرأ من دعوى الغنى والقدرة وعلم الغيب إلا ما علمه الله سبحانه وتعالى : " قل لا أقول لكم عندي خزائن الله , ولا أعلم الغيب , و لا أقول لكم إني ملك إن أتبع إلا ما يوحى إلي " (1), ولذلك كانت حياته وسيرته تجري كبقية عادات البشر ومألوفاتهم مع ما أعطي من شرف المنزلة (2), وعندما هاجر صلى الله عليه وسلم إلى المدينة لم يطر في الهواء ولم تطو له الأرض وإنما سار كما يسير أي راكب ويقطع المسافة في تسعة أيام , لماذا ؟ لأن هذا هو الأصل , الأصل أن يسير الناس على السنن الكونية التي أودعها الله في الخلق , ولكن كثرة الناس يؤذيها أن يكون الكون سائراً على قانون محكم ويسعدها أن يكون هذا القانون بيد المجاذيب والدراويش يتصرفون به (3) .
وتبقى الحقيقة أن الاستقامة على طريق الهدى , طريق السنة والإتباع , طريق الصحابة ومن تبعهم بإحسان , هذه الاستقامة هي عين الكرامة , فإن حصل بعدئذ خرق العادة إكراماً من الله سبحانه وتعالى لمؤمن صادق فهذه يجب أن يخفيها ولا يذيعها ويشكر الله سبحانه على ما منّ به عليه .
المبحث الخامس
الأقطاب و الأوتاد
بعد أن حرف كلمة ولي عن معناها الذي أراده القرآن الكريم اخترعوا ما يسمونه بالأقطاب والأوتاد والأبدال . تسميات ما أنزل الله بها من سلطان , يرتبون بها أوليائهم ترتيباً فيه مضاهاة للنصارى الذين يرتبون رجال الدين عندهم بدأ بالشماس وانتهاء بالبابا كما أنه فيه تشبه بالشيعة في ترتيب الأئمة وكذلك ترتيب النصيرية والإسماعيلية في أئمتهم كالسابق والتالي والناطق والأساس (4), وقد رتبوا أوليائهم حسب أهميتهم على الشكل التالي :
القطب .
الأوتاد الأربعة .
الأبدال وعددهم أربعون وهم بالشام ... ؟ !
__________
(1) الأنعام / 50.
(2) الشاطبي : الموافقات 2/248.
(3) انظر : زكي نجيب محمود في كتابه : ثقافتنا / 72 .
(4) انظر الفتاوى لابن تيمية 11/439.(57/56)
النجباء وهم الذين يحملون عن الخلق أثقالهم .
النقباء .
وما هي حقيقة القطب عندهم؟ يجيب مؤسس الطريقة التيجانية : " إن حقيقة القطبانية هي الخلافة عن الحق مطلقاً , فلا يصل إلى الخلق شيء من الحق ( الله ) إلا بحكم القطب " (1) , ثم قسموا القطب إلى نوعين : نوع هو من البشر مخلوق موجود على هذه الأرض , يتخلف بدلاً عنه حال موته أقرب الأبدال له ( التشبه بالنصارى ) وقطب لا يقوم مقامه أحد وهو الروح المصطفوي وهو يسري في الكون سريان الروح في الجسد (2). أما الرفاعي فقد تعدى هذه الأطوار فيقول أحد تلامذته : " نزه شيخك عن القطبية "(3) وعند أبي العباس المرسى مقام القطبية فوقه مقام الصديقية(4) وعند الشاذلي " يكشف له عن حقيقة الذات "(5) .
وأما الأوتاد فهم أربع رجال منازلهم على منازل الأركان الأربعة من العالم شرق وغرب وشمال وجنوب (6).
والأبدال سبعة رجال من سافر من موضع ترك جسداً على صورته حياً بحياته (7).
__________
(1) هذه هي الصوفية / 125 .
(2) المصدر السابق /125 وانظر هامش كتاب تنبيه الغبي / 32 .
(3) طبقات الشعراني 1/144.
(4) لطائف المنن / 109.
(5) نفس المصدر / 12.
(6) الجرحاني : التعريفات / 39.
(7) المصدر السابق / 23.(57/57)
إن المسلم ليمتلكه العجب عندما يقرا أو يسمع ما يقوله هؤلاء من أمثال الجرجاني وغيره الذين يدعون العلم والمعرفة , إن هذه أمور خطيرة تمس جوهر العقيدة الإسلامية , إن الاعتقاد بأن أحداً غير الله سبحانه يتصرف في هذه الكون هو شرك أكبر مع أن الله سبحانه وصف أكابر أوليائه بالصديقين كأبي بكر وسيدة مريم والدة المسيح عليه السلام فيأتي هؤلاء ليحادوا الله ورسوله ويقولوا : القطبية هي مرتبه فوق الصديقية وأما مصادمة كلامهم للعقل من البديهيات الأولية و لأن الخرافة لا يمكن أن يصدق بها عقل . أوتاد وأقطاب يتحكمون في العالم وهؤلاء سبعة وأولئك أربعة من أين جاءوا بهذا التحديد وهذا العدد ؟ ومن أين جاءوا بهذا القطب الذي جعلوه نائباً لله ؟ كأن الله سبحانه ملك من الملوك يحتاج إلى نواب سبحانك هذا بهتان عظيم وإفك مبين(1) , وهذا الكلام وكلامهم عن الحقيقة المحمدية ووحدة الأديان لا نستطيع أن نصنفه بأنه هلوسة وتخبطات مصروع لا غير , لأننا نكون عندئذ غافلين عن حقيقة هذه المذاهب , وإنما هي غنوصية(2)
__________
(1) جاء في ( الفتاوى البزازية ) :" من قال أن أرواح المشايخ حاضرة تعلم يكفر " انظر كتاب ( غاية الأماني ) لشكري الآلوسي 3/66 وما نقله عن الشيخ صنع الله الحنفي في موضوع الأولياء والأقطاب والأوتاد 2/66 من نفس الكتاب أيضاً .
(2) الغنوصية : فرقة دينية فلسفية متعددة الصور مبدؤها أن المعرفة الحقة هو الكشف عن طريق الحدس الحاصل عن اتحاد العارف بالمعروف وليس عن طريق العلم والإستدلال , فهي نوع من التصوف يزعم أنه المثل الأعلى للمعرفة , ويعتقد أنه ليس هناك حواجز أو فروق بين الأديان , ومن هنا كان خطرها , وهي مأخوذة من اللفظ اليوناني ( غنوسيس ) يعني ( معرفة ) وقد نشأت في القرن الأول الميلادي بتأثير اختلاط الثقافة اليوناينة بثقافة الشرق ومن زعمائها ( أفلوطين ) فيلسوف القرن الثالث الميلادي , انظر إبراهيم هلال في مقدمة الولاية والطريق إليها /77.(57/58)
لهدم الإسلام .
المبحث السادس
الشطح واللامعقول
يروى عن الشافعي رضي الله عنه أنه قال : " لو أن رجلاً تصوف أول النهار لا يأتي الظهر حتى يصير أحمق " (1), وسواء صحت هذه الرواية عن الشافعي أم لم تصح فإن الاتجاه العام لدى الصوفية هو الابتعاد عن العقل والعقلانية , وذلك لأنهم يرون أنه لا يمكن الوصول إلى الأحوال والمقامات العالية إلا بإلغاء العقل , ولذلك يذكرون حوادث لمشايخهم ويقررون أموراً يأباها العقل بل يكذبها , ومع أن العقل شرط في معرفة العلوم وهو بمنزلة البصر في العين فإذا اتصل به نور الإيمان والقرآن كان كنور العين إذا اتصل بنور الشمس وإن إبعاد العقل وعزله تماماً هو رجوع إلى الأحوال الحيوانية(2) ومن العلوم أن مناط التكليف في الإسلام هو العقل ولكن الصوفية كل شيء عندهم ممكن , وكل شيء يصدق مهما كانت غرابته , لأنه لا شيء يؤد على مشايخهم , وإذا رددت فأنت محجوب لا تفهم في مثل هذه الأمور , ولذلك أصبحت قصصهم أضحوكة لأهل الأديان المنسوخة كما يقول الآلوسي (3).
ولأن الناس عجزوا بعد سقوط بغداد عن ربط الأسباب بالمسببات فربما كان التصوف هو الوحيد الذي نجا من تلك الكارثة فهرع الناس إلى المتصوفة يمنحونهم البركة فامتلأت البلاد بأرباب الطرق (4) .
__________
(1) تلبيس إبليس / 370
(2) انظر ما كتبه ابن تيمية في الفتاوى 3/338 كما أ،ه كتب عشر مجلدات في بيان أنه لا تعارض بين الشريعة المنقولة والحقيقة المعقولة .
(3) محاكمة الأحمدين / 490.
(4) انظر أحمد أمين : ظهر الإسلام 4/219.(57/59)
وحتى لا يظن أننا نظلم ونتهم فهذه صور من اللا معقول عند الصوفية منتزعة من كتاب ( الطبقات الكبرى ) للشعراني . هو يترجم لهؤلاء ولا يعلق بشيء لاعتقاده بصحتها , بل ينقل قصص المجاذيب ويترضى عنهم, وقد يقال بأنها مكذوبة عليهم ولكن الشعراني نقلها ولم ينكرها والذين يقرأون للشعراني من عصره وحتى هذا الوقت لا يقولون : نحن ننكر مثل هذه الأمور ويجب أن تحذف من كتبنا , فالمشكلة في هؤلاء الذين يبررونها ويصدقونها فعلاً وهذه النماذج مأخوذة من عصور مختلفة إلى عصر المؤلف في القرن العاشر الهجري .
ذكر في ترجمة الشيخ أحمد الرفاعي أنه : " إذا تجلى الحق تعالى عليه بالتعظيم يذوب حتى يكون بقعة ماء , ثم يتداركه اللطف فيصير يجمد شيئاً فشيئاً حتى يعود إلى جسمه المعتاد ويقول : لولا لطف الله ربي ما رجعت إليكم " (1).
الشيخ أبو عمرو بن مرزوق القرشي :…" كان الرجل العربي إذا اشتهى أن يتكلم بالأعجمية أو العجمي يريد أن يتكلم العربية يتفل الشيخ في فمه فيصير يعرف تلك اللغة كأنها لغته الأصلية "(2) .
مساكين الطلبة الذين يدرسون اللغات الأجنبية في هذا العصر فلو أن الشيخ يعيش معهم لاستراحوا وأراحوا ...
قال تقي الدين السبكي : " حضرت سماعاً فيه الشيخ رسلان فكان يثب في الهواء ويدور دورات ثم ينزل إلى الأرض يسيراً يسيراً , فلما استقر سند ظهره إلى شجرة تين قد يبست فأورقت واخضرت وأينعت وحملت التين في تلك السنة " (3) والعجب هنا ليس من الشيخ رسلان ولكن من عالم مثل السبكي كيف يقبل بأن يذكر الله بالرقص في الهواء وكيف يقبل مثل هذا الهراء , هذا إذا صحت رواية الشعراني عن السبكي .
__________
(1) الطبقات 1/143.
(2) الطبقات 1/154.
(3) الطبقات 1/152.(57/60)
أبو العباس أحمد الملثم : يقول الشعراني عنه : " وكان الناس مختلفين في عمره , فمنهم من يقول : هذا من قوم يونس , ومنهم من يقول : إنه رأى الإمام الشافعي , فسئل عن ذلك , فقال عمري الآن نحو أربعمائة سنة وكان أهل مصر لا يمنعون حريمهم منه في الرؤية والخلوة(1) .
الشيخ إبراهيم الجعبري : كان له مريدة تسمع وعظه وهو بمصر وهي بأرض السودان من أقصى الصعيد(2) .
حسين أبو علي : " من كمّل العارفين , كان كثير التطورات , تدخل عليه فتجده جندياً , ثم تدخل عليه فتجده سبعاً , ثم تدخل فتجده فيلاً ( يا ألطاف الله ) " (3). تخيل هذا الذي من كمّل العارفين يتحول إلى سبع وإلى فيل .... ؟!
إبراهيم بن عصيفير : " كان يغلب عليه الحال وكان يمشي أمام الجنازة ويقول زلابيه و هريسة وأحواله غريبة , وكان يحبني وأنا في بركته وتحت نظره " (4). قد يكون هذا مجنون لا تكليف عليه , أما أن يقول الشعراني : سيدي إبراهيم , وكنت في بركته وتحت نظره , فهذا مما لا ينقضي من العجب , وما رأي صوفية اليوم هل ينكرون على الشعراني هذا الكلام ؟ لا أعتقد , بل يبدوا أن هؤلاء وأمثالهم هم أقرب إلى الظن بأن الحقيقة إنما ينطق بها البلهاء قبل أن ينطق بها العلماء .
__________
(1) نفس المصدر 1/157 .
(2) الطبقات 1/203.
(3) الطبقات 2/87.
(4) نفس المصدر 2/140.(57/61)
ومن أثر الصوفية وكتب الشعراني وغيره أن أساتذة في جامعات مصر , أساتذة في الطب والفيزياء والكيمياء و تكون عقولهم سليمة عند البحث العلمي وتمسخ عند الحديث عن الولي الفلاني كيف طار في الهواء أو غاص في الماء(1) , لا شك أنها ازدواجية تحتاج إلى تحليل نفسي لمعرفة أسبابها ودوافعها , وقد رأينا طلاب جامعات في بلاد الشام كيف يتبعون دجالاً مخرفاً , ظاهر الكذب والاحتيال , إن هؤلاء المشايخ يقومون بعملية غسل دماغ للمريد بطريقة شيطانية خبيثة تجعل طلاب الجامعات بل وأساتذتهم يسيرون وراء الشيخ كالقطيع , وتبقى أجواء الصوفية غير العقلانية هي العامل الأهم .
إن قمة إلغاء العقل عند الصوفية هو ما يسمونه ( بالشطح ) وهي أن يتكلم أحد مشاهيرهم بكلمات غير معقولة أو تتضمن كفراً وزندقة في الظاهر ويقولون : إنه قالها في حالة جذب وسكر أما في حالة الصحو فيتراجع عنها وقيل في تعريف ( الشطح ) :" كلمة عليها رائحة الرعونة والدعوى تصدر عن أهل المعرفة باضطرار وإضراب " (2).
وهذه نماذج من شطحاتهم : قال أبو يزيد البسطامي " إن جهنم إذا رأتني تخمد فأكون رحمة للخلق , وما النار والله لئن رأيتها لأطفأنها بطرف مرقعتي "(3).
والدسوقي يعلن أن أبواب الجنة بيديه ومن زاره أسكنه جنة الفردوس(4) وأبو الحسن الشاذلي يعوم في عشرة أبحر : خمسة من الآدميين : محمد وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي , وخمسة من الروحانيين : جبريل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل والروح (5) وأحمد بن سليمان الزاهد شفعه الله في جميع أهل عصره(6) .
__________
(1) لاحظ هذا الانفصام الدكتور زكي نجيب محمود وطبعاً الدكتور هنا لا يدافع عن الإسلام الحقيقي وإنما يدافع عن العقل وتأثره بالمذهب الوضعي المنطقي العلماني الاتجاه .
(2) بدوي : شطحات الصوفية 1/22.
(3) انظر : تاريخ التصوف لعبد الرحمن بدوي .
(4) هذه هي الصوفية / 121.
(5) لطائف المنن / 57.
(6) طبقات الشعراني 2/82.(57/62)
شطحاتهم لا تنتهي ونكتفي بما أوردنا كنموذج للرعونة والدعوى وأقوالهم هذه مرفوضة جملة وتفصيلاً ولا تستحق بذل الجهد لتبريرها فقاعدة الإسلام الركينة أننا نحكم بالظاهر كما دلت جملة الأحكام الشرعية, فلا مجال لمدع أن يقول بأن باطن أقوالهم مخالف لظاهرها , ويجب أن يصان الإسلام عن مثل هذا الشطح واللامعقول , بل الشرك لأن ممن يتصرف في الجنة والنار فقد اتخذ نفسه نداً لله وشركاً و قال ابن عقيل " ومن قال هذا كائناً من كان فهو زنديق يجب قتله " (1).
وإذا كانت الجنة بيد الدسوقي فلينم البطالون وليستريحوا من عناء الجهد والتعب والأمر لا يحتاج إلى علم أو عبادة أو جهاد بل مجرد زيارة الشيخ تفتح له أبواب الجنة أليست هذه نسخة أخرى عن صكوك الغفران , وأما نحن فنستغفر الله حتى من إيراد أقوالهم .
* * *
الفصل الثالث
البدع العَمليََّة للصُّوفية
المبحث الأول
تربية ذليلة
"أنت أسير في قيد الملا والصوفي , أنت لا تأخذ
الحياة عن حكمة القرآن , ليس لك بآيات القرآن
شأن , إلا أن تموت بسهولة بسورة يس "
إقبال
وضع الصوفية قواعد عامة لتربة مريديهم وكلها تحوم حول الخضوع التام من المريد للشيخ , بحيث يتحول التلميذ المسكين إلى آلة جوفاء تردد ما يقال لها بلا تفكير ولا شخصية مستقلة , بل انقياد أعمى , وحتى تتم هذه التربية الذليلة ألزموهم بلبس معين ومشية معينة وشيخ معين وطريقة معينة . ومن هذه القواعد المتعارفة بينهم :
كن بين يدي الشيخ كالميت بين يدي المغسل .
لا تعترض فتنطرد .
من قال لشيخه لِمَ ؟ لا يفلح .
من لم يكن له شيخ فشيخه الشيطان .
__________
(1) تلبيس إبليس / 343.(57/63)
ومشت الجماهير المغفلة وراء الشيوخ يقبلون الأيدي وينحنون لهم بالتعظيم كلما رأوهم , لا يتكلمون إلا إذا تكلم الشيخ , يصدقون بكل ما يقول , ويحملون له حذاءه وسجادته . وقد فلسفوا كل هذا في كتبهم تحت عنوان ( آداب المريد ) فقالوا : " ومن الأدب تعظيمه ظاهراً وباطناً , ولا تصاحب له عدواً ولا تعادي له صديقاً , ولا تكتم عنه شيئاً مما خطر ببالك ( مثل اعترافات النصارى ) , ولا تسافر ولا تتزوج إلا بإذنه , وأعظم من هذا قالوا : وحرم على المريدين السؤال لأن الشيخ قد يكون جاهلاً فينفضح(1).
وهذا الأسلوب في تربية الأتباع ليس مستحدثاً بل تلكم عنه القشيري في ( رسالته ) فقال : " من صحب شيخاً من الشيوخ ثم اعترض عليه بقلبه فقد نقض عهد الصحبة ووجبت عليه التوبة , ثم إن الشيوخ قالوا : حقوق الأستاذين لا توبة منها " (2).
وقد أدى هذا الأسلوب إلى الغلو في المشايخ , الغلو في الصالحين فالغزالي هو صاحب الصديقية العظمى برأي أبي العباس المرسي (3), والشيخ نجم الدين يستحي أن يصلي باتجاه القبلة وخلف الشيخ أبو العباس المرسي ( القطب ) فأدار وجهه باتجاه القطب !! ولكن أبا العباس كان متواضعاً فقال له : أنا لا أرضي خلاف السنة (4) فقط خلاف السنة ترك القبلة ؟! وقد كان أحمد الشريف السنوسي – من المعاصرين – شديد الاعتقاد بعمه محمد المهدي الذي لا يرى فوق طبقته أحداً إلا سيد الكائنات محمد صلى الله عليه وسلم " (5).
وانتقلت عدوى هذه الطريقة في التربية إلى الآباء فربوا أبناءهم على الطاعة العمياء وأجبروهم على عادات معينة فيخرج الطفل شخصية ضعيفة .
ولنا على هذه التربية الملاحظات التالية :
__________
(1) إن ما أورده أهل السنة من آداب المتعلم بين يدي العالم , واحترام العلماء وتوقيرهم , يختلف عن ذلة الخضوع النفسي عند مريدي الصوفية .
(2) هذه هي الصوفية / 101.
(3) لطائف المنن / 77.
(4) لطائف المنن / 74.
(5) شكيب أرسلان : حاضر العالم الإسلامي 2/160.(57/64)
هذه الأساليب في تربية المريدين هي أساليب ماكرة إما لتغطية ما على الشيخ من جهل بالدين وقلة بضاعة في العلم , أو لممارسة أشد أنواع السيطرة على عقول وقلوب الناس وباسم احترام الشيخ . وقولهم ( العلم في الصدور لا في السطور ) إنما هو صرف للتلاميذ عن كتب الفقه والحديث لأنه إذا قرأ فربما يتفتح عقله – فينتبه لما عند الشيخ من دجل وخرافات .
لم يترب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه التربية الخانعة ولكنهم تربوا تربية القيادة والرجولة , فكان أحدهم يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم : أوَحيٌ هذا أم هو الرأي والمشورة؟ فإن كان الرأي والمشورة أدلى برأيه كما فعل سعد بن معاذ في غزوة الخندق عندما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم مصالحة قبائل غطفان , وكان صلى الله عليه وسلم بقيادته الحكيمة يستمع لهم ويناقشهم وجوه الرأي ولا يقول لهم : كيف تعترضون علي وأنا سيد الخلق ورسول من رب العالمين ؟ ومع حبهم الشديد لرسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا لا يقومون له ولا يقبلون يديه كلما دخل وذلك لمعرفتهم أنه يكره المبالغة في تعظيم البشر , وعقل الصحابة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه التربية فكان أول ما تكلم به أبو بكر الصديق رضي الله عنه عندما تولى الخلافة " وإن أسأت فقوموني " ويقول : " أي سماء تظلني وأي ارض تقلني إذا قلت في كتاب الله برأي " والصوفية يقولون : الشيخ يسلم إليه طريقته , وأي طريقة مع الشرع ؟ ويكتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه لقادة الجيوش وأمراء الأقاليم : " لا تضربوا أبشار الناس فتذلوهم " ذلك لأن الشعب الذليل لا خير فيه , كما ذكر القرآن الكريم قصة بني إسرائيل عندما كانوا أذلاء تحت حكم فرعون , فلما أراد موسى إخراجهم إلى العزة والكرامة قالوا له : " فاذهب أنت وربك فقاتلا , إنا ها هنا قاعدون " (1).
__________
(1) سورة المائدة 24.(57/65)
وعقل التابعون هذه التربة فكانوا يكرهون " أن توطأ أعقابهم "(1) وهو أن يمشي التلاميذ وراء الشيخ , ويقولون : " إنها فتنة للتابع والمتبوع " (2) , ولم يعتد الصحابة تقبيل يد رسول الله صلى الله عليه وسلم وإذا وقع فيكون نادراً , وذهب بعض العلماء إلى كراهية تقبيل اليد مطلقاً كالإمام مالك , قال سليمان بن حرب : هي السجدة الصغرى(3). وعن أنس بن مالك قال : " قلنا يا رسول الله أينحني بعضنا لبعض ؟ قال: لا " (4) .
أما لماذا تسير هذه الألوف من البلهاء وراء شيوخ الصوفية ربما يكون هروباً من الواقع , ولعلها تصادف متنفساً غير حقيقي لمشاكلهم وأرجح أنه ابتعاد عن التكليف الذي يفرضه الإسلام وخاصة في أوقات الشدة والعسرة , وبعض الناس يصدقون أغرب القصص لمجرد رغبتهم في أن تكون هذه القصص صحيحة والواقع أنها غير صحيحة (5) .
* * *
المبحث الثاني
المتصَوفة وعلم الحَديث
__________
(1) زهير بن حرب : كتاب العلم / 146 المنشور مع ثلاث رسائل بعنوان الإيمان – تحقيق الألباني .
(2) زهير بن حرب : كتاب العلم / 138 .
(3) المسائل السجدية 2/123 ط . 1344هـ .
(4) سنن ابن ماجة 2/1220 كتاب الأدب .
(5) انظر كتاب : كيف تفكر , تعريب منير البعلبكي – ط . دار العلم للملايين .(57/66)
من أصعب الأمور على المتصوفة وخاصة المتأخرين منهم الاهتمام بالعلوم الشرعية وخاصة الحديث والفقه , لأن هذه العلوم تكشف ما هم عليه من جهل وإذا دخلت في قلوب وعقول التلاميذ فلا يبقى حولهم أحد , أما المتقدمون فكان لهم عناية بالعلوم الشرعية ولكن إما أن يكون أحدهم مفصوم الشخصية فتجده عالماً في الفقه وأصوله ولكن عندما يتكلم في التصوف ينقلب إلى شخصية أخرى كأبي حامد الغزالي , وإما أن يترك العلم بعد أن يكون قد أخذ بقسط وافر منه , باعتبار أن العلم وسيلة للعمل فإذا وصل إلى العمل فلا داعي للعلم , وهذه مغالطة لأن المسلم يحتاج للعلم حتى آخر لحظة من حياته , وقد رمى أحمد بن أبي الحواري كتبه في البحر وقال : نِعمَ الدليل كنتِ .
وأبو حامد الغزالي يبرر هذا البعد عن علوم الشريعة وهذا الميل من المتصوفة إلى علم الكشف فيقول : " اعلم أن ميل أهل التصوف إلى الإلهية دون التعليمية , ولذلك لم يتعلموا ولم يحرصوا على دراسة العلم بل قالوا الطريق تقديم المجاهدات والإقبال على الله ويقطع الإنسان همه من المال والولد والعلم ويقتصر على الفرائض والرواتب ولا يقرن همه بقراءة القرآن ولا يكتب الحديث " .
يقول ابن الجوزي معلقاً على كلام الغزالي : " عزيز علي أن يصدر هذا الكلام من فقيه فإنه لا يخفي قبحه , فإنه في الحقيقة طي لبساط الشريعة " (1). ومن الأوهام التي وقعوا فيها قولهم : نحن نأخذ علمنا عن الحي الذي لا يموت وأهل الحديث يأخذون علمهم ميتاً عن ميت وأنشد أحد شيوخه : (2)
إذا طالبوني بعلم الورق برزت عليهم بعلم الخرق
__________
(1) تلبيس إبليس / 323.
(2) هو أبو بكر الشبلي قال عنه الذهبي : كان يحصل له جفاف دماغ فيقول أشياء يعتذر عنه فيها وله مجاهدات عجيبة انحرف فيها مزاجه , انظر سير أعلام النبلاء 15/368.(57/67)
وبسبب إعراضهم عن الحديث جمعوا الغث والسمين والموضوع والضعيف في كتبهم مثل ( الإحياء ) و ( الرسالة ) و ( حقائق التفسير ) وهذه بعض الأحاديث الضعيفة أو الموضوعة الباطلة وكيف استندوا إليها وقرروا بها مذهبهم :
قال بعض العارفين : أول المعرفة حيرة وآخرها حيرة وذكروا حديثاً باطلاً : " زدني فيك تحيراً " قال ابن تيمية : هذا حديث كذب والرسول صلى الله عليه وسلم يقول : " ربي زدني علماً " (1) .
ذكر محمد بن طاهر المقدسي في مسألة ( السماع ) حديث الأعرابي الذي أنشد النبي صلى الله عليه وسلم هذه الأبيات :
قد لسعت حية الهوى كبدي فلا طبيب لها ولا راقي إلا الحبيب الذي شغفت به فعنده رقيتي وترياقي وأنه صلى الله عليه وسلم توجد عندما سمع ذلك حتى سقطت البردة عن منكبيه , قال ابن تيمية : " هذا حديث مكذوب موضوع " (2) ولا ندري كيف يروون هذا وأين عقولهم ؟ ولعلّ الحيات لسعت عقولهم وليس قلوبهم .
رووا حديثاً " لو أحسن أحدكم ظنه بحجر لنفعه " وهو من كلام أهل الشرك والبهتان وقد سمعنا بعض مشايخ الصوفية في هذا العصر يحدث به ويعتقده .
" ألبسوا الصوف , وشمروا , وكلوا في أنصاف البطون تدخلوا ملكوت السماء " ذكرها أبو طالب المكي في ( قوت القلوب ) (3), وهل يتكلم الرسول صلى الله عليه وسلم بمثل هذا الكلام , وهل هذا إلا اختراع لتأييد مذهب التصوف بلبس الصوف .
هذه نماذج قليلة وغيض من فيض مما امتلأت به كتبهم كالرسالة للقشيري حيث ذكر فيها الصحيح والضعيف والموضوع وحيث يروي عن الفضل بن عيس الرقاشي وهي من أوهى الأحاديث وأسقطها , (4) وارجع إلى ( الإحياء ) لترى العجب العجاب , مما يدلنا على عدم احتفائهم بعلم الحديث أو الفقه , بل ضربهم بالعلم كافة عرض الحائط .
* * *
المبحث الثالث
البطالة والانحِلاَل
__________
(1) الفتاوى 11/384 .
(2) الفتاوى 11/563.
(3) زكي مبارك : التصوف 1/44.
(4) الفتاوى لأبن تيمية : 10/680.(57/68)
كان أوائل الصوفية أصحاب مجاهدات وعبادات , صادقين مع أنفسهم وإن كانت بعض أعمالهم فيها تعمق وتشدد ومخالفة للسنة ما سبق أن قررنا , ثم ظهر بعد ذلك أجيال بنوا التكايا والزوايا وهي دكاكين للبطالة والطبل , مستريحين من كدّ المعاش , متشاغلين بالأكل والشرب والغناء والرقص , يطلبون الدنيا من كل ظالم , وأين جوع ( بشر ) وورع ( السري ) وأين جد ( الجنيد ) (1), مع أن بناء الربطة والتكايا ولو لتعبد والإنفراد هو بدعة في حد ذاته لأن بناء آهل الإسلام المساجد , وبناء التكايا فيه تشبه بالنصارى لإنفراده بالأديرة . وقد قيل لبعض الصوفية أتبيع جبتك ؟ قال : إذا باع الصياد شبكته فبأي شيء يصطاد وقد استغرب الإمام محمد بن الحسن الشيباني من أكلهم الطعام عند الناس لا يسألون عن حلال أو حرام (2) .
ونسو أو تناسوا أن الإسلام يأبى الركون إلى الكسل والبطالة , وأن الزهد هو ترك ما في أيدي الناس والاستغناء عنه تنزهاً , وليس الحصول على ما في أيدي الناس تنطعاً , وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن السؤال وأمر بالاكتساب والعمل فقال : " لأن يحتزم أحدكم حزمة من حطب على ظهره فيبيعها خير من أن يسأل رجلاً فيعطيه ؟ أو يمنعه "(3), وقال صلى الله عليه وسلم " اليد العليا خير من اليد السفلى " (4) .
وكان سعيد بن المسيب يتجر بالزيت وكان أبو حنيفة يتجر بالقامش ... هكذا كان كبار العلماء والزهاد يعملون بأيديهم ويتحرون الكسب الحلال .
__________
(1) انظر ما كتبه ابن الجوزي وأطال في بطلات الصوفية في كتابه : تلبيس إبليس .
(2) الكسب / 44.
(3) النسائي 3/93 باب الزكاة .
(4) نفس المصدر 3/60.(57/69)
وكان الأوائل يمتنعون عن الزواج تشدداً وتعمقاً ثم تطور الأمر بالمتأخرين من الصوفية إلى مؤاخاة النساء وإعطاء الطريقة للمريد , وحفلات الذكر المختلطة , مما يشعر بدنوهم من مذهب الإباحية عند الباطنية لأن نظرية وحدة الوجود – التي استفحلت عند متأخري الصوفية – تشجع على الإباحية " لأن الثواب والعقاب يصبح من المشكلات فمن الذي يثيبنا حين نحسن ؟ ومن الذي يعاقبنا حين نسيء ؟ إذا كان الإنسان جزأ من الله , إنها خطر على عالم الأخلاق , بل تأتي على قواعده من الأساس , ولذلك عاش بعض الصوفية عيشة التفكك والانحلال (1) , وقد كان لابن الفارض وهو من شيوخ وحدة الوجود , كان له مغنيات بالقرب من قرية ( البهنسا ) يذهب إليهن فيغنين له بالدف والشابة وهو يرقص ويتواجد (2) .
لم يرض عن هذا التطور بعض الصوفية المعتدلون كالشيخ أبي سعيد الأعرابي الذي يقول في كتابه ( طبقات النساك ) : " إن آخر من تكلم في هذا العلم الجنيد وأنه ما بقي بعد إلا من يستحي من ذكره " (3) , كما حكى عن سهل التستري قوله : " بعد سنة ثلاثمائة لا يحل أن يتكلم بعلمنا هذا لأنه يحدث قوم يتصنعون للخلق (4) ولكن الصوفية استمرت في تدهورها وأصبحت اكتساباً وتملقاً , ولبسوا جلود الضأن وحملوا قلوب الذئاب .
* * *
المبحث الرابع
السَّمَاع وَ الذِكر
__________
(1) زكي مبارك : التصوف 1/155 وانظر ابن حزم : الملل والنحل 4/226 .
(2) الآلوسي : جلاء العينين /75 .
(3) آدم متز : الحضارة الإسلامية 2/39 .
(4) المصدر السابق 2/39.(57/70)
في البداية , وعند أوائل الصوفية كانوا يحضرون مجلس ( السماع ) وهو الاجتماع في مكان معين لسماع منشد صاحب صوت حسن مع استعمال الإيقاع الموسيقي , ينشد قصائد الزهد وترقيق القلوب , ثم تطوروا إلى إنشاد قصائد الغزل وذكر ( ليلى ) و ( سعدى ) ويقولون نحن نقصد بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم , هذه القصائد التي تهيج الحب المطلق , الحب غير المعين , فكلٌ يأخذه حسب هواه وما يعتلج في قلبه من حب الأوطان أو حب النساء ...
وقد أباح لهم هذا السماع أبو حامد الغزالي وأبو عبد الرحمن السلمي وغيرهم , واحتجوا بأشياء واهية ضعيفة , وليس هذا موضوع مناقشة حكم الإسلام في الغناء , فقد رد عليهم العلماء مثل ابن الجوزي وأجاد ابن القيم في مناقضة هذا الموضوع في كتابه ( إغاثة اللهفان ) , وتبقى الحقيقة أن الأمة المسلمة أمة جادة ولا يحلل هذا الغناء إلا من لا يفقه الإسلام حق الفقه .
ولم يقتصر الأمر على هذه القصائد بل تطور إلى ذكر الله بالرقص والدف والغناء , وعندما تقام الحضرة (1) تبدأ التراتيل بذكر اسم الله المفرد ( الله ) بصوت واحد , ولكن عندما يشتد الرقص ويلعب الشيطان برؤوسهم يرفعون عقيرتهم أكثر ويتحول اسم الله إلى ( هو ) ثم لا تسمع بعدها إلا همهمة , وقد يجتمع مع هذا الصراخ والقفز في الهواء أخلاط الناس من النساء والأولاد لرؤية هذا ( التراث الشعبي ) , حقاً إنها مهزلة اتبعوا فيها سنن الذين من قبلنا فقد جاء في مزامير العهد القديم عن اليهود " ليبتهج بنو صهيون بملكهم , ليسبحوا اسمه برقص , بدف وعود , سبحوه برباب , سبحوه بصنوج الهتاف " (2) .
__________
(1) مصطلح عند الصوفية يعني الاجتماع على ذكر الله بالرقص على شكل حلقة يكون الشيخ في وسطها وكأنه قائد أوركسترا .
(2) هذه هي الصوفية / 143 .(57/71)
جاء في ( ترتيب المدارك ) للقاضي عياض : " قال التنيسي : كنا عند مالك بن أنس وأصحابه حوله فقال رجل من أهل نصيبين : عندنا قوم يقال لهم الصوفية يأكلون كثيراً ثم يأخذون في القصائد , ثم يقومون فيرقصون. فقال مالك : أصبيان هم ؟ فقال : لا . قال : أمجانين هم ؟ قال : لا هم مشايخ وعقلاء . قال : ما سمعت أن أحداً من أهل الإسلام يفعل هذا " (1).
وقد يكون من أسباب فعلتهم هذه هو أن النفس ترى أن تغطي شهواتها باسم الدين والذكر والحضرة . ولو كشفت بصراحة عن نوازعها لكان الخطب أهون , لأنها عندئذ تبقى في دائرة المعصية وهي أقل خطراً من البدعة . والله سبحانه وتعالى وصف الذاكرين له باطمئنان قلوبهم وخشوعهم وإخباتهم , وقد كان السلف إذا سمعوا القرآن خافوا وبكوا واقشعرت جلودهم , وهذا عكس الرقص والطرب , ولم يأمر الله سبحانه حين أمر الناس بالعبادة – أن يأكلوا أكل البهائم ثم يقوموا للرقص , بل هذا الرقص الذي يسمونه ( ذكراً ) وما يرافقه من منكرات مستقبح ديناً وعقلاً , هو وصمة عار أن يكون في المسلمين من يفعل هذا , وصدق قول الشاعر فيهم :
ألا قل قول عبد نصوح وحق النصيحة أن تستمع
متى علم الناس في ديننا بأن الغنا سنة تتبع
وأن يأكل المرء أكل الحمار ويرقص في الجمع حتى يقع
وقالوا : سكرنا بحب الإله وما أسكر القوم إلا القصع
ويسكره الناي ثم الغنا و ( يسن ) لو تليت ما انصدع (2)
* * *
المبحَث الخامِس
المتصَوفة والجهَاد
__________
(1) ترتيب المدارك 4/5 ط . المغرب وقد حاو ل صاحب الكتاب ( حقائق عن التصوف ) محاولة سمجة للاستشهاد بالإمام مالك والإمام الشافعي على أنهما يمدحان الصوفية وهؤلاء الأئمة أعقل وأكبر من هذا .
(2) ابن القيم : إغاثة اللهفان(57/72)
تربى المسلمون الأوائل تربية جهادية , فهم مستعدون دائماً لمصاولة الباطل والدفاع عن الحق , والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر , ينفذون في ذلك سنن الله سبحانه وتعالى , فالشر لا بد من دفعه بالخير و إلا فسدت الأرض , وكان علماء السلف يرابطون في الثغور للحصول على فضيلة الجهاد , مثل الإمام أحمد بن حنبل والإمام عبد الله بن المبارك , وقصة ما كتبه ابن المبارك للفضيل بن عياض يعاتبه فيها على تفرغه للعبادة في مكة وعدم مشاركته في حماية الحدود الإسلامية هي قصة مشهورة , فما هو موقف الصوفية من هذا الموضوع المهم ؟ حتى يتبين لنا هذا لا بد من الوقوف على بعض أقوالهم وأفعالهم :
ألف أبو حامد الغزالي كتابه ( إحياء علوم الدين ) في فترة تغلب الصليبين على بلاد الشام , وتذكر المؤلف كل شيء من أعمال القلوب ولم يتذكر أن يكتب فصلاً عن الجهاد .
يستشهدون دائماً بحديث ليس له أصل ويظنون أنه من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم على عادتهم في ذكر الأحاديث الضعيفة وهو : " رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر " ويعنون بالجهاد الأصغر القتال في سبيل الله والجهاد الأكبر هو جهاد النفس, وهذا الكلام ليس من هدي النبوة ولم يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم شيء من هذا , كما أن فيه مغالطة واضحة وأي جهاد أعظم من تقديم المسلم نفسه في سبيل الله , وقولهم هذا ما هو إلا محاولة للهروب من تبعية القتال في سبيل الله , بل هو صرف المسلمين عن هذا العمل العظيم .(57/73)
استرسل كثير منهم مع القدر الكوني وفهموا هذه المسألة فهماً خاطئاً فظنوا أن الاستسلام لما يقدره الله من عدو أو مرض أو فقر هو من باب الرضى بالقضاء , ولذلك استكانوا للحكام الظلمة وقالوا : هذه إرادة الله وكيف نخالف هذه الإرادة , فهم دائماً مع الحاكم سواء كان مؤمناً أم كافراً , صديقاً أم زنديقاً (1)ولم يعلموا أن قدر الله الكوني يدفع بالقدر الشرعي , فالمرض يدفع بالدواء , والعدو يدفع بالجهاد...
وفي العصر الحديث وعندما اقتسمت بريطانيا وفرنسا أكثر بلاد المسلمين كانت بعض فرق الصوفية غارقة في أذكارها وكأن شيئاً لم يكن , بل يقام للمعتمد البريطاني لدى سورية الجنرال ( سبيرس) حفلة ( ذكر ) على طريقة المولوية يدعوه إليها الشيخ هاشم العيطة شيخ الطريقتين السعيدية والبدرية حيث أنشدت الأناشيد وفتلت المولوية , ثم خطب صاحب الدار باسمه واسم إخوانه مثنياً على رئيس الجمهورية والملك جورج السادس والمستر تشرشل والجنرال سبيرس , فأجاب الجنرال شاكراً (2) .
__________
(1) الفتاوى : 2/101.
(2) خليل مردم بك : يوميات الخليل /62 .(57/74)
وفي الجزائر كانت فرنسا تشجع الطرق الصوفية وتسمح لهم بإقامة أذكارهم والخروج في أعيادهم بالطبول والرايات ولذلك : " تساند الطرقيين والمعمرين على المصلحين " (1) " وكانوا يحضرون اجتماعات جمعية العلماء لا خدمة لغايتها ولكن عيوناً لفرنسا والإدارة المحلية ولكن الجمعية أخرجتهم منها " (2) , ولذلك كان أول عمل قام به باعث النهضة الإسلامية في الجزائر في هذا العصر الشيخ عبد الحميد بن باديس هو محاربة الطرق الصوفية وذلك أثناء تفسيره للقرآن الكريم في الجامع الكبير في مدينة قسنطية . وإذا كان الأمير عبد القادر الجزائري قد حارب فرنسا فإنه وبتأثير تربيته الصوفية لم يكمل هذا القتال , فقد عارض في استمرار الثورة ضد المحتل الفرنسي على يد ولده لأن الشيخ عاهد فرنسا ألا يرفع في وجهها سيفاً مادام حياً (3) . وعندما نفي الأمير إلى دمشق واستقر بها كان على رأس العاملين على إعادة نشر تراث ابن عربي المملوء بفكرة ( وحدة الوجود ) الخبيثة الفاجرة .
وفي الهند وبعد ثورة 1857م المشهورة التي قام بها المسلمون ضد الإنجليز , بعد هذه الثورة قتل من علماء المسلمين العدد الكثير ومنهم المحدث حسن الدهلوي . في هذه الفترة كتب أحمد رضا مؤسس الطريقة الصوفية ( البريلوية ) رسالة مستقلة باسم ( إعلام الأعلام بأن هندوستان دار الإسلام ) ووصفه لبلاد الهند بأنها دار الإسلام هو خدمة لبريطانيا حتى لا يقام فيها الجهاد ضد الكفرة ثم قال بصراحة : " إنه لا جهاد علينا مسلمي الهند بنصوص القرآن العظيم , ومن يقول بوجوبه فهو مخالف للمسلمين ويريد إضرارهم " (4) .
__________
(1) مبارك الميلي : رسالة الشرك ومظاهره , انظر المقالة التي كتبها محمد الميلي في مجلة ( الوطن العربي ) بتاريخ 9/11/1984 عن العيون الأجنبية وحركة الإصلاح الجزائرية .
(2) المصدر السابق .
(3) شكيب أرسلان : حاضر العالم الإسلامي 2/172 .
(4) إحسان إلهي ظهير : البريلوية / 43.(57/75)
ولذلك يقول ابن تيمية عنهم : " وأما الجهاد فالغالب عليهم أنهم أبعد من غيرهم , حتى نجد في عوام المؤمنين من الحب للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والحب والتعظيم لأمر الله والغضب والغيرة لمحارم الله ما لا يوجد فيهم . حتى أن كثيراً منهم يعدون ذلك ( أي الجهاد ) نقصاً في طريق الله وعيباً " (1) وربما يظنون أن الذكر والتفكر والفناء والبقاء هو الأصل والأهم .
بعد هذا الإستعراض لبعض أقوالهم وأفعالهم نستطيع أن نقرر أن التربية الصوفية بطبيعتها بعيدة عن فكرة الجهاد والقتال لأنها تعتبر الرياضات الروحية هي الأصل والأساس , وهذه الرياضات لا تنتهي إلا إذا وصل أحدهم لمرحلة الفناء , وإذا فني فكيف يجاهد ؟!!
ونحن نتكلم عن الصفة الغالبة عليهم , و إلا فقد يوجد منهم من له مشاركة في دفع الظالمين , ولكن الأكثرية هم مع المطاع المتغلب ولهذا قيل : " إن كل شعر التصوف ظهر في زمان ضعف المسلين السياسي "(2) .
* * *
الصُّوفية اليَوم
هل تغيرت الصوفية عما ذكرناه في الصفحات السابقة , هل تركوا وحدة الوجود أو الغلو في المشايخ والسير وراء الأقطاب والأوتاد , هل تركوا البدع التي وقعوا فيها والتي تخالف سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم , أم أنهم متمسكون بكل هذا التراث ؟ الواقع أنهم موجودون بكل الفئات التي ذكرناها وبكل العقائد الفاسدة والخرافات اللا معقول , وبكل طرقهم الكثيرة المنتشرة على رقعة العالم الإسلامي كالشاذلية والنقشبندية والرفاعية والقادرية والتجانية والبريلوية .. الخ من الطرق , والتفرق لا ينتهي عند حد معين .
__________
(1) ابن تيمية : الاستقامة 1/268.
(2) إقبال : الأسرار والرموز / 12 ترجمة عبد الوهاب عزام .(57/76)
وصوفية اليوم منهم العوام الجهلة الذين لا يعرفون إلا الأذكار الجماعية والتماس البركات من الشيخ , ومنهم الغلاة الذين يعتقدون بما يقوله ابن عربي وابن الفارض , ومنهم علماء الفقه ولكنهم ينتسبون إلى طريقة من الطرق المشهورة وكأن الانتساب لها ضربة لازب , أو كأنه يحس بنقص إذا لم يكن منتسباً إلى القوم , فلا بد أن يكون الشافعي مذهباً والشاذلي طريقاً ... ونجد هذا الفقيه لا يمارس طقوسهم ولا يعتقد الكثير من عقائدهم ولكنه التقليد والخوف من الخروج عن المألوف .
كان أحد مشايخ الصوفية من بلاد الشام يجلس في المسجد الحرام في مكة المكرمة ووجهه إلى الكعبة ولكن تلامذته يجلسون صامتين ووجوههم إلى الشيخ لأن النظر إلى وجه الشيخ عبادة , ولم يكن يلقي عليهم درساً .
وعندما يقوم من مجلسه يسرعون لخدمته فأحدهم يمسك له الحذاء وآخر يناوله العصا , ويمشون وراءه كأن على رؤوسهم الطير . أليست هذه هي التربية الذليلة التي تكلمنا عنها ؟
وصوفي آخر من بلاد الشام يوزع على تلامذته ( ورد الشاذلية ) وأوله بالحرف الواحد : " اللهم انشلني من أوحال التوحيد وأغرقني في عين بحر الوحدة " أليست هذه هي وحدة الوجود بعينها ؟
وعندما أراد الشيخ عبد الحليم محمود شيخ الأزهر سابقاً أن يكتب سيرة سيده أبي العباس المرسي ذهب إلى قبر ( البدوي ) يستأذنه في الكتابة فأذن له !!(1) ويُدعى الشيخ إلى الهند للمشاركة في احتفال إقامة قبة على قبر شيخ من شيوخ الصوفية هناك فيلبي الدعوة , ألا يعلم شيخ الأزهر أن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك ؟ ألا يعلم الصوفية أن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن اتخاذ القبور مساجد ؟ فلماذا لا يمتثلون أمره إذا كانوا يحبونه كما يدعون ؟ ولكنه الهوى الذي يخرم العقل والدين معاً .
__________
(1) راجع تقدمة الكتاب المذكور لمؤلفه .(57/77)
ولا يزال أصحاب الطريقة الرفاعية عندما يجتمعون ( للحضرة ) يضرب أحدهم نفسه بآلة حادة تسمى ( الشيش ) وإذا لم تؤثر فيه يقولون : هذه كرامة له , وإذا كان فاسقاً قالوا : هذه كرامة لشيخ الطريقة !!
وإذا ذهبت إلى شمالي بلاد الشام أو مصر أو المغرب ترى هذه البهلوانية على الطريقة الرفاعية . وما يفعل في مصر من احتفالات مولد البدوي أو الحسين , حيث حفلات الرقص الطبل والزمر , وحيث الاختلاط بالنساء وتضييع الفرائض شيء يخجل منه أهل الإسلام ويتبرأ منه دينه وشرعه , والأزهر بجوارهم وما من منكر عليهم , وتقام الصلاة في مسجد الحسين ولا يدخلون للصلاة لأنهم جاءوا للاحتفال ( بسيدنا الحسين ) وليس للصلاة .
وللطرق في مصر شيخ مشايخ ولهم مجلة تذكر في عددها ( 57) أن الطريقة الحامدية الشاذلية أقامت احتفالاً بذكرى سيدهم إبراهيم سلامة الراضي , واعتذر شيخ المشايخ عن الحضور لأنه مشغول باحتفالات مولد ( البدوي ) والعدد القادم للمجلة يحتفل بعيد المولد النبوي ... وهكذا أيامهم كلها أعياد واحتفالات لا تنتهي , ولكل طريقة احتفالاتها :
وكم في مصر من المضحكات ولكنه ضحك كالبكاء
وأما في إفريقيا فالبلاء أعظم والخطب أعم و فالطريقة التيجانية تسيطر على غرب القارة وخاصة في السنغال , ويكفي للتدليل على قلة عقولهم وضلالهم قول مؤسس هذه الطريقة : " من حصل له النظر فينا يوم الجمعة والاثنين يدخل الجنة بغير حساب ولا عقاب " (1) , وقوله : " وسألته صلى الله عليه وسلم لكل من أخذ عني ورداً أن تغفر لهم جميع ذنوبهم ما تقدم منها وما تأخر " (2) أليست هذه دعوة إلى الانحلال وترك التكاليف ( فالنظر إلى الشيخ يدخل الجنة بلا حساب ) !!
__________
(1) علي الدخيل الله : التيجانية / 238 ط . دار طيبة – الرياض .
(2) المصدر السابق / 222 .(57/78)
وإذا يممت وجهك صوب المشرق فَثمَّ البلاء كله , فالهنود مغرمون بالمبالغات والقصص الغريبة عن شيوخ الصوفية . وقد انتشرت في هذا العصر الطريقة ( البريلوية ) وامتدت إلى باكستان ولها أتباع كثيرون من الحمقى والمغفلين , ومبادؤها تمثل الغلو في شخص الرسول صلى الله عليه وسلم ومعاداة أهل السنة (1) , قال مؤسس الطريقة أحمد رضا (2) موضحاً منهج الصوفية في الابتعاد عن التوحيد : " إذا تحيرتم فاستعينوا بأصحاب القبور " (3) ويقول في غلوه في شخص الرسول صلى الله عليه وسلم : " إن رسول الله صلى الله عليه وسلم متصرف في كل مكان وهو ملك الأرضين , ومالك الناس " (4) , وأما عن علاقته بالمسلمين في الهند فهو معاد لأهل الحديث يسب ويشتم أمثال القائد العالم إسماعيل الدهلوي الذي استشهد في معركة مع طائفة ( السيخ ) الكفرة .
__________
(1) كتب عنهم الأستاذ إحسان إلهي ظهير بعنوان ( البريلوية عقائد وتاريخ ) وبين فساد منهجهم وضلالهم .
(2) ولد في مدينة ( بريلي ) من مدن الهند عام 1865 يصفونه بأنه حاد المزاج لعاناً بذيئاً سريع التكفير لمخالفيه , توفي عام 1921.
(3) البريلوية / 60.
(4) المصدر السابق / 69.(57/79)
وأخيراً هناك سؤال لا بد منه وهو : لماذا هذا الاهتمام بالصوفية من دوائر الإستشراق , بل يمكن القول بأن كثيراً من بحوث التصوف الحديثة ترجع إلى عمل المستشرقين , الذين اهتموا بالتعليق على موضوعاته و إخراج المؤلفات الصوفية وطبعها ونشرها , وقد ترجمت إلى الألمانية تائية ابن الفارض في مدينة فيينا سنة 1854 , كما ترجمها إلى الإيطالية ( أكنيزوا ) في روما عام 1917 وإلى الإنجليزية ( نيكلسون ) عام 1921 (1). وقد أمضى المستشرق الفرنسي ( ماسينون ) كل حياته متفرغاً للكتابة عن الحسين ابن منصور الحلاج الذي أفتى علماء بغداد بقتله لقوله بالحلول وقد كتب ( ماسينون ) عن الحلاج ثلاثة مجلدات (2) . والمستشرقون لم يهتموا بالصوفية وإبراز الغلاة منهم فقط , بل بكل الفرق كالمعتزلة والشيعة والخوارج , فلماذا هذا الإهتمام إن لم يكن لإبراز الوجه الآخر لتاريخ المسلمين وليستمر الضالون في ضلالهم .
كلمَة أخيرة
__________
(1) بدوي : تاريخ التصوف / 30 .
(2) جاء في مقدمة شرح ديوان الحلاج للدكتور كامل مصطفى الشيبي رواية يرويها قس سرياني عراقي مقيم في باريس يدعي دهان الموصلي يقول هذا القس أن المستشرق لويس ماسينون كلفه في ربيع 1953 بإقامة قداس خاص على روح الحسين بن منصور الحلاج في البيعة التي يشرف عليها في العاصمة الفرنسية يوم ذكرى وفاته , ويذكر الموصلي أنه دهش لطلبه وذكره بأن الحلاج مسلماً فقال ماسينون : الحلاج رجل متصوف روحاني وأن فوارق الأديان لا يحسب لها حساب في حالته , انظر المقال الذي كتبه جهاد فاضل في مجلة الحوادث العدد 1420.(57/80)
إن المهمة الرئيسية التي ترجوها من وراء بحثنا هذا هي تجلية أسباب التفرق وما ينشأ عنه من الابتعاد عن الصراط المستقيم وعن منهج أهل السنة والجماعة , ولذلك سنذكر بعض العوامل والصفات المشتركة التي ساعدت على تشكل الصوفية وإظهارها بصورتها الحالية , وأعطتها ملامحها الأساسية التي تعرف بها وتميزها عن غيرها , وبذلك يسهل على المسلم معرفة الخير من الشر ويسهل عليه تمييز الواقع الحالي لدعاتها ومنتسبيها , وسنذكر هذه الصفات والعوامل بإيجاز مركز .
أولاً : ضعف العلم الشرعي :
وهو – كما يقول ابن الجوزي – من أول تلبيس إبليس عليهم , إذ قالوا: المقصود هو العمل , ونحن نعبد الله ونذكره دائماً و وقد تركنا الدنيا واتجهنا إلى الله . ومن هذا التصور بدأ مصباح العلم يخفت ضوؤه شيئاً فشيئاً و فعرضوا عن العلم الشرعي الذي هو طريق العمل الصحيح كالحديث والفقه والتفسير , فغلب عليهم الجهل وانتشرت البدعة والخرافة بينهم . فعبادات أكثر المتصوفة وخاصة العوام منهم حشوها البدع , وذلك لما أشاعه مشايخهم من مفاهيم مغلوطة عن البدع حسنتها في عقولهم .
ثانياً : التأويل :
وهي مشكلة عامة الفرق , البلاء المشرك بينها , فقد جنحوا إلى تأويل النصوص وتحريفها عن ظاهرها المتبادر إلى معان لا تليق بها حتى يستدلوا بها على مذهبهم وأقوالهم الفاسدة , وقد رأينا من قبل أمثلة من تأويلهم للآيات القرآنية في مبحث ( الشريعة والحقيقة ) وأنهم قد أغروا بالإتيان بمفهوم مخالف للفهم المستقيم ظناً منهم أن تلك هي مرتبة الخواص, والتأويل بهذا المعنى من شيم الباطنية , وخصلة من خصال أهل الكتاب الذي قال الله فيهم : " من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه " (1) .
ثالثاً : الغلو في المشايخ :
__________
(1) سور النساء / 46.(57/81)
تحدثنا عن هذه الظاهرة خلال سردنا لمعتقداتهم في الأقطاب والأوتاد وفي الأولياء والكرامات وانعكاس ذلك على التربية الذليلة التي يراض بها المريدون خضوعاً لذوي العصمة من مشايخهم , ولا شك أن هذه الظاهرة من الصفات المميزة المقبوحة لدى الصوفية , وهي كالتأويل صفة مشتركة بينهم وبين الشيعة , وبينهم وبين النصارى , فالشيعة غالوا في أئمتهم فقالوا بعصمتهم والنصارى غالوا في المسيح عليه السلام فرفعوه إلى مرتبة الألوهية , وهو ما حذر منه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم إنما أنا عبد الله ورسوله " (1) . وقد قال بعض العلماء : " من فسد من علمائنا ففيه شبه باليهود , ومن فسد من عبادنا ففيه شبه بالنصارى " والموفق من أنجاه الله من براثن الغلو ومن التشبه بإحدى هاتين الطائفتين .
رابعاً : البعد عن منهج السَّلف :
كانت النتيجة الطبيعية لابتداع الأفكار والأعمال لدى الصوفية أن بعدت مناهجهم في الاعتقادات والعبادات جميعاً عن السنة وعن مناهج الصحابة والتابعين , وانحط تقديرهم للسلف – وإن أظهروا غير ذلك – لأنهم ربما نظروا إليهم على أنهم فهموا الإسلام فهماً سطحياً وأن المشايخ والأولياء قد تقربوا إلى الله بما لم يتقرب إليه أحد من الرعيل الأول , وأنهم وصلوا إلى مراتب لم يصلها أحد من السابقين الأولين , وكان من نتيجة ذلك عدم العودة إلى منهج الصحابة والتابعين عند الاختلاف و وحرموا الاستفادة من خير الأجيال .
خامساً : الصِّلة بين التصَّوف والتشيع :
__________
(1) أخرجه الترمذي في الشمائل المحمدية . انظر : مختصر الشمائل للشيخ الألباني / 174, وقال عنه : حديث صحيح .(57/82)
إن صلة الصوفية بالتشيع شيء مؤكد , فمرجعهم دائماً من الصحابة هو علي بن أبي طالب أو الحسن بن علي " الذي هو أول الأقطاب (1) " وقالت الصوفية بالقطب والأبدال وهذا من أثر الإسماعيلية والشيعة (2) . وعوامل نشأة الفرقتين وطبيعة كل منها توجب أن يقترب التشيع والتصوف , فالشيعة انهزموا في ميدان السياسة , والصوفية انهزموا في ميدان الحياة , وأهل فارس هم أكثر الناس تصوفاً بين الأمم الإسلامية (3), وقد أخذ الصوفية فكرة الحياة المستمرة لبعض الأشخاص من الشيعة الذين يقولون بمهدية فلان أو فلان وأنه حي إلى الآن . قال ابن حزم : " وسلك في هذا السبيل بعض نوكي الصوفية فزعموا أن الخضر وإلياس عليهما السلام حيّان إلى اليوم " (4) .
وقد اعتمد السلمي في تفسيره على ما يروى عن جعفر الصادق من تأويلات للقرآن مخالفة للمنهاج الصحيح في التفسير , فإذا قالت الشيعة في تفسير قوله تعالى " وعلى الأعراف رجال " هو علي بن أبي طالب يعرف أنصاره بأسمائهم , قال السلمي : أصحاب المعرفة أصحاب الأعراف , وقال ابن عربي : " رجال هم العرفاء أهل الله وخاصته " (5) .
ويذكر السراج أنه " لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه من بين جميع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم خصوصية بمعان جليلة و إشارات لطيفة وألفاظ مفردة وعبارة وبيان للتوحيد والمعرفة والعلم , تعلق وتخلق بها أهل الحقائق من الصوفية " (6) , وعلي رضي الله عنه من علماء الصحابة وأفضلهم بعد سابقيه في الخلافة فلماذا هذه الخصوصية ؟
__________
(1) لطائف المنن / 67 .
(2) صديق حسن خان : أبجد العلوم 2/160 .
(3) زكي مبارك 2/28 .
(4) د. مصطفى الشيبي : الصلة بين التصوف والتشيع / 136 .
(5) المصدر السابق / 191 .
(6) نفس المصدر / 343 .(57/83)
كما أخذ الصوفية مسألة عصمة الولي من الشيعة الذين يقولون بعصمة الأئمة ولكنهم أخفوها فترة من الزمن فسموها ( الحفظ ) ثم صرح بها القشيري فقال : " واعلم أن من أجل الكرامات التي تكون للأولياء دوام التوفيق للطاعات والعصمة من المعاصي والمخالفات , ويجوز أن يكون من جملة كرامات ولي الله أن يعلم أنه ولي " (1) . ومن الموافقات الغريبة أن كل زعماء الطرق الصوفية يرجع نسبهم إلى علي بن أبي طالب ويتوارثون زعامة الطريقة كالإمامة عند الشيعة , وإذا كانت المشيخة هي محصول المجاهدة والسلوك فهل ولد الشيخ يجب أن يكون شيخاً ؟
إن الشيخ عبد القادر الجيلاني يرجع نسبه إلى آل البيت وكذلك الشيخ أحمد الرفاعي والبدوي وأبو الحسن الشاذلي والبكتاشي والسنوسي والمهدي وكل زعماء الطرق حتى في البلاد الأعجمية مثل محمد نور بخش وخواجه اسحق وباليم سلطان ... (2) .
__________
(1) د . مصطفى الشيبي : الصلة بين التصوف والتشيع / 386 .
(2) المصدر السابق / 446 .(57/84)
وأخيراً فإننا لم نكتب عن الصوفية إلا لتوضيح منهج أهل السنة ونميزه عن غيره لأنه لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها , ولأنه دين الله الذي أنزله على رسوله صلى الله عليه وسلم وفهمه السلف وهو لا يحتمل هذه الطرق التي تفرق به عن سبيله , ولا يمكن أن تكون الصوفية – وبأقل درجاتها وأقصى اعتدالها – لا يمكن أن تكون هي منهج الإسلام, لهذه الأسباب كتبنا عنها وأما الذين يقولون : إن الصوفية ما هي إلا سلوك وتهذيب للنفس ورياضة روحية , هؤلاء يقال لهم : إذا لم تكن توجيهات القرآن الكريم وتوجيهات السنة النبوية فيهما تهذيب للنفس والسمو بها إلى درجات يحبها الله ورسوله فلا خير فيما خالف هذه التوجيهات في سواء الصوفية أو غيرها وإذا كان قدماء الصوفية قد تكلموا بكلمات مقبولة عن خبايا النفس الإنسانية وتعرجاتها , ومعالجة أمراض القلوب , فهذا شيء طيب وهو من أمر الله ورسوله ولا نسميه صوفية لأنها أصبحت علماً على كل ما ذكرناه من البدع , ولا بد لمن يأخذ بها أن يصيبه شيء منها , فالغزالي الذي تكلم فأجاد عن أمراض القلوب قد وقع في حبائلهم الوجودية عندما قال : " ترقى العارفون من حضيض المجاز إلى ذروة الحقيقة فرأوا بالمشاهدة أن ليس في الوجود إلا الله " وهذا هو القول بوحدة الوجود (1) .
شيء آخر لا بد أن يكون واضحاً وهو أنه عند توضيحنا لمنهج الصوفية فهذا لا يعني أن كل فرد من أفرادهم قد حكمنا عليه بفساد المعتقد وسوء المنقلب , فكثيراً ما يلتبس الحق بالباطل ويجتمع في الرجل الواحد الخير والشر والسنة والبدعة ومن العدل أن نذكر هذا وهذا لأن بعض الناس يظنون أن الصوفية هي الطريق الصحيح لما نشأوا عليه من صغرهم أو ما شاهدوه من آبائهم ومشايخهم , ولكن لا بد من تبصيرهم بدينهم الحق وإبعادهم عن البدع التي يحسبونها صغيرة وهي عند الله كبيرة .
__________
(1) مصطفى صبري : موقف العقل 3/94 .(57/85)
إن ابن تيمية – الذي يعتبرونه العدو الأكبر لهم – عند مفاضلته بين الصوفية والمتكلمين يفضل الجانب العبادي العملي عند المتصوفة بالمقارنة مع الجدل النظري عند المتكلمين , والظاهر أنه لاحظ ما عليه أوائل الصوفية من استقامة على المنهج الصحيح في موضوع الأسماء والصفات مع كثرة عبادتهم , ولكنه لم يلاحظ أنهم هم أنفسهم يخلطون في أمور التوحيد والعلم والعمل و فالكلاباذي الذي يوصف بأنه معتدل يعرف التوحيد " أن لا يشهدك الحق إياك " (1) وهو تعريف يحتمل الحق والباطل , ونجد القشيري يتكلم عن عصمة الأولياء , وأخطاء السلمي في التفسير عجيبة , وقصص الغزالي في الإحياء أعجب , حتى القدامى منهم كالجنيد والشبلي والمحاسبي لهم أخطاء واضحة , وهؤلاء يوصفون بالاعتدال .
وابن تيمية كثيراً ما يقرن بينهم وبين المتكلمين فيقول : هؤلاء انحرفوا في كذا , وهؤلاء انحرفوا في كذا , والمقصود طبعاً غلاة المتكلمين كالرازي والآمدي , و إلا فهل يقارن بين أبي بكر الباقلاني وأمثاله من متكلمي الأشاعرة وبين خزعبلات الصوفية , وأين علم أبي بكر ودفاعه عن الإسلام وفقهه من شطحات وغموض الصوفية ؟ ولذلك كان عالم آخر كابن عقيل صريحاً أكثر في رأيه عندما يقول : " والمتكلمون عندي خير من الصوفية لأن المتكلمين قد يزيلون الشك والصوفية يوهمون التشبيه , ومن قال حدثني قلبي عن ربي صرح بأنه غني عن الرسول صلى الله عليه وسلم (2) .
__________
(1) التعرف /135 .
(2) تلبيس إبليس / 375 .(57/86)
والقشيري يعتبر الصوفية أفضل الناس بعد الأنبياء والرسل , وهم غياث الخلق !! ولا أدري ماذا ترك للصحابة والتابعين والعلماء العالمين . وصدق الله تعالى : " كل حزب بما لديهم فرحون " (1) ولو أنصفوا وقاسوا أنفسهم بمقياس الشريعة المعصومة لعلموا أنهم مبتدعون , ولكنه التعصب والإعجاب بالنفس . والقضية ليست في قول فلان من الناس : هذا هو طريقي أو ما أرضاه لنفسي ولكن القضية أنه ليس هناك إلا طريق واحد هو الحق , طريق أهل السنة والجماعة , وليس بعده إلا الظلال .
ونحن ندعو دائماً مع الرسول صلى الله عليه وسلم :
" اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل , فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة , أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون , اهدنا لما اختلف فيه من الحق بإذنك , إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم " (2) .
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .
ملاحق البَّحث
( أ ) رأي العلماء في كتب الصُّوفية
كتاب ( إحياء علوم الدِّين ) لأبي حَامد الغزالي :
قال ابن تيمية : " الإحياء فيه فوائد كثيرة , كلن فيه مواد مذمومة فإنه
فيه مواد فاسدة من كلام الفلاسفة تتعلق بالتوحيد والنبوة والمعاد , وقد أنكر أئمة الدين على أبي حامد هذا في كتبه وقالوا : أمرضه الشفاء , يعنون ( كتاب الشفاء ) لابن سينا في الفلسفة , وفي الإحياء أحاديث وآثار ضعيفة بل موضوعة : كثيرة , وفيه أشياء من أغاليط الصوفية وترهاتهم , وفيه مع ذلك من كلام المشايخة الصوفية المستقيمين في أعمال القلوب الموافق للكتاب والسنة , وأما ما فيه من الكلام في ( المهلكات ) مثل الكلام على الكبِر والعجب والحسد فغالبه منقول من كلام الحارث المحاسبي في ( الرعاية ) , ومنه ما هو مقبول وما هو مردود " (3) .
__________
(1) سورة المؤمنون / 53 .
(2) جامع الأصول 4/188 , قال : أخرجه مسلم والترمذي وأبو داود والنسائي .
(3) الفتاوى : 10/ 551.(57/87)
وقال ابن الجوزي : " وإني لأتعجب من أبي حامد كيف يأمر بهذه الأشياء التي تخالف الشريعة , كيف يحل القيام على الرأس طول الليل , وكيف يحل إضاعة المال , وكيف يحل السؤال لمن يقدر على الكسب فما أرخص ما باع أبو حامد الفقه بالتصوف وسبحان من أخرجه من دائرة الفقه بتصنيفه كتاب الإحياء " (1) .
وقال أبو بكر الطرطوشي : " شحن أبو حامد كتاب الإحياء بالكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم , وما على بسيط الأرض أكثر كذباً منه شبكه بمذاهب الفلاسفة ومعاني رسائل إخوان الصفا " (2) .
وقال الذهبي : " فيه من الأحاديث الباطلة جملة , وفيه خير كثير لولا ما فيه من آداب ورسوم وزهد من طريق الحكماء ومخرف الصوفية " (3).
كتاب ( قوت القلوب ) لأبي طالب المكي :
قال الشاطبي : " لأبي طالب آراء خالف فيها العلماء , حتى أنه ربما
خالف الإجماع في بعض المواضع , لكن له كلام حسن في الوعظ والتذكير والتحريض على طلب الآخرة , فلذلك إذا احتاج الطلبة إلى كتاب طالعوه متحرزين , وأما العوام فلا يحل لهم مطالعته " (4) .
قال ابن كثير : " كان رجلاً صالحاً له كتاب ( قوت القلوب ) ذكر فيه
أحاديث لا أصل لها , بدّعه الناس وهجروه " (5) .
تفسير أبو عبد الرحمن السَّلمي:
قال ابن تيمية : " يوجد في كتبه من الآثار الصحيحة والكلام المنقول
ما ينتفع به في الدين , ويجد فيه من الآثار السقيمة والكلام المردود ما يضر من لا خبرة له , وبعض الناس توقف في روايته " (6) .
__________
(1) تلبيس إبليس / 353 .
(2) عبد اللطيف آل الشيخ : الرسائل 3/137 .
(3) المصدر السابق 3/140 .
(4) الإفادات والإنشادات / 44 .
(5) البداية والنهاية 11/319 .
(6) الفتاوى 1/578 .(57/88)
قال الذهبي : " له كتاب يقال له ( حقائق التفسير ) وليته لم يصنفه , فإنه تحريف وقرمطة , ودونك الكتاب فسترى العجب " (1) . قال الواحدي : " فإن كان اعتقد أن ذلك التفسير فقد كفر " (2) .
( ب ) الخلوات عند الطريقة الرِّفاعية
" يتقدم المريد إلى رتبة الجاويش أو المقدم بعد اجتياز خلواتها الأربعة :
الأولى : ثلاثة أيام والابتداء فيها يكون يوم الأحد .
الثانية : ثلاثة أيام والابتداء فيها يكون يوم الاثنين .
الثالثة : أربعة أيام والابتداء فيها يكون يوم الثلاثاء .
الرابعة : خمسة أيام والابتداء فيها يكون يوم الأربعاء .
ويفصل بين كل منها عشرة أيام .
وشرط الأكل فيها ألا يأكل المتريض إلا في الصباح والمغرب , ولا يزيد فيها على ما يسد الرمق , وبشرط ألا يدخل شيئاً ذا روح " (3) وأن يكون محجوباً عن الناس تماماً في مكان مخصوص طاهر لا يدخله أحد , ويشتغل بالذكر وهو ( يا حميد ) بعدد أقله ثلاثة آلاف مرة عقب كل صلاة , وفي الرياضة الثانية يكون ذكره ( يا رحيم ) أقله أربعة آلاف مرة , وفي الرياضة الثالثة ( يا وهاب ) وأقله خمسة آلاف مرة وإلى جانب هذه الخلوات المخصوصة , بمختلف الدرجات , على كل الإخوان في الطريق الرفاعي , وكل من أخذ العهد أن يقوم بخلوة سبعة أيام ابتداء من اليوم التالي من عاشوراء وشروطها صياح السبعة أيام المذكورة , ولا ينام في تلك الأيام السبعة مع عياله بفراش قطعاً ولا يأكل من ذي روح . وقد قال الرفاعي : إن خلوة السبعة سبب الفيض للسالك والمريد الصادق " (4)
__________
(1) محمد حسين الذهبي : التفسير والمفسرون 2/386 .
(2) المصدر السابق 2/386 .
(3) لاحظ أثر الهندوكية والنصرانية .
(4) عامر النجار : الطرق الصوفية 100/ 104 , وانظر : أبي المعالي الآلوسي في كتابه : غاية الأماني 1/230 .
ويعلق الدكتور الشيبي : " فهذه الأيام السبعة تعني إظهار الحزن الشديد على الحسين : كما يفعل الشيعة على صورة فيها مبالغة ولكن تقادم أنس أصحاب بالطريقة وغيرهم دلالات مراسمها فلم يلتفتوا إلى الممرات السرية التي تصلهم بالتشيع " . الطرق الصوفية / 104.
قال ابن خلدون : " قد كثر الزغل في أصحاب الشيخ أحمد وتجددت لهم أحوال شيطانية منذ أخذ التتار العراق مثل دخول النيران واللعب بالحيات , وهذا لا يعرف الشيخ ولا صلحاء أصحابه " . انظر غاية الأماني 1/371 .(57/89)
.
( ج ) ورد ( جَوهَرة الكمال ) في الطريقة التيجانية
" اللهم صل وسلم على عين الرحمة الربانية , والياقوتة المتحققة الحائطة بمركز الفهوم والمعاني ونور الأكوان المتكونة الآدمي , صاحب الحق الرباني , البرق الأسطع بمزون الأرياح المائلة لكل متعرض من البحور والأواني , اللهم صل على عين الحق التي تتجلى منها عروش الحقائق عين المعارف الأقوام , صراطك التام الأسقم , اللهم صل على طلعة الحق بالحق الكنز الأعظم . صلى الله عليه وسلم وعلى آله صلاة تعرفنا بها إياه " (1) .
( د ) كلمَات لأبي سُليمَان الداراني
" مفتاح الآخرة الجوع , ومفتاح الدنيا الشبع , وأصل كل خير في الدنيا والآخرة الخوف من الله تعالى " .
" ليس العبادة عندنا أن تصف قدميك وغيرك يفت لك ولكن أبدأ برغيفيك فاحرزههما ثم تعبد , ولا خير في قلب يتوقع قرع الباب , يتوقع إنساناً يجيء يعطيه شيئاً " .
" ما رأيت صوفياً فيه خير إلا واحداً عبد الله بن مرزوق وأنا أرق لهم ".
" من كان يومه مثل أمسه فهو في نقصان "
" لولا الليل ما أحببت البقاء في الدنيا , وما أحب البقاء في الدنيا لتشقيق الأنهار ولا لغرس الأشجار " (2) .
( هـ ) ترجمَة الحَلاج
__________
(1) علي الدخيل الله : التيجانية / 262 , وهذا عدا ما فيه من البدع أو الكفر فيه تكلف شديد تمجه الفطرة السليمة , وأكثر أوراد الطرق الأخرى فيها هذا التكلف .
(2) انظر : حلية الأولياء 9/259 – 263 وكذلك صفوة الصفوة 4/223 .(57/90)
قال ابن كثير : " ونحن نعوذ بالله أن نقول عليه ما لم يكن قاله أو نتحمل عليه في أقواله وأفعاله فنقول : هو الحسن بن منصور الحلاج , كان جده مجوسياً من أهل فارس , نشأ بواسط ودخل بغداد وتردد إلى مكة , وكان يصابر نفسه ولا يجلس إلا تحت السماء في وسط المسجد الحرام , وقد صحب جماعة من سادات الصوفية كالجنيد وعمرو بن عثمان المكي وأبي الحسين النووي قال الخطيب البغدادي والصوفية مختلفون فيه فأكثرهم نفى أن يكون الحلاج منهم وقبله بعضهم كأبي العباس البغدادي ومحمد بن خفيف وإبراهيم بن محمد وصححوا حاله .
حكى عن غير واحد من العلماء إجماعهم على قتله وأنه قتل كافراً . وكان مشعوذاً متلوناً فهو مع كل قوم على مذهبهم إن كانوا أهل سنة أو رافضة أو معتزلة أو صوفية أو فساقاً وغيرهم , وما زال يضل الناس ويسموه عليهم حتى ادعى الربوبية فسجن في بغداد وأجمع الفقهاء على كفره وزندقته وأنه ساحر ممخرق , قتل ببغداد بعد فتوى الفقهاء " (1) .
قال الاصطخري الحلاج كان رجلاً ينتحل النسك فما زال يرتقي به طبقاً عن طبق حتى انتهى به الحال إلى زعم أنه ممن هذب في الطاعة نفسه وأشغل بالأعمال الصالحة قلبه وصبر على مفارقة اللذات , ارتقى بها إلى مقام المقربين ثم لا يزال يتنزل في درج المصافاة حتى يصفو عن البشرية في طبعه وعندئذ يحل فيه روح الله الذي كان من عيسى بن مريم فلا يريد شيئاً إلا كان " (2) .
* * *
ثبت المراجع
ابن تيمية ... أحمد بن عبد الحليم
الفتاوى : ط . الرياض
اقتضاء الصراط المستقيم
درء تعارض العقل والنقل: تحقيق رشاد سالم
الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح
الاستقامة : تحقيق رشاد سالم
ابن القيم ... محمد بن أبي بكر
مدراج السالكين
إغاثة اللهفان
ابن الجوزي ... عبد الرحمن بن علي
صفة الصفوة
تلبيس إبليس
ابن عطاء الله السكندري ... لطائف المنن
__________
(1) البداية والنهاية 11/138 .
(2) آدم متز : الحضارة الإسلامية 2/63.(57/91)
أبو الحسن الأشعري ... مقالات الإسلاميين
أبو الحسن الأشعري ... اللمع
أبو نصر السراج ... المقدمة
ابن خلدون ... إسماعيل بن كثير
ابن كثير ... البداية والنهاية
الآلوسي ... أبو المعالي محمد شكري
غاية الأماني في الرد على النبهاني
الآلوسي ... نعمان خير الدين
جلاء العينين في محاكمة الحمدين
البقاعي ... برهان الدين
تنبيه الغبي لتكفير ابن عربي : تحقيق الوكيل
البيروني ... أبو الريحان محمد بن أحمد – تحقيق
ما للهند من مقولة : ط . حيدر أباد
الجيلاني ... عبد القادر – الفتح الرباني
الجرجاني ... التعريفات
الذهبي ... محمد بن أحمد بن عثمان
سير أعلام النبلاء : ط . مؤسسة الرسالة
ابن سعد ... الطبقات
الشاطبي
الشاطبي ... أبو إسحاق إبراهيم بن موسى – الاعتصام من البدع
الموافقات – الإفادات والإنشادات
الشيباني ... الإمام محمد بن الحسين
الكسب : تحقيق سهيل زكار
الشوكاني ... محمد بن علي – قطر الولي على حديث الولي : تحقيق إبراهيم هلال
الشعراني ... عبد الوهاب – الطبقات الكبرى
الرازي ... اعتقادات فرق المسلمين
الراغب الأصفهاني ... الحسين بن محمد – الذريعة إلى مكارم الشريعة
الكلاباذي ... أبو بكر محمد – التعرف لمذهب التصوف
احمد أمين ... ظهر الإسلام
إحسان إلهي ظهير ... الشيعة وآل البيت
خليل مردم بك ... يوميات الخليل
زكي مبارك ... التصوف الإسلامي في الآداب والأخلاق
سميع عاطف الزين ... الصوفية
شكيب أرسلان ... حاضر العالم الإسلامي
صديق بن حسن القنوجي ... أبجد العلوم
عامر النجار ... الطرق الصوفية
عبد الله سلوم السامرائي ... الغلو والفرق الغالية في الحضارة الإسلامية
عبد القادر عيسى ... حقائق عن التصوف
عبد الرحمن الإفريقي ... الأنوار الرحمانية لهداية الفرق التيجانية
عبد الرحمن بدوي ... الإنسان الكامل في الإسلام – شخصيات قلقة في الإسلام – من تاريخ التصوف الإسلامي – من تاريخ الإلحاد – شطحات صوفية(57/92)
د. مصطفى الشيبي ... الصلة بين التصوف والتشيع ط . دار المعارف
عبد الرحمن الوكيل ... هذه هي الصوفية ط . دار الكتب العلمية
علي بن محمد الدخيل الله ... التيجانية – نشر دار طيبة
مالك بن نبي ... مشكلة الأفكار
مصطفى صبري ... موقف العقل والعلم والعالم من رب العالمين
رشيد رضا ... تاريخ الإمام
ولي الله الدهلوي ... حجة الله البالغة
آدم متز ... الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري
الكسيس كاريل ... تأملات في سلوك الإنسان – نشرة جامعة الدول العربية(57/93)
الصُّوفِيَّةُ
والوَجْهُ الآخَر
د. محمّد جَميل غَازي
إعداد
عبد المنعم الجدَّاوي
http://www.saaid.net/
قام بنشر هذا الكتاب [شبكة الدفاع عن السنة]
الخطر الدائم على المسلمين
قال لي أحد الأطباء:
إن الجسم دولة حديثة.. عصرية.. كأحدث ما تكون الدول المعاصرة.. فحينما تدخل الجراثيم متسللة أو مقتحمة أي جسد لأي إنسان.. ماذا يحدث..؟ هناك أجهزة إنذار منتشرة في الخلايا بطول الجسم وعرضه.. هذه "الرادارات" مهمتها أن ترسل إلى أجهزة مقاومة الجراثيم والمتسللين.. معلنة عن مكان الاختراق.. ليس ذلك فحسب، وإنما لأجناس المخربين وأسلحتهم.. وتتحرك الكرات البيضاء نحو المنطقة المخترقة حاملة الأسلحة المضادة المناسبة. ولا تبدأ القتال قبل محاصرة المخربين وتطويقهم.. لتطمئن إلى عدم تسرب العدو المهاجم إلى داخل الجسد فيحدث ارتباكاً أو يتحول إلى طابور خامس.. يمزق الجبهة الداخلية التي يجب أن تظل صامدة.. ويبدأ الحصار ثم القتال، ولا تنتهي مهمة المقاومة عند قتل المخربين والقضاء عليهم.. بل لابد من طردهم من الجسد موتى أو مهزومين في شكل "تقيحات" يقذف بها الجسد خارجه!!
والدعاة في الإسلام.. هم الذين يتصدون لجراثيم الخرافة، والخزعبلات التي تقتحم جسم المسلمين بين الحين والحين، وعلى امتداد القرون.. لكن الجرثومة الكبرى التي نفثت سمومها في المسلمين ولم تفلح المقاومة في حصارها هي جراثيم التصوف، والصوفية.. فقد تفشت في أجساد المسلمين، وأرواحهم، وراحت تعيث فساداً، وهم في نشوة بها.. يترنحون ويرقصون ويتلوون على نغمات دفوفها ومزاميرها، ويحاول الدعاة أن يحاصروها أو يوقفوا عدوانها على بقية أعضاء الجسد لكن الحقيقة تقول إن الدعاة إذا ما حاصروها في عضو تسللت إلى بقية الأعضاء.. وتحصنت فيها وحشدت هي المناطق التي تصيبها لمقاومة الدعاة.. تماماً كالجراثيم التي تنتظر الدواء.. لتتربص به وتقضي عليه حتى تظل وحدها منفردة بالجسم الذي ابتلى بها!!(58/1)
والمكروبات الصوفية تمكنت من جسد المسلمين.. وزيفت عليهم الإسلام، وهي ميكروبات لا تؤثر على منطقة دون منطقة.. فأخطر ما فيها أنها تفتك أول ما تفتك بالقلب.. ثم البصر.. ثم السمع.. ثم تطرد العقل نهائياً وتبقى هي مسيطرة تصنع للقلب ما يخفق به، وللبصر ما يراه، وللسمع ما يسمعه.. في سلسلة من الأوهام لا تنتهي.. حلقات متصلة.. الأصل فيها التخلي عن العقل.. والرضوخ الكامل المصحوب بنشوة اختراق الحدود والسدود الموهومة فيرقص المريض ما شاء له الرقص.. أو يترنح ما حلا له الترنح متصلاً بالكون أو منفصلاً عنه.. ظاناً أنه أوتي ما لم يحظ به الأنبياء والرسل، واقترب وهو على الأرض من ملكوت السماء!
مخالفاً بذلك لب "أصدق الحديث" متباعداً عن "هدى السنة" مدعياً أن المسلمين وقفوا عند حدود العبارات الجامدة.. أما الصوفي فقد اجتاز هذه الحدود على أجنحة الحب أو الانفتاح الكوني الإلهي الذي خصه به الله، وقد يتمادى بعضهم ويزدهيه انبهار الناس به فيمضي في الضلال يرفض أن يصلي كما يصلي الناس.. أو يتوضأ كما يتوضأ الناس، وذلك لنه عرف ما لا يعرفه الناس، والذي لا شك فيه أنه كلما استبدت به "فيروسات" الصوفية كلما أمعن في هذه المخالفات التي لابد أن تنتهي بصاحبها إلى الضلال البعيد!!
ويحاول الدعاة في كل عصر، وفي كل مصر التصدي لهذا المد الهمجي لكن محاولاتهم الشريفة.. كثيراً ما تستشهد على عتبات هؤلاء العتاة الجبابرة الطواغيت.. فهم يسيطرون على مريديهم، وأتباعهم بأساليب رهيبة لم تصل إليها أساليب أكبر الدول الحديثة في تجنيد العملاء، والجواسيس في مخابراتها!!(58/2)
والدكتور محمد جميل غازي فيلق وحده من فيالق مقاومة الصوفية، ورائد من دعاة التوحيد.. وهو لا يقف بجهوده عند الدعوة في مسجد العزيز بالله "المركز الإسلامي لدعاة التوحيد والسنة" ولا في الجماعات الأخرى التي يرأسها أو التي تدعوه لإلقاء محاضراته.. لكنه وهذا ما يتميز به – يتخذ من هذه الدعوة، وتلك المقاومة أسلوب حياة، ونمط معايشة يعيشها لرسالة التي وهب نفسه لها!!
فهو إذا دعي إلى حديث في الإذاعة ظل يدفع الحديث في حلاوة وطلاوة ويسر وسهولة إلى أن ينشب أظافره في الصوفية، والصوفيين حتى يجردهم من زيفهم، وإذا تحدث إلى صحيفة من الصحف أراد محررها أو لم يرد أخذ الحديث صوب موضوع عمره، وهدف حياته.. محاربة البدع، والضلالات، وتحدث عن الصوفية وعن تخريبهم لعقليات المسلمين.. وهو يقول ذلك في ذكاء يحمل الصحفي على النشر، ويربط الجريدة بقرائها ويرغم المذيع أو صاحب البرنامج على مواصلة الحديث معه.. لأن المستمعين يمطرونه برسائلهم التي يطالبون فيها باستضافة ذلك المتحدث مراراً وتكراراً.
وبعضهم قد يأخذ على الدكتور محمد جميل غازي إسرافه في هذه الناحية، وتجاوزه كل حد في حماسه، وتكريسه جهده لمقاومة الصوفية والصوفيين.. كأنما الدنيا خلت من كل المشكلات إلا هذه المشكلة!!
والحقيقة أنني كمسلم أرى أن هذا الرجل هو النموذج الحي للداعية.. ذلك الذي تحولت كل قطرة دم فيه إلى رسالته التي وهب نفسه لها.. فهي ليست عنده وظيفة ينتهي الحماس لها بانتهاء ساعات العمل أو هواية يمارسها في أوقات فراغه إنها عنده فوق كل ذلك.. فهي الهواء الذي يتنفسه، وهي الحياة التي يحياها، وهي الأمل الذي يعيش من أجله، وهي نهاره وليله، وشغله الشاغل.. ومن أجل ذلك كان الدكتور محمد جميل غازي يتميز عن بقية الدعاة ويختلف عنهم.. لا أقول خيرهم.. أستغفر الله.. ولكني أقول غيرهم، وله مذاق خاص ولعباراته طعم قد لا تجده عند غيره إذا قالها غيره!(58/3)
ولهذا كله مجتمعاً ومنفرداً.. كان في استطاعة هذا الرجل اجتذاب مئات وآلاف القلوب إلى رسالة التوحيد، ونبذ الخرافات، والخزعبلات، وفي مقدمتها الصوفية، وهي ليست بالمهمة السهلة، لا سيما اجتذاب الغلاة في "القبورية"، والصوفية.. وكاتب هذه السطور كان واحداً منهم.
إن اجتذاب كافر أو صاحب دين كتابي غير الإسلام.. إلى الإسلام أيسر بكثير من تصحيح عقيدة مسلم قبوري أو صوفي.. ذلك لأن القبوري أو الصوفي يتحصن، ويعتصم بالجهل الذي يعيش فيه، وهو يظن أنه وحده الذي يخوض بحار الأنوار التي كشفت له دون سائر البشر.. أما دعوة التوحيد فهم قساة غلاظ.. لم يصلوا بعد إلى شفافية الصوفية "وهلاوسهم".
ختاماً أريد أن أقول: إنه لزاماً عليّ وَرَداً لما أسداه إلي الدكتور محمد جميل غازي من جميل.. ويكفي أنه كان سبباً مباشراً في تصحيح عقيدتي.. وحرصاً مني على أن يستفيد غيري من بقية المسلمين، وأن يعودوا إلى تصحيح عقيدتهم بالتوحيد.. ومساهمة مني في جمع جهوده المبعثرة أشتاتاً، والتي نختصم مراراً من أجلهم، وأني أشهدكم أيها القراء عليها.. أقحم نفسي عليه وأجمع هذه الأحاديث الصحفية التي أدلي بها في مناسبات مختلفة في "القاهرة" وفي دولة "عمان"، وفي "السعودية".. وكلها تدور حول الصوفية، والصوفيين.. وأحاول بجهد متواضع أرجو أن يوفقني الله فيه.. تبويبها، وإعدادها حتى تعم فائدتها، ويسهل تداولها راجياً من الله القبول والثواب.
الصحفي
عبد المنعم الجداوي
المستشار الثقافي للمركز الإسلامي
لدعاة التوحيد والسنة
القاهرة في غرة رمضان 1400ه
كيف .. ولماذا ..
تجتذب الصوفية الجماهير ؟!(58/4)
إن شغف الناس بالأساطير، وولع الجماهير بالأمور الغيبية التي يسمعون أن بعض الآدميين سيطروا عليها، وأخضعوها لرغباتهم.. هذه الأخبار تستولي على وجدانهم وتترسب في أعماق النفسية الجماعية لهم، وتكمن داخل كل فرد.. لا إيماناً فقط بالمكشوف عنهم الحجاب، ولا حباً لهم.. ذلك الحب الذي يفوق كل تعصب.. لكن لرغبات تنطوي عليها جوانحهم.. فلا يستطيعون الكشف عنها!!
تلك هي آمالهم في أنهم قد يملكون يوماً ما هذه القدرة! مادامت قد منحت لبشر مثلهم لا يزيدون عنهم باصطفاء، ولا باجتباء فهم من آباء مثل آبائهم، وأمهات مثل أمهاتهم، ويركز هذا الأمل في أعماقهم، ويدعمه أنهم يسمعون من شيوخهم.. أن ذلك ليس ببعيد أن يصيبهم.. بشرط واحد هو أن ينصاعوا، وأن يذعنوا، وأن يقدموا مزيداً من الطاعة لشيوخهم، وكثيراً من الهبات الدسمة، وأن لا يتوانوا عن ترديد هذه الخزعبلات.. فكل هؤلاء الأقطاب.. كانوا مثلهم مريدين صغاراً.. ثم تدرجوا!!
النفسية الجماعية المريضة هي الأصل !!
إن واقع النفسية الجماعية.. عند هؤلاء الذين يسقطن صرعى في أيدي المتصوفة يقرر أنهم نفوس عاجزة متهورة.. ضلت الطريق إلى السند الأول والأخير.. وهو التوحيد، والإيمان العميق بالله وحده، وبرسوله - صلى الله عليه وسلم -، وحينما التمسوا غير الله سنداً ازداد عجزهم، وسألوا غيره أمناً فازدادوا خوفاً، ولجئوا إلى سواه هرباً من القلق فازدادوا جنوناً!
هؤلاء يتحولون إلى مجانين اكتمل جنونهم بكل المقاييس.. مطحونين بين آمال دفينة في كياناتهم لا تتحقق.. ليس هذا فقط، وإنما يحذرون أن يكشفوا عنها.. فلابد أن يظهروا الزهد.. ورغبات ظنوا أنها باتت على أطراف أناملهم، فإذا بالأيام تمضي دون أن ينتهي بهم الطريق إلى شيء!(58/5)
ويزداد تعلقهم بشيوخهم.. موتاهم وأحيائهم.. يقطعون الليل في تلاوة الأوراد، ويلهثون نهاراً جرياً خلف مسيرة الأقطاب! تمزقهم اللهفة، وتسحقهم الحيرة.. يسألون هل أصبحوا من الواصلين؟ ومتى يضعون قبضتهم على أسرار الكون؟ فيحولون التراب إلى ذهب؟ ويأكلون الأطعمة اللذيذة، ويتزوجون الجميلات؟
وسياط الأمل في الوصول تطاردهم، وإغراءات المشايخ تدفعهم.. وهم يتساقطون من الداخل يوماً بعد يوم.. حسرة على أحلام بدا واضحاً أنها لن تتحقق، وأوهام أصبحوا أسرى قيودها.. تزداد حلقاتها ضغطاً كل لحظة.. وقنوط امتزج بجثة رجاء مشلول.. يموت قطعة بعد قطعة!
فيتحولون إلى المرحلة الثانية.. محاولة إدراك الآخرة مادامت الدنيا قد أفلتت منهم، وحتى هذه ليست عن إيمان خالص، ولكنها محاولة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه.. ثمناً للعمر الذي ضاع في أوهام، وضح بعد فوات الأوان أنها كاذبة.
بعضهم تتخلخل صلته بمشايخه في هذه المرحلة، ويفلت إلى كل موبقات الدنيا.. يعب منها قبل أن يفقد القدرة حتى على ارتكاب المعاصي.
وبعضهم يزداد التصاقاً بالشيوخ، والتمرغ تحت أقدام الأقطاب.. أملاً في الآخرة، فهو لا يريد أن يخسر الدارين، ويزداد جنوناً ويستغرق في أحلام اليقظة، ويقبل على التلفيق، وفي زحمة عشرات النوازع التي تنتابه يهرف أو يخرف.. فينسب لنفسه كرامات يلفقها أو يتخيلها.. صيانة لنفسه من الضياع.
تلك هي مرحلة الانسحاق الكامل لهذا الإنسان المحبط.. الذي أعطى حياته للأوهام.. فليس أماه إلا أن يغرق فيها ليستريح.. فيهيم ضالاً ومضللاً.. ينسج الخرافات، ويستمع إليها ويفلسفها ويبررها ويطرب لها.(58/6)
ذلك لأن الالتواءات النفسية التي انتابته قوضت الكثير من أركان سلامته النفسية.. فلم يعد سليماً ولا سوياً.. وإلا فكيف يقبل مثل هذه النصوص التي لا يقرها غير مجنون محترف مكانه مصحات الأمراض العقلية.. هل يمكن أن يستمع عاقل إلى أن الرفاعي التقى "بالسيد البدوي" فقال له: أريد المفتاح؟ فرد عليه بأن بين يديه مفاتيح الشام، والعراق، ومصر، والهند، والسند فليأخذ ما يريد.. لكن "الرفاعي" قال: لا آخذ المفتاح إلا من يد الفتاح.. (وهذا سجع ممجوج من سجع أيام انحطاط لغة الكتابة في العصر المملوكي) فقال له: اذهب إلى مكان كذا سوف تجد يداً هابطة من السماء تحمل المفتاح فخذه.. وذهب "الرفاعي" فوجد اليد فقبلها وأخذ المفتاح.. ثم عاد إلى "السيد البدوي" فقال له "البدوي": هل تعرف اليد التي قبلتها؟ قال: نعم.. فمد له يده فوجدها هي.
هذه القصة الساذجة المتناهية في السذاجة، وهي تهدهد الوجدان المعطوب لا يمكن أن يطرب لها سوى الإنسان المريض وجدانياً وعقلياً، ومن المستحيل أن يقتنع بها أي إنسان – إذا إذا كان مبيتاً النية – على أن ينتهي إلى هذه القدرة الخارقة يوماً ما.. حتى ولو لم يعلن عن ذلك.. وقد تمتلئ أعطافه بهذه الرغبة من وراء ظهر عقله الواعي.
ولما لم يكن من حقه أن يحسد الذي نالها أو يحقد عليه فهو يندفع عاطفياً نحوه.. يتوله في حبه، ويتفانى في الالتصاق به عساه أن يكشف له ذلك القطب يوماً ما عن الأسرار!
وهكذا تدور طاحونة الصوفية.. تطحن الشيوخ والمريدين.. يطحن بعضهم البعض، ويفسدون المسلمين السذج جيلاً بعد جيل، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً!!
الجولة الأولى
الصوفية يستبدلون التوحيد
بوحدة الوجود !!
ماذا في هذا العالم الغامض.. الصوفية ؟!
كيف يمشون على الماء ويطيرون في الهواء ؟!
هل هي بقايا مجوسية؟ وبوذية؟ ويهودية !!(58/7)
الشيخ والصحيفة.. أما الشيخ فهو الدكتور محمد جميل غازي، وأما الصحيفة فهي "تعاون الفلاحين" التي تصدرها دار التعاون للطبع والنشر بالقاهرة.
وهي الجريدة التي توشك أن تكون شبه رسمية لاشتراك أربعة آلاف جمعية تعاونية من جمعيات الفلاحين فيها وهم الذين يكونون ثلاثة أرباع الشعب المصري، وهم الأوتاد التي تجتاحها الصوفية والقبورية وتعتبرهم الطرق الصوفية المحطات التي تعمل ليل نهار.. بلا توقف وبلا انقطاع.. في تضليل الناشئين، والبالغين.. أما الكبار فقد تم منذ سنين إفساد عقائدهم وانتهى الأمر، ولا حول ولا قوة إلا بالله العظيم.
والتاريخ هو على وجه التحديد أواخر شهر يوليه من عام 1975م، وهبطت الفكرة على رأسي.. الزميلين كمال فرغلي المحرر بدار التعاون وعبد الحميد الخواجة.. لقد بدا لهما، وهما يعملان في مجلة للفلاحين.. تدافع عن مصالحهم، وتهتم بالأرض، والصحة الزراعية، والجسدية.. أن يهتما أيضاً بالصحة الدينية، وتصحيح عقيدة هذه الملايين.. من قراء الجريدة.. وبعد أن وافق مجلس التحرير على اقتراحهما بشأن عمل سلسلة من الأحاديث حول الصوفية مع "الدكتور محمد جميل غازي" حاولا الاتصال به لإغرائه على الكلام، وهو واحد من الذين يهربون من التحدث إلى الصحفيين.. هروب الإنسان من الوحش المفترس.
ذلك لأنه هو ذاته كان يوماً ما ممارساً للصحافة.. ويدرك أنه مهما كانت درجة أمانة المحرر فهو لابد وبحكم الصنعة أن يضيف أو يحذف من حديث المتحدث.. وهو يتكلم في مسائل شائكة، والحذف أو الزيادة فيها.. قد يؤدي إلى جهنم.. وأخيراً وبعد أن اقتنع بأن إحجامه سوف يحرم الملايين من الفلاحين، وأن إقدامه سوف يتيح له أن يتحدث إلى أخوة له في صميم الريف لن يتيسر له أن يلقاهم أو يلقونه إلا بشق الأنفس.. امتثل من أجل محاولة شرف الوصول إلى الناس في دورهم، وجمعياتهم، وجلساتهم الخاصة.(58/8)
ولقد أسعده أن يكتب إليه الكثيرون منهم، وزاد في سعادته أن يجيب على بعضهم في خطابات خاصة، واضطرت إدارة الصحيفة أمام سيل البرقيات، والتليفونات، والخطابات.. أن تمتد بالحوار إلى ثلاثة أعداد متوالية، وذلك قلما يحدث في أي صحيفة.. ثم اضطرت وتحت ضغوط الفلاحين والذين أبرقوا من كل مكان في أنحاء البلاد.. أن تواصل الحديث في أعداد أخرى تضمنت الردود والاستفسارات والتأييدات.. وكان ذلك بالنسبة للزميلين الصحفيين يعتبر عملاً صحفياً ناجحاً.. لا يتكرر في حياة أي صحفي.
ونحن إذ ننقل الأحاديث الثلاثة برمتها.. نتوخى الفائدة التي نرجوها من إعادة النشر، وتركيز جهود "الدكتور" المبعثرة.. أو بعضها.. وإليك التحقيقات الصحفية في الصفحات التالية.
الطرق الصوفية.. هذا العالم الغامض الذي تحيطه الأسرار وتتناقض من حوله الأحكام. ما هي رسالتها وكيف نشأت؟ ماذا يقول فيها المؤيدون والمعارضون؟.. هل هي بدعة افتريت على الإسلام لا تجد لها سنداً في كتاب الله وسنة رسوله كما يقول المعارضون؟.. أم هي الإسلام في شفافيته ونقائه كما يقول المؤيدون؟.. هل هي منهج وأسلوب في العبادة حافظ على الدعوة الإسلامية وساهم في نشرها كما يذهب المؤيدون؟ أم هي مجموعة من الأوهام والخرافات تعطي انطباعات خاطئة عن الإسلام والمسلمين وتتحمل المسؤولية التاريخية والحضارية في تخلف المنطقة الإسلامية كما يتهمها المعارضون؟.. هل هي ضرورة دينية لتقويم السلوك وإحياء الروح وهداية القلوب؟ أم هي دعوة للتواكل وتجميد ملكات الفكر والإبداع ساعدت على انحراف الشباب وهروبه من المجتمع ومن الدين ؟
ثم لماذا تتعدد هذه الطرق الصوفية بحيث بلغ عدد الطرق ذات الطابع الرسمي 66 طريقة بالإضافة إلى عشرات أخرى غير رسمية؟ وما هي أوجه الاختلاف فيما بينها وما هي نقاط الالتقاء؟(58/9)
وهؤلاء الأجلاء مشايخ الطرق الصوفية مع ما نكنه لهم من احترام.. ما حجم سلطانهم الروحي على المريدين؟ ومن أين يستمدون هذا السلطان؟ وما مدى الحقيقة فيما يقول به بعض مشايخ الصوفية من أن البركة لا تأتي إلا بواسطة شيخ ينقل البركات إلى المريدين، وأن من لا شيخ له فشيخه الشيطان؟
قضايا قديمة اختلفت حولها الاجتهادات، وتصارعت حولها الآراء، تعبر عن نفسها بالحدة تارة وباللين تارة أخرى.. يصمت الجدل حولها فترة لينبعث من جديد.
إن "التعاون" تفتح باب المناقشة في هذه القضايا وتدعو لإجراء حوار صريح مفتوح وبلا حساسيات، يشارك فيه علماء الدين، ورجال الفكر لحسم هذه القضايا وبيان مدى ما فيها من حق وصدق تدعيماً للعقيدة الإسلامية.
وحول هذه القضايا كان "للتعاون" لقاء مع فضيلة الدكتور محمد جميل غازي إمام مسجد العزيز بالله بالزيتون ورئيس جماعة التوحيد، وكان لفضيلته آراء جريئة فيما طرحناه من تساؤلات، نستأذن قبل أن نعرضها في كلمة لابد منها عن رسالة مسجد العزيز بالله.
تقوم رسالة هذا المسجد أساساً على تعميق عقيدة التوحيد وتنقيتها مما علق بها من شوائب، والحرص على إقامة الشعائر التعبدية على أساس من السنة المحمدية الشريفة.. وينهج فضيلة إمام المسجد في خطبة الجمعة ودرس ما بعد الصلاة منهجاً فريداً يرتكز على تفسير وشرح آيات القرآن الكريم بالتتابع والتسلسل طبقاً لترتيب المصحف الشريف، ويتخذ منها منطلقاً لدعوته إلى التفهم الصحيح للإسلام، وترسيخ عقيدة التوحيد.. وهو منهج يلقى – للحق والأمانة – استجابة واسعة لدى جمهور المصلين، ومعظمهم من الشباب المثقف الذي يتزاحم داخل المسجد وخارجه، حاملاً معه أجهزة التسجيل.
