ابن ربيعة- عن السري بن يحيى عن رياح بن عبيدة قال رأيت رجلا يماشي عمر بن عبد العزيز معتمدا على يده فقلت في نفسي إن هذا الرجل جاف قال فلما صلى انصرف من الصلاة قلت يا أبا حفص من الرجل الذي كان معك معتمدا على يدك آنفا قال وقد رأيته يا رياح قلت نعم قال إني لأراك رجلا صالحا ذاك أخي الخضر بشرني أني سألي أمر هذه الأمة وأعدل فيها
ص:151
قلت هذا أصلح إسناد وقفت عليه في هذا الباب
139- وقد أخرجه أبو عروبة الحراني في تأريخه عن أيوب بن محمد الوزان عن ضمرة أيضا
140- وأخرجه أبو نعيم في الحلية عن أبي المقريء عن أبي عروبة في ترجمة عمر بن عبد العزيز
141- وروينا في الجزء الأول من فوائد الحافظ أبي عبد الله محمد بن مسلم بن
ص:152
وارة الرازي
ثنى الليث بن خالد أبو بكر وعمر - وكانا ثقة -قال ثنا المسيب أبو يحيى - وكان من أصحاب مقاتل بن حيان -قال وفدت على عمر بن عبد العزيز فإذا أنا برجل أو شيخ يحدثه أو قال يتكيء عليه قال ثم لم أره فقلت يا أمير المؤمنين رأيت رجلا يحدثك قال ورأيته قلت نعم قال ذاك أخي الخضر يأتيني فيوفقني ويسددني
142- وقال أبو عبد الرحمن السلمي في تصنيفه
ص:153
سمعت محمد بن عبد الله الرازي يقول سمعت بلال الخواص يقول كنت في تيه بني اسرائيل فإذا رجل يماشيني فتعجبت ثم ألهمت أنه الخضر فقلت بحق الحق من أنت قال أنا أخوك الخضر فقلت ما تقول في الشافعي قال من الأوتاد الأبدال قلت فأحمد بن حنبل قال صديق
قلت فبشر بن الحارث قال لم يخلف بعده مثله
قلت بأي وسيلة رأيتك
قال ببرك لأمك
143- وقال أبو نعيم في الحلية
ص:154
حدثنا ظفر بن أحمد حدثنا عبد الله بن إبراهيم الحريري قال قال أبو جعفر محمد بن صالح بن ذريح قال بلال الخواص رأيت الخضر في النوم فقلت له ما تقول في بشر قال لم يخلف بعده مثله قلت ما تقول في أحمد قال صديق قلت وما تقول في أبي ثور قال رجل طالب حق قلت أنا بأي وسيلة رأيتك قال ببرك بأمك(49/74)
144- وقال أبو الحسن بن جهضم حدثنا محمد بن داود قال حدثنا محمد بن الصلت عن بشر بن الحارث الحافي قال
ص:155
كانت لي حجرة وكنت أغلقها إذا خرجت معي المفتاح فجئت ذات يوم وفتحت الباب ودخلت فإذا شخص قائم يصلي فراعني فقال يا بشر لا ترع أنا أخوك أبو العباس الخضر
قال بشر فقلت له علمني شيئا فقال قل أستغفر الله من كل ذنب تبت منه ثم عدت إليه وأسأله التوبة وأستغفر الله من كل عقد عقدته على نفسي ففسخته ولم أف به
145- وذكر عبد المغيث من حديث ابن عمر - رضي الله عنهما- أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال ما يمنعكم أن تكفروا ذنوبكم بكلمات أخي الخضر فذكر نحو الكلمات المذكورة في حكاية بشر
146- روى أبو نعيم عن أبي الحسن بن مقسم عن أبي محمد الحريري سمعت أبا إسحاق المرستاني يقول رأيت الخضر فعلمني عشر كلمات وأحصاها بيده اللهم إني أسألك الإقبال عليك والإصغاء إليك والفهم عنك والبصيرة في أمرك والنفاذ في طاعتك والمواظبة على إرادتك والمبادرة إلى
ص:156
خدمتك وحسن الأدب في معاملتك والتسليم والتفويض إليك
147- قال أبو الحسن بن جهضم حدثنا الخلدي حدثنا ابن مسروق حدثنا أبو عمران الخياط قال قال لي الخضر ما كنت أظن أن لله وليا إلا وقد عرفته فكنت بصنعاء اليمن في المسجد والناس حول عبد الرزاق يسمعون منه الحديث وشاب جالس ناحية المسجد فقال لي ما شأن هؤلاء قلت يسمعون من عبد الرزاق قال عمن قلت عن فلان عن فلان عن النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال هلا سمعوا عن الله عز وجل قلت فأنت تسمع عن الله عز وجل قال نعم قلت من أنت قال الخضر قال فعلمت أن لله أولياء ما عرفتهم
وابن جهضم معروف بالكذب
148- وعن الحسن بن غالب قال حججت فسبقت الناس وانقطع بي فلقيت شابا فأخذ بيدي فألحقني بهم فلما قدمت قال لي أهلي إنا سمعنا أنك هلكت فرحنا إلى
ص:157(49/75)
أبي الحسن القزويني فذكرنا له ذلك وقلنا ادع الله له فقال ما هلك وقد رأى الخضر
قال فلما قدمت جئت إليه فقال لي ما فعل صاحبك قال الحسن بن غالب كنت في مسجدي فدخل علي رجل فقال غدا تأتيك هدية فلا تقبلها وبعدها بأيام تأتيك هدية فاقبلها فبلغني أن أبا الحسن القزويني قال عني قد رأى الخضر مرتين
قال ابن الجوزي الحسن بن غالب كذبوه
149- وأخرج ابن عساكر في ترجمة أبي زرعة الرازي بسند صحيح إلى أبي زرعة ط أنه لما كان شابا لقي رجلا مخضوبا بالحناء فقال له لا تغش أبواب الأمراء قال ثم لقيته بعد ما كبرت وهو على حالته- فقال لي ألم أنهك عن غشيان أبواب الأمراء قال ثم التفت فلم أره فكأن الأرض انشقت فدخل فيها فخيل لي أنه الخضر
فرجعت فلم أزر أميرا ولا غشيت بابه ولا سألته حاجة
150- ذكر ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل عبد الله بن عمر روى كلاما في الزهد عن رجل تراءى له ثم غاب عنه فلا يدري كيف ذهب
فكان يرى أنه الخضر
روى نعيم بن ميسرة عن رجل من يحصب عنه
151- وروينا في أخبار إبراهيم بن أدهم قال إبراهيم بن بشار -خادم إبراهيم بن أدهم- صحبته بالشام فقلت يا أبا إسحاق أخبري عن بدء أمرك
قال كنت شابا قد حبب إلي الصيد فخرجت يوما فأثرت أرنبا أو ثعلبا فبينا أنا أطرده إذ هتف بي هاتف لا أراه: يا إبراهيم ألهذا خلقت أبهذا أمرت
ففزعت ووقفت ثم تعوذت وركضت الدابة ففل ذلك مرارا
ثم هتف بي هاتف من قربوس السرج والله ما لهذا خلقت ولا بهذا أمرت قال فنزلت فصادفت راعيا لأبي يرعى الغنم فأخذت جبة الصوف فلبستها ودفعت إليه الفرس وما كان معي وتوجهت إلى مكة فبينا أنا في البادية إذ أنا برجل يسير ليس معه إناء ولا زاد فلما أمسى
ص:159(49/76)
وصلى المغرب حرك شفتيه بكلام لم أفهمه فإذا بإناء فيه طعام وإناء فيه شراب فأكلت معه وشربت وكنت على هذا أياما وعلمني اسم الله الأعظم ثم غاب عني وبقيت وحدي فبينا أنا ذات يوم مستوحش من الوحدة دعوت الله فإذا شخص أخذ بحجزتي فقال لي سل تعطه فراعني قوله فقال لي لاروع عليك أنا أخوك الخضر
152- وذكر عبد المغيث بن زهير الحربي الحنبلي في جزء جمعه في أخبار الخضر عن أحمد بن حنبل قال كنت ببيت المقدس فرأيت الخضر وإلياس
153- وعن أحمد قال كنت نائما فجاءني الخضر فقال قل لأحمد إن ساكن السماء والملائكة راضون عنك
ص:160
154- وعن أحمد بن حنبل أنه خرج اإلى مكة فصحب رجل ا قال فوقع في نفسي أنه الخضر
قال ابن الجوزي في ما نقضه ما جمعه عبد المغيث لا يثبت هذا عن أحمد
155- قال وذكر فيه عن معروف الكرخي أنه قال حدثني الخضر ومن أين يصح هذا عن معروف
156- وقال أبو حيان في تفسيره أولع كثير ممن ينتمي إلى الصلاح إن بعضهم يرى الخضر
وكان الإمام أبو الفتح القشيري يذكر عن شيخ له أنه رأى الخضر فحدثه فقيل له من أعلمه أنه الخضر أم كيف عرف ذلك فسكت
قال ويزعم بعضهم أن الخضرية يتولاها بعض الصالحين على قدم الخضر ومنه قول بعضهم لكل زمان الخضر
ص:161
قلت: وهو حيث مسلم يدل أن الخضر المشهور مات
157- قال أبو حيان: وكان بعض شيوخنا في الحديث - وهو عبد الواحد العباسي الحنبلي - يعتقد أصحابه فيه أنه يجتمع بالخضر
158- قلت: وذكر لي الحافظ أبو الفضل العراقي شيخنا أن الشيخ عبد الله بن أسعد اليافعي كان يعتقد أن الخضر حي
قال فذكرت له ما نقل عن البخاري والحربي وغيرهما من إنكار ذلك فغضب وقال: من قال: إنه مات، غضبت عليه
قال: فقلنا له: رجعنا عن اعتقاد موته
159- وأدركنا من كان يدعي أنه يجتمع بالخضر منهم القاضي علم الدين البساطي الذي ولى قضاء المالكية زمن الظاهر برقوق وكان
ص:162
كثير من أهل العلم ينكرون عليه ذلك(49/77)
160- والذي تميل إليه النفس من حيث الأدلة القوية خلاف ما يعتقده العوام من استمرار حياته ولكن ربما عرضت شبهة من جهة كثرة الناقلين للأخبار الدالة على استمراره فيقال: هب أن أسانيدها واهية إذ كل طريق منها لا يسلم من سبب يقتضي تضعيفها فماذا يصنع في المجموع فإنه على هذه الصورة قد يلتحق بالتواتر المعنوي الذي مثلوا له بجود حاتم .
161- فمن هنا مع احتمال التأويل في أدلة القائلين بعدم بقائه كآية:{وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد}
وكحديث رأس مائة سنة وغير ذلك مما تقدم بيانه
162- وأقوى الأدلة على عدم بقائه عدم مجيئه إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وانفراده بالتعمير من بين أهل الأعصار المتقدمة بغير دليل شرعي
والذي لا يتوقف فيه الجزم بنبوته ولو ثبت أنه ملك من الملائكة لارتفع الأشكال كما تقدم. والله أعلم ا هـ
ص:163
تم كتاب الزهر النضر في نبأ الخضر للحافظ شهاب الدين أبي الفضل أحمد بن علي بن محمد بن حجر الكناني العسقلاني
فرغ منه يوم الجمعة عشرين شوال سنة 867 هـ سبع وستين وثمانمائة هجرية ا هـ
صلاح الدين مقبول أحمد
عفا الله عنه وعن والديه وأساتذته جميعا
والحمد لله أولا وآخرا وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم
163(49/78)
بسم الله الرحمن الرحيم
الزيارة الشرعية والزيارة البدعية
شيخ الإسلام ابن تيمية
نص من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية من الفتاوى الكبرى ( 3 / 42 وما بعدها )
الزيارة تنقسم إلى قسمين : زيارة شرعية وزيارة بدعية.
فالزيارة الشرعية : السلام على الميت، والدعاء له ، بمنزلة الصلاة على جنازته، كما ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعلم أصحابه إذا زاروا القبور أن يقولوا : (السلام عليكم أهل الديار من المسلمين والمؤمنين ، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، ويرحم الله المستقدمين منا ومنكم، والمستأخرين نسأل الله لنا ولكم العافية، اللهم لا تحرمنا أجرهم، ولا تفتنا بعدهم، واغفر لنا ولهم) وهذا الدعاء يروى بعضه في بعض الأحاديث، وهو مروي بعدة ألفاظ. كما رويت ألفاظ التشهد وغيره وهذه الزيارة هي التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعلها إذا خرج لزيارة قبور أهل البقيع.
وأما الزيارة البدعية: فمن جنس زيارة اليهود والنصارى، وأهل البدع، الذين يتخذون قبور الأنبياء والصالحين مساجد، وقد استفاض عن النبي صلى الله عليه وسلم في الكتب الصحاح وغيرها أنه قال عند موته: (لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد يحذر ما فعلوا). قالت عائشة - رضي الله عنها - : ولولا ذلك لأبرز قبره ولكن كره أن يتخذ مسجدا. وثبت في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك) فالزيارة البدعية مثل قصد قبر بعض الأنبياء والصالحين للصلاة عنده أو الدعاء عنده، أو به، أو طلب الحوائج منه، أو من الله تعالى عند قبره، أو الاستغاثة به، أو الإقسام على الله تعالى به، ونحو ذلك هو من البدع التي لم يفعلها أحد من الصحابة، ولا التابعين لهم بإحسان ولا سن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أحد من خلفائه الراشدين، بل قد نهى عن ذلك أئمة المسلمين الكبار.(50/1)
والحديث الذي يرويه بعض الناس ( إذا سألتم الله فاسألوه بجاهي) هو من المكذوبات التي لم يروها أحد من علماء المسلمين، ولا هو في شيء من كتب الحديث بمنزلة ما يروونه من قوله: (لو أحسن أحدكم ظنه بحجر لنفعه الله به) فإن هذا أيضا من المكذوبات. وقد نص غير واحد من العلماء على أنه لا يقسم على الله بمخلوق لا نبي ولا غيره، فمن ذلك ما ذكره أبو الحسين القدوري في كتاب شرح الكرخي " عن بشر بن الوليد قال: سمعت أبا يوسف قال: قال أبو حنيفة: لا ينبغي لأحد أن يدعو الله إلا به، وأكره أن يقول: بمعاقد العز من عرشك، وبحق خلقك. وهو قول أبي يوسف، وقال أبو يوسف: بمعاقد العز من عرشه: هو الله تعالى، فلا أكره هذا. وأكره بحق فلان، وبحق أنبيائك، ورسلك، وبحق البيت، والمشعر الحرام.
قال القدوري شارح الكتاب: المسألة بخلقه لا تجوز، لأنه لا حق للمخلوق على الخالق، فلا يجوز يعني: وفاقا. قلت: وأما الاستشفاع إلى الله تعالى به، وهو طلب الشفاعة منه، والتوسل إلى الله بدعائه وشفاعته، وبالإيمان به، وبمحبته وطاعته والتوجه إلى الله تعالى بذلك، فهذا مشروع باتفاق المسلمين، كما جاءت بذلك الأحاديث الصحيحة.
وقد ثبت في صحيح البخاري عن أبي حميد الساعدي - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة فيقول: يا رسول الله، أغثني، فأقول: لا أملك لك من الله شيئا، قد أبلغتك). وفي الصحيح أنه قال صلى الله عليه وسلم: (يا فاطمة بنت محمد، لا أغني عنك من الله شيئا، يا عباس عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا أغني عنك من الله شيئا، يا صفية عمة رسول الله، لا أغني عنك من الله شيئا، سلوني من مالي ما شئتم) وقال ذلك لعشيرته الأقربين. وروي أنه قال: (غير أن لكم رحما سأبلها ببلالها) فبين صلى الله عليه وسلم ما هو موافق لكتاب الله من أنه ليس عليه إلا البلاغ المبين.(50/2)
وأما الجزاء بالثواب والعقاب، فهو إلى الله تعالى. كما قال تعالى: {قل أطيعوا الله وأطيعوا الرسول فإن تولوا فإنما عليه ما حمل وعليكم ما حملتم وإن تطيعوه تهتدوا وما على الرسول إلا البلاغ المبين } وهو صلى الله عليه وسلم قد بلغ البلاغ المبين، قد بلغ الرسالة، وأشهد الله على أمته أنه بلغهم، كما جعل في حجة الوداع يقول: (ألا هل بلغت؟ فيقولون: نعم، فيرفع إصبعه إلى السماء، وينكبها إليهم، ويقول: اللهم اشهد) رواه مسلم في صحيحه.
وأما إجابة الداعي، وتفريج الكربات، وقضاء الحاجات، فهذا لله سبحانه وتعالى وحده لا يشركه فيه أحد. ولهذا فرق الله سبحانه في كتابه بين ما فيه حق للرسول، وبين ما هو لله وحده، كما في قوله تعالى: {ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقه فأولئك هم الفائزون} فبين سبحانه ما يستحقه الرسول من الطاعة، فإنه {من يطع الرسول فقد أطاع الله}.
وأما الخشية والتقوى فجعل ذلك له سبحانه وحده، وكذلك قوله: {ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله إنا إلى الله راغبون} فجعل الإيتاء لله والرسول. كما في قوله تعالى: {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا}.
وأما التوكل والرغبة فلله وحده، كما في قوله تعالى: {وقالوا حسبنا الله}. ولم يقل ورسوله.
وقال: {إنا إلى الله راغبون} ولم يقل: وإلى الرسول، وذلك موافق لقوله تعالى: {فإذا فرغت فانصب، وإلى ربك فارغب}. فالعبادة والخشية والتوكل والدعاء والرجاء والخوف لله وحده، لا يشركه فيه أحد، وأما الطاعة والمحبة والإرضاء: فعلينا أن نطيع الله ورسوله، ونحب الله ورسوله، ونرضي الله ورسوله، لأن طاعة الرسول طاعة لله، وإرضاءه إرضاء لله، وحبه من حب الله.(50/3)
وكثير من أهل الضلال من الكفار وأهل البدع بدلوا الدين، فإن الله تعالى جعل الرسل صلوات الله وسلامه عليهم وسائط في تبليغ أمره ونهيه، ووعده ووعيده، فليس لأحد طريق إلى الله إلا متابعة الرسول، بفعل ما أمر، وترك ما حذر. ومن جعل إلى الله طريقا غير متابعة الرسول للخاصة والعامة فهو كافر بالله ورسوله: مثل من يزعم أن من خواص الأولياء أو العلماء أو الفلاسفة أو أهل الكلام أو الملوك من له طريق إلى الله تعالى غير متابعة رسوله، ويذكرون في ذلك من الأحاديث المفتراة ما هو أعظم الكفر والكذب. كقول بعضهم: إن الرسول صلى الله عليه وسلم استأذن على أهل الصفة، فقالوا: اذهب إلى من أنت رسول إليه. وقال بعضهم: إنهم أصبحوا ليلة المعراج، فأخبروه بالسر الذي ناجاه الله به، وأن الله أعلمهم بذلك بدون إعلام الرسول. وقول بعضهم: إنهم قاتلوه في بعض الغزوات مع الكفار، وقالوا: من كان الله معه كنا معه.
وأمثال ذلك من الأمور التي هي من أعظم الكفر، والكذب. ومثل احتجاج بعضهم بقصة الخضر وموسى عليه السلام: على أن من الأولياء من يستغني عن محمد صلى الله عليه وسلم كما استغنى الخضر عن موسى، ومثل قول بعضهم: إن خاتم الأولياء له طريق إلى الله، يستغنى به عن خاتم الأنبياء، وأمثال هذه الأمور التي كثرت في كثير من المنتسبين إلى الزهد والفقر، والتصوف والكلام والتفلسف. وكفر هؤلاء قد يكون من جنس كفر اليهود والنصارى، وقد يكون أعظم، وقد يكون أخف بحسب أحوالهم.
زيارة القبور للنساء
شيخ الإسلام ابن تيمية
نص فتوى من الفتاوى الكبرى ( 1 / 59 - 60 )
سئل: عن زيارة النساء القبور: هل ورد في ذلك حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أم لا؟(50/4)
الجواب: الحمد لله رب العالمين. صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: (لعن الله زوارات القبور) رواه أحمد، وابن ماجه، والترمذي، وصححه. وعن ابن عباس رضي الله عنه قال: (لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زوارات القبور، والمتخذين عليها المساجد والسرج) رواه أهل السنن الأربعة: أبو داود، والنسائي، والترمذي، وابن ماجه.
وقال الترمذي: حديث حسن، وأخرجه أبو حاتم في صحيحه.
وعلى هذا العمل في أظهر قولي أهل العلم أنه نهى زوارات القبور عن ذلك، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها، فإنها تذكركم الآخرة).
فإن قيل: فالنهي عن ذلك منسوخ، كما قال ذلك أهل القول الآخر. قيل: هذا ليس بجيد، لأن قوله: (كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها) هذا خطاب للرجال دون النساء، فإن اللفظ لفظ مذكر، وهو مختص بالذكور، أو متناول لغيرهم بطريق التبع. فإن كان مختصا بهم فلا ذكر للنساء، وإن كان متناولا لغيرهم كان هذا اللفظ عاما، وقوله: (لعن الله زوارات القبور) خاص بالنساء دون الرجال، ألا تراه يقول: (لعن الله زوارات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج) فالذين يتخذون عليها المساجد والسرج لعنهم الله، سواء كانوا ذكورا أو إناثا، وأما الذين يزورون فإنما لعن النساء الزوارات دون الرجال، وإذا كان هذا خاصا ولم يعلم أنه متقدم على الرخصة كان متقدما على العام عند عامة أهل العلم، كذلك لو علم أنه كان بعدها.
وهذا نظير قوله صلى الله عليه وسلم: (من صلى على جنازة فله قيراط، ومن تبعها حتى تدفن فله قيراطان) فهذا عام والنساء لم يدخلن في ذلك، لأنه ثبت عنه في الصحيح أنه نهى النساء عن اتباع الجنائز.
عن عبد الله بن عمر قال: (سرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني نشيع ميتا، فلما(50/5)
فرغنا انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم وانصرفنا معه، فلما توسطنا الطريق إذا نحن بامرأة مقبلة، فلما دنت إذا هي فاطمة، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أخرجك يا فاطمة من بيتك؟، قالت: أتيت يا رسول الله، أهل هذا البيت فعزيناهم بميتهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لعلك بلغت معهم الكدى، أما إنك لو بلغت معهم الكدى ما رأيت الجنة، حتى يراها جد أبيك) رواه أهل السنن، ورواه أبو حاتم في صحيحه، وقد فسر " الكدى " بالقبور. والله أعلم.(50/6)
بسم الله الرحمن الرحيم
السلفيون والأئمة الأربعة
رضي الله عنهم
مقدمة
الحمدلله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، أحمده سبحانه، وأشهد أن لا إله إلا هو، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، الداعي إلى صراط ربه، والذي قال [تركتكم على البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك] (رواه ابن ماجة 43، وأحمد (126:4)) وأسأله تعالى، أن يهدينا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم عليهم، من النبيين، والصديقين، والشهداء، والصالحين..
وبعد، فإن المسلمين اليوم، في أمس الحاجة إلى الاجتماع على كلمة واحدة، ولا يمكن أن يحصل لهم ذلك إلا إذا اجتمعت كلمتهم على الكتاب والسنة عقيدة وتشريعاً وسلوكاً وإن الدعوة إلى الكتاب والسنة، تصطدم بتحجر المقلدين، الذين يظنون أن في الدعوة إلى الكتاب والسنة، وتوحيد الفقه والتشريع، تنقيصاً من شأن الأئمة الأربعة -رضي الله عنهم- أو انتقاصاً لهم، ولذلك يقومون بالتشويش على دعوة الكتاب والسنة، زاعمين أنها دعوة لإلغاء الفقه، وفتح باب التخرصات في الدين، وهذه الرسالة الميسرة المباركة -إن شاء الله- بيان لحقيقة الدعوة السلفية في أمر الاجتهاد والتشريع، وبيان موقف السلفيين الحق من الأئمة الأربعة رضي الله عنهم، والله نسأل أن ينفع بها إخواننا المسلمين وأن يتقبلها منا إنه هو السميع العليم.
عبدالرحمن عبدالخالق
الكويت 11من رجب سنة 1397هـ
حاجتنا إلى الاجتهاد
يقسم العلماء العلم الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من ربه إلى ثلاثة أقسام: قسم إخباري وهو يتعلق بأمور الغيب والآخرة كصفات الله سبحانه وأعماله، والرسالات والملائكة، والجنة والنار والحساب وغير ذلك مما يدخل في مسائل الغيب والإيمان.(51/1)
وقسم يتعلق بالأعمال وهو التشريع والأعمال التي كلفنا بها فمنها ما يتعلق بالصلة بين العبد وربه فتسمى العبادات وأعظمها الصلاة والصوم والزكاة والحج، ومنها ما يتعلق بين الناس بعضهم مع بعض كالزواج والطلاق والبيع، والهبة والميراث وهكذا كافة الشئون المالية والسياسية.. الخ، وقسم آخر يتعلق بالكمال الإنساني وهو الأخلاق والتزكية وهذا القسم يتعلق بكلا القسمين الآنفين فهو من ناحية عمل قلبي، فسلامة الصدر من الغل والحسد خلق، وهو من ناحية ثانية عمل ظاهري تشريعي، فالسماحة والبذل والشجاعة وإكرام الضيف وما إلى ذلك أعمال ظاهرية.
والقسم الأول العقائد لا يدخله التغيير ولا التبديل ولا الزيادة أو النقص فهو ثابت في الرسالات جميعها وعلى لسان الأنبياء جميعاً.
وأما القسم الثاني فهو خاضع للظروف والملابسات والزمان والمكان بل هو في حركة دائمة كما قال سبحانه وتعالى: {لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً} (المائدة:48) ولذلك اختلفت شرائع الأنبياء بعضهم عن بعض، ولا يعني هذا الاختلاف من جميع الوجوه بل أصول الشرائع أيضاً متفقة.
وبالرغم من أن شريعة الإسلام قد كملت بوفاة النبي صلى الله عليه وسلم فإن المسلمين في تاريخهم الطويل قد احتاجوا إلى أن يستنبطوا من هذه الشريعة أحكاماً لقضاياهم ومشكلاتهم المتجددة بتجدد الزمان والمكان والحوادث. ولذلك كان التشريع للحياة حركة متجددة بتجدد الحياة. وهذا يعني أيضاً أو وقف التشريع للوقائع المتغيرة هو عزل للشريعة عن حياة الناس لأن الحياة مستمرة. والتشريع ضوابط لهذه الحياة والحركة المستمرة، فإذا تخلفت هذه الضوابط انفلت الناس إلى شرائع أخرى وقوانين جديدة وهذا ما حدث تماماً بالنسبة للشريعة الإسلامية حيث عزلت عن حياة الناس وعن التقنين لهم بجمود الحركة الفقهية التشريعية أولاً ثم بالعزل السياسي والاجتماعي للتشريع الإسلامي.(51/2)
وأما الأخلاق فبالرغم من ثباتها من حيث المبادئ والأصول، فالجانب العملي فيها يتغير تبعاً للظروف والملابسات، فالصبر والشجاعة والكرم وإن كان المعنى الأصلي فيها ثابتاً باقياً إلا أن المواقف التي تقتضي ذلك متغيرة أيضاً.
هذه الحركة المتغيرة الدائبة للتشريع الإسلامي تقتضي أن يكون لدينا في كل العصور وعلى مدار التاريخ رجال علماء أكفاء يضبطون حياة الناس ويوجهونها وفق الإسلام. وهؤلاء العلماء لا يجوز فقط أن يكونوا في موقف الإفتاء فقط، بل أيضاً في موقع التنفيذ والقضاء، ولذلك اشترط المسلمون للإمام العام أن يكون مجتهداً وذلك أنه يحتاج في كل يوم أن يتخذ من المواقف والأحكام مع المسلمين وغيرهم من الأعداء المحاربين، والمسالمين والمستأمنين والمعاهدين ما يتفق مع الدين الذي أنزله الله سبحانه وتعالى وهذا يحتاج إلى الاجتهاد، وكذلك اشترط في القاضي أيضاً أن يكون مجتهداً لأن الوقائع والمشاكل التي تعرض على القضاء ليست متماثلة بما وقع في صدر الإسلام وفي عهد التشريع من كل وجه، بل في كل يوم يواجه القضاء مشكلات جديدة وحيلاً شتى ووقائع متغيرة، وما لم يكن القاضي فقيهاً مجتهداً فإنه لا بد وأن يحكم بالجهل ويقع في الظلم.
لهذه الأسباب فالمسلمون يحتاجون في كل يوم بل في كل ساعة إلى اجتهاد فقهي جديد: اجتهاد في الإفتاء، واجتهاد في القضاء، واجتهاد لتنفيذ الأحكام وتطبيق الشريعة وفق مقتضيات الحال وتغير المشكلات. ولنضرب على هذا أمثلة من واقعنا السياسي:-(51/3)
* سياسياً: المسلمون اليوم في حاجة ماسة إلى خلافة راشدة فكيف توجد الآن وما هو الطريق لها وفق الكتاب والسنة؟! يحتاج هذا إلى اجتهاد ودعوة.. نقابل اليوم أعداء كثيرين فاليهود تحتل أرضنا وتشرد رجالنا ونساءنا وأطفالنا، فما هو الواجب اليوم معهم؟ هل الواجب الحرب أم العهد أم السلام والصلح؟! وإذا كان الحرب فكيف؟! وإذا كان العهد فما هي مواصفاته وشروطه؟!! وإذا كان السلام فما أيضاً مواصفاته وشروطه؟!
* إقتصادياً: هل يجوز أن نودع أموالنا في بلاد الغرب؟! وإذا كان جائزاً فهل يجوز وضع هذا المال بالفوائد أم بدونها؟ وإذا لم يكن جائزاً فما الحل؟.. هذا إلى عشرات ومئات المشكلات الاقتصادية في العمل، والشركات، والتأمين، والتجارة، وتحويل المال و.. وكل هذا يحتاج إلى علماء أعلام يفهمون الحياة ونظم المال الحاضرة ويفتون المسلمين بما يجب عليهم في كل هذا.
وهكذا مشكلاتنا الاجتماعية والخلقية والنفسية، ومشكلات التطبيق للشريعة الإسلامية في العصر الراهن ومشكلات المسلمين في بلاد الكفار إلى آلاف المشكلات وكلها تحتاج إلى اجتهاد وحلول.
باختصار، المسلمون اليوم في حاجة ماسة إلى حركة اجتهادية تجديدية لا تكتفي فقط بإصدار الفتوى ولكن أيضاً بمواكبة العمل بالإسلام في إطار الفرد والجماعة والدولة. وهذه الحركة الاجتهادية التجديدية هي التي تميز للمسلمين طريق العمل بالإسلام في الوقت الحاضر وتأخذ بخطاهم خطوة خطوة نحو تحكيم الشريعة في جميع شئون الحياة، وبدون هذه الحركة التجديدية الاجتهادية الكاملة ستبقى الشريعة الإسلامية بمعزل عن حياة الناس وواقع التطبيق كما هو حادث الآن.
كيف نجتهد
عرف العلماء الاجتهاد الشرعي بأنه بذل الجهد للوصول إلى ظن بحكم شرعي. وهذا يعني أن المجتهد يبذل جهده ليعرف مراد الله سبحانه وتعالى في قضية ما. فإما أن نعرف الحكم من نص قرآني أو حديث نبوي أو إجماع للصحابة رضوان لله عليهم.(51/4)
وأما أن يعرف هذا باستنباط وفهم من آية أو حديث وهذا الفهم يصيب ويخطئ، ولذلك كان الاجتهاد الذي ينبني على الفهم والاستنباط ظنياً لأن الفهم والاستنباط غير معصوم ولذلك قال الإمام مالك رحمه الله: كل رجل يؤخذ من قوله ويرد عليه إلا صاحب هذا القبر. يعني النبي صلى الله عليه وسلم (إرشاد السالك(227:1)).
والذي يعمل عقله وفهمه لمعرفة حكم ما لا بد بالطبع أن يكون أهلاً لذلك، ولذلك وضع العلماء شروطاً للاجتهاد أعدلها: أن يكون المجتهد على علم بالقرآن والسنة وفهم لغة العرب وفهم الحادثة والواقعة المراد التشريع لها ومعرفة النصوص الخاصة في شأن مثل هذه الواقعة. وهذا العلم بحمد الله متيسر لكل من بذل في هذا جهداً مناسباً كما قال تعالى: {ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر} (القمر:17)، وقال صلى الله عليه وسلم: [بعثت بالحنيفية السمحة] (أخرجه أحمد (266:5) والطبراني (7868) وهو حديث حسن)، وقال: [إن هذا الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه] (أخرجه البخاري (93:1)، ويسر الإسلام ليس في العمل فقط بل في الفهم أيضاً. ولذلك لم يخل تاريخ المسلمين في كل عصورهم -بحمد الله- وتوفيقه من رجال أكفاء كانوا على مستوى الاجتهاد والفهم العام لدين الله سبحانه وتعالى وتعليم الأمة وتوجيه مسارها إلى ما يرضي الله سبحانه وتعالى.
ولا يشترط بالضرورة أن يكون كل من قال قولاً في الدين أن يكون قوله صواباً موافقاً للحق بل كل من اجتهد في هذا الدين بعد رسول الله وإلى يومنا هذا قد أصاب وقد أخطأ وقد رد على غيره ورد غيره عليه كما قال الإمام مالك أيضاً: ما منا إلا قد رد ورد عليه.(51/5)
فهذا عمر بن الخطاب يرد عليه الصحابة في وقائع كثيرة جداً كالتيمم وتقسيم السواد، وتحديد المهور، وكذلك عثمان رضي الله عنه رد عليه الصحابة في وقائع كثيرة من العبادات والمعاملات، وعلي خالفه الصحابة في كثير من القضايا الفقهية والسياسية.. الخ (انظر أعلام الموقعين لابن القيم).
فكيف بغيرهم من العلماء والفقهاء؟!!
ومهما كان الأمر فإن الله سبحانه وتعالى الذي ضمن لنا حفظ هذا الدين لم يضمن حفظ نصوصه فقط بل ضمن سبحانه وتعالى تطبيقه وفهمه في الأمة وإلى قيام الساعة، فلا يزال قائم لله بحجة فرداً. كان أو جماعة حتى يأتي الدجال كما قال صلى الله عليه وسلم: [لا تزال طائفة من أمتي على الحق لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك] (اخرجه البخاري (164:1) ومسلم (1524:3) وهو حديث متواتر).
وهذه الطائفة التي تقوم بالحق لا شك أنه يعترضها كل يوم من المشكلات والأقضيات والحوادث ما لم يكن في زمن الصدر الأول ولا شك أن هذه الطائفة محتاجة دائماً إلى اجتهاد دائم ينير طريقها وفق كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. وهذا الاجتهاد الدائم المتجدد للحوادث المتجددة هو ما نحتاجه دائماً. وهو ما يقع فيه الخطأ والصواب.(51/6)
والإسلام منذ أنزله الله سبحانه وتعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم قد راعى ذلك، فالرسول الموحى إليه علم الله أنه لن يبقى في الأمة إلى نهاية الدنيا وأنه سيخلفه الخلفاء وسينقطع الوحي من السماء ويبقى لهم الفهم والاستنباط والاجتهاد، وعلم الرب تبارك وتعالى أيضاً أنهم سيتعرضون للخطأ والصواب ولذلك لم يكلفهم شططاً بالوصول إلى الصواب في كل رأي وفي كل اجتهاد لأن هذا تكليف بما لا يطاق ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: [إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر] (رواه البخاري ومسلم وأحمد)، ووقعت حوادث بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم اقتضت الاجتهاد واجتمع الصحابة فيها أحياناً على رأي واحد واختلفوا أحياناً إلى آراء كثيرة. وكان من هذه المشكلات: الخلافة لمن؟ وهل ينفذ جيش أسامة وقد ارتد العرب أم يحارب المرتدون؟ وهل مانعوا الزكاة مرتدون يجب قتالهم أم مسلمون لا يجوز سفك دمائهم؟ وهل يحارب فارس والروم أم لا؟ وهل عمر بن الخطاب يستحق الخلافة بالعهد أم لا؟ ومن يتولى بعد عمر هل بعهد كما فعل أبو بكر أم بترك الأمر للمسلمين كما فعل رسول الله؟ واقترح عمر النفر الستة الذين توفى الرسول وهو عنهم راض ونظم نظاماً فريداً لاختيار رجل منهم. ومئات المشكلات في خلافة عثمان ومثلها في خلافة علي بن أبي طالب هذا إلى مئات من المشكلات الاجتماعية التي كان للخليفة رأي مخالف لرأي الناس نحو مشكلة اسكان سبى الفرس وصناعهم بالمدينة النبوية: رأى عمر أن تطهر المدينة منهم ورأى العباس وابنه عبدالله أنه لا بأس بهذا وكان رأي الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن يمنعوا من سكنى المدينة.(51/7)
هذه المشكلات وغيرها كثير جداً احوجت المسلمين إلى اجتهاد، وإذا جئت تعدد مشكلاتنا اليوم في كل ناحية من نواحي الحياة لوجدت أننا في حاجة ماسة إلى جهود عظيمة واجتهاد بالغ وفهم عميق للكتاب والسنة لنستطيع أن نسير حياتنا وفق منهج الله سبحانه وتعالى.
هل يوجد المجتهد المطلق؟
أنزل الله سبحانه دينه ليسع الناس جميعاً. وليسع الأرض جميعاً، وليسع الزمان جميعاً من لدن محمد صلى الله عليه وسلم وإلى قيام الساعة.
وهذه السعة في الزمان والمكان والخلق على تعدد المشكلات واختلاف النيات وكثرة الاحتمالات لا يسعها عقل مهما أوتي من قدر في الحفظ والذكاء. والدين الذي أنزله سبحانه وتعالى ليس شأناً واحداً من شئون الناس، وإنما هو شئونهم جميعاً: حياتهم وموتهم، وعبادتهم ومعاملاتهم، وأخلاقهم. فما من شأن من شئونهم إلا وهو في إطار الدين وجوباً أو إباحة أو ندباً أو تحريماً أو كراهة، فقلوب الناس يجب صياغتها وفق عقائد هذا الدين وموازينه، وأخلاق الناس يجب تقويمها وفق أخلاق هذا الدين ومثالياته، ومعاملات الناس -على تعدد هذه المعاملات- قد وضع لها أصول وقواعد وضوابط لتحقيق العدل والسعادة، وتحت كل باب من هذه الأبواب فروع كثيرة جداً، وهذه الفروع تكثر بكثرة المشكلات وتتجدد بتجددها.(51/8)
فلو جئت إلى باب العقائد ومسائل الإيمان -مثلاً- لعلمت أنك تستطيع أن تلم بعقائد الإسلام وعلومه في الغيب في وقت يسير، ولكن إذا أردت تصحيح عقائد الناس وفقاً للعقيدة الإسلامية لوجدت أنك أمام بحر متلاطم من المشكلات والحوادث والباطل الذي يحتاج إلى ردود وتفنيد، ولو وجدت أيضاً أنك أمام شبهات حول الدين تكاد لا تدع فرعية من فرعيات هذه الدين إلا وشوهت صورتها وطمست معالمها، وكل هذا يحتاج إلى رد وإبطال. وهكذا فالحركة بهذا الدين تحتاج إلى جهد جهيد وجهاد طويل لا يقف عند حد، وكذلك الشأن في جميع أبواب علوم الإسلام التي تنظم حياة الناس جميعاً. ولما كانت هذه العلوم جميعها لا يستوعبها عقل، ولا يحيط بها فكر كان القيام بالدين جهاداً وعملاً ودعوة وقضاء وسياسة أمر متعذر لا يمكن أن نرى المجتهد المطلق الذي يعلم كل شيء ويفتي في كل شيء ويحكم على كل شيء، لأنه إن كان يوجد عالم على هذا النحو فليس إلا الله وحده العليم بكل شيء سبحانه وتعالى. وأما البشر فمهما أوتوا من سعة العلم، وسعة الأقوال وحدة الذكاء فلن يستطيعوا أن يحيطوا من الدين إلا بجوانب منه تضيق وتتسع بما ينعم الله سبحانه وتعالى على من يشاء منهم.
ولذلك لا يجوز بتاتاً أن نتصور المجتهد المطلق في أي حقبة من حقب التاريخ لهذا الدين: خليفة كان أو إماماً أو قاضياً أو مفتياً بل يجب أن نتصور دائماً أن سعة الدين أكبر من سعة الفرد. وأنه لا يسع الدين كله إلا الجماعة ولذلك أصبحنا نحتاج في دراسة الإسلام إلى أمرين هامين:-
أولاً: المعرفة الكلية العامة للدين، وهذه المعرفة الكلية لا بد وأن تشمل أساسيات هذا الدين من إيمان وعبادات ومعاملات وأخلاق ليأخذ كل فرد التصور العام للدين بمجموعه لا بتفصيلاته.(51/9)
ثانياً: المعرفة الجزئية التخصصية لأبواب هذا الدين وفرعياته. فيحتاج المسلمون دائماً إلى متخصصين في علوم القرآن وفي علوم الحديث وأصول الفقه، والفقه، والمعاملات والسياسات، وإلى متخصصين في الدعوة والجهاد بالكلمة والرد على شبهات الخصوم. وهكذا وبمجموع هؤلاء المتخصصين يستطيع المسلمون أن يثبتوا في وجه الزحف الجاهلي الذي يريد اقتلاع حضارتهم ودينهم. وكذلك نحتاج من هؤلاء المتخصصين إلى المجتهدين الماهرين لا إلى المقلدين الجامدين الذين يعيشون على مستوى الأحداث فهماً ومواجهة وتفاعلاً.. فهماً للأحداث الجارية، ومواجهة للباطل من هذه الأحداث بما تقتضيه هذه المواجهة، وتفاعلاً مع هذه الأحداث على النحو الذي يثري أمة الإسلام في أفرادها وعلومها ويحقق لها عزتها ومكانتها.
باختصار، لم يوجد المجتهد المطلق في تاريخ الإسلام ولن يوجد هذا المجتهد المطلق حتى قيام الساعة، وإنما هناك العلماء الذين يأخذ كل منهم من العلم بقدر استيعابه وفهمه فيخطئ ويصيب، وتبقى الأمة بمجموعها معصومة عن الخطأ (إشارة إلى قوله صلى الله عليه وسلم: [إن الله لا يجمع أمتي على ضلالة] وهو حديث صحيح لطرقه. رواه الترمذي وغيره)، ويبقى الصواب موزعاً بين أفراد هذه الأمة، والصواب فضل الله، يؤتيه من يشاء، ولا يمكن ولا يجوز أن يحتكر رجل من الرجال بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم الصواب كله أبداً وأن تكون أقواله كلها قرآناً ووحياً منزلاً لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
الثابت والمتغير في الدين(51/10)
أصاب المسلمين ضرر عظيم من فهم بعضهم الخاطئ لقوله تعالى: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً} (المائدة:3)، هذه الآية من القرآن وما يشهد لمعناها من الحديث كقوله صلى الله عليه وسلم: [من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد] (أخرجه البخاري ومسلم وابن ماجة)، وحكموا على كل إضافة في الدين بالبطلان والرد، وبذلك عطلوا باباً من أعظم أبواب الإسلام وهو باب الإجتهاد التطبيقي، ووقفوا جامدين أمام مشكلات التطبيق وتغير الأحوال.
وقام بإزاء هؤلاء طائفة أخرى زعموا أن كل قول في الدين صدر عن إمام أو عالم فهو حق لأنه من الدين، وقد يكون مستنداً إلى الدليل. وبذلك أصبح الدين عند أولئك واسع سعة كل الفتاوى والآراء والأقوال التي صدرت عن مجتهدين، ووسع هؤلاء الاجتهاد أيضاً حتى شمل العقائد والعبادات والأخلاق وبذلك صار الدين عند هؤلاء مسخاً مشوهاً لا تناسق فيه بأي وجه من الوجوه بل في كل قضية رأيان وثلاثة وعند هؤلاء أن كل هذه الأقوال صواب يجوز للمسلم أن يأخذ رأياً منها وأن يعمل به.
وبين الفئة الأولى التي وقفت عند النصوص فقط بلا فهم ولا وعي لمتطلبات تطبيقها والتي جعلت أبواب الدين كلها باباً واحداً لا يجوز الزيادة فيه والاجتهاد وبين الفئة الثانية التي جعلت كل رأي صدر من عالم ما يجوز العمل به. أقول: بين هاتين الفئتين قامت المعارك الكلامية والمناقشات واستخدمت الآيات والأحاديث وأولت تأويلاً بعيداً وشغل المسلمون وما زالوا مشغولين.. وقد غاب عن هؤلاء وهؤلاء بعض القواعد والموازين التي تضع الحق في نصابه، وهذه القواعد تتلخص في وجوب التفريق بين الثابت والمتغير من أمور الدين وهاك هذه القواعد:-(51/11)
أولاً: الله سبحانه وتعالى هو الحق وكل ما صدر عنه من خبر فهو صدق، وكل ما صدر عنه من حكم فهو عدل كما قال تعالى: {وتمت كلمة ربك صدقاً وعدلاً} (الأنعام:115)، و "كلمة" مفرد مضاف إلى معرفة فتعم أي كلمات، و "صدقاً" أي في الأخبار و "عدلاً" أي في الأحكام. فالكتاب الموحى به للنبي صلى الله عليه وسلم والسنة الموحى بها إليه أيضاً كلها حق. ومن ظن غير ذلك فقد كفر، وهذه أول الثوابت.
ثانياً: القرآن نزل بلسان عربي، والسنة نقلت إلينا باللسان العربي، وللعرب تصريف بليغ في كلامهم ودلالات الألفاظ مختلفة أحياناً. والمعاني تختلف أيضاً باختلاف صيغ التراكيب من التقديم والتأخير والحذف. وأفانين القول العربي واستخدامه لأنواع من الكنايات والتشبيهات والاستعارات كل هذا يجعل الحذق والفهم للنصوص القرآنية والحديثية متفاوتاً عند الأفراد، ولا يقول عاقل أن فهم الناس جميعاً لنصوص الكتاب والسنة بدرجة واحدة وهو يشاهد ثقافتهم واستيعابهم وفهمهم لأساليب اللغة وتراكيب الكلام وأفانين القول ولهذين السببين تفاوت الناس في الفهم، هذا مع العلم أن الأصل واحد والحق واحد لا يتعدد وهذه ثانية، الفهم متغير بتغير الأفراد والحق واحد لا يتغير بل الفرد الواحد يتغير فهمه في النص الواحد بتغير الزمان والوقت فأنت قد تفهم الآن آية على نحو ما، ثم تفهمها على نحو مخالف تماماً في وقت آخر. وقد تقرأ آية دهراً من عمرك ثم ينشأ لك فيها فهم جديد ما خطر ببالك قط. وهذا عمر ما كاد يسمع قول الله من فم أبي بكر الصديق: {إنك ميت و إنهم ميتون} (الزمر:30)، حتى قال: والله لكأني ما سمعتها إلا الساعة. والحوادث في هذا الباب كثيرة وليراجع كل منا نفسه في هذا. والشاهد: أن الفهم يتغير ويختلف باختلاف الأفراد والحالات والحق في ذلك كله واحد لا يتعدد. والموفق إلى الحق من وفقه الله تعالى.(51/12)
ثالثاً: علوم الإسلام تنقسم إلى قسمين بوجه عام، قسم نستطيع أن نسميه القسم الثابت الذي لا يقبل التطوير ولا الاجتهاد ولا الإضافة وهذا القسم هو العقائد "مسائل الإيمان" والعبادات "أركان الإسلام الأربعة" والأخلاق "مجموعة الفضائل الخلقية كالصدق والإحسان والشجاعة و.. الخ" هذه الأمور هي الثوابت في الدين ولا يجوز أن نجري عليها قط أمور الاجتهاد والإضافة. فصفات الله سبحانه وتعالى والملائكة والجنة والنار واليوم الآخر وعذاب القبر، وغير ذلك من مسائل الغيب لا وجه في هذا مطلقاً لأي إضافة جديدة لأنه لا وصول إلى علم جديد في هذا إلا بالوحي، ولا وحي بعد الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا هو خلافنا الأساسي مع المتصوفة. فالمتصوفة قد ركزوا ترهاتهم وخزعبلاتهم وكشوفاتهم المزعومة في كشف حقائق هذه الأشياء في ظنهم ولذلك يقول قائلهم: اطلعنا على الجنة والنار ورأينا كذا وكذا مما لم يخبر به الرسول. ويقول الآخر: أصعدني الله إلى سماواته فرأيت كذا وكذا، ويقول الآخر: التقيت بالملائكة وشاهدت كذا وكذا ويقول الآخر: نزلت الأرض السفلى ورأيت وسمعت.. الخ هذه الافتراءات والخزعبلات، وهذا الباب الغيبي لا يفتح أصلاً إلا بالوحي، ولا وحي بعد الرسول صلى الله عليه وسلم.
وأما العبادات أيضاً فلا يجوز الإضافة فيها لأن الإضافة فيها مبطلة، فالصلوات من فرائض ونوافل لا يجوز الزيادة فيها على المشروع، فركعة مضافة على الركعات الأربع يبطل الصلاة واستحداث نافلة لم تكن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم يصدق عليها قوله صلى الله عليه وسلم: [من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد] (أخرجه البخاري ومسلم وابن ماجة)، وكذلك إضافة هيئات جديدة أو صور جديدة لأي نوع من أنواع العبادة.
باختصار، لا جديد في الصلاة والصوم والحج وفي فرضيات الزكاة ويجب أن يبقى كل ذلك على الصورة والنحو المشروع.(51/13)
كذلك الأخلاق وتربية النفس لا يجوز تغير هذه الموازين وإلا اختل نظام الأخلاق وأصبح الحق باطلاً والباطل حقاً.
هذه الأمور الثلاثة هي من قسم الثوابت في الدين وكل إضافة فيها تدخل في أبواب الابتداع وإن كان هناك ثم اجتهاد فيها فهو اجتهاد في الأخطاء والضرورات التي تقع لبعض الأفراد كمن نسي ففعل كذا أو أخطأ ففعل كذا أو اضطر ففعل كذا، ففي هذه الأبواب من الخطأ والنسيان والضرورة ينحصر اجتهاد المجتهدين وكل ذلك في هذه الأبواب الثلاثة: "العقائد، والعبادات، والأخلاق".
رابعاً: "الإنسان مدني بالطبع" هذه الكلمة التي أطلقها ابن خلدون تصف حقيقة بشرية وهي أن البشر يحتاجون أن يعيشوا في مدن وفي تجمعات. ومع اجتماع البشر وتكاثرهم ونماؤهم تتعدد معاملاتهم وتعظم مشكلاتهم، وينشأ أحياناً الصراع بينهم بدلاً من التعاون في سبيل حفاظهم على ذواتهم أو حبهم لها ووسط هذا التعاون الضروري والصراع الدائم تتشابك المعاملات وتختلف المصالح، ولو خلى الله بين البشر وأنفسهم لأكل بعضهم بعضاً، ولساد قانون الغاب، ولكن الله من رحمته أرسل الرسل معلمين وهادين ومرشدين وأنزل الكتب ليقوم الناس بالقسط، والموازين التي أنزلها الله قاضية بالعدل بين الناس، وقد أكمل الله أصول هذا العدل في كتابه القرآن وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم ولذلك نزل ما ينظم علاقة الرجل بالمرأة، والمسلم بأخيه من بيع وهبة والحاكم بالمحكوم، والمجتمع بالمجرم الخارج عليه. وكل ذلك في نظام بديع لو أقامه الناس لأقاموا سعادتهم على الأرض.(51/14)
والنصوص القرآنية والحديثية التي نزلت في هذه المعاملات كانت بمثابة الضوابط والأصول العامة والإطار الذي يضيء للمسلمين الطريق ويسمح لهم أن يشرعوا لأنفسهم على هديه كلما جد لهم جديد مع أنفسهم أو مع أعدائهم. وهذا هو أعظم المتغيرات في هذا الدين ولكنه ليس متغيراً مطلقاً ولكنه متغير وفق ثوابت من القواعد العامة والحدود الفاصلة بين الحلال والحرام والمطلوب والممنوع.
والمهم أن باب المعاملات باب عظيم من أبواب الاجتهاد وذلك لاتساع شئون المعاملات وتعددها وتغيرها بتغير الزمان والمكان والناس، ونستطيع أن نقول أن هذا الباب إذا عرفت أصوله وحدوده المنصوص عليها في الكتاب والسنة واستطعنا أن نستوعب حاجة المسلمين ومشكلاتهم اليومية في شئون حياتهم المختلفة من سياسية، واقتصادية، واجتماعية استطعنا أن نصل إلى اجتهاد سليم وإلى رقي دائم وسير سليم في ظل نظام الإسلام وقانونه. وهذه مشكلة المشكلات أيضاً وذلك أن الثابت من أبواب الإسلام العلمية "العقائد، والعبادات، والأخلاق"، لا يشكل مشكلة لأنه واضح قريب الفهم قليل الاختلاف فيه. وأما شئون المعاملات والسياسة والاقتصاد والاجتماع فهو مع ثبات أصوله متغير تغيراً عظيماً جداً، فأحوالنا السياسية تتغير كل يوم وتحتاج إلى اجتهاد جديد مع هذا التغير وكذلك معاملاتنا الاقتصادية، فنحن لا نعيش في العالم بمفردنا بل يشاركنا فيه أمم وشعوب كثيرة ولها معاملاتها ولهم ضغوطهم علينا فما الواجب معهم؟ أكتب هذه الرسالة وهذه مشكلة البترول قائمة ومنا من يقول يجب إدخال البترول في المعركة ومنعه عن الدول التي تساعد إسرائيل ويقول آخرون لو منعناه انتهت الحضارة ودمرنا العالم وهذا إفساد في الأرض والله لا يحب الفساد ويقول آخرون بل لو منعناه حاربنا الأعداء واستولوا عليه وخسرناه.. الخ وكل هذا يحتاج من علماء المسلمين وإن لم يكن لهم اليوم في تصريف شئون بلادهم شيء يذكر – إلى اجتهاد ومشاركة لأنه من باب(51/15)
النصح للأمة كما قال رسول الله: [الدين النصيحة] ثلاثاً. قلنا: لمن؟ قال: [لله ولرسوله ولكتابه ولأئمة المسلمين وعامتهم] (رواه مسلم).
فمن النصح لعامة المسلمين تقديم النصح لحلول هذه المشكلات الذي لا تصيب واحداً منا فقط بل تقع على الأمة كلها. وهذه المشكلة واحدة من آلاف المشكلات الاقتصادية التي نواجهها الآن وكل هذه المشكلات تحتاج من المسلمين إلى فهم وعلم واجتهاد. وهذا الفهم كما أسلفنا القول مراراً يجب أن يكون في إطار النصوص والقواعد والحق الذي أنزله الله سبحانه وتعالى. وهذا الاجتهاد في هذه الأمور "المعاملات" هو أعظم المتغيرات في هذا الدين. وهو بالطبع متغير يخضع إلى الثابت الذي أنزله الله سبحانه وتعالى وتكلم به رسول الله صلى الله عليه وسلم.
مشكلات تعترض طريقنا
بالرغم من حاجتنا الماسة إلى العلماء المجتهدين العاملين المخلصين وإلى سواد الأمة الذي يخلع ربقة التقليد ويطالب بالدليل ويسير خلف العلماء على بصيرة فيطالبهم بالحجة ويناقشهم الرأي ولا يسير خلفهم كالسائمة. أقول: بالرغم من هذه الحاجة الملحة لتخرج الأمة من سباتها الطويل، وتبعيتها الطويلة للمفسدين في الأرض من حكام السوء الذين أذلوها بسوط الطغيان، وحكموها بشريعة الشيطان، بالرغم من كل ذلك فإن هناك عقبات تقف في طريقنا، وأهم هذه العقبات ما يلي:-(51/16)
أولاً: الانفصال الذي حدث في الأمة بين الحكم والشريعة. فمنذ سقوط الخلافة العثمانية -وإن كانت في آخر أيامها حكماً ظاهرياً بالإسلام- والبلاد الإسلامية تحكم بقوانين وضعية منافية لحكم الله، وبالرغم من أن هذا التبديل لم يمر عليه غير نصف قرن فقط، فإنه قد نشأ جيل جديد من أبناء المسلمين يعادي الإسلام أو على الأقل يجهل شريعته. وهذه الخمسون سنة الأخيرة قد أحدثت آثاراً مدمرة في البشرية جميعاً، فالتحولات الاجتماعية والسياسية والعقائدية سريعة جداً فقد حدث في هذه الحقبة حربان عالميتان اندثرت فيها دول وحضارات وقامت دول أخرى، وتبدلت القوانين والأخلاق والعقائد تبدلاً كاملاً في كل ناحية من نواحي الأرض تقريباً.
ولا يكاد الناس يلاحقون اليوم التحولات السياسية والعقائدية والفكرية، وهذه التحولات بالطبع يتبعها القانون والتشريع فما كان حراماً بالأمس أصبح مباحاً بل مستحباً اليوم والعكس بالعكس، ووسائل التأثير على الناس قد تطورت تطوراً سريعاً فأين "خطبة الجمعة المحدودة" من البث الإذاعي والتلفزيوني، وأين "الكتاب" من المدارس والجامعات التي تنشر المبادئ الجديدة، وأين المخطوطات القليلة التي كانت تتداولها الأيدي من الذي تقذف به المطابع اليوم من ملايين الأطنان من الصحف والكتب والنشرات، وعامة ما تقذف به يهدم العقائد القديمة والأخلاق والشرائع. هذا كله إلى سياسة عليا للدول تسير في اتجاه إلى المادية وصراع على البقاء. هذا العالم الذي نعيش فيه والذي يغير جلده مع مطلع كل شمس، ويغير عقائده ومناهجه وتشريعاته ونظمه وأخلاقه وسياساته كما يغير ألوان الملابس والسيارات أصبح عالماً سمته الأساسية التغيير، وليس نحو الأفضل وإنما التغيير للتغيير فليس هناك وقت للمفاضلة بين الفاضل والأفضل أو بين الجيد والرديء.(51/17)
وعلماء الإسلام يجدون أنفسهم اليوم وسط هذه الدوامة المدمرة وليس في أيديهم من وسائل الاتصال بالناس إلا وسائل إعلامية محدودة كخطبة أو درس في مسجد أو صحيفة محدودة لا يقرؤها إلا نفر يسير، وقد حجب الناس عنهم بتلك الوسائل الإعلامية الضخمة التي يملكها الباطل وتسير في ركاب الشيطان. ثم وهؤلاء العلماء لا يجدون من الأوقات ما يتفرغون به في الرد على الشبهات أو ملاحقة ما يقذفه أهل الباطل من شكوك وظلمات ولذلك تعطلت فاعلة الاجتهاد وقل رجاله بل ندروا، وأصبح المجال مفتوحاً أمام رواد الباطل ومروجي الخرافات.
وهكذا أدى انفصال السياسة والحكم عن الدين إلى إنزواء علماء الشريعة ووضع شأنهم وانشغالهم بتحصيل عيشهم وقوت أولادهم عن النظر في الدين والعلم والحياة. فلا نجد عند أحدهم فرصة لقراءة صحيفة أو متابعة لأخبار الناس وتحولاتهم أو معرفة لعقائدهم وسلوكهم، وبذلك ظهر علماء الشريعة وكأنهم يعيشون في غير عصورهم ويتكلمون مع غير بني جنسهم.
ولو كانت السياسة والحكم تسير في ركاب الدين لكان لعلماء الشريعة شأن آخر، وذلك أنهم سيستشارون ويؤخذ رأيهم في مشكلات الأمة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وسيكون لهم شأن آخر، فسيطلعون على أحوال الناس ويشاركون في توجيههم وإرشادهم، ولكن السياسة أهملتهم بل واحتقرتهم وازدرتهم، فهانوا على الناس ثم هانوا على أنفسهم وانشغلوا بتحصيل العيش. وانصرف الناس عنهم وجمدت بذلك عجلة الاجتهاد وهذه أولى مشكلاتنا ولا حل لها إلا برواد مخلصين من علماء الشريعة يهبطون إلى ميدان الدعوة ويصارعون الباطل بالحق والسياسة المنحرفة بالسياسة الشرعية، وذلك حتى تعلو كلمة الحق على كلمة الباطل، وفي جهادهم هذا وسعيهم هذا سيضطرون إلى الاجتهاد لمعرفة حكم الله في مشكلاتهم الحادثة، وبذلك يروج سوق الشريعة فهماً وعملاً وتطبيقاً واستنباطاً.(51/18)
ثانياً: عندما انفصل الحكم عن الإسلام، وأصبح الحكم دنيوياً جبرياً يسعى أصحابه للبقاء فيه بكل وسيلة، ويسترضون الناس بكل طريق، ويبطشون بأعدائهم في غير رحمة، وكان مع ذلك سواد الشعب مسلمين يحبون الإسلام وإن كانوا يجهلونه فإن كل حاكم عمد إلى استئناس طائفة من أهل العلم بالشريعة فسلمهم مناصب دينية في دولته وسلطهم حرباً على كل داع بحق إلى نهضة إسلامية ترجع الشريعة إلى نصاب الحكم والحاكم إلى ميزان العدل. وعمد هؤلاء المستأنسون إلى حرب الداعين إلى الإسلام بحق فلم يجدوا من فرية يلصقونها بهم إلا أنهم خارجون على إجماع الأمة ومحاربون للأئمة، ومبتدعون بالدعوة إلى الاجتهاد ويزعمون أن الأئمة الأربعة قد كفوا الناس مؤونة الاجتهاد فما من حكم إلا وقد دونوه وتكلموا فيه، وما هذا الداعي إلى الاجتهاد إلا مفتر على الأئمة كاره لهم، وبذلك ثوروا العامة على العلماء المخلصين والدعاة الهادين المهديين، ويكفي عند عامة الناس أن يقال أن فلاناً يكره الأئمة الأربعة أو ينتقص من شأنهم حتى يقوموا في وجهه من غير ترو ولا فهم ويرموه بكل نقيصة، وبذلك ينصرف الناس عن دعوته ويسلم لأهل السياسة ما أرادوا ولعلماء السوء ما وسعوا. والعجب أن الفرية إذا تناقلتها الألسن قد يقع فيها الصالحون من الناس وبغفلة منهم وظن أن العدد الكثير من الناس لا يقع في خطأ وبذلك يعظم تصديق الفرية لرؤية بعض الصالحين يقول بها، وقد يكون قوله بها ما كان إلا غفلة وتهاوناً.(51/19)
المهم أن أصحاب النوايا السيئة لا يعدمون كذباً وافتراء ولا ينفكون عن الرمي بالعقبات التي تحول دون استرداد الأمة لعافيتها التشريعية والإيمانية والعلمية. ولن يكون ذلك إلا بعلماء عاملين مجتهدين، وبعامة واعية تطالب علماءها بالدليل والحجة وتسير خلفهم ببصيرة ووعي وبذلك يضيق الخناق على أهل الباطل وينكشف أهل السوء الذين يلوون ألسنتهم بالكتاب وليس من الكتاب ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله، ويلبسون للناس الحق بالباطل، ويكتمون ما أنزل الله من الكتاب ويعطون لكل ظالم من الحكام ما أراد من فتوى وحكم ملبسين إياه آيات من القرآن وأحاديث من أحاديث سيد الأنام عليه السلام ولا ينكشف هؤلاء الأفاكون إلا بالشعوب الواعية التي تميز بين الحق والباطل والصحيح والزائف، ولا يمكن للأمة والشعب أن يملك هذا التمييز إلا إذا عرف الطريق إلى الكتاب والسنة وكيف يطالب بالدليل وكيف يفهم الدليل، وكيف يكتشف صدق العالم وكذبه، وكيف يميز بين الصادقين المخلصين والكاذبين الزائفين. وبذلك تتخلص الأمة من المنافقين وتتمسك بالمؤمنين ويروج سوق العلم والاتباع ويكسد سوق الجهل والتقليد.
وهذا من أسباب إلحاحنا على الناس في طلب الحق والدليل والتثبت من كل خبر وتمحيصه والرجوع إلى مصادره وناشريه. وبهذا الوعي والفقه ينشأ جيل جديد يتربى على القرآن والسنة ويعرف كيف يرتبط بالدليل والحق لا بالرجال والتقليد، ويعرف كيف يميز بين الكذب والصدق وبين الإشاعة والدعوة وبين التهريج والبناء.
من الأئمة الأربعة؟ وما موقفنا منهم؟(51/20)
بالرغم من أن الإسلام قد شهد آلافاً تلو الآلاف من العلماء العاملين والفقهاء المخلصين وكان هذا جيلاً إثر جيل منذ الصحابة رضوان الله عليهم إلى يومنا هذا لم يمر على الناس زمان إلا وقائم لله على الناس بحجة. أقول: بالرغم من كل هذا فقد اشتهر عند الناس أربعة فقهاء ولد أولهم في أواخر القرن الأول وتوفي آخرهم قبل منتصف القرن الثالث أي أنهم عاشوا جميعاً في حقبة واحدة تبلغ قرناً ونصف، مائة وخمسين عاماً فقط. فما السبب في شهرة الأئمة الأربعة؟ ولماذا انحصر أمر الفقه عند عامة الناس فيهم؟ وما موقف الأمة من هؤلاء الأئمة رحمهم الله ورضي عنهم؟(51/21)
أول هؤلاء الأئمة مولداً هو الإمام النعمان بن ثابت والمكنى بأبي حنيفة رحمه الله. ولد سنة 80 هـ وتوفي سنة 150 هـ ونشأ بالكوفة واشتهر بالفقه والرأي، حاول عمر بن هبيرة أمير العراق أن يوليه القضاء فامتنع، ثم حاول معه أبو جعفر المنصور أن يتسلم القضاء فأبى فحبسه إلى أن توفي في حبسه. رحمه الله ورضي عنه. اكتسب عيشه بتجارة الخز، وأمضى حياته معلماً مرشداً في الكوفة وبغداد، ورزقه الله مجموعة صالحة من التلاميذ والأتباع أخذوا العلم عنه ودونوا ما كتب كان منهم أبو يوسف، ومحمد بن الحسن الشيباني وزفر بن الهذيل وأعظم ما اشتهر به الإمام أبو حنيفة إعمال الرأي والقياس وإقامة الحجة على رأيه وما يذهب إليه حتى ليقول عنه مالك الإمام الثاني: "رأيت رجلاً لو كلمته في هذه السارية أن يجعلها ذهباً لقام بحجته" (وفيات الأعيان (42:5)). والمعنى لو قلت له أثبت أن هذه السارية ذهباً لأتى بحجج يقنعك بها. وهذه مبالغة لوصف إقناعه وقوة حجته. وقال فيه الشافعي أيضاً: "الناس عيال في الفقه على أبي حنيفة" (وفيات الأعيان (35:5))، وكان منهجه في درسه -رحمه الله- أن يجتمع بهم في المسجد ويلقي عليهم المسألة ثم يذهبون للبحث فيها ثم يجتمعون فيدلي كل منهم بدلوه ويقول رأيه، ثم يكر الإمام على آرائهم بالنقد والتعديل أو الإبطال ثم يقول رأيه ويكتب تلاميذه، وكثيراً ما نهاهم عن كتابة كل آرائه حيث يقول لتلميذه أبي يوسف: "ويحك يا يعقوب لا تكتب عني كل ما أقول فإننا بشر نقول القول اليوم ونرجع عنه غداً، ونقول القول غداً ونرجع عنه بعد غد" (ابن عبدالبر في (الانتقاء في فضائل الثلاثة الأئمة الفقهاء)).(51/22)
وقد لجأ الإمام أبو حنيفة إلى استخدام الرأي كثيراً وذلك للنصوص الصحيحة القليلة التي تيسرت لديه، ولذلك سميت مدرسته الفقهية مدرسة الرأي وقد جابهت هذه المدرسة نقداً وهجوماً شديدين من مدرسة النص التي بدأت مع بروز نجم الإمام مالك بن أنس رضي الله عنه. ثم اشتهرت وطبقت الآفاق ببروز نجم الإمام الشافعي رضي الله عنه، ثم بلغت ذروة مكانها على يد الإمام أحمد بن حنبل. وذلك أن الإمام مالك بن أنس جمع الموطأ وقد عده العلماء أصح كتاب بعد القرآن في دقته، ثم تيسر للشافعي الذي درس الموطأ وتتلمذ على مالك نصوصاً أخرى من الحديث الصحيح ثم جمع الإمام أحمد كتابه الفذ المسند وضمنه أربعين ألف حديث فكان وما زال أوسع مرجع جمع السنة وكان لهذا الجمع الأثر البالغ في القضاء على كثير من الآراء التي تبنتها مدرسة الرأي باجتهادها وخالفت فيها الحديث الصحيح.
وبعد هذا الاستطراد في بيان مدرسة الرأي ومدرسة النص نعود للإمام الثاني من الأئمة الأربعة وهو الإمام مالك رحمه الله.(51/23)
ولد مالك سنة 93 هـ وتوفي سنة 179هـ أي بعد وفاة الإمام أبي حنيفة بتسع وعشرين سنة. نشأ مالك في المدينة النبوية محباً للعلم مقدساً للسنة معظماً للنبي صلى الله عليه وسلم، ولم يكد يبلغ عشرين سنة حتى شهد له أهل العلم أنه أهل للفتيا والاجتهاد. جمع مالك الموطأ بإشارة من المنصور العباسي الذي أراد أن يتخذه قانوناً ليجمع الناس عليه فأبى مالك وأخبره أن العلم قد تفرق في الأمصار وهو قد جمع ما صح عنده وبلغه فقط ولذلك أبى حمل الناس عليه. ولم يسلم مالك من مشكلات الحكام فقد وشى به إلى جعفر عم المنصور العباس فضربه سياطاً انخلعت لها كتفه.. وكان يعتمد رحمه الله على الطريقة الإلقائية في درسه ولا يحب أن يقاطعه أحد، وهذا تماماً ضد الطريقة التي اعتمدها الإمام أبو حنيفة، وبالرغم من أنه درس الفقه على شيخه ربيعة بن عبدالرحمن الذي يكثر من الآراء حتى سمي "ربيعة الرأي" فإن مالك كره الرأي حتى أنه يقول وددت لو ضربت بكل رأي أفتيت به سوطاً وأكون في حل يوم القيامة. واشتهر صيت مالك وذاع وأتته الوفود للعلم والاستفتاء من بلاد المغرب والأندلس ودون فقهه تلاميذ مجدون. وكان لكتابه الموطأ أثر بالغ في الرجوع إلى النصوص والعناية بالسنة. ولكنه رحمه الله قدس عمل أهل المدينة ولذلك رد به خبر الواحد الصحيح (اقرأ حول الموضوع رسالة "حديث الآحاد حجة في العقائد والأحكام" لفضيلة شيخنا محمد ناصر الدين الألباني)، وقد خالفه كثير من أهل السنة والحديث لذلك، ورأوا أنه لا فضل لأهل المدينة في العلم على غيرهم ولا يجوز أن يرد فعلهم حديث الرسول صلى الله عليه وسلم الصحيح.(51/24)
وكان من أعظم حسنات وبركات الإمام مالك تلميذه الشافعي رحمه الله، هذا التلميذ الذي حفظ الموطأ وقرأه على مالك وأفتى الناس وهو ابن خمس عشرة سنة ويشهد له مسلم بن خالد بذلك فيقول: "أفت يا أبا عبدالله والله آن لك أن تفتي" (مناقب الشافعي للبيهقي)، وتنقل الشافعي بين مكة والمدينة وبهر الناس بعلمه بالقرآن وبراعته في الفقه وحذقه بالسنة، وحلاوة منطقه وسلامته حيث لم تؤخذ عليه لحنة قط، حتى أن رجلاً كالإمام أحمد يدخل المسجد الحرام فيجلس إليه في درسه فيأتيه محفوظ بن أبي توبة البغدادي فيقول له: يا أبا عبدالله! هذا سفيان بن عيينة في ناحية المسجد يحدث. فيقول له أحمد: إن هذا يفوت وذاك لا يفوت.
وطوف الإمام الشافعي ببلاد العالم الإسلامي، فسافر إلى العراق وناظر تلاميذ الإمام أبي حنيفة كمحمد بن الحسن الشيباني وزفر وذكروا أنهما رجعا عن ثلث مذهب الإمام أبي حنيفة إلى اجتهاد الإمام الشافعي ورأيه. وبذلك تعلم أن الأئمة رحمهم الله وتلامذتهم كانوا طلاب حق لا طلاب تقليد.
وأحب الإمام أحمد بن حنبل قرينه وأستاذه الإمام الشافعي حباً عظيماً ولم يسلما من خلاف في بعض الآراء الفقهية كخلافهم في حكم تارك الصلاة، وحكم العائد في هبته، وتناظرا في مسائل كثيرة واستفاد الإمام الشافعي من صحبة الإمام أحمد كثيراً من الأحاديث الصحيحة، وكان الشافعي يقول له: "أنت أعلم بالحديث مني فما صح عندك فأخبرنا به لنعمل بمقتضاه" (ابن عبدالبر في الانتقاء ص75)، ثم سافر الإمام الشافعي رحمه الله إلى مصر واستقر بها وكان سفره إلى هناك خيراً وبركة للمصريين الذين التفوا حوله وأخذوا عنه.(51/25)
وتوفي رضي الله عنه سنة 204 هـ أي في أوائل القرن الثالث الهجري. ولما بلغ الإمام أحمد خبر وفاته حزن عليه حزناً شديداً وبكاه بكاءً مراً حتى أن ابنه عبدالله يقول له لما رأى من تأثره وبكائه: "يا أبت! أي رجل كان الشافعي؟! فقال: يا بني! كان الشافعي كالشمس للدنيا، والعافية للبدن، فانظر هل لهذين من خلف أو عنهما من عوض" (الوفيات (305:2))، وهذا منتهى الوفاء والإخلاص. ويقول أيضاً الإمام أحمد في صديقه الشافعي وأخيه وأستاذه: "ما عرفت ناسخ الحديث ومنسوخه إلا عندما جالست الشافعي" (الوفيات (305:3))، ويقول: "ما بت منذ ثلاثين سنة إلا وأنا أدعو للشافعي واستغفر له". هذه شهادات عظيمة من الإمام الجليل أحمد بن حنبل للإمام الجليل الشافعي وهي تكفي عن كل شهادة سواها.
ورابع الأئمة من حيث الزمن هو الإمام أحمد بن حنبل الشيباني، ولد في ربيع أول سنة 164 هـ وتوفي ببغداد سنة 241 هـ في ربيع الأول أيضاً يوم جمعة وهو عربي الأب والأم.
بدأ الإمام أحمد بطلب علم الحديث صغيراً، وسمع من شيوخه ببغداد ثم سافر في طلب الحديث إلى الحجاز ثم اليمن وحج مرات ماشياً. وابتدأ في تدوين ما سمع حتى اجتمع له من الحديث شيء كثير جداً واشتهر بين الناس بصلاحه وتقواه، وتعففه وقناعته ونظافة ثيابه ومظهره حتى أصبح مضرب المثل مظهراً ومخبراً وعلماً وبذلك ذاع صيته وانتشر في الآفاق وتمسك في افتائه دائماً بالحديث، ولم يعمل الرأي إلا نادراً بل كان يكره الرأي مطلقاً ويقول: "الحديث الضعيف عندي خير من الرأي" (الوفيات (305:3))، وقال الخلال تلميذ أحمد عنه: "كان أحمد قد كتب كُتب الرأي وحفظها ثم لم يلتفت إليها" (الايقاظ ص117)، ومع ذلك كان أحمد معجباً بالشافعي جداً محباً له كما مر ليس لاشتهاره بالرأي ولكن لفهمه للنصوص، واستنباطه منها.(51/26)
وهذه الدراسة الحديثية الواسعة للإمام أحمد لم تجعله فقط ملماً بأحكام الإسلام العملية وإنما برز في فهم عقائد الإسلام ومسائل الإيمان ولذلك تصدى بالرد لكل انحراف في عصره في العقيدة أو السلوك، فأنكر على رواد الصوفية في عصره الذين بدأوا يتكلمون في الوساوس والخواطر، ورد على الزنادقة، وحارب الجهمية النافين للصفات، ووقف صلباً شامخاً أمام المعتزلة الذين قالوا بخلق القرآن وأرادوا حمل الناس على ذلك بعد إغراء الخليفة المأمون.
وفي هذه الفتنة الأخيرة فتنة خلق القرآن صبر الإمام أحمد مع نفر قليل من إخوانه وتحمل السجن والتعذيب والضرب وناظر رئيس المعتزلة، ابن أبي دؤاد أمام الواثق بالله، وأظهر الله بالإمام أحمد الحق وزهق باطل المعتزلة ولم تقم لهم قائمة بعد هزيمتهم أمامه.
باختصار، أصبح الإمام أحمد إمام أهل السنة والجماعة في وقته بلا منازع وبقي أستاذاً لكل من جاء بعده وكان من بركاته وخيراته أساطين علم الحديث بعده: البخاري ومسلم وأبو داود فهؤلاء تلاميذه ومن أخذوا عنه. وبذلك كان الإمام أحمد أمة وحده وأستاذاً لأهل الحديث ومعلماً لأهل السنة.
وكان يوم وفاته يوماً مشهوداً خرجت بغداد كلها برجالها ونسائها تودعه.(51/27)
هذه لمحة سريعة للأئمة الأربعة رضي الله عنهم ورحمهم تبين لك أنهم جميعاً كانوا أخوة في هذا الدين ملتزمين بالحق قولاً وعملاً. أخذ بعضهم عن بعضهم وناظر بعضهم بعضاً ولم يتعصب أحد منهم لرأيه. وما دعا أحد منهم الناس إلى اتباعه بل جميعهم نهوا تلاميذهم عن تقليدهم وأمروهم باتباع الحق والدليل. كما قال أحمد لتلميذه: "لا تقلدني ولا تقلد مالكاً ولا الأوزاعي ولا الثوري وخذ من حيث أخذوا" (الإيقاظ ص113 وابن القيم في الأعلام (302:2))، يعني الكتاب والسنة. وأقوال الإمام أبي حنيفة في هذا الصدد كثيرة جداً، وكذلك قول الشافعي ومالك . فالأئمة الأربعة جميعهم سلفيون بمعنى السلفية، أي أنهم متمسكون بالدليل باحثون عن الحق غير مقلدين ولا داعين للناس إلى تقليدهم والأخذ عنهم دون فهم وعلم. بل قد حرم الإمام أبو حنيفة أن يفتي أحد بقوله إلا إذا علم دليله حيث يقول: "حرام على من لم يعرف دليلي أن يفتي بقولي".
وبذلك خلف لنا الأئمة الأربعة رضوان الله عليهم تراثاً باهراً من العلم والفقه والاستنباط والأحاديث وأسهموا أيما اسهام في دفع عجلة الفهم لهذا الدين.
ولقد كان السبب في اشتهارهم وحدهم دون كثير من معاصريهم الذين جمعوا علوماً وفقهاً يسامي علوم الأئمة كالأوزاعي والليث بن سعد وأبي ثور وغيرهم أن الله قيض للأئمة الأربعة تلاميذاً مخلصين حفظوا علمهم ودونوه ونشروه. وأما أولئك فقد درس كثير من علومهم وفتاويهم.(51/28)
ولهذه الشهرة في العالم الإسلامي ولمجيء أوقات عصيبة بعد ذلك ضعفت فيها الدولة العباسية وابتدأت حركة التمزيق والانفصال في عهد الخلافة، وبروز الشعوبية والأهواء والنحل وكثرة الفتاوى الباطلة التي يسترضى بها السلاطين والأمراء وقف بعض الناس يريد أن يوقف طوفان الآراء والاجتهادات الباطلة فنادى في الناس أن لا فقه بعد الأئمة الأربعة ولا يجوز لإنسان أن يفتي بخلاف رأيهم ولا أن يخترع جديداً، وظن الذين أطلقوا هذا القول أن الناس سينتهون عن الإفتاء ولكن هيهات فقد عقبت هذه الفتوى وهي القول بقفل باب الاجتهاد وانحصار الفقه في الأئمة الأربعة فقط أضراراً عظيمة نحصرها فيما يلي:-
أولاً: القول بالتقليد وترك البحث عن الدليل، وبذلك تعطل الفقه والفهم وانحصر جهد طلاب العلم في معرفة أقوال إمامهم فقط دون النظر في أدلته ومقارنتها بأدلة الأئمة الآخرين.
ثانياً: التعصب والتنافس بين تلاميذ المذاهب المقلدين، والذي دفعهم إلى الوقيعة والتباغض والتقاتل والتاريخ شاهد بذلك بل وترك الصلاة وراء بعضهم البعض. فقد ترك مقلدوا كل مذهب الصلاة خلف مخالفيهم في المذهب.
ثالثاً: القول بأن الآراء المختلفة والمتناقضة في المسألة الواحدة كلها حق، وهذا أمر يحيله العقل لأن الشيء الواحد إما أن يكون أسود أو أبيض أو حلالاً أو حراماً ولا يمكن أن يكون الشيء الواحد حلالاً وحراماً في وقت واحد ولشخص واحد. أو يكون الشيء الواحد باطلاً وصحيحاً.. وكل هذا أتى من القول بالتقليد الذي استلزم القول بصحة الأقوال والاجتهادات التي صدرت عن الأئمة جميعاً.(51/29)
رابعاً: حرمان الأمة من كثير من الأقوال الصحيحة والنصوص الصحيحة التي خالف الأئمة الأربعة فيها مجتمعين الحديث الصحيح كطلاق الثلاث هل يقع ثلاثاً أو طلاقاً واحداً فبينما يقول الأئمة الأربعة جميعا أنه يقع ثلاثاً وبذلك من قال لامرأته (أنت طالق ثلاثاً) فإنها لا تحل له حتى تنكح زوجاً غيره. مع العلم أن الحديث الصحيح بخلاف ذلك فقد كان الطلاق ثلاثاً يقع واحداً في زمن رسول الله وأبي بكر وصدرا من خلافة عمر. وهذه المسألة أفتى بها الإمام ابن تيمية رحمه الله وكانت السبب في اتهامه بالكفر والردة بناء على أن الدين فقط هو ما قاله الأئمة الأربعة وأنه ليس هناك دين وراء ذلك!
خامساً: حرمان الأمة من البحث والاستنباط في أحكام الوقائع المتجددة. وقد ذكرنا هذا في صدر هذه الرسالة المباركة -إن شاء الله- وبذلك ركد الفهم وبار سوق الاستنباط والعلم بالكتاب والسنة. وسبب هذا في النهاية عزل الشريعة عن حياة الناس والتقنين لهم.
سادساً: اتخاذ التقليد ديناً أدى إلى تشديد النكير على كل من قال بالاجتهاد ووحدة الفقه وأخوة الأذمة ووجوب الأخذ بعلمهم جميعاً الترجيح بين أقوالهم واتهم كل من قال بذلك بمخالفة إجماع الأمة والخروج على جماعتها، والقول بأن يسب الأئمة أو ينتقص مقدارهم ويحط من شأنهم.
سابعاً: ظن الناس أنه يجوز لكل مسلم أن يأخذ رأي إمام ما من الأئمة الأربعة ولو كان النص بخلافة وبذلك ارتكب الكثير من المخالفات.
ثامناً: نشوء ضعف الوازع الديني وذلك بأن المكلف إذا وعظ بالآية وعلم أن هذا كلام الله أو ذكر بالحديث وعلم أن هذا كلام رسول الله كان لهذا شأن عنده بعكس ما لو قيل له هذا رأي الإمام فلان أو الإمام فلان وبذلك نشأ عند كثير من المسلمين ضعف الوازع الديني والذي نشاهده في التحايل على الأمور الشرعية.(51/30)
تاسعاً: نشأة التلفيق وهو الاتجاه إلى جمع الرخص والتسهيلات الموجودة في المذاهب، وبذلك ينشأ التهاون وارتكاب كثير من المخالفات وذلك بتتبع الأقوال التي تناسب هوى كل إنسان من كل مذهب. ولو كان الاحتكام إلى الدليل من الكتاب والسنة لما وجد هذا.
عاشراً: تعظيم الأئمة إلى الحد الذي رفعهم إلى نسبة العصمة لهم وعدم جواز الخطأ عليهم. ولذلك نرى كثيراً من العلماء لا يجرؤ أن يقول أخطأ الإمام في هذه المسألة مع العلم أن يرى النص بخلاف الفتوى. وهذا التعظيم قد يصل ببعض الناس إلى رد الآية المحكمة القاطعة الدلالة، والحديث الصحيح الواضح المعنى خوفاً من مخالفة الإمام وهذا إن لم يكن شركاً بالله فهو ذريعة إلى الشرك وتقديم غير أمر الله على أمر.
هذه أضرار قليلة سردناها سريعاً أصابت الأمة من القول بقفل باب الاجتهاد ووقوف الفقه والاستنباط عند حد الأئمة الأربعة فقط. وثمة أضرار أخرى لا يتسع لها المجال.
ولذلك كان لدعاة السلفية من هذه الدعوى موقف واضح وهو ما يوضحه الفصل الآتي.
السلفيون والأئمة الأربعة
من هذا العرض السريع في الفصل السابق عن تاريخ الأئمة رضوان الله عليهم ومناهجهم وطرقهم في الاستنباط، يتبين أننا نحب الأئمة ونقدرهم ونتبعهم لا كما يتخرص المتخرصون. بل الأئمة رضوان الله عليهم هم سادتنا وهم بعض من سلفنا الصالح المشهود لهم بالخير والفضل، والأئمة الأربعة هم دعاة السلفية الحقيقيون، عنهم أخذت مبادئ السلفية في اتباع النص وترك التقليد، والسلفيون في كل العصور هم أولى الناس باتباع الأئمة واقتفاء آثارهم وفهم أقوالهم، وأسعد الناس حظاً بذلك.(51/31)
وأما المقلدون الذين يزعمون أنهم على مذهبهم فهم أبعد الناس عنهم، لأنهم خالفوا هؤلاء الأئمة في نهيهم عن تقليدهم والإفتاء بآرائهم دون معرفة دليلهم. فهؤلاء المقلدون الذين يزعمون اتباع الأئمة هم أولى الناس بعداوة الأئمة ورفض مناهجهم في التعليم والعمل. ولكن لتعصبهم وضعف عقولهم ووازعهم الديني تاجروا بأقوال الأئمة وتترسوا بهم موهمين الناس أنهم على طريقتهم ومذهبهم وما هم كذلك. لأن كل إمام قال: "إذا خالف كلامي كلام رسول الله فخذوا بكلام رسول الله واضربوا بكلامي عرض الحائط" (الإيقاظ ص:104) ولم يقل أحد منهم بتاتاً: "فضل الله وعلم الشريعة محصور فينا فقط، ولا يأتي واحد بعدنا وليس أحد معاصراً لنا يعلم شيئاً من الشريعة كما نعلم ولذلك يجب على الأمة جميعاً تقليدنا فقط واتباع أقوالنا فقط ولا يجوز لأحد الخروج عن أقوالنا بحال".
أقول: ما قال أحد منهم ذلك ولا أفتي بذلك، بل جميعهم -رضي الله عنهم- كانوا حرباً على التقليد والجمود وكلهم دعاة إلى الاتباع والأخذ بالدليل.
هذه خلاصة توضح الفرق بين الدعوة السلفية وغيرها من الدعوات في قضية الاجتهاد والتقليد، وهذه الدعوة السلفية هي دعوة الإسلام، والتسمية هنا اصطلاحية فقط ودعوة التقليد دعوة غير إسلامية لأنه لا نص عليها من كتاب أو سنة أو قول صاحب للنبي أو قول إمام أو قول عالم يعتد بعلمه أو حتى عقل صحيح يميز بين الحق والباطل والنور والظلام. وإذا كان الأئمة الأربعة أنفسهم هم حرب على التقليد فماذا بقي بعد ذلك؟ وإذا كان الأئمة الأربعة هم أساتذة السلفيين بعدهم وإلى قيام الساعة فماذا بقي بعد ذلك؟! وإذا علمنا في الفصل السابق مضار التقليد وآفاته فهاك هنا منافع وبركات القول بالاتباع والاجتهاد والأخذ بالدليل الذي هو خلاصة السلفية.(51/32)
فبالرغم من أن الاتباع والاجتهاد والأخذ بالدليل شيء قد أمرنا به شرعاً فإن له مع ذلك آثاراً طيبة ومميزات كثيرة وبركات عظيمة على الفرد والأمة. ومن هذه البركات والثمرات ما يلي:
1- المحافظة على وحدة الأمة ونبذ التعصب لبعض الرجال دون البعض الآخر، وبذلك لا يكون هناك مذاهب أربعة أو خمسة، بل مذهب واحد وطريق واحد هو طريق الكتاب والسنة، ويكون الأئمة وغيرهم من العلماء العاملين منارات على هذا الطريق الواحد ودعاة إلى هذا الطريق الواحد، وتكون أقوالهم وآراؤهم مقبولة طالما هي موافقة للنصوص المعصومة من الخطأ، نصوص القرآن والسنة الصحيحة.
2- ربط الأمة بالكتاب والسنة وبذلك يعظم الوازع الديني لأنه شتان بين من يذكر بكلام الله وكلام رسوله ومن يذكر ويوعظ بكلام آخر.
3- بناء الفرد المسلم بناء صحيحاً سليماً وذلك بتعويده طلب الحق، والمطالبة بالدليل. وبذلك يعمل عقله وقلبه ويكون في كل أموره باحثاً عن الحق، لا مقلداً للرجال وبذلك يعظم الحق في عينه ويتعلم كيف يميز بين الأقوال.
4- إذا كان الأصل في معرف الدين هو الدليل والنص والكتاب والسنة راجت سوق العلم بالكتاب والسنة وارتبط الناس بأصول الدين ارتباطاً حقيقياً، وأما إذا كان العكس وارتبط الناس بالأقوال والآراء ضعفت الاستفادة من الكتاب والسنة وأصبحت قراءة القرآن والحديث للبركة فقط لا للعلم والتدبر والفقه وبذلك نخالف كلام ربنا الذي قال: {كتاب أنزلناه إليك ليدبروا آياته وليذكر أولوا الألباب} (ص:29)، فأين من أخذ العلم من الكتاب والسنة وبحث عن الدليل عمن أخذه من الأقوال والآراء المنسوبة للعلماء، وقد تكون النسبة صحيحة وقد تكون النسبة خاطئة؟!
هذه بعض بركات فتح الأبواب إلى الكتاب والسنة والأخذ بالدليل وترك التعصب والتقليد. فهل بعد ذلك يلام الداعي إلى هذا؟ وهل جاء الرسول صلى الله عليه وسلم إلا ليدعونا إلى هذا وهل يستوي من يتبع المعصوم ممن يقلد غير المعصوم؟!(51/33)
وبعد، فهذه عقيدتنا ودعوتنا ليست بدعاً ولا ابتداعاً، وإنما هي دعوة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، وهي دعوة الإسلام، وهي المنهج والطريق الذي سار عليه الصحابة رضوان الله عليهم الذين شهد الله لهم بالخير والفضل ودعوة الأئمة الأربعة وغيرهم من صالحي هذه الأمة الذين أحبتهم الأمة وشهدت بإمامتهم لتقديسهم الحق ودعوتهم إلى الكتاب والسنة ونحن على هذه العقيدة والمنهج بحول الله، نسأل الله أن يحيينا عليهما وأن يميتنا عليهما وأن يثبتنا عليهما حتى نلقاه والله المستعان وعليه التكلان ولا حول ولا قوة إلا به.
***************
*********
****(51/34)
السيل العريض
الجارف لبعض ضلالات الصوفي
عمر بن حفيظ
تأليف
أبي عبد الرحمن يحيى بن علي الحجوري
السيل العريض الجارف لبعض ضلالات الصوفي عمر بن حفيظ
أما بعد :
أصل هذا الرد، أسئلة قدّمت من أهل حضرموت، لمعرفة أقوال عمر بن حفيظ، التي كثر رواجها على عوام الناس في حضرموت وغيرها .
فرأيت واجبًا عليّ الجواب عليها، المتضمن: بيان بعض انحرافات هذا الرجل تبرئة للذمة، ونصحًا للأمة، ? لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ ? [لأنفال:42] .
وبعد تفريغ المادة من الشريط في هذه الرسالة، نظرت فيها، وأذنت بطبعها.
والله أسأل أن يجعلها تبصرة للمستبصرين، وحجة على المعترضين .
وتلبية لقول الله تعالى: ? وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ ? [الأنعام:55] ، نقول :
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد :
فيقول الله عز وجل في كتابه الكريم: ? وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ?
[آل عمران:104].
ويقول سبحانه في كتابه الكريم: ? وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ? [التوبة:71] .(52/1)
وإن عدم إنكار المنكر ضرر عظيم على الفرد والمجتمع، والراعي والراعية، والرجال والنساء، والصغار والكبار، والجن والإنس، فقد ثبت من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه، عند الإمام البخاري رحمه الله أنه قال عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: »مثل القائم في حدود الله والواقع فيها، كمثل قوم استهموا في سفينة، فكان بعضهم أعلاها، وبعضهم في أسفلها« ، فقال الذين في أسفلها: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً ولم نؤذي من فوقنا، فكانوا إذا استقوا من الماء يمرون على من فوقهم، فقالوا لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقًا، ولم نؤ من فوقنا، فلو تركوهم وما أرادوا، هلكوا جميعاً، ولو أخذوا على أيديهم نجو، ونجو جميعا ً« .
وإن المنكر ليتفشى عن طريق علماء السوء، أكثر من غيرهم، وأشد ما تنتشر المنكرات، وتفشو الضلالات، وتشاع الشبهات، عن طريق علماء السوء ودعاة الفتنة، الذين وصفهم الله عز وجل بقوله: ? أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ? [البقرة:75] .
فهذه صفة علماء السوء من بني إسرائيل، ومن صفاتهم الذميمة ما أبانه الله عزوجل بقوله: ? فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ ? [البقرة:79]، ومنها ما أبانه الله عزوجل بقوله: ? فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ ?
[آل عمران:7] .(52/2)
وفي »الصحيحين« من حديث عائشة رضي الله عنها، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: »إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فاعلموا أنهم الذين سمى الله، فاحذروهم« ، فكم لعلماء السوء، ودعاة السوء من الأضرار، وكم يزجون بالمجتمع إلى الشرور والأخطار، سواء في الملل الماضية، أو في هذه الملة، فدعاة السوء غواة ظلمة، قال الله تعالى: ? وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ? [الأعراف: 175-176]، ? مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ? [الجمعة:5] .
إن الناس لا يغترون في دينهم بأكبر مسئول، مثل ما يغترون بإنسان يقول قال الله، قال رسوله، فيلبس على الناس بالأباطيل والأكاذيب، وتراهات الأقاويل تحت ستار قال الله، قال رسوله، والمسلمون لما يعلمون من شرف العلم وأهله، كل من دعاهم إلى ذلك ربما أخذوا عنه، ولو كان نصاباً كذاباً على الله، وعل دينه الحق، لهذا أبان الله ذم من لم يعمل بعلمه، وذم من يضل الناس بغير علم، وحرم القول على الله بلا علم؛ لضررهم المتعدي على العباد، فكل لاعن يلعنهم قال تعالى: ? قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْأِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ ? [الأعراف:33] .(52/3)
وقال تعالى: ? إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ ? الآية: [البقرة:159] .
وقال تعالى: ? فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ? [الأنعام:144] .
وأكثر الناس تقولاً على الله، بالأقاويل الكاذبة، والاستحسانات الفارغة، والأحاديث المكذوبة، والتأويلات الفاسدة، دعاة السوء، ودعاة الفتنة، يجب على كل مسلم أن يحذرهم، وأن يحذّرهم من غش المسلمين .
فقد ثبت في »صحيح مسلم » من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: « من غشنا فليس منا »، وإن من كبار الغشاشين، ورؤوس الدجالين في هذا العصر، لهو ذلك المدعو ( عمر بن حفيظ )، فقد صعد بتلبيساته على الشاشة التلفزيونية، وأضاع كثيراً من الناس، وأضلهم عن الصراط المستقيم، والسكوت على ذلك يعتبر خطأ في حق كل إنسان يستطيع أن ينافح عن دين الله ويقول كلمة الحق، هذا الرجل أفشى المعتقد الباطل من تصوف وتمشعر، وشركيات وبدع، وخرافات، أما يكفي البلاد اليمنية، ما فيها من تلك الإذاعة التي صارت أضحوكة، بل صارت تشيع وتذيع الباطل، ويسمونها ببرنامج ( أولو العلم )، ومن أراد أن يضحك أو يسخر يفتح على برنامج ( أولي العلم )، وهو جدير بأن يمسى: ( برنامج أولي الجهل )، مسخرة، وفتاوى لا تتقيد بكتاب ولا سنة .(52/4)
والله هذه فضائح، ويكمل الفضائح بن حفيظ، في الإذاعة، ويظن الظان في خارج البلاد أن اليمن على هذا الحال، لا وألف لا، اليمن فيها علماء سنة يقولون: قال الله، وقال رسوله، على فهم السلف الصالح رضوان الله عليهم، وإن بلداً يشيد بهؤلاء الضلال، وإن مجتمعاً يسمع لهؤلاء الضلال، لمجتمع نخشى أن يكون أراد الله به سواءً من البدع والضلالات، والله أضر شيء على الإنسان في دينه، الشركيات، والبدع، والخرافات، قال الله تعالى:
? وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ? [الزمر:65]، وقال: ? إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ ? [النساء:48]، وقال تعالى: ? إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ ? [المائدة:72]، وقال تعالى: ? إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ ? [النحل:105] .
ويقول سبحانه: ? إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ ? [الأعراف:152] .
وهنا بعض الأسئلة فيما يتعلق بهذا المنحرف، والأسئلة مأخوذة من أشرطته وكتبه بالنص، وربما احتيج إلى إسماع الناس بصوته، لكن ننزه هذه الحلقة أن تسمعوا فيها تلك الدفوف والرقصات، وسنعزو الأقوال إلى رسائله، وبعض أشرطته إن شاء الله تعالى، ومن شك في ذلك رجع إلى تلك المصادر، ? فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ ? [يونس:32] .(52/5)
- قال ابن حفيظ : في شريط له بعنوان: ( العقيدة الصحيحة ) في الوجه الأول: ( ظهرت علوم وضلالات، وسموم وفتن، وتراهات، ناس كملوا كلامهم على العلماء، ثم تكلموا في حضرة النبوة؛ تكلموا على النبي قالوا: بشر ) .
رد الشيخ حفظه الله: انظر إلى تقليب الحقائق من هذا الرجل، ستسمعون كلامه الباطل، المخالف لكتاب وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وهو يسمي ذلك الباطل
( العقيدة الصحيحة )، وإن تقليب الحقائق من شأن اليهود، قال الله تعالى لهم: ? وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ ? [البقرة:58]، فدخلوا يزحفون على أستاههم، ويقولون: حنطة، وقال تعالى عنهم: ? يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ? [آل عمران:71] .
وإن تقليب الحقائق من شأن الزائغين، قال تعالى: ? فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ ?
[آل عمران:7]، وإن تقليب الحقائق من شأن المرتابين، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - :
« الصدق طمأنينة، والكذب ريبة »، كيف تسمي تلك الأقاويل المكذوبة المنكرة، والجهالات المرتكبة المتكسرة، بالعقيدة الصحيحة، وفيها إنكار صفات الله رب العالمين، والتقول والتخرص على علماء السنة حملة هذا الدين، وفيها أقوال زائغة كما ستمر بنا:
والدعاوى ما لم يقيمو
ليها بينات أهلها أدعياء
?
قال الله تعالى: ? لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ ? [النساء:123] .(52/6)
وقال: ? قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ? [يوسف:108]، أين البصيرة (الدليل) على هذا القول، أنها عقيدة صحيحة، بل الثابت عكس ذلك، أنها عقيدة خربانة، عقيدة مدقدقة، عقيدة شركية وثنية، عقيدة خرافية بدعية .
أناس أصحاب موالد وبدع وخرافات وشركيات، وكان ينصبّ عليه وأمثاله هذا القول أنهم أصحاب نشر هذه السموم والفتن والتراهات، ومن يعني بهذا الكلام؟، ومن هم العلماء الذين تكلم عليهم (بغير حق)؟، فليسمهم؛ من الذي تكلم في حضرة النبوة؟!، فإن هذا الكلام يدل على تكفيرهم، فالذي يطعن في نبي من الأنبياء يكفر، لقول الله تعالى: ? قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ ?
[التوبة:64-65].
وإذا نظرت إلى قوله: (أناس كملوا كلامهم على العلماء)، الرجل مجروح، وما يريد أن تفضح شركياته وخرافاته .
وعلم الجرح أجمع عليه المسلمون، على ما جاء في كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، الجرح والتعديل يتنكر له هذا الرجل وأضرابه، من سائر الزائغين، ما من مجروح إلا ويتنكر لعلم الجرح؛ يريد أن يفشي سمومه بين الناس، ويغش الناس، ويخذل الناس، ويضيع الناس، وما يريد أن يقال: هذا زائغ، لا والله، »الدين النصيحة «، قلنا لمن يا رسول الله، قال: » لله ولكتابه ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم « .
لقد ضل من لا ينصح لدين الله، إن بني إسرائيل أولئك ضرب الله قلوب بعضهم على بعض، ثم مسخهم قردة وخنازير، واقرأ سورة الأعراف:(52/7)
? وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ * وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ * فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ ? [الأعراف: 163-165].
والجرح دل عليه مثل قول الله تعالى: ? تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ ? [المسد: 1-2]، وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: » بئس أخو العشيرة «، هذا جرح أم لا ؟، وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: »إن شر الناس من تركه الناس اتقاء فحشه« ، فكم في القرآن من جرح المشركين والمنافقين، واقرأ سورة المنافقين، و اقرأ آخر سورة النساء، وفي سورة الأحزاب، ? لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلاً * مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً ? [الأحزاب: 60-61]، ? إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ * اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ? [المنافقون: 1-2] .(52/8)
وهكذا قول الله سبحانه وتعالى: ? إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرا ? [النساء:145]، وقول الله سبحانه وتعالى: ? إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلاً * مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً ? [النساء: 142-143] .
كم في القرآن من جرح المنافقين، وجرح الظالمين، قال تعالى: ? وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً ? [طه:111]، وجرح الكاذبين، قال تعالى: ? ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ ?
[آل عمران:61]، وجرح الزائغين، قال تعالى: ? فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ? [الصف:5]، ? رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ ? [آل عمران:8] .
وكم جرح النبي - صلى الله عليه وسلم - الخوارج، فقال عنهم: » كلاب النار، كلاب النار، شر قتلى تحت أديم السماء، وخير قتلى من قتلوا« ، كذا يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -، يسميهم كلاب النار .
وهكذا قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في القدرية: »القدرية مجوس هذه الأمة، إن مرضوا فلا تعودهم، وإن ماتوا فلا تشيعوهم «، وللحديث طرق عند ابن أبي عاصم في السنة وغير ذلك.(52/9)
وأخرج مسلم في « صحيحه » فقال: حَدَّثَنِي أَبُو خَيْثَمَةَ زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ كَهْمَسٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ يَعْمَرَ قَالَ: كَانَ أَوَّلَ مَنْ قَالَ فِي الْقَدَرِ بِالْبَصْرَةِ مَعْبَدٌ الْجُهَنِيُّ، فَانْطَلَقْتُ أَنَا وَحُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحِمْيَرِيُّ حَاجَّيْنِ أَوْ مُعْتَمِرَيْنِ فَقُلْنَا: لَوْ لَقِينَا أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَسَأَلْنَاهُ عَمَّا يَقُولُ هَؤُلَاءِ فِي الْقَدَرِ، فَوُفِّقَ لَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ دَاخِلًا الْمَسْجِدَ، فَاكْتَنَفْتُهُ أَنَا وَصَاحِبِي، أَحَدُنَا عَنْ يَمِينِهِ، وَالْآخَرُ عَنْ شِمَالِهِ، فَظَنَنْتُ أَنَّ صَاحِبِي سَيَكِلُ الْكَلَامَ إِلَيَّ، فَقُلْتُ: أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ إِنَّهُ قَدْ ظَهَرَ قِبَلَنَا نَاسٌ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ وَيَتَقَفَّرُونَ الْعِلْمَ وَذَكَرَ مِنْ شَأْنِهِمْ، وَأَنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنْ لَا قَدَرَ، وَأَنَّ الْأَمْرَ أُنُفٌ، قَالَ: فَإِذَا لَقِيتَ أُولَئِكَ فَأَخْبِرْهُمْ أَنِّي بَرِيءٌ مِنْهُمْ، وَأَنَّهُمْ بُرَآءُ مِنِّي، وَالَّذِي يَحْلِفُ بِهِ عَبْدُاللَّهِ بْنُ عُمَرَ لَوْ أَنَّ لِأَحَدِهِمْ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا فَأَنْفَقَهُ مَا قَبِلَ اللَّهُ مِنْهُ حَتَّى يُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ » .
ففيه: بيان حالهم والبراءة منهم، واقرأ في كتاب » الجرح والتعديل « لابن أبي حاتم، و »ميزان الاعتدال« للذهبي، و» تهذيب الكمال « للحافظ المزي، و» تهذيب التهذيب « للحافظ ابن حجر، و »المجروحين « لابن حبان، وغيرها من كتب الجرح.(52/10)
ونقل النووي في » رياض الصالحين « إجماع المسلمين على وجوب جرح المجروحين، وهكذا الحافظ ابن حجر في » فتح الباري «، والحافظ ابن رجب، كما في » شرح علل الترمذي «، نقل إجماع المسلمين على جرح أهل الباطل، هاتوا عالمًا تكلم فيه أهل السنة بباطل، إن أهل السنة يتكلمون نصيحة للمسلمين، ويتحرون الحق في أقوالهم، تكلموا في جماعة الجهاد بحق، ورجع الناس إلى قولهم، تكلموا في صدام حسين بحق، ورجع الناس إلى قولهم، فانظر الآن صدام وحال صدام الآن.
تكلموا في الخميني، وآل الأمر إلى قولهم، وتكلموا في الرافضة بحق وآل الأمر إلى قولهم، وانظروا الرافضة وما تصنع الآن، تكلموا في الصوفية بحق، والصوفية مفضوحون بشركهم وبدعهم، وسيفضح أمرهم إن شاء الله للناس أكثر، فربنا عزوجل يقول: ? وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ ? [هود:113]، يا أيها المسلمون لا تركنوا إلى الصوفية، والله أنهم خونة، والسلف يقولون: ما ابتدع أحد بدعة إلا استحل السيف، كما في « مقدمة سنن الدارمي » رحمه الله .
- قال ابن حفيظ : في نفس الشريط المتقدم : ( وتكلموا على النبي، قالوا: بشر وإنه قده ميت ) .
رد الشيخ يحيى حفظه الله: كلام أهل السنة: أنه - صلى الله عليه وسلم - بشر، مأخوذ من كلام الله، قال الله تعالى: ? قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ ? [الكهف:110]، وقال تعالى: ? قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ? [لأعراف:188].(52/11)
فأين الطعن في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قالوا بشر؟!، وإذا قالوا: أنه مات؟! أيضًا مأخوذ من كلام الله تعالى، قال الله تعالى: ? إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ ? [الزمر: 30-31] .
وقال: ? وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً ?
[آل عمران:144] .
وقال أبو بكر رضي الله عنه: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، أما الموتة الأولى فقد ذقتها، ولن تذوق بعدها موتة أخرى .
وقال الله تعالى: ? كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ ? [العنكبوت:57]، والرسول - صلى الله عليه وسلم - مما يشمله هذا الدليل .
وقال الله تعالى: ? إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ? [آل عمران:55]، ? كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ ? [آل عمران:185]، وقال: ? وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ ? [الانبياء:34].
- قال عمر بن حفيظ: كما في المصدر السابق : ( يقولون: قده ميت ولا يسمعكم ) .(52/12)
رد الشيخ يحيى حفظه الله: الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد مات، وهذا القرآن، والسنة، والواقع يدل على ذلك، وإن كذبت القرآن فيا ويلك من الكفر، ومن عذاب الله، قال الله تعالى: ? وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكَافِرِينَ ? [العنكبوت:68] .
وقوله: (يقولون: ولا يسمعكم)، قولهم: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لا يسمع دعائهم بعد موته، قلت: هذا دل عليه القرآن، قال الله تعالى: ? وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُور ِ? [فاطر:22]، وفي الحديث المتفق عليه، »إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك« .
وقال الله تعالى: ? فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ ? [الروم:52]، وقال تعالى: ? إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ? [لأعراف:194]، وقال تعالى: ? وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ * وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ ? [الاحقاف:6] .(52/13)
يابن حفيظ , ما عندك إلا الهوى، ولو كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسمع، فتلك القلاقل والفتن التي حصلت في زمن عثمان، ومن بعد عثمان في زمن علي ابن أبي طالب، هل كانوا ينادوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويكلمهم، وانتهت القضية؟!، يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قلت كذا؟ يقول: ما قلت كذا، وافعلوا كذا، واتركوا كذا، ولكن يا أخي هؤلاء ? لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً ? [النساء:78]، هؤلاء عُمي، قال الله تعالى: ? فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ? [الحج:46]، الصوفية عميان البصائر.
- قال عمر بن حفيظ كما في شريط (العقيدة الصحيحة): ( وذلحين قدهم في الرب، يدورون له محل يحطونه فيه؟ ) .
رد الشيخ يحيى حفظه الله: انظروا على كذب، هل يجوز أن يقال هذا الكلام! يدورون له محل يحطونه فيه، هذا كلام استهتار، وكلام ما يليق بالله سبحانه وتعالى، ولكن الصوفي الخبيث معّطل، ما يريد أن يقال الله في السماء، كما قال الله تعالى: ? الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ? [طه:5]، فيعبئ عوام الناس، ويلبس عليهم بهذا الكلام، وأهل السنة، يقولون: الله في السماء، مستو على عرشه، وأدلتهم على ذلك القرآن والسنة وإجماع السلف، قال تعالى: ? وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ ? [الأنعام:18]، وقال عزوجل:
? إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ? [فاطر:10]، وقال:
? أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ ? [الملك:16]، وثبت أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: » ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء« ، وقال الله عزوجل: ? تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ ?[المعارج:4]، وقال:(52/14)
? إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ? [القدر:1]، وثبت من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: « إن الله كتب في كتابه، فهو عنده فوق العرش، إن رحمتي تغلب غضبي «، متفق عليه من حديث أبي هريرة.
وقال الله تعالى: ? سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى ? [الأعلى:1]، وقال: ? وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ ? [البقرة:255]، هذه بعض أدلة أهل السنة عل هذه العقيدة الصحيحة، أما كلام ابن حفيظ فمثل سوالف العجائز، وليس عند من خالف أهل السنة إلا الهوى والجهالات، والبدع والضلالات، الذين خالفوهم في هذه المسألة، الجاهليون أهدى سبيلاً فيها منهم؛ فقد نقل الإمام ابن القيم رحمه الله، في كتابه « اجتماع الجيوش الإسلامية » أقولًا للشعراء القدامى، وأنهم كانوا يثبتون علوا الله على عرشه، ومما نقل في كتب النحو أن جاهلياً أتى إلى امرأته وقد زنت بعد أن سافر سفراً طويلاً، فقال:
لتقعدن مني مقعد القصي
??
أو تحلفي بربك العلي ... يا ذا القاذورة المقليِّ
?أني أبو ذيالك الصبيِّ
?
جاهلي يقول هذا، ومن تلك الأشعار:
وأن العرش فوق الماء طا
فوق العرش رب العالمين
?
فعلو الله ثابت له سبحانه، بأدلة القرآن والسنة، وتقر بذلك كل فطرة سليمة، فإن الداعي لله عزوجل يرفع يديه إلى السماء، والساجد يقول: سبحان ربي الأعلى، واستواؤه ثابت، وفوقيته ثابتة، علو ذات، وعلو صفات .
مساكين عوام الناس، ظلمهم هؤلاء الضلال، غشوهم، خدعوهم، يا أيها العامة، لو أن إنسانًا غشك في كيلو من العسل، أو غشك في كيلو من الطماط، والله تعتبره غشاشاً، فكيف بمن يغشك في عقيدة، عمر بن حفيظ وأمثاله من الصوفية غشاشون، يقررون على الناس الأقاويل الباطلة، والمعتقدات الباطلة، والإنسان إذا مات على عقيدة فاسدة، مات على ضلالة .
- قال عمر بن حفيظ : كما في المصدر السابق: ( ويشبهونه بالخلق، ويقسمونه، معاد دروا يصلحون له وجه ) .(52/15)
رد الشيخ يحيى حفظه الله: هذا هو وجه التشبيه عند هذا الرجل، أن أهل السنة يثبتون لله الوجه، والوجه ثابت لله عزوجل في القرآن، واقرأ قوله سبحانه: ? إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى ? [الليل:20]، وقوله تعالى:
? وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ ? [الرحمن:27]، وقول الله تعالى: ?إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ ? [الانسان:9]، وقوله تعالى: ? وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ? [الكهف:28].
وحديث سعد بن أبي وقاص في الصحيحين، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: »إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا ازددت بها درجة «، وفي حديث الثلاثة أصحاب الغار المتفق عليه، من حديث ابن عمر، وأحدهم يقول: » اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة «.
عشر آيات في القرآن، كلها تثبت صفة الوجه لله سبحانه وتعالى، كما يليق بجلاله، ? لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ? [الشورى:11] .
وهذا الرجل يعطّل هذه الأدلة، وينفي عن الله عزوجل ما أثبته لنفسه، وأثبته له أعلم الخلق به رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وما أحسن ما قاله نعيم بن حماد: من شبه الله بخلقه كفر، ومن عطل الله عن صفاته كفر، ( نخشى عليك أن ينطبق عليك هذا الحكم )، قال: وليس فيما وصف الله به نفسه تشبيه . اه .
هذا كلام نعيم بن حماد، وعليه أهل العلم، بالسنة أن تشبيه الله بخلقه كفر، وهم الذين أفتوا بقتل داود الجواربي المشبه، لما شبه الله بخلقه، أفتى ابن لهيعة، وجماعة كثيرون من أهل الحديث والسنة، بقتل داود الجواربي .(52/16)
وهم الذين ردوا على المشبهة كمقاتل بن سليمان، وأمثاله، وعلى المعطلة من أمثالكم، تعطلون الله عن صفاته سبحانه وتعالى، ولا تثبتون صفاته كما أبان الله في كتابه، أنتم معطلة ضلال، عطلتم الله عن صفاته، وقلتم على الله بغير علم، والله عزوجل يقول: ? قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْأِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ ? [لأعراف:33] .
- قال عمر بن حفيظ: كما في المصدر السابق: ( معاد دروا يصلحوا له يد أو يدين ) .
رد الشيخ يحيى حفظه الله: كلامه مثل كلام بعض عجائز حضرموت، أنت الآن تعتبر نفسك عالماً، أما تخجل من هذا الكلام؟!، مثل كلام عجائز بلدكم، ولا تعلم هذه العلوم اليسيرة، التي هي في كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -.
أين أنت من قول الله عزوجل: ? وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ ? [المائدة:64]، وقال: ? مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ ? [صّ:75]، ومعنى ذلك: أن ابن حفيظ مشاق لله عزوجل؛ فالله سبحانه يثبت لنفسه اليدين، وابن حفيظ ينفيها، وربنا سبحانه وتعالى يقول: ? وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً ? [النساء:115]، فأنت يا ابن حفيظ تعرض نفسك، وتعرض من خدعتهم بهذا المعتقد الفاسد، لهذا الوعيد، فاتق الله، ما عذرك أمام الله عزوجل؛ في ردك القرآن وصحيح السنة .(52/17)
منها حديث: أبي موسى رضي الله عنه » إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل «، أخرجه مسلم .
وقد ضل من قال: يده نعمته بالليل والنهار يبسطها، ونِعم الله تترى، وتتوالى، قال الله تعالى: ? وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا ? [النحل:18]، وقال تعالى: ? نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنَا كَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ ? [القمر:35]، وقال: ? وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ? [النحل:53]، وهؤلاء المعطلة يحصرونها في نعمتين فقط، ولا يقول ذلك من يفهم نصوص الوحي، فتأويل هذه الأدلة أن اليد بمعنى النعمة، مع أنه مخالف لأدلة الكتاب والسنة، أيضًا: لا يستساغ.
- قال عمر بن حفيظ: في المصدر السابق: ( وإلا أيادي كثير، وإلا عينين، وإلا أعين كثيرة ) .
رد الشيخ يحيى حفظه الله: هذا كذب بطالٍ، وتلبيس دجالٍ، يُظهر أن أهل السنة يتأرجحون، أتحداه يثبت عن أهل السنة ذلك، بل جميع أهل السنة في أقطار العالم، من لدن الصحابة إلى هذا الزمن، وهم يثبتون لله عز وجل صفة اليدين، ويثبتون لله صفة العينين، وجميع الصفات الثابتة لله عزوجل بغير تردد، ولا تأرجح، ففي «الصحيحين» من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: » إن الدجال أعور، وإن ربكم ليس بأعور «، وقد جاء الحديث صريحاً بإثبات العينين في كتاب « الرؤية » للدارقطني، وإن كان ما في « الصحيحين » أصح، وعلى ذلك إجماع سلف المسلمين .
- قال عمر بن حفيظ : في المصدر السابق: ( وتلخبطوا بالآيات والأحاديث ) .(52/18)
رد الشيخ يحيى حفظه الله: وهذا كذب واضح، وجهل فاضح، الصوفية هم المتخبطون، والملبسون، ووالله ما يتخبط أهل السنة على ممر التاريخ، والواقع يشهد بذلك، أن أهل السنة سائرون على كتاب وسنة، في الزمن القديم، والحديث، وهم ثابتون على كتاب الله، وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، ومنهج الصحابة، ومن تبعهم بإحسان، في توحيد الربوبية، والألوهية والأسماء والصفات، فتجد الذي في المشرق والذي في المغرب، والذي قبل ألف سنة، والذي يعيش الآن، قولهم في ذلك واحد، مأخوذ من الوحيين، وهذا القول من هذا المتهوك طعن في السلف أنهم يتخبطون، فهو يتهم أتباع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أبو بكر الصديق ومن دونه بالتخبط، فهذا معتقد الصحابة والتابعين، وتابعيهم، اقرأ كتاب « أصول السنة » للالكائي، هل تراهم يتخبطون، اقرأ كتاب « الشريعة » للآجري، اقرأ كتاب « السنة » للبربهاري، اقرأ كتاب «السنة» لمحمد بن نصر المروزي، اقرأ كتاب التوحيد من « صحيح البخاري »، وأقرأ « التوحيد » لابن خزيمة، و « التوحيد » لابن مندة، و
« الواسطية » و « الحموية » لشيخ الإسلام ابن تيمية، وغير ذلك من دواوين السنة، هل ترى فيها شيئًا من التخبط في علم الكلام؟، كما يتخبط الصوفية، فالصوفية لا يستفيدون من قرآن ولا من سنة، يقرءون « صحيح البخاري » وفيه: ( كتاب التوحيد )، ويثبت الأسماء والصفات فيها، ولا يستفيدون من ذلك، فهذا هو التخبط الذي هم فيه، ومن عجيب القول، أنهم يثبتون لله سبع صفات، مجموعة في قول بعضهم:
حي مريد قادر علا
ه السمع والبصر والكلام
?
كيف تثبتون سبع صفات، وما تثبتون نظيرها التي دلت عليها الأدلة، هذا تحكم في القرآن، وتحكم في الأدلة، إن الذي أثبت هذه الصفات، هو الذي أثبت صفات أخرى، إن الذي أثبت هذه الصفات هو أثبت لنفسه الأسماء، فإذاً أنتم أصحاب أهواء، وأنتم حقًا الذين تتخبطون في الأدلة، وما ذكرناه دليل على ذلك .(52/19)
- قال عمر بن حفيظ : في المصدر السابق: ( وخبطوا بها عقول المؤمنين ) ؟
رد الشيخ يحيى حفظه الله: أبعد تخليطكم هذا للناس تخليط وتخبيط، تارة تجعلونهم ينكرون الصفات، وتارة تعلمونهم البدع والشركيات، فهذا شأن المبطلين، أنهم يقلبون الحقائق، ففرعون يقول: ? ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ ? [غافر:26]، فهو يزعم أنه خائف من أن يظهر موسى الفساد، ويقول: ? مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ ? [غافر:29]، وما أشبه دعواكم هذه بدعوى فرعون، والمشركون أيضاً يقولون: أنحن أهدى أم محمد، هذا الصنبور المنبتر؟ نحن سقاة الحجيج، ونحن نقري الضيف، ونحن نفعل ونفعل، فقال لهم كعب بن الأشرف: أنتم خيرٌ وأهدى سبيلاً، فأنزل الله عز وجل: ? أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً ?
[النساء:51-52]، وأنزل: ? إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ * فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ * إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ ? [الكوثر: 1-3] .
هذه دعاوى فرعون، ودعاوى المشركين، ودعاوى كل مبطل، وقد أخبر الله عن فرعون هذا المدعي أنه ما تقره نفسه على ذلك، قال تعالى:
? وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ ? [النمل:14] .
كفى غشاً للمجتمع، حرام الغش، حرام الظلم، حرام تقليب الحقائق، إن كنتم تعقلون، فهل بقي عندكم خوف من الله؟ .(52/20)
- قال عمر بن حفيظ : في المصدر السابق: (خبطوا بها عقول المؤمنين أهل التوحيد، أهل اليقين، شوفوه حال في مكان من الأماكن ) .
رد الشيخ يحيى حفظه الله: هل أهل السنة يقولون: شوفوه حال في مكان؟! سبحانك هذا بهتان عظيم، وإنما الحلولية منكم أنتم أصحاب الحلاج الذي يقول: ( أنا الله بلا شك، فسبحانك سبحاني، فتوحيدك توحيدي، وعصيانك عصياني )، من الحلولية نحن أم أنتم؟ نعم وابن عربي منكم الذي يقول: ( ما في الجبة إلا الله )، ويقول: ( العبد رب، والرب عبد، ياليت شعري من المكلّف ) يعتقد أنه رب، وهكذا ابن سبعين الذي يقول وهو يسمع الكلب ينبح: ( سبحانك يا رب العالمين ) .
وهكذا أبو يزيد البسطامي منكم الذي يقول: ( سبحاني، سبحاني، ما أعظم شأني، الجنة لعبة صبياني ) .
من الذي رد على الحلولية إلا أهل السنة، القول بالحلول كفر، الذي يعتقد أن الله حالٌّ في البشر، كافر أكفر من اليهود والنصارى، والذي يعتقد أن الله متحد في البشر أو في المخلوقات كذلك كافر، أكفر من اليهود والنصارى كما أبان ذلك شيخ الإسلام رحمه الله، وغيره من أهل العلم، أن الحلولية كفار؛ فإن الاتحادية يعتقدون: أن المرأة هي الله، الذي يأتي أهله ماذا يأتي، وأن الحمار هو الله، وأن الذي يركب الحمار ماذا يركب، وأن المزابل هي الله، أو أن الله حالٌ في الأماكن القذرة، نسأل الله السلامة، هذا قول الكفرة، هذا قول كفر، ولا النصارى يعتقدون هذه العقيدة، ? وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ? [التوبة:30] .
فالصوفية في هذا الباب كفرهم أشد كفراً من اليهود والنصارى، لأن النصارى يعتقدون أن الله حال في المسيح، أما الصوفية فجعلوه حالًا في كل شيء .
- قال عمر بن حفيظ: كما في المصدر السابق: ( وأنتم تعرفون ما جاء عليه وضع اللغة العربية في استعمال هذه المعاني، لا جسمية ولا خيالية؟ ) .(52/21)
رد الشيخ يحيى حفظه الله: هذا كلام محدث، كلام لا دليل عليه من كتاب ولا سنة، يجب الإعراض عنه، والبعد عنه، وإثبات ما أثبته الله لنفسه، وما أثبته له رسوله - صلى الله عليه وسلم -، ? وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً ? [الاسراء:36]، فالله أعلم بنفسه، ورسوله - صلى الله عليه وسلم - يعلم عن الله بالوحي، هذا كلام الفلاسفة، وهذا كلام الذين يقول فيهم الشافعي: " حكمي فيهم أن يطاف بهم بين العشائر والقبائل ويضربون بالجريد والنعال،ويقال: هذا جزاء من أعرض عن كلام الله " .
- قال عمر بن حفيظ: في المصدر السابق: ( ولا تتخيل بعقل الناس، ثم قال: ما هو بلحم ولا عظم، ولا دم، من اعتقد عظم أو لحم، أو دم أو أي جسم في الرب فهو عابد صنم ؟ ) .
رد الشيخ يحيى حفظه الله: وهذا التفسير الذي يقوله، هذه عقيدة المبتدعة، عقيدتهم.... ليس بكذا، ولا بكذا، ولا بكذا، وهذا مبتدع، يقول شيخ الإسلام رحمه الله: القرآن جاء بإثبات مفصل، وبنفي مجمل.
إثبات مفصل، سميع، بصير، عليم، حكيم، أثبت الله لنفسه الأسماء والصفات بالتفصيل، وقال عن النفي: ? لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ? [الشورى:11]، ? لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ ? [الإخلاص:3-4] وما ادعاه المشركون من النقائص لله عزوجل نفاه سبحانه وتعالى عن نفسه، فهذا الذي جاء به القرآن، وفعلهم هذا خلاف القرآن، وخلاف السنة، وخلاف فعل الصحابة، ومن بعدهم رضوان الله عليهم .
- قال عمر بن حفيظ: في المصدر السابق: ( وعادهم سموا أنفسهم أهل التوحيد، توحدون صنم، أو توحدون جسم؟ ) .(52/22)
رد الشيخ يحيى حفظه الله: التوحيد هو إفراد الله بالعبادة، ونحن نفرد الله بالعبادة، ولسنا مثلكم؛ نشرك معه مخلوقًا من خلقه، فصنيعكم هو عين صنيع مشركي قريش، وقد قال الله تعالى: ? قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً ? [الكهف:103-104]، فأنتم تدعون غير الله، وإليك من الأدلة ما يبين وجه الشبة بين شرككم، وشرك أبي جهل وقومه، والله يقول: ? وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ ? [المؤمنون:117].
ويقول: ? وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ * وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ ? [الاحقاف:5-6] .
ويقول: ? يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ ? [الحج:73] .
ويقول سبحانه: ? لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ ? [الرعد:14] .(52/23)
دعاء غير الله كفر، وهم يدعون غير الله، وينذرون ويبحون لغير الله، والله سبحانه وتعالى يقول: ? إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ * فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ ? [الكوثر:1-2]، ويقول تعالى: ? قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ ? [الأنعام:162-163] .
يذبحون لغير الله، والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: »لعن الله من ذبح لغير الله« ، أخرجه مسلم، من حديث علي رضي الله عنه، ويقول الله تعالى في كتابه الكريم: ? رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ? [آل عمران:35] .
فكل البلاوي عندهم، من نذر لغير الله، ومن دعاء لغير الله، وأكل أتربة القبور، ويتوسلون بهم، ويطلبون منهم المدد، أي توحيد عندكم؟!، الشيطان يقر بتوحيد الربوبية، وأنتم تشركون في الربوبية، وتعتقدون أن الكون يتصرف فيه الولي، كما بيناه في: « الأدلة الزكية في بيان أقوال الجفري الشركية » .
- قال عمر بن حفيظ: في نفس المصدر السابق: ( شيء عندكم رب ثاني تقفلون عليه في مكان، يا بلا عقول ) .
رد الشيخ يحيى حفظه الله: سبحان الله!، من الذي يعتقد إن الله حالٌّ في كل شيء؟!، فالذي يعتقد أنه حال فيه، فإنه إذا قفل على نفسه في مكان، فهو يعتقد أنه أقفل على الله، وأن الله حال في المرأة، كلام لا يستطيع الإنسان أن يتكلم به إلا من باب البيان، أليست هذه عقيدة الصوفية؟.
الرجل من خذلانه يرد على نفسه بنفسه، وأن الذين يقولون هذا القول، بلا عقول، وهذا صحيح، وقد حكم بذلك الشافعي رحمه الله، على الصوفية، كما ثبت في « صفوة الصفوة » لابن الجوزي، أنه قال: " ما تصوف أحد أول النهار، إلا جاء وسط النهار وهو أبله " .(52/24)
- قال عمر بن حفيظ: كما في الشريط السابق: ( هو يحمل السماء والأرض، ويحمل كل شيء، يسع كل شيء ولا يسعه شيء ) .
رد الشيخ يحيى حفظه الله: أهل العلم يقولون: »قيوم السموات والأرض« ، أي يقيمها، أما كلمة ( يحملها )، من يستجيز هذا القول، أنه يحملها؟، فالتعبير الصحيح المؤيد بالأدلة أن يقال: يقبضها ويمسكها، ويقيمها، قال تعالى: ? وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ? [الزمر:67] وقال: ? إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا ? [فاطر:41] وقال تعالى: ? اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ? [البقرة:255]، أي قيوم السموات والأرض، وفي حديث ابن عباس، عند البخاري ومسلم، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:
» أنت قيوم السموات والأرض ومن فيهن «، أما يحملها فبأي دليل هذا الكلام؟، فهذا كلام باطل؛ فيه تنقصات لله سبحانه وتعالى .
- قال عمر بن حفيظ : كما في الشريط السابق: ( ? يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ ? [الفتح:10]، قولوا لهم: هم كانوا عند العرش، أو في الأرض، أيش العقول القاصرة الفارغة ) .
رد الشيخ يحيى حفظه الله: المسائل تثبت بالدليل، وهذه عقيدة فيها كتاب وسنة، ولا دخل للعقول فيها، قال الله تعالى: ? فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ ? [المرسلات:50]، وقال تعالى: ? أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ ? [العنكبوت:51]، ومن أعظم ما أنزل على العباد وما تعبدهم به هو معرفة صفات الله، ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: » إن لله تسعة وتسعين اسماً من أحصاها دخل الجنة «، وكل اسم يتضمن صفة، أما كلامك هذا فكلام بلداء، وكلام أصحاب الإعراض عن ذكر الله عزوجل، الكلام الذي يعتمد على أدلة هو الحق، والمحاجة تكون ببراهين، لا بالسفاسف والهذيان .(52/25)
- قال عمر بن حفيظ: كما في الشريط السابق: ( أتى قوم يقولون: تفكر في ذات الله ) .
رد الشيخ يحيى حفظه الله: الصوفية وسائر أهل البدع محروقون من أهل السنة، جزاكم الله خيراً يا أهل السنة، وقوله: ( أتى قوم )، أهل السنة من الصحابة ومن بعدهم هم الأصل الأصيل الذين أوصلوا هذا الدين إلى الناس، وإنما البدعة والمحدثة الذين أتوا في الآونة المتأخرة هم الصوفية، فهي ما حدثت إلا بعد القرون المفضلة، كما أبانه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وغيره من المؤرخين، وأئمة الإسلام، وبهذا تعلم من الذي أتى الناس بفكر محدث، بعض الأجداد الماضين خلقوا قبل حدوثه، وأتحدى ابن حفيظ أو غيره أن يثبت أن صحابيًا أو أحد أئمة التابعين كان صوفيًا، ويبرز برهانه الصحيح على ذلك، أما السلفيون فإمامهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو القائل لفاطمة رضي الله عنها: « نعم السلف أنا لك » كما في البخاري (7/30) ومسلم (2403)، فأتباع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأتباع رجال السلف، هم الذين أتوا على هذه الأصناف الضليلة، العابثة بالإسلام وشعائره، ومبادئه، الصوفية خوالف الرهابين؛ الذين صيروا المساجد عبارة عن مراقص، يتراقصون ويتمايلون فيها، والذين اتفقوا واندمجوا مع الاحتلال البريطاني، في المناطق الجنوبية، وشيدت بريطانيا لهم الأضرحة، واتفقوا واندمجوا مع الحزب الشيوعي في جنوب اليمن، ومنعت الشيوعية من الاعتداء عل مزارات الصوفية، واتفقوا مع فرنسا، لما دخلوا الجزائر، وجعلت فرنسا قطارات خاصة، تحمل الناس إلى مزارات الصوفية، وهذه حقائق يعرفها عموم أهل البلد، وأخبرنا من هو مغترب في أمريكا هذه الأيام، وهو الأخ: أحمد الشعيبي، أن أحد مستشاري بوش في البيت الأبيض صوفي، فأنتم أناس خدم لكل فكر دخيل على الإسلام والمسلمين .
جزى الله أهل السنة خيرًا .
مِنَ الدينِ كشفُ الستر عن كل كاذب
??(52/26)
فلو لا رجال مؤمنون لهدمت ... وعن كل بدعي أتى بالعجائبِ
?صوامع دين الله من كل جانبِ
?
هذا كتاب الله، وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، هو الحق، الذي به قامت السموات والأرض، قال تعالى: ? وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ ? [صّ:27] وقال تعالى:
? وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ ? [الانبياء:16] .
هذا الحق الذي تعبدنا الله وتعبد جميع المسلمين به، ? وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً ? [الإسراء:81].
- قال عمر بن حفيظ: كما في الشريط السابق: ( وهذه السنة لا مشى فيها رسول الله، ولا أصحابه من بعده، ولا التابعون بإحسان، يمسكون العيال الصغار يجئون يقولون: أين الله؟ أين الله ) .
رد الشيخ يحيى حفظه الله: ? إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ ? [النحل:105]، فهل القرآن ورسول الله والصحابة ما أثبتوا الصفات؟، فما معنى قول الله تعالى: ? وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا ? [لأعراف:180]، وما معنى قوله تعالى: ? وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى ? [الروم:27] أي الوصف الأعلى، هل القرآن ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - والصحابة ما أثبتوا علو الله على عرشه؟، فما معنى قول الله تعالى:
? الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ? [طه:5]، وقوله: ? أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ ? [الملك:16]، وقوله: ? وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ ? [الأنعام:18]، وقوله: ? سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى ? [الأعلى:1] .(52/27)
وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - « إن الله كتب في كتابه، فهو عنده فوق العرش »، متفق عليه، من حديث أبي هريرة، وهكذا القول في سائر الأسماء والصفات، وقد امتلأت كتب السنة بذلك بما لا يخفى على مسلم، بصره الله بالحق، فما هذا الكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟!، وهو القائل: « من كذب علي، فليتبوأ مقعده من النار »، متفق عليه، وما هذا الكذب على الصحابة والتابعين؟، وقد زفرت دواوين الإسلام بتقريرهم ذلك، وقد أشرنا إلى جملة من كتبهم فيما مضى، وصدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: « إذا لم تستح، فاصنع ما شئت ».
ولا يجوز وصف رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأصحابه ومن سلك مسلكهم بأنهم صغار.
فالصغار والأراذل، هم أهل البدع، من أمثالك كما ثبت ذلك في حديث أنس بن مالك رضي الله عنه، قال عليه الصلاة والسلام، يا رسول الله، متى ندع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ قال: »إذا كان الملك في صغاركم، والعلم في رذالتكم، والفاحشة في كباركم« ، قال زيد بن يحيى: الرذالة: هم علماء السوء .
وأما علماء السنة، فإنهم هم الذين ينطبق عليهم قول الله سبحانه وتعالى: ? شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ? [آل عمران:18]،
ويقول ابن الأمير كما في كتاب » توضيح الأفكار «: كل حديث جاء في شرف أهل العلم، فيُعنى بذلك أهل الحديث .(52/28)
وأما الصوفية فأصحاب أهواء تتجارى بهم الأهواء، كما يتجارى الكلب بصاحبه، والهوى يعمي ويصم، كما قال الله سبحانه وتعالى: ? حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفاً أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ ? [محمد:16]، والهوى بسببه قتل الأنبياء، قال تعالى: ? كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُوا وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ ?[المائدة:70]، والهوى يجعل الإنسان أضل الأنعام، قال تعالى:(52/29)
? وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ? [الأعراف:176]، وقال: ? أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً ? [الفرقان:44]، وإليكم نص سؤال النبي - صلى الله عليه وسلم - للجارية، أين الله؟ وشهادته لها بالإيمان، في « صحيح مسلم » رقم: (537)، في كتاب الصلاة، ( باب: تحريم الكلام في الصلاة، ونسخ ما كان من إباحته )، عن معاوية بن الحكم السلمي رضي الله عنه، قال: [ بينا أنا أصلي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، إذ عطس رجل من القوم، فقلت: يرحمك الله، فرماني القوم بأبصارهم، فقلت: واثكل أمياه ما شأنكم تنظرون إلي؟ فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم، فلما رأيتهم يصمتونني لكني سكت، فلما صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فبأبي هو وأمي ما رأيت معلمًا قبله ولا بعده أحسن تعليما منه؛ فوالله ما كهرني، ولا ضربني، ولا شتمني قال: « إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن »، أو كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قلت: يا رسول الله إني حديث عهد بجاهلية وقد جاء الله بالإسلام، وإن منا رجالًا يأتون الكهان قال: « فلا تأتهم »، قال: ومنا رجال يتطيرون، قال: « ذاك شيء يجدونه في صدورهم فلا يصدنهم » ( قال ابن الصباح: فلا يصدنكم ) قال: قلت: ومنا رجال يخطون، قال: « كان نبي من الأنبياء يخط، فمن وافق خطه فذاك » قال: وكانت لي جارية ترعى غنمًا لي قبل أحد والجوانية، فاطلعت ذات يوم فإذا الذئب قد ذهب بشاة من غنمها، وأنا رجل من بني آدم؛ آسف كما يأسفون، لكني صككتها صكة، فأتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فعظم ذلك علي، قلت: يا رسول الله أفلا أعتقها؟ قال: « ائتني بها » فأتيته بها فقال لها: « أين الله؟ » قالت: في(52/30)
السماء، قال: « من
أنا؟ » قالت: أنت رسول الله، قال: « أعتقها فإنها مؤمنة »
وابن حفيظ يتنقص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من حيث يشعر أو لا يشعر، ويعتبره من الأصاغر، مع ملاحظة أن ابن حفيظ ذكر هذا الحديث نفسه، في سياق كلامه، فقوله: ( الأصاغر ) يتناول به مبدئيًا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لأنه هو القائل ذلك للجارية، ولما قالت: في السماء، أقرها على هذا القول، ولم يقل لها أخطأتِ، ولا يقر باطلاً - صلى الله عليه وسلم -، أولئك الذين قالوا: اجعل لنا ذات أنواط، قال: » الله أكبر، إنها السنن، قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى: أجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة، قال: إنكم قوم تجهلون »، أنكر عليهم، الحديث أخرجه أحمد في «المسند»، والترمذي وغيرهما، من حديث أبي واقد الليثي رضي الله عنه .
بل رأى رجلاً بيده خاتماً من ذهب، قال: »أنزعه، يعمد أحدكم إلى جمرة فيضعها في يده« .
قالت: في السماء، قال: » من أنا؟« ، قالت: أنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: »
أعتقها فإنها مؤمنة« ، أثبت لها الإيمان بما قالت، وأن هذا من الإيمان، والصوفية يتنكرون لمسائل من الإيمان، فأي انحراف أشد من هذا؟!، أن تردوا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وتصفون قوله بأنه قول أصاغر!.
- قال عمر بن حفيظ: كما في الشريط السابق: ( إن الخلفاء الأربعة والحسين وزين العابدين، والحسن البصري، وسائر التابعين ما مشوا، وتابع التابعين ما مشوا ) .(52/31)
رد الشيخ يحيى حفظه الله: نسأل الله السلامة من هذا الكذب المفضوح، قال الله تعالى: ? قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ? [النمل:64]، وقال تعالى: ? قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ ? [الأنعام:148]، وقال: ? وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ? [التوبة:42]، وقال تعالى: ? إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ ? [النحل:105].
ولكي تعلم كذب هذا الرجل، فاقرأ هذا الفصل من « اجتماع الجيوش الإسلامية على غزو المعطلة الجهمية » للإمام ابن القيم رحمه الله، (ص:62) ط:دار الكتب العلمية، قال رحمه الله :
( فصل فيما حفظ عن رسول الله والتابعين والأئمة الأربعة وغيرهم من ذلك )
* قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه :
قال أبو بكر بن أبي شيبة : حدثنا محمد بن فضيل، عن أبيه، عن نافع، عن ابن عمر، قال: لما قبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال أبو بكر رضي الله عنه: أيها الناس إن كان محمد إلهكم الذي تعبدونه فإن إلهكم قد مات، وإن كان إلهكم الله الذي في السماء فإن إلهكم لم يمت، ثم تلا ? وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ ? [آل عمران:144]، حتى ختم الآية، وهذا أثر حسن.
وقال البخاري في «تاريخه» قال محمد بن فضيل: عن فضيل بن غزوان، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: لما قبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دخل أبو بكر رضي الله عنه عليه فأكب عليه وقبل جبهته، وقال: بأبي أنت وأمي طبت حيا وميتا، وقال: من كان يعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله في السماء حي لا يموت. تقدم قبله.(52/32)
وفي «صحيح البخاري» من حديث سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه، أن رسول الله ذهب إلى بني عمرو بن عوف ليصلح بينهم، فحانت الصلاة، فجاء المؤذن إلى أبي بكر رضي الله عنه فذكر الحديث، وفيه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أشار إلى أبي بكر أن أمكث مكانك، فرفع أبو بكر يديه، فحمد الله على ما أمره به رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم استأخر فذكره.
* قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه:
قال إسماعيل: عن قيس، قال: لما قدم عمر رضي الله عنه الشام استقبله الناس، وهو على بعيره، فقالوا: يا أمير المؤمنين لو ركبت برذونا ليلقاك عظماء الناس ووجوههم، فقال عمر رضي الله عنه: ألا أراكم ههنا، إن الأمر من ههنا، وأشار بيده إلى السماء .
وقال عثمان بن سعيد الدارمي: حدثنا موسى بن إسماعيل قال: حدثنا جرير بن حازم قال: سمعت أبا يزيد المزني قال: لقيت امرأة عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقال لها خولة بنت ثعلبة رضي الله عنها، وهو يسير مع الناس، فاستوقفته فوقف لها، ودنا منها وأصغى إليها حتى قضت حاجتها وانصرفت، فقال له رجل يا أمير المؤمنين: حبست رجالًا من قريش على هذه العجوز!، قال: ويلك تدري من هذه؟ قال: لا، قال: هذه امرأة سمع الله شكواها من فوق سبع سموات، هذه خولة بنت ثعلبة، والله لو لم تنصرف عني إلى الليل ما انصرفت حتى تقضى حاجتها، إلا أن تحضرني صلاة فأصليها، ثم أرجع إليها حتى تقضى حاجتها.
قال ابن عبد البر: وحدثنا من وجوه، عن عمر بن الخطاب، أنه خرج ومعه الناس، فمر بعجوز فاستوقفته فوقف لها، وجعل يحدثها وتحدثه، فقال رجل: يا أمير المؤمنين حبست الناس على هذه العجوز، قال: ويحك تدري من هذه؟ هذه امرأة سمع الله شكواها من فوق سبع سموات، الحديث .
* قول عبد الله بن رواحة رضي الله عنه:(52/33)
قال ابن عبد البر رحمه الله تعالى في كتاب «الاستيعاب»: روينا من وجوه صحاح أن عبد الله بن رواحة رضي الله عنه مشى إلى أمة له فنالها، فرأته امرأته فلامته فجحدها، فقالت له: إن كنت صادقًا فاقرأ القرآن، فإن الجنب لا يقرأ القرآن، فقال:
شهدت بأن وعد الله حق
??
وأن العرش فوق الماء طاف ... وأن النار مثوى الكافرينا
وتحمله ملائكة شداد ... وفوق العرش رب العالمينا
?ملائكة الإله مسومينا
?
فقالت: آمنت بالله، وكذبت عيني، وكانت لا تحفظ القرآن ولا تقرؤه .
* قول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه :
قال الدارمي: حدثنا موسى بن إسماعيل قال: حدثنا حماد بن سلمة، عن عاصم، عن زر، عن ابن مسعود رضي الله عنه، قال: ما بين السماء الدنيا والتي تليها خمسمائة عام، وبين كل سماء مسيرة خمسمائة عام، وبين السماء السابعة وبين الكرسي خمسمائة عام، وبين الكرسي إلى الماء مسيرة خمسمائة عام، والعرش على الماء، والله تعالى فوق العرش، وهو يعلم ما أنتم عليه .
* قول عبد الله بن عباس رضي الله عنهما:
ذكر عبد الله بن أحمد بن حنبل في كتاب «السنة» من حديث سعيد بن جبير رضي الله عنه، قال: تفكروا في كل شيء، ولا تفكروا في ذات الله؛ فإن بين السموات السبع إلى كرسيه سبعة آلاف نور، وهو فوق ذلك.
وفي مسند الحسن بن سفيان، وكتاب عثمان بن سعيد الدارمي، من حديث عبدالله بن أبي مليكة، أنه حدثه ذكوان قال: استأذن ابن عباس رضي الله عنهما على عائشة رضي الله عنها وهي تموت، فقال: كنت أحب نساء النبي إليه، ولم يكن رسول الله يحب إلا طيبًا، وأنزل الله براءتك من فوق سبع سموات، جاء بها الروح الأمين، فأصبح ليس مسجد من مساجد الله يذكر فيها ألا وهو يتلى فيها آناء الليل وآناء النهار.(52/34)
وذكر الطبراني في «شرح السنة» من حديث سفيان، عن أبي هاشم، عن مجاهد قال: قيل لابن عباس: إن ناسًا يكذبون بالقدر، قال: يكذبون بالكتاب، لئن أخذت شعر أحدهم لا ينبتونه، إن الله كان على عرشه قبل أن يخلق شيئًا، فخلق الخلق فكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة، فإنما يجري الناس على أمر قد فرغ منه.
* قول عائشة رضي الله عنها:
قال الدارمي: حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا جويرية بن أسماء قال: سمعت نافعًا يقول: قالت عائشة رضي الله عنها: وأيم الله إني لأخشى لو كنت أحب قتله لقتلته -تعني عثمان- ولكن علم الله من فوق عرشه، إني لم أحب قتله(1).
* قول زينب بنت جحش أم المؤمنين رضي الله عنها:
ثبت في «الصحيحين» من حديث أنس رضي الله عنه قال: كانت زينب تفتخر على أزواج النبي وتقول: زوجكن أهاليكن، وزوجني الله من فوق سبع سموات، وفي لفظ غيرهما: كانت تقول: زوجنيك الرحمن من فوق عرشه، كان جبريل السفير بذلك، وأنا ابنة عمتك، رواه العسال .
* قول أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه:
__________
(1) - الحديث رجاله ثقات، ورواية نافع عن عائشة، في «الصحيحين» كما في «جامع التحصيل» للعلائي .(52/35)
قال: لما لعن الله إبليس، وأخرجه من سمواته وأخزاه قال: رب أخزيتني ولعنتني وطردتني عن سمواتك وجوارك، فوعزتك لأغوين خلقك ما دامت الأرواح في أجسادهم، فأجابه الرب تبارك وتعالى فقال: وعزتي وجلالي وارتفاعي على عرشي لو أن عبدي أذنب حتى ملأ السموات والأرض خطايا، ثم لم يبق من عمره إلا نفس واحد فندم على ذنوبه لغفرتها وبدلت سيأته كلها حسنات، وقد روى هذا المتن مرفوعًا ولفظه: وعزتي وجلالي وارتفاعي لو أن عبدي وذكره، رواه ابن لهيعة، عن بني الهيثم، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: « إن الشيطان قال: وعزتك لا أبرح أغوي عبادك ما دامت أرواحهم في أجسادهم، فقال الرب: وعزتي وجلالي وارتفاع مكاني لا أزال أغفر ما استغفروني »، الحديث فيه ابن لهيعة، وهو ضعيف، لكنه يصلح مع غيره في الباب .
* قول الصحابة كلهم رضي الله عنهم:
قال يحيى بن سعيد الأموي في «مغازيه»: حدثنا البكائي، عن ابن إسحاق قال: حدثني يزيد بن سنان، عن سعيد بن الأجرد الكندي، عن العرس ابن قيس الكندي، عن عدي بن عميرة رضي الله عنه قال: خرجت مهاجرًا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فذكر قصة طويلة وقال فيها: فإذا هو ومن معه يسجدون على وجوههم، ويزعمون أن إلههم في السماء فأسلمت وتبعته .
* ذكر أقوال التابعين رحمهم الله تعالى:
* قال مسروق رحمه الله: قال علي بن الأقمر: كان مسروق إذا حدث عن عائشة رضي الله عنها قال: حدثني الصديقة بنت الصديق رضي الله عنهما، حبيبة رسول الله المبرأة من فوق سبع سموات.
* قول عكرمة رحمه الله تعالى:(52/36)
قال سلمة بن شبيب: حدثنا إبراهيم بن الحكم قال: حدثني أبي عن عكرمة رحمه الله تعالى قال: بينما رجل مستلق على متنه في الجنة فقال: في نفسه لم يحرك شفتيه لو أن الله يأذن لي لزرعت في الجنة، فلم يعلم إلا والملائكة على أبواب جنته قابضين على أكفهم فيقولون: سلام عليك فاستوى قاعدًا، فقالوا له: يقول لك ربك: تمنيت شيئًا في نفسك قد علمته، وقد بعث معنا هذا البذر يقول لك: ابذر فألقى يمينًا وشمالًا وبين يديه وخلفه، فخرج أمثال الجبال، على ما كان تمنى وزاد، فقال له الرب من فوق عرشه: كل يا ابن آدم فإن ابن آدم لا يشبع.
إبراهيم بن الحكم ليس بثقة، وأصل القصة ثابت، أن أهل الجنة لهم فيها ما تشتهي أنفسهم ولهم فيها ما يدعون، كما في القرن .
* قول سليمان التيمي رحمه الله تعالى:
قال ابن أبي خيثمة في «تاريخه»: حدثنا هارون بن معروف قال: حدثنا ابن ضمرة، عن صدقة التيمي، عن سليمان التيمي قال: لو سئلت أين الله؟ لقلت: في السماء.
* قول كعب الأحبار رحمه الله تعالى:
قال الليث بن سعد: حدثني خالد بن يزيد، عن سعيد بن أبي هلال، أن يزيد(1) بن أسلم، حدثه عن عطاء بن يسار قال: أتى رجل كعبًا وهو في نفر فقال: يا أبا إسحاق حدثني عن الجبار، فأعظم القوم قوله، فقال كعب: دعوا الرجل، فإن كان جاهلًا تعلم، وإن كان عالمًا ازداد علمًا، ثم قال كعب: أخبرك أن الله خلق سبع سموات، ومن الأرض مثلهن، ثم جعل ما بين كل سمائين كما بين سماء الدنيا والأرض، وكثفهن مثل ذلك، ثم رفع العرش فاستوى عليه فوقه .
__________
(1) صوابه: عن زيد بن أسلم، كما في «التهذيب».(52/37)
وقال نعيم بن حماد: أخبرنا أبو صفوان الأموي، عن يونس بن يزيد، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن كعب قال: قال الله في التوراة: أنا الله فوق عبادي، وعرشي فوق جميع خلقي، وأنا على عرشي أدبر أمور عبادي، لا يخفى علي شيء من أمر عبادي في سمائي ولا أرضي، وإلي مرجع خلقي، فأنبئهم بما خفي عليهم من علمي، أغفر لمن شئت منهم بمغفرتي، وأعاقب من شئت بعقابي .
شيخ نعيم بن حماد هو عبد الله بن سعيد بن عبد الملك، هو ومن بعده ثقات .
* قول مقاتل رحمه الله تعالى :
ذكر البيهقي في «الأسماء والصفات» عن بكر بن معروف، عن مقاتل، بلغنا والله أعلم في قوله عز وجل: ? هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ? [الحديد:3]، الأول قبل كل شيء، والآخر بعد كل شيء، والظاهر فوق كل شيء، والباطن أقرب من كل شيء، وإنما يعني القرب بعلمه وقدرته، وهو فوق عرشه، وهو بكل شيء عليم، وبهذا الإسناد عنه في قوله تعالى: ? إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ ? [المجادلة:7]، يقول: بعلمه، وذلك قوله: ? إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ? [الأنفال:75]، فيعلم نجواهم، ويسمع كلامهم، ثم ينبئهم يوم القيامة بكل شيء، وهو فوق عرشه وعلمه معهم .
* قول الضحاك رحمه الله تعالى :
روى بكر(1) بن معروف، عن مقاتل بن حيان، عنه، ? مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ ? [المجادلة:7]، قال: هو الله على العرش وعلمه معهم .
* قول التابعين جملة :
روى البيهقي بإسناد صحيح إلى الأوزاعي قال: كنا والتابعون متوافرون نقول: إن الله تعالى جل ذكره فوق عرشه، ونؤمن بما وردت السنة به من صفاته .
قال شيخ الإسلام: وإنما قال الأوزاعي ذلك بعد ظهور جهم؛ المنكر لكون الله عز وجل فوق عرشه، والنافي لصفاته، ليعرف الناس أن مذهب السلف كان بخلاف قوله .
__________
(1) - صوابه: بكير، كما في ترجمته من «التهذيب».(52/38)
وقال أبو عمر بن عبد البر في «التمهيد» وعلماء الصحابة، والتابعين الذين حمل عنهم التأويل قالوا: في تأويل قوله تعالى: ? مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ ? [المجادلة:7]، هو على العرش، وعلمه في كل مكان، وما خالفهم أحد في ذلك يحتج به .
* قول ربيعة بن عبد الرحمن رحمه الله، شيخ مالك بن أنس رحمة الله عليه :
قال يحيى بن آدم: عن أبيه، عن ابن عيينة قال: سئل ربيعة عن قوله تعالى: ? الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ? [طه:5]، قال: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، ومن الله تعالى الرسالة، وعلى الرسول البلاغ، وعلينا التصديق .
* قول تابع التابعين جملة رحمهم الله تعالى:
* ذكر قول عبد الله بن المبارك رحمه الله :
روى الدارمي، والحاكم، والبيهقي وغيرهم، بأصح إسناد إلى علي بن الحسن بن شقيق قال: سمعت عبد الله بن المبارك يقول: نعرف ربنا بأنه فوق سبع سموات، على العرش استوى، بائن من خلقه، ولا نقول: كما قالت الجهمية، وفي لفظ آخر: قلت: كيف نعرف ربنا؟ قال: في السماء السابعة، على عرشه، ولا نقول كما قالت الجهمية .
وقال الدارمي: حدثنا الحسن بن الصباح البزار، حدثنا علي بن الحسن بن شقيق، عن ابن المبارك قال: قيل له: كيف نعرف ربنا؟ قال: بأنه فوق السماء السابعة على العرش بائن من خلقه .
قال الإمام عثمان بن سعيد الدارمي: ومما يحقق قول ابن المبارك، قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للجارية: « أين الله؟ » يمتحن بذلك إيمانها، فلما قالت في السماء، قال: « أعتقها فإنها مؤمنة »، والآثار في ذلك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كثيرة، والحجج متظاهرة والحمد لله على ذلك، ثم ساقها الدارمي رحمه الله تعالى .
وذكر ابن خزيمة، عن ابن المبارك، أنه قال له رجل: يا أبا(52/39)
عبد الرحمن قد خفت من كثرة ما أدعوا على الجهمية، قال: لا تخف، فإنهم يزعمون أن إلهك الذي في السماء ليس بشيء، وصح عن ابن المبارك أنه قال: إنا نستطيع أن نحكي كلام اليهود والنصارى، ولا نستطيع أن نحكي كلام الجهمية .
* قول الأوزاعي رحمه الله تعالى :
قال أبو عبد الله الحاكم : أخبرني محمد بن علي الجوهري ببغداد، حدثنا إبراهيم بن الهيثم، حدثنا محمد بن كثير المصيصي قال: سمعت الأوزاعي يقول: كنا والتابعون متوافرون نقول: إن الله تعالى ذكره فوق عرشه، ونؤمن بما وردت به السنة، وهذا الأثر يدخل في حكاية مذهبه، ومذهب التابعين، فلذلك ذكرناه في الموضعين .
* قول حماد بن زيد رحمه الله تعالى :
قال إمام الأئمة محمد بن إسحاق بن خزيمة: حدثنا أحمد بن إبراهيم قال: حدثنا سليمان بن حرب قال: سمعت حماد بن زيد يقول: الجهمية إنما يحاولون أن يقولوا: ليس في السماء شيء .
* قال شيخ الإسلام: وهذا الذي كانت الجهمية يحاولونه قد صرح به المتأخرون منهم، وكان ظهور السنة وكثرة الأئمة في عصر أولئك يحول بينهم وبين التصريح به، فلما بعد العهد، وخفيت السنة وانقرضت الأئمة صرحت الجهمية النفاة بما كان سلفهم يحاولونه ولا يتمكنون من إظهاره .
* قول سفيان الثوري رحمه الله تعالى:
قال معدان: سألت سفيان الثوري عن قوله تعالى: ? وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ ? [الحديد:4]، قال: علمه، ذكره أبو عمر .
* ذكر أقوال الأئمة الأربعة رحمهم الله تعالى:
* قول الإمام أبي حنيفة:(52/40)
قال البيهقي: حدثنا أبو بكر بن الحارث الفقيه قال: حدثنا أبو محمد بن حيان، أخبرنا أحمد بن جعفر بن نصر قال: حدثنا يحيى بن يعلى قال: سمعت نعيم بن حماد يقول: سمعت نوح بن أبي مريم أبا عصمة يقول: كنا عند أبي حنيفة أول ما ظهر، إذ جاءته امرأة من ترمذ كانت تجالس جهميًا فدخلت الكوفة، فقيل لها: إن هاهنا رجلًا قد نظر في المعقول، يقال له: أبو حنيفة فأتيه فأتته، فقالت: أنت الذي تعلم الناس المسائل، وقد تركت دينك، أين إلهك الذي تعبده؟ فسكت عنها، ثم مكث سبعة أيام لا يجيبها، ثم خرج إلينا وقد وضع كتابًا إن الله سبحانه وتعالى في السماء دون الأرض، فقال له رجل: أرأيت قول الله تعالى: ? وَهُوَ مَعَكُمْ ? [الحديد:4]، قال: هو كما تكتب للرجل إني معك، وأنت عنه غائب. قال البيهقي: لقد أصاب أبو حنيفة رحمه الله تعالى فيما نفى عن الله تعالى وتقدس من الكون في الأرض، وفيما ذكر من تأويل الآية، وتبع مطلق السمع في قوله: إن الله عز وجل في السماء.
قال شيخ الإسلام : وفي كتاب «الفقه الأكبر» المشهور عند أصحاب أبي حنيفة الذي رواه بإسناد عن أبي مطيع البلخي الحكم بن عبد الله قال: سألت أبا حنيفة عن الفقه الأكبر؟ قال: لا تكفر أحدًا بذنب، ولا تنفي أحدًا من الإيمان، وتأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر، وتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك، ولا تتبرأ من أحد من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا توالي أحدًا دون أحد، وأن ترد أمر عثمان وعلي رضي الله عنهما إلى الله تعالى .(52/41)
وقال أبو حنيفة رحمه الله : " الفقه الأكبر في الدين خير من الفقه في العلم، ولأن يتفقه الرجل كيف يعبد ربه عز وجل، خير من أن يجمع العلم الكثير، قال أبو مطيع: قلت: فأخبرني عن أفضل الفقه؟ قال: يتعلم الرجل الإيمان والشرائع والسنن والحدود واختلاف الأئمة، وذكر مسائل في الإيمان، ثم ذكر مسائل في القدر، ثم قال: فقلت: فما تقول فيمن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، فيتبعه على ذلك ناس فيخرج عن الجماعة، هل ترى ذلك؟ قال: لا، قلت: ولم؟ وقد أمر الله تعالى رسوله بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو فريضة واجبة، فقال: كذلك لكن ما يفسدون أكثر ممن يصلحون؛ من سفك الدماء، واستحلال الحرام، وذكر الكلام في قتال الخوارج والبغاة، إلى أن قال: قال أبو حنيفة: ومن قال: لا أعرف ربي في السماء أم في الأرض فقد كفر؛ لأن الله تعالى يقول:
? الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ? [طه:5]، وعرشه فوق سبع سموات " .
قلت: فإن قال: إنه على العرش، ولكنه يقول: لا أدري العرش في السماء أم في الأرض؟ قال: هو كافر؛ لأنه أنكر أن يكون في السماء، لأنه تعالى في أعلى عليين، وأنه يدعى من أعلى لا من أسفل .
وفي لفظ : سألت أبا حنيفة عمن يقول: لا أعرف ربي في السماء أم في الأرض؟ قال: فقد كفر؛ لأن الله يقول: ?الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى? [طه:5]، وعرشه فوق سبع سموات، قال: فإنه يقول: على العرش استوى، ولكنه لا يدري العرش في الأرض أو في السماء؟ قال: إذا أنكر أنه في السماء فقد كفر، وروى هذا عن شيخ الإسلام أبي إسماعيل الأنصاري في كتابه «الفاروق» بإسناده .
قال شيخ الإسلام أبو العباس أحمد رحمه الله تعالى: ففي هذا الكلام المشهور عن أبي حنيفة رحمه الله عند أصحابه أنه كفر الواقف الذي يقول: لا أعرف ربي في السماء أم في الأرض، فكيف يكون الجاحد النافي الذي يقول: ليس في السماء ولا في الأرض، واحتج على كفره بقوله تعالى:(52/42)
? الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ? [طه:5]، قال: وعرشه فوق سبع سموات، وبين بهذا أن قوله: ? الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ? [طه:5]، بيّن في أن الله عز وجل فوق السموات فوق العرش، وأن الاستواء على العرش، ثم أردف ذلك بكفر من توقف في كون العرش في السماء أو في الأرض، قال: لأنه أنكر أن يكون في السماء وأن الله في أعلى عليين، وأن الله يدعى من أعلى لا من أسفل، واحتج بأن الله في أعلى عليين، وأنه يدعى من أعلى لا من أسفل، وكل من هاتين الحجتين فطرية عقلية، فإن القلوب مفطورة على الإقرار بأن الله عز وجل في العلو، وعلى أنه يدعى من أعلى لا من أسفل، وكذلك أصحابه من بعده كأبي يوسف وهشام بن عبيد الله الرازي .
كما روى ابن أبي حاتم، وشيخ الإسلام بأسانيدهما أن هشام بن عبيد الله الرازي صاحب محمد بن الحسن قاضي الري، حبس رجلًا في التجهم، فتاب فجيء به إلى هشام ليمتحنه، فقال: الحمد لله على التوبة، فامتحنه هشام فقال: أشهد أن الله على عرشه بائن من خلقه، فقال: أشهد أن الله على عرشه ولا أدري ما بائن من خلقه فقال: ردوه إلى الحبس، فإنه لم يتب، وسيأتي قول الطحاوي عند أقوال أهل الحديث .
* قول إمام دار الهجرة مالك بن أنس رحمه الله تعالى :
ذكر أبو عمر بن عبد البر في كتاب «التمهيد» أخبرنا عبد الله بن محمد بن عبد المؤمن، حدثنا أحمد بن جعفر بن أحمد، أن ابن مالك، حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، حدثني أبي، حدثنا شريح بن النعمان، حدثنا عبد الله بن نافع قال: قال مالك بن أنس الله في السماء، وعلمه في كل مكان لا يخلو منه مكان، قال: وقيل لمالك: ? الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ?[طه:5]، كيف استوى؟ فقال مالك رحمه الله تعالى: استواؤه معقول، وكيفيته مجهولة، وسؤالك عن هذا بدعة، وأراك رجل سوء، وكذلك أئمة أصحاب مالك من بعده .(52/43)
قال يحيى بن إبراهيم الطليطلي في كتاب «سير الفقهاء»؛ وهو كتاب جليل غزير العلم، حدثني عبد الملك بن حبيب عن عبد الله بن المغيرة، عن الثوري، عن الأعمش، عن إبراهيم قال: كانوا يكرهون قول الرجل: يا خيبة الدهر، وكانوا يقولون: الله هو الدهر، وكانوا يكرهون قول الرجل: رغم أنفي لله، وإنما يرغم أنف الكافر، وكانوا يكرهون قول الرجل: لا والذي خاتمه على فمي، وإنما يختم على فم الكافر، وكانوا يكرهون قول الرجل: والله حيث كان، أو أن الله بكل مكان، قال أصبغ: وهو مستو على عرشه، وبكل مكان علمه وإحاطته، وأصبغ من أجل أصحاب مالك وأفقههم.
* ذكر قول أبي عمرو الطلمنكي:
قال في كتابه في «الأصول»: أجمع المسلمون من أهل السنة على أن الله استوى على عرشه بذاته، وقال في هذا الكتاب أيضا: أجمع أهل السنة على أنه تعالى استوى على عرشه على الحقيقة لا على المجاز، ثم ساق بسنده عن مالك قوله: الله في السماء، وعلمه في كل مكان، ثم قال في هذا الكتاب: وأجمع المسلمون من أهل السنة على أن معنى قوله تعالى: ? وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ ? [الحديد:4] ونحو ذلك من القرآن، بأن ذلك علمه، وأن الله فوق السموات بذاته، مستو على عرشه كيف شاء، وهذه القصة في
كتابه .
* قول الإمام الحافظ أبي عمر بن عبد البر، إمام السنة في زمانه رحمه الله تعالى:(52/44)
قال في كتاب «التمهيد»: في شرح الحديث الثامن لابن شهاب، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: « ينزل ربنا في كل ليلة إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر، فيقول: من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له » هذا الحديث ثابت من جهة النقل، صحيح الإسناد، لا يختلف أهل الحديث في صحته، وفيه دليل على أن الله عز وجل في السماء، على العرش من فوق سبع سموات، كما قالت الجماعة، وهو حجتهم على المعتزلة والجهمية في قولهم: إن الله في كل مكان، وليس على العرش، والدليل على صحة ما قال أهل الحق في ذلك، قوله تعالى: ? الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ? [طه:5]. وقوله تعالى: ? ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ ? [السجدة:4]، وقوله تعالى: ? ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ ? [فصلت:11]، وقوله تعالى: ? إِذاً لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً ? [الإسراء:42]، وقوله تبارك اسمه: ? إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ? [فاطر:10]، وقوله تعالى: ? فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً ? [لأعراف:143]، وقوله تعالى: ? أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ ? [الملك:16]، وقوله تعالى: ? سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى ? [الأعلى:1]، وهذا من العلو .
وكذلك قوله: ? الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ ? [البقرة:255]، و ? الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ ? [الرعد:9]، و ? رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ ? [غافر:15]، و ? يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ? [النحل:50]، والجهمي يقول: إنه أسفل .
وقوله تعالى: ? يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ ? [السجدة:5] .(52/45)
وقوله: ? تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ ? [المعارج:4]، والعروج هو: الصعود .
وقوله تعالى: ? يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ ? [آل عمران:55]، وقوله تعالى: ? بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ ? [النساء:158]، وقوله تعالى:
? فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ ? [فصلت:38] وقوله تعالى: ? لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ * مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ * تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ ?
[المعارج:2-4]، والعروج هو: الصعود .
وأما قوله: ? أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ ? [الملك:16]، فمعناه من على السماء؛ يعني على العرش، وقد يكون في بمعنى على، ألا ترى إلى قوله تعالى: ? فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ ? [التوبة:2]، أي على الأرض .
وكذلك قوله تعالى: ? وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ ? [طه:71]، وهذا كله يعضده قوله تعالى: ? تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ ? [المعارج:4]، وما كان مثله مما تلونا من الآيات في هذا الباب، وهذه الآيات كلها واضحات في إبطال قول المعتزلة .
رد ادعائهم المجاز في الاستواء :(52/46)
وأما ادعاؤهم المجاز في الاستواء، وقولهم في تأويل استوى : استولى، فلا معنى له؛ لأنه غير ظاهر في اللغة، ومعنى الاستيلاء في اللغة المغالبة، والله تعالى لا يغالبه أحد، وهو الواحد الصمد، ومن حق الكلام أن يحمل على حقيقته حتى تتفق الأمة أنه أريد به المجاز إذ لا سبيل إلى أتباع ما أنزل إلينا من ربنا تعالى إلا على ذلك، وإنما يوجه كلام الله عز وجل على الأشهر وإلا ظهر من وجوهه ما لم يمنع من ذلك ما يجب له التسليم، ولو ساغ ادعاء المجاز لكل مدع ما ثبت شيء من العبادات، وجل الله أن يخاطب إلا بما تفهمه العرب من معهود مخاطباتها مما يصح معناه عند السامعين، والاستواء معلوم في اللغة مفهوم؛ وهو العلو والارتفاع على الشيء والاستقرار والتمكن فيه، قال أبو عبيدة في قوله: ? الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ? [طه:5]، قال: علا، قال: وتقول العرب: استويت فوق الدابة، واستويت فوق البيت، وقال غيره: استوى أي استقر، واحتج بقوله تعالى:
? وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى ? [القصص:14]، انتهى شبابه واستقر، فلم يكن في شبابه مزيد، قال ابن عبد البر: الاستواء الاستقرار في العلو، وبهذا خاطبنا الله تعالى في كتابه فقال: ? لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ ? [الزخرف:13]، وقوله تعالى: ? وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ ? [هود:44]، وقال تعالى: ? فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ ? [المؤمنون:28]، وقال الشاعر:
فأوردتهم ماء بفيفاء قفر
قد حلق النجم اليماني فاستوى
?(52/47)
وهذا لا يجوز أن يتأول فيه أحد استولى لأن النجم لا يستولي، وقد ذكر النضر بن شميل وكان ثقة مأمونًا جليلًا في علم الديانة واللغة، قال: حدثني الخليل وحسبك بالخليل قال: أتيت أبا ربيعة الأعرابي وكان من أعلم ما رأيت، فإذا هو على سطح فسلمنا فرد علينا السلام وقال: استووا فبقينا متحيرين ولم ندر ما قال، فقال لنا أعرابي إلى جانبه: إنه أمركم أن ترفعوا، فقال الخليل: هو من قول الله: ? ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ ? [فصلت:11]، فصعدنا إليه، قال: وأما من نزع منهم بحديث يرويه عبد الله ابن داود الواسطي، عن إبراهيم بن عبد الصمد، عن عبد الوهاب بن مجاهد، عن أبيه، عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: ? الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ? [طه:5]، قال: استولى على جميع بريته فلا يخلو منه مكان، فالجواب إن هذا حديث منكر على ابن عباس رضي الله عنهما، ونقلته مجهولة وضعفاء، فأما عبد الله بن داود الواسطي، وعبد الوهاب بن مجاهد، فضعيفان، وإبراهيم بن عبد الصمد مجهول لا يعرف، وهم لا يقبلون أخبار الآحاد العدول، فكيف يسوغ لهم الاحتجاج بمثل هذا الحديث؟!، لو عقلوا وأنصفوا أما سمعوا الله سبحانه حيث يقول: ? وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِباً ? [غافر:36-37]، فدل على أن موسى عليه الصلاة والسلام كان يقول: إلهي في السماء، وفرعون يظنه كاذبًا وقال الشاعر:
فسبحان من لا يقدر الخلق قدره
??
مليك على عرش السماء مهيمن ... ومن هو فوق العرش فرد موحد
ج
?لعزته تعنو الوجوه وتسجد
?
وهذا الشعر لأمية بن أبي الصلت، وفيه يقول في وصف الملائكة :
وساجدهم لا يرفع الدهر رأس
عظم ربًا فوقه ويمجد
?(52/48)
قال: فإن احتجوا بقوله تعالى: ? وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ ? [الزخرف:84]، وبقوله تعالى: ? وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ ? [الأنعام:3]، وبقوله تعالى: ? مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ ? [المجادلة:7].
وزعموا أن الله سبحانه في كل مكان بنفسه وذاته تبارك وتعالى جده، قيل: لا خلاف بيننا وبينكم وبين سائر الأمة؛ أنه ليس في الأرض دون السماء بذاته، فوجب حمل هذه الآيات على المعنى الصحيح المجمع عليه، وذلك أنه في السماء إله معبود من أهل السماء، وفي الأرض إله معبود من أهل الأرض، وكذا قال أهل العلم بالتفسير، وظاهر هذا التنزيل يشهد أنه على العرش، فالاختلاف في ذلك ساقط، وأسعد الناس به من ساعده الظاهر.
وأما قوله في الآية الأخرى: ? وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ ? [الزخرف:84]، فالإجماع والاتفاق قد بين أن المراد أنه معبود من أهل الأرض، فتدبر هذا فإنه قاطع .(52/49)
ومن الحجة أيضا في أنه عز وجل على العرش فوق السموات السبع: أن الموحدين أجمعين من العرب والعجم إذا كربهم أمر أو نزلت بهم شدة رفعوا وجوههم إلى السماء، ونصبوا أيديهم رافعين مشيرين بها إلى السماء يستغيثون الله ربهم تبارك وتعالى، وهذا أشهر وأعرف عند الخاصة والعامة من أن يحتاج فيه إلى أكثر من حكايته؛ لأنه اضطراري لم يخالفهم فيه أحد، ولا أنكره عليهم مسلم، وقد قال - صلى الله عليه وسلم - للأمة التي أراد مولاها عتقها إن كانت مؤمنة، فاختبرها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأن قال لها: « أين الله؟ » فأشارت إلى السماء، ثم قال لها: « من أنا؟ » قالت: أنت رسول الله، قال: « أعتقها فإنها مؤمنة » فاكتفى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منها برفع رأسها إلى السماء، واستغنى بذلك عما سواه، قال: وأما احتجاجهم بقوله تعالى: ? مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ ? [المجادلة:7]، فلا حجة لهم في ظاهر هذه الآية، لأن علماء الصحابة والتابعين الذين حمل عنهم التأويل في القرآن قالوا في تأويل هذه الآية: هو على العرش، وعلمه في كل مكان، وما خالفهم في ذلك أحد يحتج بقوله، وذكر سنيد، عن مقاتل بن حيان، عن الضحاك بن مزاحم في قوله تعالى: ? مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ ? [المجادلة:7]، قال: هو على عرشه وعلمه معهم أينما كانوا، قال: وبلغني عن سفيان الثوري مثله .(52/50)
قال سنيد: حدثنا حماد بن زيد، عن عاصم بن بهدلة، عن زر بن حبيش، عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: الله فوق العرش، وعلمه في كل مكان، لا يخفى عليه شيء من أعمالكم، ثم ساق من طريق يزيد بن هارون، عن حماد بن سلمة، عن عاصم بن بهدلة، عن زر، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: ما بين السماء إلى الأرض مسيرة خمسمائة عام، وما بين كل سماء إلى الأخرى خمسمائة عام، وما بين السماء السابعة إلى الكرسي مسيرة خمسمائة عام، وما بين الكرسي إلى الماء مسيرة خمسمائة عام، والعرش على الماء، والله على العرش، ويعلم أعمالكم، وذكر هذا الكلام أو قريبا منه في كتاب «الاستذكار» .
- قال عمر بن حفيظ: كما في شريط العقيدة الصحيحة، "الوجه الثاني": ( الذي في حديث الجارية إن أراد مريد: أن يجعله أن الله بذاته في السماء، فهذه الكلمة، وهذا المعنى بدعة حدثت تخالف أصول شريعتنا ).
رد الشيخ يحيى حفظه الله: البدعة تعريفها عند أهل العلم هي : ما حدثت بعد موت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويراد بها التعبد، وهذه الكلمة قد ذكرت أنت أنها من كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم -!، وكما تقدم نصها في «صحيح مسلم» الذي هو من أصح الكتب المصنفة، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو الذي لا ينطق عن الهوى، وهو الذي جاءنا بالبينات والهدى، وهو الذي يقول الله سبحانه: ? لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ ? [التوبة:128]، ويقول له: ? وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ? [النحل:44]، ويقول: ? هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ ?
[آل عمران:138] .(52/51)
وهو الذي زكى الله فؤاده، وزكى الله لسانه، وزكى خلقه، وزكى عقله، فقال عزوجل: ? ن~ * وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ * مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ * وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ * وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ? [القلم: 1-4]، وقال: ? وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى ? [لنجم:3-4]، وزكى دعوته فقال: ? وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ? [الشورى:52]، فإلى أين يا عمر؟! أما تقرأ قول الله عزوجل: ? وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً ? [النساء:115] .
فأنت الذي تضل الناس، وأنت الذي تفسد عقائدهم، وأنت المبتدع؛ لأن هذا قول الرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومعتقد السلف الصالح، فإن كان هذا بدعة فمعناه أن جميع السلف يصيرون مبتدعة .
- قال عمر بن حفيظ: كما في الشريط السابق: ( تخالف معنى قول الله جل شأنه، ? إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ ? [فصلت:54]، وتخالف ? لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ? [الشورى:11]، وتخالف ? وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ ? [الحديد:4] .
رد الشيخ يحيى حفظه الله: ? وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ ? [الحديد:4]، هو معهم بعلمه وإحاطته، ? إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ ? [فصلت:54]، هكذا فهم السلف رضوان الله عليهم، وفهم جميع الصحابة والتابعين، وأنظر ما تقدم نقله عن الأئمة من «اجتماع الجيوش الإسلامية» هذا فهمهم، أما فهمك فهم صوفي، وأشعري، لا دليل عليه، يجب عليك أن تتوب إلى الله عز وجل، أنت ومن كان على شاكلتك .(52/52)
فإذا كان يريد أن ينكر أن الله على عرشه، فأين توضع أدلة العلو، وأدلة الاستواء، وأدلة العروج، ? تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ ? [المعارج:4]، وأدلة نزول الأمر من عنده، ونزول حكمه، ونزول القرآن، ? إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ? [القدر:1]، والنزول يكون من أعلى إلى أسفل، أين توضع هذه الأدلة، فالذي أبان أنه على عرشه، أبان أنه بكل شيء محيط، والذي أبان أنه على عرشه، وأنه في السماء، هو الذي أبان أنه معهم، ولا تخفى عليه خافية، قال تعالى: ? مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ? [المجادلة:7] .
- قال عمر بن حفيظ: كما في المصدر السابق: ( فلنعلم أن ذات ربنا لا تحصرها أرض ولا سماء ) .
رد الشيخ يحيى حفظه الله : الله مستوٍ على عرشه كما تقدمت الأدلة، وانظروا كيف يرد على نفسه بنفسه، أليس الصوفية يقولون: إن الله في كل مكان بذاته، وليس على العرش؟!، فمعنى ذلك على قولكم: أن الله في البيت، والبيت يحصره، وأن الله في الأرض، والأرض تحصره، وأن الله حال في الإنسان، وجسم الإنسان يحصره، ولو قلتم قول أهل السنة الذي دلت عليه أدلة القرآن والسنة، لنجوتم من هذا الضلال، والتخبط والاضطراب، ولكن حالكم كما قال الله عزوجل: ? فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ? [الصف:5].
هذا: وإني لا أستبعد أن عمر بن حفيظ يكون حلوليًا، أو اتحادياً، واسمع إلى القصيدة التي ألقاها الجفري بين يدي ابن حفيظ، وعلى مرأى ومسمع من الناس، ولا ندري أيهما نضمها فقال فيها عن ابن حفيظ :
أنا اسمي عمر بالعلى معلنً
ن نال مثلي بلغ كل سول
?(52/53)
ثم قال:
أنا طفت بالعرش نلت الهنا
??
والأملاك ساعية بي أنا ... .........................
وموسى بن عمران نلته أنا ... كذا الكون كله بي يجول
وعيسى بن مريم رفعته أنا ... أنا اسمي الفخر فحل الفحول
مريدي توسل وعذ بي أنا ... إلَمَّا السما بينال القبول
?وقل يا عمر لتنال القبول
?
هذه قصيدة تنصح بوحدة الوجود؛ في قوله: ( وعيسى بن مريم رفعته أنا ) وقوله: ( توسل بي وعذ بي أنا ) ولما قُرأت هذه القصيدة بتمامها على شيخنا العلامة مقبل بن هادي الوادعي –رحمه الله-، رد عليها في شريط، وقال ما معناه: هذه القصيدة إن كان قالها عمر بن حفيظ فهو كافر؛ لأنه ندد بنفسه الله عزوجل، وأشرك نفسه فيما هو من خصائص الله عزوجل، فالذي رفع عيسى بن مريم هو الله تعالى، قال سبحانه ? وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً * بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً ? [النساء:157-158]،
- قال ابن حفيظ: في رسالة دروس في التوحيد (ص6): ( والواجب في حق الله تعالى تفصيلاً، عشرون صفة، وهي الوجود، والقدم، والبقاء، ومخالفته للحوادث، وقيامه بنفسه، والوحدانية، والقدرة، والإرادة، والعلم والحياة، والسمع، والبصر، والكلام، وكونه قادرًا، وكونه مريدًا، وكونه عالمًا، وكونه حيًا، وكونه سميعًا، وكونه بصيرًا، وكونه متكلمًا ) .(52/54)
رد الشيخ يحيى حفظه الله: فقط عشرون صفة، من أين لكم هذا التحديد، وقد ثبت عن ابن مسعود رضي الله عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: »اللهم إني أسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبي، وجلاء همي، وذهاب حزني« ، وأنتم تثبتون الأسماء الحسنى .
