فقال: أنا لا أكفرك أنت، فقلت: لو كفرتني أنا وتركت البخاري ورجاله لكان ذلك أهون علي لأن كل ما نعتقده ونعلمه من أمور الدين فهو إما من القرآن أو من رواية هؤلاء الرواة، فقال لي: وأنا لا أكفر البخاري أيضا فقد كان رجلاً صالحا ولكن معاوية كان يبذل الأموال للوضاعين فيضعون الأحاديث في تنقص علي ويكذبون عليه وقد توهم البخاري؛ فأدخل في كتابه هذا الحديث فقلت له: إن رجال هذا الحديث كلهم أئمة ثقات وقد رواه البخاري ومسلم والترمذي وابن ماجه.
هذا ما قلته له. والآن أسوق هذا الحديث بألفاظه ليعرفه القارئ على وجهه.
أخرج البخاري بسنده عن المسور بن مخرمة- في باب الخمس- أن علي ابن أبي طالب خطب ابنة أبي جهل على فاطمة عليها السلام فسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب الناس في ذلك على منبره -هذا وأنا يومئذ محتلم- فقال: ((إن فاطمة مني وأنا أتخوف أن تفتن في دينها)) ثم ذكر صهرا له من بني عبد شمس فأثنى عليه في مصاهرته إيّاه قال: ((حدثني فصدقني ووعدني فوفى لي وإني لست أحرم حلالاً ولا أحل حراما ولكن والله لا تجتمع بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وبنت عدو الله أبدا)).
ورواه البخاري في كتاب النكاح في باب ذبّ الرجل عن ابنته في الغيرة ((إن بني هشام بن المغيرة استأذنوا في أن يُنكحوا ابنتهم علي بن أبي طالب فلا آذن ثم لا آذن ثم لا آذن إلا أن يريد ابن أبي طالب أن يطلق ابنتي وينكح ابنتهم فإنما هي بضعة مني يريبني ما أرابها ويؤذيني ما آذاها)).(39/217)
وفي إحدى الروايات إن فاطمة عليها السلام ذهبت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت له: إن الناس يقولون: إنك لا تغضب لبناتك وأخبرته الخبر فخرج إلى المسجد وخطب الناس. ثم قلت: وأبو بكر الصديق لم يؤذ فاطمة وإنما نفذ ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: ((نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركنا صدقة)) وفاطمة غير معصومة من الخطأ. فإن كان هذا هو سبب تكفيركم لأبي بكر الصديق فهو سبب واه، وقد تبين بطلانه فلماذا كفرتم عمر مع أنه حين جاءه علي والعباس بعد وفاة فاطمة يطالبان بأرض فدك التي طالبت بها فاطمة أحضر عشرة من الصحابة فشهدوا كلهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((نحن معاشر الأنبياء لا نورث)) ثم قال لعلي والعباس: إن التزمتما أن تعملا في هذه الأرض بما كان يعمل به رسول الله صلى الله عليه وسلم سلمتها لكما فالتزما ذلك فسلمها لهما. ثم اختلف علي والعباس فجاء العباس عمر يشتكي عليا فأبى عمر أن يغير ما حكم به..
ومما ذكرته لهم في تلك المناظرة -وإنما أمليها من حفظي- أن مما يدل على أن أهل بيت علي رضي الله عنه لم يكونوا يعتقدون عصمته أن عبد الله بن عباس أنكر عليه إحراق الغلاة الذين اعتقدوا ألوهية علي فأحرقهم بالنار فخطأه ابن عباس وقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يعذب بالنار إلا رب النار)) فقال الشيخ: هذا من وقاحته وقلة حيائه كيف يعترض على إمامه.
ولما أخذوا يناظروني -وهم جماعة كما ذكرت- أراد رفيقي أن يظهر دفاعه عني وقال أيها القوم: إن كانت هذه مناظرة بين عالمين فدعوهما يتناظران وأنصتوا، وإن كانت حمية وعصبية فأنا أيضا أدافع عن صاحبي، ولما رجعنا إلى الدورة قال لأهل السنة: أشهد بالله أن عالمكم غلب عالمنا.