كما يخصص المسجد درس الثلاثاء من كل أسبوع لشرح الأحاديث والسنة النبوية، وبيان ما بها من معان وأحكام.(58/10)
كما ينظم المسجد مؤتمراً إسلامياً يشارك فيه الكثير من العلماء، ورجال الفكر الديني لمناقشة قضايا الإسلام وإبراز الحضارة الإسلامية.
ولندع الآن الحديث عن رسالة المسجد التي يلخصها فضيلة الدكتور محمد جميل غازي في عبارة واحدة يرددها دائماً وهي "أن يسلم المسلمون".. ولنستمع إليه يتحدث عن قضايا الصوفية.
يقول: إن الصوفية شيء والإسلام شيء آخر! ولا يقول باجتماعهما إلا من يقول باجتماع الظلمة والنور، والأسود والأبيض، والحق والباطل، والهدى والضلال!!
ثم يتساءل: هل وردت كلمة "صوفية" في كتاب الله؟ أو هل جاءت على لسان الرسول عليه الصلاة والسلام، رغم أنه صلوات الله عليه وسلامه لم يترك كبيرة أو صغيرة من أمر ديننا أو دنيانا إلا وتعرض لها؟! هل عرفها الصحابة رضوان الله عليهم؟ ولماذا نرفض تسمية الله، وهو تعالى يقول: { هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ } [الحج: 78] الآية، ولماذا نسلك منهجاً لم يرد في كتاب الله ولا في سنة رسوله، والله جل شأنه يأمرنا بقوله تعالى: { وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا } [الحشر: 7].
الوحدة ضد التوحيد:
ونستوقف فضيلته لنسأل: وهي خرج الصوفية عن الالتزام بما جاء به الرسول عليه الصلاة والسلام؟ أليس العكس هو الصحيح؟
إن الصوفية فيما نرى، ويرى معنا الكثيرون دعوة للتفاني في محبة الرسول الكريم والاقتداء به.. صحيح أن لهم بعض الشعائر الخاصة، ولكنهم يمارسونها تحقيقاً للسعادة، وابتغاء السمو بالروح ولمزيد من التقرب إلى الله جل في علاه.(58/11)
ويجيب فضيلته في حدة: ليست هناك أرستقراطية في الإسلام، وليست هناك خصوصيات في دين الله.. وإذا كان الصوفية يقتدون حقاً برسول الله، فلماذا يدخلون على الإسلام ما ليس فيه، والرسول العظيم يقول: ”تركتكم على المحجة البيضاء ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك“ وأمامنا قول الإمام مالك رحمه الله: (من ابتدع في الإسلام بدعة يراها حسنة فقد زعم أن محمداً - صلى الله عليه وسلم - خان الرسالة، لأن الله جل شأنه يقول: { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا } [المائدة: 3]).
ويستطرد د. جميل غازي قائلاً: إن الصوفية لم يكتفوا بالخروج على سنة رسول الله صلوات الله وسلامه عليه، بل إن عقائدهم تتصادم أساساً مع جوهر الإسلام.. فالصوفية يقولون بوحدة الوجود، ويرون أن الوجود حقيقة واحدة لا فرق في نظرهم بين الحق والخلق، وهو قول مضاد للإسلام وعقائده.
ولعل فضيلته قد لمح في نظرتنا غير قليل من الشك والدهشة.. فيقوم إلى مكتبته الحافلة ويعود منها بمجموعة مجلدات ويقول: هذه مجموعة من كتب أئمة الصوفية وشيوخها، تعالوا بنا لنتعرف على ما احتوته من أفكار حتى لا يقال أنني أشوه الحقائق، أو أحرف الكلم عن مواضعه، وتعالوا نقرأ ما يقوله (ابن عربي) شيخ الصوفية الأكبر في كتاب "الفتوحات المكية).. هاهو يعبر عن اعتقاده بوحدة الوجود بقوله: "سبحان من خلق الأشياء وهو عينها".
وأضاف قائلاً: ولما كان الله في نظر (ابن عربي) هو المخلوقات والمخلوقات هي الله فحينئذ تكون العبادة عنده متبادلة.. ويعبر عن ذلك بقوله:
" فيحمدني وأحمده .... ... ويعبدني وأعبده " ...
ثم يذهب شيخ الصوفية الأكبر بعد هذا إلى القول بوحدة الأديان، لا فرق لديه بين سماويها، وغير سماويها فيقول في ذلك:
وقد كنت قبل اليوم أنكر صاحبي ... إذا لم يكن ديني إلى دينه داني(58/12)
فأصبح قلبي قابلاً كل حالة ... فمرعى لغزلان ودير لرهبان
وبيت لأوثان وكعبة طائف ... وألواح توراة ومصحف قرآن
ويعلق فضيلته على ذلك بقوله: هكذا حارب شيخ الصوفية الأكبر عقيدة التوحيد الإسلامية بنظرية الوحدة التي قال بها واعتنقها وفتن معه بها أناس كثيرون.
ثم يواصل فضيلته عرض نماذج أخرى من أفكار أئمة الصوفية فيقول: إن "الجيلي" وهو من كبار مشايخ الصوفية – يعلن في صراحة أو وقاحة – أنه إله الكون الأعظم فيقول في كتاب "الإنسان الكامل 1/22":
لي الملك في الدارين لم أر فيهما ... سواي فأرجو فضله أو فأخشاه
وقد حزت أنواع الكمال، وأنني ... جمال جلال الكل، ما أنا إلا هو
إلى أن يقول:
وإني رب للأنام وسيد ... جميع الورى اسم، وذاتي مسماه
أما "الحلاج" – وهو إمام من أئمة الصوفية – فإنه يقول في كتاب (الطواسين/34) :
أنا من أهوى ومن أهوى أنا ... نحن روحان حللنا بدنا
فإذا أبصرتني أبصرته ... وإذا أبصرته أبصرتنا
طبقات الشعراني والشذوذ بأنواعه !!
ثم هذا هو "النابلسي" يقول معقباً على قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ} [الفتح: 10]: أخبر تعالى أن نبيه محمداً - صلى الله عليه وسلم - هو الله تعالى وتقدس، وبيعته هي بيعة الله، ويده التي مدت للبيعة هي يد الله.. كما يقول في تفسير قول الله تعالى لموسى { } [طه: 13] بأن تكون أنت أنا وأكون أنا أنت !!
وقبل أن يمضي الدكتور جميل غازي في عرض نماذج أخرى لأفكار الصوفية ومعتقداتهم في وحدة الوجود نستوقفه لنسأل: ما لنا ولهذا الهراء الذي مضى وانقضى ؟ ولماذا نضيفه على حساب الصوفية ونبني عليه اتهامنا لهم بالتناقض مع الإسلام ؟
فيجيب: لأن الصوفية ما زالوا يتعبدون بهذا الكلام في مساجدنا ومازالت هذه الأفكار هي التي تسود حلقاتهم وأذكارهم، ويستشهد بأحد الأوراد الذي ينشده دائماً المنتسبون إلى الشاذلية والذي يعبر عن وحدة الوجود.(58/13)
"اللهم انشلني من أوحال التوحيد، وأغرقني في عين بحر الوحدة حتى لا أرى ولا أجد ولا أحس إلا بها".
ثم يضيف فضيلته بصوت تمتزج فيه السخرية بالمرارة بأن ما كتبه هؤلاء المشايخ بما فيه من خبل وهوس مازال حتى يومنا هذا هو الدستور السائد بين الصوفية الذي تستند إليه معتقداتهم، ويصوغ مناهجهم في العبادة، ويضرب على ذلك مثلاً بكتاب الطبقات الكبرى للشعراني.. ويقول: إنه كتاب متداول بين الصوفية يأخذون منه ثقافتهم ومعرفتهم بالله فماذا يحتويه هذا الكتاب ؟ دجل وخرافة ومجون وجنون.. وماذا عرض الشعراني في كتابه هذا عن أولياء الصوفية وكراماتهم؟.. لا شيء سوى الخرافة والشذوذ الجنسي والقذارة ثم يدعونا إلى جولة في هذا الكتاب لنرى الشعراني يصف أحد أوليائه فيقول:
وكان رضي الله عنه يلبس الشاش المخطط كعمامة النصارى وكان دكانه منتناً قذراً لأن كل كلب وجده ميتاً أو خروفاً يأتي به فيضعه داخل الدكان، فكان لا يستطيع أحد أن يجلس عنده.
ثم يعقب فضيلته: بأن الشعراني لا يكتفي بهذا من كرامات سيده الشيخ فيضيف: إنه توجه إلى المسجد فوجد في الطريق مسقاة كلاب فتطهر فيها، ثم وقع في مشخة حمير.
ثم يواصل قراءة ما جاء بكتاب الطبقات عما يقوله الشعراني عن "أبي خوزة".. وكان رضي الله عنه إذا رأى امرأة أو أمرداً (شاب بلا لحية) راوده عن نفسه وحسس على مقعدته سواء كان ابن أمير أو ابن وزير ولو كان بحضرة والده أو غيره ولا يلتفت إلى الناس.
ويقرأ عما يتحدث به الشعراني عن سيده (علي وحيش) فيقول: "وكان إذا رأى شيخ بلد أو غيره ينزله من على الحمارة ويقول له أمسك رأسها حتى أفعل فيها فإن أبى شيخ البلد تسمر في الأرض لا يستطيع أن يمشي خطوة".(58/14)
ويعقب فضيلته على ذلك بقوله.. هذه بعض كرامات الصوفية المخففة التي تسمح الآداب العامة بذكرها دون أن نتعرض لنماذج أخرى فاضحة امتلأ بها كتاب الطبقات الكبرى للشعراني، وهو كتاب أطالب بإعدامه لما اشتمل عليه من خزي وتشويه للعقيدة.
زوجات الصوفيين أرامل !!
وكان لابد لنا من لحظة صمت لنسترد فيها أنفاسنا اللاهثة ونجمع فيها شتات أفكارنا التي تبعثرت أمم هذا السيل من الخرافة والخبل لكي نعود فنسأل: إذا ما تجاوزنا عن هذه الخرافات والأفكار المشبوهة التي جاءت يقيناً نتيجة لدسائس التيارات والفلسفات المعادية للإسلام، ألم تؤد الصوفية دورها – كما يرى الكثيرون – في خدمة الإسلام وحمايته في مواجهة الفكر الوثني المادي.
ويجيب فضيلته متسائلاً: كيف يمكن للصوفية أن تخدم الإسلام وهي تتعارض معه أساساً، ثم كيف لها أن تحميه وهي دعوة صريحة للتواكل والانعزالية بينما الإسلام دعوة للعمل والجهاد؟.. ثم يضيف أن الله جل شأنه قد استخلفنا في الأرض لنعمرها بإذنه ومشيئته والقرآن العظيم حافل بالآيات الكريمة التي تدعو للجهاد والتعمير بالحق والعدل والخير، والرسول الكريم صلوات الله عليه يدعونا للجهاد ويقود رايته، ويأمرنا بالعمل ويسبقنا إليه، ويقول صلوات الله وسلامه عليه في حديث شريف:
”إن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة (النخلة الصغيرة) فإن استطاع أن لا تقوم حتى يغرسها فليغرسها“.
ويضيف.. هذا ما يأمر به الإسلام ويدعو إليه، فبماذا تدعو الصوفية!؟ وماذا تطلب من المريد ليكون من الأولياء؟ لنقرأ مما يقوله الشعراني في كتابه (الطبقات) :
"لا يبلغ الرجل إلى منازل الصديقين حتى يترك زوجته كأنها أرملة، وأولاده كأنهم أيتام، ويأوي إلى منازل الكلاب".(58/15)
ثم يعقب فضيلته متسائلاً: أليست هذه دعوة خطيرة لا تخدم إلا أعداء الإسلام؟ ألا نجد في هذه الدعوة تفسيراً واضحاً لما لاقته الصوفية من ترحيب وتشجيع من جميع الأنظمة الاستعمارية التي تعاقبت على المنطقة الإسلامية ؟
ثم ما الذي يتحقق إذا حصل المريد على واحدة من منازل الصديقين التي أطلق عليها الشعراني منازل الكلاب.. يقول الصوفية: تطوى له الآفاق ويصبح البعيد قريباً، أو بعبارة أخرى يصبح من أهل الخطوة أولئك الذين يطيرون في الهواء ويمشون على الماء..
ويعلق فضيلة الدكتور غازي بقوله: هذا هو أفك الصوفية.. إن العالم حولنا قد قطع أشواطاً بعيدة المدى في طريق التقدم العلمي والحضاري، وحقق انتصارات مذهلة.. وهذه هي آثار أقدامه فوق القمر وفي أعماق المحيط وفي كل مكان في أرض الله.. ونحن.. أين نحن ؟ تائهون غارقون نقنع بأن نقبع في زوايا ضريح، نردد التوسلات، وندعو أصحاب القبور لحل مشاكلنا، ونجتر ذكرياتهم في المشي على الماء أو الطيران في الهواء.. ويضيف: إن أي صوفي تلقاه مهما علا مركزه، وعلت درجته العلمية تجده إنساناً يعادي العقل والنقل والعلم والحضارة، ويردد شعار "مجانين ولكن على أعتابنا سجد العقل".
ثم يتساءل فضيلته: أليس في هذا كله تخريب لملكات التفكير التي فضل الله بها الإنسان على كثير من مخلوقاته؟ ثم ألا يعد ذلك مسؤولاً عن تأخر الأمة الإسلامية وإفساد عقول شبابها.
في الإسلام وحده السمو النفسي !(58/16)
وهنا نقاطعه.. فقد كان لنا تحفظ هام.. أن الصوفية في رأينا لا تعادي العقل أو العلم بل إن كثيراً من أئمتها يحملون أرقى المؤهلات العلمية، وهذا وحده دليل على إيمانهم بالعلم ومعاناتهم في سبيله.. إنما هم فقط يؤمنون بأن العلوم التحصيلية أمور نسبية متغيرة، بينما الحقائق المطلقة تتجاوز طاقة العقل البشري، ولا تتاح إلا لمن صفت نفسه، وأشرقت روحه، وتلقى مدداً إلهياً يعبرون عنه بأنه نور يقذفه الله في القلب، وهو أمر لا ينكره المؤمنون الذين يوقنون بالغيب.
ومن ناحية أخرى قد يكون هناك ما يبرر وجهة النظر التي تتهم الصوفية بالتواكل والسلبية، فمما لا شك فيه أن الصوفية قد علقت بها كثير من السلبيات والشوائب سواء عن جهل أو عن سوء قصد.
ومما لا شك فيه أيضاً أن بعض الفرق قد تجاوزت الحق والصواب في ممارستها للتجربة الصوفية.. ولكن يبقى السؤال الهام: إن التصوف في جوهره دعوة لإحياء الروح، ومنهج لمجاهدة النفس والسمو بها.. أفلا يعتبر ذلك عاملاً إيجابياً يستحق التزكية والإنماء.
وكان للدكتور غازي رأي آخر:
يقول: "إن إحياء الروح، ومجاهدة النفس، والارتقاء بها، هي أمور من صميم ما يستهدف الإسلام ويدعو إليه، كما أن التخلق بأخلاق القرآن الكريم وسنة الرسول هو الطريق الوحيد لتحقيق ذلك، فكيف نلتمسه عند الصوفية وهم يتجاوزون أصلاً ما جاء بكتاب الله وسنة رسوله، ويؤمنون بعقائد تتصادم مع ما يدعو إليه الإسلام".
ومضت أكثر من ثلاث ساعات والحوار يستمر وتتصاعد درجة حرارته والأستاذ غازي يمضي في إطلاق قذائفه الثقيلة على أفكار الصوفية ومعتقداتها.. ولكن يلح علينا سؤال هام: إذا كانت الصوفية كما يتهمها فضيلته تتناقض مع الإسلام وتتجاوز عن السنة الشريفة.. فكيف يمكن تفسير ما نسمعه وما يؤمن به الكثيرون من كرامات أولياء الصوفية وشفافيتهم؟(58/17)
ويجيب: أية كرامات، وأية شفافية.. إن ما يتحدثون به من كرامات ما هي إلا أوهام يخدعون بها البسطاء لكي تمتلئ صناديق النذور بأموال الضعفاء المخدوعين، ويضيف: تعالوا بنا نستعرض كراماتهم المزعومة كما يتحدثون عنها بأنفسهم ويفتح كتاب "الطبقات الكبرى" يقرأ لنا ما يرويه الشعراني بلسان أحد أوليائه: "أشهدني الله ما في العلا وأنا ابن ست سنين، ونظرت في اللوح المحفوظ وأنا ابن ثمان سنين، وفككت طلسم السماء وأنا ابن تسع سنين، ورأيت في السبع المثاني حرفاً معجماً حار فيه الجن والإنس ففهمته وحمدت الله تعالى على معرفته، وحركت ما سكن، وسكنت ما تحرك بإذن الله تعالى: وأنا ابن أربع عشرة سنة".
ثم يقرأ ما يقوله الشعراني عن الشويمي: "ومرض سيده مدين (رضي الله عنه) مرة أشرف فيها على الموت فوهبه من عمره عشر سنين ثم مات في غيبة الشويمي فجاء وهو على المغسل، فقال: كيف مت؟ وعزة ربي لو كنت حاضرك ما خليتك تموت، ثم شرب ماء غسله كله".
وفي كتاب "الكواكب الدرية" يقرأ لنا الدكتور جميل غازي ما يؤكده (المناوي) من أن للصوفيين أنواعاً من الكرامات:
النوع الأول منها: إحياء الموتى وهو أعلاها، فمن ذلك أن (عبيد اليسرى) غزا ومعه دابة فماتت فسأل الله أن يحييها فقامت تنفض أذنيها. وأن (مفرجا الدماميني) أحضر له فراخ مشوية فقال: طيري بإذن الله تعالى فطارت. ووضع (الكيلاني) يده على عظم دجاجة أكلها، وقال لها: قومي بإذن الله فقامت، ومات لتلميذ (أبي يوسف الدهماني) ولد فجزع عليه فقال له الشيخ: قم بإذن الله فقام وعاش طويلاً، وسقط من سطح (الفارقي) طفل فمات فدعا الله فأحياه".(58/18)
ثم ينتقل الدكتور غازي إلى كتاب الأبريز ويقرأ: "وأهل الديوان إذا اجتمعوا فيه اتفقوا على ما يكون من ذلك الوقت إلى مثله من الغد، فهم يتكلمون في قضاء الله تعالى في اليوم المستقبل والليلة التي تليه، ولهم التصرف في العوالم كلها السفلية والعلوية، وحتى في الحجب السبعين فهم الذين يتصرفون فيه وفي أهله وفي خواطرهم وما تهجس به ضمائرهم فلا يهجس في خاطر واحد منهم شيء إلا بإذن أهل التصرف" ويعقب فضيلته على ذلك متسائلاً: "أليس هذا هو قمة الشرك بالله جل وعلا؟".
ويعقب د. جميل غازي على ما تراه لنا من كرامات فيقول: أليست هذه خرافات وضلالاً واستخفافاً بالعقول.. بل وافتراء على الله جل شأنه ؟!
ثم يضيف: إن الصوفية يعتبرون أولياءهم أعلى درجة من الأنبياء، ويتجرءون أشنع الجرأة على رسل الله.. فيقول "البسطامي" في "الكواكب الدرية": "أخذتم علمكم ميتاً عن ميت وأخذنا علمنا عن الحي الذي لا يموت" ويقول في جواهر المعاني: "خضنا بحراً وقف الأنبياء بساحله".
وعند هذا الحد كان لابد للحوار من أن ينتهي رغم أن د. جميل غازي يقول: مازال هناك الكثير مما ينبغي أن يقال للتعرف على أهل التصوف.
ذكرهم.. موالدهم.. نذورهم.. قبورهم.. عباداتهم.. شيوخهم.. مريديهم..
وتبقى لنا كلمة.. إن البعض قد يغضبه، ما جاء في هذا الحوار من آراء.. وقد يكتفي بأن يصدر ضدنا ما يتراءى له من الأحكام.. ولكننا نرى أن الحوار الجاد المثمر هو وحده القادر على إجلاء الحقيقة وتوضيح الصورة.. إن في بلدنا مؤسسات دينية كثيرة تحتشد بقمم شامخة من أصحاب الفكر الإسلامي.. وأولئك جميعاً مطالبون بأن يقولوا رأيهم بصراحة ووضوح في هذه القضايا.
إن (التعاون) تفسح صفحاتها لكل صاحب فكر، وتدعوه لكي يسهم برأيه ويعطي ما عنده من أجل التفهم الصحيح للإسلام، وترسيخ عقيدة التوحيد حماية لشبابنا من المزالق والانحرافات.
الجولة الثانية
ماذا يقول ابن عربي في فتوحاته(58/19)
إذا كانت الخرافة مدسوسة عليهم فلماذا يبقون عليها ؟!
ليس في الكتاب ولا في السنة شيء اسمه التصوف !!
متى قال الرسول.. إن للقرآن ظاهراً.. وباطناً ؟!
هناك أكثر من سبب يدعونا إلى أن نلتقي مرة أخرى بالرجل الذي شن هجوماً عنيفاً على التصوف والصوفية.. كان منه على سبيل المثال ذلك السيل المنهمر من رسائل القراء الذين تجاوبوا معه فيما ذهب إليه من اتهام للصوفية بالتناقض مع الإسلام، وطالبوا بأن تفسح له الجريدة صفحاتها لكي يعطي ما عنده، ويجيب على ما أرسلوه من أسئلة واستفسارات.. ثم كان هناك سبب يتمثل في سؤال هام: ترى ماذا يكون رأيه في التصوف بعد الحوار الذي أجريناه مع الدكتور "أبو الوفا التفتازاني" أستاذ التصوف الإسلامي بجامعة القاهرة، والذي أوضحت فيه كثيراً من اللبس الذي اكتنف قضايا الصوفية واستنكر فيه كثيراً من الشوائب التي تخرج عن آداب التصوف الصحيح.
تأليه "إبليس" في طبقات الشعراني:
وعلى غير موعد كان هذا اللقاء مع الأستاذ محمد جميل غازي إمام مسجد العزيز بالله في مكتبته الحافلة بالمؤلفات العديدة في الفقه والحديث والتفسير واللغة، والأدب، والتاريخ.
قلنا له في محاولة للاعتذار عن هذه الزيارة المفاجئة: ربما اخترنا موعداً غير مناسب ولكن قد يكون ما جئنا من أجله يستحق أن تضحي معه بالقراءة.(58/20)
فيجيب مبتسماً: لم أن أقرأ بالمعنى المفهوم، ولكني كنت أسلي نفسي باستعراض بعض كرامات الصوفية وهي في الواقع مجموعة من الطرائف والأساطير تستحق أن أعرض عليكم بعضاً منها.. اسمعوا معي ماذا يقول الشعراني في كتابه (الطبقات الكبرى) وهو يتحدث عن سيده محمد الخضري ثم يقرأ: "أخبرني الشيخ أبو الفضل السرسي أنه جاءهم يوم الجمعة فسألوه الخطبة، فطلع المنبر فحمد الله وأثنى عليه ومجده ثم قال: "وأشهد أن لا إله لكم إلا إبليس عليه الصلاة والسلام" فقال الناس: كفر!! فسل السيف ونزل فهرب الناس كلهم من الجامع فجلس على المنبر إلى أذان العصر، وما تجرأ أحد أن يدخل الجامع ثم جاء بعض أهالي البلاد المجاورة، فأخبر أهل كل بلدة أنه خطب عندهم وصلى بهم، فعددنا له ذلك اليوم ثلاثين خطبة، هذا ونحن نراه جالساً عندنا في البلدة"!!
وقبل أن يمضي الأستاذ جميل غازي في عرض نماذج أخرى من هذه الشعوذة نستوقفه لنقول: ليكن ما قرأته علينا هو منطلقنا لبداية حوارنا معك اليوم.. إن بعض أقطاب الصوفية يعتبرون أن أمثال هذه الخرافات أمور مدسوسة على التصوف، وأن القول بما قد شاع في عصور التدهور الفكري والحضاري، ولقد سبق أن أوضح الدكتور "التفتازاني" أن العشراني نفسه قد ذكر أن خصومه دسوا عليه آراء لم يقل بها للنيل من مكانته.. لذلك فقد لا يكون من العدل اتهام التصوف ومحاولة إدانته من خلال كتابات يتبرأ منها مشايخ الصوفية أنفسهم.(58/21)
ويجيب سيادته قائلاً: إن ادعاء الدس ليس جديداً على الصوفية، فهم دائماً يلجئون إلى هذه الحجة لإغلاق باب المناقشة حول أي موضوع يرون أن الحق قد جانبهم فيه، ومن ناحية أخرى.. إذا كانت هذه الخرافات التي حفل بها كتاب الطبقات الكبرى للشعراني قد دست عليه كما يقولون، فلماذا نراها في جميع طبعات هذا الكتاب القديم منها والحديث؟ ولماذا يترك مشايخ الصوفية هذا الكتاب في متناول أيدي أتباعهم يستقون منه معرفتهم بالدين؟ ألم يكن من المنطق – إن صح ادعائهم – أن يبادروا إلى جميع هذه الكتب ومنع تداولها أو على الأقل إعادة تحقيقها بحيث تستبعد منها هذه الأمور المدسوسة؟ ولكن الحاصل هو عكس ذلك تماماً، إنهم يحيطون الشعراني وطبقاته بحصانة وقداسة لا حد لها، بل إنهم يقيمون منزلة الصوفي بقدر إيمانه بما جاء بهذا الكتاب.(58/22)
ثم يستطرد د. جميل غازي متسائلاً: ثم لماذا هذا الادعاء بالدس على كتاب (الطبقات) وهناك عشرات من كتب الصوفية تمتلئ بمثل ما امتلأ به كتاب الطبقات من خرافات وخبل وضلال؟.. خذ مثلاً كتاب (الإنسان الكامل) وفيه يشرح "أبو يزيد البسطامي" من أئمة الصوفية كيفية حلول الله فيه فيقول: "دفع بي مرة حتى قمت بين يديه فقال لي: يا أبا يزيد إن خلقي يحبون أن يروك، قلت: يا عزيزي وأنا أحب أن يروني. فقال: يا أبا يزيد إني أريد أن أريكهم. فقلت: يا عزيزي إن كانوا يحبون أن يروني وأنت تريد ذلك وأنا لا أقدر على مخالفتك، فزيني بوحدانيتك وألبسني ربانيتك، وارفعني إلى أحديتك حتى إذا رآني خلقك قالوا رأيناك فيكون أنت ذاك ولا أكون أنا هناك. ففعل بي ذلك".. ثم اسمعوا ماذا يقول الحلاج وهو يشرح لنا عقيدة الحلول: "من هذب نفسه في الطاعة لا يزال يصفو ويرتقي في درجات المصفاة حتى يصفو عن البشرية فإذا لم يبق فيه من البشرية حظ حل فيه روح الإله الذي حل في عيسى ابن مريم وكان جميع فعله فعل الله تعالى"، وفي كتاب (النفحات القدسية) يقول محمد بهاء الدين البيطار أحد مشايخ الصوفية:
وما الكلب والخنزير إلا إلهنا ... وما الله إلا راهب في كنيسة
ثم يعقب د. جميل غازي متسائلاً: هل هذه الآراء والمعتقدات في الحلول والاتحاد ووحدة الوجود التي امتلأت بها كتب مشايخ الصوفية هي أيضاً أمور مدسوسة عليها !!
احذفوا البدع تسقط الصوفية !!(58/23)
قلنا.. دعنا من مناقشة هذه العقائد التي نتفق معك في أنها تتصادم بالفعل مع عقيدة التوحيد الإسلامية فإن أقطاب الصوفية المعاصرين يرون أن من قال بهذه الأفكار هم قلة من أصحاب التصوف الفلسفي من أمثال البسطامي والحلاج وابن عربي، ويقولون أنه تصوف يكتنفه كثير من الغموض ويحتمل تأويلات شتى.. إنما الذي يعنينا الآن هو التصوف السني الذي يدعو إليه الصوفية المحققون، والذين يؤكدون أن مقياسه الصحيح هو الكتاب والسنة، ومادام الأمر كذلك فلماذا يرفض التصوف بل ويتهم بأنه بدعة تتناقض مع الإسلام؟
ويجيب د. جميل غازي بنبرة حادة: اسمع..أليس هناك ما يسمى "تصوفاً سنياً".. إنني أحذر بشدة من هذه المحاولة للتضليل والخداع والبحث عن مسميات يحاول بها الصوفية إضفاء الشرعية على مذهب يتناقض في أساسه مع الكتاب والسنة.. إن هذه المحاولة من جانبهم لربط التصوف بالسنة تذكرني بتلك المحاولة الفاشلة التي يلجأ إليها الشيوعيون في الوقت الحالي للإيهام بأن الشيوعية تتمشى مع مبادئ الإسلام.
ويضيف متسائلاً: ثم هذه العبارة (تصوف سني) ألا تحتوي على مغالطة فاضحة؟. إن كلمة (تصوف) لم ينطق بها الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ولم يقلها، ولم يدع إليها فكيف يزعم زاعم أنها (سنة!!) ثم يذهب بعد ذلك إلى القول بأن هناك تصوفاً سنياً؟ ومن جهة أخرى فإن هذه العبارة توحي – بمفهوم المخالفة – أن هناك تصوفاً بدعياً.. فما هو هذا التصوف البدعي حتى نميزه عن التصوف الذي يريدون منه أن يكون سنياً؟ إنني أدعوهم أن يقدموا لنا كشفاً دقيقاً بأنواع البدع التي يريدون حذفها من التصوف ثم يقولوا لنا ماذا يتبقى منه!! ثم يبتسم د. جميل غازي ساخراً ويقول: إنهم لو فعلوا ذلك فسيكون على رأس قائمة البدع اسم التصوف نفسه، لأنه بدعة لم ينطق بها الرسول - صلى الله عليه وسلم -.(58/24)
قلنا: ولكننا نرى أن مجرد عدم استعمال الرسول - صلى الله عليه وسلم - لكلمة تصوف لا ينبغي أن يكون مبرراً لتجرد التصوف من شرعيته.. فإن هناك أيضاً كثيراً من العلوم الإسلامية لم تكن معروف أيام الرسول - صلى الله عليه وسلم -، من بينها على سبيل المثال علوم الفقه والحديث والكلام والتفسير، ومع ذلك فهي علوم معترف بها وتؤدي دورها في خدمة الدعوة الإسلامية.. وبالنسبة للتصوف فلا مجال في رأينا للاعتراض عليه كعلم إسلامي ومنهج يستهدف دراسة الأخلاق وتقويم السلوك وتربية النفوس، طالما كان يستند إلى الكتاب والسنة وهذا ما يقصدونه بتعبير التصوف السني!
ويجيب فضيلته قائلاً: أحب أولاً أن أعترض على اعتبار التصوف علماً إسلامياً، فالتصوف في حقيقته مزيج من أفكار ومعتقدات مجوسية وبوذية ومسيحية ويهودية ويونانية.. وهذه حقيقة يعترف بها المستشرقون الذين درسوا هذا النوع من التصوف المسمى بالتصوف الإسلامي.. فهذا هو "فون كريمر" يقول في كتابه (تاريخ الأفكار البارزة في الإسلام): "إن في التصوف عنصرين مختلفين أولهما مسيحي رهباني، والثاني هندي بوذي" ويذهب المستشرق "ثولك" إلى أن التصوف مأخوذ من أصل مجوسي، كما أن مؤسسي فرق الصوفية الأوائل كانوا من نفس ذلك الأصل المجوسي، وكذلك يقول المستشرق الهولندي "دوزي" في كتابه (تاريخ الإسلام): "إن التصوف جاء إلى الصوفية من فارس حيث كان موجوداً قبل البعثة المحمدية" أما المستشرق "جولدزيهر" فقد فرق بين تيارين مختلفين في التصوف أولهما الزهد وهذا في نظره قريب من روح الإسلام وإن كان متأثراً إلى حد كبير بالرهبانية المسيحية، والثاني التصوف بمعناه الدقيق وما يتصل به من كلام في المعرفة والأحوال والأذواق وهو متأثر من ناحية بالأفلاطونية الحديثة، ومن ناحية أخرى بالبوذية الهندية.
التلقي عن رسول الله عندهم..!(58/25)
قلنا.. ربما كانت آراء هؤلاء المستشرقين جاءت نتيجة ما يوجد من تشابه بين التصوف الإسلامي وغيره من أنواع التصوف الأجنبية، ولكن ذلك لا يعني بالضرورة أن التصوف الإسلامي قد صدر عن هذه الفلسفات الأجنبية أو أخذ عنها.. فالتصوف كما هو معروف يتعلق بالشعور والوجدان، وطالما أن النفس الإنسانية واحدة على الرغم من اختلاف الشعوب والأجناس، فإن التجربة الصوفية يمكن أن تكون واحدة في جوهرها، كما يمكن أن يمثل التصوف خطاً مشتركاً بين الديانات والفلسفات المختلفة.. وعلى أي حال مهما كان من أمر مصدر التصوف الإسلامي وأصله فإن الذي يعنينا بحثه الآن هو ما يقول به الصوفية من أن التصوف الإسلامي يستند إلى الكتاب والسنة ويتقيد بهما.. فإلى أي حد ترون فضيلتكم صدق هذه النظرة؟
ويجيب د. جميل غازي قائلاً: مرة أخرى أعود فأذكركم بما يحاوله الشيوعيون الآن للزعم بأن الشيوعية تتمشى مع مبادئ الإسلام.. فهل هي حقاً كذلك؟ الجواب معروف فهي ضد الإسلام شكلاً وموضوعاً.. إذن لماذا يلجأ الشيوعيون إلى هذه المحاولة؟ إنهم ببساطة يهدفون إلى تضليل المسلمين وخداعهم، وتغطية عقائدهم الفاسدة التي ينفر منها المسلمون.. كذلك هو الحال بالنسبة للصوفية فهم أول من يعلم أن مذهبهم يتناقض مع الإسلام ولكنهم يحاولون التمسح بالكتاب والسنة من باب التضليل والخداع أيضاً.. ولو أن التصوف كما يزعمون يستند إلى الكتاب والسنة لكان هو الإسلام، ولما كان هناك ما يدعو إلى ذلك الجدل والانقسام الذي استمر أكثر من عشرة قرون.
قلنا.. إن القضية في رأينا تستحق مناقشة أكثر موضوعية وتحتاج إجابة أكثر تحديداً.. كيف ترون أن التصوف لا يستند إلى كتاب الله أو سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟(58/26)
ويجيب فضيلته بقوله: لأن علم الصوفية يعتمد أصلاً على الادعاء بالكشف بدلاً من الدليل الشرعي الذي يستند إلى الكتاب والسنة.. وعن طريق هذا الادعاء بالكشف فإنهم يشككون في مصادر الشرع بل وينكرون بعض أحاديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - الثابتة في دواوين السنة، ويؤولون البعض الآخر وفقاً لأهوائهم، وحجتهم في ذلك غاية في الافتراء على الله ورسوله.. إنهم يدعون أنهم يرون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جهاراً، ويتلقون منه ما يعينهم على تأويل الأحاديث أو التمييز بين الصحيح منها والضعيف واسمعوا ماذا يقول ابن عربي شيخ الصوفية الأكبر في كتاب الفتوحات المكية.. "ورب حديث يكون صحيحاً عن طريق رواته حصل لهذا الكاشف الذي عاين هذا المظهر فسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن هذا الحديث فأنكره وقال له: لم أقله ولا حكمت به فيعلم ضعفه فيترك العمل به على بينة من ربه، وإن كان قد عمل به أهل النقل لصحة طريقه وهو في نفس الأمر ليس كذلك".. بل إن ابن عربي هذا يذهب في افترائه على الله ورسوله إلى أبعد من ذلك فينسب كلامه إلى أنه وحي من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيقول في أول كتابه (فصوص الحكم): "أما بعد فإني رأيت رسول الله في مبشرة (رؤيا صادقة) وبيده كتاب فقال لي: هذا كتاب فصوص الحكم خذه واخرج به إلى ناس ينتفعون به، فقلت: السمع والطاعة لله ولرسوله وأولي الأمر منا كما أمرنا، فحققت الأمنية، وأخلصت النية إلى إبراز هذا الكتاب كما حدده لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من غير زيادة ولا نقصان.. فمن الله فاسمعوا وإلى الله فارجعوا...".
ثم يعقب د. جميل غازي على ذلك بقوله: هذا باب فتحه الصوفية للتشكيك في العلوم الإسلامية جميعها ولإتاحة الفرصة لكي يضع الصوفية ما يشاءون وينسبونه إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - بحجة الكشف !(58/27)
ويستطرد قائلاً: إن هذا الادعاء بالكشف دفع هؤلاء الصوفية إلى أن يقسموا الدين إلى شريعة وحقيقة، وإلى ظاهر وباطن، فأما أهل الظاهر عندهم فهم أهل الشريعة ومن بينهم علماء المذاهب الأربعة وفقهاء الشرع وعلماء الحديث وهؤلاء يعتبرهم الصوفية طبقة العوام من الناس. لماذا؟ لأنهم يؤمنون بالنصوص الشرعية دون اللجوء إلى التأويل. أما أهل الباطن أو أهل الحقيقة والطريقة فيعتبرهم الصوفية الخاصة من الناس الذين يعتمدون على تأويل النصوص الشرعية عن طريق ما يسمونه بالكشف والخواطر والأحلام.. وعن طريق هذا الكشف يزعمون أنهم يستطيعون تأويل الأحاديث والتمييز بين الصحيح منها والضعيف دون ما حاجة إلى الرجوع إلى دواوين السنة ورواتها.
قلنا.. ربما كان هذا الاتهام الموجه للصوفية بالفصل بين الحقيقة والشريعة يجافي الحقيقة، فإن بعض أقطاب الصوفية لا يفرقون بينهما بل ويؤكدون أنه لا تصوف إلا مع العلم بالعقائد والأحكام.
الزندقة شهادة التصوف:
ويجيب د. جميل غازي مقاطعاً: هذا كلام يقولونه بأفواههم فقط هروباً من اتهام صادق موجه ضدهم بالتناقض مع الإسلام.. ولكن يتضح لنا فساد زعمهم تعالوا بنا نستعرض ماذا يقول مشايخ الصوفية الكبار.. هذا هو الجنيد رئيس الطائفة الصوفية يقول: "لا يبلغ الرجل عندنا مبلغ الرجال حتى يشهد فيه ألف صديق من علماء الرسوم (الشريعة) بأنه زنديق، لأن أحوالهم وراء النقل والعقل" ويقول أيضاً: "أحب للمبتدئ ألا يشغل قبله بهذه الثلاث وإلا تغير حاله: التكسب وطلب الحديث (حديث رسول الله) والتزوج وأحب للصوفي ألا يقرأ ولا يكتب لأنه أجمع لهمه" وهذا هو أبو يزيد البسطامي من أئمة التصوف يسخر من علماء الشريعة ويتعالى عليهم فيقول: "أخذتم علمكم ميتاً عن ميت وأخذنا علمنا عن الحي الذي لا يموت" وهو يقصد بهذا أن علماء الشريعة يأخذون علمهم عن الرسل بينما الصوفية باعتبارهم أهل الحقيقة يتجاوزون هذا المستوى ويتلقون عن الله مباشرة.(58/28)
ويضيف فضيلته قائلاً: إن الصوفية يؤمنون بأن كل آية وكل كلمة بل وكل حرف في القرآن الكريم يخفي وراءه معنى باطناً لا يكشفه الله إلا للخاصة من عباده، وهم أهل الحقيقة الذين تشرق هذه المعاني في قلوبهم في أوقات وجدهم.. وذهبوا بعد ذلك إلى تأويل آيات القرآن الكريم عن طريق ما يدعونه بالكشف، فجاءوا بالخرافات والكفر والضلال الذي حشوا به كتبهم واعتمدوا في ذلك على حديث افتعلوه لخدمة غرضهم يرويه ابن عربي في الفتوحات المكية فيقول: "قال الرسول - صلى الله عليه وسلم - ما من آية في القرآن إلا ولها ظاهر وباطن وحد ومطلع ولكل مرتبة من هذه المراتب رجال ولكل طائفة قطب وعلى ذلك القطب يدور فلك ذلك الكشف" وعلى الرغم من أن هذا الحديث المزعوم لا وجود له في دواوين السنة فإن ابن عربي يقول عنه: "وقد أجمع أصحابنا أهل الكشف على صحته".
ويستطرد د. جميل غازي قائلاً: ربما لا يتسع المجال هنا لعرض نماذج من تأويلاتهم الغريبة لآيات القرآن الكريم والتي سمحوا لأنفسهم بها تحت ادعاء الكشف والأحلام ذلك الأمر الذي لم يدعه أحد حتى من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فهذا هو أبو بكر الصديق وهو سيد أولياء الله من هذه الأمة بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول حينما سئل عن معنى آية في القرآن الكريم: (أي أرض تقلني وأي سماء تظلني إذا قلت في القرآن برأيي).(58/29)
ثم يعقب بقوله:.. هذا هو حال الصوفية أو أهل الحقيقة والباطن باسم الكشف وعلم الباطن يعطن لأنفسهم الحق في الحكم على أحاديث الرسول وتأويلها وتمييز الصحيح منها والضعيف.. وباسم الكشف يعطون لأنفسهم الحق في تأويل آيات الله وفقاً لأهوائهم.. وباسم الكشف يريدون من أناس أن يقبلوا كلامهم دون بحث أو مناقشة، وكيف ذلك وهم أهل الحقيقة والباطن الذين يقول أحدهم: "رأيت رسول الله وحدثني" أو يقول الآخر: "حدثني قلبي عن ربي" ثم بعد ذلك يفرضون على الناس إرهاباً فكرياً ويقولون: "أحسن الظن ولا تنتقد، بل أعتقد" أو يقولون: "من اعترض انطرد".
قلنا.. مازال الاتهام الموجه للتصوف بالخروج على الكتاب والسنة في حاجة إلى مراجعة.. فإن الصوفية يؤكدون التزامهم الكامل بما جاء بكتاب الله وسنة رسوله ويستدلون على ذلك بأن جميع مقاماتهم كالتوبة والصبر والخوف وغيرها تستند جميعها إلى شواهد من القرآن الكريم وأحاديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأفعاله.
ويجيب د. جميل غازي قائلاً: إن هذا الادعاء من جانب الصوفية يمثل مغالطة تثير الدهشة والعجب.. فإن هذه المعاني والقيم التي يسمونها مقامات الصوفية ما هي إلا أخلاقيات الإسلام التي ينبغي أن تتوافر في المسلمين كافة.. فكيف يجعلها الصوفية وقفاً عليهم وحدهم؟.. ومن جهة أخرى إذا صح ادعاؤهم بأنهم يحرصون فعلاً على ممارسة هذه الأخلاقيات فلماذا يستبعدون اسمها الطبيعي وهو الإسلام ثم يفتعلون لها اسماً مبتدعاً وهو الصوفية.
قلنا.. ننتقل الآن إلى الطرق الصوفية.. يقولون إنها مداس تستهدف التربية الإسلامية وتقويم السلوك.
ويجيب فضيلته قائلاً: بل هي مدارس لتخريج عناصر بلهاء تائهة غارقة في الأوهام والخرافات بعد أن ضلت طريقها إلى الله، واستغنت عنه بعبادة الأدعياء وأصحاب القبور..(58/30)
ثم يضيف متسائلاً: كيف يمكن للطرق الصوفية أن تكون مجالاً للتربية الإسلامية وهي دعوة إلى الفقر والجهل والاستسلام بينما الإسلام دعوة للعلم والعمل والجهاد؟ ثم ما هي وسيلتهم للتربية الإسلامية؟ وما هي الشعائر التييمارسونها؟ حاول أن تقترب من حلقات ذكرهم.. هل تجهم يتدارسون القرآن أو أحاديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - ؟ لن تجد أثراً لذلك.. ولن تجد من بينهم من يحفظ القرآن أو يهتم بأحاديث الرسول - صلى الله عليه وسلم -.. فلقد انصرفوا تماماً عن كتاب الله واكتفوا بترديد الأذكار والأوراد الغامضة التي يرتلونها دون وعي وبأصوات صاخبة تتم معظم الأحيان على دقات الطبول والدفوف.. فهل هذا أسلوب في العبادة يقره الإسلام أو يوصي به الرسول - صلى الله عليه وسلم - ؟ بل أنهم فوق ذلك قد أغفلوا عقيدة التوحيد واستغنوا عن الاستعانة بالله إلى طلب المدد والعون من الأولياء وأصحاب القبور، وانشغلوا بإقامة الموالد التي أصبحت مجالاً لكل مظاهر الفسق والفجور ومرتعاً للنصابين والأدعياء والدجالين وكل من يبتغي المكسب الحرام.
ويستطرد فضيلته قائلاً: وكيف يمكن للصوفية أن تكون منهجاً لتقويم السلوك وهي التي أضعفت معنويات أتباعها، وخربت نفسياتهم وأصبح الإنسان المسلم الذي يدعوه دينه إلى أن يفكر ويتأمل أصبح على يد الصوفية عنصراً سلبياً لا إرادة له ولا حياة يسلم زمام نفسه كاملاً لشيخه بحيث يقول عنه الشاذلي: "على المريد أن يعتصم بالشيخ ويتمسك به تمسك الأعمى على شاطئ البحر بقائده بحيث يفوض أمره إليه بالكلية فلا ينازعه في الأمر ولا يخالفه".
الشيخ القائد إلى الضلال:
بمناسبة الكلام عن الشيخ.. ما هي الحقيقة فيما يقول به الصوفية من أن البركة لا تأتي إلا بواسطة شيخ ينقل البركات إلى المريدين وأن من لا شيخ له فشيخه الشيطان ؟(58/31)
يقول الصوفية أن الشيخ واسطة بين الله والمريدين، وأنه أمين الإلهام كما أن جبريل عليه السلام كان أميناً للوحي، ويقول السهروردي كما جاء في كتاب (عوارف المعارف): "كلام الشيخ بالحق من الحق، فالشيخ للمريدين أمين الإلهام كما أن جبريل أمين الوحي فكما لا يخون جبريل في الوحي لا يخون الشيخ في الإلهام، وكما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا ينطق عن الهوى فالشيخ لا يتكلم عن الهوى".
ثم يعقب سيادته على ذلك بقوله: إن مشايخ الصوفية يرددون هذا الإفك ليقنعوا الناس بالالتجاء إليهم والتسليم لهم تسليماً كاملاً.. ويضيف أنه من خلال ذلك الافتراء والزور وفي غياب التوجيه الديني والتربية الإسلامية السليمة نجح مشايخ الصوفية في تحقيق سيطرتهم على الأتباع والمريدين الذين التزموا بمجموعة من القواعد يعرفها كل من شاء له سوء حظه أن يقع في براثن هذه الطرق.. منها على سبيل المثال: أن يكون المريد مستسلماً منقاداً راضياً بتصرفات الشيخ يخدمه بالمال والدين.. ومنها: ألا يعترض عليه فيما يفعله ولو كان ظاهره حراماً ولا يسأله لما فعلت ذلك لأن من قال لشيخه لم؟ لا يفلح أبداً.. ومنها: أن يسلب اختيار نفسه باختيار شيخه في جميع الأمور كلية كانت أو جزئية عبادة كانت أم عادة.. وعن هذا المعنى يعبر أحد شعراء الصوفية فيقول:
كن عنده كالميت عند مغسل ... يقلبه ما شاء وهو مطاوع
وسلم له فيما تراه ولم يكن ... على غير مشروع فثم مخادع
بل إن ذا النون المصري أحد مشايخ الصوفية يذهب إلى أبعد من ذلك فيقول: "طاعة المريد لشيخه فوق طاعته لربه".(58/32)
وتمضي فترة من الصمت يقطعها الدكتور جميل غازي قائلاً: لعل فيما أوضحناه ما يكفي للتدليل على أن الصوفية جناية على الدين والدنيا، وربما يتأكد من ذلك بشكل أكثر وضوحاً لو تعرفنا على أفكارهم في "الحقيقة المحمدية" والديوان الباطني، والعلم اللدني، وصناديق النذور. وحول هذه المعتقدات لسيادته وقفة طويلة وآراء جريئة نلتقي بها في الجولة القادمة.
الجولة الثالثة
ابن عربي يقول: إنه يتلقى علومه رأساً من الله ..!
كيف تفشت وهي حركة مشبوهة ولماذا اختارت أتباعها من العامة ؟!
مبالغتهم في تصوير "النبي" منحرفة وأصولها بعيدة عن الإسلام ؟
قلدوا النصارى وغالوا في "الحقيقة المحمدية" حتى ضلوا..!
يواصل الدكتور محمد جميل غازي إمام مسجد العزيز بالله بالزيتون.. ورئيس جمعية التوحيد حملته العنيفة على التصوف والصوفية، حيث انتهى بنا في الأسبوع الماضي إلى أن التصوف علم يستمد معتقداته وأفكاره من أصول وفلسفات غير إسلامية.. أنكر ما يقول به أقطاب الصوفية عن التصوف السني، وأوضح أنه بدعة لم يقل بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا يوجد لها سند في أقواله أو أعماله.. وختم تصريحاته بأن التصوف جناية على الدين والدنيا.
ونحن اليوم على موعد معه ليحدثنا عن عقائد الصوفية وأفكارهم.. عن معتقدات الصوفية في العلم اللدني، وحياة الخضر عليه السلام.. يقول فضيلته.
أهل الظاهر، وأهل الباطن:
إن للصوفية في الخضر عليه السلام اعتقاداً شاذاً وغريباً.. فهم يقولون أنه ولي لا نبي.. كما يزعمون أنه مازال حياً يرزق!! وعلى هذه العقيدة الفاسدة أقاموا مزاعمهم التي تؤكد أن الولي أعلم من النبي.
لماذا؟.. لأن موسى عليه السلام ذهب إلى الخضر ليتعلم منه، وأنه قد تعلم منه فعلاً أموراً قد فصلتها سورة الكهف.. ويشرح أحد شعراء الصوفية – وكل الصوفية شعراء – هذه العقيدة فيقول:
مقام النبوة في برزخ ... فويق الرسول ودون الولي(58/33)
بمعنى أن مقام النبوة أكبر درجة من مقام الرسول وفي نفس الوقت فهي أقل درجة من مقام الولي.
ويضيف فضيلته: إن هذه العقيدة الزائفة هي التي جرأت أبا يزيد البسطامي وهو أحد كبار مشايخ الصوفية – فقال كلمته المشهورة: "لقد خضنا بحراً وقف الأنبياء بساحله.." بل هي التي دفعت الصوفية إلى القول بالعلم اللدني الذي يتنزل عليهم، وعلى شيوخهم من لدن الله مباشرة.. وبلا واسطة؟
ويستطرد قائلاً: وقبل أن نتكلم عن هذا العلم اللدني، نود أولاً في وقفة قصيرة نرد بها على تلك الأوهام التي يقول بها الصوفية عن حقيقة الخضر عليه السلام.. إنهم يعتبرونه ولياً لا نبياً.. وهو زعم باطل بصريح القرآن الكريم، حيث يقول تعالى، وهو يتحدث عن الخضر عليه السلام: { وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا } [الكهف: 65] وفي تفسير هذه الآية يقول ابن كثير: أن فيها دلالة على نبوة الخضر.. ويقول تعالى: { آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِندِنَا } [الكهف: 65].. وقد قال: "مقاتل" وهو أحد مفسري السلف – في شرح هذا النص – أنها النبوة.. كما يقول عز وجل: { وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي } [الكهف: 82].
ويفسر الطبري هذه الآية بقوله: "وما فعلت يا موسى جميع ما فعلته عن رأيي ومن تلقاء نفسي، وإنما فعلته عن أمر الله إياي به" ثم إن هذه النصوص تفيد أن الله تعالى أطلع الخضر على شيء من الغيب... وما كان تعالى ليطلع على هذا الغيب إلا الرسل... وفي هذا يقول جل شأنه { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاءُ } [آل عمران: 179]... كما يقول تعالى: { عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا، إِلا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ } [الجن: 26، 27].(58/34)
ثم يعقب د. جميل غازي على دعوى الصوفية بأن الخضر عليه السلام مازال حياً بقوله: سئل الإمام البخاري عنه وعن إلياس عليهما السلام هل هما حيان؟ فأجاب: كيف هذا وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل وفاته بقليل: ”لا يبقى على رأس المائة سنة ممن هو اليوم على ظهر الأرض أحد“.
كما سئل عن ذلك بعض أئمة السلف فقرأ قوله تعالى: { وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ } [الأنبياء: 34].. ويقول الإمام ابن تيمية: "لو كان الخضر حياً لوجب عليه أن يأتي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ويجاهد بين يديه، ويتعلم منه".
كما يقول الشيخ على محفوظ في كتابه "الإبداع في مضار الابتداع" لو صح بقاء بشر من لدن آدم إلى قرب خراب الدنيا لحسن ذكر هذا الأمر العظيم في القرآن الكريم مرة على الأقل.
ويستطرد فضيلته قائلاً: أما ما يزعمه الصوفية عن العلم اللدني، وإمكان الاستغناء به عن الوحي، فهذا زعم فيه ما فيه من الكفر والزندقة.
وعن نظرة الصوفية في الشريعة والحقيقة:
يقول الدكتور جميل غازي: لقد ادعى الصوفية استناداً إلى أوهامهم في حقيقة الخضر عليه السلام بأن للشريعة ظاهراً وباطناً، وأن باطنها يخالف ظاهرها، وأن موسى عليه السلام كان من أهل الظاهر، وأن الخضر من أهل الباطن، ثم ذهبوا بعد ذلك إلى القول بأنه ليس من حق أهل الظاهر أن يعترضوا على أهل الباطن تماماً كما حدث بالنسبة لموسى إذ لم يكن من حقه أن يعترض على الخضر، وفي ذلك يقول المستشرق نيكلسون – على لسان الصوفية – أن أهل الحق الذين تولى الله بواطنهم لا يحكم عليهم بظواهرهم فإن علمهم الغيب قد يحملهم على فعل ما يخالف ظاهر الشرع أو الأدب لما ورد في قصة موسى والخضر.
لماذا التمسح في "علي" رضي الله عنه ؟(58/35)
ويضيف فضيلته متسائلاً: ولكن ما هي الحقيقة في نظر الصوفية؟ يقول عنها "ابن عجيبة" وهو من كبار مشايخ الصوفية: أما واضع هذا العلم – يعني التصوف – فهو النبي - صلى الله عليه وسلم -! علمه الله بالوحي والإلهام، فنزل جبريل عليه السلام أولاً بالشريعة فلما تقررت نزل ثانياً بالحقيقة، فخص بها بعضاً دون بعض، وأول من تكلم فيه وأظهره سيدنا علي كرم الله وجهه، وأخذه عنه الحسين البصري!!
ويعقب على ذلك بقوله: إن تقسيم الإسلام إلى شريعة وحقيقة إنما هي نظرة مشبوهة المراد منها القضاء على الإسلام وتدمير بنيانه.. ويضيف: إن الصوفية لم يكتفوا بهذا التقسيم العجيب والمريب الذي ابتدعوه بل دفعهم إيمانهم بهذا الوهم والضلال إلى السخرية من علماء الشريعة جميعاً، والاستعلاء عليهم قائلين: "أخذتم علمكم ميتاً عن ميت وأخذنا علمنا عن الحي الذي لا يموت".
كما يقول ابن عربي شيخ الصوفية الأكبر: علماء الرسوم (علماء الشريعة) يأخذون خلفاً عن سلف إلى يوم القيامة، فيبعد النسب.. أما الأولياء فيأخذون عن الله.
وعن المعتقدات الصوفية في الديوان الباطني:
يقول د. جميل غازي: استنتج الصوفية من قصة الخضر أسطورة الديوان الباطني الذي يحكم فيه القطب الأكبر – أي الخضر – بما يشاء!.. ويصرف هو ومن معه من أقطاب صغار أقدار الوجود وأمر الكون! والديوان – عند الصوفية – محكمة عليا لا معقب على حكمها.. يقول عنها الدباغ أحد مشايخ الصوفية في كتاب (الأبريز) الديوان يكون بغار حراء فيجلس الغوث خارج الغار ومكة خلف كتفه الأيمن، والمدينة أمام ركبته اليسرى وأربعة أقطاب عن يمينه وهم مالكيه – على مذهب مالك – وثلاثة أقطاب عن يساره واحد من كل مذهب من المذاهب الثلاثة، والوكيل أمامه ويسمى قاضي الديوان، ومع الوكيل يتكلم الغوث والتصرف للأقطاب السبعة على أمر الغوث، وكل واحد من الأقطاب السبعة تحته عدد مخصوص يتصرفون تحته، ولغة أهل الديوان السريانية.(58/36)
ويعقب فضيلته متسائلاً: ألا يعتبر القول بهذه الخرافات قمة الشرك بالله الواحد الأحد؟.. ويضيف: إن الصوفية يذهبون في إيمانهم بالولاية والأولياء مذهباً جاوز كل حدود العقل والنقل معاً.. إن الأولياء عندهم يعلمون الغيوب، ولهم حق القبض والبسط، والخفض والرفع، والإحياء، والإماتة، وحق التصرف في العباد.
ويكفي أن نستعرض بعض أقوالهم لنتبين مدى ما فيها من كفر وانحراف وشعوذة ودجل.
يقول أبو يزيد البسطامي: وددت أن قد قامت القيامة حتى أنصب خيمتي على جهنم.. فسأله رجل: ولم ذاك يا أبا يزيد؟ فقال: إني أعلم أن جهنم إذا رأتني تخمد وأكون رحمة للخلق.
والولي عند الجيلي: يسمع نطق الجمادات، والنباتات، والحيوانات، وكلام الملائكة، واختلاف اللغات، وكان البعيد عنه كالقريب.. ثم يقول عن نفسه: وفي هذا التجلي سمعت علم الرحمانية.
ويستطرد فضيلته قائلاً: ثم ماذا يقول الدراويش عن السيد البدوي؟ يقولون: إنه سيد الأولياء، وأن الله أعطاه حق القبض والبسط، وحق التصرف في العباد، وأجمع الدراويش على تقبيل أعتابه، والتمرغ في ترابه قائلين: من قبل الأعتاب ما خاب.. بل وصل بهم الضلال والكفر إلى حد الافتراء على الله جل شأنه.
ويعقب الدكتور جميل غازي قائلاً: على هذا النحو كان إيمان الصوفية بالولاية والأولياء.. وبينما ولاية الله سبحانه كما تقول به آيات القرآن الكريم: عبادة، وقيادة، وحب، وفداء، ونضال، وطهارة، وسمو، وأمانة، وخلق كريم، فهي عند الصوفية كفر، وفسوق، وعصيان، واحتراف، وانحراف، وشعوذة، وفوضى،.. ومن هنا اتهمناهم – وما زلنا نتهمهم – بأنهم أعداء العقل والعلم والحضارة والدين.
ولن يعفى شيوخهم المعاصرين – على جلالة قدرهم – أن يتنصلوا من هذا الاتهام قائلين هذا مدسوس على شيوخنا الأقدمين! فإن مراجع التصوف القديم والمعاصرة اتفقت – على غير حياء – في عرض هذا الرجس الخبيث على أنه دين، وتقوى، وولاية، وقربى إلى الله!(58/37)
لماذا يتهجمون على الله سبحانه وتعالى ؟
أما عن ولع الصوفية بالاحتفاء بقبور الأولياء واهتمامهم بصناديق النذور.. فيقول فضيلته: شغل الصوفية أنفسهم، وشغلوا الناس بقبور الموتى التي أقاموها وشيدوها، وبنوا فوقها المقاصير، والقباب ووضعوا إلى جوارها صناديق النذور التي تبتلع عرق الأجير والفقير والمريض والمحتاج، وفرخوا حولها الكرامات، وأطلقوا الخرافات بحيث أصبحت هذه القبور أعياداً جاهلية، يدعى فيها غير الله ويطلب المدد والعون من سواه!.. والكلمات التي لقنها الصوفية للناس يقولونها ويدعون بها، كلمات مشهورة، منها على سبيل المثال:
فرج بفضلك ما أروم فإنني ... قد ضقت ذرعاً يا أبا فراج
ومنها: العارف لا يعرف.. والشكوى لأهل البصيرة عيب..
وهكذا كبرت الخرافة في نفوس الجماهير، وأصبحت تشكل عقيدة دينية لا تقبل المناقشة.
وهكذا سادت "الأمية الدينية" التي هي في تصوري أخطر الأميات التي تعاني منها المنطقة الإسلامية.
وهكذا امتلأت صناديق النذور الجاثمة حول القبور، بأوراق النقد، وعقود التمليك، ورسائل برقيات تأتي من كل مكان تحمل شكاوى ونجاوى إلى أصحاب القبور، وتطلب منهم قضاء الحاجات وتفريج الكربات.
عن أفكار الصوفية في موضوع العشق الإلهي:
يقول فضيلته: في القرآن الكريم والحديث النبوي نصوص صريحة الدلالة تعلن محبة الله سبحانه وتعالى لعباده المؤمنين، ومحبتهم له كقوله تعالى: { وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّهِ } [البقرة: 165] وكذلك قوله جل شأنه: { فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ } [المائدة: 54].. وقد بين القرآن الكريم أن مظهر حب الله هو اتباع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.. يقول تعالى: { قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ } [آل عمران: 31].(58/38)
ثم يضيف فضيلته متسائلاً: ولكن ما هو رأي الصوفية في "الحب" أو على حد تعبيرهم "العشق"؟.. ثم يجيب بقوله: إن ابن عربي شيخ الصوفية يرى أن المحبوب على الحقيقة في كل ما يحب إنما هو ( الحق ) الذي يتجلى فيما لا يتناهى من صور الجمال، سواء أكانت حسية أم معنوية أم روحية، وهو إذا تغنى بحب ليلى، وسعدى، وهند وغيرهن فإنما يرمز بالاسم إلى حقيقة المسمى، وبالصورة إلى صاحب الصورة، ولا يعنيه الرمز قدر ما يعنيه المرموز إليه.
وقد كتب ابن عربي ديواناً بأكمله هو "ترجمان الأشواق" يتغزل فيه بابنة الشيخ "مكين الدين بن شجاع" وتدعى "النظام"، ويصف محاسن تلك الفتاة الجميلة.. ولما سئل عن هذا العشق الفاضح قال: إنما أقصد الذات الإلهية!!
ويستطرد د. جميل غازي قائلاً: استمعوا إلى الشاعر الصوفي جلال الدين الرومي يعبر في ديوانه عن حبه الإلهي بتعبيرات وثنية وشركية رهيبة فيقول: "نفسي أيها النور المشرق لا تنأ عني.. لا تنأ عني.. حبي أيها المشهد المتألق لا تنأ عني.. انظر إلى العمامة أحكمتها فوق رأسي.. بل انظر إلى زنار زرادشت حول خصري.. أحمل الزنار.. وأحمد المخلاة.. لا بل أحمد النور.. فلا تنأ عني.. مسلم أنا ولكني نصراني وبراهمي وزرادشتي.. توكلت عليك أيها الحق الأعلى فلا تنأ عني.. لا تنأ عني.. ليس لي سوى معبد واحد.. مسجد أو كنيسة.. أو بيت أصنام.. ووجهك الكريم فيه غاية نعمتي فلا تنأى عني.. فلا تنأ عني...".
ويضيف فضيلته قائلاً: ولم يكتف كثير من الصوفية بادعاء الحب الإلهي على طريقتهم الوثنية – بل راحوا يرددون عبارة (العشق الإلهي) مع أن عبارة العشق عند أهل اللغة كما يقول "ابن الجوزي" لا تكون إلا لما ينكح، وأيضاً فإن صفات الله عز وجل منقولة فهو – سبحانه – يحب، ولا يقال يعشق. كما يقال يعلم ولا يقال يعرف.
ثم يعقب فضيلته بقوله: ولكن ماذا نقول والصوفية أصروا من أول يوم على مخالفة العقل والنقل واللغة أيضاً!!(58/39)
توهمهم على النبي - صلى الله عليه وسلم - :
وعن أفكار الصوفية عن "الحقيقة المحمدية" قال: للصوفية أوهام غريبة تدور حول شخصية الرسول - صلى الله عليه وسلم - وبرأه الله مما يقولون ومما يتوهمون..
يقول ابن عربي شيخ الصوفية كما جاء في كتاب الفتوحات: "بدأ الخلق الهباء، وأول موجود فيه الحقيقة المحمدية الرحمانية الموصوفة بالاستواء على العرش الرحماني وهو العرش الإلهي، ولا أين يحصرها لعدم التميز (بمعنى ليس له مكان) وممن وجد؟.. وجد من الحقيقة المعلومة التي لا تتصف بالوجود ولا بالعدم، وفيما وجد ؟ في الباء، وعلى أي مثال وجد؟ على المثال القائم بنفس الحق المعبر عنه بالعلم به، ولما وجد؟ لإظهار الحقائق الإلهية".
أما (الجيلي) فإنه يعتبر الحقيقة المحمدية أصلاً للكون والملائكة والبشرية فيقول: "إن العقل الأول المنسوب إلى محمد - صلى الله عليه وسلم - خلق الله جبريل عليه السلام منه في الأزل، فكان محمد - صلى الله عليه وسلم - أبا لجبريل وأصلاً لجميع العالم"!
ثم يقول: "لما خلق الله سبحانه وتعالى العالم جميعه من نور محمد - صلى الله عليه وسلم -، كان المحل المخلوق منه إسرافيل قلب محمد - صلى الله عليه وسلم -".
ويستطرد د. جميل غازي قائلاً: إن الدكتور زكي مبارك يعلق على معتقدات الصوفية في الحقيقة المحمدية بقوله: "وعلى ذلك تكون نظرية الحقيقة المحمدية عند غلاة الصوفية مأخوذة من أصول نصرانية...".
كما يقول المستشرق نيكلسن: "إذا بحثنا في شخصية محمد - صلى الله عليه وسلم - في ضوء ما ورد عنه في القرآن من آيات، وما أثر عنه من الحديث في الصدر الأول لوجدنا الفرق شاسعاً بين الصورة التي صور بها في ذلك العهد، وبين الصورة التي صور بها الصوفية أولياءهم".
ويقول جولد زيهر: "إن صورة النبي - صلى الله عليه وسلم - كما صورتها السنة قد أصابها التعديل والتحوير".
ويعقب الأستاذ جميل غازي على أفكار الصوفية في الحقيقة المحمدية بقوله:(58/40)
إن هذا ولا شك متناقض مع صريح القرآن وصحيح السنة.. فإن الله تعالى يقول: { وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ } [آل عمران: 144].
كما يقول جل شأنه: { قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ } [الكهف: 110] ويصف الله جل في علاه نبيه بصفة العبودية فيقول: { سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ } [الإسراء: 1] وقد قال أبو بكر رضي الله عنه – عقب وفاة الرسول - صلى الله عليه وسلم - -: "من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت".
الجولة الرابعة
رابعة العدوية
الشخصية والأسطورة
غضب الله لإطلاق لفظ الأنثى على ملائكته !
ابن عربي يتغزل في بنت الشيخ مكيز..!
الزهد لا يكون في الحلال، وإنما في الحرام!
مجلة التوعية الإسلامية لموسم الحج.. لما لها من مكانة عند الدكتور محمد جميل غازي.. نأمل أن يتحدث على صفحاتها.. إلى "ضيوف الرحمن" على بعض الشخصيات التي تدعى الصوفية أنهم من كبار قادتها.. ولتكن البداية "برابعة العدوية" ولعل هذا الاختيار قام على اتساع شهرتها بين المتصوفة، وما ذاع وشاع حولها من أساطير.. وقد امتلأت كتبهم بآلاف الصفحات التي كتبت عنها.. وبعضهم يصفها بأنها خير نساء الأرض.. مع مجافاة ذلك للواقع.. فهلا تفضلتم مشكورين.. بتسليط الأضواء على هذه الشخصية الغريبة؟(58/41)
رابعة العدوية واحدة من المتصوفين الذين اتخذوا لهم منهجاً في العقيدة، ومنهجاً في العبادة، أما منهجهم في العقيدة فهو مجموعة أفكار غريبة عن الإسلام مأخوذة من الديانات القديمة كالهندوكية، والزرادشتية، والفارسية، والإغريقية، والمسيحية، وغيرها من الأديان الأخرى ومجموعة هذه الأفكار أدت بهم إلى عقيدة معينة توهموها واعتنقوها فقالوا بالحلو، وقالوا بوحدة الوجود، وقالوا بالإشراق أو ما شاكل ذلك، ولن نناقش ما يعتقدونه الآن. فنحن نركز على أربعة بالذات وما قالته، وما نسبه إليها، وما نسج حول شخصيتها من خرافات وأوهام.
لماذا نعبد الله ؟
والصوفية كما نعلم اسم يوناني قديم مأخوذ من الحكمة "صوفيا" وليس كما يقولون أنه مأخوذ من الصوف لأنه كان لباس المسيح عليه السلام، فلقد رد عليهم "ابن تيمية" في رسالته عن "الصوفية والفقراء" فقال: نحن أولى بهدي محمد - صلى الله عليه وسلم - من هدي عيسى بن مريم ولقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يلبس الصوف يلبس القطن ويلبس الكتان، هذا إذا سلمنا جدلاً أن عيسى عليه السلام كان ينفرد بلبس الصوف، أو كان لا يلبس شيئاً غير الصوف.. "ورابعة العدوية" كما قلت هي واحدة من هذه المدرسة.
وحينما تقول إنها لا تعبد الله خوفاً من ناره، ولا طمعاً في جنته تخالف نص القرآن الكريم، وإن كانت هي بهذا تنتمي إلى مدرستها تماماً.. فالمدرسة الصوفية هي التي تعتبر أن الذين يعبدون الله من أجل جنة أو خوفاً من نار إنما يتعاملون مع الله، أو يعبدون الله، عبادة التجار كما أطلقوا عليها.(58/42)
مع أن هذه العبادة التي يسمونها عبادة التجار هي عبادة رسل الله عليهم صلوات الله وسلامه كما قال الله عنهم في سورة الأنبياء بعد أن عدد أسماءهم نبياً نبياً، ورسولاً رسولاً: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا} [الأنبياء: 90] فالله يقول عن أنبيائه: إنهم كانوا يدعونه سبحانه وتعالى راغبين في ثوابه خائفين من عقابه، والرسول - صلى الله عليه وسلم - قال هذا للأعرابي الذي جاءه وقال له: يا رسول الله إني أسال الله الجنة وأعوذ به من النار ولا أحسن دندنتك ولا دندنة "معاذ بن جبل" فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ”حولهما ندندن“ (يعني حول الجنة والنار) فإذا كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يدندن حول الجنة والنار فكيف يتأتى لواحدة "كرابعة العدوية" قالوا عنها أنها كانت مغنية، وقالوا عنها أنها كانت راقصة، وقالوا عنها كلاماً كثيراً، كيف تأتى لهذه التي عاشت عمراً في الغناء وفي الرقص.. كيف يتأتى لها أن تسبق رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأن تسبق رسل الله جميعاً في المعرفة بالله والعلم به سبحانه وتعالى؟ ثم ما هذا الذي تقوله؟ إنها تعبده لذاته ما معنى هذا؟ وما معنى قولها في ربها في الشعر الذي نسب إليها:
أحبك حبين حب الهوى ... وحباً لأنك أهل لذاكا
فأما الذي هو حب الهوى ... فشغلي بذاتك عمن سواكا
وأما الذي أنت أهل له ... فكشفك لي الحجب حتى أراكا
ما هي هذه الحجب التي تنتظر "رابعة" أن تنكشف لها حتى ترى الله، مع أن الله سبحانه وتعالى قال "لموسى" عليه السلام حينما قال له: { رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي } [الأعراف: 143].(58/43)
ولقد اتفقت الأمة المسلمة الواعية على أنه لا يمكن للبشر أن يروا الله سبحانه وتعالى في الدنيا لأن الإنسان بحالته هذه، وهو في الدنيا لا يستطيع أن يواجه تجلي الله سبحانه وتعالى كما حدث بالنسبة "لموسى" { فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ موسَى صَعِقًا } [الأعراف: 143] فالرسول - صلى الله عليه وسلم -، وهو أعظم مكاناً، وأعظم مكانة قال حينما سئل: هل رأيت ربك؟ قال: "نور أنى أراه".
ولا نلتفت لرواية الصوفية لهذا الحديث حيث رووه هكذا، قالوا "نور أنى أراه" بكسر همزة إني، وهذا مخالف لِمَا صح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "نور أنى أراه" فالرسول - صلى الله عليه وسلم - لم ير ربه، وموسى عليه السلام حينما طلب الرؤية قال الله له: {انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي} [الأعراف: 143].. والصوفية لم يقفوا عند حد الأدب مع الله سبحانه وتعالى، ولم يتعلموا من موسى، وما جرى معه بل قال واحد منهم:
وإذا سألتك أن أراك حقيقة فاسمح ولا تجعل جوابي لن ترى فهو يأمر الله سبحانه وتعالى أن يسمح، ثم ينهاه سبحانه وتعالى أن يجعل جوابه لن ترى كما أجاب موسى بذلك وكذلك "رابعة العدوية" تعتقد أن الحجب ستكشف لها حتى ترى الله، ويا ليت الصوفية يتوقفون عند هذه المسألة أن يروا الله وإنما الرؤية عندهم هو أن يحس أنه هو الله وأن الله حال فيه، هذا هو كشف الحجب.. حجب الذات.. حجب النفس بحيث يصل الإنسان منهم إلى أن يرى أنه هو الله، ولذلك كان فهمهم لكلمة التوحيد "لا إله إلا الله" كان الواحد منهم يقول: "لا إله إلا أنا" "أنا الله" فهو يعتقد أنه هو المقصود بكلمة "لا إله إلا الله".(58/44)
ونعود مرة ثانية إلى "رابعة" وإلى ما كتب عنها الذي يقول إن رابعة هي أول من تحدث عن حب الله، هذا الإنسان يبدو أنه لم يقرأ القرآن الكريم، ولم يقرأ السنة المطهرة، ففي القرآن الكريم أن الله سبحانه وتعالى تحدث عن الحب فقال: { يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ } [المائدة: 54] وقال: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ} [البقرة: 165].
الفرق بين الحب والعشق:
حب الله وحب رسوله موجود في القرآن الكريم، وفي أحاديث الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ولكن يبدو أن كاتب هذه السطور يقصد حباً آخر وهو "العشق" وليس الحب، فعلا "رابعة العدوية" ومن على شاكلتها هم أول من أطلق على محبة الله عشقاً، والعشق ما هو؟ إن العشق في أصل وضعه في اللغة العربية لما ينكح، والصوفية وضعوا هذا اللفظ لما بينهم وبين الله سبحانه وتعالى، اعتبروه عشيقاً كالذي يكون بين الرجل والمرأة، قد يذهل الإنسان حينما يسمع هذا الكلام، وربما اعتبر البعض أن هذا تجنياً على الصوفية، ولكنه حينما يتابع كلام القوم وما كتبوه في باب العشق يجد أنهم ينهجون ذلك المنهج، ويقصدون هذا المنحى، ويعترفون أن علاقتهم بالله تكون على هذا المستوى مستوى الناكح والمنكوح، ولقد جاء ذلك صراحة في فصوص الحكم "لابن عربي" إذ قال: "إن الرجل حينما يضاجع زوجته إنما يضاجع الحق" وكان من الممكن أن نقول إن هذه غلطة من محيي الدين ابن عربي أو أن لها تأويلاً آخر ولكن جاء "النابلسي" فشرح الفصوص.(58/45)
ووقف عند هذا التعبير وهو قوله "إنما ينكح الحق" وذكر الله بدلاً من كلمة الحق، وهم يرون أن العلاقة تكون بين الرجل والمرأة قوية إذا كانت في حرام، فهم يعتبرون أن الاتصال بالله يكون كما بين الزوج وزوجته فإذا كان في حرام غير زوجته كان الاتصال أقوى. ثم نرجع "لابن الفارض" مثلاً فنجد أن "ابن الفارض" تحدث عن الله بضمير المؤنثة المخاطبة فهو يقول له: "أنتِ كذا أنتِ كذا أنتِ كذا" ولو رحت تسأل الصوفية لماذا تتحدثون عن الله بضمير المؤنثة المخاطبة؟ فإنهم يقولون لك: إننا لا نقصد الله، وإنما نقصد الذات الإلهية فنحن نوجه ضمير المؤنثة المخاطبة للذات وليس لله فنوجهها الذات الإلهية، "ابن الفارض" يقول إن الله تجلى لقيس بصورة ليلى. وتجلى لكثير بصورة عزة، وتجلى لجميل في صورة بثينة في قصيدته التائية المعروفة فهو يعترف أن هذا من تجليات الحق.
الأدب اللفظي!!
نعود إلى الصوفية ونقول لهم: طيف تطلقون على الله لفظ المؤنثة أيا كان تأويلكم، وأيا كان تحليلكم، وأيا كان تعليلكم مع أن الله سبحانه وتعالى غضب أن يطلق لفظ الأنثى على الملائكة وقال: { وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ } [الزخرف: 19] فالله سبحانه وتعالى غضب وأعلن ذلك الغضب في أكثر من آية من آيات كتابه، على العرب المشركين الذين جعلوا الجن ذكوراً والملائكة إناثاً وزعموا أن هناك مزاوجة بين الجن والملائكة، إلى آخر ما قاله الوثنيون القدامى، فالله سبحانه وتعالى نفى هذا وغضب من أجل هذا – فكيف يرضى سبحانه وتعالى أن يطلق لفظ المخاطبة بضمير المؤنث مهما كان الاحتمال العقلي عند هذا المتحدث؟(58/46)
ثم إن القرآن الكريم له أسلوب عجيب أن يستبعد في باب العقيدة أي لفظ محتمل، ونحن حينما نقرأ سورة البقرة ونجد في قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا وَقُولُواْ انظُرْنَا } [البقرة: 104] لو تأملنا الفرق في كلمة راعنا وانظرنا في اللغة العربية نجده قريباً من قريب، فرعنا تساوي انظرنا، وأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانوا يجلسون في الشمال: راعنا، يعني انظر إلينا، فإذا نظر إليهم قال الذين هم على اليمين: راعنا انظر إلينا، اليهود حفظوا هذه الكلمة راعنا فكانوا يقولونها سخرية واستهزاء، يقولون: راعنا إما من الرعونة أو لاعنا من اللعن، أو راعينا أي أنه من رعاتنا أو أي شيء من هذا القبيل يقولونها من سخرية ليا بألسنتهم وطعناً في الدين فنهى الله أصحاب رسوله عن هذه الكلمة أن يقولوها فقال لهم: {قُولُواْ انظُرْنَا} فإنها لفظ غير محتمل.. إذا كان ذلك في لفظ يطلق بالنسبة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أيمكن أن يطلق العنان في ألفاظ تستعمل بالنسبة له سبحانه؟(58/47)
ثم نترك "رابعة العدوية" قليلاً ونلتقي "بمحيي الدين ابن عربي" الذي دخل بيت "الشيخ مكين الدين" وعاش عنده فترة ثم أحب ابنته، وقال فيها شعراً في عينيها، وتغزل في شفتيها، وفي وصف القبلات التي كان يرسمها على خديها وشفتيها. تحدث عن أثدائها، تحت أردافها، تحدث عن قدها، تحدث عن جمالها، عن كل شيء ما ظهر منها وما بطن، ولما خرج بأشعاره على الناس قالوا له: أليس عيباً أن تقول هذا الكلام في بنت الشيخ الذي استضافك وأعزك وأكرمك؟ فخرج بكتاب على الناس اسمه "ترجمان الأشواق" هذا الكتاب الذي ذهب فيه إلى أن كل ما قيل عن بنت الشيخ "مكين الدين" ليس غزلاً فيها وإنما هو عن الذات الإلهية، وأنه إنما يقصد الذات الإلهية وهو يتغزل في بنت الشيخ "مكين الدين" فهو إذا وصف القد أو إذا وصف الخد أو إذا وصف الوصال أو العناق أو الصد أو البعد أو القرب أو ما شاكل ذلك فإنما كل ذلك منسحب على الذات الإلهية!
جعلناكم أمة وسطا:(58/48)
ثم ما هو هذا العشق الإلهي الذي لجأت إليه "رابعة العدوية" ونسيت الدنيا، وما فيها وكرهت العالم جميعاً، وهل الله سبحانه أمرنا بهذا؟ هل الله سبحانه وتعالى أمرنا أن نصد عن خلقه، وأن نصد عن الناس، وأن نصد عن الزواج، وأن نصد عن المتع، وأن نصد عن المال، وأن نصد عن هذا كله بحجة أننا تركنا هذا كله له، مع أنه هو الذي قال في كتابه: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف: 32] ثم كيف تمتنع "رابعة" عن الزواج كما يقولون مع أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال للثلاثة الذين حاولوا أن يتزيدوا في العبادة، والذين ذهبوا إلى بيوته، وسألوا عن عبادته فقالوا: وأين نحن من النبي؟ ثم حاول كل واحد منهم أن يزيد في عبادته فقال واحد: "أما أنا فأصلي ولا أرقد" وقال الثاني: "وأنا أصوم ولا أفطر" وقال الثالث: "فأما أنا فأعتزل النساء ولا أتزوج أبداً" فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ”ما هذا الذي بلغني عنكم؟ أما وإني رسول الله فإني أصلي وأرقد، وأصوم وأفطر، وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني“.. أتزعم "رابعة العدوية" أنها متفوقة على رسول الله الذي تزوج النساء وأكل وطعم وشرب، وهل نتصور أن رابعة أفضل من الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وأفضل من صحابته، هؤلاء الذين رباهم الله، وأنها أوتيت من العلم ما لم يؤته رسول الله، وأكثر مما نزل في القرآن، وأنها تتخلق بأخلاق أكبر من أخلاق القرآن؟.. وهذا وحده مخرج من الملة والعياذ بالله سبحانه وتعالى.
الزاهدون في الحلال:(58/49)
وذلك هو باب من الشر قع فيه هؤلاء الناس، وهم الصوفية إذ عزموا لأنفسهم أنهم الزهاد، وأنهم العباد، ثم أطلقوا على أنفسهم هذا اللفظ "صوفي" وقالوا لنا أن صوفي تعادل كلمة "تقي" أو تعادل كلمة "نحسن" أو تعادل كلمة "صديق" كما روى ذلك "ابن تيمية" عنهم في رسالته الغيرة "الصوفية والفقراء" زعموا أنهم صديقوا الأمة، ولقد تساءلت في مقدمتي لهذا الكتاب قلت: كيف يمكن لهؤلاء الناس أن يطلقوا على أنفسهم هذه الألقاب؟ مثلاً: رجل يقول أنا صوفي معنى هذا أنه يقول أنا تقي، معنى هذا أنه يقول أنا محسن، معنى هذا أنه يقول أنا صديق.. كيف يمكن للإنسان أن يزكي نفسه ؟ كيف يمكن للإنسان أن يحكم على نفسه بالتقوى أو بالإحسان أو بالصديقية؟ مع أن الله سبحانه وتعالى قال: { فَلاَ تُزَكُّوا أَنفُسَكُم هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى } [النجم: 32].. ومع أن الله سبحانه وتعالى قال: { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَن يَشَاءُ وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً } [النساء: 49].
إن الزهد لم يرد في القرآن إلا مرة واحدة.. ووروده في القرآن الكريم في هذه المرة الواحدة جاء في شأن يوسف عليه السلام: { وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُواْ فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ } [يوسف: 20] هذا الزهد الذي لجأت إليه الصوفية هو الزهد في الحلال، وهو خطأ لأن الزهد لا يكون في الحلال، وإنما الزهد يكون في الحرام، فالإنسان الذي يريد أن يزهد يزهد في الحرام، أما أن يزهد في الحلال لهذا خطأ مخالف لطبيعة الإسلام.
سخافات لا كرامات!!(58/50)
يقولون: إن "رابعة" لما حضرتها الوفاة قالت لمن حولها: انهضوا واخرجوا ودعوا الطريق مفتوحاً لرسول الله فنهضوا جميعاً وخرجوا، ولما أغلقوا عليها الباب سمعوا صوتها وهي تتشهد، وسمعوا الملائكة وهي ترتل: { يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ، ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً، فَادْخُلِي فِي عِبَادِي، وَادْخُلِي جَنَّتِي } [الفجر: 27-30] فماذا ترون في ذلك؟؟
جنون أم كرامات:
قبل أن نتحدث عن هذه الكرامة بالذات نعود إلى "رابعة" من الأول ونتحدث عن حب "رابعة" وما في هذا الحب من خطأ بشع لقد رووا عن "رابعة" نفسها: إن سفيان الثوري – على حد ما زعموا – سألها "يا رابعة هل تكرهين الشيطان؟ فقالت له: إن حبي لله لم يترك في قلبي كراهية لأحد" "فرابعة" بلغ بها الأمر أنها لا تكره الشيطان لأنها تحب الله، وهذا من الأمور العكسية، وهذه نتيجة للخطأ الذي وقع فيه هؤلاء الناس في الحب أو في العشق، أو في الذي يسمونه الفناء، أو في الذي يسمونه مقام الشهود أو مقام الحلول.
ونعود إلى كرامات الصوفية وليست هذه بأبشع كراماتهم فكرامات الصوفية لها سجلات مليئة بالبشاعات، وأعظم سجل لبشاعات الصوفية أو لكرامات الصوفية هو كتاب "الطبقات الكبرى لعبد الوهاب الشعراني" وهذا كتاب مليء بالكرامات أو السخافات التي يروونها عن أوليائهم، وهذا الذي كتب في هذا الكتاب فيه إسفاف، ومجون، وفيه فسوق، وفيه مروق بل إن الفسوق الذي ذكر في هذا الكتاب ينأى عن أي كتاب من كتب الجنس التي تصادر والتي يحظر تداولها أو قراءتها أو دخولها لبعض البلاد.
فهم يعتبرون أن إتيان الحيوان كرامة من الكرامات، وأن رجلاً اسمه "وحيش" كان يدعو كل رجل يركب حماره إلى أن يمسكها له ليفعل بها فإن رفض تسمر في الأرض وإن قبل أصابه خجل عظيم.(58/51)
وهذه واحدة من آلاف الكرامات وليس بأعظمها، وكنت أظن أن كتاب الطبقات لا يعادله كتاب فيما ذهب إليه ولكني لما ذهبت إلى السودان وجدت هناك كتاب طبقات آخر "طبقات ود ضيف الله" وكتاب "طبقات ود ضيف الله" في السودان كتاب محقق حققته الجامعة وخرجته الجامعة وهو مليء كطبقات الشعراني بهذا الهوس وبهذا الخبل وبهذا المجون والفسوق والمروق.
معركة مع الموت:
أكثر كرامات الصوفية تدور حول الموت فهم يزعمون أنهم يطيرون بنعوشهم بعد الموت وما أكثر النعوش التي تطير أو يطيرها أتباعهم، يزعمون أن فلاناً أمسك ملك الموت وأخذ منه زنبيل الأرواح ورماه فعادت الأرواح إلى أصحابها، ويزعمون في طبقات "ود ضيف الله" أن ملك الموت أراد أن يقبض روح واحدة "فاطمة بنت عبيد على ما أذكر" وأنها استغاثت بأحد الأولياء فذهب إلى السماء الرابعة وأمسك ملك الموت ودخل معه في صراع إلى أن أسترد منه روح فاطمة بنت عبيد ثم عاد إلى الأرض وهو يتصبب عرقاً فسألوه فقال: لأنني كنت أجاهد ملك الموت حتى استخلصت الروح منه.(58/52)
كراماتهم تدور حول هذا المعنى وهم ينددون بمن يقول لهم مثلاً: إن فلاناً مات ويغضبون لهذا التعبير جداً ويقولون: انتقل ولم يمت، ويجهلون أن الله سبحانه وتعالى قال عن نهبي - صلى الله عليه وسلم - وعن أشرف خلقه: { وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ } [آل عمران: 144].. وأن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قال حول هذه الآية: "من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت" وأن الله سبحانه وتعالى قال: { إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ } [الزمر: 30]. وقال: { وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ } [الأنبياء: 34] وقال في ثلاث قضايا سورت بالسور الكلي قال أولاً: { كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ } [الرحمن: 26]، وقال: { كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ } [آل عمران: 185] وقال سبحانه وتعالى: { كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَ وَجْهَهُ } [القصص: 88] فالموت مكتوب على كل إنسان، وجعلها كلمة باقية في عقب آدم إلى يوم يرجعون، فالله سبحانه وتعالى يقرر في القرآن أن الكل يموت ولكن الصوفية ينفون أن يكون واحد منهم قد مات. هذه عقيدتهم..
ثم نعود إلى كرامة "رابعة العدوية" التي استقبلتها الملائكة وملأت بيتها، وزحمته وجعلتها تقول للناس اخرجوا حتى يدخل رسل ربي، ثم لماذا يخرجون ليدخل رسل الله مع أن الله سبحانه وتعالى بيّن لنا أن رسله يدخلون علىالميت وقت احتضاره والناس من حوله { وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَكِن لاّ تُبْصِرُونَ } [الواقعة: 85] فهم أقرب إليه ولكن الناس لا يبصرون فهل طالب الله سبحانه وتعالى بإفراغ المكان حتى يدخل رسل الله سبحانه وتعالى، ثم من هم هؤلاء رسل الله الذين يسمعون وهم يرددون الآيات ويرددون البشارات حتى يعرف الناس.(58/53)
الذين يخلعون الولاية على الناس:
يقول الصوفية:
"إن رابعة من أهل الجنة وأنها رجعت إلى ربها راضية مرضية، مع أن حديث أبي السائب معروف لنا وهو أن زوجه قالت: رحمك الله يا أبا السائب لقد أكرمك الله، فقال لها النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ومن أدراك أن الله قد أكرمه؟" فأخذت تصفه بمكارم الأخلاق فقال لها النبي: "لا تقولي ذلك ولكن استغفري له فوالله وأنا رسول الله لا أدري ما يفعل بي". ذلك هو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهذا هو كلامه بالنسبة للحكم على الناس بتقوى أو بصلاح أو بعاقبة طيبة، ولكن الصوفية دائماً يسرفون في الحكم على الناس ويسرفون في الحكم على أنفسهم فيزعمون أنهم أهل الله، وأنهم أصحاب جنته، وأنهم يرون الله وأنهم يجتمعون في الدنيا برسول الله جهاراً نهاراً وأنهم يتلقون الحديث من رسول الله، وأن لهم رواية وسنداً في الحديث عن رسول الله مباشرة، وأن محيي الدين بن عربي قال: إن هذا السند أقوى سند كتب الحديث، لأن الولي منهم يلتقي برسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيقول له: هل قلت كذا يا رسول الله فيقول: لا لم أقله.. ثم يجيب الرسول - صلى الله عليه وسلم - بأحاديث جديدة بل إن الصوفية يذهبون إلى أبعد من هذا فهم يرفضون سند رجال الحديث مطلقاً ويقولون بمباهاة وفخر: "أخذتم علمكم ميتاً عن ميت وأخذنا علمنا عن الحي الذي لا يموت" ويقولون أيضاً كلمتهم المعروفة أو سندهم المعروف في الرواية "حدثني قلبي عن ربي" فقلوبهم تحدثهم عن ربهم بدون واسطة الموتى في أخذ العلم وفي تلقي العلم، لكنهم يقبلون واسطة الموتى في العمل وفي الجنة وفي الحصول على رضا الله سبحانه وتعالى.
الجولة الخامسة
" الشعراني "
صاحب الطبقات
أهل الحركة، والبركة، والغيب، والفورة الجنسية ..!
برهان الله في السودان يتأبط الدسوقي نهاراً ...!
.. أحمد الرفاعي.. السيد البدوي.. الشعراني ...!(58/54)
بعد أن استغرقت رابعة العدوية الحلقة الأولى من الحديث.. يدفع المتحدث إليه بالحديث إلى أحمد الرفاعي.. ويتناول الدكتور منه الخيط ليطوف به حول بقية الشخصيات الصوفية، وعمدتهم السيد البدوي، ومؤرخهم عبد الوهاب الشعراني صاحب الطبقات الكبرى:
ويسأل السائل ويجيب المجيب.. ثم تكون حكاية "الرفاعي" والسؤال هو: يزعم أصحاب "الرفاعي" أن والده توفي وهو جنين في بطن أمه وكان لمولده فرحة كبيرة بسبب الرؤيا التي سبقت هذا المولد وتحدث بها أصحابها من كبار الصالحين. فإن خالد القطب الرباني الشيخ منصور رأى في منامه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول له: "يا منصور أبشرك أن الله تعالى يعطي أختك ولداً يكون اسمه أحمد الرفاعي وحينما يكبر اذهب به إلى الشيخ علي القارئ الواسطي ليربيه ولا تغفل عنه"، ويقولون أيضاً: إن من بعض كراماته أنه لما كثر الجدل والنقاش بين الأتباع وأراد الشيخ منصور أن يحسم الموقف دعا الطامعين في الخلافة، ودعا ولده أحمد، وابن أخته أحمد الرفاعي وأعطى كلاً منهم سكيناً ودجاج وطلب من كل واحد منهم أن يذبح دجاجته في مكان لا يراه فيه أحد، فعاد الجميع وفي أيديهم ذبائحهم إلا أحمد الرفاعي فقد عاد ومعه الدجاجة حية والسكين في يده فسأله الشيخ لماذا عدت بالدجاجة من غير ذبح؟ فقال الرفاعي: شرطت علي يا سيدي خلو المكان وأينما ذهبت وجدت الله حاضراً وناظراً.
وهكذا صار الرفاعي خليفة للطريقة فنظمها وقسمها إلى مجموعات ومراحل ودرجات وقد بلغ الرفاعي الغاية من الزهد والتصوف وأجرى الله على يديه بعض الكرامات فما هي الحقيقة في هذا كله؟
وهنا نسمع رأي الدكتور محمد جميل غازي حول هذه الشخصية الصوفية.(58/55)
رابعة العدوية والرفاعي والبدوي والدسوقي والجيلاني أسماء كثيرة لا تنتهي عدا، ولو أننا وقفنا عند كل شخصية من هذه الشخصيات نناقش ما يروى عنها لوجدنا الكثير، ولوجدنا كلاماً كثيراً يمكن أن يقال في الرد عليهم ثم إن ما ذكرته عن الرفاعي قليل من كثير.
هذا الذي ذكروه عن الرفاعي قليل لكن انظر ما الذي يرويه الشعراني أنه يقول: إن السيد البدوي التقى به الرفاعي في طنطدا – وطنطدا هو الاسم القديم لطنطا – وأن الرفاعي قال له: أريد المفتاح. فقال له السيد البدوي: مفاتيح الشام والعراق ومصر والهند والسند بيدي فخذ أيها شئت، فقال له: لا آخذ المفتاح إلا من يد الفتاح. فقال له: اذهب إلى مكان كذا وستجد المفتاح متدلياً من السماء، فذهب الرفاعي ووجد يداً ممتدة من السماء فأخذ يقبل اليد التي أعطته المفتاح ثم عاد للسيد البدوي وقال له: لقد أخذت المفتاح، قال له: أتعرف اليد التي أعطتك المفتاح؟ قال له: نعم.. فمد السيد البدوي يده وقال له: أليست هذه؟.. فنظر الرفاعي في يد السيد البدوي وقال: إنها هي!
العالمون بالغيب:
شيء آخر يروى عن الرفاعي أيضاً، يقولون أنه لما ذهب ليحج قال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد وقف أمام القبر:
في حالة البعد روحي كنت أرسلها ... تقبل الأرض عني وهي نائبتي
وهذه دولة الأشباح قد حضرت ... فامدد يمينك كي تحظى بها شفتي(58/56)
ثم مد الرسول يده فقبلها الرفاعي، وما يروى من هذا كثير. الموتى يلتقون بالأحياء، والشعراني يروي عن نفسه أيضاً فيما يرويه، قال: وتأخرت سنة عن حضور المولد، وقال الذين حضروا المولد أن سيدي أحمد كان يخرج رأسه من الضريح ويقول: أبطأ عبد الوهاب الشعراني ما جاء وقال! تأخرت سنة عن حضور المولد فقابلني سيدي أحمد في القاهرة ومعه كثير من الموتى وألزمني والأسرى يزحفون على ركبهم ويحملون أكفانهم معهم ويحضرون المولد، فقال لي سيدي أحمد: لماذا لم تحضر المولد؟ فقلت له: بي وجع. قال: الوجع لا يمنع المحب، قلت له: إن شاء الله نحضر. فقال: لابد من الترسيم عليك، فرسم على سبعين عظيمين.. أسودين كالأفيال وقال: الزماه حتى تأتيا به.
هذه هي طريقة الصوفية في الفهم والاعتقاد فهم يخطئون أشنع الخطأ وأبشعه في مسألتين هما أساس توحيد الألوهية.. المسألة الأولى علم الغيب، والمسألة الثانية التصرف في الكون.
أما علمهم للغيب فيأتي وهم صغار، فمثلاً الدسوقي يقول: إنه أوتي سبعين علماً إحاطياً أقلها علم اللوح والقلم.
هذا هو علم الدسوقي وهو في السبع سنوات. كذلك نجد البوصيري يتحدث في قصيدته الميمية – أو البردة- يقول للرسول - صلى الله عليه وسلم - :
فإن من جودك الدنيا وضرتها ... ومن علومك علم اللوح والقلم
فالصوفية ليس عندهم غيب لأن كل شيء مكشوف لهم وبالنسبة للتصرف في الكون هم المتصرفون في الكون فيسمون السيدة زينب مثلاً رئيسة الديوان، إذ يجتمع الأقطاب والأنجاب والأوتاد مرة كل عام في غار حراء برئاسة رئيسة الديوان للتصرف في أمور المخلوقات.
ويزعمون أيضاً أن السيد البدوي متصرف في الكون ويقولون أيضاً أن الله قال في حديث قدسي: "الملك ملكي وصرفت فيه البدوي".
ويسمون أنفسهم: أهل التصريف، ويعتبرون أن لكل عام أو كل فترة زمنية قطباً يسمونه "قطب الوقت" يعني المسؤول عن التصرف في الكون في ذلك الوقت.(58/57)
هذه مفتريات الصوفية ولو أننا رحلنا نتتبعها واحدة واحدة لضاع وقتنا هباء، ولكننا دائماً نشرح الحق وبضدها تتميز الأشياء، والحق موجود في كتاب الله سبحانه وتعالى، ومشروح شرحاً كاملاً، ولقد فصل الله سبحانه وتعالى الحق في كتابه الكريم، وبين مظاهر الباطل ومداخل الباطل ومخارج الباطل، في كتابه الكريم ورسولنا - صلى الله عليه وسلم - لم يخرج من هذه الحياة، أو لم يخرجه الله سبحانه وتعالى من هذه الحياة الدنيا إلا بعد أن أبان الشريعة، وبين كل الطرق المؤدية إلى الله سبحانه وتعالى حتى قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كلمته المشهورة المعروفة:
”تركتكم على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك“ وقال: ”تركت فيكم ما أن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبداً كتاب الله وسنتي“.
النون أم الميم !!:
ثم ننتقل مرة أخرى مع الدكتور محمد جميل غازي إلى قطب آخر من أقطاب الصوفية وهو "إبراهيم الدسوقي" – إنه درس الفقه ثم اقتفى آثار الصوفية – واعتكف عشر سنوات في دسوق وكان صاحب كرامات ظاهرة، ومقامات فاخرة، وسرائر قاهرة، وبصائر باهرة ويقولون أيضاً: لقد كان إبراهيم الدسوقي زعيماً روحياً، وقطباً صوفياً، ومصلحاً اجتماعياً وطريقة البرهامية نسبة إلى "إبراهيم" أو "الدسوقية" نسبة إلى لقبه انتشرت في أقطار الشرق.. وامتدت فروعها في مصر والسودان فخلق رجالاً عاملين ومواطنين صالحين يراقبون الله في السر والعلن ومازال خلفاؤه ناهجين نهجه هكذا يقولون عن الدسوقي وطريقته.(58/58)
أولاً كلمة "خلق" التي ذكرت في كلام هذا الكاتب، كلمة عجيبة أيضاً فهو شيء جديد يضاف إلى مناقب الصوفية وأنهم يخلقون، وهو يخطئ أيضاً حينما يقول: إن الطريقة المنسوبة إلى إبراهيم الدسوقي اسمها الطريقة البرهامية، بالميم أو البرهانية بالنون؟ الميم والنون أقامتا معركة بين السودان ومصر.. أما مصر فإنها أقامت الطريقة البرهامية بالميم، وأما السودان فأقامت الطريقة البرهانية بالنون وسبب المعركة بسيط أنه بعث في زمان الناص هذا ولي جديد هذا الولي الجديد اسمه محمد عثمان عبده البرهاني بالنون وأنه التقى بإبراهيم الدسوقي في جلسة علنية وأنه سأله هل طريقتك البرهامية بالميم أو البرهانية بالنون ؟ فقال إبراهيم الدسوقي: طريقتي البرهانية بالنون لأنني برهان الله في الأرض، وعلى هذا الأساس خرج محمد عثمان عبده بطريقة البرهانية بالنون، واجتمعت مشيخة الطرق الصوفية وخرجت على الناس ببيان رفضت فيه اعتبار الطريقة البرهانية بالنون إحدى الطرق الصوفية المعتمدة. لكنها موجودة ولها مقر بجوار مشيخة الطرق الصوفية وتقوم بنشاطها الملموس، ويحضرها كثير من طلبة الجامعات.
زرت محمد عثمان البرهاني في منزله بالخرطوم، في ميدان عبد المنعم وسألته: كانت أيامها حرب 73 وكانت المعركة قائمة في مصر، كنا في رمضان بعد عشرة رمضان – هل يقود المعركة الآن – إبراهيم الدسوقي قال: نعم والذي دعاني إلى هذا السؤال أن بعض المجلات نشرت مقالات بعنوان "دولة أبي العينين" بينت أن قطب الوقت هو أبو العينين، وأن الذي سيقود المعركة ضد اليهود هو أبو العينين، وأنه سيطرد اليهود من مصر ومن سيناء إلى آخره، فسألت محمد عثمان البرهاني: هل الذي يقود المعركة الآن في مصر هو إبراهيم الدسوقي؟ قال: نعم، قلت: له بلحمه ودمه. قال: نعم بلحمه ودمه.(58/59)
نحب أن نوضح بعض الأشياء عن عثمان البرهاني ليكون معروفاً أكثر هو مؤلف كتاب "انتصار أولياء الرحمن على أولياء الشيطان" ويقصد بأولياء الشيطان من سماهم في صدر كتابه "الوهابيون والإخوان المسلمون" فهوي قول أن هؤلاء هم أنصار الشيطان وأنه ألف هذا الكتاب للنيل من هؤلاء.
وفي كتابه "تبرئة الذمة في نصح الأمة" بين أن الله هو محمد، وأنه لا فارق على الإطلاق وقال: إن قوله تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ } [الفتح: 10] معناه أن محمداً هو الله.
وقال أيضاً: إن من أسماء الله الحسنى محمد.
كذلك فإن "محمد عثمان عبده البرهاني" كان يذكر في كتابه هذا من مناقب الدسوقي أنه سأل الله أن يعطيه جسماً كبيراً كبيراً، ولما سئل إبراهيم الدسوقي لماذا؟ قال: لأزحم به النار فلا يدخلها أحد ونفس الكلام محاولة زحم النار أو زحمة النار ذكرها السيد البدوي أيضاً قال: إنه دعا الله بثلاث دعوات فأجاب الله دعوتين وأبطل الثلاثة، دعا الله أن يشفعه في كل من زار قبره فأجاب الله ذلك، فدعا الله أن يكتب حجة وعمرة لكل من زار قبره فأجاب الله ذلك، فدعا الله أن يدخله النار فرفض الله ذلك. فسألوا السيد البدوي لماذا رفض الله أن يدخلك النار؟ قال: لأني لو دخلتها فتمرغت فيها تصير حشيشاً أخضر وحق على الله أن يعذب بها الكافرين، ويقول أحد الصوفية: لولا الحياء من الله لبصقت على ناره، فانقلبت جنة، وأبو يزيد البسطامي هو الذي يسخر من الجنة والنار، فيقول: سبحاني ما أعظم شأني الجنة لعبة صبيان.