وكل اسم يتضمن صفة؛ فاسم الرحيم يتضمن: صفة الرحمة، واسم العليم يتضمن: صفة العلم، واسم الحكيم يتضمن: صفة الحكمة، وهكذا سائر الأسماء لله سبحانه وتعالى، في «صحيح مسلم» (486) عن عائشة رضي الله عنها، قالت: فقدت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلة من الفراش، فالتمسته فوقعت يدي على بطن قدميه وهو في المسجد، وهما منصوبتان وهو يقول: « اللهم أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك لا أحصى ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك »، و? وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ? [النحل:60]، قال السعدي رحمه الله، عند تفسير هذه الآية: ? وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى ? [النحل:60]، قال: هو صفة كمال، ثم أيضاً:
أين صفة الغضب، قال الله تعالى: ? وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ ? [الفتح:6]، وقال تعالى: ? وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا ? [النور:9] .
أين صفة القول؟ قال الله تعالى: ? وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ? [غافر:60] .
أين صفة الأصابع: وفي «الصحيح» من حديث عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: « إن قلوب بني آدم كلها بين إصبعين من أصابع الرحمن، كقلب واحد يصرفه حيث يشاء» ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: « اللهم مصرف القلوب، صرف قلوبنا على طاعتك ».(52/55)
أين صفة الغيرة؟ وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: « إن الله يغار، وإن المؤمن يغار، وغيرة الله أن يأتي المؤمن ما حرم عليه » .
أين صفة الفرح: « لله أشد فرحًا بتوبة عبده المؤمن، من رجل في أرض دوية مهلكة، معه راحلته عليها طعامه وشرابه، فنام فاستيقظ وقد ذهبت، فطلبها حتى أدركه العطش ثم قال: أرجع إلى مكاني الذي كنت فيه فأنام حتى أموت، فوضع رأسه على ساعده ليموت، فاستيقظ وعنده راحلته وعليها زاده طعامه وشرابه، فالله أشد فرحًا بتوبة العبد المؤمن من هذا براحلته » .
وصفة المعية؟ قال تعالى: ? وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ ? [الحديد:4] .
وغيرها من الصفات الثابتة لله عزوجل، ودونها الأئمة كابن خزيمة في كتابه « التوحيد » وابن مندة في كتابه « التوحيد » والبيهقي في « الأسماء والصفات » والبخاري في « صحيحه » ( كتاب التوحيد )، وغيرهم .
أين صفة المحبة؟ قال تعالى: ? يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ ? [المائدة:54] .
أين صفة الوجه؟ قال الله تعالى: ? وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ
وَالْأِكْرَامِ ? [الرحمن:27] .
أين صفة اليدين؟ قال الله عزوجل: ? بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ ? [المائدة:64] .
أين صفة القدم؟ »يضع قدمه على النار فتقول: قط، قط« ، الحديث .
أين صفة الساق؟ قال الله تعالى: ? يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ ? [القلم:42] .
أين صفة النفس؟ قال تعالى: ? تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي
نَفْسِكَ ? [المائدة:116] .
أين صفة السخط؟ قال الله عز وجل: ? أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ? [المائدة:80] .
أين صفة القبض، وصفة البسط، قال تعالى: ? وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ? [البقرة:245] .(52/56)
وصفة الكف، قال - صلى الله عليه وسلم -: » والميزان بكف الرحمن يضع القسط، ويبسطه ويرفعه «، كل هذه دلت عليها الأدلة الصحيحة من القرآن والسنة، كما دلت على تلك الصفات التي أثبتموها، فيلزمكم أن تثبتوها جميعًا، لأن القرآن والسنة الذين دلا عل تلك الصفات التي أثبتموها حق، والذي دل على هذه الصفات التي نفيتموها هو ذلك الحق القرآن والسنة، وليس عند من أثبت تلك الصفات، ونفى هذه وأدلتها كلها من القرن والسنة، ليس عند من فرق بينهما قي الإثبات إلا مجرد الهوى والتحكم.
صفات كثيرة لا يعلم حصرها إلا الله، بدليل حديث: « أو استأثرت به في علم الغيب عندك » وهؤلاء يحصرونها في عشرين صفة، هذا ضلال بعيد، تعطيل لصفات الله عز وجل .
- قال ابن حفيظ: في المصدر السابق: (ص22): ( وكلامه تعالى نفسي قديم، ليس بحرف، ولا بصوت، ولا لسان، ولا شفتين، ولا فم، ولا حلق، ولا يوصف بعربي، ولا سرياني، ولا غيرهما ) .
رد الشيخ يحيى حفظه الله: عمدتهم في ذلك يا إخوان قول نصراني، وهو الأخطل، يعزى إليه أنه قال:
إن الكلام لفي الفؤاد وإنم
عل اللسان على الفؤاد دليلا
?
وهذا البيت مردود من ستة أوجه، أولها: أنه بيت مصنوع، ليس في ديوان الأخطل، ثانيًا: أنه محرف؛ قيل: معناه: ( إن البيان لفي الفؤاد )، ثالثًا: أنه خبر واحد نصراني، لا يلتفت إلى قوله، رابعًا: أن النصارى قد ضلوا في كلام الله، فاعتبروه مخلوقًا، واعتبروا المخلوق عيسى بن مريم عليه السلام هو الله، خامسًا: أنه كلام بغير سند، سادسًا: أن معناه فاسد، كما سيأتي بيانه .
فمن أضل ممن يعرض عن أدلة كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، إلى قول نصراني هذا حاله .
والنصارى قد ضلوا في الكلام، والصوفية يعرضون عن كلام ذي العزة والجلال، ويتبعون الضلال، وحالهم كما قيل:
ومن جعل الغراب له دليلً
مر به على جيف الكلاب
?(52/57)
ويتبعون كلامًا باطلًا، فالكلام النفساني ما يعتبر كلاماً على هذا الإطلاق، ولو كان القرآن كلامًا نفسانياً بأي حجة، تقوم على الناس الحجة، الله أراد أن يبين للناس، وأراد إقامة الحجة عليهم، قال الله تعالى: ? هَذَا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ ? [ابراهيم:52]، وقال تعالى: ? وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ ? [النحل:44].
القرآن كلام الله، قال تعالى: ? وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ? [التوبة:6]، فلو كان نفسانياً، كيف يسمعونه، قال الله سبحانه وتعالى: ? اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى ? [طه:43-44]، ولو أن موسى جعل الكلام في نفسه، لما قامت الحجة عل فرعون .(52/58)
وقول الله تعالى: ? إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ ? [لأعراف:144]، وهذا كلام سمعه موسى، وهو حرف وصوت، ? وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ? [المائدة:116]، الياء، حرف نداء، هذه معاندة للمعقول والمنقول، فالقرآن حرف وصوت سمعه موسى، ? وَالنَّازِعَاتِ غَرْقاً * وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطاً * وَالسَّابِحَاتِ سَبْحاً * فَالسَّابِقَاتِ سَبْقاً * فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْراً * يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ * تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ * قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ * أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ * يَقُولُونَ أَئِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ * أَئِذَا كُنَّا عِظَاماً نَخِرَةً * قَالُوا تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ * فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ * فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ * هَلْ أتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى * إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ طُوًى * اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى * وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى * فَأَرَاهُ الآيَةَ الْكُبْرَى * فَكَذَّبَ وَعَصَى * ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى ? [المرسلات: 1-22] .
ناداه ربه، فهذه الأدلة تدل أنه ناداه، بقوله سبحانه وتعالى: ? يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ ? [الأعراف:144] .(52/59)
الشاهد من هذا أنه كلام سمعه موسى، وأنه حرف وصوت، وأنه من أنكر ذلك فقد أنكر القرآن، وأن من قال أن القرآن يعتبر نفسانياً فقد قال بأن الموجود في المصحف ليس بكلام الله، وأن كلام الله في نفسه، فإذا كان في نفسه، فمعناه أنه يجوز للجنب أن يمسه، وجمهور العلماء أنه لا يجوز مس الجنب للمصحف، ولو كان كذلك لجاز عندهم، وفي حديث أبي هريرة عند الإمام البخاري، عند قول الله عز وجل: ? حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ ? [سبأ:23]، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -:
« إذا قضى الله الأمر في السماء، ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانًا لقوله، كالسلسة على صفوان » - قال علي: وقال غيره: صفوان ينفذهم ذلك-
« ? فَإِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ
الْكَبِيرُ ? [سبأ:23] »، الحديث .(52/60)
وهذا دليل أن الله يتكلم بحرف وصوت سمعه الملائكة: ? قَالُوا الْحَقَّ ? [سبأ:23]، وقول الله سبحانه وتعالى: ? قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً ? [الكهف:109]، ولو كان الكلام نفسانياً لما حسب على صاحبه، وفي «الصحيحين» من حديث أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: » إن الله تجاوز لأمتي ما حدثت به أنفسها، ما لم تعمل أو تتكلم «، فلو أن إنساناً وسوس في نفسه أنه سيطلق زوجته ولم يتلفظ بذلك بمجرد النية ما اعتبر طلاقاً، وإلا للزم الأشاعرة هذا، ولو إن إنساناً أراد أن يبيع بيته، ما باع بيته بمجرد ما يحصل في النفس، ولو أن إنساناً أراد أن يحج مجرد ما في النفس فقط، نوى أن يحج وحصل في نفسه أن يحج ولم يحج، ما حصل ذلك الحج منه، لمجرد ما في النفس، وفي حديث معاوية بن الحكم، » إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس« ، ولو كان هذا القرآن مجرد كلام لما صلح في الصلاة، ولكنه كلام الله يختلف عن كلام الناس، وليس مجرد كلام نفساني، وإلا لكان المصلي يدخل الصلاة ولا يقرأ الفاتحة، ولا غيرها ، وتصح صلاته على حد قول الصوفية بمجرد ما يوسوس به في نفسه، يصح به الصلاة، وهذا قول باطل، أخرج الإمام البخاري رحمه الله في «صحيحه» رقم: (6614) من حديث أَبَي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، أَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:
« احْتَجَّ آدَمُ وَمُوسَى فَقَالَ لَهُ مُوسَى: يَا آدَمُ أَنْتَ أَبُونَا خَيَّبْتَنَا وَأَخْرَجْتَنَا مِنْ الْجَنَّةِ، قَالَ لَهُ آدَمُ: يَا مُوسَى اصْطَفَاكَ اللَّهُ بِكَلَامِهِ، وَخَطَّ لَكَ بِيَدِهِ أَتَلُومُنِي عَلَى أَمْرٍ قَدَّرَهُ اللَّهُ عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَنِي بِأَرْبَعِينَ سَنَةً، فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى، فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى »، وأخرجه مسلم: (2652) .(52/61)
وفي حديث قصة الإفك عند الإمام البخاري رقم: (4141) ومسلم رقم (2770) قالت عائشة رضي الله عنها: " ولشأني في نفسي أحقر من أن يتكلم الله في بأمرٍ يتلى.. " الحديث .
حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: « إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ، فَيَقُولُونَ: لَبَّيْكَ رَبَّنَا وَسَعْدَيْكَ، وَالْخَيْرُ فِي يَدَيْكَ، فَيَقُولُ: هَلْ رَضِيتُمْ؟ فَيَقُولُونَ: وَمَا لَنَا لَا نَرْضَى يَا رَبِّ وَقَدْ أَعْطَيْتَنَا مَا لَمْ تُعْطِ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ، فَيَقُولُ: أَلَا أُعْطِيكُمْ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ؟ فَيَقُولُونَ: يَا رَبِّ وَأَيُّ شَيْءٍ أَفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ؟ فَيَقُولُ: أُحِلُّ عَلَيْكُمْ رِضْوَانِي فَلَا أَسْخَطُ عَلَيْكُمْ بَعْدَهُ أَبَدًا »، أخرجه البخاري (7518)، ومسلم (2829) .
حديث ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه، قَالَ: بَيْنَمَا جِبْرِيلُ قَاعِدٌ عِنْدَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - سَمِعَ نَقِيضًا مِنْ فَوْقِهِ فَرَفَعَ رَأْسَهُ فَقَالَ: « هَذَا بَابٌ مِنْ السَّمَاءِ فُتِحَ الْيَوْمَ لَمْ يُفْتَحْ قَطُّ إِلَّا الْيَوْمَ، فَنَزَلَ مِنْهُ مَلَكٌ فَقَالَ: هَذَا مَلَكٌ نَزَلَ إِلَى الْأَرْضِ لَمْ يَنْزِلْ قَطُّ إِلَّا الْيَوْمَ، فَسَلَّمَ وَقَالَ: أَبْشِرْ بِنُورَيْنِ أُوتِيتَهُمَا لَمْ يُؤْتَهُمَا نَبِيٌّ قَبْلَكَ، فَاتِحَةُ الْكِتَابِ وَخَوَاتِيمُ سُورَةِ الْبَقَرَةِ لَنْ تَقْرَأَ بِحَرْفٍ مِنْهُمَا إِلَّا أُعْطِيتَهُ »، أخرجه مسلم (806) .
حديث حَدَّثَنَا أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -:(52/62)
« يَقُولُ اللَّهُ: يَا آدَمُ، فَيَقُولُ: لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ، فَيُنَادَى بِصَوْتٍ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكَ أَنْ تُخْرِجَ مِنْ ذُرِّيَّتِكَ بَعْثًا إِلَى النَّارِ »، رواه البخاري (7483).
* وإليك أقوال العلماء في ذلك:
* قال الإمام البخاري في «خلق أفعال العباد» (ص:149): وإن الله عز وجل ينادي بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب، فليس هذا لغير الله جل ذكره قال أبو عبد الله: وفي هذا دليل أن صوت الله لا يشبه أصوات الخلق؛ لأن صوت الله جل ذكره يسمع من بعد كما يسمع من قرب وأن الملائكة يصعقون من صوته فإذا تنادى الملائكة لم يصعقوا، وقال عز وجل: ? فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً ? [البقرة:22]، فليس لصفة الله ند ولا مثل، ولا يوجد شيء من صفاته في المخلوقين .
* وقال أبو بكر الخلال: أخبرني علي بن عيسى أن حنبلًا حدثهم، قال: قلت لأبي عبد الله: الله يكلم عبده يوم القيامة؟ قال: نعم؛ فمن يقضي بين الخلائق إلا الله عزوجل، يكلم عبده ويسأله، الله متكلم، لم يزل الله متكلمًا؛ يأمر بما شاء، ويحكم بما يشاء، وليس له عدل ولا مثل، كيف شاء، وأين شاء. أنظر: «المسائل والرسالة المروية عن الإمام أحمد» (1288).
* وقال عبد الله بن الإمام أحمد رحمهما الله: سألت أبي رحمه الله عن قوم يقولون: " لما كلم الله عزوجل موسى؛ لم يتكلم صوت؟ فقال أبي: بلى؛ إن ربك عزوجل تكلم بصوت، هذه الأحاديث نرويها كما جاءت " . المصدر السابق (1/302).
* وقال ابن أبي عاصم في «السنة» (1/225): باب ذكر الكلام والصوت والشخص وغير ذلك.
* وقال أبو الحسن الأشعري في «رسالة إلى أهل الثغر» (ص:214): وأجمعوا على إثبات حياة الله حياة الله عزوجل، لم يزل بها حيًا... وكلامًا لم يزل به متكلمًا...(52/63)
* وقال الأصبهاني في «الحجة» (1/331 و332): " وخاطر أبو بكر رضي الله عنه -أي راهن قومًا من أهل مكة- فقرأ عليهم القرآن، فقالوا: هذا من كلام صاحبك، فقال: ليس بكلامي ولا بكلام صاحبي، ولكنه كلام الله تعالى، ولم ينكر عليه أحد من الصحابة.
وقال عمر رضي على المنبر: إن هذا القرآن كلام الله .
فهو إجماع الصحابة، وإجماع التابعين بعدهم، مثل سعيد بن المسيب، وسعيد بن جبير، والحسن، والشعبي وغيرهم، ممن يطول ذكرهم، أشاروا إلى أن كلام الله هو المتلوّ في المحاريب والمصاحف .
* وذكر صالح بن أحمد بن حنبل، وحنبل: أن أحمد رحمه الله قال: جبريل سمعه من الله، والنبي - صلى الله عليه وسلم - سمعه من جبريل، والصحابة سمعته من النبي - صلى الله عليه وسلم - .
وفي قول أبي بكر رضي الله عنه: ليس بكلامي، ولا كلام صاحبي، إنما هو هو كلام الله تعالى، إثبات الحرف والصوت؛ لأنه إنما تلا عليهم القرآن بالحرف والصوت " اه.
وبوب رحمه الله في «الحجة» (1/269): فصل إثبات النداء صفة لله عزوجل، ثم سرد جملة من الآيات والأحاديث .
* وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله كما في «مجموع الفتاوى» (12/304): واستفاضت الآثار عن النبي - صلى الله عليه وسلم - والصحابة والتابعين، ومن بعدهم من أئمة السنة؛ أنه سبحانه ينادى بصوت، نادى موسى، وينادى عباده يوم القيامة بصوت، ويتكلم بالوحي بصوت، ولم ينقل عن أحد من السلف أنه قال: إن الله يتكلم بلا صوت أو بلا حرف، ولا أنه أنكر أن يتكلم الله بصوت أو بحرف، وانظر: «مجموع الفتاوى» (6/113-545).
* وقال ابن القيم في «النونية» (1/80) على لسان معطل، يعترض على ما يثبته سني:
وزعمت أن الله كلم عبده
??
فتسمع الآذان غير الحرف والـ ... موسى فأسمعه ندا الرحمن
وكذا النداء فانه صوت بإجـ ... ـصوت الذي خصت به الأذنان
لكنه صوت رفيع وهو ضـ ... ـماع النحاة وأهل كل لسان
?ـد للنجاء كلاهما صوتان
?(52/64)
ثم إن هذا القول أن كلام الله بمعنى واحد، معناه: أن آية الدين بمعنى آية لا تقربوا الصلاة، ومعنى قول الله سبحانه وتعالى: ? وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى ? [الإسراء:32]، بمعنى آية القصاص، وأصبح القرآن معناه واحد، وأن الأحكام ما عرفت من كتاب الله، هذا معناه، وما أحسن ما يقوله شيخ الإسلام: ما أشبه قول هؤلاء بقول النصارى، الذي يقولون: اتحد اللاهوت بالناسوت . أي اتحد الإله بالناس .
هذا قول خطير جداً، ومن قال: إن القرآن ليس كلام الله، وإنما هو كلام غير الله سبحانه، فقد كفر، وقد ذمه الله وعابه ووعده بسقر، كما في »الطحاوية «.
فإذا كان ليس بكلام الله، فما الذي تعظّمه أنت؟ قال تعالى: ? ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ ? [الحج:32].
تعظم كلام البشر؟! إذا كان ليس بكلام الله، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: » لا أقول ألم حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف «، وابن حفيظ يقول: ما هو حرف ولا صوت .
إذا كان ما هو صوت، فما الذي يتدبر؟ قال الله تعالى: ? أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ ? [النساء:82].
وأما قول ابن حفيظ: ( إن كلام الله ليس بعربي ) .
فنترك الإمام الشافعي يرد عليه، قال الإمام الشافعي رحمه الله، في كتابه «الرسالة» (ص:45) بتحقيق أحمد شاكر رحمه الله: فإن قال قائل: ما الحجة في أن كتاب الله محض بلسان العرب لا يخلِطُه فيه غيره؟
فالحجة فيه كتابُ الله قال الله: ? وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ
قَوْمِهِ ? [ابراهيم:4].
فإن قال قائل: فإن الرسل قبل محمد كانوا يرسلون إلى قومهم خاصة، وإن محمداً بُعث إلى الناس كافة، فقد يحتمل أن يكون بُعث بلسان قومه خاصة، ويكونَ على الناس كافة أن يتعلموا لسانه، وما أطاقوا منه ويحتمل أن يكون بُعث بألسنتهم: فهل من دليل على أنه بعث بلسان قومه خاصة دون ألسنة العجم؟(52/65)
فإذا كانت الألسنة مختلفة بما لا يفهمه بعضهم عن بعض، فلا بد أن يكون بعضهم تبعاً لبعض، وأن يكون الفضل في اللسان المتَّبَع على التابِع .
وأولى الناس بالفضل في اللسان مَن لسانُهُ لسانُ النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا يجوز
- والله أعلم - أن يكون أهل لسانه أتباعاً لأهل لسانٍ غيرِ لسانه في حرف واحد، بل كلُّ لسان تَبَع للسانه وكلُّ أهل دين قبله فعليهم اتباع دينه، وقد بين الله ذلك في غير آية من كتابه، قال الله: ? وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ ? [الشعراء 192-195]، وقال: ? وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْماً عَرَبِيّاً ? [الرعد:37]، وقال: ? وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا ? [الشورى:7]، وقال: ? حَمْ * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ? [الزخرف:1-3]، وقال: ? قُرْآناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ? [الزمر:28] .
قال الشافعي: فأقام حجته بأن كتابه عربي في كل آية ذكرناها، ثم أكد ذلك بأن نفى عنه -جل ثناؤه- كلَّ لسان غير لسان العرب في آيتين من كتابه، فقال تبارك وتعالى: ? وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ ? [النحل:103]، وقال: ? وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أَعْجَمِيّاً لَقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ ? [فصلت:44] .(52/66)
قال الشافعي: وعرَّفَنَا نعمه بما خصَّنا به من مكانه فقال: ? لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ ? [التوبة:128]، وقال: ? هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ? [الجمعة:2] .
وكان مما عرَّف اللهُ نبيَّه من إنْعامه أنْ قال: ? وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ ? [الزخرف:44]، فخَصَّ قومَه بالذكر معه بكتابه .
وقال: ? وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ? [الشعراء:214]، وقال: ? لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا ? [الشورى: 7 ]، وأمُّ القرى: مكة، وهي بلده وبلد قومه، فجعلهم في كتابه خاصة، وأدخلهم مع المنذَرين عامة، وقضى أن يُنْذِروا بلسانهم العربي لسانِ قومه منهم خاصة .
فعلى كل مسلم أن يتعلم من لسان العرب ما بلغه جهده، حتى يَشْهَد به أنْ لا إله إلا الله، وأنَّ محمداً عبده ورسوله، ويتلوَ به كتابَ الله، وينطق بالذكر فيما افتُرِض عليه من التكبير، وأُمر به من التسبيح والتشهد وغيرِ ذلك. اه. كلامه رحمه الله.
ألستم أيها الصوفية تقولون: إنكم شافعية؟ فها هو الشافعي يقول هذا القول، ولكن لا أنتم مع الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ولا تأخذون بأقوال الشافعي فيما خالف أهواءكم، أنتم مع أفكار الشيطان، ولنا بحمد لله شريطان: في مخالفة الصوفية الشافعية للأدلة وللشافعي، الذين يزعمون أنهم أتباعه، وسنفرغها في رسالة عن قريب، إن شاء الله .
- قول عمر بن حفيظ: في كتاب خلاصة المدد النبوي في أوراد آل باعلوي (ص39): تحت عنوان: ( الدعاء بأسماء الله الحسنى، يا مقسط، يا نافع، يا جامع ) .(52/67)
رد الشيخ يحيى حفظه الله: يقول الله تعالى: ? وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا ?[الأعراف:180]، فكيف يدعو الله بأسماء لم تثبت لله عز وجل، مثل قوله: ( يا نافع، إلخ )، وتسمية الله عز وجل بما لم يسم به نفسه، ولم يسمه به رسوله - صلى الله عليه وسلم - هذا من القول على الله بلا علم، ولو أردنا أن نسمي عمر بن حفيظ بغير اسمه لما ارتضى ذلك، ولاعتبره إساءة إليه؛ أن نسميه بغير اسمه، فكيف لا يرضى هذا لنفسه، ويرضاه لله عزوجل؟! وهو بصنيعه هذا خالف الأدلة، وإجماع الأمة .
* قال الإمام الشافعي رحمه الله: " لله تعالى الأسماء والصفات جاء بها كتابه وأخبر بها نبيه - صلى الله عليه وسلم - لا يسع لأحد من خلق الله تعالى قامت عليه الحجة ردها " . «ذم التأويل» ص (23).
* وقال الإمام أحمد رحمه الله: ولا معلومة إلا بما وصف به نفسه فهو صحيح بصير، ولا يبلغ الواصفون صفته ولا يتعدى القرآن والحديث، فنقول كما قال، ونصفه بما وصف به نفسه، ولا يتعدى ذلك. «المسائل والرسائل في العقيدة» للإمام أحمد (ج1ص277) و«اجتماع الجيوش الإسلامية» ص (83) و«الفتاوى» (ج5ص26) .
* وقال الإمام الدارمي أبوسعيد عثمان بن سعيد: ونصفه بما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله - صلى الله عليه وسلم -. «الرد على بشر المريسي» ضمن «عقائد السلف» (ص: 374) .
* وقال إمام الأئمة أبوبكر محمد بن إسحاق: فنحن وجميع السلف من أهل الحجاز وتهامة واليمن والعراق والشام ومصر، مذهبنا أن نثبت لله ما أثبته لنفسه. «التوحيد» لابن خزيمة (ج1 ص26) .
* وقال الإمام أبو بكر أحمد بن إسماعيل المعروف بالإسماعيلي: ويعتقدون أن الله مدعو بأسمائه الحسنى موصوف بصفاته التي سمى ووصفه بها نبيه - صلى الله عليه وسلم -. «اعتقاد أئمة أهل الحديث» ص (35) .(52/68)
* وقال الإمام أبونصر عبيدالله بن سعيد السجزي: وقد اتفقت الأئمة على أن الصفات لا تؤخذ إلا توقيفية، ولا يجوز أن يوصف الله إلا بما وصف به نفسه، أو وصفه به رسوله - صلى الله عليه وسلم -. «الرد على من أنكر الحرف والصوت» ص (121) .
* وقال الإمام ابن عبدالبر: أهل السنة مجمعون على الإقرار بالصفات الواردة في الكتاب والسنة والإيمان بها على الحقيقة لا على المجاز. «التمهيد» (ج7 ص145) «الفتاوى» (ج5 ص87).
* وقال أبو القاسم القشيري: الأسماء تؤخذ توقيفا من الكتاب والسنة والإجماع. «الفتح» (ج11 ص226) .
* وقال أبوالحسن القابسي: أسماء الله وصفاته لا تعلم إلا بالتوقيف من الكتاب والسنة أو الإجماع، ولا يدخل فيها بالقياس. «الفتح» (ج11 ص220) .
* وقال ابن مندة: وأسماء الله وصفاته توقيفية وأهل السنة والجماعة لا يثبتون لله إلا ما أثبته لنفسه في كتابه أو صح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. «التوحيد» لابن مندة (ج2 ص 135) .
* وقال ابن حزم: فصح أنه لا يحل أن يسمى الله تعالى إلا بما سمى به نفسه. «المحلى» (ج8 ص31) .
* وقال الإمام البغوي: أسماء الله تعالى على التوقيف. «معالم التنزيل» (ج3 ص307) .
* وقال السفاريني في «لوامع الأنوار»:
لكنها في الحق توقيفي
نا بذا أدلة وفيَّة
.?
ثم شرح ذلك فقال: لنا معشر أهل السنة وأتباع السلف باعتبار ثبوت التوقيف في أسماء الباري جل وعلا من الشارع أدلة وفية عالية تفي بالمقصود، لأن ما لم يثبت من الشارع لم يكن مأذونا في إطلاقه عليه، والأصل المنع حتى يقوم دليل الإذن، فإذا ثبت كان توقيفي. «لوامع الأنوار» (ج1 ص 124-125) .(52/69)
* وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: وجماع القول في إثبات الصفات هو القول بما كان عليه سلف الأمة وأئمتها، وهو أن يوصف الله بما وصف به نفسه، وبما وصفه به رسوله - صلى الله عليه وسلم -، ويصان ذلك عن التحريف والتمثيل والتكيف والتعطيل ? لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ? [الشورى:11] لا في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله. اه المراد من «مجموع الفتاوى»
(ج6 ص515) .
* وقال تلميذه الإمام ابن القيم رحمه الله ضمن قواعد ذكرها في الصفات قال: السابع أن ما يطلق عليه من باب الأسماء والصفات
توقيفي. اه من «بدائع الفوائد» (ج1 ص162) .
وعليه فلا يجوز إثبات اسم لله ولا صفة بغير دليل صحيح ينص عليها لقول الله سبحانه: ?وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ? [لأعراف:180]، وإثبات وصفات الله عزوجل، على غير دليل صحيح؛ قول على الله بلا علم، وقد قرن الله عز وجل القول عليه بغير علم بالشرك الأكبر، فقال تعالى: ? قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْأِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ ? [لأعراف:33]، وقال تعالى: ? وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً ? [الإسراء:36]، والنبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول:« أعوذ بك منك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على
نفسك » .
- قول عمر بن حفيظ (في المصدر السابق): ( يا جامع، يا بر، يا نافع، يا نور، يا باقي ) .
رد الشيخ يحيى حفظه الله: بعض هذه الأسماء لم ثبت لله عزوجل؛ كالجامع، والباقي أثبته بعضهم، ولا دليل على إثباته من الأسماء الحسنى .(52/70)
- قول عمر بن حفيظ: ( يا وارث، يا رشيد، يا صبور ) .
رد الشيخ يحيى حفظه الله: ما الدليل على الرشيد؟.
- قول عمر بن حفيظ: في (ص40)، ( صلى الله وسلم في كل لحظة أبدا، بعدد معلوماتك؟ ) .
رد الشيخ يحيى حفظه الله: هذا كلام مطلق، ويصلي في كل لحظة كلام باطل، فهناك حث على الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم -: ? إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً ? [الأحزاب:56]، » أكثروا من الصلاة عليّ فإن صلاتكم معروضة عليّ «، قالوا: يا رسول الله، كيف تعرض عليك وقد أرمت، -بليت- قال: »إن الأرض لا تأكل أجساد الأنبياء « .
الشاهد من هذا الإكثار، لكن ليس على هذا الإطلاق الباطل .
- قول عمر بن حفيظ: في (ص44)، ( ثم تقرأ القصائد التالية بصوت واحد، مع تكرير الأبيات التي تحتها بعد الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ ) .
رد الشيخ يحيى حفظه الله: معناه أنه يحث الناس على قراءة هذه الأبيات، التي سيأتي ذكرها .
- قول عمر بن حفيظ في رسالة «خلاصة المدد» ص:(45):
إلهي نسألك بالاسم الأعظ
جاه المصطفى فرج علينا
?
رد الشيخ يحيى حفظه الله: هذا أيضاً دعاء غير مشروع، ولم يؤثر عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا أصحابه، ولا عن أحد ممن يعتمد قولهم من أهل العلم، ثبت عن بريدة رضي الله عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سمع رجلاً يقول: اللهم إني أسألك بأني أشهد أنك أنت الله لا إله إلا أنت، الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد، فقال: « لقد سأل الله باسمه الأعظم » أما أنه يقول: أسألك باسمك الأعظم، هذا دعاء ليس عليه دليل، وهو محدث .(52/71)
وقوله: (بجاه المصطفى فرج علينا)، التوسل بجاه النبي - صلى الله عليه وسلم -، من المحدثات، النبي - صلى الله عليه وسلم - له جاه، وموسى عليه السلام يقول الله عنه: ? وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً ? [الأحزاب:69]، والنبي عليه الصلاة والسلام خير البشر، لكن التوسل بالجاه من المحدثات، » من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد « .
قال تعالى: ? إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ ? [فصلت:6]، وهو يتوسل إلى الله بجاهه، وبحقه، وكأنه حق على الله سبحانه لازم، كحق الإنسان على
الإنسان .
ما للعباد عليه حق واجب
??
إن عذبوا فبعدله أو نعموا ... كلا ولا سعي لديه ضائع
?فبفضله وهو الكريم الواسع
?
وأما حديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: » أتدري ما حق الله على العباد، وما حق العباد على الله يا معاذ؟« ، هو حق أوجبه الله على نفسه، ? وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ ? [الروم:47]، وليس من جنس حق الإنسان على الإنسان، حتى يقول: أسألك بحق فلان أو بجاه فلان .
وجاء في التوسل بالجاه حديث لا أصل له، مذكور في «السلسلة الضعيفة» للعلامة الألباني رحمه الله رقم (22)، وهكذا شيخ الإسلام يقول: حديث »توسلوا بجاهي فإن جاهي عظيم «، هذا حديث لا أصل له .
وحديث: » اللهم إني أسألك بحق السائلين إليك، وحق ممشاي إليك «، أخرجه أحمد، رقم: (11156) عن أبي سعيد، وفيه عطية العوفي ضعيف، ومدلس وقد عنعن، فهو حديث لم يثبت، ولو ثبت الحديث لكان من التوسل بالأعمال الصالحة، لأنه يتوسل بممشاه إلى الصلاة، وهو عمل صالح، ولكنه لم يثبت، ولا دلالة لهم في ذلك(1)
__________
(1) - أنواع التوسل المشروع ثلاثة، وهي:
1 ـ التوسل بأسماء الله وصفاته، والدليل قول الله تعالى: ? وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا ? [لأعراف:180] . وقوله تعالى: ? وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ ? [النمل:19] . =
= 2 ـ توسل العبد إلى الله إلى تعالى بعمله الصالح، والدليل قول الله تعالى: ? الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ? [آل عمران:16] . وقوله: ? رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ ? [آل عمران:53] .
ومن السنة حديث الثلاثة الذين انطبقت عليهم صخرة، فسدت عليهم الغار، فتوسل كل واحد منهم بخالص عمله. متفق عليه.
3 ـ التوسل بدعاء الرجل الصالح، والدليل حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: بينما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخطب إذ جاءه رجل فقال: يا رسول الله قحط المطر، فادع الله أن يسقينا، فدعا فمطرنا .
فهذا الحديث فيه أنهم توسلوا إلى الله عزوجل بدعاء أفضل الخلق، ولم يجلسوا في بيوتهم ويقولون: نسألك بجاه نبيك، أو بحق نبيك، ولو كان ذلك مشروعًا لفعلوه، ولكن لم يفعل هذا منهم أحد في حياته، ولا بعد موته - صلى الله عليه وسلم -، فقد استسقى عمر بن الخطاب رضي الله عنه بعد موت النبي - صلى الله عليه وسلم - وطلب من العباس أن يدعو الله لهم؛ لأنه شيخ كبير صالح، كما هو مبين في «فتح الباري» (3/150) أن العباس دعا الله عزوجل، ولو توسلوا بجاهه لتوسلوا بجاه النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو حي، فهو أعظم، ولم يفعلوا.
واستسقى معاوية رضي الله عنه ثم قال: اللهم إنا نستشفع إليك اليوم بخيرنا وأفضلنا، اللهم إنا نستشفع إليك اليوم بيزيد بن الأسود الجرشي . يا يزيد ارفع يديك إلى الله، فرفع يديه ورفع الناس أيديهم فسقاهم الله، حتى كاد الناس أن لا يبلغوا منازلهم. رواه ابن عساكر (65/112،113) بإسناد صحيح. وانظر «التوسل» للعلامة الألباني رحمه الله، (ص:45).(52/72)
. ثم نرشد إخواننا المسلمين إلى قراءة تلك الرسالة المفيدة »قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة« لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله .
- قال عمر بن حفيظ : في المصدر السابق: (ص:45): في هذه الآبيات :
توسلنا به في كل أم
ياث الخلق رب العالمينا
?
رد الشيخ يحيى حفظه الله: (توسلنا به في كل أمر)، معناه يتوسل به في سائر الكروب، والخطوب، وقوله: (غياث الخلق رب العالمين)، يعني: أحد أمرين: إما إنه توسل به -أي بالنبي - صلى الله عليه وسلم -- إلى غياث الخلق، أي الذي يغيث الخلق، وهو الله سبحانه وتعالى، وإما أنه يعني أنه توسل برسول الله، وأن رسول الله هو غياث الخلق، وهذا ليس للنبي - صلى الله عليه وسلم - في الدنيا، قال الله تعالى:
? قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ ? [الكهف:110]، وقال: ? قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ ? [لأعراف:188]، وإما أنه يعني أنه غياث الخلق يوم القيامة، وهذا ليس لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -, إنما يشفع بإذن الله، قال الله تعالى: ? مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ ? [البقرة:255]، وقال تعالى: ? وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى ? [الانبياء:28] .
ولما ذكر ابن كثير في «البداية والنهاية» البوصيري الذي ادعى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ينقذ الناس من النار، بقوله:
يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به
سواك??
إن لم تكن في معادي آخذاً بيدي ... سواك عند حدوث الحادث العمم
فإن من جودك الدنيا وضرتها ... وإلا فقل يا زلة القدم
?ومن علومك علم اللوح والقلم
?
قال ما أبقى لله شيئًا، أي أنه أشرك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في جميع خصائص الربوبية .
- قال عمر بن حفيظ كما في المصدر السابق ص:(45-46):
وبالعلماء بأمر الله طراً
??
أخص به الإمام القطب حقاً ... وكل الأولياء والصالحينا(52/73)
وذكر العيدروس في الخطب أجلى ... وجيه الدين تاج العارفينا
?عن القلب الصدي للصادقينا
?
رد الشيخ يحيى حفظه الله: أسمعتم أنه يتوسل بالعلماء، ويقول: العيدروس يجلي عن القلب الصدى، من أي باب هذا؟، من باب الشرك بالله عز وجل، قال الله تعالى: ? أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ ?[النمل:62]، هو الله الذي يكشف السوء و يجلي عن القلوب صداها، ويقلّبها كيف شاء، أخرج مسلم في «صحيحه» أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: « اللَّهُمَّ مُصَرِّفَ الْقُلُوبِ، صَرِّفْ قُلُوبَنَا عَلَى طَاعَتِكَ »، وقال الله تعالى: ? قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ? [الأنعام:63]، وقال:
? وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ ? [النمل:62].
هذه مبالغات ومجازفات وغلو، في العيدروس أنه يجلي ما في القلوب، وأنه يكشف الكروب، إلى آخر ما تتضمنه هذه الكلمة البطالة الضال صاحبها.
- قول عمر بن حفيظ كما في المصدر السابق: (ص:46):
عفيف الدين محي الدين حق
ه تحكيمنا وبه اقتدينا
?
رد الشيخ يحيى حفظه الله: اقتد برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قاتلك الله، الله يقول:
? اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ ? [الأعراف:3]، ويقول سبحانه: ? وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ? [الحشر:7]، ويقول تعالى: ? فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ? [النور:63]، ويقول:(52/74)
? فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً ? [النساء:65]، ويقل عز وجل: ? أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً * فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً * أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً ? [النساء: 60-63].
قدوتنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومن اقتدى بغيره فعليه أن يرجع إلى الله، وأن يقتدي برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، الله أمر بذلك، »تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك « .
»دعوني ما تركتكم إنما أهلك من كان قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبياءهم« ، أنت ممن يشمله هذا الحديث .
وقوله: ( له تحكيمنا ) هذا كلام فيه نظر؛ الله عزوجل يقول: ? إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ ? [الأنعام:57]، هذا شرك، قال الله تعالى: ? قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ ? [الأنعام:162-163].
- قال عمر بن حفيظ كما في المصدر السابق: (ص:46):
ولا ننسى كمال الدين سعدً
ظيم الحال تاج العابدينا
?(52/75)
رد الشيخ يحيى حفظه الله: انظر يا أخي على ألقاب!، كمال الدين، وتاج العابدين، وحالهم كما قال الصنعاني:
تسمى بنور الدين وهو ظلام
هذا بشمس الدين وهو له خسف
?
فهي ألقاب، قال الله تعالى: ? إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ
وَآبَاؤُكُمْ ? [لنجم:23]، والله لا أنتم بتاج للدين، ولا بمجد للدين، ولا أنتم بنور للدين، بل أنتم ? ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ ? [النور:40] .
والصوفية والرافضة والإسماعيلية أشهر من عرف بهذه الألقاب، كبرًا منهم، ولتغطية فضائحهم بها .
- قال عمر بن حفيظ كما في المصدر السابق: (ص:46):
بهم ندعو إلى الله تعال
غفران يعم الحاضرينا
?
رد الشيخ يحيى حفظه الله: معناه يتوسل بهم، وهذا توسل بدعي كما بيناه قبل .
- قال ابن حفيظ كما في المصدر السابق: (ص:199-201):
يا قابض يا باسط هبنا المنى
??
يا واجد يا ماجد هبنا الأمل ... يا حافظ يا رافع كن عوننا
مقسط يا جامع اجمع لي الخيور ... يا واحد يا أحد عز وجل
?غني يا مغني وضاع الأجور
?
رد الشيخ يحيى حفظه الله: هذا الرجل لا يتقيد بدليل، لا في أسماء الله، ولا في صفاته ولا غير ذلك، ولا يتأدب مع الله عز وجل بأدب شرعي، كما قد بينا ذلك في هذه الرسالة.(52/76)
ودين الصوفية، ودين الرافضة، مبني على قصائد وأناشيد، وعلى رقص بمثل رقص النصارى، يتمايلون، والله لو رأيت النصارى في الكنائس لا تكاد تفرق بين النصارى في الكنائس وبين الصوفية في مساجدهم، يرقصون حتى أحدهم يسيل لعابه على صدره، أف لتلك الحالة التي هم فيها، تخجل وتستحي لهم، فمن يرغب في هذه الحالة، هذه حالة رذيلة، يمسون يعوون: (هو هو هو)، ينبحون مثل الكلاب، يبيت ينبح حتى يغمى عليه، وقالوا: بلغ درجة اليقين، بل بلغ درجة الكفر والزندقة، فإنهم إذا بلغ عندهم درجة اليقين، معناه: أنه ارتفع عنه القلم ولا صلاة عليه، ولا صيام عليه، ولا زكاة عليه، ولا حج عليه، ولا شيء من الأركان والواجبات أبداً .
فمعناه أنه بلغ درجة الكفر المتيقن .
- قال عمر بن حفيظ: في شريط ( بيان مشروعية المولد النبوي ) الوجه الثاني، عند حديث النبي - صلى الله عليه وسلم -، أنه قال: » لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم، وإنما أنا عبد الله ورسوله، فقولوا: عبد الله ورسوله « .
رد الشيخ يحيى حفظه الله: أقول: لو أنصف هذا المنحرف لقال:
( ببدعية المولد )، لأن المولد بدعة، أحدثها العبيديون من الباطنية القرامطة، ولم يكن في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا في زمن أبي بكر، ولا عمر ولا عثمان، ولا علي ولا سائر الصحابة، ولا سائر التابعين، وأتباعهم، أمثل هذا يقال: عنه إنه مشروع، والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: » من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد « .
وإليك بيان تاريخ هذه البدعة المنكرة، وقبح سيرة العبيدية الباطنية الذين أحدثوها، وخلفهم الصوفية فيها، فبئست البدعة، وبئس المخلف، وبئس
الخلف .(52/77)
* قال تقي الدين أحمد بن علي بن عبد القادر بن محمد المعروف بالمقريزي، في الجزء الأول من كتابه «المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار» (ص:490) تحت عنوان ذكر الأيام التي كان الخلفاء الفاطميون يتخذونها أعياداً، ومواسم تتسع بها أحوال الرعية، وتكثر نعمهم، قال: وكان للخلفاء الفاطميين في طول السنة أعياد، ومواسم، وهي: مواسم رأس السنة، ومواسم أول العام، ويوم عاشوراء، ومولد النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومولد علي بن أبي طالب رضي الله عنه ومولد الحسن والحسين عليهما السلام، ومولد فاطمة الزهراء عليها السلام، ومولد الخليفة الحاضر، وليلة أول رجب، وليلة نصفه، وموسم ليلة رمضان، وغرة رمضان، وسماط رمضان، وليلة الختم، وموسم عيد الفطر، وموسم عيد النحر، وعيد الغدير، وكسوة الشتاء، وكسوة الصيف، وموسم فتح الخليج، ويوم النوروز، ويوم الغطاس، ويوم الميلاد، وخميس العدس، وأيام الركوبات ) اه.
ثم بعد إيضاحه غاية الإيضاح تلك الأعياد والمواسم، ذكر أن الموالد الستة كانت مواسم جلية، يعمل الناس فيها ميزات من ذهب، وفضة، وخشكنانج، وحلواء، وبسط في ذلك الجزء من الكتاب كتاب: «المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار» (ص:432-433) الكلام على وصف جلوس الخليفة في الموالد بالنظرة، على باب الذهب، قال:(52/78)
قال ابن المأمون في أخبار سنة ست عشرة وخمسمائة : وفي الثاني عشر من المحرم كان المولد الآمري، واتفق كونه في هذا الشهر يوم الخميس، وكان قد تقرر أن يعمل أربعون صينية خشكنانج، وحلوى، وكعك، وأطلق برسم المشاهد المحتوية على الضرائح الشريفة لكل مشهد سكر، وعسل، ولوز، ودقيق، وشيرج، وتقدم بأن يعمل خمسمائة رطل حلوى، وتفرق على المتصدرين، والقراء، والفقراء للمتصدرين ومن معهم في صحون، وللفقراء على أرغفة السميذ، ثم حضر في الليل المذكورة: القاضي، والداعي، والشهود، وجميع المتصدرين، وقراء الحضرة، وفتحت الطاقات التي قبلي باب الذهب، وجلس الخليفة، وسلموا عليه، ثم خرج متولي بيت المال بصندوق مختوم ضمنه عينًا مائة دينار وألف وثمانمائة وعشرون درهمًا، برسم أهل القرافة وساكنيها وغيرهم، وفرقت الصواني بعدما حمل منها للخاص، وزمام القصر، ومتولي الدفتر خاصة، وإلى دار الوزارة، والأجلاء الأخوة والأولاد وكاتب الدست، ومتولي حجبة الباب، والقاضي، والداعي، ومفتي الدولة، ومتولي دار العلم والمقرئين الخاص، وأئمة الجوامع بالقاهرة، ومصر، وبقية الأشراف .(52/79)
قال : وخرج الآمر، يعني في سنة سبع عشرة وخمسمائة، بإطلاق ما يخص المولد الآمري برسم المشاهد الشريفة؛ من سكر، وعسل، وشيرج، ودقيق، وما يصنع مما يفرق على المساكين، بالجامعين: الأزهر بالقاهرة، والعتيق بمصر، وبالقرافة خمسة قناطير حلوى، وألف رطل دقيق، وما يعمل بدار الفطرة، ويحمل للأعيان والمستخدمين من بعد القصور، والدار المأمونية صينية خشكنانج، وحضر القاضي والداعي، والمستخدمون بدار العيد، والشهود في عشية اليوم المذكور؛ وقطع سلوك الطريق بين القصرين، وجلس الخليفة في المنظرة، وقبلوا الأرض بين يديه، والمقرئون الخاص جميعهم يقرؤون القرآن، وتقدم الخطيب وخطب خطبة وسع القول فيها، وذكر: الخليفة، والوزير، ثم حضر من أنشد، وذكر فضيلة الشهر والمولود فيه، ثم خرج متولي بيت المال ومعه صندوق من مال النجاوي خاصة مما يفرق على الحكم المتقدم ذكره .
قال : واستهل ربيع الأول، ونبدأ بما شرف به الشهر المذكور، وهو ذكر مولد سيد الأولين والآخرين محمد لثلاث عشرة منه، وأطلق ما هو برسم الصدقات من مال النجاوي خاصة: ستة آلاف درهم، ومن الأصناف من دار الفطرة: أربعون صينية فطرة، ومن الخزائن برسم المتولين والسدنة للمشاهد الشريفة، التي بين الجبل والقرافة التي فيها أعضاء آل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، سكر، ولوز، وعسل، وشيرج لكل مشهد، وما يتولى تفرقته : سنا الملك ابن ميسر أربعمائة رطل حلاوة، قال : ( وكان الأفضل بن أمير الجيوش قد أبطل أمر الوالد الأربعة : النبوي، والعلوي، والفاطمي، والإمام الحاضر، وما يهتم به، وقدم العهد به، حتى نسي ذكرها، فأخذ الأستاذون يجددون ذكرها للخليفة الآمر بأحكام الله ويرددون الحديث معه فيها، ويحسنون له معارض الوزير بسببها وإعادتها، وإقامة الجواري والرسوم فيها، فأجاب إلى ذلك وعمل ما ذكر ) .(52/80)
* وقال ابن الطوير : ذكر جلوس الخليفة في الموالد الستة، في تواريخ مختلفة، وما يطلق فيها، وهي مولد النبي ، ومولد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، ومولد فاطمة عليها السلام، ومولد الحسن، ومولد الحسين عليهما السلام، ومولد الخليفة الحاضر، ويكون هذا الجلوس في المنظرة التي هي أنزل المناظر، وأقرب إلى الأرض، قبالة دار فخر الدين جهاركس، والفندق المستجد، فإذا كان اليوم الثاني عشر من ربيع الأول، (وهو يوم مولده) تقدم بأن يعمل في دار الفطرة عشرون قنطارًا من السكر اليابس حلواء يابسة، من طرائفها، وتعبئ في ثلاثمائة صينية من النحاس، فتفرق تلك الصواني في أرباب الرسوم، من أرباب الرتب، وكل صينية في قوارة من أول النهار إلى ظهره ، فأول أرباب الرسوم، قاضي القضاة، ثم داعي الدعاة، ويدخل في ذلك القراء بالحضرة، والخطباء، والمتصدرون بالجوامع بالقاهرة، وقومة المشاهد، ولا يخرج ذلك مما يتعلق بهذا الجانب يدعو بخرج من دفتر المجلس كما قدمناه، فإذا صلى الظهر ركب قاضي القضاة والشهود بأجمعهم إلى الجامع الأزهر، ومعهم أرباب تفرقة الصواني، فيجلسون مقدار قراءة الختمة الكريمة، ثم يستدعي قاضي القضاة ومن معه؛ فإن كانت الدعوة مضافة إليه وإلا حضر الداعي معه بنقباء الرسائل، فيركبون ويسيرون إلى أن يصلوا إلى آخر المضيق من السيوفيين، قبل الابتداء بالسلوك بين القصرين، فيقفون هناك وقد سلكت الطريق على السالكين: من الركن المخلق، ومن سويقة أمير الجيوش عند الحوض هناك، وكنست الطريق فيما بين ذلك، ورشت بالماء رشًا خفيفًا، وفرش تحت المنظرة المذكورة بالرمل الأصفر ، ثم يستدعى صاحب الباب من دار الوزارة، ووالي القاهرة، ماض وعائد لحفظ ذلك اليوم من الازدحام على نظر الخليفة، فيكون بروز صاحب الباب من الركن المخلق؛ هو وقت استدعاء القاضي ومن معه، من مكان وقوفهم، فيقربون من المنظرة؛ يترجلون قبل الوصول إليها بخطوات، فيجتمعون تحت المنظرة دون الساعة(52/81)
الزمانية بسمت وتشوف؛ لانتظار الخليفة، فتفتح إحدى الطاقات فيظهر منها وجهه وما عليه من المنديل، وعلى رأسه عدة من الأستاذين المحنكين وغيرهم من الخواص منهم، ويفتح بعض الأستاذين طاقة ويخرج منها رأسه؛ ويده اليمنى في كمه ويشير به قائلًا : أمير المؤمنين يرد عليكم السلام، فيسلم بقاضي القضاة أولًا بنعوته، وبصاحب الباب بعده كذلك، وبالجماعة الباقية جملة جملة، من غير تعيين أحد فيستفتح قراء الحضرة بالقراءة، ويكونون قيامًا في الصدر: وجوههم للحاضرين، وظهورهم إلى حائط المنظرة، فيقدم خطيب الجامع الأنور المعروف بجامع الحاكم؛ فيخطب كما يخطب فوق المنبر إلى أن يصل إلى ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - فيقول : وإن هذا يوم مولده، إلى ما من الله به على ملة الإسلام من رسالته، ثم يختم كلامه بالدعاء للخليفة، ثم يؤخر، ويقدم خطيب الجامع الأزهر، فيخطب كذلك، ثم خطيب الجامع الأقمر فيخطب كذلك، والقراء في خلال خطابة الخطباء يقرؤون، فإذا انتهت خطابة الخطباء، أخرج الأستاذ رأسه ويده في كمه من طاقته، ورد على الجماعة السلام، ثم تغلق الطاقتان، فتنفض الناس، ويجري أمر الموالد الخمسة الباقية على هذا النظام، إلى حين فراغها على عدتها من غير زيادة ولا نقص، انتهى .(52/82)
* وقال أبو العباس أحمد بن علي القلقشندي، في الجزء الثالث من «صبح الأعشى في صناعة الانشاء» (ص:498-499) في كلام له طويل في جلوسات الخليفة الفاطمي، قال بعد أن ذكر جلوسه في المجلس العام، أيام المواكب وجلوسه ليلة أول رجب، وليلة نصفه، وليلة أول شعبان، وليلة نصفه للقاضي والشهود في الليالي الوقود الأربع من كل سنة، قال: الجلوس الثالث: جلوسه في مولد النبي في الثاني عشر من شهر ربيع الأول، وكان عادتهم فيه أن يعمل في دار الفطرة عشرون قنطاراً من السكر الفائق، حلوى من طرائف الأصناف، وتعبئ في ثلاثمائة صينية نحاس، فإذا كان ليلة ذلك المولد، تفرق في أرباب الرسوم : كقاضي القضاة، وداعي الدعاة، وقراء الحضرة، والخطباء، والمتصدرين بالجوامع بالقاهرة ومصر، وقومه المشاهد وغيرهم ممن له اسم ثابت بالديوان، ويجلس الخليفة في منظرة قريبة من الأرض؛ مقابل الدار القطبية المتقدمة الذكر، وهي: بالبيمارستان، المنصوري الآن، ثم يركب القاضي بعد العصر، ومعه الشهود إلى الجامع الأزهر، ومعهم أرباب تفرقة الصواني المتقدمة الذكر، فيجلسون في الجامع مقدار قراءة الختمة الكريمة، وتسد الطريق تحت القصر، من جهة السيوفيين، وسويقة أمير الجيوش، ويكنس ما بين ذلك، ويرش بالماء رشاً، ويرش تحت المنظرة بالرمل الأصفر، ويقف صاحب الباب، ووالي القاهرة على رأس الطرق لمنع المارة، ثم يستدعي القاضي ومن معه، فيحضرون ويترجلون على القرب من المنظرة، ويجتمعون تحتها وهم متشوفون لانتظار ظهور الخليفة، فيفتح إحدى طاقات المنظرة، فيظهر منها وجهه، ثم يخرج أحد الأستاذين المحنكين يده، ويشير بكمه؛ بأن الخليفة يرد عليكم السلام، ويقرأ القراء، ويخطب الخطباء كما تقدم في ليالي الوقود، فإذا انتهت خطابة الخطباء، أخرج الأستاذ يده مشيراً برد السلام كما تقدم، ثم تغلق الطاقتان، وينصرف الناس إلى بيوتهم، وكذلك شأنهم في مولد علي بن أبي طالب كرم الله وجهه الخاص في أوقات(52/83)
معلومة عندهم من السنة .
* وممن صرح من المتأخرين بأن أول من أحدث المولد المتسمون بالفاطميين، مفتي الديار المصرية، الشيخ: محمد بخيت المطيعي، والشيخ: علي محفوظ، والسيد: علي علي فكري، فقد قال العلامة الشيخ محمد بخيت المطيعي الحنفي ،مفتي الديار المصرية سابقًا، في كتابه «أحسن الكلام فيما يتعلق بالسنة والبدعة من الأحكام (ص:44-45)، مما أحدث، وكثر السؤال عنه .
ثم قال المطيعي في « بيان ما كان يعمل في المولد النبوي من الفاطميين» (ص:45-47) وفي خلافة الأمر بأحكام الله، أعاد الموالد الستة المذكورة قبل، بعد أن أبطلها الأفضل، وكاد الناس ينسونها، وكان الخليفة يجلس في هذه الموالد في تواريخ مختلفة، ويكون جلوسه كما في الخطط للمقريزي، نقلًا عن ابن الطوير في المنظرة التي هي أنزل المناظر، وأقرب إلى الأرض، ففي المولد المولد النبوي إذا كان اليوم الثاني عشر الثاني من ربيع الأول، يعمل في دار الفطرة عشرون قنطارًا من السكر اليابس حلواء يابسة، وتعبئ في ثلاثمائة صينية من النحاس، فتفرق تلك الصواني في أرباب الرسوم، من أرباب الرتب، من أول النهار إلى ظهره ، فأولهم: قاضي القضاة، ثم داعي الدعاة، وقراء حضرة الخليفة، والخطباء، والمتصدرون بالجوامع، فإذا صلى الظهر ركب قاضي القضاة والشهود بأجمعهم إلى الجامع الأزهر، ومعهم أرباب تفرقة الصواني، فيجلسون فيه مدة، ثم يستدعي قاضي القضاة ومن معه بالأزهر فيركبون؛ وقد وكنست الطريق، ورشت بالماء رشًا خفيفًا، وفرش ما تحت المنظرة بالرمل الأصفر ، ثم يستدعى صاحب الباب من دار الوزارة، كل ذلك ووالي مصر يغدو ويروح؛ لحفظ ذلك اليوم من الازدحام على نظر الخليفة، فيقرب جميع المدعوين من المنظرة؛ ويترجلون قبل الوصول إليها بخطوات، فيجتمعون تحتها دون الساعة الزمانية؛ لانتظار الخليفة، فتفتح إحدى الطاقات المنظرة فيظهر منها وجهه، وما عليه من المنديل، وفوق رأسه عدة رجال يسمون بالأستاذين وغيرهم(52/84)
من الخواص، ويفتح بعض الأستاذين طاقة أخرى ويخرج منها رأسه؛ ويده اليمنى في كمه ويشير به قائلًا : أمير المؤمنين يرد عليكم السلام، فيبدأ بقاضي القضاة أولًا فيسلم عليه بنعوته، ثم بعده بصاحب الباب ثم بالجماعة الباقية جملة جملة، من غير تعيين واحد، فيستفتح قراء الحضرة بالقراءة، ويكونون وقوفًا في الصدر: وجوههم وظهورهم إلى حائط المنظرة، فيتقدم خطيب الجامع الأنور المعروف بجامع الحاكم؛ فيخطب كما يخطب فوق المنبر إلى أن يصل إلى ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - فيقول : إن هذا اليوم مولده ، وقد بعثه الله فيه برسالة عامة، ثم يختم كلامه بالدعاء للخليفة، ثم يتقدم خطيب الجامع الأزهر، فيخطب كذلك، ثم خطيب الجامع الأقمر فيخطب كذلك، والقراء في خلال خطابة الخطباء يقرؤون، فإذا انتهت الخطب، أخرج الأستاذ رأسه ويده في كمه من طاقته، ورد على الجماعة السلام، ثم تغلق الطاقتان، فينفض الناس، ويجري أمر الموالد الخمسة الباقية على هذا النظام، إلى حين فراغها، من غير زيادة ولا نقص، إلا فيما يتعلق بصاحب المولد في الخطب، فإنه يكون: في كل مولد بما يناسب صاحبه .(52/85)
ذكر المطيعي هذا كله، ثم قال (ص:47): وقد استمر عمل الموالد إلى الآن، غير أن الناس تركوا بعض الموالد الخمسة، وزادوا موالد أخرى، حتى كادت الموالد الآن لا تحصى، وزادوا على ما كان يعمل فيها من زمن الفاطميين أشياء، ونقصوا أشياء، وزادوا في أيامها، ثم بعد ما نقل المطيعي ما كان يعمله مظفر الدين، صاحب إربل بمولد النبي - صلى الله عليه وسلم -، عن ابن خلكان، ونقل عنه أيضًا قضية ابن دحية معه، وتأليفه له «التنوير في مولد السراج المنير» بعد ما نقل ذلك قال في (ص:52): من ذلك تعلم أن مظفر الدين إنما أحدث المولد النبوي في مدينته إربل، على الوجه الذي وصف، فلا ينافي ما ذكرناه، من أن أول من أحدثه في القاهرة الخلفاء الفاطميون، من قبل ذلك، فإن دولة الفاطميين انقرضت بموت العاضد بالله أبي محمد عبد الله بن الحافظ ابن المستنصر، في يوم الاثنين عاشر المحرم سنة: سبع وستين وخمسمائة هجرية، وما كانت الموالد تعرف في دولة الإسلام، إلا من قبل الفاطميين .(52/86)
* وقال الشيخ علي محفوظ في « الإبداع في مضار الابتداع » (ص:126)، في فصل عقده لبدع الموالد، وأول من أحدثها، وأورادها التاريخية: أول من أحدثها ـ أي الموالد ـ بالقاهرة الخلفاء الفاطميون، في القرن الرابع، فابتدعوا ستة موالد: المولد النبوي، ومولد الإمام علي - رضي الله عنه -، ومولد السيدة فاطمة الزهراء رضي الله عنها، ومولد الحسن، والحسين رضي الله عنهما، ومولد الخليفة الحاضر، وبقيت هذه الموالد على رسومها، إلى أن أبطلها الأفضل بن أمير الجيوش، ثم أعيدت في خلافة الحاكم بأمر الله، في سنة أربع وعشرين وخمسمائة، بعد ما كاد الناس ينسونها، وأول من أحدث المولد النبوي بمدينة إربل الملك: المظفر أبو سعيد، في القرن السابع، قال: وقد استمر العمل بالموالد إلى يومنا هذا، وتوسع الناس فيها، وابتدعوا بكل ما تهواه أنفسهم، ويوحيه إليهم الشيطان. اه(1).
* قال الذهبي رحمه الله في «سير أعلام النبلاء» (570): المهدي وذريته. عبيد الله أبو محمد، أول من قام من الخلفاء الخوارج العبيدية الباطنية، الذين قلبوا الإسلام، وأعلنوا بالرفض، وأبطنوا مذهب الإسماعيلية، وبثوا الدعاة، يستغوون الجبلية والجهلة، وادعى هذا المدبر، أنه فاطمي من ذرية جعفر الصادق، فقال: أنا عبيد الله بن محمد بن ميمون بن محمد بن إسماعيل بن جعفر بن محمد .
والمحققون على أنه ادعى أن المعز منهم، لما سأله السيد ابن طباطبا عن نسبه، قال: غدًا أخرجه لك، ثم أصبح وقد ألقي عرمة من الذهب، ثم جب نصف سيفه من غمده، فقال: ها نسبي، وأمرهم بنهب الذهب، وقال: هذا حسبي .
وقد صنف ابن الباقلاني وغيره من الأئمة في هتك مقالات العبيدية، وبطلان نسبهم، فهذا نسبهم، وهذه نحلتهم، وقد سقت في حوادث «تاريخنا» من أحوال هؤلاء وأخبارهم في تفاريق السنين عجائب .
__________
(1) - أفاده الشيخ إسماعيل الأنصاري رحمه الله، في كتابه « القول الفصل في حكم الاحتفال بمولد خير الرسل » .(52/87)
وكان هذا من أهل سلمية له غور، وفيه دهاء ومكر، وله همة علية، فسرى على أنموذج علي بن محمد الخبيث، صاحب الزنج الذي خرب البصرة وغيرها، وتملك بضع عشر سنة، وأهلك البلاد والعباد، وكان بلاء على الأمة، فقتل سنة سبعين ومائتين.
ولهم " البلاغات السبعة " : فالأول للعلوم وهو الرفض، ثم البلاغ الثاني للخواص، ثم البلاغ الثالث لمن تمكن، ثم الرابع لمن استمر سنتين، ثم الخامس لمن ثبت في المذهب ثلاث سنين، ثم السادس لمن أقام أربعة أعوام، ثم الخطاب بالبلاغ السابع وهو الناموس الأعظم .
* قال أبو الحسن القابسي، صاحب ( الملخص ) : إن الذين قتلهم
عبيد الله وبنوه أربعة آلاف في دار النحر في العذاب من عالم وعابد ليردهم عن الترضي عن الصحابة، فاختاروا الموت، فقال سهل الشاعر:
وأحل دار النحر في أغلال
ن كان ذا تقوى وذا صلوات
?
وقال (15/574): وفي أيام المهدي، عاثت القرامطة بالبحرين، وأخذوا الحجيج، وقتلوا وسبوا، واستباحوا حرم الله، وقلعوا الحجر الأسود، وكان عبيد الله يكاتبهم، ويحرضهم -قاتله الله- .
وقد ذكرت في «تاريخ الإسلام» أن في سنة سبعين ومائتين ظهرت دعوة المهدي باليمن، وكان قد سير داعيين أبا القاسم بن حوشب الكوفي، وأبا الحسين، وزعم أنه ابن محمد بن إسماعيل بن الصادق جعفر بن محمد .(52/88)
ونقل المؤيد الحموي في «تاريخه»، أن المهدي اسمه فيما قيل: سعيد بن الحسين، وأن أباه الحسين قد سلمه، فوصفت له امرأة يهودي حداد، قد مات عنها. فتزوجها الحسين بن محمد بن أحمد بن عبد الله القداح، هذا وكان لها ولد من اليهودي، فأحبه الحسين وأدبه، ولما احتضر عهد إليه بأمور، وعرفه أسرار الباطنية، وأعطاه أموالًا، فبث له الدعاة، وقد اختلف المؤرخون، وكثر كلامهم في قصة عبيد الله القداح بن ميمون بن ديصان، فقالوا: إن ديصان هذا صاحب كتاب «الميزان في الزندقة»، وكان يتولى أهل البيت، وقال: ونشأ الميمون بن ديصان ابنه عبد الله، فكان يقدح العين، وتعلم من أبيه حيلاً ومكرًا .
وقال: (15/577): قال القاضي عياض : أجمع العلماء بالقيروان، أن حال بني عبيد حال المرتدين والزنادقة .
وقيل: أن عبيد الله تملك المغرب، فلم يكن يفصح بهذا المذهب إلا للخواص، فلما تمكن أكثر القتل جدًا، وسبى الحريم، وطمع في أخ مصر .
وقال (15/579): ( المنصور، أبو الطاهر إسماعيل بن القائم بن المهدي، العبيدي الباطني، صاحب المغرب )، ولي بعد أبيه، وحارب رأس الإباضية أبا يزيد مخلد بن كيداد الزاهد، والتقى الجمعان مراتٍ، وظهر مخلد على أكثر المغرب، ولم يبقى لبني عبيد سوى المهدية .
وقال رحمه الله (15/611) : قال أبو شامة .(52/89)
* قال الإمام ابن كثير رحمه الله في «البداية والنهاية» (15/37) حوادث سنة: (317): ذكر أخذ القرامطة الحجر الأسود إلى بلادهم، وما كان منهم إلى الحجيج، لعن الله القرامطة، فيها: خرج ركب العراق وأميرهم منصور الديلمي، فوصلوا إلى مكة سالمين، وتوافت الركوب هناك من كل جانب، فما شعروا إلا بالقرمطي قد خرج عليهم في جماعته يوم التروية، فانتهب أموالهم، واستباح قتالهم، فقتل في رحاب مكة وشعابها، حتى في المسجد الحرام، وفي جوف الكعبة، وجلس أميرهم أبو طاهر سليمان بن أبي سعيد الجنابي -لعنه الله- على باب الكعبة، والرجال تصرع حوله في المسجد الحرام، في الشهر الحرام، ثم في يوم التروية؛ الذي هو من أشرف الأيام، وهو يقول:
أنا بالله وبالله أن
نا أخلق الخلق وأفنيهم أنا
?
فكان الناس يفرون، فيتعلقون بأستار الكعبة فلا يجدي ذلك عنهم شيئا، بل يقتلون وهم كذلك، ويطوفون فيقتلون في الطواف، وقد كان بعض أهل الحديث يومئذ يطوف، فلما قضى طوافه أخذته السيوف، فلما وجب أنشد وهو كذلك:
ترى المحبين صرعى في دياره
فتية الكهف لا يدرون كم لبثوا
?(52/90)
ثم أمر القرمطي -لعنه الله- أن تدفن القتلى ببئر زمزم، ودفن كثيرًا منهم في أماكنهم وحتى المسجد الحرام، -ويا حبذا تلك القتلة وتلك الضجعة- ولم يغسلوا ولم يكفنوا ولم يصل عليهم؛ لأنهم شهداء في نفس الأمر، بل من خيار الشهداء، وهدم قبة زمزم، وأمر بقلع باب الكعبة، ونزع كسوتها عنها، وشققها بين أصحابه، وأمر رجلاً أن يصعد إلى ميزاب الكعبة؛ فأراد أن يقتلعه فسقط على أم رأسه فمات -لعنه الله- وصار إلى أمه الهاوية، فانكف اللعين عند ذلك عن الميزاب، ثم أمر بأن يقلع الحجر الأسود؛ فجاءه رجل فضربه بمثقل في يده، وقال: أين الطير الأبابيل؟ أين الحجارة من سجيل؟ ثم قلع الحجر الأسود، شرفه الله وكرمه وعظمه، وأخذوه معهم حين راحوا إلى بلادهم، فكان عندهم ثنتين وعشرين سنة، حتى ردوه كما سنذكره في موضعه، في سنة تسع وثلاثين وثلاثمائة، فإنا لله وإنا إليه راجعون .
ولما رجع القرمطي إلى بلاده، تبعة أمير مكة هو وأهل بيته وجنده، وسأله وتشفع إليه أن يرد الحجر الأسود ليوضع في مكانه، وبذل له جميع ما عنده من الأموال، فلم يفعل -لعنه الله- فقاتله أمير مكة فقتله القرمطي، وقتل أكثر أهل بيته وجنده، واستمر ذاهبًا إلى بلاده ومعه الحجر وأموال الحجيج .(52/91)
وقد ألحد هذا اللعين في المسجد الحرام إلحادًا لم يسبقه إليه أحد، ولا يلحقه فيه، وسيجاريه على ذلك الذي لا يعذب عذابه أحد، ولا يوثق وثاقه أحد، وإنما حمل هؤلاء على هذا الصنيع؛ أنهم كانوا كفارًا زنادقة، وقد كانوا ممالئين للفاطميين الذين نبغوا في هذه السنة ببلاد إفريقية من أرض المغرب، ويلقب أميرهم بالمهدي، وهو أبو محمد عبيدالله بن ميمون القداح، وقد كان صباغًا بسلمية يهوديًا، فادعى أنه أسلم، ثم سافر من سلمية فدخل بلاد إفريقية، فادعى أنه شريف فاطمي، فصدقه على ذلك طائفة كثيرة من البربر وغيرهم من الجهلة، وصارت له دولة، فملك مدينة سجلماسة، ثم ابتنى مدينة وسماها: المهدية، وكان قرار ملكه بها، وكان هؤلاء القرامطة يراسلونه ويدعون إليه ويترامون عليه، ويقال: إنهم كانوا يفعلون ذلك سياسة ودولة لا حقيقة له .
* وذكر ابن الأثير أن المهدي هذا كتب إلى أبي طاهر يلومه على ما فعل بمكة؛ حيث سلط الناس على الكلام فيهم، وانكشفت أسرارهم التي كانوا يبطنونها؛ بما ظهر من صنيعهم هذا القبيح، وأمره برد ما أخذه منها، وعوده إليها، فكتب إليه بالسمع والطاعة، وأنه قد قبل ما أشار إليه من ذلك .
وقد أسر بعض أهل الحديث في أيدي القرامطة، فمكث في أيديهم مدة ثم فرج الله عنه، وكان يحكي عنهم عجائب من قلة عقولهم، وعدم دينهم، وأن الذي أسره كان يستخدمه في أشق الخدمة، وأشدها، وكان يعربد عليه إذا سكر، فقال لي ذات ليلة وهو سكران: ما تقول في محمدكم؟ فقلت: لا أدري، فقال: كان سائسا، ثم قال: ما تقول في أبي بكر؟ فقلت: لا أدري، فقال: كان ضعيفًا مهينًا، وكان عمر فظًا غليظًا، وكان عثمان جاهلاً أحمق، وكان علي ممخرقا، أليس كان عنده أحد يعلمه ما ادعى أنه في صدره من العلم؟ أما كان يمكنه أن يعلم هذا كلمة وهذا كلمة، ثم قال: هذا كله مخرقة، فلما كان من الغد قال:لا تخبر بهذا الذي قلت لك أحدا. رواه ابن الجوزي في «منتظمه».(52/92)
وروى عن بعضهم أنه قال: كنت في المسجد الحرام يوم التروية، في مكان الطواف فحمل على رجل كان إلى جانبي فقتله القرمطي، ثم قال: يا حمير، ورفع صوته بذلك، أليس قلتم في بيتكم هذا: ? وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً? [آل عمران:97]، فأين الأمن؟ قال: فقلت له: أتسمع جوابًا؟ قال: نعم، قلت: إنما أراد الله فأمنوه، قال: فثنى رأس فرسه وانصرف .
وقد سأل بعضهم ههنا سؤالاً فقال: قد أحل الله سبحانه بأصحاب الفيل وكانوا نصارى وهؤلاء شر منهم، ما ذكره في كتابه العزيز، حيث يقول:(52/93)
? أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ * أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ * وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبَابِيلَ * تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ * فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ ? [الفيل:1-5]، ومعلوم أن القرامطة شر من اليهود والنصارى والمجوس، بل ومن عبدة الأصنام، فهلا عوجلوا بالعذاب والعقوبة، كما عوجل أصحاب الفيل؟، وقد أجيب عن ذلك: بأن أصحاب الفيل إنما عوقبوا إظهارا لشرف البيت، ولما يراد به من التشريف والتعظيم؛ بإرسال النبي الكريم من البلد الذي كان هذا البيت فيه، ليعلم شرف هذا الرسول الكريم، الذي هو خاتم الأنبياء، فلما أرادوا إهانة هذه البقعة التي يراد تشريفها عما قريب، أهلكهم سريعًا عاجلًا، غير آجل، كما ذكر في كتابه، وأما هؤلاء: فكان من أمرهم ما كان بعد تقرير الشرائع، وتمهيد القواعد والعلم بالضرورة من دين الله بشرف مكة والكعبة، وكل مؤمن يعلم أن هؤلاء من أكبر الملحدين الكافرين، بما تبين من كتاب الله تعالى، وسنة رسوله، فلهذا لم يحتج الحال إلي معاجلتهم بالعقوبة، بل أخرهم الرب تعالى ليوم تشخص فيه الأبصار، والله سبحانه يمهل ويملي، ويستدرج ثم يأخذ أخذ عزيز مقتدر، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: « إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته » ثم قرأ قوله تعالى: ? وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ ? [هود:102] .
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: « لا أحد أصبر على أى سمعه من الله؛ إنهم يجعلون له ولدًا، وهو يرزقهم ويعافيهم » .(52/94)
وقال تعالى: ? وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ ? [إبراهيم:42]، وقال تعالى: ? لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ ?
[آل عمران:196-197]، وقال تعالى: ? نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ ? [لقمان:24]، وقال: ? مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ ? [يونس:70] .
* وقال رحمه الله في حوادث سنة: (322): (15/83): ( وفاة المهدي صاحب أفريقية أول خلفاء الفاطميين فيما زعموا )، وفيها مات أبو محمد عبيدالله المدعي أنه علوي -الملقب بالمهدي- باني المهدية، بمدينه المهدية، ومات بها، عن ثلاث وستين سنة، وكانت ولايته منذ دخل رقادة وادعى الإمامة، أربعًا وعشرين سنة وشهرًا وعشرين يومًا، وهو أول الخلفاء الفاطميين .
* وقال في (15/84): قال ابن خلكان في «الوفيات»: وقد اختلف في نسب المهدي هذا اختلافًا كثيرًا جدًا، فقال صاحب «تاريخ القيروان»: هو عبيد الله بن الحسن بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، وقال غيره: هو عبيد الله بن التقي، وهو الحسين بن الوفي، أحمد بن الرضي عبد الله، وهؤلاء الثلاثة يقال لهم: المستورون؛ لخوفهم من خلفاء بني العباس، والرضى عبد الله هذا هو ابن محمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق، وقيل: غير ذلك في نسبه .
قال القاضي ابن خلكان: والمحققون ينكرون دعواه في النسب .(52/95)
قلت: قد كتب غير واحد من الأئمة، منهم الشيخ: أبو حامد الاسفراييني، والقاضي الباقلاني، والقدوري، أن هؤلاء أدعياء ليس لهم نسب صحيح فيما يزعمونه، وأن والد عبيد الله هذا كان يهوديًا صباغًا بسلمية، وقيل: كان اسمه سعيدًا، وإنما لقب بعبيد الله، وكان زوج أمه: الحسين بن أحمد بن محمد بن عبدالله بن ميمون القداح، وسمي القداح؛ لأنه كان كحالاً يقدح العيون، وكان الذي وطأ له الأمر بتلك البلاد أبو عبد الله الشيعي كما قدمنا ذلك، ثم استدعاه فلما قدم عليه من بلاد المشرق، وقع في يد صاحب سجلماسة فسجنه، فلم يزل الشيعي يحتال له حتى استنقذه من يده وسلم إليه الأمر.(52/96)
* وقال رحمه الله (15/593): (ثم دخلت سنة ثلاث عشرة وأربعمائة)، فيها جرت كائنة غريبة، ومصيبة عظيمة، وهي أن رجلاً من المصريين من أصحاب الحاكم، اتفق مع جماعة من الحجاج المصريين، على أمر سوء؛ وذلك أنه لما كان يوم الجمعة وهو يوم النفر الأول، طاف هذا الرجل بالبيت، فلما انتهى إلى الحجر الأسود جاء ليقبله، فضربه بدبوس كان معه ثلاث ضربات متواليات، وقال: إلى متى نعبد هذا الحجر؟ ولا محمد، ولا علي يمنعني مما أفعله، فإني أهدم اليوم هذا البيت، وجعل يرتعد، فاتقاه أكثر الحاضرين، وتأخروا عنه؛ وذلك لأنه كان رجلاً طوالاً جسمًا، أحمر اللون، أشقر الشعر، وعلى باب الجامع جماعة من الفرسان وقوف ليمنعوه ممن أراده بسوء، فتقدم إليه رجل من أهل اليمن معه خنجر، فوجأه بها، وتكاثر عليه الناس، فقتلوه وقطعوه قطعا وحرقوه . وتتبعوا أصحابه فقتلوا منهم جماعة، ونهبت أهل مكة ركب المصريين، وتعدى النهب إلى غيرهم أيضًا، وجرت خبطة عظيمة وفتنة كبيرة جدًا، ثم سكن الحال بعد أن تُتُبع أولئك النفر الذين تمالئوا على الإلحاد في أشرف البلاد، غير أنه سقط من الحجر ثلاث فلق مثل الأظفار، وبدا ما تحتها أسمر يضرب إلى صفرة، محببًا مثل الخشخاش، فأخذ بنو شيبة تلك الفلق فعجنوها بالمسك واللك، وحشوا بها تلك الشقوق التي بدت، فاستمسك الحجر واستمر على ما هو عليه الآن، وهو ظاهر لمن تأمله .
- قال عمر بن حفيظ: قال عند هذا الحديث: ( فأهل البدعة، -يقصد بهم أهل السنة- يصورن للعامة أن هذا الحديث فيه: النهي عن مدحه عليه الصلاة والسلام ) .(52/97)
رد الشيخ يحيى حفظه الله: رمتني بدائها وانسلت، وما من مبطل إلا ويدفع عن باطله، حتى فرعون يقول: ? مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ ? [غافر:29]، وقد قال الله: ? وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ ? [هود:97]، يقولون: واحد كان يشرب الخمر، وبعد ذلك يريد أن يؤول القرآن إلى أن شرب الخمر طيب، وأن الصلاة ما هي طيبة فقال :
دع المساجد للعُبّاد تعمرها
??
ما قال ربك ويل للأولى سكروا ... واعمد بنا حانة الخمار يسقينا
?وإنما قال ويل للمصلينا
?
فانظروا تقليب الحقائق عند هذا الذي يشرب الخمر، ومعناه: أن الذي يشرب الخمر، أحسن حالاً لأن الله قد توعد المصلي بالويل، ولم يكمل الآية، يقول:? فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ ?[الماعون:4-5]، ولكن أهل الباطل بتارون قطاعون للأدلة، أصحاب لفلفة، ? قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ? [المنافقون:4]، والله ما لهم إلا الله، يجعل كيدهم في نحورهم، وإلا فهم أصحاب شبهات، وابتغاء الفتنة، ابن أبي دؤاد، كم ظلم من أناس، ومن عامة، ومن أمراء؟، بما فيهم الواثق، حتى أنقذ الله الأمة بدولة المتوكل، بعد جهاد عظيم من الإمام أحمد رحمه الله، وعرف شر ابن أبي دؤاد، ومات بذات الجنب بعد ذلك كانت عاقبة أمره خسرا.
لقد ركب الشيطان كواهل الصوفية، ونفخ في مناخرهم بالغلو، والنبي - صلى الله عليه وسلم - هو القائل: « أيها الناس، قولوا بقولكم الأول، ولا يستجرينكم الشيطان، إنما أنا عبد الله ورسوله، قولوا: عبد الله ورسوله «.
إنكم تشبهتم بالنصارى في الغلو، قال تعالى: ? وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ? [التوبة:30].(52/98)
وقال عزوجل: ? قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ
السَّبِيلِ ? [المائدة:77] . وقال: ? يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ ? [النساء:171] .
ما أشبه هؤلاء الناس بالنصارى، الرافضة قدوتهم عبد الله بن سبأ اليهودي، منهجهم مبني على معتقد يهودي، والصوفية منهجهم مبني على دين الرهابين والقساوسة من النصارى .
والحمد لله رب العالمين
من مؤلفات الشيخ يحيى الحجوري :
أحكام التيمم.……
الإتحافات بتلخيص الحاوي للسيوطي رحمه الله ونقد ما فيه من الشطحات .…
توضيح الإشكال في أحكام اللقطة والضوال.
الأدلة الزكية في بيان أقوال الجفري الشركية.
أضرار الحزبية على الأمة الإسلامية.
التحذير عن أهم الصوارف عن الخير.
جلسة ساعة في الرد على المفتين في الإذاعة.
الحث والتحذير على تعلم أحكام المريض.
السيل العريض الجارف لبعض ضلالات الصوفي عمر بن حفيظ.
فتوى في حكم الدراسة الاختلاطية .
الأجوبة السنية وكشف بعض أباطيل الصوفية.(52/99)
الشّفاعة
مقبل بن هادي الوادعي
مقدمة الطبعة الثالثة
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيّبًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
أما بعد:
فمما منّ الله به عليّ ويسّر لي تأليف "الشّفاعة"، فقرّت بها أعين إخواننا أهل السّنة، وغص بها المبتدعة، وقد وفقني الله لذكر الأحاديث بأسانيدها والفضل في هذا لله، فإنّ الإسناد من الدين، ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء، كما قال عبدالله بن المبارك رحمه الله ورضي عنه.
والكتاب يعدّ ردًّا على المبتدعة ففي المقدمة الجمع بين الآيات وبيان الشفاعة المقبولة والشفاعة غير المقبولة، وفي أثناء الكتاب أيضًا رد على الذين يطلبون الشفاعة من غير من يملكها كالصوفية والغلاة من الشيعة والرافضة من أهل البيت وغيرهم.
وقد يسّر الله قراءة "الشفاعة" في (دار الحديث) بدمّاج، فأبدى إخواننا الأفاضل -وأخص بالذكر منهم مدرّسهم الشيخ يحيى بن علي الحجوري- ملاحظاتهم وفوائدهم القيّمة، فأضيفت إلى الكتاب، فجزاهم الله خيرًا.
والله أسأل أن يجزي الأخوين الفاضلين: سعيد بن عمر حبيشان وحسين ابن محمد مناع اللذين قاما برص الكتاب، وكذا الأخ الفاضل محمد بن عبدالله السّيّاغي خيرًا، وأن يدفع عنّا وعنهم كل سوء ومكروه وأن يعيذنا وإياهم من الحزبية المسّاخة... إنه على كل شيء قدير.
أبوعبدالرحمن مقبل بن هادي الوادعي
تنبيه:
قد أذن لنا الشيخ في تقديم وتأخير بعض الأحاديث إلى مواضعها الأليق بها في هذه الطبعة، وكتبنا هذا التنبيه لئلا يظنّ أن هناك سقطًا في الكتاب.
تقديم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
{ياأيّها الّذين آمنوا اتّقوا الله حقّ تقاته ولا تموتنّ إلا وأنتم مسلمون}(53/1)
{ياأيّها النّاس اتّقوا ربّكم الّذي خلقكم من نفْس واحدة وخلق منها زوجها وبثّ منهما رجالاً كثيرًا ونساءً واتّقوا الله الّذي تساءلون به والأرحام إنّ الله كان عليكم رقيبًا}
{ياأيّها الّذين آمنوا اتّقوا الله وقولوا قولاً سديدًا، يصلحْ لكم أعْمالكم ويغفرْ لكم ذنوبكم ومنْ يطع الله ورسوله فقدْ فاز فوزًا عظيمًا}
أما بعد:
فإن ضلال الصوفية وأتباعهم من الجهلة يتّهمون أهل السّنة بعدم حبّهم لرسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم لكون أهل السّنة يثبتون على سنة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ولا يوافقونهم على غلوهم في رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فهم يدّعون حبّ رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم بألسنتهم، ويخالفون طريقته في اعتقادهم وسلوكهم، حتى وصل بغلاتهم إلى دعاء رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، والاستغاثة به، واتّخاذه واسطة بينهم وبين الله عزّ وجلّ فيما يطلبونه من الله عزّ وجلّ، وهذا هو الشرك الذي كان عليه أهل الجاهلية الأولى، قال الله عزّ وجلّ: {والّذين اتّخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقرّبونا إلى الله زلفى إنّ الله يحكم بينهم في ما هم فيه يختلفون إنّ الله لا يهدي من هو كاذب كفّار}.
وقال تعالى: {ويعبدون من دون الله ما لا يضرّهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله قلْ أتنبّئون الله بما لا يعلم في السّموات ولا في الأرض سبحانه وتعالى عمّا يشركون} ومع ذلك فهم يدّعون حبّ رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
وكذلك غيرهم من أهل البدع يخرجون عن هدي رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ويدّعون حبّ رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ومما ضل فيه أهل البدع شفاعة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فكثير من أهل البدع ينكرون بعض أنواع شفاعة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.(53/2)
فالخوارج ينكرون شفاعة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لأهل الكبائر من أمته في خروجهم من النّار، لأنّهم يرون أنّ مرتكب الكبيرة كافر مخلد في النار لذلك فهم يجدون أن إثبات هذه الشفاعة يخالف معتقدهم الفاسد، فهم ينكرونها.
وكذلك المعتزلة تابعوا الخوارج على القول بتخليد أهل الكبائر من الموحدين في النار، وتابعهم الشيعة على ذلك أيضًا.
وإثبات هذه الشفاعة فيه ردّ على المرجئة أيضًا، لأن غلاة المرجئة يقولون: إنه لا يضرّ مع الإيمان معصية كما لا ينفع مع الكفر طاعة. وهذه الفرق المذكورة وغيرها موجودة في أيامنا هذه، فالشيعة موجودون بكثرة لا كثّرهم الله، وهذه دولتهم إيران التي تدّعي أنّها (الجمهورية الإسلامية) تعلن أن مذهبها هو المذهب الإثنا عشري الجعفري، فهم رافضة من غلاة الشيعة، وقد أخذوا كثيرًا من مذاهب المعتزلة.
وكذلك الخوارج لهم أفراخ موجودون وهم الذين يكفرون عصاة المسلمين، وإن كانت شوكتهم قد انكسرت، وكثير منهم قد تراجعوا ورجعوا إلى الحق، إلا أنه لا يزال منهم من هو عاضّ على هذه العقائد الضّالة، ويظنون أن هذه الجموع التي قد تراجعت قد فتنوا، وأنّهم هم القابضون على الجمر وهم الطّائفة المنصورة! ومع أن هؤلاء كما قلنا قد أصبحوا قلة قليلة لا يقدرون على مواجهة صغار طلبة العلم الذين قد تعلموا شيئًا من عقائد السلف، إلا أننا لا نأمن أن يظهروا مرة أخرى هنا أو هناك.(53/3)
وأمّا المرجئة فكثير من عوام المسلمين عقيدتهم هي عقيدة المرجئة فهم يظنون أنّهم لمجرد انتسابهم للإسلام سوف يدخلون الجنة من أوسع أبوابها، ولا يعملون للعمل والطاعات حسابًا؛ حتى أهم الأعمال وهي الصلاة كثير منهم يتركونها، ومع ذلك فهم أهل الجنة وهم أبعد الناس عن النار! أين هؤلاء مما حكاه ابن أبي مليكة حيث يقول: أدركت ثلاثين من أصحاب النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم كلهم يخشى على نفسه النفاق. فما أبعد هؤلاء عن فهم سلفنا واعتقادهم، وما أقربهم من المرجئة المبتدعة واعتقادهم.
لذلك فدراسة عقيدة أهل السنة والجماعة ومعرفة عقائد الفرق الضّالة من أهمّ ما يكون، بل هو أهمّ شيء في دين الله عزّ وجلّ، نقول هذا ونحن نعلم أن هناك ممن ينتسب إلى الدعوة إلى الله من يقول: إن هذا من فضول القول، وإن هذه الفرق قد عفا عليها الدهر، فلا داعي لإضاعة الأوقات في معرفتها ودراسة مناهجها ومعتقداتها. ونقول: إن هؤلاء ما قالوا ذلك إلا بسبب جهلهم وبعدهم عن العلم النّافع، فنجد كثيرًا من هؤلاء يعتبرون إيران الدولة المسلمة الوحيدة على وجه الأرض، ولايدري هؤلاء أن بها مدينة (قم) المقدسة عندهم! ولماذا هي مقدسة عندهم؟ لأن بها المشاهد التي يعبدونها، وكذلك فهم يكفّرون الصحابة إلا نفرًا يسيرًا وغير ذلك من عقائدهم الفاسدة. ولكن القوم لا يعنيهم أمر العقيدة فالشيء المهم أن يسير المرء معهم ويوافقهم على الاشتغال بالسياسة، وأن يلبس كلّ شيء ثوب الإسلام: سينما إسلامية، مسرح إسلامي، فن إسلامي، وهكذا. أما تعلّم العقيدة الإسلامية الصحيحة عقيدة السلف الصالح، وتعلّم العلوم الشرعية فهذا عندهم من إضاعة الأوقات، نسأل الله السلامة والعافية.
وكما قلنا إن الشفاعة والإيمان بها من أهم معتقدات أهل السنة والجماعة، وفي معرفتها والإيمان بها ردّ على كثير من الفرق الضالة كما بيّنا وتصحيح لعقائد المسلمين.(53/4)
وقد قام شيخنا مقبل حفظه الله بجمع كل ما يتعلق بالشفاعة، سواء كانت الشفاعة العظمى، أو الشفاعة لأهل الكبائر، وشفاعة المؤمنين بعضهم لبعض، وما يجوز من الشفاعة وما لا يجوز، وقد بيّن الصحيح من الأحاديث في ذلك من الضعيف مع بيان سبب الضعف، فهو مفيد جامع في بابه لا يستغني عنه عالم ولا طالب علم ولا عامّي، فلا نكون مبالغين -إن شاء الله- إذا قلنا: ينبغي ألا يخلو منه بيت.
وشيخنا مقبل بن هادي الوادعي حفظه الله غني عن التعريف، فكتبه وعلمه منتشران في كل مكان، وإن كنت أرى أنه لم يأخذ حظه كأقرانه أو من هم دونه من أهل العلم، فإن اليمن تعتبر بلدًا معزولة إلى حدّ كبير، ومع هذا فقد نفع الله عز وجل به أناسًا كثيرين في جميع البلدان وأما في اليمن فهو حفظه الله يعتبر مجددًا للدين في اليمن وناصرًا للسنة، فقد نشر الله عز وجل به السنة وقمع به البدعة. وأصبح غلاة الشيعة مدحورين، أمرهم إلى زوال إن شاء الله تعالى، بعد أن كانت اليمن معقلاً كبيرًا من معاقل الشيعة في العالم. ومنطقته التي يحل بها (صعْدة) تعتبر أكثر شيعة اليمن غلوًا وتعصبًا لأن بها مسجد (الهادي) الذي يعتبر مركز الشيعة باليمن.
ولذلك فقد تعرّض الشيخ حفظه الله لبلاء كثير في التمسك بالسنة والدعوة إليها وسط هؤلاء. كما سمعنا من أقربائه عندما كنا هناك وكما حكى هو في ترجمته التي قمنا بطباعتها، وعلى سبيل المثال لما لاقاه الشيخ من المعاناة في مواجهة الشيعة المبتدعة، في أول نزوله لليمن ذهب إلى مسجد الهادي بصعدة ليدعوهم إلى الله فقاموا عليه، وأرادوا قتله في المسجد فأسند ظهره للجدار فقام رجال من قبيلته ودافعوا عنه، ثم جاء آخرون ممن كانوا خارج المسجد فاجتمعوا حوله وخلّصوه من أيديهم.(53/5)
ونحن قد رأينا مدى تعصب هؤلاء القوم بأنفسنا عندما ذهبنا إلى بعض المناطق النائية من (لواء صعدة) التي لم تكن الدعوة مألوفة عند أهلها في تلك الأيام من نحو أكثر من اثني عشر عامًا، عندما دخلنا مسجدًا من مساجد القوم في صلاة المغرب، فلما قرأ الإمام الفاتحة فأمّنّا جهرًا. فحدثت فوضى في مؤخر المسجد وخرج بعضهم من الصلاة، وبعد انتهاء الصلاة قام أحد إخواننا ليتكلم فقطعوا التيار الكهربائي، وحدثت فوضى كبيرة، وكادت تحدث مضاربة في المسجد فخرجنا وانصرفنا من تلك القرية.
حدث هذا معنا مع أننا غرباء ويعلمون أن مذهبنا يخالف مذهبهم، فما بالك بمن هو منهم وترك مذهبهم وانتحل مذهب أهل السنة والجماعة، لا شك أنّهم سيكونون له أشدّ عداوةً وحربًا، فتحمّل شيخنا كل هذه الصعاب والمحن من غير إثارة فتنة ولا قلاقل حتى انتشرت السنة وقمعت البدعة بفضل الله عزّ وجلّ، فجزاه الله خيرًا.
فمن أراده بسوء فلا وفّقه الله، ومن أعانه بخير فجزاه الله خيرًا، وأسأل الله عزّ وجلّ أن يمدّ في عمر شيخنا وأن ينفع به الإسلام والمسلمين، وأن يغفر لنا ما قدمنا وما أخرنا وما أسررنا وما أعلنّا وما هو أعلم به منا، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
أبوعبدالله أحمد بن إبراهيم بن أبي العينين
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
{ياأيّها الّذين آمنوا اتّقوا الله حقّ تقاته ولا تموتنّ إلا وأنتم مسلمون}
{ياأيّها النّاس اتّقوا ربّكم الّذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبثّ منهما رجالاً كثيرًا ونساءً واتّقوا الله الّذي تساءلون به والأرحام إنّ الله كان عليكم رقيبًا}(53/6)
{ ياأيّها الّذين آمنوا اتّقوا الله وقولوا قولاً سديدًا، يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزًا عظيمًا}
أما بعد:
فلما كان موضوع الشّفاعة من المواضيع التي يزداد المؤمن بقراءتها حبًّا لرسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم، رأيت أن أكتب ما عثرت عليه من الأحاديث مبيّنًا بعون الله صحيحها من سقيمها، ومعلولها من سليمها، بحسب الاستطاعة حتى يستفيد مما أكتبه طلبة العلم وغيرهم، فربّ حديث قد شاع وذاع واشتهر على ألسنة العامّة، وهو لا يثبت عن رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم، ولست أعني أني آت بما لا تستطيع الأوائل، ولكني أستفيد من كتبهم، وأحذو حذوهم، فهم رحمهم الله قد قاموا بجهود ليس لها نظير في خدمة السّنة المطهرة، فجزاهم الله عن الإسلام خيرًا.
وإن مما دفعني على اختيار الكتابة في هذا الموضوع، أن هناك بعض مقامات الشّفاعة قد أنكرها بعض ذوي الأهواء، فمن ثمّ أدرج الشّفاعة أهل السّنة رحمهم الله في كتب العقيدة، فقلّ أن تجد مؤلفًا يؤلف في العقيدة إلا وقد عقد كتابًا أو فصلاً في كتابه للشّفاعة، بيانًا للحق، وقمعًا للباطل، ونصرةً للعقيدة الحقّة، فجزاهم الله عن الإسلام خيرًا.
وهؤلاء المنكرون لبعض مقامات الشّفاعة وهي الشّفاعة لأهل الكبائر، والشّفاعة في خروج الموحدين من النار، قد أخبر عنهم عمر رضي الله عنه، وهو المحدّث(1)، فقد روى الإمام أحمد في "مسنده" (ج1 ص23) من طريق علي بن زيد(2) عن يوسف بن مهران عن ابن عبّاس قال: خطب عمر رضي الله عنه ... -وفي الخطبة-: وإنّه سيكون من بعدكم قوم يكذبون بالرّجم وبالدّجال وبالشّفاعة وبعذاب القبر، وبقوم يخرجون من النّار بعد ما امتحشوا.
__________
(1) …المُحَدَّث: الملهم.
(2) …علي بن زيد هو ابن جدعان، مختلف فيه، وهو إلى الضعف أقرب.(53/7)
ولمّا كان من أعظم شبههم الباطلة أن أحاديث الشّفاعة أخبار آحاد، وأنه لا يؤخذ بأحاديث الآحاد في العقيدة جمعت ما استطعت الوقوف عليه حتى تبطل شبهتهم، ويعلموا أن أحاديث الشّفاعة متواترة عن رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم، على أنّي أعلم أن شبهة كون أخبار الآحاد لا يؤخذ بها في العقيدة دسيسة من قبل أعداء السّنة حتى يبطلوا سنّة رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم، وقد أحسن الردّ عليهم الإمام الشافعي رحمه الله في "الرّسالة"، والإمام البخاري في "صحيحه"، وعقد كتابًا في صحيحه أسماه: (كتاب أخبار الآحاد)، وممن تولى الردّ عليهم ابن حزم في "الأحكام"، وابن القيم في "الصواعق المرسلة"، ولو لم يكن إلا عموم {وما آتاكم الرّسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا} (1) وعموم قوله تعالى: {فليحذر الّذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم}(2) والنبي صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم يرسل الرسول ويأمره أن يعلم الناس العقائد والعبادات وما يحتاجون إليه كما هو معلوم من سيرته، ومما أستحضره الآن الحديث المتفق عليه من حديث ابن عباس أن النبي صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم قال لمعاذ بن جبل: ((إنّك ستأتي قومًا من أهْل الكتاب فليكن أوّل ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلاّ الله، وأنّ محمدًا رسول الله ...)) الحديث، وقال عمر رضي الله عنه: إنّي لم أرسل عمالي إليكم ليأخذوا أموالكم، ولا ليضربوا أبشاركم، ولكن ليعلموكم دينكم. رواه أحمد في "مسنده"(3).
__________
(1) …الحشر الآية: 17.
(2) …النور الآية: 63.
(3) ……ثم ظهر لي أنه ضعيف، لأنّ الحافظ يقول في أبي فراس -وهو أحد رواته- إنه: مقبول.= =يعني إذا تُوبع وإلا فليّن.(53/8)
أولئك المنكرون لبعض مقامات الشفاعات في جانب، وبعض الجهلة من المسلمين في جانب آخر، وهم الذين يظنون أن لرسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم وللصالحين أن يدخلوا الجنة من شاءوا، ويخرجوا من النار من شاءوا، وهكذا يظنون أن لهم التصرف المطلق في الدنيا، وكلتا الطائفتين مجانبة للصواب، والحقّ وسط أنّ الرسول صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم والصالحين سيشفعون في الآخرة لكن بشروط ستأتي في الجمع بين الآيات المثبتة للشّفاعة والآيات النّافية، وهكذا لهم في حياتهم أن يشفعوا عند الله لكن فيما يقدرون عليه، وقد شفع النبي صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم للمشركين عند الله أن يسقوا كما في "الصحيحين" من حديث ابن مسعود رضى الله عنه.
فمذهب أهل السّنة رحمهم الله وسط بين الغالي والجافي، لأنّهم رحمهم الله يجمعون بين الأدلة، وبقية الطوائف تأخذ بجانب من الأدلة وتترك الجانب الآخر، فمن ثمّ تخبّطوا وتعسّفوا في دحض الأدلّة التي لا توافق أهواءهم، فتارة يتجرأون ويطعنون في الصحابي الراوي للسّنة، وتارة يقولون: أخبار آحاد. وتارة يؤولون الأدلة بحيث يعطلونها عمّا تدلّ عليه، ويأبى الله إلا أن يتمّ نوره، ويظهر حجته، فلم يزل بحمد الله في كل بلد من بلاد المسلمين من يقيم عليهم الحجة، وصدق رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم إذ يقول: ((لا تزال طائفة من أمّتي على الحقّ ظاهرين لا يضرهم من خالفهم حتّى يأتيهم أمر الله وهم على ذلك)) متفق عليه بهذا المعنى.
وإنّ من أحسن الكتب فيما اطلعت عليه في تزييف أباطيلهم كتاب "تأويل مختلف الحديث" لابن قتيبة رحمه الله، فقد أبطل رحمه الله جلّ شبهاتهم حول سنة رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم، فجزاه الله خيرًا.
الشّفاعة في اللغة:(53/9)
قال ابن الأثير في "النهاية": قد تكرر ذكر الشّفاعة في الحديث فيما يتعلق بأمور الدنيا والآخرة، وهي: السؤال في التجاوز عن الذنوب والجرائم بينهم، يقال: شفع يشفع شفاعةً فهو شافع وشفيع، والمشفّع: الّذي يقبل الشّفاعة، والمشفّع: الّذي تقبل شفاعته. اهـ
وفي "القاموس" و"تاج العروس": والشّفيع: صاحب الشّفاعة، والجمع: شفعاء، وهو: الطالب لغيره يتشفّع به إلى المطلوب.
وفيهما أيضًا: وشفّعته فيه تشفيعًا حين شفع -كمنع- شفاعةً، أي قبلت شفاعته كما في "العباب"، قال حاتم يخاطب النعمان:
فككت عديًّا كلّها من إسارها?
?
فأفضلْ وشفّعني بقيس بن جحْدر
وفي حديث الحدود: (( إذا بلغ الحدّ السلطان فلعن الله الشافع والمشفّع))(1).
وفي حديث ابن مسعود: ((القرآن شافع مشفّع، وماحل(2) مصدّق )) (3).
أي من اتبعه وعمل بما فيه فهو شافع مقبول الشّفاعة من العفو عن فرطاته، ومن ترك العمل به تمّ على إساءته، وصدّق عليه فيما يرفع من مساويه، فالمشفّع: الذي يقبل الشّفاعة، والمشفّع: الذي تقبل شفاعته، ومنه حديث: ((اشْفع تشفّع))، واستشفعه إلى فلان: أي سأله أن يشفع له إليه، وأنشد الصغاني للأعشى:
تقول بنتي وقدْ قرّبت مرتحلاً?
?
يا ربّ جنّبْ أبي الأوصاب والوجعا??
?واستشفعتْ من سراة الحيّ ذا شرف(4)?
?
فقدْ عصاها أبوها والّذي شفعا
يريد: والذي أعان وطلب الشّفاعة فيها، وأنشد أبوليلى:
زعمتْ معاشر أنّني مستشفع?
?
لمّا خرجت أزوره أقلامها
قال: زعموا أني أستشفع أقلامهم في الممدوح أي بكتبهم. اهـ مختصرًا.
__________
(1) …سيأتي إن شاء الله: أنّ الصحيح أنه موقوف على الزبير بن العوام رضى الله عنه.
(2) …ماحل: يعني مدافع مجادل من المحال، وهو الكيد وقيل: المكر، وقيل: القوة والشدة. اهـ من "النهاية? لابن الأثير.
(3) …موقوف عليه، وصح مرفوعًا من حديث جابر كما سيأتي إن شاء الله.
(4) …في ?أساس البلاغة? و?لسان العرب?: ذا ثقة.(53/10)
وذكر الزمخشري في "أساس البلاغة" بعض ما تقدم، ثم قال: وقال آخر:
مضى زمن والنّاس يستشفعون بي?
?
فهل لي إلى ليلى الغداة شفيع
والمعاني الشرعية موافقة للمعاني اللغوية. فمن الشّفعاء من يشفع ابتداءً، ومنهم من يشفع بعد الطلب، كما سيأتي إن شاء الله بيانه في الأحاديث.
فصل الآيات الواردة في الشّفاعة والجمع بينها
…وبما أنّها قد وردت آيات تنفي الشّفاعة والشفيع، وآيات تثبتهما رأيت أن أذكر الآيات التي تنفي الشّفاعة والشّفيع، والآيات التي تثبتهما ثم أذكر الجمع بين هذه الآيات حسبما جمع بينها أهل العلم رحمهم الله.
الآيات الواردة في نفي الشّفاعة والشفيع:
…قال الله تعالى: {واتّقوا يومًا لا تجْزي نفس عن نفس شيئًا ولا يقبل منها شفاعة ولا يؤخذ منها عدل(1) ولا هم ينصرون}(2).
…وقال تعالى:{ياأيها الّذين آمنوا أنفقوا ممّا رزقناكم من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلّة(3) ولا شفاعة والكافرون هم الظّالمون}(4).
…وقال تعالى حاكيًا عن بعض الصالحين:{أأتّخذ من دونه آلهةً إن يردن الرّحمن بضرّ لا تغن عنّي شفاعتهم شيئًا ولا ينقذون}(5).
…في هذه الآيات نفي الشّفاعة.
…وقال تعالى:{وأنذر به الّذين يخافون أن يحشروا إلى ربّهم ليس لهم من دونه وليّ ولا شفيع لعلّهم يتّقون}(6).
…وقال تعالى:{وذر الّذين اتّخذوا دينهم لعبًا ولهوًا وغرّتْهم الحياة الدّنيا وذكّر به أن تبسل(7) نفس بما كسبت ليس لها من دون الله وليّ ولا شفيع وإن تعدل كلّ عدل لا يؤخذ منها أولئك الّذين أبسلوا بما كسبوا لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون}(8).
__________
(1) …العدل: الفداء.
(2) …البقرة الآية: 48.
(3) …الخلة: الصداقة.
(4) …البقرة الآية: 254.
(5) …يس الآية: 23.
(6) …الأنعام الآية: 51.
(7) …تُبسَل: تُسلَم، وقيل: تُحبس، والمعنى تُسلَم للهلكة. اهـ مختصرًا من ?تفسير ابن كثير?.
(8) …الأنعام الآية:70.(53/11)
…وقال تعالى: {ويعبدون من دون الله ما لا يضرّهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله قل أتنبّئون الله بما لا يعلم(1) في السّموات ولا في الأرض سبحانه وتعالى عمّا يشركون}(2).
…وقال تعالى حاكيًا عن أهل النار:{فما لنا من شافعين(3)، ولا صديق حميم، فلو أنّ لنا كرّةً فنكون من المؤمنين}(4).
…ومعنى حميم : قريب، وكرّة: رجعة إلى الدنيا.
…وقال تعالى: {الله الّذي خلق السّموات والأرض وما بينهما في ستّة أيّام ثمّ استوى على العرش (5) ما لكم من دونه من وليّ ولا شفيع أفلا تتذكّرون}(6).
…وقال تعالى: {أم اتّخذوا من دون الله شفعاء قل أولو كانوا لا يملكون شيئًا ولا يعقلون، قل لله الشّفاعة جميعًا له ملك السّموات والأرض ثمّ إليه ترجعون}(7).
__________
(1) …قال الإمام ابن جرير رحمه الله (ج11 ص98): يقول أتخبرون الله بما لا يكون في السموات ولا في الأرض، وذلك أن الآلهة لا تشفع لهم عند الله في السموات ولا في الأرض، وكان المشركون يزعمون أنَّها تشفع لهم عند الله، فقال الله لنبيه محمد صلَّى اللهُ عليهِ وعلى آلهِ وسلَّم: قل لهم : أتخبرون الله أن ما لا يشفع في السموات ولا في الأرض يشفع لكم فيهما؟ وذلك باطل لا تعلم حقيقته وصحته، بل يعلم الله أن ذلك خلاف ما يقولون، وأنَّها لا تشفع لأحد ولا تنفع ولا تضر. اهـ المراد من كلامه.
(2) …يونس الآية: 18.
(3) …يقولون ذلك بعد خروج الموحدين من النار، ويدل على ذلك قولهم: {فَلَو أنَّ لَنَا كَرَّة فَنَكُونَ مِن المُؤمِنِين} فإنه يدل على أنّهم لم يكونوا مؤمنين في الدنيا، وسيأتي بيان ذلك في الأحاديث إن شاء الله.
(4) …الشعراء الآية:100-102.
(5) …استواء يليق بجلاله من غير تشبيه ولا تمثيل ولا تعطيل، ومن أحسن الكتب المصنفة في ذلك كتاب ?العلو للعلي الغفار" للحافظ الذهبي رحمه الله.
(6) …السجدة الآية: 4.
(7) …الزمر الآية: 43-44.(53/12)
…وقال تعالى: {وأنذرهم يوم الآزفة(1) إذ القلوب لدى الحناجر كاظمين ما للظّالمين من حميم ولا شفيع يطاع}(2).
…في هذه الآيات نفي الشفيع.
الآيات في إثبات الشّفاعة والشفيع:
…قال الله تعالى:{من ذا الّذي يشفع عنده إلا بإذنه}(3).
…وقال تعالى:{ما من شفيع إلا من بعد إذنه}(4).
…وقال تعالى:{وقالوا اتّخذ الرّحمن ولدًا سبحانه بل عباد مكرمون، لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون، يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون(5)}(6).
…فهي هذه الآيات إثبات الشفيع بشروط وستأتي إن شاء الله.
…وقال الله تعالى: {ويسألونك عن الجبال فقل ينسفها ربّي نسفًا، فيذرها قاعًا صفصفًا(7)، لا ترى فيها عوجًا ولا أمتًا، يومئذ يتّبعون الدّاعي لا عوج له وخشعت الأصوات للرّحمن فلا تسمع إلا همسًا(8)، يومئذ لا تنفع الشّفاعة إلا من أذن له الرّحمن ورضي له قولاً}(9).
…وقال تعالى: {ولا يملك الّذين يدعون من دونه الشّفاعة إلا من شهد بالحقّ وهم يعلمون}(10).
…قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: {ولا يملك الّذين يدعون من دونه} أي: من الأصنام والأوثان {الشّفاعة} أي: لا يقدرون على الشّفاعة لهم {إلا من شهد بالحقّ وهم يعلمون} هذا استثناء منقطع، أي: لكن من شهد بالحقّ على بصيرة وعلم فإنه تنفع شفاعته عنده بإذنه له. اهـ
…وقال تعالى:{وكم من ملك في السّموات لا تغني شفاعتهم شيئًا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى}(11).
__________
(1) …الآزفة: اسم من أسماء القيامة، سُمِّيت بذلك لاقترابِها كما قال تعالى: {أزِفَت الآزِفَةُ، لَيسَ لَهَا مِن دُونِ اللهِ كَاشِفَة}.
(2) …غافر الآية: 18.
(3) …البقرة الآية: 255.
(4) …يونس الآية: 3.
(5) …مشفقون: خائفون.
(6) …الأنبياء الآية: 26-28.
(7) …صفصفًا: مستويًا.
(8) …الهمس: الصوت الخفي.
(9) …طه الآية: 105-109.
(10) …الزخرف الآية: 86.
(11) …النجم الآية: 36.(53/13)
هذه الآيات تدل على الشّفاعة المثبتة بشروط ستأتي إن شاء الله.
الجمع بين الآيات المثبتة والآيات النافية:
…يتحصل من هذا أن النفي مقصود به الشّفاعة التي تطلب من غير الله، كما قال تعالى: {قل لله الشّفاعة جميعًا} (1) والشّفاعة المثبتة لا تقبل إلا بشروط:
1- قدرة الشافع على الشّفاعة كما قال تعالى في حق الشافع الذي يطلب منه وهو غير قادر على الشّفاعة: {ويعبدون من دون الله ما لا يضرّهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله قل أتنبّئون الله بما لا يعلم في السّموات ولا في الأرض سبحانه وتعالى عمّا يشركون} (2)، وقال تعالى: {ولا يملك الّذين يدعون من دونه الشّفاعة إلا من شهد بالحقّ وهم يعلمون} (3) فعلم من هذا أن طلب الشّفاعة من الأموات طلب ممن لا يملكها، قال تعالى: {والّذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير، إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم ويوم القيامة يكفرون بشرككم ولا ينبّئك مثل خبير} (4) وقال تعالى: {قل ادعوا الّذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرّة في السّموات ولا في الأرض وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير، ولا تنفع الشّفاعة عنده إلا لمن أذن له}(5).
2- إسلام المشفوع له، قال الله تعالى : {ما للظّالمين من حميم ولا شفيع يطاع} (6)، والمراد بالظالمين هنا: الكافرون، بدليل الأحاديث المتواترة في الشّفاعة لأهل الكبائر، وستأتي إن شاء الله في موضعها. قال الحافظ البيهقي رحمه الله في "الشعب" (ج1 ص205): فالظالمون هاهنا هم الكافرون، ويشهد لذلك مفتتح الآية إذ هي في ذكر الكافرين. اهـ
__________
(1) …الزمر الآية: 44.
(2) …يونس الآية: 18.
(3) …الزخرف الآية: 86.
(4) …الزمر الآية:13-14.
(5) …سبأ الآية: 22.
(6) …غافر الآية: 18.(53/14)
…وقال الحافظ ابن كثير رحمه الله في تفسير الآية: أي ليس للذين ظلموا أنفسهم بالشرك بالله من قريب منهم ينفعهم، ولا شفيع يشفع فيهم، بل قد تقطعت بهم الأسباب من كل خير. اهـ
…ويستثنى من المشركين أبوطالب، فإن النبي صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم يشفع له حتى يصير في ضحضاح من نار كما سيأتي في الأحاديث في مواضعها إن شاء الله.
3- الإذن للشافع، كما قال تعالى: {من ذا الّذي يشفع عنده إلا بإذنه}(1).
4- الرّضا عن المشفوع له كما قال تعالى: {وكم من ملك في السّموات لا تغني شفاعتهم شيئًا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى} (2) وقال تعالى:{ولا يشفعون إلا لمن ارتضى}(3).
…وبهذا تنتهي المقدمة، ونستعين بالله في الشروع في ذكر الأحاديث بأسانيدها مع العزو إلى بقيّة المخرجين بحسب الاستطاعة، فإن في ذكر الحديث بسنده طمأنينةً لطالب علم الحديث، وحذف الأسانيد خسارة كبيرة، إذ الإسناد من الدين، وما كان سلفنا رحمهم الله يقبلون من محدث حديثًا حتى يسنده، وينظروا في رجاله رجلاً رجلاً، كما هو معروف من سيرهم رحمهم الله.
…وأما التخريج فهو يعين طالب العلم على جمع طرق الحديث، والحديث كلما كثرت طرقه ازداد قوة، والتخريج أيضًا يعين طالب العلم على الوقوف على شروح الحديث، في الكتب التي قد شرحت، فربّ حديث يكون عامًا قد خصّص، أو يكون منسوخًا، أو يكون مطلقًا قد قيّد، من أجل هذا فإنه لا غنى لنا عن الرجوع إلى الشروح غير مقلدين لأصحابها، ولكن مستفيدين من جهودهم التي بذلوها في خدمة السنة، فجزاهم الله عن الإسلام خيرًا.
__________
(1) …البقرة الآية: 255.
(2) …النجم الآية:36.
(3) …الأنبياء الآية: 28.(53/15)
…هذا ويستفاد من التخريج وجمع الطرق أنّ الحديث ربّما يكون ظاهره الصحة، وبجمع الطرق تظهر فيه علّة من اضطراب أو انقطاع أو إرسال أو وقف أو غيرها مما يعلّ بها الحديث. فمن ثمّ يقول علي بن المديني: إن الباب إذا لم تجمع طرقه لم يتبيّن خطؤه. وإليك مثالاً على ذلك: حديث جابر في "صحيح البخاري" فيمن يقول مثل ما يقول المؤذن، ثم يقول: ((اللّهمّ ربّ هذه الدّعوة التّامة، والصّلاة القائمة، آت محمّدًا [ وفي "معاني الآثار" للطحاوي: آت سيّدنا محمدًا] الوسيلة والفضيلة، وابعثْه مقامًا محمودًا الذي وعدته))، وفي "سنن البيهقي" زيادة: ((إنّك لا تخلف الميعاد))، فبسبب جمع الطرق علم أنّ هاتين الزيادتين شاذتان كما سيأتي إن شاء الله، في (أسباب الشّفاعة).
…هذا وقد أذكر بعض الأحاديث الشديدة الضعف والموضوعة لبيان حالها لا للاحتجاج بها، فإنّ بعض الأحاديث الموضوعة تستغلها بعض الطوائف المنحرفة لترويج باطلها، وإليك مثالاً على ذلك وهو ما قرأناه في "العقد الثمين في معرفة رب العالمين"(1) ونحن بصعدة(2): ((ليست شفاعتي لأهل الكبائر من أمّتي)) فهذا حديث ليس له أصل، إنّما هو من أباطيل المعتزلة، كما في "أسنى المطالب في أحاديث مختلفة المراتب".
…مثال آخر: حديث ((ثلاثة أنا شفيع لهم يوم القيامة: الضارب بسيفه أمام ذريتي، والقاضي لهم حوائجهم عندما اضطروا إليه، والمحبّ لهم بقلبه ولسانه)) ولا يخفى على القارئ ما هو مقصد(3) واضع هذا الحديث، وسيأتي إن شاء الله الكلام على هذا الحديث الباطل في (أعمال متفرقة من أسباب الشّفاعة).
تنبيه:
__________
(1) …من رسائل الهادوية الشيعة، وليس هو كتاب الفاسي. ويدرس في صعدة عند الشيعة.
(2) …باليمن وهي بلدنا.
(3) …من هذا أن يكون الناس مسخرين لهم، وأن تكون مصالح غير العلوي للعلوي.(53/16)
…قاعدتي في الحكم على الحديث أنّني أبحث في كتب المحدثين، فإن وجدت حكمًا لمحدث نقلته، ثم نظرت في رجال السّند فإن ظهر لي خلاف ذلك الحكم من تصحيح أو تضعيف عقّبت به على حكمه، وإلا أقررته كما هو، وأعتقد أنّ هذه الطريقة أسلم، فقد يظن الباحث أنّ السند صحيح ويكون قد اطلع العلماء على علّة فيه، وقد يصححه متساهل، فيتناقله من بعده معتمدين على تصحيحه، من أجل هذا ألزمت نفسي بالجمع بين البحث عمّا قاله العلماء، والنظر في السند، وأيضًا النّاس يطمئنون إلى تصحيح المتقدمين لعلمهم أنّهم أوسع علمًا من المتأخرين. فإذا لم أجد لهم كلامًا حكمت على الحديث بظاهر السّند. والله المستعان، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
اعتذار:
…اطلعت على أحاديث في "كنْز العمّال" وفي "مجمع الزوائد" و"المطالب العالية" تعزى إلى مصادر ليست في متناولي فتركتها ولم تطمئن النفس إلى نقلها بدون أسانيد، وقد أخرجت في الغالب ما يغني عنها، وهكذا في الرجال فقد أبحث عن بعضهم فلا أجد له ترجمة في المصادر لديّ، فأتوقف في الحكم على الحديث خشية أن يكون الراوي موثقًا في مصدر لم أطلع عليه، أو يكون تصحّف فما أكثر التصحيف في الكتب المطبوعة التي لم يشرف عليها من هو أهل للإشراف.
…هذا، وقد أعرضت عن جدل أهل البدع وذكر أقوالهم والردّ عليها، وسقت الأحاديث كما هي، ففي الأدلة غنية عن فلسفة أهل علم الكلام، وفي الأدلة قمع لبدعهم(1) فعسى الله أن يوفق المسلمين إلى الرجوع إلى كتاب الله وسنة رسول الله اللّذين هما أمان من الضلال والزّيغ، وهما عصمة من الاختلاف الذي مزّق الأمّة الإسلامية وجعلهم شيعًا وأحزابًا، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون.
__________
(1) …شأن علمائنا المتقدمين كالآجري واللالكائي وقد ذكرت جملةً طيبةً من هذا في ?ترجمة أبي حنيفة?. وانظر في ذم الجدل أيضًا ?الشريعة? للآجري (ج1 ص185) بتحقيق الوليد بن محمد، و?شرح أصول اعتقاد أهل السنة? للالكائي (ج1 ص114).(53/17)
…((اللّهمّ ربّ جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السّموات والأرض، عالم الغيب والشّهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحقّ بإذنك إنّك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم))(1).
الشّفاعة العظمى
قال البخاري رحمه الله (ج8 ص395): حدثنا محمد بن مقاتل أخبرنا عبدالله(2) أخبرنا أبوحيان التيمي عن أبي زرعة بن عمرو بن جرير عن أبي هريرة رضى الله عنه قال: أتي رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلّم بلحم، فرفع إليه الذراع، وكانت تعجبه فنهس منها نهسةً ثم قال: ((أنا سيّد النّاس يوم القيامة، وهل تدرون ممّ ذلك؟ يجمع الله النّاس الأوّلين والآخرين في صعيد واحد يسمعهم الدّاعي وينفذهم البصر، وتدنو الشّمس، فيبلغ النّاس من الغمّ والكرب ما لا يطيقون ولا يحتملون، فيقول النّاس: ألا ترون ما قد بلغكم؟ ألا تنظرون من يشفع لكم إلى ربّكم؟ فيقول بعض النّاس لبعض: عليكم بآدم. فيأتون آدم عليه السّلام فيقولون له: أنت أبوالبشر، خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأمر الملائكة فسجدوا لك، اشفع لنا إلى ربّك، ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ ألا ترى إلى ما قد بلغنا؟ فيقول آدم: إنّ ربّي قد غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإنّه قد نهاني عن الشّجرة فعصيته، نفسي نفسي نفسي اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى نوح. فيأتون نوحًا فيقولون: يا نوح إنّك أنت أوّل الرّسل إلى أهل الأرض(3)
__________
(1) …رواه مسلم من حديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم كان يفتتح به صلاة الليل.
(2) …: هو ابن المبارك، وأبوحيان التيمي هو يحيى بن سعيد.
(3) …إشكال بين هذا الحديث وحديث جابر: ((أعطيت خمسًا لم يعطهنّ أحد قبلي)) وفيه ((وكان الرّجل يرسل إلى قومه خاصّة))، فهل نوح أرسل إلى قومه خاصة، أم إلى جميع أهل الأرض، والصحيح أنه أرسل إلى جميع أهل الأرض وأنّهم جميعًا كانوا قومه ولما لم يستجيبوا له، دعا عليهم فأغرقهم الله، ولو لم يكونوا جميعًا قومه لما عذّبهم الله بغير إقامة الحجة عليهم قال الله سبحانه وتعالى: {وما كنّا معذبين حتى نبعث رسولاً} إن شئت الاطلاع على مزيد من حل هذا الإشكال فانظر ?فتح الباري? (ج1 ص436) حديث رقم (335).(53/18)
، وقد سمّاك الله عبدًا شكورًا، اشفع لنا إلى ربّك، ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ فيقول: إنّ ربّي عزّ وجلّ قد غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإنّه قد كانت لي دعوة دعوتها على قومي، نفسي نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى إبراهيم. فيأتون إبراهيم فيقولون: يا إبراهيم أنت نبيّ الله وخليله من أهل الأرض، اشفع لنا إلى ربّك، ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ فيقول لهم: إنّ ربّي قد غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإنّي قد كنت كذبت ثلاث كذبات- فذكرهنّ أبوحيان في الحديث- نفسي نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى موسى. فيأتون موسى فيقولون: يا موسى أنت رسول الله، فضّلك الله برسالته وبكلامه على النّاس، اشفع لنا إلى ربّك، ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ فيقول: إنّ ربّي قد غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإنّي قد قتلت نفسًا لم أومر بقتلها، نفسي نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى عيسى. فيأتون عيسى فيقولون: يا عيسى أنت رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، وكلّمت النّاس في المهد صبيًّا" اشفع لنا إلى ربّك ألا ترى إلى ما نحن فيه فيقول عيسى إنّ ربّي قد غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله -ولم يذكر ذنبًا- نفسي نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى محمّد صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم. فيأتون محمّدًا، فيقولون: يا محمّد أنت رسول الله وخاتم الأنبياء، وقد غفر الله لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخّر، اشفع لنا إلى ربّك، ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ فأنطلق فآتي تحت العرش فأقع ساجدًا لربّي عزّ وجلّ، ثمّ يفتح الله عليّ من محامده وحسن الثّناء عليه شيئًا لم يفتحه على أحد قبلي، ثمّ يقال: يا محمّد ارفع رأسك، سل تعطه، واشفعْ تشفّعْ. فأرفع رأسي فأقول: أمّتي يا ربّ، أمّتي يا ربّ(1)
__________
(1) …الحديث فيه شفاعة عامة وشفاعة خاصة، فهي شفاعة في أهل الموقف، والثانية: في أمته كما ترى.(53/19)
. فيقال: يا محمّد أدخل من أمّتك من لا حساب عليهم من الباب الأيمن من أبواب الجنّة، وهم شركاء النّاس فيما سوى ذلك من الأبواب. -ثم قال- والّذي نفسي بيده إنّ ما بين المصراعين من مصاريع الجنّة كما بين مكّة وحمير، أو كما بين مكّة وبصرى )).
الحديث أخرجه مسلم (ج1 ص184)، والترمذي (ج4 ص43)، وأحمد (ج2 ص435)، وابن خزيمة(1) ص(242)، وأبوعوانة (ج1 ص171)، وعندهم كلهم إلا البخاري وأبا عوانة: ((ما بين مكّة وهجر)).
__________
(1) …أطلقت العزو إلى ابن خزيمة، فهو إلى ?كتاب التوحيد? فإنه رحمه الله توسع فيه في أحاديث الشّفاعة.(53/20)
قال البخاري رحمه الله (ج13 ص392): حدثني معاذ بن فضالة حدثنا هشام(1)عن قتادة عن أنس أن النّبيّ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم قال: ((يجمع الله المؤمنين(2) يوم القيامة كذلك، فيقولون: لو استشفعنا إلى ربّنا حتّى يريحنا من مكاننا هذا. فيأتون آدم، فيقولون: يا آدم أما ترى النّاس؟ خلقك الله بيده، وأسجد لك ملائكته، وعلّمك أسماء كلّ شيء، اشفع لنا إلى ربّك، حتّى يريحنا من مكاننا هذا. فيقول: لست هناكم -ويذكر لهم خطيئته التي أصاب- ولكن ائتوا نوحًا فإنّه أوّل رسول بعثه الله إلى أهل الأرض. فيأتون نوحًا، فيقول: لست هناك -ويذكر خطيئته التي أصاب- ولكن ائتوا إبراهيم خليل الرّحمن. فيأتون إبراهيم، فيقول: لست هناكم -ويذكر لهم خطاياه التي أصابها- ولكن ائتوا موسى عبدًا آتاه الله التّوراة، وكلّمه تكليمًا. فيأتون موسى، فيقول: لست هناكم -ويذكر لهم خطيئته التي أصاب- ولكن ائتوا عيسى عبد الله ورسوله وكلمته وروحه. فيأتون عيسى، فيقول: لست هناكم، ولكن ائتوا محمّدًا صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم عبدًا غفر له ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر. فيأتونني فأنطلق فأستأذن على ربّي، فيؤذن لي عليه، فإذا رأيت ربّي(3) وقعت له ساجدًا، فيدعني ما شاء الله أن يدعني، ثمّ يقال لي: ارفع محمّد، قل يسمعْ، وسل تعطه، واشفعْ تشفّعْ. فأحمد ربّي بمحامد علّمنيها، ثمّ أشفع فيحدّ لي حدًّا فأدخلهم الجنّة، ثمّ أرجع فإذا رأيت ربّي وقعت ساجدًا، فيدعني ما شاء الله أن يدعني، ثمّ
__________
(1) …هو ابن أبي عبدالله الدستوائي.
(2) …بين الحافظ في ?الفتح? أن لفظة: ((المؤمنين)) غير محفوظة، وأنّها شفاعة عظمى للمؤمنين وغيرهم، فقال(ج11 ص440) -طبعة الرّيان-: وتبيّن من رواية النضر بن أنس أن التعبير بـ((الناس)) أرجح، لكن الذي يطلب الشّفاعة هم المؤمنون. اهـ
(3) …هذا من الأحاديث الدالة على أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يرى ربه في عرصات القيامة فنحن نؤمن به على ظاهره.(53/21)
يقال: ارفع محمّد، وقل يسمع، وسل تعطه، واشفع تشفّع. فأحمد ربّي بمحامد علّمنيها، ثمّ أشفع فيحدّ لي حدًّا فأدخلهم الجنّة، ثمّ أرجع فإذا رأيت ربّي وقعت ساجدًا، فيدعني ما شاء الله أن يدعني، ثمّ يقال: ارفع محمّد، قل يستمع، وسل تعطه، واشفع تشفّع. فأحمد ربّي بمحامد علّمنيها، ثمّ أشفع فيحدّ لي حدًّا فأدخلهم الجنّة، ثمّ أرجع فأقول: يا ربّ ما بقي في النّار إلا من حبسه القرآن ووجب عليه الخلود(1)).
فقال النّبيّ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: ((يخرج من النّار من قال لا إله إلاّ الله، وكان في قلبه من الخير ما يزن شعيرة، ثمّ يخرج من النّار من قال لا إله إلاّ الله وكان في قلبه من الخير ما يزن برّةً، ثمّ يخرج من النّار من قال لا إله إلا الله وكان في قلبه ما يزن من الخير ذرّةً)).
الحديث أعاده البخاري ص(422)، وأخرجه مسلم (ج1 ص180)، وأبوعوانة (ج1 ص178-179) وابن ماجة (ج2 ص1442)، وأحمد (ج3 ص116، 244، 247)، والطيالسي (ج2 ص227) من "ترتيب المسند" من رواية همام عن قتادة به.
__________
(1) …الحافظ في ?الفتح? (ج11 ص440): إن قوله ((ووجب عليه الخلود)) في رواية هشام مدرجة في المرفوع، لما تبين من رواية أبي عوانة أنّها من قول قتادة فسّر به قوله ((من حبسه القرآن)). قلت: ورواية أبي عوانة وهو وضّاح بن عبدالله اليشكري عند مسلم.(53/22)
قال البخاري رحمه الله (ج13 ص473): حدثنا سليمان بن حرب حدثنا حماد بن زيد حدثنا معبد بن هلال العنزي قال: اجتمعنا ناس من أهل البصرة، فذهبنا إلى أنس بن مالك، وذهبنا معنا بثابت البناني إليه يسأله لنا عن حديث الشّفاعة، فإذا هو في قصره، فوافقناه يصلي الضحى فاستأذنا فأذن لنا وهو قاعد على فراشه. فقلنا لثابت: لا تسأله عن شيء أوّل من حديث الشّفاعة. فقال: يا أبا حمزة هؤلاء إخوانك من أهل البصرة جاءوك يسألونك عن حديث الشّفاعة. فقال: حدثنا محمّد صلى الله عليه وعلى آله قال: ((إذا كان يوم القيامة ماج النّاس في بعض، فيأتون آدم فيقولون: اشفع لنا إلى ربّك. فيقول: لست لها، ولكن عليكم بإبراهيم(1) فإنّه خليل الرّحمن. فيأتون إبراهيم، فيقول: لست لها، ولكن عليكم بموسى فإنّه كليم الله. فيأتون موسى، فيقول: لست لها، ولكن عليكم بعيسى فإنّه روح الله وكلمته. فيأتون عيسى، فيقول: لست لها ولكن عليكم بمحمّد صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم. فيأتوني فأقول: أنا لها فأستأذن على ربّي فيؤذن لي، ويلهمني محامد أحمده بها لا تحضرني الآن فأحمده بتلك المحامد وأخرّ له ساجدًا، فيقال: يا محمّد ارفعْ رأسك وقلْ يسمعْ لك، وسلْ تعط، واشفعْ تشفّعْ. فأقول: يا ربّ أمّتي أمّتي. فيقال: انطلق فأخرج منها من كان في قلبه مثقال شعيرة من إيمان. فأنطلق فأفعل ثمّ أعود فأحمده بتلك المحامد ثمّ أخرّ له ساجدًا، فيقال: يا محمّد ارفع رأسك وقل يسمع لك وسل تعط، واشفع تشفّع. فأقول: يا ربّ أمّتي أمّتي. فيقال: انطلق فأخرج منها من كان في قلبه مثقال ذرّة أو خردلة من إيمان. فأنطلق فأفعل، ثمّ أعود فأحمده بتلك المحامد ثمّ أخرّ له ساجدًا، فيقال: يا محمّد ارفع رأسك، وقلْ يسمعْ
__________
(1) …هذا الحديث وأمثاله من الأحاديث التي ليس فيها أنه أمرهم بالإتيان إلى نوح ... الخ، تحمل على أنه أمرهم بالإتيان إلى نوح، ونوح أمرهم بالإتيان إلى إبراهيم جمعًا بين الأحاديث والله أعلم.(53/23)
لك، وسل تعط، واشفعْ تشفّعْ. فأقول: يا ربّ أمّتي أمّتي. فيقول: انطلق فأخرج من كان في قلبه أدنى أدنى مثقال حبّة خردل من إيمان فأخرجه من النّار من النّار من النّار. فأنطلق فأفعل)).
فلما خرجنا من عند أنس، قلت لبعض أصحابنا: لو مررنا بالحسن وهو متوار في منزل أبي خليفة فحدّثنا بما حدّثنا أنس بن مالك. فأتيناه فسلّمنا عليه، فأذن لنا فقلنا له: يا أبا سعيد جئناك من عند أخيك أنس بن مالك، فلم نر مثل ما حدّثنا في الشّفاعة. فقال: هيه. فحدّثْناه بالحديث فانتهى إلى هذا الموضع، فقال: هيه. فقلنا: لم يزدْ لنا على هذا. فقال: لقد حدّثني وهو جميع(1) منذ عشرين سنة، فلا أدرى أنسي أم كره أن تتكلوا. فقلنا: يا أبا سعيد فحدّثْناه. فضحك وقال: خلق الإنسان عجولاً، ما ذكرته إلاّ وأنا أريد أحدّثكم، حدّثني كما حدثكم به، قال: ((ثمّ أعود الرّابعة فأحمده بتلك المحامد ثمّ أخرّ له ساجدًا، فيقال: يا محمّد ارفعْ رأسك وقلْ يسمعْ وسلْ تعط واشفع تشفّع. فأقول: يا ربّ ائذن لي فيمن قال لا إله إلاّ الله. فيقول: وعزّتي وجلالي وكبريائي وعظمتي لأخرجنّ منها من قال: لا إله إلاّ الله)).
الحديث أخرجه مسلم (ج1 ص182) وفيه قال -أي معبد بن هلال-: فأشهد على الحسن أنه حدّثنا أنه سمع أنس بن مالك أراه قبل عشرين سنة وهو جميع. وأخرجه أبوعوانة (ج1 ص183-184) مختصرًا.
__________
(1) …جميع: أي مجتمع العقل، وهو إشارة إلى أنّه كان حينئذ لم يدخل في الكبر الذي هو مظنة تفرق الذهن، وحدوث اختلاط الحفظ. اهـ ?فتح الباري?.(53/24)
قال مسلم رحمه الله (ج1 ص186): حدثنا محمد بن طريف بن خليفة البجلي حدثنا محمد بن فضيل حدثنا أبومالك الأشجعي(1) عن أبي حازم عن أبي هريرة، وأبومالك عن ربعي عن حذيفة قالا: قال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: ((يجمع الله تبارك وتعالى النّاس فيقوم المؤمنون حتّى تزلف لهم الجنّة، فيأتون آدم فيقولون: يا أبانا استفتح لنا الجنّة. فيقول: وهل أخرجكم من الجنّة إلاّ خطيئة أبيكم آدم؟ لست بصاحب ذلك، اذهبوا إلى ابني إبراهيم خليل الله. قال: فيقول إبراهيم: لست بصاحب ذلك إنّما كنت خليلاً من وراء وراء، اعمدوا إلى موسى صلّى الله عليه وسلّم الّذي كلّمه الله تكليمًا. فيأتون موسى صلّى الله عليه وسلّم، فيقول: لست بصاحب ذلك، اذهبوا إلى عيسى كلمة الله وروحه فيقول عيسى صلّى الله عليه وسلّم: لست بصاحب ذلك. فيأتون محمّدًا صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم فيقوم فيؤذن له، وترسل الأمانة والرّحم فتقومان جنبتي الصّراط يمينًا وشمالاً، فيمرّ أوّلكم كالبرق)). قال: قلت: بأبي أنت وأمّي أيّ شيء كمرّ البرق؟ قال: ((ألم تروا إلى البرق كيف يمرّ ويرجع في طرفة عين؟ ثمّ كمرّ الرّيح، ثمّ كمرّ الطّير، وشدّ الرّجال(2)، تجري بهم أعمالهم، ونبيّكم قائم على الصّراط يقول: ربّ سلّم سلّم. حتّى تعجز أعمال العباد، حتّى يجيء الرّجل فلا يستطيع السّير إلاّ زحفًا، قال وفي حافتي الصّراط كلاليب معلّقة مأمورة بأخذ من أمرتْ به، فمخدوش ناج، ومكدوس في النّار)) والذي نفس أبي هريرة بيده إن قعر جهنّم لسبعون خريفًا.
__________
(1) …: هو سعد بن طارق، وأبوحازم: هو سلمان الأشجعي.
(2) …شدّ الرّجال: الشّدّ هو العدو كما في ?النهاية?.(53/25)
الحديث أخرجه ابن خزيمة ص(245)، وأبوعوانة (ج1 ص174-175) مختصرًا، والحاكم (ج4 ص589) وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، كذا قال، وقد أخرجه مسلم. وسعد بن طارق أبومالك الأشجعي من رجال مسلم، وروى له البخاري تعليقًا، فالحديث على شرط مسلم، لكنه قد أخرجه فلا معنى لاستدراكه.
قال الإمام أحمد رحمه الله(ج1 ص4): ثنا إبراهيم بن إسحاق الطالقاني قال: حدثني النضر بن شميل المازني قال: حدثني أبونعامة(1) قال: حدثني أبوهنيدة البراء بن نوفل عن والان العدوي عن حذيفة عن أبي بكر الصديق رضى الله عنه قال: أصبح رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم ذات يوم فصلّى الغداة، ثم جلس حتى إذا كان من الضّحى ضحك رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ثم جلس مكانه حتى صلّى الأولى والعصر والمغرب، كل ذلك لا يتكلم حتى صلّى العشاء الآخرة ثم قام إلى أهله، فقال النّاس لأبي بكر: ألا(2) تسألْ رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلم ما شأنه، صنع اليوم شيئًا لم يصنعه قط. قال: فسأله، فقال: ((نعم، عرض عليّ ما هو كائن من أمر الدّنيا وأمر الآخرة، فجمع الأوّلون والآخرون بصعيد واحد، ففظع النّاس بذلك حتّى انطلقوا إلى آدم عليه السّلام، والعرق يكاد يلجمهم، فقالوا: يا آدم أنت أبو البشر وأنت اصطفاك الله عزّ وجلّ، اشفع لنا إلى ربّك. قال: لقد لقيت مثل الّذي لقيتم، انطلقوا إلى أبيكم بعد أبيكم إلى نوح {إنّ الله اصطفى آدم ونوحًا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين} قال: فينطلقون إلى نوح عليه السّلام فيقولون: اشفع لنا إلى ربّك، فأنت اصطفاك الله واستجاب لك في دعائك ولم يدعْ على الأرض من الكافرين ديّارًا. فيقول: ليس ذاكم عندي انطلقوا إلى إبراهيم
__________
(1) …: هو عمرو بن عيسى العدوي.
(2) …الأصل: ((لا تسأل))، فالظاهر أنّها سقطت همزة الاستفهام إذ هي موجودة في ?مجمع الزوائد? و?كنز العمال?. وعند ابن خزيمة وأبي عوانة وابن حبان: ((سلْ))، بلفظ الأمر.(53/26)
عليه السّلام فإنّ الله عزّ وجلّ اتّخذه خليلاً، فينطلقون إلى إبراهيم فيقول ليس ذاكم عندي، ولكن انطلقوا إلى موسى عليه السّلام، فإنّ الله عزّ وجلّ كلّمه تكليمًا. فيقول موسى عليه السّلام: ليس ذاكم عندي، ولكن انطلقوا إلى عيسى ابن مريم، فإنّه يبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى(1). فيقول عيسى: ليس ذاكم عندي، ولكن انطلقوا إلى سيّد ولد آدم، فإنّه أوّل من تنشقّ عنه الأرض يوم القيامة، انطلقوا إلى محمّد صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم فيشفع لكم إلى ربّكم عزّ وجلّ. قال: فينطلق فيأتي جبريل عليه السّلام ربّه فيقول الله عزّ وجلّ: ائذن له وبشّره بالجنّة. قال: فينطلق به جبريل فيخرّ ساجدًا قدر جمعة، ويقول الله عزّ وجلّ: ارفعْ رأسك يا محمّد، وقلْ يسمعْ واشفعْ تشفّعْ. قال: فيرفع رأسه فإذا نظر إلى ربّه عزّ وجلّ خرّ ساجدًا قدر جمعة أخرى، فيقول الله عزّ وجلّ: ارفعْ رأسك وقلْ يسمعْ واشفعْ تشفّعْ. قال: فيذهب ليقع ساجدًا فيأخذ جبريل عليه السّلام بضبعيه، فيفتح الله عزّ وجلّ عليه من الدّعاء شيئًا لم يفتحه على بشر قطّ، فيقول: أي ربّ خلقتني سيّد ولد آدم ولا فخر، وأوّل من تنشقّ عنه الأرض يوم القيامة ولا فخر. حتّى إنّه ليرد عليّ الحوض أكثر ممّا بين صنعاء وأيلة، ثمّ يقال: ادعوا الصّدّيقين فيشفعون. ثمّ يقال: ادعوا الأنبياء. قال: فيجيء النّبيّ ومعه العصابة، والنّبيّ ومعه الخمسة والسّتّة، والنّبيّ وليس معه أحد، ثمّ يقال: ادعوا الشّهداء فيشفعون لمن أرادوا. وقال: فإذا فعلت الشّهداء ذلك، قال: يقول الله عزّ وجلّ: أنا أرحم الرّاحمين، أدخلوا جنّتي من كان لا يشرك بي شيئًا. قال: فيدخلون الجنّة. قال: ثمّ يقول الله عزّ وجلّ: انظروا في النّار، هل تلقون من أحد عمل خيرًا قطّ. قال: فيجدون في النّار رجلاً، فيقول له: هل عملت خيرًا قطّ؟ فيقول: لا غير أنّي كنت أسامح النّاس في البيع
__________
(1) …بإذن الله تعالى كما جاء مقيّدًا في القرآن.(53/27)
والشّراء. فيقول الله عزّ وجلّ: أسمحوا لعبدي كإسماحه إلى عبيدي. ثمّ يخرجون من النّار رجلاً فيقول له: هل عملت خيرًا قطّ؟ فيقول: لا غير أنّي قد أمرت ولدي إذا متّ فأحرقوني بالنّار ثمّ اطحنوني حتّى إذا كنت مثل الكحل فاذهبوا بي إلى البحر، فاذروني في الرّيح، فوالله لا يقدر عليّ ربّ العالمين أبدًا. فقال الله عزّ وجلّ: لم فعلت ذلك؟ قال: من مخافتك. قال: فيقول الله عزّ وجلّ: انظر إلى ملْك أعظم ملك فإنّ لك مثله وعشرة أمثاله. قال: فيقول: لم تسخر بي وأنت الملك؟ قال: وذاك الّذي ضحكت منه من الضّحى)).
الحديث أخرجه ابن خزيمة ص(310)، وأبوعوانة (ج1 ص175)، وابن حبان كما في "موارد الظمآن" ص(642) وأبوبكر أحمد بن علي الأموي في "مسند الصديق" ص(48)، وأشار إليه البخاري في "التاريخ" (ج8 ص185)، وقال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (ج10 ص375): رواه أحمد وأبويعلى بنحوه والبزّار ورجالهم ثقات. ورمز الهندي في "كنْز العمال" (ج14 ص631) لضعفه، وقال الدارقطني في "العلل": (والان) مجهول. والحديث غير ثابت كما في "الكنْز".
قال أبوعبدالرحمن: (والان) وثّقه ابن معين كما في "تعجيل المنفعة"، وروى عنه اثنان كما في "التوحيد" لابن خزيمة ص(312) فحديثه يصلح في الشواهد والمتابعات، وما انفرد به توقف فيه، وقد انفرد هنا بالسجود مرتين قدر جمعة، وبقوله: ((ادعوا الصّدّيقين))، وتقديمهم على الأنبياء، وبقصة الذي أوصى بأن يحرق، وقصة الوصية بالإحراق في "الصحيحين" في غير حديث الشّفاعة ومن غير هذه الطريق، والله أعلم.(53/28)
قال الإمام أحمد رحمه الله (ج1 ص281): ثنا عفّان ثنا حمّاد بن سلمة عن علي بن زيد عن أبي نضرة(1) قال: خطبنا ابن عباس على منبر البصرة فقال: قال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: ((إنّه لم يكن نبيّ إلاّ له دعوة قد تنجّزها في الدّنيا، وإنّي قد اختبأت دعوتي شفاعةً لأمّتي، وأنا سيّد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر، وأنا أوّل من تنشقّ عنه الأرض ولا فخر، وبيدي لواء الحمد ولا فخر، آدم فمن دونه تحت لوائي ولا فخر، ويطول يوم القيامة على النّاس، فيقول بعضهم لبعض: انطلقوا بنا إلى آدم أبي البشر، فليشفع لنا إلى ربّنا عزّ وجلّ، فليقض بيننا. فيأتون آدم صلّى الله عليه وسلّم فيقولون: يا آدم أنت الّذي خلقك الله بيده وأسكنك جنّته وأسجد لك ملائكته، اشفع لنا إلى ربّنا فليقض بيننا. فيقول: إنّي لست هناكم، إنّي قد أخرجْت من الجنّة بخطيئتي، وإنّه لا يهمّني اليوم إلاّ نفسي، ولكن ائتوا نوحًا رأس النّبيّين. فيأتون نوحًا فيقولون: يا نوح اشفع لنا إلى ربّنا فليقض بيننا. فيقول: إنّي لست هناكم، إنّي دعوت بدعوة أغرقت أهل الأرض، وإنّه لا يهمّني اليوم إلاّ نفسي، ولكن ائتوا إبراهيم خليل الله. فيأتون إبراهيم عليه السّلام فيقولون: يا إبراهيم اشفع لنا إلى ربّنا فليقض بيننا. فيقول: إنّي لست هناكم، إنّي كذبت في الإسلام ثلاث كذبات. -[ والله إن حاول بهنّ إلاّ عن دين الله](2) قوله:{إنّي سقيم} وقوله:{بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم إن كانوا ينطقون} وقوله لامرأته حين أتى على الملك: أختي.(3) - وإنّه لا يهمّني اليوم إلاّ نفسي، ولكن ائتوا موسى
__________
(1) …: هو المنذر بن مالك.
(2) …بين المعكوفين من قول بعض الرواة.
(3) …زوجته (سارة)، ويعني بذلك أنّها أخته في الإسلام. ويستفاد من هذا أن الرجل لو قال لزوجته: يا أختي. لا تكون طلاقًا إلا إن نوى بها الطلاق، على أنه لا ينبغي للناس أن يعودوا أنفسهم على هذا اللفظ ابتعادًا عن الشبهة. والله أعلم.(53/29)
عليه السّلام الّذي اصطفاه الله برسالته وكلامه. فيأتونه فيقولون: يا موسى أنت الّذي اصطفاك الله برسالته وكلّمك، فاشفع لنا إلى ربّك فليقض بيننا. فيقول: لست هناكم إنّي قتلت نفسًا بغير نفس، وإنّه لا يهمّني اليوم إلاّ نفسي، ولكن ائتوا عيسى روح الله وكلمته. فيأتون عيسى فيقولون: يا عيسى اشفع لنا إلى ربّك فليقض بيننا. فيقول: إنّي لست هناكم إنّي اتّخذت إلهًا من دون الله، وإنّه لا يهمّني اليوم إلاّ نفسي، ولكن أرأيتم لو كان متاع في وعاء مختوم عليه أكان يقدر على ما في جوفه حتّى يفضّ الخاتم؟ قال: فيقولون: لا. قال: فيقول: إنّ محمّدًا صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم خاتم النّبيّين، وقد حضر اليوم وقد غفر له ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر. قال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: فيأتوني فيقولون: يا محمّد اشفع لنا إلى ربّك فليقض بيننا. فأقول: أنا لها. حتّى يأذن الله عزّ وجلّ لمن شاء ويرضى، فإذا أراد الله تبارك وتعالى أن يصدع بين خلقه نادى مناد: أين أحمد وأمّته؟ فنحن الآخرون الأوّلون، نحن آخر الأمم وأوّل من يحاسب، فتفرج لنا الأمم عن طريقنا فنمضي غرًّا محجّلين من أثر الطّهور، فتقول الأمم: كادت هذه الأمّة أن تكون أنبياء كلّها. فنأتي باب الجنّة فآخذ بحلقة الباب فأقرع الباب، فيقال: من أنت؟ فأقول: أنا محمّد. فيفتح لي فآتي ربّي عزّ وجلّ على كرسيّه أو سريره -شكّ حماد- فأخرّ له ساجدًا فأحمده بمحامد لم يحمده بها أحد كان قبلي وليس يحمده بها أحد بعدي، فيقال: يا محمّد ارفع رأسك، وسل تعطه، واشفع تشفّع. فأقول: أي ربّ أمّتي أمّتي. فيقول: أخرج من كان في قلبه مثقال كذا وكذا. -لم يحفظ حمّاد- ثمّ أعيد فأسجد فأقول ما قلت، فيقال: ارفع رأسك وقلْ تسمعْ واشفعْ تشفّعْ. فأقول: أي ربّ أمّتي أمّتي. فيقول: أخرجْ من كان في قلبه مثقال كذا وكذا دون الأوّل. ثمّ أعيد فأسجد فأقول مثل ذلك فيقال لي: ارفعْ رأسك وقلْ تسمعْ وسلْ(53/30)
تعطه واشفعْ تشفّعْ. فأقول: أي ربّ أمّتي أمّتي. فيقال: أخرج من كان في قلبه مثقال كذا وكذا دون ذلك)).
الحديث أعاده ص(295) فقال: ثنا حسن(1) ثنا حماد بن سلمة به. وأخرجه أبوداود الطيالسي (ج2 ص226) من "ترتيب المسند"، وقال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (ج1 ص373): رواه أبويعلى وأحمد وفيه علي ابن زيد وقد وثّق على ضعفه، وبقية رجالهما رجال الصحيح.
قال أبوعبدالرحمن: علي بن زيد صالح في الشواهد والمتابعات، وهو هنا في الشواهد، ويستنكر في هذا الحديث قول عيسى: ((إنّي اتّخذت إلهًا من دون الله)) ففي الصحيح أنه لم يذكر ذنبًا، على أن هذا لا يعدّ ذنبًا لعيسى والله أعلم(2).
__________
(1) …: هو ابن موسى الأشيب.
(2) …يستنكر على علي بن زيد لفظة: ((كرسيه))، فإنّها لم ترد في الأحاديث الصحاح، بل لم يثبت في الكرسي حديث أن الله يجلس عليه. وإنما صح موقوفًا على ابن عباس أن الكرسي موضع قدمي الرحمن. لم يصح عن ابن عباس أنه أوّل الكرسي بالعلم، لأنه من طريق جعفر بن أبي المغيرة عن سعيد بن جبير، وجعفر ليس بالقوي في ابن جبير. وللرد على من أوّل الكرسي بالعلم من المبتدعة انظر ?شرح ابن أبي العز? على الطحاوية ص(279) بتحقيق الشيخ الألباني حفظه الله.(53/31)
قال الإمام عبدالله بن عبدالرحمن الدارمي رحمه الله في "سننه" (ج2 ص327): حدثنا عبدالله بن يزيد حدثنا عبدالرحمن بن زياد ثنا دخين الحجري عن عقبة بن عامر الجهني قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم يقول: ((إذا جمع الله الأوّلين والآخرين فقضى بينهم وفرغ من القضاء، قال المؤمنون: قد قضى بيننا ربّنا فمن يشفع لنا إلى ربّنا؟ فيقولون: انطلقوا إلى آدم فإنّ الله خلقه بيده وكلّمه. فيأتونه فيقولون: قمْ فاشفعْ لنا إلى ربّنا. فيقول آدم: عليكم بنوح. فيأتون نوحًا فيدلّهم على إبراهيم، فيأتون إبراهيم فيدلّهم على موسى، فيأتون موسى فيدلّهم على عيسى، فيأتون عيسى فيقول: أدلّكم على النّبيّ الأمّيّ. قال: فيأتوني فيأذن تعالى لي أن أقوم إليه، فيثور مجلسي أطيب ريح شمّها أحد قطّ حتّى آتي ربّي فيشفّعني ويجعل لي نورًا من شعر رأسي إلى ظفر قدمي، فيقول الكافرون عند ذلك لإبليس: قد وجد المؤمنون من يشفع لهم، فقم أنت فاشفع لنا إلى ربّك فإنّك أنت أضللتنا. قال: فيقوم فيثور مجلسه أنتن ريح شمّها أحد قطّ ثمّ يعظم(1) لجهنّم، فيقول عند ذلك: {وقال الشّيطان لمّا قضي الأمر إنّ الله وعدكم وعد الحقّ ووعدتكم فأخلفتكم} إلى آخر الآية.
الحديث أخرجه ابن جرير(ج13 ص201) مختصرًا، وقال الهيثمي في "المجمع" (ج10 ص376): رواه الطبراني وفيه عبدالرحمن بن زياد بن أنعم وهو ضعيف. قلت: لكنه يصلح في الشواهد والمتابعات. والألفاظ التي لا شواهد لها ((يجعل لي نورًا من شعر رأسي إلى قدميّ))، وقول إبليس.
__________
(1) …في تفسير ابن جرير (ج13 ص201): ((ثم يعظم نحيبهم)).(53/32)
قال البخاري رحمه الله (ج8 ص399): حدثنا إسماعيل بن أبان(1) حدثنا أبوالأحوص عن آدم بن علي قال: سمعت ابن عمر رضى الله عنهما يقول: إنّ النّاس يصيرون يوم القيامة جثًا كلّ أمّة تتبع نبيّها يقولون: يا فلان اشفع يا فلان اشفع. حتّى تنتهي الشّفاعة إلى النّبيّ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم فذلك يوم يبعثه الله المقام المحمود.
هذا الحديث موقوف، لكنه قد جاء رفعه عند ابن جرير (ج15 ص146) من حديث محمد بن عبدالله بن عبدالحكم قال: ثنا شعيب بن الليث قال: ثني الليث عن عبيدالله بن أبي جعفر أنه قال: سمعت حمزة بن عبدالله يقول: سمعت عبدالله بن عمر يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وذكر الحديث. الحديث رجاله رجال الصحيح، وقال الحافظ الهيثمي في "مجمع الزوائد" (ج10 ص371) بعد أن ذكر الحديث: هو في الصحيح باختصار من قوله: فيقضي الله بين الخلق إلى آخره. رواه الطبراني في الأوسط عن مطلب بن شعيب عن عبدالله بن صالح وكلاهما قد وثّق على ضعف فيه، وبقية رجاله رجال الصحيح.
قال الإمام مسلم رحمه الله (ج4 ص1782): حدثني الحكم بن موسى أبوصالح حدثنا هقل يعني ابن زياد عن الأوزاعي حدثني أبوعمار(2) حدثني عبدالله بن فروخ حدثني أبوهريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: ((أنا سيّد ولد آدم يوم القيامة، وأوّل من ينشقّ عنه القبر، وأوّل شافع وأوّل مشفّع)).
الحديث أخرجه أبوداود (ج5 ص54)، وأحمد (ج2 ص540).
__________
(1) …إسماعيل بن أبان: هو الوراق ثقة تكلم فيه للتشيع كما في ?التقريب?، وفى طبقته إسماعيل ابن أبان الغنوي متروك رمي بالوضع كما في ?التقريب?، وأبوالأحوص: هو سلام بن سليم.
(2) …: هو شداد بن عبدالله.(53/33)
قال الترمذي رحمه الله (ج4 ص365): حدثنا أبوكريب(1) حدثنا وكيع عن داود بن يزيد الزعافري عن أبيه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم في قوله {عسى أن يبعثك ربّك مقامًا محمودًا} سئل عنها قال: ((هي الشّفاعة)).
هذا حديث حسن، وداود الزعافري هو داود الأودي ابن يزيد بن عبدالرحمن، وهو عم عبدالله بن إدريس.
الحديث أخرجه أحمد (ج2 ص441، 444، 528)، وابن جرير (ج15 ص145)، وأبونعيم في "الحلية" (ج8 ص372)، وفي "أخبار أصبهان" (ج2 ص368)، والبيهقي في "شعب الإيمان" (ج1 ص207-208).
والحديث حسّنه الترمذي، وهو حسن لغيره لأن داود بن يزيد ضعيف كما في التقريب، ووالده يزيد مجهول الحال فقد قال الحافظ في التقريب: مقبول. يعني إذا توبع وإلا فليّن.
قال الإمام أحمد رحمه الله (ج3 ص2): ثنا هشيم ثنا علي بن زيد عن أبي نضرة عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: ((أنا سيّد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر، وأنا أوّل من تنشقّ عنه الأرض يوم القيامة ولا فخر، وأنا أوّل شافع يوم القيامة ولا فخر)).
الحديث أخرجه ابن ماجه (ج2 ص1440) وزاد فيه: ((ولواء الحمد بيدي يوم القيامة ولا فخر))، ورواه الترمذي مختصرًا، وقال: وفي الحديث قصة وهذا حديث حسن.
قلت: وهو حسن لغيره لأنّ الراجح هو ضعف علي بن زيد.
قال أبونعيم أحمد بن عبدالله الأصبهاني رحمه الله في "دلائل النبوة" (ج1 ص13): حدثنا عبدالله بن جعفر قال: حدثني الحسن بن علي الطوسي قال: ثنا محمد بن يحيى بن ميمون العتكي قال: ثنا عبدالأعلى قال: ثنا سعيد عن قتادة عن أنس أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: ((أنا سيّد ولد آدم يوم القيامة، وأنا أوّل من تنشقّ عنه الأرض، وأوّل شافع، لواء الحمد معي وتحته آدم ومن دونه ومن بعده من المؤمنين)).
رجال الإسناد:
__________
(1) …: هو محمد بن العلاء الهمداني.(53/34)
عبدالله بن جعفر بن أحمد بن فارس: ترجم له أبونعيم في "تاريخ أصبهان"، وذكره الذهبي في "تذكرة الحفاظ" ص(862) في المتوفين سنة ست وأربعين وثلاثمائة، فقال: ومسند بلاد العجم أبومحمد عبدالله بن جعفر ابن فارس الأصبهاني وذكره أيضًا في "العبر" (ج2 ص272).
والحسن بن علي الطوسي ترجمته في "لسان الميزان" (ج2 ص232) وهو حافظ تكلّم فيه ودافع عنه الحاكم وترجم له أبونعيم في "أخبار أصبهان" (ج1 ص262) فقال: كان صاحب أصول، سمع "الأنساب"(1) من الزبير بن بكار والقرآن عن أبي حاتم، و"مسائل أحمد بن حنبل وإسحاق" عن إسحاق الكوسج.
وعبدالأعلى هو ابن عبدالأعلى السامي من رجال الجماعة.
وبقية السند معروفون مشهورون إلاّ محمد بن يحيى بن ميمون العتكي فلم أجد له ترجمة. وقد قال الهيثمي في "المجمع" (ج10 ص308): لم أعرفه.
قال الترمذي رحمه الله (ج5 ص248): حدثنا علي بن نصر بن علي أخبرنا عبيدالله بن عبدالمجيد حدثنا زمعة بن صالح عن سلمة بن وهرام عن عكرمة عن ابن عباس قال: جلس ناس من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم ينتظرونه، قال: فخرج حتّى إذا دنا منهم سمعهم يتذاكرون فسمع حديثهم، فقال بعضهم: عجبًا إنّ الله عزّ وجلّ اتّخذ من خلقه خليلاً اتّخذ إبراهيم خليلاً. وقال آخر: ماذا بأعجب من كلام موسى كلّمه تكليمًا؟ وقال آخر: فعيسى كلمة الله وروحه. وقال آخر: آدم اصطفاه الله. فخرج عليهم فسلّم، وقال: ((قد سمعت كلامكم وعجبكم، إنّ إبراهيم خليل الله وهو كذلك، وموسى نجيّ الله وهو كذلك، وعيسى روح الله وكلمته وهو كذلك، وآدم اصطفاه الله وهو كذلك، ألا وأنا حبيب الله ولا فخر، وأنا حامل لواء الحمد يوم القيامة ولا فخر، وأنا أوّل شافع وأوّل مشفّع يوم القيامة ولا فخر، وأنا أوّل من يحرّك حلق الجنّة فيفتح الله لي فيدخلنيها ومعي فقراء المؤمنين ولا فخر، وأنا أكرم الأوّلين والآخرين ولا فخر)).
هذا حديث غريب.
__________
(1) …القرشيين.(53/35)
الحديث أخرجه الدارمي (ج1 ص26)، وقال الحافظ ابن كثير رحمه الله في "التفسير" (ج1 ص560): وهذا حديث غريب من هذا الوجه ولبعضه شواهد في الصحاح.
قال أبوعبدالرحمن: الحديث في سنده زمعة بن صالح وهو ضعيف كما في "التقريب"، وسلمة بن وهرام: وقد قال أحمد: روى أحاديث مناكير أخشى أن يكون ضعيفًا. وقال أبوداود: ضعيف. وسرد له ابن عدي عدة أحاديث ثم قال: أرجو أنه لا بأس به، وقد وثّقه ابن معين في رواية الكوسج، وأبوزرعة. اهـ مختصرًا من "الميزان".
ومما يدل على ضعف هذا الحديث أنّ في الصحيح: ((إنّ الله قد اتّخذني خليلاً كما اتّخذ إبراهيم خليلاً)).
قال مسلم رحمه الله (ج1 ص561): حدثنا محمد بن عبدالله بن نمير حدثنا أبي حدثنا إسماعيل بن أبي خالد عن عبدالله بن عيسى بن عبدالرحمن ابن أبي ليلى عن جده عن أبيّ بن كعب قال: كنت في المسجد فدخل رجل يصلّي فقرأ قراءةً أنكرتها عليه، ثمّ دخل آخر فقرأ قراءةً سوى قراءة صاحبه، فلمّا قضينا الصّلاة دخلْنا جميعًا على رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم، فقلت: إنّ هذا قرأ قراءةً أنكرتها عليه ودخل آخر فقرأ سوى قراءة صاحبه. فأمرهما رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم فقرآ، فحسّن النّبيّ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم شأنهما، فسقط في نفسي من التّكذيب ولا إذْ كنت في الجاهليّة، فلمّا رأى رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم ما قد غشيني ضرب في صدري ففضْت عرقًا، وكأنّما أنظر إلى الله عزّ وجلّ فرقًا، فقال لي: ((يا أبيّ أرسل إليّ: أن اقرأ القرآن على حرف. فرددْت إليه: أن هوّن على أمّتي. فردّ إليّ الثّانية: اقرأْه على حرفين. فرددْت إليه: أن هوّنْ على أمّتي. فردّ إليّ الثّالثة: اقرأْه على سبعة أحرف، فلك بكلّ ردّة رددْتها مسألة تسألنيها. فقلت: اللهمّ اغفر لأمّتي اللّهمّ اغفر لأمّتي. وأخّرت الثّالثة ليوم يرغب إليّ الخلق كلّهم حتّى إبراهيم صلّى الله عليه وسلّم)).(53/36)
الحديث أخرجه أحمد (ج5 ص127، 129)، وابن حبان (ج2 ص83-84) من "ترتيب الصحيح"، وابن جرير (ج1 ص27، 38، 41) بتخريج أحمد شاكر، وفيه: ((واختبأت الثّالثة شفاعةً لأمّتي يوم القيامة)).
قال الحافظ ابن كثير في "فضائل القرآن" ص(17) بعد أن ساق الحديث بسند ابن جرير: إسناد صحيح.
قال الإمام أحمد رحمه الله (ج5 ص137): ثنا أبوعامر ثنا زهير يعني ابن محمد عن عبدالله بن محمد عن الطفيل بن أبيّ بن كعب عن أبيه عن النّبيّ صلّى الله عليه وعلى آله وسلم قال: ((إذا كان يوم القيامة كنت إمام النبيّين وخطيبهم وصاحب شفاعتهم غير فخر)).
قال: وسمعت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول: ((لولا الهجرة لكنت امرأً من الأنصار، ولو سلك النّاس واديًا أو شعبًا لكنت مع الأنصار)).
وقال رحمه الله: ثنا أبوأحمد الزبيري(1) ثنا شريك عن عبدالله بن محمد ابن عقيل عن الطفيل بن أبيّ بن كعب عن أبيه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: ((إذا كان يوم القيامة كنت إمام النّاس وخطيبهم وصاحب شفاعتهم ولا فخر)).
الحديث أخرجه عبدالله بن أحمد في "زوائد المسند" (ج5 ص138) فقال: ثنا هاشم بن الحارث ثنا عبيدالله بن عمرو عن عبدالله بن محمد بن عقيل به.
وقال عبدالله أيضًا: حدثنا عبيدالله بن عمر القواريري حدثنا محمد بن عبدالله بن الزبير ثنا شريك عن عبدالله بن محمد بن عقيل به.
وقال الإمام أحمد ص(138): ثنا زكريا بن عدي وأحمد بن عبدالملك الحراني ثنا عبيدالله بن عمرو عن عبدالله بن محمد بن عقيل به.
__________
(1) …الزبيري: هو محمد بن عبدالله.(53/37)
الحديث أخرجه الترمذي (ج5 ص247) وقال: حسن صحيح غريب، وابن ماجة (ج2 ص1443) وابن صاعد في "زوائد الزهد لابن المبارك" ص(562)، والحاكم (ج1 ص71) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه لتفرد عبدالله بن محمد بن عقيل بن أبي طالب، ولما نسب إليه من سوء الحفظ، وهو عند المتقدمين من أئمتنا ثقة مأمون. وأخرجه أيضًا (ج4 ص87) وقال: صحيح الإسناد.
قال الإمام أحمد رحمه الله (ج5 ص199): ثنا حسن ثنا ابن لهيعة ثنا يزيد بن أبي حبيب عن عبدالرحمن بن جبير عن أبي الدرداء قال: قال رسول صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: ((أنا أوّل من يؤذن له بالسّجود يوم القيامة، وأنا أوّل من يؤذن له أن يرفع رأسه فأنظر إلى بين يديّ فأعرف أمّتي من بين الأمم، ومن خلفي مثل ذلك، وعن يميني مثل ذلك، وعن شمالي مثل ذلك)) فقال له رجل: يا رسول الله كيف تعرف أمّتك من بين الأمم فيما بين نوح إلى أمّتك؟ قال: ((هم غرّ محجّلون من أثر الوضوء ليس أحد كذلك غيرهم، وأعرفهم أنّهم يؤتون كتبهم بأيمانهم، وأعرفهم يسعى بين أيديهم ذرّيّتهم)).
وقال: حدثنا يعمر(1) ثنا عبدالله أنبأنا ابن لهيعة حدثني يزيد بن أبي حبيب عن عبدالرحمن بن جبير بن نفير أنه سمع أبا ذر وأبا الدرداء قالا: قال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: ((أنا أوّل من يؤذن له في السّجود)) فذكر معناه.
__________
(1) …: هو ابن بشر، وعبدالله: هو ابن المبارك كما في ترجمة (يعمر) من ?تعجيل المنفعة?.(53/38)
الحديث ضعيف بهذا السند لأنه من رواية ابن لهيعة، وكون الراوي عنه في الرواية الثانية عبدالله وهو ابن المبارك فليس قولاً واحدًا للمحدثين: أنه إذا روى عنه أحد العبادلة وهم: عبدالله بن المبارك، وعبدالله بن وهب، وعبدالله بن يزيد المقرئ. ليس قولاً واحدًا أنه يكون مقبولاً، فهذا ابن خزيمة وقد روى حديثًا في "كتاب التوحيد" ص(291) من طريقه والراوي عنه ابن وهب، يقول: وأنا أبرأ إلى الله من عهدته. ويقول: ليس ابن لهيعة رحمه الله من شرطنا ممن يحتج به، وفي "الميزان": قال ابن معين: هو ضعيف قبل أن تحترق كتبه وبعد احتراقها.
وقال أبوحاتم وأبوزرعة: أمره مضطرب يكتب حديثه للاعتبار، انتهى المراد من "الميزان". فعلى هذا فهذا الحديث حسن لغيره لكثرة شواهده.
قال الدارمي رحمه الله (ج1 ص26): حدثنا سعيد بن سفيان عن منصور بن أبي الأسود عن ليث عن الربيع بن أنس عن أنس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: ((أنا أوّلهم خروجًا وأنا قائدهم إذا وفدوا، وأنا خطيبهم إذا أنصتوا وأنا مشفّعهم إذا حبسوا، وأنا مبشّرهم إذا أيسوا، الكرامة والمفاتيح يومئذ بيدي، وأنا أكرم ولد آدم على ربّي، يطوف عليّ ألف خادم كأنّهم بيض مكنون أو لؤلؤ منثور)).
الحديث أخرجه الترمذي (ج5 ص245)، وأبونعيم في "دلائل النبوة" (ج1 ص13)، وسنده ضعيف من أجل ليث بن أبي سليم، لكنه يستشهد به كما في مقدمة "صحيح مسلم".
قال الدارمي رحمه الله (ج1 ص27): أخبرنا عبدالله بن عبدالحكم ثنا بكر بن مضر عن جعفر بن ربيعة عن صالح -هو ابن عطاء بن خباب مولى بني الدّئل- عن عطاء بن أبي رباح(1) عن جابر بن عبدالله أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم قال: ((أنا قائد المرسلين ولا فخر، وأنا خاتم النّبيّين ولا فخر، وأنا أوّل شافع وأوّل مشفّع ولا فخر)).
قال المناوي في "فيض القدير": قال الصدر المناوي: رجاله وثقهم الجمهور.
__________
(1) …الأصل: (عطاء بن رباح)، والصواب ما أثبتنا.(53/39)
قال أبوعبدالرحمن: صالح بن عطاء مجهول، ذكره البخاري في "تاريخه" (ج4 ص284)، وذكر الحديث ولم يذكر فيه جرحًا ولا تعديلاً. وأفاد المعلق على "التاريخ"، أن ابن حبان ذكره في "الثقات".
قال البخاري رحمه الله (ج1 ص435): حدثنا محمد بن سنان قال حدثنا هشيم (ح) قال: وحدثني سعيد بن النضر قال: أخبرنا هشيم قال: أخبرنا سيار قال: حدثنا يزيد -هو ابن صهيب الفقير- قال أخبرنا جابر بن عبدالله أن النّبيّ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم قال: ((أعطيت خمسًا لم يعطهنّ أحد قبلي: نصرت بالرّعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا، فأيّما رجل من أمّتي أدركته الصّلاة فليصلّ، وأحلّت لي المغانم ولم تحلّ لأحد قبلي، وأعطيت الشّفاعة(1)، وكان النّبيّ يبعث إلى قومه خاصّةً وبعثت إلى النّاس عامّةً)).
الحديث أعاده البخاري ص(533)، وأخرجه مسلم (ج1 ص370)، والنسائي (ج1 ص172)، والدارمي (ج1 ص322-323)، وأبونعيم في "الحلية" (ج8 ص316).
__________
(1) …قوله: ((وأعطيت الشفاعة)) ليس معنا أنه يدخل الجنة من يشاء، ويخرج من النار من يشاء، فالشّفاعة لا تكون إلا بعد إذن الله له في الشّفاعة والرضا عن المشفوع له والأدلة على ذلك كثيرة، كما تقدمت الآيات القرآنية بذلك، وفي ?الصحيحين? من حديث ابن عباس: أنه يؤخذ بأناس من أمته صلى الله عليه وعلى آله وسلم ذات الشمال، فيقول: ((يا رب أمّتي، يا رب أمّتي، فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك -إلى قوله- إنّهم ما زالوا مرتدين على أدبارهم منذ فارقتهم)). وفى حديث آخر في الصحيح فيقول: ((سحقًا، سحقًا)).(53/40)
قال الحميدي رحمه الله في "مسنده" (ج2 ص421): ثنا سفيان قال: ثنا الزهري عمن سمع أبا هريرة إما سعيد وإما أبوسلمة، وأكثر ذلك يقوله عن أبي هريرة أنّ رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: ((أعطيت خمسًا لم يعطهنّ أحد قبلي: جعلت لي الأرض كلّها مسجدًا وطهورًا، ونصرت بالرّعب، وأحلّت لي المغانم، و أرسلت إلى الأحمر و الأسود، وأعطيت الشّفاعة)).
الحديث رجاله رجال الصحيح، ولا يضره تردد الزهري في شيخه أهو سعيد أم أبوسلمة لأن كليهما ثقة.
قال الإمام أحمد رحمه الله (ج3 ص456): ثنا يزيد بن عبدربه قال: حدثني محمد بن حرب قال: حدثني الزبيدي(1) عن الزهري عن عبدالرحمن ابن عبدالله بن كعب بن مالك عن كعب بن مالك أنّ رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم قال: ((يبعث النّاس يوم القيامة فأكون أنا وأمّتي على تلّ(2)، ويكسوني ربّي تبارك وتعالى حلّةً خضراء، ثمّ يؤذن لي فأقول ما شاء الله أن أقول، فذاك المقام المحمود)).
الحديث أخرجه ابن جرير (ج15 ص146-147)، والحاكم (ج2 ص363) وقال: صحيح على شرط الشيخين وسكت عليه الذهبي، وقال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (ج10 ص377): رواه الطبراني في "الكبير" و"الأوسط"، وأحد إسنادي "الكبير" رجاله رجال الصحيح.
قال أبوعبدالرحمن: قد اختلف في سماع عبدالرحمن من جده كعب، ولا يضر هنا لأنه في الشواهد وللحديث شاهد موقوف:
__________
(1) …: هو محمد بن الوليد.
(2) …?القاموس?: التل من التراب: معروف. قال الزبيدي في ?شرحه?: طوله في السماء مثل البيت، وعرض ظهره نحو عشرة أذرع، وحجارته غاص بعضها ببعض. قال في ?القاموس?: والتل: الكومة من الرمل والرابية، جمعه تلال. اهـ(53/41)
قال ابن جرير رحمه الله (ج15 ص146): حدثنا ابن بشار قال: ثنا أبوعامر قال: ثنا إبراهيم بن طهمان عن آدم بن(1) علي قال: سمعت ابن عمر يقول: إنّ الناس يحشرون يوم القيامة، فيجيء مع كلّ نبيّ أمّته، ثمّ يجيء رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم في آخر الأمم هو وأمّته، فيرقى هو وأمّته على كوم فوق النّاس، فيقول: يا فلان اشفع، ويا فلان اشفعْ. فما زال يردّها بعضهم على بعض، يرجع ذلك إليه، وهو المقام المحمود الّذي وعده الله إيّاه.
الحديث رجاله رجال الصحيح.
__________
(1) …الأصل: (آدم عن علي). والصواب ما أثبتناه. وهو العجلي، ويقال: الشيباني، ويقال: البكري كما في ?تهذيب التهذيب?.(53/42)
قال الترمذي رحمه الله (ج4 ص370): حدثنا ابن أبي عمر(1) أخبرنا سفيان عن علي بن زيد بن جدعان عن أبي نضرة عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: ((أنا سيّد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر، وبيدي لواء الحمد ولا فخر، وما من نبيّ يومئذ آدم فمن سواه إلاّ تحت لوائي، وأنا أوّل من تنشقّ عنه الأرض ولا فخر، قال: فيفزع النّاس ثلاث فزعات، فيأتون آدم فيقولون: أنت أبونا آدم فاشفع لنا إلى ربّك. فيقول: إنّي أذنبت ذنبًا أهبطت منه إلى الأرض، ولكن ائتوا نوحًا. فيأتون نوحًا فيقول: إنّي دعوت على أهل الأرض دعوةً فأهلكوا، ولكن اذهبوا إلى إبراهيم. فيأتون إبراهيم فيقول: إنّي كذبت ثلاث كذبات -ثمّ قال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: ما منها كذبة إلاّ ما حلّ بها عن دين الله- ولكن ائتوا موسى. فيأتون موسى فيقول: إنّي قد قتلت نفسًا، ولكن ائتوا عيسى. فيأتوا عيسى فيقول: إنّي عبدت من دون الله(2) ولكن ائتوا محمّدًا صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم. قال: فيأتونني فأنطلق معهم)) قال ابن جدعان: قال أنس: فكأنّي أنظر إلى رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم قال: ((فآخذ بحلقة باب الجنّة فأقعقعها فيقال: من هذا؟ فيقال: محمّد. فيفتحون لي ويرحّبون، فيقولون: مرحبًا. فأخرّ ساجدًا فيلهمني الله من الثّناء والحمد، فيقال لي: ارفعْ رأسك، وسلْ تعط، واشفع تشفّعْ، وقلْ يسمعْ لقولك. وهو المقام المحمود الّذي قال الله: {عسى أن يبعثك ربّك مقامًا محمودًا ))}
قال سفيان ليس عن أنس إلاّ هذه الكلمة: ((فآخذ بحلقة باب الجنّة فأقعقعها(3)).
هذا حديث حسن، وقد روى بعضهم هذا الحديث عن أبي نضرة عن ابن عباس، الحديث بطوله.
__________
(1) …محمد بن يحيى العدني.
(2) …التنبيه على أن الذي في ?الصحيح? أن عيسى لم يذكر ذنبًا.
(3) …إن شاء الله رقم (34).(53/43)
الحديث تقدم تخريجه مختصرًا في الحديث الحادي عشر. وأما حديث ابن عباس الذي أشار إليه الترمذي فقد تقدم أيضًا رقم (6).
قال ابن جرير رحمه الله (ج15 ص144): حدثنا محمد بن بشار قال: ثنا عبدالرحمن قال: ثنا سفيان عن أبي إسحاق عن صلة بن زفر عن حذيفة قال: يجمع النّاس في صعيد واحد، فيسمعهم الدّاعي وينفذهم البصر حفاة عراةً كما خلقوا قيامًا، لا تكلّم نفس إلاّ بإذنه، ينادى: يا محمّد، فيقول: لبّيك وسعديك، والخير في يديك، والشّرّ ليس إليك، والمهديّ من هديت، عبدك بين يديك، وبك وإليك، لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك، تباركْت وتعاليت، سبحانك ربّ البيت. فهذا المقام المحمود الّذي ذكره الله تعالى.
حدثنا محمد بن المثنى قال ثنا محمد بن جعفر قال ثنا شعبة عن أبي إسحاق عن صلة بن زفر عن حذيفة قال: يجمع النّاس في صعيد واحد فلا تكلّم نفس، فأوّل ما يدعو محمّدًا(1) النّبي صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم، فيقول محمّد النّبيّ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: لبّيك. ثم ذكر مثله.
وذكره ص(145) من طريق أبي إسحاق به.
الحديث رواه الطيالسي (ج2 ص21) من "ترتيب المسند"، والحاكم (ج2 ص363) وقال: صحيح على شرط الشيخين. وسكت عنه الذهبي، وأبونعيم في "الحلية" (ج1 ص278) وقال: رفعه عن أبي إسحاق جماعة، وقال الهيثمي (ج10 ص377): رواه البزّار موقوفًا ورجاله رجال الصحيح.
__________
(1) …الأصل: ((محمد))، والصواب ما أثبتناه، لأنه هو المدعو.(53/44)
- قال أبونعيم رحمه الله في "الحلية" (ج4 ص349): حدثنا محمد بن أحمد بن الحسن وأحمد بن السندي قالا: حدثنا أبوشعيب الحراني(1) قال: حدثنا جدي أحمد بن أبي شعيب قال: ثنا موسى بن أعين عن ليث عن أبي إسحاق عن صلة بن زفر عن حذيفة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((إنّي سيّد النّاس يوم القيامة يدعوني ربّي فأقول: لبّيك وسعديك، والخير بيديك، تباركْت وتعاليت، لبّيك وحنانيك والهادي من هديت، عبدك بين يديك، لا منجا منك إلا إليك، تباركْت وتعاليت -وقال:- إنّ قذف المحصنة يهدم عمل مائة سنة)).
غريب من حديث أبي إسحاق عن صلة تفرد به موسى عن ليث.
وقال الهيثمي (ج10 ص377): رواه الطبراني في "الأوسط" وفيه ليث ابن أبي سليم وهو مدلس.