هذا هو منطق هؤلاء بالنسبة لجنة الله وبالنسبة للنار، وبالنسبة لوعد الله وبالنسبة لوعيده، فهم يعتبرون الجنة لعبة صبيان، بل بالعكس أبو يزيد البسطامي حينما يسمع القارئ يقرأ قوله تعالى: { إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ } [البروج: 12] يقول: وعزتي وجلالي إن بطشي لأشد من بطشه.(58/60)
وننتقل أيضاً مع الدكتور محمد جميل غازي إلى قطب آخر وهو الشيخ الشعراني فقد قيل عن الشيخ الشعراني كما يرويه أصحابه أن المستشرق "ماكدونالد" قال: إن الشعراني كان رجلاً ذواقاً نقاداً مخلصاً واسع العقل وكان عقله من العقول النادرة الخلاقة في الفقه بعد القرون الثلاثة الأولى في الإسلام، ولقد كانوا يقولون أن الشعراني كان عالماً فقيهاً وصوفياً مشهوراً وكان ينتمي إلى الطريقة الشاذلية التي أسسها الشيخ أبو الحسن الشاذلي، ثم يقولون أيضاً عن هذا الشيخ قد حكى عنه المستشرق "كولدس" أن الشعراني كان من الناحية العلمية والنظرية صوفياً من الطراز الأول وكان في الوقت نفسه كاتباً بارزاً أصيلاً في ميدان الفقه وأصوله وكان مصلحاً لا يكاد الإسلام يعرف له نظيراً، وإن في كتبه ما يعد ابتكاراً محضاً لم يسبق إليها ولم يعالج فكرتها أحد قبله. ثم يقولون أيضاً: أن هذا القطب أو هذا الشعراني قد أثمرت قراءته ودراسته ثمراتها الطيبة وبدأ أثرها في إنتاجه الغزير في مؤلفاته التي تتحدث في التفسير والحديث والفقه ولغة التصوف، وبعض هذه المؤلفات تقع في خمسة مجلدات.
الأعداء لماذا يؤيدون التصوف ؟
أن يقول هذا الكلام مستشرق مثل "ماكدونالد" أو غيره يجعلنا نعرف من هم الصوفية تماماً، فالصوفية هم جماعة ماكدونالد وغيره، نصبوا أنفسهم لهدم الإسلام. ذلك أن أوروبا الصليبية لا تسمح لنفسها أن تعطي دكتوراه في العلم الإسلامية إلا في التصوف.
المستشرقون والمبشرون يؤيدون التصوف لعلمهم أن ذلك معول يقضي على الثقافة الإسلامية، ويقضي على العقيدة الإسلامية، ويقضي على العبادات الإسلامية والسلوك النظيف.(58/61)
ما هذا الذي يقوله هؤلاء المستشرقون عن عبد الوهاب الشعراني، وأنه أتى بكتب لا نظير لها، وأنها في غاية الابتكار ألا يرجع هؤلاء إلى أنفسهم فيعلمون أن أوروبا حظرت تدريس المزامير في مدارسها لما فيها من خدش للحياء والعفة وخاصة نشيد الإنشاد في "المزامير" كيف يقولون هذا مع أن في طبقات الشعراني ما هو أحق بالمنع من نشيد الإنشاد، مثلاً عبد الوهاب الشعراني يقول بالحرف الواحد "ودخلت على زوجتي أم عبد الرحمن ولم أفعل شيئاً، يقول: إنه دخل على زوجته أم عبد الرحمن ولم يستطع أن يفعل معها ما يكون بين الرجل وزوجته فاستغاث بسيده أحمد البدوي، وأن أحمد البدوي قال له: يأتي بفاطمة أم عبد الرحمن عنده في القبر ثم يدخل بها، وأنه أخذها وذهب إليه في القبر ودخل بها وصنع له السيد البدوي حلوى، قال عبد الوهاب الشعراني: فكان الأمر في تلك الليلة.
كيف يمكن لمفكر كهذا أن يقال أنه مفكر لا نظير له.. بعد صدر الإسلام.
كيف يمكن أن يكون هذا؟ وكيف يقال إن مؤلفاته لا نظير لها مع أنها كلها عبث كهذا العبث.
أليس عبد الوهاب الشعراني هو الذي قال إن للولي حق القبض والبسط والخفض والرفع والإحياء والإماتة وحق التصرف في العباد.
كل هذا يقوله عبد الوهاب الشعراني، ويقال لنا: أن كتب عبد الوهاب الشعراني لا نظير لها، لماذا ؟ لأنهم يريدون لهذا الرجل ولأمثاله أن يعيشوا بين الناس.
ويمضي الدكتور محمد جميل غازي في حديثه يكافح الخرافة، ويتتبعها في أوكارها !
ونتوقف نحن إلى هذا الحد.. لنقول:
إن هذا "الداعية" الفاهم الواعي، قد وسعت دائرة معارفه "أنماطاً" من البدع والخرافات.. عرفها، وعرف بها، وتتبعها بالبحث والدراسة، وحذر الأمة منها ومن شرها !
ولقد أوتي القدرة على مقاومة هذه البدع والخرافات.. مهما كان أنصارها أشداء أقوياء!!
فليبارك الله خطوه.. وليكلل بالنجاح مسعاه.. وصلى الله وسلم وبارك على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
الجولة السادسة
الشيوعية(58/62)
أقدم من ماركس
حتى كتابة هذه السطور.. التوحيد عندهم جريمة..!
الصوفية.. لا إحسان.. ولا تقوى.. وإنما شعوذة..!
الشيوعية دعوة قديمة.. قبل ماركس..!
بين الحديث السابق، وهذا الحديث عام عامل! في موسم الحج الذي أعقب آخر حديث – جاء رئيس التحرير الجديد، وجاء بأسئلة جديدة، وحاصر الدكتور محمد جميل غازي، وكان هذا الحوار المفتوح الذي حذفنا منه بالقدر الذي تبيحه مقتضيات العرض.. غير أن الكلام عن الصوفية وهو الهدف من هذا الكتاب كله.. تركناه كما هو.
ليس فقط تعميقاً وتأصيلاً للفكرة.. فكرة كشف الأستار عن هذه الفرقة التي فعلت بالإسلام وبعقائده ما فعلت.. وما زالوا وسوف يظلون المنطقة المتأنية التي تجذب المسلمين.. وكأنها الرمال الناعمة تبتلع الناس وتدفنهم دون أن يشعروا.. بل إنهم أشد خطراً وأبعد أثراً.. وهيا معاً إلى الحوار المفتوح:
بنفس طريقة الإجابة السريعة: ما هي كتبكم ومؤلفاتكم ؟
وضعت كتباً في التفسير، والفقه، والحديث، والدب، والاجتماع.. ليس هنا مكان تحديدها أو عناوينها.. ومع ذلك فليست الكتب هي كل سبيلي إلى الدعوة.. إنما اعتزازي الكامل بالمحاضرات التي ألقيها أسبوعياً في "مسجد العزيز بالله" يوم الجمعة، وبالمركز الرئيسي "لجماعة أنصار السنة" والمركز الرئيس لجمعية "مجد الإسلام" وأماكن أخرى أدعى إليها دائماً في داخل القاهرة وخارجها.
متى عرفتم دعوة التوحيد ؟ وعرفتكم الدعوة ؟(58/63)
كنت في المرحلة الابتدائية في الأزهر.. ووقع في يدي كتاب "زعماء الإصلاح في العصر الحديث" للأستاذ أحمد أمين، وقد كتب عن الإمام الشيخ محمد بن عبد الوهاب في أول الكتاب ترجمة طيبة.. شدتني لا سيما وإنني لم أكن قد عرفت عن الإمام إلا ما يشوه سيرته، ويسيء إليه من أعدائه والحاقدين عليه.. بعد هذه الترجمة.. صححت كثيراً من الأفكار المغلوطة عن هذا الرجل الإمام.. والحق أني حاولت بعد ذلك الحصول على كتب في هذا المضمار.. لكن كانت هذه الكتب الخاصة بالتوحيد، والإمام.. نادرة الوجود إن لم تكن منعدمة لأكثر من سبب.
إلى أن حدث الذي ما زلت أذكره.. وكأن عهدي به أمس إذا سمعت ضجة، ومعركة بين زملائي الطلاب، وأحدهم كان يمسك بمجموعة من الكتب.. الطلبة يريدون الاعتداء عليه وهو متلبس بجريمة حيازة كتب لمحمد بن عبد الوهاب.. احتكموا إلى قضية بينهم حسما للنزاع أن أشتري الكتب.. وقبلوا الحل، وكانت فرصتي لقراءة الشيخ من خلال ما كتبه هو.. لا ما كتب عنه.
ماذا رأيتم في جولاتكم في البلاد الإسلامية من أمر الدعوة ؟
وجدت أن دعوة التوحيد مقبولة لدى العقلاء.. مرفوضة لدى بعض الجماهير.. لأن الماهير تصدر أحكامها من منطلق العواطف الفجة غير المدروسة، والمتأثرة بنفوذ أصحاب المصالح، والتقاليد المتوارثة، وتحكمات الهوى، والبيئة.
وكيف كنتم تواجهون فضيلتكم هذا الجمود ؟
علمنا القرآن الكريم.. أسلوب الدعوة فلابد من مواجهة العقل بالعقل، والعاطفة بالعاطفة.. فمن "سيكولوجية" الدعوة أن تتوافق مع مستويات الجماهير حتى تكون نافعة ومؤثرة، ويصلح الأسلوب الأول – العقلي – في المناقشات الهادئة التي تدور في ندوات مغلقة.. محدودة العدد.. أما الأسلوب الثاني فهو للجماهير الواسعة في المحاضرات ونحوها.
ما هي أنماط المضايقات التي تلقونها ولقيتموها ؟(58/64)
إنه نمط واحد.. لا يتغير في كل مكان.. إنهم أصحاب المصلحة في أن تعيش الجماهير في الضلالة، وهم يشرون يدافعون عن بقائهم وبقاء مصالحهم بضراوة.. أحدهم يعمل قيماً على صندوق نذور جده، وهو في نفس الوقت يشغل وظيفة هامة في المجتمع.. وتعلم في أرقى الجامعات.. ولما كانت كل أسرته تتكسب من "المولد" الذي يقام لجده، ومن صندوق النذور فقد أرسل يهددني بالقتل.. إذا واصلت هجومي على الضلالة، والخرافة.. ولكنه لم ينفذ تهديده.. لأنني مازلت حياً كما ترى.
هل تتفضل فضيلتكم بذكر أنماط أخرى ؟
الأنماط كثيرة ووقتي ووقتك ضيق.. وهي معروفة لدى الدعاة جميعاً، ولا نريد أن نمن على الله بعمل.. فإن الله له المنة والنعمة، والطول، والإحسان، ويكفي أننا أصحاء مرزوقون سعداء، ولم يجر علينا ما جرى على الدعاة السابقين، الذين قال فيهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - : ”إن الرجل فيهم كان يوضع المنشار على مفرق رأسه فيشق إلى نصفين.. فما يرده ذلك عن دينه“ أين نحن من هؤلاء ؟
ما هو العدو الحقيقي في نظرك لدعوة التوحيد ؟
مرة أخرى أقول إن الأعداء كثيرون في الخارج والداخل أي من داخل حدود العمل الإسلامي، ومن خارج حدوده.. وفي رأي أن العدو الداخلي أخطر من العدو الخارجي.. ذلك لأن العدو الداخلي يحارب الإسلام وهو يقول صدق.. أما العدو الخارجي فهو يحاربه وهو يقول كذب.. فالأول منافق، والثاني كافر.. والنفاق شر من الكفر ولذلك كانت عقوبة الله للمنافقين الدرك الأسفل من النار.
تفضلوا فضيلتكم بإيضاح الإجابة السابقة وتفسيرها للقراء ؟
يكاد العدو الخارجي يكون محدداً في الثالوث الحقير المعروف الشيوعية العالمية، والصهيونية العالمية، والصليبية العالمية، أما الداخلي فهم أدعياء التصوف ودعاته، وشيوخ الفرق الإسلامية المتنابذة والمتخاصمة، والتي ما قامت إلا لأهداف مادية، ومناصب دنيوية.(58/65)
ما قولكم في أن هذه الفرق، وعلى رأسها الفرق والطوائف الصوفية تدعي أنها تدعو إلى الله والإسلام ؟
ألست معي أن كل دعوى في حاجة إلى دليل.. فما هو الدليل الذي تقدمه كل هذه الطوائف ؟ لتثبت أن ما هي عليه هو الحق الذي لا شك فيه.. وإذا سلمنا جدلاً أن كل طائفة أثبتت أنها على الحق.. حينئذ يكون للحق ألف طريق مع أن الله سبحانه وتعالى يبين أن طريق الحق واحد في قوله: { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ } [الأنعام: 153]. وكلهم يقولون أنهم ملتمسون من رسول الله، وأن كل الطرق تؤدي إلى الله.. فكيف يدخل عقل عاقل أن رسول الله وضع المناهج لطرائق الرفاعية، والأحمدية، والبيومية، والسماكية، والنقشبندية، والسيوفية والبرهانية بالنون، والبرهامية بالميم..؟ وكيف يمكن أن تكون هذه الطرق مؤدية إلى الله ؟ وأين هي إذاً الطرق التي لا تؤدي إلى الله، والتي قال عنها سبحانه وتعالى: { وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ }؟
فضيلة الدكتور.. ألا يمكن أن يكون اختلافهم عن نيات حسنة.. وزيادة في اجتهاداتهم من أجل الدين ؟(58/66)
ما أضر المسيرة الدينية في ماضيها وحاضرها.. إلا أصحاب النوايا الطيبة الذين بعدوا بنواياهم عن العمل الطيب.. والله يقول: { قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً، الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا } [الكهف: 103، 104] إننا نريد نوايا طيبة، ومعها أعمال طيبة كذلك، ولكي يكون العمل طيباً صواباً لابد أن يكون صاحبه ملتزماً بما صح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ثم ما هذا الاجتهاد الذي تتحدث عنه، وقد اتفق جماهير السلف رضوان الله عليهم على أنه لا اجتهاد مع النص.. وإبليس ما كفر إلا لأنه اجتهد مع النص حيث قال الله له وللملائكة: { اسْجُدُوا لآدَمَ } [البقرة: 34] وهذا نص.. فقال إبليس عليه لعنة الله: { أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ } [الأعراف: 12] وهذا اجتهاد واجتهاد باطل.
إن كل الطرق التي عددتها فضيلتكم.. هي الطرق الصوفية ؟ وتلك كما يقول أصحابها قمة الإسلام أو الإحسان أو التقوى.. فما قولكم ؟
أما أن كل هذه الطرق شيء واحد.. فهذا أمر لا يقره الصوفية أنفسهم بدليل أنهم هم الذين سموها طرقاً – والطرق: جمع طريق – كما هو معروف.. ثم ما هي هذه الصوفية التي تتحدث عنها وتقول إنها قمة الإسلام أو التقوى أو الإحسان؟ وهل تتصور أن يسكت القرآن وأن يسكت رسول الله عن قمة الإسلام هذه فلا يتحدث عنها ولو مرة واحدة؟.. فهل ورد في القرآن الكريم كله لفظ صوفية؟ أوفي الحديث النبوية ما يفيد ذلك؟ أو هل جرى هذا اللفظ على لسان أحد من الصحابة أو التابعين رضوان الله عليهم؟
إذاً لماذا يشيعون أن لفظ الصوفية مرادف للفظ التقوى أو الإحسان ؟(58/67)
سبحان الله.. ما قرأنا في قواميس اللغة على كثرتها وضخامتها أن من مرادفات تقوى صوفية.. وهب أن الأمر كذلك.. فهل يصح لإنسان أن يقول أنا صوفي بمعنى: أنا تقي؟.. وهل يصح لمجموعة من البشر أن يقولوا نحن صوفية.. بمعنى نحن أتقياء.. مع أن الله تعالى يقول: { فَلاَ تُزَكُّوا أَنفُسَكُم هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى } [النجم: 32]، وعلى ذكر القواميس اللغوية.. فإنني أقول لك: إن لفظ صوفية كمصدر صناعي لم يرد إطلاقاً لأي معنى من المعاني التي يريدها الصوفية.. وإنما هو لفظ وثاني وثني قديم معناه الحكمة.
لكن إذا سمحتم لنا فنحن نقول إن هذه شكليات لا ينبغي أن تكون أساساً للفصل في قضية موضوعية هامة كهذه ؟
الذي أريد أن أحدده هو أن الصوفية ليس لها سوى احتمالات عقلية أربعة: إما أن تكون هي الإسلام أو غيره، أو زيادة عليه أو نقصاً منه.. فإذا كانت الأولى فالله سمانا المسلمين، وليس المتصوفين، وإذا كانت الثانية.. فنكون قد رفضنا الإسلام الذي ارتضاه الله لعباده، وإذا كانت الثالثة والرابعة.. فليس من حق أي إنسان كائناُ من كان أن يتصرف في الإسلام وشرائعه زيادة أو نقصاً أو إضافة أو حذفاً.
الشيوعية أقدم من ماركس:
بلا أسئلة وبلا أجوبة.. راح الدكتور يتحدث فيما أحاول أن ألخصه حرصاً على وقت القارئ.. قال: إن هجوم الثالوث الحقير المكون من الصليبية، والصهيونية والشيوعية أيضاً لم يبدأ من هذا العصر وإنما بدأ ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - حي يرزق، وإذا قلت إن الشيوعية عصرية.. أقول لك إن التسمية فقط هي العصرية، أما أهدافها فقد كانت في جماعات "المانوية"، "المزدكية"، وتلك جماعات معروفة في التاريخ.
حرب الشيوعية، والتبشير الصليبي، والتضليل الصهيوني، لا يمكن أن يكون بالخطب بل ينبغي أن ندرس مساربها إلى صفوف المسلمين، وأن نسد الثغرات التي تنفذ منها هذه الأوبئة.(58/68)
وذلك لا يكون إلا بالعودة إلى الإسلام الصحيح والعدالة الاجتماعية المنبثقة منه وحده!
الجولة السابعة
لقاء في سلطنة عُمان
القرآن نزل لحل مشاكل الإنسان ..!
مخاطبة العقول والقلوب بالقرآن ..!
كلمة التوحيد، وتوحيد الكلمة ..!
انتهزت مجلة "العقيدة" العمانية.. فرصة لقاء الدكتور محمد جميل غازي.. في "عمان" لإلقاء بعض المحاضرات في التوعية الإسلامية، فكلفت محررها الزميل "إسماعيل السالمي" بإجراء لقاء معه.. ورغم أن الحوار كان بمناسبة بداية القرن الهجري الجديد.. إلا أن الدكتور كعادته طارد الصوفية والصوفيين، وقال ما تمكنت المجلة من نشره..
وإليك نص الحديث:
الهجرة.. هي البداية:
الأمة الإسلامية تمر الآن بذكرى مرور أربع عشر قرناً على الهجرة النبوية.. فكيف نجسد هذه الذكرى لإحياء مجد الأمة الإسلامية ؟(58/69)
التاريخ الهجري تاريخ أجمع عليها الصحابة.. حينما جمعهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه لاختيار تاريخ يسجلون به أحداثهم ووقائعهم.. ولقد فكروا أي تاريخ يختارون، واتفقوا فيما بينهم على أن أعظم حدث فعلاً هو حدث الهجرة.. واتفقوا على اختيار الهجرة لتكون تاريخاً للمسلمين يرجعون إليه.. يسجلون به أحداثهم.. فالهجرة النبوية وهي الموعد الذي اختاره الصحابة بالإجماع لتكون تاريخاً لحياتهم.. والهجرة النبوية كانت انتقالاً من الفترة المكية إلى الفترة المدنية، والفترة المدنية هي الفترة التوطينية للإسلام، ولانطلاق الإسلام.. ففي المدينة قام الرسول - صلى الله عليه وسلم - بوضع النظم الكفيلة بضمان مسيرة الإسلام.. ولم يضعها الرسول - صلى الله عليه وسلم - من عند نفسه.. وإنما وضعها بتشريع من عند الله سبحانه وتعالى، وبوحي من الله.. لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لا ينطق عن الهوى.. هذه الشرائع التي وضعت في المدينة هي الشرائع الكفيلة والقادرة على هداية الأمة الإسلامية أو على هداية الإنسانية جمعاء.. وبدونها لن تسعد الأمة الإسلامية ولن تسعد البشرية.. كذلك فإن الفترة المدنية هي الفترة التي قامت فيها حروب الإسلام.. والتي أذن للرسول - صلى الله عليه وسلم - فيها أن يقاتل الذين يقاتلونه، والذين يقفون في سبيل الدعوة الإسلامية.. كما قال الله تعالى: { أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ } [الحج: 39].(58/70)
فالهجرة الإسلامية تعتبر علامة ليست في التاريخ الإسلامي وحده، وإنما في التاريخ الإنساني عامة.. فالمسلمون مطالبون فعلاً، وقد مر أربعة عشر قرناً على الهجرة النبوية أن يحتفوا بهذا الحدث، وأسلوب الاحتفاء بهذا الحدث لا نقول بالمهرجانات الموسيقية والمهرجانات الغنائية أو بالتهريج، وإنما بالمؤتمرات العلمية التي تقدم فيها قضايا الإسلام، والتي يدرس فيها ماضي الإسلام، ونصحح كثيراً من الأخطاء الموجودة في التاريخ الإسلامي.. ثم في الوقت نفسه دراسة حاضر المسلمين ونقط الضعف في هذا الحاضر، والسلبيات الموجودة.. وفي الوقت ذاته وضع الخطط الجادة الغير الهازلة التي لا توضع للاستهلاك فقط، إنما توضع موضع التنفيذ للنهوض بمستقبل المسلمين، وكيف يكون هذا المستقبل أكرم وأشرف مما سبق. وننتظر أن تتحرك البلاد الإسلامية نحو هذه الذكرى وأن يؤمنوا أنهم شهود نهاية القرن الرابع عشر الهجري وهم شهود ميلاد القرن الخامس عشر الهجري.. إننا نعيش هذه الفترة الحاسمة في التاريخ البشري.. فالعالم من حولنا يعيش صراعات رهيبة.. سواء أكانت صراعات فكرية أو صراعات أيديولوجية.. أو صراعات استراتيجية أو صراعات في المذاهب..
هذه الصراعات موجودة في العالم اليوم.. وكل أمة في العالم تحاول أن تتسع أو أن توسع مناطق نفوذها في مقدرات الدول الفكري أو النفوذ العسكري أو النفوذ في الأرض أو النفوذ في مقدرات الدول أو النفوذ في الأسواق، والمسلمون منكمشون لا يستطيعون النفوذ أو متابعة العالم باهتمام، أو أن يشاركوا في الحياة النشيطة التي تدور في الخارج.
مطلوب من المسلمين وهم يحتفلون باستقبال القرن الخامس عشر الهجري أن يتصوروا هذا كله ويتدبروه.. وكل المسلمين ينبغي أن يدرسوا كيف يوصلون كلمة الله إلى الناس جميعاً، لأن حل مشاكل الناس في أيدي المسلمين والعالم يبحث عن أسلوب لحل مشاكله.(58/71)
المجتمع الرأسمالي يبحث عن أسلوب.. والمجتمع الشيوعي يبحث عن أسلوب.. والمجتمعات التي تسمي نفسها الاشتراكية تبحث عن أسلوب.. وتختلف على نفسها، وكلها اجتهادات بشرية تخطئ أكثر مما تصيب.
القرآن.. والإنسان:
ليس هناك أمة تحمل كلمة الله بصدق إلا الأمة الإسلامية، فليس هناك كتاب يمثل كلمة الله إلا القرآن الكريم، لأن الكتب كلها ضاعت.. التوراة ضاعت، والإنجيل والزبور كلها ضاعت، ولم يبق كتاب سوى القرآن الكريم هو الذي يمثل كلمة الله حتى وإن كانت هذه الكتب باقية فإنها بنزول القرآن انتهت رسالتها وانتهت أهدافها.. والقرآن الكريم أصبح مهيمناً على هذه الكتب.. وأصبح مسؤولاً عن كلمة الله الصحيحة.. القرآن حل مشاكل الإنسان.. وعلى المسلمين أن يبلغوا هذا الحل للناس جميعاً، إن لم يقم المسلمون بتبليغ كلمة الله يكونوا قد قصروا في حق البشرية كلها ويكونوا قد قصروا في حق أنفسهم أيضاً.(58/72)
وألاحظ على المسلمين ملاحظة عجيبة، أنهم في وسط هذا المعترك القائم بين الثقافات، وبني الحضارات لا نجد المسلمين يدخلون المعترك بما معهم من ثقافة، وما معهم من حضارة.. ينزوون ويخجلون ويتقوقعون بل يتشبهون بالآخرين.. فنجد في بلاد المسلمين من يعتنق الشيوعية، ونجد من يعتنق الوجودية، ونجد من يمارس التبشير.. هل هناك جدب في الثقافة الإسلامية حتى أخذوا يتسولون من هنا وهناك ويستوردون.. لو أن ثقافة القرآن قليلة أو ضحلة لقلنا أن المسلمين يستوردون ثقافات أخرى لملء الفراغ الذي يعانون منه.. لكن ثقافة القرآن لا نظير لها، وليس هناك في الدنيا على الإطلاق لا في الماضي، ولن يكون في المستقبل أبداً كتاب قامت عليه ثقافة كما قامت ثقافة على القرآن الكريم.. علوم انبثقت من القرآن الكريم.. ملايين الملايين من الكتب خرجت من القرآن الكريم، وهو كتاب يدعو أتباعه إلى الانفتاح العقلي، والانفتاح الفكري.. فهو ليس كتاباً مغلقاً، وليس كتاباً يطلب من أتباعه أن يكونوا مغلقي الذهن.. إنه كتاب ينهى عن الجمود، ينهى عن التقليد.. يدعو إلى العقل والحضارة والتدبر.. كل ذلك موجود فيه.. مطلوب من المسلمين وهم الشاهدون لنهاية القرن الرابع عشر، أن يخرجوا القرآن للناس.. أنا أعلم أن القرآن يطبع عشرات المئات وآلاف الطبعات في كل بلاد المسلمين، وأعلم أن هناك تسجيلات كثيرة للقرآن الكريم.. وأعلم أن هناك محطات لإذاعة القرآن الكريم.. وهناك مجلات دينية تنشر القرآن الكريم.. لكن ليس هذا هو المطلوب فقط، إنما المطلوب هو كيف نغزو المؤتمرات العالمية بالقرآن الكريم.. كيف نغزو بلاد العالم مبشرين بالقرآن الكريم.
القرآن يخاطب القلوب العقول:(58/73)
وأقولها صريحة بأن بلاد العالم ممهدة جداً لاستقبال القرآن.. هي تبحث عنه.. نحن نعلم أن في أمريكا مسلمين كثيرين، ويسلم الكثير فلو وضعنا مقارنة بسيطة بين ما يبذله التبشير لدخول بلاد المسلمين.. فالتبشير يدخل بالمال والوعظ من أجل أن يجعل مسلماً واحداً يترك دينه فلا يستطيع.. العكس هو الذي يحدث... أمريكا هي التي يدخلها الإسلام هل معنى هذا أن عندنا أموالاً نصرفها على الأمريكيين لكي يسلموا...ومن الذي يستطيع أن يشتري أمريكا وهي تملك كل شيء؟ يدخلون الإسلام بدون تبشير منا وبدون ضغوط، وبدون إغراء، هم يبحثون لأن المدنية الأوروبية تعيش الآن مرحلة تفسخ، تعيش مرحلة النهاية، وهذا كلام علمائهم.. فأكبر فيلسوف غربي، وأكبر مؤرخ غربي ألف كتابه أفول الغرب... الذي ترجم ترجمتين إحداهما بعنوان "أفول الغرب" والأخرى بعنوان "انهيار الحضارة الأوروبية" إذ هذا رأيه، كذلك نجد أن الكتاب من قديم يبشرون بالإسلام "جورج برناردشو" يقول في كتابه "نداء العمل" فإذا كانت لنبوءات كبار الرجال أثر فإني أتنبأ بأن دين محمد قد أصبح مقبولاً لدى أوروبا اليوم، وسيكون مقبولاً لديها أكثر غداً، وسيكون دين الإنسان جميعاً قبل الصيحة الأخيرة. إذ أوروبا مهيأة تبحث عن كتاب عالمي، ودين عالمي.(58/74)
الآن ومنذ عشرات السنين يبحثون عن دين عالمي، وقد أوجدوا أو ألفوا أو اختاروا ديناً جديداً سموه الديانة الطبيعية.. كذلك يريدون أن يضعوا لساناً عالمياً، فوضعوا ما سموه "الأسبانتو"... فلو نظرنا إلى الديانة الطبيعية التي قالوا بها نجدها قريبة الشبه بالإسلام.. لكنها ليس فيها الدقة ولا الحكمة الموجودة في الإسلام.. فهم يريدون ديانة تتفق مع الطبيعة وما يقولونه عن الطبيعة هو ما قيل عن الإسلام "دين الفطرة" الدين الذي يتفق مع عقل الإنسان وإحساسه، كذلك هم يطالبون بلسان الاسبرانتو أو اللسان العالمي.. والإسلام أيضاً معه اللسان العالمي.. فاللغة العربية – نحن بانزوائنا جعلناها اللغة السادسة بين لغات العالم... هذه كارثة – مع أن اللغة العربية لا أقولها بأنها الأولى فقط... ولكن لا ينبغي أن توضع من اللغات في مقارنة فهي أعلى.. ولا نقول هذا الكلام جزافاً، ولكن نقوله من الواقع الحي.. فإذا جئنا بأكبر قاموس لغة من اللغات ولتكن اللغة الإنجليزية لأنها أوسع اللغات.. ثم حذفنا مفردات الحضارة منه ثم أبقينا الجزء الباقي بعيداً عن ألفاظ الحضارة المستحدثة مثل "راديو.. تلفزيون" وأتينا بلسان العرب بأجزائه العشرين فإننا نجد ما يتبقى من اللغة الإنجليزية لا يعادل نصف مجلد من مجلدات لسان العرب.. إذاً فهي لغة واسعة لها أدبها، ولغة لها كيانها.. ولها مفرداتها الثرية الغنية واشتقاقاتها.
القرآن.. والتطور:
فالمسلمون عندهم الكثير من العلم والكثير من الحضارة.. ولكن كل هذا ضاع.. في الوقت الذي نجد فيه المكتبة الإسلامية مليئة نجد المسلمين يتسولون فتات موائد الآخرين.
كل هذه الأمور لابد أن توضع على الموائد أمام الذين يجتمعون ليدرسوا مرور أربعة عشر قرناً من الزمان على نزول القرآن الكريم.(58/75)
القرآن هو المعجزة الخالدة.. والأمة الإسلامية تسير في اتجاهات باسم التطور الحديث.. فهل عجز القرآن عن مسايرة الأحداث والقوانين المعاصرة في الوضع الاجتماعي والسياسي والمالي؟
للقرآن الكريم موقفه من التطور، وللتطور موقفه من القرآن.. فالقرآن يرحب بالتطور.. ولكن أن يخضع له.. فلا.. لأن ما نسميه تطوراً قد يكون في بعض الأحيان تهوراً، وليس بتطور.. وما نسميه مدنية قد يكون همجية.. وما نسميه بالتحرر قد يكون تحللاً.. من الذي يحدد الفرق بين ما هو تطور وما هو تهور؟ وما هي تجديد، وهو في الحقيقة تبديد.. وما هو تحرر وما هو تحلل؟ هل الحرية هي أن تفسق.. أن تشرب الخمر؟ أن تجعل من المرأة قطعة ديكور؟ أن تشارك المرأة في تجميل شوارع المدينة؟ إن هذا ليس تحرراً وإنما هو تحلل.. من الذي يسمي الأشياء بأسمائها؟ إنه القرآن الكريم.. فإذا أخضعنا القرآن للتطور فمعناه أن يفرض التطور تهوره على القرآن.. فيقول له: إن خروج المرأة نصف بغي ونصف عارية هذا تحرر.. لو أخضعنا القرآن لهذا فمعناه عكس للأوضاع.. فالقرآن هو المسيطر على الفكر والمسيطر على سلوك الإنسان.. أما أن يكون الإنسان هو المسيطر على كلام الله فقد انعكس الموضوع وعاد القرآن لا شيء.. ويعود الإنسان مرة ثانية ليفكر لنفسه.. والله تعالى قد وفر على الإنسان جهوداً مضنية، ما كان ليستطيع أن يصل إلى القرآن، فالله وفر عليه ليحميه من المتاعب الفكرية.. فالبشرية مثلاً في مجال الشيوعية.. ماركس وضع نظرية.. لا أقل إنه أول من وضعها وإنما هو واحد في حلقة طويلة من الذين وضعوا الشيوعية.. وأن تاريخ الشيوعية أقدم من ماركس بمئات السنين.. فلنقل أن ماركس وضع نظرية.. هل ماركس نفسه مقتنع بالنظرية.. إن النظرية نفسها تحمل عوامل سقوطها.. لأن ماركس الذي يقول بالتطور وبالصراع المستمر سألوه.. وماذا بعد الشيوعية؟ أجاب مزيد من الشيوعية.. معنى هذه الإجابة أنه هو شخصياً غير مقتنع بأن نظريته(58/76)
صالحة للتطور، وإلا لكان المبدأ الذي بنى عليه النظرية وهو الصراع يستمر.. ويكنه يرى أن هذا المبدأ ينتهي.
نجد أن الشيوعية تحمل تناقضات، تقول إنه إذا ظهر طغيان رأس المال قامت حركة البلوريتاريا، وحدث الصراع بين طغيان رأس المال وبينهم.. مع أننا نجد مجتمعات طافحة بالمال، ومع ذلك لم يحدث فيها صدام.. كالمجتمع الأمريكي مثلاً، ثم قامت الاشتراكيات بعضها يعدل البعض.. هذه اشتراكية "فابية" وهذه اشتراكية إصلاحية.. كل هذه النظريات تتصارع.. القرآن الكريم وفر على الإنسان كل هذه المتاعب ووضع حلوله لكل المشكلات.
نعود إلى الجزء الخاص بالتشريع والسياسة والاقتصاد.. نقول إن القرآن الكريم حكم العالم في فترة طويلة وأنه قدر أن يضع للعالم تشريعات منصفة عادلة لم ير العالم مثلها، وأنه ونضع نظماً سياسية وإدارية لم يشهد لها العالم مثيلاً.. كل ذلك معروف لمن يدرس الحضارة الإسلامية.. والقرآن ليس معجزاً في لفظه فقط وإنما هو معجز في تشريعه أيضاً وفي سياسته وفي أسلوبه التنظيمي وأسلوبه الاقتصادي.. فهو معجز في كافة النواحي التي عرضها وتطرق إليها.. فالله عندما أنزل القرآن للإنسان لم ينزله من أجل أن يرضى عقل الإنسان، أو يرضي مشاعره وإحساساته فقط.. أو يرضيه في أسرته أو مجتمعاته فقط.. فهو ليس ديناً فردياً كالوجودية.. وليس ديناً يلغي الفرد كالشيوعية.. إنما راعى الإنسان في نفسه ومشاعره ووجدانه، وراعاه في أسرته ومجتمعه.. وضع نظاماً يكفي لهذا كله.. إننا لو درسنا الخط الحضاري في منطقة الشرق.. ودرسنا الخط الحضاري في منطقة الغرب لوجدنا أن الكل في المنطقتين ترك الأديان ثم أخذ يتصرف عشوائياً.
تركنا القرآن.. فضعنا :(58/77)
لكننا لو نظرنا إلى الماضي.. حينما كان الشرق متمسكاً بدينه والغرب متمسكاً بدينه، فإننا نجد أن منطقة الشرق الإسلامي حينما كانت متمسكة بدينها كانت هي صاحبة السيادة والتفوق الحضاري والعمراني الذي لا نظير له.. مما جعل ملك إنجلترا "جورج" يرسل خطاباً إلى هشام ملك الأندلس يقول له: "إنني أرسل بعثة من رجال البلاط والأشراف وبينهم ابنة أخي الأميرة "دوبانت" ليتعلموا العلم في مدارسكم ويعودوا إلينا فينشروا النور في بلادنا التي عمها الظلام من كل الجوانب".
ونرجع إلى منطقة الغرب لما كانت متمسكة بدينها كانت متخلفة جداً، وتاريخ أوروبا في القرون الوسطى يندى له الجبين.. محاكم تفتيش.. قتل للمفكرين.. إذاً فالمعادلة متعاكسة.. فلما ارتد الاثنان عن دينهم حدث العكس.. فالمسلمون تخلفوا.. وأوروبا تقدمت معنى هذا أن الدين الإسلامي يعطي حضارة.. والتمسك بغيره والردة عنه يعطي التخلف.. والردة عن غير الإسلام تعطي التقدم.
خاض القرآن الكريم معارك بعضها جدلي وبعضها حربي.. وخرج من هذه المعارك كلها منتصراً مع احتفاظه بنصه وروحه.. فلم تمسه يد التحريف.. فهل تشرح للقارئ جانباً من صمود القرآن ؟(58/78)
هذه المعجزة أيضاً من معجزات القرآن الكريم، فالمعارك التي دارت حول القرآن الكريم لم تدر حول كتاب على الإطلاق.. في الوقت الذي تنزل فيه كل آية من آياته كان الصراع دائراً ومستمراً.. معارك كلامية وجدلية، ووفود تأتي للنقاش، وأفراد يناقشون النبي، ويناقشون المسلمين.. في الوقت نفسه كانت دور معارك حربية أيضاً مع الأعداء التقليديين.. الصليبية العالمية والصهيونية العالمية والشيوعية العالمية أو الوثنية العالمية بأي صورة من صورها.. تدور مناقشة في شتى المجالات ففي سورة آل عمران مثلاً.. عندما جاء وفد نصارى نجران إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ليناقشه في حقيقة المسيح وحقيقة القرآن الكريم.. واستمر النقاش إلى ذروته.. ونزل قول الله تعالى: { فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ } [آل عمران: 61].
والمباهلة هي أن يقف الفريقان ثم يبتهلان إلى الله أن يلعن الكاذب منهما إلى آخر ما جرى.. فامتنع النصارى عن المباهلة.. وقالوا: لو كان نبياً فباهلناه لن نفلح ولن يفلح أولادنا من بعدها.. والرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: ”والله لو باهلوني لأحجج الله عليهم الوادي ناراً“.(58/79)
ونفس المواجهة حصلت مع اليهود.. والله سبحانه وتعالى يواجه اليهود بادعائهم المعروف وهو أن لهم الدار الآخرة، وأن الناس لن يدخلوا الجنة.. فالله يقول: { قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآَخِرَةُ عِندَ اللَّهِ خَالِصَةً مِّن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُاْ الْمَوْتَ } [البقرة: 94].. والرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: والله لو تمنوا الموت لماتوا جميعاً، ولكنهم حريصون على الحياة كما قال الله تعالى في بقية الآيات: { وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمينَ، وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ } [البقرة: 95، 96].
القرآن فوق الصراعات :
هذا بالنسبة للجدل الكلامي، أما بالنسبة للمعارك العسكرية فلقد خاض الرسول - صلى الله عليه وسلم - معاركاً كثيرة تحدث القرآن عنها.
فمثلاً سورة الأنفال تعرض غزوة بدر، سورة آل عمران تعرض غزوة أحد، سورة الأحزاب تعرض غزوة الأحزاب "الخندق"، وغزوة بني قريظة.. نجد أن كثيراً من الغزوات مذكورة في القرآن الكريم وهناك الكثير من السرايا.
القرآن الكريم يخوض هذه المعارك سواء أكانت معارك كلامية أو عسكرية وسواء سجلها القرآن أم لم يسجلها.. المهم أنه كان يمر في خضم هائل من المناقشات والمعارك.. ومع ذلك فإن القرآن الكريم ظل منتصراً ولم ينهزم أبداً.. كذلك الجنود الذين يدخلون المعارك في ظلال القرآن ينتصرون، أما إذا ابتعدوا خطوة واحدة فإنهم ينهزمون.(58/80)
القرآن انتصر في معاركه كلها، وأعظم انتصار حققه القرآن الانتصار في النص، فالنص الذي كان يتلوه الرسول - صلى الله عليه وسلم - هو النص الذي كان يتلوه الصحابة، هو النص الذي نقرأه، لا المعارك أثرت فيه يحذف حرف واحد ولا بزيادة حرف واحد.. وإنما ظل هكذا.. وأيضاً المعارك الداخلية فلقد كان بين المسلمين أنفسهم معارك.. وقامت فرق إسلامية ومذاهب بعضها سياسي وبعضها ديني وبعضها لأغراض شخصية، هذه المذاهب كانت تستبيح لأنفسها أحياناً أن تكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لكن لم يستطع واحد من المتصارعين في هذه الفرق أن يضع آية في القرآن الكريم أو أن يحذف أو يضيف حرفاً.. وهذا علامة على حفظ الله للقرآن كما قال تعالى: { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } [الحجر: 9]، { لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ، إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ، فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ، ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ } [القيامة: 16، 19]. فالله سبحانه وتعالى وعد بالنسبة للقرآن بعدة وعود.. وهي جمع القرآن لأنه كان ينزل منجماً.. وقرآنه وهو أسلوب قراءة القرآن.. كذلك بيان القرآن.. ومن قبل ومن بعد حفظ القرآن من التحريف.
ترجموا معاني القرآن:
هناك شبهات يثيرها أعداء الإسلام حول القرآن فما هي هذه الشبهات؟ وكيف ندافع عنها؟(58/81)
الشبهات أو النحل الفاسدة التي يثيرها أعداء الإسلام، شبهات مضحكة.. فهم مثلاً يشيعون أو يقولون بأن القرآن انتشر بالسيف ويقولون أن القرآن أباح تعدد الزوجات، وأن القرآن أباح الطلاق، وأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - عدد زوجاته.. وأن القرآن أباح الرق.. إن هذه القضايا التي أثيرت وتثار هي قضايا لا أساس لها.. وهي معقولة ومفهومة حتى لدى الذين يثيرونها.. فالذين يتكلمون عن تعدد الزوجات هم يعددون الخليلات ويعددون الزوجات ويقولون إن أنبياءهم عددوا الزوجات بمائة وأكثر من مائة.. فعندهم داود تزوج مائة، وسيلمان تزوج مئات.. والذي أريد أن أقوله شيء هام.. هو هل على الدعاة المسلمين أن يفترضوا أن القرآن موضوع في قفص الاتهام وأنهم هم المدافعون عنه؟ لا أبداً.. إن القرآن قادر على الدفاع عن نفسه في كل القضايا التي تثار حوله.
القرآن يدافع عن نفسه، ومهمة الدعاة هي إن يقرأوه على الناس، أن تترجموا معانيه إلى لغات العالم.. وأن يغزوا به العالم، وإن كان هناك ضيق يد في الدول الإسلامية فإن شبابنا المسلم الذي يسافر إلى الخارج يجب أن يحمل معه القرآن وتعاليمه.. وينفذ شعائر الإسلام.. إن مجرد سماع الناس للقرآن فإنه سيؤثر فيهم وسيهز مشاعرهم.. فلقد كان المشركون يوصون أصحابهم فقط بعدم سماع القرآن.
كلمة التوحيد .. وتوحيد الكلمة :
ما هي العقبات التي تقوم في طريق المسيرة الإسلامية.. وكيف يمكننا التغلب عليها؟(58/82)
هناك عقبات كثيرة.. بعضها خارجية وبعضها داخلية.. والعقبات الداخلية أهم من الخارجية لأن العقبات الخارجية مهما قويت لن تكون أقوى منها في أيام نزول القرآن.. لأن القرآن نزل على رجل يعاديه حتى أقرب أقربائه – عمه – كذلك فهو في بيئة محاطة، ومع ذلك استطاع أن يخرج من هذه العزلة في الأهل والحصار الاقتصادي ومع ذلك خرج منتصراً، ولقد أوتي الرسول - صلى الله عليه وسلم - هذا الفتح.. وفي حياته حقق فتح الجزيرة العربية كلها، وبعد وفاته وفي خلال خمسين عاماً كانت الدنيا قد فتحت على المسلمين شرقاً وغرباً.. المسلمون كانوا يفهمون الإسلام حقاً.. لم يكونوا فرقاً وشيعاً وأحزاباً.. ولم يكونوا مما يعادي بعضها بعضاً، وإنما كانوا أمة واحدة.. ولكن المسلمين أصبحوا اليوم فرقاً وشيعاً.. وينبغي أن نتذكر أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - عندما دخل المدينة كان أول شيء فعله بناء المسجد للوحدة ثم قيام الإخوة للوحدة.. فلو تمسك المسلمون بمبدأين هما توحيد الكلمة وكلمة التوحيد لتغير حالهم عما هم عليه.. وأصبحوا بحق خير أمة أخرجت للناس.. وهناك أمر هام هو أن يعود المسلمون بأفكارهم إلى القرآن الكريم وألا يبتعدوا عنه.. فالذي حدث هو أن المسلمين أخذوا يتسولون أفكاراً ونظماً.. فعيب علينا وبيننا القرآن أن نأتي بأفكار مستوردة من عند الوثنيين وعباد البقر والشيوعية الحمراء وغيرها من القوانين الموضوعة.
مطلوب دعاة على مستوى الدعوة :
تصل إلى الآذان كثير من الدعوات نحو تطوير سبل الدعوة والإرشاد.. فما رأيك في أفضل السبل ؟(58/83)
الإسلام دين عرف كيف يستغل أساليب الإعلام.. وليس هناك على الإطلاق مبدأ أو دين صنع ما صنعه الإسلام.. في وقت لم يكن الإعلام معروفاً ولا العلاقات العامة معروفة، ومع ذلك وجدنا أ، الإسلام دين إعلامي من طراز لا يعرفه البشر.. ويكفي في الصلوات الخمس إذ يقف المؤذن فيبلغ مبادئ الإسلام في جمل مختصرة.. والمسجد مكان للتجمع خمس مرات في اليوم مع إمام واحد وصف واحد.. وخطبة الجمعة وصلاة العيدين.. يخرج الناس إليها صغيرهم وكبيرهم.. نساؤهم ورجالهم.. هذه كلها أساليب إعلامية قوية بدأ بها الإسلام.. فالداعية المسلم علمه الله كيف يستغل الأساليب الإعلامية المتاحة.. واليوم هناك أساليب إعلامية حديثة.. كالجريدة.. والإذاعة والتليفزيون.. يمكن تسخيرها للدعوة إلى الإسلام.. والرحلات والمؤتمرات، والسفر والهجرة، ولقاءات الشباب.. كل هذه الأساليب ينبغي أن تستغل.. يؤسفني جداً أن أقول أن الإعلام الإسلامي متخلف.. فمثلاً حينما تقرأ المقال الإسلامي تجده قد أخرج إخراجاً رديئاً.. وكذلك إخراج الكتاب الإسلامي بطريقة يسأمها الكثير فلماذا لا نستغل أرقى أساليب الطباعة.. وأرقى أساليب العرض.(58/84)
وعلينا أن ندرك أن الدعوة إلى الإسلام ليست خطباً فقط.. فالخطب والمحاضرات قد تكون أحياناً مملة.. ثم إنها لمن؟ يذهب الخطيب إلى المسجد ليدعو الناس إلى الصلاة.. والذين يذهبون إلى المسجد إنما جاءوا ليصلوا ولكن المشكلة هي أن توجه الدعوة للذين يذهبون إلى المنتزهات والمقاهي والسينمات والملاهي بأن يتوجهوا للصلاة.. ولكن كيف أوصل ندائي إلى هؤلاء الناس.. يجب أن أستغل كل الطاقات من أول الجريدة وحتى الملصقات على الحوائط.. وهذه الملصقات تدعو إلى العبادة.. ولابد أن تصمم بأسلوب مثير.. والداعية حين يوجه نداءه يجب أن يعرف أنه لا ينادي المثقفين فقط.. وإنما الأميين وأنصاف المتعلمين أيضاً.. والخطيب عندما يقف في المسجد عليه أن يدرك أن أمامه مثقفين لابد أن يستفيدوا، وأميين لابد أن يستفيدوا.. وعليه أن يجمع بين الاثنين.
وعلى الداعية أن يختار الموضوع بحيث يكون قادراً على حل المشاكل اليومية للمتسمع.. كذلك المناقشة يجب أن تكون مفتوحة فربما كان المستمع يستمع إلى خطبة ولكنه غير موافق على هذا الكلام.. وليس من الضروري أن تكون على رؤوس الأشهاد فمن الممكن أن تكون مناقشات فردية.. ولتستمر المناقشة أسبوعاً.. شهراً.. تتبادل خلالها الكتب والمعلومات حتى يستطيع أن يقنعه لأنه ربما يكون فكره مشوشاً.
الذين يفترون على الله ورسوله :
أعرف رأيك في الصوفية والصوفيين، لكن ما هو تأثيرهم في الإسلام؟
الصوفيون لا تأثير لهم ولا وزن لهم في الإسلام، أو على الإسلام. لكن خطرهم الداهم.. هو على المسلمين.. أنهم يستغلون جهل البعض وبكل أسف.. وأقولها، وأنا حزين القلب والنفس.. أن أكثرية المسلمين هم الجهلة، مع أن العلم والتعليم جزء من الدين لا يتجزأ.. والرسول عليه الصلاة والسلام ما ترك فرصة إلا حض فيها على التعليم.. وقَبِلَ أن يكون فداء الأسير أن يعلم عشرة من أبناء المسلمين.. في أول غزوة.(58/85)
ثم أعود فأقول: "هؤلاء الذين يدعون الإسلام، ويحسبهم الناس على المسلمين، ويدعون أنهم من المتصوفين، وتأخذهم العزة بالإثم.. فيفترون على الله. ويقولون: إن الإسلام هو التصوف، وأن التصوف هو الإسلام، وإذا كان الإسلام هو التصوف.. فلماذا سمانا الله بالمسلمين، ولم يقل رسول الله أبداً، ولا روى صحابته أنه قال تصوفوا.. ولم يقلها أحد من صحابته، ولا أحد من التابعين.. إن هي إلا بقايا من الأديان البائدة، والباقية.. بعضها مجوسي، وبعضها بوذي، وبعضها وثني، وبعضها مسيحي أو يهودي.. تسلل بها حاملوها إلى قلوب المسلمين ليضربوا العقيدة في قلبها، وفي أصلها.. في العمود الذي يقوم عليه التوحيد".
فأول خطوات الصوفية.. أن تسلم أمرك إلى غير الله.. أن تعطي كل قلبك للشيخ.. وهذه هي البداية.. فإذا نجحوا في ذلك أسلم المريد إلى بقية الخرافات.. حتى يشرك دون أن يدري.. وأي شرك بعد أن يقول الصوفي: أن كون الله في أيدي بعض الأقطاب.. وهم من البشر الموتى.. كالسيد البدوي، والدسوقي، وغرهما.. يفعلون به ما يريدون، والغريب أنهم يلفقون هذه السماء، ولا يقربون الأنبياء.. مع أن الأنبياء صفوة مختارة كرمهم الله بالاصطفاء.. لأن "الولي" الصوفي عندهم أكبر من أي نبي ويكفي أن تعرف أنهم يزهون بأنهم لا يعملون بما تركه لنا النبي - صلى الله عليه وسلم - ويعملون بما يقول به شيوخهم.. لأنهم يعتقدون أنهم يأخذون علمهم من الله الحي، وإنما بقية المسلمين يأخذون العلم عن أموات..
ألم يخدموا الإسلام في فترات معينة ويدافعوا عنه:(58/86)
هذه فرية من مفترياتهم، وتلفيقة من تلفيقاتهم.. التي نشروها في الأدب الشعبي.. من أن السيد البدوي جاء بالأسرى وكيف يجيء أو يحارب وهو يسير على خط "ابن عربي" الذي يقول: إن الله إذا سلط ظالماً على قوم فلا يجب أن يقاوموه لأنه عقاب لهم من الله.. ومن قال إن هؤلاء الذين يعيشون بصفة دائمة في شبه غيبوبة عقلية يصلحون للحرب أو التدبير أو القتال؟.. إنهم يعيشون على فلسفة البلادة، وتخلف الفهم، وبطء الحركة.. فكيف يصارعون أو يحاربون؟
إذا كان بعضهم يعتبر السعي على الرزق.. عدم ثقة في أن الله قادر على أن يرزقه، وينام في بيته أو ضريحه إلى أن يأتيه أتباعه بالطعام والشراب، فكيف يصدق أن هؤلاء كانوا رجال حرب وطعان؟
إن مثل هؤلاء المتصوفة كمثل الدبة التي قتلت صاحبها بالحجر لأن الذبابة وقفت على وجهه وهو نائم.. فلكي تطرد الذبابة قذفت وجه صاحبها بحجر كبير فهشمته وقضت عليه.. ومع ذلك فالدبة خير منهم لأنها فعلت ما فعلته بحسن نية، ولأنها حيوان لا عقل له.. أما هؤلاء فيلغون عقولهم وعقول أتباعهم بقصد الانتفاع من غفلة الناس.
لكنهم يدعون أنهم "انجذبوا" في حب الله ورسوله.. فما قولكم؟
الإسلام من شروطه أن يحب المسلم الله ورسوله.. ولكن أي حب؟ الحب الذي يجعل المسلم يخشى عصيان الله ورسوله، فينتهي عما نهاه الله عنه، ويحرص على هذا الحب فينفذ ما أمر الله به أن ينفذ.. أما أن يتنطع فيقول: أنه يعشق الله، ويعشق الرسول، وأنه عبد ذليل أمام أهل البيت، والعبودية لله وحده، ولا ذلة إلا له.. وكلمة "عشق" كلمة فاحشة.. لا يجب أن تكون بين العبد وربه.. ثم من قال: إن حب المسلم لرسول الله تجعله يفتري عليه.. إن أحدهم يقول إنه ذهب يزور قبر رسول الله.. وأمام القبر قال: ها أنذا جئت يا رسول الله لأسلم عليك فمد رسول الله يده من قبره وسلم عليه!!(58/87)
هل هذا حب؟ وهل هذا أدب؟ هل هذا كلام يستقر في العقل أو القلب.. إنه جنون.. أو أحلام يقظة.. أو كذب، وكل ذلك لا دخل له بالإسلام.. دين السماحة، والبساطة، والاعتداء..
وفي النهاية لا يسع مجلة "العقيدة العمانية" إلا أن تشكر للدكتور استجابته وسعة صدره.
الجولة الثامنة
عقبات على الطريق
الأزهر مطالب بإجراء تغيير جذري في أسلوب عمله!!
صناديق النذور.. وتجار الأضرحة.. والشريعة!!
التقريب بين المذاهب.. دعوة مشبوهة!!
هذا الحديث الطويل.. كان قد أدلى به الدكتور محمد جميل غازي لـ"جريدة التعاون" أيضاً، وقد تحدث فيه عن عشرات النواحي التي تتعلق بالإسلام، وتهم المسلمين، ولما كان يحتوي أيضاً على تفنيد، وفحص، وتمحيص لادعاءات الصوفية.. وكشف اللثام عن سر تغلغلها في الريف، وتتضمن إجاباته الرد على كثير من الأسئلة التي تطوف برؤوس المسلمين.. لذلك فإننا نورد منه هنا بعض ما يفيد القراء، وما يتفق والهدف من نشر هذا الكتاب.
وحول ما يسود الريف المصري من خرافات وأساطير يقول فضيلة الدكتور جميل غازي:
"الريف المصري يقع فريسة للمتسولين الدنيئين، الذين يبيعون القرآن على المقابر، وفي البيوت، نظير دراهم معدودة، أو أرغفة غير معدودات.. كما يقع الريف المصري أيضاً فريسة للسحرة والدجالين، الذين يتاجرون بالسحر والجان والأحجية والتمائم، ويخدعون البسطاء بخرافات وأكاذيب، ليست من الإسلام في شيء وليس الإسلام منها في شيء، وإنما هي أوهام أشاعها تجار الخرافة الذي يثرون على حسابها.. وما أكثر تجار الخرافة في قرانا، وما أسوأ استغلالهم لمشاكل الفلاح المصري وأزماته".(58/88)
وقد كنا نظن أننا نعيش في عصر العلم والتكنولوجيا والأقمار الصناعية.. وكنا نظن أن هذا العصر قادر على مكافحة هذا السيل الجارف من التأخر والانحطاط.. ولكن يبدو أننا نعيش بمنأى عن العصر، وأسلوب العصر، أو يبدو أن العصر نفسه مصاب بالمرض النفسي المعروف (انفصام الشخصية!) ففي الوقت الذي نجد فيه الحضارة المادية تعم وتسود، نجد التخلف الروحي يشتد ويتزايد!! المادة تتقدم، والإنسان يتأخر، وتلك هي قمة المأساة!
مطلوب تطهير القرية المصرية من تجار الخرافة :
ويستطرد فضيلته قائلاً: وإذا كان تجار الخرافة في قرانا يتمسحون في الإسلام، ويتسللون إلى نفسية البسطاء خلف أقنعة التدين الكاذب، فإني أقول لكم: إن الإسلام بريء منهم، ومما يدعون فلا تظلموا الإسلام، ولا تحملوه هذه الأعباء التي تتناقض مع طبيعته لأنه دين الفطرة، والعقل، والعلم، والتقدم، والحضارة.
أما هذه الشعوذات والخرافات فاستمعوا معي إلى حكم الإسلام فيها.. يقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ”من أتى كاهناً أو عرافاً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد - صلى الله عليه وسلم -“.
معظم مساجد القرية خلت من الأئمة المؤهلين :
ويعلق الدكتور جميل غازي على هذه الظاهرة الوثنية التي تسود الريف المصري قائلاً:(58/89)
"لا شك أن انتشار الوهم والخرافة في الريف جاء نتيجة طبيعية لغياب الوعي الديني بين سكانه، واختفاء الدعاة الأكفاء.. إن مساجد القرية خلت في معظمها من الأئمة المؤهلين، وأصبحت حكراً على الجهلة وأنصاف الأميين، وانتشرت فيها ظاهرة الخطب المنبرية المنقولة من الأوراق الصفراء البالية، والتي حولت كثيراً من خطباء القرى إلى ببغاوات يرددون خطباً محفوظة، منحدرة من عصور الجهل والتخلف، وموزعة على أسابيع السنة لكل أسبوع خطبة لا تتغير ولا تتبدل، وفيها ما فيها من خطأ وخلط وسجع مبتذل، وأحاديث مكذوبة، وأفكار ساذجة بلهاء، مما أشاع في أوساط أهل الريف، التواكل والأمية والسلبية.
ولا ترى القرية المصرية النور إلا حينما يزورها واعظ المركز.. وحتى واعظ المركز شعاره حينما يخطب أو يعظ: "ليس في الإمكان أبدع مما كان، ودعوا الناس وما يدينون!!".
الصوفية شوهت جلال الإسلام:
وهكذا خلت ساحة العمل الديني للمرتزقة والدجالين، الذين شغفوا بالخرافة، وشوهوا جلال الإسلام.. وعلى القمة أمسكت الصوفية بزمام الدعوة، وراحت توزع صكوك الغفران، وتتنافس على صناديق النذور، وتقاسم الفلاح المسكين رزقه، وزرعه حتى قبل أن ينضج.
قلت للدكتور جميل غازي.. نحن لا شك نتفق معكم في تشخيص الأزمة الفكرية والدينية التي تعانيها القرية.. ولكن كيف يمكن تحرير الريف المصري من الخرافة؟ وكيف يمكن الارتفاع بمستوى الوعي الديني للفلاح؟
يجيب فضيلته قائلاً: لا سبيل إلى مواجهة هذا التخلف الفكري والديني، إلا بإعداد نوعية جديدة من الدعاة الأكفاء المؤهلين الذين يتفهمون الدعوة كرسالة وجهاد في سبيل الله، لا كمهنة أو مجال للارتزاق.
إن كثيراًَ من الدعاة والوعاظ في هذا الجيل، وبعض أجيال أخرى سبقتهم المسؤولون عن هذه المحنة التي تتعرض لها الدعوة الإسلامية، وعن تلك الأمية الدينية السائدة لا في الريف فقط، ولكن في المدينة أيضاً، وإن اختلفت مظاهرها.
ثم يستطرد فضيلته قائلاً:(58/90)
إن الدعوة إلى الله تمارس الآن كحرفة أو كوظيفة، كما يستهدف الكثير من الدعاة إرضاء الناس، لا إرضاء الله.. وكان هذا هو السبب المباشر في ترويج الخرافة، وإشاعة الأساطير، بحجة أنهم لا يريدون مهاجمة عقائد العامة.. وتلك هي الكارثة.. فإن الداعية معلم، والمعلم مهمته محو الأمية والجهل، لا مهادنة الأمية والجهل.. وكذلك الداعية عليه أن يحارب الخرافة مهما أخذت زخرفها وازينت، ومهما كانت شرسة ومتحكمة في عقول الجماهير.. تلك هي مهمته.. وهي مهمة شاقة في حاجة إلى رجال قادرين على المواجهة، لا على المداورة.. قادرين على المصارحة لا على هدهدة العواطف.. قادرين على الجهاد لا على المساومة.
وقبل أن يتم إعداد مثل هؤلاء الرجال، فلا مجال للحديث عن أي دعوة للإصلاح الديني أو الفكري، سواء أكان ذلك في الريف أو المدينة وستبقى الخرافة دائماً هي المهيمنة على رؤوس العامة تحدد حركتهم وتشكل سلوكهم.
الأزهر مطالب بإجراء تغيير جذري في أسلوب عمله:
كيف يمكن إعداد هذه النوعيات من الدعاة؟.. وهما هو دور الأزهر وما هي مدى مسؤولياته؟
آسف إذا قلت إن نظم التعليم بالأزهر لا تصلح لإعداد النوعيات المطلوبة من رواد الدعوة.. وآسف أيضاً إذا قلت أن هذه النظم هي المسؤولة عن ضعف مستوى الكثيرين من قيادات الدعوة الإسلامية.. لماذا؟ لأن المنهج والأسلوب الذي يمارسه الأزهر في إعداد الدعاة يبعد إلى حد كبير عن الفكر الإسلامي المستنير، ويتعارض مع بساطة الإسلام ووضوحه!
إنك لو فحصت المناهج والمقررات التي يدرسها طلبة المعاهد والكليات الأزهرية، فلسوف تجد عجباً!! مواد جافة معقدة، تتألف من متون وشروح وحواش وتقريرات وهوامش، كتبت بعبارات شبيهة بالألغاز والطلاسم والأحاجي التي تتنافى مع بلاغة وبساطة القرآن العظيم.. وفق ذلك فإن هناك اهتماماً مثيراً بدراسة الأساطير والخرافات التي يسمونها كرامات الأولياء، والتي ساهمت بنصيب وافر في إشاعة الوهم والاستسلام.(58/91)
لذلك فإن الأزهر مطالب أولاً بإجراء تغيير جذري في أسلوب عمله، ومطالب أيضاً بإجراء مراجعة شاملة لبرامجه وعلومه وكتبه، بحيث تستبعد منها فوراً تلك الدراسات والمقررات التي تتعارض مع الأفكار الإسلامية، وتتصادم مع العقل والفطرة.
علم الكلام:
ويضرب الدكتور جميل غازي مثلاً بواحد من أهم العلوم، التي يدرسونها بالأزهر، وهو علم الكلام الذي يطلقون عليه علم التوحيد أو علم الإلهيات، والذي قامت على أساسه كليمة جامعية هي كلية أصول الدين، التي تدرس علم الكلام والفلسفة ثم التصوف أخيراً.
ويقول: إن هذا العلم الذي يعطونه مثل هذه الأهمية، قد نهى عن تعليمه وتعلمه جميع علماء السلف، وجمهور أئمة المسلمين.. ويقول فيه الإمام الشافعي رحمه الله: "حكمي في أصحاب الكلام، أن يضربوا بالجريد والنعال، ويطاف بهم في القبائل والعشائر، ويقال: هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة وأخذ بعلم الكلام".
ألغاز وطلاسم:
ثم يضيف فضيلته قائلاً: وإذا كان أولئك المفتونون بعلم الكلام، يقولون في الدفاع عن أهميته، أنه ضرورة لابد منها للرد على الشبهات، التي ظهرت في العصر الحديث فإني أقول لهم: إن هذه الشبهات التي يحدثون عنها ظهرت منذ أن نزل القرآن الكريم على الدهريين واليهود والنصارى المتأثرين بالفلسفة اليونانية، وتولى القرآن نفسه الرد على جميع هذه الشبهات، دون ما حاجة إلى اصطناع هذه المجادلات البيزنطية وفضلاً عن ذلك.. فإن هذه الشبهات التي يتطرق إليها علم الكلام قد أكل الدهر عليها وشرب، وليس لها أي أثر مما يجعل تدريس علم الكلام ضرباً من الخبل، وجناية على الدارسين.. فهو – للحق والأمانة – علم يخلو من العاطفة والروح، وهو أقرب إلى المعادلات الجبرية منه إلى التوحيد الذي ينبغي أن يكون مفعماً بالحب، والتأمل، والعبادة الروحية.(58/92)
ثم يعقب فضيلته متسائلاً: أين مثل ألغاز وطلاسم علم الكلام السخيفة المعقدة، من قول الله تعالى: { إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ، الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ } [آل عمران: 190، 191].
حشو وغموض وسفسطة:
مثل آخر يضربه الدكتور جميل غازي، ويستشهد به على فساد بعض المقررات الأزهرية في التربية أو في بحث عقيدة التوحيد.
يقول: إن قمة الكتب التي تدرس العقائد في الأزهر هو كتاب العقائد النسفية.. وهوكتاب ملئ بألغاز وسفسطة لا تنتهي، ويلف ويدور حول عبارات غير مفهومة.. ولا صالحة على الإطلاق في أن تكون مفهومة.. كقولهم مثلاً: "وحقيقة الشيء ما به الشيء هو هو".
ويتساءل جميل غازي ساخراً: هل مثل هذه الدراسة المليئة بالحشو والغموض والتعقيدات يمكن أن تقود إلى المعرفة بالله؟
هل كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه وهو سيد أولياء هذه الأمة بعد نبيها، هل كان يؤمن بالله على نحو ما جاء في العقائد النسفية؟
حاشا لله.. فإن عقيدة أبي بكر رضي الله عنه كانت عقيدة القرآن، وهي عقيدة فطرية حضارية واضحة.. أما هذه العقائد النسفية وما شاكلها، فاسمح لي أن أحملها مسؤولية سقوط هذه الأمة، وتدهور عقيدتها.
ثم يعقب فضيلته قائلاً: كان هذا نموذجاً مما يدرسه طلبة الأزهر، المرشحون لقيادة الدعوة الإسلامية.. حشو وغموض وسفسطة.. فدلوني بربكم هل تصلح هذه الدراسات في إعداد الرواد القادرين على إقناع المسلمين وغيرهم بحقيقة المنهج الإسلامي ووضوحه؟ ألا يعد نظام التعليم بالأزهر هو نفسه المسؤول عن هذه المحنة التي تضع الدعوة الإسلامية في طريق مسدود؟!
لا طائفية ولا كهنوت في الإسلام:(58/93)
قلت: لاشك أننا نتفق معكم في أن الأزهر يتحمل قدراً من المسؤولية عن ضعف مستوى بعض الدعاة وعما أصاب الدعوة الإسلامية من ركود وجمود.. ولكننا نرى في نفس الوقت أنه من الظلم أن نحمل الأزهر وحده كل المسؤولية، إذ أن مسؤولية قيام الإسلام وانتشاره لا ينبغي أن تتحملها طائفة معينة أو جامعة بذاتها إنما هي مسؤولية المسلمين جميعاً بلا استثناء.
ويقاطعني الدكتور جميل غازي قائلاً: هذا صحيح تماماً.. فلا طائفية في الإسلام ولا كهنوت.. ولا ينبغي أن يكون التعليم الديني، وإعداد القيادات الإسلامية حكراً على الأزهر وحده.. بل ينبغي أن تشارك فيه جميع المؤسسات التعليمية في الدولة.
لذلك فإني أطالب بضرورة توحيد التعليم الديني والتعليم المدني في جميع المعاهد التعليمية والجامعات.
ثم يضيف قائلاً: إن الفصل بين التعليم الديني والتعليم المدني، كان ومازال هدفاً استعمارياً يستهدف عزل المسلمين عن دينهم.. فلقد أدرك المستعمرون أن قوة المسلمين إنما تقوم على تمسكهم بمبادئ عقائد الإسلام، وأنه لا سبيل إلى إضعاف المسلمين إلا بتجريدهم من دينهم.. لذلك فلقد كان حرصهم شديداً على تأكيد الفصل بين التعليم الديني والتعليم المدني.. وما أن تحقق لهم ذلك حتى بادروا إلى ضرب المنطقة الإسلامية بأخطر أسلحتهم، وهي الغزو الفكري، والعزل الفكري معاً.. وكان سبيلهم إلى ذلك نشر المدنية الزائفة، وتشجيع التدين الأعمى، والنحل الفاسدة.. مع إبعادنا في نفس الوقت عن التقدم العلمي الذي أحرزه الغرب في القرنين الأخيرين.
وكانت النتيجة.. إننا عزلنا عن الدين والدنيا معاً.. فلا الدين تفهمناه.. ولا التقدم العلمي أخذنا بأسبابه !!
سبق أن نادى الدكتور طه حسين بدعوة مماثلة عقب توحيد القضاء، فنادى بتوحيد التعليم الديني والمدني، فيما سماه بالخطوة الثانية فهل أنت معه في هذه الدعوة؟(58/94)
مع فارق كبير وهام.. فلقد طالب طه حسين بتوحيد التعليم الديني والمدني بحيث يصبح التعليم كله مدنياً!! أما أنا فأطالب بتوحيد التعليم الديني والمدني بحيث يصبح التعليم كله دينياً.
هل يعني اقتراحك هذا إلغاء رسالة الأزهر الشريف؟
بالعكس، فهو يوسع قاعدة نشر هذه الرسالة.. إذ أن توحيد التعليم المدني والديني سيساعد على أن تشارك جميع المعاهد التعليمية والجامعات في نشر الثقافة الإسلامية، بحيث تسهم جميعها في إعداد أجيال تربت على العقيدة الإسلامية، وتفهمت السنة، ودرست القرآن والحديث حفظاً.. وتفسيراً.. ومعايشة.
الدعاة المتحمسون:ويواصل الدكتور جميل غازي عرض اقتراحه فيقول: حتى إذا تخرج الطالب من الجامعة كانت أمامه فرص للدراسات العليا في الدعوة الإسلامية، والإعلام الإسلامي، والشريعة الإسلامية، يلتحق بها من يرى في نفسه القدرة والرغبة في المشاركة في قيادة الدعوة.. وبذلك يمكن إعداد النوعيات المطلوبة من رواد الدعوة الإسلامية، الذين يتحمسون لها عن رغبة وميل شخصي.. لا عن احتراف أو التزام منذ الصغر، كما هو حادث الآن.
ثم يعقب فضيلته قائلاً: هذا هو سبيلنا إلى بناء الإنسان المسلم فكرياً وعقائدياً وعلمياً.. وهذا هو طريقنا لتجاوز أسلوب الاحتراف.. وهذا هو المدخل الصحيح لتخريج الأئمة الصادقين أو الدعاة المتحمسين.. أولئك الذين يتخذون من الدعوة جهاداً في سبيل الله، ويملكون قوة التأثير بالكلمة الصادقة.. والقدوة الطيبة.. ويحققون رسالة المسجد في حيوية وفاعلية.
سيطرة البيروقراطية:
قلت: تضاءل الآن دور المسجد، وانكمشت رسالته حتى كاد أن يصبح مجرد مكان لأداء الشعائر.. فما هي أسباب ذلك؟.. وكيف يمكن في تصوركم العودة بالمسجد إلى دوره الطبيعي كمركز إشعاع في خدمة البيئة دينياً وفكرياً واجتماعياً؟(58/95)
يجيب فضيلته قائلاً: إن هناك أسباباً عديدة أسهمت في ركود وجمود المساجد وبصفة خاصة، تلك الخاضعة لوزارة الأوقاف من بينها – كما سبق أن أوضحنا – ضعف مستوى بعض الأئمة والخطباء وغياب القدوة الصالحة، وسيطرة البيروقراطية وطبقة الموظفين، حتى أصبحت المساجد الحكومية الآن أشبه بدواوين وزارة الأوقاف، تمارس فيها الشعائر الدينية كمجرد واجب روتيني جاف، خال من الروح والتأمل والعبادة!
أضف إلى ذلك ما تعرضت له المساجد خلال سنوات القهر السياسي من إهمال متعمد، وما لقيه بعض الأئمة من تنكيل وإرهاب، أدى إلى هجرة البعض واضطرار البعض الآخر إلى الاستسلام، ومداهنة الحكام.
وفوق ذلك.. فلقد كانت بعض القيادات الدينية مشغولة عن شؤون الدعوة والمساجد بأمر آخر تعتبره جاداً وخطيراً.. فلقد كانت ومازالت تعتبر أن المشكلة الأساسية للدعوة الإسلامية تنحصر في قلة الأضرحة والمقاصير لذلك فلقد انصرفت تماماً عن الاهتمام برسالة المسجد، إلى السعي الجاد في تشييد المزيد من القباب والمقاصير، وتشجيع إقامة حلقات الذكر بالمساجد.. والإنفاق بسخاء على إقامة الموالد والاحتفالات وكأنما هؤلاء القوم يعتبرون أن الإسلام لا يقوم إلا من خلال الشعوذة وصناديق النذور.
لها حريتها في النقد والتوجيه:
ويستطرد الدكتور جميل غازي قائلاً: وإذا كنا راغبين حقاً في أن نعيد للمسجد الإسلامي مجده.. فلابد أولاً من أن يتحرر الأئمة والخطباء من التوجيهات المكتبية، والقيود البيروقراطية، التي تحاصرهم وتحول بينهم وبين كلمة حق ينبغي أن تقال:
ثم يضيف متسائلاً: إن المسجد قوة إعلامية ضخمة ينبغي أن تستغل أحسن استغلال ولابد من اعتبار المسجد سلطة عليا.. لها كلمتها المسموعة.. ولها حريتها في النقد والتوجيه.
أوقفوا هذا المد الوثني الذي فتن بالأضرحة والقباب:(58/96)
ويرى الدكتور جميل غازي رئيس جماعة التوحيد أنه لابد أيضاً – حفاظاً على قدسية المسجد وجلاله – من إيقاف هذا المد الوثني الذي فتن بالأضرحة والقباب والمقاصير، وحول كثيراً من المساجد إلى أماكن لعبادة الموتى!!
ويقول: إن معظم مساجدنا الكبيرة في القاهرة وعواصم المحافظات فضلاً عن الغالبية العظمى من مساجد الريف، قد تحولت من بيوت لله إلى مقابر للأولياء والصالحين، تمارس فيها كل مظاهر الشرك بالله من طواف ودعاء واستغاثة وتقبيل للأعتاب!! سبحان الله.. البيوت التي أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه قد تحولت لغير الله، وفقدت الصلاة فيها القدسية والجلال.
ما رأيكم فيما سبق أن أفتى به بعض كبار العلماء من أنه لا حرج في وجود قبور الأولياء والصالحين داخل المساجد ؟
اتخاذ قبور الأولياء مساجد.. بدعة وشرك بالله :
ويقاطعني الدكتور جميل غازي قائلاً بنبرة غاضبة: هذه فتوى مردودة على أصحابها، ولا تستند إلى حجة أو برهان من الكتاب والسنة، بل إن العكس هو الصحيح، فإن النهي عن ذلك صريح في القرآن الكريم: { وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا } [الجن: 18]، كما أن الأحاديث في هذا الموضوع كثيرة، نذكر منها قوله عليه الصلاة والسلام: ”أن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء، والذين يتخذون القبور مساجد“. كما يقول أيضاً عليه الصلاة والسلام: ”.. وأن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك“.
ويروي البخاري ومسلم عن السيدة عائشة رضي الله عنها أن أم سلمة وأم حبيبة ذكرتا كنيسة رأتاها في الحبشة وفيها تصاوير، فقال الرسول عليه الصلاة والسلام: ”أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجداً وصوروا فيه تلك الصور... أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة“.(58/97)
ثم يعقب فضيلته قائلاً: هذا هو حكم الإسلام في هذا الموضوع.. وهو حكم صريح لا يحتمل التأويل، ولا لبس فيه ولا غموض.. إن اتخاذ قبور الأولياء والصالحين مساجد، شرك بالله، وبدعة لم يعهدها المسلمون في القرون الأولى، وإنما جاءت إلينا في القرن الرابع الهجري على عهد الفاطميين الذين أدخلوا على الإسلام كثيراً من البدع التي أضرت وأضلت المسلمين.
أما أولئك الذين يصدرون الفتاوى التي تتصادم مع الكتاب والسنة، فإني أحيلهم إلى قول الحق تبارك وتعالى: { فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [النور: 63].
الإدعاء بأن الرسول عليه الصلاة والسلام دفن في مسجده:
قلت: يستند أصحاب هذه الفتوى إلى أن النبي عليه الصلاة والسلام مدفون في مسجده وأن الصلاة في مسجده عليه الصلاة والسلام تعادل ألف صلاة، كما أن المسجد النبوي الشريف يضم أيضاً قبري صاحبيه أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، مما يقوم دليلاً على إباحة اتخاذ قبور الصالحين مساجد، لأن الصاحبين ليسا بأنبياء ولا رسل، بل هما رجلان صالحان، يجوز لكل صالح ما يجوز لهما.
وتزداد النبرة الغاضبة في لهجة الدكتور جميل غازي وهو يجيب قائلاً:
إن الادعاء بأن النبي عليه الصلاة والسلام قد دفن في مسجده.. باطل وكاذب، وافتراء على الله وعلى رسوله، كما أن القياس الذي عرضه أصحاب هذه الفتوى، قياس فاسد، لأنه يتعارض مع النصوص الشرعية فضلاً عما يتضمنه قولهم من تزييف لحقائق التاريخ.
ويستطرد جميل غازي في حديثه مفنداً هذه المزاعم فيقول: إن الرسول عليه الصلاة والسلام حينما مات لم يدفن في مسجده، ولا أوصى بذلك، ولا فعل به أصحابه ذلك.. حاشا لله.. وهو القائل عليه الصلاة والسلام: ”اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد“.(58/98)
إنما الذي حدث أن أصحابه دفنوه في حجرة السيدة عائشة التي كانت تجاور المسجد، وكان حرص أصحابه شديداً على أن يظل قبره عليه الصلاة والسلام خارج المسجد في كل توسعة تمت بمسجده الشريف حدث هذا في عهد عمر رضي الله عنه، فلقد حرص حينما وسع المسجد في عام 17هعلى أن تكون توسعة المسجد من جميع الجهات إلا من الجهة الشرقية التي يقع فيها قبر الرسول وبيته، فلم يمسها حتى لا يدخل القبر داخل المسجد الشريف.. ونفس هذا الحرص تم أيضاً في عهد عثمان رضي الله عنه حينما وسع المسجد في عام 24ه.
فظل قبر الرسول - صلى الله عليه وسلم - خارج المسجد، ومنفصلاً عنه حتى كان عهد الوليد بن عبد الملك الذي قرر في عام 88هأن يوسع المسجد بحيث يدخل قبر الرسول داخله!!
وهذا الوليد بن عبد الملك لم يكن من الخلفاء الراشدين الذين يجب اتباعهم أو الاعتداد بفعلهم. ولم يكن قراره هذا صادراً عن باعث ديني أو إسلامي، أو مستنداً إلى نص شرعي وإنما كان عملاً سياسياً يستهدف هدم بيت الرسول عليه الصلاة والسلام، وتشتيت أهل البيت بحجة توسعة المسجد!!
ثم يصل الدكتور جميل غازي في حديثه عن الصعوبات التي تعترض الدعوة الإسلامية إلى قضية هامة من المؤكد أنها ستثير جدلاً واسع النطاق.
إنه يرى في تعدد المذاهب الإسلامية وتضاربها تعويقاً للمسيرة الإسلامية ويقول: إن الإسلام الجميل الواضح البسيط، قد تعرض للتشويه من جانب أصحاب الدعوات الذين أخضعوا القرآن والسنة لعقولهم وأهوائهم، وساعدوا على انقسام الأمة الإسلامية الواحدة إلى فرق ومذاهب، تقوم على التعصب والتقليد الأعمى على الرغم من أن الأئمة الأربعة رضوان الله عليهم نهوا نهياً شديداً عن تقليد أو اتباع آرائهم بدون معرفة أدلتهم ومطابقتها على الكتاب والسنة.(58/99)
ثم يضيف قائلاً: إن دعاة المذهبية يستندون في دعواهم إلى حديث موضوع يقول: (إن اختلاف أمتي رحمة!!) فهل حقاً قال الرسول عليه الصلاة والسلام ذلك؟.. حاشا لله.. إنه حديث باطل بشهادة جمهور المحدثين.. ولا أدري كيف يكون الاختلاف رحمة، وقد ذمه الله تعالى في آيات كثيرة من القرآن الكريم!
كما أن كهنة المذهبية يقولون أيضاً: "أن الاختلاف بين المسلمين حادث في الفروع دون الأصول، ولا ضرر في ذلك".. وهذا غير صحيح.. فإن كثيراً من أتباع المذاهب مختلفون في كثير من الأصول أيضاً.. فلقد بقي الأحناف على سبيل المثال لا يتزوجون من الشافعية عشرات السنين، لاختلافهم في مسألة أصولية.. هي (الاستثناء في الإيمان) ثم جاء أحد أصحاب الفتوى من الأحناف، ليصلح بينهم فأفتى بجواز زواج الحنفي من شافعية قياساً على الكتابية (أي المسيحية أو اليهودية).. ومعنى ذلك أن الحنفي يجوز له أن يتزوج من شافعية دون أن يصح العكس!
وفضلاً عن ذلك، فإنه حتى في الأمور الفرعية حدثت معارك وقتال بين أتباع المذاهب، مما كان سبباً في إضعاف المسلمين ووقوعهم تحت سيطرة أعدائهم.
المذهبية مهزلة وبدعة:
ويوجه الدكتور جميل غازي نقداً عنيفاً للمذهبية، فيقول:... إن المذهبية مهزلة فهي مليئة بالسخافات والمتناقضات التي لا يقبلها شرع، ولا يصدقها عقل.. كإباحة زواج الشخص من ابنته في الزنى، عند الشافعية.. وكإباحة شرب الخمر المصنوع من غير العنب ولو أسكر، عند الحنفية.. واعتبار الحرمة في السكر لا في الشرب!! وغير ذلك من أمور توقع الناس في الحيرة والشك.. إذ لا يمكن لأحد أن يتصور أن يكون شرع الله متناقضاً، وقد قال جل شأنه: { وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا } [النساء: 82].. فأين هذا المبدأ السامي الأعلى من المذهبية في تحليل وتحريم الحكم الواحد بين مذهب وآخر!!(58/100)
ومن الغريب أن دعاة المذهبية في تعارضهم واختلافهم، يقولون جميعاً أنهم يلتمسون عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.. فدلوني بربكم هل أجاز الرسول عليه الصلاة والسلام الشيء وضده في آن واحد؟
المذهبية عقبة أمام الزحف الإسلامي:
ويستمر الدكتور جميل غازي في نقده للمذهبية: فيتهمها بأنها تقف عقبة أمام الزحف الإسلامي، وتعوق دخول غير المسلمين في الإسلام ويضرب لذلك مثلاً بما ذكره الشيخ محمد سلطان المعصومي عن النزاع الكبير، الذي حدث حينما أراد بعض اليابانيين الدخول في الدين الإسلامي وعرضوا ذلك على جمعية المسلمين في طوكيو، فقال جمع من أهل الهند: ينبغي أن يختاروا مذهب الإمام أبي حنيفة لأنه سراج الأمة.. وقال جمع من أهل إندونيسيا، بل عليهم أن يختاروا مذهب الإمام الشافعي لأنه عالم قريش.. فلما سمع اليابانيون كلامهم أخذتهم الدهشة والحيرة والشك، ووقفت المذهبية سداً في سبيل إسلامهم!!
ثم يتناول الدكتور جميل غازي في نقده للمذهبية، كتب المذاهب الربعة فيصفها بالجفاف والتعقيد والغموض، خلافاً لفقه السنة الذي ينبع أساساً من بلاغة القرآن والحديث الصحيح.
هل أفهم من ذلك أنك ترفض المذاهب الأربعة، رغم أننا توارثناها جيلاً عن جيل، واستقرت عليها عقائد المسلمين إلى حد أن الزواج مثلاً لا يتم عقده إلا على مذهب الإمام أبي حنيفة؟.. و.. ألا يخشى من أن يكون في نقدك للمذاهب شبهة المساس بالأئمة الأربعة الذين نكن لهم جميعاً كل تقدير وإجلال؟
المذهبية بدعة :
أرجو أن تفرقوا بين أمرين: أولهما: الأئمة الأربعة.. وثانيهما: المذاهب الأربعة.. فالأئمة شيء.. والمذهبية شيء آخر.
أما الأئمة فهم علماء أجلاء رضي الله عنهم جميعاً، ما دعوا إلى مذهبية ولا عصبية ولا دعا واحد منهم إلى اتباعه، بل نهوا عن ذلك أشد النهى، كما هو ثابت عند مراجعة تواريخهم وما أثر عنهم.(58/101)
أما المذهبية: فهي بدعة نشأت بعد عصر الأئمة بفترة طويلة، ويكفيك أن تعلم أن الأئمة الأربعة كانوا متعاصرين ومتحابين، وكل منهم يحترم الآخر أشد الاحترام.. فمالك كان يجل أبا حنيفة، ويضعه في مكانه اللائق به كأستاذ ومعلم، وكذلك الشافعي مع أستاذه مالك، ومثلهما أحمد مع أستاذه الشافعي.. وما كان للعصبية المذهبية في نفوسهم أو في عصرهم أي وجود.. بل نشأت بعدهم ضمن غيرها من البدع، التي جاء بها أصحاب الدعوات وسدنة التعصب والتفريق.
ويستطرد الدكتور جميل غازي قائلاً: أما فيما يتعلق بنقد المذهبية وما قد يحمله ذلك من شبهة المساس بالأئمة الأربعة: فاسمح لي أن أسألك سؤالاً: أينا أكثر احتراماً للأئمة الربعة؟.. الذي يرفض التعصب لواحد منهم ضد الآخرين أم الذي يتمذهب بمذهب واحد ويرفض الآخرين؟
لا شك أن الذي يحترم الأئمة جميعاً، هو الذي يأخذ عنهم جميعاً، ويستفيد من علمهم جميعاً.. أما ذلك الذي يقول: أنا حنفي مثلاً فإنه بمفهوم المخالفة يقول: لست شافعياً ولا مالكياً ولا حنبلياً.. وعكس هذا يمكن أن يقال بالنسبة للشافعي أو غيره.
ثم يبتسم جميل غازي قائلاً: لقد أشرت في سؤالك إلى نقطة هامة، هي عقد الزواج، وما يقال فيه.. فأنت تتزوج امرأتك على مذهب أبي حنيفة الإمام الأعظم كما يقولون – مع ملاحظة أن الإمام الأعظم هو محمد عليه الصلاة والسلام – فاسمح لي أيضاً أن أسألك: أليس في هذا التعبير الذي يستخدمه الأحناف نيل من الأئمة الثلاثة الباقين؟ ثم سؤال آخر: إذا كان عقد الزواج لا يصح إلا على مذهب أبي حنيفة.. فقل لي بربك على مذهب من تم عقد الزواج بين والدي الإمام أبي حنيفة رحمهما الله؟!
لن تصلح هذه الأمة إلا إذا أقرت بتوحيد الألوهية.. وتوحيد الاتباع
ثم يعقب فضيلة الدكتور جميل غازي قائلاً:(58/102)
إنني أعتقد وأومن أن هذه الأمة لا تصلح إلا إذا أقرت أولاً بتوحيد الألوهية.. فيكون الإله المعبود واحداً لا شريك له.. ثم أقرت ثانياً بتوحيد الاتباع.. فيكون الرسول - صلى الله عليه وسلم - هو وحده المتبع، وهو وحده الإمام المعصوم.
وليس هناك مانع بعد ذلك من أن نستضيء بفهم أئمة المسلمين الأجلاء الأربعة وغيرهم ممن فهموا الشريعة، وأصلوا أصولها، وبوبوا أبوابها، وهم كثيرون والحمد لله.. وصدق الحق تبارك وتعالى إذ يقول: { إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } [النور: 51].
دعوة التقريب.. مشبوهة ومرفوضة:
قلت: يتصل بحديثنا عن تعدد المذاهب الإسلامية، ذلك الخلاف الحادث بين الشيعة وأهل السنة.. ولقد زار مصر مؤخراً فضيلة الشيخ تقي الدين القمي، الذي يطلقون عليه رائد التقريب بين المذاهب، وعقد أكثر من اجتماع مع بعض كبار العلماء لمحاولة التقريب بين المذاهب.. فإلى أي حد في رأيكم يمكن أن تنجح دعوته؟
ويجيب فضيلته قائلاً: هذه دعوة مشبوهة ومرفوضة، وليس لها من هدف في حقيقة الأمر، إلا التمكين لأفكار المذهب الشيعي من التسلل بين جمهور أهل السنة.
ثم يتساءل في نبرة غاضبة: أي تقريب هذا الذي يدعون إليه؟.. حاشا لدين الله أن يكون (توليفة) من هنا وهنا.. إنما هو دين واضح محدد ليس له إلا مصدران أساسيان.. الكتاب والسنة.. وما يخرج عنهما فهو مرفوض، ولا ينبغي أن يكون موضعاً لجدل أومناقشة.
إن معنى التقريب بين مذهبين أو اتجاهين هو أن يتنازل أصحاب كل مذهب أو اتجاه عن بعض معتقداتهم ليلتقوا بالاتجاه الآخر.. فهل من حق أحد من أهل السنة أن يتجاوز عن بعض ما أنزل الله إرضاء للشيعة ؟(58/103)
إن الأولى بأصحاب دعوى التقريب المزعوم أن يراجعوا معتقداتهم على الكتاب والسنة، وأن يطرحوا أية معتقدات تتعارض مع هذا الأصل الأصيل لدين الإسلام.
حقيقة الخلاف بين الشيعة وأهل السنة:
ويستطرد جميل غازي قائلاً: ثم إن الخلاف بين أهل السنة والشيعة من الناحية النظرية والعملية، خلاف عميق الجذور.. غير قابل أساساً للتوفيق والتقريب.
ولقد كنت أظن مثل كثيرين غيري أن الخلاف بين أهل السنة والشيعة يكمن أساساً في قضية الخلافة، ومن أحق بها.. أبو بكر أم علي رضي الله عنهما.. وكنت أقول كما يقول غيري: إن هذه قضية ينبغي ألا تثار عملاً بقوله تعالى: { تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [البقرة: 134].. إلى أن أتيح لي أن أدخل في مناقشة طويلة مع بعض كبار علماء الشيعة، وأكدت المناقشة أن القضية ليست مجرد خلاف على الخلافة، يجب أن يحفظ في ذمة التاريخ.. وإنما اتضح لي أن القضية هي في الأصل والأساس.. قضية (الرواية الدينية)؟
وقضية (الرواية الدينية) كما فهمت منهم هي (رواية القرابة) و(رواية الصحابة).. فهم يرون أن أهل السنة يعتمدون أساساً على (رواية الصحابة) أما هم فيعتمدون أساساً على (رواية القرابة).
وعلى هذا الأساس تكون كل المراجع الدينية عند أهل السنة غير معتبرة ولا معتمدة عند الشيعة مثل كتب الأئمة الأربعة رضوان الله عليهم وكتب رواة السنة كالبخاري ومسلم والترمذي والنسائي وأبي داود وابن ماجه، وكذلك كتب التفسير إلى آخره.. وعلى هذا الأساس تصبح قضية المراجع أو الرواية الدينية حائلاً دون عملية التوفيق المزعومة.. بل إنها تقف حائلاً دون جدية الحوار وجدواه.. إذ كيف يمكن أن يقوم حوار منتج مفيد بين سني وشيعي مع أن المراجع بين الفريقين مختلفة أشد الاختلاف، وكل منهما يعتمد مرجعاً لا يقره الآخر؟
مصحف فاطمة :(58/104)
ويستطرد الدكتور جميل غازي قائلاً: على أننا إذا تركنا ذلك الأصل الجوهري فإننا نجد قضايا أخرى تزيد من عمق الخلاف.. من بينها:
أولاً: رأى الشيعة في أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم الذي يصل بهم إلى حد تفسيق هؤلاء الصحابة الأجلاء، إن لم أقل تفكيرهم، مع أنهم كما يعتقد أهل السنة والجماعة سادة أولياء هذه الأمة بعد رسول الله عليه الصلاة والسلام.
ثانياً: ما يزعمه الشيعة من أن عندهم مصحف فاطمة، والذي يقولون عنه أنه قدر مصحفنا مرتين، وليس فيه منه ولا حرف واحد؟ وحينما سألت أحد علماء الشيعة عن صحة ذلك. قال: نعم إنه تفسير السيدة فاطمة للقرآن!. سألته: هل كتبته السيدة فاطمة في حياة والدها عليه الصلاة والسلام أم بعد مماته؟ قال: بعد مماته.. مع العلم أن السيدة فاطمة لم تعش بعد وفاة أبيها إلا ستة أشهر فقط!!
ثالثاً: ادعاء الشيعة بأن الإمام معصوم عن الصغائر والكبائر، وأن الأئمة محصورون في اثني عشر إماماً من أهل البيت، آخرهم ذلك الإمام الطفل ذو الخمس سنوات الذي دخل السرداب في سامراء منذ أكثر من ألف عام، ولم يخرج منه حتى اليوم، والذي لا يزالون في انتظاره حتى الآن بحميرهم وبغالهم على باب السرداب!
رابعاً: أن الشيعة يسجدون في الصلاة على حجر معين، سألتهم عنه.. فأخرجه لي أحدهم من جيبه وهو حجر مستطيل صنع بأسلوب متقن.. فسألته عنه فقال: إنه مصنوع من تراب كربلاء.. لماذا؟ قال: لأن أرض كربلاء أقدس من الكعبة!
ثم يعقب فضيلة الدكتور جميل غازي قائلاً: هذه هي بعض أفكار المذهب الشيعي.. وهذه هي المراجع والأصول التي يستمدون منها معتقداتهم.. وهي أفكار ومراجع تحول – بالقطع – بين أية دعوة للتقريب بينهم وبين أهل السنة الذين يتخذون من كتاب الله وسنة رسوله منهجاً وحيداً في أمور الدين والدنيا.
المسيرة الإسلامية عقيدة .. وحياة .. وحضارة :(58/105)
ثم يختتم فضيلته حديثه بنداء يوجهه إلى قيادات الدعوة الإسلامية بضرورة تفهم طبيعة المعوقات التي تقف في طريق الدعوة الإسلامية، والارتفاع إلى مستوى التحديات التي تواجه المسيرة الإسلامية من جانب كل القوى المعادية للإسلام.
ويقول: إن على الدعاة أن يدركوا جيداً طبيعة وحجم العوائق الضخمة التي تقف في وجه الإسلام، إذ أن الدعوة التي تفقد هذا القدر من الإدراك تسيء أكثر مما تحسن.
وعلى الدعاة أن يعلموا أنهم إنما ينحتون طريقهم في الصخر الأصم.. ولكن معاولهم قوية وقادرة.. وعليهم أن يعلموا جيداً أن قوة الفكرة الإسلامية كافية وحدها لدفع الحياة والتقدم والحضارة بأسلوب صحيح.. المطلوب فقط.. هو غرسها في القلوب وتعميقها في النفوس.. وتجسيدها في حياة المسلمين بحيث تصبح إسلاماً حياً يعمل في الحياة، ويدفع إلى الأمام، ويوجه المسيرة.
الجولة التاسعة
التصوف من اختراع المستعمرين
مبدأ صوفي خطير.. حرب المستعمرين حرام !!
التيجانية.. في خدمة فرنسا في الجزائر !!
ماذا قال الدكتور عمر فروخ والدكتور زكي مبارك !!
لا شك أنه كان للأحاديث الصحفية التي نظمتها مجلة "التعاون" مع فضيلة الدكتور محمد جميل غازي أثرها الذي لا ينكر في إثارة حوار فكري هادف بين جماهير المسلمين بحيث يحق لنا أن نسميها "تفجيراً فكرياً" ولا يظهر أثر هذه الأحاديث من خلال مؤيديها فقط.. وإنما يظهر أيضاً من خلال المعارضين.. فالمعارضة لا تعدو أن تكون أثراً من آثار الحركات الفكرية النشيطة.
إن الصراع الفكري أمر ضروري وهام ينير الطريق أمام مسيرة الجماهير، إنه لا خطر ولا خطأ في إثارة أي حوار فكري.. إنما يكمن الخطر والخطأ في الانغلاق الفكري وإغلاق النوافذ الثقافية.
لهذا رأت "صحيفة المسيرة" أن تواصل الكلام مرة أخرى مع فضيلة الدكتور محمد جميل غازي لتبدأ معه حواراً فكرياً "جديداً" حول التصوف والصوفية.(58/106)
ذهبنا إليه وفي رأسنا مجموعة من علامات الاستفهام.. فقد كان المؤيدون لفضيلة الدكتور غازي يؤكدون أن الصوفية هي السبب الأساسي فيما أصاب المسلمين من نكسات ونكبات وفوضى وتخلف.
وكان المعارضون يطرحون القضية من وجهة نظر مغايرة تماماً فهم يقولون: إن الصوفية هي التي أخذت على عاتقها محاربة أعداء الإسلام من الظلمة والمستعمرين بل هي التي حملت الدعوة الإسلامية عبر الآفاق البعيدة.. وأنه ما دخل الإسلام أدغال أفريقيا إلا على أيديهم وجهودهم.
الحرب حرام :
حملنا علامات الاستفهام والتعجب إليه.. إلى الرجل الذي فجر هذا الحوار.. ووضعنا بين يديه كل علامات الاستفهام والتعجب.. وكنا نظن أننا بهذه الأسئلة قد جئنا بجديد عليه وعلى معلوماته عن التصوف، ولكن سرعان ما أخذ يقدم إلينا من الكتب والوثائق مما نسوق نماذج منه في هذا الحوار.
سألناه :
نعرف من تاريخ التصوف – وبخاصة الصوفية الأوائل – أنهم كانوا جنوداً أقوياء أدوا أدوارهم ببسالة في محاربة أعداء الملة، أو أعداء القبلة.
فكيف يحق لنا أن نصدر حكماً عاماً على سائر المتصوفة بأنهم كانوا 100 دخلاء على الفكر الإسلامي وعلى الحياة الإسلامية ؟!!
أجاب فضيلته وهو يضغط على مخارج الحروف بأسلوب حازم وحاسم ومؤكد: إنني أتهم الصوفية بضد ما ذكرته تماماً.. ومعي في هذا الاتهام كثير من الوثائق التاريخية التي أثبتها مؤرخو الفكر وراصدوا الحضارة.. الصوفية متهمون بصرف الناس عن الجهاد.. وهم متهمون أيضاً بإدخال تفسيرات غريبة وشاذة على آيات القرآن الكريم.(58/107)
فمن ذلك ما روي عن "داود بن صالح" أنه قال.. قال لي: "أبو سلمة بن عبد الرحمن": يا ابن أخي هل تدري في أي شيء نزلت هذه الآية: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ } [آل عمران: 200] قلت: لا، قال: يا ابن أخي لم يكن في زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غزو يربط له الخيل ولكنه انتظار الصلاة بعد الصلاة، فالرباط لجهاد النفس، والمقيم في الرباط مرابط مجاهد لنفسه [عوارف المعارف 2/55].
وقال بعض المتصوفة في قوله تعالى: { وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ } [الحج: 78] أن معناه مجاهدة النفس والهوى وذلك هو حق الجهاد، وهو الجهاد الأكبر على ما روي في الخبر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: حين رجع من بعض غزواته: ”رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر“.
وفي الوقت الذي يخطئون فيه في تفسير القرآن الكريم يخطئون أيضاً في الاستشهاد بأحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهذا الحديث الذي استدلوا به لا أصل له عند الثقات من رواة السنة.. يقول العالم المحدث شيخ الإسلام "ابن تيمية": أما الحديث الذي يرويه بعضهم أنه قال في غزوة تبوك رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر فلا أصل له ولم يروه أحد من أهل المعرفة بأقوال النبي - صلى الله عليه وسلم - وأفعاله، بل الواضح جداً من القرآن والمتواتر من السنة أن جهاد الكفار من أعظم القربات إلى الله تعالى، وأن الصحابة والتابعين في العصور الزاهرة التي شهد لها الرسول الكريم بالخيرية كانوا يتهافتون على القتال في سبيل الله ليحصلوا على إحدى الحسنيين إما الموت فالجنة، وإما النصر فالعزة والرفعة.(58/108)
قال الله تعالى: { لاَّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا } [النساء: 95].. وقال تعالى: { أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ اللَّهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ، الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللَّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ، يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ، خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ } [التوبة: 19-22].
الصوفية غيبوبة عقلية:
ويقول الصوفية: إن بعض الصالحين كتب إلى أخ له يستدعيه إلى الغزو فكتب إليه: يا أخي كل الثغور مجتمعة لي في بيت واحد والباب مردود. فكتب إليه أخوه: لو كان الناس كلهم لزموا ما لزمت لاختلت أمور المسلمين وغلب الكفار، فلابد من الغزو والجهاد، فكتب إليه: يا أخي لو لزم الناس ما أنا عليه وقالوا في زواياهم وعلى سجاداتهم: الله أكبر، لانهدم سور القسطنطينية [من عوارف المعارف على هامش الإحياء].
ولقد عاصر أئمة الصوفية الكبار "كالغزالي" و"ابن الفارض" و"ابن عربي" كثيراً من معارك المسلمين فماذا فعلوا؟ وماذا قالوا؟ وماذا كتبوا؟
لم يحرك واحد منهم ساكناً.. يقول الأستاذ "عبد الرحمن الوكيل" في كتابه [هذه هي الصوفية ص170]:(58/109)
هذا بيت المقدس سقط في يد الصليبيين عام 492 هجرية، والغزالي الزعيم الصوفي الكبير على قيد الحياة، فلم يحرك فيه هذا الحادث الجلل شعرة واحدة.. ولقد عاش "الغزالي" بعد ذلك 13 عاماً إذ أنه مات سنة 505 هجرية فما زرفت عيناه دمعة واحدة ولا استنهض همم المسلمين ليذودوا عن القبلة الأولى، بينما سواه من الشعراء يقول:
أحل الكفر بالإسلام ضيما ... يطول عليه للدين النحيب
وكم من مسجد جعلوه ديرا ... على محرابه نصب الصليب
دم الخنزير فيه لهم خلوف ... وتحريق المصاحف فيه طيب
أهز هذا الصريخ الموجع زعامة الغزالي ؟ كلا، إذ كان عاكفاً على كتبه يقرر فيها أن الجمادات تخاطب الأولياء!! ويتحدث عن مراتب الولاية كالصحو والمحو، دون أن يقاتل أو يدعو غيره إلى قتال، "وابن عربي" و"ابن الفارض" الزعيمان الصوفيان الكبيران عاشا في عهد الحروب الصليبية فلم نسمع أن واحداً منهما شارك في قتال أو دعا إلى قتال أو سجل في شعره أو في نثره آهة حر على الفواجع التي نزلت بالمسلمين، لقد كان يقرران للناس أن الله هو عين كل شيء فليدع المسلمون الصليبيين فما هم إلا الذات الإلهية متجسدة في تلك الصور.
وحين أغار الفرنجة على "المنصورة" قبل منتصف القرن السابع الهجري اجتمع الصوفيون الزعماء، أتدري لماذا؟ لقراءة "رسالة القشيري" والمناقشة في كرامات الأولياء بدلاً من أن يجتمعوا لإعداد العدة وإعلان كلمة الجهاد – قد يقول القارئ: ربما فعلوا إلا أنه لم تصلنا آثارهم؟ فنقول لهم: فلماذا توافرت آثار الصحابة والتابعين وتابعي التابعين.. وليس هذا فحسب بل أن موقف "ابن تيمية" أمام "قازان" إمبراطور التتار "والعز بن عبد السلام" وغيرهما كثير تعج بآثارهم كتب التاريخ "كالبداية والنهاية" لابن كثير و"تاريخ الإسلام" و"سير أعلام النبلاء" و"أعيان المائة الثامنة".(58/110)
وكي لا نتهم بالتجنى على "الغزالي" و"محيي الدين بن عربي" و"ابن الفارض" نعرض شهادتين: إحداهما: "للدكتور عمر فروخ" والثانية "للدكتور زكي مبارك".
كتب الدكتور عمر فروخ يقول: ألا يعجب القارئ إذا علم أن حجة الإسلام أبا حامد الغزالي شهد القدس تسقط في أيدي الفرنج الصليبيين وعاش اثنتي عشرة سنة بعد ذلك، ولم يشر إلى هذا الحدث العظيم، ولو أنه أهاب بسكان العراق وفارس وبلاد الترك لنصرة إخوانهم في الشام لنفر مئات الألوف منهم للجهاد في سبيل الله، ولوفر إذاً على العرب والمسلمين عصوراً مملوءة بالكفاح، وقروناً ذاخرة بالجهل والدمار.
وما غفلة "الغزالي" عن ذلك إلا أنه كان في ذلك الحين قد انقلب صوفياً أو اقتنع على الأقل بأن الصوفية سبيل من سبل الحياة.
وكذلك عاش "عمر بن الفارض" و"محيي الدين بن عربي" في إبان الحروب الصليبية ولم يرد في كتابات أحدهما ذكر لتلك الحروب.
وبينما كان الأفرنج يغيرون على "المنصورة" في مصر سنة 647 هجرية 1259 ميلادية تنادي الصوفيون لقراءة "رسالة القشيري" وأخذوا يتجادلون في كرامات الأولياء [الشعراني 1/14].
الاستعمار من عند الله :
ويزعم الصوفية أن لهم كرامات ولكنهم لم يظهروا هذه الكرامات للدفاع عن دينهم وأوطانهم إلا أن الصوفية لا يعدمون ادعاء أو يعللون سكوتهم ورضاهم بما ينزل بقومهم من المصائب بأنها عقاب من الله تعالى للمكذبين من خلقه (كذا).
فإذا كان الله تعالى قد سلط على قوم ظالماً فليس لأحد أن يقاوم إرادة الله تعالى أو أن يتأفف منها.
انتهت الشهادة الأولى وقد نقلناها من كتاب "التصوف في الإسلام" للدكتور عمر فروخ.. ونضيف أنه مما يؤسف له أن "الغزالي" ذكر في كتابه "المنفذ من الضلالط عند بحث طريقة التصوف: إنه كان خلال الحروب الصليبية مشغولاً في خلوته تارة في مغارة دمشق وتارة في صخرة بيت المقدس يغلق بابهما عليه في مدة تزيد على السنتين.(58/111)
ثم ننتقل إلى الشهادة الثانية وهي كما ذكرت من قبل للدكتور زكي مبارك كتب يقول: أتدري لماذا ذكرت لك هذه الكلمة عن الحروب الصليبية؟ لتعرف أنه بينما كان "بطرس الناسك" يقضي ليلة ونهاره في إعداد الخطب وتحبير الرسائل يحث أهل أوروبا على احتلال أقطار المسلمين، كان الغزالي "حجة الإسلام" غارقاً في خلوته، منكباً على أوراده المبتدعة لا يعرف ما يجب عليه من الدعوة إلى الجهاد في سبيل الله تعالى.
ومضى فضيلة الشيخ يقرأ من مراجعه المختلفة نصوصاً كثيرة طويلة أثبتنا بعضها وضربنا صفحاً عن بعضها الآخر.. لكننا عدنا نسأله قلنا: هل نفهم من هذا أنك تنفي دور الصوفية في مواجهة الظلم ومجابهة الظالمين مع أننا نقرأ في المأثور والمنشور عنهم الكثير من هذه المواقف التي يحق لنا – إن صحت – أن نعتبرها مشرفة.
أجاب فضيلته في حدة قائلاً: يا أخي أنا حريص في هذا الحوار الصحفي وفيما سبقه أن أكثر من "النقول" حتى لا أتهم بالتحيز. كذلك فإني حريص على أن تكون هذه "النقول" من كتب الصوفية بل ومن كتب أئمتهم وأقطابهم الكبار.
الصوفية ركائز الاستعمار :
يقول "الشعراني": وهذا النقل من كتاب "التصوف الإسلامي 2/301 نقلاً عن البحر المرود ص292" – لقد أخذ علينا العهد بأن نأمر إخواننا أن يدوروا مع الزمان وأهله كيفما دار، ولا يزدرون قط من رفعه الله عليهم، ولو كان في أمور الدنيا وولايتها. كل ذلك أدباً مع الله عز وجل الذي رفعهم فإنه لم يرفع أحداً إلا لحكمة هو يعلمها – انتهى – أليس هذا القول من أقوال المجبرة. فأين هم إذن ممن نعى الله عليهم. وقال:
{ وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ، قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ } [الأعراف: 28، 29].(58/112)
وأين هم من قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ”من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان“.
وننقل من نفس الكتاب للدكتور زكي مبارك: هناك كثير من الطرق ثابرت على انحرافها عن الطريق السوي فكانت أروع انقياداً للمستعمرين من الزنوج الوثنيين. قال الرئيس "فيليب قونداس" من المستعمرين الفرنسيين: لقد اضطر حكامنا الإداريون وجنودنا في أفريقيا إلى تنشيط دعوة الطرق الدينية الإسلامية لأنها كانت أطوع للسلطة الفرنسية، وأكثر تفهماً وانتظاماً من الطرق الوثنية التي تعرف باسم (بيليدو، وهاجون) أو من بعض كبار الكهان أو السحرة السود – انتهى كلام "الدكتور زكي مبارك".
وفي كتاب "تاريخ العرب الحديث والمعاصر" تحت عنوان: "المتعاونون مع فرنسا في الجزائر:
"وتتألف هذه الفئة من بعض الشباب الذين تثقفوا في المدارس الفرنسية، وقضى الاستعمار على كل صلة لهم بالعروبة، ويضاف إليهم بعض أصحاب الطرق الصوفية الذين أشاعوا الخرافات والبدع، وبثوا روح الانهزامية والسلبية في النضال فاستخدمهم الاستعمار كجواسيس" [ص373].
يقول الدكتور عمر فروخ: يقول الصوفية: إذا سلط الله على قوم ظالماً فليس لأحد أن يقاوم إرادة الله أو أن يتأفف منها.
لا ريب أن الأوروبيين قد عرفوا في الصوفية هذا المعتقد فاستغلوه في أعمالهم، فقد ذكر الزعيم الوطني مصطفى كامل المصري في كتابه "المسألة الشرقية" قصة غريبة عن سقوط "القيروان" قال:(58/113)
ومن الأمور المشهورة عن الاحتلال الفرنسي للقيروان في تونس أن رجلاً فرنسياً دخل الإسلام وسمى نفسه "سيد أحمد الهادي"، واجتهد في تحصيل الشريعة حتى وصل إلى درجة عالية، وعين إماماً لمسجد كبير بالقيروان.. فلما اقترب الجنود الفرنسيون من المدينة استعد أهلها للدفاع عنها.. وجاءوا يسألونه أن يستشير الضريح الذي في المسجد، ودخل "سيدي أحمد الهادي" الضريح.. ثم خرج يقول: إن الشيخ ينصحكم بالتسليم لأن وقوع البلاد صار محتماً.. فاتبع القوم كلمته، ودخل الفرنسيون آمنين في 26 أكتوبر سنة 1881.
ثم يعقب الدكتور "عمر فروخ" بقوله: من أجل ذلك يجب ألا نستغرب إذا رأينا المستعمرين لا يبخلون بالمال أو التأييد بالجاه للطرق الصوفية.. وكل مندوب سامي أو نائب الملك.. لابد أنه يقدم شيخ الطرق الصوفية في كل مكان، وقد يشترك المستعمر إمعاناً في المداهنة في حلقات الذكر.
والطريقة التيجانية التي كانت تسيطر على الجزائر أيام الاستعمار معروف أنها كانت تستمد وجودها من فرنسا، وأن إحدى الفرنسيات من عميلات المخابرات تزوجت شيخاً فلما مات تزوجت بشقيقه، وكان الأتباع يطلقون عليها "زوجة السيدين" ويحملون التراب الذي تمشي عليه لكي يتيمموا به، وهي كاثوليكية مازالت على شركها.. وقد أنعمت عليها فرنسا بوسام الشرق، وجاء في أسباب منحها الوسام.. أنها كانت تعمل على تجنيد مريدين يحاربون في سبيل فرنسا كأنهم بنيان مرصوص.
ومن كتاب "في التصوف" لمحمد فهر شقفة السوري – ص217 يقول: "نرى من واجبنا خدمة الحقيقة والتاريخ أن نذكر – أن الحكومة الفرنسية في زمن الانتداب على سوريا حاولت نشر هذه الطريقة، واستأجرت بعض الشيوخ لهذه المهمة.. فقدمت لهم المال والمكان لتنشئة جيل يميل إلى فرنسا.. لكن مجاهدي المغرب لفتوا انتباه المخلصين من أهل البلاد إلى خطر الطريقة التيجانية، وأنها فرنسية استعمارية تتستر بالدين.. فهبت "دمشق" عن بكرة أبيها في مظاهرات صاخبة".(58/114)
الصوفية وفاروق :
من الأمثلة المضحكة المبكية في مسيرة رجال الصوفية وراء الاستعمار، والحكام الفسقة الظالمين.. أن الصوفية في مصر لاذوا أخيراً بفاروق ملك مصر السابق، يشكرونه على أنه منحهم كسوة، وبين يدي "فاروق" وقف شيخ الصوفية يقول: "إنها يا مولاي رمز لما أعطاك الله من مواهب، وعنوان لفيض من فيوضاته سبحانه على قلب فاروق الطاهر تكشف عن مدى طهر وضعه الله فيك. فصفت روحك الطيبة، وأن هذا التكريم للصوفية إنما هو قبس من قلبك النقي ينير لك الطريق".
وخدمة الصوفية للاستعمار الفرنسي في مصر أيضاً معروفة، وخدمتها للإنجليز.. هل تعرف السبب الحقيقي في هزيمة "عرابي".. لقد شغل أهل الصوفية الجنود في التل الكبير في أذكار.. حتى نصف الليل.. ثم نام الجنود.. فدخل الإنجليز في الفجر!!
ثم ماذا يا دكتور.. لقد طال الموضوع.. نعم إنه هام ولكن القراء يجب أن نقدر وقتهم؟
بقيت كلمة واحدة.. الطرق الصوفية حسب آخر تعداد من رئاسة الجمهورية عددها 64 طريقة لو أنهم على هدى.. لماذا لا يتفقون على طريقة واحدة.. مادام كلهم يدعون للإسلام؟ أؤكد أنهم لا يفعلون ذلك ولن يفعلوا.. لسبب واحد.. هو أن لكل مشيخة دخول، ومنتفعين، ومسائل أخرى كلها تتعلق بالمال والأعمالز. وصناديق النذور!!
على هامش الجولات
كنت قبورياً
يوميات متصوف وقبوري سابق ...!
كيف يحال بين القبوري والتوحيد ؟!
تعميق الخوف في القلوب من التوحيد والموحدين !
الاعترافات التي سيطالعها القارئ في الصفحات القادمة.. هي اعترافات ذاتية.. أردت بها تعقب العملية الكيمائية، والسيكولوجية التي يحدثها في النفس الصراع بين "التوحيد"، وبين "الخرافة" في النفس البشرية ذلك لأن الإنسان ليس وحده دائماً، وإنما الإنسان بالوعاء الذي يحتويه، والذي يحيطون بالإنسان هم الوعاء.. وهم الذين ينازعونه، ويقاسمونه، وأحياناً يشاركون المعتقدات سواء كانت صحيحة أم فاسدة.(58/115)
وحينما نشرتها في مجلة "التوعية الإسلامية" في موسم الحج الماضي.. لم أكن أتصور أبداً أنها سوف تلقى ذلك الترحيب الحار، والعطف الدافئ الذي أحاطني به كبار الدعاة المدعوين من قبل أمانة الدعوة والفكر لموسم الحج.. ومن بينهم دعاة وأساتذة أعتز بشهادتهم ولهم في الدعوة جهود تذكر فتشكر.
وأكدوا لي – مما ملأني اعتزازاً – أن هذه الاعترافات ومعالجتها بهذا الشكل القصصي الصحافي الأسلوب الخالي من نبرة الوعظ، والتهديد والوعيد.. هو الشكل الذي كانت الدعوة في حاجة إليه.. لوصوله بسرعة إلى القلب، ونفاذه في سهولة إلى الوجدان.
وانتشاره بسرعة بين متوسطي الثقافة، والبسطاء من المسلمين، وحملوني مسؤولية إعادة طبعها كلما وجدت إلى ذلك سبيلاً.. ولما كانت هي في الأصل اعترافاً مني بفضل الله علي في تصحيح عقيدتي.. وقد كتبتها محتسباً بها وجه الله.. ومؤكداً جانباً من جهاد الرجل – الذي أضع فيه هذا الكتاب – في سبيل "التوحيد" فقد ظل يحاصر معتقداتي الفاسدة.. حتى أخذ بيدي إلى عقيدة التوحيد.. لهذا كله أضعها في آخر الكتاب لأنها كانت الطلقات الأخيرة في معركتنا ضد الصوفية ولكنها لم تكن المعركة الأخيرة ..
فإليكم .. هذه الحلقات .. وحتى إشعار آخر..
الصحفي
عبد المنعم الجداوي
[ 1 ]
ترددت كثيراً في كتابة هذه الاعترافات – لأكثر من سبب. ثم أقدمت على كتابتها لأكثر من سبب، وأسباب الإحجام والإقدام واحدة.. فقد خشيت أن يقرأ العنوان بعض القراء ثم يقولون – ما لنا ولتخريف أحد معظمي القبور، ثم يطوحون بالمجلة بكل قوتهم.. ولكن قد يكون بعض القراء في المنطقة النفسية التي كنت أعيشها قبل تصحيح عقيدتي.. فيقرأون اعترافاتي. فيفهمون ويعبرون من ظلمة الخرافات إلى نور العقيدة – وفي ذلك وحده ما يقويني على الكشف عن ذاتي أمام الناس – مادام ذلك سوف يكون سبباً في هداية بعضهم إلى حقيقة التوحيد..(58/116)
ولقد كنت من كبار معظمي القبور فلا أكاد أزور مدينة بها أي قبر أوضريح لشيخ عظيم.. إلا وأهرع فوراً للطواف به.. سواء كنت أعرف كراماته أو لا أعرفها.. أحياناً أخترع لهم الكرامات أو أتصورها أو أتخيلها.. فإذا نجح ابني هذا العام كان ذلك للمبلغ الكبير الذي دفعته في صندوق النذور.. وإذا شفيت زوجتي كان ذلك للسمنة التي كان عليها الخروف الذي ذبحته للشيخ العظيم فلان ولي الله..
وحينما التقيت بالدكتور جميل غازي، وكان اللقاء لعمل مجلة إسلامية تقوم بالإعلام والنشر عن جمعية مسجد العزيز بالله القاهرية، والتي تضم مساجد أخرى، ورسالتها الأولى "التوحيد" وتصحيح العقيدة، وبحكم اللقاءات المتكررة.. كان لابد من صلاة الجمعة في مسجد العزيز بالله.. وهاجم "الدكتور جميل" في بساطة وبعقلانية شديدة.. هذا المنحى المخيف في العقيدة، وسماه شركاً بالله، وذلك لأن العبد – في غفلة من عقله – يطلب المدد والعون من مخلوق ميت.
أفزعني الهجوم، وأفزعتني الحقيقة.. وما أفزع الحقيقة للغافلين.. ولو أن "الدكتور جميل" اكتفى بذلك لهان الأمر.. لكنه في كل مرة يخطب لابد أن يمس الموضوع بإصرار.. فالضريح لا يضم سوى عبد ميت فقط.. بل قد يكون أحياناً خالياً حتى من العظام التي لا تنفع ولا تضر..
في أول الأمر اهتززت.. فقدت توازني.. كنت أعود إلى بيتي بعد صلاة كل جمعة حزيناً.. شيء ما يجثم فوق صدري يقيد أحاسيسي ومشاعري.. أحاول في مشقة أن أخرج عن هذا الخاطر.. هل كنت في ضلالة طوال هذه الأعوام؟ أم أن صديقي الدكتور قد بالغ في الأمر.. فأنا أعتقد أن كل من نطق "بالشهادة" لا يمكن أن يكون كافراً.. لهفوة من الهفوات أو زلة من الزلات.(58/117)
شيء آخر أشعل في فؤادي لهباً يأكل طمأنينتي في بطء.. إن الدكتور يضعني في مواجهة صريحة ضد أصحاب الأضرحة الأولياء.. والخطباء على المنابر صباحاً مساءً يعلنونها صريحة أن الذي يؤذي ولياً فهو في حرب مع الله سبحانه وتعالى.. وهناك حديث صحيح في هذا المعنى.. وأنا لا أريد أن أدخل في حرب ضد أصحاب القبور والضرحة لأنني أعوذ بالله من أن أدخل في حرب معه جل جلاله.
وقلت: أن أسلم وسيلة للدفاع هي الهجوم.. واستعدت قراءة بعض الصفحات من كتاب "إحياء علوم الدين للغزالي" وصفحات أخرى من كتاب "لطائف المنن لابن عطاء السكندري" وحفظت عن ظهر قلب الكرامات، وأسماء أصحابها، ومناسبات وقوعها، وذهبت الجمعة الثانية، وكظمت غيظي وأنا أستمع إلى الدكتور فلما انتهى من الدرس.. أصر على أن يدعوني لتناول الغداء، وبعد الغداء.. تسلمته هجوماً بلا هوادة.. معتمداً على عاملين: الأول: هو أنني حفظت كمية لا بأس بها من الكرامات، والثانية: أني على ثقة من أنه لن يتهور فيداعبني بكفيه الغليظتين لأنني في بيته، وتناولت طعامه فأمنت غضبته.. وقلت له: والآتي هو المعنى، وليس نص الحوار "إن الأولياء لا يدرك درجاتهم إلا من كان على درجتهم من الصفاء والشفافية، وأنهم رجال أخلصوا لله.. فجعل لهم دون الناس ما خصهم به من آيات.. وأن.. وأن.. وأن.. وانتظر الدكتور حتى انتهيت من هجومي.. وأحسست أنه لن يجد ما يقوله.. وإذا به يقول:
ـ هل تعتقد أن أي شيخ منهم كان أكرم على الله من رسوله ...؟
ـ قلت مذهولاً: لا.
ـ إذاً كيف يمشي بعضهم على الماء أو يطير في الهواء.. أو يقطف ثمار الجنة وهو على الأرض.. ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يفعل ذلك ؟(58/118)
كان يمكن أن يكون ذلك كافياً لإقناعي أو لتراجعي.. لكن التعصب قاتله الله.. كبر على أن أسلم بهذه البساطة – كيف ألغي ثقافة إسلامية عمرها في حياتي أكثر من ثلاثين عاماً.. قد تكون مغلوطة.. غير أني فهمتها على أنها الحقيقة ولا حقيقة سواها.
وعدت أقرأ من جديد في الكتب التي تملأ مكتبتي.. وأعود إلى الدكتور ويستمر الحوار بيننا إلى ساعة متأخرة من الليل – فقد كنت من كبار عشاق الصوفية.. لماذا؟ لأني أحب أشعارهم وأحب موسيقاهم وألحانهم التي هي مزيج من التراث الشعبي، وخليط من ألحان قديمة متنوعة.. شرقية، وفارسية ومملوكية، وطبلة أفريقية أحياناً.. تدق وحدها.. أو ناي مصري حزين ينفرد بالأنين مع بعض أشعارهم التي تتحدث عن لقاء الحبيب بمحبوبه وقت السحر.
لهذا وللأسباب الأخرى أحببت الصوفية.. وكنت أعشقها، وأحفظ عن ظهر قلب الكثير من شعر أقطابها.. لا سيما "ابن الفارض" وكل حجتي التي أبسطها في معارضة الدكتور أنه وأمثاله من الذين يدعون إلى "التوحيد" لا يرون للدين روحاً، وإنما يجردونه من الخيال، وأنهم لابد أن يصلوا إلى ما وصل إليه أصحاب الكرامات.. لكي يدركوا ما هي الكرامات.. فلن يعرف الموج إلا من شاهد البحر، ولا يعرف العشق إلا من كابد الحب – وهذا أسلوب صوفي أيضاً في الاستدلال ولهم بيت شهير في هذا المعنى.
وحتى لا يضطرب وجداني، وتتمزق مشاعري.. حاولت أن أنقطع عن لقاء الدكتور.. ولكنه لم يتركني.. فوجئت به يدق جرس الباب ولم أصدق عيني كان هو.. قد جاء يسأل عني وتكلمنا كالعادة كثيراً وطويلاً.. فلما سألني عن سبب عدم حضوري لصلاة الجمعة معه قلت له بصراحة:
ـ لقد يئست منك..
ـ قال: ولكني لم أيأس منك.. أنت فيك خير كثير للعقيدة.
ـ قلت: إنه يستدرجني على طريقته.. ولمحت معه كتاباً من تأليفه عن سيرة "الإمام محمد بن عبد الوهاب" فقلت له:
ـ أعطني هذه النسخة.. هل يمكن ذلك؟
ـ قال: هذه النسخة بالذات ليست لك، وسوف أعدك بواحدة.(58/119)
وهذه هي طريقته للإثارة دائماً.. لا يعطيني ما أطلب من أول مرة.. فخطفت النسخة ورفضت إعادتها له.
وبعد منتصف الليل بدأت القراءة.. وشدني الكتاب موضوعاً وأسلوباً فلم أنم حتى الصباح.
[ 2 ]
كان الكتاب على حجمه المتواضع – كالإعصار – كالزلزال.. أخذني من نفسي ليضعني على حافة آفاق جديدة. حكاية الشيخ "محمد بن عبد الوهاب" نفسه.. ثم قصة دعوته وما كابده من معاناة طويلة.. حينما كانت في صدره جنيناً.. وكلما قرأت صفحة وجدت قلبي مع السطور.. فإذا أغلقت الكتاب لأمرٍ من الأمور.. يطلب التفكير أو البحث في كتب أخرى.. استشعرت الذنب لأنني تركت الشيخ في "البصرة" ولم أصبر حتى يعود.. أو تركته في بغداد يستعد للسفر إلى "كردستان".. ولابد أن أصبر معه حتى يعود من غربته إلى بلده.
يقول الدكتور في كتابه "مجدد القرن الثاني عشر الهجري شيخ الإسلام الإمام محمد بن عبد الوهاب": وبعد هذا الطواف والتجوال هل وجد ضالته المنشودة؟
لا فإن العالم الإسلامي كله كان يعاني نوبات قاسية من الجهل والانحطاط والتأخر.. عاد الرجل إلى بلده يحمل بين جوانحه ألماً شديداً لما أصاب المسلمين من انتكاس وتقهقر في كل مناحي حياتهم.
عاد إلى بلده وفي ذهنه فكرة تساوره بالليل والنهار...
لماذا لا يدعو الناس إلى الله ؟
لماذا لا يذكرهم بهدى رسول الله ؟
لماذا ... لماذا ...؟
إذاً فهذه العقيدة التي يريدها الدكتور لم تأت من فراغ.. فمنذ القرن الثاني عشر الهجري.. والإمام محمد بن عبد الوهاب يفكر، ويقدم لكي يهدم صروح الأضرحة، ويحطم شيخ الخرافات ويطارد المشعوذين الذين لطخوا وجه الشريعة السمحاء.. بخزعبلاتهم التي اكتسبت مع الأيام قداسة.. تخلع قلوب المؤمنين إذا فكروا في إزالتها وفي ذلك يقول الكتاب:
"ماذا كان وقع هذه الأعمال على نفوس القوم؟...".(58/120)
ويجيب المؤرخون على ما يرويه الأستاذ أحمد حسين في كتابه "مشاهداتي في جزيرة العرب" أن القوم لم يقبلوا مشاركة الرجل فيما قام به من قطع الأشجار، وهدم القباب.. بل تركوا له وحده أن يقوم بهذا العمل حتى إذا ما كان هناك شر أصابه وحده..
هل يكون ما يزلزل كياني الآن هو الخوف الذي ورثته؟ وهو نفس الذي جعل الناس في بلدة "العيينة" موطن الشيخ يتركونه يزيل الأشجار، وقبة قبر "زيد بن الخطاب" بنفسه.. خوفاً من أن تصيبهم اللعنات المتخلفة من كرامات هذه الأماكن وأصحابها؟
ومضيت أقرأ، ومع كل صفحة أشعر أنني أخلع من جدار الوهم في أعماقي حجراً ضخماً.. وحينما بلغت منتصف الكتاب كانت فجوة كبيرة داخلي قد انفتحت، وتسلل منها ومعها نور اليقين.. ولكن في زحمة الظلمة التي كانت تعشش داخلي.. كان الشعاع يومض لحظة ويختفي لحظات..
لقد استطاع الدكتور أن ينتصر.. ترني أحارب نفسي بنفسي.. بل جعلني أتابع مسيرة التوحيد مع شيخها محمد بن عبد الوهّاب، وأشفق عليه من المؤامرات التي تحاك ضده، وحوله.. وكيف أنه حينما أقام الحد على المرأة التي زنت في "العيينة" غضب حاكم "الإحساء" سليمان بن محمد بن عبد العزيز الحميدي، واستشعر الخطر من الدعوة الجديدة وصاحبها.. فكتب إلى حاكم "العيينة" ابن معمر يأمره بكتم أنفاسها، وقتل المنادي بها، والعودة فوراً إلى حظيرة الخرافات والخزعبلات.(58/121)
ولما كان "ابن معمر" قد ارتبط مع الشيخ في مصاهرة.. فقد زوجه ابنته فإنه تردد في قتله، ولكنه دعاه إلى اجتماع مغلق، وقرأ عليه رسالة حاكم "الإحساء" ثم رسم اليأس كله على ملامحه، وقال له: إنه لا يستطيع أن يعصي أمراً لحاكم "الإحساء" لأنه لا قبل له به.. ولعلها لحظة يأس كشفت للشيخ عن عدم إيمان "ابن معمر".. ولم تزد الشيخ إلا إصراراً على عقيدته، وقوة توحيده.. فالحكام الطغاة لا يحاربون دائماً إلا داعية الحق.. وقبل الشيخ في غير عتاب أن يغادر "العيينة" مهاجراً في سبيل الله بتوحيده باحثاً عن أرض جديدة يزرعه فيها.
في الصباح استيقظت على ضجة في البيت غير عادية.. واعتدلت في فراشي ووصلت إلى أذني أصوات ليست آدمية خالصة، ولا حيوانية خالصة.. ثغاء، وصياح، ولكام.. غير مفهوم العبارات.. وقلت لابد أنني أعاني من بقية حلم ثقيل.. فتأكدت من يقظتي، ولكن "الثغاء" هذه المرة.. اخترق طبلة أذني.. ودخلت علي زوجتي تحمل إلي أنباء سارة جداً وهي تتلخص في أن ابنة خالتي التي تعيش في أقصى الصعيد.. ومعها زوجها وابنها البالغ من العمر ثلاث سنوات قد وصلوا في قطار الصعيد فجراً ومعهم "الخروف"..
وظنت أن زوجتي تداعبني.. أو أن ابنة خالتي، وكنت أعرف أن أولادها يموتون في السنوات الأولى.. قد أطلقت على طفل لها اسم "خروف" لكي يعيش مثلاً.. وهي عادات معروفة في الصعيد.. وقبل أن أتبين المسألة أحسست بمظاهرة من أولادي تقترب من باب حجرة نومي.. وفجأة وبدون استئذان اقتحم الباب "خروف" له فروة، وقرون، وأربعة أقدام.. واندفع في جنون من مطاردة الأولاد له.. فحطم ما اعترض طريقه.. ثم اتجه إلى المرآة، وفي قفزة "هترية" اعتدى على المرآة بنطحة قوية تداعت بعدها، وأحدثت أصواتاً عجيبة وهي تتحطم.(58/122)
تم كل ذلك في لحظة سريعة.. وقبل أن أسترد أنفاسي خيل إلي أن بيتنا انفتح على حديقة الحيوانات.. رغم أنني أسكن في العباسية، والحديقة في الجيزة.. ولكن وجدت نفسي أقفز من على السرير، وخشيت زوجتي ثورة "الخروف" وتضاءلت فانزوت في ركن.. ترمقني بعينيها، وتشجعني لكي أتصدى لهذا الحيوان المجنون.. الذي اقتحم علينا خلوتنا.. ولكن الصوت والزجاج المتناثر زاد من هياج الحيوان.. ولمحت في عينيه وفي قرنيه الموت الزؤام.. واستعدت في ذهني كل حركات مصارعي الثيران، وأمسكت بملاءة السرير وقبل أن أجرب رشاقتي في الصراع مع "الخروف" دخلت ابنة خالتي.. وفي حالة انزعاج كامل.. فقد خيل لها أنني سوف أقتله وصاحت وهي على يقين من أنني سأصرعه:
ـ حاسب هذا خروف "السيد البدوي".
ونادته فتقدم إليها في دلال، وكأنه الطفل المدلل.. فأمسكت به تربت على رأسه وروت لي أنها قدمت من الصعيد، ومعها هذا الخروف البكر الرشيق الذي أنفقت في تربيته ثلاث أعوام.. هي عمر ابنها.. لأنها نذرت للسيد البدوي إذا عاش ابنها أن تذبح على أعتابه "خروفاً" وبعد غد يبدأ العام الثالث موعد النذر.
كانت تقول كل هذه العبارات، وهي سعيدة وخرجت إلى الصالة لأجد زوجها وهو في ابتهاج عظيم.. يطلب مني أن أرافقهم إلى "طنطا".. لكي أرى هذا المهرجان العظيم لأنهم نظراً لبعد المسافة اكتفوا بالخروف.. أما الذين على مقربة من "السيد البدوي" فإنهم يبعثون بجمال.. وأصبح علي أن أجامل ابنة خالتي لكي يعيش ابنها، وإلا اعتبر قاطعاً للرحم.. لا يهمني أن يعيش ابن بنت خالتي أو يموت.. ولابد أن أذهب معهم إلى مهرجان الشرك وفي نفس الوقت كنت أسال نفسي: كيف أقنعها بأنها في طريقها إلى الكفر..؟ وماذا سيحدث حينما أحطم لها الحلم الجميل الذي تعيش فيه منذ ثلاث سنوات؟(58/123)
وقلت: أبدأ بزوجها أولاً لأن الرجال قوامون على النساء.. وأخذت الزوج إلى ناحية في البيت، وتعمدت أن يرى في يدي كتاب "الإمام محمد بن عبد الوهّاب" ومد يده فجعل الغلاف ناحيته، وما كاد يقرأ العنوان حتى قفز كأنه أمسك بجمرة نار.
[ 3 ]
قرأ زوج ابنة خالتي عنوان الكتاب الذي يقول إن في الصفحات قصة "الشيخ محمد بن عبد الوهاب" ودعوته – وهتف صارخاً: ما هذا الذي أقرؤه؟ وكيف وصلني هذا الكتاب؟.. لابد أن أحدهم دسه علي.. فهو يعرف أنني رجل متزن.. أحرص على ديني وعلى زيارة الأضرحة، وتقديم الشموع، والنذور، وأحياناً القرابين المذبوحة والحية. كما يفعل هو تماماً.. ورأيت في عينيه نظرة رثاء إلى ما رماني به القدر في تلك النسخة.. وكان على أن أقف منه موقف الدكتور محمد جميل غازي مني سابقاً.. وشاء الله أن يكون ذلك بمثابة الامتحان لي.. وهل في استطاعتي أن أطبق ما قرأت أم لا؟ وهل استوعبت عن يقين ما قرأت أم لا؟ والأهم من ذلك هو مدى إصراري على عقيدتي وإقناع الآخرين بها أيضاً.. فالذي لا يؤثر في المحيط الذي يعيش فيه هو صاحب عقيدة سلبية.. غير إيجابية.. فليس من المعقول في شيء أن أطري "توحيدي" على نفسي وأترك الآخرين يعيشون في ضلالة.. لأنهم بعد فترة سوف يغرقونني في خرافاتهم.. وعليه فلابد أن أجادلهم بالتي هي أحسن.. لا أتركهم يشعرون أن الأمر هين.. لابد أن أنفرهم من شركهم وهم لابد أن يتراجعوا.. لأن "الخرافة" نظراً لأنها تقوم على ضلالات هشة.. لا يكاد الشك يدخلها حتى يهدمها، والحق في تعقبها إذا كان لحوحاً قضى عليها أو على أقل تقدير أوقف نموها حتى لا تصيب الآخرين.. ومن أجل ذلك كله قررت أن أتوكل على الله، وأبدأ الشرح للرجل.. ولم تكن المهمة سهلة.. فلابد أولاً أن أطمئنه، وأزيل ما بينه وبين سيرة الشيخ "محمد بن عبد الوهاب".. ثم ما ترسب في ذهنه من زمن عن "الوهابية والوهابيين".. ففي أول الحديث اتهم "الوهابية" بعدد من الاتهامات يعلم(58/124)
الله أن دعوة "التوحيد" بريئة منها براءة الذئب من دم يوسف عليه السلام..
ورحت أحاول في حماس شديد أن اشرح له سر حملات الكراهية، والبغضاء التي يشنها البعض على دعوة "التوحيد".. وكيف أنها أحيت شعائر الشريعة، وأصول العبادات، وفي ذلك القضاء على محترفي الدجل، وحراس المقابر، وسدنة الأضرحة، والذين يكدسون الأموال عاماً بعد عام.. من بيع البركات، وتوزيع الحسنات على طلاب المقاعد في الجنة.. فالمقاعد محدودة والوقت قد أزف.. ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
ولمحت على ملامحه بعض سمات الخير.. نظر إلي في دهشة كأنه يفيق من غيبوبة.. ورغم ذلك فقد راح يتشنج، ويدافع عن أهل الله الذين ينامون في قبورهم.. لكن يتحكمون بأرواحهم في بقية الكون، وأنهم يدعون كل ليلة جمعة للاجتماع عند قطب من الأقطاب.. وحتى النساء من الشهيرات يلتقين أيضاً مع الرجال الأقطاب، وينظرون في شؤون الكون.
ولم أكن أطمع في زحزحته عن معتقدات في ضميره عمرها أكثر من ثلاثين سنة.. فاكتفيت بأن طلبت منه أن ينظر في الأمر هل هؤلاء الموتى من أصحاب الأضرحة أكرم عند الله.. أم محمد رسول الله؟.. ثم يفكر طويلاً ويجيء إلي بالنتيجة.. دون ما تحيز أو تعصب.. ووعدني بأن يفكرن ولكنه فقط يطلب مني أن أرافقهم في رحلتهم الميمونة إلى "طنطا".. فقلت له: إن هذا المستحيل لن يحدث.. وإذا كان مصمماً على الذهاب هو وزوجته إلى "السيد البدوي" حتى يعيش ابنهم.. فالمعنى الوحيد لذلك هو أن الأعمار بيد "السيد البدوي" وحملق في، وصاح:
ـ لا تكفر يا رجل..
فقلت له: أينا يكفر الآخر؟ أنا الذي أطلب منك أن تتوجه إلى الله؟ أم أنت الذي تصر على أن تتوجه إلى "السيد البدوي"؟(58/125)
وسكت واعتبر هذا مني إهانة لضيافته، وأخذ زوجته، وأخذت زوجته الخروف وابنها، وانصرفوا من العباسية في القاهرة إلى "طنطا"، وحينما وقفت أودعهم.. همست في أذن الزوج أنه إذا تفضل بعدم المرور علينا بعد العودة من مهرجان الشرك.. فإنني أكون شاكراً له ما يفعل، وإلا لقي مني ما يضايقه.. وازداد ذهول الرجل ومضى الركب الغريب يسوق الخروج نحو "طنطا"..
وانثنت زوجتي تلومني لأنني كنت قاسياً معهم، وهم الذين يخافون على طفلهم.. الذي عاش لهم بعد أن تقدمت بهما العمر، ومات لهما من الأطفال الكثير.. وصحت في زوجتي: إن الطفل إذا كان سيعيش فذلك لأن الله يريد له أن يعيش، وإن كان سيموت فذلك لأن الله يريد له ذلك، لا شريك لله في أوامره، ولا شريك له في إرادته.
وذهبت إلى إدارة الجريدة التي أعمل بها.. وإذا بالدكتور يتصل بي تليفونياً ليتحدث معي في شأن له، ولم يخطر بباله أن يسألني: ما فعل بي الكتاب؟ أو ماذا فعلت به.. واضطررت أن أقول له.. أني في حاجة لمناقشة بعض ما جاء في الكتاب معه.. والتقينا في الليل وحدثته عن الكارثة التي جاءتني من الصعيد، ولم يعلق على محاولتي إقناعهم بالعدول عن شركهم.. مع أنني منذ أيام فقط كنت لا أقل شركاً عنهم.. وقلت له: ألا يلفت نظرك أنني أقول لهم ما كنت تقوله لي؟
قال في هدوء يغيظ: إنه كان على يقين من أنني سوف أكون شيئاً مفيداً للدعوة.. وأردت الاحتجاج على أنني من "الأشياء" ولست من الآدميين.. لكن الدكتور لم يتوقف وقال: لقد صدر منك كل هذا بعد قراءة نصف الكتاب.. فكيف بك إذا قرأت الكتب الأخرى.. وأغرق في الضحك.. وعلمت بعد أيام أن قريبتي عادة من "طنطا" إلى الصعيد مباشرة دون المرور علينا في القاهرة، وأنها غاضبة مني، وشكتني لكل شيوخ الأسرة، وفي الأسبوع الثاني فوجئت بجرس الباب يدق.. وذهب ابني الصغير ليستطلع الأمر.. ثم عاد يقول لي:
ـ إبراهيم الحران..(58/126)
"الحران".. إنه زوج ابنه خالتي ماذا حدث؟ هل جاءوا بخروف جديد، ونذر جديد لضريح جديد.. أم ماذا؟ وقررت أن يخرج غضبي من الصمت إلى العدوان هذه المرة، ولو بالضرب.. ومشيت في ثورة إلى الباب.. وإذا بهذا "الحران" يمد يده ليصافحني، ودعوته إلى الدخول فرفض.. إذاً لماذا جاء؟ وفيما جاء؟ وابتسم ابتسامة مغتضبة وهو يقول: إنه يطلب كتاب "الشيخ محمد بن عبد الوهاب" الذي عندي وحملقت فيه طويلاً، وجلست على أقرب مقعد..
[ 4 ]
سقطت قلعة من قلاع الجاهلية.. لكن لماذا؟ وكيف كان ذاك السقوط؟ جاء صاحبي "إبراهيم" يسعى بقدميه.. يطلب ويلح في أن يبدأ مسيرة التوحيد.. لابد أن وراء عودته أمراً ليس من المعقول أن يحدث ذلك بلا أسباب قوية جعلت أعماقه تتفتح، وتفيق.. على حقائق غفل عنها طويلاً.
ورحمة بي من الذهول والإغماء الذي أوشك أن يصيبني.. بدأ يتكلم، وكانت الجملة التي سقطت من فمه.. ثقيلة كالحجر الذي يهبط من قمة جبل.. صكت سمعي.. ثم ألقت بنفسها تتفجر على الأرض.. تصيب وتدمي شظاياها وقال:
ـ لقد مات ابني عقب عودتنا.. إنا لله وإنا إليه راجعون.
هذا هو الولد الرابع الذي يموت لإبراهيم تباعاً، وكلما بلغ الطفل العام الثالث.. لحق بسابقه.. وبدلاً من أن يذهب إلى الأطباء ليعالج مع زوجته بعض التحليلات اللازمة.. فقد يكون مبعث ذلك مرض في دم الأب أو الأم.. اقتنع، وقنع بأن ينذر مع زجته مرة للشيخ هذا، ومرة للضريح ذاك، وأخرى لمغارة في جبل بني سويف.. إذا عاش طفله، ولكن ذلك كله لم ينفعه.. ورغم الجهل والظلم الذي يظلمه لنفسه.. إلا أنني حزنت من أجله تألمت حقيقة.. أخذته من يده.. أدخلته.. جلست أستمع إلى التفاصيل.(58/127)
لقد عاد من "طنطا" مع زوجته إلى بلدهما.. وحملا معهما بعض أجزاء من "الخروف" الذي كان قد ذبح على أعتاب ضريح "السيد البدوي".. فقد كانت تعاليم الجهالة تقضي بأن يعودا ببعضه.. التماساً لتوزيع البركة على بقية المحبين، وأيضاً لكي يأكلوا من هذه الأجزاء.. التي لم تتوفر لها إجراءات الحفظ الصالحة ففسدت.. وأصابت كل من أكل منها بنزلة معوية.. وقد تصدى لها الكبار وصمدوا.. أما الطفل.. فمرض، وانتظرت الأم بجهلها أن يتدخل "السيد البدوي" لكن حالة الطفل ساءت.. وفي آخر الأمر ذهبت به للطبيب الذي أهله أن تترك الأم ابنها يتعذب طوال هذه الأيام.. فقد استغرق مرضه أربعة أيام.. وهز الطبيب رأسه، ولكنه لم ييأس.. وكتب العلاج "أدوية، وحقن"، ولكن الطفل اشتد عليه المرض ولم يقو جسمه على المقاومة فمات.
من موت الطفل بدأت المشاكل.. كانت الصدمة على الأم أكبر من أن تتحملها.. ففقدت وعيها.. أصابتها لوثة جعلتها تمسك بأي شيء تلقاه، وتحمله على كتفها وتهدهده وتداعبه على أنه ابنها.. أما الأب فقد انطوى يفكر في جدية بعد أن جعلته الصدمة يبصر أن الأمر كله لله.. لا شريك له.. وأن ذهابه عاماً بعد عام إلى الأضرحة والقبور.. لم يزده إلا خسارة.. واعترف لي بأن الحوار الذي دار بيني وبينه كان يطن في أذنيه.. عقب الكارثة ثم صمت.. فقلت له بعض الكلام الذي يخفف عنه، والذي يجب أن يقال في مثل هذه المناسبات.. ولكن بقي في نفسي من حديثه.. فهو لم يكمل ماذا حدث للسيدة المنكوبة وهل شفيت من لوثتها أم لا؟(58/128)
فقلت له: لعل الله قد شفى الأم من لوثتها؟.. فأجاب وهو مطأطئ الرأس: إن أهلها يصرون على الطواف بها.. على بعض الأضرحة والكنائس أيضاً.. ويرفضون عرضها على أي طبيب من أطباء الأمراض النفسية والعصبية.. ليس ذلك فحسب.. بل ذهبوا بها إلى "سيدة" لها صحبة مع الجن فكتبت لها على طبق أبيض.. وهكذا تزداد العلة عليها في كل يوم وتتفاقم.. وكل ما يفعله الدجالون يذهب مع النقود المدفوعة إلى الفناء.
وحينما أراد أن يحسم الأمر.. وأصر على أن تعرض على طبيب.. أو يطلقها لهم.. لأنهم سبب إفسادها.. برزت أمها تتحداه وركبت رأسها فاضطر إلى طلاقها وهو كاره.
أثارتني قصته ورغم حرصي على النسخة التي حصلت عليها من الدكتور جميل إلا أنني أتيته بها وناولتها له.. فأمسك بها وقلبها بين يديه.. وعلى غلافها الأخير كان مكتوباً كلاماً راح يقرؤه بصوت عال.. كأنه يسمع نفسه قبل أن يسمعني "نواقض الإسلام" من كلمات شيخ الإسلام "محمد بن عبد الوهّاب": [ومن يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة، ومأواه النار وما للظالمين من أنصار] ومنه الذبح لغير الله كمن يذبح للجن أو للقبر.
ورفع رأسه فحملق في وجهي.. ثم أخذ الكتاب، وانصرف واشترط أن يعيده لي بعد أيام، وأن أحضر له من الكتب ما يعينه على المضي في طريق التوحيد.
انصرف إبراهيم، والمأساة التي وقعت له تتسرب إلى كياني قطرة بعد قطرة.. فهي ليست مأساة فرد، ولا جماعة، وإنما هي مأساة بعض المسلمين في كثير من الأمصار.. الخرافة أحب إليهم من الحقيقة، والضلالة أقرب إلى أفئدتهم من الهداية، والابتداع يجتذبهم بعيداً عن السنة..(58/129)
حاولت الاتصال تليفونياً بالدكتور جميل.. فقد كنت أريد أن أنهي إليه أخبار "إبراهيم" ولكني لم أجده فبدأت العمل في كتابات لمجلة شهرية تصدر في قطر.. اعتادت أن تنشر لي أبحاثاً عن "الجريمة في الأدب العربي" وصففت أمامي المراجع، وبدأت مستعيناً بالله على الكتابة، وإذا بالتليفون يدق.. كان المتكلم مصدراً رسمياً في وزارة الداخلية يدعوني بحكم مهنتي كصحفي متخصص في الجريمة.. لحضور تحقيق في قضية مصرع أحد عملاء البلاط، وكان قد عثر على جثته في جوال من يومين.
تركت كل ما كان يشغلني إلى مكان التحقيق.. والغريب في الأمر أن يكون الأساس الذي قامت عليه هذه الجريمة هو السقوط أيضاً في هاوية الشرك، والدجل والشعوذة.. بشكل يدعو إلى الإشفاق.. فالقتيل كان يدعى صحبة الجن، والقدرة على التوفيق بين الزوجين المتنافرين، وشفاء بعض الأمراض وقضاء الحاجات المستعصية.. إلى جانب عمله في مهنة البلاط.
أما المتهم القاتل.. فكان من أبناء الصعيد تجاوز الخمسين من عمره، وكان متزوجاً من امرأة لم تنجب.. فطلقها، وتزوج بأخرى في السابعة عشرة من عمرها لكنها هي الأخرى لم تنجب.. وبلغه من تحرياته أن مطلقته قامت بعمل سحر له نكاية فيه.. يمنعه من الإنجاب مع زوجته الجديدة.. فاتصل بذلك الرجل الذي كان شاباً لم يتجاوز الأربعين.. واتفق معه على أن يقوم له بعمل مضاد.. وتلقف الدجال فرصة مواتية.. وذهب معه إلى البيت وكتب له الدجال بعد أن تناول العشاء الدسم.. وأمره بإحضار بعض مستلزمات حضور الجن من بخور وشموع وعطور، وذهب الرجل ليشتريها.. وترك "الدجال" وزوجته الحسناء في البيت..
[ 5 ](58/130)
خرج الرجل مسرعاً يشتري البخور الذي سيحرق تمهيداً لاستحضار الجن.. وترك الدجال الشاب في البيت مع الزوجة الحسناء وكان لابد أن يحدث ما يقع في مثل هذه المواقف.. فقد حاول المشعوذ أن يعتدي على الزوجة.. إذ راودها في عنف ليفتك بشرفها، وهي العفيفة الشريفة.. فقامت لتغادر البيت إلى جارة لها حتى يصل زوجها.. وإذا بها تجد زوجها على الباب.. فقد نسي أن يأخذ حافظة نقوده.. وروت له في غضب ما وقع من الدجال، وانفعل الزوج الصعيدي وحمل عصا غليطة.. ودخل على الدجال في الغرفة وانهال عليه بالعصا حتى حطم رأسه.. بعدها وجد نفسه أمام جثة لابد أن يتخلص منها.. فجلس يفكر.
خرج ليلاً فاشترى جوالاً وعاد فوضع الجثة فيه.. وانتظر حتى انتصف الليل.. ثم حمل الجثة على كتفه وألقى بها في خلاء على مقربة من الحي الذي يسكنون فيه.. وعاد إلى غرفته يحاول طمس الآثار ومحوها.. وظن أنه تخلص من الدجال الشاب إلى الأبد.
لكن رجال الشرطة.. بعد عثورهم على الجثة بدأوا أبحاثهم عن الجوال الذي كان يحتوي على الجثة.. وما كادوا يعرضونه على البقالين في المنطقة حتى قال لهم أحدهم إن الذي اشتراه منه هو فلانن وكان ذلك بالأمس فقط وألقت الشرطة القبض على الرجل، وفتشت غرفته فوجدت الآثار الدالة على ارتكاب الجريمة.. وضيق عليه الخناق فاعترف بتفاصيل الجريمة.
لم يكن حضوري هذا التحقيق صدفة فكل شيء يجري في ملكوت الله بقدر.. إذ يسوق هذه الجريمة المتعلقة أيضاً بفساد العقيدة لتجعلني أناقش مع الآخرين.. قضية العقيدة والخرافة من بذورها الأولى.. ولماذا تروج الخرافة وتتغلغل في كيانات البشر دون وازع؟ هل لأن الذي يتاجرون بها أوسع ذكاء من الضحايا؟(58/131)
وماذا يجعل الضحايا وهم ملايين.. يندفعون إلى ممارستها، والإيمان بها، والتعصب لها؟ أم أن "الوثنية" التي هي الإيمان بالمحسوس والملموس.. التي ترسبت في أذهان العالمين سنين طويلة تفرض نفسها على الناس من جديد.. تساندها الظروف النفسية لبعض البشر.. الذين يعجزون عن الوصول إلى تفسير لها ؟
فالقاتل والقتيل في هذه الجريمة.. كلاهما فاسد العقيدة.. لا يعرفان من الإسلام سوى اسمه.. فالقتيل مشعوذ يمشي بين عباد الله بالسوء، ويكذب عليهم، ويدعي أنه على صلة بالجن وأنه يشقى ويسعد، ويشفي ويمرض بمعاونة الجن، وفي ذلك شرك مضاعف مع الإضرار بالناس.. أما القاتل فهو من فرط جهالته يعتقد أن إنساناً مثله في وسعه أن يجعله ينجب ولداً أو بنتاً وقد يكون عذره أنه في لهفته على الإنجاب ألغي عقله.. غير أنه لو كانت له عقيدة سليمة ترسخ في ذهنه أن الله بلا شركاء، وأن النفع والضر بيد الله فقط، وتؤصل هذه المفاهيم في أعماقه.. ما كان يمكنه أن يستسلم لدجال ولاستطاعت عقيدته أن تحميه من السقوط في أيدي مثل هذا المشعوذ.(58/132)
وفي كثير من الأحيان يصل الأمر ببعض المتعصبين إلى أن يجعل من نفسه داعية للخرافة.. يروج لها، ويدافع عنها، وعلى استعداد للقتال في سبيلها.. فقد نجد من ينبري في المجالس.. فيروي كيف أن الشيخ الفلاني أنقذه هذه الأيام من ورطة كانت تحيق به، وأنه كان لن يحصل على الترقية هذا العام لولا أن الشيخ الفلاني صنع له "تحويطة" وأنه كان على خلاف مع زوجته وضعتهما على حافة الطلاق.. لولا أن الشيخ الفلاني كتب له ورقة وضعها تحت إبطه.. إلخ وتحضرني في هذا المجال.. قصة سيدة تخرجت من جامعة القاهرة، ودرست حتى حصلت على الدكتوراه في علوم الزراعة، وتشغل الآن وظيفة مديرة مكتب وزير زراعة إحدى الدول العربي هذه السيدة حاملة الدكتوراه.. عثر زوجها ذات يوم على حجاب تحت وسادته – فسأل زوجته.. فقالت: إنها دفعت فيه مالاً يقل عن خمسين جنيهاً.. لكي تستميل قلبه لأنها تشعر بجفوته في الأيام الأخيرة.. وكانت النتيجة أن زوجها طلقها طبعاً.. وراوي قصتها هو محاميها نفسه الذي تولى دعواها التي أقامتها ضد زوجها...
وترتفع الخرافة إلى الذروة.. حينما يعمد المتخصصون فيها إلى تقسيم تخصصات المشايخ والأضرحة.. فضريح السيدة فلانة يزار لزواج العوانس، والشيخ فلان يزار ضريحه في مسائل الرزق، والقادرة الشاطرة صاحبة الضريح الفلاني يحج إليها في مشاكل الحب، والهجر، والفراق، والطلاق، وأخرى في أمراض الأطفال، والعيون، وعسر الهضم وهكذا.. مؤامرة محكمة الحلقات.. تلف خيوطها حول السذج والمساكين، وكأنهم لم يقرأوا في القرآن: { وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدُيرٌ } [الأنعام: 17]، وكأنهم لم يسمعوا بالحديث الشريف: ”من تعلق تميمة فقد أشرك“.(58/133)
إن الانصياع للخرافات ليس وقفاً على عامة الناس أو جهلتهم.. بل من المؤسف أنها تتمتع بسلطان كبير بين المتعلمين، والذين درسوا في أرقى الجامعات.. وإذاً فالأصل فيها هو أنها تتسلل إلى ضمائر الناس.. الذين لا تحميهم عقيدة سليمة.. تصد عنهم هذه "الشركيات" الشرسة الضارية.. فالذي لا شك فيه.. هو أن الرجل الذي وثق إيمانه بالله، واقتنع بأن الله هو مالك كل شيء، ورب كل شيء لا شريك ولا وسيط له.. هذا الرجل سوف يعيش في مناعة إيمانه.. متحصناً بعقيدته.. لا تصل إليه المفاسد.. بل وتنكسر على صخرة إيمانه كل هذه الخزعبلات.. لماذا؟ لأنه أنهى أمره إلى الله، ولم تعد المسألة في حسابه قابلة للمناقشة!
فالإيمان بالله، واعتناق العقيدة السليمة شيء ليس بالضرورة في الكتب أو في الجامعات.. إنه أبسط من ذلك.. فالله سبحانه وتعالى جعله في متناول الجميع حتى لا يحرم منه فقير لفقره.. أو يستأثر به غني لغناه..
وبينما أنا منهمك أكتب هذه الحلقة.. إذ بضجيج تصحبه دقات عنيفة لطبل يمزق سكون الليل ويبدده.. وراح هذا الضجيج يعود ويعربد في ليل الحي.. دون أن يتوقف إلا للحظات.. يتغير فيها الإيقاع ثم يعود ضارباً..متوحشاً.. يهز الجدران.. وعرفت بخبرتي من الألحان، والأصوات المنفردة التي تصاحبها.. إن إحدى المترفات من الجيران تقيم حفلة "زار".. وأنها لابد أن تكن قد دعت كل صديقاتها المصابات مثلها بمس من الجن.. لكي يشهدن حفلها.. إذ لم تكن هذه هي المرة الأولى التي تقيم فيها مثل هذه الحفلة فهي تقوم بعملها هذا مرة كل ستة شهور.. حرصاً على إرضاء الجن الذي يسكن جسدها..(58/134)
وعبثاً حاولت الوصول إلى وسيلة للهرب من تلك الكارثة التي تقتحم على أذني.. فتركت الكتابة، وحاولت أن أقرأ.. وفي خضم هذه المعاناة.. جاء صديق لي من كبار علماء الأزهر، ومن الذين يعملون في وزارة الأوقاف وشؤون الأزهر ليزورني واستقبلته فرحاً.. لأنني أحب النقاش معه، ولأنه سوف يخلصني من عذاب الاستماع إلى الدفات الهمجية.
وشكوت إليه جارتي، ودخلنا في مناقشة عن "الجن" وشكوى الناس منه، وإدعاء السيدات أنه يركبهن، والجيش الجرار من النساء، والرجال الذين يحترفون عمل حفلات "الزار" وإذا بالرجل الذي حمل شهادة أزهرية عليا.. يؤكد لي أنه كانت له شقيقة.. مسها الجن عقب معركة نشبت بينها وبين زوجها، فعطل "الجن" ذراعها الأيمن عن العمل بضعة أيام.. ولم يتركها الجن إلا بعد أن أقاموا لها حفلة "زار" عقدت الشيخة بينها وبين "الجن" معاهدة تعايش سلمي.. وترك ذراعها على أن تقيم هذا الحفل مرة كل عام.
كان هذا كلام الرجل العالم.. طال صمتي.. فقد كنت أفكر في المسكين "إبراهيم الحران" وزوجته الأمية.. فلا عتاب عليهما ولا لوم.. مادام هذا هو رأي مثل هذا الرجل في "الزار".. وكانت الدقات العنيفة لاتزال تصل إلى آذاننا، والصمت المسكين يتلاشى أمام الأصوات المسعورة التي تصرخ في جنون تستجدي رضا الجن، وتستعطف قلوب العفاريت..
[ 6 ]
انتهت سهرتي مع صديقي العالم الأزهري الخالص.. الذي فجعني فيه إخلاصي له.. إذ وجدته من المؤمنين بالخرافة.. والمؤيدين لحكايات الجن.. وأحسست بأن وقتي ضاع بين هذا المغلوط العقيدة ودقات "الزار" التي كانت تقتحم على نوافذ مكتبي.. دون مجير شهم ينقذني من الاثنين.(58/135)
وفي الصباح استيقظت على جرس التليفون.. يصيح صيحات طويلة ومعناها أ،ا مكالمة قادمة من خارج القاهرة.. ورفعت السماعة.. لأجد أن المكالمة من الصعيد، والمتكلم هو زوج خالتي، ووالد زوجة "إبراهيم الحران".. يعلنني أنهم سوف يصلون غداً.. وقد اتصل ليتأكد أنني في القاهرة.. خوفاً من أن أكون على سفر.. فهو يريدني لأمر هام.. ورحبت به.. وقلت إنني في انتظارهم.. ولم يكن أمامي سوى أن أفعل هذا.. لألف سبب وسبب.
أولها: أن الرجل الذي اتصل بي أكن له كل الاحترام والحب، وإنني لمست في صوته رقة الرجاء، وأنا ضعيف أمام اليائس الذي يلجأ إلي في حاجة في وسعي أن أقضيها له.. أخشى أن أرده ولو بالحسنى.. وأحاول جاهداً أن أكون من الذين يجري الله الخير على أيديهم للناس.. رغم أن هذا يسبب لي الكثير من المتابع، وضياع الوقت إلا أنني أحتسب كل ذلك عند الله..
وفي الغد ومع الركب الحزين، وكل مؤلفاً من زوج خالتي، وخالتي أم زوجة "إبراهيم الحران" وابنتها التي أصابتها اللوثة بعد وفاة طفلها، وكانت في حالة يرثى لها.. تفاقمت الحالة العقلية عندها.. ودخلت في مرحلة الكآبة العميقة.. رفضت معها الكلام، وفقدت فيها الشعور بما يدور حولها.. لا تستطيع أن تفرق بين النوم واليقظة، ولا تجيب من يحدثها.. انتقلت من دنيا الناس.. إلى دنيا من الوهم، والكآبة.. حتى انزوت. وصارت هيكلاً عظمياً.. ليس فيها من علامات الحياة.. سوى عينين كآلة زجاج.. يرسلان نظرات بلا معنى.. وقال لي الأب وهو حزين.. إنه يريد مني أن أتصل بابني وهو طبيب أمراض عصبية ونفسية، ويعمل في "دار الاستشفاء للأمراض النفسية والعصبية بالعباسية" لكي يجد لها مكاناً في الدرجة الأولى.(58/136)
كانت الأم تبكي وهي نادمة تعترف بآثامها.. وكيف أنها بإصرارها على علاج ابنتها عند المشايخ، وبالجري والطواف حول الأضرحة، وضياع الوقت جعلت المرض يستفحل، ويهدم كل قدرة لابنتها على مقاومته.. واعترفت بأنها أخطأت في حق زوج ابنتها "إبراهيم الحران" واستفزته بإصرارها على الخطأ، ولكن عذرها أنها كان ضحية لجهلها، ولعشرات السيدات اللاتي كن يؤكدن لها.. أن تجاربهن مع المشايخ، والأضرحة والدجالين.. تجارب ناجحة، والمثل يقول: "اسأل مجرباً ولا تسأل طبيباً".
واستطعنا بفضل الله أن نجد لها مكاناً، وأن نلحقها في نفس اليوم بالدرجة الأولى، وقال لي ابني: إنها في حالة مطمئنة، ولا تدعو إلى اليأس.. كل ما في الأمر.. أن الإهمال جعلها تتفاقم.. وبعد مضي أسبوع واحد من العلاج.. تحسنت السيدة، وقد عولجت بالصدمات الكهربائية.. إلى جانب وسائل علاجية أخرى يعرفها المتخصصون، وخلال ذلك اتصل بي "إبراهيم الحران" فقلت له: إنني أريده في أمر هام، ولابد أن يزورني في البيت.. وحينما جاء شرحت له الأمر.. وقلت له: إن الأطباء يرون في استرداده لزوجته جزءاً من العلاج أيضاً.. ولكن لفت نظري فيه.. أنه بعد قراءته للكتب التي حصلت له عليها من الدكتور جميل غازي في التوحيد.. إنه أصبح إنساناً جديداً.. فالعبارات التي كانت تجري على لسانه من الأقسام تارة بالمصحف وتارة بالأنبياء، وتارة ببعض المشايخ قد اختفت نهائياً.. وعاد يمارس حياته بأسلوب الرجل الذي لا يعبد غير الله، ولا يخشى إلا الله، ولا يرجو سوى الله.. وحتى بعد أن حدثته في أن يعيد زوجته.. أصر على أن يجعل هذه العودة مشروطة.. بأن تقلع أم زوجته عن معتقداتها القديمة، وكذلك والد زوجته.. أما زوجته فقال إنه كفيل بها.. وعقدت بينهم جميعاً مجلساً لم ينقصه إلا الزوجة لأنها كانت بالمستشفى.. وقبلوا شروطه بعد هذا الدرس القاسي.(58/137)
كان لزيارته لزوجته في المستشفى.. أكبر الأثر في شفائها، وزادت بهجتها حينما عرفت أنه أعادها إلى عصمته.. قال لي ابني الذي كان يشرف على علاجها.. إن عودتها إلى زوجها وزيارته لها كانت العلاج الحقيقي الذي عجل بشفائها.. لأن الفتاة وهي وحيدة أبويها.. حطمتها صدمة وفاة ابنها.. ثم قضت على البقية الباقية من عقلها صدمة طلاقها.. بعد شهر وعشرة أيام تقريباً تقرر خروجها، وكان ينتظرها زوجها ووالدها ووالدتها في سيارة على الباب رحلت بهم إلى الصعيد فوراً.
لم أستطع أن أنزع من نفسي بقايا هذه المأساة، ولم يكن من السهل أن أتغافل عن الخرافة التي تخرب أو تهدم كل يوم بل وكل لحظة عشرات النفوس والبيوت في عشيرتي، وأبناء ديني.. وعلى امتداد الوطن العربي كله.. ووجدتني أسال نفسي لماذا نحن الذين نعيش في الشرق الأوسط.. تمزقنا الخرافة، وتجثم على صدر مجتمعنا الخزعبلات.. فتمسك بنا وتعوقنا عن ممارسة الحضارة..
مع أن الغرب والمجتمع الأوروبي ليس خالياً من الخرافات، وليس خالياً من الخزعبلات، ومع ذلك فهم يعيشون في حضارة، ويمارسونها.. تدفع بهم ويدفعون بها دائماً إلى الأمام؟!
الواقع أن خزعبلاتهم، وخرافاتهم في مجموعها معادية للروح.. تدفع بهم إلى الانزلاق أكثر في الماديات، وهذا هو ما يتفق وحضارتهم.
أما هنا في الشرق.. فإن خرافاتنا معادية للعقل، وللمادة معاً.. ولهذا كانت خرافاتنا هي المسؤولة عن تدمير حياتنا.. في الحاضر والمستقبل وليس هناك من سبيل لخروجنا من هذا المأزق الاجتماعي، والحضاري سوى تنقية العقيدة مما ألصق بها، وعلق بها من الشوائب التي ليست من الدين في شيء.
فحينما يصبح "التوحيد" أسلوب حياة، وثقافة، وعقيدة.. سوف تختفي من أفقنا وإلى الأبد.. هذه الغيوم.. غيوم الخرافات، والدجل، والشعوذة، والكهانة التي لا تقوى على مواجهة الحق والحقيقة.(58/138)
وتلك مسؤولية ينبغي أن تقوم بها أجهزة التربية المباشرة، وغير المباشرة، فإن ما نعيشه الآن هو صورة أسوأ مما قرأت في هذه الاعترافات، ولو أنك اخترت مائة أسرة كعينة عشوائية، وبحثت فيها لوجدت أن كل ما رويته لك في هذه الاعترافات لا يمثل إلا أقل القليل.
ولا يبقى بعد كل هذا إلا أن أزجي الشكر لصديقي الدكتور محمد جميل غازي.. وللسيد الأستاذ جابر مدخلي الأمين العام للتوعية الإسلامية في موسم الحج، وللسيد رئيس تحرير هذه المجلة، وكل العاملين فيها على ما بذلوه من جهد في إخراج هذه الصفحات إلى حيز الوجود..
محتويات الكتاب
الموضوع الصفحة
المقدمة (الخطر الداهم على المسلمين) …
كيف ولماذا تجتذب الصوفية الجماهير …
النفسية الجماعية المريضة هي الأصل …
الجولة الأولى (الصوفية يستبدلون التوحيد بوحدة الوجود …
الوحدة ضد التوحيد …
طبقات الشعراني والشذوذ بأنواعه …
زوجات الصوفيين أرامل …
في الإسلام وحدة السمو النفسي …
الجولة الثانية (ماذا يقول ابن عربي في فتوحاته) …
تأليه إبليس في طبقات الشعراني …
احذفوا البدع تسقط الصوفية …
التلقي عن رسول الله عندهم …
الزندقة شهادة التصوف …
الشيخ القائد إلى الضلال …
الجولة الثالثة (ابن عربي يقول: إنه يتلقى علومه رأساً من الله) …
أهل الظاهر وأهل الباطن …
نظرة الصوفية في الشريعة والحقيقة …
لماذا التمسح في علي رضي الله عنه …
المعتقدات الصوفية في الديوان الباطني …
لماذا يتهجمون على الله سبحانه وتعالى …
عن أفكار الصوفية في موضوع العشق الإلهي …
توهمهم على النبي - صلى الله عليه وسلم - …
الجولة الرابعة (رابعة العدوية – الشخصية والأسطورة) …
لماذا نعبد الله …
الفرق بين الحب والعشق …
الأدب اللفظي …
جعلناكم أمة وسطاً …
الزاهدون في الحلال …
سخافات لا كرامات …
جنون أم كرامات …
معركة مع الحوت …
الذين يخلعون الولاية على الناس …
الجولة الخامسة (الشعراني صاحب الطبقات) …
العالمون بالغيب …(58/139)
النون أم الميم …
الأعداء لماذا يؤيدون التصوف …
الجولة السادسة (الشيوعية أقدم من ماركس) …
الجولة السابعة (لقاء في سلطنة عمان) …
الهجرة هي البداية …
القرآن والإنسان …
القرآن يخاطب القلوب والعقول …
القرآن والتطور …
تركنا القرآن فضعنا …
القرآن فوق الصراعات …
ترجموا معاني القرآن …
كلمة التوحيد وتوحيد الكلمة …
مطلوب دعاة على مستوى الدعوة …
الذين يفترون على الله ورسوله …
الجولة الثامنة (عقبات على الطريق) …
مطلوب تطهير القرية المصرية من تجار الخرافة …
معظم مساجد القرية خلت من الأئمة المؤهلين …
الصوفية شوهت جلال الإسلام …
الأزهر مطالب بإجراء تغيير جذري في أسلوب عمله …
علم الكلام …
ألغاز وطلاسم …
حشو وغموش وسفسطة …
لا طائفية ولا كهنوت في الإسلام …
الدعاة المتحمسون …
سيطرة البيروقراطية …
أوقفوا هذا المد الوثني الذي فتن بالأضرحة والقباب …
اتخاذ قبور الأنبياء مساجد.. بدعة وشرك بالله …
الادعاء بأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دفن في مسجده …
المذهبية مهزلة وبدعة …
المذهبية عقبة أمام الزحف الإسلامي …
المذهبية بدعة …
حقيقة الخلاف بين الشيعة وأهل السنة …
مصحف فاطمة …
المسيرة الإسلامية عقيدة وحياة وحضارة …
الجولة التاسعة (التصوف من اختراع المستعمرين) …
الحرب حرام …
الصوفية غيبوبة عقلية …
الاستعمار من عند الله …
الصوفية ركائز الاستعمار …
الصوفية وفاروق …
عل هامش الجولات (كنت قبورياً للأستاذ عبد المنعم الجداوي) …
الفهرس …
تم الكتاب ولله الحمد.(58/140)
الصُّوفِيَّةُ
والوَجْهُ الآخَر
د. محمّد جَميل غَازي
إعداد
عبد المنعم الجدَّاوي
http://www.saaid.net/
قام بنشر هذا الكتاب [شبكة الدفاع عن السنة]
الخطر الدائم على المسلمين
قال لي أحد الأطباء:
إن الجسم دولة حديثة.. عصرية.. كأحدث ما تكون الدول المعاصرة.. فحينما تدخل الجراثيم متسللة أو مقتحمة أي جسد لأي إنسان.. ماذا يحدث..؟ هناك أجهزة إنذار منتشرة في الخلايا بطول الجسم وعرضه.. هذه "الرادارات" مهمتها أن ترسل إلى أجهزة مقاومة الجراثيم والمتسللين.. معلنة عن مكان الاختراق.. ليس ذلك فحسب، وإنما لأجناس المخربين وأسلحتهم.. وتتحرك الكرات البيضاء نحو المنطقة المخترقة حاملة الأسلحة المضادة المناسبة. ولا تبدأ القتال قبل محاصرة المخربين وتطويقهم.. لتطمئن إلى عدم تسرب العدو المهاجم إلى داخل الجسد فيحدث ارتباكاً أو يتحول إلى طابور خامس.. يمزق الجبهة الداخلية التي يجب أن تظل صامدة.. ويبدأ الحصار ثم القتال، ولا تنتهي مهمة المقاومة عند قتل المخربين والقضاء عليهم.. بل لابد من طردهم من الجسد موتى أو مهزومين في شكل "تقيحات" يقذف بها الجسد خارجه!!
والدعاة في الإسلام.. هم الذين يتصدون لجراثيم الخرافة، والخزعبلات التي تقتحم جسم المسلمين بين الحين والحين، وعلى امتداد القرون.. لكن الجرثومة الكبرى التي نفثت سمومها في المسلمين ولم تفلح المقاومة في حصارها هي جراثيم التصوف، والصوفية.. فقد تفشت في أجساد المسلمين، وأرواحهم، وراحت تعيث فساداً، وهم في نشوة بها.. يترنحون ويرقصون ويتلوون على نغمات دفوفها ومزاميرها، ويحاول الدعاة أن يحاصروها أو يوقفوا عدوانها على بقية أعضاء الجسد لكن الحقيقة تقول إن الدعاة إذا ما حاصروها في عضو تسللت إلى بقية الأعضاء.. وتحصنت فيها وحشدت هي المناطق التي تصيبها لمقاومة الدعاة.. تماماً كالجراثيم التي تنتظر الدواء.. لتتربص به وتقضي عليه حتى تظل وحدها منفردة بالجسم الذي ابتلى بها!!(59/1)
والمكروبات الصوفية تمكنت من جسد المسلمين.. وزيفت عليهم الإسلام، وهي ميكروبات لا تؤثر على منطقة دون منطقة.. فأخطر ما فيها أنها تفتك أول ما تفتك بالقلب.. ثم البصر.. ثم السمع.. ثم تطرد العقل نهائياً وتبقى هي مسيطرة تصنع للقلب ما يخفق به، وللبصر ما يراه، وللسمع ما يسمعه.. في سلسلة من الأوهام لا تنتهي.. حلقات متصلة.. الأصل فيها التخلي عن العقل.. والرضوخ الكامل المصحوب بنشوة اختراق الحدود والسدود الموهومة فيرقص المريض ما شاء له الرقص.. أو يترنح ما حلا له الترنح متصلاً بالكون أو منفصلاً عنه.. ظاناً أنه أوتي ما لم يحظ به الأنبياء والرسل، واقترب وهو على الأرض من ملكوت السماء!
مخالفاً بذلك لب "أصدق الحديث" متباعداً عن "هدى السنة" مدعياً أن المسلمين وقفوا عند حدود العبارات الجامدة.. أما الصوفي فقد اجتاز هذه الحدود على أجنحة الحب أو الانفتاح الكوني الإلهي الذي خصه به الله، وقد يتمادى بعضهم ويزدهيه انبهار الناس به فيمضي في الضلال يرفض أن يصلي كما يصلي الناس.. أو يتوضأ كما يتوضأ الناس، وذلك لنه عرف ما لا يعرفه الناس، والذي لا شك فيه أنه كلما استبدت به "فيروسات" الصوفية كلما أمعن في هذه المخالفات التي لابد أن تنتهي بصاحبها إلى الضلال البعيد!!
ويحاول الدعاة في كل عصر، وفي كل مصر التصدي لهذا المد الهمجي لكن محاولاتهم الشريفة.. كثيراً ما تستشهد على عتبات هؤلاء العتاة الجبابرة الطواغيت.. فهم يسيطرون على مريديهم، وأتباعهم بأساليب رهيبة لم تصل إليها أساليب أكبر الدول الحديثة في تجنيد العملاء، والجواسيس في مخابراتها!!(59/2)
والدكتور محمد جميل غازي فيلق وحده من فيالق مقاومة الصوفية، ورائد من دعاة التوحيد.. وهو لا يقف بجهوده عند الدعوة في مسجد العزيز بالله "المركز الإسلامي لدعاة التوحيد والسنة" ولا في الجماعات الأخرى التي يرأسها أو التي تدعوه لإلقاء محاضراته.. لكنه وهذا ما يتميز به – يتخذ من هذه الدعوة، وتلك المقاومة أسلوب حياة، ونمط معايشة يعيشها لرسالة التي وهب نفسه لها!!
فهو إذا دعي إلى حديث في الإذاعة ظل يدفع الحديث في حلاوة وطلاوة ويسر وسهولة إلى أن ينشب أظافره في الصوفية، والصوفيين حتى يجردهم من زيفهم، وإذا تحدث إلى صحيفة من الصحف أراد محررها أو لم يرد أخذ الحديث صوب موضوع عمره، وهدف حياته.. محاربة البدع، والضلالات، وتحدث عن الصوفية وعن تخريبهم لعقليات المسلمين.. وهو يقول ذلك في ذكاء يحمل الصحفي على النشر، ويربط الجريدة بقرائها ويرغم المذيع أو صاحب البرنامج على مواصلة الحديث معه.. لأن المستمعين يمطرونه برسائلهم التي يطالبون فيها باستضافة ذلك المتحدث مراراً وتكراراً.
وبعضهم قد يأخذ على الدكتور محمد جميل غازي إسرافه في هذه الناحية، وتجاوزه كل حد في حماسه، وتكريسه جهده لمقاومة الصوفية والصوفيين.. كأنما الدنيا خلت من كل المشكلات إلا هذه المشكلة!!
والحقيقة أنني كمسلم أرى أن هذا الرجل هو النموذج الحي للداعية.. ذلك الذي تحولت كل قطرة دم فيه إلى رسالته التي وهب نفسه لها.. فهي ليست عنده وظيفة ينتهي الحماس لها بانتهاء ساعات العمل أو هواية يمارسها في أوقات فراغه إنها عنده فوق كل ذلك.. فهي الهواء الذي يتنفسه، وهي الحياة التي يحياها، وهي الأمل الذي يعيش من أجله، وهي نهاره وليله، وشغله الشاغل.. ومن أجل ذلك كان الدكتور محمد جميل غازي يتميز عن بقية الدعاة ويختلف عنهم.. لا أقول خيرهم.. أستغفر الله.. ولكني أقول غيرهم، وله مذاق خاص ولعباراته طعم قد لا تجده عند غيره إذا قالها غيره!(59/3)
ولهذا كله مجتمعاً ومنفرداً.. كان في استطاعة هذا الرجل اجتذاب مئات وآلاف القلوب إلى رسالة التوحيد، ونبذ الخرافات، والخزعبلات، وفي مقدمتها الصوفية، وهي ليست بالمهمة السهلة، لا سيما اجتذاب الغلاة في "القبورية"، والصوفية.. وكاتب هذه السطور كان واحداً منهم.
إن اجتذاب كافر أو صاحب دين كتابي غير الإسلام.. إلى الإسلام أيسر بكثير من تصحيح عقيدة مسلم قبوري أو صوفي.. ذلك لأن القبوري أو الصوفي يتحصن، ويعتصم بالجهل الذي يعيش فيه، وهو يظن أنه وحده الذي يخوض بحار الأنوار التي كشفت له دون سائر البشر.. أما دعوة التوحيد فهم قساة غلاظ.. لم يصلوا بعد إلى شفافية الصوفية "وهلاوسهم".
ختاماً أريد أن أقول: إنه لزاماً عليّ وَرَداً لما أسداه إلي الدكتور محمد جميل غازي من جميل.. ويكفي أنه كان سبباً مباشراً في تصحيح عقيدتي.. وحرصاً مني على أن يستفيد غيري من بقية المسلمين، وأن يعودوا إلى تصحيح عقيدتهم بالتوحيد.. ومساهمة مني في جمع جهوده المبعثرة أشتاتاً، والتي نختصم مراراً من أجلهم، وأني أشهدكم أيها القراء عليها.. أقحم نفسي عليه وأجمع هذه الأحاديث الصحفية التي أدلي بها في مناسبات مختلفة في "القاهرة" وفي دولة "عمان"، وفي "السعودية".. وكلها تدور حول الصوفية، والصوفيين.. وأحاول بجهد متواضع أرجو أن يوفقني الله فيه.. تبويبها، وإعدادها حتى تعم فائدتها، ويسهل تداولها راجياً من الله القبول والثواب.
الصحفي
عبد المنعم الجداوي
المستشار الثقافي للمركز الإسلامي
لدعاة التوحيد والسنة
القاهرة في غرة رمضان 1400ه
كيف .. ولماذا ..
تجتذب الصوفية الجماهير ؟!(59/4)
إن شغف الناس بالأساطير، وولع الجماهير بالأمور الغيبية التي يسمعون أن بعض الآدميين سيطروا عليها، وأخضعوها لرغباتهم.. هذه الأخبار تستولي على وجدانهم وتترسب في أعماق النفسية الجماعية لهم، وتكمن داخل كل فرد.. لا إيماناً فقط بالمكشوف عنهم الحجاب، ولا حباً لهم.. ذلك الحب الذي يفوق كل تعصب.. لكن لرغبات تنطوي عليها جوانحهم.. فلا يستطيعون الكشف عنها!!
تلك هي آمالهم في أنهم قد يملكون يوماً ما هذه القدرة! مادامت قد منحت لبشر مثلهم لا يزيدون عنهم باصطفاء، ولا باجتباء فهم من آباء مثل آبائهم، وأمهات مثل أمهاتهم، ويركز هذا الأمل في أعماقهم، ويدعمه أنهم يسمعون من شيوخهم.. أن ذلك ليس ببعيد أن يصيبهم.. بشرط واحد هو أن ينصاعوا، وأن يذعنوا، وأن يقدموا مزيداً من الطاعة لشيوخهم، وكثيراً من الهبات الدسمة، وأن لا يتوانوا عن ترديد هذه الخزعبلات.. فكل هؤلاء الأقطاب.. كانوا مثلهم مريدين صغاراً.. ثم تدرجوا!!
النفسية الجماعية المريضة هي الأصل !!
إن واقع النفسية الجماعية.. عند هؤلاء الذين يسقطن صرعى في أيدي المتصوفة يقرر أنهم نفوس عاجزة متهورة.. ضلت الطريق إلى السند الأول والأخير.. وهو التوحيد، والإيمان العميق بالله وحده، وبرسوله - صلى الله عليه وسلم -، وحينما التمسوا غير الله سنداً ازداد عجزهم، وسألوا غيره أمناً فازدادوا خوفاً، ولجئوا إلى سواه هرباً من القلق فازدادوا جنوناً!
هؤلاء يتحولون إلى مجانين اكتمل جنونهم بكل المقاييس.. مطحونين بين آمال دفينة في كياناتهم لا تتحقق.. ليس هذا فقط، وإنما يحذرون أن يكشفوا عنها.. فلابد أن يظهروا الزهد.. ورغبات ظنوا أنها باتت على أطراف أناملهم، فإذا بالأيام تمضي دون أن ينتهي بهم الطريق إلى شيء!(59/5)
ويزداد تعلقهم بشيوخهم.. موتاهم وأحيائهم.. يقطعون الليل في تلاوة الأوراد، ويلهثون نهاراً جرياً خلف مسيرة الأقطاب! تمزقهم اللهفة، وتسحقهم الحيرة.. يسألون هل أصبحوا من الواصلين؟ ومتى يضعون قبضتهم على أسرار الكون؟ فيحولون التراب إلى ذهب؟ ويأكلون الأطعمة اللذيذة، ويتزوجون الجميلات؟
وسياط الأمل في الوصول تطاردهم، وإغراءات المشايخ تدفعهم.. وهم يتساقطون من الداخل يوماً بعد يوم.. حسرة على أحلام بدا واضحاً أنها لن تتحقق، وأوهام أصبحوا أسرى قيودها.. تزداد حلقاتها ضغطاً كل لحظة.. وقنوط امتزج بجثة رجاء مشلول.. يموت قطعة بعد قطعة!
فيتحولون إلى المرحلة الثانية.. محاولة إدراك الآخرة مادامت الدنيا قد أفلتت منهم، وحتى هذه ليست عن إيمان خالص، ولكنها محاولة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه.. ثمناً للعمر الذي ضاع في أوهام، وضح بعد فوات الأوان أنها كاذبة.
بعضهم تتخلخل صلته بمشايخه في هذه المرحلة، ويفلت إلى كل موبقات الدنيا.. يعب منها قبل أن يفقد القدرة حتى على ارتكاب المعاصي.
وبعضهم يزداد التصاقاً بالشيوخ، والتمرغ تحت أقدام الأقطاب.. أملاً في الآخرة، فهو لا يريد أن يخسر الدارين، ويزداد جنوناً ويستغرق في أحلام اليقظة، ويقبل على التلفيق، وفي زحمة عشرات النوازع التي تنتابه يهرف أو يخرف.. فينسب لنفسه كرامات يلفقها أو يتخيلها.. صيانة لنفسه من الضياع.
تلك هي مرحلة الانسحاق الكامل لهذا الإنسان المحبط.. الذي أعطى حياته للأوهام.. فليس أماه إلا أن يغرق فيها ليستريح.. فيهيم ضالاً ومضللاً.. ينسج الخرافات، ويستمع إليها ويفلسفها ويبررها ويطرب لها.(59/6)
ذلك لأن الالتواءات النفسية التي انتابته قوضت الكثير من أركان سلامته النفسية.. فلم يعد سليماً ولا سوياً.. وإلا فكيف يقبل مثل هذه النصوص التي لا يقرها غير مجنون محترف مكانه مصحات الأمراض العقلية.. هل يمكن أن يستمع عاقل إلى أن الرفاعي التقى "بالسيد البدوي" فقال له: أريد المفتاح؟ فرد عليه بأن بين يديه مفاتيح الشام، والعراق، ومصر، والهند، والسند فليأخذ ما يريد.. لكن "الرفاعي" قال: لا آخذ المفتاح إلا من يد الفتاح.. (وهذا سجع ممجوج من سجع أيام انحطاط لغة الكتابة في العصر المملوكي) فقال له: اذهب إلى مكان كذا سوف تجد يداً هابطة من السماء تحمل المفتاح فخذه.. وذهب "الرفاعي" فوجد اليد فقبلها وأخذ المفتاح.. ثم عاد إلى "السيد البدوي" فقال له "البدوي": هل تعرف اليد التي قبلتها؟ قال: نعم.. فمد له يده فوجدها هي.
هذه القصة الساذجة المتناهية في السذاجة، وهي تهدهد الوجدان المعطوب لا يمكن أن يطرب لها سوى الإنسان المريض وجدانياً وعقلياً، ومن المستحيل أن يقتنع بها أي إنسان – إذا إذا كان مبيتاً النية – على أن ينتهي إلى هذه القدرة الخارقة يوماً ما.. حتى ولو لم يعلن عن ذلك.. وقد تمتلئ أعطافه بهذه الرغبة من وراء ظهر عقله الواعي.
ولما لم يكن من حقه أن يحسد الذي نالها أو يحقد عليه فهو يندفع عاطفياً نحوه.. يتوله في حبه، ويتفانى في الالتصاق به عساه أن يكشف له ذلك القطب يوماً ما عن الأسرار!
وهكذا تدور طاحونة الصوفية.. تطحن الشيوخ والمريدين.. يطحن بعضهم البعض، ويفسدون المسلمين السذج جيلاً بعد جيل، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً!!
الجولة الأولى
الصوفية يستبدلون التوحيد
بوحدة الوجود !!
ماذا في هذا العالم الغامض.. الصوفية ؟!
كيف يمشون على الماء ويطيرون في الهواء ؟!
هل هي بقايا مجوسية؟ وبوذية؟ ويهودية !!(59/7)
الشيخ والصحيفة.. أما الشيخ فهو الدكتور محمد جميل غازي، وأما الصحيفة فهي "تعاون الفلاحين" التي تصدرها دار التعاون للطبع والنشر بالقاهرة.
وهي الجريدة التي توشك أن تكون شبه رسمية لاشتراك أربعة آلاف جمعية تعاونية من جمعيات الفلاحين فيها وهم الذين يكونون ثلاثة أرباع الشعب المصري، وهم الأوتاد التي تجتاحها الصوفية والقبورية وتعتبرهم الطرق الصوفية المحطات التي تعمل ليل نهار.. بلا توقف وبلا انقطاع.. في تضليل الناشئين، والبالغين.. أما الكبار فقد تم منذ سنين إفساد عقائدهم وانتهى الأمر، ولا حول ولا قوة إلا بالله العظيم.
والتاريخ هو على وجه التحديد أواخر شهر يوليه من عام 1975م، وهبطت الفكرة على رأسي.. الزميلين كمال فرغلي المحرر بدار التعاون وعبد الحميد الخواجة.. لقد بدا لهما، وهما يعملان في مجلة للفلاحين.. تدافع عن مصالحهم، وتهتم بالأرض، والصحة الزراعية، والجسدية.. أن يهتما أيضاً بالصحة الدينية، وتصحيح عقيدة هذه الملايين.. من قراء الجريدة.. وبعد أن وافق مجلس التحرير على اقتراحهما بشأن عمل سلسلة من الأحاديث حول الصوفية مع "الدكتور محمد جميل غازي" حاولا الاتصال به لإغرائه على الكلام، وهو واحد من الذين يهربون من التحدث إلى الصحفيين.. هروب الإنسان من الوحش المفترس.
ذلك لأنه هو ذاته كان يوماً ما ممارساً للصحافة.. ويدرك أنه مهما كانت درجة أمانة المحرر فهو لابد وبحكم الصنعة أن يضيف أو يحذف من حديث المتحدث.. وهو يتكلم في مسائل شائكة، والحذف أو الزيادة فيها.. قد يؤدي إلى جهنم.. وأخيراً وبعد أن اقتنع بأن إحجامه سوف يحرم الملايين من الفلاحين، وأن إقدامه سوف يتيح له أن يتحدث إلى أخوة له في صميم الريف لن يتيسر له أن يلقاهم أو يلقونه إلا بشق الأنفس.. امتثل من أجل محاولة شرف الوصول إلى الناس في دورهم، وجمعياتهم، وجلساتهم الخاصة.(59/8)
ولقد أسعده أن يكتب إليه الكثيرون منهم، وزاد في سعادته أن يجيب على بعضهم في خطابات خاصة، واضطرت إدارة الصحيفة أمام سيل البرقيات، والتليفونات، والخطابات.. أن تمتد بالحوار إلى ثلاثة أعداد متوالية، وذلك قلما يحدث في أي صحيفة.. ثم اضطرت وتحت ضغوط الفلاحين والذين أبرقوا من كل مكان في أنحاء البلاد.. أن تواصل الحديث في أعداد أخرى تضمنت الردود والاستفسارات والتأييدات.. وكان ذلك بالنسبة للزميلين الصحفيين يعتبر عملاً صحفياً ناجحاً.. لا يتكرر في حياة أي صحفي.
ونحن إذ ننقل الأحاديث الثلاثة برمتها.. نتوخى الفائدة التي نرجوها من إعادة النشر، وتركيز جهود "الدكتور" المبعثرة.. أو بعضها.. وإليك التحقيقات الصحفية في الصفحات التالية.
الطرق الصوفية.. هذا العالم الغامض الذي تحيطه الأسرار وتتناقض من حوله الأحكام. ما هي رسالتها وكيف نشأت؟ ماذا يقول فيها المؤيدون والمعارضون؟.. هل هي بدعة افتريت على الإسلام لا تجد لها سنداً في كتاب الله وسنة رسوله كما يقول المعارضون؟.. أم هي الإسلام في شفافيته ونقائه كما يقول المؤيدون؟.. هل هي منهج وأسلوب في العبادة حافظ على الدعوة الإسلامية وساهم في نشرها كما يذهب المؤيدون؟ أم هي مجموعة من الأوهام والخرافات تعطي انطباعات خاطئة عن الإسلام والمسلمين وتتحمل المسؤولية التاريخية والحضارية في تخلف المنطقة الإسلامية كما يتهمها المعارضون؟.. هل هي ضرورة دينية لتقويم السلوك وإحياء الروح وهداية القلوب؟ أم هي دعوة للتواكل وتجميد ملكات الفكر والإبداع ساعدت على انحراف الشباب وهروبه من المجتمع ومن الدين ؟
ثم لماذا تتعدد هذه الطرق الصوفية بحيث بلغ عدد الطرق ذات الطابع الرسمي 66 طريقة بالإضافة إلى عشرات أخرى غير رسمية؟ وما هي أوجه الاختلاف فيما بينها وما هي نقاط الالتقاء؟(59/9)
وهؤلاء الأجلاء مشايخ الطرق الصوفية مع ما نكنه لهم من احترام.. ما حجم سلطانهم الروحي على المريدين؟ ومن أين يستمدون هذا السلطان؟ وما مدى الحقيقة فيما يقول به بعض مشايخ الصوفية من أن البركة لا تأتي إلا بواسطة شيخ ينقل البركات إلى المريدين، وأن من لا شيخ له فشيخه الشيطان؟
قضايا قديمة اختلفت حولها الاجتهادات، وتصارعت حولها الآراء، تعبر عن نفسها بالحدة تارة وباللين تارة أخرى.. يصمت الجدل حولها فترة لينبعث من جديد.
إن "التعاون" تفتح باب المناقشة في هذه القضايا وتدعو لإجراء حوار صريح مفتوح وبلا حساسيات، يشارك فيه علماء الدين، ورجال الفكر لحسم هذه القضايا وبيان مدى ما فيها من حق وصدق تدعيماً للعقيدة الإسلامية.
وحول هذه القضايا كان "للتعاون" لقاء مع فضيلة الدكتور محمد جميل غازي إمام مسجد العزيز بالله بالزيتون ورئيس جماعة التوحيد، وكان لفضيلته آراء جريئة فيما طرحناه من تساؤلات، نستأذن قبل أن نعرضها في كلمة لابد منها عن رسالة مسجد العزيز بالله.
تقوم رسالة هذا المسجد أساساً على تعميق عقيدة التوحيد وتنقيتها مما علق بها من شوائب، والحرص على إقامة الشعائر التعبدية على أساس من السنة المحمدية الشريفة.. وينهج فضيلة إمام المسجد في خطبة الجمعة ودرس ما بعد الصلاة منهجاً فريداً يرتكز على تفسير وشرح آيات القرآن الكريم بالتتابع والتسلسل طبقاً لترتيب المصحف الشريف، ويتخذ منها منطلقاً لدعوته إلى التفهم الصحيح للإسلام، وترسيخ عقيدة التوحيد.. وهو منهج يلقى – للحق والأمانة – استجابة واسعة لدى جمهور المصلين، ومعظمهم من الشباب المثقف الذي يتزاحم داخل المسجد وخارجه، حاملاً معه أجهزة التسجيل.
كما يخصص المسجد درس الثلاثاء من كل أسبوع لشرح الأحاديث والسنة النبوية، وبيان ما بها من معان وأحكام.(59/10)
كما ينظم المسجد مؤتمراً إسلامياً يشارك فيه الكثير من العلماء، ورجال الفكر الديني لمناقشة قضايا الإسلام وإبراز الحضارة الإسلامية.
ولندع الآن الحديث عن رسالة المسجد التي يلخصها فضيلة الدكتور محمد جميل غازي في عبارة واحدة يرددها دائماً وهي "أن يسلم المسلمون".. ولنستمع إليه يتحدث عن قضايا الصوفية.
يقول: إن الصوفية شيء والإسلام شيء آخر! ولا يقول باجتماعهما إلا من يقول باجتماع الظلمة والنور، والأسود والأبيض، والحق والباطل، والهدى والضلال!!
ثم يتساءل: هل وردت كلمة "صوفية" في كتاب الله؟ أو هل جاءت على لسان الرسول عليه الصلاة والسلام، رغم أنه صلوات الله عليه وسلامه لم يترك كبيرة أو صغيرة من أمر ديننا أو دنيانا إلا وتعرض لها؟! هل عرفها الصحابة رضوان الله عليهم؟ ولماذا نرفض تسمية الله، وهو تعالى يقول: { هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ } [الحج: 78] الآية، ولماذا نسلك منهجاً لم يرد في كتاب الله ولا في سنة رسوله، والله جل شأنه يأمرنا بقوله تعالى: { وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا } [الحشر: 7].
الوحدة ضد التوحيد:
ونستوقف فضيلته لنسأل: وهي خرج الصوفية عن الالتزام بما جاء به الرسول عليه الصلاة والسلام؟ أليس العكس هو الصحيح؟
إن الصوفية فيما نرى، ويرى معنا الكثيرون دعوة للتفاني في محبة الرسول الكريم والاقتداء به.. صحيح أن لهم بعض الشعائر الخاصة، ولكنهم يمارسونها تحقيقاً للسعادة، وابتغاء السمو بالروح ولمزيد من التقرب إلى الله جل في علاه.(59/11)
ويجيب فضيلته في حدة: ليست هناك أرستقراطية في الإسلام، وليست هناك خصوصيات في دين الله.. وإذا كان الصوفية يقتدون حقاً برسول الله، فلماذا يدخلون على الإسلام ما ليس فيه، والرسول العظيم يقول: ”تركتكم على المحجة البيضاء ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك“ وأمامنا قول الإمام مالك رحمه الله: (من ابتدع في الإسلام بدعة يراها حسنة فقد زعم أن محمداً - صلى الله عليه وسلم - خان الرسالة، لأن الله جل شأنه يقول: { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا } [المائدة: 3]).
ويستطرد د. جميل غازي قائلاً: إن الصوفية لم يكتفوا بالخروج على سنة رسول الله صلوات الله وسلامه عليه، بل إن عقائدهم تتصادم أساساً مع جوهر الإسلام.. فالصوفية يقولون بوحدة الوجود، ويرون أن الوجود حقيقة واحدة لا فرق في نظرهم بين الحق والخلق، وهو قول مضاد للإسلام وعقائده.
ولعل فضيلته قد لمح في نظرتنا غير قليل من الشك والدهشة.. فيقوم إلى مكتبته الحافلة ويعود منها بمجموعة مجلدات ويقول: هذه مجموعة من كتب أئمة الصوفية وشيوخها، تعالوا بنا لنتعرف على ما احتوته من أفكار حتى لا يقال أنني أشوه الحقائق، أو أحرف الكلم عن مواضعه، وتعالوا نقرأ ما يقوله (ابن عربي) شيخ الصوفية الأكبر في كتاب "الفتوحات المكية).. هاهو يعبر عن اعتقاده بوحدة الوجود بقوله: "سبحان من خلق الأشياء وهو عينها".
وأضاف قائلاً: ولما كان الله في نظر (ابن عربي) هو المخلوقات والمخلوقات هي الله فحينئذ تكون العبادة عنده متبادلة.. ويعبر عن ذلك بقوله:
" فيحمدني وأحمده .... ... ويعبدني وأعبده " ...
ثم يذهب شيخ الصوفية الأكبر بعد هذا إلى القول بوحدة الأديان، لا فرق لديه بين سماويها، وغير سماويها فيقول في ذلك:
وقد كنت قبل اليوم أنكر صاحبي ... إذا لم يكن ديني إلى دينه داني(59/12)
فأصبح قلبي قابلاً كل حالة ... فمرعى لغزلان ودير لرهبان
وبيت لأوثان وكعبة طائف ... وألواح توراة ومصحف قرآن
ويعلق فضيلته على ذلك بقوله: هكذا حارب شيخ الصوفية الأكبر عقيدة التوحيد الإسلامية بنظرية الوحدة التي قال بها واعتنقها وفتن معه بها أناس كثيرون.
ثم يواصل فضيلته عرض نماذج أخرى من أفكار أئمة الصوفية فيقول: إن "الجيلي" وهو من كبار مشايخ الصوفية – يعلن في صراحة أو وقاحة – أنه إله الكون الأعظم فيقول في كتاب "الإنسان الكامل 1/22":
لي الملك في الدارين لم أر فيهما ... سواي فأرجو فضله أو فأخشاه
وقد حزت أنواع الكمال، وأنني ... جمال جلال الكل، ما أنا إلا هو
إلى أن يقول:
وإني رب للأنام وسيد ... جميع الورى اسم، وذاتي مسماه
أما "الحلاج" – وهو إمام من أئمة الصوفية – فإنه يقول في كتاب (الطواسين/34) :
أنا من أهوى ومن أهوى أنا ... نحن روحان حللنا بدنا
فإذا أبصرتني أبصرته ... وإذا أبصرته أبصرتنا
طبقات الشعراني والشذوذ بأنواعه !!
ثم هذا هو "النابلسي" يقول معقباً على قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ} [الفتح: 10]: أخبر تعالى أن نبيه محمداً - صلى الله عليه وسلم - هو الله تعالى وتقدس، وبيعته هي بيعة الله، ويده التي مدت للبيعة هي يد الله.. كما يقول في تفسير قول الله تعالى لموسى { } [طه: 13] بأن تكون أنت أنا وأكون أنا أنت !!
وقبل أن يمضي الدكتور جميل غازي في عرض نماذج أخرى لأفكار الصوفية ومعتقداتهم في وحدة الوجود نستوقفه لنسأل: ما لنا ولهذا الهراء الذي مضى وانقضى ؟ ولماذا نضيفه على حساب الصوفية ونبني عليه اتهامنا لهم بالتناقض مع الإسلام ؟
فيجيب: لأن الصوفية ما زالوا يتعبدون بهذا الكلام في مساجدنا ومازالت هذه الأفكار هي التي تسود حلقاتهم وأذكارهم، ويستشهد بأحد الأوراد الذي ينشده دائماً المنتسبون إلى الشاذلية والذي يعبر عن وحدة الوجود.(59/13)
"اللهم انشلني من أوحال التوحيد، وأغرقني في عين بحر الوحدة حتى لا أرى ولا أجد ولا أحس إلا بها".
ثم يضيف فضيلته بصوت تمتزج فيه السخرية بالمرارة بأن ما كتبه هؤلاء المشايخ بما فيه من خبل وهوس مازال حتى يومنا هذا هو الدستور السائد بين الصوفية الذي تستند إليه معتقداتهم، ويصوغ مناهجهم في العبادة، ويضرب على ذلك مثلاً بكتاب الطبقات الكبرى للشعراني.. ويقول: إنه كتاب متداول بين الصوفية يأخذون منه ثقافتهم ومعرفتهم بالله فماذا يحتويه هذا الكتاب ؟ دجل وخرافة ومجون وجنون.. وماذا عرض الشعراني في كتابه هذا عن أولياء الصوفية وكراماتهم؟.. لا شيء سوى الخرافة والشذوذ الجنسي والقذارة ثم يدعونا إلى جولة في هذا الكتاب لنرى الشعراني يصف أحد أوليائه فيقول:
وكان رضي الله عنه يلبس الشاش المخطط كعمامة النصارى وكان دكانه منتناً قذراً لأن كل كلب وجده ميتاً أو خروفاً يأتي به فيضعه داخل الدكان، فكان لا يستطيع أحد أن يجلس عنده.
ثم يعقب فضيلته: بأن الشعراني لا يكتفي بهذا من كرامات سيده الشيخ فيضيف: إنه توجه إلى المسجد فوجد في الطريق مسقاة كلاب فتطهر فيها، ثم وقع في مشخة حمير.
ثم يواصل قراءة ما جاء بكتاب الطبقات عما يقوله الشعراني عن "أبي خوزة".. وكان رضي الله عنه إذا رأى امرأة أو أمرداً (شاب بلا لحية) راوده عن نفسه وحسس على مقعدته سواء كان ابن أمير أو ابن وزير ولو كان بحضرة والده أو غيره ولا يلتفت إلى الناس.
ويقرأ عما يتحدث به الشعراني عن سيده (علي وحيش) فيقول: "وكان إذا رأى شيخ بلد أو غيره ينزله من على الحمارة ويقول له أمسك رأسها حتى أفعل فيها فإن أبى شيخ البلد تسمر في الأرض لا يستطيع أن يمشي خطوة".(59/14)
ويعقب فضيلته على ذلك بقوله.. هذه بعض كرامات الصوفية المخففة التي تسمح الآداب العامة بذكرها دون أن نتعرض لنماذج أخرى فاضحة امتلأ بها كتاب الطبقات الكبرى للشعراني، وهو كتاب أطالب بإعدامه لما اشتمل عليه من خزي وتشويه للعقيدة.
زوجات الصوفيين أرامل !!
وكان لابد لنا من لحظة صمت لنسترد فيها أنفاسنا اللاهثة ونجمع فيها شتات أفكارنا التي تبعثرت أمم هذا السيل من الخرافة والخبل لكي نعود فنسأل: إذا ما تجاوزنا عن هذه الخرافات والأفكار المشبوهة التي جاءت يقيناً نتيجة لدسائس التيارات والفلسفات المعادية للإسلام، ألم تؤد الصوفية دورها – كما يرى الكثيرون – في خدمة الإسلام وحمايته في مواجهة الفكر الوثني المادي.
ويجيب فضيلته متسائلاً: كيف يمكن للصوفية أن تخدم الإسلام وهي تتعارض معه أساساً، ثم كيف لها أن تحميه وهي دعوة صريحة للتواكل والانعزالية بينما الإسلام دعوة للعمل والجهاد؟.. ثم يضيف أن الله جل شأنه قد استخلفنا في الأرض لنعمرها بإذنه ومشيئته والقرآن العظيم حافل بالآيات الكريمة التي تدعو للجهاد والتعمير بالحق والعدل والخير، والرسول الكريم صلوات الله عليه يدعونا للجهاد ويقود رايته، ويأمرنا بالعمل ويسبقنا إليه، ويقول صلوات الله وسلامه عليه في حديث شريف:
”إن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة (النخلة الصغيرة) فإن استطاع أن لا تقوم حتى يغرسها فليغرسها“.
ويضيف.. هذا ما يأمر به الإسلام ويدعو إليه، فبماذا تدعو الصوفية!؟ وماذا تطلب من المريد ليكون من الأولياء؟ لنقرأ مما يقوله الشعراني في كتابه (الطبقات) :
"لا يبلغ الرجل إلى منازل الصديقين حتى يترك زوجته كأنها أرملة، وأولاده كأنهم أيتام، ويأوي إلى منازل الكلاب".(59/15)
ثم يعقب فضيلته متسائلاً: أليست هذه دعوة خطيرة لا تخدم إلا أعداء الإسلام؟ ألا نجد في هذه الدعوة تفسيراً واضحاً لما لاقته الصوفية من ترحيب وتشجيع من جميع الأنظمة الاستعمارية التي تعاقبت على المنطقة الإسلامية ؟
ثم ما الذي يتحقق إذا حصل المريد على واحدة من منازل الصديقين التي أطلق عليها الشعراني منازل الكلاب.. يقول الصوفية: تطوى له الآفاق ويصبح البعيد قريباً، أو بعبارة أخرى يصبح من أهل الخطوة أولئك الذين يطيرون في الهواء ويمشون على الماء..