قال أبوعبدالرحمن: ومختلط كما في الميزان، فالأشبه أنه موقوف والله أعلم. وقد تابع ليث بن سليم عبدالله المختار كما في كتاب اللالكائي (ج6 ص1113) ولكن الوقف أصحّ. والله أعلم.
قال ابن جرير رحمه الله (ج15 ص144): حدثنا سليمان بن عمر(2) ابن خالد الرقي قال: ثنا عيسى بن يونس عن رشدين بن كريب عن أبيه عن ابن عباس: قوله { عسى أن يبعثك ربّك مقامًا محمودًا} قال: المقام المحمود مقام الشّفاعة.
الحديث في سنده رشدين بن كريب، قال أحمد: منكر الحديث، وقال ابن المديني وجماعة: ضعيف، وقال البخاري: منكر الحديث وأخوه محمد فيه نظر. اهـ من "الميزان". وسليمان بن عمر ذكره ابن أبي حاتم ولم يذكر فيه جرحًا ولا تعديلاً، وذكر أنه روى عن جماعة، وأنّ أباه كتب عنه.
__________
(1) …: هو عبدالله بن الحسن بن أحمد الحراني، قال الحافظ الذهبي في ?العبر? (ج2 ص101): وكان ثقة.اهـ وجده هو أحمد بن عبدالله بن أبي شعيب، قال أبوحاتم: ثقة صدوق.كما في ?تهذيب التهذيب?.
(2) …الأصل: (عمرو)، وصوابه: (عمر) كما في ?الجرح والتعديل?، وكما تقدم (ج6= =ص17) بتحقيق أحمد شاكر.(53/45)
قال ابن خزيمة رحمه الله ص(385): حدثنا عبدالله بن محمد الزهري قال: ثنا سفيان قال: حدثني معمر عن ابن طاوس عن أبيه قال: سمعت ابن عباس يقول: اللّهم تقبّلْ شفاعة محمّد الكبرى، وارفعْ درجته العليا، وأعطه سؤله في الآخرة والأولى كما آتيت إبراهيم وموسى.
الأثر أخرجه إسماعيل القاضي في "فضل الصلاة على النبي" ص(52) وعبدالرزاق (ج2 ص211)، وقال السخاوي في "القول البديع" ص(46): رواه عبد بن حميد في "مسنده" وعبدالرزاق وإسماعيل القاضي وإسناده جيد قوي صحيح. وقال الحافظ ابن كثير في "تفسيره" (ج3 ص513): إسناده جيد قوي صحيح.
قال أبوعبدالرحمن : هو على شرط الشيخين.
قال ابن أبي شيبة في "كتاب الإيمان" ص(12): حدثنا أبومعاوية عن عاصم(1) عن أبي عثمان عن سلمان قال: يقال له: سلْ تعطه -يعني النبي صلى اله عليه وعلى آله وسلم- واشفعْ تشفّع، وادع تجبْ. قال: فيرفع رأسه فيقول: ربّ أمّتي أمّتي مرتين أو ثلاثًا -قال سلمان:- فيشفع في كلّ من كان في قلبه مثقال حبة حنطة من إيمان -أو قال: مثقال شعيرة من إيمان، أو قال: مثقال حبة خردل من إيمان- فقال سلمان: فذلكم المقام المحمود.
الأثر أخرجه ابن جرير (ج15 ص144)، وهو على شرط الشيخين وسيأتي إن شاء الله أطول من هذا رقم (35).
قال ابن حبان رحمه الله كما في "الموارد" ص(523): أنبأنا أحمد بن علي بن المثني حدثنا عمرو بن محمد الناقد حدثنا عمرو بن عثمان الكلاعي(2) حدثنا موسى بن أعين عن معمر بن راشد عن محمد بن عبدالله ابن أبي يعقوب عن بشر بن شغاف عن عبدالله -يعني ابن سلام- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((أنا سيّد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر، وأوّل من تنشق عنه الأرض، وأوّل شافع بيدي لواء الحمد، تحته آدم فمن دونه)).
__________
(1) …: هو ابن سليمان الأحول.
(2) …كذا بالأصل وصوابه: (الكلابي)، كما في ?التهذيب? و?التقريب?.(53/46)
الحديث في سنده عمرو بن عثمان الكلابي وقد تركه النسائي وليّنه العقيلي، وقال أبوحاتم: يتكلمون فيه يحدث من حفظه بمناكير، وقال ابن عدي: روى عنه ثقات وهو ممن يكتب حديثه. اهـ من "ميزان الاعتدال".
فالحديث حسن لغيره لكثرة شواهده.
قال الإمام أحمد رحمه الله (ج1 ص398): ثنا عارم بن الفضل(1) ثنا أبوسعيد ثنا ابن زيد ثنا علي بن الحكم البناني عن عثمان عن إبراهيم عن علقمة والأسود عن ابن مسعود قال: جاء ابنا مليكة إلى النّبيّ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم فقالا: إنّ أمّنا كانت تكرم الزّوج، وتعطف على الولد -قال: وذكر الضّيف- غير أنّها كانت وأدت في الجاهليّة. قال: ((أمّكما في النّار)) فأدبرا والشّرّ يرى في وجوههما، فأمر بهما فردّا فرجعا والسّرور يرى في وجوههما، رجيا أن يكون قد حدث شيء، فقال: ((أمّي مع أمّكما)) فقال رجل من المنافقين: وما يغني هذا عن أمّه شيئًا ونحن نطأ عقبيه. فقال رجل من الأنصار -ولم أر رجلاً قطّ أكثر سؤالاً منه-: يا رسول الله هل وعدك ربّك فيها أو فيهما؟ قال: فظنّ أنّه من شيء قد سمعه، فقال: ((ما سألته ربّي وما أطمعني فيه، وإنّي لأقوم المقام المحمود يوم القيامة)) فقال الأنصاريّ: وما ذاك المقام المحمود؟ قال: ((ذاك إذا جيء بكم عراةً حفاةً غرلاً، فيكون أوّل من يكسى إبراهيم عليه السّلام، يقول: اكسوا خليلي. فيؤتى بريطتين بيضاوين فيلبسهما، ثمّ يقعد فيستقبل العرش، ثمّ أوتى بكسوتي فألبسها فأقوم عن يمينه مقامًا لا يقومه أحد غيري، يغبطني به الأوّلون والآخرون، قال: ويفتح نهر من الكوثر إلى الحوض))، فقال المنافقون: فإنّه ما جرى ماء قطّ إلاّ على حال أو رضراض. قال: يا رسول الله على
__________
(1) …في ?النهاية? لابن كثير (ج2 ص24): ثنا عارم بن الفضل ثنا سعيد بن زيد، فعلى هذا يكون للإمام أحمد شيخ واحد وهو عارم، وعلى ما في المسند له شيخان، عارم وأبوسعيد، وهو مولى بني هاشم يرويانه عن ابن زيد وهو سعيد بن زيد.(53/47)
حال أو رضراض؟ قال: ((حاله المسك ورضراضه التّوم))، قال المنافق: لم أسمع كاليوم قلّما جرى ماء قطّ على حال أو رضراض إلاّ كان له نبتة. فقال الأنصاريّ: يا رسول الله هل له نبت؟ قال: ((نعم قضبان الذّهب))، قال المنافق: لم أسمع كاليوم، فإنّه قلّما نبت قضيب إلاّ أورق، وإلاّ كان له ثمر. قال الأنصاريّ: يا رسول الله هل من ثمر؟ قال: ((نعم ألوان الجوهر وماؤه أشدّ بياضًا من اللّبن وأحلى من العسل، إنّ من شرب منه مشربًا لم يظمأ بعده، وإن حرمه لم يرو بعده)).
الحديث أخرجه الدارمي (ج2 ص325)، وابن جرير (ج15 ص146)، والطبراني في "الكبير" (ج10 ص98)، والحاكم (ج2 ص364) وقال: صحيح الإسناد، وعثمان بن عمير هو ابن(1) اليقظان، فتعقبه الذهبي فقال: لا والله، فعثمان ضعفه الدارقطني، والباقون ثقات.
وقال الحافظ ابن كثير في "النهاية" (ج2 ص24): تفرد به أحمد وهو غريب جدًا. وقال الهيثمي في "المجمع" (ج1 ص362): رواه أحمد والبزار والطبراني وفي أسانيدهم كلهم عثمان بن عمير وهو ضعيف.
قال أبوعبدالرحمن: عثمان بن عمير رديء المذهب كان يؤمن بالرجعة(2) كما في "الميزان" و"تهذيب التهذيب"، فمثل هذا لا يصلح في الشواهد والمتابعات لاسيما وقد قال الدارقطني: متروك.
__________
(1) …في ?المستدرك?، وصوابه: (أبواليقظان) كما في ?الميزان? و?تهذيب التهذيب?.
(2) …النووي رحمه الله في ?شرح صحيح مسلم? (ج1 ص101) عن الرجعة: هي بفتح الراء قال الأزهري وغيره: لا يجوز فيها إلا الفتح... ومعنى إيمانه بالرجعة هو ما تقوله الرافضة وتعتقده بزعمها الباطل أن عليًا كرم الله وجهه في السحاب، فلا نخرج يعني مع من يخرج من ولده حتى ينادي من السماء: أن اخرجوا معه، وهذا نوع من أباطيلهم وعظيم من جهالاتهم اللائقة بأذهانهم السخيفة وعقولهم الواهية. اهـ ……… =(53/48)
قال الحاكم رحمه الله (ج4 ص570): أخبرنا إسماعيل بن محمد بن الفضل الشعراني(1) ثنا جدي ثنا إبراهيم بن حمزة الزبيري ثنا إبراهيم بن سعد عن ابن شهاب عن علي بن حسين عن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم قال: ((تمدّ الأرض يوم القيامة مدًّا لعظمة الرّحمن، ثم لا يكون لبشر من بني آدم إلاّ موضع قدميه، ثم أدعى أوّل النّاس فأخرّ ساجدًا ثم يؤذن لي فأقوم فأقول: يا ربّ أخبرني هذا، لجبريل وهو عن يمين الرّحمن، والله ما رآه جبريل قبلها قطّ، إنّك أرسلته إليّ. قال: وجبريل ساكت لا يتكلّم حتّى يقول الله: صدق، ثمّ يؤذن لي في الشّفاعة فأقول: يا ربّ عبادك عبدوك في أطراف الأرض فذلك المقام المحمود)).
هذا حديث صحيح الإسناد على شرط الشيخين ولم يخرجاه، وقد أرسله يونس بن يزيد ومعمر بن راشد عن الزهري. ثم ذكره الحاكم رحمه الله مرسلاً من حديث يونس عن الزهري عن علي بن الحسين أن رجلاً من أهل العلم، ولم يسمّه، ومن حديث معمر عن الزهري عن علي بن الحسين قال: قال رسول الله.
الحديث أخرجه البيهقي في "الشعب" (ج1 ص208) عن علي بن الحسين حدثني رجل من أصحاب النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم به، وفي سنده الكديمي، هو محمد بن يونس كذّاب، لكن قال البيهقي: رواه جماعة عن إبراهيم بن سعد. وأخرجه ابن جرير (ج15 ص146) من حديث معمر عن الزهري عن علي بن الحسين مرسلاً.
__________
(1) …ترجمة إسماعيل وجده في ?الأنساب? للسمعاني، وقد ترجم الذهبي لإسماعيل في ?العبر? (ج2 ص275) ووصفه بأنه ثقة عابد. وجده الفضل بن محمد، قال الحافظ في ?اللسان?: قال أبوحاتم: تكلموا فيه. وقال الحاكم: كان أديبا فقيهًا عابدًا عارفًا بالرجال وهو ثقة لم يطعن فيه أحد بحجة. وقد سئل عنه الحسين بن محمد القباني فرماه بالكذب، وقال ابن الأخرم: صدوق غال في التشيع. اهـ مختصرًا.(53/49)
وقال الحافظ في "الفتح" (ج11 ص427): وعن جابر عند الحاكم من رواية الزهري عن علي بن الحسين عنه، واختلف فيه على الزهري، فالمشهور عنه أنه من مرسل علي بن الحسين، كذا أخرجه عبدالرزاق عن معمر، وقال إبراهيم بن سعد عن الزهري عن علي عن رجال من أهل العلم، أخرجه ابن أبي حاتم، وحديث جابر في ذلك عند مسلم من وجه آخر عنه . اهـ
ثم وجدت الحديث في "الحلية" (ج3 ص145)، قال أبونعيم رحمه الله: حدثنا أبوبكر بن خلاد ثنا الحارث بن محمد ثنا محمد بن جعفر الوركاني ثنا إبراهيم بن سعد عن الزهري عن علي بن الحسين أخبرني رجل من أهل العلم أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال، وذكر الحديث، ثم قال أبونعيم: صحيح، تفرد بهذه الألفاظ علي بن الحسين، لم يروه عنه إلا الزهري، ولا عنه إلا إبراهيم بن سعد، وعلي بن الحسين هو أفضل وأتقى من أن يروه عن رجل لا يعتمده فينسبه إلى العلم، ويطلق القول به. اهـ
أقول: نسبته إلى العلم لا تكفي كما هو معروف في المصطلح من شروط الصحيح.
فصل في أثر موقوف عن ابن مسعود يخالف ما تقدم في أن نبينا صلى الله عليه وعلى آله وسلم أول شافع
قال الحاكم رحمه الله (ج4 ص496): أخبرنا أبوعبدالله محمد بن عبدالله الزاهد الأصبهاني ثنا الحسين بن حفص ثنا سفيان عن سلمة بن كهيل عن أبي الزعراء قال: كنا عند عبدالله بن مسعود رضي الله عنه -وذكر حديثا طويلاً، وفيه ص(498)-: فيكون أوّل شافع روح القدس جبريل عليه الصّلاة والسّلام، ثمّ إبراهيم خليل الله، ثمّ موسى ثمّ عيسى عليهما الصّلاة والسّلام، قال: ثمّ يقوم نبيّكم رابعًا لا يشفع أحد بعده فيما يشفع فيه، وهو المقام المحمود الّذي ذكره الله تبارك وتعالى: {عسى أن يبعثك ربّك مقامًا محمودًا} الحديث.(53/50)
وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. ثم أعاده الحاكم ص(598)، وقال صحيح على شرط الشيخين، وسكت عنه الذهبي في الموضع الأول، وتعقبه في الثاني فقال: قلت: ما احتجا بأبي الزعراء. اهـ
وقال المناوي في "فيض القدير" (ج3 ص42): إن البخاري ضعّف هذا الحديث.
وقال البخاري في ترجمة أبي الزعراء: عبدالله بن هانئ، روى عن ابن مسعود، وذكر الحديث ثم قال: والمعروف عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((أنا أوّل شافع)) ولا يتابع في حديثه.
وقال الهيثمي (ج10 ص330): رواه الطبراني(1)وهو موقوف مخالف للحديث الصحيح، وقول النّبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((أنا أوّل شافع)).
فصل في شفاعة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لأمته في دخول الجنة وكونه أول شفيع
تقدم في الحديث الأول أنه يقال : ((يا محمّد أدخل من أمّتك من لا حساب عليهم من الباب الأيمن، وهم شركاء النّاس فيما سوى ذلك من الأبواب)).
وتقدم في الحديث الثاني أنّه صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم يشفع، فيشفعه الله ويحد له حدًا فيدخلهم الجنة.
وفي الحديث السادس أنه يقرع باب الجنة فيقال: من أنت؟ فأقول: ((أنا محمّد)).
قال مسلم رحمه الله (ج1 ص188): حدثنا قتيبة بن سعيد وإسحاق ابن إبراهيم، قال قتيبة: حدثنا جرير عن المختار بن فلفل عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: ((أنا أوّل النّاس يشفع في الجنّة وأنا أكثر الأنبياء تبعًا)).
- وحدثنا أبوكريب محمد بن العلاء حدثنا معاوية بن هشام عن سفيان عن مختار بن فلفل عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: ((أنا أكثر الأنبياء تبعًا يوم القيامة وأنا أوّل من يقرع باب الجنّة)).
__________
(1) …الطبراني في ?الكبير? (ج9 ص413).(53/51)
- وحدثنا أبوبكر بن أبي شيبة حدثنا حسين بن علي عن زائدة عن المختار بن فلفل قال: قال أنس بن مالك: قال النّبيّ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: ((أنا أوّل شفيع في الجنّة، لم يصدّق نبيّ من الأنبياء ما صدّقت وإنّ من الأنبياء نبيًّا ما يصدّقه من أمّته إلاّ رجل واحد)).
وأخرجه ابن خزيمة في "كتاب التوحيد" ص(255)، والدارمي (ج1 ص27) الجملة الأولى.
- وقال مسلم رحمه الله: وحدثني عمرو الناقد وزهير بن حرب قالا: حدثنا هاشم بن القاسم حدثنا سليمان بن المغيرة عن ثابت عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: ((آتي باب الجنّة يوم القيامة فأستفتح، فيقول الخازن: من أنت؟ فأقول: محمّد. فيقول: بك أمرت لا أفتح لأحد قبلك)).
الحديث أخرجه أحمد (ج3 ص36).(53/52)
قال الإمام أحمد رحمه الله (ج3 ص247): ثنا عفان ثنا حماد بن سلمة ثنا ثابت عن أنس أنّ رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم قال: ((يطول يوم القيامة على النّاس، فيقول بعضهم لبعض: انطلقوا بنا إلى آدم أبي البشر، فيشفع لنا إلى ربّنا عزّ وجلّ، فليقض بيننا. فيأتون آدم فيقولون: يا آدم أنت الّذي خلقك الله بيده وأسكنك جنّته، فاشفع لنا إلى ربّك فليقض بيننا. فيقول: إنّي لست هناكم، ولكن ائتوا نوحًا رأس النّبيّين. فيأتونه فيقولون: يا نوح اشفع لنا إلى ربّك فليقض بيننا. فيقول: إنّي لست هناكم، ولكن ائتوا إبراهيم خليل الله عزّ وجلّ. فيأتونه فيقولون: يا إبراهيم اشفع لنا إلى ربّك فليقض بيننا. فيقول: إنّي لست هناكم، ولكن ائتوا موسى الّذي اصطفاه الله عزّ وجلّ برسالاته وبكلامه: قال فيأتونه فيقولون: يا موسى اشفع لنا إلى ربّك عزّ وجلّ فليقض بيننا. فيقول: إنّي لست هناكم، ولكن ائتوا عيسى روح الله وكلمته. فيأتون عيسى فيقولون: يا عيسى اشفع لنا إلى ربّك فليقض بيننا. فيقول: إنّي لست هناكم، ولكن ائتوا محمّدًا صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم، فإنّه خاتم النّبيّين فإنّه قد حضر اليوم، وقد غفر له ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر. فيقول عيسى: أرأيتم لو كان متاع في وعاء قد ختم عليه، هل كان يقدر على ما في الوعاء حتّى يفضّ الخاتم؟ فيقولون: لا. قال: فإنّ محمّدًا صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم خاتم النّبيّين. قال: فقال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: فيأتوني فيقولون: يا محمّد اشفع لنا إلى ربّك فليقض بيننا. قال: فأقول: نعم. فآتي باب الجنّة فآخذ بحلقة الباب فأستفتح، فيقال: من أنت؟ فأقول: محمّد. فيفتح لي فأخرّ ساجدًا، فأحمد ربّي عزّ وجلّ بمحامد لم يحمده بها أحد كان قبلي ولا يحمده بها أحد كان بعدي، فيقول: ارفع رأسك، وقل يسمع منك، وسلْ تعطه، واشفعْ تشفّعْ. فيقول: أي ربّ أمّتي أمّتي. فيقال: أخرج من كان في قلبه مثقال(53/53)
شعيرة من إيمان. قال: فأخرجهم ثمّ أخرّ ساجدًا، فأحمده بمحامد لم يحمده بها أحد كان قبلي ولا يحمده بها أحد كان بعدي، فيقال لي: ارفعْ رأسك، وسلْ تعطه، واشفعْ تشفّعْ. فأقول: أي ربّ أمّتي أمّتي. فيقال: أخرج من كان في قلبه مثقال برّة من إيمان. قال: فأخرجهم، قال: ثمّ أخرّ ساجدًا فأقول مثل ذلك، فيقال(1): من كان في قلبه مثقال ذرّة من إيمان. قال: فأخرجهم)).
الحديث أخرجه ابن خزيمة ص(253) من حديث الحسن بن محمد الزعفراني ثنا عفان بن مسلم به، و ص(300) من حديث حميد الطويل عن أنس نحوه، وسيأتي إن شاء الله رقم (104).
قال ابن خزيمة رحمه الله ص(245): حدثنا أبوزرعة عبيدالله بن عبدالكريم قال: ثنا سعيد بن محمد الجرمي قال ثنا عبدالواحد بن واصل، قال: ثنا محمد بن ثابت البناني عن عبدالله بن عبدالله بن الحارث بن نوفل عن أبيه عن عبدالله بن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: ((للأنبياء منابر من ذهب فيجلسون عليها، قال: ويبقى منبري لا أجلس عليه ولا أقعد عليه، قائم بين يدي الله ربّي مخافة أنْ يبعث بي إلى الجنّة، وتبقى أمّتي بعدي، فأقول: يا ربّ أمّتي أمّتي. فيقول الله عزّ وجلّ: يا محمّد ما تريد أن نصنع بأمّتك؟ فيقول: يا ربّ عجّل حسابهم. فيدعى بهم فيحاسبون، فمنهم من يدخل الجنّة برحمة الله، ومنهم من يدخل الجنّة بشفاعتي، فما أزال أشفع حتّى أعطى صكاكًا برجال قد بعث بهم إلى النّار، وحتّى أنّ مالكًا خازن النّار يقول: يا محمّد ما تركت للنّار لغضب ربّك في أمّتك من نقمة)).
الحديث أخرجه الحاكم (ج1 ص65-66) وقال: صحيح الإسناد غير أن الشيخين لم يحتجا بمحمد بن ثابت البناني وهو قليل الحديث يجمع حديثه والحديث غريب في أخبار الشفاعة. فتعقبه الذهبي فقال: قلت: ضعفه غير واحد، والحديث منكر.
__________
(1) …?التوحيد? لابن خزيمة ص(254): ((فيقول: أخرج من كان في قلبه مثقال ذرّة. فأخرجهم)).(53/54)
وقال الهيثمي (ج10 ص380): رواه الطبراني في "الكبير" و"الأوسط"، وفيه محمد بن ثابت البناني وهو ضعيف.
قال أبوعبدالرحمن: الحديث منكر كما قال الذهبي، فقد قال البخاري: في محمد بن ثابت نظر. وقال ابن معين: ليس بشيء، وقال النّسائي: ضعيف. اهـ من "الميزان".
قال الحميدي رحمه الله (ج2 ص206): ثنا سفيان قال ثنا ابن جدعان عن أنس بن مالك أنّه ذكر عند النّبيّ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم الشّفاعة، فقال: قال النّبيّ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: ((فآخذ بحلقة الجنّة فأقعقعها)).
الحديث في سنده علي بن زيد بن جدعان لكنه في الشواهد، وقد تقدم.
قال ابن خزيمة رحمه الله ص(294): حدثنا يوسف بن موسى قال: ثنا أبومعاوية قال: ثنا عاصم الأحول عن أبي عثمان النهدي عن سلمان الفارسي قال: يأتون النّبيّ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم فيقولون: يا نبيّ الله أنت الّذي فتح الله بك وختم بك، وغفر الله لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخّر، فاشفع لنا إلى ربّك، فيقول: ((نعم، أنا صاحبكم)) فيخرج يحوش النّار(1) حتّى ينتهي إلى باب الجنّة، فيأخذ بحلقة في الباب من ذهب، فيقرع الباب، فيقال: من هذا؟ فيقال: محمد. قال: فيفتح له. قال: فيجيء حتى يقوم بين يدي الله فيستأذن في السّجود فيؤذن له، قال: فيفتح الله له من الثّناء والتّحميد والتّمجيد ما لم يفتحْه لأحد من الخلائق، فينادى: يا محمّد ارفعْ رأسك، وسلْ تعطه، وادع يجبْ. قال: فيرفع رأسه، فيقول: ((ربّ أمّتي أمّتي ))ثمّ يستأذن في السّجود فيؤذن له، فيفتح له من الثّناء والتّحميد والتّمجيد ما لم يفتحْ لأحد من الخلائق، فينادى: يا محمّد، ارفعْ رأسك، سلْ تعطه، واشفعْ تشفّعْ، وادع تجب، قال: يفعل ذلك مرتين أو ثلاثًا، فيشفع لمن كان في قلبه حبّة من حنطة، أو مثقال شعيرة، أو مثقال حبّة من خرذل من إيمان. قال سلمان: فذاك المقام المحمود.
__________
(1) …?مجمع الزوائد?: (يحوش الناس).(53/55)
تقدم رقم (26) أنه أخرجه ابن أبي شيبة وابن جرير، وقال الهيثمي (ج10 ص372): رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح، وقال الحافظ في "المطالب العالية" (ج4 ص388): صحيح موقوف. وقال الحافظ المنذري في "الترغيب والترهيب" (ج4 ص43): رواه الطبراني بإسناد صحيح.
قال ابن خزيمة رحمه الله ص(296): أخبرني محمد بن عبدالله بن عبدالحكم أن أباه وشعيب بن الليث أخبراه قالا: أخبرنا الليث عن ابن الهاد(1) عن عمرو وهو ابن أبي عمرو عن أنس بن مالك قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول: ((إنّي لأوّل النّاس تنشقّ الأرض عن جمجمته يوم القيامة ولا فخر، وأعطى لواء الحمد ولا فخر، وأنا سيّد النّبيين يوم القيامة ولا فخر، وأنا أوّل من يدخل الجنّة يوم القيامة ولا فخر، سآتي باب الجنّة فيفتحون لي، فأسجد لله تعالى فيقول: ارفع رأسك يا محمّد وتكلّمْ يسمعْ لك، وقلْ يقبلْ منك، واشفعْ تشفّعْ. فأرفع فأقول: أمّتي أمّتي يا ربّ، فيقول: اذهب إلى أمّتك فمن وجدْت في قلبه مثقال حبة من شعيرة من إيمان فأدخله الجنّة، فأقبل بمن وجدْت في قلبه ذلك فأدخلهم الجنّة، وآتي الجبّار فأسجد له فيقول: ارفع رأسك يا محمّد، وتكلّم يسمعْ منك وقلْ يقبلْ قولك، واشفعْ تشفّعْ. فأقول: أمّتي أمّتي. فيقول: اذهبْ إلى أمّتك فمن وجدْت في قلبه مثقال نصف حبّة من شعير من الإيمان فأدخلْه الجنّة. فأذهب فمن وجدْت في قلبه مثقال ذلك فأدخله الجنّة، قال: فآتي الجبّار فأسجد له، فيقول: ارفعْ رأسك يا محمّد، وتكلّم يسمعْ منك، واشفعْ تشفّعْ، فأرفع رأسي، فأقول: أمّتي أمّتي أي ربّ. فيقول: اذهبْ فمن وجدْت في قلبه مثقال حبّة من خرذل من إيمان، فأدخلْه الجنّة. فأذهب فمن وجدت في قلبه مثقال ذلك فأدخلهم، وفرغ من الحساب، حساب النّاس)). وذكر الحديث.
__________
(1) …الهاد: هو يزيد بن عبدالله بن أسامة بن الهاد الليثي أبوعبدالله مدني من رجال الجماعة.(53/56)
تمام الحديث كما في "مسند أحمد" (ج3 ص144): ((وأدخل من بقي من أمّتي النّار مع أهل النّار، فيقول أهل النّار: ما أغنى عنكم أنّكم كنتم تعبدون الله عزّ وجلّ لا تشركون به شيئًا، فيقول الجبّار عزّ وجلّ: فبعزّتي لأعتقنّهم من النّار. فيرسل إليهم فيخرجون وقد امتحشوا فيدخلون في نهر الحياة فينبتون فيه كما تنبت الحبّة في غثاء السّيل، ويكتب بين أعينهم: هؤلاء عتقاء الله عزّ وجلّ، فيذهب بهم فيدخلون الجنّة، فيقول لهم أهل الجنّة: هؤلاء الجهنّميون. فيقول الجبّار: بل هؤلاء عتقاء الجبّار عزّ وجلّ)).
الحديث رجاله رجال الصحيح، وأخرجه الدارمي (ج1 ص27-28).
قال أبونعيم في "دلائل النبوة" (ج1 ص13): حدثنا أحمد بن إسحاق ثنا أحمد بن محمد بن سليمان(1) قال: ثنا إسحاق بن إبراهيم الصواف قال: حدثنا بدل بن المحبر قال: حدثنا عبدالسلام بن عجلان قال: سمعت أبا يزيد المدني يحدث عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: ((أنا أوّل من يدخل الجنّة ولا فخر، وأنا أوّل شافع وأوّل مشفّع، وأنا بيدي لواء الحمد يوم القيامة ولا فخر، وأنا سيّد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر، وأوّل شخص يدخل عليّ الجنّة فاطمة بنت محمد صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم، ومثلها في هذه الأمّة مثل مريم في بني إسرائيل)).
الحديث في سنده عبدالسلام بن عجلان، قال الحافظ الذهبي في "الميزان": وقال أبوحاتم: يكتب حديثه. وتوقف غيره في الاحتجاج به عن بدل بن المحبر عن عبدالسلام بن عجلان عن أبي يزيد المدني عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: ((أوّل شخص يدخل الجنّة فاطمة(2)). أخرجه أبوصالح المؤذن في "مناقب فاطمة". اهـ
__________
(1) …الأصل: (محمد بن أحمد بن سليمان). والصواب ما أثبتناه.
(2) …في ?اللسان? و?الميزان?: ((أوّل شخص يدخل الجنة))، والذي تقدم في الحديث: ((أول شخص يدخل علي الجنة)) والفرق بين اللفظين ظاهر.(53/57)
زاد الحافظ في "اللسان": وذكره ابن حبان في "الثقات" فقال: يروي عن أبي عثمان وعبيدة الهجيمي، ثم قال: يخطئ ويخالف. اهـ
قال أبوعبدالرحمن: هذه الزيادة منكرة وهي من قوله: ((أوّل شخص... الخ)) لتفرد عبدالسلام بها، ويؤيد بطلان هذه الزيادة أن مسلمًا قد أخرجه (ج4 ص1782)، وأبا داود (ج5 ص45)، وأحمد (ج2 ص540) من حديث أبي هريرة(1)، وليست فيه هذه الزيادة. والله أعلم.
قال الإمام أحمد رحمه الله (ج5 ص393): ثنا حسن ثنا ابن لهيعة ثنا ابن هبيرة(2) أنه سمع أبا تميم الجيشاني يقول: أخبرني سعيد أنه سمع حذيفة ابن اليمان يقول: غاب عنّا رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم يومًا، فلم يخرج حتّى ظننّا أنّه لن يخرج، فلمّا خرج سجد سجدة فظننّا أنّ نفسه قد قبضت فيها، فلمّا رفع رأسه قال: ((إنّ ربّي تبارك وتعالى استشارني في أمّتي ماذا أفعل بهم، فقلت: ما شئت أي ربّ هم خلقك وعبادك. فاستشارني الثّانية فقلت له كذلك، فقال: لا أحزنك(3) في أمّتك يا محمّد. وبشّرني أنّ أوّل من يدخل الجنّة من أمّتي سبعون ألفًا، مع كلّ ألف سبعون ألفًا ليس عليهم حساب، ثمّ أرسل إليّ فقال: ادع تجب، وسلْ تعط. فقلت لرسوله: أو معطيّ ربّي سؤلي؟ فقال: ما أرسلني إليك إلاّ ليعطيك. ولقد أعطاني ربّي عزّ وجلّ ولا فخر، وغفر لي ما تقدّم من ذنبي وما تأخّر وأنا أمشي حيًّا صحيحًا، وأعطاني أن لا تجوع أمّتي ولا تغلب، وأعطاني الكوثر فهو نهر من الجنّة يسيل في حوضي، وأعطاني العزّ والنّصر والرّعب يسعى بين يدي أمّتي شهرًا، وأعطاني أنّي أوّل الأنبياء أدخل الجنّة، وطيّب لي ولأمّتي الغنيمة، وأحلّ لنا كثيرًا ممّا شدّد على من قبلنا، ولم يجعل علينا من حرج)).
الحديث في سنده ابن لهيعة وهو ضعيف.
__________
(1) …الحديث التاسع من هذه الرسالة وقد تقدم.
(2) …هبيرة هو عبدالله، وأبوتميم هو عبدالله بن مالك.
(3) …?تفسير ابن كثير? (ج2 ص121): ((لا أخزيك)) وهو الأقرب للسياق.(53/58)
الشّفاعة لأهل الكبائر
تقدمت أحاديث تدل على الشّفاعة لأهل الكبائر منها: حديث أنس وهو الحديث الثاني: ((يخرج من النّار من قال لا إله إلاّ الله ... إلى آخره)) وهكذا الحديث الثالث، وكذا حديث ابن عباس وهو الحديث السادس ففيه: ((أخرجْ من كان في قلبه كذا وكذا))، وحديث أنس وهو الحديث الثاني والثلاثون وفيه: ((من كان في قلبه مثقال ذرّة من إيمان، قال: فأخرجهم)) وكذا حديث سلمان رقم (35).
قال البخاري رحمه الله (ج1 ص193): حدثنا عبدالعزيز بن عبدالله قال: حدثني سليمان(1) عن عمرو بن أبي عمرو عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة أنه قال: قيل: يا رسول الله من أسعد النّاس بشفاعتك يوم القيامة؟ قال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: ((لقد ظننت يا أبا هريرة ألاّ يسألني عن هذا الحديث أحد أوّل منك، لما رأيت من حرصك على الحديث، أسعد النّاس بشفاعتي يوم القيامة من قال: لا إله إلاّ الله خالصًا من قلبه أو نفسه)).
وأخرجه البخاري (ج11 ص418)، وأحمد (ج2 ص373)، والآجري في "الشريعة" ص(430).
- قال الإمام أحمد رحمه الله (ج2 ص307): ثنا هاشم(2) والخزاعي يعني أبا سلمة قالا: حدثنا ليث حدثني يزيد بن أبي حبيب عن سالم بن أبي سالم عن معاوية بن مغيث الهذلي عن أبي هريرة أنه سمعه يقول: سألت رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: ماذا ردّ إليك ربّك في الشّفاعة؟ فقال: ((والّذي نفس محمّد بيده لقد ظننت أنّك أوّل من يسألني عن ذلك من أمّتي، لما رأيت من حرصك على العلم، والّذي نفس محمّد بيده ما يهمّني من انقصافهم على أبواب الجنّة أهمّ عندي من تمام شفاعتي، وشفاعتي لمن شهد أن لا إله إلاّ الله مخلصًا يصدّق قلبه لسانه ولسانه قلبه)).
__________
(1) …: هو ابن بلال كما في ?الفتح?.
(2) …: هو ابن القاسم أبوالنضر، وأبوسلمة الخزاعي: هو منصور بن سلمة.(53/59)
الحديث أخرجه أحمد (ج2 ص518)، والبخاري في "التاريخ الكبير" (ج4 ص111)، وابن حبان كما في "الموارد" ص(645)، والحاكم (ج1 ص70) وقال: صحيح الإسناد وسكت عليه الذهبي.
الحديث من طريق معاوية بن معتب أو مغيث وهو مستور الحال يصلح حديثه في الشواهد والمتابعات.
هذا الحديث وأمثاله من الأحاديث التي ليس فيها التصريح بالشّفاعة لأهل الكبائر، فمن قال لا إله إلا الله يشمل أهل الكبائر وغيرهم ممن لا يشرك بالله شيئا.
- قال الإمام أحمد رحمه الله (ج2 ص454): ثنا حجاج(1) قال: أنا ابن جريج قال: حدثني العلاء بن عبدالرحمن بن يعقوب عن ابن دارة مولى عثمان قال: إنّا لبالبقيع مع أبي هريرة إذ سمعناه يقول: أنا أعلم النّاس بشفاعة محمّد صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم يوم القيامة. قال: فتداكّ النّاس عليه، فقالوا: إيه يرحمك الله؟ قال: يقول(2): ((اللّهمّ اغفر لكلّ عبد مسلم لقيك مؤمن بي لا يشرك بك)).
الحديث أخرجه أيضًا ص(499) وفي سنده ابن دارة، وترجمته في "تعجيل المنفعة" ص(349) وهو مستور الحال يصلح حديثه في الشواهد والمتابعات.
قال البخاري رحمه الله (ج11 ص96): حدثنا إسماعيل قال: حدثني مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أنّ رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم قال: ((لكلّ نبيّ دعوة مستجابة يدعو بها، وأريد أن أختبئ دعوتي شفاعةً لأمّتي في الآخرة)).
الحديث أخرجه مالك في "الموطأ" ص(214)، وابن خزيمة ص(257) وأحمد (ج2 ص486).
__________
(1) …: هو ابن محمد المصيصي، وشيخه ابن جريج هو عبدالملك بن عبدالعزيز بن جريج.
(2) …التعليق على ?النهاية? لابن كثير (ج2 ص209): قال أبوبكر بن أبي داود في ?كتاب البعث?: قوله: (يقول) يعني النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم.(53/60)
- قال البخاري رحمه الله (ج13 ص446): حدثنا أبواليمان أخبرنا شعيب عن الزهري حدثني أبوسلمة بن عبدالرحمن أن أبا هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم قال: ((لكلّ نبيّ دعوة، فأريد إن شاء الله أن أختبئ دعوتي شفاعةً لأمّتي يوم القيامة)).
الحديث أخرجه مسلم (ج1 ص188-189)، والدارمي (ج2 ص328)، وأحمد (ج2 ص381 و ص396)، والآجري في "الشريعة" ص(341).
- قال مسلم رحمه الله (ج1 ص189): وحدثني حرملة بن يحيى أخبرنا ابن وهب أخبرني يونس عن ابن شهاب أن عمرو بن أبي سفيان بن أسيد ابن جارية الثقفي أخبره أن أبا هريرة قال لكعب الأحبار: إنّ نبيّ الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم قال: ((لكلّ نبيّ دعوة يدعوها فأنا أريد إن شاء الله أن أختبئ دعوتي شفاعةً لأمّتي يوم القيامة))، فقال كعب لأبي هريرة: أنت سمعت هذا من رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم؟ قال أبوهريرة: نعم.
الحديث أخرجه ابن خزيمة ص(285)، والدارمي (ج2 ص328)، والفسوي في "المعرفة والتاريخ" (ج1 ص400)، والآجري في "الشريعة" ص(341).
- وقال مسلم رحمه الله: حدثنا أبوبكر بن أبي شيبة وأبوكريب واللفظ لأبي كريب قالا: حدثنا أبومعاوية عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: ((لكلّ نبيّ دعوة مستجابة فتعجّل كلّ نبيّ دعوته، وإنّي اختبأت دعوتي شفاعةً لأمّتي يوم القيامة فهي نائلة إن شاء الله من مات من أمّتي لا يشرك بالله شيئًا)).
الحديث أخرجه الترمذي (ج5 ص238) وابن ماجه (ج2 ص1440)، وأحمد (ج2 ص426)، وابن خزيمة ص(258) و ص(260)، والآجري في "الشريعة" ص(340).(53/61)
- وقال مسلم رحمه الله: حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا جرير عن عمارة وهو ابن القعقاع عن أبي زرعة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: ((لكلّ نبيّ دعوة مستجابة يدعو بها فيستجاب له فيؤتاها وإنّي اختبأت دعوتي شفاعةً لأمّتي يوم القيامة)).
الحديث أخرجه ابن خزيمة في "التوحيد" ص(257).
- وقال مسلم رحمه الله: حدثنا عبيدالله بن معاذ العنبري حدثنا أبي حدثنا شعبة عن محمد وهو ابن زياد قال: سمعت أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: ((لكلّ نبيّ دعوة دعا بها في أمّته فاستجيب له، وإنّي أريد إن شاء الله أن أؤخّر دعوتي شفاعةً لأمّتي يوم القيامة)).
الحديث أخرجه أحمد (ج2 ص409)، وابن خزيمة ص(260،261).
- وقال الإمام أحمد (ج2 ص312): حدثنا عبدالرزاق بن همام ثنا معمر عن همام بن منبه قال: هذا ما حدثنا به أبوهريرة عن رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلم وذكر أحاديث، وفي ص(313): وقال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: ((لكلّ نبيّ دعوة تستجاب له، وأريد إن شاء الله أن أؤخّر دعوتي شفاعةً لأمّتي إلى يوم القيامة)).
الحديث أخرجه ابن خزيمة ص(259)، وعبدالرزاق (ج11 ص413)، وقال الحافظ ابن كثير في "النهاية" (ج2 ص208): هذا إسناد على شرطهما ولم يخرجوه.
- قال الآجري في "الشريعة" ص(341): أخبرنا أبوجعفر محمد بن صالح بن ذريح(1) قال: حدثنا هناد بن السري قال: حدثنا عبدة يعني ابن سلمان عن محمد بن إسحاق عن موسى بن يسار(2) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: ((لكلّ نبيّ دعوة دعا بها، وإنّي اختبأت دعوتي شفاعةً لأمّتي يوم القيامة)).
محمد بن إسحاق مدلس ولم يصرح بالتحديث، لكن الحديث في الشواهد والمتابعات فلا يضر.
__________
(1) …بن صالح: ترجمته في ?تاريخ بغداد? (ج5 ص361)، قال الخطيب بعد ذكره مشايخه وتلاميذه: وكان ثقة.
(2) …بن يسار: هو المطلبي.(53/62)
- قال الإمام أحمد رحمه الله (ج2 ص275): ثنا عبدالرزاق ثنا معمر عن الزهري قال: أخبرني القاسم بن محمد قال: اجتمع أبوهريرة وكعب فجعل أبوهريرة يحدّث كعبًا عن النّبيّ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم، وكعب يحدّث أبا هريرة عن الكتب، قال أبوهريرة: قال النّبيّ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: ((لكلّ نبيّ دعوة مستجابة وإنّي اختبأت دعوتي شفاعةً لأمّتي يوم القيامة)).
الحديث قال الحافظ ابن كثير في "التفسير" (ج4 ص15): رواه عبدالرزاق. وقال في "النهاية" (ج2ص207): تفرد به أحمد وإسناده صحيح على شرطهما ولم يخرجه أحد من أصحاب الكتب الستة من هذا الوجه.
قال البخاري رحمه الله (ج11 ص96): وقال لي خليفة(1): قال معتمر: سمعت أبي عن أنس عن النّبيّ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم قال: ((لكلّ نبيّ سأل سؤلاً -أو قال:- لكلّ نبيّ دعوة قد دعا بها فاستجيب، فجعلت دعوتي شفاعةً لأمّتي يوم القيامة)).
الحديث أخرجه مسلم (ج1 ص190)، وأحمد (ج3 ص219)، وابن خزيمة ص(260-261).
- قال مسلم رحمه الله (ج1 ص190): حدثني أبوغسان(2) المسمعي، ومحمد بن المثنى وابن بشار حدثانا -واللفظ لأبي غسان- قالوا: حدثنا معاذ (يعنون ابن هشام) قال: حدثني أبي عن قتادة حدثنا أنس بن مالك أنّ نبيّ الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم قال: ((لكلّ نبيّ دعوة دعاها لأمّته، وإنّي اختبأت دعوتي شفاعةً لأمّتي يوم القيامة)).
الحديث أخرجه أحمد (ج3 ص92) وابن خزيمة ص(259،261).
وأخرجه أحمد (ج3 ص134، 258) من حديث همام عن قتادة به.
وأخرجه ص(208، 276)، والآجري ص(343)، من حديث شعبة عن قتادة به.
وأخرجه أحمد (ج3 ص118)، وابن خزيمة ص(262)، وأبونعيم (ج7 ص259) من حديث مسعر عن قتادة به.
__________
(1) …: هو ابن خياط الملقب بشباب.
(2) …: هو مالك بن عبدالواحد.(53/63)
قال مسلم رحمه الله (ج1 ص190): وحدثني محمد بن أحمد بن أبي خلف حدثنا روح حدثنا ابن جريج قال: أخبرني أبوالزبير أنه سمع جابر بن عبدالله يقول: عن النّبيّ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: ((لكلّ نبيّ دعوة قد دعا بها في أمّته، وخبّأت دعوتي شفاعةً لأمّتي يوم القيامة)).
الحديث أخرجه أحمد (ج3 ص84)، وابن خزيمة ص(260).
وأخرجه أحمد (ج3 ص396)، وابن خزيمة من حديث الحسن عن جابر، والحسن لم يسمع من جابر كما في "تهذيب التهذيب" عن علي بن المديني وبهز بن أسد وأبي حاتم.
قال ابن خزيمة رحمه الله ص(269): حدثنا محمد بن عمرو بن عثمان ابن أبي صفوان الثقفي قال: ثنا سليمان بن داود قال: ثنا علي بن البريد(1) قال : ثنا عبدالجبار بن العباس الشيباني(2) عن عون بن أبي جحيفة السوائي عن عبدالرحمن بن علقمة الثقفي عن عبدالرحمن بن أبي عقيل الثقفي قال: قدمت على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم في وفد ثقيف فعلقنا طريقًا من طرق المدينة حتى أنخنا بالباب، وما في النّاس رجل أبغض إلينا من رجل يولج عليه منه، فدخلنا وسلّمنا وبايعنا فما خرجنا من عنده حتى ما في الناس رجل أحبّ إلينا من رجل خرجنا من عنده، فقلت له: يا رسول الله، ألا سألت ربّك ملكًا كملك سليمان. فضحك وقال: (( فلعلّ لصاحبكم عند الله أفضل من ملك سليمان، إنّ الله لم يبعثْ نبيًّا إلاّ أعطاه الله دعوةً، فمنهم من اتّخذ بها دنيا فأعطيها، ومنهم من دعا بها على قومه فأهلكوا بها، وإنّ الله تعالى أعطاني دعوةً فاختبأتها عند ربّي شفاعةً لأمّتي يوم القيامة)).
__________
(1) …بن البريد: هو علي بن هاشم بن البريد.
(2) …في الأصل، وصوابه: (الشبامي)، كما في ?الميزان?.(53/64)
الحديث أخرجه الحاكم (ج1 ص67-68)، والفسوي في "المعرفة والتاريخ" (ج1 ص288)، وقال الحاكم: وقد احتج مسلم بعلي بن هاشم، وعبدالرحمن بن أبي عقيل صحابي قد احتج به أئمتنا في مسانيدهم، وأما عبدالجبار بن العباس فإنه ممن يجمع حديثه ويعد مسانيده في الكوفيين. اهـ
وقال الحافظ ابن كثير في "النهاية" (ج2 ص199): إسناد غريب قوي، وحديث غريب.
وقال الهيثمي في "المجمع" (ج10 ص371): رواه الطبراني والبزار ورجالهما ثقات.
قال أبوعبدالرحمن: الحديث في سنده عبدالجبار بن العباس وهو الشبامي، قال أبونعيم: لم يكن بالكوفة أكذب منه. وقال العقيلي: لا يتابع على حديثه وكان يتشيّع. وقال أحمد بن حنبل: أرجو ألا يكون به بأس حدثنا عنه وكيع وأبونعيم، لكن كان يتشيّع. وقال أبوحاتم: ثقة. وقال الجوزجاني: كان غاليًا في سوء مذهبه، يعني في التشيع. اهـ
فالرجل تالف إذ جرج مفسرًا، لكن الحديث له طريق أخرى.
قال البخاري في "التاريخ" (ج5 ص249): قال أحمد بن يونس: حدثنا زهير(1) حدثنا أبوخالد الأسدي(2) قال: ح(3) عون بن أبي جحيفة به.
الحديث في سنده أبوخالد الأسدي وهو صالح في الشواهد والمتابعات.
قال الإمام أحمد رحمه الله (ج2 ص75): ثنا معمر بن سليمان الرقي أبوعبدالله ثنا زياد بن خيثمة عن علي بن النعمان بن قراد عن رجل عن عبدالله بن عمر عن النّبيّ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم قال: ((خيّرت بين الشّفاعة أو يدخل نصف أمّتي الجنّة، فاخترت الشّفاعة لأنّها أعمّ وأكفى، أترونها للمتقّين؟ لا ولكنّها للمتلوّثين الخطّاؤون)).
قال زياد: أما إنها لحْن، ولكن هكذا حدثنا الّذي حدثنا.
__________
(1) …هو ابن معاوية.
(2) …الأسدي: هو الدالاني، يقال: اسمه يزيد بن عبدالرحمن.
(3) …ح): رمز حدثنا. وانظر التعليق(1) ص(148).(53/65)
الحديث في سنده مبهم، لكن قال الحافظ المنذري في "الترغيب والترهيب" (ج4 ص448): رواه أحمد والطبراني واللفظ له وإسناده جيد. و قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (ج1 ص378): رواه أحمد والطبراني ... ورجال الطبراني رجال الصحيح غير النعمان بن قراد وهو ثقة.
قال أبوعبدالرحمن: قد اعتمد هذان الحافظان على توثيق ابن حبان للنعمان بن قراد وهو مجهول، فقد ذكره ابن أبي حاتم (ج8 ص446) ولم يذكر فيه جرحًا ولا تعديلاً، ولم يذكر عنه الحافظ راويًا سوى زياد بن خيثمة فهو مجهول العين، وأما ابن حبان فإنه يوثّق المجهولين كما ذكره الحافظ في مقدمة "لسان الميزان".
قال ابن ماجة رحمه الله (ج2 ص1441): حدثنا إسماعيل بن أسد ثنا أبوبدر(1) ثنا زياد بن خيثمة عن نعيم بن أبي هند عن ربعي بن حراش عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: ((خيّرت بين الشّفاعة وبين أن يدخل نصف أمّتي الجنّة فاخترت الشّفاعة لأنّها أعمّ وأكفى، أترونها للمتّقين؟ لا ولكنّها للمذنبين الخطّائين المتلوّثين)).
قال المعلق في "الزوائد": إسناده صحيح ورجاله ثقات.
__________
(1) …أبوبدر: هو شجاع بن الوليد بن قيس السكوني.(53/66)
- قال الإمام أحمد رحمه الله (ج4 ص404): ثنا عفان ثنا حماد يعني ابن سلمة أنا عاصم(1) عن أبي بردة عن أبي موسى أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم كان يحرسه أصحابه، فقمت ذات ليلة فلم أره في منامه، فأخذني ما قدم وما حدث، فذهبت أنظر فإذا أنا بمعاذ قد لقي الّذي لقيت، فسمعنا صوتًا مثل هزيز الرّحا فوقفا على مكانهما، فجاء النّبيّ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم من قبل الصّوت فقال: ((هل تدرون أين كنت؟ وفيم كنت؟ أتاني آت من ربّي عزّ وجلّ فخيّرني بين أن يدخل نصف أمّتي الجنّة وبين الشّفاعة فاخترت الشّفاعة)). فقالا: يا رسول الله ادع الله عزّ وجلّ أن يجعلنا في شفاعتك. فقال: ((أنتم ومن مات لا يشرك بالله شيئًا في شفاعتي)).
الحديث أعاده الإمام أحمد ص(415) فقال: ثنا حسن بن موسى يعني الأشيب، قال: ثنا سكين بن عبدالعزيز قال: أخبرنا يزيد الأعرج -قال عبدالله(2): يعني أظنه الشّني- قال: ثنا حمزة بن علي بن مخفر(3) عن أبي بردة به.
وأخرجه الطبراني في "الصغير" (ج2 ص8) فقال: حدثنا محمد بن أحمد ابن هارون الحلبي المصيصي بالمصيصة حدثنا عبدالله بن محمد المسندي حدثنا سهل بن أسلم العدوي حدثنا يونس بن عبيد عن حميد بن هلال عن أبي بردة به.
الحديث بأول سند رجاله رجال الصحيح.
__________
(1) …عاصم: هو ابن بهدلة، كما أتى مصرحًا به (ج5 ص232) من ?المسند?.
(2) …عبدالله: هو ابن أحمد راوي ?المسند? عن أبيه أحمد بن حنبل.
(3) …حمزة بن علي مجهول كما في ?تعجيل المنفعة?، ويزيد الأعرج ما وجدت ترجمته في ?تهذيب التهذيب? ولا ?تعجيل المنفعة?، وقد روى عنه جماعة كما في ?الأنساب? للسمعاني و?الجرح والتعديل? لابن أبي حاتم (ج9 ص301).(53/67)
قال الإمام أحمد رحمه الله (ج6 ص28): ثنا بهز قال: ثنا أبوعوانة قال: ثنا قتادة عن أبي مليح(1) عن عوف بن مالك الأشجعي قال: عرّس رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم ذات ليلة، فافترش كلّ رجل منّا ذراع راحلته، قال: فانتهيت إلى بعض الليل، فإذا ناقة رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم ليس قدّامها أحد، قال: فانطلقت أطلب رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم، فإذا معاذ بن جبل وعبدالله بن قيس قائمان، قلت: أين رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم؟ قالا: ما ندري غير أنّا سمعنا صوتًا بأعلى الوادي. فإذا مثل هزيز الرّحل قال: امكثوا يسيرًا. ثمّ جاءنا رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم فقال: ((إنّه أتاني اللّيلة آت من ربّي فخيّرني بين أن يدخل نصف أمّتي الجنّة وبين الشّفاعة، فاخترت الشّفاعة)) فقلنا: ننشدك الله والصّحبة لما جعلتنا من أهل شفاعتك. قال: ((فإنّكم من أهل شفاعتي)) قال: فأقبلنا معانيق(2) إلى النّاس فإذا هم قد فزعوا وفقدوا نبيّهم، وقال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: ((إنّه أتاني اللّيلة من ربّي آت فخيّرني بين أن يدخل نصف أمّتي الجنّة وبين الشّفاعة، وإنّي اخترت الشّفاعة)) قالوا: يا رسول الله ننشدك الله والصّحبة لما جعلتنا من أهل شفاعتك. قال: فلمّا أضبّوا(3) عليه قال: ((فأنا أشهدكم أنّ شفاعتي لمن لا يشرك بالله شيئًا من أمّتي)).
__________
(1) …: هو ابن أسامة، ثقة من الثالثة كما في ?التقريب?.
(2) …معانيق: أي مسرعين، جمع معناق كما في ?النهاية?.
(3) …: أي كثروا، يقال: أضبّوا إذا تكلّموا متتابعًا، وإذا نهضوا في الأمر جميعًا، كما في ?النهاية?.(53/68)
الحديث رواه الترمذي (ج4 ص47)، والطيالسي (ج2 ص229)، وابن خزيمة ص(264، 265)، وابن حبان كما في "الموارد" ص(644، 645) والآجري في "الشريعة" ص(342)، والحاكم (ج1 ص67) وقال: حديث قتادة هذا صحيح على شرطهما ولم يخرجاه. وقال الهيثمي (ج10 ص370): رواه الطبراني بأسانيد وبعض رجالها ثقات.
- قال ابن ماجة رحمه الله (ج2 ص1444): حدثنا هشام بن عمار ثنا صدقة بن خالد ثنا ابن جابر(1) قال : سمعت سليم بن عامر يقول: سمعت عوف بن مالك الأشجعي، يقول: قال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: ((أتدرون ما خيّرني ربّي اللّيلة)) قلنا: الله ورسوله أعلم. قال: ((فإنّه خيّرني بين أن يدخل نصف أمّتي الجنّة وبين الشّفاعة، فاخترت الشّفاعة)) قلنا: يا رسول الله ادع الله أن يجعلنا من أهلها. قال: ((هي لكلّ مسلم)).
الحديث أخرجه الآجري في "الشريعة" ص(343)، والحاكم (ج1 ص14) وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه ورواته كلهم ثقات على شرطهما جميعًا وليس له علّة، وليس في أخبار(2) الشّفاعة: ((وهي لكلّ مسلم)).
وأخرجه أيضًا ص(66) وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم فقد احتج بسليم بن عامر، وأما سائر رواته فمتفق عليهم ولم يخرجاه.
قال أبوعبدالرحمن: وقول الحاكم الأخير أنه على شرط مسلم أصحّ لأن سليم بن عامر من رجال مسلم وليس من رجال البخاري.
__________
(1) …جابر: هو عبدالرحمن بن يزيد بن جابر.
(2) …يعني التي في ?الصحيحين?.(53/69)
وأخرجه ابن خزيمة ص(263)، وقال ص(264): أخاف أن يكون قوله: (سمعت عوف بن مالك). وهْمًا وأنّ بينهما معدي كرب فإن أحمد ابن عبدالرحمن بن وهب قال: ثنا حجاج بن رشدين قال: حدثنا معاوية وهو ابن صالح عن أبي يحيى سليم بن عامر عن معدي كرب عن عوف بن مالك. فذكر نحو الحديث السابق غير أنه قال:((إنّ ربّي استشارني في أمّتي فقال: أتحبّ أن أعطيك مسألتك اليوم أم أشفّعك في أمّتك. قال: فقلت: بل اجعلْها شفاعةً لأمّتي)) قال عوف: فقلنا: يا رسول الله اجعلنا في أوّل من تشفع له الشّفاعة. قال: ((بل أجعلها لكلّ مسلم)).
قال أبوعبدالرحمن: حجاج بن رشدين ترجمته في "الجرح والتعديل" (ج3 ص160)، ذكر من مشايخه معاوية بن صالح. ولم يذكر فيه جرحًا ولا تعديلاً، وقال الحافظ الذهبي في "الميزان": ضعّفه ابن عدي.
وشيخ ابن خزيمة أحمد بن عبدالرحمن إلى الضعف أقرب فيما تفرد به عن عمه.
لكن المعتمد في انقطاع الحديث على ما في "تهذيب التهذيب" في ترجمة سليم بن عامر، وقال ابن أبي حاتم في "المراسيل": روى عن عوف بن مالك مرسلاً ولم يلقه. اهـ وذكره العلائي في "جامع التحصيل" مقرًا له، ثم رأيت ما يؤيد ما خافه ابن خزيمة رحمه الله، قال يعقوب الفسوي في "المعرفة والتاريخ" (ج2 ص337): حدثنا الوحاظي(1) قال: حدثنا جابر بن غانم(2) عن سليم بن عامر عن معد يكرب بن عبدكلال عن عوف بن مالك عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: ((أتاني جبريل، وإنّ ربّي خيّرني بين خصلتين: أن يدخل نصف أمّتي الجنّة وبين الشّفاعة لأمّتي فاخترت الشّفاعة)).
وقال ابن أبي حاتم في "العلل" (ج2 ص213) عن أبيه: لم يسمعْ سليم ابن عامر من عوف بن مالك شيئًا بينه وبين عوف نفسان، فذكره.
__________
(1) …: هو يحيى بن صالح كما في ?تهذيب التهذيب?.
(2) …جابر بن غانم: ترجمته في ?الجرح والتعديل? (ج2 ص501) وقال: إنه سأل أباه عنه فقال: شيخ.(53/70)
- قال ابن خزيمة رحمه الله ص(267): حدثنا أبوبشر الواسطي(1) قال: ثنا خالد -يعني ابن عبدالله- عن خالد يعني الحذّاء عن أبي قلابة عن عوف ابن مالك قال: كنّا مع رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم في بعض مغازيه، فانتهينا ذات ليلة فلم نر رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم في مكانه وإذا أصحابنا كأنّ على رؤوسهم الصّخر، وإذا الإبل قد وضعت جرانها -يعني أذقانها- فإذا أنا بخيال فإذا هو أبوموسى الأشعري فتصدى لي وتصديت له، قال خالد: فحدّثني حميد بن هلال عن أبي بردة عن أبي موسى عن عوف بن مالك قال: سمعت خلف أبي موسى هزيزًا كهزيز الرّحل، فقلت: أين رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم؟ قال: ورائي قد أقبل، فإذا أنا برسول الله، فقلت: يا رسول الله إنّ النّبي صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم إذا كان بأرض العدوّ كان عليه جالسًا(2). فقال النّبي صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: ((إنّه أتاني آت من ربّي آنفًا فخيّرني بين أن يدخل نصف أمّتي الجنّة وبين الشّفاعة فاخترت الشّفاعة)).
الحديث أخرجه عبدالرزاق (ج11 ص413) من طريق قتادة وأبي قلابة كلاهما عن عوف بن مالك، وابن حبان كما في "الموارد" ص(644)، والحاكم (ج1 ص67) وقال: هذا صحيح من حديث أبي قلابة على شرط الشيخين.
قال أبوعبدالرحمن: ينظر أسمع قتادة وأبوقلابة من عوف بن مالك فإنهما مدلّسان، وأبوقلابة يدلس عمن لحقهم وعمن لم يلحقهم كما في "الميزان"، لكن الحديث من طريق خالد عن حميد بن هلال عن أبي بردة عن أبي موسى عن عوف بن مالك به صحيح.
__________
(1) …أبوبشر: هو إسحاق بن شاهين الواسطي من مشايخ البخاري في ?الصحيح?.
(2) …في ?كتاب التوحيد?، وفي ?المستدرك?: (كان عليه الحراس)، وفي ?موارد الظمآن?: (كان عليه حراس). ولعل الصواب: (الحراس أو حراس). وفي طبعة ?كتاب التوحيد? بتحقيق الشهوان: (حارسًا).(53/71)
- قال الحاكم رحمه الله (ج1 ص67): وقد روي هذا الحديث عن أبي موسى الأشعري عن عوف بن مالك بإسناد على شرط الشيخين ولم يخرجاه: حدثنا أبوعلي الحسين بن علي الحافظ أنبأ الحسين بن عبدالله بن يزيد القطان الرّقي بالرّقة، ثنا محمد بن عبدالرحمن بن حماد أبوبكر الواسطي ثنا خالد بن عبدالله بن خالد الواسطي عن حميد بن هلال عن أبي بردة عن أبي موسى عن عوف بن مالك أنّهم كانوا مع النّبي صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم في بعض مغازيه، قال عوف: فسمعت خلفي هزيزًا كهزيز الرّحا، فإذا أنا بالنّبيّ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم، فقلت: إنّ النّبي صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم إذا كان في أرض العدوّ كان عليه الحرّاس. فقال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: ((أتاني آت من ربّي يخيّرني بين أن يدخل شطر أمّتي الجنّة وبين الشّفاعة، فاخترت الشّفاعة)) فقال معاذ بن جبل: يا رسول الله قد عرفت قوائي فاجعلْني منهم. قال: ((أنت منهم)) قال عوف بن مالك: يا رسول الله قد عرفْت أنّا تركنا قومنا وأموالنا راغبًا(1) لله ورسوله فاجعلنا منهم. قال: ((أنت منهم)) فانتهينا إلى القوم وقد ثاروا، فقال النّبيّ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: ((اقعدوا)) فقعدوا كأنّهم لم يقم أحد منهم، قال: ((أتاني آت من ربّي فخيّرني بين أن يدخل شطر أمّتي الجنّة وبين الشّفاعة فاخترت الشّفاعة)) فقالوا: يا رسول الله اجعلْنا منهم. فقال: ((هي لمن مات لا يشرك بالله شيئًا)).
سكت الذهبي عن قول الحاكم: أنّه على شرط الشيخين. وفي السند من ينظر في حاله، وهو بسند ابن خزيمة المتقدم صحيح.
__________
(1) …في الأصل، ولعله: راغبين إلى الله.(53/72)
قال الإمام أحمد رحمه الله (ج5 ص232): ثنا أسود بن عامر أخبرني أبوبكر بن عياش عن عاصم عن أبي بردة عن أبي مليح الهذلي عن معاذ بن جبل وعن أبي موسى قالا: كان رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: إذا نزل منْزلاً كان الّذي يليه المهاجرون، قال فنزلنا منْزلاً فقام(1) النّبيّ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم ونحن حوله، قال: فتعاررْت من اللّيل أنا ومعاذ، فنظرنا(2)، قال: فخرجنا نطلبه إذ سمعنا هزيزًا كهزيز الأرحاء إذ أقبل، فلمّا أقبل نظر قال: ((ما شأنكم؟)) قالوا: انتبهنا فلم نرك حيث كنت، خشينا أن يكون أصابك شيء جئنا نطلبك. قال: ((أتاني آت في منامي فخيّرني بين أن يدخل الجنّة نصف أمّتي أو شفاعةً، فاخترت لهم الشّفاعة)) فقلنا: فإنّا نسألك بحقّ الإسلام وبحقّ الصّحبة لما أدخلتنا الجنّة. قال: فاجتمع عليه النّاس فقالوا له مثل مقالتنا، وكثر النّاس، فقال: ((إنّي أجعل شفاعتي لمن مات لا يشرك بالله شيئًا)).
حدثنا روح حدثنا حماد يعني ابن سلمة ثنا عاصم بن بهدلة عن أبي بردة عن أبي موسى(3) أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلّم كان يحرسه أصحابه.
الحديث قال الهيثمي (ج10 ص368): رواه أحمد والطبراني بنحوه، وفي رواية لأحمد... ورجالها رجال الصحيح غير عاصم بن أبي النجود وقد وثّق وفيه ضعف، ولكنّ أبا المليح وأبا بردة لم يدركا معاذ بن جبل. اهـ
قال أبوعبدالرحمن: الحديث من حديث معاذ، ومن حديث أبي موسى، فحديث معاذ منقطع وحديث أبي موسى متصل.
__________
(1) …في ?المسند?: (فقام). والصواب: (فنام)، كما في ?مجمع الزوائد?.
(2) …هنا سقط في ?المسند? وهو: (فلم نره)، كما في ?مجمع الزوائد?.
(3) …حديث أبي موسى تقدم تابعًا لحديث رقم (46).(53/73)
قال الإمام أحمد رحمه الله (ج5 ص413): ثنا حسن بن موسى ثنا عبدالله بن لهيعة ثنا أبوقبيل(1) عن عبدالله(2) بن ناشر من بني سريع قال: سمعت أبا رهم(3) قاصّ أهل الشام يقول: سمعت أبا أيوب الأنصاري يقول: إنّ رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم خرج ذات يوم إليهم فقال لهم: ((إنّ ربّكم عزّ وجلّ خيّرني بين سبعين ألفًا يدخلون الجنّة عفوًا بغير حساب، وبين الخبيئة عنده لأمّتي)) فقال له بعض أصحابه: يا رسول الله أيخبّئ ذلك ربّك عزّ وجلّ؟ فدخل رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم ثمّ خرج وهو يكبّر فقال: ((إنّ ربّي عزّ وجلّ زادني مع كلّ ألف سبعين ألفًا والخبيئة عنده)).
قال أبورهم: يا أبا أيّوب وما تظنّ خبيئة رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم؟ فأكله النّاس بأفواههم فقالوا: وما أنت وخبيئة رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم؟ فقال أبوأيّوب: دعوا الرّجل عنكم، أخبرْكم عن خبيئة رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم كما أظنّ بل كالمستيقن إنّ خبيئة رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم أن يقول: ((ربّ من شهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له وأنّ محمّدًا عبده ورسوله مصدّقًا لسانه قلبه أدخله الجنّة)).
الحديث أخرجه أبونعيم في الحلية (ج1 ص362)، وقال الهيثمي (ج1 ص375): رواه أحمد والطبراني وفيه عباد بن ناشزة(4) من بني سريع ولم أعرفه، وابن لهيعة ضعفه الجمهور.
__________
(1) …أبوقبيل: هو حيي بن هانئ.
(2) …الذي في ?مجمع الزوائد?: (عباد بن ناشرة) وكذا في ?الحلية?، وأما في ?المسند? و?تاريخ= =البخاري? (ج5 ص214) و?الجرح والتعديل? (ج5 ص189) فـ(عبدالله بن ناشر)، ولم يترجم له الحافظ في ?تعجيل المنفعة? وهو على شرطه.
(3) …أبورهم: هو أحزاب بن أسيد كما في ?تهذيب التهذيب?.
(4) …كذا في ?المجمع?: (ناشزة)، والظاهر أنه تصحيف عن (ناشر).(53/74)
قال أبوعبدالرحمن: عبدالله بن ناشر قد روى عنه أبوقبيل كما هنا ويحيى ابن أبي عمرو السّيباني(1) فهو مستور الحال يصلح في الشواهد والمتابعات، وكذا ابن لهيعة يصلح في الشواهد والمتابعات.
قال الإمام أحمد رحمه الله (ج2 ص222): ثنا قتيبة بن سعيد ثنا بكر ابن مضر عن ابن الهاد عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أنّ رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم عام غزوة تبوك قام من اللّيل يصلّي فاجتمع وراءه رجال من أصحابه يحرسونه حتّى إذا صلّى وانصرف إليهم فقال لهم: ((لقد أعطيت اللّيلة خمسًا ما أعطيهنّ أحد قبلي أمّا أنا فأرسلت إلى النّاس كلّهم عامّةً، وكان من قبلي إنّما يرسل إلى قومه، ونصرت على العدوّ بالرّعب ولو كان بيني وبينه مسيرة شهر لملئ منه رعبًا، وأحلّت لي الغنائم آكلها، وكان من قبلي يعظّمون أكلها كانوا يحرقونها، وجعلت لي الأرض مساجد وطهورًا أينما أدركتني الصّلاة تمسّحت وصلّيت، وكان من قبلي يعظّمون ذلك إنّما كانوا يصلّون في كنائسهم وبيعهم، والخامسة هي ما هي، قيل: لي سلْ فإنّ كلّ نبيّ قد سأل. فأخّرت مسألتي إلى يوم القيامة، فهي لكم ولمن شهد أن لا إله إلاّ الله)).
الحديث قال البيهقي (ج1 ص367): رواه أحمد ورجاله ثقات. وقال المنذري في "الترغيب والترهيب" (ج4 ص433): رواه أحمد بإسناد صحيح. وقال الحافظ ابن كثير في "التفسير" (ج2 ص255): إسناد جيد قوي ولم يخرجوه.
قال أبوعبدالرحمن: هذا الحديث بهذا السند صحيح لغيره، فإن عمرو بن شعيب إذا صح السند إليه فحديثه حسن كما أفاده الحافظ الذهبي في "الميزان".
__________
(1) …ترجمته في ?تهذيب التهذيب?، قال أحمد: ثقة ثقة. والسّيباني بالسين المهملة المفتوحة.(53/75)
قال ابن حبّان رحمه الله كما في "موارد الظمآن" ص(523): أنبأنا أبويعلى حدثنا هارون بن عبدالله الحمال حدثنا ابن أبي فديك عن عبيدالله ابن عبدالرحمن بن موهب عن عباس بن عبدالرحمن بن ميناء الأشجعي عن عوف بن مالك عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلّم قال: ((أعطيت أربعًا لم يعطهنّ أحد كان قبلنا، وسألت ربّي الخامسة فأعطانيها: كان النّبيّ يبعث إلى قومه ولا يعدوها وبعثت إلى النّاس، وأهيب منّا عدوّنا مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض طهورًا ومساجد، وأحلّ لنا الخمس ولم يحلّ لأحد كان قبلنا، وسألت ربّي الخامسة سألته ألاّ يلقاه عبد من أمّتي يوحّده إلاّ أدخله الجنّة فأعطانيها)).
الحديث في سنده عبيدالله بن عبدالرحمن بن موهب، قال الحافظ في "التقريب": ليس بالقوي. وفيه أيضًا عباس بن عبدالرحمن بن ميناء وقد قال الحافظ في "التقريب": مقبول. يعني إذا توبع وإلاّ فليّن، وما أرى عباسًا سمع من عوف بن مالك، فالحديث منقطع.
قال الإمام أحمد رحمه الله (ج5 ص145): ثنا يعقوب(1) ثنا أبي عن ابن إسحاق حدثني سليمان الأعمش عن مجاهد بن جبر أبي الحجاج عن عبيد بن عمير الليثي عن أبي ذرّ قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: ((أوتيت خمسًا لم يؤتهنّ نبيّ كان قبلي: نصرت بالرّعب فيرعب منّي العدوّ عن مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا، وأحلّت لي الغنائم ولم تحلّ لأحد كان قبلي، وبعثت إلى الأحمر والأسود، وقيل لي: سل تعطه. فاختبأتها شفاعةً لأمّتي وهي نائلة منكم إن شاء الله من لقي الله عزّ وجلّ لا يشرك به شيئًا)). قال الأعمش: فكان مجاهد يرى أنّ الأحمر الإنس، والأسود الجنّ.
__________
(1) …يعقوب: هو ابن إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبدالرحمن بن عوف.(53/76)
الحديث أعاده أحمد ص(148)، وأخرجه أبوداود الطيالسي من طريق شعبة عن واصل عن مجاهد عن أبي ذر به، ومن طريق جرير(1) عن الأعمش عن مجاهد عن عبيد بن عمير عن أبي ذر به.
وأخرجه البخاري في "التاريخ الكبير" (ج5 ص455) من طريق أبي عوانة عن سليمان وهو الأعمش عن مجاهد عن عبيد بن عمير عن أبي ذر رضي الله عنه به، ومن طريق شعبة عن واصل الأحدب عن مجاهد عن أبي ذرّ به.
وأخرجه أبونعيم في "الحلية" (ج3 ص277)، وقال: متن هذا الحديث في خصائص النبي صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم ثابت مشهور متفق عليه من حديث يزيد الفقير عن جابر بن عبدالله وغيره، وحديث عبيد بن عمير عن أبي ذر مختلف في سنده، فمنهم من يرويه عن الأعمش عن مجاهد عن أبي ذر، وتفرد جرير بإدخال عبيد بين مجاهد وأبي ذر عن الأعمش.
وأخرجه أبونعيم (ج5 ص117) عن مجاهد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم .. وسقطت منه جملة: ((وأعطيت الشّفاعة)).
فالحاصل أن الحديث قد جاء على ثلاثة أوجه: متصلاً ومنقطعًا ومرسلاً، وأرجحها الوصل إذ قد وصله ابن إسحاق وجرير وأبوعوانة وزهير بن معاوية(2)، ولم يخالفهم من هو أرجح منهم، فالوصل زيادة يجب قبولها، وقول أبي نعيم رحمه الله: إنه تفرد جرير بإدخال عبيد بين مجاهد وأبي ذر. ليس بصحيح، فقد تابعه ابن إسحاق وأبوعوانة وزهير بن معاوية كما رأيت.
__________
(1) …جرير: هو ابن عبدالحميد، عرف بتلميذه إسحاق بن راهويه كما في ?الحلية?، وقد ذكر في ترجمة (جرير بن عبدالحميد) إسحاق بن راهويه أوّل تلميذ له.
(2) …زهير بن معاوية كما في ?زوائد الزهد لابن المبارك? ص(563).(53/77)
قال الإمام أحمد رحمه الله (ج1 ص250): ثنا علي بن عاصم عن يزيد ابن أبي زياد عن مقسم ومجاهد عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: ((أعطيت خمسًا لم يعطهنّ أحد قبلي، ولا أقوله فخرًا: بعثت إلى كلّ أحمر وأسود فليس من أحمر ولا أسود يدخل في أمّتي إلاّ كان منهم، وجعلت لي الأرض مسجدًا)) بقيّة الخمس كما في المسند (ج1 ص301): ((ونصرت بالرّعب مسيرة شهر وأحلّت لي الغنائم ولم تحلّ لأحد قبلي، وأعطيت الشّفاعة فأخّرتها لأمّتي، فهي لمن لا يشرك بالله شيئًا)).
قال الحافظ ابن كثير في "تفسيره" (ج2 ص255): إسناد جيد ولم يخرجوه.
قال أبوعبدالرحمن: الحديث في سنده يزيد بن أبي زياد وهو القرشي الهاشمي مولاهم وهو ضعيف، والظاهر أن الإمام البخاري أشار في "تاريخه" (ج5 ص455) إلى أن لهذا الحديث علة حيث ذكر أن من الرواة من يرويه عن مجاهد عن عبيد بن عمير، ومنهم من يرويه عن مجاهد عن أبي ذر، ومنهم من يرويه عن مجاهد عن ابن عباس، وقد تقدم أن أرجحها مجاهد عن عبيد بن عمير عن أبي ذر، وهذه الرواية تعتبر منكرة لتفرد يزيد بن أبي زياد بذلك ومخالفته الثقات، والله أعلم.
قال البّزار رحمه الله كما في "كشف الأستار" (ج1 ص157): حدثنا إبراهيم بن إسماعيل بن سلمة بن كهيل(1) ثنا أبي عن أبيه عن سلمة بن كهيل عن مجاهد عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلّم: ((أعطيت خمسًا لم يعطهنّ نبيّ قبلي، بعثت إلى النّاس كافةً الأحمر والأسود، ونصرت بالرّعب يرعب منّي عدوّي على مسيرة شهر، وأطعمت المغنم، وجعلتْ لي الأرض مسجدًا وطهورًا، وأعطيت الشّفاعة فأخّرتها لأمّتي يوم القيامة)).
قال البزار: لا نعلمه يروى عن ابن عمر إلا بهذا الإسناد.
وقد رواه يزيد بن أبي زياد عن مجاهد ومقسم عن ابن عباس.
__________
(1) …: إبراهيم بن إسماعيل بن يحيى بن سلمة بن كهيل، كما في ?الميزان?.(53/78)
قال الهيثمي (ج1 ص261): رواه البزار والطبراني، وفيه إبراهيم بن إسماعيل بن يحيى بن كهيل وهو ضعيف، وذكره ابن حبان في "الثقات" وقال: في روايته عن أبيه بعض المناكير.
قال الإمام أحمد رحمه الله (ج4 ص416): ثنا حسين بن محمد(1) ثنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن أبي بردة عن أبي موسى قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: ((أعطيت خمسًا: بعثت إلى الأحمر والأسود، وجعلت لي الأرض طهورًا ومسجدًا، وأحلّت لي الغنائم ولم تحلّ لمن كان قبلي، ونصرت بالرّعب شهرًا، وأعطيت الشّفاعة وليس من نبيّ إلاّ وقد سأل شفاعةً وإنّي أخبأت شفاعتي ثمّ جعلتها لمن مات من أمّتي لم يشرك بالله شيئًا)).
الحديث قال الحافظ ابن كثير في "تفسيره" (ج1 ص411): تفرد به أحمد، وقال (ج2 ص255): وهذا إسناد صحيح ولم أرهم خرجوه.
قال أبوعبدالرحمن: الحديث على شرط الشيخين.
قال الطبراني في "الأوسط" (ج8 رقم7435): حدثنا محمد بن أبان(2) قال: حدثنا إبراهيم بن سويد الجذوعي قال: حدثنا أبوعامر(3) بن مدرك قال: حدثنا فضيل بن مرزوق عن عطية عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: ((أعطيت خمسًا لم يعطها نبيّ قبلي: بعثت إلى الأحمر والأسود، وإنّما كان النبيّ يبعث إلى قومه، ونصرت بالرّعب مسيرة شهر، وأطعمت المغنم ولم يطعمْها(4) أحد كان قبلي، وجعلت لي الأرض طهورًا ومسجدًا، وليس من نبيّ إلاّ وقد أعطي دعوةً فتعجّلها، وإنّي أخّرت دعوتي شفاعةً لأمّتي، وهي بالغة إن شاء الله من مات لا يشرك بالله شيئًا)).
لم يرو هذا الحديث عن فضيل إلا عامر بن مدرك. اهـ
__________
(1) …حسين بن محمد: هو المؤدب، كما في ?تهذيب التهذيب?.
(2) …محمد بن أبان المديني ثقة مكثر كما في ?تاريخ الإسلام? وفيات(291-300) ص(235).
(3) …الصواب بحذف (أبو) كما في تعقيب الطبراني لهذا الحديث وكما في ?التقريب?.
(4) …كذا في ?الأوسط?، والذي في ?مجمع الزوائد? (ج8 ص269): (يطعمه).(53/79)
قال الهيثمي في "المجمع": رواه الطبراني في "الأوسط" وإسناده حسن. اهـ
عامر بن مدرك بن أبي الصفيراء ليّن الحديث، وعطية العوفي ضعيف ومدلس ولم يصرح بأن شيخه أبا سعيد هو الخدري، فالحديث ضعيف.
قال الترمذي رحمه الله (ج4 ص45): حدثنا العباس العنبري أخبرنا عبدالرزاق عن معمر عن ثابت عن أنس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: ((شفاعتي لأهل الكبائر من أمّتي)).
وفي الباب عن جابر،وهذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه.
الحديث رواه ابن خزيمة ص(270)، وابن حبان كما في "الموارد" ص(645)، والحاكم (ج1 ص69) وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه بهذا اللفظ، إنما أخرجا حديث قتادة عن أنس بطوله، ومن توهم أن هذه لفظة من الحديث فقد وهم، فإنّ هذه الشّفاعة فيها قمع المبتدعة المفرقة بين الشّفاعة لأهل الصغائر والكبائر. اهـ
وقال العجلوني في "كشف الخفاء": إن البيهقي قال: إن سنده صحيح. اهـ
وقال الحافظ ابن كثير في "تفسيره" (ج1 ص487): إسناده صحيح على شرط الشيخين. اهـ
قال أبوعبدالرحمن: الحديث من رواية معمر عن ثابت، وفي "تهذيب التهذيب" عن ابن معين: معمر عن ثابت ضعيف، وفيه أيضًا قال يحيى: وحديث معمر عن ثابت وعاصم بن أبي النجود وهشام بن عروة وهذا الضّرب كثير الأوهام.
وقال الحافظ في ترجمة (معمر) من "مقدمة الفتح" ص(444): قلت: أخرج البخاري من روايته عن الزهري وابن طاوس، إلى أن قال: ولم يخرج من روايته عن قتادة ولا ثابت البناني إلا تعليقًا، ولا من روايته عن الأعمش شيئًا، ولم يخرج له من رواية أهل البصرة شيئًا إلا ما توبعوا عليه واحتج به الأئمة كلهم. اهـ
فعلى هذا فالحديث بهذا السند ضعيف، وليس على شرط الشيخين كما قال الحاكم وابن كثير.(53/80)
ثم وجدت متابعًا لمعمر عن ثابت، قال ابن خزيمة رحمه الله ص(271): حدثنا محمد بن رافع قال: ثنا سليمان بن داود الطيالسي عن الحكم بن خزرج. وثنا علي بن مسلم قال: ثنا أبوداود قال: ثنا الحكم بن خزرج قال: ثنا ثابت عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلّم: ((شّفاعتي لأهل الكبائر من أمّتي)).
الحديث أخرجه الخطيب في "موضح أوهام الجمع والتفريق" (ج2 ص56) ورجاله بهذا السند رجال الصحيح إلا الحكم بن خزرج وقد وثقه ابن معين كما في "الجرح والتعديل" (ج3 ص116).
ومتابعين آخرين أحدهما: الخزرج بن عثمان عند البزار كما في "النهاية" لابن كثير (ج2 ص186)، وقال الهيثمي (ج10 ص378): رواه البزار والطبراني في "الصغير" و"الأوسط"، وفيه الخزرج بن عثمان وقد وثقه ابن حبان، وضعفه غير واحد. اهـ
قلت: وفي "الميزان": قال الدارقطني: يترك.
والثاني: محمد بن عبيدالله العصري كما في "تاريخ البخاري" (ج1 ص170)، وقد ذكره البخاري ولم يذكر فيه جرحًا ولا تعديلاً(1).
- قال الإمام أحمد رحمه الله (ج3 ص213): ثنا سليمان بن حرب ثنا بسطام بن حريث عن أشعث الحدّاني(2) عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: ((شفاعتي لأهل الكبائر من أمّتي)).
__________
(1) …وجاء باسمه هكذا في ?الأنساب? للسمعاني مادة (العصري)، والذي عند ابن حبّان في ?المجروحين? (ج2 ص282) وابن الجوزي في ?الضعفاء والمتروكين? (ج3 ص78)، والذهبي في ?الميزان? و?المغني? وابن حجر في ?اللسان?: (محمد بن عبدالله). قال ابن حبان: منكر الحديث جدًا يروي عن ثابت ما لا يتابع عليه، كأنه ثابت آخر، لا يجوز الاحتجاج به ولا الاعتبار بما يرويه إلا عند الوفاق للاستئناس به. وقال ابن حجر: والظاهر أن اسم أبيه عبيدالله مصغرًا.
(2) …في ?المسند?: (الحراني)، بالراء بعد الحاء وصوابه بالدال المشددة، كما في ?التقريب?.(53/81)
الحديث أخرجه أبوداود (ج5 ص106)، والبخاري في "التاريخ الكبير" (ج2 ص126)، وابن خزيمة ص(271)، والآجري في "الشريعة" ص(338) وعنده سقط بين سليمان بن حرب وأشعث: بسطام بن حريث، والحاكم (ج1 ص69).
والحديث حسن بهذا الإسناد.
- قال ابن خزيمة رحمه الله ص(271): حدثنا محمد بن يحيى قال: ثنا الخليل بن عمر.
وثنا يحيى بن السكن(1) قال : ثنا الخليل بن عمر قال: قال عمر الأبح(2) وهو عمر بن سعيد عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلّم: ((الشّفاعة لأهل الكبائر من أمّتي)) قال محمد بن يحيى(3): ((شفاعتي لأهل الكبائر من أمّتي)).
الحديث أخرجه الحاكم (ج1 ص69)، وهو ضعيف بهذا الإسناد لأن عمر بن سعيد قال فيه أبوحاتم: ليس بقوي. كما في "الجرح والتعديل". وقال البخاري: منكر الحديث. كما في "الميزان".
- قال الإمام أبوبكر محمد بن الحسين الآجري رحمه الله في "الشريعة" ص(338): حدثنا أبوجعفر محمد بن صالح بن ذريح العكبري قال: حدثنا هناد بن السري قال: حدثنا حفص بن غياث عن الأعمش عن يزيد الرقاشي عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: ((إنّما الشّفاعة لأهل الكبائر)).
__________
(1) …يحيى بن السكن، ترجمته في ?الجرح والتعديل? (ج10 ص155) قال أبوحاتم: ليس بالقوي. اهـ ولا يضر فهو متابع للإمام الحافظ محمد بن يحيى الذهلي.
(2) …في الأصل:(الأشج)والصواب ما أثبتناه كما في ?المستدرك?و?الجرح والتعديل?(ج6 ص69).
(3) …في الأصل: (يحيى بن محمد)، والصواب: (محمد بن يحيى)، يعني أنه اختلف شيخاه، فيحيى ابن السكن رواه باللفظ الأول، والذهلي باللفظ الثاني.(53/82)
وقال ص(339): أخبرنا أبوزكريا يحيى بن محمد الجبائي(1) قال: حدثنا شيبان بن فروخ قال: حدثنا أبوأمية الحبطي عن يزيد الرقاشي عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: ((شفاعتي لأهل الكبائر من أمّتي)).
الحديث في سنده يزيد وهو ابن أبان الرقاشي وقد تركه شعبة، وقال النسائي: إنه متروك، وقال أحمد: إنه منكر الحديث، وقال ابن معين في حديثه ضعف. اهـ مختصرًا من "الميزان".
وفيه أيضًا في السند الثاني أبوأمية الحبطي وهو أيوب بن خوط قال البخاري: تركه ابن المبارك وغيره، وروى عباس عن يحيى: لا يكتب حديثه، وقال النسائي والدارقطني وجماعة: متروك، وقال الأزدي: كذّاب. اهـ مختصرًا من الميزان.
هذا وقد جاء الحديث من طريقين آخرين إلى أنس: أحدهما: من حديث عاصم الأحول عنه كما في "المعجم الصغير" للطبراني (ج1 ص160) والسند إليه صالح، إلا شيخ الطبراني خير بن عرفة فينظر في حاله.
والثاني: عن يزيد الرّشْك عنه عند الطبراني في "الصغير" أيضًا (ج2 ص119)، وفيها روح بن المسيب، قال ابن عدي: أحاديثه غير محفوظة. وقال ابن معين: صويلح. وقال ابن حبان: يروي الموضوعات عن الثقات، لا تحل الرواية عنه. اهـ من "الميزان". وشيخ الطبراني مورع بن عبدالله، وشيخه الحسن بن عيسي ينظر في حالهما.
__________
(1) …يحيى بن محمد: ثقة، كما في ?تاريخ بغداد? (ج14 ص229)، وقد ذكر في غير موضع من ?الشريعة?: (الجبائي)، وفي ?تاريخ بغداد?: (الحنائي)، وهو الصحيح كما في ?تبصير المنتبه? ص(292)، نسبة إلى بيع الحناء.(53/83)
قال الحكيم الترمذي(1) في "نوادر الأصول" كما في "الحاوي للفتاوي" للسيوطي: حدثنا صالح بن أحمد بن أبي محمد حدثنا يعلى بن هلال عن ليث عن مجاهد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((إنّما الشّفاعة يوم القيامة لمن عمل الكبائر من أمّتي ثمّ ماتوا عليها وهم في البّاب الأوّل من جهنّم، لا تسودّ وجوههم)) الحديث.
هذا حديث باطل لأن في آخره توقيت عمر الدنيا(2)، وفي السند ليث ابن أبي سليم وهو مختلط، ومؤلف "النوادر" هو محمد بن علي، حافظ، كما في "تذكرة الحفاظ" للذهبي، وقد حمل عليه ابن العديم، وقال: إنه لم يكن من أهل الحديث، ولا رواية له، ولا علم له بطرقه وصناعته -إلى أن قال:- وملأ كتبه الفظيعة بالأحاديث الموضوعة، إلى آخر كلامه رحمه الله. وفي "أسنى المطالب" ص(269): وكذلك كتب الترمذي الحكيم فيها من جملة الموضوع، فلا يعتمد على ما انفرد به، قال ابن أبي جمرة وابن القيّم: إن الترمذي الحكيم شحن كتبه من الموضوع. هذا وأما شيخ الترمذي وشيخ شيخه فلم أجد ترجمتهما.
قال الترمذي رحمه الله (ج4 ص45): حدثنا محمد بن بشار أخبرنا أبوداود الطيالسي عن محمد بن ثابت البناني عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر بن عبدالله قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: ((شفاعتي لأهل الكبائر من أمّتي)) قال محمد بن علي: فقال لي جابر: يا محمد من لم يكن من أهل الكبائر فما له وللشّفاعة.
هذا حديث غريب من هذا الوجه.
__________
(1) …محمد بن علي بن الحسين، حدث عن أبيه، والحكيم صوفي هالك قد كفره بعض الناس في عصره، وهو مترجم في ?السير? (ج13 ص439).
(2) …والله سبحانه وتعالى يقول: 2يسألونك عن السّاعة أيّان مرساها فيم أنت من ذكراها إلى ربّك منتهاها1.(53/84)
الحديث أخرجه ابن خزيمة ص(271)، وأبوداود الطيالسي (ج2 ص228) من "ترتيب المسند"، والآجري في "الشريعة" ص(338)، والحاكم (ج1 ص69)، وأبونعيم في "الحلية" (ج3 ص201) وقال: هذا حديث غريب من حديث جعفر ومحمد بن ثابت لم يروه عنه إلا أبوداود، رواه عن أبي داود عمرو بن علي والمتقدمون من طبقته.
قال أبوعبدالرحمن: الحديث في سنده محمد بن ثابت البناني، وقد قال البخاري: فيه نظر. وقال ابن معين: ليس بشيء. وقال النسائي: ضعيف. اهـ من الميزان.
- قال ابن خزيمة رحمه الله تعالى ص(271): حدثنا أحمد بن يوسف السلمي قال: ثنا عمرو بن أبي سلمة عن زهير وهو ابن محمد عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: ((شفاعتي لأهل الكبائر من أمّتي)).
الحديث أخرجه ابن ماجه (ج2 ص1441): قال حدثني عبدالرحمن بن إبراهيم الدمشقي ثنا الوليد بن مسلم ثنا زهير بن محمد به.
وأخرجه الحاكم (ج1 ص69) وقال: وله شاهد على شرط مسلم ثم ذكر الحديث، وقال: قد احتجا جميعًا بزهير بن محمد العنبري.
أخرجه أيضًا (ج2 ص382) وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. وأشار الذهبي إلى أنّه على شرط مسلم، وهو كما قال الذهبي فإن جعفر بن محمد ليس من رجال البخاري، وقد قال الحاكم (ج1 ص69) إنه على شرط مسلم.
والحديث في سنده زهير بن محمد، والراوي له عند ابن خزيمة والحاكم (ج1 ص69) عمرو بن أبي سلمة، وقد قال الإمام أحمد: إن روايته عن زهير بواطيل. كما في "مقدمة الفتح" ص(43). والراوي له عن زهير عند ابن ماجة والحاكم (ج2 ص382) الوليد بن مسلم، والوليد شامي، ورواية الشاميين عن زهير ضعيفة كما في "تهذيب التهذيب"، فالحديث ضعيف بهذا السند، لكنه يصلح في الشواهد والمتابعات.(53/85)
قال البزار رحمه الله كما في "تفسير ابن كثير" (ج1 ص511): حدثنا محمد بن عبدالرحمن(1) ثنا شيبان بن أبي شيبة حدثنا حرب بن سريج عن أيوب عن نافع عن ابن عمر قال : كنّا نمسك عن الاستغفار لأهل الكبائر حتى سمعنا نبينا محمدًا صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم يقرأ {إنّ الله لا يغفر أنْ يشرك به، ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} وقال: ((أخّرت شفاعتي لأهل الكبائر من أمّتي يوم القيامة)).
قال الهيثمي (ج7 ص5): رواه أبويعلى ورجاله رجال الصحيح غير حرب بن سريج وهو ثقة. اهـ. كذا أطلق الهيثمي رحمه الله توثيق حرب، وفي "الميزان": وثّقه ابن معين وليّنه غيره، قال ابن حبان: يخطئ كثيرًا حتّى خرج عن حدّ الاحتجاج به إذا انفرد. وقال البخاري: روى عنه ابن المبارك، فيه نظر. ثم ذكر له الذهبي هذا الحديث.
- قال الخطيب رحمه الله في "التاريخ" (ج8 ص11): قرأت في كتاب علي بن محمد النعيمي بخطه: حدثني القاضي أبوعبدالله الحسين بن أحمد بن سلمة الأسدي المالكي ببغداد حدثنا أبوالحسين أحمد بن عبدالله بن محمد الزيني البصري -بجيلان من كورة اسفيجاب- حدثنا الصديق بن سعيد الصوناخي -بصوناخ من كورة اسفيجاب- حدثنا محمد بن نصر المروزي المقيم بسمرقند عن يحيى بن يحيى عن مالك عن نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: ((شفاعتي يوم القيامة لأهل الكبائر من أمّتي)).
في "فيض القدير": قال الترمذي في "العلل": سألت محمدًا -يعني البخاري- عن هذا الحديث فلم يعرفه. وفي "الميزان": رواه عن صديق من يجهل حاله أحمد بن عبدالله الزيني فما أدري من وضعه. وأعاده في محل آخر وقال: هذا خبر منكر. اهـ
__________
(1) …بن عبدالرحمن: هو ابن عبدالصمد العنبري أبوعبدالله البصري، قال علي بن الجنيد: كان ثقة.كما في ?تهذيب التهذيب?.(53/86)
قال الإمام محمد بن الحسين الآجري رحمه الله ص(338): وحدثنا أبوالعباس حامد بن شعيب البلخي(1) قال: حدثنا محمد بن بكار(2) قال: حدثنا عنبسة بن عبدالواحد القرشي(3) عن واصل(4) عن أبي عبدالرحمن(5) عن الشعبي عن كعب بن عجرة قال: قلت: يا رسول الله الشّفاعة؟ فقال: ((الشفاعة لأهل الكبائر من أمّتي)).
الحديث رواه الخطيب (ج3 ص40) وقال: قال علي بن عمر: هذا حديث غريب من حديث الشعبي عن كعب بن عجرة تفرد به أميّ بن ربيعة الصيرفي عنه، وتفرد به واصل بن حيان عن أمي، ولا يعلم حدث به عنه غير عنبسة بن عبدالواحد. اهـ
قال أبوعبدالرحمن: رجال الإسناد معروفون، وقد اختلف في واصل أهو ابن حيان أم هو واصل مولى أبي عيينة، وكلاهما محتج به فلا يضر هذا الاختلاف، والله أعلم.
قال أبوالقاسم الطبراني رحمه الله في "المعجم الكبير" (ج11 ص189): حدثنا يحيى بن عثمان بن صالح وعبدالرحمن بن معاوية العتبي قالا: ثنا أبوالطاهر بن السرح قال ثنا موسى بن عبدالرحمن الصنعاني حدثني ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس عن رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم أنّه قال ذات يوم: ((شفاعتي لأهل الكبائر من أمّتي)) قال ابن عباس: السابق بالخيرات يدخل الجنّة بغير حساب، والمقتصد يدخل الجنّة برحمة الله، والظالم لنفسه وأصحاب الأعراف يدخلون الجنّة بشفاعة محمّد.
__________
(1) …بن شعيب: هو حامد بن محمد بن شعيب، وثقه الدارقطني كما في ?تاريخ بغداد?.
(2) …محمد بن بكار: هو ابن الريان أبوعبدالله الرصافي كما في ?تاريخ بغداد? (ج2 ص100) من رجال مسلم كما في ?تهذيب التهذيب?.
(3) …عنبسة بن عبدالواحد: روى له البخاري تعليقًا وأبوداود، وثّقه ابن معين وأبوحاتم.
(4) …واصل: هو مولى ابن عيينة كما في ?النهاية? لابن كثير (ج2 ص200) وهو صدوق كما في ?التقريب?.
(5) …أبوعبدالرحمن: اسمه أميّ بن ربيعة الصيرفي، ثقة كما في ?التقريب?.(53/87)
الحديث في سنده موسى بن عبدالرحمن الصنعاني قال الحافظ الذهبي في "الميزان": معروف ليس بثقة، فإن ابن حبان قال فيه: دجّال وضع على ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس كتابًا في التفسير، ثم ذكر الذهبي أنّ ابن عدي ذكر في ترجمته ثلاثة أحاديث، هذا أحدها، ثم قال: قال ابن عدي: هذه بواطيل.
قال الخطيب رحمه الله في "التاريخ" (ج1 ص416): أخبرنا الأزهري والقاضي أبوالعلاء محمد بن علي قالا: أنبأنا أبوالفتح محمد بن إبراهيم بن محمد بن يزيد الطرسوسي قال: نبأنا الحسن بن عبدالرحمن بن زريق بحمص قال: نبأنا محمد بن سنان الشيرازي قال: نبأنا إبراهيم بن حيان بن طلحة قال : نبأنا شعبة عن الحكم عن عبدالرحمن بن أبي ليلي عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: ((شفاعتي لأهل الذنوب من أمّتي)) قال أبوالدرداء: وإن زنى وإن سرق؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((نعم وإن زنى وإن سرق على رغم أنف أبي الدرداء)).
قال لي الأزهري: سمعت من أبي الفتح في سنة ست وسبعين وثلاثمائة سألت الأزهري عنه، فقال: ثقة. اهـ
الحديث في سنده محمد بن إبراهيم الطرسوسي قال الحاكم: كثير الوهم. ومحمد بن سنان الشيرازي، قال الذهبي في "الذيل": صاحب مناكير. اهـ "فيض القدير".
قال الخطيب رحمه الله في "التاريخ" (ج2 ص146): أخبرنا أبومعاذ عبدالغالب بن جعفر الضراب قال: نبأنا محمد بن إسماعيل الوراق قال: حدثني محمد بن جعفر بن محمد بن الحسن بن جعفر العلوي قال: أنبأنا سليمان بن علي الكاتب قال: حدثني القاسم بن جعفر بن محمد بن عبدالله ابن عمر بن علي بن أبي طالب قال: حدثني أبي عن أبيه عن جده محمد بن عمر عن أبيه عمر بن علي عن أبيه علي بن أبي طالب قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: ((شفاعتي لأمّتي من أحبّ أهل بيتي وهم شيعتي)).(53/88)
الحديث في سنده القاسم بن جعفر، قال الذهبي في "الميزان": روى عن آبائه نسخة أكثرها مناكير، قاله الخطيب. اهـ
قال ابن خزيمة رحمه الله ص(272): حدثنا بمسألة النّبيّ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم للذي ذكرت علي بن سعيد النسائي قال: ثنا أبواليمان قال: ثنا شعيب وهو ابن أبي حمزة عن الزهري قال: ثنا أنس بن مالك عن أم حبيبة عن النّبيّ صلّى الله عليه وعلى آله وسلم أنّه قال: ((أريت ما تلقى أمّتي بعدي، وسفك بعضهم دماء بعض، وسبق ذلك من الله كما سبق على الأمم قبلهم، فسألته أن يوليني شفاعةً يوم القيامة فيهم، ففعل)).
قال أبوبكر: قد اختلف عن أبي اليمان في هذا الإسناد فروى بعضهم هذا الخبر عن أبي اليمان عن شعيب عن عبدالله بن عبدالرحمن بن أبي حسين، وقال بعضهم: عن الزهري.
الحديث أخرجه الحاكم (ج1 ص68) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد على شرط الشيخين ولم يخرجاه، والعلّة عندهما فيه أن أبا اليمان حدّث مرتين، فقال مرّةً: عن شعيب عن الزهري عن أنس، وقال مرّةً: عن شعيب عن ابن أبي حسين عن أنس، وقد قدمنا القول في مثل هذا أنه لا ينكر أن يكون الحديث عند إمام من الأئمة عن شيخين فمرة يحدث به عن هذا ومرة عن ذاك، وقد حدثني أبوالحسن علي بن محمد بن عمر(1) ثنا يحيى ابن محمد بن صاعد ثنا إبراهيم بن هانئ النيسابوري قال: قال لنا أبواليمان الحديث حديث الزهري، والذي حدثتكم عن ابن أبي الحسين غلطت فيه بورقة قلبْتها. قال الحاكم: هذا كالأخذ باليد فإن إبراهيم بن هانئ ثقة مأمون. اهـ وسكت عنه الذهبي.
وأخرجه الإمام أحمد (ج6 ص427-428) من حديث أبي اليمان أنا شعيب بن أبي حمزة عن ابن أبي حسين، وقال: أنا أنس بن مالك عن أم حبيبة، الحديث.
__________
(1) …ترجمته في ?العبر? (ج3 ص64)، وفي ?شذور الذهب? (ج3 ص149) وفيهما أن الخليلي قال: هو أفضل من لقيناه بالري.(53/89)
قال عبدالله -وهو ابن أحمد راوي "المسند" عن أبيه- فقلت لأبي ههنا قوم يحدثون به عن أبي اليمان عن شعيب عن الزهري، قال: ليس هذا من حديث الزهري إنما هو من حديث ابن أبي حسين.
قال أبوعبدالرحمن: الظاهر ترجيح طريق الزهري عن أنس لأن أبا اليمان اعترف أنه غلط كما رواه الحاكم عنه، وقد ساقه الحافظ ابن كثير في "النهاية" (ج2 ص209) من رواية البيهقي من طريق الزهري عن أنس ثم قال: قال البيهقي: هذا إسناد صحيح. وقال الحافظ المنذري في "الترغيب والترهيب" (ج4 ص432): رواه البيهقي في "البعث" وصحّح إسناده.
قال أبوعبدالرحمن: ثم تراجعت عن ترجيح طريق الزهري لما اطلعت على كلام الذهبي في "السير" (ج10 ص323) حيث قال: تعين أن الحديث وهم فيه أبواليمان، وصمّم على الوهم لأن الكبار حكموا بأن الحديث ما هو عند الزهري، والله أعلم.
قال الإمام أحمد رحمه الله (ج5 ص347): ثنا الأسود بن عامر أنا أبوإسرائيل عن حارث بن حصيرة عن ابن بريدة عن أبيه قال: دخل عليّ معاوية فإذا رجل يتكلّم، فقال بريدة: يا معاوية فائذن لي في الكلام. فقال: نعم. وهو يرى أنّه سيتكلم بمثل ما قال الآخر، فقال بريدة: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم يقول: ((إنّي لأرجو أن أشفع يوم القيامة عدد ما على الأرض من شجرة ومدرة)) قال: أفترجوها أنت يا معاوية ولا يرجوها عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه.
الحديث أخرجه ابن أبي الدنيا كما في "النهاية" لابن كثير (ج2 ص192)، وقال الهيثمي (ج10 ص378): رواه أحمد ورجاله وثّقوا على ضعف كثير في أبي إسرائيل الملائي. اهـ
قال أبوعبدالرحمن: أبوإسرائيل قال الحافظ الذهبي في "الميزان": ضعفوه، وقد كان شيعيًا بغيضًا من الغلاة الذين يكفرون عثمان رضي الله عنه. اهـ المراد من "الميزان".(53/90)
وشيخه الحارث بن حصيرة قال الذهبي في "الميزان": قال أبوأحمد الزبيري: كان يؤمن بالرجعة(1). وقال يحيى بن معين: ثقة خشبي، ينسب إلى خشبة زيد بن علي لما صلب عليها. وقال النسائي: ثقة وهو من المنحرفين بالكوفة في التشيع. وقال زنيج(2): سألت جريرًا: أرأيت الحارث بن حصيرة؟ قال: نعم، رأيته شيخًا كبيرًا طويل السكوت يصرّ على أمر عظيم(3). اهـ المراد من "الميزان". فبما أن هذين الراويين غاليان في التشيع والحديث موافق لمذهبهما فالحديث ضعيف.
قال الإمام أبوداود رحمه الله (ج3 ص217): حدثنا أحمد بن صالح حدثنا ابن أبي فديك حدثني موسى بن يعقوب عن ابن عثمان -قال أبوداود: وهو يحيى بن الحسن بن عثمان- عن الأشعث بن إسحاق بن سعد عن عامر بن سعد عن أبيه قال: خرجنا مع رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم من مكّة نريد المدينة، فلمّا كنّا قريبًا من عزور(4) نزل ثمّ رفع يديه فدعا الله ساعةً، ثمّ خرّ ساجدًا فمكث طويلاً ثمّ قام فرفع يديه فدعا الله ساعةً، ثمّ خرّ ساجدًا فمكث طويلاً، ثمّ قام فرفع يديه ساعةً ثمّ خرّ ساجدًا -ذكره أحمد ثلاثًا- قال: ((إنّي سألت ربّي وشفعت لأمّتي فأعطاني ثلث أمّتي، فخررت ساجدًا شكرًا لربّي، ثمّ رفعت رأسي فسألت ربّي لأمّتي فأعطاني ثلث أمّتي، فخررت ساجدًا لربّي شكرًا ثمّ رفعت رأسي فسألت ربّي لأمّتي، فأعطاني الثّلث الآخر فخررت ساجدًا لربّي)).
قال أبوداود: أشعث بن إسحاق أسقطه أحمد بن صالح حين حدثنا به، فحدثني به عنه موسى بن سهل الرملي.
قال الحافظ المنذري في "مختصر السنن" (ج4 ص86): في إسناده موسى ابن يعقوب الزمعي وفيه مقال.
__________
(1) …قوله: (يؤمن بالرجعة) تقدم ص(58).
(2) …زنيج: هو محمد بن عمرو أبوغسان من مشايخ مسلم.
(3) …الأمر العظيم هو الرجعة.
(4) …، ثنية الجحفة، عليها الطريق من المدينة إلى مكة. اهـ ?تاج العروس?.(53/91)
وأقول: الحديث في سنده يحيى بن الحسن بن عثمان الزهري، قال الخزرجي في الخلاصة: عن أشعث بن إسحاق، وعنه موسى بن يعقوب الزمعي وثّقه ابن حبان. اهـ وابن حبان يوثّق المجهولين، ومن ثمّ يقول الحافظ الذهبي في "ميزان الاعتدال": لا يكاد يعرف حاله. ويقول في "الكاشف": وثّق. ولعله يعني توثيق ابن حبان.
قال ابن خزيمة رحمه الله ص(279): حدثنا محمد بن أحمد بن زيد بعبّادان قال: ثنا عمرو بن عاصم قال: ثنا حرب بن سريج البزار قال: قلت لأبي جعفر محمد بن على بن الحسين: جعلت فداك أرأيت هذه الشّفاعة التي يتحدث بها أهل العراق أحقّ هي؟ قال: شفاعة ماذا؟ قال: شفاعة محمّد صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم. قال: حقّ والله، إي والله لحدثني عمّي محمّد ابن علي ابن الحنفية عن علي بن أبي طالب أنّ رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلّم قال: ((أشفع لأمّتي حتّى يناديني ربّي، فيقول: أرضيت يا محمّد)) ثمّ أقبل عليّ فقال: إنّكم تقولون معشر أهل العراق: أرجى آية في كتاب الله سبحانه وتعالى عزّ وجلّ: {قل يا عبادي الّذين أسرفوا على أنفسهم -قرأ إلى قوله- جميعًا} قلت: إنّا لنقول ذلك. قال: ولكنّا أهل البيت نقول: إنّ أرجى آية في كتاب الله تعالى: {ولسوف يعطيك ربّك فترضى}.
الحديث أخرجه أبونعيم في "الحلية" (ج3 ص179) وقال: هذا حديث لم نكتبه إلا من حديث حرب بن سريج(1)، ولا رواه عنه إلا عمرو بن عاصم وهو بصري ثقة.
قال أبوعبدالرحمن: الحديث في سنده حرب بن سريج، قال الحافظ الذهبي في "الميزان": وثقه ابن معين وليّنه غيره، وقال ابن حبان: يخطئ كثيرًا حتى خرج عن حدّ الاحتجاج إذا انفرد. وقال البخاري: روى عنه ابن المبارك وفيه نظر. -إلى أن قال:- قال ابن عدي: في حديثه غرائب وإفرادات وأرجو أنه لا بأس به. اهـ
__________
(1) …في ?الحلية?: (شريح)، وهو تحريف، والصواب: (سريج) بالسين المهملة آخره جيم.(53/92)
وقول البخاري: (فيه نظر) من أردى عبارات التجريح كما في "فتح المغيث" (ج1 ص344)، فعلى هذا فالحديث ضعيف جدًا.
وأما شيخ ابن خزيمة فيبحث عنه إن شاء الله، وهو في "الحلية" محمد بن أحمد بن يزيد وفي "النهاية" لابن كثير (ج2 ص199) بسند البزار: محمد ابن يزيد المداري، فلعله سقط اسم أبيه أو نسب إلى جده، والله أعلم.
قال الإمام أحمد رحمه الله (ج3 ص178): ثنا يونس بن محمد ثنا حرب بن ميمون أبوالخطاب الأنصاري عن النضر بن أنس عن أنس قال حدّثني نبيّ الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: ((إنّي لقائم أنتظر أمّتي تعبر على الصّراط إذ جاءني عيسى فقال: هذه الأنبياء قد جاءتك يا محمّد يشتكون -أو قال: يجتمعون- إليك ويدعون الله عزّ وجلّ أن يفرّق جمع الأمم إلى حيث يشاء الله لغمّ ما هم فيه، والخلق ملجمون في العرق وأمّا المؤمن فهو عليه كالزّكمة، وأمّا الكافر فيتغشّاه الموت، قال: قال: عيسى(1) انتظر حتّى أرجع إليك. قال: فذهب نبيّ الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم حتّى قام تحت العرش، فلقي ما لم يلق ملك مصطفًى ولا نبيّ مرسل فأوحى الله عزّ وجلّ إلى جبريل: اذهب إلى محمّد، فقل: له ارفعْ رأسك سلْ تعط، واشفعْ تشفّع. قال: فشفّعت في أمّتي(2) أن أخرج من كلّ تسعة وتسعين إنسانًا واحدًا. قال: فما زلت أتردّد على ربّي عزّ وجلّ فلا أقوم مقامًا إلاّ شفّعت، حتّى أعطاني الله عزّ وجلّ من ذلك أن قال: يا محمّد أدخل من أمّتك من خلق الله عزّ وجلّ من شهد أنّه لا إله إلاّ الله يومًا واحدًا مخلصًا ومات على ذلك)).
الحديث أخرجه ابن خزيمة ص(254)، وقال الحافظ ابن كثير في "النهاية" (ج2 ص191): وقد حكم الترمذي بالحسن لهذا الإسناد. اهـ
__________
(1) …في ?النهاية? لابن كثير (ج2 ص191): ((قال: يا عيسى))، وهو الأقرب للسياق.
(2) …في ?التوحيد? لابن خزيمة: ((إلى أن أخرج)).(53/93)
قال أبوعبدالرحمن: هو حديث حسن لأنّ حرب بن ميمون صدوق كما في "التقريب"، وبقية رجاله رجال الصحيح.
قال مسلم رحمه الله (ج4 ص2301): حدثنا هارون بن معروف ومحمد بن عباد -وتقاربا في لفظ الحديث والسياق لهارون- قالا: حدثنا حاتم بن إسماعيل عن يعقوب بن مجاهد أبي حزرة عن عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت قال: خرجت أنا وأبي نطلب العلم في هذا الحيّ من الأنصار قبل أن يهلكوا، فكان أوّل من لقينا أبا اليسر صاحب رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم، إلى أن قال ص(2303): ثمّ مضينا حتّى أتينا جابر بن عبدالله في مسجده، إلى أن قال ص(2307): قال جابر فقمت فأخذت حجرًا فكسرته وحسرته فانذلق لي، فأتيت الشّجرتين فقطعت من كلّ واحدة منهما غصنًا ثمّ أقبلت أجرّهما حتّى قمت مقام رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم، أرسلت غصنًا عن يميني وغصنًا عن يساري ثمّ لحقته، فقلت: قد فعلت يا رسول الله فعمّ ذاك؟ قال: ((إنّي مررت بقبرين يعذّبان فأحببت بشفاعتي أن يرفّه عنهما ما دام الغصنان رطبين)).(53/94)
هذا الحديث يصلح دليلاً على الشّفاعة لأهل الكبائر لو كان هو وحديث ابن عباس المتفق عليه قصة واحدة، إذ في حديث ابن عباس: ((إنّهما ليعذّبان في كبير، أمّا أحدهما فكان يمشي بالنّميمة، وأمّا الآخر فكان لا يستتر من بوله))، لكن قال الحافظ في "الفتح" (ج1 ص319): وأما ما رواه مسلم في حديث جابر الطويل المذكور في أواخر الكتاب أنه الذي قطع الغصنين فهو في قصة أخرى غير هذه (يعني القصة التي ذكرت في حديث ابن عباس) فالمغايرة بينهما من أوجه، منها: أن هذه كانت في المدينة وكان معه صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم جماعة، وقصة جابر كانت في السفر، وكان خرج لحاجته فتبعه جابر وحده، ومنها: أن في هذه القصة أنه صلى الله عليه وعلى آله وسلّم غرس الجريدة بعد أن شقها نصفين كما في الباب الذي بعد هذا من رواية الأعمش، وفي حديث جابر أنه صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم أمر جابرًا بقطع غصنين من شجرتين كان النّبي صلى الله عليه وعلى آله وسلّم استتر بهما عند قضاء حاجته، ثم أمر جابرًا فألقى الغصنين عن يمينه وعن يساره حيث كان النبي صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم جالسًا، وأن جابرًا سأله عن ذلك فقال: ((إنّي مررت بقبرين يعذبان، فأحببت بشفاعتي أنْ يرفع(1) عنهما ما دام الغصنان رطبين))، ولم يذكر في قصة جابر أيضا السبب الذي كانا يعذبان به، ولا الترجي الآتي في قوله: ((لعله)) فبان تغاير حديث ابن عباس وحديث جابر، وأنّهما كانا في قصتين مختلفتين، ولا يبعد تعدد ذلك. اهـ
__________
(1) …تقدم: ((أنْ يرفّه عنهما)) من الترفيه.(53/95)
قال الطبراني رحمه الله في "المعجم الصغير" (ج2 ص95 رقم1011): حدثنا محمد بن عون السيرافي بالبصرة حدثنا أبوالأشعث أحمد بن المقدام حدثنا أصرم بن حوشب حدثنا قرة بن خالد عن أبي جعفر محمد بن علي ابن الحسين قال: قلت لعبدالله بن جعفر بن أبي طالب: حدثْنا شيئًا سمعته من رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم -فذكر الحديث وفيه- قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلّم: ((لا يؤمن أحدكم حتّى يحبّكم بحبي، أترجون أنْ تدخلوا(1) الجنّة بشفاعتي، ولا يدخلها بنو عبدالمطّلب)).
لم يروه عن قرة إلا أصرم، تفرد به أبوالأشعث.
الحديث أخرجه الحاكم (ج3 ص568)، وقال الذهبي في "التلخيص": أظنّه موضوعًا، فإسحاق متروك، وأصرم متهم بالكذب. اهـ وإسحاق هو شيخ أصرم عند الحاكم.
وقال في ترجمة أصرم في الميزان: هالك، وقال يحيى: كذّاب خبيث. وقال البخاري ومسلم والنسائي: متروك. إلى آخر أقوال الأئمة فيه. وإنما ذكرت الحديث لأبيّن حاله.
قال ابن أبي حاتم كما في "تفسير ابن كثير" (ج4 ص16): حدثنا أبي حدثنا محمد بن الوزير الدمشقي حدثنا الوليد بن مسلم حدثنا عبدالرحمن ابن زيد بن أسلم عن أبيه عن عطاء بن يسار عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلّم: ((إنّ الله تبارك وتعالى خيّرني بين أنْ يغفر لنصف أمّتي وبين أن يجيب شفاعتي، فاخترت شفاعتي، ورجوت أن تكفّر الجمّ لأمّتي، ولولا الّذي سبقني إليه العبد الصّالح لتعجّلت فيها دعوتي، إنّ الله تعالى لمّا فرّج عن إسحاق كرب الذّبح، قيل له: يا إسحاق سلْ تعط. فقال: أما والّذي نفسي بيده لأتعجّلنّها قبل نزعات الشّيطان، اللّهم من مات لا يشرك بك شيئًا فاغفرْ له وأدخله الجنّة)).
__________
(1) …بالأصل: ((تدخلون))، والصواب ما أثبتناه كما في ?مستدرك الحاكم?.(53/96)
قال الحافظ ابن كثير: هذا حديث غريب منكر، وعبدالرحمن بن زيد بن أسلم ضعيف الحديث، وأخشى أنْ يكون في الحديث زيادة مدرجة، وهي قوله: ((إنّ الله تعالى لمّا فرّج عن إسحاق .. إلى آخره))، والله أعلم. اهـ
وهذا الحديث أيضًا كتبته لبيان ضعفه لا للاحتجاج به.
قال أبونعيم رحمه الله في "الحلية" (ج1 ص219): حدثنا أبومحمد بن حيان حدثنا محمد بن الحسن الصوفي ثنا محمد بن منصور الطوسي ثنا حمزة ابن زياد الطوسي ثنا ثويب أبوحامد -قال: سألت عنه بقية فقال: هذا مرابط منذ ستين سنة- عن خالد بن معدان عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلّم: ((نعْم الرّجل أنا لشرار أمّتي)) فقالوا: فكيف أنت لخيارهم؟ قال: ((أمّا خيارهم فيدخلون الجنّة بصلاحهم، وأمّا شرارهم فيدخلون الجنّة بشفاعتي)).
الحديث أعاده أبونعيم (ج10 ص219) سندًا ومتنًا، وأخرجه الطبراني في "الكبير" (ج8 ص115)، وقال الهيثمي (ج10 ص377): رواه الطبراني في "الكبير" وفيه جميع بن ثوب(1) الرجبي -وهو بفتح الجيم وكسر الميم على المشهور، وقيل بالتصغير- قال فيه البخاري: منكر الحديث. وقال النسائي: متروك الحديث. وقال ابن عدي: رواياته تدل على أنّه ضعيف. وبقية رجاله رجال الصحيح. اهـ
والحديث بسند أبي نعيم فيه أيضًا حمزة بن زياد الطوسي، قال الذهبي: تركه أحمد وغيره، وقال ابن معين: ليس به بأس. قال مهنّأ: سألت أحمد عن حمزة الطوسي، فقال: لا يكتب عن الخبيث. اهـ المراد من "الميزان" وليس هو عند الطبراني من طريقه.
__________
(1) …في ?الحلية?: (ثويب). وفي ?مجمع الزوائد? و?تاريخ البخاري? (ج1 ص243)، و?الجرح والتعديل? (ج2 ص550): (جميع بن ثوب)، ولعله الصواب.(53/97)
قال ابن خزيمة رحمه الله ص(289): حدثنا أبوحفص عمرو بن علي والعباس بن عبدالعظيم العنبري وعمر بن حفص الشيباني وأبوالأزهر حوثرة ابن محمد قالوا: ثنا حماد بن سلمة قال: ثنا عمران العمي عن الحسن عن أنس بن مالك عن النّبي صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم قال:((ما زلت اشفع إلى ربّي ويشفّعني حتّى قلت: أي ربّي شفّعْني فيمن قال: لا إله إلاّ الله. فقال: يا محمّد هذه ليستْ لك ولا لأحد، وعزّتي وجلالي ورحمتي لا أدع في النّار أحدًا قال: لا إله إلاّ الله)) هذا حديث عمرو بن علي، وقال عمر بن حفص: ((فقال إنّما ذلك لي، وعزّتي وجلالي ورحمتي لا أدع في النّار عبدًا قال: لا إله إلاّ الله)) وقال أبوالأزهر عن عمران العمي: وقال: ((ولا لأحد، هي لي فلا يبقى في النّار أحد قال: لا إله إلاّ الله إلاّ خرج منها)).
الحديث أخرجه البزار كما في "تفسير ابن كثير" (ج2 ص191)، وقال البزار: لا نعلمه يروى إلاّ بهذا الإسناد. قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: ورواه ابن أبي الدنيا عن أبي حفص الصيرفي(1) عن حماد بن مسعدة به. اهـ ورواه أبونعيم في "أخبار أصبهان" (ج1 ص234).
والحديث ضعيف بهذا السند لأن في سنده عمران وهو ابن داور ولكنه يصلح حديثه في الشواهد والمتابعات.
تنبيه: في "كتاب التوحيد": حماد بن سلمة. وفي "البزار" كما في "تفسير ابن كثير": عمرو بن مسعدة. وفي "تفسير ابن كثير" وعزاه لابن أبي الدنيا: حماد بن مسعدة، وكذا في "أخبار أصبهان"، والظاهر أنه حماد بن مسعدة. والله أعلم.
__________
(1) …هو عمرو بن علي الفلاس الحافظ.(53/98)
في "زوائد الزهد لابن المبارك" ص(563): حدثنا الحسين(1) أخبرنا أبومعاوية أخبرنا موسى بن عبيدة عن ابن عبدالرحمن عن ابن عياش(2) الزرقي عن أنس بن مالك عن أم سلمة زوج النّبي صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم:(( أريت ما تعمل أمّتي بعدي، فأخّرت(3) لهم الشّفاعة إلى يوم القيامة)).
الحديث في سنده موسى بن عبيدة وهو الربذي ضعيف جدًا، قال أحمد: لا يكتب حديثه. وأما ابن أبي عياش فهو النعمان بن أبي عياش الزرقي، وابن عبدالرحمن هو محمد بن عبدالرحمن أبوالأسود الملقب بيتيم عروة، والله أعلم.
__________
(1) …القائل: (حدثنا الحسين) هو يحيى بن محمد بن صاعد الحافظ، وحسين هو ابن الحسن المروزي حافظ أيضًا.
(2) …كذا بالأصل، وصوابه: (ابن أبي عياش) كما في ?تهذيب التهذيب?.
(3) …في التعليق: (الكلمة غير واضحة)، وفي ?مجمع الزوائد? (ج10 ص371): ((فاخترت))، وكذا في ?كنْز العمال? (ج14 ص402) لكن فيه: عن أنس عن سليم.(53/99)
قال ابن عبدالبر رحمه الله في "التمهيد" (ج1 ص123): حدثنا أبوعثمان سعيد بن سيد قال: حدثنا أبوعيسى يحيى بن عبيدالله بن أبي عيسى قال: حدثنا أبوعثمان سعيد بن فحلون(1) قال: حدثنا عبدالرحمن بن عبيد البصري قال: حدثنا ابن أبي الشوارب القرشي الأموي قال: أخبرنا عبدالقاهر بن السري السلمي قال: حدثنا ابن لكنانة(2) بن عباس بن مرداس السلمي عن أبيه عن جده أن النبي صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم دعا لأمّته عشية عرفة بالمغفرة فأجابه الله: إنّي قد فعلت، إلاّ ظلم بعضهم بعضًا. فلما كان غداة المزدلفة أعاد الدّعاء فقال: ((يا ربّ إنّك قادر أنْ تثيب المظلوم خيرًا من مظلمته، وتعفو عن الظّالم)) فأجابه: إنّي قد فعلْت، ثم التفت إلينا رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم متبسمًا، فقلنا: يا رسول الله ما الّذي أضحكك؟ قال: ((إنّ إبليس عدوّ الله لمّا علم أنّ الله عزّ وجلّ قد شفّعني في أمّتي، أهوى يدعو بالويل والثبور، ويحثو التّراب على رأسه)).
الحديث أورده ابن الجوزي في "الموضوعات" (ج2 ص214) وقال ص(216): قال ابن حبان: كان(3) منكرًا فلا أدري التخليط منه أو من ابنه، ومن أيّهما كان فقد سقط الاحتجاج به. اهـ
وقال الحافظ الذهبي في "الميزان": عبدالله بن كنانة بن العباس بن مرداس الأسلمي(4) عن أبيه عن جده في الدّعاء عشية عرفة لأمته، وعنه عبدالقاهر ابن السري فقط، قال البخاري: لم يصحّ حديثه. اهـ
وحكم الحافظ في "التقريب" على عبدالله بن كنانة وأبيه أنّهما مجهولان.
__________
(1) …ترجمته في ?تاريخ علماء الأندلس? لابن الفرضي ص(168).
(2) …التمهيد?، وصوابه: (ابن كنانة) كما في ?الميزان? وغيره.
(3) …الذي في ?القول المسدد? ص(50): أن ابن الجوزي نقل عن ابن حبان أنه قال: إن كنانة منكر الحديث.
(4) …كذا في ?الميزان? وفي نسخة: (السلمي). وهو الصواب كما في ترجمته من ?التقريب?.(53/100)
قال ابن عدي في "الكامل" (ج5 ص1801): حدثنا محمد بن أحمد ابن هارون ثنا أحمد بن الهيثم ثنا أبوقتادة عمرو بن مخرّم ثنا ابن عيينة عن يونس بن عبيد عن الحسن عن أمه عن أم سلمة قالت: قال لي رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: ((يا أمّ سلمة اعملي ولا تتكلي فإنّ شفاعتي للهالكين من أمّتي)).
ثم أخرجه أيضًا من طريق أبي عروبة ثنا أبورفاعة ثنا أيوب بن سليمان بوادي القرى ثنا محمد بن دينار عن يونس عن الحسن به.
وقال: وهذا الإسناد عن ابن عيينة عن يونس بن عبيد باطل لا يرويه إلا عمرو بن المخرم هذا، وهذا الإسناد الثاني أيضًا وبهذا الحديث غير محفوظ أيضًا. اهـ من ترجمة (عمرو بن المخرم). والحديث ذكره الذهبي في "الميزان" في ترجمته.
قال أبوعبدالرحمن: وقال ابن عدي في "الكامل" عند ترجمة (عمرو بن المخرم): روى عن ابن عيينة وغيره بواطيل يكنى أبا قتادة. اهـ
خاتمة الفصل
قد يقدح بعض المتعصبة من ذوي الأهواء في هذه الأحاديث، ولو رجعوا إلى كتب أئمتهم لوجدوا فيها ما يؤيد ما في كتب السنة، ففي "أمالي أبي طالب" ص(443) وهو من أئمة الشيعة المبتدعة حديث أنس بسنده: ((لكلّ نبيّ دعوة وإنّي اختبأت دعوتي شفاعة لأمّتي يوم القيامة)).
وفيها أيضًا من حديث ابن عباس أنّ رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلّم قال: ((ما من عبد مؤمن يسأل الله لي الوسيلة في الدّنيا إلاّ كنت له شهيدًا أو شفيعًا يوم القيامة)) في سنده موسى بن عبيدة الربذي وهو ضعيف.
وفيها أيضًا من حديث جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلّم: ((من قال حين يسمع النّداء: اللّهمّ ربّ هذه الدّعوة التّامة والصّلاة القائمة، آت محمّدًا الوسيلة والفضيلة وابعثه مقامًا محمودًا الّذي وعدته، حلّت له الشّفاعة)).(53/101)
فهذه الأحاديث بعمومها تشمل أهل الكبائر وغيرهم من المسلمين، وأما حديث: ((ليستْ شفاعتي لأهل الكبائرمن أمّتي)) الذي في "العقد الثمين"، ويلقن به أبناء الشيعة العقيدة المعتزلية، فهو حديث موضوع باطل، وفي "أسنى المطالب في أحاديث مختلفة المراتب" ص(122): أنه من أكاذيب المعتزلة.
فصل في شفاعته صلى الله عليه وعلى آله وسلم لأناس قد أمر بهم إلى النار
قال الحافظ أبوبكر بن أبي الدنيا في "كتاب الأهوال" كما في "النهاية" لابن كثير (ج2 ص181): وثنا إسماعيل بن عبيد بن أبي كريمة حدثني محمد ابن سلمة عن أبي عبدالرحيم(1) حدثني زيد بن أبي أنيسة عن المنهال بن عمرو عن عبدالله بن الحارث عن أبي هريرة وذكر حديثًا عن أبي هريرة، ثم قال زيد بن أبي أنيسة كما في ص(182): ثم قال المنهال: حدثني عبدالله بن الحارث أيضًا أن النبي صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم قال: ((أمرّ بقوم من أمّتي قد أمر بهم إلى النّار، قال: فيقولون: يا محمّد ننشدك الشّفاعة، قال: فآمر الملائكة أن يقفوا بهم، قال: فأنطلق وأستاذن على الربّ عزّ وجلّ فيأذن لي فأسجد وأقول: يا ربّ قوم من أمّتي قد أمر بهم إلى النّار. قال: فيقول لي: انطلقْ فأخرجْ منهم. قال: فأنطلق وأخرج منهم من شاء الله أن أخرج، ثمّ ينادي الباقون: يا محمّد ننشدك الشّفاعة فأرجع إلى الرّبّ فأستأذن. فيؤذن لي فأسجد، فيقال لي: ارفع رأسك وسلْ تعطه واشفعْ تشفّعْ. فأثني على الله بثناء لم يثن عليه أحد، أقول: ثمّ قوم من أمّتي قد أمر بهم إلى النّار. فيقول: انطلق فأخرجْ منهم. قال: فأقول: يا ربّ أخرج منهم من قال: لا إله إلاّ الله، ومن كان في قلبه حبّة من إيمان؟ قال: فيقول: يا محمّد ليستْ تلك لك، تلك لي. قال: فأنطلق وأخرج من شاء الله أن أخرج، قال: ويبقى قوم فيدخلون النّار فيعيّرهم أهل النّار، فيقولون: أنتم كنتم تعبدون الله ولا تشركون به أدخلكم النّار،
__________
(1) …خالد بن أبي يزيد الحراني كما في ?التقريب?.(53/102)
قال: فيحزنون لذلك، قال: فيبعث الله ملكًا بكفّ من ماء فينضح بها في النّار، ويغبطهم أهل النّار، ثمّ يخرجون ويدخلون الجنّة فيقال: انطلقوا فتضيّفوا النّاس. فلو أنّهم جميعهم نزلوا برجل واحد كان لهم عنده سعة ويسمّون المحرّرين)).
قال الحافظ ابن كثير: وهذا يقتضي تعداد هذه الشفاعة فيمن أمر بهم إلى النّار ثلاث مرات ألاّ يدخلوها، ويكون معنى قوله: ((أخرجْ)) أي أنقذ، بدليل قوله بعد ذلك: ((ويبقى قوم فيدخلون النّار))، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب. اهـ
الحديث رجاله رجال الصحيح إلا إسماعيل بن عبيد بن أبي كريمة وقد وثّقه الدارقطني، وقال الجعابي: يحدث عن ابن سلمة بعجائب. كما في "التهذيب" و"الميزان"، ويخشى أيضًا من إرساله، فيحتمل أن يكون عبدالله ابن الحارث سمعه من أبي هريرة، ويحتمل أن يكون أرسله، والله أعلم.
قال أبونعيم رحمه الله في "الحلية" (ج4 ص108): حدثنا محمد بن المظفر بن موسى الحافظ ثنا أبوحفص أحمد بن محمد بن عمر بن حفص الأوصابي ثنا أبي ثنا ابن حمير ثنا الثوري ثنا الأعمش عن شقيق عن عبدالله قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: {ليوفّيهم أجورهم ويزيدهم من فضله} قال: ((أجورهم: يدخلهم الجنّة، ويزيدهم من فضله: الشّفاعة لمن وجبتْ له النّار ممن صنع إليهم المعروف في الدّنيا)).
غريب من حديث الأعمش، عزيز عجيب من حديث الثوري، تفرد به إسماعيل بن عبيد الكندي عن الأعمش، وعن إسماعيل بقية بن الوليد وحديث الثوري لم نكتبه إلاّ عن هذا الشيخ.
أما رجال الإسناد: فمحمد بن المظفر: حافظ كما وصفه أبونعيم، وله ترجمة في "تذكرة الحفاظ" (ج2 ص980)، وفي "تاريخ بغداد" (ج3 ص262).
وأحمد بن محمد: لم أقفْ على ترجمته، وقوله: ثنا أبي، الظاهر أنه يعني جده، فقد ذكر الحافظ في "تهذيب التهذيب" في ترجمة عمر بن حفص أنه روى عن محمد بن حمير.
وعمر: مستور الحال يصلح حديثه في الشواهد والمتابعات.(53/103)
وبقية رجال الإسناد من محمد بن حمير إلى عبدالله وهو ابن مسعود رضي الله عنه رجال الصحيح.
وسيأتي قول الحافظ ابن كثير رحمه الله: وهذا إسناد لا يثبت. وسيأتي هذا الحديث برقم (212).
فصل في شفاعته صلى الله عليه وعلى آله وسلم لأناس يدخلون الجنة بغير حساب
قال الإمام أحمد رحمه الله (ج1 ص6): ثنا هاشم بن القاسم قال: ثنا المسعودي قال: ثني بكير بن الأخنس عن رجل عن أبي بكر الصديق قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: ((أعطيت سبعين ألفًا يدخلون الجنّة بغير حساب، وجوههم كالقمر ليلة البدر وقلوبهم على قلب رجل واحد، فاستزدت ربّي عزّ وجلّ فزادني مع كلّ واحد سبعين ألفًا)) قال أبوبكر رضي الله عنه: فرأيت أنّ ذلك آت على أهل القرى ومصيب من حافّات البوادي.
الحديث ضعيف لأن في سنده مبهمًا. والمسعودي وهو عبدالرحمن بن عبدالله مختلط، وسماع أبي النضر هاشم بن القاسم منه بعد ما اختلط كما في "تهذيب التهذيب"(1).
قال الإمام أحمد رحمه الله (ج1 ص197): ثنا عبدالله بن بكر السهمي ثنا هشام بن حسان عن القاسم بن مهران عن موسى بن عبيد عن ميمون ابن مهران عن عبدالرحمن بن أبي بكر أنّ رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم قال: ((إنّ ربّي أعطاني سبعين ألفًا من أمّتي يدخلون الجنّة بغير حساب)) فقال عمر: يا رسول الله فهلاّ استزدته. قال: ((قد استزدته فأعطاني مع كلّ رجل سبعين ألفًا)) قال عمر: فهلاّ استزدته. قال: ((قد استزدته فأعطاني هكذا)) وفرّج عبدالله بن بكر بين يديه، وقال عبدالله: وبسط باعيه وحثا عبدالله، و قال هشام: وهذا من الله لا يدرى ما عدده.
__________
(1) …الضابط في ذلك أن من سمع منه ببغداد فبعد الاختلاط، أما هو نفسه فحسن الحديث، ومن سمع من بالكوفة والبصرة فسماعه جيد، فأبوالنضر وعاصم سمعا منه بعد الاختلاط، وأحاديثه عن الأعمش مقلوبة، وكان أعلم الناس بعلم ابن مسعود رضي الله عنه.(53/104)
الحديث في سنده موسى بن عبيد وهو مجهول الحال يصلح في الشواهد والمتابعات، وبقية رجاله رجال الصحيح.
قال الترمذي رحمه الله (ج4 ص540): حدثنا الحسن بن عرفة حدثنا إسماعيل بن عياش عن محمد بن زياد الألهاني قال: سمعت أبا أمامة يقول: سمعْت رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم يقول: ((وعدني ربّي أنْ يدخل الجنّة من أمّتي سبعين ألفًا لا حساب عليهم ولا عذاب مع كلّ ألف سبعون ألفًا وثلاث حثيات من حثياته)).
هذا حديث حسن غريب.
الحديث أخرجه ابن ماجه (ج2 ص1433)، وأحمد (ج5 ص268)، والبيهقي في "الأسماء والصفات" ص(329).
وهو حديث حسن كما قال الترمذي لأن شيخ إسماعيل بن عياش حمصي، ورواية إسماعيل عن أهل الشام مقبولة. وقال الحافظ ابن كثير في "تفسيره" (ج1 ص394): وهذا إسناد جيد.
وقال الحافظ ابن القيم في "حادي الأرواح" ص(100): وإسماعيل بن عياش إنما يخاف من تدليسه وضعفه، فأما تدليسه فقد قال الطبراني حدثنا أحمد بن المعلى الدمشقي والحسين بن إسحاق التسْتري قالا: حدثنا هشام ابن عمار قال: حدثنا إسماعيل بن عياش قال: أخبرني محمد بن زياد الألهاني قال: سمعت أبا أمامة فذكره.
وأما ضعفه فإنما هو في غير حديث الشاميين، وهذا من روايته عن الشاميين، وأيضًا فقد جاء من غير طريقه، ثم ذكره من طريق أبي اليمان الهوزني الآتي:(53/105)
- قال الإمام أحمد رحمه الله (ج5 ص250): ثنا عصام بن خالد حدثني صفوان بن عمرو عن سليم بن عامر الخبائري(1) وأبي اليمان الهوزني عن أبي أمامة أنّ رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم قال: ((إنّ الله عزّ وجلّ وعدني أن يدخل من أمّتي الجنّة سبعين ألفًا بغير حساب)) فقال يزيد بن الأخنس السّلميّ: والله ما أولئك في أمّتك إلاّ كالذباب الأصهب في الذّبّان. فقال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: ((كان ربّي عزّ وجلّ قد وعدني سبعين ألفًا مع كلّ ألف سبعون ألفًا، وزادني ثلاث حثيات)) قال: فما سعة حوضك يا نبيّ الله؟ قال: ((كما بين عدن إلى عمان وأوسع وأوسع -يشير بيده- قال: فيه مثعبان(2) من ذهب وفضّة)) قال: فما حوضك يا نبيّ الله؟ قال: ((أشدّ بياضًا من اللّبن وأحلى مذاقةً من العسل وأطيب رائحةً من المسك، من شرب منه لم يظمأ بعدها ولم يسودّ وجهه أبدًا)).
قال عبدالله: وجدت هذا الحديث في كتاب أبي بخط يده وقد ضرب عليه، فظننت أنه قد ضرب عليه لأنه خطأ، إنما هو عن زيد عن أبي سلام عن أبي أمامة.
قال الحافظ ابن كثير في "تفسيره": وهذا أيضًا إسناد حسن. وقال الحافظ الهيثمي (ج10 ص363): رواه أحمد والطبراني، ورجال أحمد وبعض أسانيد الطبراني رجال الصحيح.
فائدة: أبواليمان الهوزني، لم يذكر الحافظ في "تعجيل المنفعة" راويًا عنه سوى صفوان بن عمرو، وقال الحافظ الذهبي في "الميزان": عامر بن عبدالله ابن يحيي أبواليمان الهوزني عن أبي أمامة، ما علمت له راويًا سوى صفوان ابن عمرو، وثقه ابن حبان. اهـ
__________
(1) …في الأصل: (الخبائزي)، والصواب ما أثبتناه، نسبة إلى (الخبائر)، وهو بطن من (الكلاع) كما في التعليق على ?الخلاصة?.
(2) …ثعبْت الماء: فجرّته. والثّعْب: سبيل الماء في الوادي وجمعه ثعبان.(53/106)
أقول: وقاعدة ابن حبان معروفة أنه يوثق المجهولين كما ذكره الحافظ في مقدمة "لسان الميزان"، والحافظ ابن عبدالهادي في "الصارم المنكي" ص(84 -85)، وذكر أمثلة لمن يوثقه ابن حبان ثم يقول: لا أدري من هو.
ولا تضر الحديث جهالة أبي اليمان لأنه مقرون ومتابع كما في "مسند أحمد". وأخرجه الطبراني في "الكبير" (ج8 ص181) فقال: حدثنا بكر بن سهل ثنا عبدالله بن صالح حدثني معاوية بن صالح عن سليم بن عامر عن أبي أمامة عن رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم، وذكر الحديث.(53/107)
قال الإمام أحمد رحمه الله (ج4 ص16): ثنا إسماعيل بن إبراهيم حدثنا هشام الدستوائي عن يحيى بن أبي كثير عن هلال بن أبي ميمونة عن عطاء ابن يسار عن رفاعة الجهني قال: أقبلنا مع رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم حتّى إذا كنّا بالكديد -أو قال: بقديد- فجعل رجال منّا يستأذنون إلى أهليهم فيأذن لهم، فقام رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال: ((ما بال رجال يكون شقّ الشّجرة الّتي تلي رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم أبغض إليهم من الشّقّ الآخر فلم نر عند ذلك من القوم إلاّ باكيًا)) فقال رجل(1): إنّ الّذي يستأذنك بعد هذا لسفيه. فحمد الله وقال حينئذ: ((أشهد عند الله لا يموت عبد يشهد أن لا إله إلاّ الله وأنّي رسول الله صدقًا من قلبه، ثمّ يسدّد إلاّ سلك في الجنّة)). قال: ((وقد وعدني ربّي عزّ وجلّ أن يدخل من أمّتي سبعين ألفًا لا حساب عليهم ولا عذاب، وإنّي لأرجو أن لا يدخلوها حتّى تبوّءوا أنتم ومن صلح من آبائكم وأزواجكم وذرّيّاتكم مساكن في الجنّة)). وقال: ((إذا مضى نصف اللّيل -أو قال: ثلثا اللّيل- ينْزل(2) الله عزّ وجلّ إلى السّماء الدّنيا فيقول: لا أسأل عن عبادي أحدًا غيري، من ذا يستغفرني فأغفر له؟ من الّذي يدعوني أستجيب له؟ من ذا الّذي يسألني أعطيه؟ حتّى ينفجر الصّبح)).
الحديث أخرجه الطيالسي (ج1 ص27) من "ترتيب المسند"، وابن خزيمة ص(132)، وابن المبارك في "الزهد" ص(548)، ويعقوب الفسوي في "المعرفة والتاريخ" (ج1 ص318)، وابن حبان (ج1 ص253) من "ترتيب الصحيح"، والطبراني في "الكبير" (ج5 ص43).
__________
(1) …الرجل هو أبوبكر كما في ?مسند أحمد? من طريق أخرى إلى يحيى بن أبي كثير.
(2) …نؤمن بأن الله ينْزل نزولاً يليق بجلاله بلا تمثيل ولا تعطيل.(53/108)
والحديث على شرط الشيخين، ويحيى بن أبي كثير وإن كان مدلسًا فقد صرّح بالتحديث عند أحمد في بعض الطرق، وعند ابن خزيمة، ويعقوب الفسوي، وهذا الحديث من الأحاديث التي ألزم الدارقطنيّ البخاريّ ومسلمًا أن يخرجاها.
وقال الحافظ ابن كثير في "النهاية" (ج2 ص108): قال الحافظ الضياء: هذا عندي على شرط الصحيح.
قال الإمام أحمد رحمه الله (ج2 ص359): حدثنا يحيى بن أبي بكير ثنا زهير بن محمد عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة عن رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم أنّه قال: ((سألت ربّي عزّ وجلّ فوعدني أن يدخل من أمّتي سبعين ألفًا على صورة القمر ليلة البدر، فاستزدت فزادني مع كلّ ألف سبعين ألفًا، فقلت: أي ربّ إن لم يكن هؤلاء مهاجري أمّتي. قال: إذن أكملهم لك من الأعراب)).
الحديث رجاله رجال الصحيح، وفي زهير بن محمد كلام إذا روى عنه أهل الشام، ويحيى بن أبي بكير كوفي ليس بشامي.
وقد رمز السيوطي في "الجامع الصغير" لحسنه، وقال المناوي: قال ابن حجر: سنده جيد.(53/109)
- قال الآجري رحمه الله في "الشريعة" ص(343): أخبرنا أبوجعفر محمد بن صالح بن ذريح قال: حدثنا هناد بن السري قال: حدثنا أبومعاوية عن إسحاق بن عبدالله بن أبي فروة عن سعيد بن أبي سعيد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: ((سألت الله عزّ وجلّ الشّفاعة لأمّتي، فقال: لك سبعون ألفًا يدخلون الجنّة بغير حساب ولا عذاب. قال: قلت: ربّ زدني. قال: فحثا(1) بين يديه وعن يمينه وعن شماله)) فقال أبوبكر رضي الله عنه: حسبنا يا رسول الله. فقال عمر رضي الله عنه: يا أبا بكر دعْ رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم يكثر لنا كما أكثر الله عزّ وجلّ. فقال أبوبكر: إنّما نحن حفنة من حفنات الله عزّ وجلّ. فقال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: ((صدق أبوبكر)).
الحديث في سنده إسحاق بن عبدالله بن أبي فروة، وقد قال البخاري: تركوه. ونهى أحمد عن حديثه، وقال الجوزجاني: سمعت أحمد بن حنبل يقول: لا تحلّ الرواية عندي عن إسحاق بن أبي فروة. وقال أبوزرعة وغيره: متروك. اهـ من "الميزان".
فالحديث بهذا السند ضعيف جدًا.
قال الطبراني رحمه الله في "المعجم الكبير" (ج2 ص87 رقم1413): حدثنا عمرو بن إسحاق بن زبريق الحمصي ثنا محمد بن إسماعيل الحمصي حدثني أبي عن ضمضم بن زرعة عن شريح بن عبيد عن أبي أسماء الرحبي عن ثوبان قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم يقول: ((إنّ ربّي عزّ وجلّ وعدني من أمّتي سبعين ألفًا لا يحاسبون مع كلّ ألف سبعون(2) ألفًا)).
__________
(1) …في الأصل: ((فجثى)). والمناسب للسياق وللروايات الأخرى: ((فحثا))، فهو بالجيم تصحيف.
(2) …في الأصل: ((سبعين))، والظاهر: ((سبعون)) لأنّها مبتدأ، وهي ((سبعون)) في ?تفسير ابن كثير? (ج1 ص392)، و?مسند أحمد? (ج5 ص281)، و?مجمع الزوائد? (ج10 ص407). وأما في ?الأسماء والصفات? للبيهقي ص(329) فهي((سبعين)) فيكون نصبها على المفعولية، والله أعلم.(53/110)
الحديث في سنده محمد بن إسماعيل بن عيّاش وقد قال الحافظ في "التقريب": عابوا عليه أنّه حدث عن أبيه بغير سماع، وعمرو بن إسحاق بن زبريق لم أطلع على ترجمته بعد البحث في المصادر لديّ ولكن لا يضر الحديث محمد بن إسماعيل، وجهالتي لعمرو بن إسحاق لأنّه قد رواه أحمد (ج5 ص280) من طريق أبي اليمان ثنا إسماعيل بن عياش به، إلا أنه لم يذكر فيه شيخ شريح وهو أبوأسماء، وقد قال الحافظ ابن كثير في "تفسيره" (ج1 ص392): لعل ذكر أبي أسماء هو المحفوظ، والله أعلم. اهـ
والحديث لم يتكلم عليه الهيثمي في "المجمع" (ج10 ص407) بشيء ولم يزد على أن عزاه لأحمد والطبراني.
قال الإمام أحمد بن عبدالله أبونعيم الأصبهاني رحمه الله تعالى في "الحلية" (ج2 ص344): حدثنا محمد بن أحمد بن مخلد قال: ثنا إبراهيم بن الهيثم البلدي(1) قال: ثنا سليمان بن حرب قال: ثنا أبوهلال عن قتادة عن أنس عن النّبيّ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم قال: ((وعدني ربّي عزّ وجلّ أن يدخل من أمّتي الجنّة مائة ألف)) فقال أبوبكر رضي الله تعالى عنه: يا رسول الله زدْنا. قال: ((وهكذا)) -وأشار سليمان بن حرب بيده كذلك- قال: يا رسول الله زدْنا. فقال عمر: إنّ الله عزّ وجلّ قادر أنْ يدخل النّاس الجنّة بحفنة واحدة. فقال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: ((صدق عمر)).
هذا حديث غريب من حديث قتادة عن أنس رضي الله تعالى عنه، تفرد به أبوهلال، واسمه محمد بن سليم الراسبي ثقة(2) بصري.
أما رجال الإسناد: فشيخ أبي نعيم الظاهر أنّه وقع فيه تصحيف، وأنه محمد بن أحمد بن مخزوم، فقد ذكروا من شيوخه إبراهيم بن الهيثم، وقد ضعّف، وقيل: كان يكذب، كما في "الميزان".
وإبراهيم بن الهيثم: ثقة تكلم فيه بكلام غير مؤثر كما في "الميزان" و"اللسان".
__________
(1) …في الأصل: (البلوي). والصواب: (البلدي)، كما في ?الميزان? و?اللسان?.
(2) …قال الحافظ في ?التقريب?: صدوق فيه لين.(53/111)
وبقية رجال السند من رجال "التقريب".
ثم وجدت الحديث في "مسند أحمد" (ج3 ص193) من حديث بهز وهو ابن أسد عن أبي هلال عن قتادة عن أنس، فالحديث حسن لغيره، والحمد لله.
- قال الإمام أبوبكر أحمد بن الحسين البيهقي في "الأسماء والصفات" ص(329): أخبرنا أبوالحسين بن بشران أنا إسماعيل بن محمد الصفار ثنا أحمد بن منصور الرمادي ثنا عبدالرزاق أنا معمر عن قتادة عن النضر بن أنس عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: ((إنّ الله عزّ وجلّ وعدني أنْ يدخل الجنّة من أمّتي أربعمائة ألف)) فقال أبوبكر: زدْنا يا رسول الله. قال: ((وهكذا -وجمع يديه-)) قال: زدنا يا رسول الله. قال: ((وهكذا)) فقال عمر رضي الله عنه: حسبك. فقال أبوبكر رضي الله عنه: دعْني يا عمر وما عليك أنْ يدخلنا الجنّة كلّنا؟ فقال عمر رضي الله عنه: إن شاء أدخل خلقه الجنّة بكف واحدة. فقال صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: ((صدق عمر)).
ورواه خلف بن هشام عن عبدالرزاق عن معمر عن قتادة عن أنس أو عن النضر بن أنس عن أنس رضي الله عنه بالشك، أخبرناه أبوعبدالله الحافظ ثنا أبوالعباس محمد بن يعقوب ثنا محمد بن إسحاق ثنا خلف ثنا عبدالرزاق فذكره.
ورواه معاذ بن هشام عن أبيه عن قتادة، مرّةً عن أبي بكر بن عمير عن أبيه ومرةً عن أبي بكر بن أنس عن أبي بكر بن عمير عن أبي عمير وقال: فقال عمر رضي الله عنه: إنّ الله تبارك وتعالى إن شاء أدخل النّاس الجنّة جملةً واحدةً. وقال في ابتدائه فقال: عمير، بدل: أبي بكر.
الحديث قال الحافظ ابن كثير (ج1 ص394): قال عبدالرزاق: أنبأنا معمر عن قتادة عن النضر بن أنس عن أنس، وذكر الحديث، ثم قال: هذا الحديث بهذا الإسناد تفرد به عبدالرزاق.
قلت: وهو على شرط الشيخين.(53/112)
وقد أخرجه أحمد في "مسنده" (ج3 ص165) بهذا السند، وفيه الشك كما في حديث خلف عند البيهقي، أهو عن معمر عن قتادة عن أنس -أو عن قتادة عن النضر بن أنس عن أنس- ولا يضر هذا الاختلاف لأن قتادة قد سمع من أنس، وإن كان مدلّسًا فالحديث في الشواهد والمتابعات. وأما رواية معاذ بن هشام عن أبيه عن قتادة فسيأتي الكلام عليها إن شاء الله.
قال الطبراني رحمه الله في الكبير(ج17 ص64): حدثنا محمد بن صالح ابن الوليد النرسي ومحمد بن يحيى بن مندة الأصبهاني قالا: ثنا أبوحفص بن علي(1) ثنا معاذ بن هشام حدثني أبي عن قتادة عن أبي بكر بن عمير عن أبيه عن النّبي صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم قال: ((إنّ الله تعالى وعدني أنّ يدخل من أمّتي ثلاثمائة ألف الجنّة)) فقال عمير: يا نبيّ الله زدْنا. فقال عمر: حسبك يا عمير. فقال: ما لنا ولك يا ابن الخطّاب، وما عليك أن يدخلنا الله الجنّة؟ فقال عمر: إنّ الله جلّ وعزّ إنْ شاء أدخل النّاس الجنّة بحفنة أو بحثية واحدة. فقال النّبيّ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: ((صدق عمر)).
الحديث ضعيف لأن في سنده أبا بكر بن عمير، قال الحافظ في "الإصابة" (ج3 ص38): لا أعرف من وثّقه.
قال أبوعبدالرحمن: وقد ذكره البخاريّ في "التاريخ الكبير" في (الكنى) وابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل"، ولم يذكرا راويًا عنه سوى أبي بكر بن أنس، ولم يذكرا فيه جرحًا ولا تعديلاً فهو مجهول العين، ثم إن الحافظ في "الإصابة" ذكر أن معمرًا قد خالف هشام بن أبي عبدالله الدستوائي فرواه معمر عن قتادة عن النضر بن أنس عن أنس كما في "الإصابة"، وأيضًا معاذ ابن هشام كان لا يذكر في أول أمره أبا بكر بن أنس، وفي آخر أمره كان يزيده. اهـ مختصرًا من "الإصابة" بتصرف.
والحاصل أن هذا الحديث ضعيف لجهالة أبي بكر بن عمير، والله أعلم.
__________
(1) …في ?النهاية?: (عمر بن علي)، والصواب: (عمرو بن علي) وهو الحافظ الشهير بالفلاس.(53/113)
فصل في شفاعته صلى الله عليه وعلى آله وسلم في رفع درجات بعض من يدخل الجنة فوق ما كان يقتضيه عمله
قال البخاري رحمه الله (ج8 ص41): حدثنا محمد بن العلاء حدثنا أبوأسامة عن بريد بن عبدالله عن أبي بردة عن أبي موسى رضي الله عنه قال: لمّا فرغ النّبيّ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم من حنين بعث أبا عامر على جيش إلى أوطاس فلقي دريد بن الصّمّة، فقتل دريد وهزم الله أصحابه، قال أبوموسى: وبعثني مع أبي عامر فرمي أبوعامر في ركبته رماه جشميّ بسهم فأثبته في ركبته، فانتهيت إليه فقلت: يا عمّ من رماك. فأشار إلى أبي موسى فقال: ذاك قاتلي الّذي رماني. فقصدت له فلحقته فلمّا رآني ولّى فاتّبعته وجعلت أقول له: ألا تستحيي ألا تثبت. فكفّ فاختلفنا ضربتين بالسّيف فقتلته، ثمّ قلت لأبي عامر: قتل الله صاحبك. قال: فانزعْ هذا السّهم. فنزعته فنزا(1) منه الماء قال: يا ابن أخي أقرئ النّبيّ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم السّلام وقل له: استغفر لي. واستخلفني أبوعامر على النّاس فمكث يسيرًا ثمّ مات، فرجعت فدخلت على النّبيّ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم في بيته على سرير مرمّل(2)، وعليه فراش قد أثّر رمال السّرير بظهره وجنبه، فأخبرته بخبرنا وخبر أبي عامر وقال: قل له: استغفر لي. فدعا بماء فتوضّأ ثمّ رفع يديه فقال: ((اللّهمّ اغفر لعبيد أبي عامر)) ورأيت بياض إبطيه ثمّ قال: ((اللّهمّ اجعله يوم القيامة فوق كثير من خلقك من النّاس)) فقلت: ولي فاستغفر. فقال: ((اللهمّ اغفر لعبدالله بن قيس ذنبه، وأدخله يوم القيامة مدخلاً كريمًا)) قال أبوبردة: إحداهما لأبي عامر والأخرى لأبي موسى.
الحديث أخرجه مسلم.
__________
(1) …منه الماء: أي انصب من موضع السهم، كما في ?الفتح?.
(2) …-براء مهملة ثم ميم مثقلة-: أي معمول بالرمال، وهي حبال الحصر التي تضفر بها= =الأسرة، كما في ?الفتح?.(53/114)
قال مسلم رحمه الله (ج2 ص634): حدثني زهير بن حرب حدثنا معاوية بن عمرو حدثنا أبوإسحاق الفزاري(1) عن خالد الحذّاء عن أبي قلابة عن قبيصة بن ذؤيب عن أم سلمة قالت: دخل رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم على أبي سلمة وقد شقّ بصره فأغمضه ثمّ قال: ((إنّ الرّوح إذا قبض تبعه البصر)) فضجّ ناس من أهله فقال: ((لا تدعوا على أنفسكم إلاّ بخير فإنّ الملائكة يؤمّنون على ما تقولون)) ثمّ قال: ((اللّهمّ اغفر لأبي سلمة وارفع درجته في المهديّين، واخلفه في عقبه في الغابرين واغفر لنا وله يا ربّ العالمين، وافسح له في قبره، ونوّر له فيه)).
الحديث أخرجه أحمد (ج6 ص297).
فصل في شفاعة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لعمه أبي طالب في تخفيف العذاب عنه
قال البخاري رحمه الله (ج7 ص193): حدثنا مسدد حدثنا يحيى عن سفيان حدثنا عبدالملك حدثنا عبدالله بن الحارث حدثنا العباس بن عبدالمطلب رضي الله عنه قال للنّبيّ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: ما أغنيت عن عمّك فإنّه كان يحوطك ويغضب لك؟ قال: ((هو في ضحضاح(2) من نار، ولولا أنا لكان في الدّرك الأسفل من النّار)).
الحديث أخرجه البخاري (ج10 ص592) و(ج11 ص419)، ومسلم (ج1 ص194-195)، وأحمد (ج1 ص206، 207، 210).
قال البخاري رحمه الله (ج7 ص193): حدثنا عبدالله بن يوسف حدثنا الليث حدثني ابن الهاد عن عبدالله بن خباب عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنّه سمع النّبيّ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم، وذكر عنده عمّه فقال: ((لعلّه تنفعه شفاعتي يوم القيامة، فيجعل في ضحضاح من النّار يبلغ كعبيه يغلي منه دماغه)).
الحديث أخرجه البخاري أيضًا (ج11 ص417)، ومسلم (ج1 ص195)، وأحمد (ج3 ص8-9).
__________
(1) …الفزاري: هو إبراهيم بن محمد بن الحارث، وأبوقلابة هو عبدالله بن زيد الجرمي.
(2) …: اليسير، القليل.(53/115)
هذان الحديثان يدلان على أنّ أبا طالب مات كافرًا، إذ لو كان مسلمًا لخرج من النّار مع الموحدين كما تواترت الأحاديث بخروج الموحدين من النار، وسيأتي إن شاء الله بعض الأحاديث في ذلك.
ويؤيد دلالة هذين الحديثين على عدم إسلام أبي طالب ما رواه البخاري في "صحيحه" (ج3 ص465) -طبعة حلبية مع "الفتح"- فقال البخاري رحمه الله: حدثنا إسحاق أخبرنا يعقوب بن إبراهيم قال: حدثني أبي عن صالح عن ابن شهاب قال: أخبرني سعيد بن المسيب عن أبيه أنّه أخبره أنّه لمّا حضرت أبا طالب الوفاة جاءه رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم فوجد عنده أبا جهل بن هشام وعبدالله بن أبي أميّة بن المغيرة، قال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم لأبي طالب: ((يا عمّ قل: لا إله إلاّ الله كلمةً أشهد لك بها عند الله)) فقال أبوجهل وعبدالله بن أبي أميّة: يا أبا طالب أترغب عن ملّة عبدالمطّلب. فلم يزل رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم يعرضها عليه ويعودان بتلك المقالة حتّى قال أبوطالب آخر ما كلّمهم: هو على ملّة عبدالمطّلب. وأبى أن يقول: لا إله إلاّ الله. فقال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: ((أما والله لأستغفرنّ لك ما لم أنه عنك)) فأنزل الله تعالى فيه: {ما كان للنّبيّ} الآية.
الحديث أخرجه في مواضع في "صحيحه" منها (ج8 ص194) وفيه: فنزلتْ: {ما كان للنّبيّ والّذين آمنوا أنْ يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبيّن لهم أنّهم أصحاب الجحيم}، ونزلت: {إنّك لا تهدي من أحببْت}، و(ج9 ص411) و(ج10 ص124)، وأخرجه مسلم (ج1 ص214)، والنسائي (ج4 ص74)، وأحمد (ج5 ص433)، وابن جرير (ج11 ص41).(53/116)
وما أخرجه مسلم في "صحيحه" (ج1 ص216) مع النووي، فقال رحمه الله: حدثنا محمد بن عباد وابن أبي عمر قالا: حدثنا مروان عن يزيد وهو ابن كيسان عن أبي حازم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم لعمّه عند الموت: ((قل لا إله إلاّ الله أشهد لك بها يوم القيامة)) فأبى فأنزل الله {إنّك لا تهدي من أحببت} الآية.
وأخرجه من طريق آخر ينتهي إلى يزيد بن كيسان، وفيه قال: لولا أنْ تعيرني قريش يقولون: إنّما حمله على ذلك الجزع، لأقررت بها عينك، فأنزل الله الآية.
الحديث أخرجه الترمذي (ج4 ص159) مع "التحفة" طبعة هندية، وأحمد (ج2 ص441)، وابن جرير (ج20 ص91)، والبيهقي في "شعب الإيمان" ص(54)، وقال الترمذي: حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث يزيد بن كيسان.
وما أخرجه أبوداود في "سننه" (ج3 ص547) فقال رحمه الله: حدثنا مسدد حدثنا يحيى عن سفيان حدثني أبوإسحاق عن ناجية بن كعب عن علي عليه السّلام قال: قلت للنّبيّ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: إنّ عمّك الشّيخ الضّالّ قد مات. قال: ((اذهب فوار أباك ثمّ لا تحدثنّ شيئًا حتّى تأتيني)) فذهبت فواريته وجئته فأمرني فاغتسلت ودعا لي.
الحديث أخرجه النسائي (ج1 ص92) و(ج4 ص65)، وابن أبي شيبة (ج3 ص269)، وابن الجارود ص(192)، وأحمد (ج1 ص97)، والبيهقي (ج3 ص398). وفيه عند النسائي (ج1 ص92)، وأحمد (ج1 ص97) وابن الجارود: أنّه مات مشركًا.
الحديث رجاله رجال الصحيح إلا ناجية بن كعب، وقد قال الحافظ الذهبي في "الميزان": توقف ابن حبّان في توثيقه وقوّاه غيره، وذكره يحيى ابن معين فقال: صالح الحديث، وقال ابن المديني : لا أعلم أحدًا حدّث عن ناجية بن كعب سوى ابن(1) إسحاق.
قال الذهبي رحمه الله متعقبًا كلام ابن المديني: قلت: بلى، وولده يونس ابن أبي إسحاق. وقال الجوزجاني في "الضعفاء": مذموم. وقال أبوحاتم: شيخ. اهـ
__________
(1) …الصواب: (أبوإسحاق)، كما في ?مسند أحمد? (ج1 ص97).(53/117)
قال أبوعبدالرحمن: الظاهر أن حديثه لا ينْزل عن الحسن، وأما الحافظ إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني فهو شديد التحامل على أصحاب علي رضي الله عنه.
وللحديث طريق آخر يرتقي به إلى الصحة.
قال الإمام أحمد رحمه الله (ج1 ص103): ثنا إبراهيم بن أبي العباس ثنا الحسن بن يزيد الأصم قال: سمعت السّدي إسماعيل يذكره عن أبي عبدالرحمن السلمي عن علي رضي الله عنه، وذكر الحديث.
وقال عبدالله بن أحمد رحمه الله في "زوائد المسند" (ج1 ص129): ثنا زكريا بن يحيى زحمويه وثنا محمد بن بكار، وثنا إسماعيل أبومعمر وسريج ابن يونس قالوا: ثنا الحسن بن يزيد(1) الأصم به.
وقال البخاري رحمه الله (ج3 ص450): حدثنا أصبغ قال: أخبرني ابن وهب عن يونس عن ابن شهاب عن علي بن حسين عن عمرو بن عثمان عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما أنّه قال: يا رسول الله أين(2) تنْزل في دارك بمكّة؟ فقال: ((وهل ترك عقيل من رباع أو دور؟)) وكان عقيل ورث أبا طالب هو وطالب ولم يرثه جعفر ولا عليّ رضي الله عنهما شيئًا لأنّهما كانا مسلمين وكان عقيل وطالب كافرين.
الحديث أخرجه مسلم (ج2 ص984).
وجه الاستدلال بهذا الحديث أن النبي صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم يقول: ((لا يرث المسلم الكافر، ولا يرث الكافر المسلم)) أخرجه الستة من حديث أسامة بن زيد، فعليّ وجعفر لكونهما مسلمين لم يرثا أبا طالب لأنه مات كافرًا، ولا يرث المسلم الكافر، والله أعلم.
وإن كنت تريد المزيد من الردود على شبهات الشيعة حول إسلام أبي طالب، فراجع "الإصابة" (ج4 ص115)، و"المواهب في الرد على من يقول بإسلام أبي طالب" لأخينا الفاضل الشيخ أبي عبدالله قاسم التعزي فإنه أجاد وأفاد حفظه الله.
__________
(1) …في ?المسند? في هذا الموضع: (ابن زيد)، والصواب: (ابن يزيد) كما تقدم وكما في= =?تهذيب التهذيب?.
(2) …حذف أداة الاستفهام، والتقدير: أتنْزل في دارك؟، كما في ?صحيح مسلم?.(53/118)
قال الإمام الخطيب في "التاريخ" (ج3 ص380): أنبأنا أبونعيم حدثنا محمد بن فارس قال حدثني خطاب بن عبدالدائم الأرسوفي بها حدثنا يحيى ابن المبارك عن شريك عن منصور عن ليث عن مجاهد عن ابن عباس قال: سمعت النبي صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم يقول: ((شفّعت في هؤلاء النّفر: في أبي وعمّي أبي طالب وأخي من الرّضاعة -يعني ابن السّعدية- ليكونوا من بعد البعث هباءً)).
ثم ذكر أنه باطل بهذا الإسناد.
خطّاب: هو ابن عبدالدائم وهو ضعيف يعرف برواية المناكير عن يحيى ابن المبارك الشامي الصنعاني وهو مجهول. ثم قال: وقال فيه: عن منصور عن ليث ومنصور بن المعتمر لا يروي عن ليث بن أبي سليم(1). اهـ
وفيه أيضًا محمد بن فارس رافضي غال ضعيف الحديث. فالحديث ضعيف وهو موافق لبدعته أيضًا.
فصل
قال الخطيب البغدادي في "التاريخ" (ج2 ص412): أخبرنا علي بن أبي علي البصري أخبرنا محمد بن المظفر الحافظ -لفظًا- حدثنا أبوجعفر محمد بن سهل بن محمد بن أحمد بن سعيد الجمال حدثنا أبوالحسن محمد بن معاذ بن عيسى بن ضرار بن أسلم بن عبدالله بن جبير بن أسد بن هاشم بن عبدمناف حدثني أبي حدثنا إبراهيم بن هراسة عن سفيان الثوري عن أبيه عن أبي الضحى عن مسروق عن عائشة قالت: أتى العبّاس بن عبدالمطلب رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم قال: يا رسول الله إنّا لنعرف الضّغائن في أناس من قومنا من وقائع أوقعناها. فقال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: ((أما والله إنّهم لا يبلغون خيرًا حتى يحبّوكم لقرابتي))، ثم قال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: ((ترجو سلهب شفاعتي ولا يرجوها بنو عبدالمطّلب؟)).
لا أعلم ذكر فيه عائشة ومسروقًا عن الثوري غير ابن هراسة والمحفوظ عن أبي الضحى عن ابن عباس.
__________
(1) …قال أبوعبدالرحمن: ذكر هذا في ترجمة محمد بن فارس.(53/119)
كذلك أخبرنا محمد بن أحمد بن رزق أخبرنا أبوسهل أحمد بن محمد بن عبدالله القطان حدثنا محمد بن غالب بن حرب حدثنا أبوحذيفة حدثنا سفيان الثوري عن أبيه عن أبي الضحى عن ابن عباس قال: جاء العبّاس إلى النّبيّ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم فقال: إنّك قد تركت فينا ضغائن منذ صنعت الّذي صنعت. فقال النّبيّ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: ((لا يبلغوا الخير -أو قال: الإيمان- حتّى يحبّوكم لله ولقرابتي، أترجو سلهم -حيّ من مراد- شفاعتي ولا يرجو بنو عبدالمطّلب شفاعتي؟)).
رواه أبونعيم عن الثوري فأرسله ولم يذكر فيه ابن عباس. اهـ كلام الخطيب.
قال أبوعبدالرحمن: الراوي له في الطريق الأولى عن الثوري إبراهيم بن هراسة وهو متروك كما في "اللسان".
والراجح فيه الإرسال.
فصل في الشفاعة في خروج الموحدين من النار
الأحاديث الدالة على خروج الموحدين من النّار متواترة، وقد تقدم بعض الأحاديث الدالة على ذلك، منها: حديث أنس بن مالك رقم (2)، وحديثه أيضًا رقم (3)، وحديث أبي بكر رقم (5)، وحديث ابن عباس رقم (6)، وحديث أنس رقم (32)، وحديث ابن عباس رقم (33)، وأحاديث أخر، والأحاديث الآتية إن شاء الله.(53/120)
قال البخاري رحمه الله (ج2 ص292): حدثنا أبواليمان قال: أخبرنا شعيب عن الزهري قال: أخبرني سعيد بن المسيب وعطاء بن يزيد الليثي أن أبا هريرة أخبرهما أنّ النّاس قالوا: يا رسول الله هل نرى ربّنا يوم القيامة؟ قال: ((هل تمارون في القمر ليلة البدر ليس دونه سحاب؟)) قالوا: لا يا رسول الله. قال: ((فهل تمارون في الشّمس ليس دونها سحاب؟)) قالوا: لا. قال: ((فإنّكم ترونه كذلك، يحشر النّاس يوم القيامة فيقول: من كان يعبد شيئًا فليتّبع. فمنهم من يتّبع الشّمس، ومنهم من يتّبع القمر، ومنهم من يتّبع الطّواغيت، وتبقى هذه الأمّة فيها منافقوها، فيأتيهم الله فيقول: أنا ربّكم. فيقولون: هذا مكاننا حتّى يأتينا ربّنا، فإذا جاء ربّنا عرفْناه. فيأتيهم الله فيقول: أنا ربّكم. فيقولون: أنت ربّنا. فيدعوهم فيضرب الصّراط بين ظهراني جهنّم، فأكون أوّل من يجوز من الرّسل بأمّته، ولا يتكلّم يومئذ أحد إلاّ الرّسل، وكلام الرّسل يومئذ: اللّهمّ سلّم سلّم. وفي جهنّم كلاليب مثل شوك السّعدان، هل رأيتم شوك السّعدان؟)) قالوا: نعم. قال: ((فإنّها مثل شوك السّعدان غير أنّه لا يعلم قدر عظمها إلاّ الله، تخطف النّاس بأعمالهم، فمنهم من يوبق بعمله ومنهم من يخردل ثمّ ينجو، حتّى إذا أراد الله رحمة من أراد من أهل النّار أمر الله الملائكة أن يخرجوا من كان يعبد الله فيخرجونهم ويعرفونهم بآثار السّجود، وحرّم الله على النّار أن تأكل أثر السّجود(1)، فيخرجون من النّار، فكلّ ابن آدم تأكله النّار إلاّ أثر السّجود، فيخرجون من النّار قد امتحشوا(2) فيصبّ عليهم ماء الحياة فينبتون كما تنبت الحبّة في حميل السّيل، ثمّ يفرغ الله من القضاء بين العباد، ويبقى رجل بين الجنّة والنّار وهو آخر أهل النّار دخولاً
__________
(1) …فقد يدخل النار ولا تأكل موضع سجوده، ونؤمن بذلك لأن النار مخلوقة لله مأمورة له سبحانه لا تتجاوز ما أمرها الله سبحانه به.
(2) …امتحشوا: احترقوا.(53/121)
الجنّة مقبل بوجهه قبل النّار، فيقول: يا ربّ اصرفْ وجهي عن النّار قد قشبني ريحها وأحرقني ذكاؤها. فيقول: هل عسيت إن فعل ذلك بك أن تسأل غير ذلك؟ فيقول: لا وعزّتك. فيعطي الله ما يشاء من عهد وميثاق فيصرف الله وجهه عن النّار، فإذا أقبل به على الجنّة رأى بهجتها سكت ما شاء الله أن يسكت، ثمّ قال: يا ربّ قدّمني عند باب الجنّة. فيقول الله له: أليس قد أعطيت العهود والميثاق أن لا تسأل غير الّذي كنت سألت؟ فيقول: يا ربّ لا أكون أشقى خلقك. فيقول: فما عسيت إن أعطيت ذلك أن لا تسأل غيره؟ فيقول: لا وعزّتك لا أسأل غير ذلك. فيعطي ربّه ما شاء من عهد وميثاق فيقدّمه إلى باب الجنّة، فإذا بلغ بابها فرأى زهرتها وما فيها من النّضرة والسّرور، فيسكت ما شاء الله أن يسكت فيقول: يا ربّ أدخلني الجنّة. فيقول الله: ويحك يا ابن آدم ما أغدرك أليس قد أعطيت العهود والميثاق أن لا تسأل غير الّذي أعطيت. فيقول: يا ربّ لا تجعلني أشقى خلقك. فيضحك الله عزّ وجلّ منه، ثمّ يأذن له في دخول الجنّة فيقول: تمنّ. فيتمنّى حتّى إذا انقطع أمنيّته قال الله عزّ وجلّ: من كذا وكذا. أقبل يذكّره ربّه، حتّى إذا انتهت به الأمانيّ قال الله تعالى: لك ذلك ومثله معه)) قال أبوسعيد الخدريّ لأبي هريرة رضي الله عنهما: إنّ رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم قال: ((قال الله لك ذلك وعشرة أمثاله)) قال أبوهريرة: لم أحفظ من رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم إلاّ قوله: ((لك ذلك ومثله معه)). قال أبوسعيد: إنّي سمعته يقول: ((ذلك لك وعشرة أمثاله)).
الحديث أخرجه البخاري أيضًا (ج11 ص444) و(ج13 ص419)، ومسلم (ج1 ص163-164)، والنسائي (ج2 ص181) مختصرًا، وأحمد (ج2 ص275، 293)، وأبوعوانة (ج1 ص159-160)، وعبدالرزاق (ج11 ص407).(53/122)
قال البخاري رحمه الله (ج13 ص420): حدثنا يحيى بن بكير حدثنا الليث بن سعد عن خالد بن يزيد عن سعيد بن أبي هلال عن زيد(1) عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري قال: قلنا: يا رسول الله هل نرى ربّنا يوم القيامة؟ قال: ((هل تضارون في رؤية الشّمس والقمر إذا كانت صحوًا؟)) قلنا: لا. قال: ((فإنّكم لا تضارون في رؤية ربّكم يومئذ إلاّ كما تضارون في رؤيتهما، -ثمّ قال:- ينادي مناد: ليذهب كلّ قوم إلى ما كانوا يعبدون. فيذهب أصحاب الصّليب مع صليبهم، وأصحاب الأوثان مع أوثانهم، وأصحاب كلّ آلهة مع آلهتهم، حتّى يبقى من كان يعبد الله من برّ أو فاجر وغبّرات من أهل الكتاب، ثمّ يؤتى بجهنّم تعرض كأنّها سراب فيقال لليهود: ما كنتم تعبدون؟ قالوا: كنّا نعبد عزيرًا ابن الله. فيقال: كذبتم لم يكنْ لله صاحبة ولا ولد، فما تريدون؟ قالوا: نريد أن تسقينا. فيقال: اشربوا. فيتساقطون في جهنّم، ثمّ يقال للنّصارى: ما كنتم تعبدون؟ فيقولون: كنّا نعبد المسيح ابن الله. فيقال: كذبتم لم يكن لله صاحبة ولا ولد، فما تريدون؟ فيقولون: نريد أن تسقينا. فيقال: اشربوا. فيتساقطون في جهنّم، حتّى يبقى من كان يعبد الله من برّ أو فاجر فيقال: لهم ما يحبسكم وقد ذهب النّاس؟ فيقولون: فارقناهم ونحن أحوج منّا إليه(2) اليوم، وإنّا سمعنا مناديًا ينادي: ليلحق كلّ قوم بما كانوا يعبدون، وإنّما ننتظر ربّنا. قال: فيأتيهم الجبّار في صورة غير صورته الّتي رأوه فيها أوّل مرّة. فيقول: أنا ربّكم. فيقولون: أنت ربّنا. فلا يكلّمه إلاّ الأنبياء، فيقول: هل بينكم وبينه آية تعرفونه؟ فيقولون: السّاق. فيكشف عن ساقه فيسجد له كلّ مؤمن، ويبقى من كان يسجد
__________
(1) …زيد: هو ابن أسلم.
(2) …في التعليق على ?صحيح البخاري?-طبعة إحياء التراث العربي-: ((إليه)) كذا في جميع الأصول متونًا وشروحًا بضمير الإفراد، وتقدم الحديث في (تفسير سورة النساء) بلفظ: ((إليهم)) بضمير الجمع. اهـ كتبه مصححه.(53/123)
لله رياءً وسمعةً فيذهب كيما يسجد فيعود ظهره طبقًا واحدًا، ثمّ يؤتى بالجسر فيجعل بين ظهري جهنّم)) قلنا: يا رسول الله وما الجسر؟ قال: ((مدحضة مزلّة عليه خطاطيف وكلاليب وحسكة مفلطحة(1) لها شوكة عقيفاء تكون بنجد يقال لها السّعدان، المؤمن عليها كالطّرف وكالبرق وكالرّيح وكأجاويد الخيل والرّكاب فناج مسلّم، وناج مخدوش، ومكدوس في نار جهنّم، حتّى يمرّ آخرهم يسحب سحبًا، فما أنتم بأشدّ لي مناشدةً في الحقّ قد تبيّن لكم من المؤمن يومئذ للجبّار، وإذا رأوا أنّهم قد نجوا(2) في إخوانهم يقولون: ربّنا إخواننا الّذين كانوا يصلّون معنا، ويصومون معنا ويعملون معنا. فيقول الله تعالى: اذهبوا فمن وجدتم في قلبه مثقال دينار من إيْمان فأخرجوه. ويحرّم الله صورهم على النّار، فيأتونهم وبعضهم قد غاب في النّار إلى قدمه، وإلى أنصاف ساقيه، فيخرجون من عرفوا ثمّ يعودون، فيقول: اذهبوا فمن وجدتم في قلبه مثقال نصف دينار فأخرجوه. فيخرجون من عرفوا ثمّ يعودون، فيقول: اذهبوا فمن وجدتم في قلبه مثقال ذرّة من إيمان فأخرجوه. فيخرجون من عرفوا)).
قال أبوسعيد: فإن لم تصدّقوني فاقرءوا { إنّ الله لا يظلم مثقال ذرّة وإن تك حسنةً يضاعفها}.
__________
(1) …أي فيها اتساع وعرض كما في ?الفتح? (ج13 ص429).
(2) …هنا سقط لعله يكون: (ناشدوا الله في إخوانهم).(53/124)
((فيشفع النّبيّون والملائكة والمؤمنون، فيقول الجبّار: بقيت شفاعتي. فيقبض قبضةً من النّار فيخرج أقوامًا قد امتحشوا، فيلقون في نهر بأفواه الجنّة يقال له ماء الحياة، فينبتون في حافتيه كما تنبت الحبّة في حميل السّيل قد رأيتموها إلى جانب الصّخرة، وإلى جانب الشّجرة، فما كان إلى الشّمس منها كان أخضر، وما كان منها إلى الظّلّ كان أبيض، فيخرجون كأنّهم اللّؤلؤ فيجعل في رقابهم الخواتيم، فيدخلون الجنّة، فيقول أهل الجنّة: هؤلاء عتقاء الرّحمن، أدخلهم الجنّة بغير عمل عملوه ولا خير قدّموه. فيقال لهم: لكم ما رأيتم ومثله معه)).
الحديث أخرجه مسلم (ج1 ص167)، وأحمد (ج3 ص16)، وأبوعوانة (ج1 ص166، 181-182)، وابن خزيمة ص(307-308)، والطيالسي (ج2 ص222) من "ترتيب المسند".
قال مسلم رحمه الله (ج1 ص172): وحدثني نصر بن علي الجهضمي حدثنا بشر -يعني ابن المفضل- عن أبي مسلمة(1) عن أبي نضرة عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: ((أمّا أهل النّار الّذين هم أهلها فإنّهم لا يموتون فيها ولا يحيون، ولكن ناس أصابتهم النّار بذنوبهم -أو قال: بخطاياهم- فأماتهم الله إماتةً، حتّى إذا كانوا فحمًا أذن بالشّفاعة فجيء بهم ضبائر(2) فبثّوا على أنْهار الجنّة، ثمّ قيل: يا أهل الجنّة أفيضوا عليهم. فينبتون نبات الحبّة تكون في حميل السّيل)) فقال رجل من القوم: كأنّ رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم قد كان بالبادية.