ويعلق فضيلة الدكتور غازي بقوله: هذا هو أفك الصوفية.. إن العالم حولنا قد قطع أشواطاً بعيدة المدى في طريق التقدم العلمي والحضاري، وحقق انتصارات مذهلة.. وهذه هي آثار أقدامه فوق القمر وفي أعماق المحيط وفي كل مكان في أرض الله.. ونحن.. أين نحن ؟ تائهون غارقون نقنع بأن نقبع في زوايا ضريح، نردد التوسلات، وندعو أصحاب القبور لحل مشاكلنا، ونجتر ذكرياتهم في المشي على الماء أو الطيران في الهواء.. ويضيف: إن أي صوفي تلقاه مهما علا مركزه، وعلت درجته العلمية تجده إنساناً يعادي العقل والنقل والعلم والحضارة، ويردد شعار "مجانين ولكن على أعتابنا سجد العقل".
ثم يتساءل فضيلته: أليس في هذا كله تخريب لملكات التفكير التي فضل الله بها الإنسان على كثير من مخلوقاته؟ ثم ألا يعد ذلك مسؤولاً عن تأخر الأمة الإسلامية وإفساد عقول شبابها.
في الإسلام وحده السمو النفسي !(59/16)
وهنا نقاطعه.. فقد كان لنا تحفظ هام.. أن الصوفية في رأينا لا تعادي العقل أو العلم بل إن كثيراً من أئمتها يحملون أرقى المؤهلات العلمية، وهذا وحده دليل على إيمانهم بالعلم ومعاناتهم في سبيله.. إنما هم فقط يؤمنون بأن العلوم التحصيلية أمور نسبية متغيرة، بينما الحقائق المطلقة تتجاوز طاقة العقل البشري، ولا تتاح إلا لمن صفت نفسه، وأشرقت روحه، وتلقى مدداً إلهياً يعبرون عنه بأنه نور يقذفه الله في القلب، وهو أمر لا ينكره المؤمنون الذين يوقنون بالغيب.
ومن ناحية أخرى قد يكون هناك ما يبرر وجهة النظر التي تتهم الصوفية بالتواكل والسلبية، فمما لا شك فيه أن الصوفية قد علقت بها كثير من السلبيات والشوائب سواء عن جهل أو عن سوء قصد.
ومما لا شك فيه أيضاً أن بعض الفرق قد تجاوزت الحق والصواب في ممارستها للتجربة الصوفية.. ولكن يبقى السؤال الهام: إن التصوف في جوهره دعوة لإحياء الروح، ومنهج لمجاهدة النفس والسمو بها.. أفلا يعتبر ذلك عاملاً إيجابياً يستحق التزكية والإنماء.
وكان للدكتور غازي رأي آخر:
يقول: "إن إحياء الروح، ومجاهدة النفس، والارتقاء بها، هي أمور من صميم ما يستهدف الإسلام ويدعو إليه، كما أن التخلق بأخلاق القرآن الكريم وسنة الرسول هو الطريق الوحيد لتحقيق ذلك، فكيف نلتمسه عند الصوفية وهم يتجاوزون أصلاً ما جاء بكتاب الله وسنة رسوله، ويؤمنون بعقائد تتصادم مع ما يدعو إليه الإسلام".
ومضت أكثر من ثلاث ساعات والحوار يستمر وتتصاعد درجة حرارته والأستاذ غازي يمضي في إطلاق قذائفه الثقيلة على أفكار الصوفية ومعتقداتها.. ولكن يلح علينا سؤال هام: إذا كانت الصوفية كما يتهمها فضيلته تتناقض مع الإسلام وتتجاوز عن السنة الشريفة.. فكيف يمكن تفسير ما نسمعه وما يؤمن به الكثيرون من كرامات أولياء الصوفية وشفافيتهم؟(59/17)
ويجيب: أية كرامات، وأية شفافية.. إن ما يتحدثون به من كرامات ما هي إلا أوهام يخدعون بها البسطاء لكي تمتلئ صناديق النذور بأموال الضعفاء المخدوعين، ويضيف: تعالوا بنا نستعرض كراماتهم المزعومة كما يتحدثون عنها بأنفسهم ويفتح كتاب "الطبقات الكبرى" يقرأ لنا ما يرويه الشعراني بلسان أحد أوليائه: "أشهدني الله ما في العلا وأنا ابن ست سنين، ونظرت في اللوح المحفوظ وأنا ابن ثمان سنين، وفككت طلسم السماء وأنا ابن تسع سنين، ورأيت في السبع المثاني حرفاً معجماً حار فيه الجن والإنس ففهمته وحمدت الله تعالى على معرفته، وحركت ما سكن، وسكنت ما تحرك بإذن الله تعالى: وأنا ابن أربع عشرة سنة".
ثم يقرأ ما يقوله الشعراني عن الشويمي: "ومرض سيده مدين (رضي الله عنه) مرة أشرف فيها على الموت فوهبه من عمره عشر سنين ثم مات في غيبة الشويمي فجاء وهو على المغسل، فقال: كيف مت؟ وعزة ربي لو كنت حاضرك ما خليتك تموت، ثم شرب ماء غسله كله".
وفي كتاب "الكواكب الدرية" يقرأ لنا الدكتور جميل غازي ما يؤكده (المناوي) من أن للصوفيين أنواعاً من الكرامات:
النوع الأول منها: إحياء الموتى وهو أعلاها، فمن ذلك أن (عبيد اليسرى) غزا ومعه دابة فماتت فسأل الله أن يحييها فقامت تنفض أذنيها. وأن (مفرجا الدماميني) أحضر له فراخ مشوية فقال: طيري بإذن الله تعالى فطارت. ووضع (الكيلاني) يده على عظم دجاجة أكلها، وقال لها: قومي بإذن الله فقامت، ومات لتلميذ (أبي يوسف الدهماني) ولد فجزع عليه فقال له الشيخ: قم بإذن الله فقام وعاش طويلاً، وسقط من سطح (الفارقي) طفل فمات فدعا الله فأحياه".(59/18)
ثم ينتقل الدكتور غازي إلى كتاب الأبريز ويقرأ: "وأهل الديوان إذا اجتمعوا فيه اتفقوا على ما يكون من ذلك الوقت إلى مثله من الغد، فهم يتكلمون في قضاء الله تعالى في اليوم المستقبل والليلة التي تليه، ولهم التصرف في العوالم كلها السفلية والعلوية، وحتى في الحجب السبعين فهم الذين يتصرفون فيه وفي أهله وفي خواطرهم وما تهجس به ضمائرهم فلا يهجس في خاطر واحد منهم شيء إلا بإذن أهل التصرف" ويعقب فضيلته على ذلك متسائلاً: "أليس هذا هو قمة الشرك بالله جل وعلا؟".
ويعقب د. جميل غازي على ما تراه لنا من كرامات فيقول: أليست هذه خرافات وضلالاً واستخفافاً بالعقول.. بل وافتراء على الله جل شأنه ؟!
ثم يضيف: إن الصوفية يعتبرون أولياءهم أعلى درجة من الأنبياء، ويتجرءون أشنع الجرأة على رسل الله.. فيقول "البسطامي" في "الكواكب الدرية": "أخذتم علمكم ميتاً عن ميت وأخذنا علمنا عن الحي الذي لا يموت" ويقول في جواهر المعاني: "خضنا بحراً وقف الأنبياء بساحله".
وعند هذا الحد كان لابد للحوار من أن ينتهي رغم أن د. جميل غازي يقول: مازال هناك الكثير مما ينبغي أن يقال للتعرف على أهل التصوف.
ذكرهم.. موالدهم.. نذورهم.. قبورهم.. عباداتهم.. شيوخهم.. مريديهم..
وتبقى لنا كلمة.. إن البعض قد يغضبه، ما جاء في هذا الحوار من آراء.. وقد يكتفي بأن يصدر ضدنا ما يتراءى له من الأحكام.. ولكننا نرى أن الحوار الجاد المثمر هو وحده القادر على إجلاء الحقيقة وتوضيح الصورة.. إن في بلدنا مؤسسات دينية كثيرة تحتشد بقمم شامخة من أصحاب الفكر الإسلامي.. وأولئك جميعاً مطالبون بأن يقولوا رأيهم بصراحة ووضوح في هذه القضايا.
إن (التعاون) تفسح صفحاتها لكل صاحب فكر، وتدعوه لكي يسهم برأيه ويعطي ما عنده من أجل التفهم الصحيح للإسلام، وترسيخ عقيدة التوحيد حماية لشبابنا من المزالق والانحرافات.
الجولة الثانية
ماذا يقول ابن عربي في فتوحاته(59/19)
إذا كانت الخرافة مدسوسة عليهم فلماذا يبقون عليها ؟!
ليس في الكتاب ولا في السنة شيء اسمه التصوف !!
متى قال الرسول.. إن للقرآن ظاهراً.. وباطناً ؟!
هناك أكثر من سبب يدعونا إلى أن نلتقي مرة أخرى بالرجل الذي شن هجوماً عنيفاً على التصوف والصوفية.. كان منه على سبيل المثال ذلك السيل المنهمر من رسائل القراء الذين تجاوبوا معه فيما ذهب إليه من اتهام للصوفية بالتناقض مع الإسلام، وطالبوا بأن تفسح له الجريدة صفحاتها لكي يعطي ما عنده، ويجيب على ما أرسلوه من أسئلة واستفسارات.. ثم كان هناك سبب يتمثل في سؤال هام: ترى ماذا يكون رأيه في التصوف بعد الحوار الذي أجريناه مع الدكتور "أبو الوفا التفتازاني" أستاذ التصوف الإسلامي بجامعة القاهرة، والذي أوضحت فيه كثيراً من اللبس الذي اكتنف قضايا الصوفية واستنكر فيه كثيراً من الشوائب التي تخرج عن آداب التصوف الصحيح.
تأليه "إبليس" في طبقات الشعراني:
وعلى غير موعد كان هذا اللقاء مع الأستاذ محمد جميل غازي إمام مسجد العزيز بالله في مكتبته الحافلة بالمؤلفات العديدة في الفقه والحديث والتفسير واللغة، والأدب، والتاريخ.
قلنا له في محاولة للاعتذار عن هذه الزيارة المفاجئة: ربما اخترنا موعداً غير مناسب ولكن قد يكون ما جئنا من أجله يستحق أن تضحي معه بالقراءة.(59/20)
فيجيب مبتسماً: لم أن أقرأ بالمعنى المفهوم، ولكني كنت أسلي نفسي باستعراض بعض كرامات الصوفية وهي في الواقع مجموعة من الطرائف والأساطير تستحق أن أعرض عليكم بعضاً منها.. اسمعوا معي ماذا يقول الشعراني في كتابه (الطبقات الكبرى) وهو يتحدث عن سيده محمد الخضري ثم يقرأ: "أخبرني الشيخ أبو الفضل السرسي أنه جاءهم يوم الجمعة فسألوه الخطبة، فطلع المنبر فحمد الله وأثنى عليه ومجده ثم قال: "وأشهد أن لا إله لكم إلا إبليس عليه الصلاة والسلام" فقال الناس: كفر!! فسل السيف ونزل فهرب الناس كلهم من الجامع فجلس على المنبر إلى أذان العصر، وما تجرأ أحد أن يدخل الجامع ثم جاء بعض أهالي البلاد المجاورة، فأخبر أهل كل بلدة أنه خطب عندهم وصلى بهم، فعددنا له ذلك اليوم ثلاثين خطبة، هذا ونحن نراه جالساً عندنا في البلدة"!!
وقبل أن يمضي الأستاذ جميل غازي في عرض نماذج أخرى من هذه الشعوذة نستوقفه لنقول: ليكن ما قرأته علينا هو منطلقنا لبداية حوارنا معك اليوم.. إن بعض أقطاب الصوفية يعتبرون أن أمثال هذه الخرافات أمور مدسوسة على التصوف، وأن القول بما قد شاع في عصور التدهور الفكري والحضاري، ولقد سبق أن أوضح الدكتور "التفتازاني" أن العشراني نفسه قد ذكر أن خصومه دسوا عليه آراء لم يقل بها للنيل من مكانته.. لذلك فقد لا يكون من العدل اتهام التصوف ومحاولة إدانته من خلال كتابات يتبرأ منها مشايخ الصوفية أنفسهم.(59/21)
ويجيب سيادته قائلاً: إن ادعاء الدس ليس جديداً على الصوفية، فهم دائماً يلجئون إلى هذه الحجة لإغلاق باب المناقشة حول أي موضوع يرون أن الحق قد جانبهم فيه، ومن ناحية أخرى.. إذا كانت هذه الخرافات التي حفل بها كتاب الطبقات الكبرى للشعراني قد دست عليه كما يقولون، فلماذا نراها في جميع طبعات هذا الكتاب القديم منها والحديث؟ ولماذا يترك مشايخ الصوفية هذا الكتاب في متناول أيدي أتباعهم يستقون منه معرفتهم بالدين؟ ألم يكن من المنطق – إن صح ادعائهم – أن يبادروا إلى جميع هذه الكتب ومنع تداولها أو على الأقل إعادة تحقيقها بحيث تستبعد منها هذه الأمور المدسوسة؟ ولكن الحاصل هو عكس ذلك تماماً، إنهم يحيطون الشعراني وطبقاته بحصانة وقداسة لا حد لها، بل إنهم يقيمون منزلة الصوفي بقدر إيمانه بما جاء بهذا الكتاب.(59/22)
ثم يستطرد د. جميل غازي متسائلاً: ثم لماذا هذا الادعاء بالدس على كتاب (الطبقات) وهناك عشرات من كتب الصوفية تمتلئ بمثل ما امتلأ به كتاب الطبقات من خرافات وخبل وضلال؟.. خذ مثلاً كتاب (الإنسان الكامل) وفيه يشرح "أبو يزيد البسطامي" من أئمة الصوفية كيفية حلول الله فيه فيقول: "دفع بي مرة حتى قمت بين يديه فقال لي: يا أبا يزيد إن خلقي يحبون أن يروك، قلت: يا عزيزي وأنا أحب أن يروني. فقال: يا أبا يزيد إني أريد أن أريكهم. فقلت: يا عزيزي إن كانوا يحبون أن يروني وأنت تريد ذلك وأنا لا أقدر على مخالفتك، فزيني بوحدانيتك وألبسني ربانيتك، وارفعني إلى أحديتك حتى إذا رآني خلقك قالوا رأيناك فيكون أنت ذاك ولا أكون أنا هناك. ففعل بي ذلك".. ثم اسمعوا ماذا يقول الحلاج وهو يشرح لنا عقيدة الحلول: "من هذب نفسه في الطاعة لا يزال يصفو ويرتقي في درجات المصفاة حتى يصفو عن البشرية فإذا لم يبق فيه من البشرية حظ حل فيه روح الإله الذي حل في عيسى ابن مريم وكان جميع فعله فعل الله تعالى"، وفي كتاب (النفحات القدسية) يقول محمد بهاء الدين البيطار أحد مشايخ الصوفية:
وما الكلب والخنزير إلا إلهنا ... وما الله إلا راهب في كنيسة
ثم يعقب د. جميل غازي متسائلاً: هل هذه الآراء والمعتقدات في الحلول والاتحاد ووحدة الوجود التي امتلأت بها كتب مشايخ الصوفية هي أيضاً أمور مدسوسة عليها !!
احذفوا البدع تسقط الصوفية !!(59/23)
قلنا.. دعنا من مناقشة هذه العقائد التي نتفق معك في أنها تتصادم بالفعل مع عقيدة التوحيد الإسلامية فإن أقطاب الصوفية المعاصرين يرون أن من قال بهذه الأفكار هم قلة من أصحاب التصوف الفلسفي من أمثال البسطامي والحلاج وابن عربي، ويقولون أنه تصوف يكتنفه كثير من الغموض ويحتمل تأويلات شتى.. إنما الذي يعنينا الآن هو التصوف السني الذي يدعو إليه الصوفية المحققون، والذين يؤكدون أن مقياسه الصحيح هو الكتاب والسنة، ومادام الأمر كذلك فلماذا يرفض التصوف بل ويتهم بأنه بدعة تتناقض مع الإسلام؟
ويجيب د. جميل غازي بنبرة حادة: اسمع..أليس هناك ما يسمى "تصوفاً سنياً".. إنني أحذر بشدة من هذه المحاولة للتضليل والخداع والبحث عن مسميات يحاول بها الصوفية إضفاء الشرعية على مذهب يتناقض في أساسه مع الكتاب والسنة.. إن هذه المحاولة من جانبهم لربط التصوف بالسنة تذكرني بتلك المحاولة الفاشلة التي يلجأ إليها الشيوعيون في الوقت الحالي للإيهام بأن الشيوعية تتمشى مع مبادئ الإسلام.
ويضيف متسائلاً: ثم هذه العبارة (تصوف سني) ألا تحتوي على مغالطة فاضحة؟. إن كلمة (تصوف) لم ينطق بها الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ولم يقلها، ولم يدع إليها فكيف يزعم زاعم أنها (سنة!!) ثم يذهب بعد ذلك إلى القول بأن هناك تصوفاً سنياً؟ ومن جهة أخرى فإن هذه العبارة توحي – بمفهوم المخالفة – أن هناك تصوفاً بدعياً.. فما هو هذا التصوف البدعي حتى نميزه عن التصوف الذي يريدون منه أن يكون سنياً؟ إنني أدعوهم أن يقدموا لنا كشفاً دقيقاً بأنواع البدع التي يريدون حذفها من التصوف ثم يقولوا لنا ماذا يتبقى منه!! ثم يبتسم د. جميل غازي ساخراً ويقول: إنهم لو فعلوا ذلك فسيكون على رأس قائمة البدع اسم التصوف نفسه، لأنه بدعة لم ينطق بها الرسول - صلى الله عليه وسلم -.(59/24)
قلنا: ولكننا نرى أن مجرد عدم استعمال الرسول - صلى الله عليه وسلم - لكلمة تصوف لا ينبغي أن يكون مبرراً لتجرد التصوف من شرعيته.. فإن هناك أيضاً كثيراً من العلوم الإسلامية لم تكن معروف أيام الرسول - صلى الله عليه وسلم -، من بينها على سبيل المثال علوم الفقه والحديث والكلام والتفسير، ومع ذلك فهي علوم معترف بها وتؤدي دورها في خدمة الدعوة الإسلامية.. وبالنسبة للتصوف فلا مجال في رأينا للاعتراض عليه كعلم إسلامي ومنهج يستهدف دراسة الأخلاق وتقويم السلوك وتربية النفوس، طالما كان يستند إلى الكتاب والسنة وهذا ما يقصدونه بتعبير التصوف السني!
ويجيب فضيلته قائلاً: أحب أولاً أن أعترض على اعتبار التصوف علماً إسلامياً، فالتصوف في حقيقته مزيج من أفكار ومعتقدات مجوسية وبوذية ومسيحية ويهودية ويونانية.. وهذه حقيقة يعترف بها المستشرقون الذين درسوا هذا النوع من التصوف المسمى بالتصوف الإسلامي.. فهذا هو "فون كريمر" يقول في كتابه (تاريخ الأفكار البارزة في الإسلام): "إن في التصوف عنصرين مختلفين أولهما مسيحي رهباني، والثاني هندي بوذي" ويذهب المستشرق "ثولك" إلى أن التصوف مأخوذ من أصل مجوسي، كما أن مؤسسي فرق الصوفية الأوائل كانوا من نفس ذلك الأصل المجوسي، وكذلك يقول المستشرق الهولندي "دوزي" في كتابه (تاريخ الإسلام): "إن التصوف جاء إلى الصوفية من فارس حيث كان موجوداً قبل البعثة المحمدية" أما المستشرق "جولدزيهر" فقد فرق بين تيارين مختلفين في التصوف أولهما الزهد وهذا في نظره قريب من روح الإسلام وإن كان متأثراً إلى حد كبير بالرهبانية المسيحية، والثاني التصوف بمعناه الدقيق وما يتصل به من كلام في المعرفة والأحوال والأذواق وهو متأثر من ناحية بالأفلاطونية الحديثة، ومن ناحية أخرى بالبوذية الهندية.
التلقي عن رسول الله عندهم..!(59/25)
قلنا.. ربما كانت آراء هؤلاء المستشرقين جاءت نتيجة ما يوجد من تشابه بين التصوف الإسلامي وغيره من أنواع التصوف الأجنبية، ولكن ذلك لا يعني بالضرورة أن التصوف الإسلامي قد صدر عن هذه الفلسفات الأجنبية أو أخذ عنها.. فالتصوف كما هو معروف يتعلق بالشعور والوجدان، وطالما أن النفس الإنسانية واحدة على الرغم من اختلاف الشعوب والأجناس، فإن التجربة الصوفية يمكن أن تكون واحدة في جوهرها، كما يمكن أن يمثل التصوف خطاً مشتركاً بين الديانات والفلسفات المختلفة.. وعلى أي حال مهما كان من أمر مصدر التصوف الإسلامي وأصله فإن الذي يعنينا بحثه الآن هو ما يقول به الصوفية من أن التصوف الإسلامي يستند إلى الكتاب والسنة ويتقيد بهما.. فإلى أي حد ترون فضيلتكم صدق هذه النظرة؟
ويجيب د. جميل غازي قائلاً: مرة أخرى أعود فأذكركم بما يحاوله الشيوعيون الآن للزعم بأن الشيوعية تتمشى مع مبادئ الإسلام.. فهل هي حقاً كذلك؟ الجواب معروف فهي ضد الإسلام شكلاً وموضوعاً.. إذن لماذا يلجأ الشيوعيون إلى هذه المحاولة؟ إنهم ببساطة يهدفون إلى تضليل المسلمين وخداعهم، وتغطية عقائدهم الفاسدة التي ينفر منها المسلمون.. كذلك هو الحال بالنسبة للصوفية فهم أول من يعلم أن مذهبهم يتناقض مع الإسلام ولكنهم يحاولون التمسح بالكتاب والسنة من باب التضليل والخداع أيضاً.. ولو أن التصوف كما يزعمون يستند إلى الكتاب والسنة لكان هو الإسلام، ولما كان هناك ما يدعو إلى ذلك الجدل والانقسام الذي استمر أكثر من عشرة قرون.
قلنا.. إن القضية في رأينا تستحق مناقشة أكثر موضوعية وتحتاج إجابة أكثر تحديداً.. كيف ترون أن التصوف لا يستند إلى كتاب الله أو سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟(59/26)
ويجيب فضيلته بقوله: لأن علم الصوفية يعتمد أصلاً على الادعاء بالكشف بدلاً من الدليل الشرعي الذي يستند إلى الكتاب والسنة.. وعن طريق هذا الادعاء بالكشف فإنهم يشككون في مصادر الشرع بل وينكرون بعض أحاديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - الثابتة في دواوين السنة، ويؤولون البعض الآخر وفقاً لأهوائهم، وحجتهم في ذلك غاية في الافتراء على الله ورسوله.. إنهم يدعون أنهم يرون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جهاراً، ويتلقون منه ما يعينهم على تأويل الأحاديث أو التمييز بين الصحيح منها والضعيف واسمعوا ماذا يقول ابن عربي شيخ الصوفية الأكبر في كتاب الفتوحات المكية.. "ورب حديث يكون صحيحاً عن طريق رواته حصل لهذا الكاشف الذي عاين هذا المظهر فسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن هذا الحديث فأنكره وقال له: لم أقله ولا حكمت به فيعلم ضعفه فيترك العمل به على بينة من ربه، وإن كان قد عمل به أهل النقل لصحة طريقه وهو في نفس الأمر ليس كذلك".. بل إن ابن عربي هذا يذهب في افترائه على الله ورسوله إلى أبعد من ذلك فينسب كلامه إلى أنه وحي من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيقول في أول كتابه (فصوص الحكم): "أما بعد فإني رأيت رسول الله في مبشرة (رؤيا صادقة) وبيده كتاب فقال لي: هذا كتاب فصوص الحكم خذه واخرج به إلى ناس ينتفعون به، فقلت: السمع والطاعة لله ولرسوله وأولي الأمر منا كما أمرنا، فحققت الأمنية، وأخلصت النية إلى إبراز هذا الكتاب كما حدده لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من غير زيادة ولا نقصان.. فمن الله فاسمعوا وإلى الله فارجعوا...".
ثم يعقب د. جميل غازي على ذلك بقوله: هذا باب فتحه الصوفية للتشكيك في العلوم الإسلامية جميعها ولإتاحة الفرصة لكي يضع الصوفية ما يشاءون وينسبونه إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - بحجة الكشف !(59/27)
ويستطرد قائلاً: إن هذا الادعاء بالكشف دفع هؤلاء الصوفية إلى أن يقسموا الدين إلى شريعة وحقيقة، وإلى ظاهر وباطن، فأما أهل الظاهر عندهم فهم أهل الشريعة ومن بينهم علماء المذاهب الأربعة وفقهاء الشرع وعلماء الحديث وهؤلاء يعتبرهم الصوفية طبقة العوام من الناس. لماذا؟ لأنهم يؤمنون بالنصوص الشرعية دون اللجوء إلى التأويل. أما أهل الباطن أو أهل الحقيقة والطريقة فيعتبرهم الصوفية الخاصة من الناس الذين يعتمدون على تأويل النصوص الشرعية عن طريق ما يسمونه بالكشف والخواطر والأحلام.. وعن طريق هذا الكشف يزعمون أنهم يستطيعون تأويل الأحاديث والتمييز بين الصحيح منها والضعيف دون ما حاجة إلى الرجوع إلى دواوين السنة ورواتها.
قلنا.. ربما كان هذا الاتهام الموجه للصوفية بالفصل بين الحقيقة والشريعة يجافي الحقيقة، فإن بعض أقطاب الصوفية لا يفرقون بينهما بل ويؤكدون أنه لا تصوف إلا مع العلم بالعقائد والأحكام.
الزندقة شهادة التصوف:
ويجيب د. جميل غازي مقاطعاً: هذا كلام يقولونه بأفواههم فقط هروباً من اتهام صادق موجه ضدهم بالتناقض مع الإسلام.. ولكن يتضح لنا فساد زعمهم تعالوا بنا نستعرض ماذا يقول مشايخ الصوفية الكبار.. هذا هو الجنيد رئيس الطائفة الصوفية يقول: "لا يبلغ الرجل عندنا مبلغ الرجال حتى يشهد فيه ألف صديق من علماء الرسوم (الشريعة) بأنه زنديق، لأن أحوالهم وراء النقل والعقل" ويقول أيضاً: "أحب للمبتدئ ألا يشغل قبله بهذه الثلاث وإلا تغير حاله: التكسب وطلب الحديث (حديث رسول الله) والتزوج وأحب للصوفي ألا يقرأ ولا يكتب لأنه أجمع لهمه" وهذا هو أبو يزيد البسطامي من أئمة التصوف يسخر من علماء الشريعة ويتعالى عليهم فيقول: "أخذتم علمكم ميتاً عن ميت وأخذنا علمنا عن الحي الذي لا يموت" وهو يقصد بهذا أن علماء الشريعة يأخذون علمهم عن الرسل بينما الصوفية باعتبارهم أهل الحقيقة يتجاوزون هذا المستوى ويتلقون عن الله مباشرة.(59/28)
ويضيف فضيلته قائلاً: إن الصوفية يؤمنون بأن كل آية وكل كلمة بل وكل حرف في القرآن الكريم يخفي وراءه معنى باطناً لا يكشفه الله إلا للخاصة من عباده، وهم أهل الحقيقة الذين تشرق هذه المعاني في قلوبهم في أوقات وجدهم.. وذهبوا بعد ذلك إلى تأويل آيات القرآن الكريم عن طريق ما يدعونه بالكشف، فجاءوا بالخرافات والكفر والضلال الذي حشوا به كتبهم واعتمدوا في ذلك على حديث افتعلوه لخدمة غرضهم يرويه ابن عربي في الفتوحات المكية فيقول: "قال الرسول - صلى الله عليه وسلم - ما من آية في القرآن إلا ولها ظاهر وباطن وحد ومطلع ولكل مرتبة من هذه المراتب رجال ولكل طائفة قطب وعلى ذلك القطب يدور فلك ذلك الكشف" وعلى الرغم من أن هذا الحديث المزعوم لا وجود له في دواوين السنة فإن ابن عربي يقول عنه: "وقد أجمع أصحابنا أهل الكشف على صحته".
ويستطرد د. جميل غازي قائلاً: ربما لا يتسع المجال هنا لعرض نماذج من تأويلاتهم الغريبة لآيات القرآن الكريم والتي سمحوا لأنفسهم بها تحت ادعاء الكشف والأحلام ذلك الأمر الذي لم يدعه أحد حتى من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فهذا هو أبو بكر الصديق وهو سيد أولياء الله من هذه الأمة بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول حينما سئل عن معنى آية في القرآن الكريم: (أي أرض تقلني وأي سماء تظلني إذا قلت في القرآن برأيي).(59/29)
ثم يعقب بقوله:.. هذا هو حال الصوفية أو أهل الحقيقة والباطن باسم الكشف وعلم الباطن يعطن لأنفسهم الحق في الحكم على أحاديث الرسول وتأويلها وتمييز الصحيح منها والضعيف.. وباسم الكشف يعطون لأنفسهم الحق في تأويل آيات الله وفقاً لأهوائهم.. وباسم الكشف يريدون من أناس أن يقبلوا كلامهم دون بحث أو مناقشة، وكيف ذلك وهم أهل الحقيقة والباطن الذين يقول أحدهم: "رأيت رسول الله وحدثني" أو يقول الآخر: "حدثني قلبي عن ربي" ثم بعد ذلك يفرضون على الناس إرهاباً فكرياً ويقولون: "أحسن الظن ولا تنتقد، بل أعتقد" أو يقولون: "من اعترض انطرد".
قلنا.. مازال الاتهام الموجه للتصوف بالخروج على الكتاب والسنة في حاجة إلى مراجعة.. فإن الصوفية يؤكدون التزامهم الكامل بما جاء بكتاب الله وسنة رسوله ويستدلون على ذلك بأن جميع مقاماتهم كالتوبة والصبر والخوف وغيرها تستند جميعها إلى شواهد من القرآن الكريم وأحاديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأفعاله.
ويجيب د. جميل غازي قائلاً: إن هذا الادعاء من جانب الصوفية يمثل مغالطة تثير الدهشة والعجب.. فإن هذه المعاني والقيم التي يسمونها مقامات الصوفية ما هي إلا أخلاقيات الإسلام التي ينبغي أن تتوافر في المسلمين كافة.. فكيف يجعلها الصوفية وقفاً عليهم وحدهم؟.. ومن جهة أخرى إذا صح ادعاؤهم بأنهم يحرصون فعلاً على ممارسة هذه الأخلاقيات فلماذا يستبعدون اسمها الطبيعي وهو الإسلام ثم يفتعلون لها اسماً مبتدعاً وهو الصوفية.
قلنا.. ننتقل الآن إلى الطرق الصوفية.. يقولون إنها مداس تستهدف التربية الإسلامية وتقويم السلوك.
ويجيب فضيلته قائلاً: بل هي مدارس لتخريج عناصر بلهاء تائهة غارقة في الأوهام والخرافات بعد أن ضلت طريقها إلى الله، واستغنت عنه بعبادة الأدعياء وأصحاب القبور..(59/30)
ثم يضيف متسائلاً: كيف يمكن للطرق الصوفية أن تكون مجالاً للتربية الإسلامية وهي دعوة إلى الفقر والجهل والاستسلام بينما الإسلام دعوة للعلم والعمل والجهاد؟ ثم ما هي وسيلتهم للتربية الإسلامية؟ وما هي الشعائر التييمارسونها؟ حاول أن تقترب من حلقات ذكرهم.. هل تجهم يتدارسون القرآن أو أحاديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - ؟ لن تجد أثراً لذلك.. ولن تجد من بينهم من يحفظ القرآن أو يهتم بأحاديث الرسول - صلى الله عليه وسلم -.. فلقد انصرفوا تماماً عن كتاب الله واكتفوا بترديد الأذكار والأوراد الغامضة التي يرتلونها دون وعي وبأصوات صاخبة تتم معظم الأحيان على دقات الطبول والدفوف.. فهل هذا أسلوب في العبادة يقره الإسلام أو يوصي به الرسول - صلى الله عليه وسلم - ؟ بل أنهم فوق ذلك قد أغفلوا عقيدة التوحيد واستغنوا عن الاستعانة بالله إلى طلب المدد والعون من الأولياء وأصحاب القبور، وانشغلوا بإقامة الموالد التي أصبحت مجالاً لكل مظاهر الفسق والفجور ومرتعاً للنصابين والأدعياء والدجالين وكل من يبتغي المكسب الحرام.
ويستطرد فضيلته قائلاً: وكيف يمكن للصوفية أن تكون منهجاً لتقويم السلوك وهي التي أضعفت معنويات أتباعها، وخربت نفسياتهم وأصبح الإنسان المسلم الذي يدعوه دينه إلى أن يفكر ويتأمل أصبح على يد الصوفية عنصراً سلبياً لا إرادة له ولا حياة يسلم زمام نفسه كاملاً لشيخه بحيث يقول عنه الشاذلي: "على المريد أن يعتصم بالشيخ ويتمسك به تمسك الأعمى على شاطئ البحر بقائده بحيث يفوض أمره إليه بالكلية فلا ينازعه في الأمر ولا يخالفه".
الشيخ القائد إلى الضلال:
بمناسبة الكلام عن الشيخ.. ما هي الحقيقة فيما يقول به الصوفية من أن البركة لا تأتي إلا بواسطة شيخ ينقل البركات إلى المريدين وأن من لا شيخ له فشيخه الشيطان ؟(59/31)
يقول الصوفية أن الشيخ واسطة بين الله والمريدين، وأنه أمين الإلهام كما أن جبريل عليه السلام كان أميناً للوحي، ويقول السهروردي كما جاء في كتاب (عوارف المعارف): "كلام الشيخ بالحق من الحق، فالشيخ للمريدين أمين الإلهام كما أن جبريل أمين الوحي فكما لا يخون جبريل في الوحي لا يخون الشيخ في الإلهام، وكما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا ينطق عن الهوى فالشيخ لا يتكلم عن الهوى".
ثم يعقب سيادته على ذلك بقوله: إن مشايخ الصوفية يرددون هذا الإفك ليقنعوا الناس بالالتجاء إليهم والتسليم لهم تسليماً كاملاً.. ويضيف أنه من خلال ذلك الافتراء والزور وفي غياب التوجيه الديني والتربية الإسلامية السليمة نجح مشايخ الصوفية في تحقيق سيطرتهم على الأتباع والمريدين الذين التزموا بمجموعة من القواعد يعرفها كل من شاء له سوء حظه أن يقع في براثن هذه الطرق.. منها على سبيل المثال: أن يكون المريد مستسلماً منقاداً راضياً بتصرفات الشيخ يخدمه بالمال والدين.. ومنها: ألا يعترض عليه فيما يفعله ولو كان ظاهره حراماً ولا يسأله لما فعلت ذلك لأن من قال لشيخه لم؟ لا يفلح أبداً.. ومنها: أن يسلب اختيار نفسه باختيار شيخه في جميع الأمور كلية كانت أو جزئية عبادة كانت أم عادة.. وعن هذا المعنى يعبر أحد شعراء الصوفية فيقول:
كن عنده كالميت عند مغسل ... يقلبه ما شاء وهو مطاوع
وسلم له فيما تراه ولم يكن ... على غير مشروع فثم مخادع
بل إن ذا النون المصري أحد مشايخ الصوفية يذهب إلى أبعد من ذلك فيقول: "طاعة المريد لشيخه فوق طاعته لربه".(59/32)
وتمضي فترة من الصمت يقطعها الدكتور جميل غازي قائلاً: لعل فيما أوضحناه ما يكفي للتدليل على أن الصوفية جناية على الدين والدنيا، وربما يتأكد من ذلك بشكل أكثر وضوحاً لو تعرفنا على أفكارهم في "الحقيقة المحمدية" والديوان الباطني، والعلم اللدني، وصناديق النذور. وحول هذه المعتقدات لسيادته وقفة طويلة وآراء جريئة نلتقي بها في الجولة القادمة.
الجولة الثالثة
ابن عربي يقول: إنه يتلقى علومه رأساً من الله ..!
كيف تفشت وهي حركة مشبوهة ولماذا اختارت أتباعها من العامة ؟!
مبالغتهم في تصوير "النبي" منحرفة وأصولها بعيدة عن الإسلام ؟
قلدوا النصارى وغالوا في "الحقيقة المحمدية" حتى ضلوا..!
يواصل الدكتور محمد جميل غازي إمام مسجد العزيز بالله بالزيتون.. ورئيس جمعية التوحيد حملته العنيفة على التصوف والصوفية، حيث انتهى بنا في الأسبوع الماضي إلى أن التصوف علم يستمد معتقداته وأفكاره من أصول وفلسفات غير إسلامية.. أنكر ما يقول به أقطاب الصوفية عن التصوف السني، وأوضح أنه بدعة لم يقل بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا يوجد لها سند في أقواله أو أعماله.. وختم تصريحاته بأن التصوف جناية على الدين والدنيا.
ونحن اليوم على موعد معه ليحدثنا عن عقائد الصوفية وأفكارهم.. عن معتقدات الصوفية في العلم اللدني، وحياة الخضر عليه السلام.. يقول فضيلته.
أهل الظاهر، وأهل الباطن:
إن للصوفية في الخضر عليه السلام اعتقاداً شاذاً وغريباً.. فهم يقولون أنه ولي لا نبي.. كما يزعمون أنه مازال حياً يرزق!! وعلى هذه العقيدة الفاسدة أقاموا مزاعمهم التي تؤكد أن الولي أعلم من النبي.
لماذا؟.. لأن موسى عليه السلام ذهب إلى الخضر ليتعلم منه، وأنه قد تعلم منه فعلاً أموراً قد فصلتها سورة الكهف.. ويشرح أحد شعراء الصوفية – وكل الصوفية شعراء – هذه العقيدة فيقول:
مقام النبوة في برزخ ... فويق الرسول ودون الولي(59/33)
بمعنى أن مقام النبوة أكبر درجة من مقام الرسول وفي نفس الوقت فهي أقل درجة من مقام الولي.
ويضيف فضيلته: إن هذه العقيدة الزائفة هي التي جرأت أبا يزيد البسطامي وهو أحد كبار مشايخ الصوفية – فقال كلمته المشهورة: "لقد خضنا بحراً وقف الأنبياء بساحله.." بل هي التي دفعت الصوفية إلى القول بالعلم اللدني الذي يتنزل عليهم، وعلى شيوخهم من لدن الله مباشرة.. وبلا واسطة؟
ويستطرد قائلاً: وقبل أن نتكلم عن هذا العلم اللدني، نود أولاً في وقفة قصيرة نرد بها على تلك الأوهام التي يقول بها الصوفية عن حقيقة الخضر عليه السلام.. إنهم يعتبرونه ولياً لا نبياً.. وهو زعم باطل بصريح القرآن الكريم، حيث يقول تعالى، وهو يتحدث عن الخضر عليه السلام: { وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا } [الكهف: 65] وفي تفسير هذه الآية يقول ابن كثير: أن فيها دلالة على نبوة الخضر.. ويقول تعالى: { آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِندِنَا } [الكهف: 65].. وقد قال: "مقاتل" وهو أحد مفسري السلف – في شرح هذا النص – أنها النبوة.. كما يقول عز وجل: { وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي } [الكهف: 82].
ويفسر الطبري هذه الآية بقوله: "وما فعلت يا موسى جميع ما فعلته عن رأيي ومن تلقاء نفسي، وإنما فعلته عن أمر الله إياي به" ثم إن هذه النصوص تفيد أن الله تعالى أطلع الخضر على شيء من الغيب... وما كان تعالى ليطلع على هذا الغيب إلا الرسل... وفي هذا يقول جل شأنه { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاءُ } [آل عمران: 179]... كما يقول تعالى: { عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا، إِلا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ } [الجن: 26، 27].(59/34)
ثم يعقب د. جميل غازي على دعوى الصوفية بأن الخضر عليه السلام مازال حياً بقوله: سئل الإمام البخاري عنه وعن إلياس عليهما السلام هل هما حيان؟ فأجاب: كيف هذا وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل وفاته بقليل: ”لا يبقى على رأس المائة سنة ممن هو اليوم على ظهر الأرض أحد“.
كما سئل عن ذلك بعض أئمة السلف فقرأ قوله تعالى: { وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ } [الأنبياء: 34].. ويقول الإمام ابن تيمية: "لو كان الخضر حياً لوجب عليه أن يأتي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ويجاهد بين يديه، ويتعلم منه".
كما يقول الشيخ على محفوظ في كتابه "الإبداع في مضار الابتداع" لو صح بقاء بشر من لدن آدم إلى قرب خراب الدنيا لحسن ذكر هذا الأمر العظيم في القرآن الكريم مرة على الأقل.
ويستطرد فضيلته قائلاً: أما ما يزعمه الصوفية عن العلم اللدني، وإمكان الاستغناء به عن الوحي، فهذا زعم فيه ما فيه من الكفر والزندقة.
وعن نظرة الصوفية في الشريعة والحقيقة:
يقول الدكتور جميل غازي: لقد ادعى الصوفية استناداً إلى أوهامهم في حقيقة الخضر عليه السلام بأن للشريعة ظاهراً وباطناً، وأن باطنها يخالف ظاهرها، وأن موسى عليه السلام كان من أهل الظاهر، وأن الخضر من أهل الباطن، ثم ذهبوا بعد ذلك إلى القول بأنه ليس من حق أهل الظاهر أن يعترضوا على أهل الباطن تماماً كما حدث بالنسبة لموسى إذ لم يكن من حقه أن يعترض على الخضر، وفي ذلك يقول المستشرق نيكلسون – على لسان الصوفية – أن أهل الحق الذين تولى الله بواطنهم لا يحكم عليهم بظواهرهم فإن علمهم الغيب قد يحملهم على فعل ما يخالف ظاهر الشرع أو الأدب لما ورد في قصة موسى والخضر.
لماذا التمسح في "علي" رضي الله عنه ؟(59/35)
ويضيف فضيلته متسائلاً: ولكن ما هي الحقيقة في نظر الصوفية؟ يقول عنها "ابن عجيبة" وهو من كبار مشايخ الصوفية: أما واضع هذا العلم – يعني التصوف – فهو النبي - صلى الله عليه وسلم -! علمه الله بالوحي والإلهام، فنزل جبريل عليه السلام أولاً بالشريعة فلما تقررت نزل ثانياً بالحقيقة، فخص بها بعضاً دون بعض، وأول من تكلم فيه وأظهره سيدنا علي كرم الله وجهه، وأخذه عنه الحسين البصري!!
ويعقب على ذلك بقوله: إن تقسيم الإسلام إلى شريعة وحقيقة إنما هي نظرة مشبوهة المراد منها القضاء على الإسلام وتدمير بنيانه.. ويضيف: إن الصوفية لم يكتفوا بهذا التقسيم العجيب والمريب الذي ابتدعوه بل دفعهم إيمانهم بهذا الوهم والضلال إلى السخرية من علماء الشريعة جميعاً، والاستعلاء عليهم قائلين: "أخذتم علمكم ميتاً عن ميت وأخذنا علمنا عن الحي الذي لا يموت".
كما يقول ابن عربي شيخ الصوفية الأكبر: علماء الرسوم (علماء الشريعة) يأخذون خلفاً عن سلف إلى يوم القيامة، فيبعد النسب.. أما الأولياء فيأخذون عن الله.
وعن المعتقدات الصوفية في الديوان الباطني:
يقول د. جميل غازي: استنتج الصوفية من قصة الخضر أسطورة الديوان الباطني الذي يحكم فيه القطب الأكبر – أي الخضر – بما يشاء!.. ويصرف هو ومن معه من أقطاب صغار أقدار الوجود وأمر الكون! والديوان – عند الصوفية – محكمة عليا لا معقب على حكمها.. يقول عنها الدباغ أحد مشايخ الصوفية في كتاب (الأبريز) الديوان يكون بغار حراء فيجلس الغوث خارج الغار ومكة خلف كتفه الأيمن، والمدينة أمام ركبته اليسرى وأربعة أقطاب عن يمينه وهم مالكيه – على مذهب مالك – وثلاثة أقطاب عن يساره واحد من كل مذهب من المذاهب الثلاثة، والوكيل أمامه ويسمى قاضي الديوان، ومع الوكيل يتكلم الغوث والتصرف للأقطاب السبعة على أمر الغوث، وكل واحد من الأقطاب السبعة تحته عدد مخصوص يتصرفون تحته، ولغة أهل الديوان السريانية.(59/36)
ويعقب فضيلته متسائلاً: ألا يعتبر القول بهذه الخرافات قمة الشرك بالله الواحد الأحد؟.. ويضيف: إن الصوفية يذهبون في إيمانهم بالولاية والأولياء مذهباً جاوز كل حدود العقل والنقل معاً.. إن الأولياء عندهم يعلمون الغيوب، ولهم حق القبض والبسط، والخفض والرفع، والإحياء، والإماتة، وحق التصرف في العباد.
ويكفي أن نستعرض بعض أقوالهم لنتبين مدى ما فيها من كفر وانحراف وشعوذة ودجل.
يقول أبو يزيد البسطامي: وددت أن قد قامت القيامة حتى أنصب خيمتي على جهنم.. فسأله رجل: ولم ذاك يا أبا يزيد؟ فقال: إني أعلم أن جهنم إذا رأتني تخمد وأكون رحمة للخلق.
والولي عند الجيلي: يسمع نطق الجمادات، والنباتات، والحيوانات، وكلام الملائكة، واختلاف اللغات، وكان البعيد عنه كالقريب.. ثم يقول عن نفسه: وفي هذا التجلي سمعت علم الرحمانية.
ويستطرد فضيلته قائلاً: ثم ماذا يقول الدراويش عن السيد البدوي؟ يقولون: إنه سيد الأولياء، وأن الله أعطاه حق القبض والبسط، وحق التصرف في العباد، وأجمع الدراويش على تقبيل أعتابه، والتمرغ في ترابه قائلين: من قبل الأعتاب ما خاب.. بل وصل بهم الضلال والكفر إلى حد الافتراء على الله جل شأنه.
ويعقب الدكتور جميل غازي قائلاً: على هذا النحو كان إيمان الصوفية بالولاية والأولياء.. وبينما ولاية الله سبحانه كما تقول به آيات القرآن الكريم: عبادة، وقيادة، وحب، وفداء، ونضال، وطهارة، وسمو، وأمانة، وخلق كريم، فهي عند الصوفية كفر، وفسوق، وعصيان، واحتراف، وانحراف، وشعوذة، وفوضى،.. ومن هنا اتهمناهم – وما زلنا نتهمهم – بأنهم أعداء العقل والعلم والحضارة والدين.
ولن يعفى شيوخهم المعاصرين – على جلالة قدرهم – أن يتنصلوا من هذا الاتهام قائلين هذا مدسوس على شيوخنا الأقدمين! فإن مراجع التصوف القديم والمعاصرة اتفقت – على غير حياء – في عرض هذا الرجس الخبيث على أنه دين، وتقوى، وولاية، وقربى إلى الله!(59/37)
لماذا يتهجمون على الله سبحانه وتعالى ؟
أما عن ولع الصوفية بالاحتفاء بقبور الأولياء واهتمامهم بصناديق النذور.. فيقول فضيلته: شغل الصوفية أنفسهم، وشغلوا الناس بقبور الموتى التي أقاموها وشيدوها، وبنوا فوقها المقاصير، والقباب ووضعوا إلى جوارها صناديق النذور التي تبتلع عرق الأجير والفقير والمريض والمحتاج، وفرخوا حولها الكرامات، وأطلقوا الخرافات بحيث أصبحت هذه القبور أعياداً جاهلية، يدعى فيها غير الله ويطلب المدد والعون من سواه!.. والكلمات التي لقنها الصوفية للناس يقولونها ويدعون بها، كلمات مشهورة، منها على سبيل المثال:
فرج بفضلك ما أروم فإنني ... قد ضقت ذرعاً يا أبا فراج
ومنها: العارف لا يعرف.. والشكوى لأهل البصيرة عيب..
وهكذا كبرت الخرافة في نفوس الجماهير، وأصبحت تشكل عقيدة دينية لا تقبل المناقشة.
وهكذا سادت "الأمية الدينية" التي هي في تصوري أخطر الأميات التي تعاني منها المنطقة الإسلامية.
وهكذا امتلأت صناديق النذور الجاثمة حول القبور، بأوراق النقد، وعقود التمليك، ورسائل برقيات تأتي من كل مكان تحمل شكاوى ونجاوى إلى أصحاب القبور، وتطلب منهم قضاء الحاجات وتفريج الكربات.
عن أفكار الصوفية في موضوع العشق الإلهي:
يقول فضيلته: في القرآن الكريم والحديث النبوي نصوص صريحة الدلالة تعلن محبة الله سبحانه وتعالى لعباده المؤمنين، ومحبتهم له كقوله تعالى: { وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّهِ } [البقرة: 165] وكذلك قوله جل شأنه: { فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ } [المائدة: 54].. وقد بين القرآن الكريم أن مظهر حب الله هو اتباع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.. يقول تعالى: { قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ } [آل عمران: 31].(59/38)
ثم يضيف فضيلته متسائلاً: ولكن ما هو رأي الصوفية في "الحب" أو على حد تعبيرهم "العشق"؟.. ثم يجيب بقوله: إن ابن عربي شيخ الصوفية يرى أن المحبوب على الحقيقة في كل ما يحب إنما هو ( الحق ) الذي يتجلى فيما لا يتناهى من صور الجمال، سواء أكانت حسية أم معنوية أم روحية، وهو إذا تغنى بحب ليلى، وسعدى، وهند وغيرهن فإنما يرمز بالاسم إلى حقيقة المسمى، وبالصورة إلى صاحب الصورة، ولا يعنيه الرمز قدر ما يعنيه المرموز إليه.
وقد كتب ابن عربي ديواناً بأكمله هو "ترجمان الأشواق" يتغزل فيه بابنة الشيخ "مكين الدين بن شجاع" وتدعى "النظام"، ويصف محاسن تلك الفتاة الجميلة.. ولما سئل عن هذا العشق الفاضح قال: إنما أقصد الذات الإلهية!!
ويستطرد د. جميل غازي قائلاً: استمعوا إلى الشاعر الصوفي جلال الدين الرومي يعبر في ديوانه عن حبه الإلهي بتعبيرات وثنية وشركية رهيبة فيقول: "نفسي أيها النور المشرق لا تنأ عني.. لا تنأ عني.. حبي أيها المشهد المتألق لا تنأ عني.. انظر إلى العمامة أحكمتها فوق رأسي.. بل انظر إلى زنار زرادشت حول خصري.. أحمل الزنار.. وأحمد المخلاة.. لا بل أحمد النور.. فلا تنأ عني.. مسلم أنا ولكني نصراني وبراهمي وزرادشتي.. توكلت عليك أيها الحق الأعلى فلا تنأ عني.. لا تنأ عني.. ليس لي سوى معبد واحد.. مسجد أو كنيسة.. أو بيت أصنام.. ووجهك الكريم فيه غاية نعمتي فلا تنأى عني.. فلا تنأ عني...".
ويضيف فضيلته قائلاً: ولم يكتف كثير من الصوفية بادعاء الحب الإلهي على طريقتهم الوثنية – بل راحوا يرددون عبارة (العشق الإلهي) مع أن عبارة العشق عند أهل اللغة كما يقول "ابن الجوزي" لا تكون إلا لما ينكح، وأيضاً فإن صفات الله عز وجل منقولة فهو – سبحانه – يحب، ولا يقال يعشق. كما يقال يعلم ولا يقال يعرف.
ثم يعقب فضيلته بقوله: ولكن ماذا نقول والصوفية أصروا من أول يوم على مخالفة العقل والنقل واللغة أيضاً!!(59/39)
توهمهم على النبي - صلى الله عليه وسلم - :
وعن أفكار الصوفية عن "الحقيقة المحمدية" قال: للصوفية أوهام غريبة تدور حول شخصية الرسول - صلى الله عليه وسلم - وبرأه الله مما يقولون ومما يتوهمون..
يقول ابن عربي شيخ الصوفية كما جاء في كتاب الفتوحات: "بدأ الخلق الهباء، وأول موجود فيه الحقيقة المحمدية الرحمانية الموصوفة بالاستواء على العرش الرحماني وهو العرش الإلهي، ولا أين يحصرها لعدم التميز (بمعنى ليس له مكان) وممن وجد؟.. وجد من الحقيقة المعلومة التي لا تتصف بالوجود ولا بالعدم، وفيما وجد ؟ في الباء، وعلى أي مثال وجد؟ على المثال القائم بنفس الحق المعبر عنه بالعلم به، ولما وجد؟ لإظهار الحقائق الإلهية".
أما (الجيلي) فإنه يعتبر الحقيقة المحمدية أصلاً للكون والملائكة والبشرية فيقول: "إن العقل الأول المنسوب إلى محمد - صلى الله عليه وسلم - خلق الله جبريل عليه السلام منه في الأزل، فكان محمد - صلى الله عليه وسلم - أبا لجبريل وأصلاً لجميع العالم"!
ثم يقول: "لما خلق الله سبحانه وتعالى العالم جميعه من نور محمد - صلى الله عليه وسلم -، كان المحل المخلوق منه إسرافيل قلب محمد - صلى الله عليه وسلم -".
ويستطرد د. جميل غازي قائلاً: إن الدكتور زكي مبارك يعلق على معتقدات الصوفية في الحقيقة المحمدية بقوله: "وعلى ذلك تكون نظرية الحقيقة المحمدية عند غلاة الصوفية مأخوذة من أصول نصرانية...".
كما يقول المستشرق نيكلسن: "إذا بحثنا في شخصية محمد - صلى الله عليه وسلم - في ضوء ما ورد عنه في القرآن من آيات، وما أثر عنه من الحديث في الصدر الأول لوجدنا الفرق شاسعاً بين الصورة التي صور بها في ذلك العهد، وبين الصورة التي صور بها الصوفية أولياءهم".
ويقول جولد زيهر: "إن صورة النبي - صلى الله عليه وسلم - كما صورتها السنة قد أصابها التعديل والتحوير".
ويعقب الأستاذ جميل غازي على أفكار الصوفية في الحقيقة المحمدية بقوله:(59/40)
إن هذا ولا شك متناقض مع صريح القرآن وصحيح السنة.. فإن الله تعالى يقول: { وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ } [آل عمران: 144].
كما يقول جل شأنه: { قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ } [الكهف: 110] ويصف الله جل في علاه نبيه بصفة العبودية فيقول: { سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ } [الإسراء: 1] وقد قال أبو بكر رضي الله عنه – عقب وفاة الرسول - صلى الله عليه وسلم - -: "من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت".
الجولة الرابعة
رابعة العدوية
الشخصية والأسطورة
غضب الله لإطلاق لفظ الأنثى على ملائكته !
ابن عربي يتغزل في بنت الشيخ مكيز..!
الزهد لا يكون في الحلال، وإنما في الحرام!
مجلة التوعية الإسلامية لموسم الحج.. لما لها من مكانة عند الدكتور محمد جميل غازي.. نأمل أن يتحدث على صفحاتها.. إلى "ضيوف الرحمن" على بعض الشخصيات التي تدعى الصوفية أنهم من كبار قادتها.. ولتكن البداية "برابعة العدوية" ولعل هذا الاختيار قام على اتساع شهرتها بين المتصوفة، وما ذاع وشاع حولها من أساطير.. وقد امتلأت كتبهم بآلاف الصفحات التي كتبت عنها.. وبعضهم يصفها بأنها خير نساء الأرض.. مع مجافاة ذلك للواقع.. فهلا تفضلتم مشكورين.. بتسليط الأضواء على هذه الشخصية الغريبة؟(59/41)
رابعة العدوية واحدة من المتصوفين الذين اتخذوا لهم منهجاً في العقيدة، ومنهجاً في العبادة، أما منهجهم في العقيدة فهو مجموعة أفكار غريبة عن الإسلام مأخوذة من الديانات القديمة كالهندوكية، والزرادشتية، والفارسية، والإغريقية، والمسيحية، وغيرها من الأديان الأخرى ومجموعة هذه الأفكار أدت بهم إلى عقيدة معينة توهموها واعتنقوها فقالوا بالحلو، وقالوا بوحدة الوجود، وقالوا بالإشراق أو ما شاكل ذلك، ولن نناقش ما يعتقدونه الآن. فنحن نركز على أربعة بالذات وما قالته، وما نسبه إليها، وما نسج حول شخصيتها من خرافات وأوهام.
لماذا نعبد الله ؟
والصوفية كما نعلم اسم يوناني قديم مأخوذ من الحكمة "صوفيا" وليس كما يقولون أنه مأخوذ من الصوف لأنه كان لباس المسيح عليه السلام، فلقد رد عليهم "ابن تيمية" في رسالته عن "الصوفية والفقراء" فقال: نحن أولى بهدي محمد - صلى الله عليه وسلم - من هدي عيسى بن مريم ولقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يلبس الصوف يلبس القطن ويلبس الكتان، هذا إذا سلمنا جدلاً أن عيسى عليه السلام كان ينفرد بلبس الصوف، أو كان لا يلبس شيئاً غير الصوف.. "ورابعة العدوية" كما قلت هي واحدة من هذه المدرسة.
وحينما تقول إنها لا تعبد الله خوفاً من ناره، ولا طمعاً في جنته تخالف نص القرآن الكريم، وإن كانت هي بهذا تنتمي إلى مدرستها تماماً.. فالمدرسة الصوفية هي التي تعتبر أن الذين يعبدون الله من أجل جنة أو خوفاً من نار إنما يتعاملون مع الله، أو يعبدون الله، عبادة التجار كما أطلقوا عليها.(59/42)
مع أن هذه العبادة التي يسمونها عبادة التجار هي عبادة رسل الله عليهم صلوات الله وسلامه كما قال الله عنهم في سورة الأنبياء بعد أن عدد أسماءهم نبياً نبياً، ورسولاً رسولاً: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا} [الأنبياء: 90] فالله يقول عن أنبيائه: إنهم كانوا يدعونه سبحانه وتعالى راغبين في ثوابه خائفين من عقابه، والرسول - صلى الله عليه وسلم - قال هذا للأعرابي الذي جاءه وقال له: يا رسول الله إني أسال الله الجنة وأعوذ به من النار ولا أحسن دندنتك ولا دندنة "معاذ بن جبل" فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ”حولهما ندندن“ (يعني حول الجنة والنار) فإذا كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يدندن حول الجنة والنار فكيف يتأتى لواحدة "كرابعة العدوية" قالوا عنها أنها كانت مغنية، وقالوا عنها أنها كانت راقصة، وقالوا عنها كلاماً كثيراً، كيف تأتى لهذه التي عاشت عمراً في الغناء وفي الرقص.. كيف يتأتى لها أن تسبق رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأن تسبق رسل الله جميعاً في المعرفة بالله والعلم به سبحانه وتعالى؟ ثم ما هذا الذي تقوله؟ إنها تعبده لذاته ما معنى هذا؟ وما معنى قولها في ربها في الشعر الذي نسب إليها:
أحبك حبين حب الهوى ... وحباً لأنك أهل لذاكا
فأما الذي هو حب الهوى ... فشغلي بذاتك عمن سواكا
وأما الذي أنت أهل له ... فكشفك لي الحجب حتى أراكا
ما هي هذه الحجب التي تنتظر "رابعة" أن تنكشف لها حتى ترى الله، مع أن الله سبحانه وتعالى قال "لموسى" عليه السلام حينما قال له: { رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي } [الأعراف: 143].(59/43)
ولقد اتفقت الأمة المسلمة الواعية على أنه لا يمكن للبشر أن يروا الله سبحانه وتعالى في الدنيا لأن الإنسان بحالته هذه، وهو في الدنيا لا يستطيع أن يواجه تجلي الله سبحانه وتعالى كما حدث بالنسبة "لموسى" { فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ موسَى صَعِقًا } [الأعراف: 143] فالرسول - صلى الله عليه وسلم -، وهو أعظم مكاناً، وأعظم مكانة قال حينما سئل: هل رأيت ربك؟ قال: "نور أنى أراه".
ولا نلتفت لرواية الصوفية لهذا الحديث حيث رووه هكذا، قالوا "نور أنى أراه" بكسر همزة إني، وهذا مخالف لِمَا صح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "نور أنى أراه" فالرسول - صلى الله عليه وسلم - لم ير ربه، وموسى عليه السلام حينما طلب الرؤية قال الله له: {انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي} [الأعراف: 143].. والصوفية لم يقفوا عند حد الأدب مع الله سبحانه وتعالى، ولم يتعلموا من موسى، وما جرى معه بل قال واحد منهم:
وإذا سألتك أن أراك حقيقة فاسمح ولا تجعل جوابي لن ترى فهو يأمر الله سبحانه وتعالى أن يسمح، ثم ينهاه سبحانه وتعالى أن يجعل جوابه لن ترى كما أجاب موسى بذلك وكذلك "رابعة العدوية" تعتقد أن الحجب ستكشف لها حتى ترى الله، ويا ليت الصوفية يتوقفون عند هذه المسألة أن يروا الله وإنما الرؤية عندهم هو أن يحس أنه هو الله وأن الله حال فيه، هذا هو كشف الحجب.. حجب الذات.. حجب النفس بحيث يصل الإنسان منهم إلى أن يرى أنه هو الله، ولذلك كان فهمهم لكلمة التوحيد "لا إله إلا الله" كان الواحد منهم يقول: "لا إله إلا أنا" "أنا الله" فهو يعتقد أنه هو المقصود بكلمة "لا إله إلا الله".(59/44)
ونعود مرة ثانية إلى "رابعة" وإلى ما كتب عنها الذي يقول إن رابعة هي أول من تحدث عن حب الله، هذا الإنسان يبدو أنه لم يقرأ القرآن الكريم، ولم يقرأ السنة المطهرة، ففي القرآن الكريم أن الله سبحانه وتعالى تحدث عن الحب فقال: { يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ } [المائدة: 54] وقال: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ} [البقرة: 165].
الفرق بين الحب والعشق:
حب الله وحب رسوله موجود في القرآن الكريم، وفي أحاديث الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ولكن يبدو أن كاتب هذه السطور يقصد حباً آخر وهو "العشق" وليس الحب، فعلا "رابعة العدوية" ومن على شاكلتها هم أول من أطلق على محبة الله عشقاً، والعشق ما هو؟ إن العشق في أصل وضعه في اللغة العربية لما ينكح، والصوفية وضعوا هذا اللفظ لما بينهم وبين الله سبحانه وتعالى، اعتبروه عشيقاً كالذي يكون بين الرجل والمرأة، قد يذهل الإنسان حينما يسمع هذا الكلام، وربما اعتبر البعض أن هذا تجنياً على الصوفية، ولكنه حينما يتابع كلام القوم وما كتبوه في باب العشق يجد أنهم ينهجون ذلك المنهج، ويقصدون هذا المنحى، ويعترفون أن علاقتهم بالله تكون على هذا المستوى مستوى الناكح والمنكوح، ولقد جاء ذلك صراحة في فصوص الحكم "لابن عربي" إذ قال: "إن الرجل حينما يضاجع زوجته إنما يضاجع الحق" وكان من الممكن أن نقول إن هذه غلطة من محيي الدين ابن عربي أو أن لها تأويلاً آخر ولكن جاء "النابلسي" فشرح الفصوص.(59/45)
ووقف عند هذا التعبير وهو قوله "إنما ينكح الحق" وذكر الله بدلاً من كلمة الحق، وهم يرون أن العلاقة تكون بين الرجل والمرأة قوية إذا كانت في حرام، فهم يعتبرون أن الاتصال بالله يكون كما بين الزوج وزوجته فإذا كان في حرام غير زوجته كان الاتصال أقوى. ثم نرجع "لابن الفارض" مثلاً فنجد أن "ابن الفارض" تحدث عن الله بضمير المؤنثة المخاطبة فهو يقول له: "أنتِ كذا أنتِ كذا أنتِ كذا" ولو رحت تسأل الصوفية لماذا تتحدثون عن الله بضمير المؤنثة المخاطبة؟ فإنهم يقولون لك: إننا لا نقصد الله، وإنما نقصد الذات الإلهية فنحن نوجه ضمير المؤنثة المخاطبة للذات وليس لله فنوجهها الذات الإلهية، "ابن الفارض" يقول إن الله تجلى لقيس بصورة ليلى. وتجلى لكثير بصورة عزة، وتجلى لجميل في صورة بثينة في قصيدته التائية المعروفة فهو يعترف أن هذا من تجليات الحق.
الأدب اللفظي!!
نعود إلى الصوفية ونقول لهم: طيف تطلقون على الله لفظ المؤنثة أيا كان تأويلكم، وأيا كان تحليلكم، وأيا كان تعليلكم مع أن الله سبحانه وتعالى غضب أن يطلق لفظ الأنثى على الملائكة وقال: { وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ } [الزخرف: 19] فالله سبحانه وتعالى غضب وأعلن ذلك الغضب في أكثر من آية من آيات كتابه، على العرب المشركين الذين جعلوا الجن ذكوراً والملائكة إناثاً وزعموا أن هناك مزاوجة بين الجن والملائكة، إلى آخر ما قاله الوثنيون القدامى، فالله سبحانه وتعالى نفى هذا وغضب من أجل هذا – فكيف يرضى سبحانه وتعالى أن يطلق لفظ المخاطبة بضمير المؤنث مهما كان الاحتمال العقلي عند هذا المتحدث؟(59/46)
ثم إن القرآن الكريم له أسلوب عجيب أن يستبعد في باب العقيدة أي لفظ محتمل، ونحن حينما نقرأ سورة البقرة ونجد في قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا وَقُولُواْ انظُرْنَا } [البقرة: 104] لو تأملنا الفرق في كلمة راعنا وانظرنا في اللغة العربية نجده قريباً من قريب، فرعنا تساوي انظرنا، وأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانوا يجلسون في الشمال: راعنا، يعني انظر إلينا، فإذا نظر إليهم قال الذين هم على اليمين: راعنا انظر إلينا، اليهود حفظوا هذه الكلمة راعنا فكانوا يقولونها سخرية واستهزاء، يقولون: راعنا إما من الرعونة أو لاعنا من اللعن، أو راعينا أي أنه من رعاتنا أو أي شيء من هذا القبيل يقولونها من سخرية ليا بألسنتهم وطعناً في الدين فنهى الله أصحاب رسوله عن هذه الكلمة أن يقولوها فقال لهم: {قُولُواْ انظُرْنَا} فإنها لفظ غير محتمل.. إذا كان ذلك في لفظ يطلق بالنسبة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أيمكن أن يطلق العنان في ألفاظ تستعمل بالنسبة له سبحانه؟(59/47)
ثم نترك "رابعة العدوية" قليلاً ونلتقي "بمحيي الدين ابن عربي" الذي دخل بيت "الشيخ مكين الدين" وعاش عنده فترة ثم أحب ابنته، وقال فيها شعراً في عينيها، وتغزل في شفتيها، وفي وصف القبلات التي كان يرسمها على خديها وشفتيها. تحدث عن أثدائها، تحت أردافها، تحدث عن قدها، تحدث عن جمالها، عن كل شيء ما ظهر منها وما بطن، ولما خرج بأشعاره على الناس قالوا له: أليس عيباً أن تقول هذا الكلام في بنت الشيخ الذي استضافك وأعزك وأكرمك؟ فخرج بكتاب على الناس اسمه "ترجمان الأشواق" هذا الكتاب الذي ذهب فيه إلى أن كل ما قيل عن بنت الشيخ "مكين الدين" ليس غزلاً فيها وإنما هو عن الذات الإلهية، وأنه إنما يقصد الذات الإلهية وهو يتغزل في بنت الشيخ "مكين الدين" فهو إذا وصف القد أو إذا وصف الخد أو إذا وصف الوصال أو العناق أو الصد أو البعد أو القرب أو ما شاكل ذلك فإنما كل ذلك منسحب على الذات الإلهية!
جعلناكم أمة وسطا:(59/48)
ثم ما هو هذا العشق الإلهي الذي لجأت إليه "رابعة العدوية" ونسيت الدنيا، وما فيها وكرهت العالم جميعاً، وهل الله سبحانه أمرنا بهذا؟ هل الله سبحانه وتعالى أمرنا أن نصد عن خلقه، وأن نصد عن الناس، وأن نصد عن الزواج، وأن نصد عن المتع، وأن نصد عن المال، وأن نصد عن هذا كله بحجة أننا تركنا هذا كله له، مع أنه هو الذي قال في كتابه: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف: 32] ثم كيف تمتنع "رابعة" عن الزواج كما يقولون مع أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال للثلاثة الذين حاولوا أن يتزيدوا في العبادة، والذين ذهبوا إلى بيوته، وسألوا عن عبادته فقالوا: وأين نحن من النبي؟ ثم حاول كل واحد منهم أن يزيد في عبادته فقال واحد: "أما أنا فأصلي ولا أرقد" وقال الثاني: "وأنا أصوم ولا أفطر" وقال الثالث: "فأما أنا فأعتزل النساء ولا أتزوج أبداً" فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ”ما هذا الذي بلغني عنكم؟ أما وإني رسول الله فإني أصلي وأرقد، وأصوم وأفطر، وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني“.. أتزعم "رابعة العدوية" أنها متفوقة على رسول الله الذي تزوج النساء وأكل وطعم وشرب، وهل نتصور أن رابعة أفضل من الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وأفضل من صحابته، هؤلاء الذين رباهم الله، وأنها أوتيت من العلم ما لم يؤته رسول الله، وأكثر مما نزل في القرآن، وأنها تتخلق بأخلاق أكبر من أخلاق القرآن؟.. وهذا وحده مخرج من الملة والعياذ بالله سبحانه وتعالى.
الزاهدون في الحلال:(59/49)
وذلك هو باب من الشر قع فيه هؤلاء الناس، وهم الصوفية إذ عزموا لأنفسهم أنهم الزهاد، وأنهم العباد، ثم أطلقوا على أنفسهم هذا اللفظ "صوفي" وقالوا لنا أن صوفي تعادل كلمة "تقي" أو تعادل كلمة "نحسن" أو تعادل كلمة "صديق" كما روى ذلك "ابن تيمية" عنهم في رسالته الغيرة "الصوفية والفقراء" زعموا أنهم صديقوا الأمة، ولقد تساءلت في مقدمتي لهذا الكتاب قلت: كيف يمكن لهؤلاء الناس أن يطلقوا على أنفسهم هذه الألقاب؟ مثلاً: رجل يقول أنا صوفي معنى هذا أنه يقول أنا تقي، معنى هذا أنه يقول أنا محسن، معنى هذا أنه يقول أنا صديق.. كيف يمكن للإنسان أن يزكي نفسه ؟ كيف يمكن للإنسان أن يحكم على نفسه بالتقوى أو بالإحسان أو بالصديقية؟ مع أن الله سبحانه وتعالى قال: { فَلاَ تُزَكُّوا أَنفُسَكُم هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى } [النجم: 32].. ومع أن الله سبحانه وتعالى قال: { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَن يَشَاءُ وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً } [النساء: 49].
إن الزهد لم يرد في القرآن إلا مرة واحدة.. ووروده في القرآن الكريم في هذه المرة الواحدة جاء في شأن يوسف عليه السلام: { وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُواْ فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ } [يوسف: 20] هذا الزهد الذي لجأت إليه الصوفية هو الزهد في الحلال، وهو خطأ لأن الزهد لا يكون في الحلال، وإنما الزهد يكون في الحرام، فالإنسان الذي يريد أن يزهد يزهد في الحرام، أما أن يزهد في الحلال لهذا خطأ مخالف لطبيعة الإسلام.
سخافات لا كرامات!!(59/50)
يقولون: إن "رابعة" لما حضرتها الوفاة قالت لمن حولها: انهضوا واخرجوا ودعوا الطريق مفتوحاً لرسول الله فنهضوا جميعاً وخرجوا، ولما أغلقوا عليها الباب سمعوا صوتها وهي تتشهد، وسمعوا الملائكة وهي ترتل: { يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ، ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً، فَادْخُلِي فِي عِبَادِي، وَادْخُلِي جَنَّتِي } [الفجر: 27-30] فماذا ترون في ذلك؟؟
جنون أم كرامات:
قبل أن نتحدث عن هذه الكرامة بالذات نعود إلى "رابعة" من الأول ونتحدث عن حب "رابعة" وما في هذا الحب من خطأ بشع لقد رووا عن "رابعة" نفسها: إن سفيان الثوري – على حد ما زعموا – سألها "يا رابعة هل تكرهين الشيطان؟ فقالت له: إن حبي لله لم يترك في قلبي كراهية لأحد" "فرابعة" بلغ بها الأمر أنها لا تكره الشيطان لأنها تحب الله، وهذا من الأمور العكسية، وهذه نتيجة للخطأ الذي وقع فيه هؤلاء الناس في الحب أو في العشق، أو في الذي يسمونه الفناء، أو في الذي يسمونه مقام الشهود أو مقام الحلول.
ونعود إلى كرامات الصوفية وليست هذه بأبشع كراماتهم فكرامات الصوفية لها سجلات مليئة بالبشاعات، وأعظم سجل لبشاعات الصوفية أو لكرامات الصوفية هو كتاب "الطبقات الكبرى لعبد الوهاب الشعراني" وهذا كتاب مليء بالكرامات أو السخافات التي يروونها عن أوليائهم، وهذا الذي كتب في هذا الكتاب فيه إسفاف، ومجون، وفيه فسوق، وفيه مروق بل إن الفسوق الذي ذكر في هذا الكتاب ينأى عن أي كتاب من كتب الجنس التي تصادر والتي يحظر تداولها أو قراءتها أو دخولها لبعض البلاد.
فهم يعتبرون أن إتيان الحيوان كرامة من الكرامات، وأن رجلاً اسمه "وحيش" كان يدعو كل رجل يركب حماره إلى أن يمسكها له ليفعل بها فإن رفض تسمر في الأرض وإن قبل أصابه خجل عظيم.(59/51)
وهذه واحدة من آلاف الكرامات وليس بأعظمها، وكنت أظن أن كتاب الطبقات لا يعادله كتاب فيما ذهب إليه ولكني لما ذهبت إلى السودان وجدت هناك كتاب طبقات آخر "طبقات ود ضيف الله" وكتاب "طبقات ود ضيف الله" في السودان كتاب محقق حققته الجامعة وخرجته الجامعة وهو مليء كطبقات الشعراني بهذا الهوس وبهذا الخبل وبهذا المجون والفسوق والمروق.
معركة مع الموت:
أكثر كرامات الصوفية تدور حول الموت فهم يزعمون أنهم يطيرون بنعوشهم بعد الموت وما أكثر النعوش التي تطير أو يطيرها أتباعهم، يزعمون أن فلاناً أمسك ملك الموت وأخذ منه زنبيل الأرواح ورماه فعادت الأرواح إلى أصحابها، ويزعمون في طبقات "ود ضيف الله" أن ملك الموت أراد أن يقبض روح واحدة "فاطمة بنت عبيد على ما أذكر" وأنها استغاثت بأحد الأولياء فذهب إلى السماء الرابعة وأمسك ملك الموت ودخل معه في صراع إلى أن أسترد منه روح فاطمة بنت عبيد ثم عاد إلى الأرض وهو يتصبب عرقاً فسألوه فقال: لأنني كنت أجاهد ملك الموت حتى استخلصت الروح منه.(59/52)
كراماتهم تدور حول هذا المعنى وهم ينددون بمن يقول لهم مثلاً: إن فلاناً مات ويغضبون لهذا التعبير جداً ويقولون: انتقل ولم يمت، ويجهلون أن الله سبحانه وتعالى قال عن نهبي - صلى الله عليه وسلم - وعن أشرف خلقه: { وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ } [آل عمران: 144].. وأن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قال حول هذه الآية: "من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت" وأن الله سبحانه وتعالى قال: { إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ } [الزمر: 30]. وقال: { وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ } [الأنبياء: 34] وقال في ثلاث قضايا سورت بالسور الكلي قال أولاً: { كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ } [الرحمن: 26]، وقال: { كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ } [آل عمران: 185] وقال سبحانه وتعالى: { كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَ وَجْهَهُ } [القصص: 88] فالموت مكتوب على كل إنسان، وجعلها كلمة باقية في عقب آدم إلى يوم يرجعون، فالله سبحانه وتعالى يقرر في القرآن أن الكل يموت ولكن الصوفية ينفون أن يكون واحد منهم قد مات. هذه عقيدتهم..
ثم نعود إلى كرامة "رابعة العدوية" التي استقبلتها الملائكة وملأت بيتها، وزحمته وجعلتها تقول للناس اخرجوا حتى يدخل رسل ربي، ثم لماذا يخرجون ليدخل رسل الله مع أن الله سبحانه وتعالى بيّن لنا أن رسله يدخلون علىالميت وقت احتضاره والناس من حوله { وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَكِن لاّ تُبْصِرُونَ } [الواقعة: 85] فهم أقرب إليه ولكن الناس لا يبصرون فهل طالب الله سبحانه وتعالى بإفراغ المكان حتى يدخل رسل الله سبحانه وتعالى، ثم من هم هؤلاء رسل الله الذين يسمعون وهم يرددون الآيات ويرددون البشارات حتى يعرف الناس.(59/53)
الذين يخلعون الولاية على الناس:
يقول الصوفية:
"إن رابعة من أهل الجنة وأنها رجعت إلى ربها راضية مرضية، مع أن حديث أبي السائب معروف لنا وهو أن زوجه قالت: رحمك الله يا أبا السائب لقد أكرمك الله، فقال لها النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ومن أدراك أن الله قد أكرمه؟" فأخذت تصفه بمكارم الأخلاق فقال لها النبي: "لا تقولي ذلك ولكن استغفري له فوالله وأنا رسول الله لا أدري ما يفعل بي". ذلك هو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهذا هو كلامه بالنسبة للحكم على الناس بتقوى أو بصلاح أو بعاقبة طيبة، ولكن الصوفية دائماً يسرفون في الحكم على الناس ويسرفون في الحكم على أنفسهم فيزعمون أنهم أهل الله، وأنهم أصحاب جنته، وأنهم يرون الله وأنهم يجتمعون في الدنيا برسول الله جهاراً نهاراً وأنهم يتلقون الحديث من رسول الله، وأن لهم رواية وسنداً في الحديث عن رسول الله مباشرة، وأن محيي الدين بن عربي قال: إن هذا السند أقوى سند كتب الحديث، لأن الولي منهم يلتقي برسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيقول له: هل قلت كذا يا رسول الله فيقول: لا لم أقله.. ثم يجيب الرسول - صلى الله عليه وسلم - بأحاديث جديدة بل إن الصوفية يذهبون إلى أبعد من هذا فهم يرفضون سند رجال الحديث مطلقاً ويقولون بمباهاة وفخر: "أخذتم علمكم ميتاً عن ميت وأخذنا علمنا عن الحي الذي لا يموت" ويقولون أيضاً كلمتهم المعروفة أو سندهم المعروف في الرواية "حدثني قلبي عن ربي" فقلوبهم تحدثهم عن ربهم بدون واسطة الموتى في أخذ العلم وفي تلقي العلم، لكنهم يقبلون واسطة الموتى في العمل وفي الجنة وفي الحصول على رضا الله سبحانه وتعالى.
الجولة الخامسة
" الشعراني "
صاحب الطبقات
أهل الحركة، والبركة، والغيب، والفورة الجنسية ..!
برهان الله في السودان يتأبط الدسوقي نهاراً ...!
.. أحمد الرفاعي.. السيد البدوي.. الشعراني ...!(59/54)
بعد أن استغرقت رابعة العدوية الحلقة الأولى من الحديث.. يدفع المتحدث إليه بالحديث إلى أحمد الرفاعي.. ويتناول الدكتور منه الخيط ليطوف به حول بقية الشخصيات الصوفية، وعمدتهم السيد البدوي، ومؤرخهم عبد الوهاب الشعراني صاحب الطبقات الكبرى:
ويسأل السائل ويجيب المجيب.. ثم تكون حكاية "الرفاعي" والسؤال هو: يزعم أصحاب "الرفاعي" أن والده توفي وهو جنين في بطن أمه وكان لمولده فرحة كبيرة بسبب الرؤيا التي سبقت هذا المولد وتحدث بها أصحابها من كبار الصالحين. فإن خالد القطب الرباني الشيخ منصور رأى في منامه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول له: "يا منصور أبشرك أن الله تعالى يعطي أختك ولداً يكون اسمه أحمد الرفاعي وحينما يكبر اذهب به إلى الشيخ علي القارئ الواسطي ليربيه ولا تغفل عنه"، ويقولون أيضاً: إن من بعض كراماته أنه لما كثر الجدل والنقاش بين الأتباع وأراد الشيخ منصور أن يحسم الموقف دعا الطامعين في الخلافة، ودعا ولده أحمد، وابن أخته أحمد الرفاعي وأعطى كلاً منهم سكيناً ودجاج وطلب من كل واحد منهم أن يذبح دجاجته في مكان لا يراه فيه أحد، فعاد الجميع وفي أيديهم ذبائحهم إلا أحمد الرفاعي فقد عاد ومعه الدجاجة حية والسكين في يده فسأله الشيخ لماذا عدت بالدجاجة من غير ذبح؟ فقال الرفاعي: شرطت علي يا سيدي خلو المكان وأينما ذهبت وجدت الله حاضراً وناظراً.
وهكذا صار الرفاعي خليفة للطريقة فنظمها وقسمها إلى مجموعات ومراحل ودرجات وقد بلغ الرفاعي الغاية من الزهد والتصوف وأجرى الله على يديه بعض الكرامات فما هي الحقيقة في هذا كله؟
وهنا نسمع رأي الدكتور محمد جميل غازي حول هذه الشخصية الصوفية.(59/55)
رابعة العدوية والرفاعي والبدوي والدسوقي والجيلاني أسماء كثيرة لا تنتهي عدا، ولو أننا وقفنا عند كل شخصية من هذه الشخصيات نناقش ما يروى عنها لوجدنا الكثير، ولوجدنا كلاماً كثيراً يمكن أن يقال في الرد عليهم ثم إن ما ذكرته عن الرفاعي قليل من كثير.
هذا الذي ذكروه عن الرفاعي قليل لكن انظر ما الذي يرويه الشعراني أنه يقول: إن السيد البدوي التقى به الرفاعي في طنطدا – وطنطدا هو الاسم القديم لطنطا – وأن الرفاعي قال له: أريد المفتاح. فقال له السيد البدوي: مفاتيح الشام والعراق ومصر والهند والسند بيدي فخذ أيها شئت، فقال له: لا آخذ المفتاح إلا من يد الفتاح. فقال له: اذهب إلى مكان كذا وستجد المفتاح متدلياً من السماء، فذهب الرفاعي ووجد يداً ممتدة من السماء فأخذ يقبل اليد التي أعطته المفتاح ثم عاد للسيد البدوي وقال له: لقد أخذت المفتاح، قال له: أتعرف اليد التي أعطتك المفتاح؟ قال له: نعم.. فمد السيد البدوي يده وقال له: أليست هذه؟.. فنظر الرفاعي في يد السيد البدوي وقال: إنها هي!
العالمون بالغيب:
شيء آخر يروى عن الرفاعي أيضاً، يقولون أنه لما ذهب ليحج قال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد وقف أمام القبر:
في حالة البعد روحي كنت أرسلها ... تقبل الأرض عني وهي نائبتي
وهذه دولة الأشباح قد حضرت ... فامدد يمينك كي تحظى بها شفتي(59/56)
ثم مد الرسول يده فقبلها الرفاعي، وما يروى من هذا كثير. الموتى يلتقون بالأحياء، والشعراني يروي عن نفسه أيضاً فيما يرويه، قال: وتأخرت سنة عن حضور المولد، وقال الذين حضروا المولد أن سيدي أحمد كان يخرج رأسه من الضريح ويقول: أبطأ عبد الوهاب الشعراني ما جاء وقال! تأخرت سنة عن حضور المولد فقابلني سيدي أحمد في القاهرة ومعه كثير من الموتى وألزمني والأسرى يزحفون على ركبهم ويحملون أكفانهم معهم ويحضرون المولد، فقال لي سيدي أحمد: لماذا لم تحضر المولد؟ فقلت له: بي وجع. قال: الوجع لا يمنع المحب، قلت له: إن شاء الله نحضر. فقال: لابد من الترسيم عليك، فرسم على سبعين عظيمين.. أسودين كالأفيال وقال: الزماه حتى تأتيا به.
هذه هي طريقة الصوفية في الفهم والاعتقاد فهم يخطئون أشنع الخطأ وأبشعه في مسألتين هما أساس توحيد الألوهية.. المسألة الأولى علم الغيب، والمسألة الثانية التصرف في الكون.
أما علمهم للغيب فيأتي وهم صغار، فمثلاً الدسوقي يقول: إنه أوتي سبعين علماً إحاطياً أقلها علم اللوح والقلم.
هذا هو علم الدسوقي وهو في السبع سنوات. كذلك نجد البوصيري يتحدث في قصيدته الميمية – أو البردة- يقول للرسول - صلى الله عليه وسلم - :
فإن من جودك الدنيا وضرتها ... ومن علومك علم اللوح والقلم
فالصوفية ليس عندهم غيب لأن كل شيء مكشوف لهم وبالنسبة للتصرف في الكون هم المتصرفون في الكون فيسمون السيدة زينب مثلاً رئيسة الديوان، إذ يجتمع الأقطاب والأنجاب والأوتاد مرة كل عام في غار حراء برئاسة رئيسة الديوان للتصرف في أمور المخلوقات.
ويزعمون أيضاً أن السيد البدوي متصرف في الكون ويقولون أيضاً أن الله قال في حديث قدسي: "الملك ملكي وصرفت فيه البدوي".
ويسمون أنفسهم: أهل التصريف، ويعتبرون أن لكل عام أو كل فترة زمنية قطباً يسمونه "قطب الوقت" يعني المسؤول عن التصرف في الكون في ذلك الوقت.(59/57)
هذه مفتريات الصوفية ولو أننا رحلنا نتتبعها واحدة واحدة لضاع وقتنا هباء، ولكننا دائماً نشرح الحق وبضدها تتميز الأشياء، والحق موجود في كتاب الله سبحانه وتعالى، ومشروح شرحاً كاملاً، ولقد فصل الله سبحانه وتعالى الحق في كتابه الكريم، وبين مظاهر الباطل ومداخل الباطل ومخارج الباطل، في كتابه الكريم ورسولنا - صلى الله عليه وسلم - لم يخرج من هذه الحياة، أو لم يخرجه الله سبحانه وتعالى من هذه الحياة الدنيا إلا بعد أن أبان الشريعة، وبين كل الطرق المؤدية إلى الله سبحانه وتعالى حتى قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كلمته المشهورة المعروفة:
”تركتكم على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك“ وقال: ”تركت فيكم ما أن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبداً كتاب الله وسنتي“.
النون أم الميم !!:
ثم ننتقل مرة أخرى مع الدكتور محمد جميل غازي إلى قطب آخر من أقطاب الصوفية وهو "إبراهيم الدسوقي" – إنه درس الفقه ثم اقتفى آثار الصوفية – واعتكف عشر سنوات في دسوق وكان صاحب كرامات ظاهرة، ومقامات فاخرة، وسرائر قاهرة، وبصائر باهرة ويقولون أيضاً: لقد كان إبراهيم الدسوقي زعيماً روحياً، وقطباً صوفياً، ومصلحاً اجتماعياً وطريقة البرهامية نسبة إلى "إبراهيم" أو "الدسوقية" نسبة إلى لقبه انتشرت في أقطار الشرق.. وامتدت فروعها في مصر والسودان فخلق رجالاً عاملين ومواطنين صالحين يراقبون الله في السر والعلن ومازال خلفاؤه ناهجين نهجه هكذا يقولون عن الدسوقي وطريقته.(59/58)
أولاً كلمة "خلق" التي ذكرت في كلام هذا الكاتب، كلمة عجيبة أيضاً فهو شيء جديد يضاف إلى مناقب الصوفية وأنهم يخلقون، وهو يخطئ أيضاً حينما يقول: إن الطريقة المنسوبة إلى إبراهيم الدسوقي اسمها الطريقة البرهامية، بالميم أو البرهانية بالنون؟ الميم والنون أقامتا معركة بين السودان ومصر.. أما مصر فإنها أقامت الطريقة البرهامية بالميم، وأما السودان فأقامت الطريقة البرهانية بالنون وسبب المعركة بسيط أنه بعث في زمان الناص هذا ولي جديد هذا الولي الجديد اسمه محمد عثمان عبده البرهاني بالنون وأنه التقى بإبراهيم الدسوقي في جلسة علنية وأنه سأله هل طريقتك البرهامية بالميم أو البرهانية بالنون ؟ فقال إبراهيم الدسوقي: طريقتي البرهانية بالنون لأنني برهان الله في الأرض، وعلى هذا الأساس خرج محمد عثمان عبده بطريقة البرهانية بالنون، واجتمعت مشيخة الطرق الصوفية وخرجت على الناس ببيان رفضت فيه اعتبار الطريقة البرهانية بالنون إحدى الطرق الصوفية المعتمدة. لكنها موجودة ولها مقر بجوار مشيخة الطرق الصوفية وتقوم بنشاطها الملموس، ويحضرها كثير من طلبة الجامعات.
زرت محمد عثمان البرهاني في منزله بالخرطوم، في ميدان عبد المنعم وسألته: كانت أيامها حرب 73 وكانت المعركة قائمة في مصر، كنا في رمضان بعد عشرة رمضان – هل يقود المعركة الآن – إبراهيم الدسوقي قال: نعم والذي دعاني إلى هذا السؤال أن بعض المجلات نشرت مقالات بعنوان "دولة أبي العينين" بينت أن قطب الوقت هو أبو العينين، وأن الذي سيقود المعركة ضد اليهود هو أبو العينين، وأنه سيطرد اليهود من مصر ومن سيناء إلى آخره، فسألت محمد عثمان البرهاني: هل الذي يقود المعركة الآن في مصر هو إبراهيم الدسوقي؟ قال: نعم، قلت: له بلحمه ودمه. قال: نعم بلحمه ودمه.(59/59)
نحب أن نوضح بعض الأشياء عن عثمان البرهاني ليكون معروفاً أكثر هو مؤلف كتاب "انتصار أولياء الرحمن على أولياء الشيطان" ويقصد بأولياء الشيطان من سماهم في صدر كتابه "الوهابيون والإخوان المسلمون" فهوي قول أن هؤلاء هم أنصار الشيطان وأنه ألف هذا الكتاب للنيل من هؤلاء.
وفي كتابه "تبرئة الذمة في نصح الأمة" بين أن الله هو محمد، وأنه لا فارق على الإطلاق وقال: إن قوله تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ } [الفتح: 10] معناه أن محمداً هو الله.
وقال أيضاً: إن من أسماء الله الحسنى محمد.
كذلك فإن "محمد عثمان عبده البرهاني" كان يذكر في كتابه هذا من مناقب الدسوقي أنه سأل الله أن يعطيه جسماً كبيراً كبيراً، ولما سئل إبراهيم الدسوقي لماذا؟ قال: لأزحم به النار فلا يدخلها أحد ونفس الكلام محاولة زحم النار أو زحمة النار ذكرها السيد البدوي أيضاً قال: إنه دعا الله بثلاث دعوات فأجاب الله دعوتين وأبطل الثلاثة، دعا الله أن يشفعه في كل من زار قبره فأجاب الله ذلك، فدعا الله أن يكتب حجة وعمرة لكل من زار قبره فأجاب الله ذلك، فدعا الله أن يدخله النار فرفض الله ذلك. فسألوا السيد البدوي لماذا رفض الله أن يدخلك النار؟ قال: لأني لو دخلتها فتمرغت فيها تصير حشيشاً أخضر وحق على الله أن يعذب بها الكافرين، ويقول أحد الصوفية: لولا الحياء من الله لبصقت على ناره، فانقلبت جنة، وأبو يزيد البسطامي هو الذي يسخر من الجنة والنار، فيقول: سبحاني ما أعظم شأني الجنة لعبة صبيان.
هذا هو منطق هؤلاء بالنسبة لجنة الله وبالنسبة للنار، وبالنسبة لوعد الله وبالنسبة لوعيده، فهم يعتبرون الجنة لعبة صبيان، بل بالعكس أبو يزيد البسطامي حينما يسمع القارئ يقرأ قوله تعالى: { إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ } [البروج: 12] يقول: وعزتي وجلالي إن بطشي لأشد من بطشه.(59/60)
وننتقل أيضاً مع الدكتور محمد جميل غازي إلى قطب آخر وهو الشيخ الشعراني فقد قيل عن الشيخ الشعراني كما يرويه أصحابه أن المستشرق "ماكدونالد" قال: إن الشعراني كان رجلاً ذواقاً نقاداً مخلصاً واسع العقل وكان عقله من العقول النادرة الخلاقة في الفقه بعد القرون الثلاثة الأولى في الإسلام، ولقد كانوا يقولون أن الشعراني كان عالماً فقيهاً وصوفياً مشهوراً وكان ينتمي إلى الطريقة الشاذلية التي أسسها الشيخ أبو الحسن الشاذلي، ثم يقولون أيضاً عن هذا الشيخ قد حكى عنه المستشرق "كولدس" أن الشعراني كان من الناحية العلمية والنظرية صوفياً من الطراز الأول وكان في الوقت نفسه كاتباً بارزاً أصيلاً في ميدان الفقه وأصوله وكان مصلحاً لا يكاد الإسلام يعرف له نظيراً، وإن في كتبه ما يعد ابتكاراً محضاً لم يسبق إليها ولم يعالج فكرتها أحد قبله. ثم يقولون أيضاً: أن هذا القطب أو هذا الشعراني قد أثمرت قراءته ودراسته ثمراتها الطيبة وبدأ أثرها في إنتاجه الغزير في مؤلفاته التي تتحدث في التفسير والحديث والفقه ولغة التصوف، وبعض هذه المؤلفات تقع في خمسة مجلدات.
الأعداء لماذا يؤيدون التصوف ؟
أن يقول هذا الكلام مستشرق مثل "ماكدونالد" أو غيره يجعلنا نعرف من هم الصوفية تماماً، فالصوفية هم جماعة ماكدونالد وغيره، نصبوا أنفسهم لهدم الإسلام. ذلك أن أوروبا الصليبية لا تسمح لنفسها أن تعطي دكتوراه في العلم الإسلامية إلا في التصوف.
المستشرقون والمبشرون يؤيدون التصوف لعلمهم أن ذلك معول يقضي على الثقافة الإسلامية، ويقضي على العقيدة الإسلامية، ويقضي على العبادات الإسلامية والسلوك النظيف.(59/61)
ما هذا الذي يقوله هؤلاء المستشرقون عن عبد الوهاب الشعراني، وأنه أتى بكتب لا نظير لها، وأنها في غاية الابتكار ألا يرجع هؤلاء إلى أنفسهم فيعلمون أن أوروبا حظرت تدريس المزامير في مدارسها لما فيها من خدش للحياء والعفة وخاصة نشيد الإنشاد في "المزامير" كيف يقولون هذا مع أن في طبقات الشعراني ما هو أحق بالمنع من نشيد الإنشاد، مثلاً عبد الوهاب الشعراني يقول بالحرف الواحد "ودخلت على زوجتي أم عبد الرحمن ولم أفعل شيئاً، يقول: إنه دخل على زوجته أم عبد الرحمن ولم يستطع أن يفعل معها ما يكون بين الرجل وزوجته فاستغاث بسيده أحمد البدوي، وأن أحمد البدوي قال له: يأتي بفاطمة أم عبد الرحمن عنده في القبر ثم يدخل بها، وأنه أخذها وذهب إليه في القبر ودخل بها وصنع له السيد البدوي حلوى، قال عبد الوهاب الشعراني: فكان الأمر في تلك الليلة.
كيف يمكن لمفكر كهذا أن يقال أنه مفكر لا نظير له.. بعد صدر الإسلام.
كيف يمكن أن يكون هذا؟ وكيف يقال إن مؤلفاته لا نظير لها مع أنها كلها عبث كهذا العبث.
أليس عبد الوهاب الشعراني هو الذي قال إن للولي حق القبض والبسط والخفض والرفع والإحياء والإماتة وحق التصرف في العباد.
كل هذا يقوله عبد الوهاب الشعراني، ويقال لنا: أن كتب عبد الوهاب الشعراني لا نظير لها، لماذا ؟ لأنهم يريدون لهذا الرجل ولأمثاله أن يعيشوا بين الناس.
ويمضي الدكتور محمد جميل غازي في حديثه يكافح الخرافة، ويتتبعها في أوكارها !
ونتوقف نحن إلى هذا الحد.. لنقول:
إن هذا "الداعية" الفاهم الواعي، قد وسعت دائرة معارفه "أنماطاً" من البدع والخرافات.. عرفها، وعرف بها، وتتبعها بالبحث والدراسة، وحذر الأمة منها ومن شرها !
ولقد أوتي القدرة على مقاومة هذه البدع والخرافات.. مهما كان أنصارها أشداء أقوياء!!
فليبارك الله خطوه.. وليكلل بالنجاح مسعاه.. وصلى الله وسلم وبارك على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
الجولة السادسة
الشيوعية(59/62)
أقدم من ماركس
حتى كتابة هذه السطور.. التوحيد عندهم جريمة..!
الصوفية.. لا إحسان.. ولا تقوى.. وإنما شعوذة..!
الشيوعية دعوة قديمة.. قبل ماركس..!
بين الحديث السابق، وهذا الحديث عام عامل! في موسم الحج الذي أعقب آخر حديث – جاء رئيس التحرير الجديد، وجاء بأسئلة جديدة، وحاصر الدكتور محمد جميل غازي، وكان هذا الحوار المفتوح الذي حذفنا منه بالقدر الذي تبيحه مقتضيات العرض.. غير أن الكلام عن الصوفية وهو الهدف من هذا الكتاب كله.. تركناه كما هو.
ليس فقط تعميقاً وتأصيلاً للفكرة.. فكرة كشف الأستار عن هذه الفرقة التي فعلت بالإسلام وبعقائده ما فعلت.. وما زالوا وسوف يظلون المنطقة المتأنية التي تجذب المسلمين.. وكأنها الرمال الناعمة تبتلع الناس وتدفنهم دون أن يشعروا.. بل إنهم أشد خطراً وأبعد أثراً.. وهيا معاً إلى الحوار المفتوح:
بنفس طريقة الإجابة السريعة: ما هي كتبكم ومؤلفاتكم ؟
وضعت كتباً في التفسير، والفقه، والحديث، والدب، والاجتماع.. ليس هنا مكان تحديدها أو عناوينها.. ومع ذلك فليست الكتب هي كل سبيلي إلى الدعوة.. إنما اعتزازي الكامل بالمحاضرات التي ألقيها أسبوعياً في "مسجد العزيز بالله" يوم الجمعة، وبالمركز الرئيسي "لجماعة أنصار السنة" والمركز الرئيس لجمعية "مجد الإسلام" وأماكن أخرى أدعى إليها دائماً في داخل القاهرة وخارجها.
متى عرفتم دعوة التوحيد ؟ وعرفتكم الدعوة ؟(59/63)
كنت في المرحلة الابتدائية في الأزهر.. ووقع في يدي كتاب "زعماء الإصلاح في العصر الحديث" للأستاذ أحمد أمين، وقد كتب عن الإمام الشيخ محمد بن عبد الوهاب في أول الكتاب ترجمة طيبة.. شدتني لا سيما وإنني لم أكن قد عرفت عن الإمام إلا ما يشوه سيرته، ويسيء إليه من أعدائه والحاقدين عليه.. بعد هذه الترجمة.. صححت كثيراً من الأفكار المغلوطة عن هذا الرجل الإمام.. والحق أني حاولت بعد ذلك الحصول على كتب في هذا المضمار.. لكن كانت هذه الكتب الخاصة بالتوحيد، والإمام.. نادرة الوجود إن لم تكن منعدمة لأكثر من سبب.
إلى أن حدث الذي ما زلت أذكره.. وكأن عهدي به أمس إذا سمعت ضجة، ومعركة بين زملائي الطلاب، وأحدهم كان يمسك بمجموعة من الكتب.. الطلبة يريدون الاعتداء عليه وهو متلبس بجريمة حيازة كتب لمحمد بن عبد الوهاب.. احتكموا إلى قضية بينهم حسما للنزاع أن أشتري الكتب.. وقبلوا الحل، وكانت فرصتي لقراءة الشيخ من خلال ما كتبه هو.. لا ما كتب عنه.
ماذا رأيتم في جولاتكم في البلاد الإسلامية من أمر الدعوة ؟
وجدت أن دعوة التوحيد مقبولة لدى العقلاء.. مرفوضة لدى بعض الجماهير.. لأن الماهير تصدر أحكامها من منطلق العواطف الفجة غير المدروسة، والمتأثرة بنفوذ أصحاب المصالح، والتقاليد المتوارثة، وتحكمات الهوى، والبيئة.
وكيف كنتم تواجهون فضيلتكم هذا الجمود ؟
علمنا القرآن الكريم.. أسلوب الدعوة فلابد من مواجهة العقل بالعقل، والعاطفة بالعاطفة.. فمن "سيكولوجية" الدعوة أن تتوافق مع مستويات الجماهير حتى تكون نافعة ومؤثرة، ويصلح الأسلوب الأول – العقلي – في المناقشات الهادئة التي تدور في ندوات مغلقة.. محدودة العدد.. أما الأسلوب الثاني فهو للجماهير الواسعة في المحاضرات ونحوها.
ما هي أنماط المضايقات التي تلقونها ولقيتموها ؟(59/64)
إنه نمط واحد.. لا يتغير في كل مكان.. إنهم أصحاب المصلحة في أن تعيش الجماهير في الضلالة، وهم يشرون يدافعون عن بقائهم وبقاء مصالحهم بضراوة.. أحدهم يعمل قيماً على صندوق نذور جده، وهو في نفس الوقت يشغل وظيفة هامة في المجتمع.. وتعلم في أرقى الجامعات.. ولما كانت كل أسرته تتكسب من "المولد" الذي يقام لجده، ومن صندوق النذور فقد أرسل يهددني بالقتل.. إذا واصلت هجومي على الضلالة، والخرافة.. ولكنه لم ينفذ تهديده.. لأنني مازلت حياً كما ترى.
هل تتفضل فضيلتكم بذكر أنماط أخرى ؟
الأنماط كثيرة ووقتي ووقتك ضيق.. وهي معروفة لدى الدعاة جميعاً، ولا نريد أن نمن على الله بعمل.. فإن الله له المنة والنعمة، والطول، والإحسان، ويكفي أننا أصحاء مرزوقون سعداء، ولم يجر علينا ما جرى على الدعاة السابقين، الذين قال فيهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - : ”إن الرجل فيهم كان يوضع المنشار على مفرق رأسه فيشق إلى نصفين.. فما يرده ذلك عن دينه“ أين نحن من هؤلاء ؟
ما هو العدو الحقيقي في نظرك لدعوة التوحيد ؟
مرة أخرى أقول إن الأعداء كثيرون في الخارج والداخل أي من داخل حدود العمل الإسلامي، ومن خارج حدوده.. وفي رأي أن العدو الداخلي أخطر من العدو الخارجي.. ذلك لأن العدو الداخلي يحارب الإسلام وهو يقول صدق.. أما العدو الخارجي فهو يحاربه وهو يقول كذب.. فالأول منافق، والثاني كافر.. والنفاق شر من الكفر ولذلك كانت عقوبة الله للمنافقين الدرك الأسفل من النار.
تفضلوا فضيلتكم بإيضاح الإجابة السابقة وتفسيرها للقراء ؟
يكاد العدو الخارجي يكون محدداً في الثالوث الحقير المعروف الشيوعية العالمية، والصهيونية العالمية، والصليبية العالمية، أما الداخلي فهم أدعياء التصوف ودعاته، وشيوخ الفرق الإسلامية المتنابذة والمتخاصمة، والتي ما قامت إلا لأهداف مادية، ومناصب دنيوية.(59/65)
ما قولكم في أن هذه الفرق، وعلى رأسها الفرق والطوائف الصوفية تدعي أنها تدعو إلى الله والإسلام ؟
ألست معي أن كل دعوى في حاجة إلى دليل.. فما هو الدليل الذي تقدمه كل هذه الطوائف ؟ لتثبت أن ما هي عليه هو الحق الذي لا شك فيه.. وإذا سلمنا جدلاً أن كل طائفة أثبتت أنها على الحق.. حينئذ يكون للحق ألف طريق مع أن الله سبحانه وتعالى يبين أن طريق الحق واحد في قوله: { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ } [الأنعام: 153]. وكلهم يقولون أنهم ملتمسون من رسول الله، وأن كل الطرق تؤدي إلى الله.. فكيف يدخل عقل عاقل أن رسول الله وضع المناهج لطرائق الرفاعية، والأحمدية، والبيومية، والسماكية، والنقشبندية، والسيوفية والبرهانية بالنون، والبرهامية بالميم..؟ وكيف يمكن أن تكون هذه الطرق مؤدية إلى الله ؟ وأين هي إذاً الطرق التي لا تؤدي إلى الله، والتي قال عنها سبحانه وتعالى: { وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ }؟
فضيلة الدكتور.. ألا يمكن أن يكون اختلافهم عن نيات حسنة.. وزيادة في اجتهاداتهم من أجل الدين ؟(59/66)
ما أضر المسيرة الدينية في ماضيها وحاضرها.. إلا أصحاب النوايا الطيبة الذين بعدوا بنواياهم عن العمل الطيب.. والله يقول: { قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً، الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا } [الكهف: 103، 104] إننا نريد نوايا طيبة، ومعها أعمال طيبة كذلك، ولكي يكون العمل طيباً صواباً لابد أن يكون صاحبه ملتزماً بما صح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ثم ما هذا الاجتهاد الذي تتحدث عنه، وقد اتفق جماهير السلف رضوان الله عليهم على أنه لا اجتهاد مع النص.. وإبليس ما كفر إلا لأنه اجتهد مع النص حيث قال الله له وللملائكة: { اسْجُدُوا لآدَمَ } [البقرة: 34] وهذا نص.. فقال إبليس عليه لعنة الله: { أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ } [الأعراف: 12] وهذا اجتهاد واجتهاد باطل.
إن كل الطرق التي عددتها فضيلتكم.. هي الطرق الصوفية ؟ وتلك كما يقول أصحابها قمة الإسلام أو الإحسان أو التقوى.. فما قولكم ؟
أما أن كل هذه الطرق شيء واحد.. فهذا أمر لا يقره الصوفية أنفسهم بدليل أنهم هم الذين سموها طرقاً – والطرق: جمع طريق – كما هو معروف.. ثم ما هي هذه الصوفية التي تتحدث عنها وتقول إنها قمة الإسلام أو التقوى أو الإحسان؟ وهل تتصور أن يسكت القرآن وأن يسكت رسول الله عن قمة الإسلام هذه فلا يتحدث عنها ولو مرة واحدة؟.. فهل ورد في القرآن الكريم كله لفظ صوفية؟ أوفي الحديث النبوية ما يفيد ذلك؟ أو هل جرى هذا اللفظ على لسان أحد من الصحابة أو التابعين رضوان الله عليهم؟
إذاً لماذا يشيعون أن لفظ الصوفية مرادف للفظ التقوى أو الإحسان ؟(59/67)
سبحان الله.. ما قرأنا في قواميس اللغة على كثرتها وضخامتها أن من مرادفات تقوى صوفية.. وهب أن الأمر كذلك.. فهل يصح لإنسان أن يقول أنا صوفي بمعنى: أنا تقي؟.. وهل يصح لمجموعة من البشر أن يقولوا نحن صوفية.. بمعنى نحن أتقياء.. مع أن الله تعالى يقول: { فَلاَ تُزَكُّوا أَنفُسَكُم هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى } [النجم: 32]، وعلى ذكر القواميس اللغوية.. فإنني أقول لك: إن لفظ صوفية كمصدر صناعي لم يرد إطلاقاً لأي معنى من المعاني التي يريدها الصوفية.. وإنما هو لفظ وثاني وثني قديم معناه الحكمة.
لكن إذا سمحتم لنا فنحن نقول إن هذه شكليات لا ينبغي أن تكون أساساً للفصل في قضية موضوعية هامة كهذه ؟
الذي أريد أن أحدده هو أن الصوفية ليس لها سوى احتمالات عقلية أربعة: إما أن تكون هي الإسلام أو غيره، أو زيادة عليه أو نقصاً منه.. فإذا كانت الأولى فالله سمانا المسلمين، وليس المتصوفين، وإذا كانت الثانية.. فنكون قد رفضنا الإسلام الذي ارتضاه الله لعباده، وإذا كانت الثالثة والرابعة.. فليس من حق أي إنسان كائناُ من كان أن يتصرف في الإسلام وشرائعه زيادة أو نقصاً أو إضافة أو حذفاً.
الشيوعية أقدم من ماركس:
بلا أسئلة وبلا أجوبة.. راح الدكتور يتحدث فيما أحاول أن ألخصه حرصاً على وقت القارئ.. قال: إن هجوم الثالوث الحقير المكون من الصليبية، والصهيونية والشيوعية أيضاً لم يبدأ من هذا العصر وإنما بدأ ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - حي يرزق، وإذا قلت إن الشيوعية عصرية.. أقول لك إن التسمية فقط هي العصرية، أما أهدافها فقد كانت في جماعات "المانوية"، "المزدكية"، وتلك جماعات معروفة في التاريخ.
حرب الشيوعية، والتبشير الصليبي، والتضليل الصهيوني، لا يمكن أن يكون بالخطب بل ينبغي أن ندرس مساربها إلى صفوف المسلمين، وأن نسد الثغرات التي تنفذ منها هذه الأوبئة.(59/68)
وذلك لا يكون إلا بالعودة إلى الإسلام الصحيح والعدالة الاجتماعية المنبثقة منه وحده!
الجولة السابعة
لقاء في سلطنة عُمان
القرآن نزل لحل مشاكل الإنسان ..!
مخاطبة العقول والقلوب بالقرآن ..!
كلمة التوحيد، وتوحيد الكلمة ..!
انتهزت مجلة "العقيدة" العمانية.. فرصة لقاء الدكتور محمد جميل غازي.. في "عمان" لإلقاء بعض المحاضرات في التوعية الإسلامية، فكلفت محررها الزميل "إسماعيل السالمي" بإجراء لقاء معه.. ورغم أن الحوار كان بمناسبة بداية القرن الهجري الجديد.. إلا أن الدكتور كعادته طارد الصوفية والصوفيين، وقال ما تمكنت المجلة من نشره..
وإليك نص الحديث:
الهجرة.. هي البداية:
الأمة الإسلامية تمر الآن بذكرى مرور أربع عشر قرناً على الهجرة النبوية.. فكيف نجسد هذه الذكرى لإحياء مجد الأمة الإسلامية ؟(59/69)
التاريخ الهجري تاريخ أجمع عليها الصحابة.. حينما جمعهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه لاختيار تاريخ يسجلون به أحداثهم ووقائعهم.. ولقد فكروا أي تاريخ يختارون، واتفقوا فيما بينهم على أن أعظم حدث فعلاً هو حدث الهجرة.. واتفقوا على اختيار الهجرة لتكون تاريخاً للمسلمين يرجعون إليه.. يسجلون به أحداثهم.. فالهجرة النبوية وهي الموعد الذي اختاره الصحابة بالإجماع لتكون تاريخاً لحياتهم.. والهجرة النبوية كانت انتقالاً من الفترة المكية إلى الفترة المدنية، والفترة المدنية هي الفترة التوطينية للإسلام، ولانطلاق الإسلام.. ففي المدينة قام الرسول - صلى الله عليه وسلم - بوضع النظم الكفيلة بضمان مسيرة الإسلام.. ولم يضعها الرسول - صلى الله عليه وسلم - من عند نفسه.. وإنما وضعها بتشريع من عند الله سبحانه وتعالى، وبوحي من الله.. لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لا ينطق عن الهوى.. هذه الشرائع التي وضعت في المدينة هي الشرائع الكفيلة والقادرة على هداية الأمة الإسلامية أو على هداية الإنسانية جمعاء.. وبدونها لن تسعد الأمة الإسلامية ولن تسعد البشرية.. كذلك فإن الفترة المدنية هي الفترة التي قامت فيها حروب الإسلام.. والتي أذن للرسول - صلى الله عليه وسلم - فيها أن يقاتل الذين يقاتلونه، والذين يقفون في سبيل الدعوة الإسلامية.. كما قال الله تعالى: { أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ } [الحج: 39].(59/70)
فالهجرة الإسلامية تعتبر علامة ليست في التاريخ الإسلامي وحده، وإنما في التاريخ الإنساني عامة.. فالمسلمون مطالبون فعلاً، وقد مر أربعة عشر قرناً على الهجرة النبوية أن يحتفوا بهذا الحدث، وأسلوب الاحتفاء بهذا الحدث لا نقول بالمهرجانات الموسيقية والمهرجانات الغنائية أو بالتهريج، وإنما بالمؤتمرات العلمية التي تقدم فيها قضايا الإسلام، والتي يدرس فيها ماضي الإسلام، ونصحح كثيراً من الأخطاء الموجودة في التاريخ الإسلامي.. ثم في الوقت نفسه دراسة حاضر المسلمين ونقط الضعف في هذا الحاضر، والسلبيات الموجودة.. وفي الوقت ذاته وضع الخطط الجادة الغير الهازلة التي لا توضع للاستهلاك فقط، إنما توضع موضع التنفيذ للنهوض بمستقبل المسلمين، وكيف يكون هذا المستقبل أكرم وأشرف مما سبق. وننتظر أن تتحرك البلاد الإسلامية نحو هذه الذكرى وأن يؤمنوا أنهم شهود نهاية القرن الرابع عشر الهجري وهم شهود ميلاد القرن الخامس عشر الهجري.. إننا نعيش هذه الفترة الحاسمة في التاريخ البشري.. فالعالم من حولنا يعيش صراعات رهيبة.. سواء أكانت صراعات فكرية أو صراعات أيديولوجية.. أو صراعات استراتيجية أو صراعات في المذاهب..
هذه الصراعات موجودة في العالم اليوم.. وكل أمة في العالم تحاول أن تتسع أو أن توسع مناطق نفوذها في مقدرات الدول الفكري أو النفوذ العسكري أو النفوذ في الأرض أو النفوذ في مقدرات الدول أو النفوذ في الأسواق، والمسلمون منكمشون لا يستطيعون النفوذ أو متابعة العالم باهتمام، أو أن يشاركوا في الحياة النشيطة التي تدور في الخارج.
مطلوب من المسلمين وهم يحتفلون باستقبال القرن الخامس عشر الهجري أن يتصوروا هذا كله ويتدبروه.. وكل المسلمين ينبغي أن يدرسوا كيف يوصلون كلمة الله إلى الناس جميعاً، لأن حل مشاكل الناس في أيدي المسلمين والعالم يبحث عن أسلوب لحل مشاكله.(59/71)
المجتمع الرأسمالي يبحث عن أسلوب.. والمجتمع الشيوعي يبحث عن أسلوب.. والمجتمعات التي تسمي نفسها الاشتراكية تبحث عن أسلوب.. وتختلف على نفسها، وكلها اجتهادات بشرية تخطئ أكثر مما تصيب.
القرآن.. والإنسان:
ليس هناك أمة تحمل كلمة الله بصدق إلا الأمة الإسلامية، فليس هناك كتاب يمثل كلمة الله إلا القرآن الكريم، لأن الكتب كلها ضاعت.. التوراة ضاعت، والإنجيل والزبور كلها ضاعت، ولم يبق كتاب سوى القرآن الكريم هو الذي يمثل كلمة الله حتى وإن كانت هذه الكتب باقية فإنها بنزول القرآن انتهت رسالتها وانتهت أهدافها.. والقرآن الكريم أصبح مهيمناً على هذه الكتب.. وأصبح مسؤولاً عن كلمة الله الصحيحة.. القرآن حل مشاكل الإنسان.. وعلى المسلمين أن يبلغوا هذا الحل للناس جميعاً، إن لم يقم المسلمون بتبليغ كلمة الله يكونوا قد قصروا في حق البشرية كلها ويكونوا قد قصروا في حق أنفسهم أيضاً.(59/72)
وألاحظ على المسلمين ملاحظة عجيبة، أنهم في وسط هذا المعترك القائم بين الثقافات، وبني الحضارات لا نجد المسلمين يدخلون المعترك بما معهم من ثقافة، وما معهم من حضارة.. ينزوون ويخجلون ويتقوقعون بل يتشبهون بالآخرين.. فنجد في بلاد المسلمين من يعتنق الشيوعية، ونجد من يعتنق الوجودية، ونجد من يمارس التبشير.. هل هناك جدب في الثقافة الإسلامية حتى أخذوا يتسولون من هنا وهناك ويستوردون.. لو أن ثقافة القرآن قليلة أو ضحلة لقلنا أن المسلمين يستوردون ثقافات أخرى لملء الفراغ الذي يعانون منه.. لكن ثقافة القرآن لا نظير لها، وليس هناك في الدنيا على الإطلاق لا في الماضي، ولن يكون في المستقبل أبداً كتاب قامت عليه ثقافة كما قامت ثقافة على القرآن الكريم.. علوم انبثقت من القرآن الكريم.. ملايين الملايين من الكتب خرجت من القرآن الكريم، وهو كتاب يدعو أتباعه إلى الانفتاح العقلي، والانفتاح الفكري.. فهو ليس كتاباً مغلقاً، وليس كتاباً يطلب من أتباعه أن يكونوا مغلقي الذهن.. إنه كتاب ينهى عن الجمود، ينهى عن التقليد.. يدعو إلى العقل والحضارة والتدبر.. كل ذلك موجود فيه.. مطلوب من المسلمين وهم الشاهدون لنهاية القرن الرابع عشر، أن يخرجوا القرآن للناس.. أنا أعلم أن القرآن يطبع عشرات المئات وآلاف الطبعات في كل بلاد المسلمين، وأعلم أن هناك تسجيلات كثيرة للقرآن الكريم.. وأعلم أن هناك محطات لإذاعة القرآن الكريم.. وهناك مجلات دينية تنشر القرآن الكريم.. لكن ليس هذا هو المطلوب فقط، إنما المطلوب هو كيف نغزو المؤتمرات العالمية بالقرآن الكريم.. كيف نغزو بلاد العالم مبشرين بالقرآن الكريم.
القرآن يخاطب القلوب العقول:(59/73)
وأقولها صريحة بأن بلاد العالم ممهدة جداً لاستقبال القرآن.. هي تبحث عنه.. نحن نعلم أن في أمريكا مسلمين كثيرين، ويسلم الكثير فلو وضعنا مقارنة بسيطة بين ما يبذله التبشير لدخول بلاد المسلمين.. فالتبشير يدخل بالمال والوعظ من أجل أن يجعل مسلماً واحداً يترك دينه فلا يستطيع.. العكس هو الذي يحدث... أمريكا هي التي يدخلها الإسلام هل معنى هذا أن عندنا أموالاً نصرفها على الأمريكيين لكي يسلموا...ومن الذي يستطيع أن يشتري أمريكا وهي تملك كل شيء؟ يدخلون الإسلام بدون تبشير منا وبدون ضغوط، وبدون إغراء، هم يبحثون لأن المدنية الأوروبية تعيش الآن مرحلة تفسخ، تعيش مرحلة النهاية، وهذا كلام علمائهم.. فأكبر فيلسوف غربي، وأكبر مؤرخ غربي ألف كتابه أفول الغرب... الذي ترجم ترجمتين إحداهما بعنوان "أفول الغرب" والأخرى بعنوان "انهيار الحضارة الأوروبية" إذ هذا رأيه، كذلك نجد أن الكتاب من قديم يبشرون بالإسلام "جورج برناردشو" يقول في كتابه "نداء العمل" فإذا كانت لنبوءات كبار الرجال أثر فإني أتنبأ بأن دين محمد قد أصبح مقبولاً لدى أوروبا اليوم، وسيكون مقبولاً لديها أكثر غداً، وسيكون دين الإنسان جميعاً قبل الصيحة الأخيرة. إذ أوروبا مهيأة تبحث عن كتاب عالمي، ودين عالمي.(59/74)
الآن ومنذ عشرات السنين يبحثون عن دين عالمي، وقد أوجدوا أو ألفوا أو اختاروا ديناً جديداً سموه الديانة الطبيعية.. كذلك يريدون أن يضعوا لساناً عالمياً، فوضعوا ما سموه "الأسبانتو"... فلو نظرنا إلى الديانة الطبيعية التي قالوا بها نجدها قريبة الشبه بالإسلام.. لكنها ليس فيها الدقة ولا الحكمة الموجودة في الإسلام.. فهم يريدون ديانة تتفق مع الطبيعة وما يقولونه عن الطبيعة هو ما قيل عن الإسلام "دين الفطرة" الدين الذي يتفق مع عقل الإنسان وإحساسه، كذلك هم يطالبون بلسان الاسبرانتو أو اللسان العالمي.. والإسلام أيضاً معه اللسان العالمي.. فاللغة العربية – نحن بانزوائنا جعلناها اللغة السادسة بين لغات العالم... هذه كارثة – مع أن اللغة العربية لا أقولها بأنها الأولى فقط... ولكن لا ينبغي أن توضع من اللغات في مقارنة فهي أعلى.. ولا نقول هذا الكلام جزافاً، ولكن نقوله من الواقع الحي.. فإذا جئنا بأكبر قاموس لغة من اللغات ولتكن اللغة الإنجليزية لأنها أوسع اللغات.. ثم حذفنا مفردات الحضارة منه ثم أبقينا الجزء الباقي بعيداً عن ألفاظ الحضارة المستحدثة مثل "راديو.. تلفزيون" وأتينا بلسان العرب بأجزائه العشرين فإننا نجد ما يتبقى من اللغة الإنجليزية لا يعادل نصف مجلد من مجلدات لسان العرب.. إذاً فهي لغة واسعة لها أدبها، ولغة لها كيانها.. ولها مفرداتها الثرية الغنية واشتقاقاتها.
القرآن.. والتطور:
فالمسلمون عندهم الكثير من العلم والكثير من الحضارة.. ولكن كل هذا ضاع.. في الوقت الذي نجد فيه المكتبة الإسلامية مليئة نجد المسلمين يتسولون فتات موائد الآخرين.
كل هذه الأمور لابد أن توضع على الموائد أمام الذين يجتمعون ليدرسوا مرور أربعة عشر قرناً من الزمان على نزول القرآن الكريم.(59/75)
القرآن هو المعجزة الخالدة.. والأمة الإسلامية تسير في اتجاهات باسم التطور الحديث.. فهل عجز القرآن عن مسايرة الأحداث والقوانين المعاصرة في الوضع الاجتماعي والسياسي والمالي؟
للقرآن الكريم موقفه من التطور، وللتطور موقفه من القرآن.. فالقرآن يرحب بالتطور.. ولكن أن يخضع له.. فلا.. لأن ما نسميه تطوراً قد يكون في بعض الأحيان تهوراً، وليس بتطور.. وما نسميه مدنية قد يكون همجية.. وما نسميه بالتحرر قد يكون تحللاً.. من الذي يحدد الفرق بين ما هو تطور وما هو تهور؟ وما هي تجديد، وهو في الحقيقة تبديد.. وما هو تحرر وما هو تحلل؟ هل الحرية هي أن تفسق.. أن تشرب الخمر؟ أن تجعل من المرأة قطعة ديكور؟ أن تشارك المرأة في تجميل شوارع المدينة؟ إن هذا ليس تحرراً وإنما هو تحلل.. من الذي يسمي الأشياء بأسمائها؟ إنه القرآن الكريم.. فإذا أخضعنا القرآن للتطور فمعناه أن يفرض التطور تهوره على القرآن.. فيقول له: إن خروج المرأة نصف بغي ونصف عارية هذا تحرر.. لو أخضعنا القرآن لهذا فمعناه عكس للأوضاع.. فالقرآن هو المسيطر على الفكر والمسيطر على سلوك الإنسان.. أما أن يكون الإنسان هو المسيطر على كلام الله فقد انعكس الموضوع وعاد القرآن لا شيء.. ويعود الإنسان مرة ثانية ليفكر لنفسه.. والله تعالى قد وفر على الإنسان جهوداً مضنية، ما كان ليستطيع أن يصل إلى القرآن، فالله وفر عليه ليحميه من المتاعب الفكرية.. فالبشرية مثلاً في مجال الشيوعية.. ماركس وضع نظرية.. لا أقل إنه أول من وضعها وإنما هو واحد في حلقة طويلة من الذين وضعوا الشيوعية.. وأن تاريخ الشيوعية أقدم من ماركس بمئات السنين.. فلنقل أن ماركس وضع نظرية.. هل ماركس نفسه مقتنع بالنظرية.. إن النظرية نفسها تحمل عوامل سقوطها.. لأن ماركس الذي يقول بالتطور وبالصراع المستمر سألوه.. وماذا بعد الشيوعية؟ أجاب مزيد من الشيوعية.. معنى هذه الإجابة أنه هو شخصياً غير مقتنع بأن نظريته(59/76)
صالحة للتطور، وإلا لكان المبدأ الذي بنى عليه النظرية وهو الصراع يستمر.. ويكنه يرى أن هذا المبدأ ينتهي.
نجد أن الشيوعية تحمل تناقضات، تقول إنه إذا ظهر طغيان رأس المال قامت حركة البلوريتاريا، وحدث الصراع بين طغيان رأس المال وبينهم.. مع أننا نجد مجتمعات طافحة بالمال، ومع ذلك لم يحدث فيها صدام.. كالمجتمع الأمريكي مثلاً، ثم قامت الاشتراكيات بعضها يعدل البعض.. هذه اشتراكية "فابية" وهذه اشتراكية إصلاحية.. كل هذه النظريات تتصارع.. القرآن الكريم وفر على الإنسان كل هذه المتاعب ووضع حلوله لكل المشكلات.
نعود إلى الجزء الخاص بالتشريع والسياسة والاقتصاد.. نقول إن القرآن الكريم حكم العالم في فترة طويلة وأنه قدر أن يضع للعالم تشريعات منصفة عادلة لم ير العالم مثلها، وأنه ونضع نظماً سياسية وإدارية لم يشهد لها العالم مثيلاً.. كل ذلك معروف لمن يدرس الحضارة الإسلامية.. والقرآن ليس معجزاً في لفظه فقط وإنما هو معجز في تشريعه أيضاً وفي سياسته وفي أسلوبه التنظيمي وأسلوبه الاقتصادي.. فهو معجز في كافة النواحي التي عرضها وتطرق إليها.. فالله عندما أنزل القرآن للإنسان لم ينزله من أجل أن يرضى عقل الإنسان، أو يرضي مشاعره وإحساساته فقط.. أو يرضيه في أسرته أو مجتمعاته فقط.. فهو ليس ديناً فردياً كالوجودية.. وليس ديناً يلغي الفرد كالشيوعية.. إنما راعى الإنسان في نفسه ومشاعره ووجدانه، وراعاه في أسرته ومجتمعه.. وضع نظاماً يكفي لهذا كله.. إننا لو درسنا الخط الحضاري في منطقة الشرق.. ودرسنا الخط الحضاري في منطقة الغرب لوجدنا أن الكل في المنطقتين ترك الأديان ثم أخذ يتصرف عشوائياً.
تركنا القرآن.. فضعنا :(59/77)
لكننا لو نظرنا إلى الماضي.. حينما كان الشرق متمسكاً بدينه والغرب متمسكاً بدينه، فإننا نجد أن منطقة الشرق الإسلامي حينما كانت متمسكة بدينها كانت هي صاحبة السيادة والتفوق الحضاري والعمراني الذي لا نظير له.. مما جعل ملك إنجلترا "جورج" يرسل خطاباً إلى هشام ملك الأندلس يقول له: "إنني أرسل بعثة من رجال البلاط والأشراف وبينهم ابنة أخي الأميرة "دوبانت" ليتعلموا العلم في مدارسكم ويعودوا إلينا فينشروا النور في بلادنا التي عمها الظلام من كل الجوانب".
ونرجع إلى منطقة الغرب لما كانت متمسكة بدينها كانت متخلفة جداً، وتاريخ أوروبا في القرون الوسطى يندى له الجبين.. محاكم تفتيش.. قتل للمفكرين.. إذاً فالمعادلة متعاكسة.. فلما ارتد الاثنان عن دينهم حدث العكس.. فالمسلمون تخلفوا.. وأوروبا تقدمت معنى هذا أن الدين الإسلامي يعطي حضارة.. والتمسك بغيره والردة عنه يعطي التخلف.. والردة عن غير الإسلام تعطي التقدم.
خاض القرآن الكريم معارك بعضها جدلي وبعضها حربي.. وخرج من هذه المعارك كلها منتصراً مع احتفاظه بنصه وروحه.. فلم تمسه يد التحريف.. فهل تشرح للقارئ جانباً من صمود القرآن ؟(59/78)
هذه المعجزة أيضاً من معجزات القرآن الكريم، فالمعارك التي دارت حول القرآن الكريم لم تدر حول كتاب على الإطلاق.. في الوقت الذي تنزل فيه كل آية من آياته كان الصراع دائراً ومستمراً.. معارك كلامية وجدلية، ووفود تأتي للنقاش، وأفراد يناقشون النبي، ويناقشون المسلمين.. في الوقت نفسه كانت دور معارك حربية أيضاً مع الأعداء التقليديين.. الصليبية العالمية والصهيونية العالمية والشيوعية العالمية أو الوثنية العالمية بأي صورة من صورها.. تدور مناقشة في شتى المجالات ففي سورة آل عمران مثلاً.. عندما جاء وفد نصارى نجران إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ليناقشه في حقيقة المسيح وحقيقة القرآن الكريم.. واستمر النقاش إلى ذروته.. ونزل قول الله تعالى: { فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ } [آل عمران: 61].
والمباهلة هي أن يقف الفريقان ثم يبتهلان إلى الله أن يلعن الكاذب منهما إلى آخر ما جرى.. فامتنع النصارى عن المباهلة.. وقالوا: لو كان نبياً فباهلناه لن نفلح ولن يفلح أولادنا من بعدها.. والرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: ”والله لو باهلوني لأحجج الله عليهم الوادي ناراً“.(59/79)
ونفس المواجهة حصلت مع اليهود.. والله سبحانه وتعالى يواجه اليهود بادعائهم المعروف وهو أن لهم الدار الآخرة، وأن الناس لن يدخلوا الجنة.. فالله يقول: { قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآَخِرَةُ عِندَ اللَّهِ خَالِصَةً مِّن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُاْ الْمَوْتَ } [البقرة: 94].. والرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: والله لو تمنوا الموت لماتوا جميعاً، ولكنهم حريصون على الحياة كما قال الله تعالى في بقية الآيات: { وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمينَ، وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ } [البقرة: 95، 96].
القرآن فوق الصراعات :
هذا بالنسبة للجدل الكلامي، أما بالنسبة للمعارك العسكرية فلقد خاض الرسول - صلى الله عليه وسلم - معاركاً كثيرة تحدث القرآن عنها.
فمثلاً سورة الأنفال تعرض غزوة بدر، سورة آل عمران تعرض غزوة أحد، سورة الأحزاب تعرض غزوة الأحزاب "الخندق"، وغزوة بني قريظة.. نجد أن كثيراً من الغزوات مذكورة في القرآن الكريم وهناك الكثير من السرايا.
القرآن الكريم يخوض هذه المعارك سواء أكانت معارك كلامية أو عسكرية وسواء سجلها القرآن أم لم يسجلها.. المهم أنه كان يمر في خضم هائل من المناقشات والمعارك.. ومع ذلك فإن القرآن الكريم ظل منتصراً ولم ينهزم أبداً.. كذلك الجنود الذين يدخلون المعارك في ظلال القرآن ينتصرون، أما إذا ابتعدوا خطوة واحدة فإنهم ينهزمون.(59/80)
القرآن انتصر في معاركه كلها، وأعظم انتصار حققه القرآن الانتصار في النص، فالنص الذي كان يتلوه الرسول - صلى الله عليه وسلم - هو النص الذي كان يتلوه الصحابة، هو النص الذي نقرأه، لا المعارك أثرت فيه يحذف حرف واحد ولا بزيادة حرف واحد.. وإنما ظل هكذا.. وأيضاً المعارك الداخلية فلقد كان بين المسلمين أنفسهم معارك.. وقامت فرق إسلامية ومذاهب بعضها سياسي وبعضها ديني وبعضها لأغراض شخصية، هذه المذاهب كانت تستبيح لأنفسها أحياناً أن تكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لكن لم يستطع واحد من المتصارعين في هذه الفرق أن يضع آية في القرآن الكريم أو أن يحذف أو يضيف حرفاً.. وهذا علامة على حفظ الله للقرآن كما قال تعالى: { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } [الحجر: 9]، { لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ، إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ، فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ، ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ } [القيامة: 16، 19]. فالله سبحانه وتعالى وعد بالنسبة للقرآن بعدة وعود.. وهي جمع القرآن لأنه كان ينزل منجماً.. وقرآنه وهو أسلوب قراءة القرآن.. كذلك بيان القرآن.. ومن قبل ومن بعد حفظ القرآن من التحريف.
ترجموا معاني القرآن:
هناك شبهات يثيرها أعداء الإسلام حول القرآن فما هي هذه الشبهات؟ وكيف ندافع عنها؟(59/81)
الشبهات أو النحل الفاسدة التي يثيرها أعداء الإسلام، شبهات مضحكة.. فهم مثلاً يشيعون أو يقولون بأن القرآن انتشر بالسيف ويقولون أن القرآن أباح تعدد الزوجات، وأن القرآن أباح الطلاق، وأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - عدد زوجاته.. وأن القرآن أباح الرق.. إن هذه القضايا التي أثيرت وتثار هي قضايا لا أساس لها.. وهي معقولة ومفهومة حتى لدى الذين يثيرونها.. فالذين يتكلمون عن تعدد الزوجات هم يعددون الخليلات ويعددون الزوجات ويقولون إن أنبياءهم عددوا الزوجات بمائة وأكثر من مائة.. فعندهم داود تزوج مائة، وسيلمان تزوج مئات.. والذي أريد أن أقوله شيء هام.. هو هل على الدعاة المسلمين أن يفترضوا أن القرآن موضوع في قفص الاتهام وأنهم هم المدافعون عنه؟ لا أبداً.. إن القرآن قادر على الدفاع عن نفسه في كل القضايا التي تثار حوله.
القرآن يدافع عن نفسه، ومهمة الدعاة هي إن يقرأوه على الناس، أن تترجموا معانيه إلى لغات العالم.. وأن يغزوا به العالم، وإن كان هناك ضيق يد في الدول الإسلامية فإن شبابنا المسلم الذي يسافر إلى الخارج يجب أن يحمل معه القرآن وتعاليمه.. وينفذ شعائر الإسلام.. إن مجرد سماع الناس للقرآن فإنه سيؤثر فيهم وسيهز مشاعرهم.. فلقد كان المشركون يوصون أصحابهم فقط بعدم سماع القرآن.
كلمة التوحيد .. وتوحيد الكلمة :
ما هي العقبات التي تقوم في طريق المسيرة الإسلامية.. وكيف يمكننا التغلب عليها؟(59/82)
هناك عقبات كثيرة.. بعضها خارجية وبعضها داخلية.. والعقبات الداخلية أهم من الخارجية لأن العقبات الخارجية مهما قويت لن تكون أقوى منها في أيام نزول القرآن.. لأن القرآن نزل على رجل يعاديه حتى أقرب أقربائه – عمه – كذلك فهو في بيئة محاطة، ومع ذلك استطاع أن يخرج من هذه العزلة في الأهل والحصار الاقتصادي ومع ذلك خرج منتصراً، ولقد أوتي الرسول - صلى الله عليه وسلم - هذا الفتح.. وفي حياته حقق فتح الجزيرة العربية كلها، وبعد وفاته وفي خلال خمسين عاماً كانت الدنيا قد فتحت على المسلمين شرقاً وغرباً.. المسلمون كانوا يفهمون الإسلام حقاً.. لم يكونوا فرقاً وشيعاً وأحزاباً.. ولم يكونوا مما يعادي بعضها بعضاً، وإنما كانوا أمة واحدة.. ولكن المسلمين أصبحوا اليوم فرقاً وشيعاً.. وينبغي أن نتذكر أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - عندما دخل المدينة كان أول شيء فعله بناء المسجد للوحدة ثم قيام الإخوة للوحدة.. فلو تمسك المسلمون بمبدأين هما توحيد الكلمة وكلمة التوحيد لتغير حالهم عما هم عليه.. وأصبحوا بحق خير أمة أخرجت للناس.. وهناك أمر هام هو أن يعود المسلمون بأفكارهم إلى القرآن الكريم وألا يبتعدوا عنه.. فالذي حدث هو أن المسلمين أخذوا يتسولون أفكاراً ونظماً.. فعيب علينا وبيننا القرآن أن نأتي بأفكار مستوردة من عند الوثنيين وعباد البقر والشيوعية الحمراء وغيرها من القوانين الموضوعة.
مطلوب دعاة على مستوى الدعوة :
تصل إلى الآذان كثير من الدعوات نحو تطوير سبل الدعوة والإرشاد.. فما رأيك في أفضل السبل ؟(59/83)
الإسلام دين عرف كيف يستغل أساليب الإعلام.. وليس هناك على الإطلاق مبدأ أو دين صنع ما صنعه الإسلام.. في وقت لم يكن الإعلام معروفاً ولا العلاقات العامة معروفة، ومع ذلك وجدنا أ، الإسلام دين إعلامي من طراز لا يعرفه البشر.. ويكفي في الصلوات الخمس إذ يقف المؤذن فيبلغ مبادئ الإسلام في جمل مختصرة.. والمسجد مكان للتجمع خمس مرات في اليوم مع إمام واحد وصف واحد.. وخطبة الجمعة وصلاة العيدين.. يخرج الناس إليها صغيرهم وكبيرهم.. نساؤهم ورجالهم.. هذه كلها أساليب إعلامية قوية بدأ بها الإسلام.. فالداعية المسلم علمه الله كيف يستغل الأساليب الإعلامية المتاحة.. واليوم هناك أساليب إعلامية حديثة.. كالجريدة.. والإذاعة والتليفزيون.. يمكن تسخيرها للدعوة إلى الإسلام.. والرحلات والمؤتمرات، والسفر والهجرة، ولقاءات الشباب.. كل هذه الأساليب ينبغي أن تستغل.. يؤسفني جداً أن أقول أن الإعلام الإسلامي متخلف.. فمثلاً حينما تقرأ المقال الإسلامي تجده قد أخرج إخراجاً رديئاً.. وكذلك إخراج الكتاب الإسلامي بطريقة يسأمها الكثير فلماذا لا نستغل أرقى أساليب الطباعة.. وأرقى أساليب العرض.(59/84)
وعلينا أن ندرك أن الدعوة إلى الإسلام ليست خطباً فقط.. فالخطب والمحاضرات قد تكون أحياناً مملة.. ثم إنها لمن؟ يذهب الخطيب إلى المسجد ليدعو الناس إلى الصلاة.. والذين يذهبون إلى المسجد إنما جاءوا ليصلوا ولكن المشكلة هي أن توجه الدعوة للذين يذهبون إلى المنتزهات والمقاهي والسينمات والملاهي بأن يتوجهوا للصلاة.. ولكن كيف أوصل ندائي إلى هؤلاء الناس.. يجب أن أستغل كل الطاقات من أول الجريدة وحتى الملصقات على الحوائط.. وهذه الملصقات تدعو إلى العبادة.. ولابد أن تصمم بأسلوب مثير.. والداعية حين يوجه نداءه يجب أن يعرف أنه لا ينادي المثقفين فقط.. وإنما الأميين وأنصاف المتعلمين أيضاً.. والخطيب عندما يقف في المسجد عليه أن يدرك أن أمامه مثقفين لابد أن يستفيدوا، وأميين لابد أن يستفيدوا.. وعليه أن يجمع بين الاثنين.
وعلى الداعية أن يختار الموضوع بحيث يكون قادراً على حل المشاكل اليومية للمتسمع.. كذلك المناقشة يجب أن تكون مفتوحة فربما كان المستمع يستمع إلى خطبة ولكنه غير موافق على هذا الكلام.. وليس من الضروري أن تكون على رؤوس الأشهاد فمن الممكن أن تكون مناقشات فردية.. ولتستمر المناقشة أسبوعاً.. شهراً.. تتبادل خلالها الكتب والمعلومات حتى يستطيع أن يقنعه لأنه ربما يكون فكره مشوشاً.
الذين يفترون على الله ورسوله :
أعرف رأيك في الصوفية والصوفيين، لكن ما هو تأثيرهم في الإسلام؟
الصوفيون لا تأثير لهم ولا وزن لهم في الإسلام، أو على الإسلام. لكن خطرهم الداهم.. هو على المسلمين.. أنهم يستغلون جهل البعض وبكل أسف.. وأقولها، وأنا حزين القلب والنفس.. أن أكثرية المسلمين هم الجهلة، مع أن العلم والتعليم جزء من الدين لا يتجزأ.. والرسول عليه الصلاة والسلام ما ترك فرصة إلا حض فيها على التعليم.. وقَبِلَ أن يكون فداء الأسير أن يعلم عشرة من أبناء المسلمين.. في أول غزوة.(59/85)
ثم أعود فأقول: "هؤلاء الذين يدعون الإسلام، ويحسبهم الناس على المسلمين، ويدعون أنهم من المتصوفين، وتأخذهم العزة بالإثم.. فيفترون على الله. ويقولون: إن الإسلام هو التصوف، وأن التصوف هو الإسلام، وإذا كان الإسلام هو التصوف.. فلماذا سمانا الله بالمسلمين، ولم يقل رسول الله أبداً، ولا روى صحابته أنه قال تصوفوا.. ولم يقلها أحد من صحابته، ولا أحد من التابعين.. إن هي إلا بقايا من الأديان البائدة، والباقية.. بعضها مجوسي، وبعضها بوذي، وبعضها وثني، وبعضها مسيحي أو يهودي.. تسلل بها حاملوها إلى قلوب المسلمين ليضربوا العقيدة في قلبها، وفي أصلها.. في العمود الذي يقوم عليه التوحيد".
فأول خطوات الصوفية.. أن تسلم أمرك إلى غير الله.. أن تعطي كل قلبك للشيخ.. وهذه هي البداية.. فإذا نجحوا في ذلك أسلم المريد إلى بقية الخرافات.. حتى يشرك دون أن يدري.. وأي شرك بعد أن يقول الصوفي: أن كون الله في أيدي بعض الأقطاب.. وهم من البشر الموتى.. كالسيد البدوي، والدسوقي، وغرهما.. يفعلون به ما يريدون، والغريب أنهم يلفقون هذه السماء، ولا يقربون الأنبياء.. مع أن الأنبياء صفوة مختارة كرمهم الله بالاصطفاء.. لأن "الولي" الصوفي عندهم أكبر من أي نبي ويكفي أن تعرف أنهم يزهون بأنهم لا يعملون بما تركه لنا النبي - صلى الله عليه وسلم - ويعملون بما يقول به شيوخهم.. لأنهم يعتقدون أنهم يأخذون علمهم من الله الحي، وإنما بقية المسلمين يأخذون العلم عن أموات..
ألم يخدموا الإسلام في فترات معينة ويدافعوا عنه:(59/86)
هذه فرية من مفترياتهم، وتلفيقة من تلفيقاتهم.. التي نشروها في الأدب الشعبي.. من أن السيد البدوي جاء بالأسرى وكيف يجيء أو يحارب وهو يسير على خط "ابن عربي" الذي يقول: إن الله إذا سلط ظالماً على قوم فلا يجب أن يقاوموه لأنه عقاب لهم من الله.. ومن قال إن هؤلاء الذين يعيشون بصفة دائمة في شبه غيبوبة عقلية يصلحون للحرب أو التدبير أو القتال؟.. إنهم يعيشون على فلسفة البلادة، وتخلف الفهم، وبطء الحركة.. فكيف يصارعون أو يحاربون؟
إذا كان بعضهم يعتبر السعي على الرزق.. عدم ثقة في أن الله قادر على أن يرزقه، وينام في بيته أو ضريحه إلى أن يأتيه أتباعه بالطعام والشراب، فكيف يصدق أن هؤلاء كانوا رجال حرب وطعان؟
إن مثل هؤلاء المتصوفة كمثل الدبة التي قتلت صاحبها بالحجر لأن الذبابة وقفت على وجهه وهو نائم.. فلكي تطرد الذبابة قذفت وجه صاحبها بحجر كبير فهشمته وقضت عليه.. ومع ذلك فالدبة خير منهم لأنها فعلت ما فعلته بحسن نية، ولأنها حيوان لا عقل له.. أما هؤلاء فيلغون عقولهم وعقول أتباعهم بقصد الانتفاع من غفلة الناس.
لكنهم يدعون أنهم "انجذبوا" في حب الله ورسوله.. فما قولكم؟
الإسلام من شروطه أن يحب المسلم الله ورسوله.. ولكن أي حب؟ الحب الذي يجعل المسلم يخشى عصيان الله ورسوله، فينتهي عما نهاه الله عنه، ويحرص على هذا الحب فينفذ ما أمر الله به أن ينفذ.. أما أن يتنطع فيقول: أنه يعشق الله، ويعشق الرسول، وأنه عبد ذليل أمام أهل البيت، والعبودية لله وحده، ولا ذلة إلا له.. وكلمة "عشق" كلمة فاحشة.. لا يجب أن تكون بين العبد وربه.. ثم من قال: إن حب المسلم لرسول الله تجعله يفتري عليه.. إن أحدهم يقول إنه ذهب يزور قبر رسول الله.. وأمام القبر قال: ها أنذا جئت يا رسول الله لأسلم عليك فمد رسول الله يده من قبره وسلم عليه!!(59/87)
هل هذا حب؟ وهل هذا أدب؟ هل هذا كلام يستقر في العقل أو القلب.. إنه جنون.. أو أحلام يقظة.. أو كذب، وكل ذلك لا دخل له بالإسلام.. دين السماحة، والبساطة، والاعتداء..
وفي النهاية لا يسع مجلة "العقيدة العمانية" إلا أن تشكر للدكتور استجابته وسعة صدره.
الجولة الثامنة
عقبات على الطريق
الأزهر مطالب بإجراء تغيير جذري في أسلوب عمله!!
صناديق النذور.. وتجار الأضرحة.. والشريعة!!
التقريب بين المذاهب.. دعوة مشبوهة!!
هذا الحديث الطويل.. كان قد أدلى به الدكتور محمد جميل غازي لـ"جريدة التعاون" أيضاً، وقد تحدث فيه عن عشرات النواحي التي تتعلق بالإسلام، وتهم المسلمين، ولما كان يحتوي أيضاً على تفنيد، وفحص، وتمحيص لادعاءات الصوفية.. وكشف اللثام عن سر تغلغلها في الريف، وتتضمن إجاباته الرد على كثير من الأسئلة التي تطوف برؤوس المسلمين.. لذلك فإننا نورد منه هنا بعض ما يفيد القراء، وما يتفق والهدف من نشر هذا الكتاب.
وحول ما يسود الريف المصري من خرافات وأساطير يقول فضيلة الدكتور جميل غازي:
"الريف المصري يقع فريسة للمتسولين الدنيئين، الذين يبيعون القرآن على المقابر، وفي البيوت، نظير دراهم معدودة، أو أرغفة غير معدودات.. كما يقع الريف المصري أيضاً فريسة للسحرة والدجالين، الذين يتاجرون بالسحر والجان والأحجية والتمائم، ويخدعون البسطاء بخرافات وأكاذيب، ليست من الإسلام في شيء وليس الإسلام منها في شيء، وإنما هي أوهام أشاعها تجار الخرافة الذي يثرون على حسابها.. وما أكثر تجار الخرافة في قرانا، وما أسوأ استغلالهم لمشاكل الفلاح المصري وأزماته".(59/88)
وقد كنا نظن أننا نعيش في عصر العلم والتكنولوجيا والأقمار الصناعية.. وكنا نظن أن هذا العصر قادر على مكافحة هذا السيل الجارف من التأخر والانحطاط.. ولكن يبدو أننا نعيش بمنأى عن العصر، وأسلوب العصر، أو يبدو أن العصر نفسه مصاب بالمرض النفسي المعروف (انفصام الشخصية!) ففي الوقت الذي نجد فيه الحضارة المادية تعم وتسود، نجد التخلف الروحي يشتد ويتزايد!! المادة تتقدم، والإنسان يتأخر، وتلك هي قمة المأساة!
مطلوب تطهير القرية المصرية من تجار الخرافة :
ويستطرد فضيلته قائلاً: وإذا كان تجار الخرافة في قرانا يتمسحون في الإسلام، ويتسللون إلى نفسية البسطاء خلف أقنعة التدين الكاذب، فإني أقول لكم: إن الإسلام بريء منهم، ومما يدعون فلا تظلموا الإسلام، ولا تحملوه هذه الأعباء التي تتناقض مع طبيعته لأنه دين الفطرة، والعقل، والعلم، والتقدم، والحضارة.
أما هذه الشعوذات والخرافات فاستمعوا معي إلى حكم الإسلام فيها.. يقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ”من أتى كاهناً أو عرافاً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد - صلى الله عليه وسلم -“.
معظم مساجد القرية خلت من الأئمة المؤهلين :
ويعلق الدكتور جميل غازي على هذه الظاهرة الوثنية التي تسود الريف المصري قائلاً:(59/89)
"لا شك أن انتشار الوهم والخرافة في الريف جاء نتيجة طبيعية لغياب الوعي الديني بين سكانه، واختفاء الدعاة الأكفاء.. إن مساجد القرية خلت في معظمها من الأئمة المؤهلين، وأصبحت حكراً على الجهلة وأنصاف الأميين، وانتشرت فيها ظاهرة الخطب المنبرية المنقولة من الأوراق الصفراء البالية، والتي حولت كثيراً من خطباء القرى إلى ببغاوات يرددون خطباً محفوظة، منحدرة من عصور الجهل والتخلف، وموزعة على أسابيع السنة لكل أسبوع خطبة لا تتغير ولا تتبدل، وفيها ما فيها من خطأ وخلط وسجع مبتذل، وأحاديث مكذوبة، وأفكار ساذجة بلهاء، مما أشاع في أوساط أهل الريف، التواكل والأمية والسلبية.
ولا ترى القرية المصرية النور إلا حينما يزورها واعظ المركز.. وحتى واعظ المركز شعاره حينما يخطب أو يعظ: "ليس في الإمكان أبدع مما كان، ودعوا الناس وما يدينون!!".
الصوفية شوهت جلال الإسلام:
وهكذا خلت ساحة العمل الديني للمرتزقة والدجالين، الذين شغفوا بالخرافة، وشوهوا جلال الإسلام.. وعلى القمة أمسكت الصوفية بزمام الدعوة، وراحت توزع صكوك الغفران، وتتنافس على صناديق النذور، وتقاسم الفلاح المسكين رزقه، وزرعه حتى قبل أن ينضج.
قلت للدكتور جميل غازي.. نحن لا شك نتفق معكم في تشخيص الأزمة الفكرية والدينية التي تعانيها القرية.. ولكن كيف يمكن تحرير الريف المصري من الخرافة؟ وكيف يمكن الارتفاع بمستوى الوعي الديني للفلاح؟
يجيب فضيلته قائلاً: لا سبيل إلى مواجهة هذا التخلف الفكري والديني، إلا بإعداد نوعية جديدة من الدعاة الأكفاء المؤهلين الذين يتفهمون الدعوة كرسالة وجهاد في سبيل الله، لا كمهنة أو مجال للارتزاق.
إن كثيراًَ من الدعاة والوعاظ في هذا الجيل، وبعض أجيال أخرى سبقتهم المسؤولون عن هذه المحنة التي تتعرض لها الدعوة الإسلامية، وعن تلك الأمية الدينية السائدة لا في الريف فقط، ولكن في المدينة أيضاً، وإن اختلفت مظاهرها.
ثم يستطرد فضيلته قائلاً:(59/90)
إن الدعوة إلى الله تمارس الآن كحرفة أو كوظيفة، كما يستهدف الكثير من الدعاة إرضاء الناس، لا إرضاء الله.. وكان هذا هو السبب المباشر في ترويج الخرافة، وإشاعة الأساطير، بحجة أنهم لا يريدون مهاجمة عقائد العامة.. وتلك هي الكارثة.. فإن الداعية معلم، والمعلم مهمته محو الأمية والجهل، لا مهادنة الأمية والجهل.. وكذلك الداعية عليه أن يحارب الخرافة مهما أخذت زخرفها وازينت، ومهما كانت شرسة ومتحكمة في عقول الجماهير.. تلك هي مهمته.. وهي مهمة شاقة في حاجة إلى رجال قادرين على المواجهة، لا على المداورة.. قادرين على المصارحة لا على هدهدة العواطف.. قادرين على الجهاد لا على المساومة.
وقبل أن يتم إعداد مثل هؤلاء الرجال، فلا مجال للحديث عن أي دعوة للإصلاح الديني أو الفكري، سواء أكان ذلك في الريف أو المدينة وستبقى الخرافة دائماً هي المهيمنة على رؤوس العامة تحدد حركتهم وتشكل سلوكهم.
الأزهر مطالب بإجراء تغيير جذري في أسلوب عمله:
كيف يمكن إعداد هذه النوعيات من الدعاة؟.. وهما هو دور الأزهر وما هي مدى مسؤولياته؟
آسف إذا قلت إن نظم التعليم بالأزهر لا تصلح لإعداد النوعيات المطلوبة من رواد الدعوة.. وآسف أيضاً إذا قلت أن هذه النظم هي المسؤولة عن ضعف مستوى الكثيرين من قيادات الدعوة الإسلامية.. لماذا؟ لأن المنهج والأسلوب الذي يمارسه الأزهر في إعداد الدعاة يبعد إلى حد كبير عن الفكر الإسلامي المستنير، ويتعارض مع بساطة الإسلام ووضوحه!
إنك لو فحصت المناهج والمقررات التي يدرسها طلبة المعاهد والكليات الأزهرية، فلسوف تجد عجباً!! مواد جافة معقدة، تتألف من متون وشروح وحواش وتقريرات وهوامش، كتبت بعبارات شبيهة بالألغاز والطلاسم والأحاجي التي تتنافى مع بلاغة وبساطة القرآن العظيم.. وفق ذلك فإن هناك اهتماماً مثيراً بدراسة الأساطير والخرافات التي يسمونها كرامات الأولياء، والتي ساهمت بنصيب وافر في إشاعة الوهم والاستسلام.(59/91)
لذلك فإن الأزهر مطالب أولاً بإجراء تغيير جذري في أسلوب عمله، ومطالب أيضاً بإجراء مراجعة شاملة لبرامجه وعلومه وكتبه، بحيث تستبعد منها فوراً تلك الدراسات والمقررات التي تتعارض مع الأفكار الإسلامية، وتتصادم مع العقل والفطرة.
علم الكلام:
ويضرب الدكتور جميل غازي مثلاً بواحد من أهم العلوم، التي يدرسونها بالأزهر، وهو علم الكلام الذي يطلقون عليه علم التوحيد أو علم الإلهيات، والذي قامت على أساسه كليمة جامعية هي كلية أصول الدين، التي تدرس علم الكلام والفلسفة ثم التصوف أخيراً.
ويقول: إن هذا العلم الذي يعطونه مثل هذه الأهمية، قد نهى عن تعليمه وتعلمه جميع علماء السلف، وجمهور أئمة المسلمين.. ويقول فيه الإمام الشافعي رحمه الله: "حكمي في أصحاب الكلام، أن يضربوا بالجريد والنعال، ويطاف بهم في القبائل والعشائر، ويقال: هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة وأخذ بعلم الكلام".
ألغاز وطلاسم:
ثم يضيف فضيلته قائلاً: وإذا كان أولئك المفتونون بعلم الكلام، يقولون في الدفاع عن أهميته، أنه ضرورة لابد منها للرد على الشبهات، التي ظهرت في العصر الحديث فإني أقول لهم: إن هذه الشبهات التي يحدثون عنها ظهرت منذ أن نزل القرآن الكريم على الدهريين واليهود والنصارى المتأثرين بالفلسفة اليونانية، وتولى القرآن نفسه الرد على جميع هذه الشبهات، دون ما حاجة إلى اصطناع هذه المجادلات البيزنطية وفضلاً عن ذلك.. فإن هذه الشبهات التي يتطرق إليها علم الكلام قد أكل الدهر عليها وشرب، وليس لها أي أثر مما يجعل تدريس علم الكلام ضرباً من الخبل، وجناية على الدارسين.. فهو – للحق والأمانة – علم يخلو من العاطفة والروح، وهو أقرب إلى المعادلات الجبرية منه إلى التوحيد الذي ينبغي أن يكون مفعماً بالحب، والتأمل، والعبادة الروحية.(59/92)
ثم يعقب فضيلته متسائلاً: أين مثل ألغاز وطلاسم علم الكلام السخيفة المعقدة، من قول الله تعالى: { إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ، الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ } [آل عمران: 190، 191].
حشو وغموض وسفسطة:
مثل آخر يضربه الدكتور جميل غازي، ويستشهد به على فساد بعض المقررات الأزهرية في التربية أو في بحث عقيدة التوحيد.
يقول: إن قمة الكتب التي تدرس العقائد في الأزهر هو كتاب العقائد النسفية.. وهوكتاب ملئ بألغاز وسفسطة لا تنتهي، ويلف ويدور حول عبارات غير مفهومة.. ولا صالحة على الإطلاق في أن تكون مفهومة.. كقولهم مثلاً: "وحقيقة الشيء ما به الشيء هو هو".
ويتساءل جميل غازي ساخراً: هل مثل هذه الدراسة المليئة بالحشو والغموض والتعقيدات يمكن أن تقود إلى المعرفة بالله؟
هل كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه وهو سيد أولياء هذه الأمة بعد نبيها، هل كان يؤمن بالله على نحو ما جاء في العقائد النسفية؟
حاشا لله.. فإن عقيدة أبي بكر رضي الله عنه كانت عقيدة القرآن، وهي عقيدة فطرية حضارية واضحة.. أما هذه العقائد النسفية وما شاكلها، فاسمح لي أن أحملها مسؤولية سقوط هذه الأمة، وتدهور عقيدتها.
ثم يعقب فضيلته قائلاً: كان هذا نموذجاً مما يدرسه طلبة الأزهر، المرشحون لقيادة الدعوة الإسلامية.. حشو وغموض وسفسطة.. فدلوني بربكم هل تصلح هذه الدراسات في إعداد الرواد القادرين على إقناع المسلمين وغيرهم بحقيقة المنهج الإسلامي ووضوحه؟ ألا يعد نظام التعليم بالأزهر هو نفسه المسؤول عن هذه المحنة التي تضع الدعوة الإسلامية في طريق مسدود؟!
لا طائفية ولا كهنوت في الإسلام:(59/93)
قلت: لاشك أننا نتفق معكم في أن الأزهر يتحمل قدراً من المسؤولية عن ضعف مستوى بعض الدعاة وعما أصاب الدعوة الإسلامية من ركود وجمود.. ولكننا نرى في نفس الوقت أنه من الظلم أن نحمل الأزهر وحده كل المسؤولية، إذ أن مسؤولية قيام الإسلام وانتشاره لا ينبغي أن تتحملها طائفة معينة أو جامعة بذاتها إنما هي مسؤولية المسلمين جميعاً بلا استثناء.
ويقاطعني الدكتور جميل غازي قائلاً: هذا صحيح تماماً.. فلا طائفية في الإسلام ولا كهنوت.. ولا ينبغي أن يكون التعليم الديني، وإعداد القيادات الإسلامية حكراً على الأزهر وحده.. بل ينبغي أن تشارك فيه جميع المؤسسات التعليمية في الدولة.
لذلك فإني أطالب بضرورة توحيد التعليم الديني والتعليم المدني في جميع المعاهد التعليمية والجامعات.
ثم يضيف قائلاً: إن الفصل بين التعليم الديني والتعليم المدني، كان ومازال هدفاً استعمارياً يستهدف عزل المسلمين عن دينهم.. فلقد أدرك المستعمرون أن قوة المسلمين إنما تقوم على تمسكهم بمبادئ عقائد الإسلام، وأنه لا سبيل إلى إضعاف المسلمين إلا بتجريدهم من دينهم.. لذلك فلقد كان حرصهم شديداً على تأكيد الفصل بين التعليم الديني والتعليم المدني.. وما أن تحقق لهم ذلك حتى بادروا إلى ضرب المنطقة الإسلامية بأخطر أسلحتهم، وهي الغزو الفكري، والعزل الفكري معاً.. وكان سبيلهم إلى ذلك نشر المدنية الزائفة، وتشجيع التدين الأعمى، والنحل الفاسدة.. مع إبعادنا في نفس الوقت عن التقدم العلمي الذي أحرزه الغرب في القرنين الأخيرين.
وكانت النتيجة.. إننا عزلنا عن الدين والدنيا معاً.. فلا الدين تفهمناه.. ولا التقدم العلمي أخذنا بأسبابه !!
سبق أن نادى الدكتور طه حسين بدعوة مماثلة عقب توحيد القضاء، فنادى بتوحيد التعليم الديني والمدني، فيما سماه بالخطوة الثانية فهل أنت معه في هذه الدعوة؟(59/94)
مع فارق كبير وهام.. فلقد طالب طه حسين بتوحيد التعليم الديني والمدني بحيث يصبح التعليم كله مدنياً!! أما أنا فأطالب بتوحيد التعليم الديني والمدني بحيث يصبح التعليم كله دينياً.
هل يعني اقتراحك هذا إلغاء رسالة الأزهر الشريف؟
بالعكس، فهو يوسع قاعدة نشر هذه الرسالة.. إذ أن توحيد التعليم المدني والديني سيساعد على أن تشارك جميع المعاهد التعليمية والجامعات في نشر الثقافة الإسلامية، بحيث تسهم جميعها في إعداد أجيال تربت على العقيدة الإسلامية، وتفهمت السنة، ودرست القرآن والحديث حفظاً.. وتفسيراً.. ومعايشة.
الدعاة المتحمسون:ويواصل الدكتور جميل غازي عرض اقتراحه فيقول: حتى إذا تخرج الطالب من الجامعة كانت أمامه فرص للدراسات العليا في الدعوة الإسلامية، والإعلام الإسلامي، والشريعة الإسلامية، يلتحق بها من يرى في نفسه القدرة والرغبة في المشاركة في قيادة الدعوة.. وبذلك يمكن إعداد النوعيات المطلوبة من رواد الدعوة الإسلامية، الذين يتحمسون لها عن رغبة وميل شخصي.. لا عن احتراف أو التزام منذ الصغر، كما هو حادث الآن.
ثم يعقب فضيلته قائلاً: هذا هو سبيلنا إلى بناء الإنسان المسلم فكرياً وعقائدياً وعلمياً.. وهذا هو طريقنا لتجاوز أسلوب الاحتراف.. وهذا هو المدخل الصحيح لتخريج الأئمة الصادقين أو الدعاة المتحمسين.. أولئك الذين يتخذون من الدعوة جهاداً في سبيل الله، ويملكون قوة التأثير بالكلمة الصادقة.. والقدوة الطيبة.. ويحققون رسالة المسجد في حيوية وفاعلية.
سيطرة البيروقراطية:
قلت: تضاءل الآن دور المسجد، وانكمشت رسالته حتى كاد أن يصبح مجرد مكان لأداء الشعائر.. فما هي أسباب ذلك؟.. وكيف يمكن في تصوركم العودة بالمسجد إلى دوره الطبيعي كمركز إشعاع في خدمة البيئة دينياً وفكرياً واجتماعياً؟(59/95)
يجيب فضيلته قائلاً: إن هناك أسباباً عديدة أسهمت في ركود وجمود المساجد وبصفة خاصة، تلك الخاضعة لوزارة الأوقاف من بينها – كما سبق أن أوضحنا – ضعف مستوى بعض الأئمة والخطباء وغياب القدوة الصالحة، وسيطرة البيروقراطية وطبقة الموظفين، حتى أصبحت المساجد الحكومية الآن أشبه بدواوين وزارة الأوقاف، تمارس فيها الشعائر الدينية كمجرد واجب روتيني جاف، خال من الروح والتأمل والعبادة!
أضف إلى ذلك ما تعرضت له المساجد خلال سنوات القهر السياسي من إهمال متعمد، وما لقيه بعض الأئمة من تنكيل وإرهاب، أدى إلى هجرة البعض واضطرار البعض الآخر إلى الاستسلام، ومداهنة الحكام.
وفوق ذلك.. فلقد كانت بعض القيادات الدينية مشغولة عن شؤون الدعوة والمساجد بأمر آخر تعتبره جاداً وخطيراً.. فلقد كانت ومازالت تعتبر أن المشكلة الأساسية للدعوة الإسلامية تنحصر في قلة الأضرحة والمقاصير لذلك فلقد انصرفت تماماً عن الاهتمام برسالة المسجد، إلى السعي الجاد في تشييد المزيد من القباب والمقاصير، وتشجيع إقامة حلقات الذكر بالمساجد.. والإنفاق بسخاء على إقامة الموالد والاحتفالات وكأنما هؤلاء القوم يعتبرون أن الإسلام لا يقوم إلا من خلال الشعوذة وصناديق النذور.
لها حريتها في النقد والتوجيه:
ويستطرد الدكتور جميل غازي قائلاً: وإذا كنا راغبين حقاً في أن نعيد للمسجد الإسلامي مجده.. فلابد أولاً من أن يتحرر الأئمة والخطباء من التوجيهات المكتبية، والقيود البيروقراطية، التي تحاصرهم وتحول بينهم وبين كلمة حق ينبغي أن تقال:
ثم يضيف متسائلاً: إن المسجد قوة إعلامية ضخمة ينبغي أن تستغل أحسن استغلال ولابد من اعتبار المسجد سلطة عليا.. لها كلمتها المسموعة.. ولها حريتها في النقد والتوجيه.
أوقفوا هذا المد الوثني الذي فتن بالأضرحة والقباب:(59/96)
ويرى الدكتور جميل غازي رئيس جماعة التوحيد أنه لابد أيضاً – حفاظاً على قدسية المسجد وجلاله – من إيقاف هذا المد الوثني الذي فتن بالأضرحة والقباب والمقاصير، وحول كثيراً من المساجد إلى أماكن لعبادة الموتى!!
ويقول: إن معظم مساجدنا الكبيرة في القاهرة وعواصم المحافظات فضلاً عن الغالبية العظمى من مساجد الريف، قد تحولت من بيوت لله إلى مقابر للأولياء والصالحين، تمارس فيها كل مظاهر الشرك بالله من طواف ودعاء واستغاثة وتقبيل للأعتاب!! سبحان الله.. البيوت التي أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه قد تحولت لغير الله، وفقدت الصلاة فيها القدسية والجلال.
ما رأيكم فيما سبق أن أفتى به بعض كبار العلماء من أنه لا حرج في وجود قبور الأولياء والصالحين داخل المساجد ؟
اتخاذ قبور الأولياء مساجد.. بدعة وشرك بالله :
ويقاطعني الدكتور جميل غازي قائلاً بنبرة غاضبة: هذه فتوى مردودة على أصحابها، ولا تستند إلى حجة أو برهان من الكتاب والسنة، بل إن العكس هو الصحيح، فإن النهي عن ذلك صريح في القرآن الكريم: { وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا } [الجن: 18]، كما أن الأحاديث في هذا الموضوع كثيرة، نذكر منها قوله عليه الصلاة والسلام: ”أن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء، والذين يتخذون القبور مساجد“. كما يقول أيضاً عليه الصلاة والسلام: ”.. وأن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك“.
ويروي البخاري ومسلم عن السيدة عائشة رضي الله عنها أن أم سلمة وأم حبيبة ذكرتا كنيسة رأتاها في الحبشة وفيها تصاوير، فقال الرسول عليه الصلاة والسلام: ”أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجداً وصوروا فيه تلك الصور... أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة“.(59/97)
ثم يعقب فضيلته قائلاً: هذا هو حكم الإسلام في هذا الموضوع.. وهو حكم صريح لا يحتمل التأويل، ولا لبس فيه ولا غموض.. إن اتخاذ قبور الأولياء والصالحين مساجد، شرك بالله، وبدعة لم يعهدها المسلمون في القرون الأولى، وإنما جاءت إلينا في القرن الرابع الهجري على عهد الفاطميين الذين أدخلوا على الإسلام كثيراً من البدع التي أضرت وأضلت المسلمين.
أما أولئك الذين يصدرون الفتاوى التي تتصادم مع الكتاب والسنة، فإني أحيلهم إلى قول الحق تبارك وتعالى: { فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [النور: 63].
الإدعاء بأن الرسول عليه الصلاة والسلام دفن في مسجده:
قلت: يستند أصحاب هذه الفتوى إلى أن النبي عليه الصلاة والسلام مدفون في مسجده وأن الصلاة في مسجده عليه الصلاة والسلام تعادل ألف صلاة، كما أن المسجد النبوي الشريف يضم أيضاً قبري صاحبيه أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، مما يقوم دليلاً على إباحة اتخاذ قبور الصالحين مساجد، لأن الصاحبين ليسا بأنبياء ولا رسل، بل هما رجلان صالحان، يجوز لكل صالح ما يجوز لهما.
وتزداد النبرة الغاضبة في لهجة الدكتور جميل غازي وهو يجيب قائلاً:
إن الادعاء بأن النبي عليه الصلاة والسلام قد دفن في مسجده.. باطل وكاذب، وافتراء على الله وعلى رسوله، كما أن القياس الذي عرضه أصحاب هذه الفتوى، قياس فاسد، لأنه يتعارض مع النصوص الشرعية فضلاً عما يتضمنه قولهم من تزييف لحقائق التاريخ.
ويستطرد جميل غازي في حديثه مفنداً هذه المزاعم فيقول: إن الرسول عليه الصلاة والسلام حينما مات لم يدفن في مسجده، ولا أوصى بذلك، ولا فعل به أصحابه ذلك.. حاشا لله.. وهو القائل عليه الصلاة والسلام: ”اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد“.(59/98)
إنما الذي حدث أن أصحابه دفنوه في حجرة السيدة عائشة التي كانت تجاور المسجد، وكان حرص أصحابه شديداً على أن يظل قبره عليه الصلاة والسلام خارج المسجد في كل توسعة تمت بمسجده الشريف حدث هذا في عهد عمر رضي الله عنه، فلقد حرص حينما وسع المسجد في عام 17هعلى أن تكون توسعة المسجد من جميع الجهات إلا من الجهة الشرقية التي يقع فيها قبر الرسول وبيته، فلم يمسها حتى لا يدخل القبر داخل المسجد الشريف.. ونفس هذا الحرص تم أيضاً في عهد عثمان رضي الله عنه حينما وسع المسجد في عام 24ه.
فظل قبر الرسول - صلى الله عليه وسلم - خارج المسجد، ومنفصلاً عنه حتى كان عهد الوليد بن عبد الملك الذي قرر في عام 88هأن يوسع المسجد بحيث يدخل قبر الرسول داخله!!
وهذا الوليد بن عبد الملك لم يكن من الخلفاء الراشدين الذين يجب اتباعهم أو الاعتداد بفعلهم. ولم يكن قراره هذا صادراً عن باعث ديني أو إسلامي، أو مستنداً إلى نص شرعي وإنما كان عملاً سياسياً يستهدف هدم بيت الرسول عليه الصلاة والسلام، وتشتيت أهل البيت بحجة توسعة المسجد!!
ثم يصل الدكتور جميل غازي في حديثه عن الصعوبات التي تعترض الدعوة الإسلامية إلى قضية هامة من المؤكد أنها ستثير جدلاً واسع النطاق.
إنه يرى في تعدد المذاهب الإسلامية وتضاربها تعويقاً للمسيرة الإسلامية ويقول: إن الإسلام الجميل الواضح البسيط، قد تعرض للتشويه من جانب أصحاب الدعوات الذين أخضعوا القرآن والسنة لعقولهم وأهوائهم، وساعدوا على انقسام الأمة الإسلامية الواحدة إلى فرق ومذاهب، تقوم على التعصب والتقليد الأعمى على الرغم من أن الأئمة الأربعة رضوان الله عليهم نهوا نهياً شديداً عن تقليد أو اتباع آرائهم بدون معرفة أدلتهم ومطابقتها على الكتاب والسنة.(59/99)
ثم يضيف قائلاً: إن دعاة المذهبية يستندون في دعواهم إلى حديث موضوع يقول: (إن اختلاف أمتي رحمة!!) فهل حقاً قال الرسول عليه الصلاة والسلام ذلك؟.. حاشا لله.. إنه حديث باطل بشهادة جمهور المحدثين.. ولا أدري كيف يكون الاختلاف رحمة، وقد ذمه الله تعالى في آيات كثيرة من القرآن الكريم!
كما أن كهنة المذهبية يقولون أيضاً: "أن الاختلاف بين المسلمين حادث في الفروع دون الأصول، ولا ضرر في ذلك".. وهذا غير صحيح.. فإن كثيراً من أتباع المذاهب مختلفون في كثير من الأصول أيضاً.. فلقد بقي الأحناف على سبيل المثال لا يتزوجون من الشافعية عشرات السنين، لاختلافهم في مسألة أصولية.. هي (الاستثناء في الإيمان) ثم جاء أحد أصحاب الفتوى من الأحناف، ليصلح بينهم فأفتى بجواز زواج الحنفي من شافعية قياساً على الكتابية (أي المسيحية أو اليهودية).. ومعنى ذلك أن الحنفي يجوز له أن يتزوج من شافعية دون أن يصح العكس!
وفضلاً عن ذلك، فإنه حتى في الأمور الفرعية حدثت معارك وقتال بين أتباع المذاهب، مما كان سبباً في إضعاف المسلمين ووقوعهم تحت سيطرة أعدائهم.
المذهبية مهزلة وبدعة:
ويوجه الدكتور جميل غازي نقداً عنيفاً للمذهبية، فيقول:... إن المذهبية مهزلة فهي مليئة بالسخافات والمتناقضات التي لا يقبلها شرع، ولا يصدقها عقل.. كإباحة زواج الشخص من ابنته في الزنى، عند الشافعية.. وكإباحة شرب الخمر المصنوع من غير العنب ولو أسكر، عند الحنفية.. واعتبار الحرمة في السكر لا في الشرب!! وغير ذلك من أمور توقع الناس في الحيرة والشك.. إذ لا يمكن لأحد أن يتصور أن يكون شرع الله متناقضاً، وقد قال جل شأنه: { وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا } [النساء: 82].. فأين هذا المبدأ السامي الأعلى من المذهبية في تحليل وتحريم الحكم الواحد بين مذهب وآخر!!(59/100)
ومن الغريب أن دعاة المذهبية في تعارضهم واختلافهم، يقولون جميعاً أنهم يلتمسون عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.. فدلوني بربكم هل أجاز الرسول عليه الصلاة والسلام الشيء وضده في آن واحد؟
المذهبية عقبة أمام الزحف الإسلامي:
ويستمر الدكتور جميل غازي في نقده للمذهبية: فيتهمها بأنها تقف عقبة أمام الزحف الإسلامي، وتعوق دخول غير المسلمين في الإسلام ويضرب لذلك مثلاً بما ذكره الشيخ محمد سلطان المعصومي عن النزاع الكبير، الذي حدث حينما أراد بعض اليابانيين الدخول في الدين الإسلامي وعرضوا ذلك على جمعية المسلمين في طوكيو، فقال جمع من أهل الهند: ينبغي أن يختاروا مذهب الإمام أبي حنيفة لأنه سراج الأمة.. وقال جمع من أهل إندونيسيا، بل عليهم أن يختاروا مذهب الإمام الشافعي لأنه عالم قريش.. فلما سمع اليابانيون كلامهم أخذتهم الدهشة والحيرة والشك، ووقفت المذهبية سداً في سبيل إسلامهم!!
ثم يتناول الدكتور جميل غازي في نقده للمذهبية، كتب المذاهب الربعة فيصفها بالجفاف والتعقيد والغموض، خلافاً لفقه السنة الذي ينبع أساساً من بلاغة القرآن والحديث الصحيح.
هل أفهم من ذلك أنك ترفض المذاهب الأربعة، رغم أننا توارثناها جيلاً عن جيل، واستقرت عليها عقائد المسلمين إلى حد أن الزواج مثلاً لا يتم عقده إلا على مذهب الإمام أبي حنيفة؟.. و.. ألا يخشى من أن يكون في نقدك للمذاهب شبهة المساس بالأئمة الأربعة الذين نكن لهم جميعاً كل تقدير وإجلال؟
المذهبية بدعة :
أرجو أن تفرقوا بين أمرين: أولهما: الأئمة الأربعة.. وثانيهما: المذاهب الأربعة.. فالأئمة شيء.. والمذهبية شيء آخر.
أما الأئمة فهم علماء أجلاء رضي الله عنهم جميعاً، ما دعوا إلى مذهبية ولا عصبية ولا دعا واحد منهم إلى اتباعه، بل نهوا عن ذلك أشد النهى، كما هو ثابت عند مراجعة تواريخهم وما أثر عنهم.(59/101)
أما المذهبية: فهي بدعة نشأت بعد عصر الأئمة بفترة طويلة، ويكفيك أن تعلم أن الأئمة الأربعة كانوا متعاصرين ومتحابين، وكل منهم يحترم الآخر أشد الاحترام.. فمالك كان يجل أبا حنيفة، ويضعه في مكانه اللائق به كأستاذ ومعلم، وكذلك الشافعي مع أستاذه مالك، ومثلهما أحمد مع أستاذه الشافعي.. وما كان للعصبية المذهبية في نفوسهم أو في عصرهم أي وجود.. بل نشأت بعدهم ضمن غيرها من البدع، التي جاء بها أصحاب الدعوات وسدنة التعصب والتفريق.
ويستطرد الدكتور جميل غازي قائلاً: أما فيما يتعلق بنقد المذهبية وما قد يحمله ذلك من شبهة المساس بالأئمة الأربعة: فاسمح لي أن أسألك سؤالاً: أينا أكثر احتراماً للأئمة الربعة؟.. الذي يرفض التعصب لواحد منهم ضد الآخرين أم الذي يتمذهب بمذهب واحد ويرفض الآخرين؟
لا شك أن الذي يحترم الأئمة جميعاً، هو الذي يأخذ عنهم جميعاً، ويستفيد من علمهم جميعاً.. أما ذلك الذي يقول: أنا حنفي مثلاً فإنه بمفهوم المخالفة يقول: لست شافعياً ولا مالكياً ولا حنبلياً.. وعكس هذا يمكن أن يقال بالنسبة للشافعي أو غيره.
ثم يبتسم جميل غازي قائلاً: لقد أشرت في سؤالك إلى نقطة هامة، هي عقد الزواج، وما يقال فيه.. فأنت تتزوج امرأتك على مذهب أبي حنيفة الإمام الأعظم كما يقولون – مع ملاحظة أن الإمام الأعظم هو محمد عليه الصلاة والسلام – فاسمح لي أيضاً أن أسألك: أليس في هذا التعبير الذي يستخدمه الأحناف نيل من الأئمة الثلاثة الباقين؟ ثم سؤال آخر: إذا كان عقد الزواج لا يصح إلا على مذهب أبي حنيفة.. فقل لي بربك على مذهب من تم عقد الزواج بين والدي الإمام أبي حنيفة رحمهما الله؟!
لن تصلح هذه الأمة إلا إذا أقرت بتوحيد الألوهية.. وتوحيد الاتباع
ثم يعقب فضيلة الدكتور جميل غازي قائلاً:(59/102)
إنني أعتقد وأومن أن هذه الأمة لا تصلح إلا إذا أقرت أولاً بتوحيد الألوهية.. فيكون الإله المعبود واحداً لا شريك له.. ثم أقرت ثانياً بتوحيد الاتباع.. فيكون الرسول - صلى الله عليه وسلم - هو وحده المتبع، وهو وحده الإمام المعصوم.
وليس هناك مانع بعد ذلك من أن نستضيء بفهم أئمة المسلمين الأجلاء الأربعة وغيرهم ممن فهموا الشريعة، وأصلوا أصولها، وبوبوا أبوابها، وهم كثيرون والحمد لله.. وصدق الحق تبارك وتعالى إذ يقول: { إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } [النور: 51].
دعوة التقريب.. مشبوهة ومرفوضة:
قلت: يتصل بحديثنا عن تعدد المذاهب الإسلامية، ذلك الخلاف الحادث بين الشيعة وأهل السنة.. ولقد زار مصر مؤخراً فضيلة الشيخ تقي الدين القمي، الذي يطلقون عليه رائد التقريب بين المذاهب، وعقد أكثر من اجتماع مع بعض كبار العلماء لمحاولة التقريب بين المذاهب.. فإلى أي حد في رأيكم يمكن أن تنجح دعوته؟
ويجيب فضيلته قائلاً: هذه دعوة مشبوهة ومرفوضة، وليس لها من هدف في حقيقة الأمر، إلا التمكين لأفكار المذهب الشيعي من التسلل بين جمهور أهل السنة.
ثم يتساءل في نبرة غاضبة: أي تقريب هذا الذي يدعون إليه؟.. حاشا لدين الله أن يكون (توليفة) من هنا وهنا.. إنما هو دين واضح محدد ليس له إلا مصدران أساسيان.. الكتاب والسنة.. وما يخرج عنهما فهو مرفوض، ولا ينبغي أن يكون موضعاً لجدل أومناقشة.
إن معنى التقريب بين مذهبين أو اتجاهين هو أن يتنازل أصحاب كل مذهب أو اتجاه عن بعض معتقداتهم ليلتقوا بالاتجاه الآخر.. فهل من حق أحد من أهل السنة أن يتجاوز عن بعض ما أنزل الله إرضاء للشيعة ؟(59/103)
إن الأولى بأصحاب دعوى التقريب المزعوم أن يراجعوا معتقداتهم على الكتاب والسنة، وأن يطرحوا أية معتقدات تتعارض مع هذا الأصل الأصيل لدين الإسلام.
حقيقة الخلاف بين الشيعة وأهل السنة:
ويستطرد جميل غازي قائلاً: ثم إن الخلاف بين أهل السنة والشيعة من الناحية النظرية والعملية، خلاف عميق الجذور.. غير قابل أساساً للتوفيق والتقريب.
ولقد كنت أظن مثل كثيرين غيري أن الخلاف بين أهل السنة والشيعة يكمن أساساً في قضية الخلافة، ومن أحق بها.. أبو بكر أم علي رضي الله عنهما.. وكنت أقول كما يقول غيري: إن هذه قضية ينبغي ألا تثار عملاً بقوله تعالى: { تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [البقرة: 134].. إلى أن أتيح لي أن أدخل في مناقشة طويلة مع بعض كبار علماء الشيعة، وأكدت المناقشة أن القضية ليست مجرد خلاف على الخلافة، يجب أن يحفظ في ذمة التاريخ.. وإنما اتضح لي أن القضية هي في الأصل والأساس.. قضية (الرواية الدينية)؟
وقضية (الرواية الدينية) كما فهمت منهم هي (رواية القرابة) و(رواية الصحابة).. فهم يرون أن أهل السنة يعتمدون أساساً على (رواية الصحابة) أما هم فيعتمدون أساساً على (رواية القرابة).
وعلى هذا الأساس تكون كل المراجع الدينية عند أهل السنة غير معتبرة ولا معتمدة عند الشيعة مثل كتب الأئمة الأربعة رضوان الله عليهم وكتب رواة السنة كالبخاري ومسلم والترمذي والنسائي وأبي داود وابن ماجه، وكذلك كتب التفسير إلى آخره.. وعلى هذا الأساس تصبح قضية المراجع أو الرواية الدينية حائلاً دون عملية التوفيق المزعومة.. بل إنها تقف حائلاً دون جدية الحوار وجدواه.. إذ كيف يمكن أن يقوم حوار منتج مفيد بين سني وشيعي مع أن المراجع بين الفريقين مختلفة أشد الاختلاف، وكل منهما يعتمد مرجعاً لا يقره الآخر؟
مصحف فاطمة :(59/104)
ويستطرد الدكتور جميل غازي قائلاً: على أننا إذا تركنا ذلك الأصل الجوهري فإننا نجد قضايا أخرى تزيد من عمق الخلاف.. من بينها:
أولاً: رأى الشيعة في أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم الذي يصل بهم إلى حد تفسيق هؤلاء الصحابة الأجلاء، إن لم أقل تفكيرهم، مع أنهم كما يعتقد أهل السنة والجماعة سادة أولياء هذه الأمة بعد رسول الله عليه الصلاة والسلام.
ثانياً: ما يزعمه الشيعة من أن عندهم مصحف فاطمة، والذي يقولون عنه أنه قدر مصحفنا مرتين، وليس فيه منه ولا حرف واحد؟ وحينما سألت أحد علماء الشيعة عن صحة ذلك. قال: نعم إنه تفسير السيدة فاطمة للقرآن!. سألته: هل كتبته السيدة فاطمة في حياة والدها عليه الصلاة والسلام أم بعد مماته؟ قال: بعد مماته.. مع العلم أن السيدة فاطمة لم تعش بعد وفاة أبيها إلا ستة أشهر فقط!!
ثالثاً: ادعاء الشيعة بأن الإمام معصوم عن الصغائر والكبائر، وأن الأئمة محصورون في اثني عشر إماماً من أهل البيت، آخرهم ذلك الإمام الطفل ذو الخمس سنوات الذي دخل السرداب في سامراء منذ أكثر من ألف عام، ولم يخرج منه حتى اليوم، والذي لا يزالون في انتظاره حتى الآن بحميرهم وبغالهم على باب السرداب!
رابعاً: أن الشيعة يسجدون في الصلاة على حجر معين، سألتهم عنه.. فأخرجه لي أحدهم من جيبه وهو حجر مستطيل صنع بأسلوب متقن.. فسألته عنه فقال: إنه مصنوع من تراب كربلاء.. لماذا؟ قال: لأن أرض كربلاء أقدس من الكعبة!
ثم يعقب فضيلة الدكتور جميل غازي قائلاً: هذه هي بعض أفكار المذهب الشيعي.. وهذه هي المراجع والأصول التي يستمدون منها معتقداتهم.. وهي أفكار ومراجع تحول – بالقطع – بين أية دعوة للتقريب بينهم وبين أهل السنة الذين يتخذون من كتاب الله وسنة رسوله منهجاً وحيداً في أمور الدين والدنيا.
المسيرة الإسلامية عقيدة .. وحياة .. وحضارة :(59/105)
ثم يختتم فضيلته حديثه بنداء يوجهه إلى قيادات الدعوة الإسلامية بضرورة تفهم طبيعة المعوقات التي تقف في طريق الدعوة الإسلامية، والارتفاع إلى مستوى التحديات التي تواجه المسيرة الإسلامية من جانب كل القوى المعادية للإسلام.
ويقول: إن على الدعاة أن يدركوا جيداً طبيعة وحجم العوائق الضخمة التي تقف في وجه الإسلام، إذ أن الدعوة التي تفقد هذا القدر من الإدراك تسيء أكثر مما تحسن.
وعلى الدعاة أن يعلموا أنهم إنما ينحتون طريقهم في الصخر الأصم.. ولكن معاولهم قوية وقادرة.. وعليهم أن يعلموا جيداً أن قوة الفكرة الإسلامية كافية وحدها لدفع الحياة والتقدم والحضارة بأسلوب صحيح.. المطلوب فقط.. هو غرسها في القلوب وتعميقها في النفوس.. وتجسيدها في حياة المسلمين بحيث تصبح إسلاماً حياً يعمل في الحياة، ويدفع إلى الأمام، ويوجه المسيرة.
الجولة التاسعة
التصوف من اختراع المستعمرين
مبدأ صوفي خطير.. حرب المستعمرين حرام !!
التيجانية.. في خدمة فرنسا في الجزائر !!
ماذا قال الدكتور عمر فروخ والدكتور زكي مبارك !!
لا شك أنه كان للأحاديث الصحفية التي نظمتها مجلة "التعاون" مع فضيلة الدكتور محمد جميل غازي أثرها الذي لا ينكر في إثارة حوار فكري هادف بين جماهير المسلمين بحيث يحق لنا أن نسميها "تفجيراً فكرياً" ولا يظهر أثر هذه الأحاديث من خلال مؤيديها فقط.. وإنما يظهر أيضاً من خلال المعارضين.. فالمعارضة لا تعدو أن تكون أثراً من آثار الحركات الفكرية النشيطة.
إن الصراع الفكري أمر ضروري وهام ينير الطريق أمام مسيرة الجماهير، إنه لا خطر ولا خطأ في إثارة أي حوار فكري.. إنما يكمن الخطر والخطأ في الانغلاق الفكري وإغلاق النوافذ الثقافية.
لهذا رأت "صحيفة المسيرة" أن تواصل الكلام مرة أخرى مع فضيلة الدكتور محمد جميل غازي لتبدأ معه حواراً فكرياً "جديداً" حول التصوف والصوفية.(59/106)
ذهبنا إليه وفي رأسنا مجموعة من علامات الاستفهام.. فقد كان المؤيدون لفضيلة الدكتور غازي يؤكدون أن الصوفية هي السبب الأساسي فيما أصاب المسلمين من نكسات ونكبات وفوضى وتخلف.
وكان المعارضون يطرحون القضية من وجهة نظر مغايرة تماماً فهم يقولون: إن الصوفية هي التي أخذت على عاتقها محاربة أعداء الإسلام من الظلمة والمستعمرين بل هي التي حملت الدعوة الإسلامية عبر الآفاق البعيدة.. وأنه ما دخل الإسلام أدغال أفريقيا إلا على أيديهم وجهودهم.
الحرب حرام :
حملنا علامات الاستفهام والتعجب إليه.. إلى الرجل الذي فجر هذا الحوار.. ووضعنا بين يديه كل علامات الاستفهام والتعجب.. وكنا نظن أننا بهذه الأسئلة قد جئنا بجديد عليه وعلى معلوماته عن التصوف، ولكن سرعان ما أخذ يقدم إلينا من الكتب والوثائق مما نسوق نماذج منه في هذا الحوار.
سألناه :
نعرف من تاريخ التصوف – وبخاصة الصوفية الأوائل – أنهم كانوا جنوداً أقوياء أدوا أدوارهم ببسالة في محاربة أعداء الملة، أو أعداء القبلة.
فكيف يحق لنا أن نصدر حكماً عاماً على سائر المتصوفة بأنهم كانوا 100 دخلاء على الفكر الإسلامي وعلى الحياة الإسلامية ؟!!
أجاب فضيلته وهو يضغط على مخارج الحروف بأسلوب حازم وحاسم ومؤكد: إنني أتهم الصوفية بضد ما ذكرته تماماً.. ومعي في هذا الاتهام كثير من الوثائق التاريخية التي أثبتها مؤرخو الفكر وراصدوا الحضارة.. الصوفية متهمون بصرف الناس عن الجهاد.. وهم متهمون أيضاً بإدخال تفسيرات غريبة وشاذة على آيات القرآن الكريم.(59/107)
فمن ذلك ما روي عن "داود بن صالح" أنه قال.. قال لي: "أبو سلمة بن عبد الرحمن": يا ابن أخي هل تدري في أي شيء نزلت هذه الآية: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ } [آل عمران: 200] قلت: لا، قال: يا ابن أخي لم يكن في زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غزو يربط له الخيل ولكنه انتظار الصلاة بعد الصلاة، فالرباط لجهاد النفس، والمقيم في الرباط مرابط مجاهد لنفسه [عوارف المعارف 2/55].
وقال بعض المتصوفة في قوله تعالى: { وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ } [الحج: 78] أن معناه مجاهدة النفس والهوى وذلك هو حق الجهاد، وهو الجهاد الأكبر على ما روي في الخبر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: حين رجع من بعض غزواته: ”رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر“.
وفي الوقت الذي يخطئون فيه في تفسير القرآن الكريم يخطئون أيضاً في الاستشهاد بأحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهذا الحديث الذي استدلوا به لا أصل له عند الثقات من رواة السنة.. يقول العالم المحدث شيخ الإسلام "ابن تيمية": أما الحديث الذي يرويه بعضهم أنه قال في غزوة تبوك رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر فلا أصل له ولم يروه أحد من أهل المعرفة بأقوال النبي - صلى الله عليه وسلم - وأفعاله، بل الواضح جداً من القرآن والمتواتر من السنة أن جهاد الكفار من أعظم القربات إلى الله تعالى، وأن الصحابة والتابعين في العصور الزاهرة التي شهد لها الرسول الكريم بالخيرية كانوا يتهافتون على القتال في سبيل الله ليحصلوا على إحدى الحسنيين إما الموت فالجنة، وإما النصر فالعزة والرفعة.(59/108)
قال الله تعالى: { لاَّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا } [النساء: 95].. وقال تعالى: { أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ اللَّهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ، الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللَّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ، يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ، خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ } [التوبة: 19-22].
الصوفية غيبوبة عقلية:
ويقول الصوفية: إن بعض الصالحين كتب إلى أخ له يستدعيه إلى الغزو فكتب إليه: يا أخي كل الثغور مجتمعة لي في بيت واحد والباب مردود. فكتب إليه أخوه: لو كان الناس كلهم لزموا ما لزمت لاختلت أمور المسلمين وغلب الكفار، فلابد من الغزو والجهاد، فكتب إليه: يا أخي لو لزم الناس ما أنا عليه وقالوا في زواياهم وعلى سجاداتهم: الله أكبر، لانهدم سور القسطنطينية [من عوارف المعارف على هامش الإحياء].
ولقد عاصر أئمة الصوفية الكبار "كالغزالي" و"ابن الفارض" و"ابن عربي" كثيراً من معارك المسلمين فماذا فعلوا؟ وماذا قالوا؟ وماذا كتبوا؟
لم يحرك واحد منهم ساكناً.. يقول الأستاذ "عبد الرحمن الوكيل" في كتابه [هذه هي الصوفية ص170]:(59/109)
هذا بيت المقدس سقط في يد الصليبيين عام 492 هجرية، والغزالي الزعيم الصوفي الكبير على قيد الحياة، فلم يحرك فيه هذا الحادث الجلل شعرة واحدة.. ولقد عاش "الغزالي" بعد ذلك 13 عاماً إذ أنه مات سنة 505 هجرية فما زرفت عيناه دمعة واحدة ولا استنهض همم المسلمين ليذودوا عن القبلة الأولى، بينما سواه من الشعراء يقول:
أحل الكفر بالإسلام ضيما ... يطول عليه للدين النحيب
وكم من مسجد جعلوه ديرا ... على محرابه نصب الصليب
دم الخنزير فيه لهم خلوف ... وتحريق المصاحف فيه طيب
أهز هذا الصريخ الموجع زعامة الغزالي ؟ كلا، إذ كان عاكفاً على كتبه يقرر فيها أن الجمادات تخاطب الأولياء!! ويتحدث عن مراتب الولاية كالصحو والمحو، دون أن يقاتل أو يدعو غيره إلى قتال، "وابن عربي" و"ابن الفارض" الزعيمان الصوفيان الكبيران عاشا في عهد الحروب الصليبية فلم نسمع أن واحداً منهما شارك في قتال أو دعا إلى قتال أو سجل في شعره أو في نثره آهة حر على الفواجع التي نزلت بالمسلمين، لقد كان يقرران للناس أن الله هو عين كل شيء فليدع المسلمون الصليبيين فما هم إلا الذات الإلهية متجسدة في تلك الصور.
وحين أغار الفرنجة على "المنصورة" قبل منتصف القرن السابع الهجري اجتمع الصوفيون الزعماء، أتدري لماذا؟ لقراءة "رسالة القشيري" والمناقشة في كرامات الأولياء بدلاً من أن يجتمعوا لإعداد العدة وإعلان كلمة الجهاد – قد يقول القارئ: ربما فعلوا إلا أنه لم تصلنا آثارهم؟ فنقول لهم: فلماذا توافرت آثار الصحابة والتابعين وتابعي التابعين.. وليس هذا فحسب بل أن موقف "ابن تيمية" أمام "قازان" إمبراطور التتار "والعز بن عبد السلام" وغيرهما كثير تعج بآثارهم كتب التاريخ "كالبداية والنهاية" لابن كثير و"تاريخ الإسلام" و"سير أعلام النبلاء" و"أعيان المائة الثامنة".(59/110)
وكي لا نتهم بالتجنى على "الغزالي" و"محيي الدين بن عربي" و"ابن الفارض" نعرض شهادتين: إحداهما: "للدكتور عمر فروخ" والثانية "للدكتور زكي مبارك".
كتب الدكتور عمر فروخ يقول: ألا يعجب القارئ إذا علم أن حجة الإسلام أبا حامد الغزالي شهد القدس تسقط في أيدي الفرنج الصليبيين وعاش اثنتي عشرة سنة بعد ذلك، ولم يشر إلى هذا الحدث العظيم، ولو أنه أهاب بسكان العراق وفارس وبلاد الترك لنصرة إخوانهم في الشام لنفر مئات الألوف منهم للجهاد في سبيل الله، ولوفر إذاً على العرب والمسلمين عصوراً مملوءة بالكفاح، وقروناً ذاخرة بالجهل والدمار.
وما غفلة "الغزالي" عن ذلك إلا أنه كان في ذلك الحين قد انقلب صوفياً أو اقتنع على الأقل بأن الصوفية سبيل من سبل الحياة.
وكذلك عاش "عمر بن الفارض" و"محيي الدين بن عربي" في إبان الحروب الصليبية ولم يرد في كتابات أحدهما ذكر لتلك الحروب.
وبينما كان الأفرنج يغيرون على "المنصورة" في مصر سنة 647 هجرية 1259 ميلادية تنادي الصوفيون لقراءة "رسالة القشيري" وأخذوا يتجادلون في كرامات الأولياء [الشعراني 1/14].
الاستعمار من عند الله :
ويزعم الصوفية أن لهم كرامات ولكنهم لم يظهروا هذه الكرامات للدفاع عن دينهم وأوطانهم إلا أن الصوفية لا يعدمون ادعاء أو يعللون سكوتهم ورضاهم بما ينزل بقومهم من المصائب بأنها عقاب من الله تعالى للمكذبين من خلقه (كذا).
فإذا كان الله تعالى قد سلط على قوم ظالماً فليس لأحد أن يقاوم إرادة الله تعالى أو أن يتأفف منها.
انتهت الشهادة الأولى وقد نقلناها من كتاب "التصوف في الإسلام" للدكتور عمر فروخ.. ونضيف أنه مما يؤسف له أن "الغزالي" ذكر في كتابه "المنفذ من الضلالط عند بحث طريقة التصوف: إنه كان خلال الحروب الصليبية مشغولاً في خلوته تارة في مغارة دمشق وتارة في صخرة بيت المقدس يغلق بابهما عليه في مدة تزيد على السنتين.(59/111)
ثم ننتقل إلى الشهادة الثانية وهي كما ذكرت من قبل للدكتور زكي مبارك كتب يقول: أتدري لماذا ذكرت لك هذه الكلمة عن الحروب الصليبية؟ لتعرف أنه بينما كان "بطرس الناسك" يقضي ليلة ونهاره في إعداد الخطب وتحبير الرسائل يحث أهل أوروبا على احتلال أقطار المسلمين، كان الغزالي "حجة الإسلام" غارقاً في خلوته، منكباً على أوراده المبتدعة لا يعرف ما يجب عليه من الدعوة إلى الجهاد في سبيل الله تعالى.
ومضى فضيلة الشيخ يقرأ من مراجعه المختلفة نصوصاً كثيرة طويلة أثبتنا بعضها وضربنا صفحاً عن بعضها الآخر.. لكننا عدنا نسأله قلنا: هل نفهم من هذا أنك تنفي دور الصوفية في مواجهة الظلم ومجابهة الظالمين مع أننا نقرأ في المأثور والمنشور عنهم الكثير من هذه المواقف التي يحق لنا – إن صحت – أن نعتبرها مشرفة.
أجاب فضيلته في حدة قائلاً: يا أخي أنا حريص في هذا الحوار الصحفي وفيما سبقه أن أكثر من "النقول" حتى لا أتهم بالتحيز. كذلك فإني حريص على أن تكون هذه "النقول" من كتب الصوفية بل ومن كتب أئمتهم وأقطابهم الكبار.
الصوفية ركائز الاستعمار :
يقول "الشعراني": وهذا النقل من كتاب "التصوف الإسلامي 2/301 نقلاً عن البحر المرود ص292" – لقد أخذ علينا العهد بأن نأمر إخواننا أن يدوروا مع الزمان وأهله كيفما دار، ولا يزدرون قط من رفعه الله عليهم، ولو كان في أمور الدنيا وولايتها. كل ذلك أدباً مع الله عز وجل الذي رفعهم فإنه لم يرفع أحداً إلا لحكمة هو يعلمها – انتهى – أليس هذا القول من أقوال المجبرة. فأين هم إذن ممن نعى الله عليهم. وقال:
{ وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ، قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ } [الأعراف: 28، 29].(59/112)
وأين هم من قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ”من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان“.
وننقل من نفس الكتاب للدكتور زكي مبارك: هناك كثير من الطرق ثابرت على انحرافها عن الطريق السوي فكانت أروع انقياداً للمستعمرين من الزنوج الوثنيين. قال الرئيس "فيليب قونداس" من المستعمرين الفرنسيين: لقد اضطر حكامنا الإداريون وجنودنا في أفريقيا إلى تنشيط دعوة الطرق الدينية الإسلامية لأنها كانت أطوع للسلطة الفرنسية، وأكثر تفهماً وانتظاماً من الطرق الوثنية التي تعرف باسم (بيليدو، وهاجون) أو من بعض كبار الكهان أو السحرة السود – انتهى كلام "الدكتور زكي مبارك".
وفي كتاب "تاريخ العرب الحديث والمعاصر" تحت عنوان: "المتعاونون مع فرنسا في الجزائر:
"وتتألف هذه الفئة من بعض الشباب الذين تثقفوا في المدارس الفرنسية، وقضى الاستعمار على كل صلة لهم بالعروبة، ويضاف إليهم بعض أصحاب الطرق الصوفية الذين أشاعوا الخرافات والبدع، وبثوا روح الانهزامية والسلبية في النضال فاستخدمهم الاستعمار كجواسيس" [ص373].
يقول الدكتور عمر فروخ: يقول الصوفية: إذا سلط الله على قوم ظالماً فليس لأحد أن يقاوم إرادة الله أو أن يتأفف منها.
لا ريب أن الأوروبيين قد عرفوا في الصوفية هذا المعتقد فاستغلوه في أعمالهم، فقد ذكر الزعيم الوطني مصطفى كامل المصري في كتابه "المسألة الشرقية" قصة غريبة عن سقوط "القيروان" قال:(59/113)
ومن الأمور المشهورة عن الاحتلال الفرنسي للقيروان في تونس أن رجلاً فرنسياً دخل الإسلام وسمى نفسه "سيد أحمد الهادي"، واجتهد في تحصيل الشريعة حتى وصل إلى درجة عالية، وعين إماماً لمسجد كبير بالقيروان.. فلما اقترب الجنود الفرنسيون من المدينة استعد أهلها للدفاع عنها.. وجاءوا يسألونه أن يستشير الضريح الذي في المسجد، ودخل "سيدي أحمد الهادي" الضريح.. ثم خرج يقول: إن الشيخ ينصحكم بالتسليم لأن وقوع البلاد صار محتماً.. فاتبع القوم كلمته، ودخل الفرنسيون آمنين في 26 أكتوبر سنة 1881.
ثم يعقب الدكتور "عمر فروخ" بقوله: من أجل ذلك يجب ألا نستغرب إذا رأينا المستعمرين لا يبخلون بالمال أو التأييد بالجاه للطرق الصوفية.. وكل مندوب سامي أو نائب الملك.. لابد أنه يقدم شيخ الطرق الصوفية في كل مكان، وقد يشترك المستعمر إمعاناً في المداهنة في حلقات الذكر.
والطريقة التيجانية التي كانت تسيطر على الجزائر أيام الاستعمار معروف أنها كانت تستمد وجودها من فرنسا، وأن إحدى الفرنسيات من عميلات المخابرات تزوجت شيخاً فلما مات تزوجت بشقيقه، وكان الأتباع يطلقون عليها "زوجة السيدين" ويحملون التراب الذي تمشي عليه لكي يتيمموا به، وهي كاثوليكية مازالت على شركها.. وقد أنعمت عليها فرنسا بوسام الشرق، وجاء في أسباب منحها الوسام.. أنها كانت تعمل على تجنيد مريدين يحاربون في سبيل فرنسا كأنهم بنيان مرصوص.
ومن كتاب "في التصوف" لمحمد فهر شقفة السوري – ص217 يقول: "نرى من واجبنا خدمة الحقيقة والتاريخ أن نذكر – أن الحكومة الفرنسية في زمن الانتداب على سوريا حاولت نشر هذه الطريقة، واستأجرت بعض الشيوخ لهذه المهمة.. فقدمت لهم المال والمكان لتنشئة جيل يميل إلى فرنسا.. لكن مجاهدي المغرب لفتوا انتباه المخلصين من أهل البلاد إلى خطر الطريقة التيجانية، وأنها فرنسية استعمارية تتستر بالدين.. فهبت "دمشق" عن بكرة أبيها في مظاهرات صاخبة".(59/114)
الصوفية وفاروق :
من الأمثلة المضحكة المبكية في مسيرة رجال الصوفية وراء الاستعمار، والحكام الفسقة الظالمين.. أن الصوفية في مصر لاذوا أخيراً بفاروق ملك مصر السابق، يشكرونه على أنه منحهم كسوة، وبين يدي "فاروق" وقف شيخ الصوفية يقول: "إنها يا مولاي رمز لما أعطاك الله من مواهب، وعنوان لفيض من فيوضاته سبحانه على قلب فاروق الطاهر تكشف عن مدى طهر وضعه الله فيك. فصفت روحك الطيبة، وأن هذا التكريم للصوفية إنما هو قبس من قلبك النقي ينير لك الطريق".
وخدمة الصوفية للاستعمار الفرنسي في مصر أيضاً معروفة، وخدمتها للإنجليز.. هل تعرف السبب الحقيقي في هزيمة "عرابي".. لقد شغل أهل الصوفية الجنود في التل الكبير في أذكار.. حتى نصف الليل.. ثم نام الجنود.. فدخل الإنجليز في الفجر!!
ثم ماذا يا دكتور.. لقد طال الموضوع.. نعم إنه هام ولكن القراء يجب أن نقدر وقتهم؟
بقيت كلمة واحدة.. الطرق الصوفية حسب آخر تعداد من رئاسة الجمهورية عددها 64 طريقة لو أنهم على هدى.. لماذا لا يتفقون على طريقة واحدة.. مادام كلهم يدعون للإسلام؟ أؤكد أنهم لا يفعلون ذلك ولن يفعلوا.. لسبب واحد.. هو أن لكل مشيخة دخول، ومنتفعين، ومسائل أخرى كلها تتعلق بالمال والأعمالز. وصناديق النذور!!
على هامش الجولات
كنت قبورياً
يوميات متصوف وقبوري سابق ...!
كيف يحال بين القبوري والتوحيد ؟!
تعميق الخوف في القلوب من التوحيد والموحدين !
الاعترافات التي سيطالعها القارئ في الصفحات القادمة.. هي اعترافات ذاتية.. أردت بها تعقب العملية الكيمائية، والسيكولوجية التي يحدثها في النفس الصراع بين "التوحيد"، وبين "الخرافة" في النفس البشرية ذلك لأن الإنسان ليس وحده دائماً، وإنما الإنسان بالوعاء الذي يحتويه، والذي يحيطون بالإنسان هم الوعاء.. وهم الذين ينازعونه، ويقاسمونه، وأحياناً يشاركون المعتقدات سواء كانت صحيحة أم فاسدة.(59/115)
وحينما نشرتها في مجلة "التوعية الإسلامية" في موسم الحج الماضي.. لم أكن أتصور أبداً أنها سوف تلقى ذلك الترحيب الحار، والعطف الدافئ الذي أحاطني به كبار الدعاة المدعوين من قبل أمانة الدعوة والفكر لموسم الحج.. ومن بينهم دعاة وأساتذة أعتز بشهادتهم ولهم في الدعوة جهود تذكر فتشكر.
وأكدوا لي – مما ملأني اعتزازاً – أن هذه الاعترافات ومعالجتها بهذا الشكل القصصي الصحافي الأسلوب الخالي من نبرة الوعظ، والتهديد والوعيد.. هو الشكل الذي كانت الدعوة في حاجة إليه.. لوصوله بسرعة إلى القلب، ونفاذه في سهولة إلى الوجدان.