الحديث أخرجه ابن ماجة (ج2 ص1441)، وأحمد(ج3 ص78-79)، وابن خزيمة ص(279-280، 282، 283، 286)، والدارمي (ج2 ص331-332)، وأبوعوانة (ج1 ص186)، والآجري في "الشريعة" ص(145)، وحسين المروزي في "زوائد زهد ابن المبارك" ص(449).
__________
(1) …أبومسلمة: هو سعيد بن يزيد، وأبونضرة: هو المنذر بن مالك.
(2) …الضبائر: هم الجماعات في تفرقة، واحدتها ضبارة مثل عمارة وعمائر، وكل مجتمع ضبارة. اهـ ?نهاية?.(53/125)
- قال ابن خزيمة رحمه الله ص(283): حدثنا عبدالوارث بن عبدالصمد قال: حدثني أبي قال: ثنا حبان -يعني ابن علي- وقال: ثنا سليمان التيمي عن أبي نضرة عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم خطب فأتى على هذه الآية: { منْ يأت ربّه مجرمًا فإنّ له جهنّم لا يموت فيها ولا يحيى، ومن يأته مؤمنًا قد عمل الصّالحات} يريد الآية كلّها، فقال النبي صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: ((أمّا أهلها الّذين هم أهلها فإنّهم لا يموتون ولا يحيون، وأمّا الّذين ليسوا من أهلها فإنّ النّار تميتهم إماتةً، ثمّ يقوم الشّفعاء فيشفعون، فيحصل ضبائر، فيؤتى بهم نهر(1) يقال له: الحياة، أو الحيوان، فينبتون فيه كما تنبت الغثاء في حميل السّيل)).
الحديث رجاله رجال الصحيح إلا حبان بن علي وفيه كلام حاصله أنه يصلح في الشواهد والمتابعات، وهو هنا متابع تابعه معتمر بن سليمان وابن أبي عدي كما في "التوحيد" لابن خزيمة.
- قال ابن خزيمة ص(282): حدثنا محمد بن بشار قال: ثنا ابن أبي عدي عن سليمان التيمي عن أبي نضرة عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: ((أمّا أهل النّار الّذين هم أهلها فلا يموتون ولا يحيون، وأمّا من يريد الله بهم الرّحمة، فتميتهم النّار فيدخل عليهم الشّفعاء، فيأخذ الرّجل الضبارة(2) فيبثهم على نهر الحياة -أو الحيوان أو الحيا، أو قال: نهر الجنّة- فينبتون نبات الحبّة في حميل السّيل))، فقال النّبيّ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: ((أو ما ترون الشّجرة تكون خضراء ثمّ تكون صفراء -أو قال: تكون صفراء ثمّ تكون خضراء)) فقال رجل: كأنّ رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم كان من أهل البادية.
الحديث أخرجه أحمد (ج3 ص5)، ورجاله رجال الصحيح.
__________
(1) …: نهرًا.
(2) …الضبارة: الجماعة، وفي ?كتاب التوحيد?: (الصبارة) -بالصاد المهملة-، في مواضع وهو غلط من النساخ.(53/126)
- وقال ابن خزيمة أيضًا ص(283): حدثنا محمد بن عبدالأعلى قال: ثنا المعتمر عن أبيه قال: ثنا أبونضرة عن أبي سعيد الخدري قال: خطبنا رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم خطبةً أراه ذكر طولها، قال: ((أمّا أهل النّار الّذين هم أهلها لا يموتون ولا يحيون، وأمّا ناس يريد الله بهم الرّحمة فيميتهم فيدخل عليهم الشّفعاء فيحمل الرّجل منهم الضبارة فيبثهم -أو قال: فيبثّون- على نهر الحياة -أو قال: الحيوان أو نهر الحيا- فينبتون نبات الحبّة في حميل السّيل)) قال: فقال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: ((ألم تروا إلى الشّجرة تكون خضراء، ثمّ تكون صفراء، ثمّ تكون خضراء)) قال: يقول القوم: كأنّ رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم كان بالبادية.
الحديث أيضًا رجاله رجال الصحيح.(53/127)
- قال الإمام أحمد رحمه الله (ج3 ص11): ثنا إسماعيل بن إبراهيم ثنا محمد بن إسحاق قال: حدثني عبيدالله(1) بن المغيرة بن معيقيب عن سليمان ابن عمرو بن عبد العتواري أحد بني(2) ليث -وكان يتيمًا في حجر أبي سعيد- قال أبوعبدالرحمن: قال أبي: سليمان بن عمرو هو أبوالهيثم الذي يروي عن أبي سعيد قال: سمعت أبا سعيد يقول: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم يقول: ((يوضع الصّراط بين ظهري(3) جهنّم عليه حسك كحسك السّعدان، ثمّ يستجيز النّاس فناج مسلّم، ومجدوح به، ثمّ ناج ومحتبس به منكوس فيها، فإذا فرغ الله عزّ وجلّ من القضاء بين العباد يفقد المؤمنون رجالاً كانوا معهم في الدّنيا، يصلّون بصلاتهم ويزكّون بزكاتهم، ويصومون صيامهم، ويحجّون حجّهم، ويغزون غزوهم، فيقولون: أي ربّنا عباد من عبادك كانوا معنا في الدّنيا يصلّون صلاتنا، ويزكّون زكاتنا، ويصومون صيامنا، ويحجّون حجّنا، ويغزون غزونا، لا نراهم. فيقول: اذهبوا إلى النّار فمن وجدتم فيها منهم فأخرجوه. قال: فيجدونهم قد أخذتْهم النّار على قدر أعمالهم فمنهم من أخذته إلى قدميه، ومنهم من أخذته إلى نصف ساقيه، ومنهم من أخذته إلى ركبتيه، ومنهم من أزرته، ومنهم من أخذته إلى ثدييه، ومنهم من أخذته إلى عنقه ولم تغش الوجوه، فيستخرجونهم منها فيطرحون في ماء الحياة)) قيل: يا رسول الله وما الحياة؟ قال: ((غسل أهل الجنّة فينبتون نبات الزّرعة -وقال مرّة فيه: كما تنبت الزّرعة- في غثاء السّيل ثمّ يشفع الأنبياء
__________
(1) …في ?المسند?: (عبدالله)، والصواب: (عبيدالله)، كما في ?تقريب التهذيب? وسائر المصادر التي سيعزى الحديث إليها.
(2) …في ?المسند?: حدثني ليث، والصواب ما أثبتناه، كما في ?كتاب التوحيد? لابن خزيمة.
(3) …هكذا في ?المسند? و?موضح أوهام الجمع والتفريق?. وأما في ?التوحيد? لابن خزيمة و?الزهد? لابن المبارك: فـ((ظهراني)) بزيادة ألف ونون، وزيادتهما للتأكيد كما في ?النهاية?.(53/128)
في كلّ من كان يشهد أن لا إله إلاّ الله مخلصًا، فيخرجونهم منها، قال: ثمّ يتحنّن الله برحمته على من فيها، فما يترك فيها عبدًا في قلبه مثقال حبّة من إيمان إلاّ أخرجه منها)).
الحديث أخرجه ابن خزيمة ص(325)، والخطيب في "موضح أوهام الجمع والتفريق" (ج2 ص116)، وحسين المروزي في "زوائد الزهد لابن المبارك" ص(448)، والحاكم (ج4 ص585) وقال: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه.
كذا قال ولم يتعقبه الذهبي والحديث ليس على شرط مسلم فأبوالهيثم وعبيدالله بن المغيرة وابن إسحاق ثلاثتهم ليسوا من رجال مسلم، وما روى مسلم لابن إسحاق إلا قدر خمسة أحاديث في الشواهد والمتابعات، كما في "الميزان". والحديث بهذا السند حسن.(53/129)
قال ابن حبان رحمه الله كما في "موارد الظمآن" ص(646): أخبرنا محمد بن الحسين(1) بن مكرم حدثنا عبدالله بن عمر بن محمد بن أبان بن صالح حدثنا أبوأسامة عن أبي روق حدثنا صالح بن أبي طريف، قال: قلت لأبي سعيد الخدري: أسمعت رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم يقول في هذه الآية: {ربما يودّ الّذين كفروا لو كانوا مسْلمين}؟ فقال: نعم، سمعته يقول: ((يخرج الله أناسًا من المؤمنين من النّار بعد ما يأخذ نقمته منهم، قال: لمّا أدخلهم الله النّار مع المشركين قال المشركون: أليس كنتم تزعمون في الدّنيا أنّكم أولياؤه؟ فما لكم معنا في النّار؟ فإذا سمع الله ذلك منهم أذن في الشّفاعة فتشفع لهم الملائكة والنّبيون حتّى يخرجوا بإذن الله، فلمّا أخرجوا قالوا: يا ليتنا كنّا مثلهم فتدركنا الشّفاعة فنخرج من النّار. فذلك قول الله: {ربما يودّ الّذين كفروا لو كانوا مسْلمين} قال: فيسمّون الجهنّميين من أجل سواد في وجوههم، فيقولون: ربّنا أذهبْ عنّا هذا الاسم، فيغتسلون في نهر في الجنّة، فيذهب ذلك منهم(2)).
الحديث أخرجه الطبراني كما في "تفسير ابن كثير" (ج2 ص546)، وفي "موارد الظمآن": صالح بن أبي طريف، وفي "تفسير ابن كثير": صالح ابن أبي شريف، وكلاهما لم أقف له على ترجمة(3).
__________
(1) …محمد بن الحسين بن مكرم له ترجمة في ?تذكرة الحفاظ? (ج2 ص735)، قال إبراهيم بن فهد: ما قدم علينا من بغداد أعلم بالحديث من ابن مكرم، وقال الدارقطني: ثقة.
(2) …في ?تفسير ابن كثير? (ج2 ص546): ((فيذهب ذلك الاسم عنهم)).
(3) …ثم وقفت عليه في ?الثقات? لابن حبان (ج4 ص376) قال: صالح بن أبي طريف أبوالصيداء، يروي عن أبي سعيد روى عنه أبوروق عطية بن الحارث الهمداني. اهـ فعلى هذا فما وقع في ?تفسير ابن كثير? تصحيف. وأبوروق: صدوق كما في ?التقريب?.(53/130)
قال البخاري رحمه الله (ج11 ص416): حدثنا أبوالنعمان(1) حدثنا حماد عن عمرو عن جابر رضي الله عنه أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم قال: ((يخرج من النّار بالشّفاعة كأنّهم الثّعارير(2)) قلت: ما الثّعارير؟ قال: الضّغابيس. وكان قد سقط فمه. فقلت لعمرو بن دينار: أبا محمّد سمعت جابر بن عبدالله يقول: سمعت النّبيّ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم يقول: ((يخرج بالشّفاعة من النّار))؟ قال: نعم.
الحديث أخرجه مسلم (ج1 ص178)، ويعقوب الفسوي في "المعرفة والتاريخ" (ج2 ص212-213)، والطيالسي في "المسند" (ج2 ص229) من "ترتيب المسند".
__________
(1) …أبوالنعمان هو محمد بن الفضل، وحماد هو ابن زيد، وعمرو هو ابن دينار، وجابر هو ابن عبدالله الأنصاري، كذا في ?الفتح?.
(2) …في ?النهاية? في تفسير (الثعارير): هي القثّاء الصغار شبّهوا بها لأن القثّاء ينمي سريعًا، وقيل هي رؤوس الطراثيث تكون بيضًا، شبّهوا ببياضها، واحدتها: طرثوث، وهو نبت يؤكل.= =وقال في تفسير (الضغابيس): هي صغار القثاء، واحدها: ضغبوس، وقيل: هي نبت ينبت في أصول الثمام يشبه الهليون، يسلق بالخل والزيت ويؤكل. اهـ(53/131)
قال مسلم رحمه الله (ج1 ص177): حدثني عبيدالله بن سعيد وإسحاق بن منصور كلاهما عن روح قال عبيدالله: حدثنا روح بن عبادة القيسي حدثنا ابن جريج قال: أخبرني أبوالزبير أنه سمع جابر بن عبدالله يسأل عن الورود، فقال: نجيء نحن يوم القيامة عن (كذا وكذا انظر أيّ ذلك فوق النّاس)(1) قال: فتدعى الأمم بأوثانها وما كانت تعبد الأوّل فالأوّل ثمّ يأتينا ربّنا بعد ذلك، فيقول: من تنظرون؟ فيقولون: ننظر ربّنا. فيقول: أنا ربّكم. فيقولون: حتّى ننظر إليك. فيتجلّى لهم يضحك، قال: فينطلق بهم ويتّبعونه، ويعطى كلّ إنسان منهم منافق أو مؤمن نورًا، ثمّ يتّبعونه وعلى جسر جهنّم كلاليب وحسك تأخذ من شاء الله، ثمّ يطفأ نور المنافقين، ثمّ ينجو المؤمنون، فتنجو أوّل زمرة وجوههم كالقمر ليلة البدر سبعون ألفًا لا يحاسبون، ثمّ الّذين يلونهم كأضوإ نجم في السّماء، ثمّ كذلك، ثمّ تحلّ الشّفاعة ويشفعون حتّى يخرج من النّار من قال لا إله إلاّ الله وكان في قلبه من الخير ما يزن شعيرةً، فيجعلون بفناء الجنّة ويجعل أهل الجنّة يرشّون عليهم الماء، حتّى ينبتوا نبات الشّيء في السّيل، ويذهب حراقه ثمّ يسأل حتّى تجعل له الدّنيا وعشرة أمثالها معها.
الحديث أخرجه أحمد (ج3 ص283).
__________
(1) …في التعليق ما حاصله: أنه وقع تصحيف فيما بين القوسين، وصوابه: فأكون أنا وأمتي على تل كما في حديث كعب بن مالك. اهـ قلت: وكذا وقع التصحيف في ?مسند أحمد? فلعله من بعض رجال السند.(53/132)
وقال مسلم رحمه الله (ج1 ص179): وحدثنا حجاج بن الشّاعر حدثنا الفضل بن دكين حدثنا أبوعاصم -يعني محمد بن أبي أيوب- قال: حدثني يزيد الفقير قال: كنت قد شغفني رأي من رأي الخوارج، فخرجنا في عصابة ذوي عدد نريد أن نحجّ، ثم نخرج على النّاس، قال: فمررنا على المدينة فإذا جابر بن عبدالله يحدّث القوم جالس إلى سارية عن رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم قال: فإذا هو قد ذكر الجهنّميّين، قال: فقلت له: يا صاحب رسول الله ما هذا الّذي تحدّثون والله يقول: {إنّك من تدخل النّار فقد أخزيته} و{كلّما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا} فما هذا الّذي تقولون؟ قال: فقال: أتقرأ القرآن؟ قلت: نعم. قال: فهل سمعت بمقام محمّد عليه السّلام -يعني الّذي يبعثه الله فيه-؟ قلت: نعم. قال: فإنّه مقام محمّد صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم المحمود الّذي يخرج الله به من يخرج. قال: ثمّ نعت وضع الصّراط ومرّ النّاس عليه، قال: وأخاف أن لا أكون أحفظ ذاك، قال: غير أنّه قد زعم أنّ قومًا يخرجون من النّار بعد أن يكونوا فيها، قال: يعني فيخرجون كأنّهم عيدان السّماسم، قال: فيدخلون نهرًا من أنْهار الجنّة، فيغتسلون فيه، فيخرجون كأنّهم القراطيس، فرجعنا قلنا: ويحكم أترون الشّيخ يكذب على رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم؟ فرجعنا فلا والله ما خرج منّا غير رجل واحد -أو كما قال أبونعيم-.
الحديث أخرجه أبوعوانة (ج1 ص180)، وفي آخره: وقال عبدالواحد ابن سليم (وهو أحد رجال السند عند أبي عوانة) في آخر حديثه: قال جابر: الشّفاعة بيّنة في كتاب الله {ما سلككم في سقر، قالوا لم نك من المصلّين، ولم نك نطعم المسكين، وكنّا نخوض مع الخائضين، وكنّا نكذّب بيوم الدّين، حتّى أتانا اليقين، فما تنفعهم شفاعة الشّافعين}.(53/133)
- قال الإمام البخاري رحمه الله في "الأدب المفرد" ص(285): حدثنا موسى قال: حدثنا القاسم بن الفضل عن سعيد بن المهلب عن طلق بن حبيب قال: كنت أشدّ النّاس تكذيبًا بالشّفاعة فسألت جابرًا فقال: يا طليق سمعت النبي صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم يقول: ((يخرجون من النّار بعد دخول)) ونحن نقرأ الّذي تقرأ.
الحديث أخرجه أبونعيم في "الحلية" (ج2 ص66)، وابن مردويه كما في "تفسير ابن كثير" (ج2 ص54)، وفي "النهاية" (ج2 ص194).
والحديث حسن لغيره لأنّ فيه سعيد بن المهلب، وقد قال فيه الذهبي: لا يعرف، وثّق. اهـ وذكر الحافظ في "تهذيب التهذيب" عنه راويين، وأنّه وثّقه ابن حبان. اهـ فهو صالح في الشواهد والمتابعات.
وأخرجه عبدالرزاق (ج11 ص412) عن معمر عن رجل عن طلق بن حبيب قال: قلت لجابر بن عبدالله: أرأيت هذه الآية {يريدون أن يخرجوا من النّار وما هم بخارجين منها} وأنت تزعم أنّ قومًا يخرجون من النّار؟ قال: أشهد أن هذه الآية نزلتْ على رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم فآمنّا بها قبل أن تؤمن بها، وصدّقْنا بها قبل أن تصدّق بها، وأشهد أني سمعت رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم يقول ما أخبرك: ((إنّ قومًا يخرجون من النّار)) فقال طلق: لا جرم والله لا أجادلك أبدًا.
الحديث في سنده مبهم، ولكنه لا يضر لما تقدم له من المتابعات.(53/134)
وأخرجه البيهقي في "شعب الإيمان" (ج1 ص219) فقال: أخبرنا علي ابن أحمد بن عبدان ثنا أحمد بن عبيد الصفار ثنا سعيد بن عثمان الأهوازي(1) ثنا عاصم بن علي ثنا أيوب بن عتبة عن قيس بن(2) طلق بن علي عن أبيه قال: كنت من أشدّ النّاس تكذيبًا بالشّفاعة، حتّى أتيت جابر ابن عبدالله، فقرأت عليه كلّ آية أقدر عليها في ذكر خلود أهل النّار، فقال لي: يا طلق أنت أعلم بكتاب الله منّي؟ وأعلم بسنة النّبيّ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم منّي؟ إنّ الّذي قرأت لهم أهلها، ولكن هؤلاء أصابوا ذنوبًا فعذّبوا ثمّ أخرجوا منها ونحن نقرأ كما قرأت.
الحديث في سنده أيوب بن عتبة يحدث من حفظه فيغلط، ولكنه لا يضر لأنه في الشواهد.
__________
(1) …سعيد بن عثمان، ترجمته في ?تاريخ بغداد? (ج1 ص97)، قال الخطيب: إنه ثقة. وقال الدارقطني: صدوق حدّث ببغداد. اهـ
(2) …في الأصل: (قيس عن طلق)، وصوابه: (قيس بن طلق بن علي عن أبيه).(53/135)
قال الإمام أحمد رحمه الله (ج3 ص325): ثنا أبوالنضر ثنا زهير(1) ثنا أبوالزبير عن جابر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: ((إذا ميّز أهل الجنّة وأهل النّار فدخل أهل الجنّة الجنّة، وأهل النّار النّار، قامت الرّسل فشفعوا فيقول: انطلقوا أو اذهبوا فمن عرفتم فأخرجوه. فيخرجونهم قد امتحشوا فيلقونهم في نهر أو على نهر يقال له الحياة قال: فتسقط محاشّهم على حافة النّهر ويخرجون بيضًا مثل الثّعارير، ثمّ يشفعون فيقول: اذهبوا أو انطلقوا فمن وجدتم في قلبه مثقال قيراط من إيمان فأخرجوهم. قال: فيخرجون بشرًا ثمّ يشفعون، فيقول: اذهبوا أو انطلقوا فمن وجدتم في قلبه مثقال حبّة من خردلة من إيمان فأخرجوه. ثمّ يقول الله عزّ وجلّ: أنا الآن أخرج بعلمي ورحمتي. قال: فيخرج أضعاف ما أخرجوا وأضعافه فيكتب في رقابهم عتقاء الله عزّ وجلّ، ثمّ يدخلون الجنّة فيسمّون فيها الجهنّميّين)).
الحديث حسن لغيره لأن فيه أبا الزبير وهو مدلس ولم يصرح بالتحديث.
قال البخاري رحمه الله (ج11 ص418): حدثنا مسدد حدثنا يحيى عن الحسن(2) بن ذكوان حدثنا أبورجاء حدثنا عمران بن حصين رضي الله عنهما عن النّبيّ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم قال: ((يخرج قوم من النّار بشفاعة محمّد صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم فيدخلون الجنّة يسمّون الجهنّميّين)).
الحديث رواه أبوداود (ج5 ص107)، والترمذي (ج4 ص114)، وابن ماجه (ج2 ص1443)، وأحمد (ج4 ص434)، وابن خزيمة ص(276)، والآجري في "الشريعة" ص(344)، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، وأبورجاء العطاردي اسمه: عمران بن تيم، ويقال: ابن ملحان.
__________
(1) …في الأصل: (ابن زهير)، والصواب ما أثبتناه، وهو أبوخيثمة زهير بن معاوية كما في ترجمة أبي النضر بن القاسم، وهو كما قلنا في ?النهاية? لابن كثير (ج2 ص193).
(2) …هكذا في جميع المراجع التي أشرنا إليها: (الحسن)، إلا في كتاب ?الشريعة? للآجري، فـ(حسين)، وهو تصحيف.(53/136)
فائدة: هذا الحديث يدور على الحسن بن ذكوان وقد ضعفه أحمد وابن معين وأبوحاتم والنسائي وابن المديني كما في "مقدمة الفتح".
قال الحافظ في "مقدمة الفتح": روى له البخاري حديثًا واحدًا في كتاب الرقاق، وذكر له هذا الحديث بهذا السند، ثم قال: ولهذا الحديث شواهد كثيرة. اهـ المراد من "المقدمة".
قال الإمام أحمد رحمه الله (ج2 ص400): حدثنا سليمان بن داود ثنا عبدالرحمن بن أبي الزناد(1) قال: أخبرني صالح بن أبي صالح مولى التوءمة قال أخبرني أبوهريرة قال: قال: رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: ((ليتحمّدنّ الله يوم القيامة على أناس ما عملوا من خير قطّ فيخرجهم من النّار بعدما احترقوا، فيدخلهم الجنّة برحمته بعد شفاعة من يشفع)).
الحديث ضعيف لأن في سنده صالح بن أبي صالح مولى التوءمة، وهو صالح بن نبهان مختلط.
قال الطبراني رحمه الله في "المعجم الصغير" (ج1 ص40-41): حدثنا أحمد بن محمد بن مقاتل الرازي ببغداد حدثنا الحسين بن عيسى بن ميسرة حدثنا أبوزهير عبدالرحمن بن مغراء حدثنا عيسى الجهني عن عبدالملك بن ميسرة الزراد عن مجاهد أنه سمع عبدالله بن عمرو(2) يقول: قال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: ((يدخل من أهل هذه القبلة النّار من لا يحصي عددهم إلاّ الله بما عصوا الله، واجترءوا على معصيته، وخالفوا طاعته، فيؤذن لي في الشّفاعة فأثني على الله جلّ ذكره ساجدًا كما أثني عليه قائمًا)) وذكر الحديث. اهـ
__________
(1) …عبدالرحمن: ضعيف، وقيل ما رواه عنه سليمان الهاشمي فهو حسن. وقد أوردت له في ?الصحيح المسند? حديث عائشة يرويه عن أبيه وهشام بن عروة عن عروة قال النبي لحسان: ((إنّ روح القدس مع حسّان ما نافح عن رسول الله)). وأما رواية عبدالرحمن عن غير أبيه وهشام فضعيفة.
(2) …في الأصل: (ابن عمر)، والصواب ما أثبتناه كما في ?الترغيب والترهيب? للمنذري (ج4 ص436)، و?مجمع الزوائد? (ج10 ص376)، و?كنْز العمال? (ج14 ص414).(53/137)
تمام الحديث كما في "الترغيب والترهيب" (ج2 ص436-437): ((فيقال لي: ارفعْ رأسك، وسلْ تعطه، واشفعْ تشفّعْ)).
رجال الإسناد غير المشهورين:
1- أحمد بن محمد بن مقاتل: ترجم له الخطيب في "تاريخ بغداد" (ج5 ص98)، ولم يذكر فيه جرحًا ولا تعديلاً، وقال: إنّه حدّث ببغداد عن أبيه والحسين بن عيسى بن ميسرة وأحمد بن بكر بن سيف، روى عنه عبدالباقي ابن قانع وأبوالقاسم الطبراني والحسين بن مهدي المروزي.
2- الحسين بن عيسي بن ميسرة: صدوق كما في "الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم.
3- أما عيسى الجهني فهو تصحيف، وصوابه: موسى وهو ابن عبدالله وقيل ابن عبدالرحمن، ثقة عابد وهو يروي عن عبدالملك بن ميسرة وعنه أبوزهير هذا كما في "تهذيب الكمال".
وقد حسّن الحديث المنذري رقم (5325)، والهيثمي في "مجمع الزوائد" (ج10 ص376) والله اعلم.(53/138)
قال ابن خزيمة رحمه الله ص(300): حدثنا الحسين بن الحسن قال: حدثنا المعتمر بن سليمان عن حميد الطويل عن أنس بن مالك قال: ((يلقى النّاس يوم القيامة من الحبس ما شاء الله أن يلقوه، فيقولون: انطلقوا بنا إلى آدم. فينطلقون إلى آدم فيقولون: يا آدم اشفعْ لنا إلى ربّك. فيقول: لست هناك، ولكن انطلقوا إلى خليل الله إبراهيم. فينطلقون إلى إبراهيم فيقولون: يا إبراهيم اشفعْ لنا إلى ربّك. فيقول: لست هناك، ولكن انطلقوا إلى من اصطفاه الله برسالاته. فينطلقون إلى موسى، فيقولون: يا موسى اشفعْ لنا إلى ربّك. فيقول: لست هناك، ولكن انطلقوا(1) إلى من جاء اليوم مغفورًا له، ليس عليه ذنب. فينطلقون إلى محمّد صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم، فيقولون: يا محمّد اشفعْ لنا إلى ربّك. فيقول: أنا لها، وأنا صاحبها. قال: فأنطلق حتّى أستفتح باب الجنّة، قال: فيفتح فأدخل، وربّي عزّ وجلّ على عرشه فأخرّ ساجدًا، وأحمده بمحامد لم يحمدْه بها أحد قبلي -وأحسبه قال: ولا أحد بعدي-، فيقال: يا محمّد ارفعْ رأسك، وقلْ يسمع، وسلْ تعطه، واشفعْ تشفّعْ، فأقول: يا ربّ يا ربّ. فيقول: أخرجْ من كان في قلبه مثقال شعيرة(2) من الإيمان. قال: فأخرّ ساجدًا وأحمده بمحامد لم يحمدْه بها أحد قبلي -وأحسبه قال: ولا أحد بعدي-، فيقال: يا محمّد ارفع رأسك وقل يسمعْ، وسلْ تعطه، واشفعْ تشفعْ. فأقول: يا ربّ يا ربّ. فيقول: أخرجْ من النّار من كان في قلبه مثقال شعيرة من الإيمان. قال: فأخرّ ساجدًا، وأحمد بمحامد لم يحمدْه بها أحد قبلي -وأحسبه قال: ولا أحد بعدي- فيقال: يا محمّد ارفعْ رأسك قلْ يسمعْ، وسلْ تعط، واشفعْ تشفّع. فأقول: يا ربّ. فيقول: أخرجْ من كان في قلبه أدنى شيء فيخرج ناس من النّار يقال لهم الجهنّميون، وإنه لفي
__________
(1) …ساقطة من الطبعة القديمة واستدركها الشهوان في تحقيقه لكتاب ?التوحيد?(ج2ص717).
(2) …في الموضعين: ((من كان في قلبه مثقال شعيرة من الإيمان)).(53/139)
الجنّة))
فقال له رجل يا أبا حمزة: أسمعت هذا من رسول الله صلّى عليه وعلى آله وسلّم قال: فتغيّر وجهه، واشتدّ عليه وقال: ليس كل ما نحدّث سمعناه من رسول الله صلّى عليه وعلى آله وسلّم ولكن لم يكن يكذّب بعضنا بعضًا.
الحديث رجاله رجال الصحيح إلا الحسين بن الحسن وهو ابن حرب السلمي. وقد قال أبوحاتم: إنه صدوق، ووثّقه ابن حبان ومسلمة كما في "تهذيب التهذيب". وحميد الطويل مدلس ولم يصرح بالتحديث، وقد قال شعبة: لم يسمع حميد من أنس إلا أربعة وعشرين حديثًا والباقي سمعها من ثابت، أو ثبّته فيها ثابت. وقال حماد: عامة ما يرويه حميد عن أنس سمعه من ثابت. كما في "تهذيب التهذيب".
لكن لا يضر الحديث هنا لأنه في الشواهد والمتابعات.(53/140)
- وقال ابن خزيمة رحمه الله ص(303): حدثنا محمد بن بشار ومحمد بن رافع -وهذا حديث بندار قال: حدثنا حماد بن مسعدة قال: ثنا ابن عجلان عن حوثة(1) بن عبيد عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النّبيّ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم قال: ((يؤتى آدم عليه السّلام يوم القيامة فيقال: اشفعْ لذرّيتك. فيقول: لست بصاحب ذلك، ائتوا نوحًا فإنّه أوّل الأنبياء وأكبرهم. فيؤتي نوح فيقول: لست بصاحبه، عليكم بإبراهيم فإنّ الله اتخذه خليلاً. فيؤتي إبراهيم فيقول: لست بصاحبه عليكم بموسى فإنّ الله كلّمه تكليمًا. قال: فيؤتى موسى فيقول: لست بصاحبه، عليكم بعيسى فإنّه روح الله وكلمته. فيؤتى عيسى، فيقول: لست بصاحب هذا، ولكن أدلكم على صاحبه ولكن ائتوا محمّدًا صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم وعلى جميع الأنبياء. قال: فأوتى، فاستفتح فإذا نظرت إلى الرّحمن وقعْت له ساجدًا، فيقال لي: ارفعْ رأسك يا محمّد، وقل يسمعْ، واشفعْ تشفّعْ، وسل تعطه. فأقول: يا ربّ أمّتي. قال: فيقال: اذهبوا فلا تدعوا في النّار أحدًا في قلبه مثقال دينار إيمان إلاّ أخرجتموه. ويخرج ما شاء الله، ثمّ أقع الثّانية ساجدًا، قال: فيقال: ارفع يا محمّد، فقل يسمعْ، واشفعْ تشفّعْ، وسل تعطه. فأقول: أي ربّ أمّتي. قال: فيقال: اذهبوا فلا تدعوا في النّار أحدًا في قلبه نصف دينار إيمان إلاّ أخرجتموه. قال: فيخرج بذلك ما شاء الله، قال: ثمّ أقع الثّالثة ساجدًا، قال: فيقال: ارفعْ رأسك يا محمّد، وقل يسمع لك، واشفع تشفّعْ، وسلْ تعطه. قال: فأقول: يا ربّ
__________
(1) …في ?التوحيد? لابن خزيمة: (حوثة) بالحاء المهملة في ثلاثة مواضع، وفي ?الإكمال? لابن= =ماكولا: جوثة بن عبيد ... روى عن أنس بن مالك وأبي سلمة بن عبدالرحمن، حدث عنه ابن عجلان ويزيد بن أبي حبيب وعياش بن عباس، وقال حماد بن مسعدة: عن ابن عجلان، حوثة بحاء مهملة، قاله البخاري في ?التاريخ? عن أبي موسى، وقال: الصحيح جوثة -بالجيم-. اهـ(53/141)
أمّتي، فيقول: اذهبوا فلا تدعوا في النّار أحدًا في قلبه مثقال ذرّة إيمان إلاّ أخرجتموه. فلا يبقى إلاّ من لا خير فيه)).
جوثة بن عبيد ترجمه البخاري في "التاريخ الكبير" (ج2 ص253)، وابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل" (ج2 ص549)، وابن ماكولا في "الإكمال" (ج2 ص196)، ولم يذكروا فيه جرحًا ولا تعديلاً، لكنّهم ذكروا جماعة من الرواة عنه فهو مستور الحال يصلح حديثه في الشّواهد والمتابعات، وينظر في قوله في الحديث: ((إنّ نوحًا أوّل الأنبياء)) هل توبع عليها فإن المعروف أن أول الأنبياء آدم، وأول الرسل نوح(1) والله أعلم.
فائدة: في "تاريخ البخاري" من الرواة عن (جوثة): (عياش) مهمل -أي: غير منسوب-، وفي "الجرح والتعديل" و"الإكمال" لابن ماكولا و"الثقات" لابن حبان: (عياش بن عباس)، وفي "التوحيد" لابن خزيمة ص(305): (عياش بن عقبة)، وترجمتهما في "تهذيب التهذيب"، فهل رويا عنه كلاهما، أم الصواب أحدهما، أما عياش بن عقبة فقد ذكر الحافظ في "تهذيب التهذيب" من شيوخه جوثة بن عبيد، وليس هناك ما يمنع من أن يكونا قد رويا عنه فهما متقاربا الطبقة مصريان وجوثة مصري، والله أعلم.
__________
(1) …فإن توبع عليها فيحمل على أنه أول الأنبياء من ذرية آدم، وإلاّ فقد ثبت أن النبي صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم قال: ((كان آدم نبيًا مكلمًا وكان بينه وبين نوح عشرة سنين قرون)) أخرجه ابن حبان في ?الموارد? رقم (2085)، والحاكم (ج2 ص262)، ورجاله ثقات، وصححه الشيخ الألباني في ?الصحيحة? رقم (2668) المجلد السادس القسم الأول.(53/142)
قال الإمام أحمد (ج5 ص43): ثنا عفان ثنا سعيد بن زيد(1) قال: سمعت أبا سليمان العصري(2) حدثني عقبة بن صهبان قال: سمعت أبا بكرة عن النّبيّ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم قال: ((يحمل النّاس على الصّراط يوم القيامة، فتقادع بهم جنبة الصّراط تقادع الفراش في النّار، قال: فينجي الله تبارك وتعالى برحمته من يشاء، قال: ثمّ يؤذن للملائكة والنّبيّين والشّهداء أن يشفعوا فيشفعون ويخرجون، ويشفعون ويخرجون، ويشفعون ويخرجون -وزاد عفّان مرّة فقال أيضًا: ويشفعون ويخرجون- من كان في قلبه ما يزن ذرّةً من إيمان)).
الحديث أخرجه البخاري في "التاريخ" (ج9 ص37)، والطبراني في "الصغير" (ج2 ص57)، وقال الهيثمي (ج10 ص359): رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح، ورواه الطبراني في "الصغير" و"الكبير" بنحوه، ورواه البزار أيضًا ورجاله رجال الصحيح.
__________
(1) …سعيد بن زيد: هو أخو حماد بن زيد.
(2) …أبوسليمان العصري: اسمه خليد بن عبدالله كما في ?تهذيب التهذيب?.(53/143)
قال الإمام أحمد رحمه الله (ج5 ص325): ثنا الحكم بن نافع ثنا إسماعيل بن عياش عن راشد بن داود الصنعاني عن عبدالرحمن بن حسان عن روح بن زنباع عن عبادة بن الصامت قال: فقد النّبيّ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم ليلةً أصحابه، وكانوا إذا نزلوا أنزلوه أوسطهم، ففزعوا وظنّوا أنّ الله تبارك وتعالى اختار له أصحابًا غيرهم، فإذا هم بخيال النّبيّ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم فكبّروا حين رأوه، وقالوا: يا رسول الله أشفقنا أن يكون الله تبارك وتعالى اختار لك أصحابًا غيرنا. فقال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: ((لا، بل أنتم أصحابي في الدّنيا والآخرة، إنّ الله تعالى أيقظني فقال: يا محمّد إنّي لم أبعث نبيًّا ولا رسولاً إلاّ وقد سألني مسألةً أعطيتها إيّاه، فاسأل يا محمّد تعط. فقلت: مسألتي شفاعتي لأمّتي يوم القيامة)). فقال أبوبكر: يا رسول الله وما الشّفاعة؟ قال: ((أقول يا ربّ شفاعتي الّتي اختبأت عندك. فيقول الرّبّ تبارك وتعالى: نعم. فيخرج ربّي تبارك وتعالى بقيّة أمّتي من النّار فينبذهم في الجنّة)).
قال الهيثمي (ج10 ص368): رواه أحمد والطبراني ورجال أحمد ثقات على ضعف في بعضهم.
وقال الحافظ ابن كثير في "النهاية" (ج2 ص194): تفرد به أحمد.
وأقول: هذا الحديث في سنده راشد بن داود وقد وثّقه ابن معين ودحيم، وقال البخاري: فيه نظر. وقال الدارقطني: ضعيف لا يعتبر به.
فالحديث ضعيف جدًا، لأن قول البخاري (فيه نظر) من أردى عبارات التجريح كما في "فتح المغيث" (ج1 ص344).
وفي الحديث أيضًا إسماعيل بن عياش، ولكن شيخه شامي فلا يضره إذ رواية إسماعيل عن الشاميين مقبولة.(53/144)
قال الطبراني رحمه الله في "الكبير" (ج10 ص215): حدثنا إبراهيم بن نائلة الأصبهاني ثنا كثير بن يحيى صاحب البصري ثنا أبوعوانة عن الأعمش عن إبراهيم عن الحارث بن سويد عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: لا تزال الشّفاعة بالنّاس وهم يخرجون من النّار، حتى إنّ إبليس الأبالس ليتطاول لها رجاء أن تصيبه.
قال الهيثمي في "المجمع" (ج10 ص380): رواه الطبراني موقوفًا وفيه كثير بن يحيى صاحب البصري وهو ضعيف(1).
وقال الإمام أحمد رحمه الله (ج5 ص402): ثنا محمد بن جعفر وحجاج قالا: ثنا شعبة عن جابر عن ربعي عن حذيفة -قال شعبة: رفعه مرةً إلى النبي صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم- قال: ((يخرج الله قومًا منتنين قد محشتهم النّار بشفاعة الشّافعين فيدخلهم الجنّة فيسمّون الجهنّميّون -قال حجّاج: الجهنّميّين-)).
الحديث أخرجه ابن خزيمة ص(275-276)، والآجري في "الشريعة" ص(346) كما عند أحمد، والحسين بن الحسن المروزي في "زوائد زهد ابن المبارك" ص(447) موقوفًا.
وقال الهيثمي (ج10 ص380): رواه أحمد من طريقين ورجالهما رجال الصحيح.
وقال الحافظ في "المطالب العالية" (ج4 ص382) بعد عزوه لأبي بكر ابن أبي شيبة: حسن صحيح.
__________
(1) …كثير بن يحيى: شيعي له مناكير كما في ?الميزان? ونهى عباس العنبري عن الأخذ عنه. وكل السند سواه ثقات إلا شيخ الطبراني واسمه إبراهيم بن محمد بن الحارث أبوإسحاق يعرف بابن نائلة وهي أمه. ترجم له أبونعيم في ?أخبار أصبهان? (ج1 ص188) وأبوالشيخ في ?طبقات المحدثين بأصبهان? (ج2 ص103).(53/145)
قال الإمام أبوحاتم محمد بن حبان البستي رحمه الله كما في "الموارد" ص(645): أخبرنا محمد بن الحسين(1) بن مكرم حدثنا سريج بن يونس حدثنا مروان بن معاوية حدثنا أبومالك الأشجعي عن ربعي عن حذيفة عن النّبيّ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم قال: ((يقول إبراهيم يوم القيامة: يا ربّاه. فيقول الله جلّ وعلا: يا لبّيكاه. فيقول إبراهيم: يا ربّ حرّقت بنيّ. فيقول: أخرجوا من النّار من كان في قلبه ذرّة أو شعيرة من إيمان)).
الحديث رجاله رجال الصحيح(2)، وشيخ ابن حبان محمد بن الحسين بن مكرم، قال الدارقطني: ثقة، كما في "تذكرة الحفاظ".
قال أبونعيم رحمه الله في "الحلية" (ج7 ص253): حدثنا عبدالله بن الحسين بن بالويه الصوفي ثنا محمد بن محمد بن علي ثنا محمد بن عبدك ثنا مصعب بن خارجة ثنا أبي(3) ثنا مسعر عن عطية عن أبي سعيد قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم يقول: {((عسى أن يبعثك ربّك مقامًا محمودًا} قال: يخرج الله قومًا من النّار من أهل الإيمان والقبلة بشفاعة محمّد صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم فذلك المقام المحمود، فيؤتى بهم إلى نهر يقال له: الحيوان، فيلقون فيه فينبتون كما ينبت الثعارير، ويخرجون فيدخلون الجنّة فيسمّون: الجهنّميّين، فيطلبون إلى الله أن يذهب عنهم ذلك الاسم فيذهب عنهم)).
غريب من حديث مسعر لم نكتبه إلا من حديث مصعب عن أبيه.
الحديث في سنده عطية بن سعد العوفي، وخارجة بن مصعب ومصعب ابن خارجة.
__________
(1) …في الأصل: (محمد بن الحسن)، وصوابه:(ابن الحسين) كما في ?تذكرة الحفاظ? ص(735).
(2) …وإسناده على شرط مسلم لأن أبا مالك سعد بن طارق روى له مسلم والبخاري خارج ?الصحيح?.
(3) …أبوه: هو خارجة بن مصعب.(53/146)
أما عطية فضعيف وشيعي ومدلس. قال الحافظ الذهبي في "الميزان": وقال أحمد: بلغني أن عطية كان يأتي الكلبي فيأخذ عنه التفسير، وكان يكنيه(1) بأبي سعيد: فيقول: قال أبوسعيد. قال الحافظ الذهبي: قلت: يوهم أنه أبوسعيد الخدري. اهـ
وأما خارجة بن مصعب فقال الحافظ الذهبي في "الميزان": وهّاه أحمد، وقال ابن معين: ليس بثقة، وقال أيضًا كذّاب. وقال البخاري: تركه ابن المبارك ووكيع. وقال الدارقطني وغيره: ضعيف، وقال ابن عدي: هو ممن يكتب حديثه. اهـ
وأما ولده مصعب بن خارجة فقال الحافظ الذهبي في "الميزان": مجهول. اهـ
فالحديث بهذا السند ضعيف جدًا.
قال الآجري رحمه الله في "الشريعة" ص(346): أخبرنا ابن(2) ذريح العكبري قال: حدثنا هناد بن السري قال: حدثنا أبومعاوية عن إسحاق بن عبدالله عن سعيد بن أبي سعيد عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: لقد بلغت الشّفاعة يوم القيامة حتى أنّ الله عزّ وجلّ ليقول للملائكة: أخرجوا برحمتي من كان في قلبه مثقال حبّة من خردل من إيمان. قال: ثمّ يخرجهم حفنات بيده بعد ذلك.
هذا الأثر في سنده إسحاق بن عبدالله بن أبي فروة، قال الحافظ الذهبي في "الميزان": قال البخاري: تركوه. ونهى أحمد عن حديثه، وقال الجوزجاني: سمعت أحمد بن حنبل يقول: لا تحل الرواية عندي عن إسحاق ابن أبي فروة. وقال أبوزرعة وغيره: متروك. اهـ
قال الإمام ابن عدي في "الكامل" (ج3 ص1178): ثنا أبويعلى ثنا أبوالربيع الزهراني عن سلمة بن صالح ثنا سلمة بن كهيل عن أبي الزعراء عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: ((ليدخلنّ الجنّة قوم من المسلمين قد عذبوا في النّار برحمة الله وشفاعة الشّافعين)).
الحديث منكر فيه سلمة بن صالح ضعيف جدًا.
__________
(1) …في ?الميزان?: (وكان يكنى). فنقلت العبارة المناسبة من ?تهذيب التهذيب?.
(2) …في الأصل: (أبوذريح). والصواب ما أثبتناه وقد تقدمت ترجمته التعليق(1) ص(78).(53/147)
وأبوالزعراء ترجمه الذهبي في "الميزان" فقال: عبدالله بن هانئ أبوالزعراء صاحب ابن مسعود، قال البخاري: لا يتابع على حديثه، سمع منه سلمة بن كهيل حديثه عن ابن مسعود في الشفاعة: ثمّ يقوم نبيكم صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم رابعًا(1).
والمعروف أنه عليه الصلاة والسلام أول شافع. قاله البخاري. وقد أخرج النسائي الحديث مختصرًا. اهـ
فصل ذكر خبر ظاهره يخالف ما تقدم من الأحاديث الدالة على خروج الموحدين من النار وتوجيهه
__________
(1) …تقدم هذا الأثر برقم (30) ص(61).(53/148)
قال الترمذي رحمه الله (ج4 ص95): حدثنا قتيبة حدثنا عبدالعزيز بن محمد عن العلاء بن عبدالرحمن عن أبيه عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم قال: ((يجمع الله النّاس يوم القيامة في صعيد واحد، ثمّ يطّلع عليهم ربّ العالمين فيقول: ألا يتبع كلّ إنسان ما كانوا يعبدونه، فيمثّل لصاحب الصّليب صليبه، ولصاحب التّصاوير تصاويره، ولصاحب النّار ناره، فيتبعون ما كانوا يعبدون، ويبقى المسلمون فيطّلع عليهم ربّ العالمين فيقول: ألا تتّبعون النّاس. فيقولون: نعوذ بالله منك، نعوذ بالله منك، الله ربّنا هذا مكاننا حتّى نرى ربّنا. وهو يأمرهم ويثبّتهم ثمّ يتوارى ثمّ يطّلع فيقول: ألا تتّبعون النّاس. فيقولون: نعوذ بالله منك، نعوذ بالله منك، الله ربّنا وهذا مكاننا حتّى نرى ربّنا. وهو يأمرهم ويثبّتهم)) قالوا: وهل نراه يا رسول الله؟ قال: ((وهل تضارّون في رؤية القمر ليلة البدر؟)) قالوا: لا يا رسول الله. قال: ((فإنّكم لا تضارّون في رؤيته تلك السّاعة، ثمّ يتوارى ثمّ يطّلع فيعرّفهم نفسه، ثمّ يقول: أنا ربّكم فاتّبعوني. فيقوم المسلمون ويوضع الصّراط، فيمرّون عليه مثل جياد الخيل والرّكاب، وقولهم عليه سلّم سلّم، ويبقى أهل النّار فيطرح منهم فيها فوج، ثمّ يقال: هل امتلأت؟ فتقول: هل من مزيد؟ ثمّ يطرح فيها فوج، فيقال: هل امتلأت؟ فتقول: هل من مزيد؟ حتّى إذا أوعبوا فيها وضع الرّحمن قدمه فيها، وأزوى بعضها إلى بعض، ثمّ قال: قطْ. قالت: قطْ قطْ. فإذا أدخل الله أهل الجنّة الجنّة، وأهل النّار النّار، قال: أتي بالموت ملبّبًا، فيوقف على السّور الّذي بين أهل الجنّة وأهل النّار، ثمّ يقال: يا أهل الجنّة. فيطّلعون خائفين، ثمّ يقال: يا أهل النّار. فيطّلعون مستبشرين يرجون الشّفاعة، فيقال لأهل الجنّة وأهل النّار: هل تعرفون هذا؟ فيقولون هؤلاء وهؤلاء: قد عرفناه هو الموت الّذي وكّل بنا. فيضجع فيذبح ذبحًا على السّور الّذي(53/149)
بين الجنّة والنّار، ثمّ يقال: يا أهل الجنّة خلود لا موت، ويا أهل النّار خلود لا موت)).
هذا حديث حسن صحيح.
الحديث رواه أحمد (ج2 ص368-369) وعنده متابعة حفص بن ميسرة لعبدالعزيز بن محمد وهو الدراوردي.
قال أبوعبدالرحمن: وذبْح الموت يكون بعد الشّفاعات، ومن يخرج من النار من الموحدين كما في "مسند أحمد" (ج2 ص344)، قال الإمام أحمد رحمه الله: ثنا موسى بن داود ثنا ليث(1) عن محمد بن عجلان عن أبي الزناد(2) عن أبي هريرة عن النّبيّ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم أنّه قال: ((إذا دخل أهل الجنّة الجنّة، وأهل النّار النّار، نادى مناد: يا أهل الجنّة خلودًا فلا موت فيه، ويا أهل النّار خلودًا فلا موت فيه)).
قال: وذكر لي خالد بن زيد(3) أنه سمع أبا الزبير يذكر مثله عن جابر وعبيد بن عمير، إلا أنه يحدث عنهما أن ذلك بعد الشّفاعات ومن يخرج من النّار.
فائدتان:
الأولى: عقّب الترمذي هذا الحديث بحديث بعده يدل على ذبح الموت ثم قال: وقد روي عن النبي صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم روايات كثيرة، مثل ذا ما يذكر فيه أمر الرؤية أن الناس يرون ربّهم، وذكر القدم وما أشبه هذه الأشياء، والمذهب في هذا عند أهل العلم من الأئمة مثل: سفيان الثوري ومالك بن أنس وسفيان بن عيينة وابن المبارك ووكيع وغيرهم أنّهم رووا هذه الأشياء وقالوا: تروى هذه الأحاديث ويؤمن بها، ولا يقال: كيف؟ وهذا الذي اختاره أهل الحديث أن يرووا هذه الأشياء كما جاءت ويؤمن بها ولا تفسّر ولا يتوهّم، ولا يقال: كيف؟ وهذا أمر أهل العلم الذي اختاروه وذهبوا إليه، ومعنى قوله في الحديث ((فيعرّفهم نفسه)) يعني: يتجلى لهم. اهـ
__________
(1) …ليث: هو ابن سعد المصري.
(2) …أبوالزناد لم يسمع من أبي هريرة، فالحديث منقطع من هذا الوجه.
(3) …الظاهر أنه خالد بن يزيد الجمحي، وأنّها سقطت الياء. والقائل: (وذكر لي) هو الليث بن سعد فهو من الرواة عن خالد بن يزيد الجمحي، والله أعلم.(53/150)
الثانية: إذا قرئت هذه الأحاديث على بعض المتعصبة طعنوا فيها ولو رجعوا إلى كتب أئمتهم لوجدوا فيها ما يلزمهم بقبولها، ففي "أمالي المرشد بالله" (ج1 ص28) حديث أنس بسنده: ((يخرج من النّار من قال: لا إله إلاّ الله، وفي قلبه وزن ذرّة من الخير)).
وقبل هذا الحديث حديث أبي هريرة: ((من قال: لا إله إلاّ الله، نفعه من دهره ولو بعد ما يصيبه العذاب)).
وفي سند حديث أبي هريرة حفص الغاضري، وهو حفص بن سليمان المقرئ كما في "موضح أوهام الجمع والتفريق" (ج2 ص48) و"ميزان الاعتدال"، وقد قال الحافظ الذهبي في "الميزان": كان ثبتًا في القراءة، واهيًا في الحديث.
فصل في أول من يشفع له النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم
قال الحافظ الخطيب رحمه الله في "موضح أوهام الجمع والتفريق" (ج2 ص48): أخبرنا محمد بن علي بن الفتح أخبرنا أبوالحسن علي بن عمر الدارقطني حدثنا أبوالقاسم عبدالله بن محمد بن عبدالعزيز البغوي حدثنا أبوالربيع الزهراني حدثنا حفص بن أبي داود عن ليث عن مجاهد عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: ((أوّل من أشفع له من أمّتي أهل بيتي، ثمّ الأقرب فالأقرب، ثمّ الأنصار، ثمّ من آمن بي واتّبعني من اليمن، ثمّ سائر العرب، ثمّ الأعاجم ومن أشفع له أوّلاً أفضل)).
قال أبوالحسن: غريب من حديث ليث عن مجاهد تفرد به حفص بن أبي داود عنه، وهو حفص بن سليمان بن المغيرة أبوعمر المقرئ صاحب عاصم ابن أبي النجود في القراءة. اهـ
الحديث ذكره ابن الجوزي في "الموضوعات" (ج3 ص250) وقال: أما ليث فغاية في الضعف عندهم إلا أن المتّهم بهذا حفص، قال أحمد ومسلم والنسائي: هو متروك. وقال عبدالرحمن بن يوسف بن سعيد بن خراش: متروك يضع. اهـ
وأقره السيوطي في "اللآلئ" (ج2 ص450).(53/151)
قال البخاري في "التاريخ" (ج5 ص404): عبدالله قال: ح(1) حرمي ابن عمارة حدثنا سعيد بن السائب الطائفي حدثنا عبدالملك بن أبي زهير ابن عبدالرحمن الطائفي أن حمزة بن عبدالله بن أبي تيماء الثقفي أخبره أن القاسم بن جبير أخبره أن عبدالملك بن عباد بن جعفر أخبره(2) سمع النّبيّ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: ((أوّل من أشفع له أهل المدينة)).
تمام الحديث كما في "أسد الغابة" (ج3 ص510)، و"مجمع الزوائد" (ج10 ص381): ((وأهل مكّة وأهل الطائف))، وكذا في "الجامع الصغير"، وفي "الإصابة" (ج2 ص423): ((ثمّ أهل مكّة، ثمّ أهل الطائف)).
الحديث قال الهيثمي: رواه الطبراني وفيه جماعة لم أعرفهم.
قال أبوعبدالرحمن: أما عبدالله: فهو ابن محمد المسندي من أشهر مشايخ البخاري.
وحرمي بن عمارة: من رجال الصحيح.
وسعيد بن السائب الطائفي: ترجمته في "تهذيب التهذيب" وثّقه ابن معين وغيره.
وأما عبدالملك بن أبي زهير فذكره البخاري في "التاريخ الكبير" (ج5 ص414) وذكر الحديث في ترجمته ولم يذكر فيه جرحًا ولا تعديلاً، وذكره ابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل" (ج5 ص351) وذكر أنه روى عنه سعيد بن السائب الطائفي وأبوأمية بن يعلى ومحمد بن مسلم الطائفي، ولم يذكر فيه جرحًا ولا تعديلاً فهو مستور الحال، ولذلك قال الإمام الذهبي في "الميزان": لا يكاد يعرف.
__________
(1) …(ح) هنا إشارة لـ(حدثنا) أو (حدثني)، وهذا غير معهود في كتب المصطلح، بل قال ابن الجزري: إنه مما أحدثه بعض العجم، وليس من اصطلاح أهل الحديث. اهـ ?فتح المغيث? (ج2 ص190).
(2) …في ?التاريخ? زيادة: (عن جرير)، فجعله من مسند جرير، وليست موجودة في ?مجمع الزوائد? و?الاستيعاب? و?الإصابة?. وزيادة: (جرير) خطأ، لعله من النساخ أو المطبعة.(53/152)
وأما حمزة بن عبدالله بن أبي تيماء الثقفي فذكره البخاري (ج3 ص49) وما ذكر عنه راويًا سوى عبدالملك بن أبي زهير، ولم يذكر فيه جرحًا ولا تعديلاً. وهكذا ابن أبي حاتم (ج3 ص213) لم يذكر عنه راويًا سوى عبدالملك فهو مجهول العين.
وأما القاسم بن جبير فذكره البخاري (ج7 ص169) ولم يذكر فيه جرحًا ولا تعديلاً، ورجّح المعلق على "التاريخ" (ج5 ص404) أنه القاسم ابن حبيب بن جبير، ينسب تارة إلى أبيه وتارة إلى جده.
والحديث بهذا السند ضعيف لأن أغلب رواته مجهولون، والله أعلم.
قال ابن عدي في "الكامل" (ج5 ص2005): حدثنا إبراهيم بن أسباط ثنا أبوالأشعث ثنا زهير بن العلاء ثنا عطاء بن أبي ميمونة عن أنس ابن مالك قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: ((أوّل من أشفع له من أمّتي العرب الّذين رأوني وآمنوا بي وصدّقوني ثمّ أشفع للعرب الّذين لم يروني وأحبّوني وأحبّوا رؤيتي))(1).
شيخ ابن عدي لم أجد ترجمته.
وأبوالأشعث: هو أحمد بن المقدام العجلي ثقة ثبت.
وزهير بن العلاء قال أبوحاتم: أحاديثه موضوعة. اهـ من "الميزان".
فصل في طلب الشفاعة من المخلوق فيما يقدر عليه
قال الإمام أحمد رحمه الله (ج4 ص138): ثنا عثمان بن عمر أنا شعبة عن أبي جعفر قال: سمعت عمارة بن خزيمة يحدث عن عثمان بن حنيف أنّ رجلاً ضرير البصر أتى النّبيّ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم فقال: ادع الله أن يعافيني. قال: ((إن شئت دعوت لك وإن شئت أخّرت ذاك فهو خير)) فقال: ادعه. فأمره أن يتوضّأ فيحسن وضوءه فيصلّي ركعتين ويدعو بهذا الدّعاء: اللّهمّ إنّي أسألك وأتوجّه إليك بنبيّك محمّد نبيّ الرّحمة، يا محمّد إنّي توجّهت بك إلى ربّي في حاجتي هذه فتقضي لي، اللهمّ شفّعه فيّ.
__________
(1) …ذكر ابن عدي هذا في ترجمة عطاء بن أبي ميمونة.(53/153)
ثنا روح(1) قال: ثنا شعبة عن أبي جعفر المديني قال: سمعت عمارة بن خزيمة بن ثابت يحدّث عن عثمان بن حنيف أنّ رجلاً ضريرًا أتى النّبيّ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم فقال: يا نبيّ الله ادع الله أن يعافيني. فقال: ((إن شئت أخّرت ذلك فهو أفضل لآخرتك، وإن شئت دعوت لك)) قال: لا بل ادع الله لي. فأمره أن يتوضّأ وأن يصلّي ركعتين وأن يدعو بهذا الدّعاء: ((اللّهمّ إنّي أسألك وأتوجّه إليك بنبيّك محمّد صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم نبيّ الرّحمة، يا محمّد إنّي أتوجّه بك إلى ربّي في حاجتي هذه فتقضى، وتشفّعني فيه وتشفّعه فيّ.
قال: فكان يقول هذا مرارًا، ثمّ قال بعد -أحسب أنّ فيها: أن تشفّعني فيه- قال: ففعل الرّجل فبرأ.
الحديث أخرجه الترمذي (ج5 ص226) وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه من حديث أبي جعفر، وهو غير الخطمي.
وأخرجه ابن ماجه (ج1 ص441)، والبخاري في "التاريخ الكبير" (ج6 ص209-210) وذكر ما فيه من الاختلاف على أبي جعفر، فتارة يرويه عن عمارة بن خزيمة بن ثابت عن عثمان بن حنيف، وتارة عن أبي أمامة ابن سهل بن حنيف عن عمه (وهو عثمان بن حنيف).
وأخرجه ابن السني ص(234)، والحاكم (ج1 ص313) وقال: صحيح على شرطهما. وص(519) وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وص(562) من طريق روح بن القاسم عن أبي جعفر الخطمي عن أبي أمامة ابن سهل بن حنيف عن عمه عثمان بن حنيف، وقال: صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه وسكت عليه الذهبي في الثلاثة المواضع.
قال أبوعبدالرحمن: وقوله في ص(313): على شرطهما ليس كما قال فإن عمارة بن خزيمة: ليس من رجال الشيخين، وإنما هو من رجال أصحاب "السنن"، فالأولى التعبير بـ(صحيح) كما حكم عليه ص(519).
__________
(1) …روح: هو ابن عبادة.(53/154)
- قال الطبراني رحمه الله في "المعجم الصغير" (ج1 ص183): حدثنا طاهر بن عيسى بن قيرس المقري المصري التميمي حدثنا أصبغ بن الفرج حدثنا عبدالله بن وهب عن شبيب بن سعيد المكي عن روح بن القاسم عن أبي جعفر الخطمي المدني عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف عن عمه عثمان ابن حنيف أنّ رجلاً كان يختلف إلى عثمان بن عفان في حاجة له، فكان عثمان لا يلتفت إليه ولا ينظر في حاجته، فلقي عثمان بن حنيف فشكا ذلك إليه، فقال له عثمان بن حنيف: ائت الميضأة فتوضأ، ثمّ ائت المسجد فصل فيه ركعتين ثمّ قل: اللّهمّ إنّي أسألك وأتوجّه إليك بنبيّنا محمّد صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم نبيّ الرّحمة، يا محمّد إني أتوجّه بك إلى ربي عزّ وجلّ ليقضي لي حاجتي، وتذكر حاجتك، ورحْ إليّ حتّى أروح معك. فانطلق الرّجل فصنع ما قال عثمان له، ثمّ أتى باب عثمان بن عفّان فجاء البواب حتى أخذ بيده فأدخله على عثمان بن عفّان فأجلسه معه على الطّنفسة، وقال: ما حاجتك؟ فذكر حاجته فقضاها له، ثمّ قال له: ما ذكرت حاجتك حتّى كانت هذه السّاعة. وقال له: ما كان لك من حاجة فائتنا، ثمّ إنّ الرّجل خرج من عنده فلقي عثمان بن حنيف فقال له: جزاك الله خيرًا، ما كان ينظر في حاجتي ولا يلتفت حتى كلّمته فيّ، فقال عثمان ابن حنيف: والله ما كلّمته ولكن شهدت رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم وأتاه ضرير فشكا عليه ذهاب بصره فقال له النّبيّ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: ((أو تصبر؟)) فقال: يا رسول الله إنّه ليس لي قائد وقد شقّ عليّ. فقال له النبيّ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: ((ايت الميضاة فتوضأ، ثمّ صل ركعتين، ثمّ ادع بهذه الدّعوات)). قال عثمان بن حنيف: فوالله ما تفرّقنا وطال بنا الحديث حتّى دخل علينا الرّجل كأنّه لم يكن به ضرر قط.(53/155)
لم يروه عن روح بن القاسم إلا شبيب بن سعيد أبوسعيد المكي وهو ثقة، وهو الذي يحدث عنه ابنه أحمد بن شبيب عن أبيه عن يونس بن يزيد الأيلي، وقد روى هذا الحديث شعبة عن أبي جعفر الخطمي، واسمه عمير ابن يزيد وهو ثقة تفرد به عثمان بن عمر بن فارس عن شعبة، والحديث صحيح.
فوائد تتعلق بهذا الحديث:
الأولى: قول الترمذي رحمه الله: (إن أبا جعفر ليس بالخطمي) ليس بصحيح، قال شيخ الإسلام في "التوسل والوسيلة" ص(102): هكذا قال الترمذي، وسائر العلماء قالوا: هو أبوجعفر الخطمي وهو الصواب. اهـ
فعلى هذا فقول صاحب "صيانة الإنسان" ص(376): (إن الحديث ضعيف لأن في سنده عيسى بن أبي عيسى أبا جعفر الرازي التميمي) ليس بصحيح، بل الذي في السند: الخطمي، وهو عمير بن يزيد وهو ثقة كما تقدم عن الطبراني.
وقد اغتر صاحب "تيسير العزيز الحميد شرح كتاب التوحيد" بقول الترمذي، وقال ص(244): إن في ثبوته نظرًا لأن أبا جعفر لا يعرف. اهـ مختصرًا.
وكذا الحافظ في "تهذيب التهذيب" في (الكنى) فقال: أبوجعفر عن عمارة بن خزيمة، وعنه شعبة، قال الترمذي: ليس هو الخطمي. وكذا في "التقريب"، فقال: أبوجعفر عن عمارة بن خزيمة، قال الترمذي: ليس هو الخطمي، فلعله الذي بعده.
وقد عرفت أنه الخطمي وأنه ثقة معروف.(53/156)
الثانية: قول صاحب "صيانة الإنسان" ص(377): (إن في سند هذه الزيادة التي عند الطبراني روح بن صلاح وهو ضعيف، فمن أجل ذلك تضعّف هذه الزيادة) ليس بصحيح، بل الذي في سندها روح بن القاسم كما جاء مصرحًا به في "المعجم الصغير" للطبراني، ولكن تضعيف هذه الزيادة من حيث كونها تدور على شبيب بن سعيد، وحاصل كلام الذهبي في "الميزان" نقلاً عن ابن عدي، وكلام الحافظ في "مقدمة الفتح" أن حديثه لا يصح إلا إذا كان من رواية ابنه أحمد عنه عن يونس بن يزيد الأيلي، وهذا ليس من روايته عن يونس(1) فمن أجل ذلك تضعّف هذه الزيادة وتكون منكرة، والله أعلم.
الثالثة: هذا الحديث ليس فيه حجة للذين يدعون غير الله، لأن الأعمى إنما طلب من النبي صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم الدعاء والشّفاعة، وقوله: (يا محمد) نداء لحاضر فيما يقدر عليه وهو الدعاء والشفاعة، وإن كنت تريد المزيد راجعت "التّوسل والوسيلة" لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله فقد جمع طرقه وتكلم عليه بما فيه كفاية، فجزاه الله خيرًا.
__________
(1) …وهو في هذا الحديث من رواية ابن وهب عنه، ورواية ابن وهب عنه ضعيفة، وقد ذكر له البيهقيّ -كما في ?التوسل والوسيلة?- متابعين: أحمد بن شبيب بن سعيد وأخاه إسماعيل. فتضعف الزيادة من أجل أنّها ليست من رواية شبيب عن يونس. والله أعلم.(53/157)
قال أبوداود (ج5 ص94): حدثنا عبدالأعلى بن حماد ومحمد بن المثنى ومحمد بن بشار وأحمد بن سعيد الرياطي قالوا: حدثنا وهب بن جرير -قال أحمد: كتبناه من نسخته، وهذا لفظه- قال: حدثنا أبي قال: سمعت محمد ابن إسحاق يحدث عن يعقوب بن عتبة عن جبير بن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه عن جده قال: أتى رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم أعرابيّ فقال: يا رسول الله جهدت الأنفس، وضاعت العيال ونهكت الأموال، وهلكت الأنعام، فاستسق الله لنا، فإنّا نستشفع بك على الله ونستشفع بالله عليك. قال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: ((ويحك أتدري ما تقول؟)) وسبّح رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم، فما زال يسبّح حتّى عرف ذلك في وجوه أصحابه، ثمّ قال: ((ويحك إنّه لا يستشفع بالله على أحد من خلقه، شأن الله أعظم من ذلك، ويحك أتدري ما الله؟ إنّ عرشه على سمواته لهكذا -وقال بأصبعه مثل القبّة- عليه وإنّه ليئطّ(1) به أطيط الرّحل بالرّاكب)).
قال ابن بشّار في حديثه: ((إنّ الله فوق عرشه، وعرشه فوق سمواته)) وساق الحديث.
وقال عبدالأعلى وابن المثنّى وابن بشار عن يعقوب بن عتبة وجبير بن محمد بن جبير عن أبيه عن جده، والحديث بإسناد أحمد بن سعيد هو الصحيح، وافقه عليه جماعة منهم: يحيى بن معين وعلي بن المديني، ورواه جماعة عن ابن إسحاق كما قال أحمد أيضًا، وكان سماع عبدالأعلى وابن المثنى وابن بشار من نسخة واحدة فيما بلغني.
__________
(1) …الأطيط: صوت الأقتاب. أي أنه ليعجز عن حمله وعظمته، إذ كان معلومًا أن أطيط الرحل بالراكب إنما يكون لقوة ما فوقه وعجزه عن احتماله. اهـ بتصرف من ?النهاية?.(53/158)
الحديث أخرجه عثمان بن سعيد الدارمي في "الرّد على الجهمية" ص(19)، وابن خزيمة ص(103)، والبخاري في "التاريخ الكبير" (ج2 ص224)، والبيهقي في "الأسماء والصفات" ص(417) وقال ص(418): وهذا الحديث ينفرد به محمد بن إسحاق بن يسار عن يعقوب بن عتبة، وصاحبا الصحيح لم يحتجا به إنما استشهد مسلم بن الحجاج بمحمد بن إسحاق في أحاديث معدودة أظنهن قد رواهن غيره، وذكره البخاري في الشواهد ذكرًا من غير رواية، وكان مالك بن أنس لا يرضاه، ويحيى بن سعيد القطان لا يروي عنه، ويحيى بن معين يقول: ليس هو بحجة. وأحمد ابن حنبل يقول: يكتب عنه هذه الأحاديث -يعني المغازي ونحوها- فإذا جاء الحرام والحلال أردنا قومًا هكذا -يريد أقوى منه-. فإذا كان لا يحتج به في الحلال والحرام فأولى ألاّ يحتج به في صفات الله سبحانه وتعالى، وإنما نقموا عليه في روايته عن أهل الكتاب، ثم عن ضعفاء الناس وتدليسه أساميهم، فإذا روى عن ثقة وبيّن سماعه منهم فجماعة من الأئمة لم يروا به بأسًا. وهو إنما روى هذا الحديث عن يعقوب بن عتبة، وبعضهم يقول: عنه وعن جبير بن محمد ولم يبيّن سماعه منهما، واختلف عليه في لفظه كما ترى اهـ المراد من "الأسماء والصفات".
وقال الحافظ الذهبي في "العلوّ" ص(39): هذا حديث غريب جدًا فرد وابن إسحاق حجة في المغازي إذا أسند وله مناكير وعجائب، فالله أعلم أقال النبي صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم هذا أم لا؟ وأما الله عزّ وجل فليس كمثله شيء جلّ جلاله، وتقدّست أسماؤه ولا إله غيره.
إلى أن قال: ثم لفظ الأطيط لم يأت به نصّ ثابت. اهـ المراد من "العلوّ".
فكلام هذين الحافظين يدل على ضعف هذا الحديث، والله أعلم.(53/159)
قال الإمام أحمد رحمه الله (ج3 ص178): ثنا يونس بن محمد ثنا حرب بن ميمون عن النضر بن أنس عن أنس قال: سألت نبيّ الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم أن يشفع لي يوم القيامة، قال: قال(1): ((أنا فاعل بهم)) قال: فأين أطلبك يوم القيامة يا نبيّ الله؟ قال: ((اطلبني أوّل ما تطلبني على الصّراط)) قال: قلت: فإذا لم ألقك على الصّراط؟ قال: ((فأنا عند الميزان)) قال: قلت: فإن لم ألقك عند الميزان؟ قال: ((فأنا عند الحوض، لا أخطئ هذه الثّلاث مواطن يوم القيامة)).
الحديث أخرجه الترمذي (ج4 ص42) وقال: هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه.
فائدة: ذكر الحافظ ابن كثير رحمه الله في "النهاية" (ج2 ص36) أن الحوض قبل الصراط، قال: وظاهر هذا الحديث يقتضي أن الحوض بعد الصراط، وكذلك الميزان، وهذا لا أعلم به قائلاً، اللهم إلا أن يكون يراد بهذا الحوض حوضًا آخر يكون بعد الجواز على الصراط كما جاء في بعض الأحاديث، ويكون ذلك حوضًا ثانيًا لا يذاد عنه أحد. والله سبحانه وتعالى أعلم. اهـ
فصل
قال الإمام الذهبي في "الميزان" في ترجمة يزيد بن أبان الرقاشي البصري: موسى بن إسماعيل حدثنا نوح بن قيس عن يزيد الرقاشي عن أنس -مرفوعًا-: ((يشفّع الله آدم في مائة ألف ألف وعشرة آلاف ألف)).
ثم قال: لا يعرف هذا إلا عند التبوذكي. اهـ
يزيد بن أبان الرقاشي، قال الحافظ في التقريب: زاهد ضعيف.
فصل في شفاعة المؤمنين
قد تقدمت أحاديث في شفاعة الأنبياء والملائكة والمؤمنين، وهذه بقية الأحاديث الواردة في شفاعة المؤمنين.
__________
(1) …في ?الترمذي?: (فقال: ((أنا فاعل)))، وليس فيه (قال) الأولى ولا ((بهم)).(53/160)
قال الترمذي رحمه الله (ج4 ص46): حدثنا أبوعمار الحسين بن حريث أخبرنا الفضل بن موسى عن زكريا بن أبي زائدة عن عطية عن أبي سعيد أن رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم قال: ((إنّ من أمّتي من يشفع للفئام(1)، ومنهم من يشفع للقبيلة، ومنهم من يشفع للعصبة، ومنهم من يشفع للرّجل حتّى يدخلوا الجنّة)).
هذا حديث حسن.
الحديث أخرجه أحمد (ج3 ص20، 63) وفيه عطية العوفي وهو ضعيف ومدلس، قال الذهبي في "الميزان": قال أحمد: بلغني أن عطية كان يأتي الكلبي فيأخذ عنه التفسير وكان يكنيه بأبي سعيد، فيقول: قال أبوسعيد. قلت: يعني يوهم أنه الخدري. وقال النسائي وجماعة: ضعيف. اهـ
والتصريح بأنه الخدري عند أحمد يحتمل أنه من الرواة عنه، والله أعلم.
قال الإمام أحمد رحمه الله (ج4 ص212): ثنا حسن بن موسى ثنا حماد بن سلمة عن داود بن أبي هند عن عبدالله بن قيس قال: سمعت الحارث بن أقيش يحدث أن أبا برزة قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم يقول: ((إنّ من أمّتي لمن يشفع لأكثر من ربيعة ومضر، وإنّ من أمّتي لمن يعظم للنّار حتّى يكون ركنًا من أركانها)).
__________
(1) …الكثيرة. اهـ من ?النهاية?.(53/161)
ثنا محمد بن أبي عدي عن داود عن عبدالله بن قيس عن الحارث بن أقيش قال: كنا عند أبي برزة ليلةً فحدّث ليلتئذ عن النّبيّ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم أنّه قال: ((ما من مسلمين يموت لهما أربعة أفراط إلاّ أدخلهما الله الجنّة بفضل رحمته)) قالوا: يا رسول الله وثلاثة؟ قال: ((وثلاثة)) قالوا: واثنان(1)؟ ((وإنّ من أمّتي لمن يدخل الجنّة بشفاعته مثل مضر)) قال: ((واثنان -قال:- وإنّ من أمّتي لمن يعظم للنّار حتّى يكون أحد زواياها(2)).
الحديث أخرجه أيضًا أحمد (ج5 ص312) من حديث الحارث بن أقيش عن النبي صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم، وابن خزيمة ص(313-314)، وابن ماجه (ج2 ص1446)، والطبراني في "الكبير" (ج3 ص301)، والحاكم (ج1 ص71 وج4 ص593) وقال في الموضعين: صحيح على شرط مسلم، وسكت عنه الذهبي.
وقال الحافظ في "الإصابة" في ترجمة الحارث بن أقيش: أخرج ابن ماجة حديثه في الشفاعة بسند صحيح، وله حديث آخر فيمن مات له ثلاثة من الولد، وقد أخرجه ابن خزيمة مجموعًا إلى الحديث الآخر، ووقع عند البغوي تصريحه بسماعه من النبي صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم.
تنبيهان:
__________
(1) …كذا في هذا الموضع من ?المسند? وفي (ج5 ص31): قالوا: يا رسول الله واثنان؟ قال: ((واثنان، وإنّ من أمّتي لمن يعظم للنّار حتّى يكون أحد زواياها، وإنّ من أمّتي لمن يدخل بشفاعته الجنّة أكثر من مضر)). فهذا هو الصواب والأول تصحيف، وهو كذلك -كما في الموضع الثاني- في ?مجمع الزوائد? (ج3 ص8)، و?الترغيب والترهيب? للمنذري (ج2 ص712) غير أن فيها ((مثل مضر)).
(2) …الزوايا: جمع زاوية، فعلى هذا، الذي تقتضيه اللغة أن يكون الحديث ((إحدى زواياها)) وما وجدته بهذا اللفظ في إلا في ?مستدرك الحاكم? (ج1 ص71)، فلعله لوحظ للتذكير في اسم يكون أو لما في معنى الزاوية من معنى الركن، والله أعلم .(53/162)
الأول: الحديث في "مسند أحمد" (ج4 ص212) من حديث أبي بزة، وقد قال الهيثمي في "المجمع" (ج3 ص8 وج10 ص381): رواه أحمد ورجاله ثقات.
فينظر في سند البغوي الذي فيه تصريح الحارث بن أقيش بالسماع.
الثاني: الحديث من جميع طرقه، سواء أكان من مسند أبي برزة أم من مسند الحارث بن أقيش، يدور على عبدالله بن قيس النخعي وهو مجهول كما في "التقريب". وقال علي بن المديني كما في "تهذيب التهذيب": عبدالله بن قيس الذي روى عنه داود بن أبي هند سمع الحارث بن وقيش(1)، وعنه داود بن أبي هند مجهول لم يرو عنه غير داود ليس إسناده بالصافي. اهـ
فعلى هذا فقول الحاكم: (صحيح على شرط مسلم) في الموضعين وقول الحافظ في "الإصابة": (إن سنده صحيح) ليس بصحيح، بل هو حديث ضعيف والله أعلم.
قال الإمام أحمد رحمه الله (ج5 ص257): ثنا يزيد قال: ثنا حريز بن عثمان عن عبدالرحمن بن ميسرة عن أبي أمامة أنّه سمع رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم يقول: ((ليدخلنّ الجنّة بشفاعة رجل ليس بنبيّ مثل الحيّين أو مثل أحد الحيّين ربيعة ومضر)) فقال رجل: يا رسول الله أو ما ربيعة من مضر؟ فقال: ((إنّما أقول ما أقوّل)).
الحديث أخرجه أيضًا ص(261) وص(267)، والآجري في "الشريعة" ص(351) والطبراني (ج8 ص169).
__________
(1) …قال الحافظ في ?التقريب?: الحارث بن أقيش بالقاف والمعجمة مصغرًا وقد تبدل الهمزة واوًا.(53/163)
والحديث رجاله رجال الصحيح إلا عبدالرحمن بن ميسرة أبا سلمة الحمصي فقد قال ابن المديني : إنه مجهول، ولكنه قد روى عنه ثلاثة، ووثّقه العجلي كما في "تهذيب التهذيب"، وقال الحافظ في "التقريب": مقبول، يعني إذا توبع وإلا فليّن، وقد تابعه أبوغالب حزوّر عند أبي نعيم في "أخبار أصبهان" (ج1 ص287)، والطبراني في "الكبير" (ج8 ص330) وفي السند إليه مبارك بن فضالة(1) وهو مدلس شديد التدليس، ولم يصرح بالتحديث.
والطريقان يكفيان في ثبوت الحديث، ولذا يقول المناوي في "فيض القدير" (ج4 ص130): قال العراقي: إسناده حسن. ثم وجدت له متابعًا آخر وهو القاسم بن عبدالرحمن عند الطبراني في "الكبير" (ج8 ص280).
قال الإمام أحمد رحمه الله (ج3 ص469): ثنا إسماعيل بن إبراهيم قال: ثنا خالد(2) عن عبدالله بن شقيق قال: جلست إلى رهط أنا رابعهم بإيلياء، فقال أحدهم: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم يقول: ((ليدخلنّ الجنّة بشفاعة رجل من أمّتي أكثر من بني تميم)) قلنا: سواك يا رسول الله؟ قال: ((سواي)) قلت: أنت سمعته؟ قال: نعم. فلمّا قام قلت: من هذا؟ قالوا: ابن أبي الجدعاء.
ثنا عفان ثنا وهيب قال: ثنا خالد عن عبدالله بن شقيق به.
__________
(1) …وقد تابع المبارك بن فضالة الحسين بن واقد عند الطبراني في ?الكبير? (ج8 ص330).
(2) …خالد هو الحذاء كما جاء مصرحًا به عند الترمذي.(53/164)
الحديث أخرجه الإمام أحمد (ج5 ص366)، والترمذي (ج4 ص46) وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب، وابن أبي الجدعاء هو عبدالله، وإنما يعرف له هذا الحديث الواحد. وابن ماجه (ج2 ص1444)، والدارمي (ج2 ص328)، والطيالسي (ج2 ص229) من "ترتيب المسند"، والبخاري في "التاريخ" (ج2 ص27)، وابن حبان كما في "الموارد" ص(646)، والحاكم (ج1 ص70-71) وقال الحاكم: هذا حديث صحيح قد احتجا برواته، وعبدالله بن شقيق تابعيّ محتجّ به، وإنما تركاه لما تقدم ذكره من تفرد التابعي عن الصحابي(1).
قال أبوعبدالرحمن: والحديث على شرط مسلم.
قال ابن ماجة رحمه الله (ج2 ص1215): حدثنا محمد بن عبدالله بن نمير وعلي بن محمد قالا: ثنا وكيع عن الأعمش عن يزيد الرقاشي عن أنس ابن مالك قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: ((يصفّ النّاس يوم القيامة صفوفًا -وقال ابن نمير: أهل الجنّة- فيمرّ الرّجل من أهل النّار على الرّجل فيقول: يا فلان أما تذكر يوم استسقيت فسقيتك شربةً؟ قال: فيشفع له ويمرّ الرّجل فيقول: أما تذكر يوم ناولتك طهورًا؟ فيشفع له)).
قال ابن نمير: ((ويقول: يا فلان أما تذكر يوم بعثتني في حاجة كذا وكذا فذهبت لك؟ فيشفع له)).
الحديث أخرجه ابن أبي الدنيا في "قضاء الحوائج" ص(99) من مجموعة كتب له.
والحديث ضعيف لأن في سنده يزيد بن أبان الرقاشي وهو ضعيف وقال النسائي وغيره: متروك كما في "الميزان".
__________
(1) …قال أبوعبدالرحمن: قد أكثر الحاكم من الإنكار على الشيخين رحمهما الله حيث تركا أحاديث بعض الصحابة الذين ليس لهم إلا راو واحد ظانًا أنّهما تركاها لتفرد التابعي عن الصحابي وليس كذلك، فقد أخرجا لجماعة من الصحابة تفرد التابعي عن الصحابي كما في ?الإلزامات? للدارقطني، وعذرهما فيما لم يخرجاه أنّهما لم يلتزما أن يخرجا كل حديث صحيح كما صرحا بذلك .(53/165)
قال الترمذي (ج4 ص46): حدثنا أبوهشام الرفاعي عن عمر بن يزيد الكوفي: حدثني يحيى بن اليمان عن جسر أبي جعفر(1) عن الحسن البصري قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: ((يشفع عثمان بن عفّان رضي الله عنه يوم القيامة في مثل ربيعة ومضر)).
الحديث أخرجه الآجري في "الشريعة" ص(299)، وهو حديث ضعيف لإرساله لا سيما وهو من مراسيل الحسن، وقد قال العراقي: إن مراسيل الحسن عندهم كالريح، قاله السيوطي في "تدريب الراوي" ص(124).
والحديث مسلسل بمن يغلب عليه الضعف:
1- جسر أبوجعفر: قال البخاري في "التاريخ الكبير": ليس بذلك، وقال ابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل": نا علي بن الحسن الهسنجاني قال: قال يحيى بن المغيرة: قدم جسر الري فنهاني جرير أن أكتب عنه. وذكر ابن أبي حاتم توثيقه عن سعيد بن عامر، وذكر أيضًا أن ابن معين قال: لا شيء. وذكر أيضًا أن أباه قال: ليس بالقوي، وكان رجلاً صالحًا.
2- يحيى بن يمان: قال الحافظ في "التقريب": صدوق يخطئ كثيرًا وقد تغير.
3- محمد بن يزيد الرفاعي: وثّقه الدارقطني، وقال أحمد والعجلي: لا بأس به. وقال البخاري: رأيتهم مجمعين على ضعفه. وقال ابن نمير: كان يسرق الحديث. اهـ مختصرًا من "الميزان".
__________
(1) …في الأصل: حسين بن جعفر. والصواب هو ما أثبتناه كما في الشريعة للآجري ص(299) وفي الترمذي بتحقيق إبراهيم عطوة عوض (ج4 ص627)، ولكون المباركفوري شرح على النسخة التي فيها حسين بن جعفر قال في التحفة (ج3 ص299) -طبعة هندية-: إنه لم يجد حسين بن جعفر في التقريب، ولا في تهذيب التهذيب ولا في الميزان.(53/166)
ثم وجدت للحديث طريقًا أخرى صحيحة إلى الحسن، قال الإمام أحمد رحمه الله في "الزهد" ص(343): حدثنا حسين(1) حدثنا حماد بن مسلمة عن يونس عن الحسن أنّ رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم قال: ((ليخرجنّ من النّار بشفاعة رجل ما هو نبيّ أكثر من ربيعة ومضر)). قال الحسن: وكانوا يرون أنه عثمان رضي الله عنه، أو أويس رضي الله عنه.
وقال عبدالله بن أحمد في "زوائد الزهد" ص(344): حدثني أحمد بن إبراهيم حدثنا أحمد بن عبدالله بن يونس حدثنا أبوبكر بن عياش عن هشام عن الحسن قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: ((يدخل الجنّة بشفاعة رجل من أمّتي أكثر من ربيعة ومضر)).
قال هشام: فأخبرني حوشب عن الحسن قال: هو أويس القرني. قال أبوبكر: قلت لرجل من قوم أويس: بأيّ شيء بلغ هذا؟ قال: ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء. قال أبوبكر: ومات أويس بسجستان. قال: فوجد معه أكفان لم تكن معه. اهـ
الحديث أخرجه الحاكم في "المستدرك" (ج3 ص405) وهو مرسل من الثلاث الطرق إلى الحسن.
وقد جاء هذا الحديث من حديث مالك عن نافع عن ابن عمر مرفوعًا. ذكره ابن حبان في "الضعفاء" (ج2 ص292) وقال: لا أصل له. يعني من حديث ابن عمر.
قال الحاكم رحمه الله (ج3 ص103): حدثنا أحمد بن كامل القاضي ثنا أحمد بن محمد بن عبدالحميد الجعفي ثنا الفضل بن جبير الوراق ثنا خالد ابن عبدالله الطحان المزني عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كنت قاعدًا عند النّبيّ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم إذ أقبل عثمان بن عفان رضي الله عنه، فلمّا دنا منه قال: ((يا عثمان تقتل وأنت تقرأ سورة البقرة، فتقع قطرة من دمك على {فسيكفيكم الله وهو السّميع العليم} وتبعث يوم القيامة أميرًا على كل مخذول، يغبطك أهل المشرق والمغرب، وتشفّع في عدد ربيعة ومضر)).
__________
(1) …حسين : هو ابن محمد المؤدب.(53/167)
قال الحافظ الذهبي في "التلخيص": كذب بحت، وفي الإسناد أحمد بن محمد بن عبدالحميد الجعفي وهو المتهم به. اهـ
قلت: وفيه الفضل بن جبير الوراق قال العقيلي: لا يتابع على حديثه كما في "الميزان" و"اللسان".
قال أبونعيم رحمه الله في "الحلية" (ج10 ص304): حدثنا محمد بن علي بن حبيش(1) ثنا أبوالعباس بن عطاء الصوفي ثنا يوسف بن موسى القطان ثنا الحسن بن بشر البلخي ثنا الحكم بن عبدالملك عن قتادة عن أبي مليح عن واثلة بن الأسقع قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: ((يدخل الجنّة بشفاعة رجل من أمّتي أكثر من بني تميم)).
الحديث أخرجه الخطيب (ج5 ص26) في ترجمة أحمد بن محمد بن سهل بن عطاء أبي العباس.
والحديث في سنده:
قتادة: وهو مدلس ولم يصرح بالتحديث.
والحكم بن عبدالملك: ضعفه ابن معين، وقال النسائي: ليس بالقوي. وقال أبوداود: منكر الحديث. كما في "الميزان".
وفيه أيضا أبوالعباس بن عطاء: وهو أحمد بن محمد بن عطاء الأدمي ترجم له أبونعيم في "الحلية" (ج10 ص302)، والخطيب (ج5 ص26)، والذهبي في "العبر" (ج2 ص144)، وأبوعبدالرحمن السلمي في "طبقات الصوفية" ص(265)، وابن العماد في "شذرات الذهب" (ج2 ص257)، وكلهم لم يذكروا فيه جرحًا ولا تعديلاً، بل يثنون عليه في عبادته وزهده، وهذا لا يكفي بل لا بد من شروط القبول في ثبوت الحديث.
أما الحافظ ابن كثير فقد قال في "البداية والنهاية" (ج11 ص144): كان موافقًا للحلاج في بعض اعتقاده على ضلاله. اهـ المراد من "البداية".
__________
(1) …في ?تاريخ بغداد? (ج3 ص86): وثقه أبونعيم والبرقاني وابن أبي الفوارس.(53/168)
قال ابن خزيمة رحمه الله ص(314): حدثنا إسحاق بن إبراهيم بن حبيب بن الشهيد قال: ثنا يحيى بن يمان عن سفيان(1) عن آدم بن علي عن ابن عمر قال: يقول النبي صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم للرّجل: ((يا فلان، قم فاشفعْ)) فيقوم الرّجل فيشفع للقبيلة ولأهل البيت وللرّجل وللرّجلين على قدر عمله.
الحديث أخرجه أبونعيم في "الحلية" (ج7 ص105) وفي سنده يحيى بن يمان، قال الحافظ في "التقريب": صدوق يخطئ كثيرًا وقد تغيّر.
وفي "تهذيب التهذيب": قال زكريا الساجي: ضعفه أحمد، وقال: حدث عن الثوري بعجائب.
وقال وكيع: هذه الأحاديث التي يحدث بها يحيى بن يمان ليست من أحاديث الثوري. اهـ المراد منه.
قال أبوعبدالرحمن: وهذا من روايته عن الثوري كما ترى.
قال ابن ماجه رحمه الله (ج2 ص1443): حدثنا سعيد بن مروان ثنا أحمد بن يونس ثنا عنبسة بن عبدالرحمن عن علاق بن أبي مسلم عن أبان ابن عثمان عن عثمان بن عفان قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: ((يشفع يوم القيامة ثلاثة: الأنبياء ثمّ العلماء ثمّ الشّهداء)).
الحديث أخرجه الآجري في "الشريعة" ص(350)، وابن عبدالبر في "جامع بيان العلم وفضله" (ج1 ص37).
والحديث ضعيف جدًا لأن في سنده علاق بن أبي مسلم، قال الذهبي في "الميزان": وهّاه الأزدي وما ليّنه القدماء. اهـ
وفيه عنبسة بن عبدالرحمن: قال الذهبي في "الميزان": قال البخاري: تركوه. وروى الترمذي عن البخاري: ذاهب الحديث. وقال أبوحاتم: كان يضع الحديث. اهـ
ولعل آفة الحديث هو عنبسة والله أعلم.
__________
(1) …سفيان: هو ابن سعيد الثوري.(53/169)
قال ابن عبدالبر رحمه الله في "جامع بيان العلم وفضله" (ج1 ص25): حدثني خلف بن القاسم(1) قال: حدثنا علي بن أحمد بن سعيد بن زكير قال: حدثنا علي بن يعقوب قال: حدثنا عبيدالله بن محمد بن أبي المدور قال: أخبرنا حبيب بن إبراهيم قال: حدثنا شبل بن العلاء عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبدالله عن النبي صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم قال: ((يبعث الله العالم والعابد، فيقال للعابد: ادخل الجنّة. ويقال للعالم: اشفعْ للنّاس كما أحسنت أدبهم)) قال شبل: يعني تعليمهم.
الحديث في سنده شبل بن العلاء: قال ابن عدي: روى أحاديث مناكير ليست أحاديثه محفوظة. وذكره ابن حبان في "الثقات" وقال: روى عنه ابن أبي فديك نسخة مستقيمة. اهـ المراد من "لسان الميزان".
وفيه أيضًا حبيب بن إبراهيم شيخ مجهول لقيه قتيبة بن سعيد بالإسكندرية فزعم أنه سمع من أنس بن مالك فحدّثه بنسخة رواها عن قتيبة الحسن بن الطيب البلخي وفيها مناكير كثيرة. اهـ من "لسان الميزان".
وقد صدره الحافظ المنذري رحمه الله في "الترغيب والترهيب" (ج1 ص102) بـ(روي) التي هي علامة الضعف كما نبّه على ذلك في المقدمة.
قال الخطيب البغدادي في "الفقيه والمتفقه" (ج1 ص20): أنا عبدالغفار بن محمد بن جعفر أنا عمر بن أحمد الواعظ نا عبدالله بن عمر بن سعيد الطالقاني نا عمار بن عبدالمجيد نا محمد بن مقاتل الرازي عن أبي العباس جعفر بن هارون الواسطي عن سمعان بن مهدي عن أنس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: ((إذا كان يوم القيامة يقول تعالى للعابد: ادخل الجنّة فإنّما كانتْ منفعتك لنفسك. ويقال للعالم: اشفعْ تشفّع فإنّما كانت منفعتك للنّاس)).
__________
(1) …خلف بن القاسم: ترجمته في ?تذكرة الحفاظ?، قال الذهبي: وكان من الحفاظ المحققين، وقال: وكان ابن عبد البر لا يقدم عليه أحدًا من شيوخه.(53/170)
الحديث موضوع، فقد قال الذهبي في سمعان: حيوان لا يعرف، ألصقت به نسخة مكذوبة قبّح الله من وضعها. اهـ من "الميزان".
قال مسلم رحمه الله (ج1 ص57): حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا ليث عن ابن عجلان عن محمد بن يحيى بن حبان عن ابن محيريز عن الصنابحي(1) عن عبادة بن الصامت أنه قال: دخلت عليه وهو في الموت فبكيت فقال: مهلاً لم تبكي؟ فوالله لئن استشهدت لأشهدنّ لك، ولئن شفّعت لأشفعنّ لك، ولئن استطعت لأنفعنّك، ثم قال: والله ما من حديث سمعته من رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم لكم فيه خير إلاّ حدثْتكموه إلاّ حديثًا واحدًا وسوف أحدّثكموه اليوم، وقد أحيط بنفسي سمعت رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم يقول: ((من شهد أن لا إله إلاّ الله، وأنّ محمّدًا رسول الله حرّم الله عليه النّار)).
الحديث أخرجه الترمذي (ج4 ص132)، وأحمد (ج6 ص318)، وابن خزيمة ص(340)، ويعقوب الفسوي في "المعرفة والتاريخ" (ج2 ص362)، وابن حبان في "صحيحه" (ج1 ص245) من "ترتيب الصحيح"، والبيهقي في "الأسماء والصفات" ص(99-100) وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه.
__________
(1) …الصنابحيان اثنان: الصنابح بن الأعسر: صحابي أوردت له حديثًا في ?الصحيح المسند? ((إني فرطكم على الحوض...))، والآخر: عبدالرحمن بن عسيلة يكنى بأبي عبدالله تابعي روى عن أبي بكر الصديق ولم يسمع من رسول الله.(53/171)
قال الإمام أحمد رحمه الله (ج4 ص357): ثنا عفان ثنا أبوعوانة ثنا زياد بن علاقة قال: سمعت جرير بن عبدالله قام يخطب يوم توفي المغيرة بن شعبة فقال: عليكم باتّقاء الله عزّ وجلّ والوقار والسّكينة حتّى يأتيكم أمير، فإنّما يأتيكم الآن، ثمّ قال: اشفعوا لأميركم فإنّه كان يحبّ العفو، وقال: أمّا بعد فإنّي أتيت رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم فقلت: أبايعك على الإسلام. فقال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم واشترط عليّ النّصح لكلّ مسلم، فبايعته على هذا، وربّ هذا المسجد إنّي لكم لناصح جميعًا، ثمّ استغفر ونزل.
الحديث رجاله رجال الصحيح، وأصله في الصحيحين إلا أنّه في الصحيحين قال: (استعفوا لأميركم). أي اطلبوا له العفو، وهو المناسب لقوله: (فإنه كان يحب العفو). لأن الجزاء من جنس العمل، قال الحافظ في "الفتح" (ج1 ص139): قوله: (استعفوا لأميركم) كذا في معظم الروايات بالعين المهملة، وفي رواية ابن عساكر: (استغفروا) بغين معجمة وزيادة راء، وهي رواية الإسماعيلي في "المستخرج". اهـ
قال أبوعبدالرحمن: بما أن مخرج الحديث واحد، والخطبة واحدة، فالظاهر أن ما في "مسند أحمد" تصحيف، أو شذ بها بعض الرواة، على أنه قد جاء في "المسند" (ج4 ص361): (استغفروا).(53/172)
قال الطبراني رحمه الله كما في "الكبير" (ج22 ص304): حدثنا أحمد ابن خليد الحلبي ثنا أبوتوبة الربيع بن نافع ثنا معاوية بن سلام عن زيد بن سلام أنه سمع أبا سلام يقول: حدثني عبدالله بن عامر أن قيس بن الحارث الكندي حدّث الوليد أن أبا سعد الأنصاري حدثه أن رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم قال: ((إنّ ربّي وعدني أن يدخل الجنّة من أمّتي سبعين ألفًا بغير حساب، ويشفع كلّ ألف لسبعين ألفًا، ثم يحثي ربي ثلاث حثيات بكفّيه)) قال قيس: فقلت لأبي سعد: أنت سمعت هذا من رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم؟ فقال: نعم، بأذني ووعاه قلبي. قال أبوسعد: قال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: ((وذاك إن شاء الله مستوعب مهاجري أمّتي ويوفي الله من أعرابنا)).
وقد روى هذا الحديث أبوسهل بن عسكر عن أبي توبة الربيع بن نافع بإسناد مثله وزاد: قال أبوسعيد : فحسب ذلك عند رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم فبلغ أربعمائة ألف ألف وتسعين ألفًا.
الحديث قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في "الإصابة" في ترجمة أبي سعيد الأنماري: وقال أبوأحمد: لست أحفظ له اسمًا ولا نسبًا، وحديثه في أهل الشام. ثم أورد من طريق مروان بن محمد عن معاوية بن سلام أخي زيد بن سلام أنه سمع جده أبا سلام الحبشي(1) قال: حدثني عبدالله بن عامر اليحصبي سمعت قيس بن حجر يحدث عن عبدالملك بن مروان قال: حدثني أبوسعيد الأنماري أنه سمع رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم يقول:... وذكر الحديث. ثم قال الحافظ: سنده صحيح، وكلهم من رجال الصحيح إلا قيس بن حجر وهو شامي ثقة، ولكن أخرجه الحاكم أبوأحمد أيضًا من طريق أبي توبة عن معاوية بن سلام فقال: إن قيس بن حجر الكندي حدث الوليد بن عبدالملك أن أبا سعيد الخير حدثه.
__________
(1) …في ?الإصابة?: (الخشني)، والصواب ما أثبتناه، وأبوسلام هو ممطور الحبشي.(53/173)
وأخرجه الطبراني من طريق أبي توبة فقال: إن أبا سعيد الأنماري(1)، وقال: قيس بن الحارث.
وأخرجه أيضًا من وجه آخر عن الزبيدي عن عبدالله بن عامر فقال: عن قيس بن الحارث أن أبا سعد الخير الأنصاري حدثه، فذكر طرفًا منه.
فمن هذا الاختلاف يتوقف في الجزم بصحة هذا السند. اهـ المراد من "الإصابة".
قال أبونعيم رحمه الله تعالى في "أخبار أصبهان" (ج1 ص148): حدثنا محمد بن عبدالرحمن بن مخلد(2) حدثني أحمد بن الزبير بن هارون المديني ثنا همام بن محمد بن النعمان ثنا إسحاق بن بشر الكاهلي ثنا أبومعشر عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبدالله قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: ((إذا كان عشيّة يوم عرفة أشرف الرّبّ عزّ وجلّ من عرشه إلى عباده فيقول: يا ملائكتي انظروا إلى عبادي شعثًا غبرًا قد أقبلوا يضربون إليّ من كلّ فج عميق، أشهدكم أنّي قد شفّعت محسنهم في مسيئهم، وأنّي قد غفرت لهم جميع ذنوبهم إلا التبعات الّتي بينهم وبين خلقي. قال: فإذا أتوا المزدلفة، وشهدوا جمعًا، ثم أتوا منًى فرموا الجمار وذبحوا وحلقوا، ثمّ زاروا البيت، قال: يا ملائكتي أشهدكم أنّي قد شفّعت محسنهم في مسيئهم، وأنّي قد غفرت لهم جميع ذنوبهم، وأنّي قد خلفتهم في عيالاتهم، وأنّي قد استجبت لهم جميع ما دعوا به، وأنّي قد غفرت لهم التبعات الّتي بينهم وبين خلقي، وعليّ رضاء عبادي)).
__________
(1) …أبوسعيد الأنماري: ويقال له أبوسعد الخير، وذكره الطبراني بأبي سعيد الأنصاري، وفي ?الميزان? أبوسعيد الحبراني، وعند ابن ماجه أبوسعيد الخير، وكذا أسماه ابن حبان في ?ثقاته?: ولا يدرى من ذا.
(2) …محمد بن عبدالرحمن بن مخلد: هو محمد بن عبدالرحمن بن سهل بن مخلد، وقد ترجم له أبونعيم في ?أخبار أصبهان? (ج2 ص294) وقال: رحل إلى الشام ومصر والعراق، أحد من يرجع إلى حفظ ومعرفة له المصنفات والشيوخ.(53/174)
الحديث أعاده أبونعيم في "أخبار أصبهان" في ترجمة همام بن محمد بن النعمان (ج2 ص341).
وهو حديث موضوع لأن في سنده إسحاق بن بشر الكاهلي وهو كذّاب كما في "الميزان"، وأبومعشر السندي الأكثرون(1) على تضعيفه كما في "الميزان".
وأحمد بن الزبير وهمام بن محمد ترجم لهما أبونعيم في "أخبار أصبهان"، ولم يذكر فيهما جرحًا ولا تعديلاً.
قال الأزرقي رحمه الله في "أخبار مكة" (ج2 ص4): حدثني يحيى بن سعيد عن أخيه علي بن سعيد عن سعيد بن سالم أخبرنا إسماعيل بن عياش عن مغيرة بن قيس التميمي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أنه قال: من توضّأ وأسبغ الوضوء، ثمّ أتى الرّكن يستلمه خاض في الرّحمة، فإن استلمه فقال: بسم الله، والله أكبر، وأشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله غمرته الرّحمة، فإذا طاف بالبيت كتب الله عزّ وجلّ له بكلّ قدم سبعين ألف حسنة، وحطّ عنه سبعين ألف سيئة، ورفع له سبعين ألف درجة، وشفّع في سبعين من أهل بيته، فإذا أتى مقام إبراهيم عليه السّلام فصلّى عنده ركعتين إيمانًا واحتسابًا كتب الله له كعتق أربعة عشر محررًا من ولد إسماعيل، وخرج من خطيئته كيوم ولدته أمّه.
قال القداح: وزاد فيه آخر: وأتاه ملك قال له: اعمل لما بقي فقد كفيت ما مضى.
__________
(1) …وقال الحافظ في ?التقريب?: ضعيف أسنّ واختلط.(53/175)
حدثني يحيى بن سعيد بن سالم القداح حدثنا خلف بن ياسين عن أبي الفضل الفراء عن المغيرة بن سعيد عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: ((إذا خرج المرء يريد الطّواف بالبيت أقبل يخوض في الرّحمة، فإذا دخله غمرته، ثمّ لا يرفع قدمًا ولا يضع قدمًا إلاّ كتب الله عزّ وجلّ له بكلّ قدم خمسمائة حسنة وحطّ عنه خمسمائة سيئة -أو قال: خطيئة- ورفعت له خمسمائة درجة، فإذا فرغ من طوافه فصلّى ركعتين دبر المقام خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمّه وكتب له أجر عتق عشر رقاب من ولد إسماعيل، واستقبله ملك على الرّكن فقال له: استأنف العمل فيما بقي فقد كفيت ما مضى، وشفّع في سبعين من أهل بيته)).
الحديث بالسند الأول موقوف على عبدالله بن عمرو، وعبدالله بن عمرو يحدث عن كتب أهل الكتاب فقد ظفر بزاملتين يوم اليرموك من كتب أهل الكتاب فصار يحدّث منهما، على أن في السند إليه من لا تقوم به حجة:
1- مغيرة بن قيس: قال أبوحاتم: منكر الحديث. كما في "الميزان".
2- إسماعيل بن عياش: روايته عن غير أهل بلده ضعيفة، ومغيرة بصري كما في "الميزان".
3- يحيى بن سعيد القداح: قال الذهبي في "الميزان": له مناكير.
أما علي بن سعيد بن سالم القداح فلم أجد له ترجمة.
وأما السند الثاني ففيه خلف بن ياسين، قال الذهبي في "الميزان": خلف ابن ياسين بن معاذ الزيات عن المغيرة بن سعيد عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: من خرج يريد الطّواف خاض في الرحمة، فإذا دخله غمرته ... -وذكر الحديث إلى قوله:- وشفع في سبعين من أهل بيته. ثم ذكر له حديثًا آخر وقال بعده: هذا موضوع، وهو كما ترى متناقض. اهـ
وكلام العقيلي كما في "لسان الميزان" يفيد أن خلفًا مجهول.
وفي السند أيضًا يحيى بن سعيد القداح وقد تقدم ما قيل فيه.
أما المغيرة بن سعيد فلم أجد له ترجمة وليس بالمغيرة بن سعيد الرافضي الكذاب فالرافضي أعلى منه طبقةً.(53/176)
وكذا أبوالفضل الفراء ما وجدت له ترجمة، وأظنه زيد في "أخبار مكة" إذ الحديث في "الميزان" عن خلف عن مغيرة بدون واسطة، والله أعلم.
قال عبدالرزاق (ج5 ص17) من "المصنف": عمن سمع قتادة يقول: حدثنا خلاس بن عمرو عن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم يوم عرفة: ((أيّها النّاس إنّ الله تطوّل عليكم في هذا اليوم فيغفر لكم إلا التبعات فيما بينكم، ووهب مسيئكم لمحسنكم، وأعطى محسنكم ما سأل، اندفعوا بسم الله، فإذا كان بجمع قال: إنّ الله قد غفر لصالحكم، وشفّع صالحكم في طالحكم، تنْزل المغفرة فتعمّهم، ثمّ تفرّق المغفرة في الأرضين، فتقع على كلّ تائب ممن حفظ لسانه ويده، وإبليس وجنوده على جبال عرفات ينظرون ما يصنع الله بهم، فإذا نزلت المغفرة دعا هو وجنوده بالويل يقول: كنت أستفزهم حقبًا من الدّهر ثمّ جاءت المغفرة فغشيتهم فيتفرقون وهم يدعون بالويل والثبور)).
الحديث قال الهيثمي (ج3 ص257): رواه الطبراني في "الكبير" وفيه راو لم يسمّ وبقية رجاله رجال الصحيح. اهـ
وأورده ابن الجوزي في "الموضوعات" (ج2 ص216) وقال: راويه عن قتادة مجهول، وخلاس ليس بشيء كان مغيرة لا يعبأ به، وقال أيوب: لا ترو عنه فإنه صحفي. اهـ
قال أبوعبدالرحمن: في كلام أبي الفرج تحامل على خلاس، وقد اختلف فيه، والموثقون له أكثر، والجرح فيه غير مفسر إلا أنه صحفي، فالظاهر أن ضعف الحديث من أجل المبهم، وينظر هل سمع خلاس من عبادة أم لا؟ فإنه يروي عن من لم يسمع منه كما في "تهذيب التهذيب" و"جامع التحصيل".(53/177)
قال أبونعيم في "الحلية" (ج7 ص235): حدثنا أبوالطيب عبدالواحد ابن الحسن المقرئ الكوفي ثنا الحسن بن محمد بن شريح ثنا أبويزيد بن طريف ثنا زكرياء بن يحيى بن زكريا بن أبي زائدة ثنا إسماعيل بن يحيى عن مسعر عن حماد عن إبراهيم عن علقمة عن عبدالله قال: سمعت النبي صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم يقول: ((من خرج حاجًا يريد وجه الله فقد غفر الله له ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر، وشفع فيمن دعا له)).
غريب من حديث مسعر لم نكتبه إلا من هذا الوجه.
الحديث في سنده إسماعيل بن يحيى التيمي، قال الذهبي في "الميزان": روى عن أبي سنان الشيباني وابن جريج ومسعر الأباطيل، وقال صالح بن محمد جزرة: كان يضع الحديث. وقال الأزدي: ركن من أركان الكذب لا تحل الرواية عنه. وقال أبوعلي النيسابوري الحافظ والدارقطني والحاكم: كذاب. قال الذهبي: قلت: مجمع على تركه. اهـ مختصرًا من "الميزان".
قال الإمام أحمد رحمه الله في "المسند" (ج3 ص217): ثنا أنس بن عياض حدثني يوسف بن أبي بردة الأنصاري عن جعفر بن عمرو بن أمية الضمري عن أنس بن مالك أن رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم قال: ((ما من معمّر يعمّر في الإسلام أربعين سنةً إلاّ صرف الله عنه ثلاثة أنواع من البلاء: الجنون والجذام والبرص، فإذا بلغ خمسين سنةً ليّن الله عليه الحساب، فإذا بلغ ستّين رزقه الله الإنابة إليه بما يحبّ، فإذا بلغ سبعين سنةً أحبّه الله وأحبّه أهل السّماء، فإذا بلغ الثّمانين قبل الله حسناته وتجاوز عن سيّئاته، فإذا بلغ تسعين غفر الله له ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر، وسمّي أسير الله في أرضه وشفع لأهل بيته)).
الحديث أخرجه ابن حبان في "الضعفاء" (ج3 ص132) في ترجمة يوسف بن أبي بردة وقال: لا يجوز الاحتجاج به بحال.(53/178)
- وقال الإمام أحمد رحمه الله (ج2 ص89): ثنا أبوالنضر ثنا الفرج ثنا محمد بن عامر عن محمد بن عبيدالله عن عمرو بن جعفر عن أنس بن مالك قال: إذا بلغ الرّجل المسلم أربعين سنةً آمنه الله من أنواع البلايا: من الجنون والبرص والجذام، وإذا بلغ الخمسين ليّن الله عزّ وجلّ عليه حسابه، وإذا بلغ السّتّين رزقه الله إنابةً يحبّه عليها، وإذا بلغ السّبعين أحبّه الله وأحبّه أهل السّماء، وإذا بلغ الثّمانين تقبّل الله منه حسناته ومحا عنه سيّئاته، وإذا بلغ التّسعين غفر الله له ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر وسمّي أسير الله في الأرض وشفّع في أهله.
ثنا هاشم ثنا الفرج حدثني محمد بن عبدالله العامري عن محمد بن عبدالله بن عمرو بن عثمان عن عبدالله بن عمر بن الخطاب عن النبي صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم مثله.
- وقال أحمد بن منيع في "مسنده" كما في "اللآلي المصنوعة" (ج1 ص138): حدثنا عباد بن عباد المهلبي عن عبدالواحد بن راشد عن أنس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: ((إذا بلغ العبد أربعين آمنه الله تعالى من البلايا الثلاث: الجنون والجذام والبرص، فإذا بلغ خمسين خفّف الله عنه الحساب، وإذا بلغ ستّين رزقه الله الإنابة إليه، فإذا بلغ سبعين أحبّه أهل السّماء، فإذا بلغ االثّمانين أثبت الله تعالى له الحسنات ومحا عنه السّيّئات، فإذا بلغ التّسعين غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخّر، وسماه أهل السّماء أسير الله في الأرض)) اهـ
وفي "الموضوعات" لابن الجوزي: ((وشفّع في أهل بيته)).(53/179)
-(1) وقال أبونعيم رحمه الله في "أخبار أصبهان" (ج1 ص346): حدثنا عبدالله بن محمد بن جعفر ثنا أحمد بن محمود بن صبيح ثنا الحجاج بن يوسف بن قتيبة ثنا الصباح بن عاصم الأصبهاني عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: ((صاحب الأربعين يصرف عنه أنواع البلاء والأمراض والجذام والبرص وما أشبهه، وصاحب الخمسين يرزق الإنابة، وصاحب السّتّين يخفّف عنه الحساب، وصاحب السّبعين يحبّه الله والملائكة في السّماء، وصاحب الثّمانين تكتب حسناته ولا تكتب سيّئاته، وصاحب التّسعين أسير الله في الأرض يشفع في نفسه وفي أهل بيته)).
__________
(1) …بعض الطرق من هذه، وبعض الطرق من التي ستأتي حكم عليها ابن الجوزي بالوضع في كتابه ?الموضوعات? (ج1 ص179-181)، فذكره من طريق عباد المهلبي عن عبدالواحد ابن راشد عن أنس به، ومن طريق الفرج بن فضالة به، ومن طريق عزرة، وستأتي عندنا، ثم قال ابن الجوزي: هذا حديث لا يصح عن رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم، فأما الطريق الأول ففيه يوسف بن أبي بردة، قال ابن حبان: يروي المناكير التي لا أصل لها من كلام رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم، ولا يحل الاحتجاج به بحال، روى عن جعفر بن عمرو عن أنس، هذا الحديث. وقال يحيى بن معين: يوسف ليس بشيء.(53/180)
- وقال الحافظ أبويعلى (ج6 ص351): حدثنا منصور بن أبي مزاحم حدثني خالد الزيات حدثني داود بن سليمان عن عبدالله بن عبدالرحمن بن معمر بن حزم الأنصاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه -رفع الحديث- قال: ((المولود حتى يبلغ الحنث ما عمل من حسنة كتب لوالده أو لوالديه وما عمل من سيّئة لم تكتب عليه ولا على والديه، فإذا بلغ الحنث جرى عليه القلم أمر الملكان الّلذان معه أن يحفظا وأن يشددا فإذا بلغ أربعين سنةً في الإسلام آمنه الله من البلايا الثلاثة: الجنون والجذام والبرص، فإذا بلغ الخمسين خفّف الله من حسابه، فإذا بلغ السّتين رزقه الله الإنابة إليه بما يحبّ، فإذا بلغ السّبعين أحبّه أهل السّماء، فإذا بلغ الثّمانين كتب الله له حسناته وتجاوز عن سيّئاته. فإذا بلغ التّسعين غفر الله له ما تقدّم من ذنبه وما تأخر، وشفّعه في أهل بيته، وكان أسير الله في أرضه، فإذا بلغ أرذل العمر لكيلا يعلم بعد علم شيئًا كتب الله له مثل ما كان يعمل في صحّته من الخير، فإذا عمل سيّئةً لم تكتب عليه)).
قال الحافظ ابن كثير في "تفسيره": هذا حديث غريب جدًا وفيه نكارة شديدة(1)، ومع هذا فقد رواه الإمام أحمد، ثم ذكر الحديثين المتقدمين من "المسند".
__________
(1) …وسنده ضعيف أيضًا فخالد وشيخه مجهولان.(53/181)
- وقال البزار رحمه الله كما في "تفسير ابن كثير" رحمه الله (ج3 ص208) : عن عبدالله بن شبيب(1) عن أبي شيبة عن عبدالله بن عبدالملك عن أبي قتادة العدوي عن ابن أخي الزهري عن عمه عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: ((ما من عبد يعمّر في الإسلام أربعين سنةً إلاّ صرف الله عنه أنواعًا من البلاء: الجنون والجذام والبرص، فإذا بلغ خمسين سنةً ليّن الله له الحساب، فإذا بلغ ستين سنةً رزقه الله الإنابة إليه بما يحبّ، فإذا بلغ سبعين سنةً غفر الله له ما تقدّم من ذنبه وما تأخر(2)، وسمّي أسير الله وأحبّه أهل السّماء، فإذا بلغ الثّمانين تقبّل الله منه حسناته وتجاوز عن سيّئاته، فإذا بلغ التّسعين غفر الله له ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر، وسمّي أسير الله في أرضه، وشفّع في أهل بيته)).
- وقال البيهقي في "الزهد" كما في "اللآلي المصنوعة" (ج1 ص144): حدثنا أبوعبدالله الحافظ وغيره قالوا: حدثنا أبوالعباس(3) محمد بن يعقوب حدثنا بكر بن سهل حدثنا عبدالله بن محمد بن رمح بن المهاجر أنبأنا ابن وهب عن حفص بن ميسرة عن زيد بن أسلم عن أنس به.
قال السيوطي نقلاً عن الحافظ: وهذا أمثل طرق الحديث فإن رجاله ثقات، وبكر بن سهل وإن كان النسائي تكلّم فيه فقد توبع عليه، قال إسماعيل بن الفضل الاخشيد في "فوائده": حدثنا أبوطاهر بن عبدالرحيم حدثنا أبوبكر بن المقري حدثنا أبوعروبة الحراني حدثنا مخلد بن مالك حدثنا الصنعاني، هو حفص بن ميسرة به.
__________
(1) …عبدالله بن شبيب شيخ للبزار، تالف، ذاهب الحديث، كما في ?الميزان?.
(2) …ليس في سائر الروايات من حديث أنس أنه يغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، إذا بلغ السبعين، ولكن إذا بلغ التسعين.
(3) …في ?اللآلي?: (العباس بن محمد يعقوب)، والصواب ما أثبتناه، وهو الأصم كما في ?القول المسدد?.(53/182)
قال الحافظ كما في "اللآلي" (ج1 ص140): ومخلد بن مالك وثّقه أبوزرعة ولا أعلم فيه جرحًا، وباقي الإسناد أثبات، فلو لم يكن لهذا الحديث سوى هذا لكان كافيًا في الرّدّ على من حكم بوضعه فضلاً عن أن يكون له أسانيد أخرى. اهـ المراد من "اللآلي المصنوعة".
قال الحاكم رحمه الله في "المستدرك" (ج3 ص478): حدثنا عبدالله بن إسحاق الخراساني العدل ببغداد ثنا جعفر بن محمد بن شاكر ثنا عثمان بن الهيثم ثنا الهيثم بن الأشعث عن محمد بن عمارة الأنصاري عن جهم بن عثمان السلمي عن محمد بن عبدالله(1) بن عمرو بن عثمان عن عبدالله بن أبي بكر الصديق قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: ((إذا بلغ المرء المسلم أربعين سنةً صرف الله عنه ثلاثة أنواع من البلاء: الجنون والجذام والبرص، وإذا بلغ خمسين سنةً غفر له ذنبه ما تقدّم منه وما تأخّر، وكان أسير الله في الأرض، والشّفيع في أهل بيته يوم القيامة)).
قال الحافظ السيوطي في "اللآلئ المصنوعة" (ج1 ص141): في إسناده ضعف وإرسال، قال الحافظ ابن حجر: وفي رواته من لا يعرف حاله، ثم هو منقطع بين محمد بن عبدالله بن عمرو بن عثمان وبين عبدالله بن أبي بكر فإن وفاة عبدالله قبل وجود(2) محمد. اهـ
وذكر الحافظ نحو ذلك في "الإصابة"، وقال في آخره: قال الدارقطني: في إسناده نظر تفرّد به عثمان بن الهيثم المؤذن عن رجال ضعفاء. اهـ المراد من "الإصابة".
__________
(1) …في ?المستدرك?: (عن عبدالله عن عمرو بن عثمان)، والظاهر هو ما أثبتناه لما سيأتي من= =قول الحافظ: إن محمد بن عبدالله بن عمرو بن عثمان لم يدرك عبدالله بن أبي بكر.
(2) …في ?اللآلي?: (قبل وفاة محمد)، والأقرب للسياق ما أثبتناه.(53/183)
قال البغوي في "معجمه" وأبويعلى في "مسنده" كما في "اللآلئ المصنوعة في الأحاديث الموضوعة" (ج1 ص139): حدثنا عبيدالله بن عمر القواريري حدثنا عزرة بن قيس الأزدي حدثنا أبوالحسن الكوفي عن عمرو ابن أوس قال: قال محمد بن عمرو بن عثمان عن عثمان بن عفان عن النبي صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم قال: ((إذا بلغ العبد الأربعين خفّف الله تعالى عنه حسابه، فإذا بلغ الخمسين ليّن الله عليه الحساب، فإذا بلغ السّتين رزقه الله الإنابة إليه، فإذا بلغ سبعين أحبّه أهل السّماء، فإذا بلغ الثّمانين أثبتتْ حسناته، ومحيتْ سيّئاته، فإذا بلغ تسعين غفر الله له ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر، وشفّعه في أهل بيته، وكتب في أهل السّماء أسير الله في أرضه)).
قال أبوعبدالرحمن: غالب أسانيد هذه الأحاديث تدور على مجروحين ومجاهيل إلا الحديث الذي رواه البيهقي في "الزهد" مع متابعة بكر بن سهل، فالذي يظهر لي أن الحديث بمجموع طرقه صالح للحجية. والله أعلم.
وإن كنت تريد المزيد راجعت "القول المسدد في الذبّ عن مسند أحمد" ص(29) -إلى آخر البحث حول الحديث-، و"اللآلئ المصنوعة في الأحاديث الموضوعة" (ج1 ص138) -إلى آخر البحث حول الحديث-، و"الخصال المكفرة" للحافظ ابن حجر (ج1 ص264) -من الرسائل المنيرية- و"مجمع الزوائد" (ج10 ص205-206)، فقد قال في بعض طرق حديث أنس: رواه البزار بإسنادين، ورجال أحدهما ثقات.
قال ابن حبان في "الضعفاء" (ج1 ص276): وقد روى حمزة بن أبي حمزة عن عطاء بن أبي رباح ونافع عن ابن عمر أنّ رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم صلى على مقبرة فقيل له: يا رسول الله، أيّ مقبرة هذه؟ قال: ((هي مقبرة بأرض العدوّ يقال لها: عسقلان، يفتحها ناس من أمّتي يبعث الله منها سبعين ألف شهيد، يشفع الرّجل منهم في مثل ربيعة ومضر، ولكلّ عروس في الجنّة، وعروس الجنّة عسقلان)).(53/184)
أنبأه الحسن بن سفيان ثنا سويد بن سعيد ثنا حفص بن ميسرة ثنا حمزة ابن أبي حمزة. اهـ
قال ابن حبان: ينفرد -أي حمزة بن أبي حمزة- بالأشياء الموضوعات كأنه كان المتعمد لها، لا تحل الرواية عنه.
الحديث أورده ابن الجوزي في "الموضوعات" (ج2 ص52)، وقال ص(54): في سنده حمزة بن أبي حمزة، قال أحمد بن حنبل: هو مطروح الحديث. وقال يحيى: ليس بشيء لا يساوي فلسًا. وقال النسائي والدارقطني: متروك الحديث. وقال ابن عدي: يضع الحديث. ثم ذكر قول ابن حبان المتقدم.
وفي سند الحديث سويد بن سعيد، وقد كان ابن معين يحمل عليه، وقال صالح جزرة: سويد صدوق إلا أنه عمي فكان يلقّن ما ليس من حديثه. اهـ من "الميزان".
وقد ذكر السيوطي في "اللآلئ" (ج1 ص461) لهذا الحديث شاهدًا لكنّه من طريق العباس بن الوليد، وقد قال أبوحاتم: يكتب حديثه، شيخ. وقال الآجري: سألت أبا داود عنه فقال: كان عالمًا بالرّجال والأخبار لا أحدث عنه. اهـ
وقال عبدالرحمن المعلمي رحمه الله في تعليقه على "الفوائد المجموعة" ص(431): رواه الدولابي في "الكنى" (ج2 ص63)، وقال: منكر جدًا وهو شبه حديث الكذابين.
ثم قال المعلمي: وفي سنده الهذيل بن مسعر الأنصاري لم أجده، وليس هو بهزيل أو هذيل بن مسعدة الذي ذكره البخاري وابن أبي حاتم فإنّهما وصفاه بأنه أخو علي بن مسعدة وعلي باهلي. اهـ
قال أبونعيم رحمه الله في "الحلية" (ج2 ص241): حدثنا عبدالله بن محمد بن جعفر قال: ثنا علي بن إسحاق قال: ثنا الحسين بن الحسن قال: ثنا عبدالله بن المبارك(1) عن عبدالرحمن بن يزيد بن جابر قال: بلغنا أن النبي صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم قال: ((يكون في أمّتي رجل يقال له: صلة، يدخل الجنّة بشفاعته كذا وكذا)).
الحديث أخرجه ابن المبارك في "الزهد" ص(297)، وهو حديث معضل فإن عبدالرحمن بن يزيد بن جابر يروي عن التابعين.
__________
(1) …رجال الإسناد:(53/185)
قال ابن خزيمة رحمه الله ص(315): حدثنا إسحاق بن منصور قال: ثنا عبدالرزاق عن معمر قال: أخبرني ثابت البناني أنه سمع أنس بن مالك يقول: قال النبي صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: ((إنّ الرّجل يشفع للرّجلين وللثّلاثة، والرّجل للرّجل)).
الحديث رجاله رجال الصحيح، وفي رواية معمر عن ثابت ضعف لكنها تصلح في الشواهد والمتابعات.
قال الحاكم رحمه الله (ج3 ص399): حدثني أبوعمرو محمد بن جعفر ابن محمد بن مطر العدل الزاهد وأنا سألته ثنا أبوحبيب العباس بن أحمد بن محمد بن عيسي القاضي ثنا أبوبكر عبدالله بن عبيدالله الطلحي ثنا عبدالله ابن محمد بن إسحاق بن موسى بن طلحة بن عبيدالله حدثني أبوحذيفة الحصين بن حذيفة بن صيفي بن صهيب عن أبيه عن جده عن صهيب قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم يقول في المهاجرين الأوّلين: ((هم السّابقون الشّافعون المدلّون على ربّهم تبارك وتعالى، والّذي نفسي بيده إنّهم ليأتون يوم القيامة وعلى عواتقهم السّلاح فيقرعون باب الجنّة، فتقول لهم الخزنة: من أنتم؟ فيقولون: نحن المهاجرون. فتقول لهم الخزنة: هل حوسبتم؟ فيجثون على ركبهم، وينثرون ما في جعابهم ويرفعون أيديهم إلى السّماء فيقولون: أي ربّ، وماذا نحاسب؟ فقد خرجْنا وتركْنا الأهل والمال والولد فيمثّل الله لهم أجنحةً من ذهب مخوّصةً بالزبرجد والياقوت، فيطيرون حتّى يدخلوا الجنّة فذلك قوله {وقالوا الحمد لله الّذي أذهب عنّا الحزن} الآية إلى {لغوب}))
قال أبوحذيفة: قال حذيفة: قال صيفي: قال صهيب قال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: ((فلهم بمنازلهم في الجنّة أعرف منهم بمنازلهم في الدّنيا)).
غريب الإسناد والمتن، ذكرته في (مناقب صهيب) لأنه من المهاجرين الأولين، والراوي للحديث أعقابه، والحديث لأصحابه، ولم نكتبه إلا عن شيخنا الزاهد أبي عمرو رحمه الله.
الحديث أخرجه أبونعيم في "الحلية" (ج1 ص156).(53/186)
وقال الذهبي رحمه الله متعقبًا الحاكم: قلت: بل كذب، وإسناده مظلم.
قال أبوداود رحمه الله (ج3 ص34): حدثنا أحمد بن صالح حدثنا يحيى ابن حسان حدثنا الوليد بن رباح الذماري حدثني عمي نمران بن عتبة الذماري قال: دخلنا على أمّ الدّرداء ونحن أيتام، فقالت: أبشروا فإنّي سمعت أبا الدّرداء يقول: قال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: ((يشفّع الشّهيد في سبعين من أهل بيته)).
قال أبوداود: صوابه: رباح بن الوليد.
الحديث أخرجه ابن حبان كما في "الموارد" ص(388)، والآجري في "الشريعة" ص(350)، والبيهقي (ج1 ص164).
والحديث يدور على نمران بن عتبة، وقد قال الذهبي في "الميزان": لا يدرى من هو؟.
قال الترمذي رحمه الله (ج3 ص106): حدثنا عبدالله بن عبدالرحمن حدثنا نعيم بن حماد حدثنا بقية بن الوليد عن بحير بن سعد عن خالد بن معدان عن المقدام بن معد يكرب قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: ((للشّهيد عند الله ستّ خصال: يغفر له في أوّل دفعة، ويرى مقعده من الجنّة، ويجار من عذاب القبر، ويأمن من الفزع الأكبر، ويوضع على رأسه تاج الوقار، الياقوتة منها خير من الدّنيا وما فيها، ويزوّج اثنتين وسبعين زوجةً من الحور العين، ويشفّع في سبعين من أقاربه)).
هذا حديث حسن صحيح غريب.
الحديث أخرجه ابن ماجه (ج2 ص935) فقال: حدثنا هشام بن عمار ثنا إسماعيل بن عياش حدثني بحير بن سعيد به.
وأخرجه أحمد (ج3 ص131)، والآجري في "الشريعة" ص(349).
والحديث يدور علي بحير بن سعيد وهو ثقة، يرويه عن خالد بن معدان وخالد ثقة لكنه يرسل كثيرًا ولم يصرح بالتحديث من المقدام، وقد قال الإسماعيلي كما في "تهذيب التهذيب": بينه وبين المقدام بن معد يكرب جبير بن نفير، قال الحافظ: وحديثه عن المقدام في "صحيح البخاري". اهـ
وكون حديثه عنه في "صحيح البخاري" لا يلزم أنه لا يرسل عنه لكن الحديث في الشواهد فلا يضر.(53/187)
قال البزار رحمه الله كما في "كشف الأستار" (ج2 ص283): حدثنا سلمة بن شبيب -فيما أحسب- ثنا محمد بن معاوية ثنا مسلم بن خالد عن شريك بن أبي نمر عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم، وذكر الحديث في فضل الشّهداء، وفيه: ((ولا يسألون شيئًا إلاّ أعطوه، ولا يشفعون في شيء إلاّ شفّعوا فيه، ويعطون في الجنّة ما أحبّوا ويتبوؤن من الجنّة حيث أحبّوا)).
قال البزار: لا نعلمه عن أنس إلا بهذا الطريق، ومحمد بن معاوية قد حدث بأحاديث لم يتابع عليها، وأحسب هذا أتى منه، لأن مسلم بن خالد لم يكن بالحافظ.
الحديث -كما يقول البزار رحمه الله- في سنده محمد بن معاوية وهو النيسابوري، لأن سلمة بن شبيب كان مستمليه كما في "الميزان"، وقد كذبه ابن معين والدارقطني وغيرهما، كما في "الميزان" و"تهذيب التهذيب".
قال البزار رحمه الله كما في "كشف الأستار" (ج2 ص8): حدثنا محمد بن عمر بن هياج ثنا يحيى بن عبدالرحمن(1) الأرحبي ثنا عبيدة بن الأسود عن سنان بن الحارث عن طلحة بن مصرف عن مجاهد عن ابن عمر قال: كنت جالسًا مع النبيّ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم -فذكر الحديث في فضل الحج وفيه- ((إنّ الله يقول لهم عند وقوفهم بعرفة: أفيضوا عبادي مغفورًا لكم ولمن شفعتم له)) الحديث.
قال البزار: قد روي هذا الحديث من وجوه، ولا نعلم له أحسن من هذا الطريق.
وقال الهيثمي في "المجمع" (ج4 ص275): رواه البزار ورجاله موثقون.
__________
(1) …في الأصل بعد يحيى بن عبدالرحمن: (ثنا الأرحبي)، و(ثنا) زيادة لأن يحيى بن عبدالرحمن هو الأرحبي، وهو الذي يروي عنه محمد بن عمر بن هياج، ويحيى يروي عن عبيدة بن الأسود.(53/188)
قال أبوعبدالرحمن: سنان بن الحارث ذكره ابن أبي حاتم، وذكر أنه روى عنه ثلاثة ولم يذكر فيه جرحًا ولا تعديلاً، فهو مستور الحال، وعبيدة ابن الأسود قال أبوحاتم: ما بحديثه بأس. وذكره ابن حبان في "الثقات" وقال: يعتبر حديثه إذا بيّن السّماع وكان فوقه ودونه ثقات. اهـ من "تهذيب التهذيب".
ويحيى بن عبدالرحمن الأرحبي: قال الذهبي في "الميزان": صويلح، وقال الدارقطني: صالح يعتبر به. ومحمد بن عمر بن هياج: قال النسائي: لا بأس به. وقال محمد بن عبدالله الحضرمي: كان ثقة. فعلى هذا فالحديث صالح في الشواهد والمتابعات.
قال البزار رحمه الله كما في "كشف الأستار" (ج2 ص9): حدثنا ابن سنجر ثنا الحسن بن الربيع ثنا العطاف بن خالد المخزومي عن إسماعيل بن رافع عن أنس بن مالك قال: كنت قاعدًا مع رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم -فذكر الحديث في فضل الحج وفيه:- ((وأمّا وقوفك عشيّة عرفة فإنّ الله تبارك وتعالى يهبط إلى السّماء الدّنيا فيباهي بكم الملائكة، يقول: هؤلاء عبادي جاءوا شعثًا شفعاء من كلّ فجّ عميق يرجون رحمتي ومغفرتي، فلو كانت ذنوبكم كعدد الرّمل، وكعدد القطر، وكزبد البحر لغفرتها، أفيضوا عبادي مغفورًا لكم ولمن شفعتم له)).
الحديث قال الهيثمي في "المجمع" (ج3 ص276): رواه البزار وفيه إسماعيل بن رافع وهو ضعيف.
قال أبوعبدالرحمن: الحديث فيه انقطاع، فإنّهم لم يذكروا من مشايخ إسماعيل بن رافع أنسًا، كما في "الميزان" و"تهذيب التهذيب".
وإسماعيل بن رافع قال فيه النسائي: ليس بثقة. كما في "تهذيب التهذيب"، فعلى هذا فالحديث لا يثبت بهذا السند. والله أعلم.(53/189)
قال الإمام الخطيب أبوبكر أحمد بن علي في "التاريخ" (ج3 ص123): وسمعته يقول -يعني محمد بن العباس أبا بكر القاص- حدثنا أبوبكر محمد ابن أحمد المفيد حدثنا الحسن بن علي بن زيد حدثنا حاجب ابن سليمان حدثنا وكيع بن الجراح حدثنا سفيان بن سعيد الثوري قال: حدثني سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن جابر بن عبدالله قال: كنا عند النبي صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم فقال: ((يطلع عليكم رجل لم يخلق الله بعدي أحدًا هو خير منه ولا أفضل، وله شفاعة مثل شفاعة النبيّين)) فما برحنا حتى طلع أبوبكر الصّدّيق، فقام النّبيّ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم فقبّله والتزمه.
قال أبوعبدالرحمن: ذكر هذا في ترجمة محمد بن العباس أبي بكر القاص وهو تالف.
قال الإمام ابن عدي في "الكامل" (ج1 ص375): حدثنا الحسين بن عبدالغفار الأزدي بمصر حدثنا سعيد بن كثير بن عفير ثنا الفضل بن المختار عن أبان عن أنس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم لأبي بكر رضي الله عنه: ((ما أطيب مالك، منه بلال مؤذّني وناقتي الّتي هاجرت عليها، وزوجتي ابنتك وواسيتني بنفسك ومالك كأني أنظر إليك على باب الجنّة تشفع لأمّتي)).
الحديث ضعيف جدًا ففيه الحسين بن عبدالغفار، قال الدارقطني: متروك. وقال ابن عدي: حدثنا عن جماعة لم يحتمل سنّه لقاءهم وله مناكير. اهـ "الميزان".
وفيه أيضًا أبان بن أبي عياش ضعيف جدًا، والحديث ذكره الذهبي في "الميزان" في ترجمته.
وفيه أيضًا الفضل بن المختار ضعيف جدًا يحدّث بالأباطيل، ينظر "الميزان" و"الكامل" لابن عدي.
فصل في شفاعة الأولاد لآبائهم
قال الإمام أحمد رحمه الله (ج2 ص509): ثنا يزيد أنا حماد بن سلمة عن عاصم بن أبي النجود عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: ((إنّ الله عزّ وجلّ ليرفع الدّرجة للعبد الصّالح في الجنّة، فيقول: يا ربّ أنّى لي هذه؟ فيقال: باستغفار ولدك لك)).(53/190)
الحديث رجاله رجال الصحيح.
قال مسلم رحمه الله (ج4 ص2029): حدثنا سويد بن سعيد ومحمد ابن عبدالأعلى -وتقاربا في اللفظ- قالا: حدثنا المعتمر عن أبيه عن أبي السليل(1) عن أبي حسان قال: قلت لأبي هريرة: إنّه قد مات لي ابنان، فما أنت محدّثي عن رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم بحديث تطيّب به أنفسنا عن موتانا؟ قال: قال: نعم، ((صغارهم دعاميص الجنّة يتلقّى أحدهم أباه -أو قال: أبويه- فيأخذ بثوبه -أو قال: بيده- كما آخذ أنا بصنفة ثوبك هذا فلا يتناهى -أو قال فلا ينتهي- حتّى يدخله الله وأباه الجنّة)).
وفي رواية سويد قال: حدثنا أبوالسليل، ثم قال مسلم: وحدثنيه عبيدالله ابن سعيد حدثنا يحيى -يعني ابن سعيد- عن التيمي بهذا الإسناد، وقال: فهل سمعت من رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم شيئًا تطيب به أنفسنا عن موتانا؟ قال: نعم.
الحديث أخرجه أحمد (ج2 ص488 وص510)، والبخاري في "الأدب" ص(63)، والبيهقي (ج4 ص67-68).
قال الإمام أحمد رحمه الله (ج2 ص510): ثنا إسحاق(2) أنا عوف عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: ((ما من مسلمين يموت لهما ثلاثة أولاد لم يبلغوا الحنث إلاّ أدخلهما الله وإيّاهم بفضل رحمته الجنّة، وقال: يقال: لهم ادخلوا الجنّة. قال: فيقولون حتّى يجيء أبوانا. قال: ثلاث مرّات، فيقولون مثل ذلك فيقال: لهم ادخلوا الجنّة أنتم وأبواكم)).
الحديث رواه النسائي (ج4 ص22)، والبيهقي (ج4 ص68)، وهو على شرط الشيخين.
__________
(1) …أبوالسليل: هو ضريب بن نفير، وأبوحسان: هو خالد بن غلاّق.
(2) …إسحاق: هو ابن يوسف الأزرق، وعوف: هو ابن أبي جميلة.(53/191)
قال الإمام أحمد رحمه الله (ج4 ص105): ثنا أبوالمغيرة(1) ثنا حريز قال: ثنا شرحبيل بن شفعة عن بعض أصحاب النبيّ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم أنّه سمع النّبيّ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم يقول: ((يقال للولدان يوم القيامة: ادخلوا الجنّة. قال: فيقولون: يا ربّ حتّى يدخل آباؤنا وأمّهاتنا. قال: فيأتون، قال: فيقول الله عزّ وجلّ: ما لي أراهم محبنطئين(2)، ادخلوا الجنّة. قال: فيقولون: يا ربّ آباؤنا وأمّهاتنا. قال: فيقول: ادخلوا الجنّة أنتم وآباؤكم)).
الحديث رواه يعقوب الفسوي في "المعرفة والتاريخ" (ج2 ص343) وسمى الصحابي عتبة بن عبد السلمي، وقال الهيثمي (ج3 ص11): رواه أحمد ورجاله ثقات.
وأقول: الحديث في سنده شرحبيل بن شفعة لم يرو عنه إلا حريز، ولم يوثّقه إلا ابن حبان، فهو مجهول العين، وأما ابن حبان فهو يوثّق المجهولين كما في مقدمة "لسان الميزان" و"فتح المغيث".
وأما قول أبي داود: إن مشايخ حريز ثقات ففيه نظر، فإن من مشايخ حريز: عبدالرحمن بن ميسرة كما في ترجمة حريز من "تهذيب التهذيب"، وقد قال ابن المديني : إنه مجهول ووثقه العجلي كما في "الميزان"، والعجلي قريب من ابن حبان في توثيق المجهولين.
ومن مشايخ حريز القاسم بن عبدالرحمن الشامي: وقد قال الإمام أحمد: روى عنه علي بن يزيد أعاجيب، وما أراها إلا من قبل القاسم، وإن كان القاسم قد وثّق إلا أنّ الجرح فيه مفسّر من الإمام أحمد ومن ابن حبان.
__________
(1) …أبوالمغيرة: هو عبدالقدوس بن الحجاج، وحريز: هو ابن عثمان.
(2) …أي ممتلئين غضبًا كما في ?لسان العرب?.(53/192)
وقد اشتهر أن جماعة كانوا لا يروون إلا عن ثقة في الغالب كما في "فتح المغيث" (ج1 ص293)، منهم الإمام أحمد: وقد روى عن عامر بن صالح وغيره من الضعفاء كما في "الصارم المنكي في الرد على السبكي" ص(18-19)، ومنهم مالك: وقد روى عن عبدالكريم بن أبي المخارق وهو ضعيف، ومنهم شعبة: وقد قال: لو لم أحدثكم إلا عن ثقة لم أحدثكم عن ثلاثة -وفي نسخة: ثلاثين-. قال السخاوي: وذلك اعتراف منه بأنه يروي عن الثقة وغيره.
هذا وقد جاء الحديث من حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده، ذكره ابن حبان في "الضعفاء" (ج2 ص108) في ترجمة علي بن الربيع وذكره الذهبي في ترجمته، وفي ترجمة علي بن نافع، وقال ابن حبان: هذا حديث منكر لا أصل له من حديث بهز بن حكيم، وعلي هذا يروي المناكير، فلما كثر في روايته المناكير بطل الاحتجاج به.(53/193)
قال الإمام الحافظ يعقوب الفسوي في "المعرفة والتاريخ" (ج2 ص341): حدثني أبوتوبة قال: حدثنا معاوية بن سلام عن زيد بن سلام أنه سمع أبا سلام قال: حدثني عامر بن زيد البكالي أنه سمع عتبة بن عبد السلمي يقول: جاء أعرابيّ إلى رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم فقال له: ما حوضك الّذي تحدّث عنه؟ قال: ((هو كما بين البيضاء إلى بصرى، ثم يمدّني الله عزّ وجلّ فيه بكراع فلا يدري بشر ممن خلق أين طرفاه)) قال: فكبّر عمر بن الخطّاب، فقال: ((أمّا الحوض فيزدحم عليه فقراء المهاجرين الّذين يقتلون في سبيل الله، ويموتون في سبيل الله عزّ وجلّ)) وأرجو أن يوردني الله عزّ وجلّ الكراع فأشرب منه، فقال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: ((إنّ ربّي عزّ وجلّ وعدني أن يدخل الجنّة من(1) أمّتي سبعين ألفًا بغير حساب، ثمّ يشفّع كل ألف بسبعين ألفًا، ثمّ يحثي لي بكفّيه ثلاث حثيات)) وكبّر عمر، فقال: ((إنّ السّبعين الألف الأوّلين يشفّعهم الله عزّ وجلّ في آبائهم وأبنائهم وعشائرهم)) وأرجو(2) أن يجعلني الله عزّ وجلّ في إحدى الحثيات الأواخر، وقال الأعرابي: يا رسول الله أفيها فاكهة؟ قال: ((نعم، إنّ فيها شجرة تدعى طوبى، هي تطابق الفردوس)) قال: أيّ شجر أرضنا تشبه؟ قال: ((ليس شبه شيء من شجر أرضكم، ولكن أتيت الشّام؟)) فقال: لا يا رسول الله. قال: ((فإنّها تشبه شجرةً بالشّام تدعى: جوز، تنبت على ساق واحد وينتشر أعلاها)) قال: ما عظم أصلها؟ قال: ((لو ارتحلتْ جذعة من إبل أهلك ما أحاطتْ بأصلها حتّى ينكسر ترقواها هرمًا)) قال: فيها عنب؟ قال: ((نعم)) قال: وما عظم العنقود فيها؟ قال: ((مسيرة شهر للغراب، لا يقع ولا يني ولا يقرّ)) قال: ما عظم الحبّة منها؟ قال:
__________
(1) …(من): ساقطة من الأصل.
(2) …قوله: (وأرجو ... الخ)، وكذا قوله فيما تقدم: (وأرجو أن يوردني الله عز وجل الكراع)، يحتمل أن يكون من قول عتبة، أو من قول الأعرابي وهو الأقرب.(53/194)
((هل ذبح أبوكم تيسًا قطّ من غنمه قطّ عظيمًا؟)) قال: نعم. قال: ((فسلخ إهابها فأعطاها أمّك، فقال: ادبغي لنا هذه، ثمّ افري لنا منه دلوًا نروي به ماشيتنا؟)) قال: نعم. قال: ((فإنّ تلك تسعني وأهل بيتي؟)) قال: نعم، وعامة عشيرتك.
الحديث أخرجه الطبراني كما في "تفسير ابن كثير" (ج1 ص394) وقال الحافظ ابن كثير: قال الحافظ الضياء أبوعبدالله المقدسي في كتابه "صفة الجنة": لا أعلم لهذا الإسناد علة.
قال أبوعبدالرحمن: الحديث في سنده عامر بن زيد البكالي، وقد روى عنه أبوسلام كما في هذا السند، وفي "موارد الظمآن إلى زوائد ابن حبان" ص(647)، وروى عنه أيضًا يحيى بن أبي كثير كما في "المسند" (ج4 ص183)، فهو مستور الحال يصلح حديثه في الشواهد والمتابعات.
قال أبونعيم رحمه الله في "أخبار أصبهان" (ج2 ص15): حدثنا الحسين بن علي بن بكر ثنا علي بن الحسن بن علي(1) ثنا محمد بن غالب ثنا عبدالصمد بن النعمان ثنا ركن أبوعبدالله عن مكحول عن أبي أمامة عن النبيّ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم قال: ((إنّ ذراري المسلمين يوم القيامة تحت العرش شافع مشفّع، ما لم يبلغوا اثنتي عشرة سنةً فعليه وله)).
الحديث في سنده انقطاع لأن مكحولاً لم يثبت سماعه من أبي أمامة كما في "تهذيب التهذيب"، وقد ذكر الحافظ في "التقريب" أنه ثقة فقيه كثير الإرسال.
وفي سنده أيضًا ركن الشامي، قال الذهبي في "الميزان": ركن الشامي عن مكحول وغيره، وهّاه ابن المبارك، وقال يحيى: ليس بشيء. وقال الدارقطني والنسائي: متروك. ثم ذكر حديثين تفرد بهما، هذا أحدهما.
__________
(1) …ترجم له أبونعيم في ?أخبار أصبهان? (ج2 ص15) ولم يذكر فيه جرحًا ولا تعديلاً.(53/195)
قال الإمام أحمد رحمه الله (ج5 ص35): ثنا وكيع ثنا شعبة عن معاوية ابن قرة عن أبيه قال: إنّ رجلاً كان يأتي النّبيّ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم ومعه ابن له، فقال له النّبيّ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: ((أتحبّه؟)) فقال: يا رسول الله أحبّك الله كما أحبّه. ففقده النّبيّ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم فقال لي: ((ما فعل ابن فلان؟)) قالوا: يا رسول الله مات. فقال النّبيّ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم لأبيه: ((أما تحبّ أن لا تأتي بابًا من أبواب الجنّة إلاّ وجدته ينتظرك؟)) فقال الرّجل(1): يا رسول الله أله خاصّةً؟ أو لكلّنا؟ قال: ((بل لكلّكم)).
ثنا محمد بن جعفر أنا شعبة قال: سمعت معاوية بن قرة يحدث عن أبيه أن رجلاً كان يأتي النبي صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم فذكر مثله.
فصل المسلم الذي لا تقبل شفاعته
قال مسلم رحمه الله (ج4 ص2006): حدثنا أبوبكر بن أبي شيبة حدثنا معاوية بن هشام عن هشام بن سعد عن زيد بن أسلم وأبي حازم عن أم الدرداء عن أبي الدّرداء سمعت رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم يقول: ((إنّ اللّعّانين لا يكونون شهداء ولا شفعاء يوم القيامة)).
الحديث أخرجه أبوداود (ج5 ص212)، وأحمد (ج6 ص448)، والبخاري في "الأدب المفرد" ص(117) وفي "التاريخ الكبير" (ج2 ص22)، وأبونعيم في "الحلية" (ج3 ص259)، والحاكم في "المستدرك" (ج1 ص48)، وقال: وقد خرجه مسلم بهذا اللفظ.
أسباب الشفاعة
شفاعة القرآن
__________
(1) …كذا في ?المسند?، وفي ?مجمع الزوائد?: (فقال رجل)، وهو الموافق للقواعد العربية. قال السيوطي في ?عقود الجمان?:(53/196)
قال الترمذي رحمه الله (ج4 ص345): حدثنا علي بن حجر أخبرنا حفص بن سليمان عن كثير بن زاذان عن عاصم بن ضمرة عن علي بن أبي طالب قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: ((من قرأ القرآن واستظهره فأحلّ حلاله وحرّم حرامه، أدخله الله به الجنّة، وشفّعه في عشرة من أهل بيته كلّهم وجبت له النّار)).
هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وليس إسناده بصحيح، وحفص بن سليمان أبوعمر بزاز كوفي يضعّف في الحديث.
الحديث أخرجه أحمد (ج1 ص148-149)، والآجري في "الشريعة" ص(350)، وأبونعيم في "أخبار أصبهان" (ج1 ص255)، والخطيب في "موضح أوهام الجمع والتفريق" (ج2 ص331).
والحديث ضعيف جدًا، ففي "الميزان": كثير بن زاذان عن عاصم بن ضمرة له حديث منكر. قال أبوزرعة وأبوحاتم: مجهول. ثم قال الذهبي: قلت: روى عنه حفص بن سليمان الغاضري وحماد بن واقد وعنبسة قاضي الري. وقال ابن معين: لا أعرفه. اهـ
وفي سند الحديث أيضًا حفص بن سليمان المقرئ وقد قال ابن معين: ليس بثقة. وقال البخاري: تركوه. وقال أبوحاتم: متروك لا يصدق. اهـ من "الميزان".
وأما في القراءة فمتقن، أحد القراء السبعة المعتمد على قراءتهم.
وللحديث طريق أخرى من حديث عائشة ذكرها الذهبي في "الميزان" في ترجمة أحمد بن محمد بن حسين السقطي، وقال: ذكروا أن أحمد بن محمد ابن حسين السقطي وضعه على يحيى.
وذكره ابن الجوزي في "العلل المتناهية" (ج1 ص107) من طريق أحمد ابن محمد السقطي به.
قال الترمذي رحمه الله (ج4 ص238): حدثنا محمد بن بشار أخبرنا محمد بن جعفر أخبرنا شعبة عن قتادة عن عباس الجشمي عن أبي هريرة عن النّبيّ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم قال: ((إنّ سورةً من القرآن ثلاثون آيةً شفعت لرجل حتّى غفر له وهي سورة {تبارك الّذي بيده الملك))}.
هذا حديث حسن.(53/197)
الحديث أخرجه أبوداود (ج2 ص119)، وابن ماجة (ج2 ص1244)، وأحمد (ج2 ص321)، وابن حبان كما في "الموارد" ص(321)، والحاكم (ج1 ص565) وقال: صحيح الإسناد، وسكت عليه الذهبي.
وقال الحافظ المنذري في "مختصر السنن" (ج2 ص116): وقد ذكره البخاري في "التاريخ الكبير" من رواية عباس الجشمي عن أبي هريرة كما أخرجه أبوداود، ومن ذكره معه، قال: لم(1) يذكرْ سماعًا من أبي هريرة. يريد أنّ عباسًا الجشمي روى هذا الحديث عن أبي هريرة ولم يذكر فيه أنه سمعه من أبي هريرة.
وقال الحافظ في "التقريب" في ترجمة عباس: إنه مقبول، فعلى هذا فالحديث ضعيف بهذا السند، والله أعلم.
قال الحاكم رحمه الله (ج1 ص568): وأخبرنا بكر بن محمد ثنا عبدالصمد بن الفضل ثنا مكي بن إبراهيم ثنا عبيدالله بن أبي حميد عن أبي المليح عن معقل بن يسار رضى الله عنه: قال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: ((اعملوا بالقرآن، أحلّوا حلاله، وحرّموا حرامه، واقتدوا به، ولا تكفروا بشيء منه، وما تشابه عليكم منه فردّوه إلى الله وإلى أولي الأمر من بعدي، كيما يخبروكم، وآمنوا بالتّوراة والإنجيل والزّبور، وما أوتي النّبيّون من ربّهم، وليسعكم القرآن وما فيه من البيان فإنّه لشافع مشفّع، وماحل مصدّق، ألا ولكلّ آية نور يوم القيامة، وإني أعطيت سورةً البقرة من الذكر الأوّل، وأعطيت طه وطواسين والحواميم من ألواح موسى، وأعطيت فاتحة الكتاب من تحت العرش)).
هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه.
وتعقبه الذهبي فقال: عبيدالله، قال أحمد: تركوه.
الحديث ذكره ابن حبان في "الضعفاء" (ج2 ص65) في ترجمة عبيدالله ابن أبي حميد وذكر ما فيه من القدح.
__________
(1) …قد راجعت ?تاريخ البخاري الكبير? فلم أجد هذا الكلام، فلعله سقط من المطبوع.(53/198)
- وقال الحاكم رحمه الله (ج3 ص578): حدثنا أبوالنضر الفقيه ثنا عثمان بن سعيد الدارمي وعلي بن عبدالعزيز قالا: ثنا عبدالله بن رجاء أنبأ عمران القطان(1) عن عبيدالله بن معقل بن يسار المزني عن أبيه رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: ((اعملوا بكتاب الله، ولا تكذّبوا بشيء منه، فما اشتبه عليكم منه فاسألوا عنه أهل العلم يخبروكم، آمنوا بالتّوراة والإنجيل، وآمنوا بالفرقان فإنّ فيه البيان، وهو الشّافع وهو المشفّع والماحل والمصدّق)) اهـ
عبيدالله بن معقل بن يسار ما وجدت له ترجمة.
قال أبونعيم رحمه الله في "الحلية" (ج4 ص108): حدثنا أبوإسحاق ابن حمزة ثنا محمد بن سليمان (ح) وحدثنا محمد بن حميد ثنا عبدان بن أحمد قالا: ثنا هشام بن عمار ثنا الربيع بن بدر عن الأعمش عن أبي وائل عن عبدالله رضى الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: ((القرآن شافع مشفّع، وماحل مصدّق، من جعله أمامه، قاده إلى الجنّة، ومن جعله خلفه ساقه إلى النّار)).
غريب من حديث الأعمش تفرد به عنه الربيع.
الحديث أخرجه الطبراني في "الكبير" (ج10 ص244).
والحديث ضعيف جدًا لأن في سنده الربيع بن بدر، قال ابن معين: ليس بشيء. وقال أبوداود وغيره: ضعيف. وقال النسائي: متروك. وقال ابن عدي: عامة رواياته لا يتابع عليها.
ثم ذكر له الذهبي بعد هذا أحاديث منكرة، منها هذا، ولعل الصواب وقفه، فقد رواه الدارمي رحمه الله في "سننه" (ج2 ص433) موقوفًا، فقال: حدثنا يزيد بن هارون أنا همام عن عاصم بن أبي النجود عن الشعبي أن ابن مسعود كان يقول: يجيء القرآن يوم القيامة فيشفع لصاحبه فيكون له قائدًا إلى الجنّة، ويشهد عليه ويكون سائقًا به إلى النّار.
__________
(1) …هو عمران بن داور، كما في ?تهذيب التهذيب?.(53/199)
الحديث فيه انقطاع، لأن رواية الشعبي وهو عامر بن شراحيل عن ابن مسعود مرسلة كما في "تهذيب التهذيب"، لكن رواه عبدالرزاق (ج3 ص373)، والطبراني في "الكبير" (ج9 ص141) بسند صحيح موقوفًا على ابن مسعود.
ولحديث ابن مسعود طريق أخرى كما في "كشف الأستار" (ج1 ص77) قال البزار رحمه الله: حدثنا أبوكريب محمد بن العلاء ثنا عبدالله بن الأجلح عن الأعمش عن المعلى الكندي عن عبدالله بن مسعود قال: إنّ هذا القرآن شافع مشفّع، من اتبعه قاده إلى الجنّة، ومن تركه -أو أعرض عنه أو كلمةً نحوها- زخّ في قفاه إلى النّار.
وحدثنا أبوكريب ثنا عبدالله بن الأجلح عن الأعمش عن أبي سفيان عن جابر عن النبي صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم قال بنحوه. اهـ
أما أثر ابن مسعود فضعيف، إذ المعلى الكندي ترجم له البخاري في "التاريخ الكبير" فقال: معلى الكندي عن محمد بن عبدالرحمن، روى عنه الأعمش، يعدّ في الكوفيين، منقطع.
وترجم له ابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل"، وذكر نحو قول البخاري إلا أنه قال: محمد بن عبدالرحمن بن يزيد.
وإذا كان منقطعًا في روايته عن محمد بن عبدالرحمن الذي هو ليس بصحابي، فبالأولى عن عبدالله بن مسعود، ثم المعلى مجهول فقد ذكره البخاري وابن أبى حاتم ولم يذكرا فيه جرحًا ولا تعديلاً.
أما حديث جابر الذي تقدمت الإشارة إليه، فقال ابن حبان رحمه الله في "الموارد" ص(443): أخبرنا الحسين بن أبي معشر(1) بحرّان حدثنا محمد ابن العلاء بن كريب حدثنا عبدالله بن الأجلح عن الأعمش عن أبي سفيان عن جابر عن النبي صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: ((القرآن شافع مشفّع، وماحل مصدّق، من جعله أمامه، قاده إلى الجنّة، ومن جعله خلف ظهره ساقه إلى النّار)).
الحديث حسن.
__________
(1) …ترجمة الحسين في ?العبر? (ج2 ص172)، وفي ?تذكرة الحفاظ? ص(774) قال الذهبي: كان من نبلاء الثقات.(53/200)
قال مسلم رحمه الله (ج1 ص553): حدثني حسن بن علي الحلواني حدثنا أبوتوبة وهو الربيع بن نافع حدثنا معاوية -يعني ابن سلام- عن زيد أنه سمع أبا سلام يقول: حدثني أبوأمامة الباهلي قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم يقول: ((اقرءوا القرآن فإنّه يأتي يوم القيامة شفيعًا لأصحابه، اقرءوا الزّهراوين البقرة وسورة آل عمران فإنّهما تأتيان يوم القيامة كأنّهما غمامتان -أو كأنّهما غيايتان أو كأنّهما فرقان- من طير صوافّ تحاجّان عن أصحابهما، اقرءوا سورة البقرة فإنّ أخذها بركة وتركها حسرة، ولا يستطيعها البطلة)).
الحديث أخرجه أحمد (ج5 ص249 وص255-257)، وابن حبان (ج1 ص183) من "ترتيب الصحيح"، والحاكم (ج1 ص564)، والطبراني في "الكبير" (ج8 ص138).
قال الإمام عبدالله بن عبدالرحمن أبومحمد الدارمي (ج2 ص430): حدثنا موسى بن خالد ثنا إبراهيم بن محمد الفزاري عن سفيان عن عاصم عن مجاهد عن ابن عمر قال: يجيء القرآن يشفع لصاحبه يقول: يا ربّ لكلّ عامل عمالة من عمله، وإنّي كنت أمنعه اللّذة والنّوم فأكرمه. فيقال: ابسط يمينك. فيملأ من رضوان الله، ثمّ يقال: ابسط شمالك. فيملأ من رضوان الله، ويكسى كسوة الكرامة ويحلّى بحلية الكرامة، ويلبس تاج الكرامة.
الحديث موقوف ورجاله رجال الصحيح إلا عاصمًا وهو ابن أبي النجود، وقد رويا له مقرونًا، وحديثه حسن كما في "الميزان".
قال الدارمي رحمه الله (ج2 ص455): حدثنا عبدالله بن صالح حدثني معاوية بن صالح أنه سمع أبا خالد عامر بن جشيب(1) وبحير بن سعد يحدثان أن خالد بن معدان قال: إنّ {ألم تنْزيل} تجادل عن صاحبها في القبر تقول: اللّهمّ إن كنت من كتابك فشفّعني فيه، وإن لم أكن من كتابك فامحني عنه، وإنّها تكون كالطّير تجعل جناحها عليه فيشفع له، فتمنعه من عذاب القبر، وفي {تبارك} مثله.
فكان خالد لا يبيت حتى يقرأ بهما.
__________
(1) …عامر بن جشيب: مستور الحال، ولا يضر الحديث لأنه مقرون.(53/201)
هذا أثر مقطوع، وعبدالله بن صالح شيخ الدارمي ضعيف.
قال الإمام أحمد رحمه الله (ج2 ص174): ثنا موسى بن داود ثنا ابن لهيعة عن حييّ بن عبدالله عن أبي عبدالرحمن الحبلي عن عبدالله بن عمرو أن رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم قال: ((الصّيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة، يقول الصّيام: أي ربّ منعته الطّعام والشّهوات بالنّهار فشفّعني فيه. ويقول القرآن: منعته النّوم باللّيل فشفّعني فيه. قال: فيشفّعان)).
الحديث أخرجه محمد بن نصر المروزي في "قيام الليل" ص(25)، والحاكم (ج1 ص554) كلاهما من طريق عبدالله بن وهب عن حيي بن عبدالله به.
وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم.
وأخرجه أبونعيم في "الحلية" (ج8 ص161) فقال: حدثني أبي ومحمد ابن جعفر بن يوسف قالا: ثنا محمد بن جعفر ثنا إسماعيل بن يزيد ثنا إبراهيم بن الأشعث ثنا وهيب ثنا رشدين عن حسين بن عبدالله عن أبي عبدالرحمن الحبلي به.
ثم قال أبونعيم عقبه: غريب من حديث وهيب ورشدين، لم نكتبه إلا من حديث إبراهيم بن الأشعث. اهـ
الحديث من رواية أحمد ومحمد بن نصر والحاكم من طريق حيي بن عبدالله، وقد قال البخاري: فيه نظر. وهذا عند البخاري من أردى عبارات الجرح كما في "فتح المغيث"، وتوثيق من وثّقه معارض بهذا التجريح المفسر عند البخاري.
وحديث أبي نعيم في سنده حسين بن عبدالله بن عبيدالله بن عباس الهاشمي المدني وهو ضعيف، وقال النسائي: متروك، وقال في موضع آخر: ليس بثقة. كما في "تهذيب التهذيب"، يرويه عنه رشدين بن سعد وهو ضعيف أيضًا.
وفيه أيضًا إبراهيم بن الأشعث خادم الفضيل: وقد اتّهمه أبوحاتم كما في "الميزان".
وفيه أيضًا إسماعيل بن يزيد: ترجمه أبونعيم في "أخبار أصبهان" والحافظ في "لسان الميزان"، اختلط عليه بعض حديثه في آخر أيامه، يذكر بالزهد والعبادة، حسن الحديث، كثير الغرائب.(53/202)
ثم إنه قد اختلف فيه على رشدين فتارةً يرويه عن حسين بن عبدالله كما تقدم، وتارةً يرويه عن حيي عن أبي عبدالرحمن الحبلي كما في "النهاية" لابن كثير (ج2 ص216).
فتحصل من هذا أن الحديث ضعيف.
وأما قول الحاكم إنه على شرط مسلم، وكذا قول الحافظ المنذري في "الترغيب والترهيب" (ج2 ص84): إن رجاله محتج بهم في الصحيح فهو، غير صحيح، لأن حيي بن عبدالله ليس من رجال الصحيح، كما في "تهذيب التهذيب" و"الميزان".
قال الدارمي رحمه الله (ج2 ص430): حدثنا عبدالله بن جعفر الرقي عن عبيدالله بن عمرو عن زيد بن أبي أنيسة عن عاصم عن أبي صالح قال: سمعت أبا هريرة يقول: اقرءوا القرآن، فإنّه نعم الشّفيع يوم القيامة، إنّه يقول يوم القيامة: يا ربّ حلّه حلية الكرامة. فيحلّى حلية الكرامة، يا ربّ اكسه كسوة الكرامة. فيكسى كسوة الكرامة، يا ربّ ألبسه تاج الكرامة يا ربّ ارض عنه فليس بعد رضاك شيء.
الحديث أخرجه الترمذي (ج4 ص249) من حديث محمد بن بشار أخبرنا محمد بن جعفر أخبرنا شعبة عن عاصم بن بهدلة عن أبي صالح عن أبي هريرة نحوه، ثم قال الترمذي: وهذا أصح عندنا من حديث عبدالصمد عن شعبة. اهـ
يعنى أن هذا الأثر الموقوف أصح من المرفوع الآتي.
الأثر رجاله رجال الصحيح إلا عاصمًا، وهو ابن أبي النجود، فقد رويا له مقرونًا وهو حسن الحديث.(53/203)
وقد رواه أبونعيم رحمه الله مرفوعًا، فقال رحمه الله (ج7 ص206): حدثنا عمر بن أحمد بن عمر ثنا علي بن العباس العجلي ثنا محمد بن خلد(1) ثنا سلم(2) بن قتيبة ثنا شعبة عن عاصم بن بهدلة عن أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم قال: ((نعم الشّفيع القرآن لصاحبه يوم القيامة، يقول: يا ربّ أكرمه. فيلبس تاج الكرامة، ثمّ يقول: يا ربّ زده، ارض عنه فليس بعد رضى الله شيء)).
غريب من حديث شعبة، تفرد به سلم، وتابعه عبدالصمد عليه في بعض ألفاظه.
الحديث رواه الترمذي (ج4 ص248) وقال: هذا حديث حسن صحيح. والحاكم (ج1 ص552) وقال: صحيح الإسناد. وسكت عليه الذهبي. وليس عند الترمذي والحاكم: ((نعم الشّفيع القرآن)).
أما رجال السند: فعمر بن أحمد بن عمر: ترجمه أبونعيم في "أخبار أصبهان" (ج1 ص358) ولم يذكر فيه جرحًا ولا تعديلاً. وعلي بن العباس ترجمته في "تاريخ بغداد" (ج12 ص22)، ثقة، ونسبه (النسائيّ) فلعل له نسبتين إلى القبيلة وإلى البلدة.
هذا وقد جاء الحديث مقطوعًا من قول أبي صالح:
قال الدارمي رحمه الله (ج2 ص431): أخبرنا موسى بن خالد ثنا إبراهيم بن محمد الفزاري عن الحسن بن عبيدالله(3) عن المسيب بن رافع عن أبي صالح قال: القرآن يشفع لصاحبه، فيكسى حلّة الكرامة، ثمّ يقول: يا ربّ زده. فيكسى تاج الكرامة، قال: فيقول: ربّ زده فآته، فآته، يقول: رضائي.
فالظاهر أن أبا صالح تارةً يرويه مرفوعًا، وتارةً يرويه موقوفًا، وتارةً يحدث به من قوله، وأن الكلّ صحيح، والله أعلم.
__________
(1) …كذا بالأصل، والظاهر أنه: محمد بن مخلد الرعيني، وهو واه كما في الكامل لابن عدي.
(2) …في الأصل: سالم بن قتيبة، والصواب ما أثبتناه، فقد ذكروا من مشايخ سلم شعبة، كما في ?تهذيب التهذيب?.
(3) …في الأصل: (ابن عبدالله)، والصواب ما أثبتناه فقد ذكروا من تلاميذه أبا إسحاق الفزاري، وهو إبراهيم بن محمد.(53/204)
قل ابن السني رحمه الله ص(56): حدثنا أبوجعفر بن بكر حدثنا محمد ابن زنبور المكي حدثنا الحارث بن عمير عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جده عن علي بن أبي طالب رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: ((إنّ فاتحة الكتاب وآية الكرسي والآيتين من آل عمران {شهد الله أنّه لا إله إلاّ هو} و{قل اللّهمّ مالك الملك -إلى قوله- وترزق من تشاء بغير حساب} معلّقات، ما بينهنّ وبين الله عزّ وجلّ حجاب، لمّا أراد الله أنْ ينْزلن تعلّقن بالعرش، قلن: ربّنا تهبطنا إلى أرضك، وإلى من يعصيك؟ فقال الله عزّ وجلّ: بي حلفت لا يقرؤكنّ أحد من عبادي دبر كلّ صلاة إلاّ جعلت الجنّة مثواه على ما كان منه، وإلاّ أسكنته حظيرة القدس، وإلاّ نظرت إليه بعيني المكنونة كلّ يوم سبعين نظرةً، وإلاّ قضيت له كلّ يوم سبعين حاجةً أدناها المغفرة، وإلا أعذته من كلّ عدوّ، ونصرته منه، ولا يمنعه من دخول الجنّة إلاّ الموت)).
قال ابن الجوزي رحمه الله في "الموضوعات"(ج1 ص245): هذا حديث موضوع تفرد به الحارث بن عمير، قال أبوحاتم بن حبان: كان الحارث ممن يروي عن الأثبات الموضوعات، روى هذا الحديث، ولا أصل له.
وقال أبوبكر محمد بن إسحاق بن خزيمة: الحارث كذاب، ولا أصل لهذا الحديث.
قال ابن الجوزي رحمه الله: قد كنت سمعت هذا الحديث في زمن الصبا، فاستعملته نحوًا من ثلاثين سنة لحسن ظني بالرواة، فلما علمت أنه موضوع تركته، فقال قائل: أليس هو استعمال خير؟ قلت: استعمال الخير ينبغي أن يكون مشروعًا، فإذا علمنا أنه كذب، خرج عن ا لمشروعية.
والحديث ذكره الحافظ الذهبي في "الميزان" في ترجمة الحارث بن عمير وأقر ابن حبان على الحكم بوضعه.
سكنى المدينة والموت بها(53/205)
قال الإمام مسلم رحمه الله (ج2 ص1002): وحدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا ليث عن سعيد بن أبي سعيد عن أبي سعيد مولى المهريّ أنّه جاء أبا سعيد الخدريّ ليالي الحرّة فاستشاره في الجلاء من المدينة، وشكا إليه أسعارها وكثرة عياله، وأخبره أن لا صبر له على جهد المدينة ولأوائها، فقال له: ويحك لا آمرك بذلك، إنّي سمعت رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم يقول: ((لا يصبر أحد على لأوائها فيموت إلاّ كنت له شفيعًا أو شهيدًا يوم القيامة إذا كان مسلمًا)).
الحديث أخرجه الإمام أحمد (ج3 ص29، 58، 69).
وقال مسلم رحمه الله (ج2 ص1004): حدثني زهير بن حرب حدثنا عثمان بن عمر أخبرنا عيسى بن حفص بن عاصم حدثنا نافع عن ابن عمر قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم يقول: ((من صبر على لأوائها كنت له شفيعًا أو شهيدًا يوم القيامة)).
الحديث أخرجه الترمذي (ج5 ص377)، وأحمد (ج2 ص155)، وابن حبان كما في "الموارد" ص(255)، وقال الترمذي: هذا حديث صحيح غريب.
- وقال مسلم رحمه الله (ج2 ص1004): حدثنا يحيى بن يحيى قال: قرأت على مالك عن قطن بن وهب بن عويمر بن الأجدع عن يحنس مولى الزبير أخبره أنه كان جالسًا عند عبدالله بن عمر في الفتنة(1)، فأتته مولاة له تسلّم عليه، فقالت: إنّي أردت الخروج يا أبا عبدالرحمن اشتدّ علينا الزّمان. فقال لها عبدالله: اقعدي لكاع، فإنّي سمعت رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم يقول: ((لا يصبر على لأوائها وشدّتها أحد إلاّ كنت له شهيدًا أو شفيعًا يوم القيامة)).
وحدثنا محمد بن رافع حدثنا ابن أبي فديك أخبرنا الضحّاك عن قطن الخزاعي عن يحنس مولى مصعب عن عبدالله بن عمر قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم يقول: ((من صبر على لأوائها وشدّتها كنت له شهيدًا أو شفيعًا يوم القيامة)) يعني المدينة.
__________
(1) …وهي وقعة الحرة التي وقعت زمن يزيد.(53/206)
الحديث أخرجه مالك في "الموطأ" (ج3 ص83) وأحمد (ج2 ص113، 119، 133).
قال مسلم رحمه الله (ج2 ص1004): وحدثنا يحيى بن أيوب وقتيبة وابن حجر جميعًا عن إسماعيل بن جعفر عن العلاء بن عبدالرحمن عن أبيه عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم قال: ((لا يصبر على لأواء المدينة وشدّتها أحد من أمّتي إلاّ كنت له شفيعًا يوم القيامة أو شهيدًا))
وحدّثنا ابن أبي عمر حدّثنا سفيان عن أبي هارون موسى بن أبي عيسى أنّه سمع أبا عبدالله القرّاظ يقول: سمعت أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم بمثله.
وحدّثنا يوسف بن عيسى حدّثنا الفضل بن موسى أخبرنا هشام بن عروة عن صالح بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: ((لا يصبر أحد على لأواء المدينة...)) بمثله.
الحديث أخرجه الترمذي (ج5 ص379)، وأحمد (ج2 ص288، 388، 343، 397،439، 447)، والحميدي (ج2 ص492) والبخاري في "التاريخ الكبير" (ج4 ص283، 284).
وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه، وصالح بن أبي صالح أخو سهيل بن أبي صالح.
قال الإمام أحمد رحمه الله (ج6 ص369): ثنا يعقوب قال: حدثني أبي عن الوليد بن كثير قال حدثني عبدالله بن مسلم الطويل صاحب المصاحف أن كلاب بن تليد أخا بني سعد بن ليث أنه بينا هو جالس مع سعيد بن المسيّب جاءه رسول نافع بن جبير بن مطعم بن عدي يقول: إنّ ابن خالتك يقرأ عليك السّلام ويقول: أخبرني كيف الحديث الذي كنت حدثتني عن أسماء بنت عميس، فقال سعيد بن المسيب: أخبره أنّ أسماء بنت عميس أخبرتني أنّها سمعت رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم يقول: ((لا يصبر على لأواء المدينة وشدّتها أحد إلاّ كنت له شفيعًا أو شهيدًا يوم القيامة)).
الحديث في سنده كلاب بن تليد: قال الذهبي في "الميزان": روى عن سعيد بن المسيب لا يكاد يعرف، وقد وثّق، تفرد عنه عبدالله بن مسلم. اهـ(53/207)
ولعله يعنى بقوله: (وثّق) أنّه وثّقه ابن حبان كما في "تهذيب التهذيب"، وابن حبان معروف بتوثيق المجاهيل، كما في مقدمة "لسان الميزان".
وفيه أيضًا عبدالله بن مسلم: قال الذهبي في "الميزان": ما روى عنه سوى الوليد بن كثير في الصبر على لأواء المدينة.
فعلى هذا فالحديث ضعيف من أجل هذين الراويين، والله أعلم.
قال ابن حبان رحمه الله كما في "موارد الظمآن" ص(255): حدثنا ابن قتيبة حدثنا حرملة حدثنا ابن وهب أنبانا يونس عن ابن شهاب عن عبيدالله بن عبدالله بن عتبة عن الصميتة امرأة من بني ليث سمعها تحدث صفية بنت أبي عبيد أنّها سمعت رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم يقول: ((من استطاع منكم ألاّ يموت إلاّ بالمدينة فليمتْ بها، فإنّه من يمت بها يشفع له أو يشهد له)).
الحديث على شرط مسلم، وابن قتيبة شيخ ابن حبان: هو محمد بن الحسن بن قتيبة، وصفه الذهبي في "التذكرة" بالثقة والحفظ(1).
وعزا الحافظ حديثها في "الإصابة" إلى النسائي وابن أبي عاصم.
قال الترمذي رحمه الله (ج5 ص377): حدثنا بندار أخبرنا معاذ بن هشام حدثني أبي عن أيوب عن نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: ((من استطاع أن يموت بالمدينة فليمت بها، فإنّي أشفع لمن يموت بها)).
وفي الباب عن سبيعة بنت الحارث الأسلمية.
هذا حديث حسن صحيح من هذا الوجه من حديث أيوب السختياني.
الحديث أخرجه ابن حبان كما في "الموارد" ص(255)، وأحمد (ج2 ص74، 104).
وهذا الحديث له علة لكنها غير قادحة، كما في "الصارم المنكي" ص(538).
__________
(1) …وهناك ابن قتيبة آخر اسمه عبدالله بن مسلم صاحب كتاب ?تأويل مختلف الحديث?.(53/208)
قال أبونعيم في "أخبار أصبهان" (ج2 ص103): أخبرنا عبيدالله بن يحيى بن محمد فيما أذن لنا وأجاز لي، وحدثني عنه علي بن محمد الفقيه ثنا محمد بن نصر الصائغ ثنا إسماعيل بن أبي أويس ثنا الدراوردي عن أسامة بن زيد عن عبدالله بن عكرمة عن عبدالله بن عبدالله بن عمر بن الخطاب عن أبيه عن سبيعة الأسلمية أن رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم قال: ((من استطاع منكم أن يموت بالمدينة فليمتْ، فإنّه لا يموت بها أحد إلاّ كنت له شهيدًا أو شفيعًا يوم القيامة)).
الحديث قال المنذري في "الترغيب والترهيب" (ج2 ص224): رواه الطبراني في "الكبير"، ورواته محتج بهم في الصحيح إلاّ عبدالله بن عكرمة، روى عنه جماعة ولم يجرّحه أحد، وقال البيهقي: هو خطأ، وإنّما هو عن صميتة كما تقدم. اهـ
قال أبوعبدالرحمن: قول الحافظ المنذري: (ورواته محتج بهم في الصحيح) فيه نظر، فأسامة بن زيد: هو الليثي، قال ابن القطان الفاسي: لم يحتجّ به مسلم، وإنما أخرج له استشهادًا. اهـ من "تهذيب التهذيب".
فعلى هذا فلا يقال: إنه محتج به في الصحيح، إذ البخاري لم يخرّج له إلا تعليقًا، ومسلم في الشواهد.
والدراوردي هو عبدالعزيز بن محمد، روى له البخاري مقرونًا وروى له أحاديث يسيرة، أفرده، لكنه أوردها بصيغة التعليق في المتابعات، واحتج به بقية الستة كما في "مقدمة الفتح".(53/209)
وإذا احتج به مسلم فليس معناه أنه يحتج به في كل حديثه، فإن الشيخين رحمهما الله ينتقيان من حديث المحدث المتكلم فيه ما ثبت لديهما، كما ذكره النووي رحمه الله في مقدمة "شرح صحيح مسلم" فأخشى أن يكون وهم فيه وأنّه حديث صميتة المتقدّم كما قال البيهقي رحمه الله، لا سيما والراوي عنه إسماعيل بن أبي أويس. وقد قال الحافظ في "مقدمة الفتح" بعد أن ذكر ما قيل فيه: وإنّ البخاري انتقى من حديثه فعلى هذا لا يحتج بشيء من حديثه غير ما في الصحيح من أجل ما قدح فيه النسائي وغيره، إلا إن شاركه غيره فيعتبر فيه. اهـ
قال مسلم رحمه الله (ج2 ص992): حدثنا أبوبكر بن أبي شيبة حدثنا عبدالله بن نمير (ح) وحدثنا ابن نمير حدثنا أبي حدثنا عثمان بن حكيم حدثني عامر بن سعد عن أبيه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: ((إنّي أحرّم ما بين لابتي(1) المدينة، أن يقطع عضاهها، أو يقتل صيدها، وقال: المدينة خير لهم لو كانوا يعلمون، لا يدعها أحد رغبةً عنها إلاّ أبدل الله فيها من هو خير منه، ولا يثبت أحد على لأوائها وجهدها إلاّ كنت له شفيعًا أو شهيدًا يوم القيامة)).
وحدثنا ابن أبي عمر حدثنا مروان بن معاوية حدثنا عثمان بن حكيم الأنصاري أخبرني عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه أنّ رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم قال: -ثمّ ذكر مثل حديث ابن نمير وزاد في الحديث:- ((ولا يريد أحد أهل المدينة بسوء إلاّ أذابه الله في النّار ذوب الرّصاص، أو ذوب الملح في الماء)).
الحديث أخرجه أحمد (ج1 ص181).
__________
(1) …اللابة: هي الحرة. والحرة هي الأرض ذات الحجارة السود، والمراد تحريم المدينة.(53/210)
قال الطبراني رحمه الله في "المعجم الكبير" (ج4 ص153): حدثنا أبوخليفة الفضل بن الحباب ثنا علي بن المديني ثنا عاصم بن عبدالعزيز الأشجعي ثنا سعد بن إسحاق بن كعب بن عجرة عن واقد بن عمرو بن سعد بن معاذ عن أفلح مولى أبي أيوب الأنصاري أنه مرّ بزيد بن ثابت وأبي أيوب وهما قاعدان عند مسجد الجنائز، فقال أحدهما لصاحبه: تذكر حديثًا حدّثناه رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم في هذا المجلس الّذي نحن فيه؟ قال: نعم، عن المدينة سمعته، وهو يزعم أنّه ((سيأتي على النّاس زمان يفتح فيه فتحات الأرض، فيخرج إليها رجال يصيبون رخاءً وعيشًا وطعامًا، فيمرّون على إخوان لهم حجّاجا أو عمارًا، فيقولون: ما يقيمكم في لأواء العيش وشدّة الجوع؟ قال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: فذاهب وقاعد -حتى قالها مرارًا- والمدينة خير لهم، لا يثبت بها أحد فيصبر على لأوائها وشدّتها حتى يموت، إلاّ كنت له يوم القيامة شهيدًا أو(1) شفيعًا)).
الحديث قال الحافظ المنذري في "الترغيب والترهيب" (ج2 ص223): رواه الطبراني في "الكبير" بإسناد جيد ورواته ثقات.