وانتشاره بسرعة بين متوسطي الثقافة، والبسطاء من المسلمين، وحملوني مسؤولية إعادة طبعها كلما وجدت إلى ذلك سبيلاً.. ولما كانت هي في الأصل اعترافاً مني بفضل الله علي في تصحيح عقيدتي.. وقد كتبتها محتسباً بها وجه الله.. ومؤكداً جانباً من جهاد الرجل – الذي أضع فيه هذا الكتاب – في سبيل "التوحيد" فقد ظل يحاصر معتقداتي الفاسدة.. حتى أخذ بيدي إلى عقيدة التوحيد.. لهذا كله أضعها في آخر الكتاب لأنها كانت الطلقات الأخيرة في معركتنا ضد الصوفية ولكنها لم تكن المعركة الأخيرة ..
فإليكم .. هذه الحلقات .. وحتى إشعار آخر..
الصحفي
عبد المنعم الجداوي
[ 1 ]
ترددت كثيراً في كتابة هذه الاعترافات – لأكثر من سبب. ثم أقدمت على كتابتها لأكثر من سبب، وأسباب الإحجام والإقدام واحدة.. فقد خشيت أن يقرأ العنوان بعض القراء ثم يقولون – ما لنا ولتخريف أحد معظمي القبور، ثم يطوحون بالمجلة بكل قوتهم.. ولكن قد يكون بعض القراء في المنطقة النفسية التي كنت أعيشها قبل تصحيح عقيدتي.. فيقرأون اعترافاتي. فيفهمون ويعبرون من ظلمة الخرافات إلى نور العقيدة – وفي ذلك وحده ما يقويني على الكشف عن ذاتي أمام الناس – مادام ذلك سوف يكون سبباً في هداية بعضهم إلى حقيقة التوحيد..(59/116)
ولقد كنت من كبار معظمي القبور فلا أكاد أزور مدينة بها أي قبر أوضريح لشيخ عظيم.. إلا وأهرع فوراً للطواف به.. سواء كنت أعرف كراماته أو لا أعرفها.. أحياناً أخترع لهم الكرامات أو أتصورها أو أتخيلها.. فإذا نجح ابني هذا العام كان ذلك للمبلغ الكبير الذي دفعته في صندوق النذور.. وإذا شفيت زوجتي كان ذلك للسمنة التي كان عليها الخروف الذي ذبحته للشيخ العظيم فلان ولي الله..
وحينما التقيت بالدكتور جميل غازي، وكان اللقاء لعمل مجلة إسلامية تقوم بالإعلام والنشر عن جمعية مسجد العزيز بالله القاهرية، والتي تضم مساجد أخرى، ورسالتها الأولى "التوحيد" وتصحيح العقيدة، وبحكم اللقاءات المتكررة.. كان لابد من صلاة الجمعة في مسجد العزيز بالله.. وهاجم "الدكتور جميل" في بساطة وبعقلانية شديدة.. هذا المنحى المخيف في العقيدة، وسماه شركاً بالله، وذلك لأن العبد – في غفلة من عقله – يطلب المدد والعون من مخلوق ميت.
أفزعني الهجوم، وأفزعتني الحقيقة.. وما أفزع الحقيقة للغافلين.. ولو أن "الدكتور جميل" اكتفى بذلك لهان الأمر.. لكنه في كل مرة يخطب لابد أن يمس الموضوع بإصرار.. فالضريح لا يضم سوى عبد ميت فقط.. بل قد يكون أحياناً خالياً حتى من العظام التي لا تنفع ولا تضر..
في أول الأمر اهتززت.. فقدت توازني.. كنت أعود إلى بيتي بعد صلاة كل جمعة حزيناً.. شيء ما يجثم فوق صدري يقيد أحاسيسي ومشاعري.. أحاول في مشقة أن أخرج عن هذا الخاطر.. هل كنت في ضلالة طوال هذه الأعوام؟ أم أن صديقي الدكتور قد بالغ في الأمر.. فأنا أعتقد أن كل من نطق "بالشهادة" لا يمكن أن يكون كافراً.. لهفوة من الهفوات أو زلة من الزلات.(59/117)
شيء آخر أشعل في فؤادي لهباً يأكل طمأنينتي في بطء.. إن الدكتور يضعني في مواجهة صريحة ضد أصحاب الأضرحة الأولياء.. والخطباء على المنابر صباحاً مساءً يعلنونها صريحة أن الذي يؤذي ولياً فهو في حرب مع الله سبحانه وتعالى.. وهناك حديث صحيح في هذا المعنى.. وأنا لا أريد أن أدخل في حرب ضد أصحاب القبور والضرحة لأنني أعوذ بالله من أن أدخل في حرب معه جل جلاله.
وقلت: أن أسلم وسيلة للدفاع هي الهجوم.. واستعدت قراءة بعض الصفحات من كتاب "إحياء علوم الدين للغزالي" وصفحات أخرى من كتاب "لطائف المنن لابن عطاء السكندري" وحفظت عن ظهر قلب الكرامات، وأسماء أصحابها، ومناسبات وقوعها، وذهبت الجمعة الثانية، وكظمت غيظي وأنا أستمع إلى الدكتور فلما انتهى من الدرس.. أصر على أن يدعوني لتناول الغداء، وبعد الغداء.. تسلمته هجوماً بلا هوادة.. معتمداً على عاملين: الأول: هو أنني حفظت كمية لا بأس بها من الكرامات، والثانية: أني على ثقة من أنه لن يتهور فيداعبني بكفيه الغليظتين لأنني في بيته، وتناولت طعامه فأمنت غضبته.. وقلت له: والآتي هو المعنى، وليس نص الحوار "إن الأولياء لا يدرك درجاتهم إلا من كان على درجتهم من الصفاء والشفافية، وأنهم رجال أخلصوا لله.. فجعل لهم دون الناس ما خصهم به من آيات.. وأن.. وأن.. وأن.. وانتظر الدكتور حتى انتهيت من هجومي.. وأحسست أنه لن يجد ما يقوله.. وإذا به يقول:
ـ هل تعتقد أن أي شيخ منهم كان أكرم على الله من رسوله ...؟
ـ قلت مذهولاً: لا.
ـ إذاً كيف يمشي بعضهم على الماء أو يطير في الهواء.. أو يقطف ثمار الجنة وهو على الأرض.. ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يفعل ذلك ؟(59/118)
كان يمكن أن يكون ذلك كافياً لإقناعي أو لتراجعي.. لكن التعصب قاتله الله.. كبر على أن أسلم بهذه البساطة – كيف ألغي ثقافة إسلامية عمرها في حياتي أكثر من ثلاثين عاماً.. قد تكون مغلوطة.. غير أني فهمتها على أنها الحقيقة ولا حقيقة سواها.
وعدت أقرأ من جديد في الكتب التي تملأ مكتبتي.. وأعود إلى الدكتور ويستمر الحوار بيننا إلى ساعة متأخرة من الليل – فقد كنت من كبار عشاق الصوفية.. لماذا؟ لأني أحب أشعارهم وأحب موسيقاهم وألحانهم التي هي مزيج من التراث الشعبي، وخليط من ألحان قديمة متنوعة.. شرقية، وفارسية ومملوكية، وطبلة أفريقية أحياناً.. تدق وحدها.. أو ناي مصري حزين ينفرد بالأنين مع بعض أشعارهم التي تتحدث عن لقاء الحبيب بمحبوبه وقت السحر.
لهذا وللأسباب الأخرى أحببت الصوفية.. وكنت أعشقها، وأحفظ عن ظهر قلب الكثير من شعر أقطابها.. لا سيما "ابن الفارض" وكل حجتي التي أبسطها في معارضة الدكتور أنه وأمثاله من الذين يدعون إلى "التوحيد" لا يرون للدين روحاً، وإنما يجردونه من الخيال، وأنهم لابد أن يصلوا إلى ما وصل إليه أصحاب الكرامات.. لكي يدركوا ما هي الكرامات.. فلن يعرف الموج إلا من شاهد البحر، ولا يعرف العشق إلا من كابد الحب – وهذا أسلوب صوفي أيضاً في الاستدلال ولهم بيت شهير في هذا المعنى.
وحتى لا يضطرب وجداني، وتتمزق مشاعري.. حاولت أن أنقطع عن لقاء الدكتور.. ولكنه لم يتركني.. فوجئت به يدق جرس الباب ولم أصدق عيني كان هو.. قد جاء يسأل عني وتكلمنا كالعادة كثيراً وطويلاً.. فلما سألني عن سبب عدم حضوري لصلاة الجمعة معه قلت له بصراحة:
ـ لقد يئست منك..
ـ قال: ولكني لم أيأس منك.. أنت فيك خير كثير للعقيدة.
ـ قلت: إنه يستدرجني على طريقته.. ولمحت معه كتاباً من تأليفه عن سيرة "الإمام محمد بن عبد الوهاب" فقلت له:
ـ أعطني هذه النسخة.. هل يمكن ذلك؟
ـ قال: هذه النسخة بالذات ليست لك، وسوف أعدك بواحدة.(59/119)
وهذه هي طريقته للإثارة دائماً.. لا يعطيني ما أطلب من أول مرة.. فخطفت النسخة ورفضت إعادتها له.
وبعد منتصف الليل بدأت القراءة.. وشدني الكتاب موضوعاً وأسلوباً فلم أنم حتى الصباح.
[ 2 ]
كان الكتاب على حجمه المتواضع – كالإعصار – كالزلزال.. أخذني من نفسي ليضعني على حافة آفاق جديدة. حكاية الشيخ "محمد بن عبد الوهاب" نفسه.. ثم قصة دعوته وما كابده من معاناة طويلة.. حينما كانت في صدره جنيناً.. وكلما قرأت صفحة وجدت قلبي مع السطور.. فإذا أغلقت الكتاب لأمرٍ من الأمور.. يطلب التفكير أو البحث في كتب أخرى.. استشعرت الذنب لأنني تركت الشيخ في "البصرة" ولم أصبر حتى يعود.. أو تركته في بغداد يستعد للسفر إلى "كردستان".. ولابد أن أصبر معه حتى يعود من غربته إلى بلده.
يقول الدكتور في كتابه "مجدد القرن الثاني عشر الهجري شيخ الإسلام الإمام محمد بن عبد الوهاب": وبعد هذا الطواف والتجوال هل وجد ضالته المنشودة؟
لا فإن العالم الإسلامي كله كان يعاني نوبات قاسية من الجهل والانحطاط والتأخر.. عاد الرجل إلى بلده يحمل بين جوانحه ألماً شديداً لما أصاب المسلمين من انتكاس وتقهقر في كل مناحي حياتهم.
عاد إلى بلده وفي ذهنه فكرة تساوره بالليل والنهار...
لماذا لا يدعو الناس إلى الله ؟
لماذا لا يذكرهم بهدى رسول الله ؟
لماذا ... لماذا ...؟
إذاً فهذه العقيدة التي يريدها الدكتور لم تأت من فراغ.. فمنذ القرن الثاني عشر الهجري.. والإمام محمد بن عبد الوهاب يفكر، ويقدم لكي يهدم صروح الأضرحة، ويحطم شيخ الخرافات ويطارد المشعوذين الذين لطخوا وجه الشريعة السمحاء.. بخزعبلاتهم التي اكتسبت مع الأيام قداسة.. تخلع قلوب المؤمنين إذا فكروا في إزالتها وفي ذلك يقول الكتاب:
"ماذا كان وقع هذه الأعمال على نفوس القوم؟...".(59/120)
ويجيب المؤرخون على ما يرويه الأستاذ أحمد حسين في كتابه "مشاهداتي في جزيرة العرب" أن القوم لم يقبلوا مشاركة الرجل فيما قام به من قطع الأشجار، وهدم القباب.. بل تركوا له وحده أن يقوم بهذا العمل حتى إذا ما كان هناك شر أصابه وحده..
هل يكون ما يزلزل كياني الآن هو الخوف الذي ورثته؟ وهو نفس الذي جعل الناس في بلدة "العيينة" موطن الشيخ يتركونه يزيل الأشجار، وقبة قبر "زيد بن الخطاب" بنفسه.. خوفاً من أن تصيبهم اللعنات المتخلفة من كرامات هذه الأماكن وأصحابها؟
ومضيت أقرأ، ومع كل صفحة أشعر أنني أخلع من جدار الوهم في أعماقي حجراً ضخماً.. وحينما بلغت منتصف الكتاب كانت فجوة كبيرة داخلي قد انفتحت، وتسلل منها ومعها نور اليقين.. ولكن في زحمة الظلمة التي كانت تعشش داخلي.. كان الشعاع يومض لحظة ويختفي لحظات..
لقد استطاع الدكتور أن ينتصر.. ترني أحارب نفسي بنفسي.. بل جعلني أتابع مسيرة التوحيد مع شيخها محمد بن عبد الوهّاب، وأشفق عليه من المؤامرات التي تحاك ضده، وحوله.. وكيف أنه حينما أقام الحد على المرأة التي زنت في "العيينة" غضب حاكم "الإحساء" سليمان بن محمد بن عبد العزيز الحميدي، واستشعر الخطر من الدعوة الجديدة وصاحبها.. فكتب إلى حاكم "العيينة" ابن معمر يأمره بكتم أنفاسها، وقتل المنادي بها، والعودة فوراً إلى حظيرة الخرافات والخزعبلات.(59/121)
ولما كان "ابن معمر" قد ارتبط مع الشيخ في مصاهرة.. فقد زوجه ابنته فإنه تردد في قتله، ولكنه دعاه إلى اجتماع مغلق، وقرأ عليه رسالة حاكم "الإحساء" ثم رسم اليأس كله على ملامحه، وقال له: إنه لا يستطيع أن يعصي أمراً لحاكم "الإحساء" لأنه لا قبل له به.. ولعلها لحظة يأس كشفت للشيخ عن عدم إيمان "ابن معمر".. ولم تزد الشيخ إلا إصراراً على عقيدته، وقوة توحيده.. فالحكام الطغاة لا يحاربون دائماً إلا داعية الحق.. وقبل الشيخ في غير عتاب أن يغادر "العيينة" مهاجراً في سبيل الله بتوحيده باحثاً عن أرض جديدة يزرعه فيها.
في الصباح استيقظت على ضجة في البيت غير عادية.. واعتدلت في فراشي ووصلت إلى أذني أصوات ليست آدمية خالصة، ولا حيوانية خالصة.. ثغاء، وصياح، ولكام.. غير مفهوم العبارات.. وقلت لابد أنني أعاني من بقية حلم ثقيل.. فتأكدت من يقظتي، ولكن "الثغاء" هذه المرة.. اخترق طبلة أذني.. ودخلت علي زوجتي تحمل إلي أنباء سارة جداً وهي تتلخص في أن ابنة خالتي التي تعيش في أقصى الصعيد.. ومعها زوجها وابنها البالغ من العمر ثلاث سنوات قد وصلوا في قطار الصعيد فجراً ومعهم "الخروف"..
وظنت أن زوجتي تداعبني.. أو أن ابنة خالتي، وكنت أعرف أن أولادها يموتون في السنوات الأولى.. قد أطلقت على طفل لها اسم "خروف" لكي يعيش مثلاً.. وهي عادات معروفة في الصعيد.. وقبل أن أتبين المسألة أحسست بمظاهرة من أولادي تقترب من باب حجرة نومي.. وفجأة وبدون استئذان اقتحم الباب "خروف" له فروة، وقرون، وأربعة أقدام.. واندفع في جنون من مطاردة الأولاد له.. فحطم ما اعترض طريقه.. ثم اتجه إلى المرآة، وفي قفزة "هترية" اعتدى على المرآة بنطحة قوية تداعت بعدها، وأحدثت أصواتاً عجيبة وهي تتحطم.(59/122)
تم كل ذلك في لحظة سريعة.. وقبل أن أسترد أنفاسي خيل إلي أن بيتنا انفتح على حديقة الحيوانات.. رغم أنني أسكن في العباسية، والحديقة في الجيزة.. ولكن وجدت نفسي أقفز من على السرير، وخشيت زوجتي ثورة "الخروف" وتضاءلت فانزوت في ركن.. ترمقني بعينيها، وتشجعني لكي أتصدى لهذا الحيوان المجنون.. الذي اقتحم علينا خلوتنا.. ولكن الصوت والزجاج المتناثر زاد من هياج الحيوان.. ولمحت في عينيه وفي قرنيه الموت الزؤام.. واستعدت في ذهني كل حركات مصارعي الثيران، وأمسكت بملاءة السرير وقبل أن أجرب رشاقتي في الصراع مع "الخروف" دخلت ابنة خالتي.. وفي حالة انزعاج كامل.. فقد خيل لها أنني سوف أقتله وصاحت وهي على يقين من أنني سأصرعه:
ـ حاسب هذا خروف "السيد البدوي".
ونادته فتقدم إليها في دلال، وكأنه الطفل المدلل.. فأمسكت به تربت على رأسه وروت لي أنها قدمت من الصعيد، ومعها هذا الخروف البكر الرشيق الذي أنفقت في تربيته ثلاث أعوام.. هي عمر ابنها.. لأنها نذرت للسيد البدوي إذا عاش ابنها أن تذبح على أعتابه "خروفاً" وبعد غد يبدأ العام الثالث موعد النذر.
كانت تقول كل هذه العبارات، وهي سعيدة وخرجت إلى الصالة لأجد زوجها وهو في ابتهاج عظيم.. يطلب مني أن أرافقهم إلى "طنطا".. لكي أرى هذا المهرجان العظيم لأنهم نظراً لبعد المسافة اكتفوا بالخروف.. أما الذين على مقربة من "السيد البدوي" فإنهم يبعثون بجمال.. وأصبح علي أن أجامل ابنة خالتي لكي يعيش ابنها، وإلا اعتبر قاطعاً للرحم.. لا يهمني أن يعيش ابن بنت خالتي أو يموت.. ولابد أن أذهب معهم إلى مهرجان الشرك وفي نفس الوقت كنت أسال نفسي: كيف أقنعها بأنها في طريقها إلى الكفر..؟ وماذا سيحدث حينما أحطم لها الحلم الجميل الذي تعيش فيه منذ ثلاث سنوات؟(59/123)
وقلت: أبدأ بزوجها أولاً لأن الرجال قوامون على النساء.. وأخذت الزوج إلى ناحية في البيت، وتعمدت أن يرى في يدي كتاب "الإمام محمد بن عبد الوهّاب" ومد يده فجعل الغلاف ناحيته، وما كاد يقرأ العنوان حتى قفز كأنه أمسك بجمرة نار.
[ 3 ]
قرأ زوج ابنة خالتي عنوان الكتاب الذي يقول إن في الصفحات قصة "الشيخ محمد بن عبد الوهاب" ودعوته – وهتف صارخاً: ما هذا الذي أقرؤه؟ وكيف وصلني هذا الكتاب؟.. لابد أن أحدهم دسه علي.. فهو يعرف أنني رجل متزن.. أحرص على ديني وعلى زيارة الأضرحة، وتقديم الشموع، والنذور، وأحياناً القرابين المذبوحة والحية. كما يفعل هو تماماً.. ورأيت في عينيه نظرة رثاء إلى ما رماني به القدر في تلك النسخة.. وكان على أن أقف منه موقف الدكتور محمد جميل غازي مني سابقاً.. وشاء الله أن يكون ذلك بمثابة الامتحان لي.. وهل في استطاعتي أن أطبق ما قرأت أم لا؟ وهل استوعبت عن يقين ما قرأت أم لا؟ والأهم من ذلك هو مدى إصراري على عقيدتي وإقناع الآخرين بها أيضاً.. فالذي لا يؤثر في المحيط الذي يعيش فيه هو صاحب عقيدة سلبية.. غير إيجابية.. فليس من المعقول في شيء أن أطري "توحيدي" على نفسي وأترك الآخرين يعيشون في ضلالة.. لأنهم بعد فترة سوف يغرقونني في خرافاتهم.. وعليه فلابد أن أجادلهم بالتي هي أحسن.. لا أتركهم يشعرون أن الأمر هين.. لابد أن أنفرهم من شركهم وهم لابد أن يتراجعوا.. لأن "الخرافة" نظراً لأنها تقوم على ضلالات هشة.. لا يكاد الشك يدخلها حتى يهدمها، والحق في تعقبها إذا كان لحوحاً قضى عليها أو على أقل تقدير أوقف نموها حتى لا تصيب الآخرين.. ومن أجل ذلك كله قررت أن أتوكل على الله، وأبدأ الشرح للرجل.. ولم تكن المهمة سهلة.. فلابد أولاً أن أطمئنه، وأزيل ما بينه وبين سيرة الشيخ "محمد بن عبد الوهاب".. ثم ما ترسب في ذهنه من زمن عن "الوهابية والوهابيين".. ففي أول الحديث اتهم "الوهابية" بعدد من الاتهامات يعلم(59/124)
الله أن دعوة "التوحيد" بريئة منها براءة الذئب من دم يوسف عليه السلام..
ورحت أحاول في حماس شديد أن اشرح له سر حملات الكراهية، والبغضاء التي يشنها البعض على دعوة "التوحيد".. وكيف أنها أحيت شعائر الشريعة، وأصول العبادات، وفي ذلك القضاء على محترفي الدجل، وحراس المقابر، وسدنة الأضرحة، والذين يكدسون الأموال عاماً بعد عام.. من بيع البركات، وتوزيع الحسنات على طلاب المقاعد في الجنة.. فالمقاعد محدودة والوقت قد أزف.. ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
ولمحت على ملامحه بعض سمات الخير.. نظر إلي في دهشة كأنه يفيق من غيبوبة.. ورغم ذلك فقد راح يتشنج، ويدافع عن أهل الله الذين ينامون في قبورهم.. لكن يتحكمون بأرواحهم في بقية الكون، وأنهم يدعون كل ليلة جمعة للاجتماع عند قطب من الأقطاب.. وحتى النساء من الشهيرات يلتقين أيضاً مع الرجال الأقطاب، وينظرون في شؤون الكون.
ولم أكن أطمع في زحزحته عن معتقدات في ضميره عمرها أكثر من ثلاثين سنة.. فاكتفيت بأن طلبت منه أن ينظر في الأمر هل هؤلاء الموتى من أصحاب الأضرحة أكرم عند الله.. أم محمد رسول الله؟.. ثم يفكر طويلاً ويجيء إلي بالنتيجة.. دون ما تحيز أو تعصب.. ووعدني بأن يفكرن ولكنه فقط يطلب مني أن أرافقهم في رحلتهم الميمونة إلى "طنطا".. فقلت له: إن هذا المستحيل لن يحدث.. وإذا كان مصمماً على الذهاب هو وزوجته إلى "السيد البدوي" حتى يعيش ابنهم.. فالمعنى الوحيد لذلك هو أن الأعمار بيد "السيد البدوي" وحملق في، وصاح:
ـ لا تكفر يا رجل..
فقلت له: أينا يكفر الآخر؟ أنا الذي أطلب منك أن تتوجه إلى الله؟ أم أنت الذي تصر على أن تتوجه إلى "السيد البدوي"؟(59/125)
وسكت واعتبر هذا مني إهانة لضيافته، وأخذ زوجته، وأخذت زوجته الخروف وابنها، وانصرفوا من العباسية في القاهرة إلى "طنطا"، وحينما وقفت أودعهم.. همست في أذن الزوج أنه إذا تفضل بعدم المرور علينا بعد العودة من مهرجان الشرك.. فإنني أكون شاكراً له ما يفعل، وإلا لقي مني ما يضايقه.. وازداد ذهول الرجل ومضى الركب الغريب يسوق الخروج نحو "طنطا"..
وانثنت زوجتي تلومني لأنني كنت قاسياً معهم، وهم الذين يخافون على طفلهم.. الذي عاش لهم بعد أن تقدمت بهما العمر، ومات لهما من الأطفال الكثير.. وصحت في زوجتي: إن الطفل إذا كان سيعيش فذلك لأن الله يريد له أن يعيش، وإن كان سيموت فذلك لأن الله يريد له ذلك، لا شريك لله في أوامره، ولا شريك له في إرادته.
وذهبت إلى إدارة الجريدة التي أعمل بها.. وإذا بالدكتور يتصل بي تليفونياً ليتحدث معي في شأن له، ولم يخطر بباله أن يسألني: ما فعل بي الكتاب؟ أو ماذا فعلت به.. واضطررت أن أقول له.. أني في حاجة لمناقشة بعض ما جاء في الكتاب معه.. والتقينا في الليل وحدثته عن الكارثة التي جاءتني من الصعيد، ولم يعلق على محاولتي إقناعهم بالعدول عن شركهم.. مع أنني منذ أيام فقط كنت لا أقل شركاً عنهم.. وقلت له: ألا يلفت نظرك أنني أقول لهم ما كنت تقوله لي؟
قال في هدوء يغيظ: إنه كان على يقين من أنني سوف أكون شيئاً مفيداً للدعوة.. وأردت الاحتجاج على أنني من "الأشياء" ولست من الآدميين.. لكن الدكتور لم يتوقف وقال: لقد صدر منك كل هذا بعد قراءة نصف الكتاب.. فكيف بك إذا قرأت الكتب الأخرى.. وأغرق في الضحك.. وعلمت بعد أيام أن قريبتي عادة من "طنطا" إلى الصعيد مباشرة دون المرور علينا في القاهرة، وأنها غاضبة مني، وشكتني لكل شيوخ الأسرة، وفي الأسبوع الثاني فوجئت بجرس الباب يدق.. وذهب ابني الصغير ليستطلع الأمر.. ثم عاد يقول لي:
ـ إبراهيم الحران..(59/126)
"الحران".. إنه زوج ابنه خالتي ماذا حدث؟ هل جاءوا بخروف جديد، ونذر جديد لضريح جديد.. أم ماذا؟ وقررت أن يخرج غضبي من الصمت إلى العدوان هذه المرة، ولو بالضرب.. ومشيت في ثورة إلى الباب.. وإذا بهذا "الحران" يمد يده ليصافحني، ودعوته إلى الدخول فرفض.. إذاً لماذا جاء؟ وفيما جاء؟ وابتسم ابتسامة مغتضبة وهو يقول: إنه يطلب كتاب "الشيخ محمد بن عبد الوهاب" الذي عندي وحملقت فيه طويلاً، وجلست على أقرب مقعد..
[ 4 ]
سقطت قلعة من قلاع الجاهلية.. لكن لماذا؟ وكيف كان ذاك السقوط؟ جاء صاحبي "إبراهيم" يسعى بقدميه.. يطلب ويلح في أن يبدأ مسيرة التوحيد.. لابد أن وراء عودته أمراً ليس من المعقول أن يحدث ذلك بلا أسباب قوية جعلت أعماقه تتفتح، وتفيق.. على حقائق غفل عنها طويلاً.
ورحمة بي من الذهول والإغماء الذي أوشك أن يصيبني.. بدأ يتكلم، وكانت الجملة التي سقطت من فمه.. ثقيلة كالحجر الذي يهبط من قمة جبل.. صكت سمعي.. ثم ألقت بنفسها تتفجر على الأرض.. تصيب وتدمي شظاياها وقال:
ـ لقد مات ابني عقب عودتنا.. إنا لله وإنا إليه راجعون.
هذا هو الولد الرابع الذي يموت لإبراهيم تباعاً، وكلما بلغ الطفل العام الثالث.. لحق بسابقه.. وبدلاً من أن يذهب إلى الأطباء ليعالج مع زوجته بعض التحليلات اللازمة.. فقد يكون مبعث ذلك مرض في دم الأب أو الأم.. اقتنع، وقنع بأن ينذر مع زجته مرة للشيخ هذا، ومرة للضريح ذاك، وأخرى لمغارة في جبل بني سويف.. إذا عاش طفله، ولكن ذلك كله لم ينفعه.. ورغم الجهل والظلم الذي يظلمه لنفسه.. إلا أنني حزنت من أجله تألمت حقيقة.. أخذته من يده.. أدخلته.. جلست أستمع إلى التفاصيل.(59/127)
لقد عاد من "طنطا" مع زوجته إلى بلدهما.. وحملا معهما بعض أجزاء من "الخروف" الذي كان قد ذبح على أعتاب ضريح "السيد البدوي".. فقد كانت تعاليم الجهالة تقضي بأن يعودا ببعضه.. التماساً لتوزيع البركة على بقية المحبين، وأيضاً لكي يأكلوا من هذه الأجزاء.. التي لم تتوفر لها إجراءات الحفظ الصالحة ففسدت.. وأصابت كل من أكل منها بنزلة معوية.. وقد تصدى لها الكبار وصمدوا.. أما الطفل.. فمرض، وانتظرت الأم بجهلها أن يتدخل "السيد البدوي" لكن حالة الطفل ساءت.. وفي آخر الأمر ذهبت به للطبيب الذي أهله أن تترك الأم ابنها يتعذب طوال هذه الأيام.. فقد استغرق مرضه أربعة أيام.. وهز الطبيب رأسه، ولكنه لم ييأس.. وكتب العلاج "أدوية، وحقن"، ولكن الطفل اشتد عليه المرض ولم يقو جسمه على المقاومة فمات.
من موت الطفل بدأت المشاكل.. كانت الصدمة على الأم أكبر من أن تتحملها.. ففقدت وعيها.. أصابتها لوثة جعلتها تمسك بأي شيء تلقاه، وتحمله على كتفها وتهدهده وتداعبه على أنه ابنها.. أما الأب فقد انطوى يفكر في جدية بعد أن جعلته الصدمة يبصر أن الأمر كله لله.. لا شريك له.. وأن ذهابه عاماً بعد عام إلى الأضرحة والقبور.. لم يزده إلا خسارة.. واعترف لي بأن الحوار الذي دار بيني وبينه كان يطن في أذنيه.. عقب الكارثة ثم صمت.. فقلت له بعض الكلام الذي يخفف عنه، والذي يجب أن يقال في مثل هذه المناسبات.. ولكن بقي في نفسي من حديثه.. فهو لم يكمل ماذا حدث للسيدة المنكوبة وهل شفيت من لوثتها أم لا؟(59/128)
فقلت له: لعل الله قد شفى الأم من لوثتها؟.. فأجاب وهو مطأطئ الرأس: إن أهلها يصرون على الطواف بها.. على بعض الأضرحة والكنائس أيضاً.. ويرفضون عرضها على أي طبيب من أطباء الأمراض النفسية والعصبية.. ليس ذلك فحسب.. بل ذهبوا بها إلى "سيدة" لها صحبة مع الجن فكتبت لها على طبق أبيض.. وهكذا تزداد العلة عليها في كل يوم وتتفاقم.. وكل ما يفعله الدجالون يذهب مع النقود المدفوعة إلى الفناء.
وحينما أراد أن يحسم الأمر.. وأصر على أن تعرض على طبيب.. أو يطلقها لهم.. لأنهم سبب إفسادها.. برزت أمها تتحداه وركبت رأسها فاضطر إلى طلاقها وهو كاره.
أثارتني قصته ورغم حرصي على النسخة التي حصلت عليها من الدكتور جميل إلا أنني أتيته بها وناولتها له.. فأمسك بها وقلبها بين يديه.. وعلى غلافها الأخير كان مكتوباً كلاماً راح يقرؤه بصوت عال.. كأنه يسمع نفسه قبل أن يسمعني "نواقض الإسلام" من كلمات شيخ الإسلام "محمد بن عبد الوهّاب": [ومن يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة، ومأواه النار وما للظالمين من أنصار] ومنه الذبح لغير الله كمن يذبح للجن أو للقبر.
ورفع رأسه فحملق في وجهي.. ثم أخذ الكتاب، وانصرف واشترط أن يعيده لي بعد أيام، وأن أحضر له من الكتب ما يعينه على المضي في طريق التوحيد.
انصرف إبراهيم، والمأساة التي وقعت له تتسرب إلى كياني قطرة بعد قطرة.. فهي ليست مأساة فرد، ولا جماعة، وإنما هي مأساة بعض المسلمين في كثير من الأمصار.. الخرافة أحب إليهم من الحقيقة، والضلالة أقرب إلى أفئدتهم من الهداية، والابتداع يجتذبهم بعيداً عن السنة..(59/129)
حاولت الاتصال تليفونياً بالدكتور جميل.. فقد كنت أريد أن أنهي إليه أخبار "إبراهيم" ولكني لم أجده فبدأت العمل في كتابات لمجلة شهرية تصدر في قطر.. اعتادت أن تنشر لي أبحاثاً عن "الجريمة في الأدب العربي" وصففت أمامي المراجع، وبدأت مستعيناً بالله على الكتابة، وإذا بالتليفون يدق.. كان المتكلم مصدراً رسمياً في وزارة الداخلية يدعوني بحكم مهنتي كصحفي متخصص في الجريمة.. لحضور تحقيق في قضية مصرع أحد عملاء البلاط، وكان قد عثر على جثته في جوال من يومين.
تركت كل ما كان يشغلني إلى مكان التحقيق.. والغريب في الأمر أن يكون الأساس الذي قامت عليه هذه الجريمة هو السقوط أيضاً في هاوية الشرك، والدجل والشعوذة.. بشكل يدعو إلى الإشفاق.. فالقتيل كان يدعى صحبة الجن، والقدرة على التوفيق بين الزوجين المتنافرين، وشفاء بعض الأمراض وقضاء الحاجات المستعصية.. إلى جانب عمله في مهنة البلاط.
أما المتهم القاتل.. فكان من أبناء الصعيد تجاوز الخمسين من عمره، وكان متزوجاً من امرأة لم تنجب.. فطلقها، وتزوج بأخرى في السابعة عشرة من عمرها لكنها هي الأخرى لم تنجب.. وبلغه من تحرياته أن مطلقته قامت بعمل سحر له نكاية فيه.. يمنعه من الإنجاب مع زوجته الجديدة.. فاتصل بذلك الرجل الذي كان شاباً لم يتجاوز الأربعين.. واتفق معه على أن يقوم له بعمل مضاد.. وتلقف الدجال فرصة مواتية.. وذهب معه إلى البيت وكتب له الدجال بعد أن تناول العشاء الدسم.. وأمره بإحضار بعض مستلزمات حضور الجن من بخور وشموع وعطور، وذهب الرجل ليشتريها.. وترك "الدجال" وزوجته الحسناء في البيت..
[ 5 ](59/130)
خرج الرجل مسرعاً يشتري البخور الذي سيحرق تمهيداً لاستحضار الجن.. وترك الدجال الشاب في البيت مع الزوجة الحسناء وكان لابد أن يحدث ما يقع في مثل هذه المواقف.. فقد حاول المشعوذ أن يعتدي على الزوجة.. إذ راودها في عنف ليفتك بشرفها، وهي العفيفة الشريفة.. فقامت لتغادر البيت إلى جارة لها حتى يصل زوجها.. وإذا بها تجد زوجها على الباب.. فقد نسي أن يأخذ حافظة نقوده.. وروت له في غضب ما وقع من الدجال، وانفعل الزوج الصعيدي وحمل عصا غليطة.. ودخل على الدجال في الغرفة وانهال عليه بالعصا حتى حطم رأسه.. بعدها وجد نفسه أمام جثة لابد أن يتخلص منها.. فجلس يفكر.
خرج ليلاً فاشترى جوالاً وعاد فوضع الجثة فيه.. وانتظر حتى انتصف الليل.. ثم حمل الجثة على كتفه وألقى بها في خلاء على مقربة من الحي الذي يسكنون فيه.. وعاد إلى غرفته يحاول طمس الآثار ومحوها.. وظن أنه تخلص من الدجال الشاب إلى الأبد.
لكن رجال الشرطة.. بعد عثورهم على الجثة بدأوا أبحاثهم عن الجوال الذي كان يحتوي على الجثة.. وما كادوا يعرضونه على البقالين في المنطقة حتى قال لهم أحدهم إن الذي اشتراه منه هو فلانن وكان ذلك بالأمس فقط وألقت الشرطة القبض على الرجل، وفتشت غرفته فوجدت الآثار الدالة على ارتكاب الجريمة.. وضيق عليه الخناق فاعترف بتفاصيل الجريمة.
لم يكن حضوري هذا التحقيق صدفة فكل شيء يجري في ملكوت الله بقدر.. إذ يسوق هذه الجريمة المتعلقة أيضاً بفساد العقيدة لتجعلني أناقش مع الآخرين.. قضية العقيدة والخرافة من بذورها الأولى.. ولماذا تروج الخرافة وتتغلغل في كيانات البشر دون وازع؟ هل لأن الذي يتاجرون بها أوسع ذكاء من الضحايا؟(59/131)
وماذا يجعل الضحايا وهم ملايين.. يندفعون إلى ممارستها، والإيمان بها، والتعصب لها؟ أم أن "الوثنية" التي هي الإيمان بالمحسوس والملموس.. التي ترسبت في أذهان العالمين سنين طويلة تفرض نفسها على الناس من جديد.. تساندها الظروف النفسية لبعض البشر.. الذين يعجزون عن الوصول إلى تفسير لها ؟
فالقاتل والقتيل في هذه الجريمة.. كلاهما فاسد العقيدة.. لا يعرفان من الإسلام سوى اسمه.. فالقتيل مشعوذ يمشي بين عباد الله بالسوء، ويكذب عليهم، ويدعي أنه على صلة بالجن وأنه يشقى ويسعد، ويشفي ويمرض بمعاونة الجن، وفي ذلك شرك مضاعف مع الإضرار بالناس.. أما القاتل فهو من فرط جهالته يعتقد أن إنساناً مثله في وسعه أن يجعله ينجب ولداً أو بنتاً وقد يكون عذره أنه في لهفته على الإنجاب ألغي عقله.. غير أنه لو كانت له عقيدة سليمة ترسخ في ذهنه أن الله بلا شركاء، وأن النفع والضر بيد الله فقط، وتؤصل هذه المفاهيم في أعماقه.. ما كان يمكنه أن يستسلم لدجال ولاستطاعت عقيدته أن تحميه من السقوط في أيدي مثل هذا المشعوذ.(59/132)
وفي كثير من الأحيان يصل الأمر ببعض المتعصبين إلى أن يجعل من نفسه داعية للخرافة.. يروج لها، ويدافع عنها، وعلى استعداد للقتال في سبيلها.. فقد نجد من ينبري في المجالس.. فيروي كيف أن الشيخ الفلاني أنقذه هذه الأيام من ورطة كانت تحيق به، وأنه كان لن يحصل على الترقية هذا العام لولا أن الشيخ الفلاني صنع له "تحويطة" وأنه كان على خلاف مع زوجته وضعتهما على حافة الطلاق.. لولا أن الشيخ الفلاني كتب له ورقة وضعها تحت إبطه.. إلخ وتحضرني في هذا المجال.. قصة سيدة تخرجت من جامعة القاهرة، ودرست حتى حصلت على الدكتوراه في علوم الزراعة، وتشغل الآن وظيفة مديرة مكتب وزير زراعة إحدى الدول العربي هذه السيدة حاملة الدكتوراه.. عثر زوجها ذات يوم على حجاب تحت وسادته – فسأل زوجته.. فقالت: إنها دفعت فيه مالاً يقل عن خمسين جنيهاً.. لكي تستميل قلبه لأنها تشعر بجفوته في الأيام الأخيرة.. وكانت النتيجة أن زوجها طلقها طبعاً.. وراوي قصتها هو محاميها نفسه الذي تولى دعواها التي أقامتها ضد زوجها...
وترتفع الخرافة إلى الذروة.. حينما يعمد المتخصصون فيها إلى تقسيم تخصصات المشايخ والأضرحة.. فضريح السيدة فلانة يزار لزواج العوانس، والشيخ فلان يزار ضريحه في مسائل الرزق، والقادرة الشاطرة صاحبة الضريح الفلاني يحج إليها في مشاكل الحب، والهجر، والفراق، والطلاق، وأخرى في أمراض الأطفال، والعيون، وعسر الهضم وهكذا.. مؤامرة محكمة الحلقات.. تلف خيوطها حول السذج والمساكين، وكأنهم لم يقرأوا في القرآن: { وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدُيرٌ } [الأنعام: 17]، وكأنهم لم يسمعوا بالحديث الشريف: ”من تعلق تميمة فقد أشرك“.(59/133)
إن الانصياع للخرافات ليس وقفاً على عامة الناس أو جهلتهم.. بل من المؤسف أنها تتمتع بسلطان كبير بين المتعلمين، والذين درسوا في أرقى الجامعات.. وإذاً فالأصل فيها هو أنها تتسلل إلى ضمائر الناس.. الذين لا تحميهم عقيدة سليمة.. تصد عنهم هذه "الشركيات" الشرسة الضارية.. فالذي لا شك فيه.. هو أن الرجل الذي وثق إيمانه بالله، واقتنع بأن الله هو مالك كل شيء، ورب كل شيء لا شريك ولا وسيط له.. هذا الرجل سوف يعيش في مناعة إيمانه.. متحصناً بعقيدته.. لا تصل إليه المفاسد.. بل وتنكسر على صخرة إيمانه كل هذه الخزعبلات.. لماذا؟ لأنه أنهى أمره إلى الله، ولم تعد المسألة في حسابه قابلة للمناقشة!
فالإيمان بالله، واعتناق العقيدة السليمة شيء ليس بالضرورة في الكتب أو في الجامعات.. إنه أبسط من ذلك.. فالله سبحانه وتعالى جعله في متناول الجميع حتى لا يحرم منه فقير لفقره.. أو يستأثر به غني لغناه..
وبينما أنا منهمك أكتب هذه الحلقة.. إذ بضجيج تصحبه دقات عنيفة لطبل يمزق سكون الليل ويبدده.. وراح هذا الضجيج يعود ويعربد في ليل الحي.. دون أن يتوقف إلا للحظات.. يتغير فيها الإيقاع ثم يعود ضارباً..متوحشاً.. يهز الجدران.. وعرفت بخبرتي من الألحان، والأصوات المنفردة التي تصاحبها.. إن إحدى المترفات من الجيران تقيم حفلة "زار".. وأنها لابد أن تكن قد دعت كل صديقاتها المصابات مثلها بمس من الجن.. لكي يشهدن حفلها.. إذ لم تكن هذه هي المرة الأولى التي تقيم فيها مثل هذه الحفلة فهي تقوم بعملها هذا مرة كل ستة شهور.. حرصاً على إرضاء الجن الذي يسكن جسدها..(59/134)
وعبثاً حاولت الوصول إلى وسيلة للهرب من تلك الكارثة التي تقتحم على أذني.. فتركت الكتابة، وحاولت أن أقرأ.. وفي خضم هذه المعاناة.. جاء صديق لي من كبار علماء الأزهر، ومن الذين يعملون في وزارة الأوقاف وشؤون الأزهر ليزورني واستقبلته فرحاً.. لأنني أحب النقاش معه، ولأنه سوف يخلصني من عذاب الاستماع إلى الدفات الهمجية.
وشكوت إليه جارتي، ودخلنا في مناقشة عن "الجن" وشكوى الناس منه، وإدعاء السيدات أنه يركبهن، والجيش الجرار من النساء، والرجال الذين يحترفون عمل حفلات "الزار" وإذا بالرجل الذي حمل شهادة أزهرية عليا.. يؤكد لي أنه كانت له شقيقة.. مسها الجن عقب معركة نشبت بينها وبين زوجها، فعطل "الجن" ذراعها الأيمن عن العمل بضعة أيام.. ولم يتركها الجن إلا بعد أن أقاموا لها حفلة "زار" عقدت الشيخة بينها وبين "الجن" معاهدة تعايش سلمي.. وترك ذراعها على أن تقيم هذا الحفل مرة كل عام.
كان هذا كلام الرجل العالم.. طال صمتي.. فقد كنت أفكر في المسكين "إبراهيم الحران" وزوجته الأمية.. فلا عتاب عليهما ولا لوم.. مادام هذا هو رأي مثل هذا الرجل في "الزار".. وكانت الدقات العنيفة لاتزال تصل إلى آذاننا، والصمت المسكين يتلاشى أمام الأصوات المسعورة التي تصرخ في جنون تستجدي رضا الجن، وتستعطف قلوب العفاريت..
[ 6 ]
انتهت سهرتي مع صديقي العالم الأزهري الخالص.. الذي فجعني فيه إخلاصي له.. إذ وجدته من المؤمنين بالخرافة.. والمؤيدين لحكايات الجن.. وأحسست بأن وقتي ضاع بين هذا المغلوط العقيدة ودقات "الزار" التي كانت تقتحم على نوافذ مكتبي.. دون مجير شهم ينقذني من الاثنين.(59/135)
وفي الصباح استيقظت على جرس التليفون.. يصيح صيحات طويلة ومعناها أ،ا مكالمة قادمة من خارج القاهرة.. ورفعت السماعة.. لأجد أن المكالمة من الصعيد، والمتكلم هو زوج خالتي، ووالد زوجة "إبراهيم الحران".. يعلنني أنهم سوف يصلون غداً.. وقد اتصل ليتأكد أنني في القاهرة.. خوفاً من أن أكون على سفر.. فهو يريدني لأمر هام.. ورحبت به.. وقلت إنني في انتظارهم.. ولم يكن أمامي سوى أن أفعل هذا.. لألف سبب وسبب.
أولها: أن الرجل الذي اتصل بي أكن له كل الاحترام والحب، وإنني لمست في صوته رقة الرجاء، وأنا ضعيف أمام اليائس الذي يلجأ إلي في حاجة في وسعي أن أقضيها له.. أخشى أن أرده ولو بالحسنى.. وأحاول جاهداً أن أكون من الذين يجري الله الخير على أيديهم للناس.. رغم أن هذا يسبب لي الكثير من المتابع، وضياع الوقت إلا أنني أحتسب كل ذلك عند الله..
وفي الغد ومع الركب الحزين، وكل مؤلفاً من زوج خالتي، وخالتي أم زوجة "إبراهيم الحران" وابنتها التي أصابتها اللوثة بعد وفاة طفلها، وكانت في حالة يرثى لها.. تفاقمت الحالة العقلية عندها.. ودخلت في مرحلة الكآبة العميقة.. رفضت معها الكلام، وفقدت فيها الشعور بما يدور حولها.. لا تستطيع أن تفرق بين النوم واليقظة، ولا تجيب من يحدثها.. انتقلت من دنيا الناس.. إلى دنيا من الوهم، والكآبة.. حتى انزوت. وصارت هيكلاً عظمياً.. ليس فيها من علامات الحياة.. سوى عينين كآلة زجاج.. يرسلان نظرات بلا معنى.. وقال لي الأب وهو حزين.. إنه يريد مني أن أتصل بابني وهو طبيب أمراض عصبية ونفسية، ويعمل في "دار الاستشفاء للأمراض النفسية والعصبية بالعباسية" لكي يجد لها مكاناً في الدرجة الأولى.(59/136)
كانت الأم تبكي وهي نادمة تعترف بآثامها.. وكيف أنها بإصرارها على علاج ابنتها عند المشايخ، وبالجري والطواف حول الأضرحة، وضياع الوقت جعلت المرض يستفحل، ويهدم كل قدرة لابنتها على مقاومته.. واعترفت بأنها أخطأت في حق زوج ابنتها "إبراهيم الحران" واستفزته بإصرارها على الخطأ، ولكن عذرها أنها كان ضحية لجهلها، ولعشرات السيدات اللاتي كن يؤكدن لها.. أن تجاربهن مع المشايخ، والأضرحة والدجالين.. تجارب ناجحة، والمثل يقول: "اسأل مجرباً ولا تسأل طبيباً".
واستطعنا بفضل الله أن نجد لها مكاناً، وأن نلحقها في نفس اليوم بالدرجة الأولى، وقال لي ابني: إنها في حالة مطمئنة، ولا تدعو إلى اليأس.. كل ما في الأمر.. أن الإهمال جعلها تتفاقم.. وبعد مضي أسبوع واحد من العلاج.. تحسنت السيدة، وقد عولجت بالصدمات الكهربائية.. إلى جانب وسائل علاجية أخرى يعرفها المتخصصون، وخلال ذلك اتصل بي "إبراهيم الحران" فقلت له: إنني أريده في أمر هام، ولابد أن يزورني في البيت.. وحينما جاء شرحت له الأمر.. وقلت له: إن الأطباء يرون في استرداده لزوجته جزءاً من العلاج أيضاً.. ولكن لفت نظري فيه.. أنه بعد قراءته للكتب التي حصلت له عليها من الدكتور جميل غازي في التوحيد.. إنه أصبح إنساناً جديداً.. فالعبارات التي كانت تجري على لسانه من الأقسام تارة بالمصحف وتارة بالأنبياء، وتارة ببعض المشايخ قد اختفت نهائياً.. وعاد يمارس حياته بأسلوب الرجل الذي لا يعبد غير الله، ولا يخشى إلا الله، ولا يرجو سوى الله.. وحتى بعد أن حدثته في أن يعيد زوجته.. أصر على أن يجعل هذه العودة مشروطة.. بأن تقلع أم زوجته عن معتقداتها القديمة، وكذلك والد زوجته.. أما زوجته فقال إنه كفيل بها.. وعقدت بينهم جميعاً مجلساً لم ينقصه إلا الزوجة لأنها كانت بالمستشفى.. وقبلوا شروطه بعد هذا الدرس القاسي.(59/137)
كان لزيارته لزوجته في المستشفى.. أكبر الأثر في شفائها، وزادت بهجتها حينما عرفت أنه أعادها إلى عصمته.. قال لي ابني الذي كان يشرف على علاجها.. إن عودتها إلى زوجها وزيارته لها كانت العلاج الحقيقي الذي عجل بشفائها.. لأن الفتاة وهي وحيدة أبويها.. حطمتها صدمة وفاة ابنها.. ثم قضت على البقية الباقية من عقلها صدمة طلاقها.. بعد شهر وعشرة أيام تقريباً تقرر خروجها، وكان ينتظرها زوجها ووالدها ووالدتها في سيارة على الباب رحلت بهم إلى الصعيد فوراً.
لم أستطع أن أنزع من نفسي بقايا هذه المأساة، ولم يكن من السهل أن أتغافل عن الخرافة التي تخرب أو تهدم كل يوم بل وكل لحظة عشرات النفوس والبيوت في عشيرتي، وأبناء ديني.. وعلى امتداد الوطن العربي كله.. ووجدتني أسال نفسي لماذا نحن الذين نعيش في الشرق الأوسط.. تمزقنا الخرافة، وتجثم على صدر مجتمعنا الخزعبلات.. فتمسك بنا وتعوقنا عن ممارسة الحضارة..
مع أن الغرب والمجتمع الأوروبي ليس خالياً من الخرافات، وليس خالياً من الخزعبلات، ومع ذلك فهم يعيشون في حضارة، ويمارسونها.. تدفع بهم ويدفعون بها دائماً إلى الأمام؟!
الواقع أن خزعبلاتهم، وخرافاتهم في مجموعها معادية للروح.. تدفع بهم إلى الانزلاق أكثر في الماديات، وهذا هو ما يتفق وحضارتهم.
أما هنا في الشرق.. فإن خرافاتنا معادية للعقل، وللمادة معاً.. ولهذا كانت خرافاتنا هي المسؤولة عن تدمير حياتنا.. في الحاضر والمستقبل وليس هناك من سبيل لخروجنا من هذا المأزق الاجتماعي، والحضاري سوى تنقية العقيدة مما ألصق بها، وعلق بها من الشوائب التي ليست من الدين في شيء.
فحينما يصبح "التوحيد" أسلوب حياة، وثقافة، وعقيدة.. سوف تختفي من أفقنا وإلى الأبد.. هذه الغيوم.. غيوم الخرافات، والدجل، والشعوذة، والكهانة التي لا تقوى على مواجهة الحق والحقيقة.(59/138)
وتلك مسؤولية ينبغي أن تقوم بها أجهزة التربية المباشرة، وغير المباشرة، فإن ما نعيشه الآن هو صورة أسوأ مما قرأت في هذه الاعترافات، ولو أنك اخترت مائة أسرة كعينة عشوائية، وبحثت فيها لوجدت أن كل ما رويته لك في هذه الاعترافات لا يمثل إلا أقل القليل.
ولا يبقى بعد كل هذا إلا أن أزجي الشكر لصديقي الدكتور محمد جميل غازي.. وللسيد الأستاذ جابر مدخلي الأمين العام للتوعية الإسلامية في موسم الحج، وللسيد رئيس تحرير هذه المجلة، وكل العاملين فيها على ما بذلوه من جهد في إخراج هذه الصفحات إلى حيز الوجود..
محتويات الكتاب
الموضوع الصفحة
المقدمة (الخطر الداهم على المسلمين) …
كيف ولماذا تجتذب الصوفية الجماهير …
النفسية الجماعية المريضة هي الأصل …
الجولة الأولى (الصوفية يستبدلون التوحيد بوحدة الوجود …
الوحدة ضد التوحيد …
طبقات الشعراني والشذوذ بأنواعه …
زوجات الصوفيين أرامل …
في الإسلام وحدة السمو النفسي …
الجولة الثانية (ماذا يقول ابن عربي في فتوحاته) …
تأليه إبليس في طبقات الشعراني …
احذفوا البدع تسقط الصوفية …
التلقي عن رسول الله عندهم …
الزندقة شهادة التصوف …
الشيخ القائد إلى الضلال …
الجولة الثالثة (ابن عربي يقول: إنه يتلقى علومه رأساً من الله) …
أهل الظاهر وأهل الباطن …
نظرة الصوفية في الشريعة والحقيقة …
لماذا التمسح في علي رضي الله عنه …
المعتقدات الصوفية في الديوان الباطني …
لماذا يتهجمون على الله سبحانه وتعالى …
عن أفكار الصوفية في موضوع العشق الإلهي …
توهمهم على النبي - صلى الله عليه وسلم - …
الجولة الرابعة (رابعة العدوية – الشخصية والأسطورة) …
لماذا نعبد الله …
الفرق بين الحب والعشق …
الأدب اللفظي …
جعلناكم أمة وسطاً …
الزاهدون في الحلال …
سخافات لا كرامات …
جنون أم كرامات …
معركة مع الحوت …
الذين يخلعون الولاية على الناس …
الجولة الخامسة (الشعراني صاحب الطبقات) …
العالمون بالغيب …(59/139)
النون أم الميم …
الأعداء لماذا يؤيدون التصوف …
الجولة السادسة (الشيوعية أقدم من ماركس) …
الجولة السابعة (لقاء في سلطنة عمان) …
الهجرة هي البداية …
القرآن والإنسان …
القرآن يخاطب القلوب والعقول …
القرآن والتطور …
تركنا القرآن فضعنا …
القرآن فوق الصراعات …
ترجموا معاني القرآن …
كلمة التوحيد وتوحيد الكلمة …
مطلوب دعاة على مستوى الدعوة …
الذين يفترون على الله ورسوله …
الجولة الثامنة (عقبات على الطريق) …
مطلوب تطهير القرية المصرية من تجار الخرافة …
معظم مساجد القرية خلت من الأئمة المؤهلين …
الصوفية شوهت جلال الإسلام …
الأزهر مطالب بإجراء تغيير جذري في أسلوب عمله …
علم الكلام …
ألغاز وطلاسم …
حشو وغموش وسفسطة …
لا طائفية ولا كهنوت في الإسلام …
الدعاة المتحمسون …
سيطرة البيروقراطية …
أوقفوا هذا المد الوثني الذي فتن بالأضرحة والقباب …
اتخاذ قبور الأنبياء مساجد.. بدعة وشرك بالله …
الادعاء بأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دفن في مسجده …
المذهبية مهزلة وبدعة …
المذهبية عقبة أمام الزحف الإسلامي …
المذهبية بدعة …
حقيقة الخلاف بين الشيعة وأهل السنة …
مصحف فاطمة …
المسيرة الإسلامية عقيدة وحياة وحضارة …
الجولة التاسعة (التصوف من اختراع المستعمرين) …
الحرب حرام …
الصوفية غيبوبة عقلية …
الاستعمار من عند الله …
الصوفية ركائز الاستعمار …
الصوفية وفاروق …
عل هامش الجولات (كنت قبورياً للأستاذ عبد المنعم الجداوي) …
الفهرس …
تم الكتاب ولله الحمد.(59/140)
الطرق الصوفية و انتشار البدع
تأليف الدكتور : أحمد عبد الكريم نجيب
أستاذ الحديث النبوي و علومه في كلّية الدراسات الإسلاميّة بسراييفو ، و الأكاديميّة الإسلاميّة بزينتسا
و مدرّس العلوم الشرعيّة في معهد قطر الديني سابقاً
انتشار الطرق الصوفية في البوسنة
عرف عن الحكومة العثمانية تشجيع الطرق الصوفية ، التي وجدت تعاليمها أرضاً خصبةً بين بعض فئات الجيش العثماني كالإنكشارية ، و الجيش الآقنجي (1) ، كما انتشرت بين العامة في أنحاء السلطنة العثمانية ، و كثر الاعتماد على رجالها في الفتوح الإسلامية ، حيث كانوا ينشطون في الدعوة إلى دين الله ، و يتألفون قلوب الشعوب على الإسلام ، و هو ما جعلهم يقبلون عليه ذرا فات و وحداناً ، مما أدى إلى تحول شعوب بكاملها إلى الإسلام و بسرعة أذهلت المؤرخين (2).
و قد ساعد على شيوع الطرق الصوفية ( المعروفة باسم طرق الدراويش في البوسنة ) و انتشار مفاهيمها في أوساط مسلمي البوشناق تفشي الجهل ، و قلة العلم و عدم وجود علماء أكفاء ينشرون الفهم الصحيح و العقيدة السليمة ، من مصدريها ( الكتاب و السنة ) .
و قد صور الكاتب المصري المعروف فهمي هويدي هذا الواقع فقال :
(( إن الطرق الصوفية قد استفحلت في بعض مناطق يوغسلافيا ، و شوَّهت تعاليم الإسلام . و ليس أمام المسلمين هناك قنوات شرعية لتوصيل الدين الصحيح إليهم ، فتصوَّر عامة المسلمين أن الدين هو هذه الطريقة أو تلك ، أما أئمة المساجد فدورهم محدود ، حيث إن الإمام يقول كلمته مرة كل أسبوع ، و الناس يعيشون في عالم آخر يرفض الدين ، و يجرح تعاليمه الأساسية بقية الأسبوع )) (3)
__________
(1) …انظر : نياز شكريتش : انتشار الإسلام في البوسنة و الهرسك : 181 .
(2) …المرجع السابق ص : 158، 159 .
و : الدكتور محمد الأرناؤوط : الإسلام في يوغسلافيا من بلغراد إلى سراييفو ، ص : 165 .
(3) و : نويل مالكوم : البوسنة ، ص : 143 .
…مسلمو كوسوفو ألبانيون قلباً ، يوغسلافيون قالباً : زيارة ميدانية ( دراسة منشورة في مجلة العربي الكويتية ، العدد 277 ، ديسمبر 1981م ) ، ص: 82 .(60/1)
.
و على قنطرة الجهل بالدين وصلت إلى البوسنة أشهر الطرق الصوفية المعروفة كما نشأت في البوسنة ذاتها فرق ضالة أسسها زنادقة باسم الدين .
فقد ذكر المؤرخ التركي أوليا شلبي أن في سراييفو سبعاً و أربعين تكيَّة ، لخمس طرق صوفية (1).
و هذه الطرق الصوفية الخمس هي (2).
الطريقة القادرية :
المنسوبة إلى الشيخ عبد القادر الجيلاني ( ت561هـ / 1166م ) ، و كان لها نفوذ و أتباع بين أهل الحرف و المهن خاصة .
الطريقة المولوية :
المنسوبة إلى جلال الدين الرومي(3) ( ت672هـ / 1273م في قونية ) ، و قد جاءت دعوتها إلى البوسنة في صورة متطورة لها طقوس تستعمل خلالها المعازف الموسيقية ، و ذكر أنه كان لها دور في استقرار الحكم في البلاد ، و قد نشأ في صفوفهم عدد من شعراء و أدباء البوسنة .
الطريقة الرفاعية :
__________
(1) …انظر : الدكتور محمد الأرناؤوط : الإسلام في يوغسلافيا ، ص: 175 نقلاً عن أوليا شلبي .
(2) …انظر : نياز شكريتش : انتشار الإسلام في البوسنة و الهرسك : 160 .
(3) 3 …جلال الدين الرومي : هو محمد بن محمد بن محمد بن حسين بن أحمد الهاشمي المولوي ، كان عالما عارفا بالفقه على مذهب أبي حنيفة ، و عالما بالخلاف ، ثم تجرد ، و هام و ترك الدنيا و التصنيف و الاشتغال بالعلم.
انظر ترجمته في : الجواهر المضية في طبقات الحنفية 1 / 123 – 125 .(60/2)
المنسوبة للشيخ أحمد الرفاعي (1) ( 570هـ/ 1173م ) ، و هي التي جمعت حولها المريدين من فقراء أهل المدن ، و نشرت تعاليمها بينهم .
الطريقة الخلوتية :
المنسوبة إلى يوسف الخلوتي ، و قد كانت ذائعة الانتشار في ولايات الدول العثمانية ، و توطدت في سراييفو حيث أسس فيها زاوية و خانقاه ، سنة 938هـ / 1531م ، و عين فيها شيخاً خلوتياً .
الطريقة النقشبندية :
المنسوبة إلى الشيخ محمد بهاء الدين النقشبندي (2) ( ت 791 هـ /
1389 م ) ، و قد كان لها وجود محدود في البوسنة مقارنة بسابقاتها .
__________
(1) 1 …الشيخ أحمد الرفاعي ، هو : أحمد بن أبي الحسن علي بن أحمد أبو العباس , المغربي البطائحي , العابد الزاهد , شيخ العارفين , قدم أبوه من المغرب , و سكن البطائح , بقرية أم عبيدة , وقد مدحه الإمام الذهبي ، ثم قال : ( و لكن أصحابه فيهم الجيد و الرديء , وقد كثر الزغل فيهم , و تجددت لهم أحوال شيطانية , منذ أخذت التتار العراق من دخول النيران , و ركوب السباع , و اللعب بالحيات , وهذا لا عرفه الشيخ , و لا صلحاء أصحابه , فنعوذ بالله من الشيطان ) . توفي سنة 578 هـ / 1182 م .
انظر ترجمته في : الكامل لابن الأثير 11 / 200 , وفيات الأعيان 1 / 171 , العبر 4 / 233 , سير أعلام النبلاء 21 / 77 .
(2) 2 …الشيخ محمد بهاء الدين النبقشندي ، هو : محمد بن محمد بن محمد ، خواجه ، قال صاحب " الشقائق النعمانية " 1 / 154 – 155 : ( كان نسبته في الطريق إلى السيد أمير كلال ، و تلقن منه الذكر ! ، و تربى أيضا من روحانية الشيخ عبد الخالق الفجدواني ، سئل النبقشندي عن طريقته : مكتسبة أو موروثة ؟ فقال : ( شرفت بمضمون جذبة من جذبات الحق توازي عمل الثقلين ) !! . و انظر : كشف الظنون 1 / 488 .(60/3)
و معلوم أن لهذه الطرق الخمس انتشار واسع في أنحاء العالم الإسلامي ، و الأقطار العربية باستثناء مناطق الجزيرة العربية ، التي كان وجود الطرق الصوفية فيها محدوداً و خاصة بعد ظهور الدعوة السلفية في نجد و ما حولها .
و إلى جانب الطرق الخمس السالفة الذكر عرف أهل البوسنة ثلاث طرق أخرى ذاع صيتها في البلقان خاصة ، و عرفت بانحرافها الشديد عن جادة الصواب و بعدها عن أصول الدين ، و هذه الطرق هي :
الطريقة البكتاشية :
…و تنسب إلى الحاج ولي بكتاش (1) ( ت 738 هـ / 1377م ) ، أحد تلاميذ إسحاق باشا الشهير .
و تجمع هذه الطريقة معتقدات وثنية ، و أخرى نصرانية ، إلى جانب بعض آراء الفرق الصوفية ، كالتعلق بالأضرحة و القبور (2).
__________
(1) 1 …الحاج ولي بكتاش : قال عنه صاحب " الشقائق النعمانية " 1 / 16 : ( كان من جملة أصحاب الكرامات ، و أرباب الولايات ، و قبره ببلاد تركمان ، و على قبره قبة ( !! ) و عنده زاوية ، يزار و يتبرك به ( !! ) و تستجاب عنده الدعوات ، و قد انتسب إليه بعض من الملاحدة نسبة كاذبة ، و هو بريء منهم بلا شك ) اهـ.
و ذكر بعض الباحثين ، و هو الشيخ عبد الرحمن عبد الخالق في كتابه " الفكر الصوفي في ضوء الكتاب و السنة " ص 409 : أن هذه الطريقة تنسب إلى خنكار الحاج محمد بكتاش الخرساني النيسابوري المولود ، سنة 646 هـ / 1248 م ، ثم ذكر سفره لنشر طريقته ، حيث سافر إلى النجف بالعراق ، ثم حج البيت و زار ، و سافر بعد ذلك إلى تركيا ، و هناك نشر طريقته .
(2) …انظر : نياز شكريتش : انتشار الإسلام في البوسنة و الهرسك ، ص : 167 .(60/4)
و قد كان انتشارها في البوسنة محدوداً (1) مقارنة بما كان عليه في ألبانيا وكوسوفو مقدونيا ، حيث انتسبت إليها الأغلبية الألبانية من السكان .
و قد تلاشت أفكار هذه الطريقة ، و انتهت من الوجود في البوسنة اليوم ، و لكنها لا تزال موجودة في بعض أنحاء ألبانيا و لها أتباع و مريدون . (2) .
و نظراً لما عرف عن أتباع هذه الطريقة من بعد عن الصراط المستقيم ، و اعتقادهم كثيراً من الأمور المخالفة للعقيدة الإسلامية الصحيحة ، و تشبعها بأفكار وثنية و أخرى نصرانية ، فإنها تعتبر إحدى طرق الزنادقة الخارجين من الملة .
الطريقة القاضيزاديَّة :
و هي طريقة مارقة ظهرت بادئ الأمر في إسطنبول ، ثم انتشرت في أطراف الدولة العثمانية ، و كانت كسابقتها تجمع بين بعض العقائد الإسلامية و بعض عقائد الأديان الأخرى كالنصرانية ، و لذلك كان أتباعها في الغالب من النصارى الذين دخلوا الإسلام حديثاً ، و ظلوا متمسكين ببعض عقائدهم السابقة ، و عباداتهم الشركية ، كالتعلق بالمسيح عليه السلام و أمه ، و تعليق الصلبان ، و تقديس نصب الرهبان و نحو ذلك .
__________
(1) …ذكر أوليا شلبي في رحلته السياحية المسماة ( سياحت نامة ) ، ص : 397 : أن في البوسنة زاوية واحدة لأتباع الطريقة البكتاشية في مدينة تشايينتش ، و هو ما يدل على أن انتشار الطريقة كان محدوداً في البوسنة و الهرسك , و انظر : نياز شكريتش : انتشار الإسلام في البوسنة و الهرسك ص : 217 و زيادة 341 .
(2) …انظر : الطرق الصوفية في يوغسلافيا ، ص : 157 و ما بعدها .(60/5)
و قد وصف أحد الكتاب الغربيين أتباع هذه الفرقة فقال : (( إن أفراد تلك الطائفة الذين يخلطون خلطاً عجيباً بين النصرانية و الإسلام ، كانوا من الجنود الذين يعيشون على الأطراف القصية للمجر و البوسنة ، و هم يقرأون الكتاب المقدس باللسان السلافي … و تراهم يجنحون إلى تعلم القرآن و اللسان العربي … و يشربون النبيذ في شهر الصيام .. )) (1).
و لا شك أن هذه الفرقة خارجة عن الإسلام ، و لذلك اعتبرها بعض المؤرخين من ( البوتور ) الذين سبقت الإشارة إليهم عند ذكر ظاهرة (الدين
المختلط ) عند البوسنويين في الباب الأول من هذا البحث .
الطريقة الحمزوية :
و هي طريقة بوسنوية ، لأن مؤسسها الشيخ حمزة ، بوسنوي الأصل من مدينة زفورنيك البوسنوية ، و يرجح بعض الباحثين أنه من أحفاد الشيخ حمزة أورلوفيتش بالي البوسنوي ( ت 980 هـ / 1573م ) (2)و أنها لم تنتشر في بلد انتشارها في البوسنة ، رغم أن الشيخ حمزة كان قد بدأ دعوته إليها في مدينة بودابست بالمجر ، ثم انتشرت أفكاره و تعاليمه في البلقان و الأناضول ، و وصلت إلى مصر ، حيث استمرت نحو قرنين من الزمن . (3)
__________
(1) …نويل مالكوم : البوسنة ، ص : 98 .
(2) …كان حمزة منسباً إلى الطريقة البيرامية ، قبل تأسيس فرقته ، و كان خليفة الشيخ حسام الدين الأنقوري خمسة أعوام ، و قد قتل شيخه تحت القلعة بإسطنبول سنة 964هـ / 1557 م ، بعد أن ظهرت منه أمور غير ملائمة للشرع الشريف ، كما قضى بذلك صاري خواجة محمد أفندي ، قاضي أدرنة .
انظر : ترجمته في : الجوهر الأسنى ، للشيخ الخانجي ، ، ص : 85 برقم ( 71 ).
و : الدكتور عمر ناكيجيفيتش : حسن كافي الآقحصاري رائد العلوم الإسلامية و العربية في البوسنة و الهرسك ، ص : 85 .
(3) …انظر : الدكتور محمد الأرناؤوط : الإسلام في يوغسلافيا ، ص : 165 .(60/6)
و كالطريقتين السابقتين في الذكر ، مثلت الطريقة الحمزوية نوعاً من ( الدين المختلط ) الذي جمع بين عقائد نصرانية ( بوغوميلية ) ، و أخرى إسلامية ، و كان كثير من أتباعها حديثي عهدٍ بالإسلام ، مما سهل تقبلهم و تحمسهم لها و ساعد على انتشارها بينهم ، مع احتفاظهم ببعض معتقداتهم النصرانية (1) .
و كان أول انتشار للحمزوية في البوسنة في منطقة بوسافينة
( posavina ) المحيطة بنهر السافانا شمال البوسنة ، و من هناك انطلقت إلى صربيا ، ثم انتشرت في أنحاء منطقة البلقان كافة . (2)
و ينسب إلى الحمزوية إضافة إلى تأثرها بالنصرانية اعتقاد أتباعها بالمساواة بين الأنبياء ، و عدم تفضيل محمد - صلى الله عليه وسلم - على سائرهم عملاً بقوله تعالى : { لا نفرق بين أحد من رسله } [ البقرة : 285 ] ، و لعل هذا ما برر لهم اتباع نبيي الإسلام و النصرانية في آن واحد ـ بحسب زعمهم ـ و جمعهم بين عقائد متعارضة ، كما ينسب إليهم الميل إلى عقيدة ( وحدة الوجود ) التي يقول بها غلاة المتصوفة .(3)
يضاف إلى ذلك غلوهم في الشيخ حمزة بالي باعتقادهم أنه القطب المغيث ، و وارث النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي له الكشف و الاطلاع على الغيب ، و القادر على إسعاد الناس في الدنيا ، و إيصالهم إلى الجنة في الآخرة ، إلى غير ذلك من الاعتقادات المخرجة عن الملة (4) .
__________
(1) …انظر : نويل مالكوم : البوسنة ، ص : 144 .
(2) …انظر : نياز شكريتش : انتشار الإسلام في البوسنة و الهرسك ص : 143 .
(3) …انظر : الدكتور محمد الأرناؤوط : الإسلام في يوغسلافيا ، ص: 165 ، و : الأدب البوسنوي باللغات الشرقية ، ص : 202 .
(4) …انظر : الطرق الصوفية في يوغسلافيا ، ص : 197 .(60/7)
و بعد أن ذاع صيت هذه الطريقة تنبهت السلطات العثمانية إلى خطرها ، فأصدر شيخ الإسلام في السلطنة العثمانية سنة 986 هـ / 1579 م أمراً لقاضي البوسنة الشيخ بالي أفندي بن يوسف البوسنوي ( ت : 990 هـ / 1582 م ) (1)، بمقاضاة الحمزويين و محاكمة دعاتهم ، بعد أن صاروا ينشرون مذهب شيخهم الفاسد و يدعون أنهم أهل الطريقة و الحقيقة ، مع ما ينطوي تحت ذلك من نبذ للشريعة ، و طلب للإباحية الواسعة .
فكان ما أرادت السلطات حيث حوكم مشائخ الطريقة ، و أصدر القاضي بالي أفندي بن يوسف حكماً شرعياً بردتهم عن الإسلام و وجوب محاربتهم و قتل من استتيب فلم يتب منهم .
و عملاً بهذه الفتوى خرج علماء البوسنة و رجالها يتقدمهم الشيخ العلاَّمة حسن كافي الآقحصاري و الوزير الأعظم محمد باشاصوقولوفيتش ـ الذي قتله فيما بعد أحد أتباع الطريقة الحمزوية ثأراً لشيخه ـ يتقصون أثر الحمزوية الفارين إلى الجبال فيعملون فيهم القتل ، حتى استأصلوا شأفتهم ، و ألجأووا من نجا منهم إلى التخفي و كتمان عقيدته ، و سيق شيخهم حمزة بالي إلى إسطنبول حيث أعدم فيها مع أحد عشر من أتباعه سنة 980 هـ / 1573 م و بهذا قضي على أخطر طرق الزنادقة ( المدعية للتصوف ) في البوسنة و الهرسك ، و لم تقم لها قائمة بعد ذلك و لم يبق لهم أثر حتى يومنا هذا ، و لولا التاريخ لما عرف ذكرهم ، و الحمد لله (2) .
و لدينا اليوم شاهدان تاريخيان يدلان على اتساع قاعدة التصوف في البوسنة و تأثيره في الشعب البوسنوي بشكل ملحوظ .
__________
(1) …بالي أفندي يوسف ، قاضي البوسنة الشهير ، ولد في سراييفو و أخذ العلم عن علمائها ، ثم صار معلماً للأولاد ، حتى أدخله الوزير الأعظم محمد باشا صوقولوفيتش في جملة المدرسين ، و تقلب في عدة وظائف آخرها القضاء .
انظر ترجمته في : الجوهر الأسنى ، للشيخ محمّد الخانجي ، ص : برقم 39 ، ص: 50 .
(2) …انظر : الجوهر الأسنى ، للشيخ محمّد الخانجي ، ص : 51 .(60/8)
أحدهما حضاري معماري ، و الآخر علمي معرفي .
أما الشاهد الحضاري فهو انتشار تكايا الصوفية و زواياهم في أنحاء البوسنة (1) ، حيث زاد عددها في بعض المناطق على عدد المساجد .
و كانت أولى تكايا الصوفية في سراييفو تكية ( إسحاق بيكوفيتش ) لأتباع الطريقة المولوية ، و هي مبنية قبل عام 867 هـ / 1463م .
ثم تلتها تكيَّة ( إسكندر باشا ) لأتباع الطريقة النقشبندية ، و قد بنيت سنة 905 هـ / 1500 م ، و في القرن السابع عشر للميلاد أسست تكيتان كانتا الأشهر بين تكايا الصوفية في البوسنة ، و هما : تكية سنان باشا ، و تكية
البيستريغينا . (2)
و قد ذكر الرحالة التركي إيليا شلبي أنه كان في سراييفو وحدها سبع و أربعون تكية في منتصف القرن السابع عشر الميلادي (3) ، و سبع عشرة تكية في
بلغراد .
أما الشاهد الثاني فهو : اهتمام أهل البوسنة بكتب الصوفية جمعاً و دراسةً و تصنيفاً ، حتى صارت كتبهم هي الأكثر نسبة بين ما حوته المكتبات العامة و الخاصة من مخطوطات .
و للتمثيل على ذلك نشير إلى أن التكايا الصوفية كانت تغص بالكتب و المخطوطات ، ففي تكية سنان باشا بمفردها في سراييفو كان يوجد مئتان و اثنتان و
عشرون مخطوطاً (4)، و ليس غيرها من التكايا بأقل حظاً منها في جمع كتب الصوفية .
__________
(1) …يقول الدكتور نياز شكريتش : كان الصوفية يقومون بأداء عباداتهم و أذكارهم في البداية في أحد أركان الجامع ، و يطلقون على هذا المكان اسم الزاوية ، و مع مرور الأيام انفصلت الزوايا عن المساجد تماماً ، و بالصورة المنفصلة عرفت التكايا في البوسنة ، و هي مبان خاصة تسمى الواحدة منها ( تكية ) أو ( رباط ) . انظر : نياز شكريتش : انتشار الإسلام في البوسنة و الهرسك : 181، 182 .
(2) …انظر : نويل مالكوم : البوسنة ، ص : 143 .
(3) …انظر : سياحت نامة ، لأويليا شلبي ، ص : 110 .
(4) …انظر : نويل مالكوم : البوسنة ، ص : 142 .(60/9)
و لا يسعنا إغفال دور أعيان البوسنة في خدمة و حفظ تراث الصوفية العلمي ، و العناية بكتبهم ، الأمر الذي نوثقه بإلقاء نظرة على إحدى وقفيات الكتب في البوسنة و هي وقفية درويش باشا الموستاري ، حيث ذكر في وقفيته التي كتبها بيده واحداً و أربعين كتاباً تشمل علوم مختلفة و يظهر من عناوينها عظم اهتمامه بكتب الصوفية ، و ظهور نسبتها بين ما أوقفه من كتب أكثر من تسعة أعشارها في الأوراد و الكرامات و أحوال أهل الطرق(1) .
لا بد من الإشارة هنا إلى أنَّه على الرغم من الدعم الرسمي الذي قدَّمته الدولة العثمانيَّة ، و من بعدها الأنظمة العلمانية التي تسلطت على البوسنة ، فإنَّ قدراً من التصدي للصوفيَّة قد كان موجوداً بين علماء البوسنة .
…و قد كان لخصوم التصوف في البوسنة منطلقان في مقاومته :
…المنطلق الأوَّل : و هو باعتبار الطرق الصوفيَّة طرقاً مبتدعةً في الدين ، و فيها مخالفاتٌ كثيرة للكتاب السنة ، و لما كان عليه السلف الصالح رضوان الله عليهم ، في العلم و العمل ، التي ربَّما أدَّت بصاحبها إلى المروق من الإسلام .
…و قد عرف بالتصدي للتصوف و الصوفيَّة من هذا المنطلق عددٌ من علماء الإسلام البشانقة ، و من أشهرهم العلاَّمة حسن كافي الآقحصاري ، الذي سبقت الإشارة إلى موقفه من الحمزويين ، حيث حكم بكفرهم ، و دعا إلى مجاهدتهم ، و كان سبَّاقاً إلى ذلك .
__________
(1) …انظر : نياز شكريتش : انتشار الإسلام في البوسنة و الهرسك : 290- 296 .(60/10)
لقد صنَّف الشيخ حسن كافي الآقحصاري كتاب : ( روضات الجنات في أصول الاعتقادات ) ، و شرحه فيما بعد في كتاب سمَّاه : ( أزهار الروضات في شرح روضات الجنَّات ) : لنقض أوهام فرقة ( الحمزوية ) ، التي أنكر منكرها بيده حين خرج في تلاميذه لجهادهم ، ثم بقلمه من خلال التأليف و التصنيف ، فعمد إلى الكتابة ، و آثر أن يعتمد على مؤلَّفات السابقين ، في تقرير ما أراد لأنَّ (( التأليف الجديد سيجد صعوبة بالغة في تقبل الناس له ، بل سيجد معارضة شديدة منهم ، حيث كانت كتب المتون القديمة المشهورة قد انتشرت ودُرِّسَت في جميع المدارس ، فجَمَعَ تلك المتون في كتابٍ واحد ، وشرحه شرحاً أضاف به إليها صبغة
جديدة … )) (1) .
و في هذا الكتاب قرَّر الشيخ مسائل العقيدة ابتداءً ، مع الاعتداد – أحياناً – بالأدلَّة العقليَّة ، التي تنقض دعاوى ( الحمزويَّة ) القائمة أصلاً على حجج المعقول ، و لا حظ لها في المنقول .
أمّا من بعد الشيخ حسن كافي فلم يكونوا على نفس المكانة العلمية أو العملية في التصدي للتصوف و الصوفية .
و في العصر الحديث نزع كثيرٌ من البوسنويين إإلى اعتبار التصوف مكمِّلاً للعلوم الشرعيّة الأخرى ، و عدّوا العلم بدونه قشور ، و التصوف المجرَّد من العلم الشرعي ضلال ، و أن الإسلام الحق مضيّعٌ بين تفريط مفرّط ، و إفراط مُفرط .
يقول الأستاذ حسين جوزو : (( غلا الفقهاء من جهةٍ ، و الصوفيَّةُ من جهةٍ أخرى ، فحوَّل علماء الظاهر الإسلام إلى مجرَّد قشور ، بينما أفرط علماء الحقيقة في الجانب الروحي )) (2) .
__________
(1) …انظر : مقدمة الدكتور زهدي عادلوفيتش ، لكتاب نور اليقين ، ص : 56 .
(2) …حسين جوزو : الإسلام و العصر ، ص : 135 .(60/11)
أما المنطلق الثاني : فهو باعتبار المتصوِّفة و الطرق الصوفية ، حجر عثرة في طريق الدعاة إلى الجهاد ، و المتعطشين إلى إقامة مجتمع إسلامي بين البوشناق ، و تحرير المسلمين من سلطة النصارى التي أخضعتهم أكثر من قرن ، عملت خلاله على مسخ شخصيَّتهم الإسلاميَّة ، و إبعادهم عن دينهم ، و تجريدهم حتى من العادات و التقاليد التي تمت إلى الإسلام بصلة ما .
و من أبرز المتصدِّين للتصوف من هذا المنطلق الرئيس علي عزَّت ، الذي ما لبث يؤكِّد في كتاباته على اعتبار الصوفية مثبِّطة عن الجهاد في سبيل الله ، و مبرِّرة للخنوع و الخضوع الذي كان عليه مسلمو البلقان تحت الحكم الشيوعي .
فهو يعتبر (( الفلسفة الصوفية و المذاهب الباطنية تمثل بالتأكيد نمطاً من أكثر الأنماط انحرافاً و لذلك يمكن أن نطلق عليها ( نصرنة ) الإسلام ، إنها انتكاسة بالإسلام من رسالة محمد إلى عيسى عليهما السلام )) (1).
كما يجمع بين أهل التصوُّف المذموم و العقلانيين باعتبار دورهم في حصر الإسلام في بعض جوانبه ، في قوله (( لقد أكد المتصوفة باستمرار على الجوانب الدينية - فقط - للإسلام ، بينما أكد العقلانيون على الجانب الآخر ، و كلا الفريقين لم يكن طريقه مع الإسلام ميسراً )) (2) .
__________
(1) …الإسلام بين الشرق و الغرب ص: 287، 288 .
(2) …المرجع السابق ، ص: 35 .(60/12)
و إذا جاز أن يُقال : إنَّ الإسلام جاء ليحض على العبادة و تقويم السلوك ، و ليس لتقديم نظام سياسي ، فإنَّما يجوز ذلك عند من يرى الإسلام مرحلته المكيَّة ، و يجهل أو يتجاهل المرحلة المدنيَّة من تاريخ الدعوة الإسلامية ، حيث شُرع الجهاد و قامت دولة الإسلام ، و هذا يدُلُّ على تطوُّر الإسلام ، لا على جموده الذي يروِّجُ له دعاة فصل الدين عن الدولة فلقد (( كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غار حراء صائماً متنكساً متصوفاً حنيفاً ، و كان في مكة داعياً إلى فكرة دينية ، أما في المدينة ، فقد أصبح داعية إلى الفكرة الإسلامية … فهناك و ليس في مكة بداية و مصدر النظام الإسلامي الاجتماعي كله … لقد بدأ الإسلام صوفياً و أخذ يتطور حتى أصبح
دولة )) (1).
و يجمع الرئيس بين الصوفيَّة و عموم الواقفين في وجه الإسلام فيقول محذراً : (( لقد انشطرت وحدة الإسلام على يد أناس اختزلوا الإسلام إلى دين مجرد أو إلى صوفية … ذلك لأن المسلمين عندما يهملون دورهم في هذا العالم … تصبح الدولة قوة عريانة لا تخدم إلا نفسها ، في حين يبدأ الدين ( الخامل ) يجر المجتمع نحو السلبية و التخلف ، و يشكل الملوك و الأمراء و العلماء الملحدون ، و رجال الكهنوت و الفرق الصوفية ، و الشعراء السكارى الوجه الخارجي للانشطار الداخلي الذي أصاب الإسلام )) (2) .
و قريباً من هذا المذهب يقف الأستاذ حسين جوزو ، حيث يقول : (( لا يمكننا التسليم بقول الصوفيَّة : إن العلم يمكن تحصيله بطريق الكشف … لأنَّه في الوقت الذي كانوا يذكرون فيه الكشف و الكرامات الواقعة على أيدي بعض المشائخ ، و منها إحياء الموتى (!) كان العالم الإسلامي يتعرَّض لصنوف المحن و الشدائد .
__________
(1) …المرجع السابق ، ص : 279 .
(2) …الإسلام بين الشرق و الغرب ص : 287 .(60/13)
ألم يكن غزو المغول و وحشيَّتهم ، و الحروب الصليبيَّة ، و العدوان الإسرائيلي فرصةً مواتية لإظهار حقيقة الكشف و قيمة الكرامات !!
إنَّ ذلك لم يتم بل بقيت الخرافات و الحكايات المختلقة عن الكشف و الكرامات ، مجرَّد روايات لا تزال تروى إلى اليوم في المجتمعات المتخلِّفة )) (1) .
و من هذين المنطلقين وقف عدد من الكتَّاب المسلمين من أبناء البوسنة في وجه المد الصوفي الكاسح ، و لكن جهودهم لم تكن كافية لوقف مده ، أو الحد من انتشاره .
و لا يعني هذا أنه استمرَّ في الانتشار ، بل على العكس من ذلك ، كاد التصوف يتلاشى نهائيَّاً من الوجود في المجتمع البوسنوي ، حيث نفر المسلمون منه كما نفروا من كلِّ ما يمت إلى الإسلام بصلة بتأثير حملات التغريب التي قام بها الشيوعيُّون بين مسلمي يوغسلافيا عامة و مسلمي البوسنة على وجه الخصوص .
فلقد اختفت الطرق الصوفيَّة حينما اختفت المدارس الشرعية ، و لوحق مشائخها و مرشدوها عندما لوحق علماء يوغسلافيا و مفكروها ، و حوت السجون الجميع دون تفريق ، أمَّا التكايا و الزوايا فقد آلت إلى حالٍ لا تختلف كثيراً عن الحال التي آلت إليها المساجد و المصلَّيات ، فأغلق الغالب منها ، و حول بعضها إلى مرافق عامة كالمتاحف و اصطبلات الخيول ، أمَّا ما تبقى منها فرُصد روَّاده من المسلمين ، و ضيِّق عليهم حتى حصروا في ثلَّة من المشائخ الرسميين ، و العجزة , و كبار السن .
__________
(1) …حسين جوزو : الإسلام و العصر ، ص : 153 .(60/14)
هذه هي الحال التي كانت عليها الصوفيَّة في البوسنة و الهرسك منذ العهد العثماني ، و حتى نشوب الحرب الأخيرة التي آذنت بعودة جديدة للإسلام ، كان من بين مظاهرها عودة البعض إلى التصوُّف من جديد ، و من هؤلاء طلاَّب علم لقيت بعضهم في دمشق و القاهرة ، و علمت منهم أنَّ المشيخة الإسلاميَّة قد ساعدتهم على الرحلة في طلب العلم و التتلمذ على مشائخ الصوفيَّة في العالم العربي بعد أن شعرت بقوَّة المد السلفي في البوسنة الذي ترفده هيئات خيرية ، و جامعات سلفيَّة في منطقة الخليخ العربي و خارجه .
كما لقيت في دمشق و حلب طائفة من دعاة البوسنة المعاصرين يتتلمذون على بعض مشائخ الصوفيَّة في دمشق ، و يدرسون فيما يدرسون كتاب ( الرسالة القشيريَّة ) في التصوُّف ، و منهم الدكتور شفيق كورديتش أستاذ الحديث النبوي و علومه في الأكاديمية الإسلاميَّة في زينتسا ، و الحافظ خليل مهتيتش مفتي وسط البوسنة السابق ، علماً بأنَّهما و من كان معهما يُحسبون في البوسنة على الاتجاه السلفي ، و قد أوذي بعضهم بهذه الذريعة .
انتشار البدع في حياة مسلمي البوسنة و الهرسك
لا يخلو مجتمعٌ يعاني من الجهل بالدين و البعد عن تعاليمه الحقة ما عاناه و يعانيه المجتمع البوسنوي المسلم من شيوع البدع و انتشار الخرافات بين أفراده ، و كفى للدلالة على ذلك أنَّ من البوشناق من خلطوا بين الأديان في بعض مراحل تاريخهم ، فخرجوا بعقائد لم يسبقوا إليها .
و هذا أخطر بكثير من شيوع البدع التي قد تكون في فروع الدين ، و ليس بالضرورة أن تكون مكفِّرة مخرجةً من الملَّة .
و شأن البوسنة في ذلك شأن سائر ولايات الدولة العثمانيَّة ، فما من بدعةٍ ظهرت في دار الخلافة إلاَّ و كان لها وجود - متفاوتٌ في حجمه - في مختلف أنحاء السلطنة .
و من البدع التي لها وجود ملحوظٌ في البوسنة و الهرسك أكتفي بذكر ما هو لافتٌ واسع الانتشار :(60/15)
المبالغة في الاهتمام و العناية بالأضرحة و قبور الصالحين ، و بناء القبب عليها و اتخاذها مساجد تنشر في كلِّ مكان ، و يعيَّن عليها قيِّمون ، و تخصَّص لها أوقاف ، و تجبى إليها نذور و قرابين .
و ربَّما كان بناء القباب على القبور بحرصٍ على تنفيذ وصيَّة من صاحب القبَّة نفسه ، و للتمثيل على ذلك تحسن الإشارة إلى وقفيَّة المحسن سنان بيك في بلدة جاينتسة ( Cajnice ) التي جاء فيها : (( أوصى الواقف ابنه سليمان أن يبني له ضريحاً من الحجر من موارد نقوده الموقوفة ، كما أوصى أن يعيَّن في ضريحه حارسٌ و فرَّاش ، و قرَّاءٌ للقرآن ، و مشرف على هؤلاء الموظَّفين )) (1) .
كما (( كان الواقف كثيراً ما يوصي بدفنه بجانب مؤسَّساته الخيريَّة ، مع أهله و أقربائه ثمَّ أصحاب المحلَّة المشهورين .
و بجانب الجوامع الكبيرة كان مؤسسوها يبنون المقابر الخاصَّة على شكل أضرحةٍ تسمى في البوسنة ( تربةً ) ، و هي عبارة عن بناء صغير مكشوفٍ أو مسقوفٍ ، و هندسته في الغالب مأخوذة من فن المعمار العثماني .
و هناك عددٌ غير قليل من هذه الأضرحة في البوسنة حول المساجد و الزوايا ، و غيرها من المؤسَّسات الدينية ، دُفنت فيها شخصيَّات من الطبقات المختلفة .
كما بني عدد من الأضرحة الخشبيَّة المسقوفة التي بناها الناس للأفراد الذين استُشهِدوا في الدفاع عن الإسلام ، أو شيوخ الطرق الصوفيَّة أو مريدوهم أو
العلماء .
و لم تكن تمضي سوى مدَّة قصيرة حتى تشيع بين الناس الحكايات أو الأساطير حول أصحاب هذه الأضرحة ، حتى تصبح موضع الزيارات و الاحتفالات الشعبيَّة التي تقام حول بعضها .
و حسب الروايات المحلِّيَّة فإنَّ كثيراً من الأضرحة القديمة يرجع إنشاؤه إلى أيَّام الفتح العثماني للبوسنة )) (2) .
__________
(1) …نياز شكريتش : انتشار الإسلام في البوسنة و الهرسك ، ص : 216 .
(2) …المرجع السابق ، ص : 191.(60/16)
و لم يحدَّ من انتشار الأضرحة و الغلو في أصحاب القبور موقف بعض العلماء المتأخرين ، حتى و إن اعتبروا بعض ما يجري عند الأضرحة و المزارات شركاً مخرجاً من الملَّة ، كقول الأستاذ حسين جوزو : (( لا أثر للاختلاف في التسمية ، فقد كانت الأوثان في عصر النبوَّة تسمى لات و عزَّى ، و نحو ذلك ، و تسمى اليوم مزاراً أو ضريحاً أو مرشداً أو تميمة ، أو غير ذلك ، و كلُّها أوثان ، لأنَّ الناس يقصدونها لطلب المدد ، و يسألونها الشفاعة )) (1) .
ربَّما لما عرف عن المشائخ المعارضين لما يجري عند الأضرحة و المزارات من تجاوزات ، و أفعال مخالفة للشرع الحنيف ، من سكوتٍ عن منكرات كانت شائعة في زمانهم ، أو ممالأة للحكم الشيوعي الذي عاصروه .
أو لأنَّ هذه الدعوات جاءت متأخرةً جداً ، و بعد أن فقد كثيرٌ من المسلمين أبسط مظاهر انتمائهم إلى الإسلام ، ممَّا جعل المتعلِّقين بالأضرحة لا يعرفون من الإسلام إلاَّ تعلُّقلهم و استغاثتهم بالأموات ، ظناً منهم أنَّ هذا السلوك هو ما تبقى من الإسلام ، و يجب عليهم أن يتمسَّكوا به مهما اشتدَّت المعارضة لهم أو تعالى النكير عليهم .
عُرف عن أهل البوسنة بالإضافة إلى غلوِّهم في الصالحين ، و اهتمامهم المفرط بأضرحة الأولياء ، تمسُّكهم ببعض المظاهر البدعيَّة في دفن موتاهم ، و من
ذلك (2) :
نقش رموز مختلفةٍ على قبور موتاهم مثل الهلال و النجوم و السيف و القوس ، و في بعض الأحيان أجزاء من جسم الإنسان كالرأس و اليد ، و ما إلى ذلك .
و جود المقابر القديمة للمسلمين بالقرب من مقابر النصارى ، الأمر الذي يستدلُّ به بعض الكتَّاب على أنَّ أصحابها من حديثي العهد بالإسلام كانوا يحرصون على البقاء على مقربة من أقربائهم النصارى حتى بعد الموت .
__________
(1) …حسين جوزو : الإسلام و العصر ، ص : 150 .
(2) …نياز شكريتش : انتشار الإسلام في البوسنة و الهرسك ص : 190 ، 191 .(60/17)
حرص المسلمين البوشناق على دفن موتاهم حول المساجد .
الوصيَّة بقراءة القرآن ( و خاصَّة أم الكتاب ) لقاء أجرٍ ماديٍ معلوم ، و ثمَّ جعل ثواب القراءة هبةً للميِّت ، و قد كان هذا لدى البشانقة من الكثرة بمكان ، حيث كان يكتب في الوصايا ، و يصرف عليه من الأوقاف التي خلَّفها الميِّت ، أو من أوصى بالقراءة له ، و أمثلة هذا كثيرة في البوسنة ، و منها :
جاء في وقفيَّة درويش بايزيد آغا الموستاري تخصيص أربعة دراهم يوميَّاً لفرَّاش الجامع لقاء قيامه بالتنظيف و قراءة الفاتحة لروح الواقف (1) .
و جاء في وقفيَّة خدا وردي ابن علي المعروف باسم محمد بيك غلام شاهي ، تعيين خمسة قرَّاء يقرأون القرآن لروح الواقف يوميَّاً ، لقاء درهمٍ و نصف لكلِّ واحدٍ منهم ، و درهمين لرئيس القرَّاء يوميَّاً . كما وقف على قراءة القرآن على قبر أخيه ثمانيةً و أربعين درهماً سنويَّاً ، و لقراءة القرآن لروح زوجته شريفة بنت أوكوز مثل ذلك (2) .
و جاء في وقفيَّة الحاج مصطفى آغا كزلر آغا في مدينة يايتسة ( Jajce ) حيث عيَّن قرَّاءاً لتلاوة القرآن الكريم لروح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، و لروح الواقف و أقربائه ، و خصًّص له من وقفه ثلاثةً و عشرين درهماً ، كلَّ يوم (3) .
__________
(1) …انظر : وقفيَّة إبراهيم باشا ، المحفوظة بمكتبة الغازي خسرو بيك في سراييفو ضمن سجلِّ الوقفيَّات رقم (1) ص : 66 .
(2) …انظر : وقفية خُدا وردي بن علي ( المحفوظة في مكتبة الغازي خسرو بيك بسراييفو تحت رقم 110 ) .
(3) …انظر : وقفية الحاج مصطفى آغا كزلر آغا ( المحفوظة في مكتبة الغازي خسرو بيك بسراييفو تحت رقم
263 ) .(60/18)
من كبريات البدع ، و أوسعها انتشاراً في البوسنة و الهرسك ما يُعرف عند البشانقة باسم ( الحج الأصغر ) (1) ، حيث يؤُمُّ البوشناق المسلمون بمختلف طبقاتهم الاجتماعية بلدة آيفاتيفيتسا ( Ajvatovica ) ، قرب مدينة آقحصار الشهيرة ، في يومٍ محدَّدٍ من كلّ عام تحت تغطية إعلاميَّة واسعة ، و تشجيعٍ كبيرٍ من المشيخة الإسلاميَّة ، و رئاسة العلماء ، و السلطات الرسميَّة في البلاد .
و في محفل عظيم ينظم في ذلك المكان بحضور عشرات الآلاف ، تختلط المشاعر القوميَّة و الدينية لدى البوشناق ، فبينما يشهد بعضهم هذه المناسبة باعتبارها موسماً من مواسم الخير ، و من مظان البركة و القبول ، يستغل الساسة و رجال الحكم تجمع الناس لإثراء الانتماء القومي البوشناقي ، و الحفاظ على وحدة هذا الشعب الصغير .
و هكذا يتواتر الساسة ، و رجال المشيخة الإسلاميَّة علماء و مدرِّسين و أئمة مساجد و طلبةً في الكليَّات و المعاهد العليا و المدارس الإسلاميَّة ، من أقطار البوسنة و بلدان مجاورة منها صربيا ، و كرواتيا ، و ألبانيا ، و غيرها ، على حضور هذه المناسبة ، التي يطلقون عليها أسماء من قبيل : يوم الدعاء المقدَّس ، و الاجتماع الديني و يتجرَّأ بعضهم فيسمي المكان ( كعبةً مصغَّرةً ) ، فضلاً عن تسمية المناسبة عند العامَّة بالحج الأصغر ، كما أسلفنا .
__________
(1) …انظر : مجلَّة الصف ، العددان ( 8 و 19 ) .(60/19)
و لهذه البدعة أصل من الخرافة لم يوثِّقه أحدٌ من علماء البوسنة ، و هو كما أخبرني به غير واحدٍ ممَّن يشهدون المناسبة ، و منهم الشيخ الحافظ خليل مهتيتش ، أنَّ أهل تلك البلدة قنطوا ذات يومٍ ، و تأخَّر عليهم القطر من السماء ، و لم يرفع عنهم العناء إلا عقب رؤيا رآها أحد الأولياء المعروفين في تلك المنطقة ، و هو أيفاز ديدو ، بعد أن توجَّه إلى الله بالدعاء ليسقي قومه ، ثمَّ صلَّى الفجر و اضطجع ، فرأى فيما يراه النائم أنَّ كبشين ينتطحان في موضع معلوم من القرية و بينهما صخرة عظيمة تتفتت فينبع الماء من تحتها ، ثمَّ أفاق مذعوراً ، و قصد المكان الذي رآه و هو نائم فإذا بالماء يتدفَّق .
و من يومها اتخذ البشانقة المكان عيداً يتجمَّعون فيه مرَّة في العام عند الضحى فيدعون الله ، و يردِّدون أذكاراً خاصَّةً بهذه المناسبة ، حتى أذان الظهر ، حيث يصلِّي من كان منهم من أهل الصلاة ، ثمَّ ينصرفون .
و إلى جانب المشروع من العبادات و الأذكار يتوجَّه جلُّ الحضور إلى القبور بالدعاء و التبرُّك و التوسُّل ، بينما ينزع بعضهم من حجارة الجبل ، و يغترفون من تربته ما يقوون على حمله ، التماساً للبركة و إبراء المرضى ، و قضاء الحوائج .
و يجري ذلك كلُّه اليوم في جوٍّ مشحون باختلاطٍ الرجال بالنساء ، و تبرُّج الفتيات ، ممَّا يجرِّد المناسبة من صفتها الدينيَّة ( المبتدعة ) التي كانت عليها في الأصل .(60/20)
و قد حاول بعض الدعاة الشبَّان من أبناء البوسنة التصدِّي لهذه البدعة و لكنَّهم أخفقوا ، كما أخفق آخرون تجريدها من الصفة الدينيَّة لتخفيف النكير على ممارسيها (1)، لأنَّ ما استقرَّ في أذهان البوشناق عبر مئات السنين يستحيل أن يتلاشى أمام نكير الأفراد ، أو معارضة من يسمِّيهم خصومهم بالشبَّان المتهوِّرين ، و يتَّهمونهم بالسلفية و التكفير و نحو ذلك .
انتشار البدع و خطره على التمسك يالسنة النبويّة
مما لا ريب فيه أنَّ من آثار شيوع البدع بين المسلمين إماتة السنن و تعطيل العمل بها فيما بينهم .
لذلك يذهب كثير من العلماء إلى تعريف البدعة بأنها ما قابل السنة ، و يقولون : إن البدعة هي خلاف السنة ، فما خالف النصوص فهو بدعة ، باتفاق المسلمين (2) .
و هذا المذهب يكتسب وجاهة خاصة من علاقة التضاد بين السنة و البدعة ، فالفعل الواحد ذاته ، لا يمكن أن يكون بدعة و سنة في وقت واحد .
لأن السنة جاءت بذم البدع ، و دعت إلى الإعراض عنها ، و محاربتها ، و التبرئ منها و من أهلها ، فلا يمكن أن تقوم بدعة قبالة السنة و ؛ لأن القلب لا يتسع إلى الأمر و نقيضه .
__________
(1) …من الاقتراحات التي تقدَّم بها بعض المعاصرين بهذا الخصوص ؛ اقتراح الشيخ نصرت أفندي ، الذي أيده عدد من الدعاة الشباب أمثال زهدي عادلوفيتش ، و شفيق كرديتش ، بإجراء تغيير داخلي في هذه الظاهرة بجعلها ذات صبغة عسكريَّة جهاديَّة تستغل في تجنيد الشبَّان و تدريبهم على حمل السلاح ، و إعدادهم للجهاد في سبيل الله ، بدلاً من إلغائها بالكلِّيَّة ، لأنَّ ذلك قد يثير فتنةً ، و فرقة بين مسلمي البوشناق .( الباحث ) .
(2) …انظر : السنة و البدعة ، للحضرمي ، ص : 104 .(60/21)
فكلما شاعت البدع ، انزوت السنن ، حتى تموت السنن ، و تفشوا البدع (1) ، لأنه ما ظهرت بدعة إلا و ماتت سنة من السنن ، في مقابلها و ما أشيعت إلا بعد أن تخلى الناس عن السنة الصحيحة ، و فسدت نفوسهم ، فكانت البدعة كالعلامة الدالة على ترك طريق السنة (2) .
قال ابن عباس رضي الله عنهما : (( لا يأتي على الناس زمان الإ أحدثوا فيه بدعة ، و أماتوا فيه سنة ، حتى تحيا البدع و تموت السنن )) (3).
و كان محمد بن سيرين يقول : ( ما أحدث رجل بدعة فراجع السنة ) ، و في رواية : ( ما أخذ رجل ببدعة فراجع سنة ) (4)
__________
(1) …انظر : مجموع الفتاوى : 20 / 163 .
(2) …البدعة و المصالح المرسلة ، لتوفيق الواعي ، ص : 210 .
(3) …أخرجه الطبراني في " الكبير " 10 / 319 ، و ابن وضاح في " البدع " ص 25 – 26 ، و ابن بطة في
" الإبانة " 1 / 176 ( 10 ) ، و اللالكائي في " شرح أصول الاعتقاد " ( 124 و 125 ) من طرق عن عبد المؤمن بن عبيد الله ، عن مهدي بن أبي مهدي ، عن عكرمة ، عن ابن عباس - رضي الله عنه - به . و في بعض ألفاظه :
( ما من عام إلا و تظهر فيه بدعة ، و تموت فيه سنة ، حتى تظهر البدع و تموت السنن ) .
قال الهيثمي في " مجمع الزوائد " 1 / 188 : ( رواه الطبراني في الكبير ، و رجاله موثقون ) .
قلت : رجاله كلهم ثقات ، سوى مهدي بن أبي مهدي ، و هو : ابن حرب الهجري ، روى عنه اثنان ، و قال ابن معين : ( لا أعرفه ) . و ذكره ابن حبان في " الثقات " ، و صحح ابن خزيمة حديثه . كما في " تهذيب التهذيب "10 / 324 .
و قال فيه ابن حجر في " التقريب " ( 6928 ) : ( مقبول ) .
(4) …أخرجه الدرامي ( 208 ) في المقدمة ، باب كراهية أخذ الرأي ، و الهروي في " ذم الكلام " ( 756 ) ، من طريق أبي إسحاق الفزاري ، عن ليث ، عن أيوب ، عن ابن سيرين به .
و أورده السيوطي في " الأمر بالاتباع " ص 17 ، و أبو شامة في " الباعث " ص 16 .
قلت : و رجاله ثقات سوى ليث ، و هو ابن أبي سليم " ضعيف " كما سبق .(60/22)
.
و قد يكون اعتماد من قرن بين شيوع البدع ، و موت
السنن على ما روي عن غضيف بن الحارث (1) ، قال : بعث إليَّ عبد الملك بن
مروان (2) فقال : يا أبا أسماء إنا قد جمعنا الناس على أمرين ، قال : و ما هما ؟ قال رفع الأيدي على المنابر يوم الجمعة ، و القصص بعد الصبح و العصر ، فقال : أما إنهما مثل بدعتكم عندي ، و لست مجيبك إلى شيء منهما ، قال : لم ؟ قال : لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : (( ما أحدث قوم بدعة ، إلا رفع مثلها من السنة )) (3)
__________
(1) 4 …غضيف بن الحارث - رضي الله عنه - ، هو : السكوني الكندي ، و يقال الثمالي ، أبو أسماء الخمصي ، مختلف في صحبته ؛ و الراجح ثبوتها ، و إنما و قع الخلاف بسبب جمع بعضهم بينه و بين غطيف بن الحارث .
انظر ترجمته في : طبقات ابن سعد 7 / 429 ، تاريخ أبي زرعة الدمشقي 388 ، 603 ، 604 ، معجم الطبراني الكبير 18 / 264 ، تهذيب الكمال 23 / 112 ، سير أعلام النبلاء 3 / 453 .
(2) 1…عبد الملك بن مروان ، هو : ابن الحكم بن أبي العاص بن أمية ، الخليفة الفقيه ، أبو الوليد الأموي ، تملك بعد أبيه الشام و مصر ، ثم حارب ابن الزبير الخليفة ، و قتل أخاه مصعباً في و قعة مسكن ، و استولى على العراق و جهز الحجاج لحرب ابن الزبير ، فقتل ابن الزبير سنة 72 هـ / 691 م ، و استوثقت الممالك له . توفي سنة 86 هـ / 705 م .
انظر ترجمته في : طبقات ابن سعد 5 / 223 ، تاريخ بغداد 10 / 388 ، سير أعلام النبلاء 4 / 246 ، ميزان الاعتدال 2 / 664 ، البداية و النهاية 8 / 260 و 9 / 61 .
(3) …إسناده ضعيف :
أخرجه أحمد في " المسند " 4/105 ، و البزار في " مسنده " ( 1 / 82 – كشف ) ، و الطبراني في " الكبير " 18 / 99 ( 178 ) ، و ابن قانع في " معجم الصحابة " 2 / 316 ( 855 ) ، و ابن بطة في " الإبانة الكبرى " 1 / 176 ( 10 ) ، و اللالكائي في " شرح أصول الاعتقاد " 1 / 90 ( 121 ) من طرق عن أبي بكر بن أبي مريم الغساني ، عن حبيب بن عبيد ، عن غضيف بن الحارث به .
و صحف اسم ( غضيف ) في المعجم الكبير للطبراني ، و قد نبه على ذلك ابن حجر في " الإصابة "
5 / 276.
قال ابن حجر في " الفتح " 13/ 253 : ( و قد أخرج أحمد بسند جيد ، عن غضيف ..) فذكره .
قلت : و فيه نظر ؛ لما سيأتي .
و نقل المناوي في " فيض القدير " 5 / 412 ، 471 عن المنذري ، قال : ( سنده ضعيف ) .
و قال الهيثمي في " مجمع الزوائد " 1 / 188 : ( رواه أحمد و البزار ، و فيه أبو بكر بن عبد الله بن أبي مريم و هو منكر الحديث ) .
قلت : و مدار الحديث عليه ، و قال ابن حجر في " التقريب " ( 7974 ) : ( ضعيف ، و كان قد سرق بيته فاختلط ) .(60/23)
. فتمسك بسنة خير من إحداث سنة .
و هذا الحديث لا يسلم من طعن ، فلا حجة فيه ، على أن المعنى المراد منه صحيح تشهد له عمومات الأدلة الشرعية .
و قال حسان بن عطية (1): (( ما ابتدع قوم في دينهم بدعة إلا نزع الله مثلها من السنة ثم لا يردها عليهم إلى يوم القيامة )) (2) .
و إذا أريد للسنة أن تحيا فلا بد في المقابل من إماتة البدعة ، فكما أن هجر السنة يحيي البدع ، لا ريب أن التمسك بالسنة يميتها .
قال شيخ الإسلام : (( إن هجر ما وردت به السنة ، و ملازمة غيره قد يفضي إلى أن يجعل السنة بدعة و المستحب واجباً ))(3) ، و كفى بهذا خطراً على الإسلام ، و جناية على الشريعة .
و قد حرص سلفنا الكرام على التصدي لكل ما من شأنه أن يفتح الباب أمام إشاعة البدع ، و إماتة السنن ، و كفى مثالاً على ذلك أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - كان ينهى الإماء عن لبس الجلباب و التقنع به ، و يضرب على ذلك ، فقد روي عن أنس - رضي الله عنه - ، أنه قال : (( رأى عمر أمة لنا مقنعة ، فضربها ، و قال : لا تشبهن
بالحرائر )) (4)
__________
(1) 1…حسان بن عطية ، هو : الإمام الحجة أبو بكر المحاربي مولاهم ، الدمشقي ، أحد العباد ، تابعي روى عن أبي أمامة الباهلي ، و ثقه أحمد ، و ابن معين .
انظر ترجمته في : الجرح و التعديل 3 / 236 ، حلية الأولياء 6 / 70 ، سير أعلام النبلاء 5 / 466 ، تهذيب التهذيب 2 / 251 .
(2) 2 …أثر حسان صحيح :
أخرجه الدارمي ( 99 ) في مقدمة " سننه "، و ابن وضاح في " البدع " ص 44 ، و ابن بطة في " الإبانة الكبرى " ( 228 ) ، و أبو نعيم في " الحلية " 6 / 73 ، و اللالكائي في " شرح أصول الاعتقاد " ( 129 ) ، و الهروي في " ذم الكلام " ( 913 ) من طرق عن الأوزاعي ، عنه .
(3) 3 …مجموع الفتاوى 22 / 67 .
(4) …صحيح :
أخرجه ابن أبي شيبة في " المصنف " 2 / 41 عن و كيع ، حدثنا شعبة ، عن قتادة ، عن أنس - رضي الله عنه - به .
قلت : و إسناده صحيح ، رجاله ثقات أعلام ، رجال الشيخين . =
=…و تابع شعبة : معمر عند عبد الرزاق في " المصنف " 3 / 136 ( 5064 ) ، و له طرق أخرى عند عبد الرزاق و ابن أبي شيبة .
و قال ابن حجر في " الدراية في تخريج أحاديث الهداية " 1 / 224 : ( أخرجه عبد الرزاق بسند صحيح ) .
و قال البيهقي : ( الآثار عن عمر بذلك صحيحة ) .
و قال ابن المنذر : ( ثبت أن عمر قال لأمة رآها مقنعة : اكشفي رأسك ، و لا تشبهي بالحرائر ، و ضربها بالدرة ) . انظر : إرواء الغليل للألباني 6 / 203 .(60/24)
.
و قال أنس - رضي الله عنه - أيضاً : (( كن إماء عمر - رضي الله عنه - يخدمننا كاشفات عن شعورهن ، تضطرب ثديُّهن )) (1) .
قال الإمام الطرطوشي رحمه الله (2): فهموا أن مقصود الشرع المحافظة على حدوده ، و أن لا يظن الناس أن الحرة و الأمة في الستر سواء ، فتموت سنة ، و تحيا بدعة . اهـ (3) .
فانظر رحمك الله إلى ورع القوم و قد أخذوا الإسلام غضاً طرياً ، كيف كانوا يخافون على السنة و يخشون عليها من الزيادة و اللبس ، و قف حيث وقفوا فإنك في زمن عزَّت فيه السنن .
جهود علماء البوسنة و دعاة الإسلام فيها في إحياء السنن و التصدي للبدع
إذا أريد للسنة أن تنبعث من جديد في البوسنة و الهرسك ، و أن يعزَّ أهلها ، و يظهروا على من ناوأهم ، و يصدعوا بدعوتهم في وجوه المخالفين ، فلا بد لهم من أن يأتموا بالسلف الصالح - رضي الله عنهم - في التمسك بالسنة و الاعتصام بها ، و التخلي عن البدع و البراءة من أهلها , و قد كان لسلفهم مواقف جليلة في هذا المجال , ومنها :
موقف الشيخ حسن كافي من أهل الأهواء و البدع
__________
(1) …إسناده جيد :
أخرجه البيهقي في " السنن الكبرى " 2 / 227 من طريق حماد بن سلمة ، حدثني ثمامة بن عبد الله بن أنس ، عن جده أنس - رضي الله عنه - به .
و قال البيهقي : ( الآثار عن عمر بذلك صحيحة ) .
(2) 2 …الطرطوشي ، هو : محمد بن الوليد بن خلف ، أبو بكر الأندلسي ، الفقيه المحدث ، عالم الإسكندرية ، و طرطوشة : هي آخر مدن المسلمين من شمالي الأندلس ، الإمام الزاهد ، القدوة الفقيه ، شيخ المالكية ، دين ورع ، صاحب رحلة ، توفي بالإسكندرية سنة 520 هـ / 1126 م .
انظر ترجمته في : الصلة لابن بشكوال 2 / 575 ، بغية الملتمس ص 135 – 139 ، معجم البلدان 4 / 30 ، وفيات الأعيان 4 / 262 – 265 ، سير أعلام النبلاء 19 / 490 ، حسن المحاضرة 1 / 452 .
(3) …الحوادث و البدع ، للطرطوشي ، ص: 114 .(60/25)
عرف الشيخ حسن كافي الآقحصاري رحمه الله تعالى و أتباعه في البوسنة بالتمسك بمنهج السلف الصالح في هذا المجال ، و يحسن هنا أن نشير إلى موقفهم هذا ليكون نبراساً يتأسى به من بعدهم .
لقد أكَّد الشيخ حسن كافي رحمه الله في موقفه من أهل الأهواء و البدع على عدة أمور ، تعتبر بحقٍ معالم رئيسة في ما يعتقده الشيخ في هذا الباب ، و من أبرز هذه المعالم :
البراءة من البدع و أهلها .
تقسيم البدع إلى مكفِّرة و غير مكفرة .
الحكم على الظواهر ، و ترك السرائر إلى الله تعالى .
اعتقاد إمكان اجتماع السنة و البدعة ، و الخير و الشر ، في الشخص الواحد ، و بالتالي فهو يستحق الولاء و البراء معاً بمقدار ما فيه من موجب كلٍّ منهما .
التفريق بين الكرامات ، و بين ما يقع على أيدي أهل البدع من خوارق العادات .
و فيما يلي أقتطف من كلام الشيخ رحمه الله ما يؤكِّد التزامه بهذه القواعد ، و الدعوة إلى التزامها قولاً و عملاً :
يقرر الشيخ رحمه الله أن أهل السنة يحكمون على أهل المعاصي ، و الأهواء و البدع ، بما ظهر من أحوالهم ، و يوكلون سرائرهم إلى من يعلم السرَّ و أخفى ، و يذهب مذهبهم في ذلك .
و في هذا المعنى جاء قول الإمام الطحاوي رحمه الله : (( و نسمي أهل قبلتنا مسلمين مؤمنين ، ما داموا بما جاء به النبيُّ معترفين ، و بكلِّ ما قال و أخبر
مصدِّقين )) ، و قول شارح ( الطحاوية ) الشيخ حسن كافي : (( المراد بأهل القبلة من يدَّعي الإسلام ، و يستقبل الكعبة ، و لم يكذِّب بشيءٍ مما جاء جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، و إن كان من أهل الأهواء ، أو من أهل المعاصي … فنراعي ظواهرهم ، و نكل إلى الله ضمائرهم )) (1) .
…و لكن هذا القول ليس على إطلاقه ، بل هو مُقيَّدٌ بما إذا كانت البدعة غير مكفِّرة ، و لذلك عقَّب على كلامه و كلام الماتن المتقدم ، بقوله :
__________
(1) …نور اليقين في أصول الدين ، ص : 183 .(60/26)
(( و في قول الشيخ إشارةٌ إلى أنَّ مجرَّد التوجه إلى قبلتنا ، لا يدلُّ على حقيقة الإيمان فإنَّ كثيراً من الناس يتوجهون إلى قبلتنا ، و ليسوا على ديننا ، كالغلاة الذين يدَّعون نبوة علي - رضي الله عنه - ، و كمن يدعي منهم أنه إله ، و كالقدريَّة الذين يزعمون وجود كثيرٍ من الأشياء من غير مشيءة الله ، و كمن يدَّعي الخالقيَّة لكلِّ فاعلٍ مختار ، و كمن يزعم أنَّ صانع العالم جسم على صورة البشر ، و كمن يدعي أنَّ المحبة تزيل التكليف و كمن يقول : إنَّ لله حلولاً و اتحاداً بالأنفس ، و نحو ذلك من أقاويل أهل الضلالة و الإلحاد )) (1) .
و ينكر رحمه الله على غلاة الصوفية و جهالهم ، فساد أحوالهم و فعالهم ، مع زعمهم أنهم أهل كرامة ، و سالكون سبل الولاية ، و هم في غاية البعد عنه ، فيقول رحمه الله :
(( أما الذين يتعبَّدون بالرياضات و الخلوات ، و يتركون الجمع و الجماعات فهم من الذين ضلَّ سعيهم في الحياة الدنيا ، و هم يحسبون أنهم يحسنون صُنعاً ، قد طبع الله على قلوبهم ، و كذلك الذين يُصعقون عند سماع الأنغام الحسنة مبتدعون ضالُّون ، إذ ليس للإنسان أن يستدعي ما ما يكون سبب زوال عقله ، و لم يكن في الصحابة من يفعل ذلك و لو عند سماع القرآن )) (2) .
__________
(1) …المرجع السابق ، ص : 183 ، 184 .
(2) …المرجع السابق ، ص : 264 – 265 .(60/27)
و كلُّ من ادعى الكرامة ، و لم يسلك سبيل الاستقامة ، فهو دعيٌّ ، لأنه (( لا يصل أحد إلى الله و رضوانه و جنته و كرامته ، إلا بمتابعته الرسول ظاهراً و باطناً فمن لم يكن مصدقاً له فيما أخبر ، و ملتزماً لطاعته فيما أمر ، في الأمور الباطنة التي في القلوب ، و الظاهرة التي على الأبدان ، لم يكن مؤمناً ، فضلاً عن أن يكون وليَّاً و لو طار في الهواء ، و مشى على الماء ، و أنفق من الغيب ، و أخرج الذهب من الجيب ، فإنه من الأحوال الشيطانية ، المبعدة لصاحبها عن الله تعالى ، المقرِّبة من سخطه و عذابه )) (1) .
و هؤلاء المتنكبون عن طريق الهدى ، يجب أن لا يُغترَّ بما قد يجري على أيديهم من أحوال ظاهرها خرق العادة ، فهم إلى الأحوال الشيطانية مستدرجون ، و عن الشريعة الربَّانية زائغون ، و على هذا المعنى يَحمل الشيخ حسن كافي رحمه الله قول عبد الله بن المبارك :
و هل أفسد الدين إلاَّ الملوك و أحبار سوءٍ و رهبانها
فيقرر أن الرهبانية في هذه الأمَّة ، يمثلها أهل الجهالة و الضلالة من المتصوفة ، بقوله :
(( الرهبان هم جهَّال الصوفيَّة ، المعترضون على حقائق الإيمان و الشرع بالأذواق ، و المواجيد ، و الخيالات الفاسدة ، و الكشوفات الباطلة الشيطانية ، المتضمنة شرع دين لم يأذن به الله ، و إبطال دينه الذي شرعه على لسان نبيِّه … و قد قال أصحاب الذوق : إذا تعارض الذوق و الكشف ، و ظاهر الشرع قدَّمنا الذوق و الكشف . نعوذ بالله أن نكون من الجاهلين ، و العصمة بالله ربِّ
العالمين )) (2) .
__________
(1) …نور اليقين في أصول الدين ، ص : 266 .
(2) …نور اليقين في أصول الدين ، ص : 153 .(60/28)
…و يُقابل أهل الضلال و البدع ، أهلُ السنة و الجماعة ، و هم الفرقة الناجية و الطائفة المنصورة (1) ، التي لم يُغفل الشيخ ذكرها ، و بيان صفات أهلها ، ليحظى من وفَّقه الله بنهج نهجهم ، و الردّ إلى ما كانوا عليه قبل أن يفترقوا ، و هم : (( الذين اتبعوا النبي - صلى الله عليه وسلم - و كانوا على ملَّته ، و دانوا بها ، و دعوا سائر الأمم إليها حتى صار إجماعهم حجة من حجج الله ، موجبةً للعلم قطعاً من الصحابة و التابعين و من بعدهم )) (2) .
و كما تجب البراءة من أولئك الأدعياء و بغضهم ، تجب موالاة هؤلاء الأصفياء ، و حبهم .
قال حسن كافي الآقحصاري في شرح نص الطحاويَّة : ( نحب أهل العدل و الأمانة ) :
(( و هم أهل السنة و الجماعة ، و من سلك مسلكهم من المسلمين ، و المتمسكون بالعدل من ولاة أمور الدين ، فمحبتهم من كمال الإيمان و تمام العبوديَّة ، لأنها تتضمن محبة الله و محبة رسوله ، لأن الله يحب المحسنين و يحب التوابين ، و يحب المتطهرين ، و من كمال محبة الله للعبد أن يحب العبد من أحبَّه الله ، فإن المحب يحب ما يحب محبوبه ، و يبغض ما يُبغضه ، و يوالي من يواليه ، و يعادي من يعاديه ، فهو موافق لمحبوبه في كلِّ حال )) (3) .
و قال في شرح نص الطحاوية : ( نُبغض أهل الجور و الخيانة ) :
(( و هم أهل الخلاف و العصيان ، و الجائرون من الولاة ، و الله تعالى لا يحب الخائنين ، و لا يحب المفسدين ، و لا يُحب المستكبرين ، فنحن لا نحبهم ، بل نبغضهم موافقة لله تعالى )) (4) .
و الشيخ الآقحصاري يرى أن الولاية و العداوة ، قد تجتمعان في الشخص الواحد ، و كذلك الحب و الكره ، فيقول :
__________
(1) …المرجع السابق ، ص : 100 و 268 .
(2) …المرجع السابق ، ص : 106 .
(3) …المرجع السابق ، ص : 206 ، 207 .
(4) …المرجع السابق ، ص : 207 .(60/29)
(( إنَّ العبد قد يجتمع فيه سبب الولاية و سبب العداوة ، و سبب الحب و سبب البُغض ، فيكون محبوباً من وجه ، و مبغوضاً من وجه ، و الحكم
للغالب )) (1) .
…و حيث يتعذَّر على كلِّ أحد التمييز بين الصنفين ، فعلى كاهل أهل العلم ، المهتمين بالكتاب و السنة ، تقع مسؤولية مقارعة أهل الباطل ، و التصدي للمبتدعة ، و لا يقوى على القيام بهذا الواجب الكفائي ، إلا من وفَّقه الله و سدَّده ، ليكون من دُعاة السنَّة الذين من أخصِّ صفاتهم ، العلم و التثبت ، المنافيان للابتداع و التحريف.
يقول الشيخ حسن كافي رحمه الله :
(( و كلَّما بعُد العهد بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - و أصحابه ظهرت البدع و كثر التحريف إلا أن الله تعالى قد منَّ على أمته بجعل علمائهم ، كأنبياء بني إسرائيل ، فلا تزال طائفة منهم قائمين على الحق ، كما قال عليه الصلاة و السلام : ( لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق ، لا يضرهم من خذلهم ) (2) ، فعيَّنوا طريق الفرقة الناجية ، و بينوا طريق الأمة الهادية ، ليحق الحق ، و يزهق الباطل ، و ليتميز العالم من
الجاهل )) (3) .
و يُعرِّف الشيخ حسن كافي " الولي " فيقول :
(( هو العارف بالله و صفاته ، حسب ما أمكن ، المواظب على الطاعات ، المتجنب للمعاصي و الانهماك في اللذات و الشهوات )) (4) ، و الوليُّ في نظره (( إنما يستحق الولاية و الكرامة باتباعه نبيَّه - صلى الله عليه وسلم - و اقتدائه به في طاعة الله تعالى على
شريعته )) (5) .
أما أدعياء الكرامة ، و زاعموا الولاية ، فقد عرف عن الشيخ صلابة موقفه ، في التصدي لهم ، و كشف ضلالهم ، و بيان فساد ماهم عليه ، حيث وضع الميزان الشرعي لتقييم ما هم عليه ، بعرضه على الكتاب و السنة ، فقال :
__________
(1) …المرجع السابق ، ص : 207 .
(2) …حديث صحيح : تقدم تخريجه .
(3) …نور اليقين ، ص : 100 ، 101 .
(4) …المرجع السابق ، ص : 252 .
(5) …المرجع السابق ، ص : 253 .(60/30)
(( الواجب عرضُ أفعالهم و أحوالهم على الشريعة المحمدية ، فما وافقها قُبِل ، و ما خالفها رُدَّ … فلا طريقة إلاَّ طريقة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، و لا حقيقة إلاَّ حقيقته ، و لا شريعة إلا شريعته ، و لا عقيدة إلا عقيدته ، و لا يصل أحد إلى الله و رضوانه ، و جنته و كرامته ، إلا بمتابعة الرسول ظاهراً و باطناً فمن لم يكن مصدقاً له فيما أخبر ، و ملتزماً لطاعته فيما أمر ، في الأمور الباطنة التي في القلوب ، و الظاهرة التي على الأبدان ، لم يكن مؤمناً ، فضلاً عن أن يكون وليَّاً و لو طار في الهواء ، و مشى على الماء ، و أنفق من الغيب ، و أخرج الذهب من الجيب ، فإنه من الأحوال الشيطانية ، المبعدة لصاحبها عن الله تعالى ، المقرِّبة من سخطه و عذابه )) (1) .
و يقول رحمه الله في بيان حال و حكم أدعياء الكرامة و الولاية من غلاة الصوفية و غيرهم :
(( أما الذين يتعبَّدون بالرياضات و الخلوات ، و يتركون الجمع و الجماعات فهم من الذين ضلَّ سعيهم في الحياة الدنيا ، و هم يحسبون أنهم يحسنون صُنعاً ، قد طبع الله على قلوبهم ، و كذلك الذين يُصعقون عند سماع الأنغام الحسنة مبتدعون ضالُّون ، إذ ليس للإنسان أن يستدعي ما ما يكون سبب زوال عقله ، و لم يكن في الصحابة من يفعل ذلك و لو عند سماع القرآن )) (2) .
و الشيخ الآقحصاري يرى أن الولاية و العداوة ، قد تجتمعان في الشخص الواحد ، و كذلك الحب و الكره ، فيقول : (( إنَّ العبد قد يجتمع فيه سبب الولاية و سبب العداوة ، و سبب الحب و سبب البُغض ، فيكون محبوباً من وجه ، و مبغوضاً من وجه ، و الحكم للغالب )) (3) .
__________
(1) …المرجع السابق ، ص : 265 .
(2) …المرجع السابق ، ص : 264 – 265 .
(3) …المرجع السابق ، ص : 207 .(60/31)
و إلى جانب تحذيره رحمه الله من الحوادث و البدع ، فقد كان للشيخ حسن كافي الآقحصاري رحمه الله موقف صلب في مواجهة الفرق الضالة ، و المذاهب البدعيّة ، كفرقة الحمزوية – التي سبق ذكرها و بيان موقفه منها ، و جهاده في القضاء عليها – و الرافضة التي قال عنها :
(( أصل الرفض إنَّما أحدثه منافقٌ زنديق ، قصد إبطال دين الإسلام ، و القدح في الرسول ، كما فعل بولُص (1)بدين النصارى ، و ذلك المنافق هو عبد الله بن سبأ (2)
__________
(1) 1 …بولص ، هو : قس يهودي اسمه الأصلي شاؤول ، ولد في طرسوس ، و نشأ في أورشليم ، كان في أول حياته من أشد أعداء المسيحية ، يكيد لها ، ثم تظاهر بالمسيحية و ادعى الانتساب إليها بقصد التحريف فيها ، فاستطاع أن يصل إلى رتبة كبيرة عندهم ، حتى صار من الرسل الملهمين الذين ينطقون بالوحي ، فأدخل المعتقدات الباطلة في المسيحية ؛ كالتثليث ، و ألوهية المسيح ، و غير ذلك من الخرافات و التحريفات .
انظر : منهاج السنة النبوية لابن تيمية 1 / 29 ، 6 / 428 ، محاضرات في النصرانية ص 81 ، المسيحية لأحمد شلبي ص 90 .
(2) 2 …عبد الله بن سبأ ، هو : الضال المضل ، رأس الطائفة السبئية ، من غلاة الزنادقة ، أصله من اليمن ، كان يهوديا فأظهر الإسلام ، وطاف ببلاد المسلمين ليفتنهم عن طاعة الأئمة ، دخل دمشق أيام عثمان بن عفان - رضي الله عنه - ، فأخرجوه ، فانصرف إلى مصر ، و جهر ببدعته ، و هو الذي قال بتأليه علي - رضي الله عنه - ، و برجعة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، و بأن القرآن جزء من سبعة أجزاء ، مات سنة 40 هـ / 660 م .
انظر ترجمته في : البدء و التاريخ 5 / 129 ، تهذيب تاريخ دمشق لابن بدران 7 / 341 ، ميزان الاعتدال
2 / 426 ، لسان الميزان 4 / 292 – 293 .(60/32)
، أراد أن يُفسد دين الإسلام ، و يُلقي الفتنة بين المسلمين ، فأظهر الإسلام و التنسك ، ثم أظهر الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر ، حتى سعى في فتنة عثمان و قَتْلِه ، ثم لما قدم الكوفة ، أظهر الغلو في علي ، ليتمكن بذلك من اعتراضه و بلغ ذلك علياً فطلب قتله ، فهرب ، و خبره معروفٌ في التواريخ ، أخزاه الله تعالى )) (1) .
كما حذر رحمه الله من المقالات الفاسدة و أهلها الذين ابتليت بهم الأمة عبر التاريخ ، و بالغ في التحذير منهم ، و حكم بكفر من قال بخلق القرآن ، و خروجه من الملة (2) ، و كذلك من أتى بغيرها من البدع المكفرة .
تصدي أهل البوسنة و الهرسك للحوادث و البدع و أهلها في العصر الحاضر
لا بدَّ من توحيد الجهود ، و الوقوف صفاً واحداً يجمع الشباب المتحمس لدعوة أهل السنة و الجماعة ، و دعاة المؤسسات الرسمية الذين يعتبرون الحفاظ على الإسلام في تلك البلاد واجبهم الأوَّل ، فيدعوا جميعاً إلى الله على بصيرة .
و إن كان هؤلاء الدعاة الشبان قد عجزوا عن إنكار البدع منفردين ، و الجهر بإنكارها في وجه مخالفيهم من العامَّة و العلماء ( الرسميين ) على حدٍ سواء ، فإنَّ البلاد لم تخل من غيارى على الإسلام يحذِّرون من انتشار البدع و تفشِّيها ، يدرأ عنهم لوم المعارضين ، و تصدي المخالفين ، ما ألقاه الله في قلوب البشانقة من قبولٍ لهم ، و رضاً بما يصدر عنهم .
ومن هؤلاء الرئيس علي عزَّت بيك الذي تقيه مغبَّة الانتقاد و الردّ مكانته الفكرية و الاجتماعيَّة و السياسية الرائدة في البوسنة ، و هو يعتبر البدعة و الخرافة نقيضين للعلم و المعرفة ، و يدعو إلى محاربتهما ، و تسليح المسلمين بالعلم في مواجهتهما فيقول :
__________
(1) …نور اليقين في أصول الدين ، ص : 251 .
(2) …انظر : الدكتور عمر ناكيجيفيتش : حسن كافي الأقحصاري رائد العلوم العربية و الإسلامية , ص 179 نقلاً عن نسخة خطية لكتاب : روضات الجنات .(60/33)
(( لقد أقام الإسلام حرباً على الشرك ، و قضى عليه بحركةٍ واحدة في مناطق شاسعةً من العالم ، لأنَّه وضع حداً فاصلاً بيناً بين الإيمان و الخرافة ، و لكنَّ الخرافة وجدت لها مرتعاً في بيوت و قلوب كثيرٍ من المسلمين ، ثمَّ ظهرت في صورة التمائم و الطلاسم ، و ما شابه ذلك ، لتمهد الطريق للتجارة الرابحة بالدين ، لأنَّه إذا لم يقض الدين على الخرافة قضت الخرافة على الدين .
و قد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يهتم بتعليم المسلمين ، حتى في أيام الحرب الضروس إذ جعل تعليم كلِّ عشرة من المسلمين فدية لأسير من أسرى بدر(1) )) (2) .
ثم يبدي تألُّمه لما آل إليه حال المسلمين اليوم من إعراضٍ عن سنَّة نبيِّهم - صلى الله عليه وسلم - ، و بعدهم عن هديه في كافَّة شؤون حياتهم ، فيقول :
(( نعم ، هناك بين المسلمين أمورٌ كثيرة تقشعرُّ منها الجلود ، و حتى غير المسلمين يدركون و يلاحظون ذلك . لو قام محمد - صلى الله عليه وسلم - من قبره ، و رأى كم بدَّل أتباعه دينه ، لتغيَّر وجهه غضباً ، و لعن كلَّ من شارك في تلك البدع ، كما يقول لوثورب ستودارد (3) )) (4) .
و هذا الصوت الشجاع في مواجهة البدع و التحذير من شررها المستطير ، من رجل عاش للإسلام مجاهداً بكلمته ، و قلمه ، و موقفه ، يحتاج إلى أمرين يؤازرانه كي يساهم في القضاء على البدع و الخرافات قضاءً مبرماً :
أمَّا الأمر الأوَّل فهو اجتماع العلماء البوشناق حوله كما أسلفت ، و التأكيد على ضرورة التصدي للبدع ، باعتبار ذلك واجباً لا مناص منه لمن يريد للسنة أن تحيا و تنبعث من جديد ، بعد ما أماتتها قرون من الغفلة و الجهل الذي لفَّ العالم الإسلامي .
__________
(1) 1 …تقدم لفظ هذا الأثر و تخريجه .
(2) …مجموعة مقالات الرئيس علي عزَّت بيك ، ص : 22 .
(3) 3 …هو صاحب كتاب " حاضر العالم الإسلامي " ، و لم أعثر على هذا الكلام فيه .
(4) …المرجع السابق ، ص : 23 .(60/34)
و أما الأمر الثاني فهو اتخاذ مواقف فعليَّة تتجاوز التنظير و الكلام في التصدي للبدع ، بمعارضتها ، و عدم المشاركة في أيٍ منها تحت أي مبرر ، و تقديم البديل عنها ، من السنَّة النبويَّة الصحيحة .
و في ذلك الخير كلُّ الخير للإسلام و أهله ، حيث (( لا يصلح آخر هذه الأمَّة إلاَّ بما صلح به أوَّلها )) كما قال إمام دار الهجرة رحمه الله (1) .
الفصل الرابع
التأثر بمنهج المدرسة العقلية الحديثة
المدرسة العقليَّة الحديثة في البوسنة و موقفها من السنة النبوية
مكانة العقل في الشريعة الإسلامية :
لم يهمل الإسلام العقل قط ، بل وجهه إلى النظر و التفكير ، و البحث و التدبير . و توجه بالخطاب إلى أهله ، يحثهم على تحكيمه فيما أشكل عليهم .
و وجه الخلق إلى التفكر و التدبر في غير آية من آيات الكتاب العزيز .
قال تعالى : { كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته و ليتذكر أولو
الألباب } [ ص : 29 ] .
و قال سبحانه : { أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها } [ محمد :
24 ] .
و وصف عباده المؤمنين به بالمداومة على ذكره و التفكر في خلقه فقال :
{ الذين يذكرون الله قياماً و قعوداً و يتفكرون في خلق السماوات و الأرض } [ آل عمران : 191 ] .
و دعا سائر الخلق إلى ذلك فقال : { أولم يتفكروا في أنفسهم ما خلق الله السماوات و الأرض و ما بينهم إلا بالحق و أجل مسمى } [ الروم : 8 ] .
__________
(1) 1 …صحيح ثابت عن مالك :
نقله عنه القاضي عياض في " الشفا " 2 / 87 – 88 ، و قال شيخ الإسلام ابن تيمية في " مجموع الفتاوى " 1 / 353 : الثابت المنقول عنه – يعني مالك – بأسانيد الثقات في كتب أصحابه كما ذكره إسماعيل بن إسحاق القاضي ، و غيره – فذكره .
و انظر أيضا : مجموع الفتاوى 27 / 118 ، و الفتاوى الكبرى 4 / 362 ، و اقتضاء الصراط المستقيم 2 / 285 .(60/35)
و قال أيضاً : { أفلا ينظرون إلى الإبل كيف - و إلى السماء كيف رفعت - و إلى الجبال كيف نصبت - و إلى الأرض كيف سطحت } [ الغاشية : 17-20 ].
و كرم الله العقل أفضل تكريم حيث و جهه إلى طلب العلم ، و رفع قدر العلماء .
…قال تعالى : { يرفع الله الذين آمنوا منكم و الذين أوتوا العلم درجات } [ المجادلة : 11 ] .
و وصفهم سبحانه بالخشية فقال : { إنما يخشى اللهَ من عباده العلماءُ } [ فاطر : 28 ] .
و من هذا المنطلق أقبل المسلمون على علوم الدين و الدنيا ، ينهلون منها و يعلمون ، و يأخذون و يعطون ، حتى علا قدرهم في المعارف كافة ، و أصبحت حواضر البلدان الإسلامية مراكز ثقافية ، و قامت فيها جامعات علمية يؤمها الطلبة من مختلف أنحاء العالم ، و غدت مكتباتها مراجع ينهل منها بنهم كل من عرف قيمة الكتاب ، بعد أن جلبت إلى خزائنها نوادر المخطوطات ، و نفائس المصنفات ، و ترجمت إلى اللسان العربي من مختلف اللغات في عهد بني العباس فمن بعدهم .
نشأة المدرسة العقلية في المشرق الإسلامي :
لا زالت شمس الإسلام تسطع على العالم كله يوم كانت لأبنائه الريادة في المجالات العلمية على تنوعها ، فانطلقت الفتوحات الإسلامية تملأ الأرض نوراً و عدلاً و بلغت أوجها في عهد السلطان محمد الفاتح رحمه الله الذي حاز فضيلة فتح القسطنطينية و التوغل من بعد في عمق البلدان الأوربية عبر بوابة البلقان .
و مع تقدم الزمن دبَّ الضعف في جسد الأمة ، و بدأت ريادة العالم العلمية تنتقل تدريجياً إلى الغرب الأوربي ، يحملها طلاب درسوا في الأندلس و اسطنبول و غيرهما من الحواضر الإسلامية ، و لصوص محترفون سرقوا من العالم الإسلامي نفائس المخطوطات و أمهات الكتب .(60/36)
و أثناء هذا التحول عني العثمانيون بتسليح الشعوب الخاضعة لهم ، و اهتموا ببسط نفوذهم و الحفاظ على سلطتهم البسيطة ، فيما بدأ الغرب النصراني يبني نهضة ماديَّة تقنية ، و يوحد صفوفه في مواجهة دولة الخلافة المتقهقرة ..
و لا زال الغرب ينمو و يتقدم بتخليه عن ماضيه و خروجه على سلطة الكنيسة و رجالها ، و الشرق الإسلامي يتردى و يتحطم بتنكره لأصوله و تخليه عن دينه و شريعة ربه ، حتى جاءت اللحظة الفاصلة فسقطت الخلافة ، و تداعت الأمم على ديار الإسلام تستولي و تستعمر ، و تشغل معاول التجهيل و التغريب في أبناء المسلمين ، حتى اتسعت الهوَّة بين المسلمين و كلٍ من دينهم ، و الحضارة التي أحرزها عدوُّهم ، فيما كان للغرب الصليبي سبق لا ينكر في المجالات المادية ، و الصناعات التقنية .
و فقدت الأمة الإسلامية استقلالها ، فأمست تابعة مسودة مقودة ، يسيرها أعداؤها كما يشاؤون ، و يعاني أبناؤها من عقدة التخلف و التبعية .
و قد تمخض هذا الواقع عن ظهور ثلةٍ من المفكرين و الكتاب و العلماء الداعين إلى اللحاق بركب الحضارة الغربية ، لتجديد فهم الإسلام ، و تطوير أحكامه بما يتناسب و ظروف الزمن الراهن .
و كان في طليعة هؤلاء العلماء المجددين كلٌ من جمال الدين الأفغاني و محمد عبده ، و تلميذه محمد رشيد رضا ، و آخرون ممَّن كانت لهم الشهرة في أوائل القرن الرابع عشر الهجري .
و قد نادى هؤلاء المجددون بإدخال إصلاحات جذرية في علوم الشرع و أحكامه لتواكب العصر ، و كانت باكورة عملهم الدعوة إلى إصلاح الأزهر الشريف بصفته المرجعية العليا لغالبية المسلمين في تلك الفترة .
انتقال فكرة التجديد و دعوة العقلانيين إلى البوسنة :(60/37)
تأثر بفكر التجديد ، و دعاوى العقلانيين طائفة من الطلاب الذين وفدوا من أقطار الدنيا لطلب العلم الشرعي في الأزهر الشريف ، و عادوا إلى بلادهم يدعون إلى الإصلاح و التجديد ، و كان فيهم بلا ريب عدد لا يستهان به من أبناء البلقان .
و مع سقوط الخلافة العثمانية انقطعت جسور التواصل بين مسلمي البوسنة و إخوانهم في أنحاء العالم الإسلامي ، و فرض عليهم أسلوب جديد في العيش و التفكير المتحرر من الواجبات الدينية و الثوابت العقدية .
و قد ساعد الوضع الجديد هذا على ظهور طائفة من الكتاب المسلمين البوسنويين لا تخفي اعجابها بالحضارة الغربية و تأثرها بدعوات التجديد التي ظهرت في الشرق الإسلامي ، و تدعو إلى مجاراة الغرب المتمدن باسم التطور و الإصلاح الديني و الدنيوي معاً تحت شعار ( التوفيق بين الأخلاق الإسلامية و المادية الغربية الممثلة في العلم و التقنية ) (1).
و من أبرز هؤلاء الكتَّاب :
محمد بيك قبطانوفيتش ( 1255 – 1320 هـ / 1839 -
1902 م ) .
قوت بيك باشاغيتش ( 1287 – 1353 هـ / 1870 -
1934 م ) .
عثمان نوري حاجيتش ( 1286 – 1356 هـ / 1869-
1937 م ) .
أدهم ملابديتش ( 1279 – 1374 هـ / 1862 - 1954 م ) .
محمد جمال الدين تشاوشيفيتش رئيس المشيخة الإسلامية في البوسنة في زمنه .
و إضافة إلى تسخير منابر المساجد التابعة للمشيخة للدعوة إلى التجديد ، أسس هؤلاء الكتاب مجلة ( بهاء ) النصف شهرية سنة 1900م / 1318 هـ ، و شحنوها بمقالاتهم الهادفة إلى مجاراة الغرب ، و الاقتباس من حضارته مع الحفاظ على روح الإسلام و حضارته بعد تطويره و تطويعه لروح العصر ، باعتبار أن البوسنة بلد أوربي ، و ليس شرقياً .
__________
(1) …حركة إصلاح التشريع الإسلامي , ص : 216 .(60/38)
ثم أسست مجلة ( البلاغ ) الناطقة باسم رئاسة العلماء ، و المعبرة عن آراء و اجتهادات دعاة المشيخة الإسلامية ، و جلهم من أتباع المدرسة العقلية الحديثة ، و قد اشتهر بينهم في أواخر القرن الثالث عشر الهجري الأستاذ حسين جوزو الذي يعتبر أحد رواد التجديد في البوسنة .
ثم مجلة ( البحوث الإسلامية ) ، الصادرة عن كلية الدراسات الإسلامية في سراييفو ، و المهتمة بنشر أبحاث و إسهامات أعضاء هيئة التدريس و خريجي الكلية .
و أخيراً مجلة ( الفكر الإسلامي ) التي صدرت بمبادرة من الدكتور أحمد إسماعيلوفيتش و توقفت عن الصدور مع بداية الحرب الأخيرة في البوسنة .
و قد كانت هذه المجلات مسرحاً فسيحاً لأفكار دعاة التجديد ، و أتباع المدرسة العقلية الحديثة ، تنشر ما يعلنونه من أهداف ، و من ذلك (1):
أ – قبول الحضارة الغربية و التفاعل معها .
ب - العودة إلى المصادر الأصلية للتشريع و هي الكتاب و السنة .
ج – تجديد المفاهيم الإسلامية و تطويرها .
…أمَّا أهدافهم غير المعلنة فكثيرة ، منها خدمة أعداء الإسلام عن سذاجة و حسن نيَّة تارة ، و عن مكرٍ و سوء طويَّةٍ تارةً أخرى ، و قد كشف بعضاً من هذه الأهداف دفاع عددٍ من أعلام مدرسة التجديد عن الاستعمار المتسلِّط على بلدان العالم الإسلامي ، و انتساب عددٍ منهم إلى المحافل الماسونية (2)
__________
(1) …انظر : نصرت عيسانوفيتش : تحديات الفكر الإسلامي الحديث ( مقال نشرته مجلة البلاغ ، في عددها الثالث سنة 1411 هـ / 1990م ) ص: 13 و ما بعدها .
(2) 1 …انظر مثلاً ما قيل حول الشيخ محمد جمال الدين الأفغاني ، و انتسابه إلى محفل ( كوكب الشرق ) الماسوني الانجليزي في مصر في مؤلَّفات من كشف حقيقته ، مثل :
حقيقة جمال الدين الأفغاني ، و هو كتاب باللغة الفارسية لابن أخت الأفغاني ميرزا لطف الله خان الأسد آبادي ، و قد ترجمه إلى اللغة العربية الدكتور عبدالمنعم حسين الأستاذ بقسم اللغات الشرقية و آدابها بكلية الآداب في جامعة عين شمس .
و : الماسونية و الماسونيون في الوطن العربي ، تأليف حسين عمر حمادة ، ص: 221 و ما بعدها .
و : صوت الماسونية ، تأليف زكي إبراهيم ، ص : 162 و ما بعدها .(60/39)
.
…غير أنَّ ما يعنينا في هذا المقام هو موقف هؤلاء العقلانيين من السنَّة النبويَّة ، حيث عرف عنهم إنكار حجيَّتها ، و الإعراض عنها ، استناداً إلى شبهٍ أوهن من بيت العنكبوت ، كقولهم : إنَّ في التمسُّك بكتاب الله ما يغني عن الالتفات إلى ما في سواه سنَّة كان أو قياساً أو غير ذلك .
…و أصل هذه المقولة الفاسدة قديم عرفته الأمَّة من أيَّام السلف الصالح رحمهم الله تعالى ، وقد جاء التحذير منها و من أهلها على لسان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أحاديث عدَّة تبيِّن خبثهم ، و أنَّهم سيعمُّون على الناس بلبوس العلم ، و مزاعم النصح لدين الله ، و التستر بدعوى الاعتصام بكتاب الله .
و الأحاديث في هذا الباب كثيرةٌ منها :
…عن أبي رافع مولى رسول الله - رضي الله عنه - ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : (( لا ألفينَّ أحدكم متكئاً على أريكته ، يأتيه الأمر من أمري ممَّا أمرت به ، أو نهيت عنه . فيقول : لا ندري ، ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه )) (1) .
و معنى قوله - صلى الله عليه وسلم - ( لا ألفينَّ ) أي : لا أجدنَّ ، و هذه الصيغة تفيد المبالغة في النهي ، ومعنى قوله ( أريكته ) أي : سريره المزخرف ، و هو إشارةٌ إلى أنَّ إنكار الحديث إنَّما يأتي من المترفين الذين شأنهم التنعم و حب الشهوات ، و عدم الالتفات إلى أحكام الشريعة أو علومها .
و عن المقدام بن معد يكرب - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( ألا هل عسى رجلٌ يبلغه الحديث عني و هو متكئٌ على أريكته ، فيقول : بيننا و بينكم كتاب الله ، فما وجدنا فيه حلالاً استحللناه ، و ما وجدنا فيه حراماً حرَّمناه ، و إنَّ ما حرَّم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما حرَّم الله )) (2) .
__________
(1) …حديث صحيح : تقدم تخريجه .
(2) …حديث صحيح : تقدم تخريجه .(60/40)
…لقد بيَّن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث الشريف ، أنَّه سيظهر في أمته من ينكر سنته ، متعللاً باتباع القرآن الكريم ، ثمَّ بين - صلى الله عليه وسلم - أن ما حرَّمه فهو و ما حرَّمه الله في الحكم سواء ، لأنَّه لا ينطق عن الهوى ، مكتفياً بذكر أحد المتقابلين عن ذكر الآخر ، حين أشار إلى ما حرَّم و لم يُشر إلى ما أحلَّ .
…و إخباره - صلى الله عليه وسلم - في هذين الحديثين بظهور منكرة السنة ، قبل ظهوره علمٌ من أعلام نبوته - صلى الله عليه وسلم - ، و لذلك أوردهما و بوَّب عليهما الإمام البيهقي رحمه الله في كتابه ( دلائل النبوَّة ) ، فقال : باب ما جاء في إخباره - صلى الله عليه وسلم - بشبعان على أريكته يحتال في ردِّ سنَّته بالحوالة على ما في القرآن من الحلال و الحرام دون السنة ، فكان ما أخبر ، و به ابتدع من ابتدع ، و ظهر الضرر (1) .
…و قد تصدى السلف الصالح رضوان الله عليهم لمنكري السنة و حذَّروا منهم فور ظهورهم ، و حكموا بكفرهم .
…فعن عبد الله بن عبَّاس - رضي الله عنه - أنَه قال : (( من كفر بالرجم فقد كفر بالقرآن من حيث لا يحتسب )) (2) .
…و معنى قوله : ( كفر بالرجم ) ، أي أنكر وجوب رجم الزاني المحصن ، و هو حكم ثبت بالسنَّة ، و سكت عنه القرآن الكريم .
__________
(1) …انظر : دلائل النبوَّة ، للإمام البيهقي : 6/549 .
(2) …إسناده صحيح :
أخرجه النسائي في " السنن الكبرى " 4 / 275 ( 7161 ) في الرجم ، باب : تثبيت الرجم ، و في 6 / 333 ( 11139 ) في التفسير ، سورة المائدة آية ( 15 ) ، و الطبري في " تفسيره " ( 11609 و
11610 ) ، و ابن حبان في " صحيحه " ( 4430 ) ، و الحاكم في " المستدرك " 4 / 359 من طرق عن الحسين بن واقد ، حدثني يزيد النحوي ، عن عكرمة ، عن ابن عباس - رضي الله عنه - به .
قلت : و هذا إسناد صحيح ، رجاله كلهم ثقات .
قال الحاكم : ( هذا حديث صحيح الإسناد ، و لم يخرجاه ) .(60/41)
…قال أيوب السختياني (1) : (( إذا حدَّثت الرجل بالسنة ، فقال : دعنا من هذا ، و حدِّثنا من القرآن ، فاعلم أنَّه ضالٌ مضل )) (2) .
…و قال الإمام ابن حزم الظاهري رحمه الله : (( لو أن امرأً قال : لا نأخذ إلاَّ ما وجدنا في القرآن لكان كافراً بإجماع الأمَّة )) (3) .
موقف دعاة المدرسة العقلية الحديثة في البوسنة من أخبار الآحاد :
__________
(1) …أيوب السختياني ، هو : أيوب بن كيسان السختياني البصري ، أحد أئمة الإسلام الكبار ، و من صغار التابعين ، مولده عام توفي ابن عباس - رضي الله عنه - سنة 68 هـ / 687 م ، و لقي أنس بن مالك - رضي الله عنه - ، و كان حافظاً ورعاً ، قال عنه الإمام مالك رحمه الله : ( كان أيوب من العالمين العاملين الخاشعين ) ، توفي سنة 131هـ / 749 م .
انظر ترجمته في: طبقات ابن سعد 7 / 246 – 251 ، حلية الأولياء 3 / 2 – 14 ، تذكرة الحفاظ 1 / 130 ، سير أعلام النبلاء 6 / 15 – 26 ، تهذيب التهذيب 1/ 397 .
(2) …أثر أيوب ، إسناده صحيح :
أخرجه الحاكم في " معرفة علوم الحديث " ، ص : 65 ، و الخطيب في " الكفاية " ، ص : 49 ، و الهروي في " ذم الكلام " ( 208 ) من طرق عن الأوزاعي ، عن مخلد بن الحسين ، عنه .
قلت : و هذا إسناد صحيح ، رجاله كلهم ثقات أفاضل .
(3) …الإحكام ، لابن حزم : 2 / 80 .(60/42)
الخلاف حول الاحتجاج بأخبار الآحاد في مسائل الاعتقاد قديم قدم الفِرق و النحل الإسلامية ، و هذه المسألة متفرعة من مسألة تقديم العقل على النقل التي عرف بها المعتزلة (1)، الذين حدوه بما لا يعلم كونه صدقاً أو كذباً (2) ، و اتفقوا على عدم الاحتجاج بما جاء في باب العقائد ، و ما خالف العقل منه ، و إن حكم أهل الصنعة الحديثية بصحته (3).
بينما ذهب بعضهم إلى إنكار حجيته في أمور الدين أصوله و فروعه مطلقاً (4)، و عدّ – عند المعتزلة - متساهلاً في ذلك من قبله بشروط كانضمام خبر أخر من أخبار الآحاد إليه ، أو اعتضاده بموافقة ظاهر الكتاب ، أو ظاهر خبرٍ آخر ، آو انتشاره بين الصحابة ، أو عمل بعضهم بمقتضاه (5) .
__________
(1) 1…المعتزلة : فرقة كلامية ، رأسها واصل بن عطاء ، و قد سموا بالمعتزلة بعد ان اعتزل واصل مجلس الحسن البصري رحمه الله ، و قوله : ( إن صاحب الكبيرة في منزلة بين الإيمان و الكفر ) . و من مشائخ المعتزلة القاضي عبد الجبار بن أحمد الهمذاني ( ت : 415 هـ / 1024 م ) ، و أبو علي محمد بن عبد الوهاب الجبائي ( ت : 303 هـ / 915 م ) ، و أبو الحسين محمد بن علي الطيب البصري ( ت : 436 هـ / 1044 م ) . و أصول دعوة المعتزلة خمسة يتفق بعضها في الاسم مع ما عند أهل السنة و الجماعة ، و يفترق عنه في المضمون ، و هي التوحيد ، و العدل ، و الوعد و الوعيد ، و المنزلة بيمن المنزلتين ، و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر .
انظر : الملل و النحل ، للشهرستاني : 1 / 48 و ما بعدها .
(2) 2 …انظر : شرح الأصول الخمسة ، للقاضي عبد الجبار الهمذاني ( نشر مكتبة وهبة ، القاهرة 1384 هـ /
1965 م ) ، ص : 769 .
(3) 3 …انظر : الأمين الصادق الأمين : موقف المدرسة العقلية من السنة النبوية ( الطبعة الأولى ، مكتبة الرشد ، الرياض 1418 هـ / 1998 م ) : 1 / 129 ، 130
(4) 4 …انظر : المرجع السابق ، ص : 126 .
(5) 5 …انظر : المرجع السابق ، ص : 131 .(60/43)
و على الرغم من أن مدرسة الاعتزال قد اندرست باعتبارها إحدى الفرق التي كان لها شأن أيام العباسين ، إلا أن بعض آرائها تناقلتها الأجيال ، و ظل يتشبث بها البعض حتى يومنا هذا .
و من هذه الآراء إنكار حجية أخبار الآحاد ، و هو ما ارتضته المدرسة العقلية الحديثة في تعاملها مع السنة النبوية ، فردت أحاديث عديدة بدعوى أنها أخبار آحاد ، لا يعتد بها في تقرير مسائل الاعتقاد .
قال الشيخ محمد عبده : (( و أما ما ورد في حديث مريم و عيسى ، من أن الشيطان لم يلمسهما (1)، و حديث إسلام شيطان النبي - صلى الله عليه وسلم - (2)
__________
(1) 1 …حديث صحيح ، متفق عليه :
أخرجه البخاري ( 3286 ) في بدء الخلق ، باب : صفة إبليس و جنوده ، و في ( 4548 ) التفسير ، سورة آل عمران ، باب : قوله تعالى { وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم } ] آل عمران : 36 [ ، و مسلم ( 2366 ) في الفضائل ، باب : فضل عيسى عليه السلام ، و غيرهما من طرق عن أبي هريرة - رضي الله عنه - ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :
(( كل بني آدم يمسه الشيطان يوم ولادته ؛ إلا مريم و ابنها )) . و في رواية : (( ما من مولود يولد إلا نخسه الشيطان ، فيستهل صارخا من نخسة الشيطان إلا ابن مريم و أمه )) ، ثم قال أبو هريرة - رضي الله عنه - : اقرؤا إن شئتم : { وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم } ] آل عمران : 36 [ )) .
(2) 2 …حديث صحيح ثابت :
روي هذا الحديث عن عدد من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - منهم عائشة أم المؤمنين ، و عبد الله بن مسعود ، و شريك بن طارق - رضي الله عنهم - أجمعين :
فأما حديث عائشة رضي الله عنها :
أخرجه مسلم ( 2815 ) في صفات المنافقين و أحكامهم ، باب : تحريش الشيطان ، و بعثه سراياه لفتنة الناس ، و أن مع كل إنسان قرينا ، و لفظه :
(( أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج من عندها ليلا ، قالت : فغرت عليه ، فجاء فرأى ما أصنع ، فقال : مالك يا عائشة ؟! أغرت ؟ " فقلت : و ما لي لا يغار مثلي على مثلك ؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أوقد جاءك شيطانك ؟ قالت : يا رسول الله ! أو معي شيطان ؟ قال نعم قلت : و مع كل إنسان ؟ قال : نعم قلت : و معك يا رسول الله ؟! قال : نعم ، و لكن ربي أعانني عليه حتى أسلم )) .
و أما حديث عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - : =
=…أخرجه مسلم ( 2814 ) في صفات المنافقين ، باب : تحريش الشيطان و بعثه سراياه لفتنة الناس ، و أحمد في " مسنده " 1 / 385 و 397 و 401 و 460 ، و غيرهما ، و لفظه : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :
(( ما منكم من أحد إلا و قد وكل به قرينه من الجن )) ، قالوا : و إياك ، يا رسول الله ؟! قال : (( و إياي إلا أن الله أعانني عليه فأسلم ، فلا يأمرني إلا بخير )) .
أما حديث شريك بن طارق - رضي الله عنه - :
أخرجه البخاري في " التاريخ الكبير " 4 / 239 ، و ابن حبان في " صحيحه " ( 6416 ) ، و البزار
( 2439 ) ، و الطبراني في " الكبير " ( 7222 و 7223 ) من طريقين عن زياد بن علاقة عنه ، و لفظه : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :
(( ما منكم أحد إلا و له شيطان )) ، قالوا : و لك يا رسول الله ؟! قال : (( و لي ، إلا أن الله أعانني عليه فأسلم )) .(60/44)
، و إزالة حظ الشيطان من قلبه (1) ، فهو من الأخبار الظنية ، لأنه من رواية الآحاد ، و لما كان موضوعها عالم الغيب من قسم العقائد ، و هي لا يؤخذ فيها بالظن ، لقوله تعالى : { إن الظن لا يغني من الحق شيئاً } [ النجم : 28 ] ، فإننا غير مكلفين بالإيمان بمضمون تلك الأحاديث في عقائدنا ))(2) .
و ذهب مثل هذا المذهب أتباع المدرسة العقلية الحديثة في البوسنة ، و في مقدمتهم الأستاذ حسين جوزو ، رئيس علماء البوسنة في مطلع القرن الخامس عشر الهجري .
وترتب على إنكار حجية أخبار الآحاد عند حسين جوزو و من وافقه من علماء البوسنة مقالاتٌ فاسدة من أبرزها :
إنكار ما ثبت من خوارق العادات بما فيها معجزات النبي - صلى الله عليه وسلم - ، و عدم الإيمان بإمكانية وقوعها أصلاً ، و رد النصوص الواردة في ذلك .
__________
(1) 1 …حديث صحيح :
أخرجه مسلم ( 162 ) ( 261 ) في الإيمان ، باب : الإسراء برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، و أحمد 3 / 121 و 149 و 288 ، و أبو يعلى في " مسنده " ( 3374 و 3507 ) ، و ابن حبان في " صحيحه " ( 6334 و
6336 ) ، و غيرهم ، من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - ، قال :
(( إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أتاه جبريل ، و هو يلعب مع الغلمان ، فأخذه فصرعه ، فشق قلبه ، فاستخرج منه علقة فقال : هذا حظ الشيطان منك ، ثم غسله في طست من ذهب بماء زمزم ، ثم لامه ، ثم أعاده في مكانه ، و جاء الغلمان يسعون إلى أمه – يعني : ظئره – فقالوا : إن محمدا قد قتل ، فاستقبلوه منتقع اللون .
قال أنس - رضي الله عنه - : قد كنت أرى أثر ذلك المخيط في صدره - صلى الله عليه وسلم - )) .
(2) …تفسير المنار ، لمحمد رشيد رضا 3 / 392 .(60/45)
فهاهو الأستاذ حسين جوزو ينكر معجزات الرسول - صلى الله عليه وسلم - جملةً و تفصيلاً ، و يقول : (( بنزول القرآن الكريم تفقد المعجزة المادية أهميتها و القرآن هو معجزة الرسول - صلى الله عليه وسلم - الوحيدة … و لا مبرر لتصديق بعض الروايات الضعيفة التي تنسب إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - معجزات غير القرآن ، لأن كل أخبار المعجزات … لا ترتقي إلى درجة الصحة التي تلزمنا بقبولها )) (1) .
و يقول أيضاً : (( إنَّ الإسلام لم يستخدم المعجزة في إثبات نبوَّة محمد - صلى الله عليه وسلم - ، لأن المعجزة لا أهمية لها في عهد القرآن . لقد انتهى دور تلك المعجزات في زمن الإسلام ، و بدأ عصر الإعجاز العلمي )) (2) .
و يُضيف قائلاً : (( من المعروف أن محمداً - صلى الله عليه وسلم - لم يستعن بالمعجزات أبداً في دعوته ، و ما جاء من روايات تثبت بعض معجزاته مجرَّد حكايات لا أصل لها )) (3) .
و في مقام آخر يخاطب الشيخ حسين قراءه متهكّماً بمن يؤمن بكرامات الأولياء بقوله :
(( ألم يكن غزو المغول و وحشيَّتهم ، و الحروب الصليبيَّة ، و العدوان الإسرائيلي فرصةً مواتية لإظهار حقيقة الكشف و قيمة الكرامات !!
إنَّ ذلك لم يتم بل بقيت الخرافات و الحكايات المختلقة عن الكشف و الكرامات ، مجرَّد روايات لا تزال تروى إلى اليوم في المجتمعات المتخلِّفة )) (4) .
فهو إذن ينظر إلى الكرامات بعقله المجرّد ، فلا يرى لها أثراً ملموساً في حياة الناس ، و يرى هذا دليلاً كافياً على كونها ضرب من الخيال الذي يتردد في أذهان المتخلّفين .
__________
(1) …الفتاوى المعاصرة ، لحسين جوزو ، ص : 48 .
(2) …حسين جوزو : الإسلام و العصر ، ص : 160 .
(3) …المرجع السابق ، ص : 185 .
(4) …المرجع السابق : 153 .(60/46)
كما يلاحظ أنه يقرن بين الكشف و الكرامات و كأنهما مسميان لذات الشيء ، و في هذا مغالطة علميّة ، إذ إن الكشف عند من يعتقده نوع من الاطلاع على المغيبات ، و القول به مما ينافي عقيدة أهل السنة ، و لا صلة له بما يثبتونه من كرامات للأولياء ألبتة .
إنكار جملةٍ من علامات قيام الساعة الثابتة بصريح و صحيح السنة النبوية الشريفة ، كمسألة نزول عيسى عليه السلام ، و ظهور مهدي آخر الزمان .
يقول الأستاذ حسين جوزو :
(( هناك عدد كبير من الأحاديث التي تذكر نزول عيسى عليه السلام ثانية إلى الأرض ، و حكمه بالشريعة الإسلامية ، و عملاً بتلك النصوص أصبح الاعتقاد بنزول عيسى عليه السلام حقيقة ، و ورد ذكره في كافة كتب العقيدة )) (1) .
ثم يستدل على إنكار هذه العقيدة بكلام ينسبه للشيخ محمد الخانجي رحمه الله يذكر فيه ما ذكره أهل العلم من علامات قيام الساعة كنزول عيسى عليه السلام ، و قتله الدجال ، و ظهور المهدي الذي يملأ الأرض عدلاً بعد ما ملئت ظلماً و جوراً .
و يستغرب الشيخ الخانجي - فيما ينسبه إليه حسين جوزو - اعتقاد المسلمين بنزول المسيح و ظهور المهدي رغم أن ما ورد في نزول عيسى عليه السلام ـ بما في ذلك حديث رواه البخاري في صحيحه ـ أخبار آحاد ، و ليست من قبيل التواتر ، فلا تصلح لإثبات العقائد (2) .
__________
(1) …انظر : الفتاوى المعاصرة لحسين جوزو ، ص : 48 .
(2) …أحاديث نزول المسيح عليه السلام في آخر الزمان كثيرة و صحيحة ، منها ما هو في الصحيحين أو أحدهما ، و قد عدَّها بعض العلماء من قبيل المتواتر كما فعل الشيخ محمد أنور شاه الكشميري ، الذي جمعها في جزءٍ ، عنوانه ( التصريح بما تواتر في نزول المسيح ) .(60/47)
أما ظهور المهدي فالأدلة عليه أضعف مما ورد في إثبات نزول المسيح عليه السلام ، و ما قصة ظهور المهدي إلا ضلالة من الضلالات و خرافة من الخرافات يجب تحرير العقيدة الإسلامية منها و من آثارها السلبية في حياة المسلمين بحسب رأي الأستاذ حسين جوزو ، الذي لا يخفى تأثره بدعاة المدرسة العقلية الحديثة في مصر فيما ذهب إليه ، حيث ينسب إلى الشيخ محمود شتلوت (1) و محمد عبده ، و الشيخ المراغي (2) ، و رشيد رضا القول بأن عيسى عليه السلام قد توفي وفاة طبيعية و عليه فلا معنى لاعتقاد نزوله في آخر الزمان .
أما عن المهدي فيرى ـ تبعاً لأحمد أمين ـ أن الإيمان بظهوره آخر الزمان عقيدة شيعية انتقلت إلى أهل السنة ، و عليه فمن الواجب إخراجها من عقائد المسلمين (3) .
__________
(1) … محمود شلتوت : تخرَّج في الأزهر ، و درَّس في القسم العالي بالقاهرة ، ثمَّ عين وكيلاً لكلِّية الشريعة . له عضويَّة في هيئة كبار العلماء بمصر ، و مجمع اللغة العربيَّة بالقاهرة ، تولى مشيخة الأزهر حتى وفاته سنة 1383هـ/ 1963 م . من آثاره : الإسلام عقيدة و شريعة ، و الفتاوى ، و توجيهات الإسلام .
…انظر ترجمته في: المستدرك على معجم المؤلفين ، لكحالة : ص 774 ، الأعلام للزركلي 7 / 173 .
(2) …الشيخ المراغي ، هو : محمد بن مصطفى بن عبد المنعم المراغي ، مفسرٌ و فقيه ، حنفي المذهب ، يأخذ من المذاهب الأخرى ما يناسب العصر و المصلحة ، و لد بالمراغة من صعيد مصر ، و نشأ بها ، ثمَّ انتقل إلى القاهرة و تتلمذ فيها على الشيخ محمد عبده ، اشتغل بالقضاء ، و تولى مشيخة الأزهر حتى و فاته سنة 1364هـ / 1945 م . من آثاره : بحوثٌ في التشريع الإسلامي ، و تفسير سورة الحجرات .
انظر ترجمته في: الأعلام للزركلي 7 / 324 ، معجم المؤلفين ، لكحالة : 12 / 34 .
(3) …انظر : الفتاوى المعاصرة ، لحسين جوزو ، ص : 48-52 .(60/48)
و يوافق الأستاذ حسين جوزو في نفي ظهور مهديِّ آخر الزمان غير واحدٍ من العلماء و الكتَّاب البوسنويين ، و من أبرزهم الرئيس علي عزَّت القائل : (( و نحن على ثقة بأنه لا يوجد هناك شيء اسمه ( أرض الميعاد ) أو ( زمن المعجزات ) و لا يوجد المهدي الذي ننتظر و عده )) (1).
غير أن ثمة فارق بين دوافع الإنكار لدى كلٍ من الأستاذ حسين جوزو و الرئيس علي عزت ، إذ ينطلق الأول من منطلق علمي بدافع ما يعتبره تنقية الإسلام ممَّا علق به و لا أصل له فيه ، أمَّا الثاني فباعثه على ما قال هو الاصلاح الذي يدعوا إليه ، و يرى أن من واجبه في ذلك تخليص الأمة من المثبطات التي جعلتها تركن إلى الواقع ، و تتعلق بالأوهام ، رافضةً بذل أي جهد – و إن كان بوسعها – بانتظار غائبٍ مرتقب .
__________
(1) …انظر : النص العربي للبيان الإسلامي ، تعريب : جميل روفائيل ( جريدة الحياة ، لندن ، عدد 10812 الأربعاء : 19/3/1412هـ/16/9/1992م ) .(60/49)
و ممن تأثر بهذا الاتجاه العقلي ، فوقع في نفي بعض الأحاديث الدكتور عمر ناكيجفيتش (1) ، عميد كلية الدراسات الإسلامية في يومنا هذا ، حيث أنكر على الشيخ حسن كافي الآقحصاري رحمه الله ذكره بعض ما يكون بين يدي الساعة مما دلَّت عليه السنة الصحيحة ، فقال : ( نجد أن صاحبنا حسن كافي ذكر … بعض علامات يوم القيامة التي تخالف العقل ، و حتى النقل إذا فهمناها بمعنى ظاهري ، و لكن إذا نظرنا إلى معناها المجازي فيمكن فهمها ، غير أن صاحبنا لا يميل المعنى
المجازي … و قد ذكر من بين تلك العلامات خروج يأجوج و مأجوج … و خروج الدجال … و وصف دابة الأرض بأوصاف غريبة ) (2) .
و زاد الدكتور عمر - غفر الله له - في الإنكار على الشيخ حسن كافي ، و صرَّح بأنه يأخذ عليه ( ذكره بعض الأشياء التي ليست بعيدة عن القصص و الخرافات مثل توالد الشياطين ، و وصف الدجال ) (3)
تقديم العقل على النقل عند دعاة المدرسة العقلية الحديثة في البوسنة :
__________
(1) …الشيخ عمر ناكيجفيتش : شيخ جليل ، و مربٍ فاضل ، و قد شرُفتُ بالتدريس في كلية الدراسات الإسلامية بسراييفو بعد أن أجازني لذلك ، و هو ممَّن أوذي في الله فاعتقل و عُذب فصبر سنين عددا ، غير أن إقراري بفضله و جلالة قدره ، لا يبرر التغاضي عمَّا أراه من زلله و هفواته ، التي أسأله تعالى أن يغفرها له ، و أن يعذره باجتهاده فيها ، لأننا نحب الرجال ، و لكنا نحب الحق أكثر من الرجال . ( الباحث ) .
(2) …انظر : الدكتور عمر ناكيجيفيتش : الشيخ حسن كافي الآقحصاري ، ص : 181 .
(3) …انظر : المرجع السابق ، ص : 184 .(60/50)
عرف عن دعاة المدرسة العقدية الحديثة ، ما عرف عن أسلافهم الأقدمين من تحريف الأدلة من نصوص السنة النبوية عن مواضعها ، كالتحريف في (( وجه دلالة النص و معناه ، بإخراجها عن حقائقها مع الافتراء ، بمعنى صرف الأدلة عن وجوه الاستدلال بها ... و منه في المدرسة العصرانية ضغط النص للواقع )) (1) .
و من أنواع تعدي العقلانيين على السنة ، تحريفها بالطعن فيها (2) و إبطال ثبوتها ، و منه الطعن بحديث الآحاد في أبواب الاعتقاد (3) .
يقول الأستاذ حسين جوزو : (( إن مما يدل على أهمية العقل و العلم في الإسلام أنه إذا تعارضت نصوص القرآن الكريم مع العقل ، أو مع نظرية علمية ،
وجب تقديم العقل ، و تأويل النص )) (4) .
و من الأمثلة على موقفهم هذا ما يلي :
أولاً : قول الأستاذ حسين جوزو : (( الحياة في تطور مستمر ، و متطلباته متطورة أيضاً فإذا كان إخراج ربع العشر كافياً لسد احتياجات مجتمع بدوي متخلف قبل ألف و أربعمائة سنة ، فإن ذلك لا يكفي اليوم ، و عليه فلا أظنني مخطئاً حينما أعيد النظر في نسبه زكاة المال ، و نصاب صدقة الفطر )) (5) .
الخلط في فهم نصوص السنة النبوية عند العقلانيين في البوسنة :
يضطرب دعاة المدرسة العقلية عموماًعندما يواجهون بما يرد عليهم ، أو يفند آراءهم الشاذة ، و أمام عجزهم عن القول برد السنة النبوية بالكامل ، نجدهم يسلمون بصحة ما ووجهوا به ، و يأولونه بأهوائهم تهرباً من القول بمقتضاه و يظهر ذلك جلياً في :
أولاً : رفض فهم السلف الصالح لكثير من الأحاديث النبوية :
__________
(1) 3 …الدكتور بكر بن عبد الله أبو زيد : الردود ، ص: 157، 158 .
(2) 4 …انظر : الصواعق المرسلة ، لابن القيم : 1/ 217 .
(3) 5 …انظر : الدكتور بكر أبو زيد : الردود ، ص : 159 .
(4) …الإسلام و العصر ، ص : 161 .
(5) …المرجع السابق ، ص : 513 .(60/51)
يقول حسين جوزو بعد الإشارة إلى فهم الصحابة الكرام رضوان الله عليهم لبعض نصوص الشريعة و تطبيقهم لها : (( إن أفعال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - و صحابته كان ينظر إليها على أنها ملزمة للأجيال اللاحقة ، و لكن هل يمكن أن يظل الأمر كذلك إلى الأبد ؟ ألم يكن من بينها ما هو خاص بعصرهم ، و مناسب لظروفهم
فقط ؟ )) (1).
…و يقول في موضعٍ آخر : (( كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يطبق قواعد الإسلام و أحكامه في بيئة معيَّنة ، و فترة زمنيَّة محددة ، و لا شك في أنَّ ذلك التطبيق كان ملائماً لتلك البيئة و مستواها الحضاري … و يجب علينا الإقرار بأنَّ تنزيل أحكام الإسلام على الواقع أمرٌ اجتهادي … و كيفيَّة تطبيقها تتغيَّر بحسب ظروف العصر ، و تطور المجتمع )) (2) .
…و انطلاقاً من هذا الفهم لا يستطيع الأستاذ حسين جوزو أن ينظر إلى السنة إلا بعتبارها نموذجاً لتطبيق الإسلام ، لا يلزم الأجيال اللاحقة التقيُّد به ، و أنَّ ما كان عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - و صحابته الكرام رضوان الله عليهم من بعده ليس حلاً نهائياً لا يمكن تغييره أو تطويره ، و لكنَّه مجرَّد رأيٍ يمكننا أن نرى غيره مما يتناسب مع العصر الذي نعيشه ، و الحضارة التي نتعامل معها ، و ننتسب إليها (3) .
…و المثال الذي غالباً ما يضربه دعاة التجديد لتغير الأحكام بتغيُّر الظروف و الأزمان هو قضيَّة تعدُّد الزوجات ، الأمر الذي يسعون جاهدين لتحريمه ، و القضاء عليه ، بدعوى عدم صلاحيَّته لهذا الزمان ، و في هذا يقول الشيخ محمد عبده :
__________
(1) …المرجع السابق ، ص : 14 .
(2) …المرجع السابق : 29 .
(3) …انظر : المرجع السابق : 49 و ما بعدها .(60/52)
(( لا سبيل إلى تربية الأمة مع فشو تعدد الزوجات فيها ، حتى يعيد العلماء النظر في هذه المسألة ، خصوصاً الحنفية منهم الذين بيدهم الأمر ، و على رأيهم الحكم ، فهم لا ينكرون أن الدين أنزل المصلحة الناس و خيرهم و أن من أصوله رفع الضرر و الضرار ، فإذا ترتبت على شيء مفسدة في زمن لم تكن تلحقه فيما قبله ، فلا شك في وجوب تغيير الحكم ، و تطبيقه على الحال الحاضرة )) (1) .
…و مقتضى كلامه هو أنَّ مسألةً – كمسألة تعدد الزوجات – لا يمكن تطبيقها في زمانٍ كزماننا ، و لا تناسب ظروفنا و مستوى ثقافتنا ، و إن كانت صالحة للتطبيق في العصور الغابرة ، و مقبولةً بحسب فهم الأجيال السابقة .
…و ما هذه النظرة المتنكرة لفهم السلف لنصوص الشرع ، و تطبيقهم لها ، بل و لعمل النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - نفسه ، إلاَّ نتيجة لرأي العقلانيين القائل : إنَّ الالتزام بالسنة و العمل بالحديث على منهج السابقين يعني أننا (( حفرنا للحديث قبره ، و وأدناه فيه )) (2) .
…و ينتهي الأستاذ حسين جوزو إلى أنَّ على المسلمين في مرحلة التجديد و النهضة الإسلاميَّة على طريق العودة إلى الإسلام أن لا نقف عند أفعال النبي - صلى الله عليه وسلم - كأفعالٍ ، بل أن ننظر إلى كيفية فعله لها ، و كيفيَّة تطبيقه للقرآن الكريم ، و تعامله مع القضايا الواقعة و الأمور المستجدَّة في عصره ، علماً بأننا لن نجد في شيءٍ من ذلك حلولاً لكثيرٍ من قضايانا المعاصرة ، لأنه كان يحلُّ قضايا عصره و بيئته ، و علينا نحن أن نجد الحلول المناسبة لقضايا عصرنا و مجتمعاتنا (3) .
ثانياً : عدم الدقة في رواية الحديث و فهم معناه الموجب للتسليم و العمل بمقتضاه :
__________
(1) …تفسير المنار : 4 / 349 – 350 .
(2) …حسين جوزو : الإسلام و العصر : 31 .
(3) …المرجع السابق ، ص : 50 و ما بعدها .(60/53)
و من ذلك إشارة الشيخ حسين جوزو إلى حديث (( إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مئة سنة من يجدد لها دينها )) (1) بقوله : (( لقد أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه سيأتي كل مائة عام من يجدد هذا الدين بفهم جديد ، و تطبيق جديد و مناسب )) (2).
…و فضلاً عن عدم ضبط الأستاذ حسين جوزو لمتن الحديث ، يبالغ في الانتصار لمذهبه ، بإدراج ما يخدم توجهه فيه ، بزيادة (( بفهمٍ جديد ، و تطبيق جديد
مناسب )) ، و هو بذلك ينفرد بفهم جديد لمعنى التجديد الوارد في الحديث ، و الذي فسَّره به الشرَّاح السابقون بإحياء ما اندرس من العمل بالكتاب و السنَّة و الأمر بمقتضاهما ، فالمجدد هو الذي يبين السنة من البدعة ، و في عصر التجديد يكثر العلم و يقوى أهله ، و تقمع البدع و يكسر أهلها (3) .
…و استدلاله على أنَّ الإسلام قد ساوى بين الرجل و المرأة ، و أنَّ المساواة بينهما لا تكون إلا بتأهيل المرأة و تسليحها بالعلم ، بقول النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - : (( طلب العلم فريضة على كلِّ مسلم و مسلمة )) ، و معلوم أنَّ لفظ ( و مسلمة ) مدرجٌ في الحديث ، و ليس منه (4)
__________
(1) …صحيح : تقدم تخريجه .
(2) …الإسلام و العصر ، ص : 14 .
(3) …انظر : عون المعبود : 11/ 386 .
(4) …انظر : حسين جوزو : الإسلام و العصر ، ص : 476 .
قال السخاوي في " المقاصد الحسنة " ص 277 : ( قد ألحق بعض المصنفين بآخر هذا الحديث " و مسلمة " وليس لها ذكر في شيء من طرقه ، و إن كان معناها صحيحا ) .
قلت : و الحديث بدون هذه الزيادة روي عن عدد من الصحابة ، من طرق كثيرة لا يخلو إسناد منها من ضعف ، فقد نقل المناوي في " فيض القدير " 4 / 267 عن السيوطي قوله : ( جمعت له خمسين طريقا ) .
قلت : و بانضمام هذه الطرق بعضها إلى بعض يرتقي الحديث إلى درجة الحسن إن شاء الله تعالى ، و قد حسنه بعض الأئمة ، و صححه غيرهم ، أذكر عنهم طرفا من ذلك :
قال الذهبي في " تلخيص العلل المتناهية " ( 26 ) : ( روي عن علي و ابن مسعود و ابن عمر و ابن عباس و جابر و أنس و أبي سعيد - - رضي الله عنهم - ، و بعض طرقه أولى من بعض ، و بعضها صالح ، و الله أعلم ) .
و قال المزي فيما نقله عنه الزركشي و وافقه في " اللآلئ المنثورة " ص 43 : ( روي من طرق تبلغ رتبة الحسن ) .
و قال العراقي فيما نقله السخاوي في " المقاصد " ص 276 : ( قد صحح بعض الأئمة بعض طرقه ، كما بينته في تخريج الإحياء ) .
و حسنه السيوطي في " الدرر المنتثرة " ص 130 . بل نقل عنه المناوي في " الفيض " 4 / 267 قوله : ( و حكمت بصحته لغيره ، و لم أصحح حديثا لم أسبق إلى تصحيحه سواه ) .
قلت : و في ذلك نظر ، لما نقلناه عن العراقي قبل .
و نقل ابن عراق في " تنزيه الشريعة " 1/258 عن الحافظ العراقي الشافعي قوله :(حديث حسن غريب). =
=…و قال الزرقاني في " مختصر المقاصد " ( 614 ) : ( حسن ، و قيل : صحيح ) .(60/54)
، و لو اقتصر من يروون الحديث بهذه الزيادة على ما روي مسنداً حسنا ، لكانوا أبعد عن الشبهة ، و أبلغ في التعبير عن المراد ، حيث قرر أهل العلم أنَّ الخطاب عامٌ يشمل الرجال و النساء ، و إنمَّا يرد بصيغة التذكير للتغليب لا للتخصيص .
ثالثاً : التقليل من شأن السنة النبوية :
…و ذلك باعتبار أنَّ الحديث النبوي عبارةٌ عن اجتهاداتٍ بشرية من قبل النبي - صلى الله عليه وسلم - ، و ليس وحياً غير متلوٍ كما يقول كثيرٌ من العلماء .
فهاهو الأستاذ حسين جوزو يتساءل : هل كانت سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - من اجتهاده البشري ؟ أم أنَّها وحيٌ ربَّاني ؟
ثم يجيب على تساؤله هذا بالقول : (( إنَّ إدعاء أن السنَّة نوعٌ من الوحي زعمٌ لا دليل عليه ، حتى في قوله تعالى : { و ما ينطق عن الهوى - إن هو إلاَّ وحيٌ يوحى } [ النجم : 2 ، 4 ] ، فالذي ينطق به النبي - صلى الله عليه وسلم - هو القرآن الكريم الموحى إليه و لا ريب أن المقصود في الآية هو القرآن الذي كان يتلوه النبي - صلى الله عليه وسلم - ، و بيِّنه للناس الذين اتبعوه بافترائه من عند نفسه … و الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يرفع الحديث إلى منزلة الوحي ، بل كان يرى أنَّ القرآن من الله ، و أنَّ الحديث من البشر ، و لو لم يكن الأمر كذلك لأمر بتدوين السنَّة كما أمر بكتابة القرآن الكريم )) (1) .
موقف دعاة السنة في البوسنة من المدرسة العقلية الحديثة :
لقد أخرج الله تعالى من أبناء البوسنة أنفسهم من ينقض دعاوى الشيخ حسين جوزو و أترابه ، و يبين فسادها في ضوء القرآن الكريم الذي يزعم العقلانيُّون أن لا وحي غيره .
__________
(1) …حسين جوزو : الإسلام و العصر : 266 و ما بعدها .(60/55)
و من هؤلاء الأفاضل الأستاذ مصطفى كاراليتش الذي تولى إحقاق الحق في هذه المسألة في بحث نُشر في العدد الثاني و الأربعين من مجلَّة ( الفكر الإسلامي ) ، الصادر في شهر ( 6 ) سنة 1982م ، و ضمَّنه مسألتين هامتين على صلة بمسألة حجية السنة التي تناولها المؤلف في الجزء السابق و هما :
مسألة كون السنة وحياً غير متلو ، و ذكر الخلاف في ذلك مرجحاً كونها وحياً من عند الله تعالى القائل : { و ما ينطق عن الهوى - إن هو إلا وحيٌ
يوحى } [ النجم : 2 ، 4 ] و راداً على من زعم أنَّها مجرَّد اجتهادات بشرية لا يؤخذ بها في الأحكام الشرعيَّة .
أما المسألة الثانية ففيها زيادة تفصيل و بيانٍ لسابقتها ، حيث سار المؤلف على منهج الإمام ابن قتيبة في كتاب ( تأويل مختلف الحديث ) فقسَّم السنة إلى ثلاثة
أقسام (1) .
و لا أعرف أحداً من البوسنويين كتب في مثل هذه المسائل ، راداً أقوال العقلانيين و مثبتاً أقوال العلماء الراسخين ، رغم خطورة ذلك تحت الحكم الشيوعي سوى الأستاذ مصطفى كاراليتش جزاه الله خيراً .
__________
(1) 1 …قال ابن قتيبة في " تأويل مختلف الحديث " ص 132 – 134 : ( السنن عندنا ثلاث : سنة أتاه بها جبريل عليه السلام عن الله تعالى ، كقوله : لا تنكح المرأة على عمتها ... و السنة الثانية : سنة أباح الله له أن يسنها و أمره باستعمال رأيه فيها ، فله أن يترخص فيها لمن شاء على حسب العلة و العذر ، كتحريمه الحرير على الرجال ، و إذنه لعبد الرحمن بن عوف فيه لعلة كانت به ... و السنة الثالثة : ما سنه لنا تأديباً ، فإن نحن فعلناه كانت الفضيلة في ذلك ، و إن نحن تركناه فلا جناح علينا إن شاء الله ، كأمره في العمة بالتحلي ، و كنهيه عن لحوم الجلالة ، و كسب الحجام ) .(60/56)
أما بعد انقضاء الحرب الأخيرة ، فقد كثر الدعاة إلى الكتاب و السنة ، و أجرى الله على أيديهم الخير الكثير ، فكانوا شوكة في حلوق العقلانيين ، يغصون بها كلما ارتفعت عقيرتهم بدعوى فاسدة ، أو رأي غير سديد .(60/57)
الطرق الصوفية وانتشار البدع
تأليف الدكتور: أحمد عبد الكريم نجيب
أستاذ الحديث النبوي وعلومه في كلّية الدراسات الإسلاميّة بسراييفو، والأكاديميّة الإسلاميّة بزينتسا
و مدرّس العلوم الشرعيّة في معهد قطر الديني سابقاً
انتشار الطرق الصوفية في البوسنة
عرف عن الحكومة العثمانية تشجيع الطرق الصوفية، التي وجدت تعاليمها أرضاً خصبةً بين بعض فئات الجيش العثماني كالإنكشارية، والجيش الآقنجي(1)، كما انتشرت بين العامة في أنحاء السلطنة العثمانية، وكثر الاعتماد على رجالها في الفتوح الإسلامية، حيث كانوا ينشطون في الدعوة إلى دين الله، ويتألفون قلوب الشعوب على الإسلام، وهو ما جعلهم يقبلون عليه زرافات ووحداناً، مما أدى إلى تحول شعوب بكاملها إلى الإسلام وبسرعة أذهلت المؤرخين(2).
و قد ساعد على شيوع الطرق الصوفية (المعروفة باسم طرق الدراويش في البوسنة) وانتشار مفاهيمها في أوساط مسلمي البوشناق تفشي الجهل، وقلة العلم وعدم وجود علماء أكفاء ينشرون الفهم الصحيح والعقيدة السليمة، من مصدريها (الكتاب والسنة).
و قد صور الكاتب المصري المعروف فهمي هويدي هذا الواقع فقال:
((إن الطرق الصوفية قد استفحلت في بعض مناطق يوغسلافيا، وشوَّهت تعاليم الإسلام. وليس أمام المسلمين هناك قنوات شرعية لتوصيل الدين الصحيح إليهم، فتصوَّر عامة المسلمين أن الدين هو هذه الطريقة أو تلك، أما أئمة المساجد فدورهم محدود، حيث إن الإمام يقول كلمته مرة كل أسبوع، والناس يعيشون في عالم آخر يرفض الدين، ويجرح تعاليمه الأساسية بقية الأسبوع))(3)
__________
(1) انظر: نياز شكريتش: انتشار الإسلام في البوسنة والهرسك: 181.
(2) المرجع السابق ص: 158، 159.
و: الدكتور محمد الأرناؤوط: الإسلام في يوغسلافيا من بلغراد إلى سراييفو، ص: 165.
(3) و: نويل مالكوم: البوسنة، ص: 143.
( ) مسلمو كوسوفو ألبانيون قلباً، يوغسلافيون قالباً: زيارة ميدانية (دراسة منشورة في مجلة العربي الكويتية، العدد 277، ديسمبر 1981م)، ص: 82.(61/1)
.
و على قنطرة الجهل بالدين وصلت إلى البوسنة أشهر الطرق الصوفية المعروفة كما نشأت في البوسنة ذاتها فرق ضالة أسسها زنادقة باسم الدين.
فقد ذكر المؤرخ التركي أوليا شلبي أن في سراييفو سبعاً وأربعين تكيَّة، لخمس طرق صوفية(1).
و هذه الطرق الصوفية الخمس هي(2).
الطريقة القادرية:
المنسوبة إلى الشيخ عبد القادر الجيلاني (ت561هـ/1166م)، وكان لها نفوذ وأتباع بين أهل الحرف والمهن خاصة.
الطريقة المولوية:
المنسوبة إلى جلال الدين الرومي(3) (ت672هـ/1273م في قونية)، وقد جاءت دعوتها إلى البوسنة في صورة متطورة لها طقوس تستعمل خلالها المعازف الموسيقية، وذكر أنه كان لها دور في استقرار الحكم في البلاد، وقد نشأ في صفوفهم عدد من شعراء وأدباء البوسنة.
الطريقة الرفاعية:
المنسوبة للشيخ أحمد الرفاعي(4)
__________
(1) انظر: الدكتور محمد الأرناؤوط: الإسلام في يوغسلافيا، ص: 175 نقلاً عن أوليا شلبي.
(2) انظر: نياز شكريتش: انتشار الإسلام في البوسنة والهرسك: 160.
(3) 3جلال الدين الرومي: هو محمد بن محمد بن محمد بن حسين بن أحمد الهاشمي المولوي، كان عالما عارفا بالفقه على مذهب أبي حنيفة، وعالما بالخلاف، ثم تجرد، وهام وترك الدنيا والتصنيف والاشتغال بالعلم.
انظر ترجمته في: الجواهر المضية في طبقات الحنفية 1/123 – 125.
(4) 1الشيخ أحمد الرفاعي، هو: أحمد بن أبي الحسن علي بن أحمد أبو العباس , المغربي البطائحي , العابد الزاهد , شيخ العارفين , قدم أبوه من المغرب , وسكن البطائح , بقرية أم عبيدة , وقد مدحه الإمام الذهبي، ثم قال: (و لكن أصحابه فيهم الجيد والرديء , وقد كثر الزغل فيهم , وتجددت لهم أحوال شيطانية , منذ أخذت التتار العراق من دخول النيران , وركوب السباع , واللعب بالحيات , وهذا لا عرفه الشيخ , ولا صلحاء أصحابه , فنعوذ بالله من الشيطان). توفي سنة 578هـ/1182 م.
انظر ترجمته في: الكامل لابن الأثير 11/200 , وفيات الأعيان 1/171 , العبر 4/233 , سير أعلام النبلاء 21/77.(61/2)
(570هـ/ 1173م)، وهي التي جمعت حولها المريدين من فقراء أهل المدن، ونشرت تعاليمها بينهم.
الطريقة الخلوتية:
المنسوبة إلى يوسف الخلوتي، وقد كانت ذائعة الانتشار في ولايات الدول العثمانية، وتوطدت في سراييفو حيث أسس فيها زاوية وخانقاه، سنة 938هـ/1531م، وعين فيها شيخاً خلوتياً.
الطريقة النقشبندية:
المنسوبة إلى الشيخ محمد بهاء الدين النقشبندي(1) (ت:791هـ/
1389م)، وقد كان لها وجود محدود في البوسنة مقارنة بسابقاتها.
ومعلوم أن لهذه الطرق الخمس انتشار واسع في أنحاء العالم الإسلامي، والأقطار العربية باستثناء مناطق الجزيرة العربية، التي كان وجود الطرق الصوفية فيها محدوداً وخاصة بعد ظهور الدعوة السلفية في نجد وما حولها.
و إلى جانب الطرق الخمس السالفة الذكر عرف أهل البوسنة ثلاث طرق أخرى ذاع صيتها في البلقان خاصة، وعرفت بانحرافها الشديد عن جادة الصواب وبعدها عن أصول الدين، وهذه الطرق هي:
الطريقة البكتاشية:
و تنسب إلى الحاج ولي بكتاش(2)
__________
(1) 2الشيخ محمد بهاء الدين النبقشندي، هو: محمد بن محمد بن محمد، خواجه، قال صاحب " الشقائق النعمانية " 1/154 – 155: (كان نسبته في الطريق إلى السيد أمير كلال، وتلقن منه الذكر !، وتربى أيضا من روحانية الشيخ عبد الخالق الفجدواني، سئل النبقشندي عن طريقته: مكتسبة أو موروثة ؟ فقال: (شرفت بمضمون جذبة من جذبات الحق توازي عمل الثقلين) !!. وانظر: كشف الظنون 1/488.
(2) 1الحاج ولي بكتاش: قال عنه صاحب " الشقائق النعمانية " 1/16: (كان من جملة أصحاب الكرامات، وأرباب الولايات، وقبره ببلاد تركمان، وعلى قبره قبة (!!) وعنده زاوية، يزار ويتبرك به (!!) وتستجاب عنده الدعوات، وقد انتسب إليه بعض من الملاحدة نسبة كاذبة، وهو بريء منهم بلا شك) اهـ.
و ذكر بعض الباحثين، وهو الشيخ عبد الرحمن عبد الخالق في كتابه " الفكر الصوفي في ضوء الكتاب والسنة " ص 409: أن هذه الطريقة تنسب إلى خنكار الحاج محمد بكتاش الخرساني النيسابوري المولود، سنة 646هـ/1248 م، ثم ذكر سفره لنشر طريقته، حيث سافر إلى النجف بالعراق، ثم حج البيت وزار، وسافر بعد ذلك إلى تركيا، وهناك نشر طريقته.(61/3)
(ت 738هـ/1377م)، أحد تلاميذ إسحاق باشا الشهير.
و تجمع هذه الطريقة معتقدات وثنية، وأخرى نصرانية، إلى جانب بعض آراء الفرق الصوفية، كالتعلق بالأضرحة والقبور(1).
و قد كان انتشارها في البوسنة محدوداً(2) مقارنة بما كان عليه في ألبانيا وكوسوفو مقدونيا، حيث انتسبت إليها الأغلبية الألبانية من السكان.
و قد تلاشت أفكار هذه الطريقة، وانتهت من الوجود في البوسنة اليوم، ولكنها لا تزال موجودة في بعض أنحاء ألبانيا ولها أتباع ومريدون.(3).
و نظراً لما عرف عن أتباع هذه الطريقة من بعد عن الصراط المستقيم، واعتقادهم كثيراً من الأمور المخالفة للعقيدة الإسلامية الصحيحة، وتشبعها بأفكار وثنية وأخرى نصرانية، فإنها تعتبر إحدى طرق الزنادقة الخارجين من الملة.
الطريقة القاضيزاديَّة:
و هي طريقة مارقة ظهرت بادئ الأمر في إسطنبول، ثم انتشرت في أطراف الدولة العثمانية، وكانت كسابقتها تجمع بين بعض العقائد الإسلامية وبعض عقائد الأديان الأخرى كالنصرانية، ولذلك كان أتباعها في الغالب من النصارى الذين دخلوا الإسلام حديثاً، وظلوا متمسكين ببعض عقائدهم السابقة، وعباداتهم الشركية، كالتعلق بالمسيح عليه السلام وأمه، وتعليق الصلبان، وتقديس نصب الرهبان ونحو ذلك.
__________
(1) انظر: نياز شكريتش: انتشار الإسلام في البوسنة والهرسك، ص: 167.
(2) ذكر أوليا شلبي في رحلته السياحية المسماة (سياحت نامة)، ص: 397: أن في البوسنة زاوية واحدة لأتباع الطريقة البكتاشية في مدينة تشايينتش، وهو ما يدل على أن انتشار الطريقة كان محدوداً في البوسنة والهرسك , وانظر: نياز شكريتش: انتشار الإسلام في البوسنة والهرسك ص: 217 وزيادة 341.
(3) انظر: الطرق الصوفية في يوغسلافيا، ص: 157 وما بعدها.(61/4)
و قد وصف أحد الكتاب الغربيين أتباع هذه الفرقة فقال: ((إن أفراد تلك الطائفة الذين يخلطون خلطاً عجيباً بين النصرانية والإسلام، كانوا من الجنود الذين يعيشون على الأطراف القصية للمجر والبوسنة، وهم يقرأون الكتاب المقدس باللسان السلافي … وتراهم يجنحون إلى تعلم القرآن واللسان العربي … ويشربون النبيذ في شهر الصيام..))(1).
و لا شك أن هذه الفرقة خارجة عن الإسلام، ولذلك اعتبرها بعض المؤرخين من (البوتور) الذين سبقت الإشارة إليهم عند ذكر ظاهرة (الدين المختلط) عند البوسنويين في الباب الأول من هذا البحث.
الطريقة الحمزوية:
و هي طريقة بوسنوية، لأن مؤسسها الشيخ حمزة، بوسنوي الأصل من مدينة زفورنيك البوسنوية، ويرجح بعض الباحثين أنه من أحفاد الشيخ حمزة أورلوفيتش بالي البوسنوي (ت 980هـ/1573م)(2)و أنها لم تنتشر في بلد انتشارها في البوسنة، رغم أن الشيخ حمزة كان قد بدأ دعوته إليها في مدينة بودابست بالمجر، ثم انتشرت أفكاره وتعاليمه في البلقان والأناضول، ووصلت إلى مصر، حيث استمرت نحو قرنين من الزمن.(3)
__________
(1) نويل مالكوم: البوسنة، ص: 98.
(2) كان حمزة منسباً إلى الطريقة البيرامية، قبل تأسيس فرقته، وكان خليفة الشيخ حسام الدين الأنقوري خمسة أعوام، وقد قتل شيخه تحت القلعة بإسطنبول سنة 964هـ/1557 م، بعد أن ظهرت منه أمور غير ملائمة للشرع الشريف، كما قضى بذلك صاري خواجة محمد أفندي، قاضي أدرنة.
انظر: ترجمته في: الجوهر الأسنى، للشيخ الخانجي،، ص: 85 برقم (71).
و: الدكتور عمر ناكيجيفيتش: حسن كافي الآقحصاري رائد العلوم الإسلامية والعربية في البوسنة والهرسك، ص: 85.
(3) انظر: الدكتور محمد الأرناؤوط: الإسلام في يوغسلافيا، ص: 165.(61/5)
و كالطريقتين السابقتين في الذكر، مثلت الطريقة الحمزوية نوعاً من (الدين المختلط) الذي جمع بين عقائد نصرانية (بوغوميلية)، وأخرى إسلامية، وكان كثير من أتباعها حديثي عهدٍ بالإسلام، مما سهل تقبلهم وتحمسهم لها وساعد على انتشارها بينهم، مع احتفاظهم ببعض معتقداتهم النصرانية(1).
و كان أول انتشار للحمزوية في البوسنة في منطقة بوسافينة (posavina) المحيطة بنهر السافانا شمال البوسنة، ومن هناك انطلقت إلى صربيا، ثم انتشرت في أنحاء منطقة البلقان كافة.(2)
و ينسب إلى الحمزوية إضافة إلى تأثرها بالنصرانية اعتقاد أتباعها بالمساواة بين الأنبياء، وعدم تفضيل محمد - صلى الله عليه وسلم - على سائرهم عملاً بقوله تعالى: { لا نفرق بين أحد من رسله } [ البقرة: 285 ]، ولعل هذا ما برر لهم اتباع نبيي الإسلام والنصرانية في آن واحد - بحسب زعمهم - وجمعهم بين عقائد متعارضة، كما ينسب إليهم الميل إلى عقيدة (وحدة الوجود) التي يقول بها غلاة المتصوفة.(3)
يضاف إلى ذلك غلوهم في الشيخ حمزة بالي باعتقادهم أنه القطب المغيث، ووارث النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي له الكشف والاطلاع على الغيب، والقادر على إسعاد الناس في الدنيا، وإيصالهم إلى الجنة في الآخرة، إلى غير ذلك من الاعتقادات المخرجة عن الملة(4).
__________
(1) انظر: نويل مالكوم: البوسنة، ص: 144.
(2) انظر: نياز شكريتش: انتشار الإسلام في البوسنة والهرسك ص: 143.
(3) انظر: الدكتور محمد الأرناؤوط: الإسلام في يوغسلافيا، ص: 165، و: الأدب البوسنوي باللغات الشرقية، ص: 202.
(4) انظر: الطرق الصوفية في يوغسلافيا، ص: 197.(61/6)
و بعد أن ذاع صيت هذه الطريقة تنبهت السلطات العثمانية إلى خطرها، فأصدر شيخ الإسلام في السلطنة العثمانية سنة 986هـ/1579 م أمراً لقاضي البوسنة الشيخ بالي أفندي بن يوسف البوسنوي (ت: 990هـ/1582 م)(1)، بمقاضاة الحمزويين ومحاكمة دعاتهم، بعد أن صاروا ينشرون مذهب شيخهم الفاسد ويدعون أنهم أهل الطريقة والحقيقة، مع ما ينطوي تحت ذلك من نبذ للشريعة، وطلب للإباحية الواسعة.
فكان ما أرادت السلطات حيث حوكم مشائخ الطريقة، وأصدر القاضي بالي أفندي بن يوسف حكماً شرعياً بردتهم عن الإسلام ووجوب محاربتهم وقتل من استتيب فلم يتب منهم.
و عملاً بهذه الفتوى خرج علماء البوسنة ورجالها يتقدمهم الشيخ العلاَّمة حسن كافي الآقحصاري والوزير الأعظم محمد باشاصوقولوفيتش - الذي قتله فيما بعد أحد أتباع الطريقة الحمزوية ثأراً لشيخه - يتقصون أثر الحمزوية الفارين إلى الجبال فيعملون فيهم القتل، حتى استأصلوا شأفتهم، وألجأووا من نجا منهم إلى التخفي وكتمان عقيدته، وسيق شيخهم حمزة بالي إلى إسطنبول حيث أعدم فيها مع أحد عشر من أتباعه سنة 980هـ/1573 م وبهذا قضي على أخطر طرق الزنادقة (المدعية للتصوف) في البوسنة والهرسك، ولم تقم لها قائمة بعد ذلك ولم يبق لهم أثر حتى يومنا هذا، ولولا التاريخ لما عرف ذكرهم، والحمد لله(2).
و لدينا اليوم شاهدان تاريخيان يدلان على اتساع قاعدة التصوف في البوسنة وتأثيره في الشعب البوسنوي بشكل ملحوظ.
أحدهما حضاري معماري، والآخر علمي معرفي.
__________
(1) بالي أفندي يوسف، قاضي البوسنة الشهير، ولد في سراييفو وأخذ العلم عن علمائها، ثم صار معلماً للأولاد، حتى أدخله الوزير الأعظم محمد باشا صوقولوفيتش في جملة المدرسين، وتقلب في عدة وظائف آخرها القضاء.
انظر ترجمته في: الجوهر الأسنى، للشيخ محمّد الخانجي، ص: برقم 39، ص: 50.
(2) انظر: الجوهر الأسنى، للشيخ محمّد الخانجي، ص: 51.(61/7)
أما الشاهد الحضاري فهو انتشار تكايا الصوفية وزواياهم في أنحاء البوسنة(1)، حيث زاد عددها في بعض المناطق على عدد المساجد.
و كانت أولى تكايا الصوفية في سراييفو تكية (إسحاق بيكوفيتش) لأتباع الطريقة المولوية، وهي مبنية قبل عام 867هـ/1463م.
ثم تلتها تكيَّة (إسكندر باشا) لأتباع الطريقة النقشبندية، وقد بنيت سنة 905هـ/1500 م، وفي القرن السابع عشر للميلاد أسست تكيتان كانتا الأشهر بين تكايا الصوفية في البوسنة، وهما: تكية سنان باشا، وتكية
البيستريغينا.(2)
و قد ذكر الرحالة التركي إيليا شلبي أنه كان في سراييفو وحدها سبع وأربعون تكية في منتصف القرن السابع عشر الميلادي(3)، وسبع عشرة تكية في
بلغراد.
أما الشاهد الثاني فهو: اهتمام أهل البوسنة بكتب الصوفية جمعاً ودراسةً وتصنيفاً، حتى صارت كتبهم هي الأكثر نسبة بين ما حوته المكتبات العامة والخاصة من مخطوطات.
و للتمثيل على ذلك نشير إلى أن التكايا الصوفية كانت تغص بالكتب والمخطوطات، ففي تكية سنان باشا بمفردها في سراييفو كان يوجد مئتان واثنتان و
عشرون مخطوطاً(4)، وليس غيرها من التكايا بأقل حظاً منها في جمع كتب الصوفية.
__________
(1) يقول الدكتور نياز شكريتش: كان الصوفية يقومون بأداء عباداتهم وأذكارهم في البداية في أحد أركان الجامع، ويطلقون على هذا المكان اسم الزاوية، ومع مرور الأيام انفصلت الزوايا عن المساجد تماماً، وبالصورة المنفصلة عرفت التكايا في البوسنة، وهي مبان خاصة تسمى الواحدة منها (تكية) أو (رباط). انظر: نياز شكريتش: انتشار الإسلام في البوسنة والهرسك: 181، 182.
(2) انظر: نويل مالكوم: البوسنة، ص: 143.
(3) انظر: سياحت نامة، لأويليا شلبي، ص: 110.
(4) انظر: نويل مالكوم: البوسنة، ص: 142.(61/8)