وقال الهيثمي في "المجمع" (ج3 ص300): رواه الطبراني في "الكبير" ورجاله ثقات.
قال أبوعبدالرحمن: الحديث في سنده عاصم بن عبدالعزيز الأشجعي: قال الذهبي رحمه الله في "الميزان": قال النسائي والدارقطني: ليس بالقوي. وقال البخاري: فيه نظر. ثم قال الذهبي: قلت: روى عنه علي بن المديني، ووثّقه معن القزاز. اهـ
فقول البخاري رحمه الله: (فيه نظر) من أردى صيغ الجرح، فعلى هذا فالحديث ضعيف. والله أعلم.
__________
(1) …(أو) هنا تحتمل أن تكون للشك من الراوي، أو للتقسيم والتنويع، والمتعين الثاني لأن الحديث وارد عن جماعة من الصحابة.(53/211)
قال البزار رحمه الله كما في "كشف الأستار" (ج2 ص51): حدثنا الفضل بن سهل ومحمد بن عبدالرحيم قالا: ثنا الحسن بن موسى ثنا سعيد ابن زيد عن عمرو بن دينار عن سالم عن أبيه عن عمر قال: غلا السّعر بالمدينة، واشتدّ الجهد، فقال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: ((اصبروا وأبشروا فإنّي قد باركت على صاعكم ومدّكم، فكلوا ولا تفرقوا فإنّ طعام الواحد يكفي الاثنين، وطعام الاثنين يكفي الأربعة، وطعام الأربعة يكفي الخمسة والسّتة، وإنّ البركة في الجماعة، فمن صبر على لأوائها وشدّتها كنت له شفيعًا أو شهيدًا يوم القيامة، ومن خرج عنها رغبةً عمّا فيها، أبدل الله به من هو خير منه فيها، ومن أرادها بسوء أذابه الله كما يذوب الملح في الماء)).
قال البزار: لا نعلمه عن عمر إلا من هذا الوجه، تفرد به عمرو بن دينار وهو ليّن، وأحاديثه لا يشاركه فيها أحد، قد روى عنه جماعة.
قال أبوعبدالرحمن: عمرو بن دينار هو قهرمان آل الزبير، قال أحمد: ضعيف. وقال البخاري: فيه نظر. وقال ابن معين: ذاهب، وقال مرةً: ليس بشيء. وقال النسائي: ضعيف. اهـ من "ميزان الاعتدال".
قال الطبراني رحمه الله (ج6 ص239): حدثنا الحسن بن علي الفسوي ثنا خلف بن عبدالحميد السرخسي ثنا أبوالصباح عبدالغفور بن سعيد الأنصاري عن أبي هاشم الرماني عن زاذان عن سلمان عن نبيّ الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم، وذكر أحاديث، ثمّ قال: وبإسناده عن النّبيّ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم أنّه قال: ((من مات في أحد الحرمين استوجب شفاعتي، وكان يوم القيامة من الآمنين)).
قال الهيثمي في "المجمع" (ج2 ص319): رواه الطبراني في "الكبير" وفيه عبدالغفور بن سعيد، وهو متروك.
الصلاة على النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وطلب الوسيلة له(53/212)
قال مسلم رحمه الله (ج1 ص288): حدثنا محمد بن سلمة المرادي حدثنا عبدالله بن وهب عن حيوة وسعيد بن أبي أيوب وغيرهما عن كعب ابن علقمة عن عبدالرحمن بن جبير(1) عن عبدالله بن عمرو بن العاص أنّه سمع النّبيّ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم يقول: ((إذا سمعتم المؤذّن فقولوا مثل ما يقول، ثمّ صلّوا عليّ فإنّه من صلّى عليّ صلاةً صلّى الله عليه بها عشرًا، ثمّ سلوا الله لي الوسيلة فإنّها منْزلة في الجنّة لا تنبغي إلاّ لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا هو، فمن سأل لي الوسيلة حلّت له الشّفاعة)).
الحديث أخرجه أبوداود (ج1 ص359)، والترمذي (ج5 ص247)، والنسائي (ج2 ص22)، وأحمد (ج2 ص168)، وأبوعوانة (ج1 ص336). وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
- قال الإمام إسماعيل بن إسحاق القاضي رحمه الله في كتابه "فضل الصلاة على النبي صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم" رقم (50): حدثنا محمد ابن أبي بكر قال: حدثنا عمر بن علي عن أبي بكر الجشمي عن صفوان بن سليم عن عبدالله بن عمرو قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: ((من صلّى عليّ أو سأل لي الوسيلة حقّت عليه شفاعتي يوم القيامة)).
الحديث في سنده انقطاع بين صفوان بن سليم وعبدالله بن عمرو، فقد قال أبوداود السجستاني: لم ير أحدًا من الصّحابة إلا أبا أمامة وعبدالله بن بسر. اهـ من "تهذيب التهذيب".
وفي سنده عمر بن علي: وهو المقدّمي وكان يدلس تدليسًا شديدًا، يقول: سمعت وحدثنا. ثم يسكت فيقول: هشام بن عروة والأعمش. كما في "تهذيب التهذيب".
وأبوبكر الجشمي: هو عيسى بن طهمان، قال ابن حبان: كان ينفرد بالمناكير عن أنس، كأنه كان يدلس عن أبان بن أبي عياش ويزيد الرقاشي عنه، لا يجوز الاحتجاج بخبره. اهـ من "تهذيب التهذيب".
__________
(1) …قال الترمذي: قال محمد -يعني البخاري-: عبدالرحمن بن جبير هذا قرشي وهو مصري وعبدالرحمن بن جبير بن نفير شامي. اهـ(53/213)
وقد دفع الحافظ هذا التحامل من ابن حبان، فقال في "تقريب التهذيب": صدوق أفرط فيه ابن حبان، والذّنب فيما أستنكره من حديثه لغيره. اهـ
ولم يدفع عنه الحافظ وصمة التدليس، فالحديث بهذا السند ضعيف، لكنه يصلح في الشواهد والمتابعات.
قال أبوبكر بن أبي شيبة (ج1 ص227): نا أبوالأحوص(1) عن أبي حمزة عن الحسن قال: إذا سمعت المؤذّن فقل كما يقول: فإذا قال: حيّ على الصّلاة. فقل: لا حول ولا قوة إلاّ بالله. فإذا قال: قد قامت الصّلاة. فقل: اللّهمّ ربّ هذه الدّعوة التّامة والصّلاة القائمة، أعط محمّدًا سؤله يوم القيامة. فلن يقولها رجل حين يقيم إلاّ أدخله الله في شفاعة محمّد صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم يوم القيامة.
الأثر مقطوع وفي سنده أبوحمزة: وهو ميمون القصاب، قال أحمد: متروك الحديث. وقال الدارقطني: ضعيف. وقال أبوحاتم: يكتب حديثه. وقال البخاري: ليس بالقوي عندهم. وقال النسائي: ليس بثقة. اهـ من "ميزان الاعتدال".
قال إسماعيل بن إسحاق القاضي رحمه الله ص(50): حدثنا محمد بن أبي بكر قال: ثنا الضحاك بن مخلد قال: ثنا موسى بن عبيدة أخبرني محمد ابن عمرو بن عطاء عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: ((سلوا الله لي الوسيلة لا يسألها لي مسلم أو مؤمن إلاّ كنت له شهيدًا أو شفيعًا -أو: شفيعًا أو شهيدًا-)).
الحديث أخرجه الذهبي في "تذكرة الحفاظ" ص(1051).
وفي سنده موسى بن عبيدة وهو الربذي، وهو ضعيف لكنه قد توبع: قال الطبراني رحمه الله كما في "تفسير ابن كثير" (ج2 ص53): أنا أحمد ابن علي الأبار حدثنا الوليد بن عبدالملك الحراني حدثنا موسى بن أعين عن ابن أبي ذئب عن محمد بن عمرو بن عطاء عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: ((سلوا الله لي الوسيلة فإنّه لم يسألْها لي عبد في الدّنيا إلاّ كنت له شهيدًا أو شفيعًا يوم القيامة)).
__________
(1) …أبوالأحوص: هو سلام بن سليم.(53/214)
الحديث سنده حسن: والوليد بن عبدالملك قال ابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل": سألت أبي عنه، فقال: صدوق.
والحديث له طريق ثالثة، قال أبونعيم رحمه الله في "الحلية" (ج7 ص96): حدثنا أبوبكر الطلحي ثنا الحسن بن حباش(1) ثنا محمد بن الفرج بمدينة الرسول صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم ثنا خالد بن يزيد العمري ثنا سفيان الثوري عن محمد بن عبيدة عن محمد بن سيرين عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: ((لا يسأل الله عبد لي الوسيلة إلاّ كنت له شفيعًا يوم القيامة)).
غريب تفرد به خالد بن يزيد العمري.
قال أبوعبدالرحمن: وخالد بن يزيد العمري تالف، قال الحافظ الذهبي في "الميزان": كذبه أبوحاتم ويحيى، وقال ابن حبان: يروي الموضوعات عن الأثبات.
قال الإمام البخاري رحمه الله في "الأدب المفرد" ص(223): حدثنا محمد بن العلاء قال: حدثنا إسحاق بن سليمان عن سعيد بن عبدالرحمن مولى سعيد بن العاص قال: حدثنا حنظلة بن علي عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم قال: ((من قال: اللّهمّ صل على محمّد وعلى آل محمّد كما صلّيت على إبراهيم وآل إبراهيم، وبارك على محمّد وعلى آل محمّد كما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم، وترحّم على محمّد وعلى آل محمّد كما ترحّمْت على إبراهيم وآل إبراهيم. شهدت له يوم القيامة بالشّهادة وشفعت له)).
الحديث ضعيف لأن في سنده سعيد بن عبدالرحمن القرشي الأموي وهو مجهول، قال الحافظ الذهبي في "الميزان": روى عن حنظلة بن علي وعنه إسحاق بن سليمان الرازي فقط، وثّق. اهـ
__________
(1) …في ?الإكمال? لابن ماكولا (ج2 ص345): والحسن بن حباش بن يحيى الكوفي روى عن إبراهيم بن أبي الجوالق عن أبي نعيم وعن يوسف بن محمد بن سابق عن عبدالحميد الحماني. روى عنه أبوحامد أحمد بن علي بن حسنويه المقرئ وأبوبكر بن أبي دارم وأبوالحسين بن قانع وغيرهم. اهـ(53/215)
ولعلّ الحافظ الذهبي يقصد بقوله: (وثّق) أنه وثّقه ابن حبان كما ذكره الحافظ في "تهذيب التهذيب"، وابن حبان رحمه الله يوثّق المجهولين كما ذكره الحافظ في مقدمة "لسان الميزان"، والسخاوي في "فتح المغيث" وفي "القول البديع" ص(41).
قال الخطيب رحمه الله في "التاريخ" (ج3 ص291): حدثنا علي بن أحمد الرزاز حدثنا محمد بن عبدالله بن إبراهيم الشافعي قال: حدثنا محمد ابن يونس بن موسى(1) حدثنا عبدالملك بن قريب الأصمعي حدثنا محمد بن مروان سمعت منه ببغداد عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: ((من صلّى عليّ عند قبري سمعته، ومن صلّى عليّ نائيًا وكّل بها ملك يبلّغني وكفى بها أمر دنياه وآخرته، وكنت له شهيدًا أو شفيعًا)).
حدثنا أحمد بن محمد العتيقي حدثنا يوسف بن أحمد الصيدلاني حدثنا محمد بن عمرو بن موسى العقيلي حدثنا إسماعيل بن نميل الخلال حدثنا العلاء بن عمر وحدثنا محمد بن مروان عن الأعمش بنحوه.
حدثنا محمد بن علي المقرئ قال: قرأنا على الحسين بن هارون عن ابن سعيد قال: حدثني عبدالله بن إبراهيم بن قتيبة قال: سألت ابن نمير عن حديث العلاء بن عمرو عن محمد بن مروان عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: ((من صلّى عليّ عند قبري)) فقال: دعْ ذا، محمد بن مروان ليس بشيء.
الحديث أخرجه البيهقي في "حياة الأنبياء" ص(15)، وأورده ابن الجوزي في "الموضوعات" (ج1 ص303)، وقال: هذا حديث لا يصح، ومحمد بن مروان هو السدي، قال يحيى: ليس بثقة. وقال ابن نمير: كذاب. وقال السعدي : ذاهب الحديث. وقال النسائي: متروك. وقال ابن حبان: لا يحل كتب حديثه إلا اعتبارًا. قال العقيلي: لا أصل لهذا الحديث من حديث الأعمش وليس بمحفوظ. اهـ
__________
(1) …محمد بن يونس بن موسى: هو الكديمي متروك، كما في ?جلاء الأفهام? ص(714) و?الصارم المنكي? ص(180) وقال: متهم بالكذب ووضع الحديث.(53/216)
وقال الحافظ ابن عبدالهادي في "الصارم المنكي" ص(179): هذا الحديث موضوع على رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم ولم يحدّث به أبوهريرة ولا أبوصالح ولا الأعمش، ومحمد بن مروان السدي متّهم بالكذب والوضع -إلى أن قال:- وقد روى بعضهم هذا الحديث من رواية أبي معاوية عن الأعمش وهو خطأ فاحش وإنما هو محمد بن مروان تفرد به وهو متروك الحديث، متهم بالكذب. اهـ المراد منه.
وقد تعقب السيوطي في "اللآلي" (ج1 ص283) على ابن الجوزي بما لا يجدي، وقد أجاب الألباني حفظه الله على هذه التعقبات في "سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة" رقم الحديث (203).
وقد ذكر بعض ما قيل في الحديث المناوي في "فيض القدير".
قال الإمام أحمد رحمه الله (ج4 ص108): ثنا حسن بن موسى ثنا ابن لهيعة قال: ثنا بكر بن سوّادة عن زياد بن نعيم(1) عن وفاء الحضرمي عن رويفع بن ثابت الأنصاري أن رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم قال: ((من صلّى على محمّد وقال: اللّهمّ أنزله المقعد المقرّب عندك يوم القيامة. وجبت له شفاعتي)).
الحديث أخرجه إسماعيل القاضي ص(53)، والطبراني في "الكبير" (ج5 ص14).
وقال الحافظ المنذري في "الترغيب والترهيب" (ج2 ص505): رواه البزار والطبراني في "الكبير" و"الأوسط"، وبعض أسانيدهم حسن.
وقال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (ج1 ص163): رواه البزار والطبراني في "الأوسط" و"الكبير" وأسانيدهم حسنة.
وقال الحافظ ابن كثير في "تفسيره" (ج3 ص513) بعد أن ساقه بسند الإمام أحمد: وهذا إسناد لا بأس به ولم يخرجوه.
قال أبوعبدالرحمن: هذا الحديث يدور على وفاء بن شريح، وقد ذكره ابن أبي حاتم فقال: روى عن سهل بن سعد ورويفع بن ثابت، روى عنه زياد بن نعيم وبكر بن سوادة، سمعت أبي يقول ذلك. اهـ
__________
(1) …هو زياد بن ربيعة بن نعيم نسب إلى جده، كما في ?تهذيب التهذيب?.(53/217)
فهو مجهول الحال، وأما من حسّن حديثه فاعتمد على توثيق ابن حبان، فقد ذكر الحافظ في "تهذيب التهذيب" نحو ما ذكر ابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل"، ثم قال: وثّقه ابن حبان.
وقد تقدم أن ابن حبان يوثّق المجهولين، فلا يعتمد على توثيقه للمجهولين.
وفي سند الحديث أيضًا عبدالله بن لهيعة، وهو ضعيف، لكن الحديث له شواهد يرتقي بها إلى الحسن، والله أعلم.
قال الحافظ ابن القيم رحمه الله في "جلاء الأفهام" ص(63): قال الطبراني في "المعجم الكبير": حدثنا محمد بن علي بن حبيب الطرائفي الرقي حدثنا محمد بن علي بن ميمون(1) حدثنا سليمان بن عبدالله الرقي حدثنا بقية بن الوليد عن إبراهيم بن محمد بن زياد قال: سمعت خالد بن معدان يحدث عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: ((من صلّى عليّ حين يصبح عشرًا، وحين يمسي عشرًا، أدركته شفاعتي)).
الحديث قال المناوي في "فيض القدير": قال الحافظ العراقي: فيه انقطاع، وقال الهيثمي: رواه الطبراني بإسنادين أحدهما جيد، لكن فيه انقطاع لأن خالدًا لم يسمع من أبي الدرداء.
وذكر السخاوي في "القول البديع" ص(121) نحوه، وزاد: وأخرجه أبوعاصم، وفيه ضعف.
قال أبوعبدالرحمن: وفيه بهذا السند إبراهيم بن محمد بن زياد: وهو الألهاني، ترجم له البخاري وابن أبي حاتم ولم يذكرا فيه جرحًا ولا تعديلاً، وقد ذكر ابن أبي حاتم أنه روى عنه أبوحيوة شريح بن يزيد المقرئ، ومحمد ابن سليمان بن أبي داود الحراني، ويضاف ما في هذا السند وهو بقية بن الوليد فيكون مستور الحال يصلح في الشواهد والمتابعات.
وأيضًا بقية مدلس ولم يصرح بالتحديث.
وفي سنده أيضًا سليمان بن عبدالله الرقي، قال الحافظ الذهبي في "الميزان": قال ابن معين: ليس بشيء. اهـ
والحافظ في "لسان الميزان" يرجح أنه أبوأيوب سليمان بن سلمة الخبائري.
__________
(1) …قال الذهبي في ?العبر?: قال الحاكم: كان إمام أهل الجزيرة في عصره، ثقة مأمون.(53/218)
قال الحافظ الذهبي في "الميزان" في ترجمة سليمان بن سلمة الخبائري: عن إسماعيل وبقية قال أبوحاتم: متروك لا يشتغل به. وقال ابن الجنيد: كان يكذب. اهـ. مختصرًا من "الميزان".
قال ابن القيم رحمه الله في "جلاء الأفهام" ص(60): وأما حديث أبي بكر الصدّيق رضي الله عنه، فقال ابن شاهين:
حدثنا عبدالله بن سليمان بن الأشعث حدثنا علي بن الحسين المكتب حدثنا إسماعيل بن يحيى بن عبيدالله التيمي حدثنا فطر بن خليفة عن أبي الطفيل عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم يقول: ((من صلّى عليّ كنت شفيعه يوم القيامة)).
وقال ابن أبي داود أيضًا: حدثنا علي بن الحسين حدثنا إسماعيل بن يحيى حدثنا فطر بن خليفة عن أبي الطفيل عن أبي بكر الصديق رضى الله عنه قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم في حجّة الوداع يقول: ((إنّ الله عزّ وجلّ قد وهب لكم ذنوبكم عند الاستغفار، فمن استغفر بنيّة صادقة غفر له، ومن قال: لا إله إلاّ الله، رجح ميزانه ومن صلّى عليّ كنت شفيعه يوم القيامة)) اهـ
الحديث قال السخاوي في "القول البديع" ص(120): رواه أبوحفص ابن شاهين في "الترغيب" له وفي غيره، وابن بشكوال من طريقه، وفي إسناده إسماعيل بن يحيى بن عبيدالله التيمي ضعيف جدًا، واتفقوا على تركه. اهـ
وقال الحافظ الذهبي في "ميزان الاعتدال": قال صالح بن محمد جزرة كان يضع الحديث، وقال الأزدي: ركن من أركان الكذب لا تحل الرواية عنه. اهـ
وفي سند الحديث أيضًا فطر بن خليفة، وهو مدلس كما في "فتح المغيث" (ج1 ص172).(53/219)
قال البخاري رحمه الله (ج2 ص94): حدثنا علي بن عياش قال: حدثنا شعيب بن أبي حمزة عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبدالله أن رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم قال: ((من قال حين يسمع النّداء: اللهمّ ربّ هذه الدّعوة التّامّة والصّلاة القائمة، آت محمّدًا الوسيلة والفضيلة وابعثه مقامًا محمودًا الّذي وعدته. حلّت له شفاعتي يوم القيامة)).
الحديث أعاده (ج8 ص399)، وأخرجه أبوداود (ج1 ص362)، والترمذي (ج1 ص136)، والنسائي (ج2 ص22)، وابن ماجه (ج1 ص239)، وأحمد (ج3 ص354)، وابن خزيمة في "الصحيح" (ج1 ص220)، وابن السني في "عمل اليوم والليلة" ص(45)، وابن حبان (ج3 ص148) من "ترتيب الصحيح"، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (ج1 ص146)، والبيهقي في "السنن" (ج1 ص410).
وقال الترمذي: حديث صحيح حسن غريب من حديث محمد بن المنكدر، لا نعلم أحدًا رواه غير شعيب بن أبي حمزة عن محمد بن المنكدر، وأبوحمزة اسمه دينار. اهـ
قال الحافظ في "الفتح" (ج2 ص94) متعقبًا قول الترمذي: وقد توبع ابن المنكدر عليه عن جابر، أخرجه الطبراني في "الأوسط" من طريق أبي الزبير عن جابر نحوه. اهـ
تنبيه:
في الحديث زيادتان كلتاهما شاذة:
الأولى: عند البيهقي: ((إنّك لا تخلف الميعاد)).(53/220)
وهذه الزيادة تفرد بها محمد بن عوف الطائي، وقد خالف البخاري وأحمد، ومحمد بن سهل بن عسكر البغدادي، وإبراهيم بن يعقوب وهو الجوزجاني، وعمرو بن منصور، ومحمد بن يحيى -وهو الذهلي-، والعباس ابن الوليد الدمشقي، ومحمد بن أبي الحسين، وعبدالرحمن بن عمرو الدمشقي، وموسى بن سهل(1)، فهؤلاء عشرة يروونه عن علي بن عياش وليس فيه هذه الزيادة، فيعتبر محمد بن عوف الطائي شاذًّا، ويحكم على زيادته بالضعف، والله أعلم.
الزيادة الثانية: زاد عبدالرحمن بن عمرو الدمشقي عند الطحاوي: ((سيّدنا)) فقال: ((اللّهمّ أعط سيّدنا محمّدًا)).
وهذه الزيادة تعتبر شاذةً أيضًا، إذ قد خالف عبدالرحمن بن عمرو عشرة، التسعة المتقدمين ومحمد بن عوف الطائي، فلا يشرع لنا أن نقول في هذا الدعاء: ((سيّدنا)) لعدم ثبوت ذلك عن رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم، وهو بأبي وأمي صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم سيدنا، ولكن الأحوط في العبادات أن نعمل بما علمناه فحسب، لأن الدين ليس بالرأي.
__________
(1) …البخاري في ?صحيحه?، وأحمد في ?مسنده?، ومحمد بن سهل وإبراهيم بن يعقوب عند الترمذي، وعمرو بن منصور عند النسائي، ومحمد بن يحيى والعباس بن الوليد ومحمد بن أبي الحسين عند ابن ماجه، وعبدالرحمن بن عمرو الدمشقي عند الطحاوي، وموسى بن سهل الرملي عند ابن خزيمة.(53/221)
قال الطحاوي رحمه الله في "شرح معاني الآثار" (ج1 ص145): حدثنا محمد بن النعمان السقطي قال: ثنا يحيى بن يحيى النيسابوري قال: نا أبوعمر البزار عن قيس بن مسلم عن طارق بن شهاب عن عبدالله بن مسعود أن رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم قال: ((ما من مسلم يقول إذا سمع النّداء، فيكبّر المنادي فيكبّر، ثمّ يشهد أن لا إله إلا الله وأنّ محمّدًا رسول الله فيشهد على ذلك، ثمّ يقول: اللّهمّ أعط محمّدًا الوسيلة، واجعلْ في عليين درجته، وفي المصطفين محبته، وفي المقربين داره. إلاّ وجبتْ له شفاعة النّبيّ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم يوم القيامة)).
الحديث أخرجه الطبراني في "الكبير" (ج10 ص16).
والحديث ضعيف لأن في سنده دينار بن عمر أبا عمر البزار، يقال: كان مختاريًا، ووثّقه وكيع، وقال أبوحاتم: ليس بالمشهور. وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال الأزدي: متروك. وقال الخليلي في "الإرشاد": كذاب، كان مختاريًا من شرط المختار بن أبي عبيد. اهـ مختصرًا من "تهذيب التهذيب".
وأما شيخ الطحاوي محمد بن النعمان فلم أجد ترجمته، لكنه قد توبع فقال ابن السني رحمه الله ص(47): حدثنا محمد بن جرير أنا أبوبكر بن أبي شيبة ثنا عثمان بن سعد حدثنا عمر أبوحفص عن قيس بن مسلم به نحوه.
وقال الهيثمي (ج1 ص333): رواه الطبراني في "الكبير" ورجاله موثقون.(53/222)
قال ابن السني رحمه الله في "عمل اليوم والليلة" ص(58): حدثني أحمد ابن إبراهيم المديني بعمان ثنا هارون بن إسحاق الهمداني ثنا المحاربي عن مطرح بن يزيد عن عبيدالله بن زحر عن علي بن يزيد عن القاسم عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: ((من قال في دبر كلّ صلاة مكتوبة: اللّهمّ أعط محمّدًا الدّرجة الوسيلة، اللّهمّ اجعله في المصطفين صحبته، وفي العالين درجته، وفي المقرّبين ذكره. من قال ذلك في دبر كلّ صلاة فقد استوجب عليّ الشّفاعة يوم القيامة ووجبت له الجنّة)).
الحديث في سنده ثلاثة ضعفاء: عبيدالله بن زحر وعلي بن يزيد الألهاني أبوعبدالملك والقاسم بن عبدالرحمن الأموي، قال ابن حبان: إذا اجتمعوا في إسناد لم يكن ذلك الخبر إلا مما عملته أيديهم، كما في "الميزان" في ترجمة عبيدالله بن زحر.
زيارة قبر الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم
وردت أحاديث أن زيارة قبر رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم سبب لشفاعته صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم لا يثبت منها شيء، وسأنقل إن شاء الله عن أهل العلم ما يتعلق بهذه الأحاديث من النقد والتجريح لرواتها.
قال الإمام سليمان بن داود أبوداود الطيالسي رحمه الله كما في "ترتيب المسند" (ج1 ص228): حدثنا نوار(1) بن ميمون أبوالجراح العبدي قال: حدثني رجل من آل عمر عن عمر قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم يقول: ((من زار قبري -أو قال: من زارني- كنت له شفيعًا أو شهيدًا، ومن مات في أحد الحرمين بعثه الله من الآمنين يوم القيامة)).
الحديث أخرجه البيهقي (ج5 ص245) وقال: هذا إسناد مجهول.
__________
(1) …في ?ترتيب المسند?: (نوار)، وفي ?الصارم المنكي?: (سوار) ولم يتضح لي بعد البحث أيهما الصواب، ثم وجدته في ?سنن البيهقي? من طريق أبي داود الطيالسي: (سوار بن ميمون) فالظاهر أن ما في ?ترتيب المسند? مصحف. والله أعلم.(53/223)
وقال الحافظ الكبير محمد بن أحمد بن عبدالهادي في كتابه "الصارم المنكي" الذي هو أحسن مرجع لهذه الأحاديث ص(79): هذا الحديث ليس بصحيح لانقطاعه وجهالة إسناده، واضطرابه، ولأجل اختلاف الرواة في إسناده واضطرابهم فيه جعله المعترض -يعني السبكي- ثلاثة أحاديث، وهو حديث ساقط الإسناد لا يجوز الاحتجاج به، ولا يصلح الاعتماد على مثله. ثم ذكر أن سوار بن ميمون مجهول وشيخه مبهم أسوأ حالاً من المجهول، وذكر ما فيه من الاختلاف فليراجع في "الصارم المنكي في الرد على السبكي".
قال الدارقطني رحمه الله (ج2 ص278): ثنا القاضي المحاملي(1) نا عبيدالله بن محمد الوراق نا موسى بن هلال العبدي عن عبيدالله بن عمر عن نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: ((من زار قبري وجبت له شفاعتي)).
الحديث أخرجه البيهقي في "الشعب" كما في "الصارم المنكي" ص(13) من طريق عبدالله بن عمر العمري. قال البيهقي: وقيل عن عبيدالله، وذكره بسنده ثم قال البيهقي: وسواء قال: عبيدالله أو عبدالله فهو منكر عن نافع عن ابن عمر لم يأت به غيره. يعني غير موسى بن هلال، ثم قال الحافظ ابن عبدالهادي رحمه الله: هكذا ذكر الإمام الحافظ أن هذا الحديث منكر عن نافع عن ابن عمر، سواء قال فيه موسى بن هلال: عن عبيدالله أو عبدالله، والصحيح أنه عبدالله كما ذكره أبوأحمد بن عدي وغيره.
وهذا الذي صححه ابن عدي هو الصحيح، وهو أنه من رواية عبدالله ابن عمر الصغير المكبّر المضعّف، ليس من رواية عبيدالله بن عمر الكبير المصغر الثقة الثبت، فإن موسى لم يلحق عبيدالله، إلى آخر كلامه رحمه الله.
__________
(1) …هو الحسن بن إسماعيل ، ثقة حافظ،كما في ?تذكرة الحفاظ?.(53/224)
وحاصل كلامه: أن الحديث في سنده موسى بن هلال وهو مجهول، وعبدالله بن عمر العمري، وأن الحديث منكر لا يثبت عن رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم، ثم ذكر عن العقيلي أنه قال في ترجمة موسى بن هلال بعد ذكره الحديث من طريقه عن عبيدالله: لا يصح حديثه ولا يتابع عليه -إلى أن قال العقيلي رحمه الله- والرواية في هذا الباب فيها لين.
- قال أبونعيم في "أخبار أصبهان" (ج2 ص219): حدثنا أبومحمد بن حيان ثنا محمد بن أحمد بن سليمان الهروي ثنا مسلم بن حاتم الأنصاري ثنا مسلمة بن سالم الجهني حدثني عبدالله -يعني العمري- حدثني نافع عن سالم عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: ((من جاءني زائرًا لم تنْزعْه حاجة إلاّ زيارتي كان حقًا على الله أن أكون له شفيعًا يوم القيامة)).
الحديث في سنده مسلمة بن سالم قال الذهبي في "الميزان": مرّ في مسلم، وقال في ترجمة مسلم بن سالم الجهني: قال أبوداود السجستاني: ليس بثقة، ذكر له الذهبي هذا الحديث.
وإن كنت تريد المزيد من البيان في بطلان هذا الحديث راجعت "الصارم المنكي" ص(36).
- قال البزار رحمه الله كما في "الصارم المنكي" ص(27): حدثنا قتيبة(1) حدثنا عبدالله بن إبراهيم حدثنا عبدالرحمن بن زيد عن أبيه عن ابن عمر عن النبي صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم قال: ((من زار قبري حلّت له شفاعتي)).
ذكر الحافظ ابن عبدالهادي ص(28) من "الصارم المنكي" أن في سند هذا الحديث عبدالله بن إبراهيم وهو ابن أبي عمر الغفاري نسب إلى الكذب ووضع الحديث، وفي سنده عبدالرحمن بن زيد بن أسلم، قال الحاكم: روى عن أبيه أحاديث موضوعة. اهـ مختصرًا.
__________
(1) …قتيبة شيخ البزار هو ابن المرزبان، كما في ?الصارم المنكي? ص(28)، والحديث في ?كشف الأستار? (ج2 ص57).(53/225)
هذا وقد جاء الحديث من حديث أنس كما في "الصارم المنكي" ص(145)، وفي سنده سليمان بن يزيد أبوالمثنى الكعبي، قال ابن عبدالهادي: وهو شيخ غير محتج بحديثه ولم يدرك أنس بن مالك، فروايته عنه منقطعة.
ومن حديث أنس أيضًا كما في ص(147)، قال ابن عبدالهادي: وهو حديث موضوع مكذوب مختلق مصنوع من النسخة الموضوعة المكذوبة الملصقة بسمعان المهدي قبح الله واضعها، إلى آخر ما ذكر رحمه الله.
ومن حديث ابن عباس كما في ص(149)، قال ابن عبدالهادي ص(150): وهو حديث منكر جدًا، ليس بصحيح ولا ثابت، بل هو حديث موضوع على ابن جريج -أحد رجال السند- ثم ذكر ما فيه.
وحديث مرسل من حديث بكير بن عبدالله(1) ص(153)، قال يحيى الحسيني في "أخبار المدينة" في (باب ما جاء في زيارة قبر النبي صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم): حدثنا محمد بن يعقوب ثنا عبدالله بن وهب عن رجل عن بكير بن عبدالله عن النبي صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم، فذكر الحديث، قال ابن عبدالهادي: وهو حديث باطل لا أصل له وخبر معضل لا يعتمد على مثله وهو من أضعف المراسيل وأوهى المنقطعات -إلى أن قال:- فقد تبيّن أن جميع الأحاديث التي ذكرها المعترض -يعنى السبكي- في هذا الباب ليس فيها حديث صحيح، بل كلها ضعيفة أو موضوعة لا أصل لها، وكم من حديث له طرق أضعاف الطرق التي ذكرها المعترض، وهو موضوع عند أهل هذا الشأن فلا يعتبر بكثرة الطرق وتعددها، وإنما الاعتماد على ثبوتها وصحتها. اهـ
فائدة:
__________
(1) …الظاهر أن بكير بن عبدالله هو ابن الأشج. وقلنا: إنه الظاهر، لأن عبدالله بن وهب يروي عن الليث، والليث يروي عن بكير بن عبدالله كما في ?تهذيب التهذيب?.(53/226)
الحديث الذي رواه الإمام أحمد وولده عبدالله (ج3 ص155) من طريق الحكم بن موسى ثنا عبدالرحمن بن أبي الرجال عن نبيط بن عمرو عن أنس ابن مالك عن النبي صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم قال: ((من صلّى في مسجدي أربعين صلاةً، لا يفوته صلاة كتبت له براءة من النّار، ونجاة من العذاب، وبرئ من النّفاق)) ضعيف، لأنّ في سنده نبيط بن عمرو، ولم يرو عنه إلا عبدالرحمن بن أبي الرجال كما في "تعجيل المنفعة" فهو مجهول العين، فالحديث لا يثبت عن رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم.
وإنما ذكرت هذه الفائدة لما يلحق بعض الزوار من الضرر بسبب انتظارهم حتى تنتهي الأربعون الصلاة، مغترين بهذا الحديث الذي لا يثبت عن رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم.
ولست ممن يزهد في المكث بمدينة رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم التي أخبر الرسول صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم أن من مات بها كان له شفيعًا أو شهيدًا(1)، ولكني أردت أن أبيّن لمن يغتر بهذا الحديث ويبقى من أجله أنه لا يثبت.
شفاعة المصلين على الميت الواحد له
قال مسلم رحمه الله (ج2 ص654): حدثنا الحسن بن عيسى ثنا ابن المبارك أخبرنا سلام بن أبي مطيع عن أيوب عن أبي قلابة عن عبدالله بن يزيد رضيع عائشة عن عائشة عن النبي صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم قال: ((ما من ميّت يصلّي عليه أمّة من المسلمين يبلغون مائةً كلّهم يشفعون له إلاّ شفّعوا فيه)).
قال(2): فحدثت به شعيب بن الحبحاب، فقال: حدثني به أنس بن مالك عن النبي صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم.
الحديث أخرجه الترمذي (ج2 ص247) وقال: حديث عائشة حديث صحيح وقد أوقفه بعضهم ولم يرفعه.
أخرجه النسائي (ج4 ص62)، والطيالسي (ج1 ص162)، وأحمد (ج3 ص266، و ج6 ص32، 40، 97، 231).
__________
(1) …تقدم تخريجه مفصلاً في (سكنى المدينة والموت بها).
(2) …القائل: (فحدثت به) هو سلام كما في ?المسند? (ج3 ص266) والنسائي (ج4 ص62).(53/227)
وأخرجه عبدالرزاق (ج3 ص527) مرسلاً.
وقد ذكر هذا الحديث ابن أبي حاتم في "العلل" (ج2 ص360) فقال: سألت أبي عن حديث رواه المسيب بن واضح عن أبي إسحاق الفزاري عن خالد الحذاء عن أبي قلابة عن عبدالله بن يزيد عن علي بن أبي طالب قال: قال رسول الله فذكره.
قال أبي: إنما عبدالله بن يزيد عن عائشة. اهـ
فالحاصل أنه قد اختلف في هذا الحديث فجاء من حديث عائشة، ومن حديث أنس، ومن حديث علي بن أبي طالب، وجاء مرسلاً وموقوفًا على عائشة.
والظاهر هو ترجيح ما رواه مسلم من حديث عائشة وأنس، فقد رواه عن أبي قلابة أيوب وخالد الحذاء، وحديث أنس حديث مستقل لا يعلّ به حديث عائشة، والله أعلم.
قال مسلم رحمه الله (ج2 ص655): حدثنا هارون بن معروف وهارون بن سعيد الأيلي والوليد بن شجاع السكوني، قال الوليد: حدثني وقال الآخران: حدثنا ابن وهب أخبرني أبوصخر عن شريك بن عبدالله بن أبي نمر عن كريب مولى ابن عباس عن عبدالله بن عبّاس أنّه مات ابن له بقديد أو بعسفان فقال: يا كريب انظر ما اجتمع له من النّاس. قال: فخرجت فإذا ناس قد اجتمعوا له فأخبرته، فقال: تقول هم أربعون؟ قال: نعم. قال: أخرجوه فإنّي سمعت رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم يقول: ((ما من رجل مسلم يموت فيقوم على جنازته أربعون رجلاً لا يشركون بالله شيئًا إلاّ شفّعهم الله فيه)). وفي رواية ابن معروف عن شريك ابن أبي نمر عن كريب عن ابن عباس.
الحديث أخرجه أبوداود (ج3 ص517)، وابن ماجه (ج1 ص477)، وأحمد (ج1 ص277)، والبيهقي (ج4 ص30).
قال الإمام محمد بن يزيد الشهير بابن ماجة (ج1 ص477): حدثنا أبوبكر بن أبي شيبة ثنا عبيدالله أنبأنا شيبان عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم قال: ((من صلّى عليه مائة من المسلمين غفر له)).
الحديث رجاله رجال الصحيح وهو على شرط الشيخين.(53/228)
قال النسائي رحمه الله (ج4 ص62): أخبرنا إسحاق بن إبراهيم قال: أنبأنا محمد بن سواء أبوالخطاب قال: حدثنا أبوبكار الحكم بن فروخ قال: صلّى بنا أبوالمليح على جنازة فظننا أنّه قد كبّر فأقبل علينا بوجهه فقال: أقيموا صفوفكم ولتحسن شفاعتكم.
قال أبوالمليح: حدثني عبدالله وهو ابن سليط عن إحدى أمهات المؤمنين وهي ميمونة زوج النبيّ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم قالت أخبرني النّبيّ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم قال: ((ما من ميّت يصلي عليه أمّة من النّاس إلاّ شفّعوا فيه)).
فسألت أبا المليح عن الأمة، فقال: أربعون.
الحديث أخرجه البخاري في "التاريخ الكبير" (ج5 ص112)، وفيه: الأمة ما بين الأربعين إلى المائة.
وأخرجه أحمد (ج6 ص331 و334)، وابن أبي شيبة (ج3 ص321).
هذا الحديث يدور على عبدالله بن سليط، وقد ذكره ابن أبي حاتم وقال: إنه روى عنه أبوالمليح. ولم يذكر فيه جرحًا ولا تعديلاً.
وذكر الحافظ في "تهذيب التهذيب" أنه تفرّد عنه أبوالمليح وأنه وثّقه ابن حبان.
فعلى هذا فهو مجهول العين، والحديث ضعيف.
قال أبوداود رحمه الله (ج3 ص538): حدثنا أبومعمر عبدالله بن عمرو حدثنا عبدالوارث حدثنا أبوالجلاس عقبة بن سيار حدثني علي بن شماخ قال: شهدت مروان سأل أبا هريرة: كيف سمعت رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم يصلّي على الجنازة؟ قال: أمع الّذي قلت؟ قال: نعم. -قال: كلام كان بينهما قبل ذلك- قال أبوهريرة: ((اللّهمّ أنت ربّها وأنت خلقتها، وأنت هديتها للإسلام، وأنت قبضت روحها، وأنت أعلم بسرّها وعلانيتها، جئناك شفعاء فاغفر له)).
قال أبوداود: أخطأ شعبة في اسم (علي بن شماخ)، قال فيه: (عثمان بن شماس).
وسمعت أحمد بن إبراهيم الموصلي يحدث أحمد بن حنبل قال: ما أعلم أني جلست من حماد بن زيد مجلسًا إلا نهى فيه عن عبدالوارث وجعفر بن سليمان.(53/229)
الحديث أخرجه ابن أبي شيبة (ج3 ص292)، والبيهقي (ج4 ص42) وفي سنده علي بن شماخ وهو مجهول لم يرو عنه إلا أبوالجلاس عقبة بن سيار كما في "تاريخ البخاري" و"الجرح والتعديل" و"تهذيب التهذيب".
أعمال متنوعة من أسباب الشفاعة
قال الإمام أحمد رحمه الله (ج3 ص500): ثنا عفان ثنا خالد -يعني الواسطي- قال: ثنا عمرو بن يحيى الأنصاري عن زياد بن أبي زياد مولى بني مخزوم عن خادم للنّبيّ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم رجل أو امرأة قال: كان النّبيّ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم ممّا يقول للخادم: ((ألك حاجة؟)) قال: حتّى كان ذات يوم، فقال: يا رسول الله حاجتي. قال: ((وما حاجتك؟)) قال: حاجتي أن تشفع لي يوم القيامة. قال: ((ومن دلّك على هذا؟)) قال: ربّي. قال: ((أمّا لا فأعنّي بكثرة السّجود)).
قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (ج2 ص249): رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح.
في "أسْد الغابة" (ج5 ص180): وروى شيبان عن جرير عن عبدالملك بن عمير عن مصعب الأسلمي قال: انطلق غلام لنا فأتى النبي صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم فقال: أسألك أن تجعلني ممن تشفع له يوم القيامة. فقال: ((من علّمك أو أمرك أو دلّك؟)) فقال: ما أمرني إلاّ نفسي قال: ((إنّي أشفع لك)) ثمّ ردّه فقال: ((أعنّي على نفسك بكثرة السّجود)).
رواه وهب بن جرير عن أبيه فقال: عن أبي مصعب. أخرجه أبونعيم وأبوموسى. اهـ
الحديث ذكره الحافظ في "الإصابة" من رواية البغوي والطبراني بنحو ما هنا، ثم قال: وأخرجه البزار عن طالوت بن عباد عن جرير، فقال: عن عبدالملك، كان بالمدينة غلام يكنى أبا مصعب، فذكر الحديث مطولاً، وقال: لا نعلمه إلا من هذا الوجه، قال العسكري: وهو مرسل.
قال الحافظ: رواية البزار ظاهرة الإرسال، لكن فيها أبومصعب، وأما رواية غيره فالوصل فيها ظاهر، لكن عبدالملك كان يدلس. اهـ
وقال الهيثمي (ج10 ص369): رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح.(53/230)
قال أبوعبدالرحمن: قوله (رجاله رجال الصحيح) لا يلزم أن يكون الحديث صحيحًا، لا سيما والحديث من طريق عبدالملك بن عمير، وكان يدلس كما أفاده الحافظ، لكن الحديث يعتبر شاهدًا لما قبله فلا يضره أن عبدالملك لم يصرح بالسماع.
قال عبدالله بن المبارك في "الزهد" ص(455): حدثنا حسين بن علي قال: حدثتني فاطمة بنت حسين أن رجلاً قال: يا رسول الله ادع الله أن يجعلني من أهل شفاعتك. قال: ((أعنّي بكثرة السّجود)).
الحديث مرسل.
قال أبونعيم في "أخبار أصبهان" (ج2 ص345): حدثنا محمد بن عبدالله بن سعيد ثنا عبدان بن أحمد(1) ثنا زيد(2) بن الحريش ثنا صغدي عن يونس الأصبهاني -أحسبه ابن أبي عمر- عن عطاء عن ابن عباس رفع الحديث إلى النبي صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم أنه قال: ((من أحيا بين الصّلاتين غفر له، وشفع له ملكاه، وأمّنّا على دعائه)).
الحديث في سنده يونس الأصبهاني: قيل: يونس بن أبي عمر، ذكره أبونعيم (ج2 ص345) من "أخبار أصبهان"، ولم يذكر فيه جرحًا ولا تعديلاً.
وصغدي: هو ابن سنان كما في ترجمة يونس من "أخبار أصبهان"، قال ابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل": سئل عنه يحيى، فقال: ليس بشيء.
وقال ابن أبي حاتم أيضًا: سألت عنه أبي، فقال: ضعيف ليس بقوي.
وفيه أيضًا زيد بن الحريش، قال ابن ماكولا في "الإكمال" (ج2 ص422): زيد بن حريش الأهوازي عن سفيان وعمران ابني عيينة وغيرهما حدث عنه عبدان الأهوازي وغيره. اهـ
__________
(1) …عبدان: هو عبدالله بن أحمد، وعبدان لقب، ترجمته في ?تذكرة الحفاظ?.
(2) …في الأصل: (يزيد)، والصواب ما أثبتناه، كما في ?الإكمال? لابن ماكولا (ج2 ص422)، وفي ?لسان الميزان?.(53/231)
وقال الحافظ في "اللسان": زيد بن الحريش(1) الأهوازي، يروي عن عمران بن عيينة وعنه عبدان الأهوازي، قال ابن حبان في "الثقات": ربما أخطأ. وقال ابن القطان: مجهول الحال. وذكر ابن أبي حاتم في الرواة عنه إبراهيم بن يوسف الهسنجاني. اهـ
قال الخطيب رحمه الله في "شرف أصحاب الحديث" ص(20): وأخبرنا أبوسعد الماليني قال: أخبرنا علي بن عيسى بن المثنى قال: أخبرنا الحسن بن سفيان قال: أخبرنا علي بن حجر السعدي قال: حدثنا إسحاق ابن نجيح عن ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: ((من حفظ على أمّتي أربعين حديثًا في السّنّة كنت له شفيعًا يوم القيامة)).
الحديث رواه ابن عبدالبر في "جامع بيان العلم وفضله" ص(52)، والقاضي عياض في "الإلماع" ص(23)، وفي سنده إسحاق بن نجيح وهو الملطي كذّاب.
__________
(1) …في ?اللسان?: (زيد بن الحرشي)، والصواب ما أثبتناه.(53/232)
قال ابن عبدالبر رحمه الله في "جامع بيان العلم وفضله" ص(51): وأخبرنا أحمد بن عبدالله عن(1) مسلمة بن القاسم حدثنا يعقوب بن إسحاق ابن إبراهيم بن يزيد بن حجر العسقلاني بعسقلان قال حدثنا أبوأحمد حميد ابن مخلد بن زنجويه عن(2) يحيى بن بكير قال حدثنا مالك بن أنس عن نافع مولى ابن عمر عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: ((من حفظ على أمّتي أربعين حديثًا من السّنّة حتّى يؤديها إليهم كنت له شفيعًا أو شهيدًا يوم القيامة)).
قال أبوعمر: هذا أحسن إسناد جاء به هذا الحديث، ولكنه غير محفوظ ولا معروف من حديث مالك، ومن رواه عن مالك فقد أخطأ عليه وأضاف ما ليس من روايته عليه. اهـ
وقال العراقي في "تخريج الإحياء" (ج1 ص15): رواه ابن عبدالبر في "العلم" من حديث ابن عمر وضعفه.
قال أبوعبدالرحمن: هذا الحديث في سنده يعقوب بن إسحاق العسقلاني: قال الذهبي في "الميزان": كذاب فإنه قال حدثنا حميد بن زنجويه حدثنا يحيى بن بكير عن مالك عن نافع عن ابن عمر مرفوعًا ((من حفظ على أمّتي أربعين حديثًا)). اهـ
__________
(1) …في الأصل: (أحمد بن عبدالله ومسلمة)، وهو خطأ، والصواب ما أثبتناه فمسلمة توفي سنة ثلاث وخمسين وثلاثمائة كما في ?تاريخ علماء الأندلس? (ج2 ص130)، وتوفي ابن عبدالبر سنة ثمان وستين وأربعمائة كما في مقدمة ?التمهيد?، فلا يكون تلميذًا لمسلمة، وإبدال (عن) بواو العطف كثير في ?جامع بيان العلم وفضله?.
(2) …في الأصل: (ويحيى بن بكير)، والصواب ما أثبتناه، وابن زنجويه لم يرو عن مالك كما يعلم من ترجمته من ?تهذيب التهذيب? و?طبقات الحنابلة?.(53/233)
قال ابن عبدالبر رحمه الله ص(52): وأخبرنا أحمد أنا مسلمة أنا يعقوب بن إسحاق المعروف بابن حجر ومحمد بن أحمد بن عمر قال: حدثنا أحمد بن صالح وعلي بن عيسى عن عمرو بن الأزهر عن أبان عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: ((ما من مسلم يحفظ على أمّتي أربعين حديثًا يعلّمهم بها أمر دينهم إلاّ جيء به يوم القيامة فقيل له: اشفعْ لمن شئت)).
الحديث في سنده عمرو بن الأزهر، قال أحمد: كان يضع. كما في "الميزان"، وفيه أبان بن أبي عياش: قال النسائي وغيره: متروك. كما في "الميزان".
فالثلاثة الأحاديث لا يثبت منها شيء.
ثم وجدت للحديث طريقًا رابعةً من حديث أبي الدرداء ، ذكرها ابن حبان في ترجمة عبدالملك بن هارون بن عنترة (ج2 ص128) من "الضعفاء"، وقال: إن عبدالملك ممن يضع الحديث، لا يحل كتبة حديثه إلا على جهة الاعتبار.
وقد استوعب ابن الجوزي رحمه الله طرقه في "العلل المتناهية" (ج1 ص111-119) ثم قال: هذا حديث لا يصحّ عن رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم، ثم ذكر ما في طرقه.
قال أبوعمر بن عبدالبر رحمه الله عقب هذه الأحاديث: قال أبوعلي: وليس يروى هذا الحديث عن النبي صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم من وجه ثابت.
وقال النووي رحمه الله في مقدمة "الأربعين": واتفق الحفاظ على أنه حديث ضعيف وإن كثرت طرقه.(53/234)
قال أبونعيم رحمه الله في "الحلية" (ج1 ص367): حدثنا أبومحمد بن حيان ثنا محمد بن عبدالرحيم بن شبيب(1) ثنا إسحاق الطائي الكوفي ثنا عمرو بن خالد الكوفي ثنا أبوهاشم الرماني عن زاذان أبي عمر الكندي عن سلمان قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: ((أنا شفيع لكلّ رجلين اتّخيا في الله من مبعثي إلى يوم القيامة)).
الحديث في سنده عمرو بن خالد الكوفي وهو أبوخالد الواسطي الراوي للمسند المنسوب إلى زيد بن علي، رواه عن زيد بن علي، وهو كذّاب عند المحدثين كما في ترجمته من "الميزان" و"تهذيب التهذيب".
وأما مدافعة القاضي حسين السياغي رحمه الله عن عمرو بن خالد كما في مقدمة "الروض النضير" فليست بمقبولة، وقد أفصحت تلك المدافعة عن اعتقاد القاضي حسين، وأنه شيعي، عفا الله عنا وعنه.
أما بقية السند فثقات إلا إسحاق الطائي الكوفي، فينظر في حاله، وأخشى أن يكون إسحاق بن بشر الكاهلي الكوفي وهو كذّاب.
قال أبونعيم رحمه الله (ج6 ص353) من "الحلية": حدثنا عبدالله بن محمد بن عثمان الواسطي ثنا علي بن إبراهيم بن الهيثم ثنا علي بن الحسين ابن الخواص ثنا عبدالله بن إبراهيم بن الهيثم الغفاري ثنا مالك بن أنس والعمري عن نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: ((من قضى لأخيه حاجةً كنت واقفًا عند ميزانه، فإنْ رجح وإلاّ شفعت له)).
غريب من حديث مالك تفرد به الغفاري.
__________
(1) …محمد بن عبدالرحيم بن شبيب: هو محمد بن عبدالرحيم بن إبراهيم بن شبيب ترجمته في ?أخبار أصبهان? لأبي نعيم (ج2 ص226)، وفي ?تاريخ بغداد? (ج2 ص364)، وفي ?طبقات القراء الكبار? للذهبي (ج1 ص189)، وفي ?غاية النهاية? للجزري (ج2 ص169). وفي ?غاية النهاية? للجزري (ج2 ص169) أنه إمام ضابط مشهور ثقة.(53/235)
الحديث في سنده عبدالله بن إبراهيم الغفاري: قال الذهبي في "الميزان": نسبه ابن حبان إلى أنه يضع الحديث، وقال ابن عدي: عامة ما يرويه لا يتابع عليه. وقال الدارقطني: حديثه منكر.
فعلى هذا فالحديث لا يثبت بهذا السند.
قال الطبراني رحمه الله في "الكبير" (ج10 ص201): حدثنا الحسين بن إسحاق التستري وعبدان بن أحمد قالا: ثنا محمد بن مصفى ثنا بقية بن الوليد ثنا إسماعيل بن عبدالله الكندي عن الأعمش عن أبي وائل عن عبدالله قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم في قوله: {يوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله} قال: ((أجورهم: يدخلهم الجنّة، ويزيدهم من فضله: الشّفاعة لمن وجبت له الشّفاعة لمن صنع إليهم المعروف في الدّنيا)).
الحديث قال الهيثمي في "المجمع" (ج7 ص13): رواه الطبراني في "الأوسط" و"الكبير"، وفيه إسماعيل بن عبدالله الكندي، ضعفه الذهبي من عند نفسه، فقال: أتى بخبر منكر. وبقية رجاله وثّقوا.
وعزاه الحافظ ابن كثير في "التفسير" (ج1 ص591) إلى ابن مردويه، ثم قال: وهذا إسناد لا يثبت.
وقد تقدم الحديث برقم (78).
قال أبوطالب في "أماليه" ص(443): حدثنا أبوالحسين يحيى بن الحسن ابن محمد بن عبدالله الحسني قال: علي بن محمد بن مهرويه القزويني قال: حدثنا داود بن سليمان الغازي قال: حدثنا علي بن موسى الرضا عن أبيه موسى بن جعفر عن أبيه جعفر بن محمد عن أبيه محمد بن علي عن أبيه علي بن الحسين عن أبيه الحسين بن علي عن أبيه علي بن أبي طالب عليه السلام قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: ((ثلاثة أنا شفيع لهم يوم القيامة: الضّارب بسيفه أمام ذريّتي، والقاضي لهم حوائجهم عندما اضطروا إليه، والمحبّ لهم بقلبه ولسانه)) اهـ(53/236)
نقلت هذا الحديث من هذا الكتاب لا للاعتماد عليه ولكن لقصد بيان هذا الحديث، فقد قال الحافظ الذهبي في "ميزان الاعتدال": داود بن سليمان الجرجائي الغازي عن علي بن موسى الرضا وغيره، كذبه يحيى، ولم يعرفه أبوحاتم، وبكل حال فهو شيخ كذاب له نسخة موضوعة على الرضا، رواها علي بن محمد بن مهرويه القزويني الصدوق عنه. اهـ
وذكر في ترجمة علي بن موسى أن لداود بن سليمان القزويني عنه نسخة.
وقال الشوكاني في "الفوائد المجموعة" ص(297): موضوع، كما قال في "المختصر".
قال الإمام الخطيب البغدادي في "تاريخه" (ج3 ص348): أنبأناه محمد ابن أحمد بن رزق البزار ومحمد بن الحسين بن الفضل القطان قالا: حدثنا محمد بن عمر القاضي الحافظ حدثنا محمد بن الحسن بن سعدان المروزي حدثنا محمد بن عبدالكريم بن عبيدالله السرخسي حدثني المهتدي بالله أمير المؤمنين حدثني علي بن هاشم بن طبراخ عن محمد بن الحسن الفقيه عن ابن أبي ليلى عن داود بن علي عن أبيه عن ابن عباس قال: قال العباس: يا رسول الله ما لنا في هذا الأمر؟ قال: ((لي النّبوة ولكم الخلافة بكم يفتح هذا الأمر وبكم يختم))
هذا آخر حديث ابن الفضل وزاد ابن رزق: قال: قال النّبيّ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم للعبّاس: ((من أحبّك نالته شفاعتي، ومن أبغضك فلا نالته شفاعتي)).
قال أبوعبدالرحمن: محمد بن الحسن بن سعدان المروزي ومحمد بن عبدالكريم بن عبيدالله السرخسي لم أجد ترجمتهما. ومحمد بن الحسن الفقيه هو الشيباني وهو ضعيف. وابن أبي ليلى هو محمد ضعيف، والحديث ضعيف جدًا.
فصل الأسباب المانعة من الشفاعة(53/237)
قال عبدالله بن أحمد رحمه الله في "المسند" (ج1 ص72): وجدت في كتاب أبي: ثنا محمد بن بشر حدثني عبدالله بن عبدالله بن الأسود عن حصين بن عمر عن مخارق بن عبدالله بن جابر الأحمسي عن طارق بن شهاب عن عثمان بن عفان قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: ((من غشّ العرب لم يدخلْ في شفاعتي، ولم تنلْه مودّتي)).
الحديث أخرجه الترمذي (ج5 ص381) وقال: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث حصين بن عمر الأحمسي عن مخارق، وليس حصين عند أهل الحديث بذاك القوي.
وقال المناوي في "فيض القدير": وحصين(1) بن عمر الأحمسي، قال الذهبي: ضعّفوه. وقال ابن تيمية: ليس عند أهل الحديث بذاك، والرواية النّكرة(2) ظاهرة عليها، وقد أنكر أكثر الحفاظ أحاديث حصين. وقال البخاري وأبوزرعة: هو منكر الحديث. اهـ
وقال الذهبي في "الميزان": قال البخاري: منكر الحديث. ضعفه أحمد، وقال ابن معين: ليس بشيء. وقال أبوحاتم: واه جدًا واتّهمه بعضهم. وقال ابن عدي: عامة أحاديثه معاضيل، ينفرد عن كل من روى عنه، ثم ذكر الذهبي أن الترمذي روى له هذا الحديث.
قال محمد بن وضاح رحمه الله في كتابه "البدع والنهي عنها": نا أسد(3) قال: نا عبدالله بن خالد عن أبي عبدالسلام قال: سمعت بكر بن عبدالله المزني أن النّبيّ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم قال: ((حلّت شفاعتي لأمّتي إلاّ صاحب بدعة)).
الحديث ضعيف لأنه مرسل، وفيه أيضًا أبوعبدالسلام: وهو صالح بن رستم، قال ابن أبي حاتم: سألت أبي عنه، فقال: مجهول لا نعرفه.
وتعقب الذهبي كلام أبي حاتم، فقال: قلت: قد روى عنه اثنان فخفّت الجهالة. اهـ المراد من "الميزان".
__________
(1) …في فيض القدير: (حفص بن عمر)، وهو تصحيف، والصواب ما أثبتناه.
(2) …في فيض القدير: (المنكرة). والصواب ما أثبتناه، ومعنى هذا الكلام في (اقتضاء الصراط المستقيم) ص(157).
(3) …هو أسد بن موسى الملقب بأسد السنة.(53/238)
قال الإمام الآجري رحمه الله في "الشريعة" ص(337): أخبرنا أبوجعفر محمد بن صالح بن ذريح العكبري قال: حدثنا هناد بن السري قال: حدثنا أبومعاوية عن عاصم عن أنس بن مالك رضى الله عنه قال: من كذب بالشّفاعة فليس له فيها نصيب.
الحديث قال الحافظ في "الفتح" (ج11 ص426): وأخرج سعيد بن منصور بسند صحيح عن أنس فذكره.
قال أبونعيم رحمه الله في "الحلية" (ج9 ص254): حدثنا محمد ثنا محمد ثنا محمد بن أسلم ثنا عبدالحكم بن ميسرة ثنا سعيد بن بشير صاحب قتادة عن قتادة عن أنس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: ((صنفان من أمّتي لا تنالهم شفاعتي يوم القيامة: المرجئة والقدريّة)).
الحديث في سنده سعيد بن بشير وهو ضعيف، وعبدالحكم بن ميسرة قال الذهبي في "الميزان": قال أبوموسى المديني: لا أعرفه بجرح ولا تعديل. قال الحافظ في "اللسان": وقد عرفه غيره، ثم ذكر عن الدارقطني أن عبدالحكم يحدّث بما لا يتابع عليه، وأن النسائي ذكره في "الضعفاء".
وشيخ أبي نعيم هو محمد بن أحمد بن يزيد، وشيخ شيخه هو محمد بن أحمد بن زهير، كما في "الحلية" (ج9 ص249).
أما محمد بن أحمد بن زهير فهو الطوسي، وصفه الذهبي في "العبر" (ج2 ص171) بأنه حافظ مصنف.
وأما شيخ أبي نعيم فلم أجد ترجمته(1).
وقد جاء هذا الحديث من حديث ابن عباس، ذكره ابن حبان في "الضعفاء" (ج2 ص109) من طريق علي بن نزار عن عكرمة عن ابن عباس عن النبي صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم.
وقد قال في ترجمة علي بن نزار: إنه منكر الحديث، ينفرد عن الثقات بما لا يشبه حديث الأثبات.
والحديث ذكره الذهبي في "الميزان" في ترجمة علي بن نزار لكن لفظه: ((صنفان من أمّتي ليس لهما في الإسلام نصيب: المرجئة والقدريّة)).
__________
(1) …الجوزي رحمه الله حديث أنس في العلل المتناهية من طرق إلى أنس وبيّن ما في كل طريق. وذكر الذهبي طريقًا من طرقه في الميزان في ترجمة سعيد بن ميسرة.(53/239)
وذكر في ترجمة علي، وقال: إن يحيى قال: إنّ عليّ بن نزار ليس بشيء وقال الأزدي: ضعيف جدًا.
قال أبونعيم رحمه الله في "الحلية" (ج7 ص236): حدثنا محمد بن الحسن بن يزيد أنّ هرمز المعدل التّستري ثنا يعقوب بن روح ثنا الحسن بن يزيد الجصاص(1) ثنا إسماعيل بن يحيى ثنا مسعر عن حميد بن سعد عن أبي سلمة بن عبدالرحمن عن أبيه قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم يقول: ((إذا دخل أهل الجنّة الجنّة، وأهل النّار النّار، فقيل لي: يا محمّد اشفعْ، فاخرجْ من أحببت من أمّتك)) قال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: ((فشفاعتي يومئذ محرّمة على رجل لقي الله بشتمة رجل من أصحابي)).
غريب من حديث مسعر، تفرد به عنه إسماعيل بن يحيى التيمي.
الحديث في سنده إسماعيل بن يحيى التيمي وقد قال صالح بن محمد بن جزرة: كان يضع. وقال الأزدي: ركن من أركان الكذب، لا تحل الرواية عنه. وقال أبوعلي النيسابوري الحافظ والدارقطني والحاكم: كذّاب. اهـ من "الميزان".
وأبوسلمة بن عبدالرحمن لم يسمع من أبيه، كما في "تهذيب التهذيب" عن علي بن المديني وأحمد وابن معين وغيرهم.
__________
(1) …الحسن بن يزيد ترجمته في ?تاريخ بغداد? (ج7 ص452) قال: وكان ثقة.(53/240)
قال أبونعيم رحمه الله في "الحلية" (ج1 ص86): حدثنا محمد بن المظفر(1) ثنا محمد بن جعفر بن عبدالرحيم ثنا أحمد بن محمد بن يزيد بن سليم ثنا عبدالرحمن بن عمران بن أبي ليلى -أخو محمد بن عمران- ثنا يعقوب بن موسى الهاشمي عن ابن أبي رواد(2) عن إسماعيل بن أمية عن عكرمة عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: ((من سرّه أن يحيا حياتي، ويموت مماتي، ويسكن جنّة عدن غرسها ربّي، فليوال عليًّا من بعدي، وليوال وليّه، وليقتد بالأئمة من بعدي، فإنّهم عترتي خلقوا من طينتي، رزقوا فهمًا وعلمًا، وويل للمكذّبين بفضلهم من أمّتي، للقاطعين فيهم صلتي، لا أنالهم الله شفاعتي)).
هذا سند مظلم ومتن موضوع، وأحمد بن محمد بن يزيد لعله أبوبكر النرسي، وترجمته في "تاريخ بغداد" (ج5 ص120) ما ذكر عنه راويًا سوى محمد بن جعفر المعروف بزوج الحرة، ولم يذكر فيه جرحًا ولا تعديلاً ومحمد بن جعفر بن عبدالرحيم وعبدالرحمن بن عمران ويعقوب بن موسى ما وجدت لهم تراجم بعد البحث عنهم.
قال الإمام الخطيب البغدادي في "تاريخه" (ج3 ص290): أخبرني الأزهري حدثنا المعافى بن زكريا الجريري حدثنا محمد بن مزيد بن أبي الأزهر حدثنا علي بن مسلم الطوسي قال حدثنا سعيد بن عامر عن قابوس ابن أبي ظبيان عن أبي عن جده عن جابر قال: رأيت رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم وهو يفحج بين فخذي الحسين ويقبّل زبيبته ويقول: ((لعن الله قاتلك)) قال جابر: فقلت: يا رسول الله ومن قاتله؟ قال: ((رجل من أمّتي يبغض عترتي لا يناله شفاعتي كأنّي بنفسه بين أطباق النّيران يرسب تارةً ويطفو أخرى وإنّ جوفه ليقول: عقْ عقْ)).
__________
(1) …محمد بن المظفر: ترجمته في ?تاريخ بغداد? (ج13 ص262)، و?تذكرة الحفاظ? ص(980) وقال الخطيب: وكان حافظًا فهمًا صادقًا مكثرًا.
(2) …ابن أبي روّاد: هو عبدالعزيز، ثقة، تكلم فيه من أجل الإرجاء.(53/241)
ثم ذكر أنّه موضوع سندًا ومتنًا وبيّن علله، والله أعلم.
قال أبونعيم في "الحلية" (ج5 ص192): حدثنا سليمان بن أحمد ثنا محمد بن محمويه الأهوازي الجوهري ثنا أبوالربيع عيسى بن علي الناقد ثنا موسى بن إبراهيم المروزي ثنا عمرو بن واقد عن زيد بن واقد عن مكحول عن سعيد بن المسيب قال: لمّا فتحت أدانى خراسان، بكى عمر بن الخطاب، فدخل عليه عبدالرحمن بن عوف، فقال: ما يبكيك يا أمير المؤمنين، وقد فتح الله عليك مثل هذا الفتح؟ قال: وما لي لا أبكي، والله لوددت أنّ بيننا وبينهم بحرًا من نار، سمعت رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم يقول: ((إذا أقبلت رايات ولد العبّاس من عقاب خراسان جاءوا بنعي الإسلام، فمن سار تحت لوائهم لم تنله شفاعتي يوم القيامة)).
غريب من حديث زيد ومكحول.
الحديث ذكره ابن الجوزي في "الموضوعات" (ج2 ص38) وقال: هذا حديث موضوع بلا شك. وواضعه من لا يرى لدولة بني العباس.
قال أبومسهر: عمرو بن واقد ليس بشيء. وقال الدارقطني: متروك. وقال ابن حبان: يقلب الأسانيد ويروي المناكير عن المشاهير فاستحق الترك.
قال أبوزرعة: وزيد بن واقد ليس بشيء.
فائدة:(53/242)
قال أبومحمد عبدالرحمن بن أبي حاتم محمد بن إدريس كما في "تفسير ابن كثير" (ج4 ص275): حدثنا أبي حدثنا أبوتوبة الربيع بن نافع حدثنا معاوية بن سلام عن أخيه زيد بن سلام أنه سمع أبا سلام -يعني جده-أخبرني عبدالرحمن حدثني رجل من كندة قال: أتيت عائشة فدخلت عليها وبيني وبينها حجاب، فقلت: حدّثك رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم أنّه كان يأتي عليه ساعة لا يملك لأحد فيها شفاعة؟ قالت: نعم، لقد سألته عن هذا وأنا وهو في شعار واحد، قال: ((نعم حين يوضع الصراط لا أملك لأحد فيها شفاعةً حتى أعلم أين يسلك بي، ويوم تبيّض وجوه، وتسودّ وجوه حتى أنظر ماذا يفعل بي-أو قال: يوحى-، وعند الجسر حتّى يستحدّ ويستحرّ))، قالت: وما يستحدّ وما يستحرّ؟ قال: ((يستحدّ حتى يكون مثل شفرة السّيف، ويستحرّ حتّى يكون مثل الجمرة، فأمّا المؤمن فيجوزه لا يضرّه، وأمّا المنافق فيتعلّق حتّى إذا بلغ أوسطه خرّ من قدميه، فيهوي بيديه إلى قدميه)). قالت: فهل رأيت من يسعى حافيًا فتأخذه شوكة حتّى تكاد تنفذ قدميه؟ فإنّها كذلك يهوي بيده ورأسه إلى قدميه، فتضربه الزّبانية بخطّاف في ناصيته وقدمه، فتقذفه في جهنّم فيهوي فيها مقدار خمسين عامًا. قلت: ما ثقل الرّجل؟ قالت: ثقل عشر خلفات سمان فيومئذ {يعرف المجرمون بسيماهم فيؤخذ بالنّواصي والأقدام}.
هذا حديث، غريب جدًا، وفيه ألفاظ منكر رفعها، وفي الإسناد من لم يسمّ، ومثله لا يحتج به، والله أعلم. اهـ
الشفاعات الدنيوية
الشفاعات الدنيوية منها ما هو مشروع، ومنها ما ليس بمشروع، قال الله سبحانه وتعالى: {من يشفعْ شفاعةً حسنةً يكن له نصيب منها ومن يشفعْ شفاعةً سيّئةً يكن له كفل منْها وكان الله على كلّ شيء مقيتًا}.(53/243)
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: وقوله تعالى: {من يشفعْ شفاعةً حسنةً يكن له نصيب منها} أي من يسعى في أمر فيترتب عليه خير كان له نصيب من ذلك، {ومن يشفعْ شفاعةً سيّئةً يكن له كفل منها} أي يكون عليه وزر من ذلك الأمر الذي ترتب على سعيه ونيته،كما ثبت في الصحيح عن النبي صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم أنه قال: ((اشْفعوا تؤْجروا ويقضي الله على لسان نبيّه ما شاء)). اهـ المراد منه.
وقد جاءت السنة المطهرة ببيان ما يحل من الشفاعة وما يحرم.
قال البخاري رحمه الله (ج3 ص299): حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا عبدالواحد حدثنا أبوبردة(1) بن عبدالله بن أبي بردة حدثنا أبوبردة ابن أبي موسى عن أبيه رضى الله عنه قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم إذا جاءه السائل أو طلبت إليه حاجة قال: ((اشفعوا تؤجروا ويقضي الله على لسان نبيّه صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم ما شاء)).
الحديث أعاده البخاري (ج13 ص448) من طريق محمد بن العلاء حدثنا أبوأسامة عن بريدة. وأخرجه مسلم (ج4 ص2026)، وأبوداود (ج5 ص346)، والترمذي (ج4 ص148)، والنسائي (ج5 ص58)، وأحمد (ج4 ص413)، والحميدي (ج2 ص340)، والبيهقي (ج8 ص167)، والخرائطي في "مكارم الأخلاق" ص(75).
وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، وبريد يكنى أبا بردة أيضًا، وهو كوفي ثقة في الحديث، روى عنه شعبة والثوري وابن عيينة.
كذا قال الترمذي وقد عرفت أنه بريد بن عبدالله بن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري.
__________
(1) …أبوبردة: هو بريد بن عبدالله بن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري، وفي الأصل: (أبوبريدة) وكذا في الطبعة الحلبية مع ?الفتح? (ج4 ص42)، وفي الطبعة السلطانية: (أبوبردة)، وفي الهامش: أبوبردة هكذا التي بأيدينا. وقال القسطلاني: أبوبريدة. اهـ.(53/244)
قال أبوداود رحمه الله (ج5 ص347): حدثنا أحمد بن صالح وأحمد بن عمرو بن السرح قالا: حدثنا سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن وهب ابن منبه عن أخيه عن معاوية: اشفعوا تؤجروا فإنّي لأريد الأمر فأؤخّره كيما تشفعوا فتؤجروا، فإنّ رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم قال: ((اشفعوا تؤجروا)).
الحديث أخرجه النسائي (ج5 ص58)، والخرائطي في "مكارم الأخلاق" ص(75) ورجاله رجال الصحيح.
قال الإمام أحمد رحمه الله (ج2 ص184): ثنا عبدالصمد ثنا حماد -يعني ابن سلمة- ثنا محمد بن إسحاق عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: شهدت رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم يوم حنين، وجاءته وفود هوازن، فقالوا: يا محمّد إنّا أصل وعشيرة فمنّ علينا منّ الله عليك، فإنّه قد نزل بنا من البلاء ما لا يخفى عليك، فقال: ((اختاروا بين نسائكم وأموالكم وأبنائكم)).
قالوا: خيّرتنا بين أحسابنا وأموالنا، نختار أبناءنا.
فقال: ((أمّا ما كان لي ولبني عبدالمطّلب فهو لكم، فإذا صلّيت الظّهر فقولوا: إنّا نستشفع برسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم على المؤمنين، وبالمؤمنين على رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم في نسائنا وأبنائنا)).
قال: ففعلوا، فقال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم :((أمّا ما كان لي ولبني عبد المطّلب فهو لكم)).
وقال المهاجرون: ما كان لنا فهو لرسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم. وقالت الأنصار مثل ذلك.
وقال عيينة بن بدر: أمّا ما كان لي ولبني فزارة فلا.
وقال الأقرع بن حابس: أما أنا وبنو تميم فلا.
وقال عباس بن مرداس: أما أنا وبنو سليم فلا.(53/245)
فقالت الحيان(1): كذبت، بل هو لرسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم.
فقال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: ((يا أيّها النّاس ردّوا عليهم نساءهم وأبناءهم، فمن تمسّك بشيء من الفيء فله علينا ستّة فرائض من أوّل شيء يفيئه الله علينا)).
ثمّ ركب راحلته وتعلّق به النّاس، يقولون: اقسمْ علينا فيئنا بيننا حتّى ألجؤوه إلى سمرة فخطفت رداءه.
فقال: ((يا أيّها النّاس ردّوا عليّ ردائي، فوالله لو كان لكم بعدد شجر تهامة نعم لقسمته بينكم، ثمّ لا تلفوني بخيلاً ولا جبانًا ولا كذوبًا)).
ثم دنا من بعيره فأخذ وبرةً من سنامه فجعلها بين أصابعه السّبّابة والوسطى، ثمّ رفعها، فقال: ((يا أيّها النّاس ليس لي من هذا الفيء [ ولا هذه الوبرة](2) إلاّ الخمس والخمس مردود عليكم، فردّوا الخياط والمخيط فإنّ الغلول يكون على أهله يوم القيامة عارًا ونارًا وشنارًا)).
فقام رجل معه كبّة من شعر، فقال: إنّي أخذت هذه أصلح بها بردعة بعير لي دبر. قال: ((أمّا ما كان لي ولبني عبد المطّلب فهو لك)).
فقال الرّجل: يا رسول الله أما إذا بلغت ما أرى فلا أرب لي ونبذها.
الحديث أخرجه أحمد (ج2 ص218)، وابن إسحاق كما في "سيرة ابن هشام" (ج2 ص489). وعند أحمد في الموضع الثاني، وعند ابن هشام تصريح ابن إسحاق بالتحديث، ولكنه ينتهي عند قوله: ((فردّوا على النّاس أبناءهم ونساءهم)) وبقيته عند ابن إسحاق بدون سند، فتمام الحديث بسند أحمد ضعيف لعنعنة ابن إسحاق، وما في "سيرة ابن إسحاق" لأنه لم يسق سنده فهو معضل.
__________
(1) …كذا، وفي ?المسند? (ج2 ص218)، وفى ?سيرة ابن هشام? (ج2 ص 492)، و?البداية? (ج4 ص 353): (فقالت بنوسليم: لا ما كان لنا فهو لرسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم، قال: يقول عباس: يا بني سليم وهنتموني).
(2) …في ?المسند? بدل ما بين المعكوفين كلام غير مفهوم. لذا نقلناه من ?سيرة ابن هشام? (ج2 ص492).(53/246)
قال البخاري رحمه الله (ج9 ص408): حدثني محمد(1) أخبرنا عبدالوهاب حدثنا خالد عن عكرمة عن ابن عباس أن زوج بريرة كان عبدًا يقال له: مغيث كأنّي أنظر إليه يطوف خلفها يبكي ودموعه تسيل على لحيته، فقال النّبيّ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم لعبّاس: ((يا عبّاس ألا تعجب من حبّ مغيث بريرة، ومن بغض بريرة مغيثًا؟)) فقال النّبيّ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: ((لو راجعته)) قالت: يا رسول الله تأمرني؟ قال: ((إنّما أنا أشفع)) قالت: لا حاجة لي فيه.
الحديث أخرجه أبوداود (ج2 ص671)، والنسائي (ج8 ص265)، وابن ماجة (ج1 ص671)، وأحمد (ج1 ص215).
قال ابن ماجه رحمه الله (ج1 ص635): حدثنا هشام بن عمار ثنا معاوية بن يحيى ثنا معاوية بن يزيد(2) عن يزيد عن أبي حبيب عن أبي الخير(3) عن أبي رهم قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: ((من أفضل الشّفاعة أن يشفّع بين الاثنين في النّكاح)).
قال المعلق في "الزوائد": هذا إسناد مرسل، أبورهم هذا اسمه أحزاب بن أسيد بفتح الهمزة وقيل بضمها، قال البخاري: هو تابعي، وقال أبوحاتم ليست له صحبة.
فصل ما لا تحل الشفاعة فيه
__________
(1) …قال الحافظ في ?الفتح?: محمد هو ابن سلام، على ما بينته في ?المقدمة?.
(2) …معاوية بن يزيد: هو معاوية بن سعيد. وهم هشام بن عمار فقال: معاوية بن يزيد كما في ?تهذيب التهذيب?.
(3) …أبوالخير: هو مرثد بن عبدالله اليزني.(53/247)
قال البخاري رحمه الله (ج6 ص513): حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا ليث عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة رضى الله عنها أن قريشًا أهمّهم شأن المرأة المخزوميّة الّتي سرقت فقالوا: ومن يكلّم فيها رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم؟ فقالوا: ومن يجترئ عليه إلاّ أسامة بن زيد حبّ رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم؟ فكلّمه أسامة، فقال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: ((أتشفع في حدّ من حدود الله؟)) ثمّ قام فاختطب ثمّ قال: ((إنّما أهلك الّذين قبلكم أنّهم كانوا إذا سرق فيهم الشّريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضّعيف أقاموا عليه الحدّ، وايْم الله لو أنّ فاطمة بنت محمّد سرقت لقطعت يدها)).
الحديث أعاده البخاري (ج12 ص87) من طريق سعيد بن سليمان حدثنا الليث به، وأخرجه مسلم (ج3 ص1315)، وأبوداود (ج4 ص537)، والترمذي (ج2 ص442) وقال: حسن صحيح. وابن ماجة (ج2 ص851)، والنسائي (ج8 ص65،66)، وابن الجارود ص(273)، وأحمد (ج6 ص162)، والدارمي (ج2 ص173)، والطحاوي في "مشكل الآثار" (ج2 ص276)، والبيهقي في "السنن" (ج8 ص332).
قال أبوداود رحمه الله (ج4 ص23): حدثنا أحمد بن يونس حدثنا زهير حدثنا عمارة بن غزية عن يحيى بن راشد قال: جلسنا لعبدالله بن عمر فخرج إلينا فجلس فقال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم يقول: ((من حالت شفاعته دون حدّ من حدود الله فقد ضادّ الله، ومن خاصم في باطل وهو يعلمه لم يزل في سخط الله حتّى ينْزع عنه، ومن قال في مؤمن ما ليس فيه أسكنه الله ردغة الخبال حتّى يخرج ممّا قال)).
الحديث أخرجه أحمد (ج2 ص70)، والحاكم (ج2 ص27)، والبيهقي (ج8 ص332)، وقال الحاكم: صحيح الإسناد، وسكت عليه الذهبي.(53/248)
- طريق أخرى: قال أبوداود رحمه الله (ج4 ص23): حدثنا علي بن الحسين بن إبراهيم حدثنا عمر بن يونس حدثنا عاصم بن محمد بن زيد العمري حدثني المثنى بن يزيد عن مطر الوراق عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم بمعناه، قال: ((ومن أعان على خصومة بظلم فقد باء بغضب من الله عزّ وجلّ)).
الحديث في سنده المثنى بن يزيد، قال الذهبي في "الميزان": تفرد عنه عاصم بن محمد العمري.
وقال الحافظ في "التقريب": مجهول.
وقال ابن أبي حاتم في "العلل" عن أبيه: الصحيح موقوف عن ابن عمر. اهـ (ج2 ص183).
وقد روى الحديث البيهقي (ج8 ص332) من طريق سعيد بن بشير عن مطر الوراق، وسعيد ضعيف لكنه يصلح في الشواهد والمتابعات.
- طريق أخرى: قال الإمام أحمد رحمه الله (ج2 ص82): حدثنا محمد ابن الحسن بن آتش أخبرني النعمان بن الزبير عن أيوب بن سلمان رجل من أهل صنعاء قال: كنا بمكة فجلسنا إلى عطاء الخراساني إلى جنب جدار المسجد فلم نسأله ولم يحدثنا، قال: ثمّ جلسْنا إلى ابن عمر مثل مجلسكم هذا فلم نسألْه ولم يحدثنا قال: فقال: ما لكم لا تتكلّمون، ولا تذكرون الله، قولوا: الله أكبر والحمد لله، وسبحان الله وبحمده بواحدة عشرًا وبعشر مائةً من زاد زاده الله ومن سكت غفر له، ألا أخبركم بخمس سمعتهنّ من رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم؟ قالوا: بلى. قال: ((من حالت شفاعته دون حدّ من حدود الله فهو مضادّ الله في أمره، ومن أعان على خصومة بغير حقّ فهو مستظلّ في سخط الله حتّى يترك، ومن قفا مؤمنًا أو مؤمنةً حبسه الله في ردغة الخبال عصارة أهل النّار، ومن مات وعليه دين أخذ لصاحبه من حسناته لا دينار ثمّ ولا درهم، وركعتا الفجر حافظوا عليهما فإنّهما من الفضائل)).(53/249)
الحديث في سنده أيوب بن سلمان، قال الحافظ في "تعجيل المنفعة": فيه جهالة. وقال في "لسان الميزان": عن ابن عمر بحديث: ((من حالت شفاعته دون حدّ...)) الحديث، وعنه النعمان بن الزبير وحده، رواه أحمد في "المسند"، وأيوب لا يعرف حاله.
قال أبوعبدالرحمن: بما أنه انفرد عنه راو واحد، ولم يوثّقه معتبر فهو مجهول العين.
وأخرجه عبدالرزاق (ج11 ص425) عن معمر عن عطاء الخراساني عن ابن عمر موقوفًا، وهو منقطع لأن عطاء لم يسمع من ابن عمر ولا من أحد من الصحابة كما في "تهذيب التهذيب".
- طريق أخرى: قال الحاكم رحمه الله (ج4 ص383): حدثنا أبوبكر ابن إسحاق أنبأ أحمد بن بشر(1) المرثدي ثنا بشر بن معاذ ثنا عبدالله بن جعفر حدثني مسلم بن أبي مريم عن عبدالله بن عامر بن ربيعة عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: ((من حالت شفاعته دون حدّ من حدود الله فقد ضادّ الله تعالى في أمره)).
الحديث قال الهيثمي (ج1 ص251): رواه الطبراني، وفيه عبدالله بن جعفر المديني وهو متروك.
قال الإمام مالك رحمه الله في "الموطأ" (ج3 ص41): عن ربيعة ابن عبدالرحمن أن الزبير بن العوام لقي رجلاً قد أخذ سارقًا وهو يريد أن يذهب به إلى السّلطان، فقال: فشفع له الزّبير ليرسله، فقال: لا، حتى أبلغ به السّلطان. فقال الزبير: إذا بلغت به السّلطان فلعن الله الشّافع والمشفّع.
الأثر موقوف ومعضل.
__________
(1) …أحمد بن بشر: ترجمته في ?تاريخ بغداد? (ج4 ص45) وثّقه ابن المنادي.(53/250)
- قال الدارقطني رحمه الله (ج3 ص205): نا الحسين بن إسماعيل نا عمر بن شبة نا أبوغزية(1) الأنصاري نا عبدالرحمن بن أبي الزناد عن هشام ابن عروة عن أبيه قال: شفع الزّبير في سارق، فقيل: حتى يبلغه الإمام. فقال: ((إذا بلغ الإمام فلعن الله الشّافع والمشفّع)) كما قال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم.
قال الهيثمي (ج6 ص259): رواه الطبراني في "الكبير" و"الأوسط"، وفيه أبوغزية: ضعفه أبوحاتم وغيره ووثّقه الحاكم.
- وقال الدارقطني رحمه الله: ثنا عبدالله بن جعفر بن خشيش نا سلم بن جنادة نا وكيع نا هشام بن عروة عن عبدالله بن عروة عن الفرافصة الحنفي قال: مرّوا على الزّبير بسارق فشفع له، فقالوا: يا أبا عبدالله تشفع للسارق؟ قال: نعم، لا بأس به ما لم يؤت به الإمام، فإذا أتي به الإمام فلا عفا الله عنه إن عفا عنه.
الحديث أخرجه البيهقي (ج8 ص333) وفي سنده الفرافصة الحنفي: روى عنه القاسم بن محمد وعبدالله بن أبي بكر كما في "التاريخ الكبير" للبخاري و"الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم، ولم يذكرا فيه جرحًا ولا تعديلاً، ويضاف إليهما ما في هذا السند وهو عبدالله بن عروة، فيكون الفرافصة مجهول الحال يصلح حديثه في الشواهد والمتابعات.
- قال البيهقي رحمه الله (ج8 ص333): أخبرنا أبوعبدالله الحافظ ثنا أبوالعباس محمد بن يعقوب ثنا العباس الدوري ثنا أبونعيم الفضل بن دكين ثنا إسرائيل عن أبي بكر بن أبي الجهم عن عروة بن الزبير عن أبيه الزبير بن العوام رضي الله عنه قال: اشفعوا في الحدود ما لم تبلغ السّلطان، فإذا بلغت السّلطان فلا تشفعوا.
وهذا السند رجاله ثقات، وأبوبكر بن أبي الجهم: هو أبوبكر بن عبدالله ابن أبي الجهم، وثقه ابن معين كما في "تهذيب التهذيب".
فالظاهر صحة وقف الحديث على الزبير رضي الله عنه.
__________
(1) …في الأصل: (أبوعرية) -بعين مهملة فراء-، والصواب: (أبوغزية)، كما ستراه في كلام الهيثمي.(53/251)
قال الدارقطني رحمه الله (ج3 ص204): نا القاضي أحمد بن كامل نا أحمد بن عبدالله الفرسي نا أبونعيم النخعي نا محمد بن عبيدالله العرزمي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال كان صفوان بن أمية بن خلف نائمًا في المسجد، ثيابه تحت رأسه، فجاء سارق فأخذها فأتى به النبيّ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم فأقرّ السّارق، فأمر به النّبيّ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم أن يقطع، فقال صفوان: يا رسول الله أيقطع رجل من العرب في ثوبي؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: ((أفلا كان هذا قبل أن تجيء به؟)) ثم قال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: ((اشفعوا ما لم يتصل إلى الوالي، فإذا أوصل إلى الوالي فعفا فلا عفا الله عنه)) ثمّ أمر بقطعه من المفصل.
قال أبوالطيب في تعليقه على الدارقطني: الحديث ضعفه ابن القطان في كتابه، فقال: العرزمي متروك، وأبونعيم عبدالرحمن بن هاني النخعي لا يتابع على ما له من حديث. اهـ -يعني كلام ابن القطان- إلى أن قال أبوالطيب: لكن روي حديث صفوان من وجوه كثيرة، ولذا قال في "التنقيح": حديث صفوان حديث صحيح رواه أبوداود والنسائي وابن ماجة وأحمد في "مسنده" من غير وجه. اهـ
قال الترمذي رحمه الله (ج2 ص392): حدثنا عبدالله بن عبدالرحمن حدثنا يحيى بن حماد عن أبي عوانة عن عبدالأعلى الثعلبي عن بلال بن مرداس الفزاري عن خيثمة وهو البصري عن أنس عن النّبيّ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم قال: ((من ابتغى القضاء وسأل فيه شفعاء وكل إلى نفسه، ومن أكره عليه أنزل الله عليه ملكًا يسدّده)).
هذا حديث حسن غريب، وهو أصح من حديث إسرائيل عن عبدالأعلى. اهـ يعني حديثًا هذا بمعناه.(53/252)
الحديث أخرجه الخطيب في "موضح أوهام الجمع والتفريق" (ج2 ص7)، وقال المناوي في "فيض القدير": قال في "المنار" ولم يبيّن علّته: وقد خرجه من طريقين، ففيه من طريق خيثمة البصري(1) لم تثبت عدالته، وقال ابن معين: ليس بشيء، ومن الطريق الأخرى: بلال بن مرداس مجهول، وعبدالأعلى بن عامر ضعيف. اهـ
وبهذا ينتهي البحث حول أحاديث الشّفاعة والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات وصلّى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك
__________
(1) …في "فيض القدير": (النضري)، وهو تصحيف.(53/253)
الصَّارِمُ المُنْكِي
في
الرَّدِّ عَلَى السُّبْكِي
للإمام الحافظ
أبي عبد الله محمد بن أحمد ابن عبد الهادي الحنبلي
توفي سنة 744
تحقيق
عقيل بن محمد المقطري
تقديم
الشيخ المحدِّث مقبل بن هادي الوادعي
مُلتقى أهل الحديث
تقديم
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله .
أما بعد فيقول الله سبحانه وتعالى : وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً . ويقول سبحانه وتعالى : بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق .
كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم هما الكفيلان بزحزحة الباطل والقضاء عليه إذا وجد لهما من يبلغهما كما أتيا عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم .
كالما نصحت إخواني في الله باقتناء الصارم المنكى في الرد على السبكي منذ وقع في يدي وأنا طالب بمعهد الحرم بمكة ذلك لأنه كتاب قمع الله به أصحاب الباطل المبتدعة . فالمبتدعة من عصر السبكي إلى زمننا هذا وهو يفترقون من كتاب السبكي الذي جمع فيه بين نصر البدعة ومهاجمة السنة والصد عنها مع تجلد عجيب وقد كنا نقرأ في الصارم المنكي ونحن بدماج فأتعجب من جرأة السبكي ومن سعة اطلاعه ومن تلبيسه على القارئ فأقول : هذا كلام عالم فلا يسعني إلا الاعتراف بأنه عالم ولكنه ضل عن سواء السبيل وحمله الشيطان على نصرة الباطل فقيض الله لأباطيله ولتلبيساته ابن عبد الهادي رحمه الله بنسفها نسفاً .
وأني أنصح من يريد أن يرد على دعاة الضلال في زمننا هذا كمحمد بن علوي مالكي وأشياعه أن يكون أول مرجع لهم هو الصارم المنكي في الرد على السبكي .(54/1)
إن الصارم المنكى ليس كتاباً يرد على المبتدعة فحسب ولكنه أيضاً كتاب جرح وتعديل وتصحيح وتضعيف فيه فوائد نشد لها الرجال ، ومما أذكره الآن أحاديث زيارة قبر الرسول صلى الله عليه وسلم ، فقد بين ضعفها مما لا تجده في كتاب فيما أعلم .
وهكذا هل رواية من لا يروى إلا عن ثقة تعتبر توثيقاً لمن روى عنه لا أتعجل بالإجابة فهي موجودة في الكتاب مستوفاة .
وهكذا توثيق ابن حبان للمجهولين .
وهكذا تساهل الحاكم .
وإن صاحبي الصحيح قد يرويان البعض من فهم كلام عن أناس مخصوصين وعلى كل فالكتاب يعتبر مرجعاً للباحثين ونشره في هذه الأيام من الأمور المهمة لحيث إنه قد قصر باع العلماء المعاصرين عن استيعاب الأدلة وأيضاً قد كثر الأعداء كما قيل :
تكاثرت الضباء على خراش فما يدري خراش ما يصيد
وإني أنصح الأخوة الباحثين أن يحرصوا على إخراج مثل هذه الكتب فهي تقمع المبتدعة المعاصرين وتوفر على الأخ وقتاً يصرفه فيما هو أهم .
فجزى الله أخانا في الله عقيلاً خيراً على ما قام به من الخدمة لهذا الكتاب العظيم وأسال الله أن يوفقه لمواصلة المسير في خدمة سنة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأن يعيذنا وإياه من فتنة المحيا والممات إنه على كل شيء قدير .
أبو عبد الرحمن مقبل بن هادي الوادعي
مقدمة المحقق
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ، أما بعد :(54/2)
فإن كتاب ( الصارم المنكي في الرد على السبكي ) للحافظ ابن عبد الهادي رحمه الله من أحسن الكتب التي ترد على المبتدعين من القبوريين وغيرهم الغلاة في رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم . وهو مع هذا الكتاب تصحيح وتضعيف وجرح وتعديل وبيان علل لأحاديث كثيرة ، ولقد عهد إلى شيخي الجليل فضيلة العلامة أبو عبد الرحمن بن مقبل بن هادي الوادعي حفظه الله تعالى بتحقيق هذا الكتاب فلبيت طلبه نظراً لأهمية الكتاب ولاحتياجه إلى تحقيق وتوثيق وعزو الأحاديث إلى مخرجيها .
ونظراً لأنه لا توجد في الأسواق سوى نسخة شعبية تحتوي على كثير من التحريف والسقط إلا أنني بفضل الله تعالى حاولت أن أعيد النصوص الساقطة إلى مواضعها وأصلحتا ما حصل من تحريف في النصوص وذلك بالاستعانة بالكتب التي استقى منها الحافظ ابن عبد الهادي مثل كتاب السبكي وكتب ابن تيمية كالجواب الباهر واقتضاء الصراط المستقيم وغيرها وأخيراً حصلت على النسخة التي حقق نصوصها فضيلة الشيخ / إسماعيل الأنصاري رحمه الله فاستفدت منها أيضاً ولله الحمد والمنة وذلك لأنه قابل الكتاب على بعض المخطوطات .
هذا وقد جعلت النصوص التي كانت ساقطة بين قوسين هكذا ( ) وذلك ليتضح الجهد الذي قمت به
وأسال الله عز وجل أن يجعل عملي خالصاً لوجهه الكريم إنه سميع مجيب وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .
وكتب
عقيل بن محمد بن زيد المقطري
أبو عبد الرحمن السلفي
ترجمة مختصرة للحافظ ابن عبد الهادي
اسمه :
هو عبد الله محمد بن أحمد بن عبد الهادي بن عبد الحميد بن عبد الهادي بن يوسف بن محمد بن قدامة .
ميلاده :
ولد سنة خمس وسبعمائة .
مشايخه :
من جملة مشايخه :
1 ) شيخ الإسلام ابن تيمية .
2 ) الحافظ أبو الحجاج المزي .
3 ) القاضي تقي الدين سليمان .
4 ) أبو بكر بن عبد الدائم .
5 ) الحافظ الذهبي .
6 ) عيسى المطغم .
7 ) ابن مسلم . وغيرهم .
ثناء أهل العلم عليه :
1 ) الحافظ المزي :(54/3)
قال : ( ما التقيت به - يعني : ابن عبد الهادي - إلا استفدت منه ) .
2 ) الحافظ ابن كثير :
قال : ( .. الشيخ الإمام العالم العلامة الناقد البارع في فنون العلوم ) .
وقال : ( حصل من العلوم ما لا يبلغه الشيوخ الكبار وتفنن في الحديث والتعريف والفقه والتفسير والأصليين والتاريخ والقراءات وله مجامع وتعاليق مفيدة وكثيرة وكان حافظاً جيداً لأسماء الرجال وطرق الحديث وعارفاً بالجرح والتعديل وبصيراً بعلل الحديث ، حسن الفهم له ، جيد المذاكرة صحيح الذهن مستقيماً على طريقة السلف وأتباع الكتاب والسنة مثابراً على فعل الخيرات ) أ هـ الرد .
3 ) الحافظ ابن رجب :
قال فيه : ( المقرئ الفقيه المحدث الحافظ الناقد النحوي المتقن .. درس الحديث وكتبه بخطه الحسن المتقن الكثير ) .
4 ) الحافظ أبو المحاسن :
قال في ذيل تذكرة الحفاظ ( الإمام العلامة شمس الدين .. اعتنى بالرجال والعلل وبرع وجمع وصنف وتصدر للإفادة والاشتغال في القراءات والحديث والفقه والأصلين والنحو واللغة وولي مشيخة الحديث بالضيائية والغيائية ودرس بالمدرسة المنصورية وغيرها وسمع منه طائفة وروى شيخنا الذهبي عن المزي عن السروجي عنه )
5 ) الإمام الذهبي :
قال : ( سمعت من الإمام الحافظ ذي الفنون شمس الدين محمد بن أحمد بن عبد الهادي .. إلى أن قال : اعتنى بالرجال والعلل وبرع وجمع وتصدى للإفادة والاشتغال في القراءات والحديث والفقه والأصول والنحو وله توسع في العلوم وذهن سيال .
6 ) الحافظ ابن حجر :
قال فيه : ( مهر في الحديث والأصول والعربية وغيرها ) .
7 ) الإمام السيوطي :
قال فيه : ( الإمام الأوحد المحدث الحافظ الحاذق الفقيه الورع المقرئ النحوي اللغوي ذو الفنون شمس الدين أحد الأذكياء مهر في الفقه والأصول والعربية ) .
8 ) الصفدي :(54/4)
قال : ( لوعاش كان آية ، كنت إذا لقيته سألته عن مسال أدبية وفوائد عربية فيتحذر كالسيل وكنت أراه يوافق المزي في أسماء الرجال ويرد عليه فيقبل منه ) .
مصنفاته :
وأما مصنفاته فكثيرة جداً تزيد عن خمسين مؤلفاً من أشهرها :
1 ) الصارم المنكي في الرد على السبكي .
2 ) المحرر في الأحكام .
3 ) ترجمته ابن تيمية ( العقود الدرية ) .
وفاته :
توفي رحمه الله في يوم الأربعاء عاشر جمادى الأولى سنة أربع وأربعين وسبعمائة .
مصادر ترجمته :
البداية والنهاية ، ذيل طبقات الحنابلة ، الدرر الكامنة ، البدر الطالع ، تذكرة الحفاظ ، طبقات الحفاظ .
وكتب
أبو عبدالرحمن السلفي عقيل
بن محمد بن زيد المقطري اليماني
مقدمه المؤلف
بسم الله الرحمن الرحيم
قال الشيخ الإمام العلامة الحافظ المحقق أبو عبد الله بن محمد بن أحمد بن عبد الهادي بنت عبد الحميد بن عبد الهادي بن يوسف بن محمد بن قدامه المقدسي الحنبلي رحمه الله ورضي عنه ، وأثابه الجنة بفضل رحمته وإيانا وسائر المسلمين أمين إنه على كل شيء قدير ، وحسبنا الله ونعم الوكيل .
الحمد لله الذي يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له رب السموات ورب الأرضين ورب العرش العظيم وأشهد أن محمداً عبده ورسوله المبعوث بالآيات والذكر الحكيم ، الذي حكم به بين الناس فيما اختلفوا فيه من الزمان القديم ، الذي يهدي به من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط المستقيم ، صلى الله عليه وآله وسلم أفضل صلاة وأفضل تسليم .(54/5)
أما بعد: فإني وقفت على الكتاب الذي ألفه بعض قضاة الشافعية في الرج على شيخ الإسلام تقي الدين أبي العباس أحمد بن تيمية في مسألة شد الرحال وإعمال المطي إلى القبور ، وذكر أنه كان قد سماه شن الغارة على من أنكر سفر الزيارة ثم زعم أنه اختار أن يسميه شفاء السقام في زيارة خير الأنام فوجدت كتابه مشتملاً على تصحيح الأحاديث المضعفة والموضوعة ، وتقوية الآثار الواهية والمكذوبة ، وعلى تضعيف الأحاديث الصحيحة الثابتة والآثار القوية المقبولة ، وتحريفها عن مواضعها وصرفها عن ظاهرها بالتأويلات المستنكرة المردودة . ورأيت مؤلف هذا الكتاب المذكور رجلاً ممارياً معجباً برأيه متبعاً لهواه ذاهباً في كثير مما يعتقده إلى الأقوال الشاذة والآراء الساقطة ، صائراً في أشياء مما يعتمده إلى الشبه المخيلة والحجج الداحضة ، وربما خرق الإجماع في مواضع لم يسبق إليها ولم يوافقه أحد من الأئمة عليها .
وهو من الجملة لون عجيب وبناء غريب تارة يسلك فيما ينصره ويقويه مسلك المجتهدين فيكون مخطئاً في ذلك الاجتهاد ومرة يزعم فيما يقول ويدعيه أنه من جملة المقلدين ،فيكون من قلده مخطئاً في ذلك الاعتقاد ، نسأل الله سبحانه أن يلهمنا رشدنا ويرزقنا الهداية والسداد .(54/6)
هذا ما أنه إن ذكر حديثاً مرفوعاً أو أثر موقوفاً وهو غير ثابت قبله إذا كان موافقاً لهواه ، وإن كان ثابتاً رده إما بتأويل أو غيره إذا كان مخالفاً لهواه ، وإن نقل عن بعض الأئمة الأعلام كمالك وغيره وما يوافق رأيه قبله ، وإن كان مطعوناً فيه غير صحيح عنه ، وإن كان مما يخالف رأيه رده ولم يقبله وإن كان صحيحاً ثابتاً عنه ، وإن حكى شيئاً مما يتعلق بالكلام على الحديث وأحوال الرواة عن أحد من أئمة الجرح والتعديل كالإمام أحمد بن حنبل وأبي حاتم الرازي وأبي حاتم بن حبان البستي ، وأبي جعفر العقيلي وأبي أحمد بن عدي ، وأبي عبد الله الحاكم صاحب المستدرك ، وأبي بكر البيهقي ، وغيرهم من الحفاظ ، وكان مخالفاً لما ذهب إليه ، لم يقبل قوله ورده عليه وناقشه فيه .
وإن كان ذلك الإمام قد أصاب في ذلك القول ووافقه غيره من الأئمة عليه ، وإن كان موافقاً لما صار إليه تلقاه بالقبول واحتج به واعتمد عليه ، وإن كان ذلك الإمام قد خولف في ذلك القول ولم يتابعه غيره من الأئمة عليه ، وهذا هو عين الجور والظلم وعدم القيام بالقسط ، نسأل الله التوفيق ونعوذ به من الخذلان واتباع الهوى .
هذا مع أن حملة إعجابه برأيه ، وغلبة اتباع هواه على أن نسب سوء الفهم والغلط في النقل إلى جماعة من العلماء الأعلام المعتمد عليهم في حكاية مذاهب الفقهاء وأخلاقهم وتحقيق معرفة الأحكام حتى زعم أن ما نقله الشيخ أبو زكريا النووي في شرح مسلم ، عن الشيخ أبي محمد الجويني من النهي عن شد الرحال وإعمال المطي إلى غير المساجد الثلاثة كالذهاب إلى قبور الأنبياء والصالحين وإلى المواضع الفاضلة ونحو ذلك هو مما غلط فيه الشيخ أبي محمد ، وإن ذلك وقع منه على سبيل الهوى والغفلة ، قال : ولو قاله هو - يعني الشيخ أبا محمد أو غيره - ممن يقبل كلامه الغلط لحكمنا بغلطه وأنه لم يفهم مقصود الحديث .(54/7)
فالنظر إلى كلام هذا المعترض المتضمن لرد النقل الصحيح بالرأي الفاسد ، وأجمع بينه وبين ما حكاه عن شيخ الإسلام من الافتراء العظيم والإفك المبني والكذب الصراح ، وهو ما نقله عنه من أنه جعل زيارة قبل النبي - صلى الله عليه وسلم - وقبور سائر الأنبياء عليهم السلام معصية بالإجماع مقطوعاً بها ، هكذا ذكر هذا المعترض عن بعض قضاة الشافعية عن الشيخ أنه قال هذا القول الذي لا يشك عاقل من أصحابه وغير أصحابه أنه كذب مفترى لم يقله قط ، ولا يوجد شيء من كتبه ولا دل كلامه عليه ، بل كتبه كلها ومناسكه وفتاويه وأقواله وأفعاله تشد ببطلان هذا النقل عنه ، ومن له أدنى علم وبصيرة يقطع بأن هذا مفتعل مختلق على الشيخ وأنه لم يقله قط ، وقد قال الله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ (#ûqمZtB#uن إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ (#ûqمY¨ t6tGsù أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ } (الحجرات 006) .
وهذا المعترض يعلم أن ما نقله هذا القاضي المشهور بما لا أحب حكايته عنه في هذا المقام عن شيخ الإسلام من هذا الكلام كذب مفترى ، لا يرتاب في ذلك ولكنه يطفف، ويداهن ويقول بلسانه ما ليس في قلبه .
ولقد أخبرني الثقة أنه ألف هذا الكتاب لما كان بمصر قبل أن يلي القضاء بالشام بمدة كبيرة ليتقرب به إلى القاضي الذي حكى عنه هذا الكذب ويحظى لديه فخاب أمله ولم ينفق عنده ، وقد كان هذا القاضي الذي جمع المعترض كتابه هذا لأجله من أعداء الشيخ المشهورين .
وقد زعم هذا المعترض أيضاً مع هذا الأمر الفظيع الذي ارتكبه من التكذيب بالتصديق ، والتصديق بالكذب أن الفتاوى المشهورة التي أجاب بها علماء أهل بغداد موافقة للشيخ ، مختلفة موضوعة وضعها بعض الشياطين ، هكذا زعم مع علم الخاص والعام بأن هذه الفتاوى مما شاع خبره وذاع واشتهر أمرها وانتشر ، وهي صحيحة ثابتة متواترة عمن أفتى بها من العلماء .(54/8)
وقد رأيت أنا وغيري خطوطهم بها ، فانظري إلى تكذيب هذا المعترض بما لم يحط به علماً ، وجراءته على إنكار ما اشتهر وتواتر وكيف يحل لمن ينتسب إلى شيء من الدين أن ينسب أمراً مقطوعاً بكذبة إلى من لم يقله ، ويقدح في أمر مشاهد مقطوع بصحته ويزعم أنه مختلق من بعض الشياطين هذه عثرة لا تقال ، وله مثلها كثيراً ، { وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ } (النور 040) .
فلما وقفت على هذا الكتاب المذكور أحببت أن أنبه على بعض ما وقع فيه من الأمور المنكرة والأشياء المردودة ، وخلط الحق بالباطل لئلا يغتر بذلك بعض من يقف عليه ممن لا خبرة له بحقائق الدين ، مع أن كثيراً مما فيه من الوهم والخطأ يعرفه خلق من المبتدئين في العلم بأدنى تأمل ولله الحمد ، ولو نوقش مؤلف هذا الكتاب على جميع ما اشتمل عليه من الظلم والعدوان والخطأ والخبط والتخليط والغلو والتشنيع والتلبيس ، لطال الخطاب ولبلغ الجواب مجلدات ولكن التنبيه على القليل مرشد إلى معرفة الكثير لمن له أدنى فهم والله المستعان .
وقد أطال مؤلف هذا الكتاب فيه بذكر الأسانيد وتكرارها منه إلى مؤلفي الكتب كالطبراني والدارقطني وغيرهما ، وحشد فيه بتعداد الطرق إليهم والرواية بالإجازات المركب بعضها على بعض والرفع في أنساب خلق من المتأخرين ، وذكر طباق السماع وأسماء السامعين ونحو ذلك مما يكبر به حجم الكتاب ، وليس إلى ذكره كبير حاجة مع اختصاره ذكر الأسانيد وحذفها في أماكن لا يليق حذفها فيها ، هذا مع سرده كلام الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة ونقل عنهم من مناسكهم وغير مناسكهم استحباب زيارة قبل النبي - صلى الله عليه وسلم - وزعمه أن الشيخ يخالفهم فيما قالواه ، مع العلم بأنه موافق لهم فيما نقل عنهم لا مخالف لهم ، وإنما مقصود هذا المعترض تكثير الكلام ، وجمع ما أمكن ليعظم حجم الكتاب .(54/9)
ثم أنه عقد باباً للكلام في التوسل والاستغاثة وزعم أن الشيخ قال في ذلك قولاً لم يقله عالم قبله ، وصار به بين أهل الإسلام مثله ، ثم أخذ يخبر عنه بما لا استحسن ذكره في هذا الموضع .
والحاصل : أنه وقع في كلامه من التناقض وسوء الأدب والاحتجاج بما لا يصلح أن يكون حجة ما سننبه على بعضه إن شاء الله تعالى .
ثم عقد لحياة الأنبياء في قبورهم باباً ؛ وسرد الأحاديث المروية في ذلك من الجزء الذي جمعه البيهقي ومن غيره ، ووقع في كلامه من التأويلات البعيدة والاحتمالات المرجوحة ، ما يحتاج إلى نظر كثير .
ثم ذكر الأحاديث الواردة في سماع الموتى وكلامهم وإدراكهم وعود الروح إلى البدن وما يتبع ذلك ثم أشار إلى اختلاف المتكلمين وغيرهم في ماهية الروح وحقيقتها وتكلم في ذلك بكلام لا تحقيق فيه ولا حاجة إليه .
ثم ذكر أحاديث الشافعية وأنواعها وما ورد في بعض أحوال يوم القيامة وذكر جملة من كلام القاضي عياض فيما يتعلق بشرح ذلك .
ثم ختم الكتاب بجمع الألفاظ الواردة في كيفية الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وكان قد ذكر قبل ذلك بعدة أوراق كلاماً يشير فيه إلى التشنيع على شيخ الإسلام وهو قوله :
"لا شك أن من قال : لا يزار ، أولا يسافر لزيارته أولا يستغاث به بعيد عن الأدب معه نسأل الله العافية " .
وليعلم : قبل الشروع في الكلام مع هذا المعترض أن شيخ الإسلام رحمه الله لم يحرم زيارة القبور على الوجه المشروع في شيء من كتبه ، ولم ينه عنها ، ولم يكرها بل استحبها ، وحض عليها . ومناسكه ومصنفاته طافحة بذكر استحباب زيارة قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - وسائر القبور .
قال [ شيخ الإسلام ] رحمه الله تعالى في بعض مناسكه :
باب زيارة قبل النبي - صلى الله عليه وسلم -(54/10)
إذا أشرف على مدينة النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل الحج ، أو بعده فليقل ما تقدم ، فإذا دخل استحب له أن يغتسل(1) ، نص عليه الإمام أحمد ، فإذا دخل المسجد بدأ برجه اليمنى(2) ، وقال : بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله ، اللهم اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب رحمتك(3) ، ثم يأتي الروضة بين القبر والمنبر فيصلي بها ويدعو بما شاء ، ثم يأتي قبل النبي - صلى الله عليه وسلم - فيستقبل جدار القبر ولا يمسه ، ولا يقبله ، ويجعل القنديل الذي في القبة عند القبر على رأسه فيكون قائماً وجاه النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ويقف متباعداً كما يقف ل ظهر في حياته بخشوع وسكون منكس الرأس(4) ، غائض الطرف ، مستحضراً بقلبه جلالة موقفه ثم يقول : السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته ، السلام عليك يا نبي الله وخيرته من خلقه ، السلام عليك يا سيد المرسلين ، وخاتم النبيين وقائد الغر المحجلين ، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنك رسول الله وأشهد أنك قد بلغت رسالات ربك ونصحت لأمتك ودعوت إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة ، وعبدت الله حتى أتاك اليقين ، فجزاك الله أفضل ما جزى نبياً ورسولاً عن أمته ، اللهم أته الوسيلة والفضيلة وابعثه الله مقاماً محموداً الذي وعدته بغبطة به الأولون والآخرون ، اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد ، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم
__________
(1) هذا دليل عليه فيما أعلم .
(2) الحديث الذي جاء نصاً في هذه المسألة ضعيف وقد بينت سبب ضعفه في رسالتي ( اتحاف الراكع الساجد بأذكار الدخول والخروج من المساجد ) ولكن يستدل بحديث عائشة : ( كان يعجبه التيامن في شأنه كله ) وهو عام .
(3) راجع رسالتنا السالفة الذكر .
(4) بل يكون في حالة طبيعية مع استشعار مكانة النبي عليه الصلاة والسلام فما كان جميع الصحابة يدخلون منكسي الرؤوس .(54/11)
وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد ، اللهم احشرنا في زمرته ، وتوفنا على سنته ، وأوردنا حوضه وأسقنا بكأسه مشرباً روياً لا نظمأ بعده أبداً (1).
ثم يأتي أبا بكر وعمر رضي الله عنهما فيقول : السلام عليك يا أبا بكر الصديق ، السلام عليك يا عمر الفاروق ، السلام عليكما يا صاحبي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وضجيعيه ورحمة الله وبركاته ، جزاكما الله عن صحبة نبيكما وعن الإسلام خيراً ، سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار(2) .
قال ويزور قبور أهل البقيع وقبور الشهداء إن أمكن .
هذا كلام الشيخ رحمه الله بحروفه ، وكذلك سائر كتبه ذكر فيها استحباب زيارة قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - وسائر القبور ، ولم ينكر زيارتها في موضع من المواضع ، ولا ذكر في ذلك خلافاً إلا نقلاً عن غريباً ذكره في بعض كتبه عن بعض التابعين .
وإنما تكلم عن مسألة شد الرحال وإعمال المطي إلى مجرد زيارة القبور ، وذكر في ذلك قولين للعلماء المتقدمين والمتأخرين .
أحدهما : القول بإباحة ذلك كما يقول بعض أصحاب الشافعي وأحمد .
والثاني : إنه منهي عنه كما نقص عليه إمام دار الهجرة مالك بن أنس ، ولم ينقل عن أحد من الأئمة الثلاثة خلاف ، وإليه ذهب جماعة من أصحاب الشافعي وأحمد .
وهكذا ذكر الشيخ الخلاف في شد الرحال وإعمال المطي إلى القبور ، ولم يذكره في الزيارة الخالية عن شد رحل وإعمال مطي(3) ، والسفر إلى زيارة القبور مسألة ، وزيارتها من غير سفر مسألة أخرى ، ومن خلط هذه المسألة بهذه المسألة جعلها مسألة واحدة وحكم عليهما بحكم واحد وأخذ في التشنيع على من فرق بينهما وبالغ في التغيير عنه فقد حرم التوفيق ، وحاد عن سواء الطريق .
__________
(1) وهذا الذكر الذي أتى به هنا ليس بملزم بل له أن يأتي بغيره .
(2) وهذا أيضاً ليس بملزم .
(3) يعني أنه هذا مشروعه .(54/12)
واحتج الشيخ لمن قال بمنع شد الرحال وإعمال المطي إلى القبور بالحديث المشهور المتفق على صحته من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : (( لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد : مسجدي هذا ، والمسجد الحرام ، والمسجد الأقصى))(1) ، هكذا خرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما بصيغة الخبر لا تشد الرحال ، ومعنى الخبر في هذا معنى النهي ، يبين ذلك ما رواه مسلم في صحيحه من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : (( لا تشدوا الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد مسجدي هذا والمسجد الحرام والمسجد الأقصى ))(2) ، هكذا رواه مسلم بصيغة النهي ، ورواه الإمام إسحاق بن راهويه في مسنده(3) ، بصيغة الحصر : (( إنما تشد الرحال إلى ثلاثة مساجد مسجد إبراهيم ومسجد محمد ومسجد بيت المقدس )) .
وقد روي عبد الله بن عمر رضي الله عنهما هذا الحديث أيضاً عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بصيغة الني : (( لا تشدوا الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد مسجد الحرام ومسجد المدينة ومسجد بيت المقدس )) .
__________
(1) حديث أبي هريرة : ( لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد : مسجدي هذا والمسجد الحرام والمسجد الأقصى ) البخاري 3/63 الفتح ، ومسلم متن 2/975-976 ، من حديث أبي سعيد و 2/1014 من حديث ابي هريرة
(2) حديث أبي سعيد الخدري ( لا تشدوا الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد مسجدي هذا والمسجد الحرام والمسجد الأقصى ) مسلم 2/976 متن .
(3) مسند إسحاق بن راهويه يوجد منه جزء وبقيته مفقود من زمن الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى والقسم الموجود منه رأيته عند شيخنا حسن بن حيدر حفظه الله تعالى .(54/13)
هذا هو الذي فعل الشيخ : حكى الخلاف في مسألة بين العلماء واحتج لأحد القولين بحديث متفق على صحته ، فأي عتب عليه في ذلك ؟ ولكن نعوذ بالله من الحسد والبغي واتباع الهوى ، والله سبحانه المسئول أن يوفقنا وإخواننا المسلمين لما يحبه ويرضاه من العمل الصالح والقول الجميل ؛ فإنه يقول الحق وهو يهدي السبيل ، وينفعنا وسائر المسلمين بما يستعملنا به من الأقوال والأفعال ، ويجعله موافقاً لشرعته خالصاً لوجهه موصلاً إلى أفضل حال ، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب ؛ ولا حول ولا قوة إلا بالله العزيز الحكيم .
وهذا حين الشروع في مناقشة هذا المعترض على شيخ الإسلام وبالله التوفيق قال في أول كتابه الذي جمعه :
الحمد لله من علينا برسوله ، وهدانا إلى سواء سبيله ، وأمرنا بتعظيمه وتكريمه وتبجيله ، وفرض على كل مؤمن أن يكون أحب إليه من نفسه وأبويه وخليله ، وجعل اتباعه سبباً لمحبة الله وتفضيله ، ونصب طاعته عاصمة من كيد الشيطان وتضليله ، ويغني عن جملة القول وتفصيله ،رفع ذكره وأثنى عليه في محكم الكتاب وتنزيله - صلى الله عليه وسلم - صلاة دائمة بدوام طلوع النجم وأفوله .
أما بعد : فهذا كتاب سميته : شفاء السقام في زيارة خير الأنام ورتبته على عشرة أبواب :
الأول : في الأحاديث الواردة في الزيارة .
الثاني : في الأحاديث الدالة على ذلك وإن لم يكن فيها لفظ الزيارة .
الثالث : فيما ورد في السفر إليها.
الرابع : في نصوص العلماء على استحبابها .
الخامس : في تقرير كونها قربة .
السادس : في كون السفر إليها قربة .
السابع : في دفع شبه الخصم وتتبع كلماته .
الثامن : في التوسل والاستغاثة .
التاسع : في حياة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام .(54/14)
العاشر : في الشفاعة لتعلقها بقوله من زار قبري وجبت له شفاعتي ، وضمنت هذا الكتاب الرد على من زعم أن أحاديث الزيارة كلها موضوعة ، وأن السفر إليها بدعة غير مشروعة ؛ وهذه المقالة أظهر فساداً من أن يرد العلماء عليها ، ولكن جعلت هذا الكتاب مستقلاً في الزيارة وما يتعلق بها مشتملاً من ذلك على جملة يعز جمعها على طالبها ؛ وكنت سميت هذا الكتاب شن الغارة على من أنكر سفر الزيارة ثم اخترت التسمية المتقدمة واستعنت بالله تعالى وتوكلت عليه ثم قال :
الباب الأول
في الأحاديث الواردة في الزيارة نصاً
الحديث الأول : (( من زار قبري وجبت له شفاعتي )) رواه الدار قطني ، والبيهقي وغيرهما (1)، ثم ذكر من طريق موسى بن هلال العبدي ، عن عبيد الله بن عمر .
__________
(1) انظر سنن الدارقطني 2/278 .(54/15)
وفي رواية عن عبدالله بن عمر عن نافع عن ابن عمر قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( من زار قبري وجبت له شفاعتي )) ثم زعم أن أقل درجات هذا الحديث أن يكون حسناً إن توزع في دعوى صحته ؛ وذكر أن الراجح كونه من رواية عبيد الله المصفر الثقة لا من رواية عبد الله المكبر المضعف ، وقال في أثناء كلامه : يحتمل أن يكون الحديث عن عبيد الله وعبد الله جميعاً ويكون موسى سمعه منهما فتارة حدث به عن هذا وتارة حدث به عن هذا ، قال في آخر كلامه : وبهذا بل بأقل منه يتبين افتراء من ادعى أن جميع الأحاديث الواردة في الزيارة موضوعة ؛ فسبحان الله أما استحي من الله ومن رسوله - صلى الله عليه وسلم - في هذه المقالة التي لم يسبقه إليها عالم ولا جاهل ، لا من أهل الحديث ، ولا من غيرهم ولا ذكر أحد موسى بن هلال ولا غيره من رواة حديث هذا بالوضع ، ولا اتهمه به فيما علمنا فكيف يستجير مسلم أن يطلق على كل الأحاديث التي هو واحد منها أنها موضوعة ولم ينقل إليه ذلك عن عالم قبله ولا ظهر على هذا الحديث شيء من الأسباب المقتضية للمحدثين للحكم بالوضع ،ولا حكم متنه مما يخالف الشريعة ، فمن أي وجه يحكم بالوضع عليه لو كان ضعيفاً فكيف وهو حسن ، أو صحيح .
هذا كله كلام المعترض ، وهو متضمن للتحامل والهوى وسوء الأدب والكلام بلا علم .
والجواب أن يقال : هذا الحديث الذي ابتدأ المعترض بذكره وزعم أنه حديث حسن أو صحيح هو أمثل حديث ذكره في هذا الباب ، وهو مع هذا حديث غير صحيح ولا ثابت بل هو حديث منكر عند أئمة هذا الشأن ضعيف الإسناد عندهم لا يقوم بمثله حجة ولا يعتمد على مثله عند الاحتجاج إلا الضعفاء في هذا العلم ، وقد بين أئمة هذا العلم والراسخون فيه والمعتمد على كلامهم والمرجوع إلى أقوالهم ضعف هذا الخبر ونكارته كما سنذكر بعض ما بلغنا عنهم في ذل إن شاء الله تعالى .(54/16)
وجميع الأحاديث التي ذكرها المعترض في هذا الباب وزعم إنها بضعة عشر حديثاً ليس فيها حديث صحيح ، بل كلها ضعيفة واهية ، وقد بلغ الضعف ببعضها إلى أن حكم عليه الأئمة الحفاظ بالوضع ، كما أشار إليه شيخ الإسلام .
ولو فرض أن هذا الحديث المذكور صحيح ثابت لم يكن فيه دليل على مقصود هذا المعترض ، ولا حجة على مراده كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى ، فكيف وهو حديث منكر ضعيف الإسناد واهي الطريق ، لا يصلح الاحتجاج بمثله ، ولم يصححه أحد من الحفاظ المشهورين ولا اعتمد عليه أحد من الأئمة المحققين ، بل إنما رواه مثل الدارقطني الذي يجمع في كتابه غرائب السنن ، ويكثر فيه من رواية الأحاديث الضعيفة بل والموضوعة وبين علة الحديث وسبب ضعفه وإنكاره في بعض المواضع أو رواه مثل أبي جعفر العقيلي ،وأبي أحمد بن عدي في كتابهما في الضعفاء مع بينهما لضعفه ونكارته ، أو مثل البيهقي مع بيانه أيضاً لإنكاره .
قال البيهقي في كتاب شعب الإيمان : أخبرنا أبو سعيد الماليني ، أنبأنا أبو أحمد بن عدي الحافظ ، حدثنا محمد بن موسى الحلواني ، حدثنا محمد بن إسماعيل بن سمرة ، حدثنا موسى بن هلال عن عبدالله العمري ، عن نافع ، عن ابن عمر ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (( من زار قبري وجبت له شفاعتي )) قال البيهقي :وقيل عن موسى بن هلال العبدي عن عبد الله بن عمر ، أخبرنا أبو عبد الله الحافظ ، أنبأنا أبو الفضل محمد بن إبراهيم ، حدثنا محمد بن زنجويه القشيري ، حدثنا عبيد بن محمد بن القاسم بنأبي مريم الوراق وكان نيسابوري الأصل سكن بغداد ، حدثنا موسى بن هلال العبدي فذكره ، قال البيهقي ، وسواء قال عبيد الله ، وعبد الله فهو منكر عن نافع عن ابن عمر ، لم يأت به غيره .(54/17)
وهكذا ذكر الإمام الحافظ البيهقي أن هذا الحديث منكر عن نافع عن ابن عمر سواء قال فيه موسى بن هلال عن عبيد الله أو عن عبد الله ، والصحيح أنه عن عبدالله المكبر ، كما ذكره أبو أحمد بنعدي وغيره .
وهذا الذي قاله البيهقي في هذا الحديث به عليه قوله صحيح بين وحكم جلي واضح ولا شك فيه من له أدنى اشتغال بهذا الفن ، ولا يرده إلا رجل جاهل بهذا العلم وكذلك أن تفرد مثل هذا العبدي المجهور الحال الذي لم يشتهر من أمره ما يوجب قبول أحاديثه وخبره عن عبد الله بن عمر العمري المشهور بسوء الحفظ وشدة الغفلة عن نافع عن ابن عمر بهذا الخبر من بين سائر أصحاب نافع الحفاظ الثقات الأثبات مثل يحيى بن سعيد الأنصاري ، وأيوب السختياني ، وعبد الله بن عون ، وصالح بن كيسان وإسماعيل بن أمية القرشي ، وابن جريح والأوزاعي ، وموسى بن عقبة وابن أبي ذئب ، ومالك بن أنس ، والليث بن سعد وغيرهم من العالمين بحديثه الضابطين لرواياته المعتنين بأخباره الملازمين له ، من أقوى الحجج وأبين الأدلة وأوضح البراهين على ضعف ما تفرد به وإنكاره ورده وعدم قبوله ، وهل يشك في هذا من شم رائحة الحديث أو كان عنده أدنى بصر به .
هذا مع أن أعرف الناس بهذا الشأن في زمنه وأثبتهم في نافع وأعملهم بأخباره وأضبطهم لحديثه وأشدهم اعتناء بما رواه ، مالك بن أنس إمام دار الهجرة قد نص على كراهية قول القائل زرت قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ولو كان هذا اللفظ معروفاً عنده أو مشروعاً أو مأثوراً عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكرهه ، ولو كان هذا الحديث المذكور من أحاديث نافع التي رواها عن ابن عمر لم يخف على مالك الذي هو أعرف الناس بحديث نافع ، ولرواه عن مالك بعض أصحابه الثقات ، فلما لم يروه عنه ثقة يحتج به ويعتمد عليه علم أنه ليس من حديثه ، وأنه لا أصل له ، بل هو مما أدخل بعض الضعفاء المغفلين في طريقه فرواه وحدث به .(54/18)
وقد قال الحافظ أبو جعفر محمد بن عمر العقيلي في كتاب الضعفاء : موسى بن هلال البصري سكن الكوفة عن عبيد الله بن عمر . لا يصح حديثه ولا يتابع عليه .
حدثنا محمد بن عبد الله الحضرمي ، حدثنا جعفر بن محمد البزوري حدثنا موسى بن هلال البصري عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( من زار قبري وجبت له شفاعتي )) قال أبو جعفر العقيلي والرواية في هذا الباب فيها لين (1).
هذا جميع ما ذكره العقيلي في كتابه ، وقد حكم على الحديث المذكور بعدم الصحة ، وإن رواية لم يتابع عليه ، ولكن قال في روايته عن عبيد الله بالتصغير ، والصحيح عن عبد الله بالتكبير .
قال الحافظ أبو أحمد عبد الله بن عدي في كتاب الكامل في معرفة ضعفاء المحدثين وعلل الأحاديث : موسى بن هلال ثم ذكر هذا الحديث كما رواه البيهقي من طريقه فقال : حدثنا محمد بن موسى الحلواني .
حدثنا محمد بن إسماعيل بن سمرة حدثنا موسى بن هلال بن عبد الله العمري عن نافع ، عن ابن عمر قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( من زار قبري وجبت له شفاعتي )) قال ابن عدي : وقد روي غير ابن سمرة هذا الحديث عن موسى بن هلال فقال : عن عبيد الله، عن نافع ، عن ابن عمر قال ابن عدي : وعبد الله أصح (2).
قلت : وهذا الذي صححه ابن عدي هو الصحيح ، وهو أنه من رواية عبد الله بن عمر العمري الصغير المكبر المضعف ليس من رواية أخيه عبيد الله العمري الكبير المصغر الثقة الثبت ، فإن موسى بن هلال لم يلق عبيد الله فإنه مات قديماً سنة بضع وأربعين ومائة ، بخلاف عبد الله فإنه تأخر دهراً بعد أخيه وبقي إلى سنة بضع وسبعين ومائة .
__________
(1) انظر الضعفاء للعقيلي 4/17 .
(2) انظر الكامل 6/235 .(54/19)
ولو فرض أن الحديث من رواية عبيد الله لم يلزم أن يكون صحيحاً ، فإن تفرد موسى بن هلال به عنه دون سائر أصحابه المشهورين بملازمته وحفظ حديثه وضبطه من أدل الأشياء على أنه منكر غير محفوظ ، وأصحاب عبيد الله بن عمر المعروفين بالرواية عنه مثل يحيى بن سعيد القطان وعبد الله بن نمير ، وابي أسامة حماد بن أسامة وعبد الوهاب الثقفي ، وعبد الله بن المبارك ومعتمر بن سليمان وعبد الأعلى بن عبد الأعلى ، وعلي بن مسهر ، وخالد بن الحارث وأبي ضمرة أنس بن عياض وبشر بن المفضل وأشباههم وأمثالهم من الثقات المشهورين.
فإذا كان هذا الحديث لم يروه عن عبد الله أحمد من هؤلاء الأثبات ، ولا رواه ثقة غيرهم علمنا أنه منكر غير مقبول ، وجزمنا بخطأ من حسنه ، أو صححه بغير علم .
وقد ذكر الإمام أبو محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم محمد بن إدريس الرازي في كتاب " الجرح والتعديل " أن موسى بن هلال روى عن عبد الله العمري ، ولم يذكر أنه يروي عن عبيد الله ثم قال : سألت أبي عنه فقال : مجهول (1) .
وذكر الحافظ أبو الحسن بن القطان في كتاب " بيان الوهم والإبهام " الواقعين في كتاب " الأحكام " لعبد الحق الأشبيلي : أن هذا الحديث الذي رواه موسى بن هلال حديث لا يصح ، وأنكر على عبد الحق سكوته عن تضعيفه ، وقال : أراه تسامح فيه لأنه من الحث والترغيب على عمل ، ثم ذكر كلام أبي حاتم الرازي والعقيلي في موسى ومال إلى قولهما وقال فأما أبو أحمد بن عدي فإنه ذكر هذا الرجل بهذا الحديث ثم قال : ولموسى غير هذا ، وأرجو أنه لا بأس به وقال : وهذا من أبي أحمد قول صدر عن تصفح روايات هذا الرجل لا عن مباشرة لأحواله ، فالحق فيه أنه لم تثبت عدالته ، وإلى هذا فإن العمري قد عهد أبو محمد يعني عبد الحق يرد الأحاديث من أجله كما تقدم ذكره في هذا الباب .
__________
(1) انظر الجرح والتعديل 8/166 .(54/20)
قال ابن القطان : وقد ضعف أبو محمد حديث : (( إنما النساء شقائق الرجال ))(1) في احتلام المرأة من أجل عبد الله بن عمر العمري ، وذكر اختلاف المحدثين فيه ، وكذلك فعل أيضاً في حديث : (( أول الوقت رضوان الله ))(2) فإنه رده من أجله ، وترك في الإسناد متروكاً لا خلاف فيه لم يتعرض له ؛ فكان ذلك عجباً من فعله .
__________
(1) أخرجه الترمذي 1/190 ، والدارمي في كتاب الوضوء باب رقم 76 ، وأحمد 6/256-277 والحديث صحيح بمجموع طرفه .
(2) قال الترمذي رحمه الله 1/322 :
حدثنا أحمد بن منيع حدثنا يعقوب بن الوليد المدني عن عبد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( الوقت الأول من الصلاة روضان الله والوقت الآخر عفوا الله )) ؟
قال أبو عيسى : هذا الحديث غريب .
ولقد أنكر ابن القطان على أبي محمد عبد الحق الأشبيلي كونه أعل الحديث بالعمري وسكت عن يعقوب وقال :ويعقوب هوعلته فإن أحمد قال فيه : كان من الكذابين الكبار وكان يضع الحديث وقال أبو حاتم : كان يكذب الحديث الذي رواه موضوع وابن عدي إنما أعله به وفي بابه ذكره .
قال أحمد شاكر رحمه الله في شرحه على الترمذي 1/322 ومما أزال أعجب منه أن الشافعي رحمه الله يذكر هذا الحديث محتجاً به بدون إسناده ، وهو حديث غير صحيح بل هو حديث باطل كما نص عليه العلماء الحفاظ فيما نقلناه عنهم.
وقال البيهقي في المعرفة : حديث الصلاة في أول الوقت رضوان الله ، إنما يعرف بيعقوب بن الوليد وقد كذبه أحمد بن حنبل وسائر الحفاظ ، قال : وقد روي هذا الحديث بأسانيد كلها ضعيفة 1/322 .
قلت : فالحديث باطل :(54/21)
وكذلك فعل أيضاً في حديث نافع ، عن ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : (( إذا نكح البعد بغير إذن سيده فنكاحه باطل ))(1) فإنه اتبعه أن قال : فيه العمري وهو ضعيف وهذا الذي عمل به في هذا الأحاديث من تضعيفها من أجل العمري هو الأقرب إلى الصواب .
ثم ذكر أنه سكت عن أحاديث من رواية العمري منها ، هذا الحديث المروي عنه في الزيارة ، وذكر أن سكوته عنها غير صواب .
وقد تكلم في عبد الله العمري جماعة من أئمة الجرح والتعديل ، ونسبوه إلى سوء الحفظ والمخالطة للثقات في الروايات .
قال أبو حاتم محمد بن حبان البستي في كتاب المجروحين من المحدثين : عبد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب العمري ، أخو عبيدالله بن عمر من أهل المدينة يروي عن نافع ، روى عنه العراقيون وأهل المدينة ، كان ممن غلب عليه الصلاح والعبادة حتى غفل عن حفظ الأخبار وجودة الحفظ للآثار فوقع المناكير في رواته ، فلما فحش خطوة استحق الترك ومات سنة ثلاث وسبعين ومائة .
__________
(1) حديث (( وإذا نكح العبد بغير إذن سيده فنكاحه باطل )) ابن ماجة 1/630 من حديث ابن عمر لكنه من طريق عبد الله بن محمد بن عقيل والثانية من طريق مندل ، والطالسي 2/152 من حديث جابر وفيه عبد الله بن محمد بن عقيل ، والآخر من حديث ابن عمر، وفيه مند .وأبو داود 2/563 من حديث جابر عن طريق ابن عقيل والآخر من حديث= =ابن عمر وهو من طريق عبد الله العمري المكبر المضعف وقال عقبه :هذا الحديث ضعيف ، وهو موقوف ،وهو قول ابن عمر رضي الله عنه ترجمة ابن عقيل في التهذيب 6/13 .
قال الترمذي :حسن ، وقال الحاكم : صحيح ، وتبع الشيخ ناصر في الإرواء الترمذي فحسنه 6/351 والراجح ضعفه لأنه من طريق ابن عقيل هذا(54/22)
حدثنا الهمداني حدثنا عمرو بن علي قال : كان يحيى بن سعيد لا يحدث عن عبد الله بن عمر ، قال أبو حاتم وهو الذي روى عن نافع ، عن ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا توضأ خلل لحيته ، وروى عن نافع ، عن ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : (( من أتى عرافاً فسأله لم تقبل له صلاة أربعين يوماً ))(1) وروى عن نافع عن ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أسهم للفارس سهمين ، وللراجل سهماً فيما يشبه هذا من المقلوبات ، والملزوقات التي ينكرها من أمعن في العلم وطلبه من مظانه(2) .
وقال أبو عيسى الترمذي في جامعه : وعبد الله بن عمر ضعفه يحيى بن سعيد من قبل حفظه(3) ، وقال البخاري في تاريخه : عبد الله بن عمر بن حفص العمري المدني قرشي كان يحيى بن سعيد يضعفه(4) .
وقال النسائي : في كتاب الكنى : أبو عبد الرحمن عبد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر ضعيف ، وقال العقيلي : حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل قال : سألت يحيى بن معين عن عبد الله بن عمر العمري ، فقال : ضعيف ، حدثنا عبد الله قال : سألت أبي عن عبد الله بن عمر فقال : كذا وكذا .
وقال أبو زرعة الدمشقي ، قيل لأحمد بن حنبل كيف حديث عبد الله بن عمر ، فقال كان يزيد في الأسانيد ويخالف وكان رجلاً صالحاً ، وقد ذكر العقيلي هذا القول عن الإمام أحمد بن حنبل من رواية أبي بكر الأثرم عنه ؛ وروى إسحاق بن منصور عن يحي بن معين ، قال عبد الله بن عمر صويلح ، وقال عبد الله بن علي بن المديني عن أبيه ضعيف .
وقال أبو حاتم الرازي يكتب حديثه ولا يحتج به ، وقال يعقوب بن شيبة : صدوق في حديثه اضطراب ، وقال : صالح بن محمد البغدادي : لين مختلط الحديث ، وقال الحاكم أبو أحمد : ليس بالقوي عندهم .
__________
(1) حديث ( من أتى عرافاً ) رواه مسلم 4/1751 من غير هذه الطريق .
(2) انظر كتاب المجروحين لابن حبان 2/6-7 .
(3) انظر 1/322
(4) وانظر التاريخ الكبير 5/145 .(54/23)
فإذا كانت هذه الحال عبد الله بن عمر العمري عند أهل هذا الشأن ، والراوي عنه مثل موسى بن هلال المنكر الحديث ، فهل يشك من له أدى علم في ضعف ما تفرد به ورده وهل يجوز أن يقال فيما روياه من حديث منفردين به أنه حسن أو صحيح ؟ وهل يقول هذا إلا رجل لا يدري ما يقول .
وقد ذكر هذا الحديث بعض الحفاظ المتأخرين في كتاب كبير له رأيت قطعة منه فقال : حدثنا أبو جعفر محمد بن علي بن دحيم الشيباني بالكوفة ، أبو الحسن علي بن عبد الرحمن بن عيسى بن زيد الكوفي ببغداد ، قالا : حدثنا أبو عمر أحمد بن حازم عن أبي عذرة الغفاري ، أنبأنا موسى بن هلال البصري ، حدثنا عبد الله بن عمر العمري ، عن نافع ، عن ابن عمر قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( من زار قبري وجبت له شفاعتي ) لفظ الحديث وسياقه للشيباني .
قال : وهذا الخبر قد رواه عن موسى بن هلال محمد بن إسماعيل بن سمرة الأحمسي ، ومحمد بن جابر المحاربي ويوسف بن موسى القطان ، وهارون بن سفيان المذكورين ، قال في حديثه : عن عبد الله بن عمر قد ذكرناه بأسانيده في الكتاب الكبير ، ولا نعلم رواه عن نافع إلا العمري ، ولا عنه إلا موسى بن هلال العبدي ، تفرد به والله أعلم ، انتهى كلام هذا الحافظ ، وهو في طبقة أبي عبد الله بن مندة ، وأبي عبد الله الحاكم صاحب المستدرك .(54/24)
والكتاب الذي روي في هذا الحديث ، ووقفت على بعضه يدل على سعة حفظه ورحلته ، ولا يجوز أن يكون هو ابن مندة ، لأن ابن مندة له شيوخ كثيرة وهو معروف بكثرة الرواية عنهم كالأصم ، وابن الأعرابي ، وغيرهما ، ولم يرو مؤلف هذا الكتاب فيه عن واحد منهم فيما وقفت عليه ، ولأن صاحب هذا الكتاب له شيوخ لا يعرف ابن مندة بالرواية عنهم ، وروى في بلاد لم يدخلها ابن مندة كالبصرة وأنطاكية ونصيبين ، ولا يجوز أن يكون الحاكم أبا عبد الله ، لأن رحلة هذا المؤلف أوسع من رحلة الحاكم ، ولأنه دخل إلى بلدان كثيرة لم يدخلها الحاكم كالشام وغيرها ، ولا يجوز أن يكون الحافظ أبا نعيم لتأخره عن هذا .
وفي الجملة مؤلف هذا الكتاب حافظ كبير من بحور الأحاديث ، وقد ذكر في هذا الكتاب من الأحاديث الغريبة والمنكرة والموضوعة شيئاً كثيراً ، وذكر في هذا الباب الذي روي فيه هذا الحديث هو الباب الثلاثون بعد المائتين عدة أحاديث موضوعة لا أصل لها ، وقد ذكر أن هذا الحديث تفرد به موسى بن هلال العمري وذكر أن بعض الرواة قال في حديثه عن : عبد الله وقد ذكرنا أن الأصح رواية من قال عن عبد الله ، وكأن موسى بن هلال حدث به مرة عن عبيد الله فأخطأ ، لأنه ليس من أهل الحديث ولا من المشهورين بنقله ، وهو لم يدرك عبيد الله ولا لحقه فإن بعض الرواة عنه لا يروي عن رجل عن عبيد الله ، وإنما يروي عن رجل عن آخر عن عبيد الله فإن عبيد الله متقدم الوفاة كما ذكرنا ذلك فيما تقدم بخلاف عبد الله فإنه عاش دهراً بعد أخيه عبيد الله ، وكأن موسى بن هلال لم يكن يميز بين عبد الله وعبيد الله ولا يعرف أنهما رجلان فإن لم يكن من أهل العلم ، ولا ممن يعتمد عليه في ضبط باب من أبوابه .(54/25)
فقد تبين أن هذا الحديث أن هذا الحديث الذي تفرد به موسى بن هلال لم يصححه أحد من الأئمة المعتمد على قولهم في هذا الشأن ، ولا حسنه أحد منهم ، بل تكلموا فيه وأنكروه حتى أن النووي ذكر في شرح المهذب إن إسناده ضعيف جداً (1).
وقد تفرد هذا المعترض على شيخ الإسلام بتحسينه أو تصحيحه وأخذ في التشنيع والكلام بما لا يليق الذي بقدر آحاد الناس على مقابلته بمثله وبما هو أبلغ منه ،وجميع ما تفرد به هذا المعترض من الكلام على الحديث وغيره خطأ فاعلم ذلك والله الموفق .
فإن قيل : قد روى الإمام أحمد بن حنبل عن موسى بن هلال ، وهو لا يروي إلا عن ثقة فالجواب أن يقال : رواية الإمام أحمد عن الثقات هو الغالب من فعله ، والأكثر من عمله كما هو المعروف من طريقة شعبة ومالك وعبد الرحمن بن مهدي ، ويحيى بن سعيد القطان وغيرهم وقد يروي الإمام أحمد قليلاً في بعض الأحيان عن جماعة نسبوا إلى الضعف وقلة الضبط على وجه الاعتبار والاستشهاد لا على طريق الاجتهاد والاعتماد مثل روايته عن عامر بن صالح الزبيري(2) ، ومحمد بن القاسم الأسدي(3)
__________
(1) انظر المجموع شرح المهذب 7/203 .
(2) قال الذهبي في الميزان 2/360 عامر بن صالح بن عبد الله بن عروة بن الزبير بن العوام ، واه لعل ما روى أحمد بن حنبل عند أحد أوهى من هذا .. وقال أبو داود : سمعت يحيى بن معين يقول جن أحمد . يحدث عن عامر بن صالح .
وروى أحمد بن محمد بن محرز عن ابن معين قال : كذاب خبيث عدو الله
(3) قال الذهبي في الميزان 4/11 محمد بن القاسم الأسدي الكوفي عن موسى بن عبيدة وطبقته كذبة أحمد بن حنبل والدارقطني وقال عبد الله بن أحمد ذكرت لأبي ما حدثني أبو معمر عن محمد بن القاسم الأسدي .. فقال أبي : محمد بن القاسم أحاديثه موضوعة ليس بشيء .
وقال البخاري : قال أحمد : رمينا حديثه .(54/26)
، وعمر بن هارون البلخي(1) ، وعلي بن عاصم الواسطي(2) ، وإبراهيم بن الليث صاحب الأشجعي(3) ، ويحيى بن يزيد بن عبد الملك النوفلي(4)، ونصر بن باب(5)
وتليد بن سليمان الكوفي(6) ، وحسن بن حسن الأشقر(7)
__________
(1) ترجمته في الميزان 3/228 وقد قال فيه أحمد : عمر بن هارون لا أروي عنه وقد أكثرت عنه ولكن كان عبد الرحمن يقول : لم يكن له قيمة عندي .
(2) ترجمته في الميزان للذهبي 3/136 .
(3) قال الذهبي في الميزان 1/54 إبراهيم بن أبي الليث حدث ببغداد عن عبيد الله الأشجعي متروك الحديث ، قال صالح خزره ، كان يكذب عشرين سنة وأشكل أمره على أحمد وعلي حتى ظهر بعد وقال ابن معين : ثقة لكنه أحمق وقال زكريا الساجي : متروك .
(4) ترجمته في الميزان 4/414 قال أبو حاتم : منكر الحديث لا أدري منه أو من أبيه قال ابن عدي : الضعف على حديثه بين ، قال : قلت : وأبوه مجمع على ضعفه .
(5) ترجمته في الميزان 4/250 قال الذهبي : تركه جماعة البخاري : يرمونه بالكذب ، قال ابن معين ليس حديثه بشيء قال ابن حبان : لا يحتج به قال أحمد بن حنبل : ما كان به بأس إنما أنكروا عليه حين حدث عن إبراهيم الصائغ .
(6) ترجمته في الميزان 1/358 قال فيه أحمد : شيعي لم نر به بأساً .
وقال ابن معين : كذاب يشتم عثمان عقد فوق سطح فتناول عثمان فقام إليه بعد أولاد حوالي عثمان فرماه فكسر رجله .
وقال أبو داود : رافضي يشتم أبا بكر وعمر في لفظ خبيث وقال النسائي : ضعيف .
(7) هو الحسين بن الحسن الأشقر . ترجمته في الميزان .
قال البخاري : فيه نظر وقال أبو زرعة : منكر الحديث وقال أبو حاتم :ليس بالقوي وقال الجوزيجاني : غال شتام للخيرة ، وقال أبو معمر الهذلي : كذاب ، وقال النسائي والدارقطني : ليس بالقوي .(54/27)
، وأبي سعيد الصاغاني(1) ، ومحمد بن مسير ونحوهم ممن اشتهر الكلام فيه ، وهكذا روايته عن موسى بن هلال إن صحت روايته عنه .
ولو فرض أن موسى بن هلال العبدي ، وعبدالله بن عمر العمري من الرواة الثقات الإثبات المشهورين ، والعدول الحفاظ المتقنين الضابطين ، وقدر أن هذا الحديث المروي من طريقهما من الأحاديث الصحيحة المشهورة المتلقاة بالقبول ، لم يكن فيه دليل إلا على الزيارة الشرعية ؛ وتلك لا ينكرها شيخ الإسلام ولا يكرهها بل يندب إليها ويحض عليها ويستحبها وقد قال في الجواب الباهر لمن سأل من ولاة الأمر عما أفتى به في زيادة المقابر.
قد ذكرت فيما كتبته من المناسبات أن السفر إلى مسجده وزيارة قبره كما يذكره أئمة المسلمين في مناسك الحج عمل صالح مستحب ، وقد ذكرت في عدة مناسك الحج السنة في ذلك وكيف يسلم عليه وهل يستقبل الحجرة أو القبلة على قولين فالأكثرون يقولون يستقبل الحجرة كمالك والشافعي وأحمد وأبو حنيفة يقول : يستقبل القبلة ويجعل الحجرة عن يساره في قول وخلفة في قول لأن الحجرة لما كانت خارجة المسجد ، كان الصحابة يسلمون عليه لم يكن يمكن أحد أن يستقبل وجهه ويستدبر القبلة كما صار ذلك ممكناً بعد دخولها في المسجد - إلى أن قال : والصلاة تقصر في هذا السفر المستحب بإجماع المسلمين لم يقل أحد من أئمة المسلمين ، إن هذا السفر لا تقصر فيه الصلاة ولا نهي أحد عن السفر إلى مسجده وإن كان المسافر إلى مسجده يزور قبره - صلى الله عليه وسلم - ، بل هذا من أفضل الأعمال الصالحة .
__________
(1) الصوابة وأبي سعيد الصاغاني محمد بن ميسرة ، قالوا وهنا خطأ مطبعي ، راجع الأنساب للسمعاني 8/69 ، ترجمته في الميزان 4/52 ، وقال يحي بن معين : كان جهمياً شيطاناً ليس بشيء وقال النسائي : متروك ، وقال الدارقطني : ضعيف وقال أحمد : صدوق مرجئ وقال البخاري : فيه اضطراب .(54/28)
ولا في شيء من كلامي وكلام غيري نهي عن ذلك ، ولا نهي عن المشروع في زيارة قبور الأنبياء والصالحين ، ولا عن المشروع في زيارة سائر القبور ، بل قد ذكرت في غير موضع استحباب زيارة القبور كما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يزور أهل البقيع وشهداء أحد ويعلم أصحابه إذا زاروا القبور أن يقول قائلهم : السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين ، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون(1) . ويرحم الله المتقدمين منا ومنكم والمستأخرين ، ونسأل الله لنا ولكم العافية ، اللهم لا تحرمنا أجرهم ولا تفتتنا بعدهم واغفر لنا ولهم .
__________
(1) الحديث أخرجه مسلم 7/40 والنسائي 4/93 وأحمد 6/180 من حديث عائشة وورد في حديث أبي هريرة أخرجه مسلم 3/137 وأبو داود 3/559 والنسائي 1/94 وورد من حديث بريدة أخرجه مسلم 7/44 .(54/29)
وإذا كانت زيارة قبور عموم المؤمنين مشروعة فزيارة قبور الأنبياء والصالحين أولى لكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - له خاصة ليست لغيره من الأنبياء والصالحين وهو أنا أمرنا أن نصلي ونسلم عليه في كل صلاة(1) ، وشرع ذلك في الصلاة وعند الأذان(2) وسائل الأدعية ، وأن نصلي ونسلم عليه عند دخول المسجد ومسجده وغير مسجده ، وعند الخروج(3) منه وكل من دخل مسجده فلا بد أن يصلي فيه ويسلم عليه في الصلاة ، والسفر إلى مسجده مشروع لكن العلماء فرقوا بينه وبين غيره حتى كره مالك أن يقال : زرت قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - لأن المقصود الشرعي بزيارة القبور السلام عليهم والدعاء لهم ، وذلك السلام والدعاء فقد حصل على أكمل الوجوه في الصلاة في مسجده وغير مسجده وعند سماع الأذان وعند كل دعاء فشرع الصلاة عليه عند كل دعاء(4) فإنه أولى بالمؤمنين من أنفسهم .
__________
(1) يشير إلى أحاديث التشهد في الصلاة . منها حديث ابن مسعود أخرجه مسلم .
(2) يشير إلى حديث عبد الله بن عمرو بن العاص بلفظ ( إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثلما يقول ثم صلوا علي .. ) رواه مسلم 1/288 ، وأبو داود 1/359 ، وأحمد 2/168 ، والنسائي 2/25 والترمذي 10/83 تحفة وأبو عوانة 1/337 والبيهقي 1/409-410 .
(3) راجع رسالتنا ( اتحاف الراكع الساجد في أذكار الدخول والخروج من المساجد ) .
(4) ويشير إلى حديث فضالة بن عبيد أنه قال : سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً يدعوا في الصلاة ولم يذكر الله عز وجل ولم يصل على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى آله وسلم فقال رسول الله : عجل هذا ثم دعاه وقال له ولغيره : إذا صلى أحدكم فليبدأ بتحميد ربه والثناء عليه ثم ليصل على النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ثم ليدع بعد بما شاء ، رواه أحمد 6/18 ورواه أبو داود 2/162 ، والنسائي 3/44 والترمذي 9/449 ، تحفة وابن السني في عمل اليوم والليلة 111.(54/30)
ولهذا يسلم المصلي عليه في الصلاة قبل أن يسلم على نفسه وعلى سائر عباد الله الصالحين فيقول : السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته ، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين(1) ، ويصلي عليه فيدعو له قبل أن يدعو لنفسه ، وأما غيره فليس عنده مسجد فيستحب السفر إليه كما يستحب السفر إلى مسجده ، وإنما يشرع أن يزار قبره كما شرعت زيارة القبور ، وأما هو فيشرع السفر إلى مسجده ، وينهي عما يوهم أنه سفر إلى غير المساجد الثلاثة .
ويجب الفرق بين الزيارة الشرعية التي سنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبين البدعية التي لم يشرعها ، بل نهى عنها مثل اتخاذ قبور الأنبياء والصالحين مساجد ، والصلاة إلى القبر واتخاذه وثناً(2) ، وقد ثبت في الصحيحين عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : (( لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام ومسجدي هذا والمسجد الأقصى ))(3) حتى إن أبا هريرة سافر إلى الطور الذي كلم الله عليه موسى بن عمران عليه السلام فقال له بصرة بن أبي بصرة الغفاري : لو أدركتك قبل أن تخرج لما خرجت ، سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : (( لا تعمل المطي إلا إلى ثلاث مساجد : المسجد الحرام ومسجدي هذا ، ومسجد بيت المقدس )) (4)
__________
(1) يشير رحمه الله تعالى إلى التشهد .
(2) قلت وكذلك الزيارة التي يحصل فيها الذبح فوق القبور ودعاء الأموات وطلب الحاجات منهم فهذا يعتبر شركاً والزيارة شركية .
(3) تقدم برقم ( 8 ) .
(4) رواه أحمد 6/7 بسند صحيح و 3/64 ، 69 من حيث أبي سعيد الخدري وفي مسنده شهر بن حوئب=
=فائدة : وقع في مسند الإمام أحمد 6/7 قرأت على عبد الرحمن مالك عن يزيد لعل الصوابت ( قرأت علي عبد الرحمن عن مالك .. ) كما في ترجمة عبد الرحمن بن مهدي وترجمة مالك بن أنس في تهذيب التهذيب ، ثم أن الصحيح أنه من مسند أبي بصرة الغفاري ، راجع صحيح الجامع رقم 7248 وأحكام الجنائز ص224 وما بعدها فإنه بحث نفيس جداً .
وروى هذه القصة مطولة النسائي . 3/113 .(54/31)
.
فهذه المساجد شرع السفر إليها لعبادة الله فيها بالصلاة والقراءة والذكر والدعاء والاعتكاف والمسجد الحرام يختص بالطواف لا يطاف بغيره ، وما سواه من المساجد إذا أتاها الإنسان وصلى فيها من غير سفر كان ذلك من أفضل الأعمال كما ثبت في الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : (( من تطهر في بيته ثم خرج إلى المسجد كانت خطواته إحداهما تحط خطيئة والأخرى ترفع درجة ، والعبد في صلاة ما دام ينتظر الصلاة ، والملائكة تصلي على أحدكم ما دام في مصلاه الذي صلى فيه ، اللهم اغفر له اللهم أرحمه ما لم يحدث ))(1).
ولو سافر من بلد إلى بلد مثل أن يسافر إلى دمشق من مصر لأجل مسجدها ، أو بالعكس ، أو يسافر إلى مسجد قباء من بلد بعيد لم يكن هذا مشروعاً باتفاق الأئمة الأربعة وغيرهم ، ولو نذر ذلك لم يف بنذره باتفاق الأئمة الأربعة وغيرهم إلا خلاف شاذ عن الليث بن سعد في المساجد .
__________
(1) أخرجه البخاري من حديث أبي هريرة 1/564 و 2/131 و 4/338 ومسلم 1/459 و 1/453 من حديث عبد الله بن مسعود .(54/32)
وقاله ابن مسلمة من أصحاب مالك في مسجد قباء فقط ، ولكن إذا أتى المدينة استحب له أن يأتي مسجد قباء ويصلي فيه ، لأن ذلك ليس بسفر ولا بشد رحل فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يأتي مسجد قباء راكباً وماشياً كل سبت ويصلي فيه ركعتين(1) وقال : (( من تظهر في بيته ثم أتى مسجد قباء كان له كعمرة )) (2) رواه الترمذي وابن أبي شيبة ، وقال سعد بن أبي وقاس ، وابن عمر : صلاة فيه كعمرة ، ولو نذر(3)
__________
(1) رواه البخاري 3/68-69 فتح و 13/313 ومسلم 2/1016-1017 وأبو داود 2/533-534 والنسائي 2/37 كلهم من حديث ابن عمر .
(2) رواه الترمذي 2/146 من حديث أسيد بن ظهير الأنصاري وفي سنده أبي الأبرد وهو مقبول كما في التقريب وابن ماجة 1/542 ، ورواه النسائي 2/37 من حديث أبي أمامة سهل بن حنيف وفي سنده= =محمد بن سليمان الكرماني وهو مقبول كما في التقريب ، وابن ماجة 1/453 فالحديث بمجموع الطرق حسن .
(3) إن كان يقصد أنه إذا نذر السفر فواجب بالنذر فنعم ، وإن قصد الوفاء بالنذر أي الذهاب مشياً على الأقدام فقد وردد النهي عن ذلك من حديث أنس أن النبي رأى شيخاً يهاوى بين أبنية قال : ما بال هذا ؟ قالوا: نذر أن يمشي قال : إن الله عن تعذيب هذا نفسه لغني ، وأمره أن يركب ، أخرجه البخاري 4/78 و 11/585 ومسلم 3/1264 والترمذي 4/111 والدارمي 2/184 .
ومن حديث عقبة بن عامر قال : ( نذرت أختي أن تمشي إلى بيت الله وأمرتني أن استفتي لها النبي - صلى الله عليه وسلم - (( لتمشي ولتركب 4/79 ومسلم 3/1264 والترمذي 4/111 ))(54/33)
المشي إلى مكة للحج والعمرة لزمه باتفاق المسلمين ، ولو نذر أن يذهب إلى مسجد المدينة أو بيت المقدس ففيه قولان : أحدهما ليس عليه الوفاء ، وهو قول أبي حنيفة وأحد قولي الشافعي ، لأنه ليس من جنسة ما يجب بالشرع ، والثاني عليه الوفاء بنذره ، وهو مذهب مالك وأحمد بن حنبل والشافعي في قوله الآخر ، لأن هذا طاعة لله ، وقد ثبت في صحيح البخاري ، عن عائشة ، عن البني - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : (( من نذر أن يطيع الله فليطعه ، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصيه )) (1).
ولو نذر السفر إلى غير المساجد أو السفر إلى مجرد قبر نبي ، أو صالح لم يلزمه الوفاء بنذر باتفاقهم ، فإن هذا السفر لم يأمر به النبي - صلى الله عليه وسلم - ، بل قد قال : (( لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد ))(2) وإنما يجب بالنذر ما كان طاعة ، وقد صرح مالك وغيره بأن من نذر السفر إلى المدينة النبوية إن كان مقصوده الصلاة في مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - وفى بنذره ، وإن كان مقصوده مجرد زيارة القبر من غير صلاة في المسجد لم يف بنذره ، قال : لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : (( لا تعمل المطي إلا إلى ثلاثة مساجد ))(3) .
والمسألة ذكرها إسماعيل بن إسحاق في المبسوط ، ومعناها في المدونة والجلاب وغيرهما من كتب أصحاب مالك يقول : إن من نذر إتيان مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - لزمه الوفاء بنذره ؛ لأن المسجد لا يؤتي إلا للصلاة ، ومن نذر إتيان المدينة النبوية فإن كان قصده الصلاة في المسجد وفى بنذره ، وإن قصد شيئاً آخر مثل زيارة من بالبقيع أو شهداء أحد لم يف بنذره ؛ لأن السفر إنما يشر إلى المساجد الثلاثة .
__________
(1) رواه البخاري 11/585 ، وأبو داود 3/593 والترمذي 4/104 والنسائي 7/17 وابن ماجة 1/687 والدارمي 2/184 وأحمد 6/36 ، 41 ، 224 كلهم من حديث عائشة .
(2) تقدم صفحة ( 19 ) حاشية ( 1 )
(3) تقدم صفحة ( 32 ) حاشية ( 3 ) .(54/34)
وهذا الذي قاله مالك وغيره ما علمت أحد من أئمة المسلمين قال بخلافه ، بل كلامهم يدل على موافقته .
وقد ذكر أصحاب الشافعي وأحمد في السفر لزيارة القبور قولين : التحريم والإباحة . وقدماؤهم وأئمتهم قالوا : إنه محرم وكذلك أصحاب مالك وغيرهم ، وإنما وقع النزاع بين المتأخرين لأن قوله - صلى الله عليه وسلم - : (( لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد ))(1) صيغة خبر ، ومعناه النهي فيكون حراماً .
وقال بعضهم : ليس بنهي ، وإنما معناه أنه لا يشرع وليس بواجب ولا مستحب ، بل مباح كالسفر في التجارة وغيرها ، فيقال : تلك الأسفار لا يقصد بها العبادة ، بل يقصد بها مصلحة دنيوية ، والسفر إلى القبور إنما يقصد به العبادة ، والعبادة إنما تكون بواجب أو مستحب .
__________
(1) تقدم صفحة 19 حاشية ( 1 ) .(54/35)
فإذا حصل الاتفاق على أن السفر إلى القبور ليس بواجب ولا مستحب كان من فعله على وجه التعبد مبتدعاً مخالفاً للاجتماع ، والتعبد بالبدعة ليس بمباح ، لكن من لم يعلم أن ذلك بدعة ، فإنه قد يعذر ، فإذا تبينت له السنة لم يجز له مخالفة النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا التعبد بما نهى عنه ، كما لا يجوز الصلاة عند طلوع الشمس ولا عند غروبها (1)، وكما لا يجوز صوم يومي العيدين(2) ، وإن كانت الصلاة والصيام من أفضل العبادات ، ولو فعل ذلك إنسان قبل العلم بالسنة لم يكن عليه إثم .
__________
(1) يشير إلى قول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم : (( لا صلاة بعد الصبح حتى ترتفع الشمس ولا صلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس )) أخرجه البخاري 2/60-61 فتح ومسلم 1/566-567 متن من حديث ابن عمر وأبي سعيد الخدري وأبي هريرة . راجع ارواء العليل 2/236 وصحيح الجامع 7386 .
(2) يشير إلى ما رواه البخاري 4/238-241 ، فتح ومسلم 3/799-800 من حديث عمر وأبي سعيد وأبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم : (( نهى عن صوم يوم الفطر والنحرة)) راجع الإرواء 4/924 وصحيح الجامع 6839 .(54/36)
فالطوائف متفقة على أنه ليس مستحباً ، وما علمت أحد أحداً من أئمة المسلمين قال : إن السفر إليها مستحب ، وإن كان قاله بعض الأتباع فهو ممكن ، وأما الأئمة المجتهدون فما منهم من قال هذا ، وإذا قيل هذا كان قولاً ثالثاً في المسألة ، وحيئنذ فبين لصاحبه أن هذا القول خطأ مخالف للسنة ولإجماع الصحابة ، فإن الصحابة في خلافة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي ، وبعدهم إلى انقراض عصرهم لم يسافر أحد منهم إلى قبر نبي ولا رجل صالح ، وقبر الخليل عليه السلام بالشام لم يسافر إليه أحد منهم من الصاحبة وكانوا يأتون بيت المقدس ويصلون فيه ولا يذهبون إلى قبل الخليل ولم يكن ظاهراً ، بل كان في البناء الذي بناه سليمان عليه السلام ؛ ولا كان قبر يوسف يعرف ، ولكن أظهر ذلك بعد أكثر من ثلاثمائة سنة من الهجرة ، ولهذا وقع فيه نزاع فكثير من أهل العلم ينكره ، ونقل ذلك عن مالك وغيره ، لأن الصحابة لم يكونوا يزورنه فيعرف ، ولما استولى النصارى على الشام نقبوا البناء الذي كان على الخليل واتخذوا المكان كنيسة ، ثم لما فتح المسلمون البلد بقي مفتوحاً .(54/37)
وأما على عهد الصحابة فكان قبر الخليل عليه السلام مثل قبر نبينا - صلى الله عليه وسلم - ، ولم يكن أحد من الصحابة يسافر إلى المدينة لأجل قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - ، بل كانوا يأتون فيصلون في مسجده ويسلمون عليه في الصلاة ويسلم من يسلم عند دخول المسجد والخروج منه وهو مدفون في حجرة عائشة فلا يدخلون الحجرة ولا يقفون خارجاً عنها في المسجد عند السور(1) ، وكان يقدم في خلافة أبي بكر وعمر امتداد اليمن الذين فتحوا الشام والعراق، وهم الذين قال الله فيهم : { فَسَوْفَ 'دAù'tƒ اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ } (المائدة 054)
ويصلون في مسجده كما ذكرنا(2) ، ولم يكن أحد يذهب إلى القبر ولا يدخل الحجرة ولا يقوم خارجها في المسجد ، بل السلام عليه من خارج الحجرة ؛ وعمدة مالك وغيره في علي فعل ابن عمر .
__________
(1) قلت : أما الآن فقد أصبح الناس يقبلون الشبك ويتمسحون به ويربطون عرضه الخيوط بنبات فاسدة منهم من يقصد أن ذلك العمل يجعله يعود السنة القادمة ومنهم من أجل= =ألا يحدث بينه وبين زوجته شقاق وطلاق ومنهم من أجل أن يتزوج ومنهم من أجل المحبة وهلم جرا وبعضهم يكتب رسالة ويرسلها مع الحاج أو المعتمر وهو بدوره يرميها إلى جانب القبر وفيها الشركيات والاستغاثات وطلب الحاجات ، وهكذا في سور مقبرة البقيع يفعل مثل هذا بل رأيت كثيراً من الجهال وخصوصاً من= =الأعاجم من يبقى الساعات الطوال متجهاً إلى القبر ، وهذا من خارج المسجد رافعاً يديه يدعو وخصوصاً الإيرانيون .
(2) أخرجه البخاري 8/492 و 10/433 و 12/86 و 12/187 و 13/491 ومسلم 1/90 وأبو داود 2/732 والترمذي 5/336 والنشائي 7/89 .(54/38)
وبكل حال فهذا القول لو قاله نصف المسلمين لكان له حكم أمثاله من الأقوال في مسائل النزاع ، أما أن يجعل هو الذي الحق ويستحل عقوبة من خالفه أو يقال بكفره فهذا خلاف اجماع المسلمين ،وخلاف ما جاء به الكتاب والسنة ، فإن كان المخالف للرسول في هذه المسألة يكفر ؛ فالذي خالف سنته وإجمال الصحابة وعلماء أمته فهو الكافر ونحن نكفر أحداً من المسلمين بالخطأ لا في هذه المسائل ، ولا في غيرها لكن إن قدر تكفير المخطئ فمن خالف الكتاب والسنة واجماع الصحابة والعلماء أولى بالكفر ممن وافق الكتاب والسنة والصحابة وسلف الأمة وأئمتها .
فأئمة المسلمين فرقوا بين ما أمر به النبي - صلى الله عليه وسلم - وبين ما نهى عنه في هذا وغيره ؛ فما أمر به هو عبادة وطاعة وقربة ، وما نهى عنه بخلاف ذلك ، بل قد يكون شركاً كما يفعله أهل الضلال من المشركين وأهل الكتاب من ضاهاهم حيث يتخذون المساجد على قبور الأنبياء والصالحين ويصلون إليها وينذرون لها ويحجون إليها ، بل قد يجعلون الحج إلى بيت المخلوق أفضل من الحج إلى بيت الله الحرام ، ويسمونه ذلك الحج الأكبر ، وصنف لهم شيوخهم في ذلك مصنفات كما صنف المفيد بن النعمان كتاباً في مناسك المشاهد سماه مناسك حج المشاهد ، وشبه بيت المخلوق ببيت الخالق .
وأصل دين الإسلام أن نعبد الله وحده ولا نجعل له من خلقه نداً ولا كفواً ولا سمياً قال تعالى { فَاعْبُدْهُ ِژة9sـô¹$#ur لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا } (مريم 065) وقال : { وَلَمْ يَكُنْ لَهُ #³qàےà2 7‰xmr& } (الإخلاص 004) وقال : { لَيْسَ ¾دmد=÷WدJx. شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ مژچإءt7ّ9$# } (الشورى 011) وقال : { فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا } (البقرة 022)(54/39)
وفي الصحيحين عن ابن مسعود قال: قلت يا رسول الله : أي الذنب أعظم ؟ قال : ((أن تجعل لله نداً ، وهو خلقك )) قلت : ثم أي ؟ قال : (( أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك )) قلت : ثم أي ؟ قال : (( أن تزني بحليلة جارك ))(1) .
وقال تعالى : { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ (#ûqمZtB#uن أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ } (البقرة 165) فمن سوى بين الخالق والمخلوق في الحب له والخوف منه والرجاء له فهو مشرك .
والنبي - صلى الله عليه وسلم - نهى أمته عن دقيق الشرك وجليله حتى قال - صلى الله عليه وسلم - : (( من حلف بغير الله فقد أشرك ))(2) رواه أبو داود وغيره ، وقال له رجل ما شاء الله وشئت فقال : أجعلتني لله نداً ، بل ما شاء الله وحده(3) ، وقال : (( لا تقولوا ما شاء الله وشاء محمد ، ولكن قولوا ما شاء الله ثم شاء محمد ))(4) .
وجاء معاذ بن جبل مرة فسجد له فقال له : (( ما هذا يا معاذ ؟ )) فقال : يا رسول الله رأيتهم في الشام يسجدون لأساقفتهم فقال : (( يا معاذ إنه لا يصلح السجود إلا لله ولو كان آمراً أحداً أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها من عظم حقه عليها ))(5)
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب التفسير في تفسير البقرة والأدب باب رقم 20 والتوحيد باب رقم 20 والديات باب رقم (1 ) ، وأخرجه أيضاً في مواضع أخرى ورواه مسلم 1/90 ورواه أبو داود في الطلاق باب رقم 50 والترمذي في التفسير .
(2) حديث صحيح وسيأتي الكلام عليه تحت رقم 728 وانظر تخريجه موسعاً في تحقيقنا للواسطة بين الحق والخلق .
(3) حديث صحيح وسيأتي في الكلام عليه صفحة 338 حاشية (1 )
(4) حديث صحيح وسيأتي الكلام عليه صفحة 338 حاشية (1 ) .
(5) حديث معاذ رواه أحمد 5/227 ، 228 وهو ضعيف لأنه جاء من طريق أبي ظبيان عن رجل عن معاذ فعلم أن الحديث يدور على مبهم . =
=لكن أصل الحديث رواه الترمذي من حديث أبي هريرة والحاكم عن بريدة وأحمد وابن ماجه وابن حيان عن عبد الله بن أبي طالب أوفي والحديث بمجموع طرقه ثابت .(54/40)
.
فلهذا فرق النبي صلى الله عليه وسلم بين زيارة أهل التوحيد وبين زيارة أهل الشرك : فزيارة أهل التوحيد لقبور المسلمين تتضمن السلام عليهم والدعاء لهم وهو مثل الصلاة على جنائزهم ، وزيارة أهل الشرك تتضمن أنهم يشبهون المخلوق بالخالق : ينذرون له ويسجدون له ويدعونه ويحبونه مثل ما يحبون الخالق فيكونون قد جعلوه لله نداً وسووه برب العالمين .
وقد نهى الله أن يشرك به الملائكة والأنبياء وغيرهم فقال تعالى : { مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (79) وَلَا ِNن.uچمBù'tƒ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ حچّےن3ّ9$$خ/ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ tbqكJد=َ،-B } (آل عمران 079-080) وقال تعالى : { قُلِ (#qممôٹ$# الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا ڑcqن3د=ôJtƒ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا (56) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ ـ>uچّ%r& وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا } (الإسراء 056-057)
قال طائفة من السلف : كان أقوام يدعون الأنبياء كالمسيح وعزيز ويدعون الملائكة فأخبرهم الله تعالى أن هؤلاء عبيدة يرجون رحمة ويخافون عذابه ويتقربون إليه بالأعمال ونهى سبحانه أن يضرب له مثل بالمخلوق فلا يشبه بالمخلوق الذي يحتاج إلى الأعوان والحجاب ونحو ذلك ، قال تعالى : { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي سةi_tم 'دoTخ*sù ë=ƒحچs% أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ (#qç6إftGَ،uٹù=sù لِي وَلْيُؤْمِنُوا 'د1 لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ }
(البقرة 186)(54/41)
وقال تعالى : { قُلِ (#qممôٹ$# الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا ڑcqà6د=ôJtƒ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي دN¨uq"yJ،،9$# وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ 78ِژإ° وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22) وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ } (سبأ 022-023)
وسيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - سيد الشفعاء لديه ، وشفاته أعظم الشفاعات(1) وجاهه عند الله أعظم الجاهات ، ويوم القيامة إذا طلب الخلق الشفاعة من آدم ، ثم من نوح ، ثم من إبراهيم ، ثم من موسى ، ثم من عيسى كل واحد حيلهم على الآخر ، فإذا جاءوا إلى المسيح يقول : اذهبوا إلى محمد عبد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر . قال : ((فأذهب فإذا رأيت ربي خررت له ساجداً ، وأحمد ربي بمحامد يفتحها علي لا أحسنها الآن فيقال : أي محمد ارفع رأسك ، قل يسمع سل تعطه ، واشفع تشفع قال : فيحد لي حداً فأدخلهم الجنة ))(2) .
__________
(1) قد ألف الشيخ مقبل بن هادي الوادعي حفظه الله تعالى رسالة في الشفاعة وهي مطبوعة فلتراجع فإنها فريدة في بابها ، فجزاه الله خيراً .
(2) في التوحيد لابن خزيمة ص253 ، ص300 وراجع الشفاعة للشيخ مقبل ص53-55 .(54/42)
فمن أنكر شفاعة نبينا - صلى الله عليه وسلم - في أهل الكبائر فهو مبتدع ضال كما ينكرها الخوارج والمعتزلة ، ومن قال : إن مخلوقاً يشفع عند الله بغير إذنه فقد خالف إجماع المسلمين ونصوص القرآن ، قال تعالى : { مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ } (البقرة 255) وقال تعالى : { وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى } (الأنبياء 028) وقال تعالى : { وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي دN¨uq"yJ،،9$# لَا سة_َّè? شَفَاعَتُهُمْ $¸"ّx© إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى } (النجم 026) وقال تعالى : { وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا (108) يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ ك`"uH÷qچ9$# وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا } (طه 108-109) وقال تعالى : { مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ } (يونس 003) وقال تعالى : { مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ 5c'ح<ur وَلَا شَفِيعٍ } (السجدة 004) ومثل هذا في القرآن كثير .
فالدين هو متابعة النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن يؤمر بما أمر به وينهي عما نهى عنه ، ويحب ما أحبه الله ورسوله من الأعمال والأشخاص ، ويبغض ما أبغضه الله ورسوله من الأعمال والأشخاص ، والله سبحانه وتعالى قد بعث رسوله محمداً - صلى الله عليه وسلم - بالفرقان ففرق بين هذا وهذا فليس لأحد أن يجمع بين ما فرق الله بينه ، فمن سافر إلى المسجد الحرام أو المسجد الأقصى أو مسجد الرسول - صلى الله عليه وسلم - فصلى في مسجده ، وصلى في مسجد قباء وزار القبور كما مضت به سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فهذا هو الذي عمل العمل الصالح ، ومن أنكر هذا السفر هو كافر يستتاب ، فإن تاب وإلا قتل .(54/43)
وأما من قصد السفر لمجرد زيارة القبر ، ولم يقصد الصلاة في مسجده وسافر إلى مدينته فلم يصل في مسجده - صلى الله عليه وسلم - ولا سلم عليه في الصلاة ، بل أتى القبر ، ثم رجع فهذا مبتدع ضال مخالف لسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولإجماع أصحابه ولعلماء أمته ، وهو الذي ذكر فيه القولان : أحدهما : أنه محرم ، والثاني أنه لا شيء عليه ولا أجر له ، والذي يفعله علماء المسلمين ، وفي الصلاة ، وهذا مشروع باتفاق المسلمين ، قد ذكرت هذا في المناسك وفي الفتيا وذكرت أنه يسلم على النبي - صلى الله عليه وسلم - وعلى صاحبيه ، وهذا الذي لم أذكر فيه نزاعاً في الفتيا مطلقاً كما نقل ذلك عن إبراهيم النخعي والشعبي ، ومحمد بن سرين ، وهؤلاء من أجله التابعين ، ونقل ذلك عن مالك(1) ، وعنه أنها مباحة ليست مستحبة ، وأما إذا قدر من أتى المسجد فلم يصل فيه ، ولكن أتى القبر ، ثم رجع ، فهذا هو الذي أنكر الأئمة كمالك وغيره ، وليس هذا مستحباً عند أحد من العلماء ، وهو محل النزاع هل هو حرام أو مباح ، وما علمنا أحد من علماء المسلمين استحب مثل هذا والله أعلم .
قال المعترض
الحديث الثاني : (( من زرار قبلي حلت له شفاعتي )) رواه الإمام أبو بكر أحمد بن عمرو بن عبد الخالق البزار في مسنده قال : حدثنا قتيبة ، حدثنا عبد الله بن إبراهيم ، حدثنا عبد الرحمن بن زيد ، عن أبيه ، عن ابن عمر ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : (( من زار قبري حلت له شفاعتي )) . قال وهذا هو الحديث الأول بعينه وكذلك عزاه عبد الحق إلى الدارقطني(2) والبزاز(3) جميعاً ، إلا أن في الحديث الأول ( وجبت ) وفي هذا ( حلت ) ، فلذلك أفردته بالذكر ، هكذا قال المعترض .
__________
(1) والصحيح أنها مستحبة بشرط خلوها من البدع والشركيات .
(2) انظر سنن الدارقطني 2/278 .
(3) انظر كشف الأستار للهيثمي 2/57 .(54/44)
ثم ذكر كلاماً كثيراً لا حاجة إلى ذكره ليعظم حجم الكتاب(1) فقال : وقد نقلته من نسخة معتمدة سمعها الحافظ القاضي أبو علي الحسين بن محمد الصدفي على الشيخ الفقيه صاحب الإحكام أبي محمد عبد الله بن محمد بن إسماعيل بن فورتش في سنة ثمانين وأربعمائة بسرقسطة ، وعليها خط أبي محمد عبد الله بن فورتش بسماع الصدفي عليه ، وأنه حدث بها عن الشيخ أبي عمر أحمد بن عمر بن أحمد بن محمد المقري الطلمنكي إجازة ، أنبأنا أبو عبد الله محمد بن أحمد بن يحي بن مفرج ، حدثنا أبو الحسن محمد بن أيوب بن حبيب بن يحي الرقي الصموت ، حدثنا أبو بكر أحمد بن عمرو بن عبد الخالق البزار ، وعلى هذه النسخة إنها قوبلت بأصل القاضي أبي عبد الله بن مفرج الذي فيه سماعه على الرقي محمد بن أيوب ، وأكثر أصل ابن مفرج بخط الرقي ، وقد حدث القاضي أبو علي الصدفي بهذه النسخة مرات ، وعليها الطباق عليه ، وممن قرأها على الصدفي محمد بن خلف بن سليمان بن فتحون في سنة ثلاث وخمسمائة ، وقد حدث بهذه النسخة أيضاً الفقيه العالم المتقن أبو محمد بن حوط الله قرأها عليه محمد بن محمد بن سماعة في سنة ست وستمائة بمرسية ، وفورتش بضم الفاء بعدها وأو ساكنة ، ثم راء ساكنة ، ثم تاء مثناة من فوق ثم شين معجمة .
وهكذا أطال المعترض عقب الحديث المذكور بمثل هذا الحشو الذي لا يحتاج إلى ذكره في هذا الموضع وله مثل هذا الفعل في هذا الكتاب الذي جمعه كثير ولو ذكر بدل هذا الحشو ما يتعلق بعلة الحديث وتحرير القول في إسناده لكان أحسن وأولى ، وإنما ذكرت مثل هذا عن هذا المعترض ، وإن كان فيه تطويل للتنبيه على أنه يطول بمثله الكلام على الأحاديث في كثير من المواضع .
__________
(1) قلت وليلبس على من لا علم له بالحديث وعلله .(54/45)
وأعلم أن هذا الحديث الذي ذكره من رواية البزار حديث ضعيف منكر ساقط الإسناد لا يجوز الاحتجاج بمثله عند أحد من أئمة الحديث وحفاظ الأثر كما سنبين ذلك إن شاء الله تعالى ، وقتيبة شيخ البزار هو ابن المرزبان ، روى عنه غير هذا الحديث ، وأما عبد الله بن إبراهيم فهو ابن أبي عمرو الغفاري أبو محمد المدني يقال إنه من ولد أبي ذر الغفاري ، وهو شيخ ضعيف الحديث جداً منكر الحديث وقد نسبه بعض الأئمة إلى الكذب ووضع الحديث(1) نعوذ بالله من الخذلان .
قال أبو داود هو شيخ منكر الحديث ، وقال الدارقطني : حديثه منكر ، وقال الحاكم أبو عبد الله : يروي عن جماعة من الثقات أحاديث موضوعة لا يرويها عنهم غيره ، وقال البزار عقب روايته حديثه هذا : وعبد الله بن إبراهيم حديث بأحاديث لا يتابع عليها(2) ، وقال أبو حاتم بن حبان البستي : عبد الله بن أبي عمر الغفاري شيخ يروي عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم وأهل المدينة واسم أبيه إبراهيم .
روى عنه سلمة بن شبيب والناس كان ممن يأتي عن الثقات بالمقلوبات وعن الضعفاء بالملزوقات ، روى عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه عن ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ما جزت ليلة أسري بي من سماء إلى سماء إلا رأيت اسمي مكتوباً محمد رسول الله ، أبو بكر الصديق ، وهذا خبر باطل فليس أدري البلية فيه منه ، أو من عبد الرحمن بن زيد بن أسلم على أن عبد الرحمن بن زيد ، ليس هذا من حديثه بمشهور ، فكأن القلب إلى أنه من عمل عبد الله بن إبراهيم بن أبي عمرو أميل (3).
__________
(1) انظر كشف الأستار للهيثمي 2/57 ، قلت وهذا من معايب السبكي حيث أنه ينقل ما يوافقه ويترك ما لا يوافقه فهو قد نقل الحديث من البزار فلم ينقل البزار حول عبد الله بن إبراهيم هذا .
(2) انظر المجروحين لابن حبان 2/36 ، وراجع أيضاً الميزان للذهبي 2/288 .
(3) 4/1506 - 1508 .(54/46)
وقد ذكر ابن عدي في كتاب الكامل ، هذا الحديث الذي ذكره ابن حبان أنه باطل وجعله من مسند أبي هريرة فقال : حدثنا موسى بن هارون النوزي ، حدثنا الحسن بن عرفة ، حدثنا عبد الله بن إبراهيم الغفاري ، عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن سعيد بن أبي سعيد ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (( عرج بي إلى السماء فما مررت بسماء إلا وجدت فيها اسمي محمد رسول الله وأبو بكر الصديق خلفي )) قال ابن عدي : هذا الحديث عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم لا يرويه عنه غير عبد الله بن إبراهيم .
وذكر ابن عدي لعبد الله بن إبراهيم أحاديث كثيرة منكرة ، بل موضوعة ، ثم قال : وعامة ما يرويه لا يتابعه عليه الثقات (1).
وقال العقيلي : عبد الله إبراهيم الغفاري كان يغلب على حديثه الوهم .
وأما عبد الرحمن بن زيد بن أسلم فهو ضعيف غير محتج به عند أهل الحديث ، قال الفلاس : لم أسمع عبد الرحمن بن مهدي يحدث عنه ، وقال أبو طالب عن أحمد بن حنبل : ضعيف ، وقال عباس الدوري عن يحيى بن معين :ليس حديثه بشيء ، وقال البخاري وأبو حاتم الرازي ضعفه علي بن المديني جداً ؛ وقال أبو داود وأبو زرعة والنسائي والدارقطني : ضعيف ، وقال ابن حبان : كان يقلب الأخبار ؛ وهو لا يعلم حتى كثر ذلك في روايته من رفع المراسيل وإسناد الموقوف فاستحق الترك(2) .
وقال الحاكم أبو عبد الله : روى عن أبيه أحاديث موضوعة لا يخفى على من تأملها من أهل الصنعة أن الحمل فيها عليه ، وقال ابن خزيمة : عبد الرحمن بن زيد ليس ممن يحتج أهل الحديث بحديثه ؛ وقال الحافظ أبو نعيم الأصبهاني : حدث عن أبيه لا شيء ، وقال محمد بن عبد الله بن عبد الحكم سمعت الشافعي يقول : ذكر رجل لمالك حديثاً فقال : من حدثك عن أبيه نوح .
__________
(2) 2/233 .(54/47)
وقال الربيع بن سليمان سمعت الشافعي يقول :؛ سأل رجل عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، حدثك أبوك عن أبيه عن جده أن سفينة نوح طافت بالبيت وصلت ركعتين ؟ قال : نعم فقد تكلم في عبد الرحمن بن زيد جماعة آخرون غير من ذكرنا وسيأتي الكلام عليه مستوفي في موضع آخر إن شاء الله تعالى .
وما ذكرناه في هذا المكان من كلام أئمة هذا الشأن في بيان حاله وحال عبد الله بن إبراهيم الغفاري فيه كفاية لمن له أدنى معرفة ، فيكف يسوغ لأحد الاحتجاج بحديث فيه إسناده مثل هذين الضعيفين المشهورين بالضعف ومخالفة الثقات الذين لو كان أحدهم وجده في طريق الحديث لكان محكوماً عليه بالضعف وعدم الصحة ، فكيف إذا كان مجتمعين في الإسناد .
وقد علم أن المستدل بالحديث عليه أن يبين صحته ، ويبين دلالته على مطلوبه ، وهذا المعترض لم يجمع في حديث واحد بين هذا وهذا ، بل إن ذكر صحيحاً لم يكن دالاً على محل النزاع ، وإن أشار إلى ما يدل لم يكن ثابتاً عند أهل العلم بالحديث ، وقد صرح غير واحد من المتقدمين والمتأخرين من الشافعية وغيرهم بتضعيف الحديث المروي عن ابن عمر في هذا الباب ، حتى أن الشيخ أبا ذكريا النووي في شرح المهذب لما ذكر قول أبي إسحاق : ويستحب زيارة قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - لما روي عن ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم -أنه قال : (( من زار قبري وجبت له شفاعتي )) قال النووي : أما حديث ابن عمر فرواه أبو بكر البزار والدارقطني(1) والبيهقي بإسنادين ضعيفين جداً يعني الإسناد الذي فيه عبد الله بن إبراهيم الغفاري والإسناد المتقدم الذي فيه موسى بن هلال العبدي .
__________
(1) انظر : سنن الدارقطني 2/278 وسنن البيهقي 15/245 .(54/48)
ولقد صدق الشيخ أبو زكريا فيما قاله في هذا الحديث ، وأما هذا المعترض فإنه خالف من قبله من أهل العلم وأخذ يقوي حديث موسى بن هلال ، ويرد على من وضعه ، ثم أخذ يشير إلى تقوية حديث الغفاري وجملة شاهداً لحديث العبدي فقال : وعبد الله بن إبراهيم الغفاري ، يقال إنه من ولد أبي ذر ، روى له أبو داود والترمذي ، ثم ذكر قول أبي داود وابن عدي والبزار فيه .
ثم قال : وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم روى له الترمذي وابن ماجة وضعفه جماعة ، وقال ابن عدي : إن له أحاديث حساناً وإنه ممن احتمله الناس وصدقه بعضهم ، وإنه ممن يكتب حديثه وصحح الحاكم حديثاً من جهته سنذكره في التوسل بالنبي- صلى الله عليه وسلم -.
قال : وإذا كان المقصود من هذا الحديث تقوية الأول به وشهادته له لم يضر ما قيل في هذا الرجلين ، إذ ليس راجعاً إلى تهمة كذب . ولا فسق ، ومثل هذا يحتمل فيه المتابعات والشواهد .
هذا كله كلام المعترض ولا يخفى ما فيه من الضعف والسقوط على أقل من له بصيرة ؛ وإني لأتعجب منه كيف قلد الحاكم فيما صححه من حديث عبد الرحمن بن زيد بن أسلم الذي رواه في التوسل ، وفيه قول الله لآدم : لولا محمد ما خلفتك مع أنه حديث غير صحيح ولا ثابت ، بل هو حديث ضعيف الإسناد جداً ، وقد حكم عليه بعض الأئمة بالوضع وليس إسناده من الحاكم إلى عبد الرحمن بن زيد بصحيح ، بل هو مفتعل على عبد الرحمن كما سنبينه ، ولو كان صحيحاً إلى عبد الرحمن لكان ضعيفاً غير محتج به ، لأن عبد الرحمن في طريقه .(54/49)
وقد أخطأ الحاكم في تصحيحه وتناقض تناقضاً فاحشاً كما عرف له ذلك في مواضع فإنه قال في كتاب الضعفاء بعد أن ذكر عبد الرحمن منهم ، وقال : ما حكيته عنه فيما تقدم أنه روى عن أبيه أحاديث موضوعة لا يخفى على من تأملها من أهل الصنعة أن الحمل فيها عليه ، قال في آخر هذا الكتاب : فهؤلاء الذين قدمت ذكرهم قد ظهر عندي جرحهم لأن الجرح لا يثبت إلا ببينة فهم الذين أبين جرحهم لمن طالبني به ، فإن الجرح لا استحله تقليداً ، والذي اختاره لطالب هذا الشأن أن لا يكتب حديث واحد من هؤلاء الذين سميتهم ، فالراوي لحديثهم دخل في قوله - صلى الله عليه وسلم - : (( من حدث بحديث وهو يرى أنه كذب فهو أحد الكذابين)) (1) .
هذا كله كلام أبي عبد الله صاحب المستدرك ، وهو متضمن أن عبد الرحمن بن زيد قد ظهر له جرحه بالدليل ، وأن الراوي لحديثه داخل في قوله- صلى الله عليه وسلم - : (( من حدث بحديث وهو يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين )) .
ثم أنه رحمه الله لما جمع المستدرك على الشيخين ذكر فيه من الأحاديث الضعيفة والمنكرة بل والموضوعة جملة كثيرة ، وروى فيه لجماعة من المجروحين الذين ذكرهم في كتابه في الضعفاء وذكر أنه تبين له جرحهم ، وقد أنكر عليه غير واحد من الأئمة هذا الفعل ، وذكر بعضهم أنه حصل له تغير وغفلة في آخر عمره فذلك وقع منه ما وقع وليس ذلك ببعيد ، ومن جملة ما خرجه في المستدرك حديث لعبد الرحمن بن زيد بن أسلم في التوسل قال بعد روايته : هذا حديث صحيح الإسناد وهو أول حديث ذكرته لعبد الرحمن بن زيد بن أسلم في هذا الكتاب(2) ، فانظر إلى ما وقع للحاكم في هذا الموضوع من الخطأ العظيم والناقض الفاحش .
__________
(1) رواه مسلم 1/12 متن وأحمد 4/252 و 5/20 من حديث المغيرة بن شعبة ، وابن ماجه 1/14-15 من حديث المغيرة وعلى سمرة بن جندب .
(2) انظر المستدرك 2/615 .(54/50)
ثم أن هذا المعترض المخذول(1) عمد إلى هذا الذي أخطأ فيه الحاكم وتناقض فقلده فيه واعتمد عليه ، وأخذ في التشنيع على من خالفه فقال : والحديث المذكور لم يقف ابن تيمية عليه بهذا الإسناد ، ولا بلغه أن الحاكم صححه ، ولو بلغه أن الحاكم صححه لما قال ذلك ، يعني أنه كذب ولتعرض للجواب عنه قال : وكأني به إن بلغه بعد ذلك يطعن في عبد الرحمن بن زيد بن أسلم رواي الحديث ، ونحن قد اعتمدنا في تصحيحه على الحاكم ، وذكر قبل ذلك بقليل أنه مما تبين له صحته .
فانظر رحمك الله إلى هذا الخذلان البين والخطأ الفاحش ، كيف جاء هذا المعترض إلى حديث غير صحيح ولا ثابت ، بل هو حديث موضوع فصححه واعتمد عليه وقلد في ذلك الحاكم مع ظهور خطئه وتناقضه ومع معرفة هذا المعترض بضعف رواية وجرحه واطلاعه على الكلام المشهور فيه ، وأخذ مع هذا يشنع على من رد هذا الحديث المنكر ولم يقبله ؛ ويبالغ في تخطئته وتضليله .
__________
(1) قلت : هذا اللفظ في موضعه ولكن بعض الناس قد يقول : إن هذا من التشدد ومن الكلام القاسي والله تعالى قد قال لموسى وهارون : (( إذهبا إلى فرعون إنه طغى فقولا له قولاً ليناً)) فأقول : هذا موسى الذي قال اله له هذا يقول لفرعون (( وإني لأظنك يا فرعون مثبوراً )) ويقول لصاحبه (( إنك لقوين مبين )) بل الشدة في موضعها من الحكمة وهل الحكمة إلا وضع كل شيء في موضعه ولكل مقام مقال .
فإن هذا المعترض وأمثاله لا يصلح معهم إلا الشدة لأنهم يحرفون الكلم عن مواضعه .
وقوله بعد هذا ( ومناقشة المعترض على ما وقع منه من الكلام عليه بغير علم )
أوقل بل الظاهر أنه يعلم ولكن ليلبس على من لا علم له بالحديث .(54/51)
وليس المقصود هنا الكلام على هذا الحديث ومناقشة المعترض على ما وقع منه من الكلام عليه بغير علم ؛ وإنما أشرنا إلى ذلك إشارة لما أخذ المعترض يقوي أمر عبد الرحمن بن زيد عند ذكر الحديث المروي عنه في الزيادة ويذكر أن الحاكم صحح له حديثاً في التوسل .
ولو فرض أن هذا الحديث المروي عن عبد الرحمن بن زيد في الزيارة من الأحاديث الصحيحة المشهورة لم يكن فيه دليل على غير الزيارة على الوجه المشروع ، وقد علم أن الزيارة نوعان : شرعية وغير شرعية ، فالشرعية لم يمنع منها شيخ الإسلام ولم ينه عنها في شيء من فتاويه ومؤلفاته ومناسكه ، بل كتبه مشحونة بذكرها ، ومن نسب إليه أنه منع منها أو نهى عنها ، أو قال هي معصية بالإجماع مقطوع بها فقد كذب عليه وافترى وقال عنه ما لم يقله قط .
وقد قال الشيخ رحمه الله تعالى في منسك له صنفه في أواخر عمره :
فصل(54/52)
وإذ دخل المدينة قبل الحج أو بعده فإنه يأتي مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم -ويصلي فيه الصلاة فيه خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام ولا تشد الرحال إلا إليه ، وإلى المسجد الحرام ، والمسجد الأقصى ، هكذا ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة وأبي سعيد(1) ، وهو مروي من طرق أخرى ، ومسجده كان أصغر مما هو اليوم ؛ وكذلك المسجد الحرام لكن زادفيهما الخلفاء الراشدون ومن بعدهم ، وحكم الزيادة حكم المزيد في جميع الأحكام ، ثم يسلم على النبي - صلى الله عليه وسلم -وصاحبه فإنه قد قال : (( ما من رجل يسلم علي إلا رد الله عليه روحي حتى أرد عليه السلام )) (2) رواه أبو داود وغيره ، وكان عبد الله بن عمر إذا دخل المسجد قال : السلام عليك يا رسول الله ، السلام عليك يا أبا بكر السلام عليك يا أبت ، ثم ينصرف (3).
وهكذا كان الصحابة يسلمون عليه .
__________
(1) تقدم ورواه أيضاً أحمد 1/184 و 2/277 ، 256 ، 416 ، 484 وله أيضاً عن طرق كثيرة وشواهد متعددة ، أنظر تحذير الساجد ص135 .
(2) رواه أبو داود 2/534 وإسناده حسن في سنده أبا حميد وهو صدوق يهم كما في التقريب ثم رجعت إلى تحفة الأشراف فإذا بالحافظ ابن حجر يقول في النكت الظراف : يزيد بن عبد الله بن قسيط عن أبي هريرة : حديث (( ما من أحد يسلم علي إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام)) وغلى آخره .
قال : قلت : ادخل مهدي بن جعفر عن عبد الله بن يزيد الإسكندراني عن جده بين يزيد وأبي هريرة ( رجلاً ) وهو أبو صالح - أخرجه الطبراني في الأوسط في ترجمة جعفر بن سهل . أ هـ .
(3) أخرجه مالك بإسناد صحيح أنه كان إذا قدم من سفر دخل المسجد ..إلخ وأخرجه أيضاً البيهقي في سننه الكبرى 5/245 .(54/53)
وإذا قال في سلامه السلام عليك يا رسول الله السلام عليك يا نبي الله ، السلام عليك يا خيرة الله من خلقه ، السلام عليك يا أكرم الخلق على ربه ، السلام عليك يا إمام المتقين ، فهذا كله من صفاته بأبي هو وأمي ، وإذا صلى عليه مع السلام عليه ، فهذا مما أمر الله به ، ويسلم عليه مستقبل الحجرة مستدبر القبلة فمن أصحابه من قال : يستدبر الحجرة ، ومنهم من قال : يجعلها عن يساره .
واتفقوا على أنه لا يستلم الحجرة ولا يقبلها ولا يطوف بها ولا يصلي إليها ولا يدعو وهناك مستقبلاً للحجرة ؛ فإن هذا كله منهي عنه باتفاق الأئمة ، ومالك من أعظم الأئمة كراهية لذلك والحكاية المروية عنه : أنه أمر المنصور أن يستقبل القبر وقت الدعاء كذب على مالك ، بل ولا يقف عند القبر للدعاء لنفسه ، فإن هذا بدعة ولم يكن أحد من الصحابة يقف عنده يدعو لنفسه ، ولكن كان يستقبلون القبلة ويدعون في مسجده فإنه قال - صلى الله عليه وسلم -: (( اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد )) وقال : (( لا تجعلوا قبري عيداً ولا تجعلوا بيوتكم قبوراً وصلوا علي حيثما كنتم فإن صلاتكم تبلغني )) (1) .
__________
(1) رواه أحمد 2/246 راجع تحذير الساحد ص16 .
من حديث أبي هريرة (( اللهم لا تجعل قبري وثناً )) وأما بقية الحديث فرواه أحمد أيضاً 2/367 من حديث أبي هريرة بسند حسن ورواه أبو داود 2/534 من حديث أبي هريرة أيضاً .(54/54)
وقال : (( أكثروا علي من الصلاة يوم الجمعة وليلة الجمعة فإن صلاتكم معروضة علي )) قالوا : كيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت أي بليت قال : (( إن الله حرم على الأرض أن تأكل لحوم الأنبياء )) (1) فأخبر أنه يسمع الصلاة من القريب وأنه يبلغ ذلك من البعيد .
وقال : (( لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد )) يحذر ما فعلوا قالت عائشة رضي الله عنها : ولولا ذلك لأبرز قبره ، ولكن كره أن يتخذ مسجداً أخرجاه في الصحيحين(2) ، فدفنته الصحابة في موضعه الذي مات فيه من حجرة عائشة وكانت هي وسائر الحجر خارج المسجد من قبلية وشرقية لكن لما كان في زمن الوليد بن عبد الملك عمر هذا المسجد وغيره وكان نائبه على المدينة عمر بن عبد العزيز فأمر أن تشتري الحجرة وتزاد في المسجد ، فدخل الحجرة في المسجد من ذلك الزمان وبنيت منحرفة عن القبلة مسنمة لئلا يصلي أحد إليها فإنه قال- صلى الله عليه وسلم - : (( لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها)) رواه مسلم عن أبي مرثد الغنوي(3) .
وزيارة القبور على وجهين زيارة شرعية ، وزيارة بدعية .
__________
(1) رواه أحمد 4/8 وأبو داود 1/635 ، 2/184 وابن ماجه 1636 والنسائي 13/91 جميعاص عن أوس بن أوس والحديث من طريق الحسين بن علي الجعفي عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر والصحيح أنه ابن تميم حيث كان يغلط في اسمه ولكن للحديث شواهد كما قال ابن القيم من حديث أبي هريرة وأبي الدرداء وأبي أمامة وأبي مسعود الأنصاري وأنس بن مالك والحسن بن علي راجع هذا كله . في جلاء الأنعام لابن القيم ص30 - 41 .
(2) رواه البخاري 1/532 و 3/200 ن 255 ، 6/494 عن ابن عباس وعائشة و 10/277 عنها أيضاً ومسلم 1/376-377 من حديثهما أيضاً وكذلك من حديث أبي هريرة وأحمد 6/80 و121 و 255 وأبو عوانه 1/399 راجع أيضاً تحذير الساجد ص9 ، 16 ، 20 ، 51 .
(3) رواه مسلم 2/688 راجع تحذير الساجد ص22 .(54/55)
فالشرعية : المقصود بها السلام على الميت والدعاء له كما يقصد بالصلاة على جنازته ، فزيارته بعد موته من جنس الصلاة عليه ،فالسنة فيها أن يسلم على الميت ويدعي له سواء كان نبياً أو غير نبي ، كما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يأمر أصحابه إذا زاروا القبور أن يقول أحدهم : (( السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون ، ويرحم الله المستقدمين منا ومنكم والمستأخرين ، نسأل الله لنا ولكم العافية اللهم لا تحرمنا أجرهم ، ولا تفتنا بعدهم واغفر لنا ولهم)) (1) . وهكذا يقول إذا زار أهل البقيع ، ومن به من الصحابة وغيرهم أو زار شهداء أحدوغيرهم .
وليس الصلاة عند قبورهم غير مستحبة عند أحمد من أئمة المسلمين بل الصلاة في المساجد التي ليس فيها قبل أحد من الأنبياء والصالحين وغيرهم أفضل من الصلاة في المساجد التي فيها ذلك باتفاق أئمة المسلمين ، بل الصلاة في المساجد التي على القبور ، إما محرمة(2) ، وإما مكروهة .
__________
(1) تقدمت الإشارة إلى بعض أحاديث الزيارة صفحة 31 حاشية ( 1 ) .
(2) قد ألف الشيخ محمد ناصر الدين الألباني رسالة في هذا وسماها ( تحذير الساجد من اتخاذ القبور مساجد )) طبعت عدة طبعات فراجعها فإنها نفيسة جداً واقرأها بتمعن : يجزاه الله خيراً .(54/56)
وأما الزيارة البدعية : فهي أن يكون مقصود الزائر أن يطلب حوائجه من ذلك الميت أو يقصد الدعاء عند قبره ، أو يقصد الدعاء به فهذا ليس من سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ولا استحبه أحد من سلف الأمة ، بل هو من البدع المنهي عنها باتفاق سلف الأمة وأئمتها ، وقد كره مالك وغيره أن يقول القائل : زرت قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - وهذا اللفظ لم ينقل عن النبي- صلى الله عليه وسلم - بل الأحاديث المذكورة في هذا الباب مثل قوله : (( من زارني وزار أبي في عام واحد ضمنت له على الله الجنة )) وقوله (( من زارني بعد مماتي فكأنما زارني في حياتي ومن زارني بعد مماتي حلت عليه شفاعتي )) ونحو ذلك كلها أحاديث ضعيفة بل موضوعة ليس في شيء من دواوين المسلمين التي يعتمد عليها ولا نقلها إمام من أئمة المسلمين لا الأئمة الأربعة ولا نحوهم ، ولكن روى بعضها البزار والدارقطني (1)، ونحوها بإسناد ضعيف لأن من عادة الدارقطني وأمثاله أن يذكروا هذا في السنن ليعرف ، وهو وغيره يبينون ضعف الضعيف من ذلك والله سبحانه وتعالى أعلم .
قال المعترض
الحديث الثالث : (( من جاءني زائراً لا تعمله حاجة إلا زيارتي كان حقاً علي أن أكون له شفيعاً يوم القيامة )) . ذكر من حديث عبد الله بن محمد العبادي البصري عن مسلمة بن سالم الجهني عن عبيد الله بن عمر ، عن نافع بن سالم عن ابن عمر قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (( من جاءني زائراً لا تعمله حاجة إلا زيارتي كان حقاً علي أن أكون له شفيعاً يوم القيامة )) (2) عن عبدان بن أحمد عن عبد الله بن محمد العبادي .
__________
(1) انظر سنن الدارقطني 2/278 .
(2) انظر معجم الطبراني الكبير 12/291 رقم 13149 .(54/57)
وقال الخلعي : أخبرنا أبو النعمان تراب بن عمر بن عبيد العسقلاني حدثنا أبو الحسن علي بن عمر الدارقطني إملاء بمصر ، حدثنا يحي بن محمد بن صاعد ، حدثنا أبو محمد عبد الله بن محمد العبادي من بني عباد بن ربيعة في بني مرة بالبصرة سنة خمسين ومائتين ، حدثنا مسلمة بن سالم الجهني إمام مسجد بني حرام ومؤذنهم ، حدثنا عبيد الله بن عمر ، عن نافع ، عن سالم ، عن أبيه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (( من جاءني زائراً لم تنزعه حاجة إلا زيارتي كان حقاً علي أن أكون له شفيعاً يوم القيامة )) .
قلت : هذا الحديث ليس في ذكر زيارة القبر ، ولا ذكر الزيارة بعد الموت مع أنه حديث ضعيف الإسناد لا يصلح الاحتجاج به ، ولا يجوز الاعتماد على مثله ، ولم يخرجه أحمد من أصحاب الكتب الستة ، ولا رواه الإمام أحمد في مسنده ولا أحد من الأئمة المعتمد على ما أطلقوه في روايتهم ، ولا صححه إمام يعتمد على تصحيحه ، وقد تفره به هذا الشيخ الذي لم يعرف ينقل العلم ولم يشتهر بحمله ولم يعرف من حاله ما يوجب قبول خبرة وهو مسلمة بن سالم الجهني(1) الذي لم يشتهر إلا برواية هذا الحديث المنكر ، وحديث آخر موضوع ذكره الطبراني بالإسناد المتقدم ومتنه (( الحجامة في الرأس أمان من الجنون والجذام والبرص والنعاس والضرس )) (2) وروي عنه حديث آخر منكر من رواية غير العبادي .
__________
(1) انظر ترجمته في الميزان 4/104 واللسان 6/28 ، والكاشف 3/140 ، وانظر التقريب .
(2) انظر معجم الطبراني الكبير 12/292 رقم 13150 .(54/58)
وإذا تفرد مثل هذا الشيخ المجهول الحال القليل الرواية بمثل هذين الحديثين المنكرين عن عبيد الله بن عمر أثبتت آل عمر بن الخطاب في زامنه وأحفظهم عن نافع عن سالم عن أبيه عن عبدالله بن عمر من بين سائر أصحاب عبيد الله الثقاب المشهورين والأثبات المتقين ، علم أنه شيخ لا يحل الاحتجاج بخبره ، ولا يجوز الاعتماد على روايته ، هذا مع أن الراوي عنه وهو عبد الله بن محمد العبادي(1) أحد الشيوخ الذين لا يحتج بما تفردوا به قد اختلف عليه في إسناد الحديث فقيل عنه عن نافع عن سالم كما تقدم ، وقيل عنه نافع وسالم .
وقد خالفه من هو أمثل منه وهو مسلم بن حاتم الأنصاري(2) ، وهو شيخ صدوق فرواه عن مسلمة بن سالم عن عبد الله ، يعني العمري ، عن نافع ، عن سالم عن ابن عمر قال : قال رسول الله : (( من جاءني زائراً لم تنزعه حاجة إلا زيارتي كان حقاً علي أن أكون له شفيعاً يوم القيامة )) هكذا رواه الحافظ أبو نعيم عن أبي محمد بن حيان عن محمد بن أحمد بن سليمان الهروي عن مسلم بن حاتم الأنصاري .
وهذه الرواية رواية مسلم بن حاتم التي قال فيها عن عبد الله وهو العمري الصغير المكبر الضعيف أولى من رواية العبادي التي اضطرب فيها ، وقال عن عبيد الله يعني العمري الكبير المصغر الثقة الثبت ، وكلا الروايتين لا يجوز الاعتماد عليهما لمدارهما على شيخ واحد غير مقبول الرواية ، وهو مسلمة بن سالم وهو شبية بموسى بن هلال صاحب الحديث المتقدم الذي يرويه عن عبد الله العمري ، أو عن أخيه عبيد الله ، وقد اختلف عليه في ذلك كما اختلف على مسلمة .
__________
(1) انظر ترجمته في الأنساب للسمعاني 8/338 والإكمال 6/345 .
(2) ترجمته في تهذيب التهذيب .(54/59)
والأقرب أن الحديثين في هذا الحديث واحد برواية الصغير المتكلم فيه ، وقد اختلف عليه شيخان غير معروفين بالنقل ولا مشهورين بالضبط في إسناد الحديث ومتنه فقال : أحدهما في روايته عن نافع عن سالم عن ابن عمر ، وقيل : عنه عن نافع وسالم ، عن ابن عمر ، وقال الآخر : عن نافع عن ابن عمر ولم يذكر سالماً .
وذكر أحدهما في روايته زيارة قبره ، ولم يذكر الأعمال إلى زيارته وذكر الآخر الأعمال إلى زيارته من خير ذكر القبر في روايته ، ومثل هذا الحديث إذا تفرد به شيخان مجهولان الحال قليلاً الرواية عن شيخ سيئ الحفظ مضرب الحديث ، واختلفا عليه واضطربا مثل هذا الاضطراب المشعر بالضعف وعدم الضبط لم يجز الاحتجاج به على حكم من الأحكام الشرعية ولا الاعتماد عليه في شيء من المسائل الدينية ، وكم من حديث له طرق كثيرة أمثل من طريق هذا الحديث وقد نص أئمة هذا الشأن على ضعفه وعدم الاحتجاج به واتفقوا على رده وعدم قبوله .
والمحفوظ عن نافع عن ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم -ما رواه عنه أيوب السختياني ، وعبيد الله بن عمر ، وربيعة بن عثمان وغيرهم ، وليس في ذكر الأعمال ولا ذكر زيارة القبل بل لفظ بعضهم: (( من استطاع منكم أن يموت بالمدينة فليمت فإنه من مات بها منت له شفيعاً أو شهيداً )) وفي لفظ من زارني إلى المدينة كنت له شفيعاً أو شهيداً ، وهذا اللفظ غير محفوظ ، ولفظ بعضهم (( لا يصبر على لأوائها وشدتها أحد إلا كنت له شهيداً أو شفيعاً يوم القيامة )) (1) .
__________
(1) رواه مسلم 2/1004 .(54/60)
قال الإمام أحمد بن حنبل في مسنده : حدثنا علي بن عبد الله ؛ حدثنا معاذ بن هشام حدثني أبي ، عن أيوب ، عن نافع ، عن ابن عمر أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - قال : (( من استطاع أن يموت بالمدينة فليفعل ، فإني أشفع لمن مات بها )) (1). وقال أبو عيسى الترمذي في جامعه حدثنا بندار ، حدثنا معاذ بن هشام ، حدثني أبي عن أيوب ، عن نافع عن ابن عمر قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (( من استطاع أن يموت بالمدينة فليمت بها فإني أشفع لمن يموت بها))(2).
قال : وفي الباب عن سبيعة بنت الحارث الأسلمية ، هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه من حديث أيوب ، حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، حدثنا المعتمر بن سليمان قال سمعت عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر أن مولاة له أتته فقالت : اشتد علي الزمان وإني أريد أن أخرج إلى العراق فقال : فهلا إلى الشام أرض المنشر واصبري لكاع فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : (( من صبر على شداها ولأوائها كنت له شهيداً أو شفيعاً يوم القيامة )) قال الترمذي وفي الباب عن أبي سعيد وسفيان بن أبي زهير وسبيعة الأسلمية هذا حديث حسن صحيح غريب (3).
وقال أبو القاسم البغوي حدثنا صلت بن مسعود الجحدري حدثنا سفيان بن موسى حدثنا أيوب عن نافع عن ابن عمر قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (( من استطاع أن يموت بالمدينة فليمت فإن من مات بالمدينة شفعت له يوم القيامة )) وقال الهيثم بن كلب الشاشي حدثنا علي بن عبد العزيز حدثنا محمد ابن عبد الله الرقاشي حدثنا سيفان بن موسى عن أيوب عن نافع عن ابن عمر قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (( من استطاع منكم أن يموت بالمدينة فليفعل فإنه من مات بالمدينة شفعت له يوم القيامة )) .
__________
(1) 2/74 وسنده صحيح .
(2) رواه الترمذي 5/719 وابن ماجة 2/1039 وسنده صحيح .
(3) الترمذي 5/719-720 بزيادة في آخر من حديث عبيد الله .(54/61)
وقد سئل الدارقطني في كتاب العلل عن حديث نافع عن ابن عمر قال : قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم - : (( من استطاع أن يموت بالمدينة فليفعل فإني أشفع لمن مات بها فقال يرويه أيوب السختياني وأبو بكر بننافع وربيعة بن عثمان وعبيد الله بن عمر عن نافع واختلف عن أيوب وعن عبيد الله ، فأما أيوب فرواه عنه سفيان بن موسى وهشام الدستوائي والحسن بن أبي جعفر فقالوا عن نافع عن ابن عمر ، وخالفهم ابن علية فقال عن أيوب نيئت عن نافع قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -حدثنا جعفر بن محمد الواسطي حدثنا موسى بن هارون حدثنا شجاع من مخلد عنه ، وأما عبيد الله بن عمر فإن معتمر بن سليمان وسالم بن نوح والمفضل بن صدقة أبا حماد رووه عن عبيد الله عن قطن بن وهب بن عويمر بن محفوظين ، حديث نافع وحديث قطن بن وهب لأن حديث نافع له أصل عنه رواه عنه أيوب وأبو بكر بن نافع وربيعة بن عثمان ، وحديث قطن بن وهب محفوظ أيضاً حدث به عبيد الله بن عمر وقيل عن أبي ضمرة عن يحي بن سعيد الأنصاري عن قطن ، وذلك وهم من قائله .
ورواه عبد الله بن عمر أخو عبيد الله ومالك بن أنس والضحاك بن عثمان والوليد بن كثير عن قطن بن وهب عن يحنس أبي موسى عن ابن عمر ، حدثنا عبد الله بن محمد البغوي حدثنا الصلت بن مسعود حدثنا سفيان بن موسى حدثنا أيوب عن نافع عن ابن عمر قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (( من استطاع أن يموت بالمدينة فليمت فإنه من مات بها شفعت له يوم القيامة )) .
حدثنا عبد الله بن محمد بن سعيد الجمال حدثنا محمد بن إسحاق أبو إسماعيل حدثنا محمد بن عبد الله الرقاشي حدثنا سفيان بن موسى عن أيوب عن نافع عن ابن عمر قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( من استطاع منكم أن يموت بالمدينة فليمت فإنه من مات بها كنت له شفيعاً أو شهيداً )) .(54/62)
حدثنا أحمد بن محمد بن إسماعيل السيوطي حدثني أبو زيد عمر بن شيبة حدثنا السيوطي أنبأنا أحمد بن زياد بن عبد الله الحداد قال حدثنا عفان بن مسلم حدثنا الحسن بن أبي جعفر حدثنا أيوب عن نافع عن ابن عمر قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( من استطاع أن يموت بالمدينة فليمت فإني أشفع لمن مات بها قال ابن شيبة عن أيوب وقال منكم أن يموت وقال لمن يموت بها )) .
حدثنا جعفر بن محمد الواسطي حدثنا موسى بن هارون حدثنا محمد بن الحسن الختلي حدثنا عبد الرحمن بن المبارك حدثنا عون بن موسى عن أيوب عن نافع عن ابن عمر قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (( من زارني إلى المدينة كنت له شفيعاً وشهيداً )) قيل للختلي إنما هو سفيان بن موسى ؛ فقال اجعلوه عن ابن موسى قال موسى بن هارون ورواه إبراهيم بن الحجاج عن وهيب عن أيوب عن نافع مرسلاً عن النبي فلا أدري سمعته من إبراهيم بن الحجاج أم لا ووهيب وابن علية أثبت من الدستوائي ومن الجفري ومن سفيان بن موسى .
حدثنا أبو بكر أحمد بن عبد الله بن محمد الوكيل حدثنا زيد بن أخزم حدثنا سالم بن نوح حدثنا عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -يقول : (( لا يصبير على لأوائها وشدتها أحد إلا كنت له شهيداً أو شفيعاً يوم القيامة )) .
حدثنا أبو محمد بن بزداذ بن عبد الرحمن الكاتب حدثنا أبو موسى محمد بن المثنى حدثنا سالم بن نوع العطار ، حدثنا عبيد الله عن نافع أن مولاة لا بن عمر استأذنته أن تأتي العراق وجزعت من شدة عيش المدينة ، فقال لها : اصبري يالكاع فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -يقول : (( من صبر على شدة المدينة ولأوائها كنت له شهيداً أو شفيعاً يوم القيامة )) .(54/63)
حدثنا يحي بن محمد بن صاعد ، حدثنا الزبير بن بكار ، حدثنا أبو ضمرة عن عبيد الله عن قطن بن وهب عن مولاة لعبد الله بن عمر أنها أرادت الجلاء في الفتنة واشتد عليها الزمان فاستأذنت عبد الله بن عمر ، فقال أين ؟ فقالت : العراق ، قال : فهلا إلى الشام إلى المحشر ، اصبري لكاع فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -يقول : (( لا يصبر على لأوائها وشدتها أحد إلا كنت له شهيداً أو شفيعاً يوم القيامة )) .
حدثنا ابن صاعد ، حدثنا ابن محمد بن منصور بن سلمة الخزاعي ،أنبأنا أبي حدثنا عبد الله بن عمر عن قطن بن وهب أن مولاة لابن عمر أتته تسلم عليه لتخرج من المدينة وقالت : أخرج إلى الريف فقد اشتد علينا الزمان ، فقال ابن عمر : اجلسي لكاع فإني سمعت رسول الله يقول : (( من صبر على لأوئها وشدتها كنت له شهيداً أو شفيعاً يوم القيامة )) .
حدثنا يحيى بن يحيى قال : قرأت على مالك عن قطن بن وهب بن عويمر بن الأجدع ، عن يحنس مولى الزبير أخبره أنه كان جالساً مع عبد الله بن عمر في الفتنة فأنته مولاة له تسلم عليه فقالت : إني أردت الخروج يا أبا عبد الرحمن اشتد علينا الزمان فقال لها عبد الله : اقعدي لكاع فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : (( لا يصبر علي لأوائها وشدتها أحد إلا كنت له شهيداً أو شفيعاً يوم القيامة )) .
وحدثنا ابن رافع حدثنا ابن أبي فديك أخبرنا الضحاك عن قطن الخزاعي ، عن يحنس مولى مصعب عن عبد الله بن عمر ، قال : سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم - يقول : (( من صبر على لأوائها وشدتها كنت له شهيداً أو شفيعاً(1) . يعني المدينة .
__________
(1) رواها مسلم في صحيحه 2/1004 متن .(54/64)
وهذه الألفاظ التي رواها أصحاب الصحيح والسنن والمسانيد من رواية نافع وغيره عن عبد الله بن عمر بن الخطاب هي الصحيحة المشهورة المحفوظة عنه ، وفيها البحث على الإقامة بالمدينة وترك الخرج منها والصبر على لأوئها وشدتها وأن من استطاع أن يموت بها فليفعل لتحصل له شفاعة المصطفى - صلى الله عليه وسلم -. وهذا الذي ثبت عن ابن عمر ، قد روى نحوه أبو سعيد الخدري أيضاً عن النبي - صلى الله عليه وسلم -.
قال الإمام أحمد بن حنبل في مسنده : حدثنا حجاج ،حدثنا ليث وثناه الخزاعي أنبأ ليث قال : حدثني سعيد بن أبي سعيد ، عن أبي سعيد مولى المهري أنه جاء أبا سعيد الخدري ليالي الحرة فاستشاره في الجلاء من المدينة ، وشكا إليه أسعارها وكثرة عاليه ، وأخبره أنه لا صبر له على جهد المدينة ، فقال له : ويحك لا آمرك بذلك ، إني سمعت رسول الله يقول : (( لا يصبر أحد على جهد المدينة ولأوائها فيموت إلا كنت له شفيعاً أو شهيداً يوم القيامة إذ كان مسلماً(1) .
هذا حديث صحيح رواه مسلم في صحيحة(2) عن قتيبة ، عن ليث بن سعد ، وروى مسلم(3) والترمذي(4) نحوه من حديث أبي هريرة ، وقد روى أيضاً من حديث سعد بن أبي وقاص وجابر وأسماء بنت عميس وغيره ، وقد كان المهاجرون إلى المدينة يكوهون أن يموتوا بغيرها ويسألون الله تعالى أن توافهم بها .
وقد روى البخاري في صحيحه من حديث زيد بن أسلم ، عن أبيه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كان يقول : اللهم ارزقني شهادة في سبيلك واجعل موتي في بلد رسولك(5) .
__________
(1) 3/58 .
(2) 2/1003 .
(3) 2/1004 .
(4) تقدم صفحة 51 حاشية (4) .
(5) 4/1100 مع الفتح .(54/65)
وقد ثبت في الصحيحين من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال : جاء النبي - صلى الله عليه وسلم -يعودني وأنا بمكة وهو يكره أن يموت بالأرض التي هاجر منها ، وفي رواية عن سعد قال : مرضت فعادني النبي- صلى الله عليه وسلم - فقلت : يا رسول الله ادع الله أنلا يردني على عقبي ، فقال : (( اللهم اشف سعداً وأتمم له هجرته )) وفي لفظ فقال (( اللهم امض لأصحابي هجرتهم ولا تردهم على أعقابهم )) لكن البائس سعد بن خولة يرثي له رسول الله- صلى الله عليه وسلم - أن مات بمكة(1) . وفي رواية لمسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم -دخل على سعد يعوده بمكة فبكى فقال : ما يبكيك فقال : قد خشيت أن أموت بالأرض التي هاجرت منها كما مات سعد بن خولة فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -((اللهم اشف سعداً ، ثلاث مرات)) (2) .
وليس في شيء من هذه الروايات الصحيحة التي تقدم ذكرها عن نافع وغيره ، عن ابن عمر ذكر زيارة القبر ولا قوله من جاءني زائراً لا ينزعه حاجة إلا زيارتي ، فعلم أن ما رواه مسلمة بن سالم الجهني وموسى بن هلال العبدي من ذلك شاذ غير محفوظ وكأن هذين الشيخين سمعا شيئاً أو بلغهما أمر فلم يحفظاه ولم يضبطاه لكونهما ليسا من أهل الحديث ولا من المشهورين بحمل العلم ونقله ، ولو كان ما روياه محفوظاً عن نافع لبادر إلى روايته عنه أيوب السختياني ، ومالك بن أنس وغيرهما من أعيان أصحابه المعتمد على حفظهم وضبطهم وأتقانهم ، فلما لم يتابعهما على ما نقلاه مختلفين فيه ثقة يحتج به بل خالفهما فيما روياه الثقات المشهورين والعدول الحفاظ المتقنون ، علم خطؤهما فيما حملاه ولم يجز الرجوع إليهما ولا الاعتماد عليهما فيما روياه والله الموفق .
__________
(1) أخرجه البخاري 10/120 ، 11/179 ، 3/164 ، 7/269 ، 11/179 ، ومسلم 30/1250 - 1253 .
(2) 3/1253 .(54/66)
فإن قيل : وقد ورد معنى الخبر الذي رواه مسلمة بن سالم الجهني من وجه آخر لم يذكره المعترض ، قال بعض الحفاظ في زمن ابن مندة والحاكم في كتاب كبير له وقفت على بعضه ، حدثنا أبو الحسن حامد بن حماد بن المبارك السر من رائي بنصيبين ، حدثنا أبو يعقوب إسحاق بن سيار بن محمد النصيبي ، حدثنا أسيد بن زيد ، حدثنا عيسى بن بشير عن محمد بن عمرو عن عطاء ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (( من حج إلى مكة ثم قصدني في مسجدي كتبت له حجتان مبروتان )) .(54/67)
فالجواب أن هذا الخبر ليس فيه ذكر زيارة القبر ولا قوله : من جاءني زائراً لا تعمله حاجة إلا زيارتي مع أن خبر موضوع ، وحديث مصنوع لا يحسن الاحتجاج به ، ولا يجوز الاعتماد على مثله ، وفي إسناده ممن لا يحتج بحديثه ولا يعتمد على روايته غير واحد من الرواة منهم أسيد بن زيد الجمال الكوفي(1) قال : إبراهيم بن عبد الله بن الجنيد : سألت يحيى بن معين عنه ، فقال : كذاب أتيته ببغداد في الحذائين فسمعته يحدث بأحاديث كذب ، وقال عباس الدوري عن يحيى بن معين : وأسيد كذاب ذهبت إليه إلى الكرة ، ونزل في دار الحذائين فأردت أن أقول له : يا كذاب ففرقت من شفار الحذائين وقال أبو حاتم الرازي(2) : ( قدم الكوفة من بعض أسفاره فأتاه أصحاب الحديث ولم آته وكانوا يتكلمون فيه) وقال النسائي (3): ( متروك الحديث ) وقال ابن حبان(4) : ( يروي عن شريك والليث بن سعد وغيرهما من الثقات المناكير ، ويسوق الحديث ويحدث به ) ، وقال ابن عدي(5) : (يتبين على روايته الضعف ، وعامة ما يرويه لا يتابع عليه ) ، وقال الدارقطني : ضعيف الحديث ، وقال أبو نصر بن ماكولا (6): ( ضعفوه ) وقال الخطيب(7) : ( قدم بغداد وحدث بها وكان غير مرضي في الرواية ) ولو فرض صحة هذا اللفظ الذي رواه أسيد بن زيد الجمال وقدر ثبوت ما رواه مسلمة بن سالم الجهني ، وما رواه موسى بن هلال العبدي ، لم يكن في شيء من ذلك دلالة على الزيارة على غير الوجه المشروع ، وشيخ الإسلام لا ينهي عن الزيارة الشرعية ولا ينكرها .
__________
(1) انظر ترجمته في الميزان للذهبي 1/256 والضعفاء للعقلي 1/28 والتاريخ الكبير للبخاري 2/15 .
(2) انظر الجرح والتعديل 2/318 .
(3) انظر الضعفاء والمتروكين للنسائي ص55 الطبعة المحققة طبعة مؤسسة الكتب الثقافية .
(4) انظر المجروحين 1/171 .
(5) انظر الكامل لابن عدي 1/391 - 392 .
(6) انظر الإكمال لابن ماكولا 1/55
(7) انظر تاريخ بغداد 7/47 .(54/68)
وقد قال في أثناء كلامه في الجواب عما اعترض به عليه بعض قضاة المالكية في مسألة أعمال المطي إلى القبور بعد أن ذكر النزاع في السفر إلى مجرد زيارة القبور(1) قال وهذا النزاع لم يتناول المعنى الذي أراده العلماء بقولهم : يستحب زيارة قبر النبي - صلى الله عليه وسلم -ولا إطلاق القول بأنه يستحب السفر لزيارة قبره كما هو موجود في كلام كثير منهم ، فإنهم يذكرون الحج ويقولون: يستحب للحاج أن يزور قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - ومعلوم أن هذا إنما يمكن مع السفر ، لم يريدوا بذلك زيارة القريب ، بل أرادوا زيارة البعيد فعلم أنهم قالوا : يستحب السفر إلى زيارة قبرة ، لكن مرادهم بذلك هو السفر إلى مسجده إذا كان المسافرون والزوار لا يصلون إلا إلى مسجده ولا يصل أحد إلى قبره ولا يدخل إلى حجرته ، ولكن قد يقال هذا في الحقيقة ليس زيارة لقبره ولهذا كره من كره من العلماء أن يقول : زرت قبره ،ومنهم من لم يكرهه ، والطائفتان متفقون على أنه لا يزار قبره كما تزار القبور ، بل إنما يدخل إلى مسجده .
وأيضاً فالنية في السفر إلى مسجده وزيارة قبره مختلفة ، فمن قصد السفر إلى مسجدة للصلاة فيه ، فهذا مشروع بالنص والإجماع وإن كان لم يقصد إلا القبر ولم يقصد المسجد فهذا مورد النزاع ، وأما من كان قصده السفر إلى مسجده وقبره معاً فهذا قد قصد مستحباً مشروعاً بالإجماع ، ولهذا لم يكن في الجواب تعرض لهذا ، وقال الشيخ أيضاً(2) السفر المسمى زيارة له إنما هو سفر إلى مسجده ، وقد ثبت بالنص والإجماع أن المسافر ينبغي له أن يقصد السفر إلى مسجده والصلاة فيه .
__________
(1) الرد على الاخنائي ص15-16 .
(2) الرد على الأخنائي ص16 .(54/69)
وعلى هذا فقد يقال : نهيه عن شد الرحال إلا إلى المساجد الثلاثة لا يتناول شدها إلى قبره ، فإن ذلك غير ممكن ، لم يبق إلا شدها إلى مسجده وذلك مشروع بخلاف غيره فإنه يمكن زيارته فيمكن شد الرحل إليه ، لكن يبقى قصد المسافر ونيته ومسمى الزيارة في لغته هل قصد مجرد القبر ، أو المسجد ، أو كلاهما ، كما قال مالك لمن سأله عمن نذر أن يأتي إلى قبر النبي- صلى الله عليه وسلم - قال : إن كان أراد مسجد النبي- صلى الله عليه وسلم - فليأته وليصل فيه ، وإن كان أراد القبر فلا يفعل للحديث الذي جاء لا تعمل المطي إلا إلى ثلاثة مساجد .
فهذا السائل من عرفة أن زيارة قبر النبي- صلى الله عليه وسلم - تناول من أتى المسجد وكان قصده القبر ، ومن أتاه وقصده المسجد ؛ وهذا عرف عامة الناس المتأخرين يسمون هذا كله زيارة واحدة ، ولم يكن هذا لغة السلف من الصحابة والتابعين لهم بإحسان ، بل تغير الاصطلاح في مسمى اللفظ والمقصود به وهو- صلى الله عليه وسلم - لا يشرع للقريب من زيارته ما ينهي عنه المسافر الذي يشد الرحل بخلاف غيره ، فلا يقال إن زيارته بلا شد رحل مشروعة ، ومع شد الرحل منهي عنها كما يقال في سائر المشاهد ، وفي قبور الشهداء وغيرهم من أموات المسلمين، إذ لم يشرع للمقيمين بالمدينة من زيارته ما نهى عنه المسافرون بل جميع الأمة مشتركون فيما يؤمرون به من حقوق حيث كانوا ، بل قد قيل : أن الأمر بالعكس ، وأنه يستحب للمسافر م السلام عليه والوقوف على قبره ما لا يستحب لأهل البلد ، وإذا كان لا يمكن إلا العبادة في مسجده ، فهذا مشروع لمن شد الرحل ومن لم يشده .(54/70)
تبقى النية كما ذكره ، وهذه النية التي يقصد صاحبها القبر دون المسجد ، وقد نص مالك وغيره على أنها مكروهة لأهل المدينة قصداً وفعلاً ، فيكره لهم كلما دخلوا المسجد وخرجوا منه أن يأتوا القبر، وقد ذكر مالك أن هذا بدعة لم تبلغه عن أحد من السلف ، ونهي عنها وقال : لن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها .
فالذي يقصد مجرد القبر ، ولا يقصد المسجد مخالف للحديث ، فإنه قد ثبت عنه في الصحيح أن السفر إلى مسجد مستحب ، وأن الصلاة فيه يألف صلاة(1) ، وتفق المسلمون علي ذلك ، وعلى أن مسجد أفضل المساجد بعد المسجد الحرام ، قال بعضهم : إن أفضل من المسجد الحرام ، ومسجده يستحب السفر إليه والصلاة فيه مفصله لخصوص كونه مسجد الرسول- صلى الله عليه وسلم - بناه هو وأصحابه ، وكان يصلي فيه هو وأصحابه ، فهذه الفضيلة للمسجد في حياة الرسول - صلى الله عليه وسلم - قبل أن يدفن في حجرة عائشة ، وكذلك هي ثابتة بعد موته ، ليست فضيلة المسجد لأجل مجاورة القبر ، كما أن المسجد الحرام مفصل لا لأجل قبر ، وكذلك المسجد الأقصى مفضل لا لأجل قبر ، فكيف لا يكون مسجد النبي مفضلاً لا لأجل قبره ، فمن ظن أن فضيلته لأجل القبر وأنه إنما يستحب السفر إليه لأجل القبر فهو جاهل مفرط في الجهل مخالف لإجمال المسلمين ولما علم من سنة سيد المرسلين - صلى الله عليه وسلم -.
__________
(1) يشير إلى حديث أبي هريرة رضي الله عنه رواه البخاري ومسلم 2/1012-1014 والترمذي 2/147 والنسائي 2/35 .(54/71)
وقال الشيخ أيضاً في موضع آخر من الجواب : ومما يوضح هذا أنه لم يعرف عن أحد من الصحابة أنه تكلم باسم زيارة قبره لا ترغيباً في ذلك ، ولا غير ترغيب ، فعلم مسمى هذا الاسم لم يكن له حقيقة عندهم ، ولهذا كره من مره من العلماء إطلاق هذا الاسم ، والذين أطلقوا هذا الاسم من العلماء إنما أرادوا به اتيان مسجده والصلاة فيه والسلام عليه فيه ، إما قريباً من الحجرة الاسم ، والذين أطلقوا هذا الاسم من العلماء إنما أرادوا به إتيان مسجده والصلاة والسلام عليه فيه إما قريباً من الحجرة وإما بعيداً عنها وإما مستقبلاً القبرة وإما مستقبلاً للحجرة وليس في أئمة المسلمين لا الأربعة ولا غيرهم من احتج على ذلك بلفظ روي في زيارة قبره ، إنما يحتجون بفعل ابن عمر مثلاً وهو أنه كان يسلم أو بما يروي عنه من قوله- صلى الله عليه وسلم - : (( ما من رجل يسلم علي إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام )) (1) وذلك احتاج بلفظ اللام ، لا بلفظ الزيادة ؛ وليس في شيء من مصنفات المسلمين التي يعتمدون عليها في الحديث والفقه أصل عن الرسول ولا عن أصحابه في زيارة القبر .
أما أكثر مصنفات جمهور العلماء فليس فيها استحباب شيء من ذلك بل يذكرون المدينة وفضائلها وإنما حرم ، ويذكرون مسجده وفضله وفضل الصلاة فيه والسفر إليه وإلى المسجد الحرام ونذر ذلك نحو ذلك من المسائل ، ولا يذكرون استحباب زيارة قبره لا بهذا اللفظ ولا بغيره ، فليس في الصحيحين وأمثالها شيء من ذلك ولا في عامة السنن مثل النسائي والترمذي وغيرهما ولا في مسند الشافعي ، وأحمد وإسحاق ونحوهم من الأئمة .
__________
(1) تقدم في ص19 حاشية ( 1 )(54/72)
وطائفة أخرى ذكروا ما يتعلق بالقبر لكن بغير لفظ زيارة قبره كما روى مالك في الموطأ عن ابن عمر(1) أنه كان يسلم على النبي - صلى الله عليه وسلم -وعلى أبي بكر وعمر، كما قال أبو داود في سننه ( باب ما جاء في زيارة قبره ) وذكر قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( ما من رجل يسلم علي إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام )) (2) ولهذا أكثر كتب الفقه المختصرة التي تحفظ ليس فيها استحباب زيارة قبره مع ما يذكرون من أحكام المدينة ، وإنما يذكر ذلك قليل منهم ، والذين يذكرون ذلك يفسرون بإتيان المسجد كما تقدم .
__________
(1) هذا الأثر رواه مالك في الموطأ رواية محمد بن الحسن ص334 حديث رقم أخبرنا عبد الله بن دينار أن ابن عمر فذكروه ورواه البيهقي 5/245 بلفظ .. يقف على قبر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ثم يسلم على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى آله وسلم ويدعو ثم يدعو لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما ورواه أيضاً إسماعيل القاضي في فضل الصلاة على النبي ص83 برقم 98 ، 99 ، 100 .
(2) تقدم صفحة 46 و صفحة 63 من طريق إسحاق بن محمد بن عبد الله العمري بلفظ (فيضع يده اليمني على قبر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ويستدبر القبلة ثم يسلم على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى آله وسلم ثم على أبي بكر وعمر .
وهذا الأثر ضعيف ولفظة يضع يده اليمنى على القبر منكرة تفرد بها عبد الله بن عمر عن نافع وهو المكبر الاسم المصغر الرواية والراوي عن العمري هذا هو إسحاق بن محمد الفروي وهو وإن كان روى له البخاري ففيه ضعف قال أبو حاتم : (( كان صدوقاً ولكن ذهب بصره فربما لقن وكتبه صحيحه وقال مرة ( يضطرب ) ووهاء أبو داود جداً فهذه الزيادة المنكرة منه أو من شيخه .(54/73)
ومعلوم أنه لو كان هذا من سنته المعروفة عند أمته المعمول بها من زمن الصحابة والتابعين لكان ذكر ذلك مشهوراً عند علماء الإسلام في كل زمان كما اشتهر ذكر الصلاة عليه والسلام عليه ، وكما اشتهر عندهم ذكر مسجده وفضل الصلاة فيه ، فلا يكاد يعرف مصنف للمسلمين في الحديث والفقه إلا وفيه ذكر الصلاة والسلام عليه ، وذكر فضل مدينته والصلاة في مسجده .
ولهذا لما احتاج المنازعون في هذه المسألة إلى ذكر سنة الرسول- صلى الله عليه وسلم - وسنة خلفائه وما كان عليه أصحابه لم يقدر أحد منهم على أن يستدل في ذلك بحديث منقول عنه إلا وهو حديث ضعيف بل موضوع مكذوب ، وليس معهم بذلك نقل عن الصحابة ولا عن أئمة المسلمين فلا يقدر أحد أن ينقل عن إمام من أئمة المسلمين أنه قال : يستحب السفر إلى مجرد زيادة القبور ولا السفر إلى مجرد زيارة قبور الأنبياء والصالحين ، ولا السفر لمجرد زيارة قبره- صلى الله عليه وسلم - بدون الصلاة في مسجده .
بل كثير من المصنفات ليس فيها إلا ذكر المسجد والصلاة فيه ، وهي الأمهات كالصحيحين ومساند الأئمة وغيرها وفيما ذكر السلام عند الحجرة كما جاء عن ابن عمر ، وكما فهموه من قوله ، وفيها ما يذكر فيه لفظ زيارة قبره والصلاة في مسجده ، وفيها ما يطلق فيه زيادة قبره ويفسر ذلك بإتيان مسجده والصلاة فيه والسلام عليه فيه .
وأما التصريح بالسفر لاستحباب زيارة قبره دون مسجده ، فهذا لم أره عن أحد من أئمة المسلمين ولا رأيت أحداً من علمائهم صرح به ، وإنما غاية الذي يدعي ذلك أنه يأخذه من لفظ مجمل قاله بعض المتأخرين ، مع أن صاحب ذلك اللفظ قد يكون صرح بأنه لا يسافر إلا إلى المساجد الثلاثة ، أو أن السفر إلى غيرها منهي عنه ، فإذا جمع كلامه علم أن الذي استحبه ليس هو السفر لمجرد القبر بل للمسجد .(54/74)
ولكن قد يقال إن كلام بعضهم ظاهر في استحباب السفر لمجرد الزيارة فيقال ، هذا الظهور إنما كان لما فهم المستمع من زيارة قبره ما يفهم من زيارة سائر القبور ، فمن قال إنه يستحب زيارة قبره ، كما يستحب زيارة سائر القبور ، وأطلق هذا كان ذلك متضمناً لاستحباب السفر لمجرد القبر ، فإن الحجاج وغيرهم لا يمكنهم زيارة قبره إلا بالسفر إليه لمن قد علم أن الزيارة المعهودة من القبور ممتنعة في قبره ، فليست من العمل المقدور ولا المأمور ، فامتنع أن يكون أحد من العلماء يقصد بزيارة قبره هذه الزيارة ، وإنما أرادوا السفر إلى مسجده والصلاة والسلام عليه والثناء عليه هناك ، لكن سموا هذا زيارة لقبره كما اعتادوه .
ولو سلكوا مسلك التحقيق الذي سلكه الصحابة ومن اتبعهم لم يسموا هذا زيارة لقبره ، وإنما هو زيارة لمسجده وصلاة وسلام عليه ودعاء له ، وثناء عليه في مسجده ، سواء كان القبر هنالك أولم يكن .
ثم كثير من المتأخرين لما رويت أحاديث في زيارة قبره ظن أنها أو بعضها صحيح فتركب من إجمال اللفظ ورواية هذه الأحاديث الموضوعة غلط من غلط في استحباب السفر لمجرد زيارة القبر ، وإلا فليس هذا قولاً منقولاً عن إمام من أئمة المسلمين ، وإن قدر أنه قاله بعض العلماء كان هذا قولاً ثالثاً في المسألة .
فإن الناس في السفر لمجرد زيارة القبور لهم قولان : النهي والإباحة ، فإذا كان قولاً من عالم مجتهد ممن يعتد به في الإجماع أن ذلك مستحب صارت الأقوال ثلاثة ثم ترجع إلى الكتاب والسنة كما قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ (#ûqمYtB#uن أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ ÷Lنêôمu""uZs? فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ حچ½zFy$# y7د9¨sŒ ضژِچyz وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا } (النساء 059)
قال المعترض(54/75)
الحديث الرابع : (( من حج فزار قبري بعد وفاتي فكأنما زارني في حياتي )) رواه الدارقطني في سننه وغيرها ورواه غيره أيضاً ، ثم ذكره من حديث أبي الربيع الزهراني عن حفص بن أبي داود ، عن ليث بن أبي سليم ، عن مجاهد ، عن ابن عمر عن النبي- صلى الله عليه وسلم - قال : (( من حج فزار قبري بعد وفاتي كان كمن زارني في حياتي )) وفي لفظ (( من حج فزارني بعد وفاتي كان كمن زارني وصحبتي )) هكذا في هذه الرواية بزيادة صحبتي .
وأعلم أنه هذا الحديث لا يجوز الاحتجاج به ، ولا يصلح الاعتماد على مثله ، فإنه حديث منكر المتن ، ساقط الإسناد ، لم يصححه أحد من الحفاظ ولا احتج به أحد من الأئمة ، بل وضعفوه وطعنوا فيه ، وذكر بعضهم أنه من الأحاديث الموضوعة والأخبار المكذوبة ، ولا ريب في كذب هذه الزيادة فيه .
وأما الحديث بدونها فهو منكر جداً ورواية حفص بن أبي داود وهو حفص ابن سليمان أبو عمر الأسدي الكوفي البزارز القارئ الغاضري ؛ وهو صاحب عاصم بن أبي النجود في القراءة وابن امرأته ، وكان مشهوراً بمعرفة القراءة ونقلها ، وأما الحديث فإنه لم يكن من أهله ، ولا ممن يعتمد عليه في نقله ، ولهذا جرحه الأئمة وضعفوه وتركوه واتهمه بعضهم .
قال عثمان بن سعيد الدارمي وغيره عن يحي بن معين : ليس بثقة ، وذكر العقيلي عن يحي أنه سئل عنه فقال ليس بشيء ، وقال عبد الله بن الإمام أحمد : سمعت أبي يقول : حفص بن سليمان أبو عمر القارئ متروك الحديث .(54/76)
وقال البخاري(1) : ( تركوه ) وقال إبراهيم بن يعقوب الجوزياني(2) : قد فرغ منه من دهر ، وقال مسلم بن الحجاج : متروك ، وقال علي بن المديني : ضعيف الحديث ، وتركته على عمد ، وقال النسائي(3) : (( ليس بثقة ولا يكتب حديثه ، وقال مرة : متروك الحديث )) وقال صالح بن محمد البغدادي : لا يكتب حديثه وأحاديثه كلها مناكير ، وقال زكريا الساجي : يحدث عن سماك وعلقمة بن مرثد وقيس بن مسلم وعاصم أحاديث بواطيل ، وقال أبو زرعة : ضعيف الحديث ، وقال ابن أبي حاتم (4): (( سألت أبي عنه فقال : لا يكتب حديث هو ضعيف الحديث لا يصدق متروك الحديث ، قلت : ما حاله في الحروف ؟ قال أبو بكر بن عياش : أثبت منه وقال عبد الرحمن بن يوسف بن خراش : كذاب متروك ، بضع الحديث .
وقال الحاكم أبو أحمد : ذاهب الحديث ، وقال الدارقطني (5): ضعيف ، وقال أبو حاتم بن حيان(6) : كان يقلب الأسانيد ويرفع المراسيل ، وكان يأخذ كتب الناس فينسخها ويرويها من غير سماع ، وقال ابن عدي(7) : أخبرنا الساجي حدثنا أحمد بن محمد البغدادي ، قال : سمعت يحيى بن معين يقول : كان حفص بن سليمان وأبو بكر بن عياش من أعلم الناس بقراءة عاصم ، وكان حفص أقرأ من أبي بكر ، وكان أبو بكر صدوقاً ، وكان حفص كذاباً ، وروى ابن عدي لحفص أحاديث منكرة غير محفوظة منها هذا الحديث الذي رواه في الزيارة ثم قال : وهذه الأحاديث يرويها حفص بن سليمان ، ولحفص غير ما ذكرت من الحديث وعامة حديثه عمن روى عنهم غير محفوظ.
__________
(1) انظر الضعفاء الصغير للبخاري ، ص357 ، الطبعة الهندية والتاريخ الكبير له 3/313.
(2) انظر أحوال الرجال له رقم 174 .
(3) انظر الضعفاء والمتروكين للنسائي ص82 .
(4) انظر الجرح والتعديل 3/173-174
(5) انظر الضعفاء والمتروكين للدارقطني ، بتحقيق موفق بن عبد الله بن عبد القادر ص185
(6) انظر المجروحين لابن حبان 1/250 .
(7) انظر الكامل لابن عدي 2/788-791 .(54/77)
وقال العقيلي (1): حدثنا عبد الله بن أحمد ، قال : حدثني ابي ،قال: حدثنا يحيى القطان قال : ذكر شعبة حفص بن سليمان فقال : كان يأخذ كتب الناس وينسخها ، وقال شعبة : أخذ مني حفص بن سليمان كتاباً فلم يرده ، وقال العقيلي :أيضاً حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا الحسن بن علي ، حدثنا شبابة قال : قلت لأبي بكر بن عياش : أبو عمر رأيته عند عاصم ، قال : قد سألتني عن هذا غير واحد ولم يقرأ على عاصم أحد إلا وأنا أعرفه ولم أر هذا عند عاصم قط ؛ وقال أبو بشر الدولابي في كتاب الضعفاء والمتروكين حفص بن سليمان متروك الحديث .
وقد روى البيهقي(2) في كتاب السنن الكبير حديث حفص الذي رواه في الزيارة وقال تفرد به حفص وهو ضعيف ، وقال في كتاب ( شعب الإيمان ) وروى حفص بن أبي داود وهو ضعيف عن ليث بن أبي سليم ، عن مجاهد ، عن ابن عمر مرفوعاً (( من حج فزار قبري بعد موتي كان كمن في حياتي )) أخبرناه أبو سعد الماليني أنبأنا أبو أحمد بن عدي ، حدثنا عبد الله بن أحمد البغوي ، حدثنا أبو الربيع الزهراني ، حدثنا حفص بهذا الحديث .
وأخبرنا علي بن أحمد بن عبدان ،أنبأنا أحمد بن عبيد حدثني محمد بن إسحاق الصفار ، حدثنا ابن بكار ، حدثنا حفص بن سليمان فذكره وقال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال البيهقي : تفرد به حفص وهو ضعيف في رواية الحديث .
هكذا ضعف البيهقي حفصاً في كتاب السنن الكبير ، وفي كتاب ( شعب الإيمان ) وذكر أنه تفرد برواية هذا الحديث ، فإذا كانت هذه حال حفص عند أئمة هذا الشأن فيكف يحتج بحديث رواه ، أو يعتمد على خبر نقله ، مع أنه قد اختلف عليه في رواية هذا الحديث ، فقيل عنه عن ليث بن أبي سليم ، كما تقدم ، مع أن ليثاً مضطرب عندهم ، وقيل عنه عن كثير من شظير عن ليس .
__________
(1) انظر الضعفاء للمقبلي 1/270 وميزان الاعتدال للذهبي 1/558 .
(2) انظر السنن الكبرى للبيهقي 5/246 .(54/78)
قال أبو يعلي : أحمد بن علي بن المثنى الموصلي ، حدثنا يحي بن أيوب المقابري ، حدثنا حسان بن إبراهيم ، حدثنا حفص بن سليمان عن كثير بن شنظير عن ليس بن أبي سليم عن مجاهد عن ابن عمر قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (( من حج فزارني بعد وفاتي عند قبري فكأنما زارني في حياتي )) .
واعلم أن هذا المعترض على شيخ الإسلام قد ارتكب من الكلام على هذا الحديث الذي رواه حفص أمراً يدل على جهله ، أو على أنه رجل متبع لهواه ، وهو أنه توقف في كون حفص بن أبي داود راوي هذا الحديث هو حفص بن سليمان القاري ، بل يحتمل أن يكون حفصاً آخر عنده ويكون قد تابع حفصاً على رواية هذا الحديث ، ويكون الحفصان قد اتفقا في اسم الأب وكنيته وجعل ذلك من مواضيع النظر، فقال : قد ذكر ابن حبان في كتاب الثقات ما يقتضي التوقف في ذلك فإنه قال : حفص بن سليمان البصري المنقري يروي عن الحسن مات سنة ثلاثين ومائة ، وليس هذا بحفص بن سليمان البزاز أبي عمر القاري ذاك ضعيف وهذا ثبت (1).
ثم قال في الطبقة التي بعدها هذه : حفص بن أبي داود يروي عن الهيثم بن حبيب عن عون بن أبي جحيفة ، روى عنه أبو الربيع الزهراني .
هذا كلام ابن حبان ومقتضاه أن حفص بن أبي داود المذكور في الطبقة الأخيرة ثقة وأنه غير القاري الضعيف المذكور في الطبقة التي قبله على سبلي التمييز بينه وبين المتقري البصري ، ولعل أبا الربيع الزهراني روى عنهما جميعاً ، أعني حفص بن سليمان المقري ، وحفص بن أبي داود ، وإن اختلفت طبقتهما : وقد ذكر ابن حبان(2) حفص بن سليمان المقري في كتاب المجروحين وذكر ضعفه ، وقال : إنه ابن أبي داود ، ويبعد القول بأن اشتبه عليه ويجعلهما اثنين أحدهما ثقة والآخر ضعيف .
__________
(1) انظر كتاب الثقات لابن حبان 6/195 .
(2) تقدم صفحة 63 حاشية ( 6 )(54/79)
على أن هذا الاستبعاد مقابل بأن ابن عدي(1) ذكر في ترجمة حفص القاري حديثاً من رواية أبي الربيع الزهراني ، عن حفص بن أبي داود ، عن الهيثم بن حبيب ، عن عون بن أبي حجيفة عن أبيه قال : مر النبي- صلى الله عليه وسلم - برجل يصلي قد سدل ثوبه فعطفه عليه .
ويبعد أيضاً أن يكونا اثنين ويشتبه على ابن عدي فيجعلهما واحداص ، والموضع موضع نظر ، فإن صح مقتضى كلام ابن حبان زال الضعف فيه ، ولا ينافي هذا كونه جاء مسمى في رواية هذا الحديث لجواز أن يكون قد وافق حفصاً القاري في اسم أبيه وكنيته وإن كان هو القارئ كما حكم به ابن عدي وغيره وهو ابن امرأة عاصم فقد أكثر الناس الكلام فيه وبالغوا في تضعيفه حتى قيل عن عبد الرحمن بن يوسف بن خراش : أنه كذاب متروك يضح الحديث .
وعندي أن هذا القول سرف ، فإن هذا الرجل إمام قراءة ، وكيف يعتقد أنه يقدم على وضع الحديث والكذب ، ويتفق الناس على الأخذ بقراءته ، وإنما غايته أنه ليس من أهل الحديث(2) ، فذلك وقعت المنكرات والغلط الكثير في روايته .
__________
(1) تقدم صفحة 63 حاشية ( 7 ) .
(2) قلت : هذا هو العدل والإنصاف .(54/80)
هذا كله كلام المعترض وهذا الذي ذكره هو خلاصة نظره ونهاية تحقيقه وغاية بحثه وتدقيقه ، وهو كما ترى مشتمل على الوهم والإبهام والخبط والتخطيط والتلبيس ، لإن راوي هذا الحديث هو حفص بن سليمان القاري الضعيف وهو حفص بن أبي داود بلا شك ولا ريب(1) ، وإن أدنى من يعد من طلبة علم الحديث بعرف ذلك ولا بجهله ولا يشك فيه ، ومن ادعى أن هذا الحديث رواه رجلان كل منهما يقال له حفص بن أبي داود وحفص بن سليمان وأحدهما ثقة والآخر ضعيف ، فهو جاهل مخطئ بالإجماع أو معاند صاحب هوى متبع لهواه مقصود الترويج والتلبيس ، وخلط الحق بالباطل { وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ } (النور 040)
ومن نظر من آحاد الناس في كتب الحديث واطلع على كلام أئمة الجرح والتعديل ، وعنى بذلك بعض العناية تبين له أن راوي هذا الحديث هو حفص بن سليمان القارئ وأنه حفص بن أبي داود وأنه لم يتابعه على روايته حفص آخر غيره قد وافقه في اسمه واسم أبيه وكنيته ، وهو مع هذا من جملة الثقات ، وها أنا أسوق هذا الحديث من كتب بعض من ذكره من الأئمة وأشير إلى ما يتبين به من كلامهم من رواية حفص بن سليمان القاري الذي يقول فيه بعض الرواة : حفص بن أبي داود .
قال البيهقي : في كتاب السنن الكبير حدثنا أبو محمد عبد الله بن يوسف أملاء ، أنبأنا أبو الحسن محمد بن نافع بن إسحاق الخزاعي بمكة ، حدثنا المفضل بن محمد الجندي حدثنا سلمة بن شبيب ، حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا حفص بن سليمان أبو عمر عن ليث بن أبي سليم ، عن مجاهد عن عبد الله بن عمر ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( من حج فزار قبري بعد موتي كأن كمن زارني في حياتي )) .
__________
(1) ذكر الخطيب البغدادي في ( موضع أوهام الجمع والتفريق ) أن حفص بن سليمان البزار أبا عمر الفاري وحفص بن داود وحفص الغافري هو واحد 2/47-48 .(54/81)
قال البيهقي : وأخبرنا أبو سعد الماليني ، أنبأنا أبو أحمد بن عدي الحافظ ، حدثنا الحسن بن سفيان ، حدثنا علي بن حجر ، حدثنا حفص بن سليمان ، وأنبأنا أبو أحمد بن عدي ، حدثنا عبد الله بن محمد البغوي ، حدثنا أبو الربيع الزهراني ، حدثنا حفص بن أبي داود فذكره ، قال البيهقي : تفرد به حفص وهو ضعيف (1).
فهذا البيهقي قد نص على أن حفصاً تفرد به وحكم عليه بالضعف ، وسماه في رواية حفص بن سليمان ، وفي أخرى حفص بن أبي داود ، فدل على أن راوي هذا الحديث المسمى بحفص عنده رجل واحد وهو ضعيف .
وقال الحافظ أبو أحمد بن عدي في كتاب الكامل(2) الذي روى البيهقي هذا الحديث منه ولم يسبق متنه أخبرنا الحسن بن سفيان ، حدثنا علي بن حجر ، وحدثنا عبد الله بن محمد البغوي ، حدثنا أبو الربيع الزهراني ، قال علي : حدثنا حفص بن سليمان ، وقال أبو الربيع : حدثنا حفص بن أبي داود وقالا : عن ليث عن مجاهد عن عبد الله بن عمر قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (( من حج فزار قبري بعد موتي كأن كمن زارني في حياتي وصحبتي)) . والفظ لابن سفيان قال ابن عدي : وهذا الحديث عن ليس لا يرويه عنه غير حفص ، قال وحفص بن سليمان ، هو حفص بن أبي داود ، وقال : كذا يسميه أبو الربيع الزهراني لضعفه .
__________
(1) انظر السنن الكبرى للبيهقي 5/246 .
(2) انظر الكامل لابن عدي 2/790 .(54/82)
وما نقله هذا المعترض عن كتاب الثقات لابن حبان وأنه ذكر فيه حفص بن أبي داود ، يروي عن الهيثم بن حبيب ، ويروي عنه أبو الربيع الزهراني لم أره في النسخة التي عندي(1) بكتاب الثقات لابن حبان ، ولعل المعترض رآه حاشية في كتاب فظن أنها من الأصل ، فإن صح أن ابن حبان ذكر حفص بن أبي داود في كتاب الثقات ، وزعم أنه غير القاري الضعيف ، بل هو من جملة الثقات فقد أخطأ في ظنه ووهم في زعمه ، فإن حفص بن أبي داود الذي يروي عن الهيثم ، ويروي عنه أبو الربيع هو حفص بن سليمان القاري بلا شك ، ولكن كان أبو الربيع يسميه حفص بن أبي داود لما اشتهر من ضعفه وعرف من جرحه .
وقد قال ابن عدي في كتاب الكامل(2) ، حدثنا الحسن بن عرفة ، حدثنا سليمان بن نافع ، حدثنا أبو معشر الدارمي البصري أنا سألته ، حدثنا أبو الربيع الزهراني ، حدثنا حفص بن أبي داود الأسدي ، حدثنا الهيثم بن حبيب الصراف ، عن عطية العوفي ، عن أبي سعيد الخدري : قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (( إن أهل الجنة ليتراؤن أهل عليين كما ترون الكوكب الدري في السماء ، وإنا أبا بكر وعمر منهم وأنعما )) .
قال ابن عدي عقب روايته هذا الحديث ، وهذا الحديث عن الهيثم الصراف لا يرويه غير حفص بن سليمان بن أبي داود الأسدي ، كذا يسميه أبو الربيع الزهراني لضعفه وهو حفص بن سليمان .
__________
(1) وهو كما قال : حديث لم أره أنا كذلك في النسخة التي بين يدي .
(2) صوابه كما في الكامل 2/789 ، ثنا الحسن بن سليمان بن نافع أبو معشر الدارمي البصري أنا سألته .. إلخ فزيادة ( عرفة حدثنا ) خطأ .(54/83)
وقال ابن عدي أيضاً(1) حدثنا عبد الله بن محمد بن عبد العزيز ، حدثنا أبو الربيع الزهراني ، حدثنا حفص بن أبي داود عن الهيثم بن حبيب ، عن عون بن أبي جحيفة ، عن أبيه قال : مر النبي برجل يصلي قد سدل ثوبه فعطفه عليه ، قال ابن عدي ، وهذا الحديث أيضاً لا يريوه عن الهيثم بن حبيب غير حفص هذا .
فهذا ابن عدي قد نص على أن حفص بن أبي داود الذي زعم المعترض أن ابن حبان ذكره في الثقات هو حفص بن سليمان القاري وهذا لا شك فيه .
وقد قال ابن حبان في كتاب ( المجروحين ) (2) حفص بن سليمان الأسدي القاري أبو عمر البزاز ، وهو الذي يقال له حفص بن أبي داود الكوفي ، وكان من أهل الكوفة ، سكن بغداد يروي عن علقمة بن مرثد وكثير بن شظير ، روى عنه هشام بن عمار ومحمد بن بكار كان يقلب الأسانيد ويرفع المراسيل ، وكان يأخذ كتب الناس فينسخها ويرويها من غير سماع .
سمعت محمد بن محمود يقول : سمعت الدارمي يقول : سألت يحيى بن معين عن حفص بن سليمان الأسدي فقال : ليس بثقة ، هكذا ذكر .
وذكر ابن حبان : ( حفص بن سليمان في كتاب الضعفاء وقال : إنه هو الذي يقال له حفص بن أبي داود ) وهذا الذي قاله صحيح لا شك فيه ، وهو الذي قاله غيره من الأئمة الحفاظ ، فإن صح عنه مع هذا أنه ذكر حفص بن أبي داود في كتاب الثقات ، فقد تناقض تناقضاً بيناً وأخطأ خطاً ظاهراً ؛ ووهم وهماً فاحشاً ، وقد وقع له مثل هذا التناقض والوهم في مواضع كثيرة .
وقد ذكر الشيخ أبو عمر بن الصلاح أنه غلط الغلط الفاحش في تصرفه ، ولو أخذنا في ذكر ما أخطأ فيه وتناقض من ذكره الرجل الواحد في طبقتين متوهماً كونه رجلين ، وجمعه بين ذكر الرجل في الكتابين ، كتاب الثقات وكتاب المجروحين ونحو ذلك من الوهم والإيهام لطال الخطاب .
__________
(1) سقط في الأصل الذي بين أيدينا شيخ ابن عدي وشيخ شيخه وهما ( عبد الله بن محمد وأبو الربيع الزهراني ) .
(2) تقدم ص 63 حاشية ( 6 ) .(54/84)
وليس ببدع من هذا الرجل المعترض على شيخ الإسلام المتبع لهواه أن يأخذ يقول أخطأ فيه قائله ، ولم يوافق عليه ، ويدع قولاً أصاب قائله وتويع عليه والله الموفق .
وقال أبو القاسم الطبراني(1) : حدثنا الحسين بن إسحاق التستري ، حدثنا أبو الربيع الزهراني ، حدثنا حفص بن أبي داود ، عن ليس ، عن مجاهد ، عن ابن عمر عن النبي- صلى الله عليه وسلم - قال : (( من حج فزار قبري بعد وفاتي كمن زارني في حياتي )) .
وقال أبو الحسن الدارقطني(2) : حدثنا عبد الله بن محمد بن عبد العزيز ، حدثنا أبو الربيع ، حدثنا حفص بن أبي داود ، عن ليث بن أبي سليم ، عن مجاهد قال : قال رسول الله : (( من حج فزار قبري بعد وفاتي فكأنما زارني في حياتي )) رواه أبو يعلي الموصلي عن أبي الربيع .
وقال بعض الحفاظ في زمن أبي عبد الله بن منده ،حدثنا أبو الحسن حامد بن حماد بن المبارك السر من رائي بنصبيين ، حدثنا أبو يعقوب إسحاق بن سيار بن محمد النصيبي ، حدثنا عامر بن سيار بمصر ، حدثنا حفص بن سليمان عن ليث بن أبي سليم عن مجاهد ، عن عبد الله بن عمر قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (( من حج فزارني في مسجدي بعد وفاتي كان كمن زارني في حياتي )) .
هكذا رواه بهذا اللفظ وقال : وقد روى هذا الخبر عن حفص بن سليمان محمد بن بكار وسعيد بن منصور ، وقد ذكرناه بأسانيده في الكتاب الكبير ، وقد رواه أيضاً حفص بن سليمان عن كثير من شظير عن ليس ، ثم ذكره كما تقدم من رواية أبي يعلي الموصلي .
__________
(1) انظر المعجم الكبير للطبراني 12/406 حديث رقم 13497 .
(2) انظر سنن الدارقطني 2/278 حديث رقم 192 .(54/85)
وقال الشيخ أبو الفرج بن الجوزي : أخبرنا أبو الفضل الحافظ عن أبي علي الفقه قال : أنبأنا أبو القاسم الأزهري أنبأنا القاسم بن الحسن ، حدثنا الحسن بن الطيب حدثنا علي بن حجر ، حدثنا حفص بن سليمان ، عن ليث عن مجاهد عن ابن عمر قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (( من حج فزار قبري بعد موتي كان كمن زارني في حياتي وصبحتي )) . هكذا رواه بهذه الزيادة وقد تقدمت من وجه آخر .
والحديث من أصله ليس بصحيح ، وهذه الزيادة فيه منكرة جداً وقال البخاري في (كتاب الضعفاء ) (1) له : حفص بنت سليمان الأسدي أبو عمر القاري عن علقمة بن مرشد وعاصم تركوه وهو ابن أبي داود الكوفي ، ثم قال ابن أبي القاضي حدثنا سعيد بن منصور ،حدثنا حفص بن سليمان ، عن ليث ،عن مجاهد ، عن ابن عمر قال :قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (( من حج وزارني بعد موتي كان كمن زارني في حياتي )) هكذا ذكره البخاري تعليقاً في مناكير حفص .
وقال في كتاب التاريخ(2) : حفص بن سليمان الأسدي أبو عمر القارئ تركوه وهو حفص بن أبي داود ، وقال ابن أبي حاتم في كتاب ( الجرح والتعديل ) (3) حفص بن سليمان الأسدي أبو عمر المقري ، وهو البزاز ، وهو ابن أبي داود صاحب عاصم في القراءات سمعت أبي يقول ذلك ؛ ثم قال : سئل أبو زرعة عن حفص بن أبي داود فقال : هو حفص بن سليمان وهو ضعيف الحديث ، وقال الحاكم أبو أحمد في كتاب ( الكنى ) : أبو عمر حفص بن سليمان الأسدي المقري الكوفي ، وسليمان الأسدي المقري الكوفي ، وسليمان يكنى أبا دود ، ذاهب الحديث .
__________
(1) تقدمت الترجمة ص 63 حاشية ( 1 )
(2) انظر التاريخ الكبير للبخاري 2/363 .
(3) تقدم برقم صفحة 63 حاشية (4) .(54/86)
فقد تبين بما ذكرناه من هذه الروايات وكلام أئمة الجرح والتعديل أن حفص بن سليمان راوي هذا الحديث هو حفص بن أبي داود وهو حفص القاري صاحب عاصم ، وأنه لا يصلح الاحتجاج به ولا الاعتماد على روايته ، وإن من توهم أن هذا الحديث رواه رجلان مشتركان في الاسم ، واسم الأب وكنيته أحدهما ثقة والآخر ضعيف ، فقد أخطأ بيناً ، وارتكب أمراً منكراً لم يتابعه أحد عليه ولم يسبقه أحد إلى توهمه .
وإني لأتعجب من هذا الرجل المعترض كيف يرتكب مثل هذا التخليط في الكلام والتلبيس في القول بعد التعب العظيم والكدح الكثير ، ثم يزعم مع هذا أن كلام شيخ الإسلام مشتمل على التخليط وعدم البيان وتبعيد المعنى عن الأفهام ، فإنه قال في أثناء كلامه في كتابه الذي ألفه في الرد على الشيخ ، وقد وقفت له على كلام طويل في ذلك يعني في التوسل والاستغاثة رأيت في الرأي القويم ، أن أميل عنه إلى الصراط المستقيم ولا أتبعه بالنقض والإبطال ، فإن دأب العلماء القاصدين لإيضاح الدين وإرشاد المسلمين ، تقريب المعنى إلى أفهامهم ، وتحقيق مرادهم وبيان حكمه ، ورأيت كلام هذا الشخص بالضد من ذلك فالوجه الإضرار عنه .
هذا كله قول المعترض على شيخ الإسلام في كلامه المتضمن لتجريد التوحيد وسد ذرائع الشرك دقيقة وجليلة وقد علم الخاص والعام أن كلام شيخ الإسلام في سائر أنواع علوم الإسلام فيه من التحرير والتحقيق وغاية البيان والإيضاح وتقريب المعاني إلى الأفهام وحسن التعليم والإرشاد إلى الطريق القويم ما يضيق هذا الموضع من ذكره .
ويمكن الإنسان أن يقابل هذا المعترض على ما في كلامه من الكذب وسوء الأدب بأضعاف ما قاله ويكون صادقاً في قوله مصيباً في عمله ، وليس المقصود هنا مقابلته على ما في كلامه هذا من الجور والعدوان والظلم ، وإنما المراد تبين خطئه في الكلام على حديث حفص بن سليمان المذكور ، وما وقع منه من التخليط والتلبيس وقد حصل ذلك ولله الحمد .(54/87)
فإن قيل : قد روي هذا الحديث من وجه آخر عن ليث بن أبي سليم .
قال أبو بكر محمد بن خلف بن زنبور الكاعدي : أخبرنا أبو بكر محمد بن السري بن عثمان التمار ، حدثنا نصر بن شعيب مولى العبدين ، حدثنا أبي ، حدثنا جعفر بن سليمان الضيعي ، عن ليث ، عن مجاهد ، عن ابن عمر قال : قال رسول الله : (( من حج بعد وفاتي وزار قبري كان كمن زارني في حياتي )) والجواب أن يقال هكذا وقع في هذه الرواية جعفر بن سليمان الضبعي ، وذلك خطأ قبيح ووهم فاحش ، والصواب حفص بن سليمان ، وهو حفص بن أبي داود القاري ، والحديث حديثه وبه يعرف ومن أجله يضعف ولم يتابعه عليه ثقة ويحتج به ، وهذا التصحيف الذي وقع في هذا الإسناد هو من بعض هؤلاء الشيوخ الذين لا يعتمد على نقلهم ولا يحتج بروايتهم .
وابن زنبور هو محمد بن عمر بن علي بن خلف بن محمد بن زنبور أبو بكر الوراق وهو شيخ تكلم فيه الحافظ أبو بكر الخطيب ، وقال : كان ضعيفاً جداً(1) . وقال العتيقي كان فيه تساهل ، وشيخ ابن زنبور هو أبو بكر محمد بن السري التمار صاحب الجزء وهو معروف برواية المناكير والموضوعات ، ونصر بن شعيب وأبوه ليسا ممن يحتج بخبرهما ولا يعتمد علي حديثهما ، ولا يحتج بمثل هذا الإسناد من عقل شيئاً من علم الحديث والله أعلم .
__________
(1) قلت :هو محمد بن عمر بن علي بن خلف بن محمد بن زنيور بن عمرو بن تميم أبو بكر الوراق انظر تاريخ بغداد للخطيب 3/35 والميزان للذهبي 3/671 .(54/88)
فإذا قيل : قد روي هذا الحديث من غير رواية حفص بن سليمان عن ليس بن أبي سليم قال المعترض : ولو ثبت ضعفه يعني حفص بن سليمان ، فإنه لم ينفرد بهذا الحديث ، وقول البيهقي : أنه تفرد به بحسب ما أطلع عليه ، وقد جاء في معجم الطبراني الكبير والأوسط متابعته ، ثم ذكر عن طريق الطبراني(1) قال : حدثنا أحمد بن رشدين ، حدثنا علي بن الحسن بن هارون الأنصاري ، حدثنا الليث ابن بنت الليث بن أبي سليم قال : حدثتني جدتي عائشة بنت يونس امرأة الليث ، عن ليث بن أبي سليم عن مجاهد عن ابن عمر قال : قال رسول الله : (( من زار قبري بعد موتي كان كمن زارني في حياتي )) .
فالجواب أن يقال ليس هذا الإسناد بشيء يعتمد عليه ، ولا هو مما يرجع إليه ، بل هو إسناد مظلم ضعيف جداً ، لأنه مشتمل على ضعيف لا يجوز الاحتجاج به ، ومجهول لم يعرف من حاله ما يوجب قبول خبرة ، وابن رشدين(2) ، شيخ الطبراني قد تكلموا فيه ، وعلي بن الحسن الأنصاري(3) ليس هو ممن يحتج بحديثه والليث ابن بنت الليث بن أبي سليم(4) ، وجدته عائشة(5) مجهولان لم يشتهر من حالهما عند أهل العلم ما يوجب قبول روايتهما ، ولا يعرف لهما ذكر في غير هذا الحديث ، وليث بن أبي سليم(6) مضطرب الحديث ، قاله الإمام أحمد بن حنبل .
__________
(1) انظر معجم الطبراني الكبير 12/406 حديث رقم 13496 ، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد 4/2 بعد ذكره الحديث وفيها عائشة بنت يونس ولم أجده من ترجمها .
(2) هو أحمد بنرشدين قال فيه الهيثمي في المجمع 10/26 ضعيف .
(3) لم أعثر على ترجمته فيما لدي من كتب الرجال .
(4) لم أعثر على ترجمته فيما لدي من المراجع .
(5) قال الهيثمي في مجمع الزوائد 4/2 بعد ذكره حديث ابن عمر التي هي في مسنده ، ولم أجد من ترجمها .
(6) انظر الميزان للذهبي 3/420 والمجروحين لابن حبان 2/230 والكبير للبخاري .(54/89)
قال ابو معمر القطيعي : كان ابن عيينة يضعف ليث بن أبي سليم ، وقال يحي بن معين والنسائي(1) : ضعيف ، وقال السعدي : يضعف حديث وقال إبراهيم بن سعيد الجوهري : حدثنا يحي بن معين عن يحي بن سعيد القطان أنه كان لا يحدث عن ليس بن أبي سليم .
وقال أحمد بن سليمان الرهاوي ، عن مؤمل بن الفضل ، قلنا لعيسى بن يونس ألم تسمع من ليث بن أبي سليم ؟ قال : قد رايته ، وكان قد اختلط وكان يصعد المنارة بارتفاع النهار فيؤذن ، وقال ابن أبي حاتم(2) سمعت أبي ، وأبا زرعة يقولان : ليث لا يشتغل به هو مطرب الحديث ، وقال أيضاً : سمعت أبا زرعة يقول : ليث بن أبي سليم لين الحديث لا تقوم به الحجة عند أهل العلم بالحديث .
والحاصل أن هذا المتابع الذي ذكره المعترض من رواية الطبراني لا يرتفع به الحديث عن درجة الضعف والسقوط ، ولا ينهض إلى رتبة تقتضي الاعتبار والاستشهاد لظلمة اسناده وجهالة رواته ، وضعف بعضهم واختلاطه ، واضطراب حديثه ، ولو كان الإسناد صحيحاً إلى ليث بن أبي سليم لكان فيه ما فيه ، فكيف والطريق إليه ظلمات بعضها فوق بعض والله أعلم ؟
فإذا قيل قد روي هذا الخبر من وجه آخر غير طريق ليث بن أبي سليم قال بعض الحفاظ المتأخرين ، حدثنا أبو بكر محمد بن عبد الله بن بكار بن كرمون بإنطاكية حدثناأبو عمر وعثمان بن عبد الله بن خرزاذ البغدادي ، حدثنا النعمان بن شبل ، حدثنا محمد بن الفضل ، عن جابر ، عن محمد بن علي ، عن علي بن أبي طالب قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ((من زار قبري بعد موتي فكأنما زارني في حياتي ومن حج ولم يزر قبري فقط جفاني ))
فالجواب أن يقال : هذا خبر منكر جداً ، ليس له أصل ، بل هو حديث مفتعل موضوع وخبر مختلق مصنوع لا يجوز الاحتجاج به ، ولا يحسن الاعتماد عليه لوجوه :
__________
(1) انظر الضعفاء للنسائي ص209 رقم 536 .
(2) انظر الجرح والتعديل 7/177 .(54/90)
إحداهما : أنه من رواية النعمان بن شبل وقد اتهمه موسى بن هارون الحمال وقال أبو حاتم بن حبان البستي(1) : يأتي عن الثقات بالطامات ، وعن الأثبات بالمقلوبات .
والثاني : أن في إسناده محمد بن الفضل بن عطية(2) ، وكان كذاباً قاله يحي بن معين ، وقال الإمام أحمد بن حنبل : ليس بشيء ، حديثه حديث أهل الكذب ، وقال إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني(3) ، كان كذاباً سألت ابن حنبل عنه فقال : ذاك عجب يجيئك بالطامات وقال الفلاس : متروك الحديث كذاب ، وقال أبو حاتم(4) الرازي : ذاهب الحديث ترك حديثه .
وقال مسلم بن الحجاج وابن خراش والنسائي(5) : متروك الحديث ، وقال النسائي في موضع آخر : كذاب ، وقال ابن عدي(6) : عامة حديثه مما لا يتابعه الثقات عليه ، وقال صالح بن محمد الحافظ ، كان يضع الحديث ، وقال ابن حبان(7) : كان ممن يروي الموضوعات عن الإثبات ، لا يحل كتب حديثه إلا على سبيل الاعتبار ، كان أبو بكر بن أبي شيبة شديد الحمل عليه .
__________
(1) انظر المجروحين 3/73 .
(2) انظر المجروحين لابن حبان 2/278 .
(3) أحوال الرجال للجوزجاني ص202 ، رقم الترجمة 372 ، وراجع الأباطيل للجوزجاني 1/94 والتقريب للحافظ ابن حجر والضعفاء للذهبي وسلسلة الأحاديث الضعيفة للألباني 2/423 ,
(4) انظر الجرح والتعديل 8/56 .
(5) انظر الضعفاء للنسائي ص220 رقم 569 ز
(6) انظر الكامل لابن عدي 6/2170 .
(7) انظر المجروحين لابن حبان تقدم برقم 133 وانظر التاريخ الصغير للبخاري ص226 من الطبعة الهندية والتاريخ الكبير للبخاري أيضاً 1/208 والضعفاء للعقيلي 4/120 والكاشف للذهبي 3/89 والميزان للذهبي 4/6 وراجع تهذيب التهذيب .(54/91)
الثالث : أن في طريقة جابر وهو الجعفي لم يكن بثقة ، قال أبو حاتم الرازي(1) عن أحمد بن حنبل : تركه يحيى وعبد الرحمن ، وقال أبو حنيفة(2) : ما رأيت أحداً أكذب من جابر الجعفي .
وقال يحيى بن معين : كان جابر الجعفي كذاباً لا يكتب حديثه ولا كرامة ليس بشيء ، وقال السعدي : كذاب ، سألت عنه أحمد بن حنبل : فقال : تركه ابن مهدي فاستراح ،وقال النسائي(3) : متروك الحديث ، وقال في موضع آخر ليس بثقة ، ولا يكتب حديث ، وقال الحاكم أبو أحمد : ذاهب الحديث ، وقال ابن حبان (4): كان سبئياً من أصحاب عبد الله بن سبأ ، وكان يقول أن علياً يرجع إلى الدنيا ، ثم روى عن سفيان بن عيينة أنه قال : كان جابر الجعفي يؤمن بالرجعية ، وقال زائدة : أما جابر الجعفي ، فكان والله كذاباً يؤمن بالرجعة.
الرابع : أن محمد بن علي(5) الذي روى عنه جابر هو أبو جعفر الباقر ، ولم يدرك جد أبيه علي بن أبي طالب رضي الله عنه .
وفي الجملة ليس هذا الخبر مما يصلح الاستشهاد به ولا الاعتبار ولا يحتج به إلا من هو أجهل الناس بالعلم .
__________
(1) انظر الجرح والتعديل 2/497 .
(2) انظر الضعفاء للعقيلي 1/196 .
(3) انظر الضعفاء والمتروكين للنسائي ص71 رقم 100 .
(4) انظر المجروحين لابن حبان 1/202 ، قلت وانظر كذلك التاريخ الكبير للبخاري 2/210 نقل عن الشعبي أنه قال : يا جابر لا تموت حتى تكذب على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال إسماعيل بن أبي خالد ما مضى من الأيام والليالي حتى اتهم بالكذب والصغير ص255 ضمن الطبعة الهندية والميزان 1/379 والتكاشف 1/177 والمغني 1/126 وراجع تهذيب التهذيب.
(5) انظر تهذيب التهذيب 9/350 .(54/92)
وقد قال شيخ الإسلام في أثناء كلامه على حديث حفص بن سليمان بعد أن ذكر ضعف حفص وكلام أئمة الجرح والتعديل فيه قال : ونفس المتن باطل فإن الأعمال التي فرضها الله تعالى ورسوله لا يكون الرجل بها مثل الواحد من الصحابة ، بل في الصحيحين عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : (( لو اتفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه )) (1) فالجهاد والحج ونحوهما أفضل من زيارة قبره باتفاق المسلمين ولا يكون الرجل بهما كمن سافر إليه في حياته ورآه .
__________
(1) رواه البخاري 7/21 من حديث أبي سعيد الخدري ومسلم 4/1967-1968 منحديث أبي سعيد وأبي هريرة وأبي داود 5/45 حديث رقم 4658 والترمذي 5/695 حديث رقم 3861 من حديث أبي سعيد أيضاً ، وابن ماجة في المقدمة 1/57 حديث رقم 161 من حديث أبي هريرة .
فائدة : هذا الحديث الصواب فيه أنه من حديث أبي سعيد راجع الكلام على هذا الحديث في تحفة الأشراف 3/343 وفتح الباري 7/34-36 .(54/93)
وكان الشيخ قد بحث قبل هذا مع بعض من اعترض عليه من المالكية ، واحتج في زيارة قبره بالقياس على زيارة الحي بعد أن ذكر الشيخ ما استدل به فقال: قال المعترض المناقض : وروى مسلم في صحيحه في الذي سافر لزيارة أخ له في الله ، ولفظ الحديث : أن رجلاً زار أخاً له في قرية أخرى فأرصد الله على مدرجته ملكاً ، فلما أتى عليه ، قال : أين تريد ؟ قال : أريد أخاً لي في تلك القرية ، قال : هل لك عليه من نعمة تربها ؟ قال : لا إلا أني أحببته في الله ، فقال : إن رسول الله إليك بأن الله أحبك كما أحببته فيه(1) ، وفي موطأ مالك عن معاذ بن جبل في حديث ذكر فيه سمعت رسول الل- صلى الله عليه وسلم -ه يقول : أي عن الله ((ووجبت محبتي للمتحابين في ، والمتجلسين في والمتزاورين في والمتباذلين في )) (2).
قال : فقد علمت أيها الأخ بهذا فضيلة زيارة الإخوان وما أعد الله بها للزائرين من الفضل والإحسان ، فكيف بزيارة منهو حي الدارين وإمام الثقلين الذي جعل الله حرمته في حال مماته كحرمته في حال حياته ، ومن شرفه الحق بما أعطاه من جميع صفاته ومن هدانا ببركته إلى الصراط المستقيم وعصمنا به من الشيطان الرجيم ، ومن هو آخذ بحجرنا أن تقتحم في نار الجحيم ومن هو بالمؤمنين رؤوف رحيم ؟
__________
(1) رواه مسلم 4/1988 وأحمد 2/292 و 408 و 462 و 482 و 508 .
(2) أخرجه مالك ( الجزء الثاني ص127 مع شرح السيوطي ) ما جاء في المتحابين في الله وأحمد 5/223 و 247 وسنده صحيح . انظر صحيح الجامع 1911 .(54/94)
قال الشيخ : والجواب أما زيارة الأخ الحي في الله كما في الحديث فهذا نظير زيارته في حياته يكون الإنسان بذلك من أصحابه وهم خير القرون ، وأما جعل زيارة القبل كزيارته حياً كما قاسه هذا المعترض ، فهذا قياس ما علمت أحداً من علماء المسلمين قاسه ، ولا علمت أحداً منهم احتج في زيارة قبره بالقياس على زيارة الحي المحبوب في الله ، وهذا من أفسد القياس ، فإنه من المعلوم أن من زار الحي حصل له بمشاهدته وسماع كلامه ومخاطبته وسؤاله وجوابه وغير ذلك مما لا يحصل لمن لم يشاهده ولم يسمع كلامه.
وليس رؤية قبره أوريؤة الجدار الذي بنى على بيته بمنزلة رؤيته ومشاهدته ومجالسته وسماع كلامه ، ولو كان هذا مثل هذا لكان كل من زار قبره مثل واحد من أصحابه ومعلوم أن هذا من أباطل الباطل .
وأيضاً فالسفر إليه في حياته إما أن يكون لما كانت الهجرة إليه واجبة كالسفر قبل الفتح فيكون المسافر إليه مسافراً للمقام عنده بالمدينة مهاجراً من المهاجرين إليه ، وهذا السفر انقطع بفتح مكة ، فقال : (( لا هجرة بعد الفتح ولمن جهاد ونية )) (1) ولهذا لما جاء صفوان بن أمية مهاجراً امره أن يرجع إلى مكة ، وكذلك سائر الطلقاء كانوا بمكة لم يهاجروا .
__________
(1) أخرجه البخاري 6/37 ومسلم 3/1487 وأبو داود 3/8 حديث رقم 2480 والترمذي 4/148 حديث رقم 1590 والنسائي في الكبرى 84/1 قاله المزي 5/26 تحفة والدارمي 2/239 وأحمد 1/226 ، 26 ، 355 و 5/187 كلهم من حديث ابن عباس .(54/95)
وإما أن يكون المسافر إليه وافداً إليه ليسلم ويتعلم منه ما يبلغه قومه كالوفود الذين كانوا يفيدون عليه ، لا سيما سنة تسع وعشر سنة الوفود ، وقد أوصى في مرضه بثلاث فقال : (( أخرجوا النصارى من جزيرة العرب وأجيزوا الوفود بنحو ما كنت أجيزهم )) (1) ومن الوفود وفقد عبد القيس لما قدموا عليه ورجعوا إلى قومهم بالبحرين (2)، لكن هؤلاء أسلموا قديماً قبل فتح مكة وقالوا : لا نستطيع أن نأتيك إلا في شهر حرام لأن بيننا وبينك هذا الحي من كفار مضر ، وهم أهل نجد كأسد وغطفان وتميم وغيرهم فإنهم لم يكونوا قد أسلموا بعد .
وكان السفر إليه في حياته لتعلم الإسلام والدين ولمشاهدته ، وسماع كلامه ، وكان خير محضاً ، ولم يكن أحد من الأنبياء والصالحين عبد في حياته بحضرته ، فإنه كان ينهى من يفعل ما هو دون ذلك من المعاصي ، فكيف بالشرك ، كما نهى الذين سجدوا(3) له ، ونهى الذين صلوا خلفه قياماً ، وقال : (( إن كدتم تفعلون فعل فارس والروم فلا تفعلوا))(4) رواه مسلم .
__________
(1) أخرجه البخاري 6/170 ، 270 وكذلك في المغازي باب مرض النبي صلى الله عليه وسلم وعلى آله وسلم ووفاته ، ومسلم 3/1388 - 1258 ، وأبو داود 3/423 -424 وأحمد 1/222 جميعاً عن ابن عباس ، وانظر السلسلة الصحيحة 1132 ومسلم عن جابر 3/1388 والترمذي 4/156 وأبو داود 3/424 .
(2) يشير إلى ما رواه الشيخان من حديث ابن عباس ، رواه البخاري 1/129 و 2/7 و 6/208 ومسلم 1/46 ورواه مسلم أيضاً من حديث أبي سعيد .
(3) كأنه يشير إلى حديث معاذ بن جبل عندما قدم من الشام وسجد له فنهاه ، عن ذلك والحديث أخرجه ابن ماجة وغيره وهو ضعيف إلا أنه بمجموع طرقه صالح للحجة انظر كلام شيخنا مقبل بن هادي الوادعي حفظه الله .
(4) رواه مسلم 1/309 وأبو داود في الصلاة 1/403 حديث 602 وابن ماجة 1/393 حديث رقم 1240 جميعاً عن جابر ورواه غيرهم .(54/96)
وفي المسند بإسناد صحيح عن أنس قال: (( لم يكن شخص أحب إليهم من(1) رسول الله- صلى الله عليه وسلم - وكانوا إذا رأوه لم يقوموا له لما يعلمون من كراهته لذلك )) وفي الصحيح أن جارية قالت عنده (( وفينا نبي يعلم ما في غده )) فقال- صلى الله عليه وسلم -: (( هذا وقولي الذي كنت تقولين )) (2)، ومثل هذا كثير من نهيه عن المنكر بحضرته ، فكل من رآه في حياته لم يتمكن أن يفعل بحضرته منكراً يقر عليه .
إلى أن قال : ومعلوم أنه لو كان حياً في المسجد من أفضل العبادات وقصد القبر الذي اتخذ مسجداً مما نهى عنه ، ولعن أهل الكتاب على فعله(3) : وأيضاً فليس عند قبره مصلحة من مصالح الدين ، وقربة إلى رب العالمين إلا وهي مشروعة في جميع البقاع(4) ، فلا ينبغي أن يكون صاحبها غير معظم للرسول- صلى الله عليه وسلم - التعظيم التام والمحبة والتامة إلا عند قبره ، بل هو مأمور بهذا في كل مكان .
وزيارته في حياته مصلحة راجحة لا مفسدة فيها ، والسفر إلى القبر بمجردة بالعكس مفسدة راجحة ، وهناك بفعل من حقوقه ما يشرع في سائر المساجد ، وهذا مما يتبين به كذب الحديث الذي يقال فيه : (( من زارني بعد مماتي فكأنما زارني في حياتي )) وهذا الحديث هو معروف من رواية حفص بن سليمان الغاضري صاحب عاصم ، عن ليث بن أبي سليم ، عن مجاهد ، عن ابن عمر قال : قال رسول الله : (( من حج فزار قبري بعد موتي كان كمن زارني في حياتي )) (5) وقد رواه عنه غير واحد وعندهم معروف من طريقة وهو عندهم ضعيف في الحديث إلى الغاية ، حجة في القرآن قال يحيى بن معين : حفص ليس بثقة ، وقال البخاري : تركوه .
__________
(1) رواه أحمد في مسنده 3/143 وسنده صحيح .
(2) رواه البخاري 9/202 وأحمد - 360 والبيهقي 7/288-289 من حديث الربيع بنت معوذ بنغفران .
(3) تقدم صفحة 47 حديث (3 )
(4) يريد الصلاة والسلام عليه وقد مر الحديث صفحة 47 حاشية ( 1 )
(5) تقدم الكلام عليه .(54/97)
ثم سرد الشيخ كلام الأئمة فيه ، وقال (1): وقد رواه الطبراني في المعجم من حديث الليث بن بنت ليث بن أبي سليم عن زوجة جده عائشة عن ليس ، وهذا الليث وزوجه جده مجهولان ، ونفس المتن باطل ، فإن الأعمال التي فرضها الله ورسوله لا يكون الرجل بها مثل الواحد من الصحابة ، بل في الصحيحين (2)عنه أنه قال : (( لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه )) فالجهاد والحج ونحوهما أفضل من زيارة قبره باتفاق المسلمين ، ولا يكون الرجل بهما كمن سافر إليه في حياته ورآه ، كيف وذاك إما أن يكون مهاجراً إليه كما كانت الهجرة قبل الفتح ، أو من الوفود الذين كانوا يفدون إليه يتعلمون الإسلام ويبلغونه عنهم إلى قومهم ، وهذا عمل لا يمكن أحداً بعدهم أن يفعل مثله .
ومن شبه من زار قبر شخص بمن كان يزوره في حياته فهو مصاب في عقله ودينه ، والزيارة الشرعية لقبر الميت مقصودها الدعاء له والاستغفار كالصلاة على جنازته والدعاء المشروع المأمور به في حق نبينا كالصلاة عليه والسلام عليه ، وطلب الوسيلة له مشروع في جميع الأمكنة لا يختص بقبره عمل صالح تمتاز به تلك البقعة ، بل كل عمل صالح يمكن فعله هناك يمكن فعله في سائر البقاع.
__________
(1) الرد على الأخنائي ص144.
(2) تقدم صفحة 76 حاشية ( 1 )(54/98)
لكن مسجده أفضل من غيره فالعبادة فيه فضيلة يكونها في مسجده كما قال : صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام )) (1) والعبادات المشروعة فيه بعد دفنه ، مشروعة فيه قبل أن يدفن النبي- صلى الله عليه وسلم - في حجرته ، وقبل أن تدخل حجرته في المسجد ، ولم يتحدد بعد ذلك فيه عبادة غير العبادات التي كانت على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -وغير ما شرعه هو لأمته ، ورغبهم فيه ودعاهم إليه ، وما يشرع للزائر من صلاة وسلام ودعاء له وثناء عليه ، كل ذلك مشروع في مسجده في حياته ، وهي مشروعة في سائر المسجد بل وفي سائر البقاع التي تجوز فيها الصلاة ،وهو- صلى الله عليه وسلم - قد جعلت له ولأمته الأرض مسجداً وطهوراً ، فحيث ما أدركت أحداً الصلاة فليصل فإنه مسجد ،كما ثبت ذلك في الحديث الصحيح عنه - صلى الله عليه وسلم - (2).
وفي ظن أن زيارة القبر تختص بجنس من العبادة لم تكن مشروعة في المسجد وإنما شرعت لأجل القبر فقد أخطأ ، لم يقل هذا أحد من الصحابة والتابعين ، وإنما غلط في هذا بعض المتأخرين ، وغاية ما نقل عن بعض الصحابة كابن عمر أنه كان إذا قدم من سفر يقف عن القبر ويسلم(3) ،وجنس السلام عليه مشروع في المسجد وغير المسجد قبل السفر وبعده .
__________
(1) تقدم في صفحة 59 حاشية ( 1 )
(2) رواه البخاري 1/435-533 ومسلم 1/370 من حديث جابر بن عبد الله ولمسلم عن أبي هريرة وحذيفة ، والترمذي 4/133 حديث رقم 1553 وابن ماجه 1/187 حديث رقم 567 من حديث أبي هريرة إلا أنه عند ابن ماجة مختصراً .
(3) تقدم .(54/99)
وأما كونه عند القبر فهذا كان يفعله ابن عمر إذا قدم من سفر ، وكذلك الذين استحبوه من العلماء استحبوه للصادر والوارد من المدينة وإليها من أهلها ، وللوارد والصادر من المسجد من الغرباء ،مع أن أكثر الصحابة لم يكونوا يفعلون ذلك ولا فرق أكثر السلف بني الصادر والوارد ، بل كلهم ينهون عما نهى عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
وقد قال أوب الوليد الباجي : إنما فرق بين أهل المدينة وغيرها ، لأن الغرباء قصدوا لذلك ، وأهل المدينة مقيمون بها ، ولم يقصدوها من أجل القبر والتسليم ، قال : وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : (( اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد ، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد )) وقال : (( لا تجعلوا قبري عيداً )) (1) .
وهذا الذي ذكره من أدلة سوى في النهي ، فإنه قوله لا تجعلوا ولا تتخذوا بيتي عيداً ، نهي لكل أمة أهل المدينة والقادمين إليها ، وكذلك نهيه عن اتخاذ القبور مساجد وخبرة بأن غضب الله اشتد على من فعل ذلك ، هو متناول للجميع وكذلك دعاؤه بأن لا يتخذ قبره وثناً ، عام .
__________
(1) تقدم صفحة 47 حاشية ( 1 ) .(54/100)
وما ذكره من أن الغرباء قصدوا لذلك تعليق على العلة ضد مقتضاها فإن القصد لذلك منهي عنه ، كما صرح به مالك وجمهور أصحابه ، وكما نهى عنه ، وإذا كان منهياً عنه أو ليس بقربه لم يشرع الإعانة عليه ، وابن عمر رضي الله عنهما لم يكن يسافر إلى المدينة لأجل القبر ، بل المدينة وطنه ، فكان يخرج منها لبعض الأمور ، ثم يرجع إلى وطنه فيأتي المسجد ، فيصلي فيه ويسلم ،ـ فأما السفر لأجل القبور فلا يعرف عن أحد من الصحابة ، بل ابن عمر كان يقدم إلى بيت المقدس ولا يزور قبل الخليل- صلى الله عليه وسلم - : وكذلك أبوه عمر رضي الله عنه ومن معه من المهاجرين والأنصار قدموا إلى بيت المقدس ، ولم يذهبوا إلى قبر الخليل عليه السلام ، وكذلك سائر الصحابة الذين كانوا ببيت المقدس وسائر أهل الشام لم يعرف عن أحد منهم أنه سفر إلى قبر الخليل عليه السلام ولا غيره كما لم يكونوا يسافرون إلى المدينة لأجل القبر ، وما كان قربه للغرباء فهو قربة لأهل المدينة كإتيان قبور الشهداء وأهل البقيع، وما لم يكن قربة لأهل المدينة لم يكن قربة لغيرهم كاتخاذ بيته عيداً واتخاذ قبره وقبر غيره مسجداً ، وكالصلاة إلى الحجرة والتمسح بها وإلصاق البطن بها والطواف بها وغير ذلك مما يفعله جهال القادمين ، فإن هذا بإجماع المسلمين ينهي عنه الغرباء ، كما ينهىلا عنه أهل المدينة ينهون عنه صادرين وواردين باتفاق المسلمين.(54/101)
وبالجملة : فجنس الصلاة والسلام عليه والثناء عليه - صلى الله عليه وسلم - ونحو ذلك مما استحبه بعض العلماء عند القبر للواردين والصادرين هو مشروع في مسجده وسائر المساجد ، وأما ما كان سؤالاً له فهذا لم يستحبه أحد من السلف لا الأئمة الأربعة ولا غيرهم ، ثم بعض من يستحب هذا من المتأخرين يدعونه مع البعد فلا يختص هذا عندهم بالقبر ، وأما نفس داخل بيته عند قبره فلا يمكن أحد الوصول إلى هناك ولم يشرع هناك عمل يكون هناك أفضل منه في غيره ، ولو شرع لفتح باب الحجرة للأمة ، بل قد قال : (( لا تتخذوا بيتي عيداً ، وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيثما كنتم )) (1) صلوات الله وسلامه عليه .
وقد تقدم ما رواه سعيد بن منصور في سننه عن عبدالعزيز الداروردي ، عن سهيل بن أبي سهيل ، قال : رآني الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب ، فناداني فقال : ما لي رأيتك عند القبر ؟ فقلت سلمت على النبي- صلى الله عليه وسلم - ، فقال : إذا دخلت المسجد فسلم على النبي- صلى الله عليه وسلم - ، قم قال : إن رسول الله- صلى الله عليه وسلم - قال : (( لا تتخذوا بيتي عيداً وصلوا علي حيثما كنتم فإن صلاتكم تبلغني )) (2) ما أنتم ومن بالأندلس إلا سواء ، وكذلك سائر الصحابة الذين كانوا ببيت المقدس وغيرها من الشام مثل معاذ بن جبل ، وأبي عبيدة بن الجراح وعبادة بن الصامت ، وأبي الدرداء وغيرهم لم يعرف عن أحد منهم أنه سافر لقبر من القبور التي بالشام لا قبر الخليل ، ولا غيره ، كما لم يكونوا يسافرون إلى المدينة لأجل القبر ، وكذلك الصحابة الذين كانوا بالحجاز والعراق وسائر البلاد ، كما قد بسطنا هذا في غير هذا الموضع .
__________
(1) الحديث تقدم تخريجه ص47 والشيخ رحمه الله غالباً ما يروي الأحاديث بالمعنى لأنه أكثر ما ألف كتبه في السجن فالحديث لفظه (( لا تتخذوا قبري عيداً )) .
(2) تقدم .(54/102)
فإن قيل : الزائر في الحياة إنما أحبه لله لكونه يحبه في الله ، والمؤمنون يحبون الرسول أعظم ، وكذلك يحبون سائر الأنبياء والصالحين ، فإذا زارهم أثيبوا على هذه المحبة ، قيل حب الرسول من أعظم واجبات الدين وفي الصحيحين عن النبي- صلى الله عليه وسلم - أنه قال : (( ثلاثة من كن فيه وجد حلاوة الإيمان : من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما ، ومن كان يحب المرء لا يحبه إلا لله ، ومن كان يكره أن يرجع في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار )) (1) وفي الحديث الصحيح عن أنس عن النبي - صلى الله عليه وسلم -أنه قال : (( لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين )) (2) رواه البخاري عن أبي هريرة قال : والذي نفسي بيده .
وفي صحيح البخاري عن عبد الله بن هشام قال : كنا مع النبي- صلى الله عليه وسلم - وهو آخر بيد عمر فقال : يا رسول الله لأنت أحب إلي من كل شيء إلا نفسي ، فقال النبي- صلى الله عليه وسلم - : (( لا والذي نفسي بيده حتى أكون أحب إليك من نفسك )) فقال عمر ، فإنه الآن والله لأنت أحب إلي من نفسي قال الآن يا عمر(3) ، وتصديق ذلك في القرآن قوله : { قُلْ إِنْ كَانَ آَبَاؤُكُمْ ِNà2نt!$sYِ/r&ur ِNن3çR¨uq÷zخ)ur ِ/ن3م_¨urّ-r&ur وَعَشِيرَتُكُمْ îA¨uqّBr&ur $ydqكJçGّùuژyIّ%$# ×ouچ"pgدBur تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا ،=xmr& إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ ¾د&د!qك™u'ur وَجِهَادٍ فِي ¾د&ح#خ7y™ (#qفء/uژyIsù 4س®Lxm z'دAù'tƒ اللَّهُ ¾دnحگِDr'خ/ وَاللَّهُ لَا "د‰÷ku‰ الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ }
(التوبة 024)
__________
(1) الحديث رواه البخاري 1/60 ، 72 ، 10/463 و 12/315 ومسلم 1/66 جميعاً عن أنس
(2) أخرجه البخاري 1/58 عن أبي هريرة وانس ومسلم 1/67 عن أنس .
(3) رواه البخاري 11/523 و 7/43 و 11/54 و 523 .(54/103)
وقال : { لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ حچ½zFy$# يُوَادُّونَ مَنْ ¨ٹ!$xm اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ (#ûqçR%ں2 آَبَاءَهُمْ أَوْ ِNèduن!$sYِ/r& أَوْ َOكgtR¨uq÷zخ) أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي مNخkح5qè=è% الْإِيمَانَ Nèdy‰ƒr&ur بِرُوحٍ مِنْهُ } (المجادلة 022)
وفي صحيح البخاري وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم - قال : (( ما من مؤمن إلا وأنا أولى به في الدنيا والآخرة )) اقرأوا إن شئتم { النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ ِNخkإ¦àےRr& } (1) (الأحزاب 006)
__________
(1) رواه البخاري 5/61 .(54/104)
وذكر الحديث ، وفي حديث آخر : (( لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به )) (1) لكن حبه وطاعته وتعزيزه وتوقيره ، وسائر ما أمر الله به من حقوقه مأمور به في كل مكان لا يختص بمكان دون مكان ، وليس من مكان في المسجد عند القبر بأولى بهذه الحقوق ووجوبها عليه ممن كان في موضع آخر .
__________
(1) هذا الحديث ضعيف ، فيه نعيم بن حماد ، وقد قال الحافظ ابن رجب في جامع العلوم والحكم ص365 ، وقد اختلف على نعيم في إسناده فروى عنه عن الثقفي عن هشام وروى عنه عن الثقفي حدثنا بعض مشيختنا حدثنا هشام أو غيره وعلى هذه الرواية يكون شيخ الثقفي غير معروف عنه وروى عن الثقفي حدثنا بعض مشيختنا حدثنا هشام أو غيره فعلى هذه الرواية فالثقفي رواه عن شيخ مجهول وشيخه رواه عن غير معنى فتزداد الجهالة في إسناده ، ومنها أن في إسناده عقبة بن أوس الدوس البصري ، ويقال فيه يعقوب بن أوس أيضاً ، وقد خرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة حديثاً عن عبد الله بن عمر ويقال عبد الله بن عمر ، وقد اضطرب في إسناده وقد وثقه العجلي وابن سعد وابن حبان ، وقال ابن خزيمة ، روى عنه ابن سيرين مع جلالته وقال ابن عبد البر ، هو مجهول وقال الغلابي في تاريخه : يزعمون أنه لم يسمع من عبد الله بن عمرو وإنما يقول : قال عبد الله بن عمر فعلى هذا تكون رواياته عن عبد الله بن عمرو منقطعة والله أعلم . أ هـ .(54/105)
ومعلوم أن مجرد زيارة قبره كالزيارة المعروفة للقبور غير مشروعة ولا ممكنة ولو كان في زيارة قبره عبادة زائدة للأمة لفتح باب الحجرة ومكنوا من فعل تلك العبادة عند قبره ، وهم لم يمكنوا إلا من الدخول إلى مسجده والذي يشرع في مسجده يشرع في سائر المساجد ، لكن مسجده أفضل من سائرها إلا المسجد الحرام على نزاع في ذلك وما يجده مسلم في قلبه من محبته والشوق إليه والأنس بذكره وذكر أحواله فهو مشروع له في كل مكان ، ,ليس في مجرد زيارة ظاهرة الحجرة ما يوجب عبادة لا تفعل بدون ذلك ، بل نهى عن أن يتخذ ذلك المكان عيداً وأمر أن يصلي عليه حيث كان العبد ويسلم عليه ، فلا يخص بيته وقبره لا بصلاة عليه ولا تسليم عليه ، فكيف بما ليس كذلك (1).
وإذا خص قبره بذلك صار ذلك في سائر الأمكنة دون ما هو عند قبره بنقص حبه وتعظيمه وتعزيزه ومولاته والثناء عليه عند غيره قبره عما يفعل عند قبره ما يجده الناس في قلوبهم إذا رأوا من يحبونه ويعظمونه يجدون في قلوبهم عند قبره مودة له ورحمة ومحبة أعظم مما يكون بخلاف ذلك ، والرسول- صلى الله عليه وسلم - هو الواسطة بينهم وبين الله في كل مكان وزمان فلا يؤمرون بما يوجب نقص محبتهم وإيمانهم في عامة البقاع والأزمنة ، مع أن ذلك لو شرع لهم لأشتغلوا بحقوقهم عن حقه واشتغلوا بطلب الحوائج منه كما هو الواقع فيدخلون في الشرك بالخالق ،وفي ترك حق المخلوق فينقص تحقيق الشهادتين شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله .
__________
(1) يشير إلى الأحاديث المتقدمة .(54/106)
وأما ما شرعه لهم من الصلاة والسلام عليه في كل مكان وأن لا يتخذوا بيته عيداً ولا مسجداً ، ومنعهم من أن يدخلوا إليه ويزوروه ، كما تزار القبور ، فهذا يوجب كمال توحيدهم للرب تبارك وتعالى وكمال إيمانهم بالرسول- صلى الله عليه وسلم - ومحبته وتعظيمه حيث كانوا واهتمامهم بما أمروا به من طاعته ، فإن طاعته هي مدار السعادة ، وهي الفارقة بين أولياء الله وأعدائه ، وأهل الجنة وأهل النار فأهل طاعته هم أولياء الله المتقون وجنده المفلحون وحزبه الغالبون ، وأهل مخالفته ومعصيته بخلاف ذلك .
والذين يقصدون الحج إلى قبره وغبر غيره ويدعونهم ويتخذونهم أنداداً من أهل معصيته ومخالفته لا من أهل طاعته وموافقته ، فهم في هذا الفعل من جنس أعدائه لا من جنس أوليائه ، وإن ظنوا أن هذا من مولاته ومحبته ، كما يظن النصارى أن ما هم إلا من الغلو في المسيح والتربك به من جنس محبته ومولاته ، وكذلك دعائهم للأنبياء الموتى كإبراهيم وموسى وغيرهم عليهم السلام ، ويظنون أن هذا من محبتهم ومولاتهم ، وإنما هو من جنس معاداتهم ، ولهذا يتبرؤن منهم يوم القيامة .
وكذلك الرسول- صلى الله عليه وسلم - يتبرأ ممن عصاه ، وإن كان قصده تعظيمه والغلو فيه ، قال تعالى : { وَاخْفِضْ y7xm$uZy_ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (215) فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ 'دoTخ) ضنü"حچt/ مِمَّا تَعْمَلُونَ } (الشعراء 215-216)
فقد أمر الله المؤمنين أن يتبرؤا من كل معبود غير الله ومن كل من عبده قال تعالى: { قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ ×puZ|،xm فِي zOٹدd¨uچِ/خ) وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا ِNخhدBِqs)د9 إِنَّا (#نt¨uنuچç/ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا $uZsY÷ t/ وَبَيْنَكُمُ نour¨y‰yèّ9$# وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا 4س®Lxm تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ } (الممتحنة 004)(54/107)
وكذلك سائر الموتى ليس في مجرد رؤية قبروهم ما يوجب لهم زيادة المحبة إلا لمن عرف أحوالهم بدون ذلك فيتذكر أحوالهم ، والرسول - صلى الله عليه وسلم - يذكر المسلمون أحواله ومحاسنه وفضائله ،وما من الله به عليه ، وما من على أمته ، فبذلك يزداد حبهم له وتعظيمهم له، لا بنفس رؤية القبر .
ولهذا تجد العاكفين على قبور الأنبياء والصالحين من أبعد الناس عن سيرتهم ومتابعتهم ، وإنما قصد جمهورهم التأكل والترأس بهم ، فيذكرون فضائلهم ليحصل لهم بذلك رئاسة أو مأكلة ، لا ليزدادوا هم حباً وخيراً .
وفي مسند الإمام أحمد وصحيح أبي حاتم عن ابن مسعود ، عن النبي- صلى الله عليه وسلم - قال : ((وإن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء والذين يتخذون القبور مساجد )) (1).
__________
(1) رواه أحمد 1/405 و 435 و 454 والطبراني في الكبير 10/232 حديث رقم 10413 ، فالحديث بطرقه صحيح ، قال الهيثمي في مجتمع الزوائد 2/27 رواه الطبراني في الكبير وإسناده حسن ، رواه ابن حبان انظر الموارد ص104 وأبو نعيم من أخبار أصبهان 1/142 بإسناد حسن ، وأصل الحديث في البخاري 13/14 حديث رقم 7067 وانظر تحذير الساجد ص19 .(54/108)
وما ذكره هذا من فضائله فبعض ما يستحقه- صلى الله عليه وسلم - ، والأمر فوق ما ذكره أضعافاً مضاعفة ، لكن هذا يوجب إيماننا به وطاعتنا له ، واتباع سنته والتأسي به ، والاقتداء به ومحبتنا له وتعظيمنا له ، موالاة أوليائه ، ومعاداة أعدائه ، فإن هذا هو طريق النجاة والسعادة ، وهو سبيل الحق ووسيلتهم إلى الله تعالى ، ليس في هذا ما يوجب معصيته ومخالفة أمره ، والشرك بالله واتباع غير سبيل المؤمنين السابقين الأولين والتابعين لهمبإحسان ، وهو- صلى الله عليه وسلم - قد قال : (( لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد )) (1) ، وقال : (( لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد )) (2) يحذر ما فعلوا ، وقال : لا تتخذوا قبري عيداً وصلوا علي حيثما كنتم ، فإن صلاتكم تبلغني(3) ، وقال : خير الكلام كلام الله وخير الهدي هدي محمد- صلى الله عليه وسلم - وشر الأمور محدثاتها ، وكل بدعة ضلالة )) (4) رواه مسلم ، وقال (( إنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافاً كبيراً فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ ، وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة(5) إلى غير ذلك من الأدلة التي تبين أن الحجاج إلى القبور هم من المخالفين للرسول- صلى الله عليه وسلم - الخارجين عن شريعته وسنته ، لا من الموافقين له المطيعين له ، كما قد بسط في غير هذا الموضع .
قال المعترض
__________
(1) تقدم صفحة 19 حاشية ( 1 )
(2) تقدم صفحة 47 حاشية (3 )
(3) تقدم صفحة 47 حاشية ( 1 ) .
(4) قطعة من خطبة الحاجة التي كان يفتتح النبي صلى الله عليه وآله وسلم بها خطبة ومواعظه وللألباني حفظه الله تعالى بحيث قيم فيها وقد نشرت هذه الرسالة فالتراجع وسماها (خطبة الحاجة التي كان يعلمها الرسول للصحابة )) .
(5) رواه أبو داود 5/13 حديث رقم 4608 والترمذي 5/44 حديث رقم 2676 وابن ماجة في المقدمة 1/15 حديث رقم 42 .(54/109)
الحديث الخامس : (( من حج البيت ولم يزرني فقد جفاني )) رواه عدي في الكامل وغيره ، قم قال : أخبرناه أدنا ومشافهة عبد المؤمن وآخرون عن ابي الحسن بن المقير البغدادي ، عن أبي الكرم بن الشهرزوري ، أنبأنا إسماعيل بن مسعدة الاسماعيلي ، أنبأنا حمزة بن يوسف السهمي ، أنبأنا أبو أحمد بن عدي ، حدثنا علي بن إسحاق ، حدثنا محمد بن محمد بن النعمان ، حدثني جدي ، قال : حدثي مالك عن نافع عن ابن عمر ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (( من حج البيت ولم يزرني فقد جفاني ))(1) .
__________
(1) انظر الكامل 7/2480 .(54/110)
وذكر ابن عدي أحاديث للنعمان ثم قال : هذه الأحاديث عن نافع عن ابن عمر يحدث بها النعمان بن شبل عن مالك ، ولا أعلم رواه عن مالك غير النعمان بن شبل ؟ ولم أر في أحاديثه حديثاً غريباً ، قد جاوز الحد فأذكره ، وروى في صدر ترجمته عن عمران بن موسى الزجاجي أنه ثقة ، وعن موسى بن هارون أنه منهم ، وهذه التهمة غير مفسرة فالحكم بالتوثيق مقدم عليها ، وذكر أبو الحسن الدارقطني هذا الحديث في أحاديث مالك بن أنس الغرائب التي ليست في الموطأ ، وهو كتاب ضخم ، قال : حدثنا أبو عبد الله الأأبلي وعبد الباقي ، قال : حدثنا محمد بن محمد بن النعمان بن شبل ، حدثنا جدي حدثنا مالك عن نافع ، عن ابن عمر ، عن النبي- صلى الله عليه وسلم - قال : (( من حج البيت ولم يزرني فقد جفاني )) قال الدارقطني : نفرد به هذا الشيخ وهو منكر ، هذه عبارة الدارقطني ، والظاهر أن هذا الإنكار منه بحسب تفرد به هذا الشيخ وهو منكر ، هذه عبارة الدارقطني ، والظاهر أن هذه الإنكار منه بحسب تفرده وعدم احتماله له بالنسبة إلى الإسناد المذكور ؛ ولا يلزم من ذلك أن يكون المتن في نفسه منكراً ، ولا موضوعاً ، وقد ذكر ابن الجوزي في الموضوعات(1) ، وهو سرف منه ، ويكفي في الرد عليه ما قاله ابن عدي ، وقال ابن الجوزي عن الدارقطني، أن الحمل فيه على محمد بن محمد بن النعمان لا على جدة ، وكلام الدارقطني الذي ذكرناه محتمل لذلك ، ولأن يكون المراد تفرد النعمان كما قاله ابن عدي .
__________
(1) 2/217 .(54/111)
وأما قول ابن حبان أن النعمان يأتي عن الثقات بالطامات ، فهو مثل كلام الدارقطني إلا أنه بالغ في الإنكار ،وقد روى ابن حبان في كتاب ( المجروحين ) عن أحمد بن عبيد عن محمد بن محمد ، وقول ابن الجوزي في كتاب ( الضعفاء ) أن الدارقطني طعن في محمد بن محمد بن النعمان ، فالذي حكيناه من كلام الدارقطني هو الإنكار لا التضعيف ، فيحصل من هذا إبطال الحكم عليه بالوضع ، لكن غريب كما قال الدارقطني ، وهو لأجل كلام ابن عدي صالح لأن يعتضد به غيره .
وهذا الحديث كان ينبغي تقديمه على الأول لكونه من طريق نافع ، ولكن أخرناه لأجل ما وقع من الكلام .
ومما يجب أن ينتبه له أن حكم المحدثين بالإنكار والاستغراب قد يكون بحسب تلك الظروف فلا يلزم من ذلك رد متن الحديث بخلاف إطلاق الفقيه أن الحديث موضوع ، فإن حكم على المتن من حديث الجملة ، فلا جزم قبلنا كلام الدارقطني ، ورددنا كلام ابن الجوزي والله أعلم .
انتهى كلام المعترض على هذا الحديث وهو كما ترى ملفق مزوق غير محقق ولا مصدق ، بل فيه من الوهم والإبهام والتلبيس والخبط والتخليط ودفع الحق وقبول الباطل ما سننبه على بعضه إن شاء الله تعالى .
واعلم أن هذا الحديث المذكور منكر جداً لا أصل له ، بل هو من المكذوبات والموضوعات ، وهو كذب موضوع على مالك مختلق عليه ، لم يحدث به قط ولم يروه إلا من جمع الغرائب والمناكير والموضوعات ،ولقد أصاب الشيخ أبو الفرج بن الجوزي في ذكره في الموضوعات(1) ، وأخطأ هذا المعترض في رده وكلامه ، والحمل في هذا الحديث على محمد بن محمد بن النعمان لا على جده ، كما ذكره الدارقطني في الحواشي على كتاب ( المجروحين ) لأبي حاتم بن حبان البستي .
__________
(1) انظر الموضوعات لابن الجوزي 2/217 .(54/112)
هذا المعترض لم يقف على كلام الدارقطني الذي نحكيه عنه ، قال ابن حبان في كتاب الضعفاء : النعمان بن شبل أبو شبل من أهل البصرة يروي عن أبي عوانة ومالك والبصريين والحجازيين ، روى عنه ابن أبنه محمد بن محمد بن النعمان بن شبل ، حدثنا مالك عن نافع ، عن ابن عمر قال ، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( من حج البيت ولم يزرني فقد جفاني )) حدثنا أحمد بن عبيد(1) بهمذان ، حدثنا محمد بن محمد(2) بن النعمان بن شبل أبو شبل حدثنا جدي حدثنا مالك (3).
هذا جميع ما ذكره ابن حبان في ترجمة النعمان بن شبل ، وقال الحافظ أبو الحسن الدارقطني في الحواشي ، على كتابه : هذا حديث غير محفوظ عن النعمان بن شبل إلا من رواية ابن ابنه ، عن ابنه ، والطعن فيه عليه لا على النعمان ، ولقد صدق الحافظ أبو الحسن في هذا القول ، فإن النعمان بن شبل إنما يعرف برواية هذا الحديث عن محمد بن الفضل بن عطية المشهور بالكذب ، ووضع الحديث عن جابر الجعفي عن محمد بن علي عن علي بن أبي طالب ، هكذا رواه الحافظ أبو عمر وعثمان بن خزاذ عن النعمان بن شبل كما تقدم ذكره .
__________
(1) الصواب ( بهمذان ) بالتحريك وبالذال كما في معجم البلدان وهي بلد وأما (همدان) فقبيلة
(2) في كتاب المجروحين لابن حبان (محمد بن محمود ) والظاهر أن الصواب كما هنا .
(3) انظر المجروحين 3/73 .(54/113)
هذا الحديث الموضوع لا يليق أن يكون إسناده إلا مثل هذا الإسناد الساقط ولم يروه عن النعمان بن شبل عن مالك ، عن نافع ، عن ابن عمر إلا ابن ابنه محمد بن محمد بن النعمان ، وقد هتك محمد في رواية هذا الحديث ستره وأبدى عن عورته وافتضح بروايته حيث جعله عن مالك ، عن نافع ، عن ابن عمر(1) ، ومن المعلوم أن أدنى من له علم ومعرفة بالحديث أن تفرد مثل محمد بن محمد بن النعمان بن شبل المتهم بالكذب والوضع عن جده النعمان بن شبل الذي لم يعرف بعدالة ولا ضبط ولم يوثقه إمام يعتمد عليه ، بل اتهمه موسى بن هارون الحمال أحد الأئمة الحفاظ المرجوع إلى كلامهم في الجرح والتعديل الذي قال فيه عبد الغني بن سعيد المصري الحافظ هو أحسن الناس كلاماً على حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -في وقته عن مالك ، عن نافع ، عن ابن عمر بمثل هذا الخبر المنكر الموضوع من أبين الأدلة وأوضح البراهين على فضيحته وكشف عورته وضعف ما تفرد به وكذبه ورده وعدم قبوله ، ونسخه مالك عن نافع عن ابن عمر محفوظة معروفة مضبوطة رواها عن أصحابه رواة الموطأ وغير رواة الموطأ ، وليس هذا الحديث منها ، بل لم يروه مالك قط ولا طرق سمعه .
ولو كان من حديثه لبادر إلى روايته عنه بعض أصحابه الثقات المشهورين ، بل لو تفرد بروايته عنه ثقة معروف من بينسائر أصحابه لأنكره الحفاظ عليه ، ولعدوه من الأحاديث المنكرة الشاذة ، فكيف وهو حديث لم يروه عنه ثقة قط ، ولم يخبر عنه عدل .
__________
(1) جزى الله ابن عبد الهادي خيراص . حقيقة تبين تلفيقه وكذبه حيث لم يوافقه الله تعالى لأنه نسب حديثه هذا إلى سلسلة من أصح الأسانيد لأن مالك عن نافع عن ابن عمر أصح الأسانيد عند البخاري رحمه الله تعالى .(54/114)
وما ذكره المعترض عن عمران بن موسى أنه وثق النعمان بن شبل ليس بصحيح عنه ، وعمران ليس م أئمة الجرح والتعديل المرجوع إلى أقوالهم ، فلو ثبت عنه ما حكاه المعترض لم يرجع إلى قوله فكيف وهو لم يثبت عنه ، فإنه ابن عدي قال في كتاب الكامل(1) حدثنا صالح بن أحمد بن أبي مقاتل ، حدثنا عمران بن موسى ، حدثنا النعمان بن شبل وكان ثقة ، هذا هو الذي حكاه ابن عدي من توثيق النعمان ، ومنه نقل المعترض كما ذكره ، وصالح بن أحمد بن أبي مقاتل شيخ ابن عدي يعرف بالقيراطي ، وهو متهم بالكذب والوضع وسرقة الأحاديث فإن كان هو الموثق للنعمان بن شبل لم يقبل توثيقه ، لأنه ضعيف في نفسه ، فكيف يقبل توثيقه لغيره ؟
وإن كان الموثق هو عمران بن موسى كما ذكره المعترض لم تقبل رواية صالح بن أحمد بن أبي مقاتل عنه ذلك ، لأنه غير ثقة .
وقال الدارقطني(2)
__________
(1) انظر الكامل لابن عدي 4/2480 .
(2) قال الدارقطني رحمه الله تعالى في الضعفاء والمتروكين حدثونا عنه 249 رقم الترجمة 293 ، وقال رحمه الله تعالى في سؤالات الحاكم له ، متروك ص140 رقم الترجمة 113.
وقال المعلق على كتاب الضعفاء والمتركوين للدارقطني وهو :موفق بن عبد الله بن عبد القادر حفظه الله تعالى في الحاشية نقلاً عن سؤالات السلمي للدارقطني ، وسألته عن صالح القيراطي ، فقال: كذاب دجال يحدث بما لم يسمع .(54/115)
هو متروك كذاب دجال أدركناه ولم نكتب عنه يحدث بما لم يسمع ، وقال ابن عدي(1) يسرق الأحاديث ويرفع الموقوف ويصل المرسل وهو بين الأمر جداً وقال ابن حبان(2) كتبنا عنه ببغداد يسرق الحديث ويقلبه ،ولعله قد قلب أكثر من عشرة آلاف حديث لا يجوز الاحتجاج به بحال ، وقال البرقاني(3) : هو ذاهب الحديث وقال الخطيب(4) ، كان يذكر بالحفظ غير أن حديثه كثير المناكير .
فإذا كانت هذه حال صالح بن أحمد بن أبي مقاتل عن أئمة الجرح والتعديل فكيف يقبل توثيقه لرجل غير ثقة أو بصار إلى روايته التوثيق لغير عدل عمن لا يرجع إلى قوله ولا يلتفت إلى كلامه ؟ فكيف يقدم مثل هذا التوثيق للنعمان بن شبل على قوم موسى بن هارون الحمال ؟ إنه منهم وقد عرف أنه أراد تهمة الكذب ، مع العلم بأن موسى بن هارون من كبار أئمة الصنعة وعلماء هذا الشأن العارفين بعلل الأحاديث المرجوع إلى قولهم وجرحهم وتعديلهم ولم يخالفه أحد في قوله هذا ، بل وافقه عليه أبو حاتم بن حبان وغيره كما تقدم .
ولو ثبت أن النعمان بن شبل وثقة من يعتمد على توثيقه ويرجع إلى تعديله لميكن في ذلك ما يتقضي قبول ما روى عنه في الزيادة ، ولا قوته ، فإن الحمل فيه على غيره والطعن فيه على ابن ابنه محمد بن محمد بن النعمان ، كما ذكر ذلك شيخ الصنعة إمام عصره وفريد دهره ونسيج وحده الحافظ الكبير أبو الحسن الدارقطني ، ولم يخالفه أحد يعتمد على قوله (5).
__________
(1) انظر ترجمته في الكامل لابن عدي 4/1390 .
(2) انظر المجروحين لابن حبان 1/368 .
(3) انظر ترجمته في الميزان للذهبي 2/278 قال الذهبي رحمه الله تعالى في كتابه المغني في ترجمته دجال كذبة الدارقطني 1/302 .
(4) انظر التاريخ للخطيب 9/329 .
(5) انظر الميزان للذهبي 4/26 .(54/116)
ومن العجب قول هذا المعترض في آخر كلامه على الحديث : فلا جرم قبلنا كلام الدرقطني ورددنا كلام ابن الجوزي مع أن كلام الدارقطني ، وكلام ابن الجوزي متفق غير مختلف . فإن الدارقطني ذكر أن الحديث منكر ، وأن الطعن والعمل فيه على محمد بن محمد بن النعمان وابن الجوزي ذكره في الموضوعات ، وحكى قول الدارقطني محتجاً به ، ومعتمداً عليه فقبول المعترض قول أحدهما ورده قول الآخر مع اتفاقهما في المعنى من باب الخبط والتخبيط وليس ذلك ببدع في كلامه وتصرفاته .
والحاصل أن هذا الحديث الذي تفرد به محمد بن محمد بن النعمان عن جده عن مالك لا يحتج به ويعتمد عليه إلا من أعمى الله قبله ، وكان من أجهل الناس بعلم المنقولات ، ولو فرض أنه خبر صحيح وحديث مقبول لم يكن فيه حجة إلا على الزيادة الشرعية وقد ذكرنا غير مرة أن شيخ الإسلام لا ينكر الزيارة الشرعية وإنما ذكر في جواب السؤال المشهور في السفر مجرد زيارة قبور الأنبياء والصالحين قولين لأهل العلم(1) ، وذكر أن قوله من سافر لمجرد زيارة قبور الأنبياء فيه احتراز عن السفر المشروع كالسفر إلى زيارة قبر النبي- صلى الله عليه وسلم - ، إذا سافر السفر المشروع فساف إلى مسجده ، فصلى فيه وصلى عليه وسلم عليه ودعا ، وأثنى كما يحبه الله ورسوله ، فهذا سفر مشروع مستحب باتفاق المسلمين ، وليس فيه نزاع فإن هذا لم يسافر لمجرد زيارة القبور ،بل للصلاة في المسجد ،فإن المسلمين متفقون على أن السفر الذي يسمى زيارة لابد فيه من أن يقصد المسجد ويصلي فيه لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (( لقوله صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام )) (2) ولقوله : (( لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد : المسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجدي هذا )) (3)
__________
(1) في الرد على الأخنائي ص161 -165 .
(2) تقدم في ص 59 حاشية ( 1 ) .
(3) تقدم في ص19 حاشية ( 1 ) .
فائدة : قال الشيخ ناصر الدين الألباني في السلسة الضعيفة 1/61 حديث رقم 45 في الكلام على حديث ( من حج البيت ولم يزرني فقد جفاني ) ومما يدل على وضعه أن جفاء النبي صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم من الذنوب والكبائر إن لم يكن كفراً ، وعليه فمن ترك زيارته صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم يكون مرتكباً لذنب كبير وذلك يستلزم أن الزيارة واجبة كالحج وهذا مما لا يقوله مسلم ، ذلك لأن زيارته صلى الله عليه وعلى آله وسلم وإن كانت من القربات فإنها لا تتجاوز عند العلماء حدود المستحبات فكيف يكون تاركها مجافياً للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ومعرضاً عنه ؟ أ . هـ فجزاء الله خيراً .
قلت : وهذا المعترض يدافع عن الحديث ويحاول التلبيس على الناس ولكن كما قال الشاعر:
أوردها سعد وسعد مشتمل ما هكذا يا سعد تورد الإبل(54/117)
.
والسؤال والجواب لم يكن المقصود فيه خصوص السفر إلى زيارة قبر النبي ، فإن هذا السفر على هذا الوجه مشروع مستحب باتفاق المسلمين ولم يقل أحد من المسلمين أن السفر إلى زيارة قبر محرم مطلقاً ، بل من سافر إلى مسجده وصلى فيه وفعل ما يؤمر به من حقوق الرسول كان هذا مستحباً مشروعاً باتفاق المسلمين ، لم يكن هذا مكروهاً عند أحد منهم ، لكن السلف لم يكونوا يسمون هذا زيارة لقبره ، وقد كره من كره من أئمة العلماء أن يقال : زرت قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وآخرون يسمون هذا زيارة لقبره لكن هم يعلمون ويقولون : إنه إنما يصلي إلى مسجده ، وعلى اصطلاح هؤلاء من سافر إلى مسجده وصلى فيه وزار قبره الزيارة الشرعية لم يكن هذا محرماً عند أئمة المسلمين بخلاف السفر إلى زيارة قبر غيره من الأنبياء والصالحين ، فإنه ليس عنده مسجد يسافر إليه .
فالسؤال والجواب كان من جنس السفر إلى زيارة قبور الأنبياء والصالحين كما يفعل أهل البدع ويجعلون ذلك حجاً أو أفضل من الحج أو قريباً من الحج ، حتى روى بعضهم حديثاً ذكره بعض المصنفين في زماننا في فضل من زار الخليل قال فيه : وقال وهب بن منبه إذا كان آخر الزمان حيل بين الناس وبين الحج فمن لم يحج ولحق ذلك ولحق بقبر إبراهيم ، فإن زيارته تعدل حجة ، وهذا كذب على وهب بن منبه كما أن قوله من زارني وزار أبي في عام واحد ضمنت له على الله الجنة ، كذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (1).
__________
(1) الحديث أيضاً من الموضوعات راجع الكلام عليه في السلسلة الضعيفة للشيخ ناصر1/61.(54/118)
وقد ذكر بعض أهل العلم أن هذا الحديث إنما افتراه الكذابون لما فتح بيت المقدس واستنفذ من أيدي النصارى على يد صلاح الدين سنة بضع وثمانين وخمسمائة فإن النصارى نقبوا قبل الخليل ، وصار الناس يتمكنون من الدخول إلى الحضرة ، وأما على عهد الصحابة والتابعين وهب بن منبه وغيره فلم يكن هذا ممكناً ، ولا عرف عن أحد من الصحابة والتابعين أنه سفر إلى قبل الخليل عليه السلام ، ولا إلى قبر غيره من الأنبياء ، ولا من أهل البيت ، ولا من المشايخ ولا غيرهم ، ووهب بن منبه كان باليمن لم يكن بالشام ولكن كان من المحدثين عن بني إسرائيل والأنبياء المتقدمين مثل كعب الأحبار ومحمد بن إسحاق ونحوهما .
وقد ذكر العلماء ما ذكره وهب في قصة الخليل وليس فيه شيء من هذا ولكن أهل الضلال افتروا آثاراً مكذوبة على الرسول وعلى الصحابة والتابعين توافق بدعهم ، وقد رووا عن أهل البيت وغيرهم من الأكاذيب ما لا يتسع هذا الموضع لذكره ، وغرض أولئك الحج إلى قبر علي ، أو الحسين أو إلى قبور الأئمة كموسى والجواد وغيرهما من الأئمة الأحد عشر ، فإن الثاني عشر دخل السرداب وهو عندهم حي إلى الآن ينتظر ، ليس لهم غرض في الحج إلى قبر الخليل وهؤلاء من جنس المشركين الذين فرقوا دينهم ، وكانوا شيعاً ، فالكل قوم هدى يخالف هدي الآخرين قال تعالى: { فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ $ZےدZxm |Nuچôـدù اللَّهِ الَّتِي uچsـsù النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ y7د9¨sŒ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ uژnYٍ2r& النَّاسِ لَا tbqكJn=÷ètƒ } (الروم 030)
وهؤلاء تارة يجعلون الحج إلى قبورهم أفضل من الحج وتارة نظير الحج ، وتارة بدلاً عن الحج .(54/119)
فالجواب كان عن مثل هؤلاء ، ولكن كان ذكر قبر نبينا لشمول الأدلة الشرعية ، فإنه إذا احتج بقوله : لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد ، كان مقتضى هذا أنه لا يسافر إلا إلى المسجد لا إلى مجرد القبر ، كما قال مالك للسائل الذي سأله من نذر أن يأتي قبر النبي- صلى الله عليه وسلم - فقال إن كان أراد مسجد النبي- صلى الله عليه وسلم - فليأته وليصل فيه ، وإن كان أراد القبر فلا يفعل للحديث الذي جاء (( لا تعمل المطي ، إلا إلى ثلاثة مساجد )) وهذا كما لو نهى الناس أن يحلفوا بالمخلوقات ، وذكر لهم قول النبي : (( من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت))(1) وقوله : لا تحلفوا بالله ونحوه ، وقيل : إنه لا يجوز الحلف بالملائكة ولا الكعبة ولا الأنبياء ولا غيرهم ، فإذا قيل : ولا بالنبي لزم طرد الدليل ، فقيل : ولا يحلف بالنبي- صلى الله عليه وسلم - ، كما قاله جمهور العلماء ، وهو مذهب مالك والشافعي ، وأبي حنيفة ، وأحمد في إحدى الروايتين ، ومن الناس من يستثني نبينا كما استثناه طائفة من الخلف فجوز الحلف به وهو إحدى الروايتين عن أحمد اختارها طائفة من أصحابه كالقاضي أبي يعلي وأتباعه وخصوه بذلك ، وبعضهم طرد ذلك من الأنبياء ، وهو قول ابن عقيل في كتابه المفردات ، لكن قول الجمهور أصح لأن النهي هو عن الحلف بالمخلوقات كائناً من كان كما وقع الني عن عبادة المخلوق ، وعن تقواه وخشيته والتوكل عليه وجعله نداً لله ، وهذا متناول لكل مخلوق ، نبينا وسائر الأنبياء والملائكة وغيرهم ، فكذلك الحلف بهم والنذر لهم أعظم من الحلف بهم ، والحج إلى قبورهم أعظم من الحلف بهم والنذر لهم وكذلك السفر إلى زيارة القبور وقصر الصلاة فيه .,
__________
(1) رواه البخاري 10/516 ومسلم 3/1267 .(54/120)
ولأصحاب أحمد فيه أربعة أقوال قيل تقصر الصلاة مطلقاً في كل سفر لزيارة القبور ، وقيل :لا تقصر في شيء من ذلك : وقيل : تقصر في السفر لزيارة قبر نبينا خاصة وقيل : بل لزيارة قبره وسائر قبور الأنبياء ، فالذين استثنوا نبينا قد يعللون ذلك بأن السفر هو إلى مسجده ، وذلك مشروع مستحب بالاتفاق ، فتقصر فيه الصلاة بخلاف السفر إلى قبر غيره ،فإنه سفر لمجرد القبر ، وقد يستنونه من العموم كما استثناه من استثناه منهم في الحلف ، ثم ظن بعضهم أن العلة هي النبوة فطرد ذلك في الأنبياء .
والصواب أن السفر إلى قبره إنما يستثنى لأنه سفر إلى مسجده ثم إن الناس أقسام منهم من يقصد السفر الشرعي إلى مسجده ، ثم إذا صار إلى مسجده المجاور لبيته الذي فيه قبره فعلى ما هو مشروع ، فهذا سفر مجمع على استجابة وقصر الصلاة فيه ، ومنهم من لا يقصد إلا مجرد القبر ولا يقصد الصلاة في المسجد أولا يصلي فيه ، فهذا لا ريب أنه ليس بمشروع ومنهم من يقصد هذا وهذا ، فهذا لم يذكر في الجواب ، إنما ذكر في الجواب من لم يسافر إلا لمجرد زيارة قبور الأنبياء والصالحين ، ومن الناس من لا يقصد إلا القبر ، لكن إذا أتى المسجد صلى فيه ، فهذا أيضاً يثاب على ما فعله من المشروع كالصلاة في المسجد والصلاة على النبي- صلى الله عليه وسلم - والسلام عليه ونحو ذلك من الدعاء والثناء عليه ومحبته وموالاته والشهادة له بالرسالة والبلاغ وسؤال الله الوسيلة له ونحو ذلك مما هو من حقوقه المشروعة في مسجده بأبي هو وأمي - صلى الله عليه وسلم -.(54/121)
ومن الناس من لا يتصور ما هو الممكن المشروع من الزيارة حتى يرى المسجد والحجرة فلا يسمع لفظ زيارة قبره فيظن ذلك كما هو المعروف المعهود من زيارة القبور أنه يصل إلى القبر ويجلس عنده ، ويفعل ما يفعله من زيارة شرعية أو بدعية فإذا رأى المسجد والحجرة تبني له أنه لا سبيل لأحد أن يزور قبره كالزيارة المعهودة عند قبر غيره وإنما يمكن الوصول إلى مسجده والصلاة فيه وفعل ما يشرع للزائر في المسجد لا في الحجرة عند القبر بخلاف قبر غيره والله أعلم .
قال المعترض
وحديث آخر من رواية ابن عمر ذكره الدارقطني في العلل في مسند ابن عمر في حديث : (( من استطاع أن يموت بالمدينة فليفعل )) قال : حدثنا جعفر بن محمد الواسطي حدثنا موسى بن هارون ، حدثنا محمد بن الحسن الختلي ، حدثنا عبد الرحمن بن المبارك ، حدثنا عون بن موسى ، عن أيوب ، عن نافع عن ابن عمر قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من زارني إلى المدينة كنت له شفيعاً وشهيداً )) قيل للختلي إنما هو سفيان بن موسى ، قال : اجعلوه عن ابن موسى ، قال موسى بن هارون : ورواه إبراهيم بن الحجاج عن وهيب ، عن أيوب ، عن نافع مرسلاً عن النبي فلا أدري سمعه من إبراهيم بن الحجاج أم لا وإنما لم أفرد الحديث بترجمة ، لأن نسخة العلل للدارقطني التي نقلت منها سقيمة انتهى ما ذكره المعترض على هذا الحديث .(54/122)
والجواب أن يقال : هذا اللفظ المذكور غلط في هذا الحديث ، حديث نافع عن ابن عمر ولفظ الزيارة فيه غير محفوظة (1)، ولو كان محفوظاً لم يكن فيه حجة على محل النزاع ، والمحفوظ في هذا عن أيوب السختياني ما رواه هشام الدستوائي وسفيان بن موسى عنه ، عن نافع ، عن ابن عمر قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (( من استطاع منكم أن يموت بالمدينة فليمت فإنه من مات بها كنت له شفيعاً أو شهيداً )) هذا هو حديث أيوب عن نافع ليس فيه ذكر الزيارة أصلاً ، وكذلك رواه الحسن بن أبي جعفر الجعفري ، وهو ضعيف عن أيوب ، عن نافع ، عن ابن عمر ورواه وهيب عن أيوب ، عن نافع مرسلاً عن النبي- صلى الله عليه وسلم - ، ورواه إسماعيل بن علية عن أيوب قال : نبئت عن نافع قال : قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم - ، قال موسى بن هارون ، ووهيب وابن علية أثبت من الدستوائي ، ومن الجعفري ، ومن سفيان بن موسى ، وقد ذكرنا ألفاظ هذا الحديث فيما تقدم ، وذكرنا من رواه عن نافع من أصحابه ، وحكينا ما ذكره الدارقطني وغيره في ذلك .
وقد وقف على هذا المعترض على ما ذكره الدارقطني في كتاب العلل من الاختلاف في إسناد الحديث ومتنه ، ولم ينقل منه إلا طريقاً واحدة أخطأ فيه الراوي ولفظاً واحداص وهم فيه الناقل وأعرض عن ذكر الطرق الواضحة والألفاظ الصحيحة ، وهل هذا إلا عين الخذلان أن ينظر الرجل في ألفاظ الحديث ، وطرقه في موضع واحد ، فينقل منها الضعيف السقيم ، ويدع القوي الصحيح من غير بيان لذلك ، ثم يعتل بأن النسخة التي نقل منها سقيمة ، وهذا الحديث الذي نقله المعترض من كتاب العلل للدارقطني أخطأ رواية في إسناده ووهم في متنه .
__________
(1) انظر ترجمة عون بن موسى في لسان الميزان لابن حجر لزاماً .(54/123)
أما خطؤه في إسناده فقوله عن عون بن موسى : وإنما هو سفيان بن موسى وهو شيخ من أهل البصرة ، روى له مسلم في صحيح حديثاً واحداً متابعة يرويه عن أيوب ، عن نافع عن ابن عمر ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -قال : إذا أقيمت الصلاة ووضع العشاء فابدوا بالعشاء ، وقد ذكر ابن أبي حاتم أنه سأل عنه أباه فقال : مجهول(1) ، وذكره ابن حبان في كتاب(2) الثقات .
وأما وهمه في متنه فقوله : من زارني إلى المدينة ، ولفظ الزيارة في حديث أيوب عن نافع ليس بصحيح ، والمعروف من حديثه عنه : من استطاع منكم أن يموت بالمدينة فليفعل ، وأصح منه اللفظ الذي رواه مسلم في صحيحه من حديث ابن عمر قال :سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : لا يصبر على لأوائها وشدتها أحد إلا كنت له شهيداً أو شفيعاً يوم القيامة ، وقد سبق هذا الحديث وذكر ألفاظه والكلام على معناه بما فيه كفاية وبالله تعالى التوفيق .
قال المعترض
الحديث السادس : (( من زار قبري أومن زارني كنت له شفيعاً أو شهيداً )) رواه أبو داود الطيالسي في مسنده (3)، قال : وقد سمعت المسند المذكور كله متفرقاً على أصحاب ابن حنبل ، ثم أطال بذكر إسناده إلى أبي داود الطيالسي ، قال : حدثنا سوار بن ميمون أبو الجراح العبدي ، قال : حدثني رجل من آل عمر ، عن عمر قال : سمعت رسول الله يقول : من زار قبري أو قال : من زارني كنت له شفيعاً أو شهيداً ، ومن مات في أحد الحرمين بعثه الله عز وجل من الآمنين يوم القيامة .
__________
(1) قال ابن أبي حاتم سألت ابي عنه فقال : هو مجهول : انظر الجرح والتعديل 4/229 ، انظر الميزان أيضاً ، 2/172 .
(2) كتاب الثقات 8/288 .
(3) انظر مسند الطيالسي حديث رقم 65 وقال في السند نوار بن ميمون وهو تصحيف والصواب كما هنا .(54/124)
والجواب أن يقال : هذا الحديث ليس بصحيح لانقطاعه وجهالة إسناده واضطرابه ، ولأجل اختلاف الرواة في إسناده واضطرابهم فيه جعله المعترض ثلاثة أحاديث ، وهو حديث واحد ساقط الإسناد ، لا يجوز الاحتجاج به ، ولا يصلح الاعتماد على مثله ، كما سنبين إن شاء الله تعالى ، وقد خرجه البيهقي في كتاب شعب الإيمان ، وفي كتاب السنن الكبير .
وقال في كتاب السنن بعد تخريجه ، هذا إسناد مجهول(1) ، قلت وقد خالف أبا داود غيره في إسناده ولفظه ، وسوار بن ميمون شيخه يقلبه بعض الرواة ، ويقول ميمون بنسوار وهو شيخ مجهول لا يعرف بعدالة ولا ضبط ولا يشتهر بحمل العلم ونقله ، وأما شيخ سوار في هذه الرواية ، رواية ابي داود فإنه شيخ مهم ،وهو أسوأ حالاً من المجهول ، وبعض الرواة يقول فيه عن رجل من آل عمر كما في هذه الرواية ، وبعضهم يقول عن رجل من ولد حاطب ، وبعضهم يقول من آل الخطاب .
وقد قال البخاري في تاريخه ميمون بن سوار العبدي عن هارون أبي قزعة عن رجل من ولد حاطب عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (( من مات في أحد الحرمين )) قاله يوسف بن راشد.
حدثنا وكيع حدثنا ميمون ، هكذا سماه البخاري ميمون من رواية وكيع عنه ولم يذكر فيه عمر ، وزاد فيه ذكر هارون وقال عن رجل من ولد حاطب ، وفي هذا مخالفة لرواية أبي داود من وجوه .
وقال في حرف الهاء من التاريخ(2) : هارون أبو قزعة عن رجل من ولد حاطب عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (( من مات في أحد الحرمين )) روى عنه ميمون بن سوار لا يتابع عليه .
وقال العقيلي في كتاب الضعفاء(3)
__________
(1) انظر السنن الكبرى للبيهقي 5/245 .
(2) لم أجده في الطبعة التي بين يدي ولكن يحتمل أن يكون فيها سقط فإن أكثر المتقدمين يثبتون تلك .
(3) الترجمة كالمصنف وابن عدي وابن حجر ، والله أعلم .
انظر الضعفاء للعقيلي 4/361 .(54/125)
: هارون بن قزعة مدني ، روى عنه سوار بن ميمون حدثني آدم قال : سمعت البخاري يقول : هارون بن قزعة مدني لا يتابع عليه هكذا ذكر العقيلي هارون بن قزعة والذي في تاريخ البخاري هارون أبو قزعة ، وقد يكون اسم أبي هارون قزعة وهارون يكنى بأبي قزعة .
ثم قال العقيلي : حدثنا محمد بن موسى ، حدثنا أحمد بن الحسن الترمذي ، حدثنا عبد الملك بن إبراهيم الجدي ، حدثنا شعبة عن سوار بن ميمون ، عن هارن بن قزعة عن رجل من آل الخطاب ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -قال : (( من زارني متعمداً كان في جواري يوم القيامة ، ومن مات في أحد الحرمين بعثه الله في الآمنين يوم القيامة )) .
قال العقيلي بعد ذكر هذا الحديث : والرواية في هذا لينة(1) . قلت هكذا في هذه الرواية عن رجل من آل الخطاب ، وهو يوافق رواية الطيالسي ، عن رجل من آل عمر وكأنه تصحيف من حاطب ، والذي في تاريخ البخاري عن رجل من ولد حاطب ، وليس في هذه الرواية التي ذكرها العقيلي ذكر عمر كما في رواية الطيالسي ، وكذلك رواية وكيع التي ذكرها البخاري ليس فيها ذكر عمر أيضاً ، فالظاهر أن ذكر وهم من الطاليسي وكذلك إسقاطه هارون من روايته وهم أيضاً ، ومدار الحديث على هارون وهو شيخ مجهول لا يعرف له ذكر إلا في هذا الحديث ، وقد ذكره أبو الفتح الأزدي ، وقال : هو متروك الحديث لا يحتج به .
وقال أبو بشر محمد بن أحمد بن حماد الدولابي(2) في كتاب الضعفاء والمتروكين له هارون أبو قزعة : روى عنه ميمون بن سوار لا يتابع عليه قاله البخاري .
__________
(1) الضعفاء للعقيلي 4/361 .
(2) راجع ترجمته في الميزان 32/459 قال حمزة السهمي سألت الدارقطني عن الدولابي فقال :تكلموا فيه لما تبين من أمره الأخير ، وأما في ترجمته من سؤالات السهمي للدارقطني رقم الترجمة 83 : تكلموا فيه ما تبني من أمره إلا خير .(54/126)
وقال أبو أحمد عدي في كتاب الكامل في معرفة الضعفاء وعلل الأحاديث(1) : هارون أبو قزعة سمعت ابن حماد يقول : قال البخاري : هارون أبو قزعة روى عنه ميمون بن سوار لا يتابع عليه ، قال ابن عدي ، وهارون أبو قزعة لم ينسب ، وإنما روى الشيء الذي أشار إليه البخاري .
هذا جميع ما ذكره ابن عدي في ترجمة هارون ، ولو كان عنده شيء من أمره غير ما قاله البخاري لذكره ، كما هي عادته ، فقد تبين أن مدار هذا الحديث على هارون أبي قزعة وهو شيخ لا يعرف إلا بهذا الحديث الضعيف ولم يشتهر من حاله ما يوجب قبول خبره ، ولم يذكره ابن أبي حاتم في كتاب الجرح والتعديل ، ولا ذكره الحاكم أبو أحمد في كتاب الكنى ، ولم يذكره النسائي في كتاب الكنى أيضاً : وقد تفرد بهذا الحديث عن هذا الرجل المبهم الذي لا يدري من هو ولا يعرف أين من هو ، ومثل هذا لا يحتج به أحد ذاق طعم الحديث أو عقل شيئاً منه ، هذا مع أن رواية عن هارون شيخ مختلف في أسمه غير معروف يحتمل العلم ولا مشهور بنقله ولم يوثقه أحد من الأئمة ولا قوى خبره أحد منهم ، بل طعنوا فيه وردوه ولم يقبلوه .
وقد خلط المعترض في هذه المواضع تخليطاً كثيراً ، وجعل هذا الحديث الضعيف المضطرب ثلاث أحاديث ، وأخذ يقويه على عادته في تقوية الضعيف ، ثم أخذ يناقش من تكلم فيه ويبين حاله من الأئمة الحفاظ ، وهذا دأب هذا المعترض يقوي الضعيف ويضعف القوي .
قال : وسوار بن ميمون روى عنه شعبة ، وروايته عنه دليل على ثقته عنده فلم يبق في الإسناد من ينظر فيه إلا الرجل الذي من آل عمر ، والأمر فيه قريب لا سيما في هذه الطبقة التي هي طبقة التابعين .
__________
(1) انظر الكامل لابن عدي 7/2588 قال الذهبي في الميزان 4/288 هارون أبو قزعة ، لا يعرف . قال الأزدي : متروك ، وانظر أيضاً لسان الميزان للحافظ ابن حجر 6/183 .(54/127)
فيقال : لا نعرف رواية شعبة عن سوار إلا في هذا الحديث الضعيف المضطرب الإسناد ، وقد زاد في روايته عنه على رواية الطيالسي ذكر هارون بن قزعة الجهول الذي لم يتابع على ما رواه ، وأسقط ذكر عمر الذي ذكره الطيالسي ، فإن كانت رواية شعبة عن سوار هي المحفوظة فالحديث غير صحيح لانقطاعه وجهالة رواته ، فهو على التقديرين غير صحيح ولا ثابت ، سواء صحت رواية شعبة عن سوار ، أولم تصح ، ولو روى شعبة خبراً عن شيخ له لم يعرف بعدالة ولا جرح عن تابعي ثقة عن صحابي كان لقائل أن يقول هو خبر جيد الإسناد ، فإن رواية شعبة عن الشيخ مما يقوي أمره ، وليس في إسناد خبره من يحتاج إلى النظر غيره ، فأما إذا كان في إسناد الخبر الذي رواه شعبة من الرواة من لا يحتج به غير شيخه ، كما في هذا الخبر الذي رواه عن سوار لم يلزم أن يكون صحيحاً ولا قوياً .(54/128)
على أن الغالب على طريقة شعبة الرواية عن الثقات ، وقد يروي عن جماعة من الضعفاء الذين اشتهر جرحهم والكلام فيهم الكلمة والشيء والحديث والحديثين وأكثر من ذلك ، وهذا مثل روايته عن إبراهيم بن مسلم الهجري(1) وجابر الجعفي(2) وزيد بن الحواري العمي(3) وثوبر بن أبي فاختة(4) ومجالد بن سعيد(5) وداود بنيزيد الأودي(6)
__________
(1) قال النسائي في الضعفاء : ضعيف ، كوفي ، انظر الضعفاء الصغير للبخاري والكبير له أيضاً 1/326 والمجروحين لابن حبان 1/86 والجرح والتعديل 2/131 والكامل لابن عدي 1/214 وكذلك انظر الكاشف والمغني والميزان والتهذيب .
(2) تقدمت ترجمة جابر الجعفي .
(3) قال النسائي في الضعفاء : زيد العمي ، ضعيف وانظر الجرح والتعديل 3/560 قال ابن حبان في المجروحين 1/306 لا يجوز الاحتجاج بخبره ولا كتبه إلا للاعتبار وانظر الميزان للذهبي 2/102 وترجمته في الكاشف والمغني والتهذيب واللسان .
(4) قال النسائي في الضعفاء : ليس بثقة انظر المجروحين لابن حبان 1/196 والجرح والتعديل 2/472 والتاريخ الكبير للبخاري 2/183 والميزان 1/375 والكاشف المغني والتهذيب .
(5) قال النسائي رحمه الله تعالى : مجالد بن سعيد كوفي ضعيف ، وقال البخاري في الصغير : كان يحي القطان يضعفه وكان الشعبي لا يروي عنه عن الشعبي وقيس بن أبي حازم ، وقال أحمد : يرفع كثيراً مما لا يرفعه الناس ، انظري الميزان 3/438 والتاريخ الكبير للبخاري 8/9 وقال ابن جان في المجروحين 3/10 وكان رديء الحفظ يقلب الأسانيد ويرفع المراسيل لا يجوز الاحتجاج به . انظر أيضاً الكاشف والتهذيب ، وقال الدارقطني في الضعفاء ، ليس بقوي .
(6) صوابه : ( دارد بن يزيد )كما في المجروحين لابن حبان .
قال ابن حبان في المجروحين 1/284 كان ممن يقول بالرجعة وكان الشعبي يقول له ولجابر الجعفي لو كان لي عليكما سلطان ثم لم أجد إلا إبراً لشككتكما ثم غللتكما بها ، قال : وكان يحيى وعبد الرحمن لا يحدثان عن داود بن يزيد . ونقل عن يحي بن معين وذكروا عنده داود الأودي فقال ضعيف ، انظر التاريخ الكبير للبخاري 3/239 والضعفاء الكبير للعقيلي 2/40 والجرح والتعديل 2/437 والكامل 2/947 .(54/129)
، وعبيدة بن معتب الضبي(1) ،ومسلم الأعور(2) ، وموسى بن عبيدة الربذي(3) ، ويعقوب بن عطاء بن أبي رباح(4) ، وعلي بن زيد بن جدعان(5)
__________
(1) قال النسائي في الضعفاء : عبيدة بن معتب ، ضعيف وكان قد تغير أنظر التاريخ الكبير للبخاري 6/137 والجرح والتعديل 6/94 والميزان 3/25 قال أحمد : تركوا حديثه أنظر أيضاً الكاشف والمغني والتهذيب واللسان .
(2) قال النسائي رحمه الله : مسلم بن كيسان الأعور الملائي : متروك الحديث . وقال البخاري في الكبير 7/271 يتكلمون فيه ، انظر المجروحين لابن أبي حاتم 3/8 وقال تركه أحمد بن حنبل ويحيى بن معين والجرح والتعديل 8/192 والكيزان 4/106 راجع أيضاً الكاشف والمغني واللسان والتهذيب .
(3) قال النسائي رحمه الله تعالى : موسى بن عبيدة : أبو عبد العزيز الربذي ، ضعيف ، وقال ابن أبي حاتم 8/151-152 قال أحمد : لا تحل الرواية عندي عن موسى بن عبيدة ، وقال ابن معين : موسى بن عبيدة لا يحتج بحديثه ، انظر المجروحين لابن أبي حاتم 2/234 والميزان 4/213، والضعفاء والمتروكين للعقيلي 4/160 والكامل لابن عدي 6/2333 .
(4) قال الذهبي رحمه الله في الميزان 4/453 ضعفه أحمد وقال أبو حاتم ، ليس بالقوي وعند ابن معين : ضعيف انظر ترجمته في الجرح والتعديل 9/211 والضعفاء والمتروكين للعقيلي 4/445 والكامل لابن عدي 7/2601 وترجم له البخاري في الكبير 8/398 وسكت عنه .
(5) قال الذهبي رحمه الله تعالى في الميزان 3/127 ، قال شعبة : حدثنا علي بن زيد وكان رافعاً وقال الغلاس كان يحيى القطان يتقن الحديث عن علي بن زيد وقال أحمد ضعيف ، وعن يحي : ليس بذاك القوي ، وقال ابن أبي حاتم في المجروحين 2/103 وكان يهم في الأخبار ويخطئ في الآثار حتى كثر ذلك في أخباره وتبين فيها المناكير التي كان يرويها عن المشاهير فاستحق ترك الاحتجاج به ، وقال ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل 6/186 ، سألت أبي عن علي بن زيد فقال ليس بقوي يكتب حديثه ولا يحتج به وهو أحب إلى من يزيد بن أبي زياد وكان ضريراً أو كان يتشيع ، وسألت أبا زرعة عن علي بن زيد بن جدعان فقال ليس بقوي انظر أيضاً الضعفاء والمتروكين للعقيلي 2/229 والكامل لابن عدي 5/1840 والبخاري في الكبير 6/275 .(54/130)
، وليث بن أبي سليم(1) ، وفرقد السخي(2) ، وغيرهم ممن تكلم فيه ونسب إلى الضعف وسوء الحفظ وقلة الضبط ومخالفة الثقات .
وسوار بن ميمون إن صحت رواية شعبة عنه من هذا النمط ، بل هو دون كثير من هؤلاء الذين سميناهم ممن روى عنهم ، وهو متكلم فيه ، فإن بعض هؤلاء له حديث كثير وروايته تصلح للمتابعة والاعتضاد والاستشهاد (3).
وأما سوار بن ميمون فإنه شيخ مجهول الحال قليل الرواية ، بل لا يعرف له رواية إلا هذا الحديث الضعيف المضطرب ، ومع هذا قد اختلف الرواة في أسمه ولم يضبطوه فبعضهم يقول ميمون بن سوار وبعضهم يقول : بالقلب سوار بن ميمون ، والله أعلم هل كان اسمه سواراً أو ميموناً ، فكيف يحسن الاحتجاج بخبر منقطع مضطرب نقلته غير معروفين وروائه في عداد المجهولين والله الموفق .
ثم قول المعترض ، (( فلم يبق في الإسناد من ينظر فيه إلا الرجل الذي من آل عمر والأمر فيه قريب )) كلام ساقط جداً ، وقد بينا الاضطراب في هذا الرجل والاختلاف في إسناد حديثه ، وقول من قال فيه عن رجل م ولد حاطب وكون الرجل المبهم الذي هو أسوأ حالاً من المجهول في إسناد الحديث هو من بعض أسباب ضعفه .
__________
(1) تقدمت ترجمته برقم 129 إلى 132 .
(2) صوابه : فرقد السبخي :
قال النسائي رحمه الله تعالى : فرقد السبخي : ضعيف وقال البخاري في الصغير ص192 ، عن سعيد بن جبير في حديثه مناكير انظر أيضاً ترجمته في الكبير له 7/131 وقال أبو حاتم : ليس بالقوي انظر الجرح والتعديل 7/81-82 والميزان 3/345 وقال الدارقطني ضعيف عن مرة الطيب والنخعي كما في الضعفاء والمتروكين له والمجروحين لابن حبان 2/204 والضعفاء والمتروكين للعقيلي 3/458 والكامل لابن عدي 6/2053 .
(3) قلت قد يروي التابعي عن التابعي مثله والآخر عن مثله إلى ستة أو سبعة كما هو الحال في فضل سورة ( قل هو الله أحد ))(54/131)
والحاصل أن هذا الحديث الذي رواه هذا الرجل المبهم حكم عليه بالضعف وعدم الصحة لأمور متعددة وهي : الاضطراب والاختلاف والانقطاع والجهالة والإبهام ، فقول المعترض عن الرجل المبهم : (( والأمر فيه قريب )) كلام لا ينفعه ولا يحصل غرضه ، بل لو ناقضه غيره ، وقال ، والأمر فيه بعيد لكان كلامه أقرب إلى الصحة وأبعد عن الخطأ من كلامه والله أعلم .
ثم قال المعترض : وأما قول البيهقي هذا إسناد مجهول ، فإن كان سببه جهالة الرجل الذي من آل عمر فصحيح ، وقد بينا قرب الأمر فيه ، وأن كان سببه عدم علمه بحال سوار بن ميمون فقد ذكرنا رواية شعبة عنه وهي كافية .
والجواب أن يقال : هذا الذي ذكره البيهقي هو أحد أسباب رد الحديث وضعفه وعدم قبوله ، وهو جهالة إسناده ، وهذه الجهالة ثابتة للإسناد ، محكوم بها عليه من جهة الرجل المبهم ، ومن جهة الراوي عنه هارون بن أبي قزعة ، ومن جهة سوار بن ميمون أيضاً فالإسناد محكوم عليه بالجهالة لإجماع هؤلاء المجهولين في سنده ، مع أن الرجل المبهم فيه يكفي في الحكم عليه بالجهالة ، فكيف إذا كان معه مجهول غيره .
وقول المعترض : أنه قد بين قرب الأمر فيه ، دعوى مجردة غير مطابقة فتقابل بالمنع والرد وعدم القبول ، وقد تكلمنا على رواية شعبة عن سوار بما فيه كفاية وبينا أن الحديث ليس بصحيح سواء ثبتت روايته عنه أولم تثبت ونبهنا على أن شعبة قد يروي عمن لا يحتج به من الرواة الكلمة والشيء والخبر والخبرين وأكثر من ذلك والله أعلم .
ثم قال المعترض(54/132)
الحديث السابع : (( من زارني متعمداً كان في جواري يوم القيامة ))رواه أبو جعفر العقيلي وغيره من رواية سوار بن ميمون المتقدم على وجه آخر غير ما سبق ، أخبرنا الحافظ أبو محمد إذناً قال : أنبأنا ابن الشبرازي في كتابه ، أنبأنا ابن عساكر سماعاً ، أنبأنا الشحامي ، أنبأنا البيهقي ، أنبأنا أبو عبد الله الحافظ ، أخبرني علي بن عمر الحافظ ، حدثنا أحمد بن محمد الحافظ ، حدثني داود بن يحي ، قال ابن عساكر ، وأخبرنا أبو البركات بن الأنماطي ، أنبأنا أبو بكر الشامي ، أنبأنا أبو الحسن العتيقي ، أنبأنا ابن الدخيل ، حدثنا أبو جعفر محمد بن عمرو العقيلي ، حدثنا محمد بن موسى ، قالا : حدثنا أحمد بن الحسن الترمذي ، حدثنا عبد الملك بن إبراهيم الجدي ، حدثنا شعبة عن سوار بن ميمون عن .
وفي حديث الشاحمي حدثنا هارون بن قزعة عن رجل من آل الخطاب عن النبي- صلى الله عليه وسلم - قال : (( من زارني متعمداً كان في جواري يوم القيامة )) زاد الشحامي ، ومن سكن المدينة وصبر على بلائها كنت بلائها كنت له شهيداً أو شفيعاً يوم القيامة ، وقالا : ((ومن مات في أحد الحرمين بعثه الله في الآمنين )) وقال الشحامي : من الأمنين يوم القيامة .(54/133)
قال : وهارون بن قزعة ذكره ابن حبان في الثقات ، والعقيلي لما ذكره في كتابه لم يذكر فيه أكثر من قول البخاري أنه لا يتابع عليه فلم يبق فيه إلا الرجل المبهم وإرساله وقوله فيه من آل الخطاب ، كذا وقع في هذه الرواية وهو يوافق قوله في رواية الطيالسي من آل عمر ، وقد أسنده الطيالسي عن عمر كما سبق ، لكن أخشى أن يكون الخطاب تصحيفاً من حاطب ، فإن البخاري لما ذكره في التاريخ قال : هارون أبو قزعة ، عن رجل من ولد حاطب عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (( من مات في أحد الحرمين )) روى عنه ميمون بن سوار لا يتابع عليه ، وقال ابن حبان : إن هارون بن قزعة يروي عن رجل من ولد حاطب المراسيل ، وعلى كلا التقديرين ، فهو مرسل جيد ، وأما قول الأذدي أن هارون : متروك الحديث لا يحتج به فلعل مسنده فيه ما ذكره البخاري والعقيلي وبالغ في إطلاق هذه العبارة ، لأنها إنما تطلق حيث يظهر من حال الرجل ما يستحق به الترك وقد عرفت أن ابن حبان ذكره في الثقات ، وابن حبان أعلم من الأزدي وأثبت ، انتهى ما ذكره المعترض .
والجواب أن يقال : هذا الحديث السابع الذي ذكره هو الحديث السادس بعينه فجعل المعترض له حديثين بل ثلاثة أحاديث ، وهو حديث واحد ضعيف مضطرب مجهول الإسناد من أوهى المراسيل وأضعفها هو من باب التهويل والتكثير بما لا يحتج به ، وما كفاه هذا حتى أخذ يقويه ويناقش من رده ويتكلم فيه ، وقد علم أن ضعفه حصل بأمور متعددة وأشياء مختلفة ، وهي : الاضطراب والاختلاف والجهالة والإرسال والانقطاع ، وبعض هذه الأمور تكفي في ضعف الحديث ورده وعدم الاحتجاج به عند أئمة هذا الشأن فكيف باجتماعها في خبر واحد .(54/134)
وقوله : إن هارون بن قزعة ذكره ابن حبان في الثقات ، ليس فيه ما يقتضي صحة الحديث الذي رواه ولا قوته ، وقد علم أن ابن حبان ذكر في هذا الكتاب الذي جمعه في الثقات عدداً كبيراً وخلقاً عظيماً من المجهولين الذين لا يعرف هو ولا غيره أحوالهم ،وقد صرح ابن حبان بذلك في غير موضع من هذا الكتاب ، فقال في الطبعة الثالثة(1) : سهل يروي عن شداد بن الهاد ، روى عنه أبو يعقوب ولست أعرفه ، ولا أدري من أبوه ، هكذا ذكر هذا الرجل في كتاب الثقات ، ونص على أنه لا يعرفه .
وقال أيضاً حنظلة(2) شيخ يروي المراسيل لا أدري من هو ؛ روى ابن المبارك عن إبراهيم بن حنظلة عن أبيه ، وهكذا ذكره لم يزد ، وقال أيضاً : الحسن أبو عبد الله(3) شيخ يروي المراسيل ، روى عنه أيوب النجار لا أدري من هو ولا ابن منهو ، وقال أيضاً جميل(4) شيخ يروي عن أبي المليح بن أسامة ، روى عنه عبد الله بن عون ، لا أدري من هو ولا ابن من هو .
__________
(1) انظر كتاب الثقات له 6/406 .
(2) انظر كتاب الثقات أيضاً 6/226 .
(3) انظر الثقات أيضاً 6/170 .
(4) انظر الثقات 6/146 .(54/135)
وقد ذكر ابن حبان في هذا الكتاب خلفاً كثيراً من هذا النمط ، وطريقته فيه أنه يذكر من لم يعرفه بجرح ، وإن كان مجهولاً لم يعرف حاله ، وينبغي أن ينبه لهذا ويعرف أن توثيق ابن حبان للرجل بمجرد ذكره في هذا الكتاب من أدنى درجات التوثيق ، على أن ابن حبان قد اشترط في الاحتجاج بخبر من يذكره في هذا الكتاب شروطاً ليست موجودة في هذا الخبر الذي رواه هارون ، فقال في أثناء كلامه ، والعدل : من لم يعرف منه الجرح ،إذ الجرح ضد التعديل ، فمن لم يعرف بجرح فهو عدل يتبين ضده(1) ، إذ لم يكلف الناس من الناس معرفة ما غاب عنهم ، وإنما كلفوا الحكم بالظاهر من الاشياء غير المغيب عنهم(2) .
هذه طريقة ابن حبان في التفرقة بين العدل وغيره ، وقد وافقه عليها بعضهم وخالفه الأكثرون ، وليس المقصود هنا تحرير الكلام على هذا ، وإنما المراد التنبيه على إصلاح ابن حبان وطريقته ، قال(3) : فكل ن أذكر في الكتاب فهو صدوق يجوز الاحتجاج بخره إذا تعرى خبره عن خصال خمس ، فإذا وجد خبر منكر عن واحد ممن ذكرته في كتابي هذا فإن ذلك الخبر لا ينفك من إحدى خمس خصال إما أن يكون فوق الشيخ الذي ذكرت اسمه في كتابي هذا في الإسناد رجل ضعيف لا يحتج بخبره ، أو يكون دونه رجل واه لا يحتج بخبره ، أو الخبر يكون مرسلاً لا يلزمنا به الحجة ، أو يكون منقطعاً لا تقوم بمثله الحجة ، أو يكون في الإسناد رجل مدلس لم يبين سماعه في الخبر من الذي سمعه منه .
__________
(1) قلت بل يزاد مع العدالة الحفظ .
(2) هذه القاعدة انتقدها الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى في مقدمة كتابه لسان الميزان ، ورد عليه وذكر هنالك أن ابن عبد الهادي ذكرها في " في الصارم المنكي " انظر لسان الميزان 1/14-15 وكلام ابن حبان هذا ذكره في مقدمة كتابه الثقات 1/13 .
(3) انظر مقدمة الثقات 1/11-12 .(54/136)
هذا كله كلام ابن حبان في كتاب الثقات ، ثم أنه قال(1) : فيه هارون أبو قزعة يروي عن رجل من ولد حاطب المراسيل ، كذا قال ، ولم يذكر لهارون شيخاً غير هذا الرجل ولد حاطب ، فلو قدرنا الرجوع إلى توثيق ابن حبان لهارون لم يلزم من ذلك الحكم بصحة خبره المذكور لفقد أكثر الشروط التي ذكرها ابن حبان في جواز الاحتجاج بالخبر فإن الشيخ الذي فوق هارون مبهم لا يحتج بخبره ، والشيخ الذي دونه أيضاً لا يحتج بخبره والخبر مع هذا من أوهى المنقطعات ، وأضعف المراسيل ، فلو كان توثيق ابن حبان لهارون مقبولاً لم يكن في ذلك ما يقتضي صحة خبره المذكور فكيف وطريقة ابن حبان في هذا قد عرف ضعفها مع أنه قد ذكر في كتاب الثقات خلقاً كثيراً ، ثم أعاد ذكرهم في المجروحين وبين ضعفهم وذلك من تناقضه وغفلته ، أو من تغير اجتهاده وقد ذكر الشيخ أبو عمر بن الصلاح عنه أنه غلط الغلط الفاحش في تصرفه .
وأما قول المعترض في أثناء كلامه على الحديث : وعلى كلا التقديرين فهو مرسل جيد فإن قوله ساقط ، بل هو من أضعف المراسيل وأسقطها ، وكيف يكون مرسلاً جيداً ومرسله مجهول العين والحال واسم الأب ، غير معروف بنقل العلم ولا مشهور بحمله ، بل لم يأت ذكره إلا في هذا الحديث الضعيف المضطرب .
ولو اطلع هذا المعترض على بعض كلام الشافعي وغيره من الأئمة في الاحتجاج ببعض المراسيل وترك الاحتجاج ببعضها لم يقل مثل هذا القول الساقط الذي يعرف بطلانه أدنى من يعد من طلبة الحديث .
وهذا أنا أذكر طرفاً من كلام الأئمة على حكم المراسيل ليطلع عليه من أحب الوقوف عليه ، ويتبين له أن قول المعترض على هذا الخبر أنه مرسل جيد ، من أظهر الكلام بطلاناً. قال ابن أبي حاتم في كتاب المراسيل .
باب ما ذكر في الأسانيد المرسلة أنها لا تثبت بها الحجة
__________
(1) انظر الثقات لابن حبان 7/580(54/137)
حدثنا أحمد بن سنان قال : كان يحي بن سعيد القطان لا يرى إرسال الزهري وقتادة شيئاً ويقول ، هو بمنزلة الربح ، ويقول : هؤلاء قوم حفاظ كانوا إذا سمعوا الشيء عقلوه ، حدثنا صالح بن أحمد بن حنبل ، حدثنا علي بن المديني ، قال : قلت ليحيى بن سعيد سعيد بن المسيب عن أبي بكر قال : ذاك شبه الريح ، وبه قال : حدثنا علي بن المديني قال : مرسلات مجاهد أحب إلي من مرسلات عطاء بكثير ، ، كان عطاء يأخذ عن كل ضرب .
وبه قال : حدثنا علي يعني ابن المديني قال : سمعت يحيى يقول : مرسلات سعيد بن جبير أحب إلي من مرسلات عطاء قلت : مرسلات مجاهد أحب إليك أو مرسلات طاووس ؟ قال:ما أقربهما ، وبه قال : سمعت يحيى يقول : مالك عن سعيد بن المسيب أحب إلى من سفيان عن إبراهيم ، قال يحيى : وكل ضعيف .
حدثنا صالح حدثنا علي قال : سمعت يحيى يقول : سفيان عن إبراهيم شبه لا شيء ، لأنه لو كان فيه إسناد لصاح به ، وبه قال : سمعت يحيى يقول : مرسلات أبي إسحاق يعني الهمداني عندي شبه لا شيء ، والأعمش والتيمي ، ويحيى بن أبي كثير يعني مثله ، وبه قال : سمعت يحيى يقول : مرسلات ابن أبي خالد يعني إسماعيل بن أبي خالد ليس بشيء ومرسلات عمرو بن دينار أحب إلى ، وبه قال : سمعت يحي يقول : مرسلات معاوية بن قرة أحب إلي من مرسلات زيد بن أسلم وبيه قال : سمعت يحيى بن سعيد يقول : مرسلات ابن عيينة شبه الريح ، ثم قال : أي والله وسيفان بن سعيد ، قلت : مرسلات مالك بن أنس ، قال : هي أحب إلي ، ثم قال : ليس في القوم أصح حديثاً من مالك ، وبه قال : سمعت يحي يعني ابن سعيد القطان يقول : كان شعبة يضعف إبراهيم عن علي .(54/138)
وقال ابن أبي حاتم :سمعت أبي وأبا زرعة يقولان : لا يحتج بالمراسيل ، ولا تقوم الحجة إلا بالأسانيد الصحاح المتصلة(1) ، وروى الفضل بن زياد عن الإمام أحمد بن حنبل قال : مرسلات سعيد بن المسيب أصح المرسلات ، ومرسلات إبراهيم النخعي لا بأس بها ، وليس في المرسلات أضعف من مرسلات الحسن وعطاء بن أبي رباح ، فإنهما كان يأخذان عن كل أحد وروى عباس الدوري ، عن يحي بن معين ،قال : مراسيل الزهري ليس شيء.
وقال البيهقي في كتاب المدخل : أخبرنا أبو عبد الله الحافظ ، قال : سمعت أبا العباس محمد بن يعقوب يقول : سمعت العباس الدوري يقول : سمعت يحيى بن معين يقول : أصح المراسيل مراسيل سعيد بن المسيب ، أخبرنا أبو عبد الله الحافظ ، حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب ، حدثنا حنبل بن إسحاق ، قال : سمعت عمي أبا عبد الله يعني أحمد بن حنبل يقول : مرسلات سعيد بن المسيب صحاح ، لا ترى أصح من مرسلاته أخبرنا أبو عبد الله الحافظ ، حدثنا أبوالعباس محمد بن يعقوب ، أنبأنا الربيع بن سليمان أنبأنا الشافعي قال(2) .
__________
(1) انظر مقدمة كتاب المراسيل لابن أبي حاتم ص13-15 .
(2) كلام الشافعي إلى منتهاه في الرسالة من ص461 - 465 .(54/139)
والمنقطع مختلف فمن شاهد أصحاب رسول الله- صلى الله عليه وسلم - من التابعين فحدث حديثاً منقطعاً عن النبي- صلى الله عليه وسلم - اعتبر عليه بأمور منها أن ينظر إلى ما أرسل من الحديث ، فإن شركه الحفاظ المأمونون فأسندوه إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم - بمثل معنى ما روى ، كانت هذه دلالة على صحة ما قيل عنه وحفظه ، وإن الفرد بإرسال حديث لم يشركه فيه من يسنده قبل ما يتفرد به من ذلك ويعتبر عليه بأن ينظر هل يوافقه مرسل غيره ممن قبل العلم من غير رجاله الذين قبل عنهم ، فإنه وجد ذلك كانت دلالة تقوي له مرسله وهي أضعف من الأولى ، وإن لم يوجد ذلك نظر إلى بعض ما يروي عن بعض أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -قولاً له ، فإن وجد يوافق ما روي عن النبي- صلى الله عليه وسلم - كان هذا دلالة على أنه لم يأخذ مرسله إلا عن أصل يصح إن شاء الله تعالى ، وكذلك إن وجد عوام من أهل العلم يفتون بمثل معنى ما روى عن النبي- صلى الله عليه وسلم - ، ثم يعتبر عليه بأن يكون إذا سمي من روي عنه لم يسم مجهولاً ، ولا مرغوباً عن الرواية عنه فيستدل بذلك على صحته فيما روي عنه ، ويكون إذا أشرك أحد من الحفاظ في حديث لم يخالفه ، فإن خالفه ووجد حديثه أنقص كتاب في هذه دلائل على صحة مخرج حديثه ، ومتى خالف ما وصفت أضر بحديثه حتى لا يسع أحداً قبول مرسله .(54/140)
قال : وإذا وجدنا الدليل بصحة حديثه بما وصفت أحببنا أن نقبل مرسله ، ولا نستطيع أن نزعم أن الحجة ثبتت بها ثبوتها بالمتصل ، وذلك أن معنى المنقطع مغيب يحتمل أن يكون حمل عمن يرغب عن الرواية عنه إذا سمي ، وإن بعض المنقطعات وإن وافقه مرسل مثله فقد يحتمل أن يكون مخرجها واحداً من حيث لو سمي لم يقبل ، وإن قول بعض أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -إذا قال برأيه : لو وافقه لم يدل على صحة مخرج الحديث دلالة قوية إذا نظرنا فيها ، ويمكن أن يكون إنما غلط به حين سمع قول بعض أصحاب رسول الله- صلى الله عليه وسلم - يوافقه ويحتمل مثل هذا فيمن وافقه من بعض الفقهاء .
قال الشافعي : فأما من بعد كبار التابعين فلا أعلم واحداً منهم يقبل مرسله لأمور :
أحدها : أنهم تجوزوا فيمن يروون عنه .
والآخر : أنهم تؤخذ عليهم الدلائل فيما أرسلوا لضعف مخرجه ، والآخر كثرة الإحالة في الأخبار ، وإذا كثرت الإحالة كان أمكن للوهم وضعف من يقبل عنه .
هذا كله كلام الشافعي وقد تضمن أموراً :
أحدها :أن المرسل إذا أسند من وجه آخر دل ذلك على صحة المرسل .
الثاني : أنه إذا لم يسند من وجهة آخر نظر هل يوافقه مرسل آخر أم لا ، فإن وافقه مرسل آخر قوي ، لكنه يكون أنقص درجة من المرسل الذي أسند من وجه آخر .
الثالث : أنه إذا لم يوافقه مرسل آخر ولا أسند من وجه لكنه وجد عن بعض الصحابة قول له يوافق هذا المرسل عن النبي- صلى الله عليه وسلم - دل على أن له أصلاً ولا يطرح .
الرابع : أنه إذا وجد خلق كثير من أهل العلم يفتون بما يوافق المرسل دل على أن له أصلاً .
الخامس : أن ينظر في حال المرسل ، فإن كان إذا سمي شيخه سمي ثقة وغير ثقة لم يحتج بمرسله ، وإن كان إذا سمى لم يسم إلا ثقة لم يسم مجهولاً ، ولا ضعيفاً مرغوباً الرواية عنه كان ذلك دليلاً على صحة المرسل ، وهذا فصل النزاع في المرسل وهو من أحسن ما يقال فيه .(54/141)
السادس : أن ينظر إلى هذا المرسل له ، فإن كان إذا شرك غيره من الحفاظ في حديث وافقه فيه ، ولم يخالف ، دل ذلك على حفظه ، وإن خالفه ووجد حديثه أنقص ، إما نقصان رجل يؤثر في اتصاله أو نقصان رفعه بأن يقفه ، أو نقصان شيء من متنه كان في هذا دليل على صحة مخرج حديثه ، وإن له أصلاً ، فإن هذا يدل على حفظه وتحريه بخلاف ما إذا كانت مخالفته بزيادة ، فإن هذا يوجب التوقف والنظر في حديثه .
وهذا دليل من الشافعي رضي الله عنه على أن زيادة الثقة عنده لا يلزم أن تكون مقبولة مطلقاً ، كما يقوله كثير من الفقهاء من أصحابه وغيرهم ، فإنه اعتبر أن يكون حديث هذا المخالف أنقص من حديث من خالفه ولم يعتبر المخالف بالزيادة وجعل نقصان هذا الرواي من الحديث دليلاً على صحة مخرج حديثه ، وأخبر أنه متى خالف ما وصف أضر ذلك بحديثه ، ولو كانت الزيادة عنده مقبولة مطلقاً لم يكن مخالفته بالزيادة مضراً بحديثه .
السابع : أن المرسل العاري عن هذه الاعتبارات والشواهد التي ذكرها ليس بحجة عنده .
الثامن : أن المرسل الذي حصلت فيه هذه الشواهد أو بعضها يسوغ الاحتجاج به ولا يلزم لزوم الحجة بالمتصل وكأنه رضي عنه سوغ الاحتجاج به ولم ينكر على مخالفه .
التاسع : أن مأخذ رد المرسل عنده إنما هو احتمال ضعف الواسطة ، وأن المرسل لو سماه لبان أنه لا يحتج به ، وعلى هذا المأخذ ، فإذا كان المعلوم من عادة المرسل أنه إذا سمي لم يسم إلا ثقة ، ولم يسم مجهولاً كان مرسله حجة ، وهذا أعدل الأقوال في المسألة وهو مبني على أصل وهو أن رواية الثقة عن غيره هل هي تعديل له أم لا .(54/142)
وفي ذلك قولان مشهوران هما :روايتان عن الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه ، والصحيح : حمل الروايتين على اختلاف حالين ، فإن الثقة إذا كان من عادته أن لا يروي إلا عن ثقة كانت روايته عن غير تعديلاً له ،إذ قد علم ذلك من عادته ، وإن كان يروي عن الثقة وغيره لم تكن روايته تعديلاً لمن روى عنه وهذا التفصيل اختيار كثير من أهل الحديث والفقه والأصول ،وهو صحيح .
العاشر : إن المرسل من بعد كبار التابعين لا يقبل ولم يحك الشافعي عن أحد قبوله لتعدد الوسائط ولأنه لو قبل لقبل مرسل المحدث اليوم وبينه وبين الرسول- صلى الله عليه وسلم - أكثر من عشرة ، وهذا لا يقوله أحد من أهل الحديث .
إذا عرفت هذا ظهر لك خطأ المعترض في قوله عن خبر هارون أبي قزعة عن رجل من ولد حاطب أنه مرسل جيد ، وتبين لك أن مثل هذا القول لم يقله أحد من أئمة أهل الحديث ، ويكف يكون مرسلاً جيداً ، ومرسله ليس بمعروف أصلاً ، بل هو مجهول العين ، والحال ، والبلد ، والاسم ، واسم الأب ، وراويه عنه مجهول لم يتابع على ما رواه ، وراويه عنه أيضاً مجهول لم يعرف من حاله ما يوجب قبول روايته ، بل قد اختلف الرواة في اسمه ، واسم أبيه ، ولا يعرف ذكره في غير هذا الخبر المرسل الضعيف المضطرب الذي رده الأئمة وطعنوا فيه ولم يقبلوه ، ولم نعلم أحد من المتقدمين ولا من المتأخرين قوي هذا الخبر واحتج به غير هذا المعترض على شيخ الإسلام ، وجميع ما تفرد به خطأ فاعلم ذلك والله الموفق .
ثم قال المعترض(54/143)
وقد روى عن هارون بن قزعة أيضاً مسنداً بلفظ آخر : وهو الحديث الثامن : ((من زارني بعد موتي فكأنما زارني في حاتي )) رواه الدارقطني وغيره ، أخبرنا الحافظ أبو محمد الدمياطي سماعاً عليه في كتاب السنن للدارقطني ، قال : أنبأنا الحافظ أبو الحجاج يوسف بن خليل ، أنبأنا الويرج ، أنبأنا الأخشيد ، أنبأنا إبراهيم بن عبد الرحيم ، أنبأنا الدارقطني ، حدثنا أبو عبيد والقاضي أبو عبد الله ، وابن مخلد قالوا : حدثنا محمد بن الوليد البسري ، حدثنا وكيع ، حدثنا خالد بن أبي خالد ، وأبو عون ، عن الشعبي والأسود بن ميمون ، عن هارون أبي قزعة عن رجل من آل حاطب ، عن حاطب قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (( من زارني بعد موتي فكأنما زارني في حياتي ومن مات بأحد الحرمين بعث من الأمنين يوم القيامة )) .(54/144)
هكذا هو في سنن الدارقطني ، وأنبأنا به أيضاً عبد المؤمن ، أنبأنا ابن الشيرازي أنبأنا ابن عساكر ، أنبأنا قراتكين التركي ، أنبأنا الجوهري ، أنبأنا علي بن محمد بن لؤلؤ ، أنبأنا زكريا الساجي ، قال ابن عساكر: وأنبأ أحمد بن محمد البغدادي ، أنبأ ابن شكرويه ، ومحمد بن أحمد السمسار ، قالا : أنبأنا إبراهيم بن عبد الله ، أنبأنا المحاملي قال : حدثنا محمد بن الوليد البسري ، حدثنا وكيع ، حدثنا خالد بن أبي خالد وابن عون عن الشعبي والأسود بن ميمون ، عن هارون أبي قزعة ، وأنبأ عبد المؤمن أيضاً أنبأ أبو نصر ، أنبأ ابن عساكر ، أنبأ علي بن إبراهيم الحسيني ، أنبأنا رشاء بن نظيف المقري ، أنبأنا المحسن بن إسماعيل الضراب ، أنبأنا أحمد بن مروان المالكي ، حدثنا زكريا بن عبد الرحمن البصري ، حدثنا محمد بن الوليد ، حدثنا وكيع بن الجراح ، عن خالد وابن عون ، عن هارون بن أبي قزعة ، مولى حاطب ، عن حاطب قال : قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم - : (( من زارني بعد موتي فكأنما زارني في حياتي ، ومن مات في أحد الحرمين يبعث يوم القيامة من الآمنين )) .
كذا وقع في رواية أحمد بن مروان المالكي ، وهو صاحب المجالسة : عن هارون عن حاطب ، والذين رووا عن رجل ، عن حاطب كما تقدم أولى بأن يكون الصواب معهم ، انتهى ما ذكره المعترض .(54/145)
والجواب أن يقال : هذا الحديث الذي جعله حديثاً ثامناً هو بعينه الحديث السادس والسابع فهو حديث واحد ضعيف مضطرب الإسناد وهذه الرواية التي ذكرها تزده إلا اضطراباً في الإسناد ، وفي المتن أيضاً ، وقد خرجها البيهقي في كتاب ( شعب الإيمان ) من طريق الدارقطني ، ثم قال : كذا وجدته في كتابي ، وقال غيره : سوار بن ميمون : وقيل ميمون بن سوار ، ووكيع هو الذي يروي عنه أيضاً وفي تاريخ البخاري ميمون بن سوار العبدي ، عن هارون ابن قزعة ، عن رجل من ولد حاطب عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم - : (( من مات في أحد الحرمين )) قال يوسف بن راشد : حدثنا وكيع ، حدثنا ميمون .
والحاصل أن هذه الرواية المذكورة عن محمد بن الوليد ، عن وكيغ لم تزد الحديث إلا ضعفاً واضطراباً في إسناده ، وفي لفظه ، فالحديث حديث واحد ضعيف مجهول الإسناد مضطرب اضطراباً شديداً ، ومداره على هارون أبي قزعة ، وقيل ابن قزعة ، وبعض الرواة يذكره وبعضهم يسقطه ، وشيخه الرجل المبهم بعضهم يذكره وبعضهم يسقطه وبعضهم يقول فيه : عن رجل من آل عمر ، وبعضهم يقول :عن رجل من آل الخطاب ، وبعضهم يقول : عن رجل من ولد حاطب ، ثم بعضهم يسنده عن عمر ، وبعضهم يسنده عن حاطب ، وبعضهم يرسله ولا يسنده ، لا عن حاطب ، ولا عن عمر وهو الذي ذكره البخاري وغير واحد .
ثم الراوي عن هارون يسميه بعض الرواة سوار بن ميمون ويقلبه بعضهم فيقول ميمون بن سوار ، ويسميه بعضهم الأسود بن ميمون ، ولا يرتاب من عنده أدنى معرفة بعلم المنقولات أن مثل هذا الاضطراب الشديد من أقوى الحجج وأبين الأدلة على ضعف الخبر وسقوطه ورده وعدم قبوله ، وترك الاحتجاج به ، ومع هذا الاضطراب الشديد في الإسناد فاللفظ مضطرب أيضاً اضطراباً شديداً مشعراً بالضعف وعدم الضبط .(54/146)
وأما ما وقع من الزيادة في الإسناد عن وكيع عن خالد بن أبي خالد ، وأبي عون أو ابن عون عن الشعبي ، أو بإسقاط الشعبي ، فإنها زيادة منكرة غير محفوظة ، وليس للشعبي مدخل في إسناد هذا الحديث ، وخالد بن أبي خالد ، وأبو عون أو ابن عون قد ذكر في الرواية الأولى أنهما يرويان عن الشعبي ، وفي الأخرى أنهما يرويان عن هارون بن أبي قزعة ولم يذكر في الأولى عمن أسند الشعبي الحديث وأسقط في الآخر ذكره بالكلية وذكر الرجل الذي يروي عنه هارون الحديث ، وكل ذلك مشعر بشدة الضعف وعدم الضبط.
وقوله عن خالد بن أبي خالد وهم ،وإنما هو ابن أبي خلده ، قال البخاري في تاريخه(1) ، خالد بن أبي خلدة الحنفي الأعور سمع الشعبي وإبراهيم ، وروى عنه الثوري ومروان بن معاوية منقطع .
وقال ابن أبي حاتم(2) : خالد بن أبي خلده الحنفي الأعور ، روى عن الشعبي وإبراهيم النخعي وذر روى عنه الثوري وابن عيينة ومروان بن معاوية سمعت أبي يقول ذلك .
والحاصل : أن ذكر هذه الزيادة المظلمة في الإسناد لم تزد في الحديث قوة ، بل لم تزده إلا ضعفاً واضطراباً ، فقد تبين أن هذا الحديث الذي احتج به المعترض على شيخ الإسلام وجعله ثلاثة أحاديث هو حديث واحد غير صحيح ، ولو فرض أنه حديث صحيح ثابت لم يكن فيه دلالة على غير الزيادة على الوجه المشروع ، وقد قدمنا غير مرة أن شيخ الإسلام لم ينكر الزيادة الشرعية ولم ينهه عنها ولم يكرها ، بل ندب إليها واستحبها وحض على فعلها .
__________
(1) هو كما قال ابن عبد الهادي خالد بن أبي خلدة انظر التاريخ الكبير للبخاري 3/145 .
(2) انظر الجرح والتعديل لابن أبي حاتم 3/327 .(54/147)
وقد قال في أثناء كلامه في الجواب عما اعترض به عليه بعض المالكية بعد أن ذكر لفظنه فقال(1) : قال المعترض : وورد في زيادة قبره أحاديث صحيحة وغيرها مما لم تبلغ درجة الصحيح ، لكنها يجوز الاستدلال بها على الأحكام الشرعية ويحصل بها الترجيح .
قال : والجواب من وجوه :
أحدهما : أن يقال لو ورد في ذلك ما هو صحيح لكان إنما يدل على مطلق الزيادة وليس في جواب الاستفتاء نهي عن مطلق الزيادة ولا حكى في ذلك نزاع في ذلك الجواب ، وإنما فيه ذكر النزاع فيمن لم يكن سفره إلا لمجرد زيارة قبور الأنبياء والصالحين وحينئذ فلو كان في هذا الباب حديث صحيح لم يتناول محل النزاع ولا فيه رد على ما ذكره المجيب من النزاع والإجماع .
الثاني : أنه لو قدر أنه ورد في زيارة قبره أحاديث صحيحة لكان المراد بها هو المراد بقول من قال من العلماء أنه يستحب زيارة قبره ومرادهم بذلك السفر إلى مسجده، وفي مسجده يسلم عليه ويصلي عليه ويدعي له ويثني عليه ، ليس المراد أنه يدخل إلى قبره ويصل إليه ، وحينئذ فهذا المراد قد استحبه المجيب ، وذكر أنه مستحب بالنص والإجماع ، فمن حكى عن المجيب أنه لا يستحب ما استحبه علماء المسلمين من زيارة قبره على الوجه المشروع ، فقد استحق ما يستحقه الكاذب المفتري .
وإذا كان يتسحب هذا وهو المراد بزيارة قبره ، فزيارة قبره بهذا المعنى ، من مواقع الإجماع لا من موارد النزاع .
__________
(1) انظر الرد على الأجنائي ص86-110 .(54/148)
الثالث : أن نقول قول القائل : أنه ورد في زيارة قبره أحاديث صحيحة قول لم يذكر عليه دليلاً ، فإذا قيل له : لا نسلم أنه ورد في ذلك حديث صحيح احتاج إلى الجواب وهو لم يذكر شيئاً من تلك الأحاديث كما ذكر قوله : (( كنت قد نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها))(1) وكما ذكر زيارته لأهل البقيع وأحد فإن هذا صحيح ، وهنا لم يذكر شيئاً من الحديث الصحيح فبقي ما ذكره دعوى مجردة تقابل بالمنع .
الرابع : أن نقول : هذا قول باطل لم يقله أحد من علماء المسلمين العارفين بالصحيحين ، وليس في الأحاديث التي رويت بلفظ زيارة قبره حديث صحيح عند أهل المعرفة ، ولم يخرج أرباب الصحيح شيئاً من ذلك ولا أرباب السنن المعتمدة كسنن أبي داود والنسائي ، والترمذي ، ونحوهم ، ولا أهل المسانيد التي من هذا الجنس كمسند أحمد وغيره ، ولا في موطأ مالك ولا في مسند الشافعي ، نحو ذلك شيء من ذلك ، ولا احتج إمام من الأئمة المسلمين كأبي حنيفة ، ومالك ، والشافعي وأحمد وغيرهم بحديث فيه ذكر زيارة قبره ، فكيف يكون في ذلك أحاديث صحيحة ولم يعرفها أحد من أئمة الدين ولا علماء الحديث ، ومن أين لهذا وأمثاله أن تلك الأحاديث صحيحة وهو لا يعرف هذا الشأن .
__________
(1) الحديث رواه مسلم 2/672 و 3/1563 ، 1564 وأبو داود 4/97 ، والنسائي 8/310 من حديث بريدة بن الحصيب وروى عن ابي سعيد الخدري ، رواه أحمد في مسنده 3/38 ومالك 3/836 وبحديث صحيح .(54/149)
الوجه الخامس :قوله وغيرها مما لم تبلغ درجة الصحيح لكنها يجوزالاستدلال بها على الأحكام الشرعية ويحصل بها الترجيح ، فيقال له : اصطلاح الترمذي ومن بعده أن الأحاديث ثلاثة أقسام صحيح وحسن وضعيف ، والضعيف قد يكون موضوعاً فعلم أنه كذب وقد لا يكون كذلك فما ليس بصحيح إن كان حسناً على هذا الإصطلاح احتج به وهو لم يذكر حديثاً وتبين أنه حسن يجوز الاستدلال به ،فيقول له لا نسلم أنه ورد من ذلك ما يجوز الاستدلال به وهو لم يذكر إلا دعوى مجردة فتقابل بالمنع .
الوجه السادس : أن يقال : ليس في هذا الباب ما يجوز الاستدلال به بل كلها ضعيفة بل موضوعة كما قد بسط في مواضع وذكرت هذه الأحاديث ، وذكرت كلام الأئمة عليها حديثاً ، بل ولا عرف عن أحد من الصحابة أنه تكلم بلفظ زيارة قبره البتة ، فلم يكن هذا اللفظ معروفاً عندهم ، ولهذا كره مالك التكلم ، به بخلاف لفظ زيارة القبور مطلقاً ، فإن هذا اللفظ معروف عن النبي- صلى الله عليه وسلم - وعن أصحابه وفي القرآن الكريم { أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1) 4س®Lxm زُرْتُمُ uچخ/$s)yJّ9$# } (التكاثر 001-002) لكن معناه عندالأكثرين الموت وعند طائفة هي زيارتها للتفاخر بالموتى والتكاثر .
وأما لفظ قبر النبي - صلى الله عليه وسلم -المخصوص فلا يتعرف لا عن النبي- صلى الله عليه وسلم - ، ولا عن أصحابه وكل ما يروى فيه هو ضعيف ، بل هو كذب موضوع عند أهل العلم بالحديث كما قد بسط هذا في مواضع .(54/150)
الوجه السابع : أن يقال : الذين أثبتوا استحباب السلام عليه عند الحجرة كمالك وابن حبيب وأحمد بن حنبل ، وأبي داود احتجوا إما بفعل ابن عمر(1) كما احتج بذلك مالك وأحمد وغيرهما ، وإما بالحديث الذي رواه أبو داود وغيره بإسناد جيد عن أبي هريرة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، أنه قال : (( ما من رجل يسلم علي إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام )) (2) فهذا عمدة أحمد وأبي داود وابن حبيب وأمثالهم ، وليس في لفظ الحديث المعلوف في السنن ( عند قبري ) لكن عرفوا أن هذا هو المراد ، وأنه لم يرد على كل مسلم عليه في صلاة في شرق الأرض وغربها ، مع أن هذا المعنى إن كان هو المراد بطل الاستدلال بالحديث من كل وجه على اختصاص تلك البقعة بالسلام ، وإن كان المراد السلام عليه عند قبره كما فهمه عامة العلماء ، فهل يدخل فيه من سلم من خارج الحجرة ، هذا مما تنازع فيه الناس وقد توزعوا في دلالته فمن الناس من يقول : هذا إنما يتناول من سلم عليه عند قبره كما كانوا يدخلون الحجرة على زمن عائشة فيسلمون على النبي- صلى الله عليه وسلم - ، وكان يرد عليهم فأولئك سلموا عليه عند قبره وكان يرد عليهم ، وهذا قد جاء عموماً في حق المؤمنين ، ما من رجل يمر بقبر الرجل كان يعرفه في الدنيا فيسلم عليه إلا رد الله عليه روحه حتى يرد عليه السلام .
قالوا : فأما من كان في المسجد فهؤلاء لم يسلموا عليه عند قبره ، بل سلامهم عليه كالسلام عليه في الصلاة ، وكالسلام عليه إذا دخل المسلم المسجد وحرج منه وهذا هو السلام الذي أمر الله به في حقه بقوله : صلوا عليه وسلموا تسليماً ، وهذا السلام قد ورد أنه من سلم عليه مرة سلم الله عليه عشراً كما أنه من صلى عليه مرة صلى الله عليه بها عشراً .
__________
(1) قد تقدم تخريجه .
(2) تقدم صفحة 46 حاشية ( 1 ) .(54/151)
فأما أثر من صلى عليه مرة صلى الله عليه بها عشراً فهو ثابت من وجوه بعضها في الصحيح ، كما في صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو، عن النبي- صلى الله عليه وسلم - أنه قال إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول ، ثم صلوا علي ، فإنه من صلى علي مرة صلى الله عليه بها عشراً ثم سلوا الله لي الوسيلة فإنها درجة في الجنة ، لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله ، وأرجو أن أكون أنا ذلك العبد ، فمن سأل الله لي الوسيلة حلت عليه شفاعتي يوم القيامة(1) ، وهذا مروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -من غير هذا الوجه كما في حديث العلاء بن عبد الرحمن ، عن أبيه عن أبي هريرة أن رسول الله قال : (( من صلى علي واحدة صلى الله عليه عشراً))(2).
__________
(1) الحديث رواه مسلم 1/288 وأبو عوانه 1/336 وأبو داود 1/359 حديث رقم 523 والنسائي 2/25 باب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بعد الأذان ، والترمذي في المناقب 5/586 حديث رقم 3614 وأحمد 2/168 وغيرهم .
(2) رواه مسلم 1/306 .(54/152)
وأما السلام فقد جاء أيضاً في أحاديث من أشهرها حديث عبد الله بن المبارك ، عن حماد بن سلم ، عن ثابت البنائي عن سليمان مولى الحسن بن علي ، عن عبد الله بن أبي طلحة عن أبيه ، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه جاء ذات يوم والبشر يرى في وجهه فقال : (( أنه جائني جبريل فقال أما يرضيك يا محمد أن الله يقول أنه لا يصلي عليك أحد من أمتك إلا صليت عليه عشراً ولا يسلم عليك أحد من أمتك إلا سلمت عليه عشراً )) (1) وقد روى في عدة أحاديث أن الله يصلي على كلمن صلى عليه ويسلم على كل من سلم عليه ولم يذكر عدداً ، لكن الحسنة بعشر أمثالها فالمقيد يفسر المطلق .
قال القاضي عياض من رواية عبد الرحمن بن عوف عنه عليه السلام قال : لقيت جبريل فقال لي : أبشرك أن الله يقول : من سلم عليك سلمت عليه ، ومن صلى عليك صليت عليه ، قال : ونحوه من رواية أبي هريرة ومالك بن أوس بن الحدثان وعبد الله بن أبي طلحة .
قلت : وبسط الكلام على هذه الأحاديث له موضع آخر .
__________
(1) الحديث رواه أحمد 4/30 والنسائي في باب الفضل في الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى آله وسلم 3/44-50 كلاهما من طريق سليمان الهاشمي مولى الحسن بن علي ، وهو مجهول لم يرد عنه إلا ثابت ولم يوثقه معتبر وقال فيه النسائي ليس بالمشهور قال : ابن حجر رحمه الله في التهيب وقد اختلف في سنده على ثابت وكذلك عبد الله بن أبي طلحة شيخ سليمان لم يوثقه معتبر فالحديث ضعيف .(54/153)
والمقصود هنا أن ما أمر الله به من الصلاة والسلام عليه هو كما أمر به صلى الله عليه وسلم الدعاء له بالوسيلة ، وهذا أمر اختص هو به فإن الله أمر بذلك في حقه بعينه مخصوصاً بذلك ، وإن كان السلام على جميع عباد الله الصالحين مشروعاً على وجه العموم ، وقد قيل : إن الصلاة تكره على غير الأنبياء ، وغلا بعضهم فقال : تكره على غيره من الأنبياء وكذلك قال بعض المتأخرين في السلام على غير الأنبياء ، ولكن الصواب الذي عليه عامة العلماء أنه يسلم على غيره ، وأما الصلاة فقد جوزها أحمد وغيره والنزاع فيها معروف .
وفي تفسير شيبان عن قتاة قال : حدث أنس بن مالك عن أبي طلحة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( إذا سلمتم علي فسلموا على المرسلين فإنما أنا رسول من المرسلين))(1) وهكذا رواه ابن أبي عاصم في كتاب الصلاة ، ورواه ابن أبي حاتم وغيره ولم يذكروا فيه سماع قتادة له ، وهو في تفسير سعيد بن أبي عروبة عن قتادة مرسلاً ، وقد قال الله تعالى في كتابه : { قُلِ ك‰ôJutù:$# لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى دnدٹ$t6دم الَّذِينَ اصْطَفَى } (النمل 059) وقال : { وَسَلَامٌ عَلَى ڑْüد=y™ِچكJّ9$# (181) ك‰ôJutù:$#ur لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } (الصافات 181-182)
وقال لما ذكر نوحاً وإبراهيم وموسى وهارون والياسين
{ $sYّ.uچs?ur عَلَيْهِ فِي tûïحچ½zFy$# (78) سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ (79) }
{ $sYّ.uچs?ur عَلَيْهِ فِي tûïحچ½zFy$# (108) سَلَامٌ عَلَى zOٹدd¨uچِ/خ) (109) }
{ $uZّ.uچs?ur عَلَيْهِمَا فِي ڑْïحچ½zFy$# (119) سَلَامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ (120) }
__________
(1) انظر فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لإسماعيل القاضي ص48 بتحقيق الشيخ ناصر حيث قال إسناده واه جداً عمر بن هارون هو البلخي متروك وشيخه موسى بن عبيدة مثله أو أقل منه ضعفاً . أهـ كلامه .(54/154)
{ $sYّ.uچs?ur عَلَيْهِ فِي tûïحچ½zFy$# (129) سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ (130) }
( الصافات ، 78 ، 89 ، 108 ، 109 ، 119 ، 120 ، 129 ، 130 ) .
والمقصود هنا أن هذا السلام المأمور به خصوصاً ، والمشروع في الصلاة وغيرها عموماً على كل عبد صالح كقول المصطفى : السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين ، فإن هذا ثابت في التشهدات المروية عن النبي كلها ، مثل حديث ابن مسعود الذي في الصحيحين (1)، وحديث أبي موسى(2) ، وابن عباس(3) ، الذين رواهما مسلم ، وحديث ابن عمر(4)
__________
(1) حديث ابن مسعود رواه البخاري 2/311 ، 320 و 3/76 و 11/13 و 11/56 و 131 و 13/365 ومسلم 1/302 وأبو داود 1/591 والترمذي حديث رقم 289 و 2/81 والنسائي 3/40.
(2) حديث أبي موسى رواه مسلم 1/301-304 وأبو عوانة 2/248 وتمامة السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله .
(3) حديث ابن عباس رواه مسلم 1/302 وأبو عوانة 2/248 والترمذي 2/83 والنسائي 3/41 وتمامة كما تقدم في حديث أبي موسى .
(4) حديث ابن عمر رواه أبو داود 1/593-594 قال حدثنا نصر بن علي حدثني أبي حدثنا شعبة عن أبي بشر سمعت مجاهداً يحدث عن ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم (الحديث ) والدارقطني 1/351 ولكن الحديث من طريق أبي بشر بن أياس وهو ابن أبي وحشية ولم يسمع من مجاهد قال أحمد : كان شعبة يضعف حديث أبي بشر عن مجاهد قال لم يسمع منه شيئاً وقال ابن معين طعن عليه شعبة في حديثه عن مجاهد قال من صحيفة ،انظر ترجمته أبي بشر في تهذيب التهذيب .
وأما الدارقطني فقد أخرجه من طريقة أيضاً ثم قال هذا إسناد صحيح وقد تابعه على رفعه ابن أبي عدي عن شعبة ووقفه غيرهما أهـ ، فهذه علة ثانية ، ويلاحظ أن الشيخ ناصر الدين الألباني يصحح هذا الحديث كما في صفة صلاة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، وقد علمت ما في الحديث من علل فتنبه ،والله المستعان .
فائدة ما ثبت عن ابن مسعود أنه بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، كان يقول : السلام على النبي فإنه من فعله وفعله ليس بحجة إنما الحجة الكتاب والسنة ولم يثبت ذلك في السنة إنما الثابت كما= =علمنا الني صلى الله عليه وسلم ( السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته .. الخ ) وقد قال ابن حزم رحمه الله : الناس في أقوال الصحابة وأفعالهم على ثلاث مذاهب .
الأول : يردون ذلك مطلقاً وهذا ضلال مبين لأن من أقوالهم وأفعالهم ما يوافق السنة .
الثاني : يقلبون ذلك مطلقاً وهذا لا يمكن لأنهم قد اختلفوا .
الثالث : يقبلون ما يوافق الكتاب والسنة ويردون ما خلفهما وهذا هو الحق ، وهو مذهبنا أو بهذا المعنى أهـ .(54/155)
وعائشة وجابر(1) وغيرهم التي في المسانيد والسنن ، وهذا السلام لا يقتضي رداً من المسلم عليه ، بل هو بمنزلة دعاء المؤمن للمؤمنين واستغفاره لهم ، فيه الأجر والثواب من الله ، ليس على المدعو لهم مثل ذلك الدعاء ، بخلاف سلام التحية ، فإنه مشروع بالنص والإجماع في حق كل مسلم .
__________
(1) حديث جابر رواه الترمذي 2/83 من حديث أيمن بن نابل عن أبي الزبير عن جابر قال وهو غير محفوظ وابن ماجة 1/292 وغيرهما كالنسائي والحاكم قال الحافظ في تهذيب التهذيب في ترجمة أيمن بن نابل وزاد في أول الحديث الذي رواه عن ابن الزبير عن طاوس عن أبي عباس في التشهد باسم الله وبالله وقد رواه الليث وعمر بن الحارث وغيرهما ، عن أبي الزبير بدون هذا ) قال أحمد شاكر في تحيقه على الترمذي ولم أجد رواية أيمن عن أبي الزبير عن طاوس عن ابن عباس فإن صح هذا النقل كان الحديث عند أيمن باسنادين ، عن أبي الزبير عن جابر ، وعن أبي الزبير عن طاوس عن ابنعباس ويدل هذا على حفظه له وعدم اضطراب اسنادي الحديث عليه ، وروى الحديث النسائي 3/43 ثم قال : لا نعلم أحداً تابع أيمن بن نابل على هذه الرواية وأيمن عندنا لا بأس به والحديث خطأ وبالله التوفيق .قلت : رواية أبي الزبير عن جابر للمحدثين فيها ثلاثة أقوال كما قاله ابن حزم.
الأول : الرد مطلقاً وهذا مذهب شعبة .
الثاني :القول مطلقاً وهذا صنيع مسلم .
الثالث : التفصيل وهو ما رواه عنه الليث فمقبول لأنه علم له ما سمع من جابر وما رواه عنه غير الليث فغير مقبول ، قلت : وهذا مما لم يروه عنه الليث مع ما تقدم من كلام النسائي حيث قال : هو خطأ وكلام ابن حجر من أن الليث وعمر بن الحارث وغيرهما رواة الحديث عن أبي الزبير من دون الزيادة التي فيه ، وقول الترمذي (( وغير محفوظة )) وكذلك عنعنة أبي الزبير وهو مدلس.(54/156)
وعلى المسلم عليه أن يرد السلام ولو كان المسلم عليه كافراً ، فإن هذا من العجل الواجب ،ولهذا كان النبي- صلى الله عليه وسلم - يرد على اليهود إذا سلموا بقول (( وعليكم )) (1) ، وإذا سلم على معين تعين الرد وإذا سلم على جماعة فهل ردهم فرض على الأعيان ، أو على الكفاية ، على قولين مشهورين لأهل العلم ، والابتداء به عند اللقاء سنة مؤكدة ، وهل هي واجبة ، على قولين معروفين هما قولان في مذهب أحمد وغيره ، وسلام الزائر للقبر على الميت المؤمن هو من هذا الباب ، ولهذا روى أن الميت يرد السلام مطلقاً .
فالصلاة والسلام عليه- صلى الله عليه وسلم - في مسجده وسائر المساجد وسائر البقاع مشروع بالكتاب والسنة والإجماع ، وأما السلام عليه عند قبره من داخل الحجرة فهذا كان مشروعاً لما كان ممكناً بدخول من يدخل على عائشة ، وأما تخصيص هذا السلام والصلاة بالمكان القريب من الحجرة ،فذها محل النزاع .
وللعلماء في ذلك ثلاثة أقوال :
منهم من ذكر استحباب السلام أو الصلاة والسلام عليه إذ دخل المسجد ثم بعد أن يصلي في المسجد استحب أيضاً أن يأتي إلى القبر ويصلي ويسلم كما ذكر طائفة من أصحاب مالك والشافعي .
__________
(1) ثبت في الصحيحين من حديث أنس إذا سلم عليكم أحد من أهل الكتاب فقولوا ( وعليكم ) البخاري 11/42 ، 12/280 ومسلم 4/1705، وعن ابن عمر ( إذا سلم عليكم اليهود فإنما يقول أحدهم السلام عليك فقل وعليك ) البخاري 11/42 ومسلم 4/1706 وعن عائشة عند البخاري ومسلم 4/1706 .(54/157)
ومنهم من يذكر إلا الثاني وكثير من السلف لم يذكروا إلا النوع الأول فقط ، فأما النوع الأول فهو المشروع لأهل البلد وللغرباء في هذا المسجد ، وغير هذا المسجد وأما النوع الثاني فهو الذي فرق من استحبه بين أهل البلد والغرباء سواء فعله مع الأول أو مجرداً عنهما ذكر ذلك ابن حبيب وغيره ، إذ دخل مسجد الرسول قال : بسم الله وسلام على رسول الله ، والسلام علينا من ربنا وصلى الله وملائكته على محمد : اللهم اغفر لي وافتح لي أبواب رحمته وجنتك وجنتبني من الشيطان الرجيم (1)، ثم أقصد على الروضة وهي ما بين القبر والمنبر فاركع فيها ركعتين قبل وقوفك بالقبر تحمد الله فيها وتسأله تماما ما خرجت إليه والعون عليه ، وإن كانت ركعتاك في غير الروضة أجزأتاك
__________
(1) وتقدم الحديث بهذا الشأن .(54/158)
وفي الروضة أفضل وقد قال- صلى الله عليه وسلم - : ( ما بني قبري(1) ، ومنبري روضة من رياض الجنة) ومنبري على ترعة من ترع الجنة(2) ثم تقف بالقبر متواضعاً وتصلي عليه وتثني بما يحضر وتسلم على أبي بكر وعمر وتدعو لهما(3) ، وأكثر الصلاة في مسجد النبي- صلى الله عليه وسلم - بالليل والنهار ، ولا تدع أن يأتي مسجد قباء وقبور الشهداء(4).
__________
(1) لفظة قبري قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى في الفتح 4/100 خطأ . قلت : لأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال ( ما بين بيتي ومنبري ) ولم يكن يعلم موضع قبره عليه الصلاة والسلام ، انظر الفصل الأول من تحذير الساجد ) للشيخ ناصر الدين الألباني حفظه الله .
(2) الحديث رواه البخاري من حديث عبد الله بن زيد انظر الفتح 3/70 وعن أبي هريرة 3/70 و 4/99 و 11/465 و 13//304 بزيادة (ومنبري على حوضي ) ورواه مسلم أيضاً من حديثهما 2/1010 - 1011 .
(3) قلت :يأتي بالدعاء المأثور عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم عند زيارة القبور (السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين .. الخ ) وتخصيص الدعاء بغير هذا مما لا دليل عليه وتقدمت أحاديث الزيارة فراجعها هناك.
(4) تقدمت الأحاديث التي تشير إلى أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم كان يأتي في كل سبت وكان يزور قبور أهل البقيع .(54/159)
قلت : وهذا الذي ذكره من استحباب الصلاة في الروضة قول طائفة وهو المنقول عن الإمام أحمد في مناسك المروذي ، وأما مالك فنقل عنه أنه يستحب التطوع في موضع صلاة النبي- صلى الله عليه وسلم - ، وقيل : لا يتعين لذلك موضع من المسجد(1) ، وأم الفرض فيصليه في الصف الأول مع الإمام بلا ريب ، والذي ثبت في الصحيحين عن سلمة بن الأكوع عن النبي ، أنه كان يتحرى الصلاة عند الاسطوانة ، وأما ما قصد تخصيصه بالصلاة فيه فالصلاة فيه أفضل ، وأما مقامه فإنما كان يقوم فيه إذا كان إماماً يصلي بهم الفرض ، والسنة أن يقف الإمام وسط المسجد أما القوم فلما زيد في المسجد صار موقف الإمام في الزيادة .
__________
(1) قلت أما إذا أراد الفضيلة التي هي : ( الصلاة بألف صلاة ) فعليه أن يصلي بالمسجد الذي كان على عهد النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لقول النبي عليه الصلاة والسلام ( صلاة في مسجدي هذا ) فالإشارة فيه دليل على ما نقول : انظر قول النووي في شرحه على مسلم عند هذا الحديث .(54/160)
والمقصود معرفة ما ورد عن السلف من الصلاة والسلام عليه- صلى الله عليه وسلم - عند دخول المسجد وعند القبر ، ففي مسند أبي يعلي الموصلي ، حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا زيد بن الحباب حدثنا جعفر بن إبراهيم من ولد ذي الجناحين ، حدثنا علي بن عمر ، عن أبيه(1) علي بن الحسين أنه رأى رجلاً يجيء إلى فرجة كانت عند قبر النبي- صلى الله عليه وسلم - فيدخل فيها فيدعو فنهاه ، فقال : ألا أحدثكم حديثاً سمعته من أبي عن جدي ، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : (( لا تتخذوا قبري عيداً ولا بيوتكم قبوراً فإن تسليمكم يبلغني أينما كنتم )) (2) وهذا الحديث مما أخرجه الحافظ أبو عبد الله محمد بن عبد الواحد المقدسي فيما اختاره من الأحاديث الجياد الزائدة على ما في الصحيحين ، وهو أعلى مرتبة من تصحيح الحاكم وهوقريب من تصحيح الترمذي وأبي حاتم البستي ونحوهما فإن الغلط في هذا قليل ليس هو مثل صحيح الحاكم ، فإن فيه أحاديث كثيرة يظهر أنها كذبة موضوعة ، فلهذا انحطت درجته عن درجة غيره .
فهذا علي بن الحسين زين العابدين ، وهو من أجل التابعين علماً وديناً حتى قال الزهري : ما رأيت هاشمياً مثله ، وهو يذكر هذا الحديث بإسناده ولفظه : (( لا تتخذوا بيتي عيداً فإن تسليمكم يلبغي أينما كنتم )) وهذا يقتضي أنه لا مزية للسلام عليه عند بيته كما مزية للصلاة عليه عند بيته ، بل قد نهى عن تخصيص بيته بهذا .
__________
(1) هنا سقط والصواب : عن أبيه عن علي بن الحسين كما في مسند أبي يعلي 1/361 .
(2) والحديث ضعيف لأن فيه جعفر بن إبراهيم ذكره ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل ولم يذكر فيه جرحاً ولا تعديلاً وكذلك علي بن عمر : مستور كما في ترجمته في التقريب .(54/161)
وهذا وحديث الصلاة مشهور في سنن أبي داود وغيره من حديث عبد الله بن نافع قال :أخبرني ابن أبي ذئب عن سعيد المقبري ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله : (( لا تجعلوا بيوتكم قبوراً ولا تجعلوا قبري عيداً وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغي حيث كنتم )) (1) وهذا حديث حسن ورواته ثقات مشاهير ، لكن عبد الله بن نافع الصائغ فيه لين لا يمنع الاحتجاج به .
قال يحيى بن معين : هو ثقة وحسبك بابن معين موثقاً ، وقال أبو زرعة : لا بأس به وقال أبو حاتم الرزي ، ليس بالحافظ هو لين تعرف وتنكر(2) .
قلت : ومثل هذا قد يخاف أنه يغلط أحياناً ، فإذا كان لحديثه شواهد علم أنه محفوظ، وهذا له شواهد متعددة قد بسطت في غيره هذا الموضع كما رواه سعيد بن منصور في سننة ، حدثنا حبان بن علي حدثني محمد بن عجلان ، عن أبي سعيد مولى المهري(3) ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (( لا تتخذوا بيتي عيداً ولا بيوتكم قبوراً وصلوا علي حيثما كنتم فإن صلاتكم تبلغني )) (4) .
__________
(1) تقدم .
(2) انظر ترجمته في الجرح والتعديل 5/183 - 184 والميزان وتاريخ ابن معين رقم 954.
(3) صوابه المهري .
(4) قال شيخ الإسلام في كتابه اقتضاء الصراط المستقيم ص322 وهو مرسل كما ترى هو والذي بعده ثم قال بعد نقلهما عن سعيد بن منصور ، فهذان المرسلان من هذين الوجهين المختلفين يدلان على ثبوت الحديث لا سميا وقد احتج به من أرسه وذلك يقتضي ثبوته عنده ولو لم يكن روى من وجوه مسنده غير هذين فكيف وقد تقدم سند ؟ أهـ .
قلت : الحديث السابق قد علمت علته وهذا مرسل والمرسل من قسم الضعيف وأما قوله (( لا تتخذوا بيتي ) فسبق أن قلنا إنها رواية بالمعنى وأما قوله (( لا تتخذوا قبري عيداً ) فتقدم الكلام عليه وأنه قد تثبت من حديث أبي هريرة .(54/162)
وقال سعيد أيضاً : حدثنا عبد العزيز بن محمد أخبرني سهيل بن أبي سهيل قال رآني الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عند القبر ، فناداني وهو في بيت فاطمة يتمشى فقال : هلم إلى العشاء ، فقلت : لار أريده ، فقال : ما لي رأيتك عند القبر فقلت : سلمت على النبي- صلى الله عليه وسلم - فقال : (( إذا دخلت المسجد فسلم عليه ، ثم قال : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -قال : ((لا تتخذوا بتي عيداً ولا بيوتكم قبوراً لعن الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ، وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيثما كنتم ، ما أنتم ومن بالأندلس منه إلا سواء )) رواه القاضي إسماعيل بن إسحاق في كتاب الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولم يذكر هذه الزيادة وهي قوله : ( ما أنتم ومن بالأندلس إلا سواء ) لأن مذهبه أن القادم من سفر ، والمريد للسفر سلامة أفضل ، وأن الغرباء يسلمون إذا دخلوا وخرجوا ، وهذه مزية على من بالأندلس والحسن بن الحسن وغيره لا يفرقون بين أهل المدينة والغرباء ، ولا بين المسافر وغيره فرواه القاضي إسماعيل عن إبراهيم بن حمزة ، حدثنا عبد العزيز بن محمد بن سهل بن أبي سهيل قال : جئت أسلم على النبي- صلى الله عليه وسلم - وحسن بن حسن يتعشى في بيت عند النبي(1)- صلى الله عليه وسلم - ، فدعاني فجئته ، فقال : أدن فتعش ، قال : قلت : لا أريده .
قال : ما لي رأيتك وقفت ؟ قلت : وقفت أسلم علي النبي قال : إذا دخلت المسجد فسلم عليه ، ثم قال : إن رسول الله قال : (( صلوا في بيوتكم ولا تجعلوا بيوتكم مقابر ، لعن الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيثما كنتم))(2) ولم يذكر قول الحسن.
__________
(1) هنا سقط والصواب عند فاطمة بنت النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم كما في الرواية السابقة والله أعلم .
(2) انظر التعليق صفحة 122 حاشية ( 2 )(54/163)
فهذا فيه أنه أمره أن يسلم عند دخول المسجد وهو السلام المشروع روي عن النبي- صلى الله عليه وسلم - وجماعة من السلف كانوا يسلمون عليه إذا دخلوا المسجد : وهذا مشروع في كل مسجد ، وهذا الحسن بن الحسن هو الحسن بن المثنى ، وهو من التابعين وهو من نظير علي بن الحسين ، هذا ابن الحسن وهذا ابن الحسين .
وقد ذكر القاضي عياض هذا عن الحسن بن علي نفسه رضي الله عنهم أجمعين فقال : وعن الجسن بن علي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -قال : (( حيثما كنتم فصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني)) قال : وعن الحسن بن علي : إذا دخلت المسجد فسلم على النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال : (( لا تتخذوا بيتي عيداً ولا تتخذوا بيوتكم قبوراً وصلوا علي حيثما كنتم فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم )) (1) .
قلت :والصلاة والسلام عليه عند دخول المسجد مأثور عنه رضي الله عنه ، وعن غير واحد من الصحابة ، والتابعين ، مثل الحديث الذي في المسند والترمذي وابن ماجة ، عن فاطمة بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قالت : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا دخل المسجد صلى على محمد وسلم وقال : رب اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب رحمتك ، وإذا خرج صلى على محمد وسلم ، وقال رب اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب فضلك ، هذا لفظ الترمذي (2).
__________
(1) انظر التعليق ص122 حاشية ( 2 )
(2) تقدم الكلام عليه وقد قال الترمذي : حديث فاطمة حديث حسن وليس إسناده بمتصل وفاطمة بنت الحسين لم تدرك فاطمة الكبرى إنما عاشت فاطمة بعد النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أشهراً قال وفي الباب عن أبي حميد وأبي أسيد وأبي هريرة ، وانظر كلام أحمد شاكر عند هذا الحديث فإنه مبهم .(54/164)
وفي غيره أنه - صلى الله عليه وسلم - أمر بذلك وفي سنن أبي داود عن أبي أسيد ، أو أبي حميد قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (( إذا دخل أحدكم المسجد فليسلم ، وليصل على النبي - صلى الله عليه وسلم -وليقل .. ) وذكر الحديث (1).
وقال الضحاك بن عثمان : حدثنا سعيد المقبري ، عن أبي هريرة أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم - قال: ( إذا دخل أحدكم المسجد فليسلم على النبي- صلى الله عليه وسلم - وليقل : الله أجرني من الشيطان الرجيم)) أخرجه ابن خزيمة في صحيحه (2).
قال القاضي عياض : ومن مواطن الصلاة والسلام عليه دخول المسجد قال أبو إسحاق بن شعبان : وينبغي لمن دخل المسجد أن يصلي على النبي- صلى الله عليه وسلم - وعلى آله ويترحم عليه ، وعلى آله ويبارك عليه ، وعلى آله ويسلم عليه تسليماً ويقول : اللهم اغفر لي وافتح لي أبواب رحمتك وفضلك(3) ، وقال عمرو بن دينار في قوله : إذا دخلتم بيوتاً فسلموا على أنفسكم ، وقال : إن لكم يكن في البيت أحد فقل : السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين ، السلام على أهل البيت ورحمة الله وبركاته ، قال : وقال ابن عباس : المراد بالبيوت هنا المساجد ، وقال النخعي ، إذا لم يكن في المسجد أحد فقل : السلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وإذا لم يكن في البيت أحد فقل : السلام علينا ، وعلى عباد الله الصالحين .
__________
(1) الحديث رواه مسلم 1/494 والنسائي 2/53 ولم يذكر ( فليسلم على النبي ) وأبو داود 1/317-318 وابن ماجة 1/254 .
(2) انظر الحديث وتخريجه وما فيه من العلل في رسالتنا وإتحاف الراكع الساجد بأذكار الدخول والخروج من المساجد .
(3) قلت بل يقتصر ما ثبت في السنة وقد تقدم ذكر ذلك .(54/165)
قال علقمة قال : إذا دخلت المسجد أقول : السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته صلى الله وملائكته على محمد ، قال : ونحوه عن كعب إذا دخل وإذا خرج ولم يذكر الصلاة قال : واحتج ابن شعبان لما ذكره بحديث فاطمة بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -أن النبي - صلى الله عليه وسلم -كان يفعله إذا دخل المسجد قال : ومثله عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم ، وذكر السلام والرحمة قال : وروى ابن وهب عن فاطمة بنت النبي- صلى الله عليه وسلم - أن النبي - صلى الله عليه وسلم -قال : (( إذا دخلت المسجد فصل على النبي وقل : اللهم اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب رحمتك ، وفي رواية أخرى فليسلم وليصل ويقول : إذا خرج اللهم إني أسألك من فضلك ، وفي أخرى اللهم احفظني من الشيطان)) (1) .
وعن محمد بن سيرين : كان الناس يقولون إذا دخلوا المسجد صلى الله عليه وملائكته على محمد ، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركته بسم الله دخلنا ، وبسم الله خرجنا وعلى الله توكلنا ، وكانوا يقولون إذا خرجوا مثل ذلك .
قلت : هذا فيه حديث مرفوع في سنن أبي داود وغيره أنه يقال عند دخول المسجد اللهم إني أسألك خير المولج وخير المخرج ، بسم الله ولجنا ، وبسم الله خرجنا وعلى الله توكلنا (2).
قال القاضي عياض : وعن أبي هريرة إذا دخل أحدكم المسجد فليصل على النبي وليقل : اللهم افتح لي .
__________
(1) تقدم .
(2) الحديث رواه أبو داود 5/328 ولكنه منقطع من طريح شريح بن عبيد عن أبي مالك الأشعري وشريح لم يسمع من أبي مالك .(54/166)
قلت : وروى ابن أبي حاتم من حديث سفيان الثوري عن ضرار بن مرة عن مجاهد في هذه الآية : { فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ Zpں2uچ"t7مB طَيِّبَةً } (النور 061) قال إذا دخلت بيتاً ليس فيه أحد فقل : السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين ، وإذا دخلت المسجد فقل : السلام على رسول الله ، وإذا دخلت على أهلك فقل : السلام عليكم ، قلت : والآثار مبسوطة في مواضع .(54/167)
والمقصود هنا أن نعرف ما كان عليه السلف من الفرق بين ما أمر الله به من الصلاة والسلام عليه وبين سلام التحية الموجب للرد الذي يشترك فيه كل مؤمن حي وميت ويرد فيه على الكافر ، ولهذا كان الصحابة بالمدينة على عهد الخلفاء الراشدين ومن بعدهم إذا دخلوا المسجد لصلاة ، أو اعتكاف ، أو تعليم ، أو تعلم ، أو ذكر الله ودعاء له ونحو ذلك مما شرع في المسجد لم يكونوا يذهبون إلى ناحية القبر فيزورونه هناك ولا يقفون خارج الحجرة ، كما لم يكونوا يدخلون الحجرة ولا داخل الحجرة ، ولا كانوا أيضاً يأتون من بيوتهم لمجرد زيارة قبره ، بل هذا من البدع التي أنكرها الأئمة والعلماء ، وإن كان الزائر منهم ليس مقصوده إلا الصلاة والسلام عليه ، وبينوا أن السلف لم يفعلوها كما ذكره مالك في المبسوط ، وقد ذكره أصحابه كأبي الوليد الباجي والقاضي عياض وغيرهما ، قيل لمالك : إن ناساً من أهل المدينة لا يقدمون من سفر ولا يريدونه يفعلون ذلك أي يقفون على قبر النبي- صلى الله عليه وسلم - فيصلون عليه ويدعون له ولأبي بكر وعمر ، يفعلون ذلك في اليوم مرة أو أكثر ، وربما وقفوا في الجمعة والأيام المرة أو المرتين ، أو أكثر عند القبر يسلمون ويدعون ساعة ، فقال : لم يبلغني هذا عن أهل الفقه ببلدنا وتركه واسع ، ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها ، ولم يبلغني هذا عن أول هذه الأمة وصدرها أنهم كانوا يفعلون ذلك ويكره إلا لمن جاء من سفر أو أراده .(54/168)
فقد كره مالك رحمه الله هذا وبين أنه لم يبلغه عن أهل العلم بالمدينة ، ولا عن صدر هذه الأمة وأولها وهم الصحابة ، وأن ذلك يكره لأهل المدينة إلا عند السفر ، ومعلوم أن أهل المدينة لا يكره لهم زيارة قبور أهل البقيع وشهداء أحد وغيرهم ، بل هم في ذلك ليسوا بدونسائر الأمصار ، فإذا لم يكره لأولئك زيارة القبور ، بل يستحب لهم زيارتها عند جمهور العلماء ، كما كان النبي- صلى الله عليه وسلم - يفعل ، فأهل المدينة أولى أن لا يكره لهم ، بل يستحب لهم زيارة القبور كما يستحب لغيرهم اقتداء بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ، ولكن قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمنع شرعاً وحساً كما دفن في الحجرة ، ومنع الناس من زيارة قبره من الحجرة كما يزار سائر القبور فيصل الزائر إلى عند القبر ، وقبر النبي- صلى الله عليه وسلم - ، ليس كذلك ، فلا تستحب هذه الزيارة في حقه ولا تمكن ، وهذا لعلو قدره وشرفه لا لكون غيره أفضل منه ، فإن هذا لا يقوله أحد من المسلمين فضلاً عن الصحابة والتابعين وعلماء المسلمين بالمدينة وغيرها(1) .
__________
(1) قلت : بل زيادته على الطريقة المشروعة مشروع والله أعلم .(54/169)
ومن هنا غلط طائفة من الناس يقولون : إذا كان زيارة قبر النبي آحاد الناس مستحبة فكيف بقبر سيد الأولين والآخرين صلوات الله وسلامه عليه ؟ وهؤلاء ظنوا أن زيارة قبر الميت مطلقاً هو من باب الإكرام والتعظيم له ، والرسول- صلى الله عليه وسلم - أحق بالإكرام والتعظيم من كل أحد ، وظنوا أن ترك الزيارة فيها نقص لكرامته ، فغلطوا وخالفوا السنة وإجماع الأمة سلفها وخلفها ، فقولهم نظير قول من يقول : إذا كانت زيارة القبور يصل الزائر فيها إلى قبر المزور ، فإن ذلك أبلغ في الدعاء له ، وإن كان مقصوده دعاء كما يقصده أهل البدع ،فهو أبلغ في دعائه ، فالرسول - صلى الله عليه وسلم - أولى أن نصل إلى قبره إذا زرناه ، وقد ثبت بالتواتر وإجماع الأمة أن الرسول - صلى الله عليه وسلم -لا يشرع الوصول إلى قبره لا للدعاء له ولا لدعائه ولا لغير ذلك بل غيره يصلي على قبره عند أكثر السلف ، كما دلت عليه الأحاديث الصحيحة ، والصلاة على القبر كالصلاة على الجنازة تشرع مع القرب والمشاهدة ، وهو بالإجماع لا يصلي على قبر سواء كان للصلاة حد محدود ، أو كان يصلي على القبر مطلقاً ، ولم يعرف أن أحداً من الصحابة الغائبين لنا قدم صلى على قبره- صلى الله عليه وسلم - وزيارة القبور المشروعة هي مشروعة مع الوصول إلى القبر بمشاهدته ، وهذه الزيارة مشروعة في حقه بالنص والإجماع ، ولا هي أيضاً ممكنة .(54/170)
فتبين غلط هؤلاء الذين قاسوه على عموم المؤمنين ، وهذا من باب القياس الفاسد ومن قاس قياس الأولى ولم يعلم ما اختص به كل واحد من المقيس والمقيس به كان قياسه من جنس قياس المشركين الذين كانوا يقيسون الميته على المذكي ، ويقولون للمسلمين : أتأكلون ما قتلتم ولا تأكلون ما قتل الله ؟ فأنزل الله تعالى : { وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ حچx.ُمƒ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى َOخgح!$uد9÷rr& لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ } (1) (الأنعام 121)
__________
(1) أخرج الإمام أبو داود 3/245 بسنده عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى : (( وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ) يقولون ما ذبح لله فلا تأكلوه فأنزل الله : (( ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله= =عليه)) قال ابن كثير في تفسيره 2/171 وهذا إسناده صحيح وأخرجه ابن ماجه 2/1059 رقم 3173 والحاكم 4/113-231 وقال صحيح على شرط مسلم ووافقه الذهبي ، ورواه ابن جرير 8/126 .(54/171)
وكذلك لما أخبر الله أن الأصنام التي تعبد هي وعابدوها حصب جهنم قاس ابن الزيعري ، قبل أن يسلم هو وغيره من المشركين عيسى بها(1) ، وقالوا : يجب أن يعذب عيسى قال تعالى : { وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ ç÷ZدB يَصِدُّونَ (57) (#ûqن9$s%ur $uZçFygد9¨r&uن يژِچyz أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ َOèd قَوْمٌ خَصِمُونَ } (2)
(الزخرف 057-058) ثم قال : { إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ çm"sYù=yèy_ur مَثَلًا ûسة_t6دj9 ں@ƒدن¨uچَ™خ) } (الزخرف 059) وبين تعالى الفرق بقوله : { إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ } (الأنبياء 101) بين أن من كان صالحاً نبياً أو غير نبي لم يعذب لأجل من أشرك به وعبده وهو بريء من إشراكهم به .
وأما الأصنام فهي حجارة تجعل حصباً للنار ، وقد قيل : إنها من الحجارة التي قال تعالى فيها : { وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ } (البقرة 024) وقال تعالى : { وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ $Y7sـxm } (الجن 015) وبسط هذا له موضع آخر .
__________
(1) ذكر الخطيب في الفقه والمتفقه ص70 عن شيخه أبي سعيد محمد بن موسى الصيرفي حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب الأصم حدثنا أبو أمية الطرطوسي حدثنا محمد بن الصلت ، حدثنا أبو كدينة عن عطاء عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : لما نزلت هذه الآية (( أنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم )) الآية قال المشركون : فإن عيسى يعبد وعزير والشمس والقمر فأنزل الله سبحانه وتعالى : (( إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون )) أهـ ، نقلاً من الصحيح المسند لشيخنا مقبل حفظه الله تعالى .
(2) انظر الصحيح المسند من أسباب النزول لشيخنا مقبل بن هادي الوادعي حفظه الله تعالى .(54/172)
والمقصود هنا أن يعرف أن ما مضت به سنته ، وكان عليه خلفاؤه وأصحابه وأهل العلم والذين بالمدينة من تركهم لزيارة قبره أكمل في القيام بحق الله وحق رسوله - صلى الله عليه وسلم -، فهو أكمل وأفضل وأحسن مما يفعل مع غيره ، وهو أيضاً في حق الله وتوحيده أكمل وأتم وأبلغ وأما كونه أتم في حق الله فلأن حق الله على عباده أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً كما ثبت ذلك في الصحيحين عن معاذ بن جبل عن النبي- صلى الله عليه وسلم - (1).
ويدخل في العبادة جميع خصائص الرب فلا يتقي غيره ولا يخاف غيره ولا يتوكل على غيره ، ولا يدعي غيره ولا يصلي لغيره ، ولا يصام لغيره ، ولا يتصدق لغيره ولا يحج إلا إلى بيته ، قال تعالى : { وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ tbrâ"ح!$xےّ9$# } (النور 052) فجعل الطاعة لله والرسول وجعل الخشية والتقوى لله وحده وقال تعالى : { وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آَتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا $uZç6َ،xm اللَّهُ $sYٹد?÷sمy™ اللَّهُ مِنْ ¾د&ح#ôزsù وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ ڑcqç6دî¨u' } (التوبة 059) فجعل الإيتاء لله والرسول وجعل التوكل والرغبة لله وحده وقال : { فَإِذَا |Mّîuچsù فَانْصَبْ (7) وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ } (الشرح 007-008) وقال تعالى { وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ س‰دn¨ur }'"ƒخ*sù فَارْهَبُونِ (51) وَلَهُ مَا فِي دN¨uq"uK،،9$# وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ } (النحل 051-052)
__________
(1) رواه البخاري 13/347 فتح ومسلم 1/58 متن .(54/173)
وقال تعالى { فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ } (المائدة 044) وقال تعالى : { قُلِ (#qممôٹ$# الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا ڑcqن3د=ôJtƒ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا } (الإسراء 056) وقال تعالى : { قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ 'دTrâ'r& مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ ش8ِژإ° فِي دN¨uq"uK،،9$# أَمْ ِNكg"sY÷ s?#uن كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ ڑcqكJد="©à9$# بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلَّا غُرُورًا } (فاطر 040) { قُلِ (#qممôٹ$# الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا ڑcqà6د=ôJtƒ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي دN¨uq"yJ،،9$# وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ 78ِژإ° وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22) وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ } (سبأ 022-023)
وهذا الباب واسع وقال النبي- صلى الله عليه وسلم - لابن عباس : (( إذا سألت فأسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله )) (1) وفي الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم -في صفة السبعين ألفاً الذين يدخلون الجنة بغير حساب قال : (( هم الذين لا يسترقون ولا يكتوون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون)) (2) فهم لا يطلبون من غيرهم أن يرقيهم ، والرقية دعاء ، فكيف بما هو أبلغ من ذلك .
__________
(1) رواه أحمد 1/293 ، 303 ، 307 وسنده صحيح والترمذي 4/67 وقال حسن صحيح وابن السنن في عمل اليوم والليلة 427 والطبراني في الكبير 12988 من طريق قيس بن الحجاج عن حنش الصنعاني عن ابن عباس وسنده حسن.
(2) رواه البخاري 10/155 ومسلم 1/988-200 .(54/174)
ومعلوم أنه لو اتخذ قبره عيداً ومسجداً ووثناً صار الناس يدعونه ويتضرعون إليه ويسألونه ويتوكلون عليه ويستغيثون ويستجيرون به وربما سجدوا له وطافوا به وصاروا يحجون إليه ، وهذه كلها من حقوق الله وحده الذي لا يشركه فيما مخلوق (1).
__________
(1) قلت : لقد حدث بعض هذا الآن فأصبح بعض الناس يدجعونه وقد سمعت هذا عندما كنت في فترة الحج ويتمسحون بالشبك الحديدي ويبكون ومنهم من يقول يا رسول الله بغارة وبعضهم يطوف طوافاً لأنه أصبح مكننا .
ومثل هذا ما يحدث عند بعض القبور مثل قبر ابن علوان في منطقة بقرس بتعز وكذا عند قبر ابن العجيل وقبر الهتار وغيرها من القبور في لواء تهامة فإلى الله المشتكى .(54/175)
وكان من حكمة الله دفنه في حجرته ومنع الناس من مشاهدة قبره والعكوف عليه والزيارة له ، ونحو ذلك ، لتحقيق توحيد الله وعبادته وحده لا شريك له وإخلاص الدين لله ، وأما قبور أهل البقيع ونحوهم من المؤمنين فلا يحصل ذلك عندها ، وإذا قدر أن ذلك فعل عندها منع من يفعل ذلك وهدم ما يتخذ عليها من المساجد ، وإن لم تزل الفتنة إلا بتعفية قبره وتعميته ، فعل ذلك كما فعله الصحابة بأمر عمر بن الخطاب في قبر دانيال(1) .
__________
(1) القصة أخرجها ابن إسحاق في المغازي ص6 فقال حدثنا أحمد قال : نا يونس بن بكير عن أبي خلدة بن دينار قال : نا أبو العالية قال لما فتخنا تستر وجدنا في بيت مال الهرمزان سريراً عليه رجل ميت عند رأسه مصحف له فأخذنا المصحف فحملنا إلى عمر بن الخطاب فدعا له كعباً فنسخه بالعربية فأنا أول رل من العرب قرأته مثلما أقرأ القرآن هذا فقلت لأبي العالية: ما كان فيه ؟ فقال سيرتكم وأموركن ولحون كلامكم وما هو كائن بعد قلت : فما صنعتم بالرجل ؟. قال حفرنا بالنهار ثلاثة عشر قبراً متفرقة فلما كان الليل دفناه وسوينا القبور كلها لتعمية على الناس لا ينبشونه ، قلت وما يرجون منه ؟ = =قال: كانت السماء إذا جست عليهم برزوا بسريره فيمطرون قلت من كنتم تظنون الرجل ؟ قال رجل يقال له دنيال فقلت ، منذ كم وجدتموه مات ؟ قال : منذ ثلاثمائة سنة (1) قلت : ما كان تغير بشيء ؟ قال : لا إلا شعيرات من قفاه ، إن لحوم الأنبياء لاتبليها الأرض ولا تأكلها السباع .
قلت : سند القصة حسن وأحمد شيخ ابن إسحاق هو ابن عبد الجبار بن محمد العطاردي أبو عمرو الكوفي ضعيف وسماعه للسيرة صحيح كما في التقريب .
(1) قال المحقق على السير والمغازي ، كذا والأقرب إلى الصحة إبدال المئة بألف ، وانظر فضائل الشام للرببيعي بتخريج الشيخ ناصر ص47 .(54/176)
وأما كون ذلك أعظم لقدرة وأعلا لدرجته ، فلأن المقصود المشروع بزيارة قبور المؤمنين كأهل البقيع وشهداء أحد هو الدعاء لهم كما كان هو يفعل ذلك إذا زارهم وكما سنه لأمته ، فلو سن للأمة أن يزوروا قبره للصلاة عليه والسلام عليه والدعاء له ، كما كان بعض أهل المدينة يفعل ذلك أحياناً وبين مالك أنه بدعة(1) ، لم تبلغه عن صدر هذه الأمة ولا عن أهل العلم بالمدينة ، وأنها مكروهة فإنه لن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما اصلح أولها ، لكان بعض الناس يزرونه(2) ثم لتعظيمه في القلوب وعلى(3) الخلائق بأنه أفضل الرسل وأعظمهم جاهاً ، وأنه أوجه الشفعاء إلى ربه تدعو النفس إلى أن تطلب منه حاجاتها وأغراضها وتعرض عن حقه من الصلاة والسلام والدعاء له ، فإن الناس مع ربهم كذلك إلا من أنعم الله عليه بحقيقة الإيمان ، وإنما يعظمون الله عند ضرورتهم إليه كما قال تعالى : { وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ $VJح!$s% فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ !$sYممô‰tƒ إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ y7د9¨xx. زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } (يونس 012)
__________
(1) قلت الصواب أنه ليس ببدعة إذاكانت على الطريقة المشروعة والله أعلم .
(2) الصواب ( ويزورونه ) .
(3) الصواب ( وعلم ) .(54/177)
وقال تعالى : { وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي حچَst7ّ9$# ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا çn$ƒخ) $Hs>sù نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا } (الإسراء 067) وقال تعالى : { * وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ (#ûqممô‰tƒ إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ ¾د&ح#خ7y™ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ ¸xد=s% y7¯Rخ) مِنْ ة="utُ¾r& النَّارِ } (الزمر 008) ونظائر هذا في القرآن متعددة .(54/178)
فإذا كانوا إلا من شاء الله إنما يعظمون ربهم ويوحدونه ويذكرونه عند ضرورتهم لأغراضهم ، ولا يعرفون حقه إذا خلصهم فلا يحبونه ويعبدونه ولا يشكرونه ولا يقومون بطاعته ، فكيف يكونون مع المخلوق ، فهم يطلبون من الأنبياء والصالحين أغراضهم(1) ، وذلك مقدم عندهم على حقوق الأنبياء والصالحين ، فإذا أيقنوا أن في زيارة قبر نبي ، أو صالح تحصيل أغراضهم بسؤاله ودعائه وشفاعته أعرضوا عن حقه واشتغلوا بأغراضهم ، كما هو الموجود في عامة الذين يحجون إلى القبور المعظمة ويقصدونها لطلب الحوائج.
__________
(1) قلت إلى الله المشتكى مما يحصل من كثير من عوام المسلمين وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن العلماء قد قصروا في تبيلغ دين الله عز وجل ولزموا مساكنهم إلا من رحم الله حتى أصبح العامة يعتقدون أن هذا العمل من الدين وبعضهم يقول " الأولياء بجانب الله " ويقول آخرون " الأولياء وزراء الله " نستغفر الله ونتوب إليه ، وإن الشيوعية الكافرة لتفرح بمثل هذا وتساعد على نشر الجهل والشرك وقد كانوا منعوا بعض الزيارات للقبور ، أعني الزيارات الموسمية - التي يجتمع لها خلق كثير من الرجال والنساء ويحصل فساد عظيم في تلك الاجتماعات مثل زيارة قبر العيدروس بعدن وكانوا يظنون أن هذا العمل من شعائر الدين حتى أتاهم بما يسمونه خبير سوداني شيوعي وهو في الحقيقة خبيث ،فأمرهم أن يسمحوا للناس بالزيارة والتمسح بأتربة الموتى ودعاؤهم من دون الله قائلاً لهم لقد ساعدتم المسلمين بعملكم هذا يعني منع الزيارة .(54/179)
فلو أذن الرسول- صلى الله عليه وسلم - لهم في زيارة قبله ومكنهم من ذلك لأعرضوا عن حق الله الذي يستحقه من عبادته وحقه ، وعن حق الرسول - صلى الله عليه وسلم - الذي يستحقه من الصلاة والسلام عليه والدعاء له ، بل ومن جعله واسطة بينهم وبين الله في تبليغ أمره ونهيه وخبره ، فكانون يهضمون حق الله وحق رسوله كما فعل النصارى ، فإنهم يغلوهم في المسيح تركوا حق الله من عبادته وحده ، وتركوا حق المسيح فهم لا يدعون له ، بل هم عندهم رب بدعي ولا يقومون بحق رسالته ، فينظرون ما أمر به وما أخبر به ، بل اشتغلوا بالشرك به وبغيره وبطلب حوائجهم ممن يستشفعون به من الملائكة والأنبياء وصالحيهم عما يجب من حقوقهم .
وأيضاً فلو جعلت الصلاة والسلام عليه والدعاء له عند قبره أفضل منها في غير تلك البقعة ، كما قد يكون الدعاء للميت(1) عند قبره أفضل لكانوا يخصون تلك البقة بزيادة الدعاء له ، وإذا غابوا عنها تنقص صلاتهم وسلامهم ودعاؤهم له فإن الإنسان لا يجتهد في الدعاء في المكان المفضول ، كما يجتهد في المكان الفاضل ، وهم قد أمروا أن يقوموا بحق الرسول - صلى الله عليه وسلم - (( لا تتخذوا بيتي عيداً وصلوا علي حيثما كنتم فإن صلاتكم تبلغني)) (2) .
__________
(1) صوابه للميت كما في بعض النسخ .
(2) تقدم كلامه عليه .(54/180)
وقد شرع لهم أن يصلوا عليه ويسألوا له الوسيلة إذا سمعوا المؤذن حيث كانوا ، وأن يسلموا عليه في كل صلاة ويصلوا عليه في الصلاة ويسلموا عليه إذا دخلوا المسجد ، وإذا خرجوا منه ، فهذا الذي أمروا به عام في كل مكان وهو يوجب من القيام بحقه ورفع درجته وإعلاء منزلته ما لا يحصل لو جعل ذلك عند قبره أفضل ، ولا إذا سوى بين قبره وقبر غيره ،بل إنما يحصل كمال حقه مع حق ربه بفعل ما شرعه وسنه لأمته من واجب ومستحب ، وهو أن يقوموا بحق الله ، ثم بحق رسوله - صلى الله عليه وسلم - حيث كانوا من المحبة الموالاة والطاعة وغير ذلك من الصلاة والسلام والدعاء وغير ذلك ، ولا يقصدوا تخصيص القبر لما يقضي إليه ذلك من ترك حق الله ، وحق رسوله - صلى الله عليه وسلم -.
فهذا وغيره مما يبين أن ما نهى عنه الناس ومنعوا منه ، وكان السلف لا يفعلونه من زيارة قبره وإن كان زيارة قبر غيره مستحبة ، فهو أعظم لقدرة وأرفع لدرجته وأعلى في منزلته ، وإن ذلك أقوم بحق الله وأتم وأكمل في عبادته وحده لا شريك له وإخلاص الدين له ، ففي ذلك تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله ، وإن أهل البدع الذين فعلوا ما لم يشرعه ، بل ما نهى عنه وخالقوا الصحابة والتابعين لهم بإحسان ، فاستحبوا ما كان أولئك يكرهون ويمنعون منه ، هم مضاهون للنصارى ، وإنهم نقصوا من تحقيق الإيمان بالله ورسوله والقيام بحق الله وحق رسوله - صلى الله عليه وسلم - بقدر ما دخلوا فيه البدعة التي ضاهوا بها النصارى ، هذا والله أعلم .(54/181)
وأيضاً فإنه إذا أطيع أمره واتبعت سنته كان له من الأجر بقدر أجر من الطاعة واتبع سنته لقوله : (( من دعا إلى هدي كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه من غير أن ينقص من أجورهم شيئاً )) (1) وقوله : (( من سن سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة )) (2) .
وأما البدع التي لم يشرعها ، بل نهى عنها وإن كانت متضمنة للغلو فيه والشرك به والإطراء له كما فعلت النصارى ، فإنه لا يحصل بها أجر لمن عمل بها ، فلا يكون للرسول- صلى الله عليه وسلم - فيها منفعة ، بل صاحبها إن عذر كان ضالاً لا أجر له فيها ، وإن قامت عليه الحجة استحق العذاب ، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح : (( لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم ، فإنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - )) (3) .
فإن قال هؤلاء الذين قاسوا زيارة قبره على زيارة سائر القبور إن الناس منعوا من الوصول إليه تعظيماً لقدره ، وجعل سلامهم وخطابهم له من وراء الجحرة ، لأن ذلك أبلغ في الأدب والتعظيم .
__________
(1) رواه مسلم 4/2060 وأبو داود 5/15-16 والترمذي 5/43 ، وقال حسن صحيح ، وابن مادة 1/75 ،في المقدمة رقم 206 ، والدارمي 1/130 وأحمد 2/397 ، كلهم من حديث أبي هرير.
(2) رواه مسلم 2/705 و 4/2059 وأحمد 4/361 وابن ماجة 1/203 مقدمة ، والنسائي 5/75 والترمذي 5/43 وقال حسن صحيح كلهم من حديث جرير بن عبد الله رضي الله عنه .
(3) تقدم .(54/182)
قيل : فهذا موجب الفرق ، فإن الزيارة المشروعة إن كان مقصودها الدعاء له ، فكون ذلك قريباً من الحجرة أفضل منه في سائر المساجد والبقاع ، فالذي يدعو له داخل الحجرة أقرب وإن كان القرب مستحباً ، فكلما كان أقرب كان أفضل كسائر القبور ، وإن كان مقصودها ما يقوله أهل الشرك والضلال من دعائه ، ودعاؤه من القرب أولى فينبغي أن يكون من داخل الحجرة أولى ، لما ثبت أن هذا القرب من القبر ممنوع منه بالنص(1) والإجماع وهو أيضاً غير مقدور ، علم أن القرب من ذلك ليس بمستحب بخلاف زيارة قبر غيره والصلاة على قبره فإن القريب(2) منه مستحب إذا لم يفض إلى مفسدة من شرك أو بدعة أو نياحة ، فإن أفضى إلى ذلك منع من ذلك .
ومما يوضح هذا أن الشخص الذي يقصد اتباعه زيارة قبره يجعلون قبره بحيث تمكن زيارته ، فيكون له باب يدخل منه إلى القبر ، ويجعل عند القبر مكان للزائر إذا دخل بحيث يتمكن من القعود فيه ، بل يوسع المكان ليسع الزائرين ، ومن اتخذه مسجداً جعل عنده صورة محراب أو قريباً منه ، وإذا كان الباب مغلقاً جعل له شباك على الطريق ليراه الناس فيه فيدعونه ، وقبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بخلاف هذا كله لم يجعل للزائر طريق إليه بوجهه من الوجوه ولا قبر في مكان كبير يتسع للزوار ، ولا جعل للمكان شباك يرى منه القبر ، بل منع الناس من الوصول إليه والمشاهدة له (3).
__________
(1) لست أدري أي نص هذا وأي إجماع .
(2) صوابه القرب في بعض النسخ .
(3) قلت بل جعل له شباك فإلى الله المشتكى .(54/183)
ومن أعظم ما من الله به على رسوله - صلى الله عليه وسلم - وعلى أمته واستجاب فيه دعاءه أن دفن في بيته بجانب مسجده ، فلا يقدر أحد أن يصلي إلا إلى المسجد(1) ، والعبادة المشروعة في المسجد معروفة ، بخلاف ما لو كان قبره منفرداً عن المسجد ، والمسافر إليه إنما يسافر إلى المسجد وإذا سمي هذا زيارة لقبره فهو اسم لا مسمى له ، إنما هو إتيان إلى مسجده .
__________
(1) قلت :أما الأن فمصلى النساء خلف القبر النبوي الشريف وهناك ممر بين جدار الغرفة التي فيها القبر والشباك الحاجز لمصلى النساء فيتمكن كثير من الناس من الصلاة في هذا الممر وأصبح بعض الناس يطوفون حول القبر لأنه اصبح ممكناً ولو أن الحكومة السعودية تسد هذا الممر لكان خيراً .(54/184)
ولهذا لم يطلق السلف هذا اللفظ ، ولا عنده قبره قناديل معلقة ولا ستور مسبلة (1)، بل إنما يعلق القناديل في المسجد المؤسس على التقوى ولا يقدر أحد أن يخلق نفس قبره بزعفران ، أو غيره ولا ينذر له زيناً ولا شمعاً ولا ستراً ، ولا غير ذلك مما ينذر لقبر غيره ، وإن كان في بعض الأحوال قد ستر بعض الناس الحجرة أو خلفها بعضهم بزعفران ، فهذا إنما هو للحائط الذي يلي المسجد لا نفس باطن الحجرة والقبر كما يفعل بقبر غيره ، وإن فعل شيء من ذلك في ظاهر الحجرة ، فعلم أن الله سبحانه استجاب دعاءه حيث قال : (( اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد )) (2) ، وإن كان كثير من الناس يريدون أن يجعلوه وثناً ويعتقدون أن ذلك تعظيم له كما يريدون ذلك ويعتقدونه في قبر غيره(3) ، فهم لا يتمكنون من ذلك ، بل هذا القصد والاعتقاد خيال في نفوسهم لا حقيقة له في الخارج ، بخلال القبر الذي جعل وثناً ، وإن كان الميت ولياً لله لا إثم عليه من فعل من أشرك به ، كما لا إثم على المسيح من فعل من أشرك به .
__________
(1) قلت : السور قد عملت الأن ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ، وكذلك عملت الجدران بالرخام .
(2) تقدم .
(3) قلت : هذا صحيح ويحاول بعض الناس أن يفعل ذلك ولكن نسأل الله تعالى ألا يمكنهم وأما في قبور غيره من الأولياء فحدث ولا حرج ، واضرب لك مثلاً ، إن من الناس من ينذر بجمل لصاحب قبر ويوم زيارته يركب أحدهم على هذا الجمل ثم يطوف حول القبر بالجمل وعند كل رجل سكين يقطع بها وصلة لحم من هذا الجمل وهو حي وهكذا يسقط الجمل أرضاً وهذا يحصل عند قبر الجلاب في لواء تهامة فهل هذا يرضي الله فأين العلماء العاملين الذين يبصرون الناس بدينهم .(54/185)
قال تعالى : { وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ 'دTrندƒھB$# z'حhGé&ur إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ y7sY"ysِ6ك™ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ ¼çmtGôJد=tو تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ y7¯Rخ) أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (116) مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا سة_s?َگsDr& بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ 'دn1u' وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ ِNخkِژn=tم #Y‰خky مَا دُمْتُ ِNخkژدù فَلَمَّا سة_tGّٹ©ùuqs? كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ ِNخkِژn=tم وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ î‰خky } (المائدة 116-117)
وقال تعالى : { لَقَدْ uچxےں2 الَّذِينَ (#ûqن9$s% إِن اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ ûسة_t7"tƒ ں@ƒدن¨uژَ خ) اعْبُدُوا اللَّهَ 'دn1u' وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ tPچxm اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا ڑْüدJد="©à=د9 مِنْ أَنْصَارٍ } (المائدة 072) قال تعالى : { وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ (17) قَالُوا y7sY"ysِ6ك™ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ y7دRrكٹ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآَبَاءَهُمْ 4س®Lxm نَسُوا uچٍ2دe%!$# وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا (18) فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ $]ùِژ|ہ وَلَا #[ژَاtR وَمَنْ Nد=ّàtƒ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا #[ژچخ7ں2 } (الفرقان 017-019)(54/186)
فالمعبود من دون الله سواء كان أولياء كالملائكة والأنبياء والصالحين ، أو كانوا أوثاناً قد تبرؤوا ممن عبدهم ويبنوا أنه ليس لهم أن يوالوا من عبدهم ، ولا أن يواليهم من عبدهم ، فالمسيح وغيره ، وإن كانوا برآه من الشرك بهم ، لكن المقصود بيان ما فضل الله به محمداً وأمته وما أنعم به عليهم من إقامة التوحيد لله والدعوة إلى عبادته وحده وإعلاء كلمته ودينه وإظهار ما بعثه الله بن من الهدي ودين الحق ، وما صانه الله به وصان قبره من أن يتخذ مسجداً ، فإن هذا من أقوى أسباب ضلال أهل الكتاب ، ولهذا لعنهم النبي - صلى الله عليه وسلم - على ذلك تحذيراً لأمته وبين أن هؤلاء شرار الخلق عند الله يوم القيامة .
ولما كان أصحابه أعلم الناس بدينه وأطوعهم له لم يظهر فيهم من البدع ما ظهر فيمن بعدهم لا في أمور القبور ولا في غيرها ، فلا يعرف من الصحابة من كان يتعمد الكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإن كان فيهم من له ذنوب ، لكن هذا الباب مما عصمهم الله فيه من تعمد الكذب على نبيهم ، وكذلك البدع الظاهرة المشهورة مثل بدعة الخوارج والروافض والقدرية والمرجئية لم يعرف عن أحد من الصحابة شيء من ذلك .(54/187)
بل النقول الثابتة عنهم تدل على موافقتهم للكتاب والسنة ، وكذلك اجتماع رجال الغيب بهم أو الخضر ، أو غير وكذلك مجيء الأنبياء إليهم في اليقظة وحمل من يحمل منهم إلى عرفات (1)، ونحو ذلك مما وقع فيه كثير من العباد وظنوا أنه كرامة من الله وكان من إضلال الشياطين لهم ، ولم تطمع الشياطين أن توقع الصحابة في مثل هذا فإنهم كانوا يعلمون أن هذا كله من الشيطان ورجال الغيب هم الجن ، قال تعالى : { وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ 5A%y`حچخ/ مِنَ اd`إgù:$# ِNèdrكٹ#u"sù رَهَقًا } (الجن 006)
__________
(1) قلت : ونسمع في هذه الأيام من كثير ممن يدعي الصلاح أنه رأى النبي يقظة وكذبوا في زعمهم هذا وعندما استرسلوا في ملذاتهم الدنيوية كمضغ القات عندنا في اليمن وتهاونوا عن أداء الصلوات في جماعة مع المسلمين لبسوا على العوام أنهم من أصحاب الخطوة ، وأنهم يصلون الصلوات في الحرم المكي مع الجماعة ثم يعودون بنفس القوت إلى أماكنهم وظهر بسبب هذا الوضع العصري على النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أضرب أمثالاً على ذلك . رجل في الحديدة من هذا الصنف يدعى مطير ، زعم أنه رأى النبي مع جماعة من الصحابة وبيد النبي عود من القات قال : فسألته عنه فقال نزل به الروح الأمين ، انظر كتابه " الدرة الفريدة " فإن فيه ما يحير العقول فإنا لله وإنا إليه راجعون وآخر فيالبيضاء يدعى " الشمس " ليس على العوام أنه قطب من الأقطاب فدخل أحد أكبار الدعاة إلى الله وهو محمد بن = =علي بن مسمار حفظه الله إلى مسجده فسأل عنه فقال العوام هذا قطب ثم سأل عنه في صلاة الصبح حيث لم يحضر فقال أين القطب الذي تزعمون ماله لا يصلي مع المسلمين فبهتوا ، فنسأل الله الثبات على دينه .(54/188)
وكذلك الشرك بأهل القبور لم يطمع الشيطان أن يوقعهم فيه ، فلم يكن على عهدهم في الإسلام قبر نبي يسافر إليه ، ولا يقصد للدعاء عنده ، أو لطلب بركته ، أو شفاعته ، أو غير ذلك ، بل أفضل الخلق محمد خاتم الرسل صلوات الله وسلامه عليه وقبره عندهم محجوب لا يقصده أحد منهم لشيء من ذلك ، وكذلك كان التابعون لهم بإحسان ومن بعدهم من أئمة المسلمين .
وإنما تكلم العلماء والسلف في الدعاء للرسول - صلى الله عليه وسلم - عند قبره ، منهم من نهى عن الوقوف للدعاء له دون السلام عليه ، ومنهم من رخص في هذا وهذا ، ومنهم من نهى عن هذا وهذا ، وأما دعاؤه هو وطلب استغفاره وشفاعته بعد موته ، فهذا لم ينقل عن أحد من أئمة المسلمين لا من الأئمة الأربعة ولا غيرهم ، بل الأدعية التي ذكروها خالية من ذلك ، أما مالك فقد قال القاضي عياض : وقال مالك في المبسوط : لا أرى أن يقف عند قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - يدعو ويسلم ، ولكن يسلم ويمضي .
وهذا الذي نقله القاضي عياض ذكره القاضي إسماعيل بن إسحاق في المبسوط قال: قال مالك لا أرى أن يقف الرجل عند قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - يدعوا ولكن يسلم على النبي - صلى الله عليه وسلم - وعلى أبو بكر وعمر ، ثم يمضي ، وقال مالك : ذلك لأن هذا هو المنقول عن ابن عمرأنه كان يقول : السلام عليك يا رسول الله ، السلام عليك يا أبا بكر ، السلام عليك يا أبت ، أو يا أبتاه ، ثم ينصرف ولا يقف يدعو ، فرأى مالك ذلك من البدع ، قال وقال مالك في رواية ابن وهب : إذا سلم على النبي - صلى الله عليه وسلم - ودعا يقف ووجهه إلى القبر لا إلى القبلة ، ويدنوا ويسلم ولا يمس القبر بيده .(54/189)
فقوله في هذه الرواية : (( إذا سلم ودعا )) قد يريد بالدعاء السلام ، فإنه قال : يدنوا ويسلك ولا يمس القبر بيده ، ويؤيد ذلك أنه قال في رواية ابن وهب يقول : السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته ، وقد يراد إنه يدعو له بلفظ الصلاة ، كما ذكر في الموطأ من رواية عبد الله بن دينار عن ابن عمر إنه كان يصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم -وعلى أبي بكر وعمر وفي رواية يحيى بن يحيى ، وقد غلطه ابن عبد البر ، وقالوا : إنما لفظ الرواية على ما ذكره ابن القاسم والقعني وغيرهما يصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم -ويسلم على أبي بكر وعمر .
وقال ابو الوليد الباجي : وعندي أنه يدعو النبي- صلى الله عليه وسلم - بلفظ الصلاة ، ولأبي بكر وعمر لما في حديث ابن عمر من الخلاف ، قال القاضي عياض : وقال في المبسوط ، لا بأس لمن قدم من سفر أو خرج إلى سفر أن يقف على قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - فيصلي عليه ويدعو له ، ولأبي بكر وعمر ، فإن كان أراد بالدعاء السلام والصلاة فهو موافق لتلك الرواية ، وإن كان أراد دعاء(1) زائد فهي رواية أخرى ، وبكل حال فإنما أراد الدعاء اليسير .
وأما ابن حبيب فقال : ثم يقف بالقبر متواضعاً موقراً فيصلي عليه ويثني عليه ، ويثني بما حضر ويسل على أبي بكر وعمر ، فلم يذكر إلا الثناء عليه مع الصلاة .
وأما الإمام أحمد فذكر الثناء عليه بلفظ الشهادة له بذلك مع الدعاء له بغير الصلاة ومع دعاء الداعي لنفسه أيضاً ولم يذكر أن يطلب منه شيئاً ولا يقرأ عند القبر قوله : { وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ (#ûqكJ
__________
(1) صوابه دعاء زائداً .(54/190)
أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ uچxےَّtGَ™$#ur لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا } (النساء 064) ولم يذكر ذلك أحمد ولا المتقدمون من أصحابنا ولا جمهورهم ، بل قال في منسك المروزي : ثم إئت الروضة ، وهي بين القبر والمنبر فصل فيها وادع بما شئت ، ثم إئت قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - فقل : السلام عليكم يا رسول الله ورحمة الله وبركاته ، السلام عليك يا محمد بن عبد الله ، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأشهد أنك بلغت رسالة ربك ، ونصحت لأمتك وجاهدت في سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة وعبدت الله حتى أتاك اليقين ، فجزاك الله أفضل ما جزى نبياً عن أمته ورفع درجتك العليا وتقبل شفاعتك الكبرى ،وأعطاك سؤلك في الآخرة والأولى ، كما تقبل من إبراهيم ، اللهم احشرنا في زمرته ، وتوفنا على سنته ، وأوردنا حوضه ، وأسقنا بكأسه مشرباً روياً لا نظمأ بعده أبداً(1)
__________
(1) هذا الدعاء وما ماثله لا دليل عليه من كتاب الله ولا من سنة رسوله صلى الله عليه وسلم ولقد علمنا النبي عليه الصلاة والسلام ماذا نقول إذا زرنا القبور وقد تقدمت كما عرفت أحاديث الزيارة وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم : وإننا لنجد كثيراً من الناس يطرون النبي عليه الصلاة والسلام ويرفعونه إلى مرتبة الألوهية سواء كان ذلك فيما يسمونه بالموالد او بما يسمونه بالنسيج الذي يصدر من بعض المساجد بمكبر الصوت قبل أذان الفجر الثاني فهم قد أماتوا سنة الأذان الأولى واستبدلوها بهذه البدعة ، فمن إطرائهم في الموالد ما جاء في بردة البوصيري:
يا أكرم الخلق مالي من ألوذ به
وإن من جودك الدنيا وضرتها سواك عند حلول الحادث العمم
وإن من علمك علم اللوح والقلم
وقد ألف الأخ محمود مهدي الاستانبولي رسالة طيبة ورد على هذا وما شابهه سماها " كتب ليست من الإسلام " فجزاه الله خيراً .
ولقد سمعت مؤذناً في بعض قرى البيضاء يقول في تسبيحه :
لولا رسول الله ما عرفت مني ولا اتهدمت الأصنام ولا الكافر أسلم
فنصحته فقال هذا جاءنا من الرباط في البيضاء ولكنه تقبل النصح فجزاه الله خيراً ، والله المستعان .(54/191)
.
وما من دعاء وشهادة ثناء يذكر عند القبر إلا وقد وردت السنة بذلك وما هو أحق منه في سائر البقاع ، ولا يمكن أحداً أن يأتي بذكر شرع عند القبر دون غيره ، وهذا تحقيق لنهيه - صلى الله عليه وسلم - أ يتخذ قبره أو بيته عيداً فلا يقصد تخصيصه بشيء من الدعاء للرسول - صلى الله عليه وسلم - فضلاً عن الدعاء لغيره(1) ، يدعي بذلك للرسول - صلى الله عليه وسلم - حيث كان الداعي ، فإن ذلك يصل إليه - صلى الله عليه وسلم - وهذا بخلاف ما شرع عند قبر غيره ، كقوله : (( السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون ويرحم الله المستقدمين منا ومنكم والمستأخرين(2) ، فإن هذا لا يشرع إلا عند القبور لا يشرع عند غيرها )) (3) .
وهذا مما يظهر به الفرق بينه وبين غيره ، وإن ما شرعه وفعله أصحابه من المنع من زيارة قبره كما تزار القبور هو من فضائله وهو رحمة لأمته ، ومن تمام نعمة الله عليها ، فالسلف كلهم متفقون على أن الزائر لا يسأله شيئاً ولا يطلب منه ما يطلب منه في حياته ويطلب منه يوم القيامة شفاعة ولا استغفار ولا غير ذلك ، وإنما كان نزاعهم في الوقوف للدعاء له والسلام عليه عند الحجرة ، فبعضهم رأى هذا من السلام(4) .
__________
(1) هنا سقط قوله : " بل " كما في بعض النسخ .
(2) تقدم تخريجه .
(3) قلت : ومن القبور قبر النبي عليه الصلاة والسلام وصاحبيه .
(4) تقدم .(54/192)
واستحبه لذلك وبعضهم لم يستحبه إما لعدم دخوله ، وأما لأن السلام المأمور به في القرآن مع الصلاة وهو السلام الذي لا يوجب الرد أفضل من السلام الموجب للرد ، فإن هذا مما دل عليه الكتاب والسنة واتفق عليه السلف ، فإن السلام المأمور به في القرآن كالصلاة المأمور بها في القرآن كلاهما لا يوجب عليه الرد ، بل الله يصلي على من يصلي عليه ويسلم على من سلم عليه ، ولأن السلام الذي يجب الرد هو حق للمسلم كما قال تعالى : { وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا } (النساء 086) ولهذا يرد السلام على من سلم ، وإن كان كافراً فكان اليهود إذا سلموا عليه يقول : ( وعليكم ) أو (عليكم ) وأمر أمته بذلك ، وإنما قال عليكم لأنه يقولون السام ، والسام : الموت فيقول عليكم قال - صلى الله عليه وسلم -: (( يستجاب لنا فيهم ولا يستجاب لهم فينا )) (1) .
ولما قالت عائشة وعليكم السام واللعنة ، قال : مهلاً يا عائشة فإن الله رفيق بحب الرفق في الأمر كله أو لم تسمعي ما قلت لهم ، يعني رددت عليهم فقلت عليكم ، فهذا إذا قالوا السام عليكم ، وأما إذا علم انهم قالوا السلام فلا يخصون في الرد فيقال عليكم ، فيصير بمعنى السام عليكم ولا علينا ، بل يقال وعليكم ،وإذا قال الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأمته لهم وعليكم فإنما هو جزاء دعائهم وهو دعاء بالسلامة والسلام أمان فقال يكون المستجاب هي سلامتهم منا ، أي من ظلمنا وعداوتنا ، وكذلك كل من رد السلام على غيره ، فإنما دعاء له بالسلامة ، وهذا مجمل .
__________
(1) تقدم صفحة 119 حاشية ( 1 )(54/193)
ومن الممتنع أن يكون كل من رد عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - السلام من الخلق دعا له بالسلامة من عذاب الدنيا والآخرة ، فقد كان المنافقون يسلمون عليه ويرد عليهم ويرد على المسلمين أصحاب الذنوب وغيرهم ، لكن السلام فيه أمان ، ولهذا لا يبتدأ الكافر الحربي بالسلام ، بل لما كتب النبي - صلى الله عليه وسلم - كتابه إلى قيصر ، قال فيه : (( من محمد رسول الله إلى قيصر عظيم الروم ، سلام على من اتبع الهدى )) كما قال موسى لفرعون ، والحديث في الصحيحين من رواية ابن عباس عن أبي سفيان بن حرب في قصته المشهورة لما قرأ قيصر كتاب النبي - صلى الله عليه وسلم -وسأله عن أحواله (1).
وقد نهى النبي- صلى الله عليه وسلم - عن ابتداء اليهود بالسلام ، فمن العلماء من حمل ذلك على العموم ، ومنهم من رخص إذا كانت للمسلم إليه حاجة يبتدئه بالسلام بخلاف اللقاء ، والكافر كاليهودي والنصارى يسلمون عليه وعلى أمته سلام التحية الموجب للرد ؛ وأما السلام المطلق فهو كالصلاة عليه ، إنما يصلي عليه ويسلم عليه أمته ، فاليهود والنصارى لا يصلون عليه ويسلمون عليه ،وكانوا إذا رأوه يسلمون عليه ، فذلك الذي يختص به المؤمنون ابتداء وجواباً أفضل من هذا الذي يفعله الكفار معه ، ومع أمته ابتداء وجواباً ، ولا يجوز أن يقال أن الكافر إذا سلموا عليه سلام التحية ، فإن الله يسلم عليهم عشراً ، بل كان النبي يجيبهم على ذلك فيوفيهم كما لو كان لهم دين فقضاه .
وأما ما يختص بالمؤمنين ، فإذا صلوا عليه صلى الله على من صلى عليه عشراً ، وإذا سلم عليه سلم الله عليه عشراً ، وهذه الصلاة والسلام هو المشروع في كل مكان بالكتاب والسنة والإجماع ، بل هو مأمور به من الله سبحانه وتعالى لا فرق في هذا بين الغرباء وبين أهل المدينة عند القبر .
__________
(1) أخرجه البخاري 1/32 فتح ومسلم 3/1393 .(54/194)
وأما السلام عليه عند القبر فقد عرف أن الصحابة والتابعين المقيمين بالمدينة لم يكونوا يفعلونه إذا دخلوا المسجد وخرجوا منه ، ولو كان هذا كالسلام عليه لو كان حياً لكانوا يفعلونه كلما دخلوا المسجد وخرجوا منه كما لو دخلوا المسجد في حياته وهو فيه فإنه مشروع لهم كلما رأوه أن يسلموا عليه ، بل السنة لمن جاء إلى قوم أن يسلم عليهم إذا قدم وإذا قام ، كما أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك وقال : (( ليست الأولى بأحق من الآخرة )) (1) فهو حين كان حياً كان أحدهم إذا أتى يسلم ، وإذا قام يسلم ومثل هذا لا يشرع عند القبر باتفاق المسلمين ، وهو معلوم بالاضطرار من عادة الصحابة ، ولو كان سلام التحية خارج الحجرة مستحباً لكان مستحباً لكل أحد .
__________
(1) أخرجه أحمد في مسند 2/439 من طريق ابن عجلان قال حدثني سعيد عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( إذا انتهى أحدكم إلى المجلس فليسلم فإن بدأ له أن يجلس فليجلس ثم إن قام والقوم جلوس فليسلم فليست الأولى بأحق من الأخرة ، وابن عجلان اختلطت عليه أحاديث أبي هريرة كما في ترجمته في تهذيب التهذيب والميزان .
ورواه أبو داود 5/386 والترمذي 5/62 ، كلاهما من طريق ابن عجلان وقال الترمذي عقبة :هذا حديث حسن وقد روى هذا الحديث أيضاً عن ابن عجلان عن سعيد المقبري عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم .
ورواه أيضاً النسائي في عمل اليوم والليلة رقم 369 - 371 من طريقة أيضاً ، قلت فالحديث ضعيف لأن مدارة على ابن عجلان لكن قد تابعه يعقوب بن زيد أبو يوسف عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة عن النسائي في عمل اليوم والليلة برقم 368 وسنده حسن ، وقد نقل المحقق على عمل اليوم والليلة للنسائي أن الحافظ ابن حجر قال : مخرج هذا الحديث واحد وإن تعددت الأسانيد إلى محمد بن عجلان ، وأشار إلى الفتوحات الربانية 5/314 .(54/195)
ولهذا كان أكثر السلف لا يفرقون بين الغرباء ، وأهل المدينة ولا بين حال السفر وغيره ، فإن استحباب لهذا(1) لهؤلاء وكراهته حكم شرعي يفتقر إلى دليل شرعي ولا يمكن أحداً أن ينقل عن النبي- صلى الله عليه وسلم - أنه شرع لأهل المدينة الإتيان عند الوداع للقبر وشرع لهم ولغيرهم ذلك عند القدوم من سفر ، وشرع للغرباء تكرير ذلك كلما دخلوا المسجد وخرجوا منه ، ولم يشرع ذلك لأهل المدينة ، فمثل هذه الشريعة ليس منقولاً عن النبي - صلى الله عليه وسلم -ولا عن خلفائه ولا هو معروف عن عمل الصحابة ، وإنما نقل عن ابن عمر السلام عند القدوم من السفر(2) ، وليس هذا من عمل الخلفاء وأكابر الصحابة .
قلت : روى عبد الرزاق في مصنفه عن معمر ، عن أيوب ، عن نافع قال : كان ابن عمر إذا قدم من سفر أتى قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : السلام عليكم يا رسول الله السلام عليك يا أبا بكر السلام عليك يا أبتاه ، وأنبأه عبيد الله بن عمر عن نافع ، عن ابن عمر قال معمر : فذكرت ذلك لعبيد الله بن عمر فقال : ما نعلم أحداً من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - فعل ذلك إلا ابن عمر(3) ، هكذا قال عبيد الله بن عمر العمري الكبير ، وهو أعلم آل عمر في زمانه وأحفظهم وأثبتهم .
__________
(1) صوابه :هذا
(2) تقدم : وهو صحيح من فعل ابن عمر وحده .
(3) أخرجه عبد الرزاق في مصنفه 3/576 وسنده صحيح .(54/196)
قال الشيخ : كما كان ابنعمر يتحرى الصلاة والنزول والمرور حيث حل ونزل وعبر ذلك في السفر(1) ، وجمهور الصحابة لم يكونوا يصنعون ذلك ، بل أبوه عمر كان ينهي عن مثل ذلك ، كما روى سعيد بن منصور في سننه ، حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن المعرور بن سويد ، عن عمر قال : خرجنا معه في حجة حجها فقرأ بنا في صلاة الفجر { أَلَمْ uچs? كَيْفَ فَعَلَ y7ڑ/u' ة="utُ¾r'خ/ الْفِيلِ } (الفيل 001) و { لِإِيلَافِ C·÷ƒuچè% } (قريش 001) في الثانية ، فلما رجع من حجته رأى الناس ابتدروا المسجد ، فقال : ما هذا ؟ فقالوا مسجد صلى فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : هكذا هلك أهل الكتاب قبلكم اتخذوا آثار الأنبياء بيعاً ، من عرض له منكم الصلاة(2) فليصل ، ومن لم يعرض له فليمض(3) .
ومما اتفق عليه الصحابة ابن عمر وغيره من أنه لا يستحب لأهل المدينة الوقوف عند القبر للسلام إذا دخلوا المسجد وخرجوا ، بل يكره ذلك ، يبين ضعف حجة من احتج بقوله : (( ما من رجل يسلم علي إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام )) (4) .
__________
(1) هذا ثابت عن ابن عمر رضي الله عنه أنه كان ينزل حيث كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينزل وكان يصلي حيث كان يصلي ويبول حيث كان يبول وينام حيث كان ينام رضي الله عنه وهذا لم يكن يفعله غير ابن عمر كما ذكره المؤلف رحمه الله .
(2) هذا سقط والصواب الصلاة فيه فليصل .
(3) أثر عمر بن الخطاب ذكره شيخ الإسلام في كتابه اقتضاء الصراط المستقيم ص386 فقال روى سعيد بن منصور في سننه قال حدثنا أبو معاوية الأعمش عن معرور بن سويد عن عمر رضي الله عنه رأى الناس يذهبون مذاهب … فذكره .
قلت : الأعمش مدلس وقد عنعن لكن قد أخرج الأثر ابن وضاح في كتابه البدع والنهي عنها وفيه تصريح الأعمش بالتحديث فالأثر صحيح والله أعلم .
(4) تقدم .(54/197)
فإن هذا لو دل على استحباب السلام عليم من المسجد لما اتفق الصحابة على ترك ذلك ولم يفرق في ذلك بين القادم من السفر وغيره ، فلما اتفقوا على ترك ذلك مع تيسره على أنه غير مستحب ، بل لو كان جائز لفعله بعضهم ، فدل على أنه كان عندهم المنهي عنه ، كما دلت عليه سائر الأحاديث .
وعلى هذا فالجواب عن الحديث إما بتضعيفه(1) على قول من يضعفه ، وإما بأن ذلك يوجب فضيلة الرسول- صلى الله عليه وسلم - بالرد لا فضيلة المسلم بالرد عليه ، إذا كان هذا من باب المكافأة والجزاء حتى إنه يشرع للبر والفاجر التحية بخلاف ما يقصد به الدعاء المجرد وهو السلام المأمور به ، وإما بأن يقال : هذا إنما هو من سلم عليه من قريب والقريب أن يكون في بيته ، فإنه لم يجد بذلك لم يبق له حد محدود من جهة الشرع كما تقدم ولا ترغيب له في ذلك ولا ذكر أجر له كما جاء في الصلاة والسلام المأمور بهما ، فإنه قد وعد أن من صلى عليه مرة صلى الله عليه عشراً(2) ، وكذلك من سلم عليه (3)، وأيضاً فهو مأمور بهما وكل مأمور به ففاعله محمود مشكور مأجور .
وأما قوله : (( من رجل يمر بقبر الرجل فيسلم عليه إلا رد الله عليه روحه حتى يرد عليه السلام(4)
__________
(1) ضعف الحديث الدارقطني .
(2) تقدم صفحة 115 حاشية ( 3 ) .
(3) تقدم صفحة 116 حاشية ( 1 ) .
(4) هذا حديث عائشة رضي الله عنها رواه ابن أبي الدنيا في كتاب القبور كما ذكره ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه الروح عند المسألة الأولى بسند ابن أبي الدنيا لكن في سنده عبد الله بن سمعان وهو عبد الله بن أبي زياد بن سليمان بن سمعان وهو كذاب كما في تهذيب التهذيب والميزان.
وذكر حديثاً آخر من حديث أبي هريرة وفيه شيخ ابن أبي الدنيا وهو محمد بن قدامة الجوهري ترجم له صاحب الميزان قال فيه ابن معين ليس شيء وقال أبو داود ضعيف لم أكتب عنه شيئاً . أهـ . وذكر الشنقيطي رحمه الله تعالى عند تفسيره قوله تعالى : (( إنك لتسمع الموتى )) في سورة النمل بحثاً نفيساً في هذا الباب فليراجع .(54/198)
، وما من رجل يسلم علي إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام)) (1) فإنما فيه مدح المسلم عليه والإخبار بسماعه السلام وأنه يرد السلام فيكافئ المسلم عليه لا يبقى للمسلم عليه فضل ، فإنه بالرد يحصل المكافأة ، كما قال تعالى : { وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا } (النساء 086)
ولهذا كان الرد من باب العدل المأمور به الواجب لكل مسلم إذا كان سلامه مشروعاً ، وهذا كقوله : من سألنا أعطيناه ومن لم يسألنا أحب إلينا(2) . هو إخبار بإعطائه السائل ليس هذا أمراً بالسؤال ، وإن كان السلام ليس مثل السؤال ، لكن هذا اللفظ إنما يدل على مدح الراد وأما المسلم فيقف الأثر فيه على الدليل .
__________
(1) من قوله : ما من رجل يسلم على إلخ .. تقدم الكلام فيه .
(2) الحديث بهذا المعنى رواه أحمد في مسنده 3/44 وهو من طريق أبي حمزة وهو عبد الرحمن بن عبد الله جار شعبة وهو مقبول كما في التقريب لابن حجر يعني حيث يتابع وإلا فلين .
وفي السند أيضاً هلال بن حصن أخو بني قيس بن ثعلبه وهو مجهول الحال ، ترجم له بل من البخاري في التاريخ الكبير وابن أبي حاتم في الجرح والتعديل ولم يذكر فيه جرحاً ولا تعديلاً فالحديث ضعيف .
لكن ثبت الشطر الأول منه كما في مسند الإمام أحمد 3/3 ، 3/44 من حديث أبي بشر عن أبي نصرة عن أبي سعيد الخدري أن رجلاً من الأنصار كانت به حاجة فقالت له أهله ، إثت النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، فأتاه وهو يخطب وهو يقول : من استف أعفه الله ومن استغنى أغناه الله ومن سألنا فوجدنا له أعطيناه . قال : فذهب ولم يسأل .(54/199)
وإذا كان المشروع لأهل المدينة أن لا يقفوا عند الحجرة ويسلموا 'ليه علم قطعاً أن الحديث لم يرغب في ذلك ، ومما يبين ذلك أن مسجدة كسائر المساجد لم يختص بجنس من العبادات لا تشرع في غيره ، وكذلك المسجد الأقصى ، ولكن خصاً بأن العبادة فيها أفضل بخلاف المسجد الحرام ، فإن مخصوص بالطواف واستسلام الركن وتقبيل الحجر وغير ذلك .
وأما المسجدان الأخران فما يشرع فيهما من صلاة وذكر واعتكاف وتعلم وتعليم وثناء على الرسول - صلى الله عليه وسلم - وصلاة عليه وتسليم عليه وغير ذلك من العبادات فهو مشروع في المسجد ، فعلم أن المشروع من ذلك العمل مشروع في سائر المساجد لا اختصاص لقبره بجنس من أجناس العبادات ، ولكن العبادة في مسجدة أفضل منها في غيره لأجل المسجد لا لأجل القبر .
قال الشيخ(1) : ومما يوضح هذا أنه لم يعرف عن أحد من الصحابة أنه تكلم باسم زيارة قبره لا ترغيباً في ذلك ولا غير ترغيب ، فعلم أن مسمى هذا الاسم لم يكن له حقيقة عندهم ، ثم ذكر ما حكيناه عنه فيما تقدم ثم قال .
والمقصود أن هذا كله يبين ضعف حجة المفرق بني الصادر من المدينة والوارد عليها ، والوارد على مسجده من الغرباء والصادر عنه ، وذلك إنه يمتنع أن يقال : أنه يرد على هؤلاء ولا يرد على أحد من أهل المدينة المقيمين بها ، فإن أولئك هم أفضل أمته وخواصها ، وهم الذين خاطبهم بهذا ، فيمتنع أن يكون المعنى : من سلم منكم يا أهل المدينة لم أرد عليه ما دمتم مقيمين بها ، فإن المقام بها هو غالب أوقاتهم ، وليس في الحديث تخصيص ولا روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما يدل على ذلك .
__________
(1) في الرد على الأخنائي ص 110 - 119 ,(54/200)
يبين هذا أن الحجرة لما كانت مفتوحة وكانوا يدخلون على عائشة لبعض الأمور فيسلمون عليه ، إنما كان يرد عليهم إذا سلموا ، فإن قيل : إنه ل يكن يرد عليهم ، فهذا تعطيل للحديث ، وإن قيل : كان يرد عليهم من هناك ولا يرد إذا سلموا من خارج فقد أظهر الفرق ، وإن قيل : بل هو يرد على الجميع فحينئذ إن كان رده لا يقتضي استحباب هذا السلام بطل الاستدلال به ، وإن كان رده يقتضي الاستحباب وهو الآن مختص بمن سلم من خارج لزم أن يستحب لأهل المدينة السلام عند الحجرة ، كلما دخلوا المسجد وخرجوا .
وهو خلاف ما أجمع عليه الصحابة والتابعون لهم بإحسان ، وخلاف قول المفرقين ومن أهل المدينة من قد لا يسافر منها أولا يسافر إلا للحج ، والقادم قد يقيم بالمدينة الشعر والشهر ، فهذا يرد عليه عشر مرات في اليوم والليلة وأكثر كلما دخل وكلما خرج وذلك المدني المقيم لا يرد عليه قط في عمره ولا مرة.
وأيضاً استحباب هذا للوارد والصادر تشبيه له بالطواف الذي يشرع للحاج عند الورود إلى مكة وهو الذي يسمى طواف القدوم التحية وطواف الورود وعند الصدر ، وهو الذي يسمى طواف الوداع ، وهذا تشبيه لبيت المخلوق ببيت الخالق ، ولهذا لا يجوز الطواف بالحجرة بالاجماع ، بل ولا الصلاة إليها كما ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - في صحيح مسلم عن أبي مرثد الغنوي أنه قال - صلى الله عليه وسلم - (( لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها )) (1) .
__________
(1) تقدم .(54/201)
وأيضاً فالطواف بالبيت يشرع لأهل مكة ولغيرهم ، كلما دخلوا المسجد ، والوقوف عند القبر كلما دخل المدينة لا يشرع بالاتفاق ، فلم يبق الفرق بين المدني وغير المدني له أصل في السنة ، ولا نظير في الشريعة ، ولا هو بما سنه الخلفاء الراشدون وعمل به عامة الصحابة ، فلا يجوز أن يجعل هذا من شريعته وسننه ، وإذا فعله من الصحابة الواحد والاثنان والثلاثة وأكثر دون غيرهم كان غايته أنه يثبت به التسويغ بحيث يكون هذا مانعاً من دعوى الإجماع على خلافه ، بل يكون كسائر المسائل التي ساغ فيها الاجتهاد لبعض العلماء ، أما أن يجعل من سنة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وشريعته وحكمه ولم تدل عليه سنته لكون بعض السلف فعل ذلك فهذا لا يجوز .(54/202)
ونظير هذا مسحه للقبر ، قال أبو بكر الأثرم : قلت لأبي عبد الله يعني الإمام أحمد بن حنبل ، قبل النبي - صلى الله عليه وسلم - يلمس ويتمسح به ؟ قال : ما أعرف هذا قلت له فالمنبر ؟ قال : أما المنبر فنعم ، قد جاء فيه ، قال أبو عبد الله : شيء يروونه عن ابن أبي فديك عن ابن أبي ذئب ، عن ابن عمر أنه مسح على المنبر(1) ، قال : ويرونه عن سعيد بن المسيب في الرمانة ، قلت : ويروي عن يحيى بن سعيد ، يعني الأنصاري شيخ مالك وغيره أنه حيث أراد الخروج إلى العراق جاء إلى المنبر فمسحه ودعا فرأيته استحسن ذلك ، ثم قال : لعله عند الضرورة والشيء ، قلت لأبي عبد الله : أنهم يلصقون بطونهم بجدار القبر(2)
__________
(1) قلت قد ثبت تبرك الصحابة بآثار التي عليه الصلاة والسلام في حياته وبعد موته وقول الإمام أحمد هذا فيما إذا وجد شيء من آثاره وأما في زماننا هذا فما أظن أنها توجد وأما ما يزعمه كثير من المتصرفه فإنه كذب محض لا يشك فيه عاقل أحدهم يرى رؤية منامية فيصور له الشيطان صورة حذاء فيصبح يوسمها في ورقة ثم يتبرك بها فالله المستعان .
(2) انظر رحمك الله إلى إنكار الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله على إلصاق البطون في القبر النبوي وأما الآن في زماننا هذا هل من منكر من أهل العلم على ما يحدث بجوار القبر النبوي ، إنك تسمع الهتافات والاستغاثات والشرك بجوار القبر وتسمع الزغاريد من النساء ترى التمسح بأعمدة المسجد وتقبيلها ترى البعض يتمسع بالشبك الحديدي المعمول على الحجرة حتى على الشبك الذي على مقبره البقيع وهل هذا كان موجوداً على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وهناك من يدعو إلى هذا العمل مثل محمد علوي مالكي وهو في مكة ويعمل الموالد التي فيها بعض الشركيات والإطراء الزائد ويبتز أموال الناس بالباطل وقد رد عليه بكتاب ( حوار مع المالكي ) ومنهم الهدار في اليمن في لواء البيضاء لقد ضلل على الناس وسمم أفكارهم بعقيدة الصوفية الخاربة فترى الناس يقدمون كلامه على كلام النبي عليه الصلاة والسلام وكلامه كأنه وحي عند العوامل وقد تقدم بعض الكلام على ما سمعناه من بعض المؤذنين هناك .
وفي البيضاء قبر عمر بن مبارك بعيد عن دون الله حتى أشد بعضهم قائلاً .
أما وأبوي وابني ومن جا بعدنا ومن عوز حاجة يحي يشكوا إليك
ولكن لله الحمد والمنة فقد أصبح الشباب الآن يحث عن الدليل من الكتاب والسنة في كل مسألة ولا يستسلم لكلام هؤلاء وأمثالهم في البيضاء وفي تعز وفي الحديدة وفي إب جل وفي كل مكان فالفضل في ذلك لله عز وجل .
ومنهم كذلك محمد علي مرعي في لواء الحديدة هذا الرجل ضلل كذلك على كثير من العوام بزعمه أنه يحب النبي عليه الصلاة والسلام وما هو حبه؟ أهو العمل بسنته ؟ لا .
إنما هي الموالد التي يبتز بسببها أموال كثير من المخدوعين من التجار وغيرهم وإنه لمن أشد أعداء السنة وأهلها العاملين بها فالمشتكى إلى الله .
وما ذلك إلا عناداً منه ومكابرة وقد حصل أنه غير بعض الشباب بعض المنكرات في زبيد وغيرها فما علمنا بعد أيام إلا وهم في السجون بوشايته ووشاية أمثاله ( محمد علي العقيلي ) ولكن هذا ما يزيد العاملين بالنسبة إلا إيماناً وتثبيتاً والناس يعرفون ذلك .
ومن الأدلة على ما قلته أن نتيجة ( فلكي بيت الفقه ) تطبع في مطابع الحديدة وهي التي تنشر الضلال فهل غيرها هو وأمثاله ؟ لا . =
=وعندما أراد أخونا الفاضل الشيخ محمد بن عبد الوهاب الوصابي أن يطبع كتابة ( القول المقيدج في أدله التوحيد ) عرض الطلب على المدعي من قبل مكتب الإعلام بالحديدة فرفض المدعي أن يسمح لها بالطبع ، لكن من فضل الله طبعت هذا الرسالة في صنعاء بتصريح من وزارة الإعلام بكمية كثيرة جداً وهي تابع الآن في الأسواق .
والمدعي ومن جرى مجراه في الحديدة يطبعون الكتب التي تنشر الضلال والبدع ولا يحجون من يمانعهم وذلك مثل كتاب ( الذخائر ) لعلوي مالكي وكتاب الرفاعي الذي فيه رد على ابن منيع والله المستعان .
ومنهم إبراهيم عقيل وعلي عبد القادرالصبري في تعز ويحي السوسوة في إب جل .
فمثلهؤلاء يرون المنكرات ويسمعون بها وما ترى من تكبر بل ترى التشجيع منهم للعوامل الذين يثقون بهم والتشنيع على من خالفهم والوشي بهم.
فقير ابن علوان في بقرس - تعز - يقصده الناس من بقاع شتى يأكلون من ترابه ويتمسحون به وربما أدخل السادن الرجل والمرأة في الحجرة التي فيها القبر وأغلق عليهم الأيام الطويلة بحجة أنهما مجنونان وماذا بعد الخلوة ؟
وفي الحديدة قبل ابن العجيل والخزان والهتار وما أكثر القبورالتي تعبد من دون الله فيها ، ويحصل من المنكر أكثر مما يحصل عند قبر ابن علوان فتجد الرجال والنساء يرقصون جميعاً فوق القبور ويمسك الأجنبي بالمرأة المتجملة ويرقص معها وربما حدث الزنى وارتكاب الفاحشة في تلك المواطن .
ومن الخرافات التي نشرها أصحاب الهدي بين العوام أن ابن علوان أمسك بمنارة المسجد المبني بجانب قبره وعطفها حتى وصلت إلى الأرض ثم عادت كما كانت .
سبحان الله إن مثل هذا يقذف في قلوب العوام التعظيم له لدرجة قد توصله إلى حد الألوهية .
وما أسرع انتشار الباطل وتقبله من الناس ، إن المسجد الذي بنى بجوار القبر ما بني إلا بعد موت أنب علوان فهل يا ترى خرج من قبره أم ماذا .
وزعموا أن ابن علوان أغرق فيلاً في جبل أصم ثم ظهر الفيل في البحر ، فانظر إلى هذا الغلو وأنشد بعض مجاذيبهم :
يا ابن علوان بفادتك من قصد بنابكم نجي
أغرق الفيل بالصفا وأظهره بحر رجرجي
فتأمل ما في هذه الأبيات . =
=ولقد سمعت من بعض العوام من نشره بعض هؤلاء : وهو قولهم :/ لولا أربعة أقطاب في اليمن لخسف الله بها ك الشنقيطي في اللحية وإبراهيم عقيل في تعز والهدار في البيضاء ومحمد علي مرعي في الحديدة ، فانظر إلى عمل هؤلاء الأقطاب .(54/203)
، وقلت له : ورأيت أهل العلم من أهل المدينة لا يمسونه ويقومون ناحيته فيسلمون ، فقال أبو عبد الله : نعم ، وهكذا كان ابن عمر يفعل ذلك ، ثم قال أبو عبد الله ، بأبي وأمي - صلى الله عليه وسلم -.
وقد ذكر أحمد بن حنبل أيضاً في منسك المرودي نظير ما نقل عن ابن عمر ، وابن المسيب ويحيى بن سعيد ، وهذا كله إنما يدل على التسويغ ، وإن هذا مما فعله بعض الصحابة فلا يقال : انعقد اجماعهم على تركه بحيث يكون فعل من فعل ذلك اقتداء ببعض السلف لم يبتدع هو شيء من عنده .
وأما أن يقال : أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - ندب إلى ذلك ورغب فيه وجعله عبادة وطاعة يشرع فعلها ، فهذا يحتاج إلى دليل شرعي لا يكفي في ذلك فعل بعض السلف ، ولا يجوز أن يقال أن الله ورسوله يحب ذلك أو يكره وأنه سن ذلك وشرعه ، أو نهى ذلك وكرهه ، ونحو ذلك إلا بدليل يدل على ذلك لا سيما إن عرف أن جمهور أصحابه لم يكونوا يفعلون ذلك ، فيقال : لو كان هو ندبهم إلى ذلك وأحبه لهم لفعلوه ، فإنهم كانوا أحرص الناس على الخير ، ونظائر هذا متعددة والله أعلم .
والمؤمن قد يتحرى الدعاء والصلاة في مكان دون مكان لاجتماع قلبه فيه وحصول خشوعه فيه ، لا لأنه يرى أن الشارع فضل ذلك المكان كصلاة الذي يكون في بيته ونحو ذلك ، فمثل هذا إذا لم يكن منهياً عنه ، فلا بأس به ، ويكون ذلك مستحباً في حق ذلك الشخص لكون عبادته فيه أفضل ، كما إذا صلى القوم خلف إمام يحبونه كانت صلاتهم أفضل من أن يصلوا خلف من هم له كارهون ؛ وقد يكون العمل المفضول في حق بعض الناس أفضل لكونه أنفع له ، وكونه أرغب فيه ، وهو أحب إليه من عمل أفضل منه لكونه يعجز عنه ، فهذا يختلف بحسب اختلاف الأشخاص وهو غير ما ثبت فضل جنسه بالشرع كما ثبت أن الصلاة أفضل ثم القراءة .(54/204)
ثم الذكر بالادلة الشرعية ، مع أن العمل المفضول في مكانه هو أفضل من الفاضل في غير مكانه كفضيلة الذكر والدعاء والقراءة بعد الفجر والعصر على الصلاة المنهي عنها في هذا الوقت ، وكفضيلة التسبيح في الركوع والسجود على القراءة ، لأنه نهي أن يقرأ القرآن راكعاً أو ساجداً وكفضيلة الدعاء في الصلاة على القراءة هناك لأنه موطن الدعاء ، ونظائر هذا متعددة وبسط هذا له موضع آخر .
لكن المقصود هنا أن يعلم أن ما قيل : أنه مستحب للأمة وقد نبدهم إليه الرسول - صلى الله عليه وسلم - ورغبهم فيه ، فلا بد له من دليل يدل على ذلك ، ولا يضاف إلى الرسول- صلى الله عليه وسلم - إلا ما صدر عنه ، والرسول- صلى الله عليه وسلم - هو الذي فرض الله على جميع الخلق الإيمان به وطاعته واتابعه وإيجاب ما أوجبه ، وتحريم ما حرمه وشرع ما شرعه ، وبه فرق الله بين الهدى والضلال : والرشاد والبغي والحق والباطل ، والمعروف والمنكر .(54/205)
وهو الذي شهد الله له بأنه يدعو إليه بإذنه ويهدي إلى صراط مستقيم وأنه على صراط مستقيم ، الذي جعل الرب طاعته طاعة له في مثل قوله : { مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ } (النساء 080) وقوله : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ } (النساء 064) وهو الذي لا سبيل لأحد إلى النجاة إلا بطاعته ولا يسأل الناس يوم القيامة إلا عن الإيمان به وإتباعه وطاعته ، وبه يمتحنون في القبور(1) ، قال تعالى : { £`n=t"َ،sYn=sù الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ ئn=t"َ،sYs9ur tûüد=y™ِچكJّ9$# } (الأعراف 006) وهو الذي أخذ الله له الميثاق على النبيين وأمرهم أن يأخذوا على أممهم الميثاق أنه إذا جاءهم أن يؤمنوا به ويصدقوه ، وهو الذي فرق الله به بين أهل الجنة وأهل النار ، فمن آمن به وأطاعه كان من أهل الجنة ، ومن كذبه وعصاه كان من أهل النار قال تعالى : { تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ م&ù#½zô‰مƒ جَنَّاتٍ "حچôfs? مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ڑْïد$ح#"yz فِيهَا y7د9¨sŒur الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (13) وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ م&ù#½zô‰مƒ نَارًا #V$ح#"yz فِيهَا وَلَهُ زU#xtم رْüخg-B } (النساء 013-014)
__________
(1) يشير إلى حديث عائشة رضي الله عنها أخرجه البخاري ( باب صلاة النساء مع الرجال في الكسوف 2/542 وفيه أنكم تفتنون في القبور مثل أو قريباً من فتنة الدجال يؤتي بأحدكم فيقال له ما علمك بهذا الرجل ؟ فأما المؤمن أو الموقن فيقول : محمد رسول الله جاءنا بالبينات والهدى فأجبنا واتبعنا .. الحديث ، وأخرجه مسلم 2/624 وأخرجه البخاري عن أنس في باب ما جاء في عذاب القبر 3/232 وفيه (( ما كنت تقول في هذا الرجل لمحمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم فأما المؤمن فيقول أشهد أنه عبد الله ورسوله .. الحديث )) رواله أحمد 6/139- 140 والترمذي 3/374 .(54/206)
والوعد بسعادة الدنيا والآخرة والوعيد بشقاوة الدنيا والآخرة يتعلق بطاعته ، فطاعته هي الصراط المستقيم ، وهي حبل الله المتين ، وهي العروة الوثقى ، وأصحابها هم أولياء الله المتقون ، وحزبه المفلحون وجنده الغالبون ، والمخالفون لهم هم أعداء الله حزب إبليس اللعين ، قال تعالى : { وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ سة_tFّn="tƒ اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27) يَا وَيْلَتَى سة_tFّs9 لَمْ أَتَّخِذْ $¸Rںxèù Wxٹد=yz (28) لَقَدْ سة_¯=|تr& عَنِ حچٍ2دe%!$# بَعْدَ إِذْ 'دTuن!$y_ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا }
(الفرقان 027-029)
وقال تعالى : { يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا $sY÷èsغr& اللَّهَ وَأَطَعْنَا ںwqك™چ9$# (66) وَقَالُوا !$sY/u' إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا (67) !$sY/u' ِNخkجE#uن ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا #[ژچخ7x. } (الأحزاب 066-068) وقال تعالى { قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ z`ƒحچدے"s3ّ9$# } (آل عمران 032) وقال تعالى : { فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ 4س®Lxm يُحَكِّمُوكَ فِيمَا uچyfx© َOكgsY÷ t/ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ %[`uچxm مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا $VJٹد=َ،n@ } (النساء 065) وقال تعالى : { فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ ے¾دnحگِDr& أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } (النور 063) وقال تعالى : { وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ Nخkِژn=tم مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ tûüإsد="¢ء9$#ur z`ف،xmur أُولَئِكَ رَفِيقًا } (النساء 069)(54/207)
وجميع الرسل أخبروا بأن الله أمر بطاعتهم كما قال تعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ } (النساء 064) يأمرون بعبادة الله وجده وتقواه وحده وخشيته وحده ويأمرون بطاعتهم ، كما قال تعالى : { وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ tbrâ"ح !$xےّ9$# } (النور 052) وقال نوح : { أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ } (نوح 003) وقال في الشعراء (( فاتقوا الله وأطيعون )) وكذلك قال هود وصالح ولوط وشعيب ، والناس محتاجون إلى الإيمان بالرسول - صلى الله عليه وسلم - وطاعته في كل زمان ومكان ليلاً ونهاراً سفراً وحضراً ، سراً وعلانية ، جماعة وفرادى ، وهم أحوج إلى ذلك من الطعام والشراب ، بل من النفس ، فإنهم متى فقدوا ذلك فالنار جزاء من كذب بالرسول وتولى عن طاعته .
وكما قال تعالى : { فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى (14) لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى (15) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى } (الليل 014-016) أي كذب بما أخبر به وتولى عن طاعته ، كما قال تعالى في موضع آخر { فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى (31) وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى } (القيامة 031-032) وقال تعالى : { إِنَّا أَرْسَلْنَا َOن3ّs9خ) رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا (15) فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا } (المزمل 015-016) وقال : { فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ
Bé& بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ #Y‰خky (41) يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى مNخkح5 الْأَرْضُ وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا } (النساء 041-042)(54/208)
والله تعالى قد سماه سراجاً منيراً ، وسمي الشمس سراجاً وهاجاً ، والناس إلى السراج المنير أحوج منهم إلى السراج الوهاج ، فإنهم يحتاجون إليه ليلاً ونهاراً سراً وعلانية ، وهو أنفع لهم ، فإنه منير ليس فيه أذى بخلاف الوهاج فإنه ينفع تارة ويضر أخرى .
ولما كانت حاجة الناس إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - والإيمان به وطاعته ، ومحبته وموالاته وتعظيمه وتعزيزه وتوقيره عامة في كل مكان وزمان ، كان ما يؤمر به من حقوقه عاماً لا يختص بقبره ، فمن خص قبره بشيء من الحقوق كان جاهلاً بقدر الرسول - صلى الله عليه وسلم - وقدر ما أمر الله به من حقوقه ، وكل من اشتغل بما أمر الله به من طاعته شغله ذلك عما نهى عنه من البدع المتعلقة بقبره وقبر غيره ، ومن اشتغل بالبدع المنهي عنها ترك ما أمر به الرسول - صلى الله عليه وسلم - من حقه ، فطاعته هي مناط السعادة والنجاة والذين يحجون إلى القبور ويدعون الموتى من الأنبياء وغيرهم عصوا الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأشركوا بالرب ففاتهم ما أمروا به من تحقيق التوحيد ، والإيمان بالرسول - صلى الله عليه وسلم - وهو تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، وجميع الخلق يأتون يوم القيامة فيسألون عن هذين الأصلين ماذا كنتم تعبدون ، وماذا أجبتم المرسلين كما بسط هذا في موضعه ، والمقصود أن الصحابة كانوا في زمن الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم أجمعين يدخلون المسجد ، ويصلون فيه الصلوات الخمس ويصلون على النبي - صلى الله عليه وسلم - ويسلمون عليه عند دخول المسجد وبعد دخوله ولم يكونوا يذهبون ويقفون إلى جانب الحجرة ويسلمون عليه هناك ، وكان على عهد الخلفاء الراشدين والصحابة حجرته خارجة عن المسجد ، ولم يكن بينهم وبينه إلا الجدار .(54/209)
ثم إنه إنما أدخلت الحجرة في المسجد في خلافة الوليد بن عبد الملك بعد موت عامة الصحابة الذين كانوا بالمدينة ، وكان من آخرهم موتاً جبر بن عبد الله وهو توفي خلافة عبد الملك ، فإنه توفي سنة ثمان وسبعين ، والوليد توفي سنة ست وثمانين وتوفي سنة ست وتسعين فكان بناء المسجد وإدخال الحجرة فيه فيما بين ذلك .
وقد ذكر أبو زيد عمر بن شبة التميري في كتاب أخبار مدينة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن إشاخة وعمن حدثوا عنه أن عمر بن عبد العزيز لما كان نائباً للوليد على المدينة في سنة إحدى وتسعين هدم المسجد وبناه بالحجارة المنقوشة ، وعمل سقفه بالساج وماء الذهب وهدم حجرات أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - فأدخلها في المسجد وأدخل القبر فيه ، ثم ذكر الشيخ الآثار المروية في عمارة عمر بن عبد العزيز المسجد وزيادته فيه ، وذكر أن حكم الزيادة حكم المزيد فقال (1):
وقد جاءت الآثار بأن حكم الزيادة في مسجده حكم المزيد تضعف فيه الصلاة بألف صلاة (2)، كما أن المسجد الحرام حكم الزيادة فيه حكم المزيد ، فيجوز الطواف فيه والطواف لا يكون إلا في المسجد لا خارجاً منه ، ولهذا اتفق الصحابة على أنهم يصلون في الصف الأول من الزيادة التي زادها عمر ، ثم عثمان ، وعلى ذلك عمل المسلمين كلهم ، فلولا أن حكمة حكم مسجده لكانت تلك صلاة في غير مسجده ، والصحابة وسائر المسلمين بعدهم لا يحافظون عن العدول عن مسجده إلى غير مسجده ويأمرون بذلك .
__________
(1) في الرد على الأخنائي ص125-126 .
(2) قلت بل الراجح أن الصلاة في مسجد النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم الذي كان على عهده هو الذي يضاعف فيه الأجر إلى ألف صلاة وذلك لقوله عليه الصلاة والسلام ، صلاة في مسجدي هذا فلفظ الإشارة " هذا " قيدت المسجد بالذي كان في عهده بخلاف المسجد الحرام ولهذا صرح به الإمام النووي كما في شرحه على صحيح مسلم ، والله أعلم .(54/210)
قال أبو زيد : حدثني محمد بن يحيى ، حدثني من أثق(1) به أن عمر زاد في المسجد من القبلة إلى موضع المقصورة التي هي به اليوم ، قال ، فأما الذي لا يشك فيه أهل بلدنا أن عثمان هو الذي وضع القبلة في موضعها اليوم ، ثم لم تغير بعد ذلك قال أبو زيد ، حدثنا محمد بن يحيى ، عن محمد بن عثمان ، عن مصعب بن ثابت ، عن خباب أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال يوماً وهو في مصلاه : (( لو أردنا في مسجدنا )) وأشار بيده نحو القبلة (2)
__________
(1) هذا مبهم ثم هو بينه وبني عمر رضي الله عنه مفاوز فلا يصح الأثر لهاتين العلتين .
(2) هذه الأحاديث ذكرها صاحب " كشف الخفاء 2/27 " تحت حديث رقم 1605 " صلا في مسجدي هذا ولو وسع إلى صنعاء اليمن بألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام " قال فيه المقاصد قال شيخنا قد مر بي ولا استحضره ، الآن هل هو بلفظه أو بمعناه ولا في أي الكتب هو قلت أخرجه ابن شبه في أخبار المدينة والديلمي ، عن أبي هريرة مرفوع بلفظ لو مد مسجدي هذا إلى صنعاء كان مسجده وأخرجه ابن شبه أيضاً عن خباب أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال يوماً وهو في مصلاه لو زاد مسجدنا وأشار بيده نحو القبلة ، وهو منطقع مع لين مصعب أحد رواته ولو ثبت لكان همه منزلاً فعله عند القائل بذلك ، ولا بن شبه أيضاً عن عمر بن الخطاب قال لو مد مسجد النبي صلى الله عليه وسلم لكان منه وهو معضل ولو ثبت لكان حكمه الرفع ، وله أيضاً عن أبي عمرة أنه قال زاد عمر رضي الله عنه في المسجد في شامه ثم قال لودنا فيه حتى يبلغ الجبانة لكان مسجد رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم لكن في مسند ابن ابي ثابت متروك الحديث وبالجملة فليس فيها ما تقوم به الحجة ولا مجموعها ولذا صحح النووي اختصاص التضعيف بمسجده الذي كان عملاً بالإشارة في الحديث المتفق عليه بلفظ "صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام " والمروي في مسلم عن ابن عمر أيضاً دون ما زيد فيه ، وأما ما أخرجه ابن أبي شيبة والديلمي عن أبي هريرة رضي الله عنه من قوله والله لو مد هذا المسجد إلى باب داري ما غدوت أن أصلي فيه فمحتمل لذلك لجواز عودة الضمير من فيه إلى أصل المسجد أو الباب داره وإن كان الثاني بعيداً مع أن الحديث ليس بثابت وأخره أحمد وابن ماجة عن جابر رضي الله عنه وزاد فيه وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة ألف صلاة فيما سواه ، ورواه الطبراني عن أبي الدرداء ، والبيهقي عن جابر بسند حسن بلفظ= =صلاة في المسجد الحرام بمائة الف صلاة وصلاة في مسجد ألف صلاة وصلاة في بيت المقدس خمسمائة صلاة ، ورواه البيهقي عن ابن عمر بلفظ صلاة في مسجدي هذا كألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام وصيام شهر رمضان بالمدينة كصيام ألف شهر فيما سواه وصلاة الجمعة بالمدينة كألف جمعة فيما سواه . أ هـ ، بحروفه .(54/211)
.
حدثنا محمد بن يحيى عن محمد بن إسماعيل ، عن ابن أبي ذلب قال : قال عمر : لو مد مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى ذي الحليفة لكان منه ، حدثنا محمد بن يحيى عن سعيد بن سعيد ، عن أخيه ، عن أبيه ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( لو بني هذا المسجد إلى صنعاء لكان مسجدي )) فكان أبو هريرة يقول : والله لومد هذا المسجد إلى داري ما عدوت أن أصلي فيه (1).
حدثنا محمد، حدثنا عبد العزيز بن عمران ، عن فليح بن سليمان ، عن ابن أبي عمرة قال : زاد عمر في المسجد في شاميه ، ثم قال : لو زدنا فيه حتى يبلغ الجبانة كان مسجد رسول الله- صلى الله عليه وسلم -(2)، قال : وهذا الذي جاءت به الآثار هو الذي يدل على كلام الأئمة المتقدمين وعملهم فإنهم قالوا : إن الصلاة الفرض خلف الإمام أفضل وهذا الذي قالوه هو الذي جاءت به السنة ، وكذلك كان الأمر على عهد عمر وعثمان فإن كليهما زاد من قبلي المسجد فكان مقامه في الصلوات الخمس في الزيادة وكذلك مقام الصف الأول الذي هو أفضل ما يقام فيه بالسنة والإجماع وإذا كان كذلك فيمتنع أن تكون الصلاة في غير مسجده أفضل منها في مسجده ، وأن يكون الخلفاء والصفوف الأول كانوا يصلون في غير مسجده ، وما بلغني عن أحد من السلف خلاف هذا لكن رأيت بعض المتأخرين ، قد ذكر أن الزيادة ليس من مسجده ، وما علمت لمن ذكر ذلك سلفاً من العلماء .
قال (3): وهذه الأمور تبنها عليها هاهنا ، فإنه يحتاج إلى معرفتها .
__________
(1) انظر التعليق ص152 .
(2) راجع الفقرة المتقدمة فقد ذكرنا أن النووي يقول بذلك .
(3) في الرد على الأخنائي ص127-131 .(54/212)
أكثر الناس لا يعرفون الأمر كيف كان ولا حكم الله ورسوله في كثير من ذلك ، وكان المقصود أن المسجد لما زاد فيه الوليد وأدخلت فيه الحجرة ، كان قد مات عامة الصحابة ، ولم يبق إلا من أدرك النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يبلغ سن التمييز الذي يؤمر فيه بالطاهرة والصلاة ، ومن المعلوم بالتواتر أن ذلك كان في خلافة الوليد بن عبد الملك ، وقد ذكروا أن ذلك كان سنة إحدى وتسعين .
وأن عمر بن عبد العزيز مكث في بنائه ثلاث سنين ، وسنة ثلاث وتسعين مات فيها خلق كثير من التابعين مثل سعيد بن المسيب وغيره من الفقهاء السبعة ، ويقال لها سنة الفقهاء ، وجابر بن عبد الله ، وكان من السابقين الأولين ممن بايع بالعقبة وتحت الشجرة ولم يكن بقي من هؤلاء غيره لما مات ، وذلك قبل تغيير المسجد بسنين ، ولم يبق بعد ممن كان بالغاً حين موت النبي- صلى الله عليه وسلم - إلا سهل بن سعد الساعدي ، فإنه توفقي سنة ثمان وثمانين ، وقيل : سنة إحدى وتسعين ، ولهذا قيل فيه : أنه آخر من مات بالمدينة من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، كما قال أبو حاتم البستي وغيره ، وأما من مات بعد ذلك فكانوا صغاراً مثل السائب بن يزيد الكندي ابن أخت نمر ، فإنه مات بالمدينة سنة إحدى وتسعين ، وقيل : أنه مات بعده عبد الله بن أبي طلحة الذي حنكه النبي- صلى الله عليه وسلم - ، وكذلك محمود بن الربيع الذي عقل مجه ومجها رسول - صلى الله عليه وسلم -في وجه من بئر كان في دارهم وله خمس سنين ، مات سنة تسع وتسعين وله ثلاث وتسعون سنة ، وأبو أمامة بن سهل بن حنيف سماه النبي - صلى الله عليه وسلم - أسعد باسم أسعد بن زراره مات سنة مائة .(54/213)
لكن هؤلاء لم يكن لهم في حياته من التميز ما ينقلون عنه أقواله وأفعاله التي ينقلها الصحابة مثل ما ينقلها جابر وسهل بن سعد وغيرهما ، وأما ابن عمر فكان قد مات قبل ذلك بعد قتل ابن الزبير بمكة سنة أربع وسبعين ، وابن عباس مات قبل ذلك بالطائف سنة ثمان وستنين ، فهؤلاء وأمثالهم من الصحابة لم يدرك أحد منهم تغير المسجد وإدخال الحجرة فيه ، وأنس بن مالك كان بالبصرة ، ولم يكن بالمدينة وقيل : أنه آخر من مات بها من الصحابة .
وكان حجر أزواج النبي شرقي المسجد وقليلة ، وقبل ، وشامية فاشتريت من ملاكها ورثة أزواجه وزيدت في المسجد ، فدخلت حجرة عائشة ، وكان الذي تولى ذلك عمر بن عبد العزيز نائب الوليد على المدينة فسد باب الحجرة وبنوا حائطاً آخر عليها غير الحائط القديم ، فصار المسلم عليه من وراء الجدار أبعد من المسلم عليه لما كان جداراً واحداً .(54/214)
قال هؤلاء : ولو كان سلام التحية الذي يرده على صاحبه مشروعاً في المسجد لكان له حد ذراع أو ذراعان ، أو ثلاثة فلا يعرف الفرق بين المكان الذي يستحب فيه هذا السلام والمكان الذي لا يستحب فيه ، فإن قيل : من سلم عليه عند الحائط الغربي رد عليه ، قيل : وكذلك من كان خارج المسجد ، وإلا فما الفرق حينئذ فيلزم أن يرد على جميع أهل الأرض ، وعلى كل مصل في كل صلاة كما ظنه بعض الغالطين ، ومعلوم بطلان ذلك ، وإن قيل : يختص بقدر بين المسلم وبين الحجرة ، قيل : فما حد ذلك وهم لهم قولان : منهم من يستحب القرب من الحجرة ، كما استحب ذلك مالك وغيره ، ولكن يقال فما حد ذلك القرب ، وإذا جعل له حد ، فهل يكون من خرج عن الحد فعل المستحب ، وآخرون من المتآخرون يستحبون التباعد عن الحجرة كما ذكر ذلك من ذكره من أصحاب أبي حنيفة والشافعي ، فهل هو يذراع ، أو باع أو أكثر وقدرة من قدره من أصحاب أبي حنيفة بأربعة أذرع ، فإنهم قالوا : يكون حين يسلم عليه مستقبل القبلة ويجعل الحجرة عن يساره ولا يدنوا أكثر من ذلك ، وهذا والله أعلم قاله المتقدمون ، لأن المقصود به السلام المأمور به في القرآن كالصلاة عليه ليس المقصود به سلام التحية الذي يرد جوابه المسلم عليه ، فإن هذا لا يشرع فيه هذا البعد ولا يستقبل به القبلة ولا يسمع إذا كان بالصوت المعتاد .(54/215)
وبالجملة : فمن قال أنه يسلم سلام التحية الذي يقصد به الرد فلا بد من تحديد مكان ذلك ، فإن قال : إلى أن يسمع ويرد السلام ، فإن حد في ذلك ذراعاً ، أو ذراعين أو عشرة أذرع ، أو قال : إن ذلك في المسجد كله ، أو خارج المسجد ، فلا بد له من دليل والأحاديث الثابتة عنه فيها أن الملائكة يبلغونه صلاة من صلى عليه وسلم من يسلم عليه ليس في شيء منها أنه يسمع بنفسه ذلك ، فمن زعم أنه يسمع ويرد من خارج الحجرة من مكان دون مكان ، فلا بد له من حد معلوم أنه ليس في ذلك حد شرعي ، وما أحد يحد في ذلك حداً إلا عورض بمن يزيده أو ينقصه ولا فرق .
وأيضاً فذلك يختلف باختلاف ارتفاع الأصوات وانخفاضها ، والسنة للمسلم في السلام عليه خفض الصوت ، ورفع الصوت في مسجده منهي عنه بالسلام والصلاة وغير ذلك بخلاف المسلم من الحجرة فإنه فرق ظاهر بينه وبين المسلم عليه من المسجد ثم السنة لمن دخل مسجده أن يخفض صوته فالمسلم عليه إذا رفع الصوت أساء الأدب برفع الصوت في المسجد وإن لم يرفع لم يصل الصوت إلى داخل الحجرة ، وهذا بخلاف السلام الذي أمر الله به ورسوله الذي يسلم الله على صاحبه ، كما يصلي على من صلى عليه ، فإن هذا مشروع في كل مكان لا يختص بالقبر .(54/216)
وبالجملة فهذا الموضوع فيه نزاع قديم بين العلماء وعلى كل تقدير فلم يكن عند أحد من العلماء الذين استحبوا سلام التحية في المسجد حديث في استحباب زيارة قبره يحتجون به ، فعلم أن هذه الأحاديث ليست مما يعرفه أهل العلم ، ولهذا لما تتبعت وجدت روايتها إما كذاب وإما ضعيف سيئ الحفظ ونحو ذلك ، كما قد بين في غير هذا الموضع ، وهذا الحديث الذي فيه : (( ما من مسلم يسلم علي إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام)) (1) ، قد احتج به أحمد وغيره من العلماء ، وقيل : هو على شرط مسلم وهو معروف من حديث حيوه من شريح المصري الرجل الصالح الثقة ، عن أبي صخر عن يزيد بن عبد الله بن قسيط ، عن أبي هريرة ، وأبو صخر هذا متوسط ، ولهذا اختلف فيه عن يحيى بن معين فمرة ، قال : هو ضعيف ، ووافقه النسائي ومرة قال : لا بأس به ووافقه أحمد .
__________
(1) تقدم الكلام عليه .(54/217)
فلو قدر أن هذا الحديث مخالف لما هو أصح منه وجب تقديم ذاك عليه ، ولكن السلام على الميت ورده السلام على من سلم عليه قد جاء في غير هذا الحديث، ولو أريد إثبات سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمثل هذا الحديث لكان هذا مختلفاً فيه فالنزاع في إسناده وفي دلالة متنه ، ومسلم روى بهذا الإسناد قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((من خرج مع جنازة من بيتها وصلى عليها ثم تتبعها حتى تدفن كان له قيراطان من الأجر كل قيراط مثل أحد ،ومن صلى عليها ثم رجع كان له من الأجر مثل أحد )) (1) وهذا الحديث قد رواه البخاري ومسلم وغيرهما من حديث أبي هريرة(2) وعائشة(3) من غير هذا الطريق ، ومسلم قد يروي عن الرجل المتابعات ما لا يرويه فيما انفرد به ، وهذا معروف منه في عدة رجال يفرق بين من يروي عنه ما هو معروف من رواية غيره وبين من يعتمد عليه فيما ينفرد به ، ولهذا كثير من أهل العلم يمتنعوا أن يقولوا في مثل ذلك : هو على شرط مسلم ، أو البخاري ، كما بسط هذا في موضعه .
__________
(1) الحديث أخرجه مسلم 2/653 عن محمد بن عبد الله بن نمير وأبو داود 3/516 عن هارون بن عبد الله وحسين بن عبد الله الهوري ثلاثتهم عن عبد الله بن يزيد المقرئ عن حيوة بن شريح عن أبي صخر حميد بن زياد عن يزيد بن عبد الله بن قسيط عن داود عن عامر بن سعيد بن أبي وقاص عن أبيه أنه قال كنت قاعداً عند عبد الله بن عمر إذ طلع خباب صاحب المقصورة فقال يا عبد الله بن عمر ألا تسمع ما يقول أبو هريرة إنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : .. فذكره .
(2) البخاري 3/192 ومسلم 2/653 .(54/218)
الوجه الثامن : من أنه لو كان في هذا الباب حديث صحيح لم يخف عن الصحابة والتابعين بالمدينة ، ولو كان ذلك معروف عندهم لم يكره أهل العلم بالمدينة مالك وغيره أن يقول القائل : زرت قبر النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلما كرهوا هذا القول دل على أنه ليس عندهم فيه أثر لا عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا عن أصحابه .
الوجه التاسع : إن الذين كرهوا هذا القول والذين لم يكرهوه من العلماء متفقون على أن السفر إلى زيارة قبره ، إنما هو سفر إلى مسجده ، ولو لم يقصد إلا السفر إلى القبر لم يمكنه أن يسافر إلا إلى المسجد ، لمن قد يختلف الحكم بينه كما تقدم ، وأما زيارة قبره كما هو المعروف في زيارة القبور ، فلهذا ممتنع غير مقدور ولا مشروع ، وبهذا يظهر أن الذين كرهوا أن يسموا هذا زيارة لقبره قولهم أولى بالصواب ، فإن هذا ليس زيارة لقبره ولا فيه ما يختص بالقبر ، بل كل ما يفعل فإنما هو عبادة تفعل في المساجد كلها أو في غير المساجد أيضاً ، ومعلوم أن زيارة القبر لها اختصاص بالقبر ، ولما كانت زيارة لقبره ، ولا فيه ما يختص بالقبر ، ولما كانت زيارة قبره المشروعة إنما هي سفر إلى مسجده وعبادة في مسجده ليس فيها ما يختص بالقبر كان قول من كره أن يسمي هذا زيارة لقبره أولى بالشرع والعقل واللغة ، ولم يبق إلا السفر إلى مسجده ، وهذا مشروع بالنص والاجماع ، والذين قالوا : يستحب زيارة قبره ، إنما أرادوا هذا فليس بين العلماء خلاف في المعنى ، بل في التسمية والإطلاق .
والمجيب لم يحك نزاعاً في استحباب هذه الزيارة الشرعية التي تكون في مسجده وبعضهم يسميها زيارة لقبره ، وبعضهم يكره أن تسمي زيارة لقبره والمجيب يستحب منا يستحب بالنص والإجماع وقد ذكر ما فيه النزاع كان الحاكي عند خلاف ذلك كاذباً مفترياً يستحق ما يستحقه أمثاله من المفترين .(54/219)
ثم حكى الشيخ عن المعترض المالكي أنه قال : وتضافرت النصوص عن الصحابة والتابعين ، وعن السادة العلماء المجتهدين بالحض على ذلك والندب إليه والغبطة لمن سارع لذلك وداوم عليه ، حتى نحا بعضهم في ذلك إلى الوجوب ، ورفعه عن درجة المباح والمندوب ، ولم يزل الناس مطبقين على ذلك قولاً وعملاً لا يشكون في ندبه ولا يبغون عنه حولاً .
وفي مسند ابن أبي شيبة : (( من صلى علي عند قبري سمعته ، ومن صلى علي نائباً سمعته))(1) قال الشيخ : هكذا في النسخة التي حضرت إلي مكتوبة عن المعترض ، وقد صحح على ( سمعه ) وهو غلط ، فإن لفظ الحديث من صلى علي عند قبري سمعته ، ومن صلى علي نائباً بلغته ، هكذا ذكره الناس ، وهكذا ذكره القاضي عياض عن ابن أبي شيبة وهذا المعترض عمدته في مثل هذا الكتاب القاضي عياض .
وهذا الحديث قد رواه البيهقي من حديث العلاء بن عمرو الحنفي ، حدثنا أبو عبد الرحمن ، عن الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : (( من صلى علي عند قبري سمعته ، ومن صلى علي نائباً بلغته )) قال البيهقي : أبو عبد الرحمن هذا هو محمد بن مروان السدي فيما أرى ، وفيه نظر وقد مضى ما يؤكده .
__________
(1) انظر سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة للشيخ ناصر حفظه الله تعالى حديث رقم 203 حديث استوفى البحث في هذا البحث فجزاه الله خيراً والأحاديث التي ذكرها المؤلف بعد هذا قد تقدمت .(54/220)
قلت (1): هو تبليغ صلاة أمته وسلامه عليه ، كما في الأحاديث المعروفة ، مثل الحديث الذي في سنن أبي داود عن حسين الجعفي ، حدثنا عبد الرحمن بن يزيد عن جابر عن أبي الأشعث الصنعاني ، عن أوس بن أوس الثقفي ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ((أفضل أيامكم يوم الجمعة فيه خلق آدم ، وفيه قبض وفيه النفخة ، وفيه الصعقة ، فأكثروا علي من الصلاة فيه فإن صلاتكم معروضة علي ، قالوا وكيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت ؟ يقولون : بليت ، فقال إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء )) .
وهذا الحديث رواه أبو داود والنسائي وابن ماجة ، ورواه أبو حاتم ، قال البيهقي : وله شواهد ، وروى حديثين عن ابن مسعود وأبي أمامة ، وله شواهد أجود مما ذكره البيهقي ، منها ما رواه ابن ماجه ، حدثنا عمرو بن سواد المصري ، حدثنا عبد الله بن وهيب ، عن عمرو بن الحارث ، عن سعيد بن أبي هلال ، عن زيد بن أيمن ، عن عبادة بن نسي عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (( أكثروا علي من الصلاة يوم الجمعة فإنه مشهود وتشهد الملائكة ، وإن أحداً لن يصلي علي إلا عرضت علي صلاته حتى يفرغ منها ، قال : قلت وبعد الموت ؟ قال وبعد الموت ، إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء)) ، ورواه أبو جعفر محمد بن جرير الطبري في تهذيب الآثار من حديث سعيد بن أبي هلال كما تقدم .
__________
(1) انظر الرد على الاختائي ، ص131 - 135 .(54/221)
ومنها ما رواه أبو داود وغيره ، عن أبي هريرة رضي الله عنه ، عن النبي أنه قال (( لا تجعلوا بيوتكم قبوراً ولا تجعلوا قبري عيداً وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم)) وهذا له شواهد مراسيل من وجوه مختلفة يصدق بعضها بعضاً ، منها ما رواه سعيد بن منصور في سننه ، حدثنا ، حبان بن علي ، حدثنا محمد بن عجلان عن أبي سعيد مولى المهري قال : قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم - : (( لا تتخذوا بيتي عيداً ولا بيوتكم قبوراً وصلوا علي حيثما كنتم فإن صلاتكم تبلغني )) .
وقال سعيد : حدثنا عبد العزيز بن محمد ، أخبرني سهيل بن أبي سهيل قال : رآني الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عند القبر فناداني وهو في بيت فاطمة يتعشى فقال : هلم إلى العشاء ، فقلت : لا أريده ، فقال مالي رأيتك عند القبر ؟ فقلت : سلمت على النبي- صلى الله عليه وسلم - ،فقال : إذا دخل المسجد فسلم عليه ، ثم قال : إن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (( لا تتخذوا بيتي عيداً ولا بيوتكم مقابر ، لعن الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيثما كنتم ، ما أنت ومن بالأندلس منه إلا سواء )) رواه إسماعيل بن إسحاق القاضي في كتاب فضل الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم -ولفظه : وقال : ما لي رأتيك وقفت ، قلت : وقفت أسلم على النبي- صلى الله عليه وسلم - ، فقال : (( إذ دخلت المسجد فسلم )) ، وذكر الحديث ولم يذكر قول الحسن ، وقال إسماعيل : حدثنا إبراهيم بن الحجاج ، عن وهيب ، عن أيوب السختياني قال : بلغني والله أعلم أن ملكاً موكل بكل من صلى على النبي - صلى الله عليه وسلم -حتى يبلغه النبي - صلى الله عليه وسلم - .(54/222)
وأما السلام ففي النسائي وغيره من حديث سفيان الثوري ، عن عبد الله بن السائب ، عن زاذان ، عن عبد الله بن مسعود ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : (( إن لله ملائكة سياجين يبلغونني عن أمتي السلام )) وفي الحديث الذي تقدم من رواية أبي يعلي الموصلي ، وقد تقدم إسناده عن علي بن الحسين أنه رأى رجلاً يجيء إلى فرجة كانت عند قبر النبي- صلى الله عليه وسلم - فيدخل فيها فنهاه ، وقال ألا أحدثكم حديثاً سمعته من أبي عن جدي ، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -قال : ((لا تخذوا بيتي عيداً ولا بيوتكم قبوراً ، فإن تسليمكم يبلغني أينما كنتم )).
فهذه الأحاديث المعروفة عند أهل العلم التي جاءت من وجوه حسان تصدق بعضها بعضاً ، وهي منفقة على أن من صلى عليه وسلم من أمته فإنه ذلك يبلغه ويعرض عليه ، وليس في شيء منها أنه يسمع صوت المصلي عليه والمسلم بنفسه ، إنما فيها إن ذلك يعرض عليه ويبلغه- صلى الله عليه وسلم - تسليماً ، ومعلوم أنه أراد بذلك الصلاة والسلام الذي أمر الله به ، سواء صلى عليه وسلم في مسجده ، أو مدينته ، أو مكان آخر ، فعلم أن ما أمر الله به من ذلك فإنه يبلغه .
وأما من سلم عليه عند قبره فإنه يرد عليه ، وذلك كالسلام على سائر المؤمنين ، ليس هو من خصائصه ولا هو السلام المأمور به الذي يسلم الله على صاحبه عشراً ، كما يصلي على من صلى عليه عشراً ، فإن هذا هو الذي أمر الله به في القرآن ، وهو لا يختص بمكان دون مكان ، وقد تقدم حديث أبي هريرة أنه يرد السلام على من سلم عليه ، والمراد عند قبره ، لكن النزاع في معنى كونه عند القبر هل المراد في بيته كما يراد مثل ذلك في سائر ما أخبر به من سماع الموتى ، إنما هو لمن كان عند قبورهم قريباً منها ، أو يراد به من كان في الحجرة ، كما قاله طائفة من السلف والخلف .(54/223)
وهل يستحب ذلك عند الحجرة لمن قدم من سفر أو لمن أراده من أهل المدينة أولاً يستحب بحال ، وليس الاعتماد في سماعه ما يبلغه من صلاة أمته وسلامهم إلا على هذه الأحاديث الثابتة ، فأما ذاك الحديث وإن كان معناه صحيحاً فإسناده لا يحتج به ، وإنما يثبت معناه بأحاديث أخر ، فإنه لا يعرف إلا من حديث محمد بن مروان السدي الصغير عن الأعمش كما ظنه البيهقي ، وما ظنه في هذا هو متفق عليه عند أهل المعرفة بالحديث ، وهو عندهم موضوع على الأعمش .
قال عباس الدوري عن يحيى بن معين(1) : محمد بن مروان ليس بثقة ، وقال البخاري(2) ، سكتوا عنه لا يكتب حديثه البته ، وبقال الجوزجاني : ذاهب الحديث ، وقال النسائي (3)، متروك الحديث ، وقال صالح جزره : كان يضع الحديث ، وقال أبو حاتم الرازي(4) والأزدي : متروك الحديث ، وقال الدارقطني(5) ، ضعيف وقال ابن حبان(6) : لا يحل كتب حديثه إلا اعتباراً ولا الاحتجاج به بحال ، وقال ابن عدي(7) ، عامة ما يرويه غير محفوظ والضعف على رواياته بين .
__________
(1) انظر ميزان الاعتدال 4/33 قال الذهبي ، قال ابن معين : ليس بثقة 4/33 وقال أحمد : أدركته قلت : وذكر كلام ابن معين صاحب الجرح والتعديل 8/86 وقد كبر فتركه وذكر له من أحاديثه الحديث المتقدم .
(2) التاريخ الصغير ص218 برقم 340 والكبير له 1/232 برقم 729 .
(3) الضعفاء والمتروكون للنسائي ص219 رقم 565 .
(4) الجرح والتعديل 8/86 قال : ذاهب الحديث متروك الحديث لا يكتب حديثه البته .
(5) الضعفاء والمتروكون للدارقطني ص344 برقم 470 .
(6) المجروحون 2/281 .
(7) الكامل 6/2267 .(54/224)
فهذا الكلام على ما ذكره من الحديث مع أنا قد بينا صحة معناه بأحاديث أخر ، وهو لو كان صحيحاً فإنما فيه أنه يبلغ صلاة من صلى نائباً ، ليس فيه أنه يسمع ذلك كما قد وجدته منقولاً عن هذا المعترض ، فإن هذا لم يقله أحد من أهل العلم ، ولا يعرف في شيء من الحديث ، إنما بقوله بعض الجهال يقولون : إنه يوم الجمعة وليلة الجمعة يسمع بأذنيه صلاة من صلى عليه ، فالقول : بأنه يسمع ذلك من نفس المصلي باطل ، وإنما في الأحاديث المعروفة أنه يبلغ ذلك ويعرض عليه ، وكذلك السلام تبلغه إياه الملائكة ، وقول القائل : إنه يسمع الصلاة من بعيد ممتنع ، فإنه إن أراد وصول صوت المصلي إليه ، فهذه مكابرة ، وإن أراد إنه هو يكون بحيث يسمع أصوات الخلائق من البعد ، فليس هذا إلا لله رب العالمين الذي يسمع أصوات العباد كلهم ، قال تعالى { أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا ِNخkِ‰y‰s9 يَكْتُبُونَ } (الزخرف 080) وقال : { مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ } (المجادلة 007) إلى قوله تعالى : { إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ $¸"ّx© إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ ب@ھ.uqtGuٹù=sù الْمُؤْمِنُونَ } (المجادلة 010)(54/225)
وليس أحد من البشر ، بل ولا من الخلق يسمع أصوات العباد كلهم ، ومن قال هذا في بشر فقوله من جنس قول النصارى ، الذين يقولون إن المسيح هو الله ، وإنه يعلم ما يفعله العباد ، ويسمع أصواتهم ويجيب دعاءهم ، قال تعالى : { لَقَدْ uچxےں2 الَّذِينَ (#ûqن9$s% إِن اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ ûسة_t7"tƒ ں@ƒدن¨uژَ خ) اعْبُدُوا اللَّهَ 'دn1u' وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ tPچxm اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا ڑْüدJد="©à=د9 مِنْ أَنْصَارٍ (72) لَقَدْ uچxےں2 الَّذِينَ (#ûqن9$s% إِن اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ س‰دn¨ur وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73) أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (74) مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ د&ح#ِ7s% الرُّسُلُ ¼çm-Bé&ur صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآَيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (75) قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا à7د=ôJtƒ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ مLىد=yèّ9$# } (المائدة 072-076)
فلا المسيح ولا غيره من البشر ، ولا أحد من الخلق يملك لأحد من الخلق ضراً ولا نفعاً ، بل ولا لنفسه ، وإن كان أفضل الخلق ، قال تعالى : { قُلْ 'دoTخ) لَا à7د=ّBr& لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا } (الجن 021) وقال تعالى : { قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي كûةî!#u"yz اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ } (الأنعام 050)(54/226)
وقال تعالى : { قُلْ لَا à7د=ّBr& لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ كNِژnYٍ6tGَ™]w مِنَ الْخَيْرِ وَمَا zسة_،،tB âنûq ،9$# إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ ضژچد±o0ur لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } (الأعراف 188)
وقوله : (( إلا ما شاء الله )) فيه قولان ، قيل : هو استثناء متصل ، وأنه يملك من ذلك ما ملكه الله وقيل : هو منقطع والمخلوق لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً بحال ، فقوله ((إلا ما شاء الله )) استثناء منطقة ، أي لكن يكون من ذلك ما شاء الله كقوله الخليل : { وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ 'دn1u' $Z"ّx© } (الأنعام 080) أي لا أخاف أن يفعلوا شيئاً لكن إن شاء الله ربي شيئاً كان ، وإلا لم يكن ، وإلا فهم لا يفعلون شيئاً .
وكذلك قوله : { وَلَا à7د=ôJtƒ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ } (الزخرف 086) { إِلَّا مَنْ y‰خky بِالْحَقِّ وَهُمْ tbqكJn=÷ètƒ } (الزخرف 086) فيه قولان أصحهما : أنه استثناء منقطع أي لكن من شهد بالحق تنفعه الشهادة وتنفع شفاعته كقوله : { وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ } (سبأ 023) وقال : { قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ } (الزمر 044) وبسط هذا له موضع آخر .(54/227)
قال الشيخ(1) : وأما ما ذكره من تضافر النقول عن السلف بالحض على ذلك وإطباق الناس عليه قولاً وعملاً ، فيقال : الذي اتفق عليه السلف والخلف وجاءت به الأحاديث الصحيحة هو السفر إلى مسجده ، والصلاة والسلام عليه في مسجده ، وطلب الوسيلة له ، وغير ذلك مما أمر الله به ورسوله ، فهذا السفر مشروع باتفاق المسلمين سلفهم وخلفهم وهذا هو مراد العلماء الذين قالوا إنه يستحب السفر إلى زيارة قبر نبينا - صلى الله عليه وسلم - ، لإن مرادهم بالسفر لزيارته هو السفر إلى مسجده ، وذكروا مناسك الحج أنه يستحب زيارة قبره ، وهذا هو مراد من ذكر الاجماع على ذلك كما ذكر القاضي عياض .
قال : وزيارة قبره سنة من المسلمين مجتمع عليه وفضيلة مرغب فيها ، فمرادهم الزيارة التي بينوها وشرحوها كما ذكر ذلك القاضي عياض في هذا الفصل ، فصل زيارة قبره .
قال : وقال إسحاق بن إبراهيم الفقيه ، وما لم يزل من شأن من حج المرور بالمدينة والقصد إلى الصلاة في مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - والتربك برؤية روضته ومنبره وقبره ومجلسه ، وملامس يديه ومواطئ قدمه والعمود الذي يستند إليه ، ونزل جبريل بالوحي عليه فيه وبمن عمره وقصده من الصحابة والتابعين وأئمة المسلمين والاعتبار بلك كله .
قلت : وذلك أن لفظ زيارة قبره ليس المراد بها نظير المراد بزيارة قبر غيره فإن قبر غيره يوصل إليه ويجلس عنده ويتمكن الزائر مما يفعله الزائرون للقبور عندها من سنة وبدعة ، وأما هو - صلى الله عليه وسلم - فلا سبيل لأحد أن يصل إلا مسجده لا يدخل أحد بيته ولا يصل إلى قبره ، بل دفنوه في بيته بخلاف غيره ، فإنهم دفنوه في الصحراء كما في الصحيحين عن عائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في مرض موته : (( لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد يحذر ما فعلوا )) (2) .
__________
(1) انظر الرد على الأختاني ص135-141 .
(2) تقدم تخريجه .(54/228)
قالت عائشة : ولولا ذلك لأبرز قبره ولكن كره أن يتخذ مسجداً ، فدفن في بيته لئلا يتخذ قبره مسجداً ولا وثناً ولا عيداً .
فإن في سنن أبي داود من حديث أحمد بن صالح عن عبد الله بن نافع أخبرني ابن أبي ذئب ، عن سعيد المقبري ، عن أبي هريرة : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( لا تجعلوا بيوتكم قبوراً ولا تجعلوا قبري عيداً وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم )) (1) وفي الموطأ وغيره عنه أنه قال : اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد (2).
وفي صحيح مسلم عنه أنه قال : قبل أن يموت بخمس : (( إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد ألا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك )) (3) فلكا لعن من يتخذ القبور مساجد تحذيراً لأمته من ذلك ونهاهم عن ذلك ونهاهم أن يتخذوا قبره عيداً ، دفن في حجرته لئلا يتمكن أحد من ذلك ، وكانت عائشة ساكنة فيها فلم يكن في حياتها أحد يدخل لذلك ، إنما يدخلون إليها هي : ولما توقيت لم يبق بها أحد ، ثم لما أدخلت في المسجد سدت وبني الجدار البراني عليها فما بقي أحد يتمكن من زيارة قبره كالزيارة المعروفة عند قبر غيره سواء كانت سنية أو بدعية ، بل إنما يصل الناس إلى مسجده ، ولم يكن السلف يطلقون على هذا زيارة لقبره ولا يعرف عن أحد من الصحابة لفظ زيارة قبره البتة ، ولم يتكلموا بذلك وكذلك عامة التابعين لا يعرف هذا في كلامهم ، فإن المعنى ممتنع عندهم ، فلا يعبروا عن وجوده ، وهو نهي عن اتخاذ بيته وقبره عيداً وسأل الله تعالى أن لا يجعل وثناً ، ونهى عن اتخاذ القبور مساجد فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : (( اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد )) (4).
__________
(1) تقدم تخريجه والكلام صفحة 122 حاشية (2 ) .
(2) تقدم الكلام عليه .
(3) انظر صحيح مسلم 1/377 ،
(4) تقدم تخريجه .(54/229)
ولهذا كره مالك وغيره أن يقال : زرنا قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ولو كان السلف ينطقون بهذا لم يكرهه مالك ، وقد باشر التابعين بالمدينة ، وهم أعلم الناس بمثل ذلك ، ولو كان في هذا حديث معروف عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لعرفة هؤلاء ولم يكرهه مالك وأمثاله من علماء المدينة الأخبار بلفظ تكلم به الرسول - صلى الله عليه وسلم - فقد كان رضي الله عنه يتحرى ألفاظ الرسول في الحديث ، فكيف يكره النطق بلفظه ؟
لكن طائفة من العلماء سموا هذا زيارة لقبره ، وهم لا يخالفون مالكاً ومن معه في المعنى ، بل الذي يستحبه أولئك من الصلاة والسلام وطلب الوسيلة ونحو ذلك ، في مسجد يستحبه هؤلاء ، لكن هؤلاء سموا هذا زيارة لقبره ، وأولئك كرهوا أن يسموا هذا زيارة لقبره .
وقد حدث من بعض المتأخرين في ذلك بدع لم يستحبها أحد من الأئمة الأربعة كسؤاله الاستغفار ، وزاد بعض جهال العامة ما هو محرم ، أو كفر بإجماع المسلمين كالسجود للحجرة والطواف بها وأمثال ذلك مما ليس هذا موضعه .
ومبدأ ذلك من الذين ظنوا أن هذا زيارة لقبره وظن هؤلاء أن الأنبياء والصالحين تزار قبورهم لدعائهم والطلب منهم واتخاذ قبورهم أوثاناً حتى قد يفضلون تلك البقعة على المساجد وأن بنى عليها مسجد فضلوه على المساجد التي بنيت لله وحتى قد يفضلون الحج إلى قبر من يعظمونه على الحج إلى البيت العتيق إلى غير ذلك مما هو كفر ورده عن الإسلام باتفاق المسلمين ، فالذي تضافرت به النقول عن السلف قاطبة وأطبقت عليه الأمة قولاً وعملاً عن السفر إلى مسجد المجاور لقبره والقيام بما أمر الله به من حقوقه في مسجده ، كما يقام بذلك في غير مسجده ، لكن مسجده أفضل المساجد بعد المساجد الحرام عند الجمهور .(54/230)
وقيل : إنه أفضل مطلقاً كما نقل عن مالك وغيره ، ولم يتطابق السلف والخلف على إطلاق زيارة قبره ، ولا ورد بذلك حديث صحيح ولا نقل معروف عن أحد من الصحابة ، ولا كان الصحابة المقيمون بالمدينة من المهاجرين فهذا لم يعرف عن أحد من الصحابة ، وقد ذكر مالك وغيره ، أن هذا من البدع التي لم تنقل عن السف ، وإن هذا منهي عنه .
وهذا الذي قاله مالك مما يعرفه أهل العلم الذين لهم عناية بهذا الشأن يعرفون أن الصحابة لم يكونوا يزورون قبره لعملهم بأنه قد نهى عن ذلك ، ولو كان قبره يزار كما تزار القبور ، قبور أهل البقيع والشهداء شهداء أحد لكان الصحابة يفعلون ذلك ، إما بالدخول إلى حجرته ، وإما بالوقوف عند قبره إذا دخلوا المسجد ، وهم لم يكونوا يفعلون لا هذا ولا هذا ، بل هذا من البدع كما بين ذلك أئمة العلم ، وهذا مما ذكره القاضي عياض ، وهو الذي قال : زيارة قبره سنة مجمع عليها ، وفضيلة مرغب فيها ، وهو في هذا الفضل ذكر عن مالك أنه كره أن يقال : زرنا قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وذكر فيه أيضاً قال مالك في المبسوط وليس يلزم من دخل المسجد أو خرج منه من أهل المدينة الوقوف بالقبر ، وإنما ذلك للغرباء ، وقال مالك في المبسوط أيضاً ، ولا بأس لمن قدم من سفر أو خرج إلى سفر أن يقف على قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - فيصلي عليه ويدعو له ولأبي بكر وعمر (1)، قيل له : فإن ناساً من أهل المدينة يقدمون من سفر ولا يريدون يفعلون ذلك في اليوم مرة أو أكثر ، وربما وقفوا في الجمعة أو الأيام المرة والمرتين أو أكثر عند القبر فيسلمون ويدعون ساعة ، فقال : لم يبلغني هذا عن أهل الفقه ببلدنا وتركه واسع ، ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها ، ولم يبلغني عن أول هذه الأمة وصدرها أنهم كانوا يفعلون ذلك
__________
(1) قلت هو معتمد على أثر ابن عمر أنه كان يفعل ذلك وسنده صحيح إلى ابن عمر ورواه مالك في الموطأ وتقدم تخريجه صفحة 60 حاشية ( 2 )(54/231)
، ويكره إلا لمن جاء من سفر أو أراده .
فقد بين مالك أنه لم يبلغ عن السلف من الصحابة المقيمين بالمدينة أنهم كانوا يقفون بالقبر عند دخول المسجد إلا لمن قدم من سفر ، مع أن الذي يقصد السفر فيه نزاع مذكور في غير هذا الموضع ، وقد ذكر القاضي عيا عن أبي الوليد الباجي أنه احتج لما كره مالك فقال : أهل المدينة مقيمون بها لم يقصدوها من أجل القبر والتسليم ، وقال : ((اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد ، أشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد )) وقال : (( لا تجعلوا قبري عيداً )) (1).
قلت : فهذا يبين أو وقوف أهل المدينة بالقبر هو الذي يسمى زيارة لقبره من البدع التي لم يفعلها الصحابة ، وإن ذلك منهي عنه بقوله : (( اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد )) وقوله : (( لا تتخذوا قبري عيداً)) ، وإذا كانت هذه الزيارة مما نهى عنها في الأحاديث ، فالصحابة أعلم بنهيه وأطوع له ، فلهذا لم يكن بالمدينة منهم من يزور قبره باتفاق العلماء ، وهذا الوقوف الذي يسميه غير مالك زيارة لقبره الذي بين مالك وغيره أنه بدعة لم يفعلها السلف هي زيارة مقصود صاحبها الصلاة والسلام عليه ، كما بين ذلك في السؤال لمالك .
لكن لما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (( لا تتخذوا قبري عيداً وصلوا علي حيثما كنتم ، فإن صلاتكم تبلغني )) وروي مثل ذلك في السلام عليه علم أنه كره تخصيص تلك البقعة بالصلاة والسلام ، بل يصلي عليه ويسلم في جميع المواضع وذلك واصل إليه .
__________
(1) تقدم الكلام عليهما .(54/232)
فإذا كان مثل هذه الزيارة للقبر بدعة منهياً عنها ، فكيف بمن يقصد ما يقصده من قبور الأنبياء والصالحين ليدعوهم ويستغيث بهم ليس قصده الدعاء لهم .ومعلوم أن هذا أعظم في كونه بدعة وضلالة فالسلف والخلف إنما تطابقوا على زيارة قبره بالمعنى المجمع عليه من قصد مسجده والصلاة فيه كما تقدم ، وهذا فرق بينه وبين سائر قبور الأنبياء والصالحين ، فإنه يشرع عند قبره لمسجده الذي أسس على التقوى .
فهذا السفر مشروع باتفاق المسلمين والصلاة مقصورة فيه باتفاق المسلمين ، ومن قال أن هذا السفر لا تقتصر فيه الصلاة ، ف،ه يستتاب فإنه تاب وإلا قتل ، وليس ذلك سفراً لمجرد الزيارة ، بل لابد أن يقصد إتيان المسجد والصلاة فيه ، وإن لم يقصد القبر ، فهذا يندرج في كلام المجيب حيث قال: أما من سافر لمجرد زيارة قبور الأنبياء والصالحين ، فهل يجوز له قصر الصلاة ؟
على قولين معروفين : فهو ذكر القولين فيمن سافر لمجرد قصد زيارة القبور ، أما من سافر لقص الصلاة في مسجده عند حجرته التي فيها قبره ، فهذا سفر مشروع مستحب باتفاق المسلمين ، وقد تقدم قول مالك للسائل الذي سأله عمن نذر أن يأتي قبر النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال : إن كان أراد مسجد النبي- صلى الله عليه وسلم - فليأته وليصل فيه ، وإن كان إنما أراد القبر فلا يفعل للحديث الذي جاء لا تعمل المطي إلا إلى ثلاث مساجد .
فالسائل سأله عمن نذر أن يأتي إلى قبر النبي- صلى الله عليه وسلم - ففصل مالك في الجواب بين أن يريد القبر أو المسجد ، مع أن اللفظ إنما هو أن يأتي القبر ، فعلم أن لفظ إتيان القبر وزيارة القبر والسفر إلى القبر ونحو ذلك يتناول من قصد المسجد ، وهذا مشروع ويتناول من لم يقصد إلا القبر ، وهذا منهي عنه كما دلت عليه النصوص وبينه العلماء مالك وغيره .(54/233)
فمن نقل عن السلف إنهم استحبوا السفر لمجرد القبر دون المسجد بحيث لا يقصد المسافر المسجد ، ولا الصلاة فيه ، بل إنما يقصد القبر كالصورة التي نهى عنها مالك فهذا لا يوجد في كلام أحج من علماء السلف استحباب ذلك فضلاً عن إجماعهم عليه .
وهذا الموضع يجب على المسلمين عامة وعلمائهم تحقيقه ومعرفة ما هو المشروع والمأمور به الذي هو عبادة الله وحده وطاعة له ولرسوله ، وبر وتقوى ، وقيام بحق الرسول وما هو شرك وبدعة منهي عنها لئلا يلتبس هذا بهذا ، فإن السفر إلى مسجد المدينة مشروع باتفاق المسلمين ، لكن إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى .
وقد تقدم عن مالك وغيره أنه إذا نذر إتيان المدينة إن كان قصده الصلاة في المسجد ، وإلا لم يوف بنذره ، وأما إذا نذر إتيان المسجد لزمه لأنه إنما يقصد الصلاة فلم يجعل السفر إلى المدينة سفراً مأموراً به إلا سفر من قصد الصلاة في المسجد ، وهو الذي يؤمر به الناذر بخلاف غيره لقوله- صلى الله عليه وسلم - : (( لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام ومسجدي هذا والمسجد الأقصى)) (1).
وجعل من سافر إلى المدينة أو إلى بيت المقدس لغير العبادة الشرعية في المسجدين سفراً منهياً عنه لا يجوز أن يفعله وأن نذره ، وهذا قول جمهور العلماء فمن سافر إلى مدينة الرسول ، أو بيت المقدس لقصد زيارة ما هناك من القبور ، أومن آثار الأنبياء والصالحين كان سفره محرماً عند مالك والأكثرين ، وقيل : أنه سفر مباح ليس بقربه كمال قاله طائفة من أصحاب الشافعي وأحمد وهو قول ابن عبد البر ، وما علمنا أحد علماء المسلمين المجتهدين الذين تذكر أقوالهم في مسائل الإجماع والنزاع ذكر أن ذلك مستحب .
__________
(1) تقدم تخريجه .(54/234)
فدعوى من ادعى أن السفر إلى مجرد القبور مستحب عند جميع علماء المسلمين كذب ظاهر ، وكذلك إن ادعى أن هذا قول الأئمة الأربعة ، أو جمهور أصحابهم أو جمهور علماء المسلمين فهو كذاب بلا ريب ،وكذلك إن ادعى أن هذا قول عالم معروف من الائمة المجتهدين ، وإن قال إن هذا قول بعض المتأخرين أمكن أن يصدق في ذلك ، وهو بعد أن تعرف صحة نقله نقل قولاً شاذاً مخالفاً لإجماع السلف مخالفاً لنصوص الرسول ، فكفى بقوله فساداً أن يكون قولاً مبتدعاً في الإسلام مخالفاً للسنة والجماعة لما سنه الرسول- صلى الله عليه وسلم - ولما أجمع عليه سلف الأمة وأثمتها .
والنقل عن علماء السلف يوافق ما قاله مالك فمن نقل عنهم ضد ذلك فقد كذب ، وأقل ما في الباب أن يجعل من طولب بصحة نقله والألفاظ المجملة والتي يقولها طائفة قد عرف مرادهم ، وعياض نفسه الذي ذكر أن زيارته سنة مجمع عليها قد بين الزيارة المشروعة في ذلك .
وقد ذكر عياض في قوله : (( لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد )) ما هو ظاهر مذهب مالك أن السفر إلى غيرها محرم فهو أيضاً يقول : أن السفر لمجرد زيارة القبور محرم كما قاله مالك وسائر أصحابه مع ما ذكره من استحباب الزيارة الشرعية مع ما ذكر من كراهة مالك أن يقول القائل : زرت قبر النبي- صلى الله عليه وسلم - والله أعلم .
قال المعترض(54/235)
الحديث التاسع : (( من حج حجة الإسلام وزار قبري وغزا غزوة وصلى علي في بيت المقدس لم يسأله الله عز وجل فيما افترض عليه ، رواه الحافظ أبو الفتح الأزدي في الثاني من فوائد ، أخبرنا به أبو النجم شهاب بن علي المحسني قراءة عليه وإنا اسمع بالقرافة الصغرى في سنة سبع وسبعمائة ، وأبو الفتح بن إبراهيم بقراءتي عليه سنة ثلاث وعشرين ، قالات : أنبأنا أبو محمد عبد الوهاب بن ظافر بن علي بن فتوح الأزدي المعروف بابن رواج ، قال : الأول سماعاً ، وقال : الثاني إجازة ، قال : أنبأنا الحافظ أبو طاهر أحمد بن محمد بن أحمد بن محمد بن إبراهيم بن سلفة السلفي الأصبهاني قراءة عليه ، وأنا أسمع أنبأنا أبو طالب عبدالقادر بن محمد بن يوسف بغداد ، أنبأنا أبو إسحاق إبراهيم بن عمر بن أحمد البرمكي ، أنبأنا أبو الفتح محمد بن الحسين بن أحمد الأزدي الحافظ .
حدثنا النعمان عن هارون بن أبي الدلهات ، حدثنا أبو سهل بدر بن عبد الله المصيصي ، حدثنا الحسن بن عثمان الزيادي ، حجثنا عمار بن محمد ، حدثي خال سفيان عن منصور ، عن إبراهيم ، عن علقمة ، عن عبدالله قال : قال رسول الله : (( من حجة الإسلام وزار قبري وغزا غزوة وصلى علي في بيت المقدس لم يسأله الله عز وجل فيما افترض عليه )) .(54/236)
قال عمار بن محمد بن أخت سفيان الثوري ، روى له مسلم والحسن بن عثمان الزيادي ، قال الخطيب ، كان أحد العلماء الأفاضل من أهل المعرفة والثقة والأمانة ولي قضاء الشرقية في خلافة المتوكل ، وذكره غير الخطيب أيضاً ، وكان صالحاً ديناً فهما قد عمل الكتب وكانت له معرفة بأيام الناس ، وله تاريخ حسن ، وكان كريماً واسعاً مفضالاً وأبو سهل بدر بن عبد الله المصيصي ما علمت من حاله شيئاً والنعمان بن هارون بن أبي الدلهان حدث ببغداد عن جماعة كثيرين ، وروى عنه محمد بن المظفر وعلي بن عمر السكري ، قال الخطيب : وما علمت من حالة إلا خيراً وصاحب الجزء أبو الفتح محمد بن الحسين بن أحمد بن الحسين بن عبد الله بن يزيد بن النعمان الأزدي الموصلي ، من أهل العلم والفضل ، كان حافظاً صنف كتاباً في علوم الحديث .
ذكر الخطيب في التاريخ وابن السمعاني في الأنساب أثنى عليه محمد بن جعفر بن علان ، وذكره بالحفظ وحسن المعرفة بالحديث ، وقال أبو النجيب الأرموي رأيت أهل الموصل يوهنونه جداً ولا يعدونه شيئاً ، وسئل البرقاني عنه فأشار إلى أنه كان ضعيفاً ، وذكر كلاماً أشد من هذا ، انتهى ما ذكره المعترض .
والجواب أن يقال : هذا الحديث موضوع على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -بلا شك ولا ريب عند أهل المعرفة بالحديث ،ولم يحدث به عبد الله بن مسعود قط ولا علقمة ، ولا إبراهيم ولا منصور ، ولا سفيان الثوري ، وأدنى من يعد من طلبة هذا العلم يعلم أن هذا الحديث مختلق مفتعل على سفيان الثوري ، وأنه لم يطرق سمعه قط ، وما كانت أظن أن الجهل بلغ بالمعترض إلى أن يروي مثل هذا الحديث الموضوع المكذوب ولا يبين أنه من الموضوعات المكذوبات ، بل يذكره في مقام الاحتياج والاعتماد أو الأعضاء والاستشهاد ويأخذ في ذكر الثناء على بعض رواته ومدحهم بما لا يغني شيئاً.(54/237)
ولقد افتضح واضع هذا الحديث حيث جعله عن سفيان الثوري ، عن منصور عن إبراهيم ولو جعله عن سفيان عن بعض شيوخه الضعفاء كان استر له ، وعمار بن محمد هو أبو اليقظان الكوفي وهو ابن أخت سفيان ، وهو بريء من عهده هذا الحديث ، وإن كان فيه كلام لبعض الأئمة.
وقال ابن حبان في كتاب المجروحين : عمار بن محمد بن أخت سفيان الثوري كنيته أبو اليقظان من أهل الكوفة يروي عن الأعمش والثوري ، روى عنه الحسن بن عرفة والعراقيون ، كان ممن فحش خطؤه وكثر وهمه حتى استحق الترك من أجله ، هكذا قال ابن حبان(1) ، وفي كلامه مبالغة ، وقد أثنى على عمار جماعة أعلم من ابن حبان ، وتكلم فيه بعضهم بكلام قريب ، وروى له مسلم في صحيحه ، قال إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني(2) ، سيف وعمار أبناء أخت سفيان الثوري ليسا بالقويين في الحديث ؛ قال الخطيب في التاريخ : أما سيف فقد ذكره غير واحد بالضعف ، وأما عمار فوثقوه ، ثم روى عن البخاري أنه قال : قال لي عمرو بن محمد : حدثنا عمار بن محمد أبو اليقظان ، وكان أوثق من سيف ، وروى عن يزيد بن الهيثمقال : سمعت يحيى بن معين يقول وعمار ابن أخت سفيان ليس به بأس وأخوه سيف كذاب وعمار أكبرهما وعن عباس بن محمد الجوري قال : سمعت يحيى بن معين يقول : سيف ابن أخت سفيان ليس بشيء ، وهو سيف بن محمد أخو عمار وعمار لم يكن به بأس (3).
__________
(1) انظر المجروحين لابن حبان 2/185 .
(2) انظرترجمة صفحة 70 حاشية رقم ( 2 )
(3) ترجمة عمار بن محمد بن أخت الثوري في تاريخ بغداد 12/252 وترجمة سيف بن أحمد ابن أخت الثوري 9/226 .(54/238)
وعن أحمد بن علي الأبار ،جدثنا علي بن حجر قال : كان عمار بن محمد ثبتاً ثقة وقال الأبار : سمعت أبا معمر يقول : عمار بن محمد ابن أخت سفيان ثقة وقال : الأبار سمعت عباد بن موسى يقول : بلغني عن سفيان الثوري ، قال : إن نحا أحد من أهل بيتي بعمار ، وقال عبد الرحمن بن أبي حاتم(1) ، سمعت الحسن بن عرفة ، وذكر عمار بن محمد فقال : كان لا يضحك ، وكنا لا نشك أنه من الأبدال ، وقال محمد بن سعيد : عمار بن محمد بن أخت سفيان الثوري توفي في المحرم سنة اثنين وثمانين ومائة في خلافة هارون ، وكان ثقة .
قال ابن أبي حاتم(2) ، سألت أبي عنه فقال : ليس به بأس يكتب حديثه ، قال وسألت أبا زرعة عنه فقال : ليس بقوي وهو أحسن حالاً من سيف ، فقد تبين بما ذكرناه عن هؤلاء الأئمة أن عمار بن محمد صدوق وأنه لا يستحق الترك ، وظهر أن كلام ابن حبان فيه مشتمل على المبالغة ،وتجاوز الحد فهو يرى من عهده هذا الحديث الموضوع الذي لم يصل إليه ، بل الحمل فيه على غيره ،وكذلك الحسن بن عثمان أبو حسان الزيادي ، بريء من عهدته أيضاً فإنه معروف بالصدق والأمانة ، والحمل في هذا الحديث على بدر بن عبد الله المصيصي الذي لم يعرف بثقة ولا عدالة ولا أمانة ، أو على صاحب الجزء أبي الفتح محمد بن الحسين الأزدي ، فإنه متهم بالوضع ، وإن كان من الحفاظ .
__________
(1) 6/393 قلت ونظر أيضاً الميزان .
(2) انظر الجرح والتعديل 3/25 وسير أعلام النبلاء 11/496 وتاريخ بغداد 7/356 ومعجم الأدباء 9/18 .(54/239)
قال الشيخ أبو الفرج بن الجوزي في كتاب الضعفاء (1): محمدبن الحسين بن أحمد أبو الفتح الأزدي الموصلي حدث عن أبي يعلي وابن جرير وغيرهما ، وكان حافظاص ولكن في حديثه مناكير وكانوا يضعفونه ، أخبرنا الفراء ، أنبأنا الخطيب ، قال : حدثني محمد بن صدقة الموصلي أن أبا الفتح وضع حديثاً ، وقد ذكره الخطيب في تاريخه(2) وذكر أن في حديثه مناكير وإن البرقاني ضعفه ، وأن أهل الموصل كانوا يضعفونه ولا يعدونه شيئاً وأنه اتهم بوضع الحديث ، ومن هذه حالة لا يعتمد على رويته ولا يحتج بحديثه ولا يخفى أن هذا الحديث الذي رواه في فوائد(3) موضوع مركب مفتعل إلا على من لا يدري علم الحديث ، ولا شم رائحته والله الموفق .
قال المعترض
الحديث العاشر : (( من زارني بعد موتي فكأنما زارني وأنا حي )) رواه أبو الفتوح سعيد بن محمد بن إسماعيل اليعقوبي في جزء له فيه فوائد مشتملة على بعض شمائل سيدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وآثاره وما ورد في فضل زيارته ودرجة زواره ، وهذا الجزء رواية المحدث إسماعيل بن عبد الله بن عبد المحسن الأنصاري المالكي المشهور بابن الأنماطي.
__________
(1) 3 /53 .
(2) 2 / 243 .
(3) صوابه ( فوائده ) .(54/240)
ونقلت من خطة قال : أنبأنا أبو عبد الله محمد بن علوان بن هبة الله بن ريحان الحوطي التكريتي الصوفي قراءة عليه وأنا أسمع عنه بالحرم الشريف على دكة الصوفية بجانب باب بني شيبة تجاه الكعبة المعظمة زادها الله شرفاً ، قال : حدثنا أبو الفتوح سعيد بن محمد بن إسماعيل السمعاني اليعقوبي في ربيع الأول سنة اثنين وخمسين وخمسمائة وقال : حدثنا الإمام ابن السمعاني ، ثنا أبو سعد أحمد بن محمد بن الحسن الحافظ إملاء في الروضة بين قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - ومنبره في الزورة الثانية ، أنبأنا أبو الحسين أحمد بن عبدالرحمن الذكواني ، أنبأنا أحمد بن موسى بن مردويه الحافظ ، حدثنا الحسن بن محمد السوسي ، أنبأنا أحمد أن سهل بن أيوب حدثنا خالد بن يزيد ، حدثنا عبدالله بن عمر العمري ، قال : سمعت سعيداً المقبري يقول :سمعت أبا هريرة رضي الله عنه يقول : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( من زارني بعد موتي فكأنما زارني وأنا حي ومن زارني كنت له شهيداً أو شفيعاً يوم القيامة )) .
قال المعترض خالد بن يزيد إن كان هو العمري ، فقد قال ابن حبان : أنه منكر الحديث ، وأحمد بن سهل بن أيوب أهوازي ، قال الصيريفيني : مات بالأهواز يوم التروية سنة إحدى وتسعين ومائتين .(54/241)
والجواب : أن يقال هذا حديث منكر لا أصل له ، وإسناده مظلم ، بل هو حديث موضوع على عبد الله العمري الصغير المكبر المضعف ، والحسن بن محمد السوسي وأحمد بن سهل بن أيوب الأهوازي ، يرويان المنكر لا يحتج بخبرهما ولا يعتمد على روايتهما ، وخالد بن يزيد هو العمري بلا شك، وهو متروك الحديث منهم بالكذب ، قال ابن أبي حاتم(1) ، خالد بن يزيد العمري وأبي العصر ثابت بن قيس ، سمعت أبي يقول ذلك ، روى عنه علي بن حرب الموصلي ، وكتب عنه أبو زرعة وترك الرواية عنه حدثنا علي بن الحسن الهسنجاني قال سمعت يحيى بن معين يقول : خالد بن يزيد العمري كذاب ، سئل أبي عنه فقال : كان كذاباً أتيته بمكة ولم أكتب عنه وكان ذاهب الحديث ، وقال أبو حاتم بن حبان في كتاب المجروحين (2): خالد بن يزيد العمري أبو الوليد شيخ كان يسكن مكة ينتحل مذهب الراي يروي عن الثوري منكر الحديث جداً أكثر من كتب عنه أصحاب الرأي لا يشتغل بذكره ، لأنه يروي الموضوعات عن الإثبات .
ثم ذكر له حدثنا في غزوة البحر ، وقال العقيلي(3) : خالد بن يزيد العمري الحذاء مولى لهم يحدثنا بالخطأ ، ويحكي عن الثقات ما لا أصل له ، وقال الأزدي : متروك الحديث.
وقال الدارقطني والبيهقي(4) : ضعيف ، وقال الحاكم أبو أحمد في الكنى : أبو الوليد خالد بن يزيد العمري المالكي : ذاهب الحديث .
__________
(1) 3 /360
(2) 1 /284
(3) 2 / 17 .
(4) 1 /228 السنن الكبرى .(54/242)
ثم روى عن محمد بن سليمان ، عن محمد يعني ابن إسماعيل البخاري قال خالد بن يزيد العمري مكي ذاهب الحديث(1) ، وقال أبو أحمد بن عدي في الكامل : خالد بن يزيد العدوي ابو الوليد وكان بمكة ، ثم ذكر له أحاديث وقال : ومقدار ما يرويه عمن رواه لا يتابع عليه ،وذكر روايته عن الثوري وإبراهيم بن سعيد وعمر بن صهبان وأبي العصر ثابت بن قيس ، ثم قال بعده ، خالد بن يزيد العمري المالكي يكنى أبا الهيثم ، ثم ذكر له أحاديث يرويها عن الثوري وابن جريج وابن أبي ذئب .
ثم قال : وله غير ما ذكرت أحاديث وعامتها مناكير ، وهكذا فرق بينهما وهو رجل واحد كنيته أبو الوليد على الأصح ، وهو ساقط الحديث منكره ، وقال ابن عدي : سمعت إبراهيم بن محمد بن عيسى الجهني يقول : سمعت موسى بن هارون الحمال يقول : مات العمري المسكي بمكة وهو ضعيف الحديث سنة تسع وعشرين ومائتين .
فإذا كانت هذه حال خالد بن يزيد العمري عند أئمة هذا الشأن فكيف يعتمد على حديث رواه ، أو يحتج بخبر هو في طريقه ، هذا لو كان الإسناد إليه واضحاً فكيف هو إسناد مظلم ، وقد ذكر له ابن عدي وغيره من الحفاظ أحاديث منكرة يستدل بها على ضعف روايته وسقوط خبره ، منها قال ابن عدي : حدثنا مكي بن عبدان ، حدثنا قطن بن إبراهيم ، حدثنا خالد بن يزيد ، حدثنا ابن أبي ذئب عن نافع عن ابن عمر قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (( من ولد له ثلاثة فلم يسم أحدهم محمداً فهو من الجفاء وإذا سميتموه محمداً فلا تسبوه ولا تجبهوه ولا تعيبوه ولا تضربوه وشرفوه وعظموه وأكرموه وبروا قسمه )) .
__________
(1) 3 / 184 ترجمة 622(54/243)
قال ابن عدي(1) ، هذا حديث منكر ، ومنها قال عبد الله بن محمد بن المنهال : حدثنا أحمد بن كبر أبو سعيد البالسي ، حدثنا خالد بن يزيد ، حدثنا ابن جريج عن عطاء ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (( من حفظ على أمتي أربعين حديثاً من السنة كنت له شهيداً يوم القيامة )) .
قال ابن عدي روي هذا الحديث عن ابن جريح مع خالد بن يزيد إسحاق بن نجيح الملطي(2) ، وهو شر منه .
ومنها قال ابن عدي(3) : أخبرنا محمد بن منير ، حدثنا علي بن حرب ، حدثنا خالد بن يزيد العدوي ، حدثنا إبراهيم بن سعد عن أبيه ، عن أبي سلمة عن أبي هريرة ، قال : طلع رسول الله- صلى الله عليه وسلم - ذات يوم بين أبي بكر وعمر قال :على حسبته ، قال : يده اليمنى على أبي بكر ، ويده اليسرى على عمر ، فقال : (( هكذا أبعث يوم القيامة بين هذين )) .
قال ابن عدي وهذا عن إبراهيم بن سعد عن أبيه بهذا الإسناد منكر ليس يرويه عن إبراهيم غير خالد بن يزيد ،وذكر له ابن عدي أحاديث منكرة غير هذه ، وفيما ذكره كفاية ودليل على رد حديثه وعدم قبول روايته والله سبحانه وتعالى أعلم .
قال المعترض
__________
(1) 3 / 890 .
(2) 3 /890 .
(3) لم يذكر في المطبوعة من الكامل وهذا مما يؤكد أن النسخة التي طبعتها دار افكر غير كاملة وهكذا يفعل أهل التجارة بالعلم لا يهمهم إلا المال سواة صدرت النسخة كاملة أو ناقصة ، وإلى الله المشتكى .
تنبيه : فرق ابن عدي في الكامل بين العدوي وأبي الوليد وبين العمري المكي أبي الهيثم وهما وأحمد نبه عليه الذهبي .(54/244)
الحديث الحادي عشر : (( من زارني بالمدينة محتسباً كنت له شفيعاً وشهيداً ) وفي رواية : (( من زارني محتسباً إلى المدينة كان في جواري يوم القيامة ، أنبأ الدمياطي وابن هارون وغيرهما قال : أنبأنا محمد بن هبة الله ، قال : أنبأنا علي بن الحسن الحافظ سماعاً أنبأنا زاهر ، أنبأنا البيهقي ، أنبأنا أبو سعيد بن أبي عمر ، قال الحافظ : أنبأنا أبو سعيد البغدادي ، أنبأنا أبو نصر محمد بن أحمد بن سيبويه ، أنبأنا أبو سعيد الصيرفي ، أنبأنا محمد بن عبد الله الصقار ، حدثنا ابن أبي الدنيا ، حدثني سعيد بن عثمان الجرجاني ، حدثنا محمد بن إسماعيل بن ابي فيدك ، أخبرني أبو المثنى سليمان بن يزيد الكعبي ، وفي حديث زاهر العتكي ، قال الحافظ : وأخبرنا ابن السمرقندي ، أنبأنا ابن مسعدة ، أنبأنا حمزة ، حدثنا أبو بكر محمد بن أحمد بن إسماعيل بجرجان ، حدثنا أبو عوانة موسى بن يوسف القطان ، حدثنا عباد بن موسى الختلي ، حدثنا ابن أبي فديك عن سليمان بن يزيد الكعبي ، عن أنس بن مالك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : (( من زارني بالمدينة محتسباً كنت له شفيعاً وشهيداً )) وفي حديث عباد : (( كنت له شهيداً أو شفيعاً ، وقالا : يوم القيامة )) .
وذكره ابن الجوزي في مثير العزم الساكن ، ومن خطة نقلت بسنده إلى ابن أبي الدنيا بإسناده المذكور ، وبالإسناد إلى البيهقي : أنبأنا أبو عبد الله الحافظ حدثنا بن عيسى ، حدثنا أحمد بن عبدوس بن حمدوية الصفار النيسابوري ،حدثنا أيوب بن الحسن ، حدثنا محمد بن إسماعيل بن أبي فديك بالمدينة ، حدثنا سليمان بن يزيد الكعبي ، عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (( من مات في أحد الحرمين بعث من الآمنين يوم القيامة ومن زارني محتسباً إلى المدينة كان في جواري يوم القيامة )) .(54/245)
هذه الأسانيد الثلاثة دارت على محمد بن إسماعيل ، أبي فديك وهو مجمع عليه وسليمان بن يزيد ، ذكره ابن حبان في الثقات ، وقال أبو حاتم الرازي : إنه منكر الحديث ليس بقوي ، انتهى ما ذكره .
والجواب أن يقال : هذا الحديث ليس بصحيح ولا ثابت ، بل هو حديث ضعيف الإسناد منقطع ، ولو كان ثابتاً لم يكن فيه دليل على محل النزاع ، ومداره على أبي المثنى سليمان بن يزيد الكعبي الخزاعي المديني وهو شيخ غير محتج بحديثه ، وهو بكنيته أشهر منه باسمه ، ولم يدرك أنس بن مالك فروايته عنه منطقة غير متصلة ، وإنما يروي عن التابعين وأتابعهم ، وقد ذكره ابن حبان في كتاب الثقات(1) في أتباع التابعين وذكره أيضاً في كتاب المجروحين ، قال في كتاب الثقات : سليمان بن يزيد أبو المثنى الكعبي من أهل المدينة يروي عن عمر بن طلحة ، روى عنه ابن أبي فديك ، هكذا ذكره .
وقال في كتاب المجروحين(2) : ابو المثنى شيخ يروي عن هشام بن عروة ، روى عنه عبد الله بن نافع الصائغ يخالف الثقات في الروايات ، لا يجوز الاحتجاج به ولا الرواية عنه إلا للاعتبار .
روى عن هشام بن عروة ، عن أبية عن عائشة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -قال : (( ما عمل ابن آدم من عمل يوم النحر أحب إلى الله عز وجل من هراقة دم )) وذكر الحديث .
ثم قال :حدثنا ابن سالم بيت المقدس عن أبيه عن عائشة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ((ما عمل ابن آدم من عمل يوم النحر أحب إلى الله عز وجل من هراقة دم )) وذكر الحديث.
ثم قال : حدثناه ابن سالم ببيت المقدس ، حدثنا عبد الرحمن بن إبراهيم ، حدثنا عبد الله بن نافع ، حدثنا أبو المثنى عن هشام بن عروة ، هكذا ذكره في كتاب المجروحين ولم يذكر اسمه ، قال الدارقطني في الحواشي على هذا الكتاب ، اسم ابي المثنى هذا سليمان بن يزيد الكعبي مديني ، وقال في كتاب العلل(3) : هو ضعيف .
__________
(1) 6 / 395 .
(2) 3 / 151 .
(3) لم يكمل بعد .(54/246)
وقال ابن أبي حاتم في كتاب الجرح والتعديل (1): سليمان بن يزيد أبو المثنى الكعبي الخزاعي المديني ، ثم ذكر أنه يروي عن سعيد المقبري ، وربيعة بن أبي عبد الرحمن ، ويحيى بن سعيد الأنصاري ، وعباد بن إسحاق ، وإسماعيل بن إبراهيم بن عقبة ، وأنه يروي عنه عبد الله بن نافع الصائغ وابن أبي فديك ، وابن وهب ، ثم قال : أبي يقول :أبو المثنى هذا منكر الحديث ليس بقوي .
وقال البخاري في تاريخه (2): سليمان بن يزيد الكعبي أبو المثنى المدني عن عمر بن طلحة وإبراهيم بن عبد الله بن سفيان سمع منه ابن أبي فديك قال : حسن ، حدثنا يحيى بن حسان ، حدثنا أبو المثنى سليمان بن يزيد الخزاعي ، حدثنا عباد بن إسحاق بن عبد الله بن كنانة القرشي عن أبي عبيدة بن محمد سأل جابراً عن المسح على الخفين فقال : سنة ، وقال النسائي في الكي أبو المثنى سليمان بن يزيد عن إسماعيل بن إبراهيم بن عقبة ، روى عنه ابن وهب ، وقال الحاكم : أبو أحمد في الكنى أبو المثنى سليمان بن يزيد بن قنفذ الخزاعي الكعبي المدني ، ثم ذكر أنه يروي عن سعيد المقبري ويحيى بن سعيد الأنصاري ، وعمر بن طلحة وأنه يروي عنه ابن أبي فديك ، ويحيى بن حسان وغيرهما .
وقال أبو عمر بن عبد البر في الكنى : أبو المثنى المدني روى عن هشام بن عروة اسمه سليمان بن يزيد ، روى عنه ابن أبي فديك ، وعبدالله بن نافع الصائغ .
__________
(1) 4 / 149 .
(2) 4 /42 رقم 1905 .(54/247)
فقد تبين أن ابن حبان تناقض في ذكره أبا المثنى في الكتابين كتاب الثقات وكتاب المجروحين ، وكأنه توهم أنه رجلان ، وذلك خطأ ، بل هو رجل واحد منكر الحديث غير محتج به لم يسمع من أنس ، بل روايته عنه منقطعة غير متصلة ، ولو فرض أن روايته عنه صحيحة متصلة ، وأنه من جملة الثقات المشهورين لم يكن في هذا الخبر الذي رواه حجة على جواز شد الرجال وإعمال المطي إلى مجرد زيارة القبر ، بل إنما فيه ذكر الزيارة فقط ، والمراد بها الزيارة الشرعية ، وتلك لا ينكرها شيخ الإسلام ، بل يندب إليها ويحض عليها ، كما تقدم ذكره غير مرة وبالله التوفيق .
قال المعترض
الحديث الثاني عشر : (( ما من أحد من أمتي له سعة ثم لم يزرني فليس له عذر )) قال الحافظ أبو عبد الله محمد بن محمود بن النجار في كتاب (( الدرة الثمينة في فضائل المدينة أنبأنا أبو محمد بن علي ، أنبأنا أبو يعلي الأزدي ، أنبأنا أبو إسحاق البجلي أنبأنا سعيد بن أبي سعيد النيسابوري ، أنبأنا إبراهيم بن محمد المؤدب ، أنبأنا إبراهيم بن محمد ، حدثنا محمد بن محمد ، حدثنا محمد بن مقاتل ، حدثنا جعفر بن هارون ، سمعان بن المهدي ، عن أنس قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (( من زارني ميتاً فكأنما زارني حياً ومن زار قبري وجبت له شفاعتي يوم القيامة وما من أحد من أمتي له سعة ثم لم يزرني وليس له عذر )) .(54/248)
هكذا ذكر المعترض هذا الحديث وخرس بعد ذكره فلم ينطق بكلمة ، وهو حديث موضوع مكذوب مختلف مفتعل مصنوع من النسخة الموضوعة المكذوبة الملصقة بسمعان المهدي قبح الله واضعها ، وإسنادها إلى سمعان ظلمات بعضها فوق بعض ، وأما سمعان فهو من الحيوانات التي لا تدري هل أوجدت أم لا ، وهذا المعترض إن كان لا يدري أن هذا الحديث من أقبح الموضوعات ، فهو من أجل الناس ، وإن كان يعلم إنه موضوع ثم يذكره في معرض الاحتجاج ويتكثر به ولا يبين حاله ، فهو داخل في قوله - صلى الله عليه وسلم - : (( من حدث عني بحديث وهو يرى أنه كذب فهو أحد الكذابين )) (1) فهو إما جاهل مفرط في الجهل ، أو معاند صاحب هوى متبع لهواه ، نعوذ الله من الخذلان .
قال أبو حاتم بن حبان البستي : حدثنا عبد الله بن محمد ، حدثنا إسحاق بن إبراهيم الحنظلي ، حدثنا النضر بن شميل ، حدثنا شعبة عن حبيب بن أبي ثابت قال : سمعت ميمون بن أبي شبيب يحدث عن المغيرة بن شعبة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : (( من روى عني حديثاً وهو يرى أنه كاذب فهو أحد الكاذبين )) .
__________
(1) رواه مسلم في المقدمة 1/9 متن من حديث سمرة وابن ماجه في المقدمة رقم 39وأحمد 5/20 وابن حبان 1/117 ، ورواه ابن ماجه رقم 38 ، ، 40 من حديث علي وبرقم 41 من حديث المغيرة بن شعبة وأحمد 4/252 ، 255 والحديث متواتر عن النبي عليه الصلاة والسلام بضع وستون صحابياً وجاء هذا الحديث من أكثر من مائة طريق .(54/249)
حدثنا عمران بن موسى بن مجاشع ، حدثنا عثمان بن أبي شيبة ، حدثنا وكيع حدثنا شعبة عن الحكم عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن سمرة بن جندب قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (( من حدث عني حدثنا وهوع يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين )) قال أبو حاتم : في هذا الخبر دليل على صحة ما ذكرنا أن المحدث إذا روى ، لم يصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم -مما تقول عليه ، وهو يعلم ذلك يكون كأحد الكاذبين ، على أن ظاهر الخبر ما هو أشد ، وذلك أنه قال - صلى الله عليه وسلم -: (( من روى عني حديثاً وهو يرى أنه كذب )) ولم يقل إنه يتيقن أنه كذب ، فكل شاك فيما يروي أنه صحيح ، أو غير صحيح داخل في ظاهر خطاب هذا الخبر ، ولو لم يتعلم التاريخ ، وأسماء الثقات والضعفاء ومن يجوز الاحتجاج بأخبارهم ممن لا يجوز إلا لهذا الخبر الواحد لكان الواجب على كل من ينتحل السنن أن لا يقصر في حفظ التاريخ حتى لا يدخل في جملة الكذبة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
وقد ذكر ابن حبان قبل هذا حديث جبير بن معطم ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (( نصر الله عبداً سمع مقالتي فوعاها ثم أرادها إلى من لم يسمعها )) (1) .
وحديث عبد الله بن عمر قال : قال رسول الله : (( بلغوا عني ولو آية وحدثوا عني بني إسرائيل ولا حرج ، ومن كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار )) (2) .
__________
(1) انظر 1/143-144 ، 2/35 والحديث أيضاً متواتر وللشيخ العباد كتاب في تخريج هذا الحديث وشرحه .
(2) أخرجه البخاري 6/496 والترمذي 5/40 وابن حبان 8/51 ، وأحمد 2/159-202-214 من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما .(54/250)
ثم قال ابن حبان في أمر رسول الله أمته بالتبليغ عنه من بعدهم مع ذكر إيجاب النار للكاذب عليه دليل على أنه إنما أمر بالتبليغ عنه ما قاله - صلى الله عليه وسلم - ، أو ماكان من سننه فعلاً أوة سكوتا عند المشاهدة لا إنه يدخل في قوله : (( نضر الله امرأ )) المحدثون بأسرهم ، بل لا يدخل في ظاهر هذا الخطاب إلا من أدى صحيح حديث رسول الله دون سقيمة ، وإني خائف على من روي ما سمع من الصحيح والسقيم أن يدخل في جملة الكذبة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا كان عالماً بما يروي .
ثم قال ابن حبان : حدثنا أحمد بن يحيى بن زهير بتستر ، حدثنا محمد بن الحسين بن أشكاب ، حدثنا علي بن حفص المدائني ، حدثنا شعبة عن خبيب بن عبد الرحمن ، عن حفص بن عاصم ، عن أبي هريرة قال : قال رسول - صلى الله عليه وسلم -: (( كفى بالمرء إثماً أن يحدث بكل ما سمع )) (1) .
قال أبو حاتم : في هذا الخبر زجر للمرء أن يحدث بكل ما سمع حتى يعلم على اليقين صحته ، ثم يحدث به دون ما لا يصح على حسب ما ذكرناه قبل .
قال المعترض
الحديث الثالث عشر : (( من زارني حتى ينتهي إلى قبري كنت له يوم القيامة شهيداً أو قال شفيعاً )) ذكره الحافظ أبو جعفر العقبلي في كتاب الضعفاء في ترجمة فضالة بن سعيد بن زميل المازني ، قال : حدثنا سعيد بن محمد الحضرمي ، حدثنا فضالة بن سعيد بن زميل المازني ، حدثنا محمد بن يحيى المازني عن ابن جريج ، عن عطاء ، عن ابن عباس قال : قال رسول - صلى الله عليه وسلم - : (( من زارني في مماتي كان كمن زارني في حياتي ، ومن زارني حتى ينتهي إلى قبري كنت له يوم القيامة شهيداً أو قاله شفيعاً )) .
__________
(1) رواه مسلم في المقدمة مسنداً ومرسلاً وأبو داود 5/265-266 وابن حبان 1/118 مسنداً ، وقد رجح الدارقطني إرساله .(54/251)
وذكره الحافظ ابن عساكر من جهته أيضاً : أنبأنا به أبو محمد الدمياطي ، عن ابن هبة الله بسماعه منه قال : (( أنبأنا أبو البركات عبد الوهاب بن المبارك الأنماطي ، أنبأنا أبو بكر محمد بن المظفر الشامي ، أنبأنا أبو الحسن أحمد بن محمد العتيقي ، أنبأنا أبو يعقوب يوسف بن أحمد الصيدلاني ، حدثنا أبو جعفر محمد بن عمرو العقيلي ، فذكره بإسناد إلا أنه قال : (( من زارني في المنام كان كمن زارني في حياتي )) والباقي سواء.
ووقع في روايته أيضاً شعيب بن محمد الحضرمي ، ولعله تصحيف ، وفضالة بن سعيد ، قال العقيلي في ترجمته ، حديثه غير محفوظ لا يعرف إلا به . هكذا رأيته في كتاب العقيلي .
وذكر الحافظ بن عساكر عنه أنه قال : لا يتابع على حديثه من جهة تثبت ولا يعرف إلا به ، ومحمد بن يحي المازني ذكره ابن عدي في كتاب الكامل وقال : إن أحاديثه مظلمة منكرة ، ولم يذكر ابن عدي هذا الحديث في أحاديثه ولم يذكر فيه ولا العقيلي في فضالة شيء من الجرح سوى التفرد والنكارة ، انتهى ما ذكره المعترض على هذا الحديث .
وهو حديث منكر جداً ليس بصحيح ، ولا ثابت ، بل هو حديث موضوع(1) ابن جريح ، وقد وقع تصحيف في متنه و في إسناده .
أما التصحيف في متنه فقوله : (( من زارني )) من الزيارة وإنما هو (( من رآني في المنام كان كمن زارني ف يحياتي ( هكذا رأيته في كتاب العقيلي في نسخه ابن عساكر (من رآني ) من الرؤية وعلى هذا يكون معناه معنى الحديث الصحيح : ( من زارني في المنام فقد رآني لأن الشيطان لا يتمثل بي ) وفي رواية : ( من رآني في المنام فسيراني في اليقظة ،أو فكأنما في اليقظة لا يتمثل الشيطان بي ) .
وأما التصحيف في اسنادة فقوله : سعيد بن محمد الحضرمي ، والصواب شعيب بن محمد ، كما في رواية ابن عساكر .
__________
(1) سقطت لفظ (علي ) وصوابه : موضوع على ابن جريج .(54/252)
والحديث ليس بثابت على كل حال ، سواء كان بلفظ الزيادة ، أو الرؤية ، ورواية فضالة بن سعيد بن زميل المازني شيخ مجهول لا يعرف له ذكر إلا في هذا الخبر الذي تفرد به ولم يتابع عليه.
وأما محمد بن يحيى المازني ، فإنه شيخ معروف لكنه مختلف في عدالته ، وقد ذكره ابن عدي في كتاب الضعفاء(1) ، وقال : وهو منكر الحديث .
ثم قال : حدثنا محمد بن هارون بن حميد ، حدثنا محمد بن إبان البلخي ، حدثنا خطاب بن عمرو الهنداني الصنعاني ، قال : حدثني محمد بنيحيى المازني عن موسى بن عقبة عن نافع ، عن ابن عمر قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( أربع محفوظات وسبع ملعونات )) .
فأما المحفوظات : فمكة ، والمدينة ، وبيت المقدس ، ونجران .
وأما الملعونات : فبرذعة ، وصهب أو صهر ، وصعدة ، ويافث ، وبكلا ، ودلان ، وعدن .
قال ابن عدي (2): وهذا منكر بهذا الإسناد ، وروي له حديثاً آخر ثم قال : وإنما ذكرت محمد بن يحيى لأن أحاديثه مظلمة منكرة ، ولم يذكر ابن عدي في ترجمته هذا الحديث الذي ذكره العقيلي في ترجمة فضالة بن سعيد ، والأولى ذكره في ترجمة فضالة كما فعل ، ولا نعلم أحداً روى هذا الحديث غير العقيلي في كتاب الضعفاء ، أو من ذكره من طريقة والله أعلم .
قال المعترض
الحديث الرابع عشر : (( من لم يزر قبري فقد جفاني )) قال أبو الحسن يحيى بن الحسن بن جعفر الحسيني في كتاب أخبار المدينة ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثني أبو أحمد الهمداني ، حدثنا النعمان بن شبل ،حدثنا محمد بن الفضل المديني سنة ست وسبعين عن جابر عن محمد بن علي ، عن علي رضي الله عنه قال : قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم - : (( من زار قبري بعد موتي فكأنما زارني في حياتي ولم يزرني فقد جفاني )) .
__________
(1) 6/2238 صوابه محمد بن يحيى بن قيس الماربي كما قال ابن عدي وذكره صاحب الأنساب 5/161 .
(2) 6 / 2238 .(54/253)
وقال الحافظ أبو عبد الله بن النجار في الدرة الثمينة : روى عن علي رضي الله عنه أنه قال : رسول الله : - صلى الله عليه وسلم - : (( من لم يزر قبري فقد جفاني )) ،وقال أبو سعيد عبد الملك بن محمد بن إبراهيم بن أبي طالب رضي الله عنه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ((من زار قبري بعد موتي فكأنما زارني في حياتي ، ومن لم يزر قبري فقد جفاني )) وهذا الكتاب في ثمان مجلدات ،ومصنفه عبد الملك النيسابوري ، صنف في علوم الشريعة كتاباً ، توفي سنة ست وأربعمائة بنيسابور وقبره بها مشهور يزار ويترك به (1)، وشيخه في الفقه أبو الحسن الماسرجسي . انتهى ما ذكره المعترض .
والجواب : أن يقال : هذا الحديث من الموضوعات المكذوبة على علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، والنعمان بن شبل بشيء ، ولا يعتمد عليه (2)، ومحمد بن الفضل بن عطية(3)
__________
(1) صزابه ( وتبرك به )
(2) تقدم الكلام عليه عند ذكر المعترض للحديث الخامس .
(3) انظر ترجمته في العلل لأحمد 3/396 برقم 5744 وفي 2/549 رقم 3601 قال فيه : حديثه حديث أهل الكذب .
وقال البخاري فيه سكتوا عنه : انظر الضعفاء ص217 وقال الذهبي : تركوه انظر الكشاف 3/79 وقال الميزان 4/6 : مناكير هذا الرجل كثيرة لأنه صاحب حديث ، وقال ابن معين ليس بشيء ، انظر التاريخ 4/355 وقال ابن أبي حاتم ، ذاهب الحديث ترك حديثه ، انظر الجرح والتعديل 8/57 .
وقال الحافظ ابن حجر في التقريب : كذبوه 2/200 .
قال فيه البخاري في الضعفاء الصغير : تركه يحيى بن مهدي قال : وقال بيان سمعت يحيى بن سعيد يقول : تركنا جابراً قبل أن يقدم عليها الثوري وقال أبو سعيد الحر : سمعت يحيى بن سعيد عن إسماعيل بن أبي خالد قال : قال الشعبي : يا جابر لا تموت حتى تكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم ،وقال إسماعيل : فما مضت الأيام والليالي حتى اتهم بالكذب .
وقال النسائي في الضعفاء : متروك وانظر التاريخ الكبير للبخاري 2/210 والمجروحين لابن حبان 1/208 والكاشف للذهبي 1/122 والميزان 1/379 والتهذيب 2/46 .(54/254)
، كذاب مشهور بالكذب ووضع الحديث ، وجابر هو الجعفي ولم يكن بثقة (1) ومحمد علي أبو جعفر الباقر(2)، ولم يدرك جد أبيه علي بن أبي طالب ، فلو كان الإسناد صحيحاً إليه كانت روايته عن علي منقطعة ، فكيف والإسناد إليه ساقط مظلم ، وقد تقدم ذكر هذا الحديث وبيان حاله ، وكلام الأئمة في رواية بما فيه كفاية والله أعلم .
ثم قال المعترض : وقد روى حديث علي رضي الله عنه من طريق أخرى ليس فيه تصريح بالرفع ، ذكر هذا ابن عساكر ، أنبأنا عبد المؤمن وآخرون عن ابن الشيرازي ، أنبأنا ابن عساكر ، حدثنا أبو العز أحمد بن عبد الله ، أنبأنا أبو محمد الجوهري ، أنبأنا علي بن محمد بن أحمد بن نصير بن عرفة ، حدثنا محمد بن إبراهيم الصلحي ، حدثنا منصور بن قدامة الواسطي ، حدثنا المضاء بن الجارود ، حدثنا عبد الملك بن هارون بن عسرة عن أبيه ، عن جده ، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : من سأل لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - الدرجة الوسيلة حلت له الشفاعة يوم القيامة ، ومن زار قبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان في جوار رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
قلت : وهذا من المكذوبات أيضاً على علي رضي الله عنه ، وعبد الملك بن هارون بن عسرة متهم بالكذب ووضع الحديث .
قال أبو حاتم بن حباب(3) في كتاب المجروحين(4) : كان ممن يضع الحديث لا يحل كتب حديثه إلا على جهة الاعتبار ، وهو الذي روى عن أبيه عن جده عن علي قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( أربعة أبواب من أبواب الجنة مفتحة في الدنيا أولها ، الإسكندرية وعسقلان وقزوين ، وعبدان ، وفضل جدة على هؤلاء كفضل بيت الله الحرام على سائر البيوت )) .
__________
(2) قال الحافظ في التقريب : ثقة فاضل ، وانظره في التهذيب 9/350 والثقات للعجلي ص410 رقم 1486 .
(3) صوابه ابن حبان
(4) 2/133 .(54/255)
قال البخاري في تاريخه(1) : عبد الملك بن هارون بن عنترة بن عبد الرحمن الشيباني منكر الحديث ، وهكذا قال في كتاب الضعفاء (2)، ثم روي له حديث : (( من حفظ على أمتي أربعين حديثاً من أمر دينها بعثه الله يوم القيامة فقيهاً شافعاً وشهيداً ))
وقال عبد الله بن الإمام أحمد بن حنبل سمعت أبي يقول(3) : عبد الملك بن هارون بن عنترة ضعيف الحديث ، وقال عباس الدوري عن يحيى بن معين(4) عبد الملك بن هارون بن عنترة كذاب ، وقال أبو حاتم الرازي(5) : متروك الحديث ذاهب الحديث ، وقال الجوزجاني (6): دجال ، كذاب ، وقال أبو عبد الرحمن النسائي(7) ، وأبو بشر الدولابي(8): متروك الحديث ، وقال الحاكم : روي عن أبيه أحاديث موضوعة .
__________
(1) 5/4386 رقم 1433 .
(2) ص 148 رقم 218 ,
(3) انظر في العلل 2/371 رقم 2648 بتحقيق وصي الله عباس .
(4) انظر برقم 1688 من تاريخ ابن معين .
(5) 5/374 .
(6) ص68 رقم 77 .
(7) ص166 رقم 405 .
(8) وانظر أيضاً الميزان 2/666 واللسان 4/71 والمغني 2/409 .(54/256)
وقال أبو بكر البرقاني : سألت الدارقطني(1) عن عبد الملك بن هارون بن عنترة قال : متروك يكذب ، وأبوه يحتج به وجده يعتبر به حدث عن علي ، وقال ابن عدي(2) في ترجمة عبد الملك بن هارون : حدثنا محمد بن أبي علي الخوارزمي ، حدثنا الحسن بن محمد بن رافع البغدادي عن عبد الملك بن هارون بن عنترة ، عن سفيان الثوري ، عن يحيى بن سعيد ، عن سعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( من قال للمسكين أبشر فقد وجبت له الجنة )) قال ابن عدي ، وهذا حديث باطل بهذا الإسناد ، قال: وعبد الملك بن هارون له أحاديث ، عن أبيه ، عن جده ، عن الصحابة لا يتابعه عليها أحد فقد تبين أن ما روي عن علي في هذا الباب مرفوعاً وموقوفاً ليس له أصل ، بل هو من الكذب المفترى عليه والله أعلم .
قال المعترض
الحديث الخامس عشر : من أتى المدينة زائراً ، قال يحيى الحسيني في أخبار المدينة في باب ما جاء في زيارة قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - وفي السلام عليه حدثنا محمد بن يعقوب ، حدثنا عبد الله بن وهب عن رجل عن بكير بن عبد الله ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : (( من أتى المدينة زائراً لي وجبت له شفاعتي يوم القيامة ومن مات في أحد الحرمين بعث آمناً )) .
قال وقد وردت أحاديث أخرى في ذلك منها من لم يمكنه زيارتي فليزر قبر إبراهيم الخليل عليه السلام ، وسأذكر ذلك إن شاء الله تعالى في الكلام على زيارة سائر الأنبياء والصالحين ، انتهى ما ذكره المعترض .
وهذا آخر الأحاديث التي ذكرها في الباب الأول وهو حديث باطل لا اصل له وخبر معضل لا يعتمد على مثله ، وهو من أضعف المراسيل وأوهى المنقطعات ، ولو فرض أنه من الأحاديث الثابتة لم يكن فيه دليل على محل النزاع .
__________
(1) في الضعفاء والمتروكين له ص125 رقم 362 قال يروي عن أبيه وأبوه أيضاً متروك .
(2) انظر الكامل 5/1942 .(54/257)
أما ما ذكره من قوله : (( من لم يمكنه زيارتي فليزر قبر إبراهيم الخليل )) فإنه من الأحاديث المكذوبة والأخبار الموضوعة وأدنى من يعد من طلبة العلم بعلم أنه حديث موضوع وخبر مفتعل مصنوع ، وأن ذكر مثل هذا الحديث المكذوب من غير تبيين لحالة القبيع بمن ينتسب إلى العلم .
فقد تبين أن جميع الأحاديث التي ذكرها المعترض في هذا الباب ليس فيها حديث صحيح ، بل كلها ضعيفة أو موضوعة لا أصل لها ، وكم من حديث له طرق أضعاف هذه الطرق التي ذكرها المعترض ، وهو موضوع عند أهل هذا الشأن فلا يعتبر بكثرة الطرق وتعددها ، وإنما الاعتماد على ثوبتها وصحتها .
والحاصل : أن ما سلكه المعترض من جميع الطرق في هذا الباب وتصحيح بعضها واعتماده عليه ، وجعل بعضها شاهداً لبعض ومتابعاً له ، هو مما تبين خطوة فيه ، وظهر تعصبه وتحامله في فعله ، وأن ما ذهب إليه شيخ الإسلام من تضعيفها وردها وعدم قبولها هو الصواب ، وقد قال في كتاب ( اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم )) (1) .
ولم يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حديث واحد في زيارة قبر مخصوص ، ولا روي في ذلك شيئاً لا أهل الصحاح ، ولا السنن ولا الأئمة المصنفون في المسند كالإمام أحمد وغيره(2) .
__________
(1) انظر 2/764 بتحقيق الدكتور ناصر عبد الكريم العقل .
(2) قال الإمام النووي رحمه الله تعالى في كتابه المجموع شرح المهذب 8/481 في هذا الحديث: وهذا باكل ليس هو مروياً عن النبي عليه الصلاة والسلام ولا يعرف في كتاب صحيح ولا ضعيف بل وضعه بعض الفجرة .(54/258)
وإنما روى ذلك من جمع الموضوع وغيره ، وأجل حديث روي في ذلك رواه الدارقطني وهو ضعيف باتفاق أهل العلم ، بل الأحاديث المروية في زيارة قبره كقوله ((من زارني وزار أبي إبراهيم الخليل في عام واحد ضمنت له على الله الجنة )) (1) ومن زارني بعد مماتي فكأنما زارني في حياتي ومن حج ولم يزرني فقد جفاني )) ونحو هذه الأحاديث كلها مكذوبة موضوعة .
__________
(1) تقدم الكلام على هذين الحديثين وهما يحدثنان موضوعان النظر الفوائد المجموعة للشوكاني ص117 - 118 وكشف الخفا 2/346 ، 347 ، 348 والمقاصد الحسنة ص427-428 .(54/259)
ولكن النبي - صلى الله عليه وسلم - رخص في زيارة القبور مطلقاً بعد أن كان قد نهى عنها كما ثبت عنه في الصحيح أنه قال : (( كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها )) (1) وفي الصحيح إنه قال : استأذنت ربي في أن استغفر لأمتي فلم يأذن لي واستأذنته في أ، أزور قبرها فأذن لي فزوروا القبور فإنها تذكركم الآخرة(2) ، فهذه زيارة لأجل تذكر الآخرة ، ولهذا يجوز زيارة قبر الكافر لأجل ذلك ، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يخرج إلى البقيع ويسلم على موتى المسلمين ويدعو لهم(3) ، فهذه زيارة مختصة بالمسلمين كما أن الصلاة على الجنازة تختص بالمؤمنين ،وقد استفاض عنه في الصحيح أنه قال : لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد يحذر ما فعلوا قالت عائشة ، ولولا ذلك لأبرز قبره ، ولكن كره أن يتخذ مسجداً(4) .
وفي الصحيح أنه ذكرت له أم سلمة كنيسة بأرض الحبشة وذكرت من حسنها وتصاوير فيها فقال : أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح أو العبد بنوا على قبرة مسجداً وصوروا فيه تلك التصاوير أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة(5) .
__________
(1) رواه مسلم 2/672 عن بريده وفي رواية لأحمد 5/361 والنسائي 4/89 فمن أراد أن يزور فليزر ولا تقولوا هدراً ، وانظر أيضاً الموطأ 2/458 والأم للشافعي 1/278 ورواه أحمد أيضاً 1/145 من حديث علي رضي الله عنه .
(2) رواه مسلم من حديث أبي هريرة 2/671 ورواه أبو داود 3234 والنسائي 4/90 وابن ماجه رقم 1572 .
(3) تقدم الكلام على بعض أحاديث الزيارة صفحة 30 حاشية (1) .
(4) رواه البخاري 1/532 فتح ومسلم 1/377 ( ولولا ذلك لابرز قبره ولكن كره أن يتخذ مسجداً ) هذه الزيادة رواها البخاري 3/200 ومسلم 1/376 .
(5) أخرجه البخاري 1/523 ورقم 434 ، 1341 ، 3878 ومسلم 1/375 من حديث أم سلمة وأم حبيبة .(54/260)
وفي صحيح مسلم عن جندب بن عبد الله قال : سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل أن يموت بخمس وهو يقول : إني أبرأ إلى أن يكون لي منكم خليل فإن الله قد اتخذني خليلاً ، كما اتخذ إبراهيم خليلاً ، ولو كنت متخذاً من أمتي خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً ، إلا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك(1).
وفي السنن عنه قال : (( لا تتخذوا قبري عيداً وصلوا علي حيثما كنتم فإن صلاتكم تبلغني(2) ، وفي الموطأ وغيره عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد(3) ، وفي المسجد وصحيح أبي حاتم عن ابن مسعود عنه - صلى الله عليه وسلم - قال : أن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء والذين يتخذون القبر مساجد(4) .
__________
(1) انظر 1/377 ، 378 .
(2) تقدم الكلام عليه والزيادة فيه ( ما أنتم ومن بالأندلس إلا سواء ) من كلام الحسن لا من كلام النبي عليه الصلاة والسلام وانظر كشف الأستار رقم 707 .
(3) رواه أحمد في مسنده 2/246 ورواه مالك مرسلاً 1/172 .
(4) رواه أحمد في مسند 1/435 ورواه عبد الرزاق في مصنفه 1/405رقم 1586 قال : وأحسب أن معمراً رفعه .(54/261)
ومعنى هذه الأحاديث متواتر عنه - صلى الله عليه وسلم - بأبي هو وأمي ،ـ وكذلك عن أصحابه ، فهذا الذي نهى عنه من اتخاذ القبور مساجد مفارق ، لما أمر به وشرعه من السلام على الموتى والدعاء لهم ، فالزيارة المشروعة من جنس الثاني ، والزيارة المبتدعة من جنس الأول ، فإن نهيه عن اتخاذ القبور مساجد يتضمن النهي عن بناء المساجد عليها ، وعن قصد الصلاة عندها ، وكلاهما منهي عنه باتفاق العلماء فإنهم قد نهوا عن بناء المساجد على القبور ، بل صرحوا بتحريم ذلك كما دل عليه النص ، واتفقوا أيضاً على أنه لا يشرح قصد الصلاة والدعاء عند القبور ، ولم يقل أحد من أئمة المسلمين أن الصلاة عندها والدعاء عندها أفضل منه في المساجد الخالية عن القبور ، بل اتفق علماء المسلمين على أن الصلاة والدعاء في المساجد التي لم تبنى عند القبور أفضل من الصلاة والدعاء في المساجد التي بنيت على القبور ، بل الصلاة والدعاء في هذه منهي عنه مكروه باتفاق ، وقد صرح كثير منهم تحريم ذلك بل وبإبطال الصلاة فيها ، وإن كان في هذا نزاع ، ثم بسط الشيخ القول في ذلك بسطاً شافياً والله سبحانه الموفق للصواب .
الباب الثاني
فيما ورد من الأخبار والأحاديث دالاً على فضل الزيارة ، وإن لم يكن فيه لفظ الزيارة .
قال المعترض(54/262)
روينا في سنن أبي داود السجستاني عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : ((ما من أحد يسلم علي إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام )) ثم ذكر المعترض إسناده إلى أبي داود في صفحة ، وأنه رواه عن محمد بن عوف حدثنا المقري ، حدثنا حيوة عن أبي صخر حميد بن زياد ، عن يزيد بن عبد الله بن قسيط عن أبي هريرة قال : وهذا إسناد صحيح ، فإن محمد بن عوف شيخ أبي داود جليل حافظ لا يسأل عن مثله ، وقد رواه معه عن المقري عباس بن عبد الله الترقفي ، رواه من جهته أبو بكر البيهقي والمقري وحيوه ويزيد بن عبد الله بن قسيط متفق عليهم ، وحميد بن زياد ، رواه له مسلم(1) .
وقال أحمد : لا بأس به ، وكذلك قال أبو حاتم(2) وقال يحيى بن معين : ثقة ليس به بأس ، وروى عن ابن معين فيه رواية أنه ضعيف ورواية التوثيق تترجح عليها لموافقتها أحمد ، وأبا حاتم وغيرهما ، وقال ابن عدي : هو عندي صالح الحديث ، وإنما أنكرت عليه حديثين : المؤمن مألف وفي القدرية وسائر حديثه أرجو أن يكون مستقيماً .
وأما قول الشيخ زكي الدين فيه أنه أنكر عليه شيء من حديثه فقد بينا عن ابن عدي تعيين ما أنكر عليه ، وليس منه هذا الحديث ، وبمقتضى هذا يكون هذا الحديث صحيحاً إن شاء الله ،وقد اعتمد جماعة من الأئمة على هذا الحديث في مسألة الزيارة ، وصدر به أبو بكر البيهقي في باب زيارة قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - ،وهو اعتماد صحيح واستدلال مستقيم ، لأن الزائر المسلم على النبي - صلى الله عليه وسلم - يحصل له فضيلة رد النبي - صلى الله عليه وسلم - السلام عليه وهي رتبة شريفة ومنقبة عظيمة ينبغي التعرض لها ، والحرص عليها لينال بركة سلامه - صلى الله عليه وسلم - .
__________
(1) تقدم الكلام عليه وهو في أبي داود رقم 1047 ، 1531 ، وابن ماجة رقم 1636 وأحمد 4/8.
(2) الجرح والتعديل 3/222 وكلام ابن عدي الآتي فيه انظره في الكامل 2/685 .(54/263)
فإن قيل : ليس في الحديث تخصيص بالزائر فقد يكون هذا حاصلاً لكل مسلم قريباً كان أو بعيداً ، وحينئذ تحصل هذه الفضيلة بالسلام من غير زيارة ، والحديث عام ، قلت : قد كذره ابن قدامه من رواية أحمد ولفظه : (( مامن أحد يسلم علي عند قبري )) وهذا زيادة مقتضاها التخصيص ، فإن ثبت فذاك ، وإن لم يثبت فلا شك أن القريب من القبر يحصل له ذلك ، لأنه في منزلة المسلم بالتحية التي تستعدي الرد كما في حال الحياة ، فهو بحضوره عند القبر قاطع بنيل هذه الدرجة على مقتضى الحديث متعرض لخطاب النبي - صلى الله عليه وسلم - له برد السلام عليه ، وفي المواجهة بالخطاب فضيلة زائدة على الرد على الغائب انتهى ما ذكره المعترض .
وقد روى الإمام أحمد بن حنبل حديث أبي هريرة هذا في مسنده(1) ، وليس في هذه الزيارة(2) المضافة إلى روايته ، فقال : حدثنا عبد الله بن يزيد هو أبو عبد الرحمن المقرئ حدثنا حيوه ، حدثنا أبو صخر أن يزيد بن عبد الله بن قسيط أخبره عن أبي هريرة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : (( ما من أحد يسلم علي إلا رد الله عز وجل علي روحي حتى أرد عليه السلام )) هكذا رواه في هذا اللفظ ليس فيه عند قبري ، وما أضيف إليه من هذه الزيادة فهو على سبيل التفسير منه لا أنه مذكور في روايته .
__________
(1) 2/527 وقال الحافظ في النكت الظراف 10/421 تحفة الأشراف ، أدخل مهدي جعفر عن عبد الله بن يزيد الإسكندراني عن جده بين يزيد وأبي هريرة رجلاً وهو أبو صالح أخرجه الطبراني في الأوسط في ترجمة جعفر بن سهل .
(2) صوابه ( فيه هذه الزيادة ) .(54/264)
وأعلم أن هذا الحديث هو الذي اعتمد عليه الإمام أحمد وأبو داود وغيرهما من الأئمة في مسألة الزيارة ، وهو أجود ما استدل به في هذا الباب ، مع هذا فإنه لا يسلم من مقال في إسناده ، ونزاع في دلالته : أما المقال في إسناده فمن جهة تفرد أبي صخر به عن ابن قسيط ، عن أبي هريرة ، ولم يتابع ابن قسيط أحد في روايته عن ابن قسيط ، وأبو صغر هو حميد بن زياد وهو ابن أبي المخارق المدني الخراط صاحب العباء سكن مصر ، ويقال : حميد بن صخر ، وقال ابن حبان(1) : حميد بن زياد مولى بن هاشم ، وهو الذي يروي عنه حاتم بن إسماعيل ، ويقول : حميد بن صخر إنما هو حميد بن زياد أبو صخر .
وقال البخاري في تاريخه (2): حميد بن زياد أبو صخر الخراط المديني مولى بني هاشم سمع نافعاص ، ومحمد بن كعب وعماراً الدهني ، وأبن قسيط ،وقال : بعضهم حماد سمع منه ابن وهب وحيوة بن شريح ، وقال بعضهم : حميد بنصخر ، وقال أبو مسعود الدمشقي : حميد بن صخر أبو مودود الخراط ، ويقال : إنهما إثنان ، والصحيح أنه واحد(3) وهو حميد بن زياد أبو صخر وقد اختلف الأئمة في عدالته فوثقه بعضهم ، وتكلم فيه آخرون واختلف الرواية عن يحيى بن معين فيه فقال : أحمد بن سعيد بن أبي مريم عنه أبو صخر حميد بن زياد الخراط ، ضعيف الحديث ، وقال إسحاق بن منصور عنه أبو صخر حميد بن زياد ضعيف(4) ، وروى عثمان بن سعيد الدارمي(5) ، عنه حميد بن زياد الخراط ، ليس به بأس .
وقال في موضع آخر : قلت ليحيى : فأبو صخر ، قال : ثقة ، وقال عبد الله بن الإمام أحمد بن حنبل سئل أبي عن أبي صخرة ، فقال ليس به بأس ، وروي عن الإمام أحمد رواية أخرى أنه ضعيف .
__________
(1) انظر الثقات 6/188-189 .
(2) 2/350 رقم 2712 .
(3) وقد فرق بينهما ابن الجوزي في الضعفاء .
(4) هتان الروايتان ليست في متناول اليد وقد ذكر هذه اللفظة عن ابن معين ابن الجوزي كما في الضعفاء والمتروكين له .
(5) ص95 رقم 260(54/265)
قال العقيلي : في كتاب الضعفاء(1) : حدثنا محمد بن عيسى ، حدثنا حمدان بن علي الوراق قال : سألت أحمد بن حنبل عن حميد بن صخر ، فقال ضعيف : وقال النسائي : حميد بن صخر ضعيف ، هكذا حكاه غير واحد عنه ، والذي رأيته في كتاب الضعفاء(2) له حميد بن صخر يروي عن حاتم بن إسماعيل ليس بالقوي ، ثم قال : أخبرنا محمد بن عبد الله بن يزيد عن أبيه ، حدثنا حيوه بن شريح ،قال : أخبرني أبو صخر حميد بن زياد ، وقال أبو عمر : ابن عبد البر أبو صخر الخراط حميد بن زياد المصري ، وهو حميد بن أبي المخارق القيني رأى سهل بن سعيد الساعدي ، وروى عن نافع ومحمد بن كعب القرظي ويزيد بن قسيط وعمار الدهني .
وروى عنه حيوة بن شريح والمفضل بن فضالة ، وحاتم بن إسماعيل وابن لهيعة وابن وهب وصفوان بن عيسى ليس به بأس عند جميعهم ، وقال أبو أحمد بن عدي(3) : حميد بن زياد أبو صخر الخراط مديني ، وروى له ثلاثة أحاديث .
أحدهما : حديثه عن حازم ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : المؤمن يألف ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف ،رواه عن أبي بكر بن أبي داود ، عن أبي الربيع ، عن ابن وهب ، أبي صخر فذكره ، قال أبو صخر : حدثني صفوان بن سليم ، وزيد بن أسلم عن رسول الله بذلك ، قال ابن عدي : ورواه عن أبي حازم عن أبي صالح عن أبي هريرة خالد بن الوضاح ، حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، عن الزبير بن بكار عنه ، ورواه مصعب بن ثابت وعمر بن صهبان عن أبي حازم عن سهل بن سعد وروى عن عبد العزيز بن أبي حازم ، عن أبيه عن سهل .
والثاني : عن الحسن بن محمد المديني ، عن يحيى بن بكيرة ، عن ابن لهيعة ، عن أبي صخر ، عن نافع ، عن ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : سيكون في أمتي مسخ وقذف : يعني الزنادقة والقدرية .
__________
(1) 1/27 .
(2) ص85 رقم 145 .
(3) 2/684 .(54/266)
والثالث عن الحسن بن الفرد ، عن عمرو بن خالد الحراني ، عن ابن لهيعة عن أبي صخر ، عن نافع ، عن ابن عمر أنه رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على المنبر يقول : لمن الملك اليوم ، فيقول : لله الواحد القهار فيرمي السموات والأرض ، الحديث ثم قال : وأبو صخر هذا حميد بن زياد له أحاديث صالحة ، روى عنه ابن لهيعة نسخه ، حدثنا الحسن بن محمد المديني ، عن يحيى بن بكير عنه ، وروى عنه ابن وهب نسخه أطول من نسخه ابن لهيعة ، حدثنا إبراهيم بن عمر بن ثور الزوقي عن أحمد بن صالح عنه وروى عنه حبوة أحاديث ، وهو عندي صالح الحديث ، وإنما أنكر عليه هذان الحديثان ( المؤمن بألف ) وهي القدرية ، وسائر حديثه أرجو أن يكون مستقيماً .
ثم قال في موضع آخر(1) : حميد بن صخر سمعت ابن حماد(2) يقول : حميد بن صخر يروي عنه حاتم بن إسماعيل ضعيف قاله أحمد بن شعيب النسائي ، وروى له ثلاثة أحاديث أيضاً .
أحدهما : عن المقبري عن أبي هريرة بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - بعثاً فأعظموا الغنيمة وأسرعوا الكرة الحديث .
والثاني : عن المقبري عن أبي هريرة سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : فمن جاء مسجدي هذا لم يأت إلا لخير يتعلمه أو يعلمه ، فهو بمنزلة المجاهد في سبيل الله ، ومن جاء لغير ذلك فهو بمنزلة الرجل ينظر إلى متاع غيره .
والثالث : عن يزيد الرقاشي ، عن أنس قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (( من صلى صلاة الغداة فأصيب دمه ، فقد استبيح حمى الله ، وأخفرت ذمته ، وأنا طالب بدمه )) رواه عن القاسم بن مهدي ، عن أبي مصعب ، عن حاتم عنه ، ثم قال : ولحاتم بن إسماعيل عن حميد بن صخر أحاديث غير ما ذكرته ، وفي بعض هذه الأحاديث عن المقبري ، ويزيد الرقاشي ما لا يتابع عليه .
__________
(1) 2/691
(2) هو الدولابي صاحب الكنى .(54/267)
هكذا فرق ابن عدي بينهما وجعلهما رجلين ، والصحيح أنهما رجل واحد وهو أبو صخر حميد بن زياد ، لكن حاتم بن إسماعيل كان يسميه حميد بن صخر وسماه بعهم حماداً ، وقد روى له الجماعة كلهم أما البخاري ففي كتاب الأدب ، وأما النسائي ففي مسند علي ، وقد عرف اختلاف الأئمة في عدالته والاحتجاج بخبره مع الاضطراب في اسمه وكنيته واسم أبيه فما تفرد به من الحديث ولم يتابعه عليه أحد لا ينهض إلى درجة الصحيح ، ولا ينتهي إلى درجة الصحة ، بل يستشهد به ويعتبر به ، وأما ابن قسيط شيخ أبي صخر فهو يزيد بن عبد الله بن قسيط بن أسمة بن عمير الليثي أبو عبد الله المدني الأعرج .
قد روى له البخاري ومسلم في صحيحهما حديثه عن عطاء بن يسار ، وروى له مسلم أيضاً من روايته عن عروة بن الزبير وعبيد بن جريج وداود بن عامر بن سعد بن أبي وقاص ، ولم يخرج له في الصحيح شيء من روايته ، عن أبي هريرة ، بل هو قليل الحديث ، عن أبي هريرة ، روى له أبو داود في سننه حديثين من روايته عنه .
قال إسحاق بن منصور (1): عن يحيى بن معين : يزيد بن عبد الله بن قسيط صالح ليس به بأس ، وقال محمد بن سعد (2): كان ثقة كثير الحديث ، وقال النسائي(3) : ثقة وقال إبراهيم بن سعد عن محمد بن إسحاق ، حدثني يزيد بن عبدالله بن قسيط ، وكان فقيهاً ثقة ، وكان ممن يستعان به على الأعمال لأمانته وفقهه ، وقال ابن أبي حاتم(4) سئل أبي عن يزيد بن عبد الله بن قسيط ؟ فقال : ليس بقوي .
__________
(1) رواه إسحاق بن منصور هذه عن ابن معين أخرجها ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل 9/274 .
(2) انظر الطبقات 5/246 ترجمة محمد بن أسامة حيث قال : وروى عنه يزيد بن عبد الله بن قسيط وكان ثقة قليل الحديث .
(3) انظر كلامه في الميزان 4/430 .
(4) انظر الجرح والتعديل 9/274 .(54/268)
وقال ابن حبان في كتابه الثقات (1): روى عنه مالك وابن أبي دئب ، وابن إسحاق ربما أخطأ ، وذكره في كتاب التاريخ(2) في مشاهير التابعين في المدينة فقال : يزيد بن عبد الله بن قسيط الليثي أبو عبد الله مات سنة اثنتين وعشرين ومائة وكان ردئ الحفظ .
وذكره في التاريخ ايضاً في مشاهير أتباع التابعين بالمدينة فقال : يزيد بن عبد الله بن قسيط من بني ليث من جملة أهل المدينة وقدماء شيوخهم مات سنة اثنين وعشرين ومائة ، وهكذا ذكره في موضعين في التابعين ، وفي أتباعهم ،وقال في أحد الموضعين : كان رديء الحفظ ، وقال في الآخر : من جملة أهل المدينة .
__________
(1) انظر الثقات 5/543 .
(2) انظر الثقات 7/616 وقال وكان ممن يخطئ .(54/269)
وقال ابن أبي حاتم في كتاب الجرح والتعديل (1): حدثنا علي بن الحسين بن الجنيد ، حدثنا إسماعيل بن يحيى بن كيسان ، حدثنا عبد الرزاق قال :قلت لمالك ما شأنك لا تحدثني بحديث يزيد بن عبد الله بن قسيط عن ابن المسيب ، عن عمر وعثمان في الملطاة قال: العمل عندنا على غير هذا ، والرجل ليس هناك عندنا يعني يزيد بن قسيط وقال أبو أحمد بن عدي في الكامل(2) : يزيد بن قسيط مديني ، ثم روى عن عبدالله بن محمد بن المنهال وغيره عن الرمادي ، حدثنا عبد الرزاق ، أنبأنا ابن جريح ، حدثنا سفيان الثوري عن مالك بن أنس ، عن يزيد بن عبد الله بن قسيط ، عن سعيد بن المسيب أن عمر وعثمان في الملطاة وهي المسحاق(3) بنصف ما في الموضحة ، قال عبد الرزاق : ثم قدم علينا الثوري فسألناه فحدثنا به عن مالك ، قال عبد الرزاق : ثم لقيت مالكاً فقلت إن سفيان الثوري ، حدثنا عنك عن ابن قسيط ، عن ابن المسيب أنعمر وعثمان قضيا في الملطاة بنصف الموضحة ، فقال : صدق أنا حدثته فقلت حدثني فأبى أن يحدثني فقال له مسلم بن خالد : يا أبا عبد الله ألا تحدثه قال : لا ، العمل ببلدنا بخلافه ورجه عندنا ليس هناك يعني يزيد بن عبد الله بن قسيط .
ثم قال ابن عدي(4) : حدثنا الفضل بن الحباب ، حدثنا محمد بن بشار ، حدثنا محمد بن بكر أنبأنا ابن جريح عن سفيان ، عن مالك بن أنس ، عن يزيد بن عبد الله بن قسيط ، عن سعيد بن المسيب ، عن عمر وعثمان أنهما قضيا في الملطاة بنصف عقل الموضحة ، هي السمحاق .
__________
(1) انظر الجرح والتعديل 9/274 .
(2) انظر الكامل 7/2713 .
(3) السمحاق : الجلدة الرقيقة التي على قحف الرأس فإن انتهت الشبحة إليها سميت سمحاقاً ،انظر اللسان .
(4) انظر الكامل 7/2713 .(54/270)
وقال ابن عدي (1): حدثنا محمد بن علي المروري ، حدثنا عثمان بن سعيد قال سألت يحيى بن معين عن يزيد بن قسيط ما حاله ؟ قال : صالح ، وقال ابن عدي ويزيد بن عبد الله بن قسيط ، مديني مشهور عندهم بالرواية ، وقد حدث عنه ابن عجلان ومالك بن أنس وجماعة معهما ، وقد روى عنه مالك غير حديث ، وهو صالح الروايات .
فقد تبين أن هذا الحديث الذي تفرد به أبو صخر عن ابن قسيط عن أبي هريرة لا يخلوا من مقال في إسناده ، وإنه لا ينتهي به إلى درجة الصحيح .
وقد ذكر بعض الأئمة أنه على شرط مسلم ، وفي ذلك نظر ، فإن ابن قسيط ، وإن كان مسلم قد روى في صحيحه من رواية أبي صخر عنه ، لكنه لم يخرج من روايته عن ابي هريرة شيئاً(2) فلو كان قد أخرج في الأصول حديثاً من رواية أبي صخر ، عن ابن قسيط عن أبي هريرة أمكن أن يقال في هذا الحديث : أنه على شرطه .
وأعلم أن كثيراً ما يروي أصحاب الصحيح حديث الرجل عن شيخ معين لخصوصيته به ومعرفته بحديثه وضبطه له ، ولا يخرجون من حديثه عن غيره لكونه غير مشهور بالرواية عنه ، ولا معروف بضبط حديثه ، أو لغير ذلك ، فيجيء من لا تحقيق عنده ، فيرى ذلك الرجل المخرج له في الصحيح قد روى حديثاً عمن خرج له في الصحيح من غير طريق ذلك الرجل ، فيقول : هذا على شرط الشيخين ، أو على شرط البخاري ، أو على شرط مسلم ، لأنهما احتجا بذلك الرجل في الجملة (3)
__________
(2) قلت وإذا راجعت تحفة الأشراف تجد أن ما قاله الحافظ ابن عبد الهادي حقاً فليس له رواية عن أبي هريرة في مسلم بل روى حديثين عن أبي هريرة وهي في أبي داود .
(3) قلت : ويمثل هذا وقع الحاكم رحمه الله تعالى في المستدرك فإنه مثلاً يخرج حديثاً من طريق سفيان بن حسين عن الزهري ثم يقول على شرط مسلم .
وهذا خطأ فإن سفيان بنحسين مضعف في الزهري وهو من رجال البخاري تعليقاً ومسلم والأربعة فمسلم لم يخرج له عن الزهري فلا يقال إذاً هو على شرطه كما ذكره الحافظ ابن عبد الهادي فليتنبه لهذه الفائدة العظيمة .(54/271)
.
وهذا فيه نوع تساهل ، فإن صاحبي الصحيح لم يحتجا به إلا في شيخ معين لا في غيره فلا يكون على شرطهما ، وهذا كما يخرج البخاري ومسلم حديث خالد بن مخلد القطواني عن سليمان بن بلال ، وعلي بن مسهر وغيرهما(1) ، ولا يخرجان حديثه عن عبد الله بن المثنى ، وإن كان البخاري قد روى لعبد الله بن المثنى من غير رواية خالد عنه .
فإذا قال قائل في حديثه عن عبد الله بن المثنى : هذا على شرط البخاري كما قاله بعضهم في حديثه عنه عن ثابت البنائي عن أنس بن مالك قال : أول ما كرهت الحجامة للصائم أن جعفر بن أبي طالب احتجم وهو صائم ، فمر به النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : أفطر هذا ثم رخص النبي بعد في الحجامة للصائم ، وكان أنس يحتجم وهو صائم(2) ، كان في كلامه نوع مساهلة ، فإن خالداً غير مشهور بالرواية عن عبد الله بن المثنى .
والحديث فيه شذوذ وكلام مذكور في غير هذا الموضع ، وكما يخرج مسلم حديث حماد بن سلمة عن ثابت في الأصول دون الشواهد ، ويخرج حديثه عن غيره في الشواهد ، ولا يخرج حديثه عن عبد الله بن أبي بكر بن أنس بن مالك وعامر الأحوال وهشام بن حسان وهشام بن زيد بن أنس بن مالك وغيرهم ، وذلك لأن حماد بن سلمة من أثبت من روى عن ثابت ، أو أثبتهم ، قال يحيى بن معين (3): أثبت الناس في ثابت البنائي حماد بن سلمة .
__________
(1) ذكر الحافظ ابن رجب في شرح علل الترمذي فقال : ذكر الغلابي في تاريخه قال : القطواني يأخذ عن مشيخة المدينة وابن بلال فقط ، يريد سليمان بن بلال ويعني بهذا أنه لا يؤخذ منه إلا حديثه عن أهل المدينة وسليمان بن بلال منهم لكن أفرده بالذكر .
(2) أخرجه الدارقطني 2/182 وقال في رجاله كلهم ثقات ولا أعلم له علة .
(3) انظر شرح علل الترمذي لابن رجب .(54/272)
وكما يخرج مسلم أيضاً حديث سويد بن سعيد ، عن حفض بن ميسرة الصنعاني ، مع أن سويداً ممن كثر الكلام فيه واشتهر ، لأن نسخه حفص ثابته عن مسلم من طريق غير سويد لكن بنزول ، وهي عنده من رواية سويد بعلو ، فلذلك رواها عنه ، قال إبراهيم بن أبي طالب : قلت لمسلم : كيف استخرجت الرواية عن سويد في الصحيح ؟ فقال : ومن أين كنت أتى بنسخه حفص بن ميسرة ، فليس لقائل أن يقول في كل حديث ، رواه سويد بن سعيد عن رجل روى له مسلم من غير طريق سويد عنه ، هذا على شرط مسلم فاعلم ذلك .
وقد روى مسلم في صحيحه حديثاً من رواية أبي صخر ، عن يزيد بن عبد الله بن قسيط ، لكن ابن قسيط لا يرويه عن أبي هريرة ، وإنما يرويه عن داود بن عامر ب سعيد بن ابي وقاص ، قال في صحيحه (1) حدثني محمد بن عبد الله بن نمير ، ثنا عبد الله بن يزيد ، حدثني حيوة ، حدثني أبو صخر ، عن يزيد بن عبد الله بن قسيط أنه حدثه أن داود بن عامر بن سعد بن أبي وقاص ، حدثه عن أبيه أنه كان قاعداً عند عبد الله بن عمر إذ طلع خباب صاحب المقصورة فقال : يا عبد الله بن عمر ألا تسمع ما يقول أبو هريرة ؟ إنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : (( من خرج مع جنازة وصلى عليها ، ثم تبعها حتى تدفن كان له قيراطان من أجر كل قيراط مثل أحد ، ومن صلى عليها ، ثم رجع كان له من الأجر مثل أحد )) فأرسل ابن عمر خباباً إلى عائشة يسألها عن قول أبي هريرة ، ثم رجع إليه فيخبره ما قلت ، وأخذ ابن عمر قبضة من حصى المسجد يقلبها في يده حتى رجع إليه الرسول فقال: قال عائشة : صدوق أبو هريرة .
__________
(1) انظر صحيح مسلم 2/653 .(54/273)
فضرب ابن عمر بالحصى الذي كان في يده الأرض ثم قال : لقد فرطنا في قراريط كثيرة ، هكذا روى مسلم هذا الحديث في صحيحه من رواية أبي صخر ، عن ابن قسيط بعد أن ذكره من طرق عن أبي هريرة من رواية سعيد بن المسيب والأعرج وأبي صالح وأبي حازم وغيرهم عنه ، ورواه أيضاً من حديث معدان بن أبي طلحة الميعمري ، عن ثوبان ، فرواية أبي صخر متابعة لهذه الروايات وشاهدة لها(1) .
وهكذا عاد مسلم غالباً إذا روى لرجل قد تكلم فيه ونسب إلى ضعف وسوء حفظه وقلة ضبطه ، إنما يروي له في الشواهد والمتابعات ، ولا يخرج له شيئاً انفرد به ولم يتابع عليه(2) .
فعلم أن هذا الحديث الذي تفرد به أبو صخر ، عن ابن قسيط عن أبي هريرة لا ينبغي أن يقال هو على شرط مسلم ، وإنما هو حديث إسناده مقارب وهو صالح أن يكون متابعاً لغيره وعاضداً له ، والله أعلم (3).
وأما النزاع في دلالة الحديث فمن جهة احتمال لفظه ، فإن قوله : (( ما من أحد يسلم علي )) يحتمل أن يكون المراد به عند قبره كما فهمه جماعة من الأئمة ، ويحتمل أن يكون معناه على العموم ، وأنه لا فرق في ذلك بين القريب والبعيد ، وهذا هو ظاهر الحديث وهو الموافق للأحاديث المشهورة التي فيها فإن تسليمكم يبلغني أينما كنتم ، وإن صلاتكم تبلغي حيثما كنتم ، يشير بذلك - صلى الله عليه وسلم - إلى أن ما ينالي منكم من الصلاة والسلام يحصل مع قربكم من قبري وبعدكم منه ، فلا حاجة بكم إلى اتخاذه عيداً ، كما قال : (( ولا تجعلوا قبري عيداً وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيثما كنت )) .
والأحاديث عنه بأن صلاتنا وسلامنا تبلغه وتعرض عليه كثير قد تقدم ذكر بعضها .
__________
(1) انظر كلام الإمام مسلم في مقدمة صحيحه ص5 .
(2) تقدم الكلام على الحديث ونقلنا كلام الحافظ في النكت الطراف .
(3) تقدم الكلام عليه .(54/274)
وقد روى أبو يعلي الموصلي عن موسى بن محمد بن حبان ، حدثنا أبو بكر الحنفي ، حدثنا عبد الله بن نافع ، أنبأنا العلاء بن عبد الرحمن قال : سمعت الحسن بن علي بن أبي طالب قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( صلوا في بيوتكم ولا تتخذوها قبوراً ولا تتخذوا بيتي عيداً وصلوا علي وسلموا فإن صلاتكم وسلامكم يبلغني أينما كنتم وقد تقدم الحديث الذي رواه أبو يعلي في مسنده أيضاً عن أبي بكر بن أبي شيبة ، حدثنا زيد بن الحباب ، حدثنا جعفر بن إبراهيم من ولد ذي الجناحين ، حدثنا علي بن عمر عن أبيه عن علي بن حسين أنه رأى رجلاً يجيء إلى فرجة كانت عند قبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فيدخل فيها فيدعو ، فنهاه فقال : ألا أحدثكم حديثاً سمعته من أبي عن جدي ، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : (( لا تتخذوا قبري عيداً ولا بيوتكم قبوراً فإن تسليمكم يبلغني أينما كنتم )) (1).
روى هذين الحديثين من طريق أبي يعلي الموصلي الحافظ أبو عبد الله محمد بن عبد الواحد المقدسي فيما اختاره من الأحاديث الجياد الزائدة على الصحيحين ، وشرطه في أحسن من شرط الحاكم في صحيحه ، وقال سعيد في سننه : حدثنا حبان بن علي حدثني محمد بن عجلان ، عن أبي سعيد مولى المهري قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (( لا تتخذوا بيتي عيداً ولا بيوتكم قبوراً وصلوا علي حيثما كنتم فإن صلاتكم تبلغني )) (2) .
__________
(1) تقدم الكلام عليه وجعفر بن إبراهيم مستور الحال وسقط ( علي بن عمر عن أبيه عن ) وتصويبه من اقتضاء الصراط المستقيم ص322 فيكون هذا ( حدثنا جعفر بن إبراهيم من ولد ذي الجناحين ، حدثنا علي بن عمر عن أبيه عن علي بن حسين .
(2) هذا مرسل وتقدم الكلام عليه .(54/275)
وروى عبد الرزاق في مصنفه عن الثوري ، عن ابن عجلان ، عن رجل يقال له سهل ، عن الحسن بن الحسن بن علي أنه رأى قوماً عند القبر فنهاهم ، وقال : إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : (( لا تتخذوا قبري عيداً ولا تتخذوا بيوتكم قبوراً وصلوا علي حيثما كنتم فإن صلاتكم تبلغني )) (1) .
وقال سعيد : حدثنا عبدالعزيز بن محمد ، أخبرني سهيل بن أبي سهيل قال : رآني الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عند القبر فنادني وهو في بيت فاطمة يتعشى فقال: هلم إلى العشاء ، فقلت : لا أريده ، فقال مالي رأيتك عند القبر ؟ فقلت سلمت على النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقال : إذا دخلت المسجد فسلم ، قال : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : (( لا تتخذوا بيتي عيداً ولا تتخذوا بيوتكم قبوراً ، لعن الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني ما أنتم ومن بالأندلس إلا سواء )) .
فانظر هذه السنة كيف مخرجها من أهل المدينة ، وأهل البيت رضي الله عنهم عن رواية علي بن أبي طالب ، وأبنه الحسن وأبني ابيه علي بن الحسين زين العابدين والحسن بن الحسن شيخ بني هاشم في زمانه الذي لهم من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قرب النسب وقرب الدار .
__________
(1) انظر 3/877 طبع المكتب الإسلامي .(54/276)
وهذان المرسلان : مرسل أبي سعيد(1) مولى المهري أحد ثقات التابعين ، ومرسل الحسن بن الحسن من هذين الوجهين المختلفين يدلان على ثبوت الحديث ، لا سيما وقد احتج من أرسله به ، وذلك يقتضي ثبوته عنده لولم يكن روي من وجوه مسنده غير هذين فكيف وقد جاء مسنداً من غير وجه .
قال أبو داود في سننه(2) : حدثنا أحمد بن صالح ، قال : قرأت على عبد الله بن نافع أخبرني ابن أبي ذئب ، عن سعيد المقيري ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( لا تجعلوا بيوتكم قبوراً ولا تجعلوا قبري عيداً وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيثما كنتم )) - صلى الله عليه وسلم - تسليماً .
وقال الشيخ(3) : وهذا إسناد حسن فإن رواته كلهم ثقات مشاهير ، لكن عبد الله بن نافع الصائغ الفقيه المدني صاحب مالك فيه لين لا يقدح في حديثه . قال يحيى بن معين : هو ثقة وحسبك بابن معين موثقاً(4) .
وقال أبو زرعة لا بأس به (5).
وقال أبو حاتم الرازي (6): ليس بالحافظ هو لين تعرف من حفظه وتنكر .
__________
(1) سعيد هو ابن منصور الخراساني صاحب السنن والحديث أخرجه إسماعيل القاضي رقم 30 والحديث له طرق كثيرة وألفاظه متقاربة وهو بمجموع طرقه يرتقي إلى الصحة إن شاء الله ، تقدم الكلام عليه ، وقوله ( ما أنتم ومن بالأندلس إلا سواء ) ليس من كلام النبي عليه الصلاة والسلام وإنما من كلام الحسن .
(2) 21/534 .
(3) انظر اقتضاء الصراط المستقيم 321-322 .
(4) انظر رواية أبي خالد الدقاق يزيد بن الهيثم لابن معين رقم 373 ص116 .
وفي رواية لابن معين في تاريخه برقم 952 قال ضعيف .
(5) انظر الجرح والتعديل 5/183 - 184 .
(6) انظر الجرح والتعديل 5/183-184 ، وانظر الميزان 5/513 .(54/277)
فإن هذه العبارات منهم تنزل حديثه من مرتبة الصحيح إلى مرتبة الحسن ، إذ لا خلاف في عدالته وفقه ، وإن الغالب عليه الضبط ، لكن قد يغلط أحياناً ، ثم إن هذا الحديث مما يعرف من حفظه ليس مما ينكر ، لأنه سنة مدنية هو محتاج إليها في فقهه . ومثل هذا يضبطه الفقيه ، وللحديث شواهد من غير طريقة ، فإن هذا الحديث روي من جهات أخرى ، فما بقي منكراً ، وكل جملة من هذا الحديث رويت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بأسانيد معروفة ، وقد ذكر الشيخ هذه الأحاديث وغيرها في الصلاة والسلام على النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم قال :
فهذه الأحاديث المعروفة عند أهل العلم التي جاءت من وجوه حسان يصدق بعضها بعضاً ، وهي متفقة على أن من صلى عليه وسلم من أمته ، فإن ذلك يبلغ ويعرض عليه وليس في شيء منها أنه يسمع صوت المصلي والمسلم بنفسه ، إنما فيها أن ذلك يعرض عليه ويبلغه - صلى الله عليه وسلم - تسليماً .
ومعلوم أنه أراد بذلك الصلاة والسلام الذي أمر الله به ، سواء صلى عليه وسلم في مسجده ، أو مدينته أو مكان آخر .
فعلم أن ما أمر الله به من ذلك ، فإنه يبلغه وأما من سلم عليه عند قبره ، فإنه يرد عليه .
وذلك كالسلام على سائر المؤمنين ، ليس هو من خصائصه ، ولا هو السلام المأمور به الذي يسلم الله على صاحبه عشراً كما يصلي على من صلى عليه عشراً ، فإن هذا هو الذي أمر به في القرآن الكريم ، وهو لا يختص بمكان دون مكان ، وقد ذكرنا كلام الشيخ مستوفي فيما تقدم على قوله : ما من أحد يسلم علي ، وهل هو عام لا يختص بمكان أو المراد به عند قبره ؟ وأي شيء معنى كونه عند القبر بما فيه كفاية فغنينا عن إعادته في هذا الموضع والله أعلم .(54/278)
ومن الأحاديث المروية في تبليغه - صلى الله عليه وسلم - سلام من يسلم عليه من أمته ما أخبرنا به قاضي القضاة تقي الدين أبو الفضل المقدسي مشافهة قال : حدثنا الحافظ أبو عبد الله المقدسي سماعاً ، أنبأنا أبو عبد الله محمد بن معمر بأصبهان أن جعفر بن عبد الواحد أخبرهم إجازة ، أنبأنا أبو القاسم عبد الرحمن بن محمد بن أحمد بن عبد الرحمن الهمداني ، أنبأنا أبو محمد عبد الله بن محمد بن جعفر بن بشر ، حدثنا محمد بن عامر ،حدثنا أبو قرصافة جندرة ، وكان لأبي قرصافة صحبه ، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد كساه برنساً ، وكان الناس يأتونه فيدعو لهم ويبارك فيهم فتعرف البركة فيهم .
وكان لأبي قرصافة ابن في بلاد الروم غازياً ، وكان أبو قرصافة إذا أصبح في السحر بعسقلان نادى بأعلى صوته يا قرصافة الصلاة ، فيقول قرصافة من بلاد الروم : لبيك يا أبتاه فيقول أصحابه : ويحك لمن تنادي ؟ فيقول : لأبي ورب الكعبة ، يوقظني للصلاة .
قال ابو قرصافة : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : من أوى إلى فراشة ، ثم قرأ سورة تبارك ، قم قال : (( اللهم رب الحل والحرام ، ورب البلد الحرام ورب الركن والمقام ورب المشعر الحرام ، وبحق كل آية أنزلتها في شهر رمضان بلغ روح محمد تحية مني وسلاماً أربع مرات وكل الله به ملكين حتى يأتيا محمداً فيقولان له ذلك فيقول - صلى الله عليه وسلم - وعلى فلان بن فلان مني السلام ورحمة الله وبركاته ، هكذا أخرجه الحافظ أبو عبد الله في الأحاديث المختارة ، وقال : لا أعرف هذا الحديث ،إلا بهذا الطريق وهو غريب جداً وفي رواية من فيه بعض المقال .(54/279)
وقال أبو القسم الطبراني : حدثنا عبيد الله بن محمد العمري(1) ، حدثنا أبو مصعب حدثنا مالك عن أبي الزناد ، عن الأعرض ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( ما من مسلم يسلم علي في شرق ولا غرب إلا أنا وملائكة ربي ترد عليه السلام فقال له قائل : يا رسول الله فما بال أهل المدينة ؟ فقال له : وما يقال لكريم في جيرته وجيرانه )) أنه مما أمر به من حفظ الجوار وحفظ الجيران ، قال الحافظ أبو عبد الله المقدسي ، قيل : غريب من حديث مالك تفرد به أبو مصعب .
قلت : بل هو حديث موضوع على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليس له أصل من حديث أبي هريرة ، ولا حديث الأعرج ، ولا حديث أبي الزناد ، ولا حديث مالك ، ولا حديث أبي مصعب ، بل هو موضوع كله والمتهم بوضعه هذا الشيخ العمري المدني الذي روى عنه الطبراني ، ويكفي في افتضاحه روايته هذا الحديث بمثل هذا الإسناد الذي كالشمس ، ويجوز أن يكون وضع له وأدخل عليه فحدث به ، نعوذ الله من الخذلان .
ثم ذكر المعترض أن السلام على نوعين نوع يقصد به الدعاء ، ونوع يقصد به التحية والتكلم في ذلك بكلام عليه في بعضه مناقشات ومؤاخذات يطول الكتاب بذكرها .
فصل : في علم النبي - صلى الله عليه وسلم - بمن يسلم عليه
__________
(1) هو عبيد الله بن محمد بن عبد العزيز العمري ، قال الذهبي في الميزان ، من شيوخ الطبراني يروي عن طبقة إسماعيل بن أبي أويس رماه النسائي بالكذب ، وذكر صاحب اللسان هذا الحديث من مناكير قال الدارقطني ليس يصحيح تفرد به العمري وكان ضعيفاً .(54/280)
روي عن عبد الله بن مسعود عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : (( إن لله ملائكة سياجين في الأرض يبلغوني عن أمتي السلام )) رواه النسائي(1) وإسماعيل القاضي وغيرهما من طرق مختلفة بأسانيد صحيحة لا ريب فيها إلى سفيان الثوري ، عن عبدالله بن السائب ، عن زاذان ، عن عبد الله ، وصرح الثوري بالسماع ، فقال : حدثني عبدالله بن السائب ، هكذا في كتاب القاضي إسماعيل ، وعبد الله بن السائب ، وزاذان روى لهما مسلم ووثقهما ابن معين فالإسناد إذا صحيح .
ورواه أبو جعفر محمد بن الحسن الأسدي عن سفيان الثوري ، عن عبد الله بن السائب ، عن زاذان عن علي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إن لله ملائكة بسيحون في الأرض يبلغوني صلاة من صلى علي من أمتي ، قال الدارقطني ، المحفوظ عن زاذان عن ابن مسعود : يبلغوني عن أمتي السلام .
قلت : وقد روى الإمام بن حنبل حديث عبد الله بن مسعود هذا في مسنده ، فقال : قال حدثنا ابن نمير ، أنبأنا سفيان ، عن عبد الله بن السائب ، عن زاذان(2) قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -(( إن لله في الأرض ملائكة سياجين يبلغوني من أمتي السلام )) ، رواه أبو يعلي الموصلي ، عن أبي خيثمة ، عن وكيع ، عن سفيان .
ورواه أبو بكر بن أبي عاصم ، عن أبي بكر عن وكيع ، ورواه النسائي(3) من رواه ابن المبارك ووكيع وعبد الرزاق ومعاذ بن معاذ أربعتهم عن سفيان ، ورواه الحاكم في المستدرك(4) من رواية أبي إسحاق الفزاري عن الأعمش وسفيان ، عن عبد الله بن السائب وحكم له بالصحة .
__________
(1) 3/43 .
(2) سقط ذكر الصحابي هنا وهو مثبت في النسخ الأخرى .
(3) 3/43 رقم 1282 .
(4) 2/421 .(54/281)
ورواه أبو حاتم بن حبان البستي(1) في كتاب الأنواع والتقاسيم عن أبي يعلي ، عن أبي خيثمة ، وقد سئل الدارقطني في كتاب العلل عن حديث زاذان أبي عمر الكندي عن علي ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إن لله ملائكة يسيحون في الأرض يبلغوني من أمتي صلاة من صلى علي ؟ فقال : هو حديث رواه محمد بن الحسن بن الزبير الأسدي المعروف بالتل عن الثوري ، عن عبد الله بن السائب ، عن زاذان عن علي ووهم فيه .
وإنما رواه أصحاب الثوري منهم يحيى القطان ، وعبد الرحمن بن مهدي ، ومعاذ بن معاذ ، وفضيل بن عياض وغيرهم عن الثوري عن عبد اللهبن السائب عن زاذان عن عبدالله بن مسعود .
وكذلك رواه الأعمش والحسين الخلقاني ، حدثنا المحاملي ، حدثنا يوسف ابن موسى القطان ، حدثنا جرير عن حسين الخلقاني بذلك ، ومحمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى والعوام بن حوشب وشعبة ، قال ذلك داود عبد الجبار ، عن العوام وشعبه ، عن عبدالله بن السائب ، عن زاذان ، عن ابن مسعود وهو الصحيح .
قال المعترض
وقال بكر بن عبدالله المزني ، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (( حياتي خير لكم تحدثون ويحدث لكم ، فإذا أنا مت كانت وفاتي خير لكم تعرض علي أعمالكم ، فإن رأيت خير لكم تحدثون ويحدث لكم ، فإذا أنا مت كانت وفاتي خير لكم تعرض علي أعمالكم ، فإن رأيت خيراً حمدت الله وإن رأيت غير ذلك استغفرت الله لكم )) .
__________
(1) 2/134 ورواه أيضاً في الكبرى كما في تحفة الأشراف 7/21 وفي عمل اليوم والليلة برقم 66 . قال الهيثمي في المجمع 9/24 رواه البزار ورجاله رجال الصحيح ، وفي فيض القدير 2/ قال الحافظ العراقي الحديث متفق عليه دونقول سياجين ، قلت : قال شيخنا مقبل بن هادي الوادعي : ألا أن عبد المجيد بن رواد وإن أخرج له مسلم ووثقه ابن معين والنسائي فقد ضعفه بعضهم . وهذا الحديث من مناكير حيث أسنده حيث أسنده وبقية الرواة يرسلونه .(54/282)
قلت : هذا خبر مرسل رواه القاضي إسماعيل بن إسحاق في كتاب فضل الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - (1)، عن سليمان بن حرب ، عن حماد بن زيد ، عن غالب القطان عن بكر بن عبد الله ، وهذا إسناد صحيح إلى بكر المزني ، وبكر من ثقات التابعين وأثمتهم ، وقال القاضي إسماعيل : حدثنا حجاج بن المنهال ، حدثنا حماد بن سلمه عن كثير بن الفضل ، عن بكر بن عبد اله أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (( حياتي خير لكم ووفاني خير لكم تحدثون فيحدث لكم فإذا أنا مت عرضت على أعمال فإن رأيت خير حمدت الله وإن رأيت شراً استغفرت الله لكم )) .
وقال أيضاً (2): حدثنا إبراهيم بن الحجاج ، حدثنا وهيب عن أيوب قال : بلغني والله أعلم أن ملكاً موكل بكل من صلى على النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى يبلغه النبي - صلى الله عليه وسلم - .
قال المعترض
وفي كتاب فضل الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - للقاضي إسماعيل ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : (( لا تجعلوا بيوتكم قبوراً وصلوا علي وسلموا حيثما كنتم فسيبلغني سلامكم وصلاتكم )) وهذا الحديث في سنن أبي داود من غير ذكر السلام ، وفي هذه الرواية زيادة السلام .
قلت : أما الذي في سنن أبي داود(3) فحديث ابن أبي ذئب ، عن المقبري ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( ولا تجعلوا بيوتكم قبوراً ولا تجعلوا قبري عيداً وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم )) .
__________
(1) ص36 رقم 25 والطريق الأخرى الآتية برقم 26 .
(2) انظر فضل الصلاة على النبي صفحة 45 . قلت : وإسناده إلى أيوب صحيح .
(3) تقدم صفحة 119 حاشية (2 ) .(54/283)
هذا رواه من حديث أبي هريرة ، وأما ما ذكره من كتاب القاضي إسماعيل ، فإنه رواه من حديث علي بن الحسين ، عن أبيه عن جده فقال(1) : حدثنا إسماعيل بن أبي أويس(2) ، حدثنا جعفر بن إبراهيم بن محمد بن علي بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب عمن أخبره من أهل بيته ، عن علي بن الحسين بن علي أن رجلاً كان يأتي كل غداة فيزور قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - ويصلي عليه ويصنع من ذلك ما انتهره عليه علي بن الحسين ، فقال له علي بن الحسين (3): هل لك أن أحدثك حديثاً عن أبي ؟ قال : نعم فقال له علي بن الحسين : أخبرني ابي عن جدي قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (( لا تجعلوا قبري عيداً ولا تجعلوا بيوتكم قبوراً وصلوا علي وسلموا حيثما كنتم فسيبلغني سلامكم وصلاتكم)) .
هكذا رواه من حديث أهل البيت ، والذي رواه أبو داود هو من حديث أبي هريرة وكان ينبغي للمعترض التنبيه على هذا ، وقد ذكرنا هذا الحديث الذي رواه القاضي إسماعيل فيما تقدم من رواية أبي يعلي الموصلي ، عن أبي بكر بن أبي شيبة ، عن زيد بن الحباب عن جعفر بن إبراهيم ، وفي رواية أبي يعلي يسميه من أخبر جعفر بن إبراهيم من أهل بيته ، وهو علي بن عمر بن علي بن الحسين ، أخبره به عن أبيه عمر ، عن جده علي بن الحسين زين العابدين والله أعلم .
قال المعترض
__________
(1) انظر فضل الصلاة على النبي صفحة 45 .
(2) سقط إسماعيل بن أبي اويس من المطبوعة من فضل الصلاة على النبي عليه الصلاة والسلام ، وفي المطبوعة أيضاً ( من أهل بلده ) بدلاً من أهل بيته كما هنا .
(3) هنا سقط وصوابه كما في فضل الصلاة على النبي ( فقال به علي بن الحسين : ما يحملك على هذا ؟ قال : أحب التسليم علي النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقال له علي بن الحسين : هل لك .. ) فليتنبه .(54/284)
وروى ابن عساكر من طرق مختلفة عن نعيم بن ضمضم العامري ، عن عمران بن حميري الجعفي قال : سمعت عمار بن ياسر يقول : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( إن الله أعطاني ملكاً من الملائكة يقوم على قبري إذا أنا مت فلا يصلي علي عبد صلاة إلا قال يا أحمد فلان(1) يصلي عليك بسمه واسم أبيه فيصلي الله عليه مكانها عشراً )) وفي رواية إن الله أعطى ملكاً من الملائكة أسماء الخلائق وفي رواية أسماع الخلائق فهو قائم على قبري إلى يوم القيامة ، وذكر الحديث .
قلت : هذا حديث ليس بثابت وعمران بن حميري : مجهول ، وقد ذكر البخاري(2) أنه لا يتابع على حديثه ، هذا ونعيم بن ضمضم ويقال ابن جهضم : لم يشتهر من حاله ما يوجب قبول خبره .
قال ابن عدي في كتاب الكامل في الضعفاء (3)، عمران بن حميري قال لي عمار قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( إن الله عز وجل أعطاني ملكاً لا يتابع عليه سمعت ابن حماد يذكره عن البخاري ، وقال البخاري في تاريخه (4): عمران بن حميري ، قال لي عمار بن ياسر : قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( إن الله عز وجل أعطاني ملكاً أسماع الخلائق قائم على قبري )) قاله أبو أحمد الزبيري ، حدثنا نعيم بن جهضم عن عمران لا يتابع عليه .
وقال ابن أبي حاتم في كتاب الجرح والتعديل (5): عمران بن حميري الجعفي ويقال: عمران الحميري ، قال : قال لي عمار بن ياسر : قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( إن الله عز وجل أعطى ملكاً من الملائكة أسماع الخلائق قائم على قبري يبلغني صلاة أمتي علي )) .
__________
(1) هنا سقط أيضاً ( وصوابه : ألا قال أحمد فلان بن فلان ) .
(2) انظر تاريخ البخاري الكبير 6/416 وفيه لا يتابع عليه .
(3) 5/1747 .
(4) هذا كلامه في التاريخ 6/416 .
(5) 6/396 وانظر الميزان واللسان .(54/285)
ورواه عنه نعيم بن ضعضم ، سمعت أبي يقول ذلك ، هكذا ذكره ولم يزد على تعريفه بأكثر من روايته لهذا الحديث ، ولم يذكر نعيماً في حرف النون .
وقال عيسى بن علي الوزير قرأ على القاضي أبي القاسم بدر بن الهيثم ، وأنا أسمع قيل له : حدثكم عمرو بن النصر العزال ، حدثنا عصمة بن عبد الله الأسدي ، حدثنا نعيم بن ضمضم ، عن عمران بن الحميري ، قال : قال لي عمار بن ياسر : وأنا وهو مقبلان ما بين الحيرة والكوفة : يا عمران بن الحميري ألا أخبرك بما سمعت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : قلت : بلى فأخبرني قال : (( إن الله أعطى ملكاً من الملائكة أسماع الخلائق ، فهو قائم على قبري إلى يوم القيامة لا يصلي على أحد صلاة إلا سماه باسمه واسم أبيه وقال : يا أحمد صلى علي فلان بن فلان وتكفل لي الرب تبارك وتعالى أن أرد عليه بكل صلاة عشراً )) وقال عثمان بن خزاذ : حدثني سعيد بن محمد الجرمي حدثنا علي بن القاسم الكندي عن نعيم بن ضمضم ، عن عمران بن حمير قال : قال لي عمار بن ياسر : ألا أحدثك عن حبيبي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، قال الني - صلى الله عليه وسلم - : (( يا عمار إن الله عز وجل أعطى ملكاً من الملائكة أسماع الخلائق فهو على قبري إذا أنا مت فليس أحد من أمتي يصلي علي صلاة إلا سماه باسمه ، واسم أبيه يا أحمد إن فلاناً يصلي عليك يوم كذا وكذا بكذا ،قال وتكفل لي الرب تبارك وتعالى أن يصلي على ذلك العبد عشراً بكل واحدة )) وقد روى هذا الحديث أيضاً محمد بنهارون الروياني في مسنده عن أبي كريب ، عن قبيصة ، عن نعيم بن ضمضم ،وهو حديث غريب تفرد به نعيم عن عمران بن عمارة ، والله أعلم .
قال المعترض(54/286)
وعن ابن عباس قال : ليس أحد من أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - يصلي عليه صلاة إلا وهي تبلغه يقول له الملك : فلان يصلي عليك كذا وكذا صلاة قال : وما تمضنته هذه الأحاديث والآثار من تبليغ الملائكة للنبي - صلى الله عليه وسلم - بين ما ورد من كون الصلاة عليه - صلى الله عليه وسلم - تعرض عليه ، كما جاء ذلك في أحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( إن من أفضل أيامكم يوم الجمعة فأكثروا علي من الصلاة فيه ، فإن صلاتكم معروضة علي قال : فقالوا يا رسول الله وكيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت قال يقولون بليت ، قال : إن الله حرم على الأرض أجساد الأنبياء )) .
قال الشيخ الحافظ زكي الدين المنذري رحمه الله : وله علة دقيقة أشار إليها البخاري وغيره وقد جمعت طرقه في جزء الحديث المذكور من رواية حسين الجعفي عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر ، عن أبي الأشعث الصنعاني ، عن أوس بن أوس ، وهؤلاء ثقات مشهورون علته أن حسين بن علي الجعفي لم يسمع من عبد الرحمن بن يزيد بن جابر ، وإنما سمع من عبدالرحمن بن يزيد بن تميميم وهو ضعيف ، فلما حدث به الجعفي غلط في اسم الجد ، فقال ابن جابر .
قال المعترض
قلت : وقد رواه أحمد في مسنده ، عن حسين الجعفي ، عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر هكذا بالعنعنة ، وروى حديثين آخرين بعد ذلك قال فيهما : حسين حدثنا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر ، وذلك لا ينافي الغلط إن صح أنه لم يسمع منه .(54/287)
قلت : ذكر ابن أبي حاتم هذا الحديث في كتاب العلل(1) ، فقال : سمعت أبي يقول : عبد الرحمن بن يزيد بن جابر لا أعلم أحد من أهل العراق يحدث عنه ، والذي عندي أن الذي يروي عنه : أبو أسامة ، وحسين الجعفي واحد هو عبد الرحمن بن يزيد بن تميم ، لأن أبا أسامة روى عن عبد الرحمن بن يزيد ، عن القاسم عن أبي أمامة خمسة أحاديث أو ستة أحاديث منكرة لا يحتمل أن يحدث عبد الرحمن بن يزيد بن جابر مثله ، ولا أعلم أحداً من أهل الشام روى عن ابن جابر من هذه الأحاديث شيئاً .
وأما حسين الجعفي فإنه روى عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر عن أبي الأشعث الصنعاني عن أوس بن أوس ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في يوم الجمعة أنه قال : أفضل الأيام يوم الجمعة فيه الصعقة ، وفيه النفخة ، وفيه كذا ، وهو حديث منكر لا أعلم أحداً رواه غير حسين الجعفي ، وأما عبد الرحمن بن يزيد بن تميم : فهو ضعيف الحديث وعبد الرحمن بن يزيد بن جابر ثقة .
__________
(1) 1/197 .(54/288)
وقال البخاري في تاريخه (1): عبد الرحمن بن يزيد بن تميم السلمي الشامي عن مكحول سمع منه الوليد بن مسلم عنده مناكير ويقال : هو الذي روى عنه أهل الكوفة أبو أسامة وحسين ، فقالوا : عبد الرحمن بن يزيد بن جابر ، وقال في كتاب الضعفاء(2) : عبد الرحمن بن يزيد بن تميم السلمي يعد في الشاميين مرسل ، وروى عنه الوليد بن مسلم وعنده مناكير يقال : هو الذي روى عنه أهل الكوفة أبو أسامة وغيره فقالوا :عبد الرحمن بن يزيد بن جابر ، وهو أبن يزيد بن تميم ليس بابن جابر ، وقال ابن أبي حاتم في كتاب الجرح والتعديل (3)، حدثني أبي قال : سألت محمد بن عبد الرحمن بن أخي حسين الجعفي ، عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر ، فقال : قدم الكوفة عبد الرحمن بن يزيد بن تميم ، ويزيد بن يزيد بن جابر ، ثم قدم عبد الرحمن بن يزيد بن جابر بعد ذلك بدهر ، فالذي يحدث عنه أبو أسامة ليس هو ابن جابر ، وهو عبدالرحمن بن يزيد بن تميم .
قال ابن أبي حاتم وسألت أبي عن عبد الرحمن بن يزيد بن تميم فقال : عنده مناكير يقال : هو الذي روى عنه أبو أسامة وحسين الجعفي ، وقالا هو ابن يزيد بن جابر ، وغلطا في نسبه وهو ابن يزيد بن تميم ، وهو أصح وهو ضعيف الحديث ، وقال أبو داود (4): وعبد الرحمن بن يزيد بن تميم متروك الحديث حديث عنه أبو أسامة و غلط في أسمه ، فقال : حدثنا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر الشامي ، وكل ما جاء عن أبي أسامة عن عبد الرحمن بن يزيد ، فإما هو ابن تميم ، وقال أبو بكر : ابن أبي داود(5) قدم يعني ( الكوفة ) فاراً مع القدرية ، وقد سمع أبو أسامة من ابن المبارك عن ابن جابر ، وجميعاً يحدثان عن مكحول .
__________
(1) 5/365 .
(2) ص144 رقم 210 وما نقله هنا الإمام ابن عبد الهادي فيه تصرف .
(3) 5/300 رقم 1433 .
(4) انظر كلامه في التهذيب 6/297 .
(5) انظر كلامه في التهذيب 6/297 وفيه تصرف هنا .(54/289)
وابن جابر أيضاً دمشقي ، فلما قدم هذا قال : أخبرنا عبد الرحمن بن يزيد الدمشقي وحدث عن مكحول ، فظن أبو أسامة أنه ابن جابر الذي روى عنه ابن المبارك ، وابن جابر ثقة مأمون بجمع حديثه ، وابن تميم ضعيف روى عنه الزهري أحاديث مناكير ، حدثنا ببعضها محمد بن يحيى النيسابوري في علل حديث الزهري ، وقال : أخرج علي من حدث عني هذه الأحاديث مفردة ، قال :وقدم ابن تميم هذا مع نور بن يزيد ويرد بن سنان ومحمد بن راشد وابن ثوبان فروا من القتل ، وكانوا قدرية فقدموا العراق فسمع منهم أهل العراق.
وقال النسائي : في كتاب الضعفاء(1) : عبد الرحمن بن يزيد بن تميم متروك الحديث شامي ، وروى عنه أبو أسامة ، وقال عبد الرحمن بن يزيد بن جابر ، وقال موسى بن هارون الحافظ ، روى أبو أسامة عن عبد الرحمن بنيزيد بن جابر ، وكان ذلك وهماً منه وهو لم يلق عبد الرحمن بنيزيد بن جابر ، وإنما لقي عبد الرحمن بن يزيد بن تميم ، فظن أنه ابن جابر ، وأبن جابر ثقة ، وأبن تميم ضعيف .
وقال الخطيب(2) : روى الكوفيون أحاديث عبد الرحمن بن يزيد بن تميم ، عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر فوهموا في ذلك ،والحمل عليه في تلك الأحاديث ، وقال بعض الحفاظ المتأخرين : قدم عبد الرحمن بن يزيد على ذلك فظنوه ابن جابر ، لأنه أشهر الرجلين ، فغلطوا في ذلك لتدليسه نفسه ، وقال أبو حاتم بن حبان البستي في كتاب المجروحين (3): عبد الرحمن بن يزيد بن تميم من أهل دمشق كنيته أبو عمرو ويروي عن الزهري ، وروى عنه الوليد بن مسلم وأبو المغيرة ، وكان ممن ينفرد عن الثقات بما لا يشبه حديث الإثبات من كثرة الوهم والخطأ وهو اذلي يدلس عنه الوليد بن مسلم ويقول : قال أبو عمرو : حدثنا أبو عمرو عن الزهري يوهم أنه الأزاعي ، وإنما هو ابن تميم .
__________
(1) ص158 رقم 380 .
(2) 10/212 .
(3) 2/55-56 .(54/290)
وقد روى عنه الكوفيون أبو أسامة والحسين الجعفي ذووهما ، وقال الحافظ أبو الحسن الدارقطني : قوله حسين الجعفي روى عن عبد الرحمن بن يزيد بن تميم خطأ الذي يروي عنه حسين هو عبد الرحمن بن يزيد بن جابر ، وأبو أسامة يروي عن عبد الرحمن بن يزيد بن تميم فيقول ابن جابر ، ويغلط في اسم الجد .
قلت : وهذا الذي قاله الحافظ أبو الحسن هو أقرب وأشبه بالصواب ، وهو أن الجعفي روى عن ابن جابر ولم يرو عن ابن تميم ، والذي يروي عن ابن تميم ويغلط في اسم جده هو أبو أسامة كما قاله الأكثرون ، فعلى هذا يكون الحديث الذي رواه حسين الجعفي ، عن ابن جابر ، عن أبي الأشعث ، عن أوس حديثاً صحيحاً ، لأن رواته كلهم مشهورون بالصدق والأمانة والثقة والعدالة ، ولذلك صححه جماعة من الحفاظ كأبي حاتم بن حبان ، والجاحظ عبد الغني المقدسي ، وابن دحية وغيرهم ، ولم يأت من تكلم فيه وعلله بحجة بينه .(54/291)
وما ذكره أبو حاتم الرازي في العلل(1) لا يدل على تضعيف رواية أبي أسامة ، عن ابن جابر لا على ضعف رواية الجعفي عنه ، فإنه قال : والذي عندي أن الذي يروي عنه ابو أسامة وحسين الجعفي واحد ، ثم ذكر ما يدل على أن الذي روى عنه أبو أسامة فقط هو ابن تميم ، فذكر أمراً عاماً ، واستدل بدليل خاص ، وقد قيل : إن أبا أسامة كان يعرف أن عبد الرحمن بن يزيد هو ابن تميم ويتغافل عن ذلك ، قال يعقوب بن سفيان : قال محمد بن عبد الله بن نمير ، وذكر أبا اسامة ، فقال : الذي يروي عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر يرى أنه ليس بابن جابر المعروف ، وذكر لي أنه رجل يسمى باسم ابن جابر ، قال يعقوب : صدق هو عبد الرحمن بن فلان بن تميم ، فدخل عليه أبو أسامة فكتب عنه هذه الأحاديث ، فروى عنه ، وإنما هو إنسان يسمى باسم ابن جابر قال يعقوب ، وكأني رأيت ابن نمير يتهم أبا أسامة أنه علم ذلك وعرف ، ولكن تغافل عن ذلك ، قال : وقال لي ابن نمير : أما ترى روايته لا تشبه سائر حديثه الصحاح الذي روى عنه أهل الشام وأصحابه .
وقوله في الحديث : وقد أرمت هو بفتح الراء وبعضهم يقول بكسرها ، وليس له وجه ، يقال : أرم ، أي صار رميماً ، أي عظماً بالياً ، وفإذا اتصلت به تاء الضمير فأفصح اللغتين أن يفك الإدغام فيقال : أرممت ، وفيه لغة أخرى ، أرمت بتشديد الميم ، وقد تخفف بحذف الميم الأولى ، ونقل حركتها إلى الراء ، فيقال : أرمت ، وقد جاء في بعض الروايات : وقد أرممت بفك الإدغام على اللغة المشهورة .
__________
(1) انظر العلل 1/197 .(54/292)
قال أبو بكر : أحمد بن عمر بن أبي عاصم ، حدثنا ابو بكر بن أبي شيبة ، حدثنا حسين بن علي بن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر ، عن أبي الاشعث الصنعاني ، عن أوس بن أوس قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( إن من أفضل أيامكم يوم الجمعة فيه خلق آدم وفيه النفخة وفيه الصعقة ، فأكثروا علي من الصلاة فإن صلاتكم معروضة علي ، فقال رجل : فكيف تعرض عليك وقد أرممت - يعني بليت - فقال إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء )) هكذا رواه بهذا اللفظ .
ولهذا الحديث شواهد متعددة منها حديث أبي الدرداء ، وقد تقدم ، وسيأتي أيضاً مع الكلام عليه إن شاء الله تعالى ، ومنها ما رواه الحاكم(1) وصححه من حديث الوليد بن مسلم قال : حدثني أبو رافع عن سعيد المقبري ، عن أبي مسعود الأنصاري عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : (( فأكثروا علي الصلاة يوم الجمعة ، فإنه ليس يصلي علي أحد يوم الجمعة إلإ عرضت علي صلاته ))
هكذا رواه الحاكم وصححه ، وابو رافع هو إسماعيل بن رافع المدني ، وقد ضعفه الإمام أحمد بن حنبل(2) ويحيى بن معين(3) وغير واحد من الأئمة .
__________
(1) 2/421 .
(2) في رواية : ضعيف وفي أخرى منكر الحديث أنظر التهذيب 1/295 .
(3) انظر تاريخ ابن معين رقم 244 قال : ليس بشيء ، وفي سؤالات ابن الجنيد ص486 ، رقم 874 سئل ابن معين عنه فقال ضعيف ، وقال النسائي في الضعفاء ص49 رقم 34 متروك الحديث.
انظر الجرح والتعديل 2/168 والتاريخ الكبير 1/354 والمجروحين لابن حبان 1/124 والكاشف للذهبي 1/72 والمغني 1/80 والميزان 1/227 وانظر التهذيب .(54/293)
ومنها ما رواه ابن وهب عن يونس ، عن ابن شهاب أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : (( أكثروا علي من الصلاة في الليلة الغراء واليوم الأزهر ، فإنهما يؤديان عنكم ، وإن الأرض لا تأكل أجساد الأنبياء ، وكل ابن آدم يأكله التراب إلا عجب الذنب ، ورواه عمارة بن غزية عن ابن شهاب بنحوه وهو مرسل .
وقال أبو أحمد بن عدي في الكامل(1) : أخبرنا إسماعيل بن موسى الحاسب ، حدثنا أبو إسحاق الحميسي عن يزيد الرقاشي عن أنس قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( أكثروا الصلاة علي يوم الجمعة فإن صلاتكم تعرض علي )) هذا إسناد ضعيف جداً وأبو إسحاق الحميسي أسمه حازم بن الحسين وهو شيخ ضعيف(2) ، ويزيد الرقاشي(3) وجبارة بن المغلس(4) لا يحتج بهما .
__________
(1) انظر الكامل 2/944 ، 969 ، 1039 وسقط هنا من الإسناد جبارة ، وإسناده هكذا : أخبرنا إسماعيل بن موسى الحاسب حدثنا جبارة ثنا أبو إسحاق الحميسي عن يزيد الرقائي عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فذكره.
(2) في الميزان واللسان والمغني في الضعفاء ، حازن بن حسين بصري مجهول . وانظر الكنى للدولابي 1/100 .
(3) هو يزيد بنأبان الرقاشي وهو متروك الحديث ، انظر الضعفاء والمتروكين للنسائي ، ص253 رقم 673 والتاريخ الكبير 8/320 والجرح والتعديل 9/251 والمجروحين 3/98 والمغني 2/747 والكاشف 3/240 والتهذيب .
(4) وهو ضعيف انظر الجرح والتعديل 2/550 والمغني 1/127 والكاشف 1/123 والميزان 1/287 والضعفاء والمتروكين للنسائي ص72 رقم 103 والمجروحين 1/221 والتهذيب 2/57(54/294)
وقال القاضي إسماعيل بن إسحاق(1) ، حدثنا علي بن عبد الله ، حدثنا حسين بن علي الجعفي ، حدثنا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر سمعته يذكر عن أبي الأشعث الصنعاني عن أوس بن أوس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : (( إن من أفضل أيامكم يوم الجمعة فيه خلق آدم وفيه قبض وفيه النفخة وفيه الصعقة ، فأكثروا علي من الصلاة فيه ، فإن صلاتكم معروضة علي )) قالوا يا رسول الله وكيف تعرض عليك صلاتنا وقد أرمت ؟ يقولون : قد بليت - قال : (( إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء )) هكذا رواه عن علي بن المديني زين الحفاظ ، عن حسين الجعفي مجرداً بالتصريح بسماع الجعفي من ابن جابر.
ثم قال(2) : حدثنا سليمان بن حرب ، حدثنا جرير بن حازم ، قال : سمعت الحسن يقول : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( لا تأكل الأرض جسد من كلمه روح القدس )) وقال أيضاً(3): حدثنا مسلم حدثنا المبارك بن الحسن عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (( أكثروا الصلاة علي يوم الجمعة)) .
حدثنا سالم(4) : بن سليمان الضبي ، حدثنا أبو حرة عن الحسن قال : قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم - : (( أكثروا علي الصلاة يوم الجمعة فإنها تعرض علي )) ، حدثنا عارم حدثنا جرير بن حازم ، عن الحسن قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( أكثروا علي من الصلاة يوم الجمعة))(5). وقد روي بعض الحفاظ بإسناده عن عمر بن عبد العزيز قال : انشروا العلم يوم الجمعة ، فإن غافله(6) العلم النسيان وأكثروا الصلاة علي النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم الجمعة .
قال المعترض
__________
(1) ص35 رقم 22 فضل الصلاة على النبي عليه الصلاة والسلام .
(2) رقم 23
(3) رقم 28
(4) رقم 29 وشيخ إسماعيل القاضي فيه سلم بن سليمان الضبي .
(5) رقم 40 .
(6) في نسخة (عائلة ) .(54/295)
وروى ابن ماجه الحديث المذكور من طريق آخر ذكره في آخر كتاب الجنائز وفي متنه زيادة ، ثم ذكر إسناده إلى ابن ماجه .
حدثنا عمرو بن سواد المصري ، حدثنا عبد الله بن وهب عن عمر بن الحارث ، عن سعيد بن أبي هلال ، عن زيد بن أيمن ، عن عبادة بن نسبي ، عن أبي الدرداء قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (( أكثروا الصلاة علي يوم الجمعة فإنه مشهود تشهده الملائكة ، وإن أحداً لن يصلي علي إلا عرضت علي صلاته حتى يفرغ منها )) قال : قلت : وبعد الموت ؟ قال : " وبعد الموت " إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء فنبي الله حي يرزق)) قال هذا لفظ ابن ماجه ، وفيه زيادة قوله " حين يفرغ منها " وفي الأصل "حتى" التي هي حرف غاية وعليه تصيب ، وفي الحاشية " حين " التي هي ظرف زمان ، فإن كانت هي الثابت استفيد منها أن وقت عرضها على النبي - صلى الله عليه وسلم - والسلام حين الفراغ من غير تأخير ، وإن كان الثابت " حتى " كما في الأصل دل عرضها ، عليه وقت قوله ، فيدل على عدم التأخير أيضاً وفيه زيادة أيضاً ، وهي قوله : (( وبعد الموت )) بحرف العطف وذلك يقتضي أن عرضها عليه في حالتي الحياة والموت جميعاً .(54/296)
قلت : وقد روى هذا الحديث أيضاً حرملة بن يحيى ، عن ابن وهب ، أخبرنا ، الحافظ أبو الحجاج قال ، : أخبرنا إبراهيم بن إسماعيل القرشي ، قال : أخبرنا أبو عبد الله محمد بن معمر بن الفاخر القرشي ، وأبو مسلم المؤيد بن عبد الرحيم بن الأخوة ، وأبو المجد زاهر بن أبي طاهر الثقفي ، وأبو الفخر أسعد بن سعيد بن روح ، قالوا أنبأنا سعيد بن ابي الرجاء الصيرفي ، أنبأنا أبو الفتح منصور بن الحسين وأبو طاهر بن محمود ، قال أنبأنا عبد الله بن وهب ، قال : أخبرني عمرو بن الحارث ، عن سعيد بن هلال ، عن زيد بن أيمن عن عبادة بن نسي ، عن أبي الدرداء قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( أكثروا علي من الصلاة يوم الجمعة فإنه مشهود تشهده الملائكة وإن أحداً لا يصلي علي إلا عرضت علي صلاته حتى يفرغ ، قال :قلت وبعد الموت ؟ قال إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء ، فنبي الله حي يرزق هكذا رواه حرملة عن ابن وهب بهذا اللفظ ، وهو حديث فيه إرسال ، فإن عبادة بن نسي (1)، لم يدرك ابا الدرداء ، وزيد بن أيمن شيخ مجهول الحال(2) ، لا نعلم أحداً روى عنه غير سعيد بن أبي هلال ، ولم يخرج له أحد من أصحاب الكتب الستة غير ابن ماجه(3) هذا الحديث الواحد .
وقال البخاري في التاريخ(4) : زيد بن أيمن عن عبادة بن نسي : مرسل ،روى عنه سعيد بن أبي هلال ، انتهى كلامه ، وهذا الحديث وإن كان في إسناده شيء ، فهو شاهد لغيره ، وعاضد له ، والله أعلم .
__________
(1) هو قاضي طبرية ثقة فاضل ( التقريب ) وانظر جامع التحصيل ص206 رقم 334 .
(2) زيد بن أيمن مقبول كما في التقريب .
(3) برقم 1637 ، قلت والحديث له علة أخرى وهي ما حكاه البخاري في التاريخ الكبير 3/387 حيث قال : زيد بن أيمن عن عبادة بن نسي مرسل وسيأتي نقل المؤلف لهذا .
(4) 3/387 .(54/297)
ثم ذكر المعترض من طريق البيهقي : أخبرنا علي بن أحمد الكاتب ، ثنا أحمد بن عبيد ، ثنا الحسين بن سعيد ثنا إبراهيم بن الحجاج ، ثنا حماد بن سلمة ، عن برد بن سنان ، عن مكحول الشامي ، عن أبي أمامة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( أكثروا علي من الصلاة في كل يوم جمعة ، فإن صلاة أمتي تعرض علي في كل يوم جمعة ، فمن كان أكثرهم علي صلاة كان أقربهم من بمنزلة )) قال : وهذا إسناد جيد .
قلت : فيه إرسال ، فإن مكحولاً لم يسمع من أبي أمامة ، قال ابن أبي حاتم(1) : سمعت أبي يقول : مكحول لم ير أبا أمامة ، وقال غير أبي حاتم : رآه ولم يسمع منه وقال أبو حاتم (2): سألت أبا مسهر هل سمع مكحول من أحد من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ قال : ما صح عندنا إلا أنس بن مالك ، قلت ، وأثلة فأنكره ، والله أعلم .
قال المعترض
وعن حصين بن عبد الرحمن عن يزيد الرقاشي قال أنا ملكاً موكل يوم الجمعة بمن صلى علي النبي - صلى الله عليه وسلم - يبلغ النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول : إن فلاناً من أمتك صلى عليك ، وعن أبي طلحة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : (( أتاني جبريل عليه السلام فقال بشر أمتك من صلى عليك صلاة كتب الله له بها عشر حسنات وكفر بها عنه عشر سيئات ورفع له بها عشر درجات ورد الله عليه مثل قوله وعرضت علي يوم القيامة )) . رواه ابن عساكر ، وقال : ولا تنافي بين هذه الأحاديث ، فقد يكون العرض عليه مرات وقت الصلاة ، ويوم القيامة .
__________
(1) انظر جامع التحصيل ص285 .
(2) انظر الجرح والتعديل 8/407-408 .(54/298)
وحديث أبي هريرة وحديث ابن مسعود مصرحان بأنه يبلغه سلام كل من سلم عليه ، وهم ا صحيحان إن شاء الله تعالى : وحديث أوس بن أوس ، وما في معناه يدل على أن الموت غير مانع من ذلك ، وكان مقصودنا يجمع هذه الأحاديث بيان العرض على النبي - صلى الله عليه وسلم - وأن مراد التبليغ من الملائكة له - صلى الله عليه وسلم - كما تمضنه حديث أبي هرير وحديث ابن مسعود ، وهذا في حق الغائب بلا إشكال وأما في حق الحاضر عند القبر ، فهل يكون كذلك ، أو يسمعه - صلى الله عليه وسلم - بغير واسطة ؟ ورد في ذلك حديثان : أحدهما : (( من صلى علي عند قبري سمعته ، ومن صلى علي ناباً بلغته ، وفي رواية نائباً منه ابلغته ، وفي رواية نائباً من قبري وفي رواية عن قبري )).
والحديث الثاني : (( ما من عبد يسلم علي عند قبري إلا وكل بها ملك يبلغني وكفى أمر آخرته ودنياه وكنت له شهيداً وشفيعاً يوم القيامة )) وفي رواية (( من صلى علي عند قبري وكل الله به ملكاً يبلغني وكفى أمر دنياه وآخرته وكنت له شهيداً وشفيعاً )) وفي رواية : (( ما من عبد صلى علي عند قبري إلا وكل الله به ، وفيها شفيعاً وشهيداً )) وهذان الحديثان كلاهما من رواية محمد بن مروان السدي الصغير ، وهو ضعيف عن الأعمش عن أبي صالح ، عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - .(54/299)
قلت : هذا الحديث موضوع على رسول الله ليس له أصل ولم يحدث به أبو هريرة ، ولا أبو صالح ، ولا الأعمش ، ومحمد بن مروان السدي : متهم بالكذب والوضع ولفظ هذا الحديث الذي تفرد به مختلف ، فإن اللفظ الأول يدل على إثبات السماع عند القبر ، واللفظ الثاني يدل على نفي السماع عند القبر ، واللفظ الأول هو المشهور عن محمد بن مروان ، رواه عن العلاء بن عمرو الحنفي ، ورواه عن العلاء جماعة ، قال أحمد بن إبراهيم بن ملحان : حدثنا العلاء بن عمرو ، حدثنا محمد بن مروان ، عن الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( من صلى علي عند قبري سمعته ومن صلى علي نائياً من قبري أبلغته )) . رواه العقيلي(1) عن شيخ له عن العلاء بن عمرو : وقال : لا أصل له من حديث الأعمش ، وليس بمحفوظ ، ورواه الطبراني من رواية العلاء أيضاً ولفظه : (( من صلى علي من قريب سمعته ، ومن صلى علي من بعيد أبلغت )) وقد تكلم أبو حاتم بن حيان وأبو الفتح الأزدي في العلاء بن عمرو فقال ابن حبان(2) يجوز الاحتجاج به بحال ، وقال الأزدي لا يكتب عنه بحال .
وقد روى بعضهم هذا الحديث من رواية أبي معاوية عن الأعمش وهو خطأ فاحش ، وإنما هو حديث محمد بن مروان تفرد به وهو متروك الحديث متهم بالكذب .
قال ابن أبي حاتم(3) حدثنا محمد بن يحيى ، حدثنا عبد السلام بن عاصم الهشنجاني ، قال سمعت جريراً يقول : محمد بن مروان كذاب ، يعني صاحب الكلي وقال العقيلي(4) ، حدثنا الحسن بن عليب ، حدثنا يحيى بن سليمان الجعفي ، قال : سمعت ابن نمير يقول : محمد بن مروان الكلي : كذاب ، وما سمعته وقع في أحد غيره .
__________
(1) انظر الضعفاء الكبير للعقيلي 4/136-137 ، وقال بعد قوله وليس بمحفوظ ((ولايتباه إلا من هو دونه )) .
(2) انظر المجروحين 2/286 .
(3) انظر الجرح والتعديل 8/86 .
(4) الضعفاء الكبير للمقيلي 8/136 .(54/300)
وقال عباس الدوري : سمعت يحيى بن معين يقول (1): السدي الصغير محمد بن مروان صاحب الكلي ، ليس بثقة ، وقال ابن أبي حاتم(2) : سمعت أبي يقول : هو ذاهب الحديث متروك الحديث لا يكتب حديثه البتة .
وقال النسائي(3) والدولابي والأزدي : متروك الحديث ، وقال السعدي (4): ذاهب الحديث ، وقال صالح جزرة : كان يضع الحديث .
وقال ابن حبان(5) : كان ممن يروي الموضوعات عن الإثبات ، لا يحل كتب حديثه إلا على سبيل الاعتبار ، ولا الاحتجاج به بحال من الأحوال ، وقال ابن عدي (6): عامة ما يرويه غير محفوظ ، والضعف على رواياته بين ، وقال الحاكم : هو ساقط في أكثر روايته.
وأما اللفظ الثاني الذي يدل على عدم السماع عند القبر فرواه البيهقي في كتاب شعب الإيمان .
أخبرنا أبو عبد الله الحافظ ، حدثنا أبو عبد الله الصفار إملاء ، حدثنا محمد بن موسى البصري ، حدثنا عبد الملك بن قريب ، ثنا محمد بن مروان ، وهو يتيم لبني السدي لقيته ببغداد عن الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ((ما من عبد يسلم علي عند قبري إلا وكل الله بها ملكاً يبلغني وكفى أمر آخرته ودنياه وكنت له شهيداً وشفيعاً يوم القيامة )) .
__________
(1) في التهذيب 9/436 الدوري عن ابن معين ( ليس بثقة ) .
(2) 8/136 .
(3) الضعفاء والمتروكين ص219 .
(4) انظر أحوال الرجال ص58 رقم 50 .
وانظر التاريخ الكبير للبخاري 1/232 والصغير ص105 والجرح والتعديل 8/86 والميزان4/32 والمغني 2/631 ، ولسان الميزان 7/375 .
(5) انظر المجروحين 2/286 .
(6) انظر الكامل له 6/2266 - 2267 .(54/301)
وقال أبو الحسين بن سمعون : حدثنا عثمان بن أحمد بن يزيد ، ثنا محمد بن موسى ، حدثنا عبد الملك بن قريب الأصمعي ، حدثنا محمد بن مروان السدي ، عن الأعمش ، عن أبي صالح عن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( من صلى علي عند قبري وكل الله به ملكاً يبلغني وكفى أمر دنياه وآخرته وكنت له يوم القيامة شهيداً ، أو شفيعاً .
هذا اللفظ تفرد به محمد بن موسى ، عن الأصمعي ، عن محمد بن مروان ومحمد بن موسى هو محمد بن يونس بن موسى بن سليمان بن عبيد بن ربيعة بن كديم القرشي الشامي الكديمي ، أبو العباس البصري ، وهو متهم بالكذب ، ووضع الحديث .
قال ابن عدي(1) : اتهم بوضع الحديث وسرقته ، وادعى رؤية قوم لم يرهم ، ورواية عن قوم لا يعرفون ، وترك عامة مشايخنا الرواية عنه ، ومن حديث عنه ينسبه إلى جده موسى لئلا يعرف ، وقال ابن حبان(2) : كان يضع على الثقات الحديث وضعاً ، ولعله قد وضع أكثر من ألف حديث .
وقال أبو عبيد الأجري (3): سمعت أبا داود يتكلم في محمد بن سنان ، يعني القزاز وفي محمد بن يونس يطلق فيهما الكذب ، وقال أبو بكر :محمد بن وهب البصري المعروف بابن التمار الوراق ما أظهر أبو داود تكذيب أحد إلا رجلين الكديمي وغلام خليل .
__________
(1) انظر الكامل له 6/2294 .
(2) انظر المجروحين 2/312 .
(3) انظر التهذيب 9/541 .(54/302)
وقال الدارقطني(1) : قال لي أبو بكر : أحمد بن المطلب بن عبد الله بن الواثق الهاشمي كنا يوماً عند القاسم المطرز ، وكان يقرأ علينا مسند أبي هريرة فمر به في كتابه حديث عن الكديمي ، فامتنع من قراءته ، فقام إليه محمد بن عبد الجبار ، وكان قد أكثر عن الكديمي ، فقال : أيها الشيخ (4) أن تقرأ فأبي ، وقال : أنا أجاثية بين يدي الله تعالى يوم القيامة وأقول : إن هذا كان يكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعلي ، وقال موسى بن هارون الحمال(2) : تقرب إلى الكديمي بالكذب .
وقال الأزدي متروك الحديث ، وقال حمزة بن يوسف السهمي سمعت الدارقطني يقول كان الكديمي يتهم بوضع الحديث(3) ، وقال ابن عدي(4) والكديمي : أظهر أمراً من أن يحتاج إلى تبين ضعفه ،وكان مع وضعه للحديث وادعائه مشايخ لم يكتب عنهم يختلق لنفسه شيوخاً حتى كان يقول : حدثنا شاصونة بن عبيد منصرفاً عن عدن أبين فذكر عنه حديثاً قال ولو ذكرت ما أنكر عليه وادعائه ووضعه لطال ذلك .
__________
(1) انظر سؤالات حمزة السهمي للدارقطني ص111 رقم الترجمة 74 وفي آخر الناص (وعلى العلماء ) .
(2) انظر تهذيب التهذيب 9/541 .
(3) انظر سؤالاته ص112 رقم الترجمة 74 .
(4) انظر الكامل 6/2294 - 2296 .(54/303)
وقال أبو بكر الخطيب(1) : وكان مما تكلم موسى بن هارون به في الكديمي حديث شاسونة بن عبيد الذي أخبرنا محمد بن أحمد بن رزق ، أنبأنا ابو بكر محمد بنجعفر بن محمد الأدمي القاري ، حدثنا محمد بن يونس القرشي ، ح قال الخطيب : وأخبرنا القاضي أبوالفرج محمد بن أحمد بن الحسن الشافعي ، أنبأنا أبو بكر أحمد بن يوسف بن خلاد ، حدثنا محمد بن يونس الكديمي ح ، وقال : وأخبرنيه علي بن أحمد الرزاز وسياق الحديث له ، حدثنا أبو عمر محمد بن عبدالواحد بن أبي هاشم إملاء ، حدثنا محمد بن يونس بن موسى إملاء ، حدثنا شاصونة بن عبيد أبو محمد اليماني منصرفاً من عدن سنة عشر ومائتين بقرية يقال لها : الحردة .
قال : حدثني معرض بن عبد الله بن معرض بن معيقيب اليماني عن أبيه ، عن جده قال : حججت حجة الوداع فدخلت داراً بمكة ، فرأيت فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجهه مثل دارة القمر ، وسمعت منه عجباً جاءه رجل من أهل اليمامة بغلام يوم ولد وقد لفه في خرقة فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ( يا غلام من أنا )) قال أنت رسول الله ، قال : (( صدقت بار الله فيك)) قال : ثم إن الغلام لم يتكلم بعدها حتى شب قال : قال أبي فكنا نسميه مبارك اليمامة .
هذا آخر حديث الأدمي وابن خلاد وزاد أبو عمر قال . قال شاصونة سمعت هذا الحديث منذ ثمانين سنة ، وكنت أمر بصنعاء على معمر ،فأراه يحدث ، فلم أسمع منه قال : ولم أسمع إلا هذا الحديث ،وقال الخطيب :أخبرنا أبوعلي عبدالرحمن بن محمد بن فضالة النيسابوري بالري ، قال :سمعت أبا الربيع محمد بن الفضل البلخي قال : سمعت محمد بن قريش بن سليمان بن قريش المروزي بها يقول : دخلت على موسى بن هارون الحمال منصرفي من مجلس الكديمي فقال لي : ما الذي حدثكم الكديمي اليوم ؟ فقلت : حدثنا عن شاصونة بن عبيد اليمامي بحديث ، وذكرته له وهو حديث مبارك اليمامة .
__________
(1) انظر تاريخ بغداد 3/435 - 445 .(54/304)
فقال موسى بن هارون : أشهد أنه حديث عمن لم يخلق بعد ، فنقل هذا الكلام إلى الكديمي ، فلما كان من الغد خرج فجلس على الكرسي ، وقال بلغني أن هذا الشيخ يعني موسى بن هارون تكلم في ونسبني إلى أنني حدثت عمن لم يخلق بعد وقد عقدت بيني وبينه عقدة لا نحلها إلا بين يدي الملك الجبار ، ثم أملي علينا فقال : حدثنا جبل من جبال البصرة أبو عامر العقيدي ، حدثنا زمعة بن صالح عن سلمة بن وهرام عن طاوس ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( إن من الشعر لحكمة )) .
وحدثنا جبل من جبال الكوفة أبو نعيم الفضل بن دكين، حدثنا الأعمش عن إبراهيم عن الأسود ، عن عائشة قالت : أهدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مرة غنماً قال وأملي علينا في ذلك المجلس كل حديث فرد ، وانتهى الخبر إلى موسى بن هارون فما سمعته بعد ذلك يذكر الكديمي إلا بخير أو كما قال :
قال الخطيب : وأخبرنا أحمد بن محمد العتيقي ، حدثنا أبو عبد الله عثمان بن جعفر العجلي مستملي ابن شاهين بحديث عن الكديمي ، عن شاصونة بن عبيد ، قال سمعت بعض شيوخنا يقول : لما أملي الكديمي هذا الحديث استعظمه الناس ، وقالوا هذا كذاب ،من هو شاصونة ، فلما كان بعد وفاته جاء قوم من الرحالة ممن جاءوا من عدن ، فقالوا وصلنا إلى قرية يقال لها : الحردة ، فلقينا شيخنا فسألناه عندك شيء من الحديث ، فقال : نعم فكتبنا عنه ، وقلنا : ما اسمك قال : محمد بن شاصونة بن عبيد وأملي علينا هذا الحديث فيما أملي عن أبية .(54/305)
قال الخطيب : وقد وقع إلينا حديث شاصوته من غير طريق الكديمي ،أخبرناه أبو عبد الله بن محمد بن علي بن عبدالله الصوري ببغداد ، وأبو محمد عبد الله بن علي بن عياض بنأبي عقيل القاضي بصورة ، وابو نصر علي بن الحسين بن أحمد بن أبي سلمة الوراق بصيدا ، قالوا : أنبأنا محمد بن أحمد بن جميع الغساني ، حدثنا العباس بن محبوب بن عثمان بن شاصونة بن عبيد بمكة ، قال : حدثنا أبي قال : حدثني جدي شاصونة بن عبيد ، قال : حدثني معرض ابن عبد الله بن معيقب اليماني ، عن أبيه ، عن جده قال : حججت حجة الوداع ، فدخلت دار بمكة ، فرأيت فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجهه كداره القمر ، فسمعت منه عجباً أتاه رجل من أهل اليمامة بغلام يوم ولد ، وقد لفه في خرفة ، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( يا غلام من أنا ؟ )) فقال : أنت رسول الله ، قال : فقال له بارك الله فيك ثم إن العلام لم يتكلم بعد .
قلت : وقد روى من وجهة أخرى لا أصل له أنه - صلى الله عليه وسلم - يرد على من صلى عليه عند قبره ، وأنه يبلغ صلاة من صلى عليه في مكان آخر ، قال أبو محمد عبد الرحمن بن أحمد بن عبد الرحمن بن المرزيان الجلان : حدثنا أبو العباس عن أبي البختري ، عن عبيدالله بن عمر ، عن نافع ، عن ابن عمر قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( من صلى علي عند قبري رددت عليه ومن صلى في مكان آخر بلغونيه )) ، هذا حديث موضوع لا أصل له من حديث عبيد الله عن نافع ، عن ابن عمر ،وأبو البختري هو : وهب بن وهب القاضي ،وهو كذاب يضع الحديث ياتفاق أهل المعرفة بالحديث .(54/306)
قال أبو طالب(1) : سمعت أحمد بن حنبل يقول : كان أبو البختري يضع الحديث وضعاً فيما نرى وأشياء لم يروها عن أحد؛ قلت : الذي كان قاضياً ، قال :نعم ، وكنت عند أبي عبد الله ،وجاء رجل فسلم عليه ، وقال :أنا من أهل المدينة ، وقال : يا أبا عبد الله كيف كان حديث البختري ؟ فقال : كان كذاباً يضع الحديث ، قال : أنا ابن عمه نحابية قال أبو عبد الله : الله المستعان ولكن ليس في الحديث محاباة ، وقال محمد بن عوف الحمصي : سألت أحمد بن حنبل ، عن أبي البختري ، فقال :مطروح الحديث .
وقال إسحاق بن منصور ، قال أحمد بن حنبل : أبو البختري أكذب الناس ، قال إسحاق بن راهوية كما قال : كان كذاباً ، وقال عباس الدوري(2) : سمعت يحيى بن معين يقول : ابن البختري كذاب خبيث يضع الأحاديث .
قلت ليحيى : رحمه الله قال : لا رحم أبا البختري ، وقال الفلاس : كان يكذب ويحدث بما ليس له أصل(3) ، وقال السعدي(4) ، : كان يكذب ويجسر ، وقال ابن أبي حاتم سألت أبي عنه فقال : كان كذاباً(5) .
__________
(1) هذه العبارة عن أحمد في الميزان 4/354 إلا أنه قال : فيما نرى وكلامه بتهامة في الكامل لابن عدي 7/2526 .
(2) انظر تاريخ ابن معين رقم 779 ، 823 ، 2717 .
(3) انظر كلامه في الكامل لابن عدي 7/527 .
(4) انظر الكامل لابن عدي 7/2526 إلا أنه قال بدلاً من يجسر ( يختصر ويسقط إذا مال ) .
(5) انظر الجرح والتعديل 9/25-26 .(54/307)
وسمعت أبا زرعة وذكر له شيئاً من حديث أبي البختري ، فقال : لا تجعل في حوصلتك شيئاً من حديثه ، وقال عثمان بن أبي شيبة أرى أنه يبعث يوم القيامة دجالاً ، وقال العقيلي(1) : لا أعلم لأبي البختري حديثاً مستقيماً كلها بواطيل ، وقال ابن حبان(2) : كان ممن يضع الحديث على الثقات ، كان إذا جنه الليل سهر عامة الليلة يتذكر الحديث ويضع ثم يكتبه ، لا يجوز الرواية عنه ، ولا يحل كتب حديثه إلا على جهة التعجب .
وقال ابن عدي(3) : وأبو البختري جسور من جملة الكذابين الذين يضعون الحديث ، وقال الحاكم روى عن الصادق جعفر بن محمد وهشام بن عروة وعبيد الله بن عمر ومحمد بن عجلان وغيرهم من أهل المدينة أحاديث موضوعة لا ينبغي أن يكتب حديثه ، وذكر الخطيب(4) في تاريخه أن الرشيد لما قدم المدينة أعظم أن يرقى منبر النبي - صلى الله عليه وسلم - في قباء أسود ومنطقة فقال أبو البختري : حدثني جعفر بن محمد عن أبيه قال : نزل جبريل على النبي - صلى الله عليه وسلم - وعليه قباء ومنطقة مخنجراً بخنجر فقال المعافي التيمي :
عول وويل لأبي البختري
من قوله الزور وإعلانه
والله ما جالسة ساعة
ولا رآه الناس في دهره
يا قاتل الله ابن وهب لقد
يزعم أن المصطفى أحمداً
وعليه خف وقبا أسود
ڑڑإذا توافى الناس للمحشر
بالكذب في الناس على جعفر
للفقه في بدو ولا محضر
يمر بين القبر والمنبر
أعلن بالزور وبالمنكر
أنا جبريل التقي البرى
خنجراً في الحقوا بالخنجر
قال المعترض
فإن قيل : ما معنى قوله إلا رد الله علي روحي ؟
قلت : فيه جوابان .
__________
(1) انظر الضعفاء للعقيلي 4/324-325 .
(2) انظر المجروحين 3/74 .
(3) انظر الكامل له 7/2526-2529 .
(4) انظر تاريخ بغداد 13/451-457 وانظر الضعفاء الصغير للبخاري رقم 386 والضعفاء والمتروكين للنسائي رقم 605 والميزان 4/353-354 .(54/308)
أحدهما : ما ذكره الحافظ أبو بكر البيهقي أن المعنى إلا وقد رد الله علي روحي يعني أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعدما مات ودفن رد الله عليه روجه لأجل سلام من يسلم عليه واستمرت في جسده - صلى الله عليه وسلم - .
والثاني : يحتمل أن يكون رداً معنوياً ، وأن تكون روجه الشريفة مشتغلة بشهود الحضرة الإلهية والملأ الأعلى عن هذا العالم ، فإذا سلم عليه أقبلت روحه الشريفة على هذا العالم لتدرك سلام من يسلم عليه ويرد عليه .
قلت : هذان الجوابان المذكوران في كل واحد منهما نظر ، أما الأول وهو الذي ذكره البيهقي في الجزء اذلي جمعه في حياة الأنبياء عليهم السلام بعد وفاتهم فمضمونه رد روحه - صلى الله عليه وسلم - بعد موته إلى جسده واستمرارها فيه قبل سلام من يسلم عليه ، وليس هذا المعنى المذكور في الحديث ، ولا هو ظاهره ، بل هو مخالف لظاهره ، فإن قوله : (( إلا رد الله علي روحي )) بعد قوله : (( ما من أحد يسلم علي يقتضي رد الروح بعد السلام ، ولا يقتضي استمرارها في الجسد )) .
وليعلم أن رد الروح ( إلى البدن ) (1) وعودها إلى الجسد بعد الموت لا يقتضي استمرارها فيه ، ولا يستلزم حياة أخرى قبل يوم النشور نظير الحياة المعهودة ، بل إعادة الروح إلى الجسد في البرزخ إعادة برزخية ، لا تزيل عن الميت اسم الموت .
__________
(1) في طبعة دار الكتب العلمية ( بعد للبدن ) وهو خطأ .(54/309)
وقد ثبت في حديث البراء بن عازب الطويل المشهور في عذاب القبر ونعيمه في شأن الميت وحاله أن روحه تعاد إلى جسده ، مع العلم بأنها غير مستمرة فيه وأن هذه الإعادة ليس مستلزمة لإثبات حياة مزيلة لاسم الموت ، بل هي أنواع حياة برزخية ، الموت كالحياة البرزخية وإثبات بعض أنواع ) (1) الموت لا ينافي الحياة كما في الحديث الصحيح ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان إذا استيقظ من النوم قال : (( الحمد لله الذي أحيانا بعدما أماتنا وإليه النشور )) (2) وتعلك الروح بالبدن واتصالها به بنوع أنواعاً .
أحدهما : تعلقها به في هذا العالم يقظة ومناماً .
الثاني : تعلقها به في البرزخ والأموات متفاوتون في ذلك فالذي للرسل والأنبياء أكمل مما للشهداء ، ولهذا لا تبلى أجسادهم ، والذي للشهداء أكمل مما لغيرهم من المؤمنين الذين ليسوا بشهداء .
والثالث : تعلقها به يوم البعث الآخر ورد الروح إلى البدن في البرزخ لا يستلزم الحياة المعهودة ، ومن زعم استلزامه لها لزمه ارتكاب أمور باطلة مخالفة للحس والشرع والعقل ، وهذا المعنى المذكور في حديث أبي هريرة من رده - صلى الله عليه وسلم - على من يسلم عليه قد ورد نحوه في الرجل يمر بقبر أخيه .
__________
(1) ما بين القوسين سقط من طبعة دار الكتب العلمية .
(2) رواه البخاري 11/113 ومسلم 17/35 النووي وأبو داود 5/300 وابن ماجه 3880 والترمذي 9/362 من حديث حذيفة رضي الله عنه .(54/310)
قال الشيخ تقي الدين في كتاب : اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم(1) وقد روى حديث صححه ابن عبد البر أنه قال : ما من رجل يمر بقر الرجل كان يعرفه في الدنيا فيسلك عليه إلا رد الله عليه روحه حتى يرد عليه السلام ، ولم يقل أحد أن هذا الرد يقتضي استمرار الروح في الجسد ، ولا قالب أنه يستلزم إثبات حياة نظير الحياة المعهودة ، وقال الحافظ ، أبو محمد عبدالحق الإشبيلي في كتاب العاقبة ، ذكر أبو عمر بن عبدالبر من حديث ابن عباس قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( ما من أحد يمر بقبر أخيه المؤمن كان يعرفه في الدنيا فيسلم عليه إلا عرفه ورد عليه السلام )) (2) وهو صحيح الإسناد قال عبد الحق : ويروى من حديث أبي هريرة موقوفاً ، فإن لم يعرفه وسلم رد عليه السلام ويروى من حديث عائشة :ما من رجل يزور قبر أخيه فيجلس عنده إلا استأنس بهحتى يقوم ، انتهى ما ذكره .
__________
(1) انظر 2/262 .
(2) ذكر هذا الحديث السيوطي في الجامع الصغير وعزاه للخطيب في التاريخ وابن عساكر عن أبي هريرة ولفظه ( ما من عبد .. )
وقال المناوي في فيض القدير : قال ابن الجوزي ( حديث لا يصح ) ثم قال : وأفاد الحافظ العراقي إن ابن عبد البر أخرجه في التمهيد والاستذكار بإسناد صحيح من حديث ابن عباس وممن صححه عبد الحق 5/487 .(54/311)
وقال ابن أبي الدنيا : حدثنا محمد بن قدامه الجوهري : حدثنا معن بن عيسى القزاز ، حدثنا هشام بن سعد ، حدثنا زيد بن أسلم ، عن أبي هريرة أه قال: إذا مر الرجل بقبر يعرفه فسل عليه رد عليه السلام وعرفه ، وإذا مر بقبر لا يعرفه فسلم عليه رد عليه السلام ، هكذا رواه موقوفاً على أبي هريرة ، ورواية زيد بن أسلم ، عن أبي هريرة قد قيل : إنها مرسلة ، وهي مذكورة في جامع الترمذي (1)، وقد روى عباس الدوري عن يحيى بن معين أنه قال : زيد بن أسلم لم يسمع من أبي هريرة(2) .
وقال ابن أبي حاتم(3) سمعت علي بن الحسين بن الجنيد يقول : زيد بن أسلك عن أبي هريرة مرسل أدخل بينه وبينه عطاء بن يسار ، وقال عبد الرزاق في مصنفه : أنبأنا يحيى بن العلاء ، عن ابن عجلان ، عن زيد بن أسلك قال : مر أبو هريرة وصاحب له على قبر ، فقال أبو هريرة : سلك فقال الرجل : أسلك على قبر ، فقال أبو هريرة : إذا كان رآك في الدنيا يوماً قط إنه ليعرفك الآن ، ويحيى بن العلاء الرازي شيخ عبد الرزاق لا يحتج بروايته (4).
وقال ابن أبي الدنيا : حدثنا محرز بنعون ، حدثنا يحيى بن يمان بن عبد الله زياد بن سمعان ، عن زيد بن أسلك ، عن عائشة قالت : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( ما من رجل يزور قبر أخيه ويجلس عنده إلا استأنس ورد عليه حتى يقوم ، هذا إسناد ضعيف جداً وابن سمعان أحد المتروكين )) (5).
__________
(1) أشار إليها تحفة الأشراف 9/454 وذكر أن الترمذي قال : ولا نعرف لزيد سماعاً من أبي هريرة وهو مرسل .
(2) انظر تاريخ ابن معين رقم 1146 .
(3) لم أجد هذا الكلام في ترجمة زيد بن أسلم من الجرح والتعديل .
(4) قال في التقريب : رمى بالوضع .
(5) قال في التقريب : متروك .(54/312)
وقال أبو بكر محمد بن عبد الله بن إبراهيم الشافعي ، حدثني اليسع بن أحمد بن اليسع الدمياطي ، حدثنا الربيع بن سليمان ، حدثنا بشر بن بكر ، عن عبدالرحمن بن زيد بن أسلك ، عن عطاء بن يسار ، عن أبي هريرة : قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (( ما من رجل يمر بقبر رجل كان يعرفه في الدنيا فيسلم عليه إلا عرفه ورد عليه السلام )) ، هكذا روي مرفوعاً وهو ضعيف ، والمحفوظ موقوف وعبد الرحمن بن زيد بن أسلك لا يحتج به(1) ، وقد سقط ذكر أبيه بينه وبين عطاء بن يسار .
وقال أبو أحمد بن عدي في الكامل(2) : حدثنا محمد بن أبان بن ميمون السراج وأحمد بن محمد بن خالد الرائي (3) قال : حدثنا يحيى الحماني(4) ، حدثنا عبدالرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه ، عن ابن عمر قال : قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : (( سلموا علي إخوانكم هؤلاء الشهداء ، فإنهم يردون عليكم )) وهذا لا يثبت وعبد الرحمن بن زيد في طريقه .
وقد روى في هذا الباب آثار كثيرة ولذكرها موضع آخر .
__________
(1) انظر التاريخ الكبير 5/284 والصغير ص71 والجرح والتعديل 5/233 والميزان 2/564 والمغني 2/380 والكاشف 2/146 والمجروحين 2/57 والضعفاء للنسائي ص158 رقم 377 .
(2) انظر الكامل 4/1582 .
(3) في الكامل لابن عدي ( البرائي ) وهو الصحيح .
(4) انظر ترجمة في التاريخ الكبير 8/291 والصغير ص120 والجرح والتعديل 9/168 والميزان 4/392 والمعني 2/739 ولسان الميزان 7/734 والتهذيب 11/243 وضعفاء النسائي ص248 رقم 656 .(54/313)
وفي الجملة : رد الروح على الميت في البرزخ ، ورد السلام على من يسلم عليه لا يستلزم الحياة التي يظنها بعض الغالطين ، وإن كان نوع حياة برزخية وقول من زعم أها نظير الحياة المعهودة مخالف للمنقول والمعقول ، ويلزم منه مفارقة الروح للرفيق الأعلى وحصولها تحت التراب قرناً بعد قرن ، والبدن حي مدرك سميع بصير تحت أطبقا التراب والحجارة ولوازم هذا الباطلة مما لا يخفى على العقلاء .
وبهذا يعلم بطلان تأويل قوله : إلا رد الله علي روحي ، بأن معناه إلا وقد رد الله علي روحي ، وإن ذلك الرد مستمر وأحياءه الله قبل يوم النشور وأقره تحت التراب واللبن ، فيا ليت شعري هل فارقت روحه الكريمة الرفيق الأعلى ؟ واتخذت بيت تحت الأرض مع البدن ، أم في الحال الواحد هي في المكانين ؟
وهذا التأويل المنقول عن البيهقي في هذا الحديث قد تلقاه عنه جماعة المتأخرين والتزموا لأجل اعتقادهم له أمور ظاهرة البطلان ، والله الموافق للصواب .
وأما الجواب الثاني : وهو أن هذا رد معنوي ، فإن الروح مشتغلة بالحضرة الشريفة ، والملأ الأعلى عن هذا العالم ، فإذا سلم المسلم عليه التفتت إليه لرد سلامه ، فهذا الجواب فيه نوع من الحق ، لكن صاحبه قصر فيه غاية التقصير مع أنه لا يصح على أصل شيوخه ومتبوعيه في علم الكلام .
فإن الروح ليست عندهم ذاتاً قائمة بنفسها منفصلة عن البدن حتى تكون في الملأ الأعلى والبدن في القبر ، بل هي عندهم عرض من أعراض البدن كحياته وقدرته وسمعه وبصره وسائر صفاته وحياة البدن مشروطة بها وموته قطع هذه الصفة عنه ، ورغم كثير منهم أن العرض لا يبقى زمانين ، فعلى هذا لا تزال الأرواح متجددة فتنعدم روح وتحدث أخرى بدلها ، وهذا قول باينوا به سائر العقلاء ، كما خالفوا به المعلوم يقيناً من أدلة الشرع ، وإنما يجيء هذا على قول جمهور العقلاء سواهم .(54/314)
وقول أهل السنة من الفقهاء المحدثين وغيرهم أن الروح ذات قائمة بنفسها لها صفات تقوم بها ، وإنها تفارق البدن وتصعد وتنزل وتقبض وتنعم وتعذب وتدخل وتخرج وتذهب وتجيء وتسأل وتحاسب ويقبضها الملك ويعرج بها إلى السماء ويشبعها ملائكة السموات إن كانت طيبة ، وإن كانت خبيثة طرحت طرحاً ، وأنها تحس وتدرك وتأكل وتشرب في البرزخ من الجنة ، كما دلت عليه السنة الصحيحة في أرواح الشهداء خصوصاً ، والمؤمنين عموماً ، ومع هذا فلها شأن آخر غير شأن البدن فإنها تكون في الملأ الأعلى فوق السموات ، وقد تعلقت بالبدن تعلقاً يقتضي رد السلام على من سلم عليه وهي مستقرها في عليين مع الرفيق الأعلى .
وقد مر النبي - صلى الله عليه وسلم - ليلة الإسراء على موسى قائماً يصلي في قبره ، ثم رآه في السماء السادسة ولا ريب ا، موسى لم يرفع من قبره تلك الليلة لا هو ولا غيره من الأنبياء الذين رآهم في السموات ، بل لم تنزل تلك منازلهم من السموات ، وإنما رآهم النبي - صلى الله عليه وسلم - ليلة الإسراء في منازلهم التي كانوا فيها من حين رفعهم الله سبحانه إليها ، ولم تكن صلاة موسى في قبره بموجبه مفارقة روحه للسماء السادسة وحلولها في القبر ، بل هي في مستقرها ، ولها تعلق بالبدن قوي حتى حمله على الصلاة .
وإذا كان النائم تقوى نفسه وفعلها في حال النوم حتى تحرم البدن وتقيمه وتؤثر فيه فما الظن بأرواح الأنبياء ؟ وقد ثبت في الصحيح : (( أن أرواح الشهداء في حواصل طير خضر تأكل من ثمار الجنة وتشرب من أنهارها وتسرح فيها حيث شاءت ، ثم تأوي إلى قناديل معلقة تحت العرش )) (1). وهذا شأنها حتى يبعثها الله سبحانه إلى أجسادها ، ومع هذا فإذا زارهم المسلم وسلم عليهم عرفوا به وردوا عليه السلام ، بل ونسمه المؤمن كذلك مع كونها طائراً تعلق في شجر الجنة ترد على صاحبها وتشعر بها إذا سلم عليه المسلم .
__________
(1) انظر صحيح مسلم 3/1502 .(54/315)
وقد قال أبو الدرداء : إذا نام العبد عرج بروحه حتى يؤتي بها إلى العرش ، فإن كان طاهراً أذن لها بالسجود(1) ،ـ ذكره الحافظ أبو عبد الله بن مندة في كتاب الروح ، وروى ابن المبارك في كتاب الزهد والرقائق عن ابن لهيعة ، حدثني عثمان بن نعيم الرعيني عن أبي عثمان الأصبحي ، عن أبي الدرداء قال : إذا نام الإنسان عرج بنفسه(2) ، حتى يؤتي بها إلى العرش فإن كان طاهراً أذن لها بالسجود ، وإن كان جنباً لم يؤذن لها بالسجود(3) .
وروى الإمام أحمد في كتاب الزهد(4) عن الحسن البصري أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : (( إذا نام العبد وهو ساجد يباهي الله به الملائكة يقول انظروا إلى عبدي روحه عند ي وهو ساجد لي )) وهذا مرسل .
وقال أبو الطيب : محمد بن حميد الحوراني في جزئه الذي رواه تمام عنه : حدثنا أحمد بن محمد بن نصر الأنطاكي ، حدثنا محمد بن عبد الله بن أبي حماد القطان ، حدثنا عبد الرحمن بن مغراء عن الأزهري بن عبد الله الأودي ، عن محمد بن عجلان ، عن سالم بن عبد الله بن عمر ، عن أبيه عن علي بن أبي طالب قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : (( ما من عبد ولا أمة ينام فيستثقل نوماً إلا عرج بروحه إلى العرش ، فالذي لا يستيقظ دون العرش فتلك الرؤيا التي تصدق ، والذي يستيقظ دون العرش فهي التي تكذب)) هكذا روى مرفوعاً وليس بمحفوظ والمعروف وقفه على علي .
__________
(1) سقط قوله ( وإن كان جنباً لم يؤذن لها بالسجود ) .
(2) في الزهد ( بروحه )
(3) صفحة 194 جاشية (2 ) .
(4) 2/243 قال ثنا عبد الصمد ثنا سلام قال سمعت الحسن يقول فذكره من قوله والله أعلم ، وهذا الأثر في النسخة ذات الجزء الواحد في ص342 طبع دار الكتب العلمية والأثر أيضاً من كلامه وعلى كل فمراسيل الحسن من أضعف المراسيل .(54/316)
قال ابن مردويه في تفسيره : حدثنا عبد الله بن محمد ، ثنا جعفر بن محمد ، ثنا عمرو بن عثمان ، ثنا بقية ، قال : حدثني صفوان بن عمرو قال : حدثني سليم بن عامر أن عمر بن الخطاب قال : أتعجب من رؤيا الرجل إنه يبيت فيرى الشيء لم يخطر له على بال فتكون رؤيا كأخذ باليد ، ويرى الرجل رؤيا فلا تكون رؤيا شيئاً .
قال فقال علي : أفلا أخبرك بذلك يا أمير المؤمنين لأن الله يقول : { اللَّهُ '¯ûuqtGtƒ الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي $ygدB$sYtB à7إ،ôJمٹsù الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ #"uچ÷zW{$# إِلَى 5@y_r& '‡K|،-B } (الزمر 042) فالله تبارك وتعالى يتوفى الأنفس كلها ، فما رأت وهي عنده في السماء فهي الرؤيا الصادقة ، وما رأت إذا أرسلت في أجسادها تلفتها الشياطين في الهواء فكذبتها وأخبرتها بالأباطيل فكذبت فيها ، فعجب عمر من قوله .
وقد رواه ابن منده أيضاً في كتاب الروح والنفس من رواية بقية بن الوليد ، حدثنا صفوان بن عمرو ، عن سليم بن عامر الحضرمي قال : قال عمر بن الخطاب : عجبت لرؤيا الرجل يرى الشيء لم يخطر له على بال فيكون كأخذه باليد ، ويرى الشي ءفلا يكون شيئاً ، فقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : يا أمير المؤمنين يقول الله عز وجل : { اللَّهُ '¯ûuqtGtƒ الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي $ygدB$sYtB à7إ،ôJمٹsù الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ #"uچ÷zW{$# إِلَى 5@y_r& '‡K|،-B }
(الزمر 042)
قال : والأرواح يعرج بها في منامها فما رأت وهي في السماء فهو الحق ، وإذا ردت إلى أجسادها نقلتها الشياطين في الهواء وكذبتها ، فما رأت في ذلك فهو الباطل ، قال فجعل عمر يتعجب من قول علي : قال ابن منده : وهذا خبر مشهور عن صفوان بن عمرو وغيره ، وروي عن أبي الدرداء .(54/317)