*مناظرة بين المؤلف وبين شيعي آخر*(39/218)
اجتمعت في البصرة بمجتهد الشيعة الشيخ مهدي القزويني فأخبرته بأن عبد المحسن الكاظمي يقول: إن قريشا حذفت كثيرا من القرآن فهل هذا صحيح؟ فقال: أما نحن فلا نقول بذلك ونؤمن بأن القرآن هو ما بين دفتي المصحف لم ينقص منه شيء ولم يزد فيه شيء. وأظن أن الشيخ القزويني من الفرقة الأصولية.
ثم بعد ذلك قرأت مقالاً في مجلة المنار الشهيرة التي كان يصدرها الشيخ رشيد رحمه الله، كاتبه عالم من بلاد فارس أثبت فيه بالأدلة والبراهين المروية عن النبي صلى الله عليه وسلم من طرق الشيعة الاثنا عشرية كل ما بينه شيخ الإسلام أحمد بن تيمية وشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب من توحيد العبادة وتوحيد الربوبية. فمن ذلك تحريم البناء على القبور روى فيه أحاديث عن أئمة الشيعة مرفوعة وغير مرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم تثبت النهي عن البناء على القبر وتجصيصه حتى ذكر عن جعفر الصادق رحمه الله أنه قال: ((كل ما وضع على القبر من غير تراب القبر فهو ثقل على الميت))، ومنها تحريم الذبح والنذر ودعاء الأموات والاستعانة بهم.
فكتبت كتابا إلى الشيخ مهدي المذكور وقلت له: نرجو أن تبين لنا هل هذه الأحاديث التي ذكرها صاحب المقال صحيحة عندكم أو غير صحيحة، فإن كانت صحيحة فما الذي يمنعكم من العمل بها؟ وكيف سكتم على القباب المشيدة المزخرفة في النجف وكربلاء والكاظم، وهي مخالفة لما رواه أئمة آل البيت الذين تدعون الناس إلى اتباعهم؟ فكتب إلي رسالة طويلة مدحني فيها ولم ينكر شيئا من تلك الأحاديث ولكنه عمد إلى تحريفها ففسر البناء على القبر بأن يبني على القبر نفسه، أما بناء قبة حوله لتقي زائريه من الحر والقر فلا بأس به. ومضى في تحريف تلك الأحاديث كلها حتى أتى عليها ثم قال لي: ونحن نتخذك حكما تحكم بيننا وبين صاحب المنار. هذا بعدما ذم صاحب المنار وكاتب المقال وغمرهما بالشتم والقدح والطعن.(39/219)
فألفت في ذلك جزءا سميته (القاضي العدل في حكم البناء على القبور) وبعثته إلى الشيخ رشيد رضا رحمة الله عليه فجزأه سبعة أجزاء ونشره في مجلة المنار، وكان ذلك في أغلب الظن سنة 1344هـ ولما استقررت في المملكة السعودية أعدت تأليف الكتاب بأسلوب أخشن وقدمته للملك عبد العزيز رحمة الله عليه هدية وأنشدته في ذلك القصيدة التالية جالسًا إلى جنبه، فلم يعب على ذلك لا هو ولا أحد من جلسائه، وذلك برهان قاطع على تواضعه واختياره سلوك أمراء السلف فلا غرابة أن رفع الله قدره ومكن له في الأرض حتى أنشأ دولة عظيمة عصرية على أنقاض الدولة السعودية التي قضى عليها آل رشيد كما شهدت بذلك إذاعة لندن وهذه القصيدة من بحر الكامل:
يا أيها الملك الذي سعدت به ... أرجاء مكة والحطيم وزمزم
وكسى الإله به بلاد العرب ثو ... ب أمانة فغدت به تتنعم
وأشاع نور العلم والإيمان في ... أرجائها والجهل فيها مظلم
وغدت بحكمته أهاليها وهم ... بعد العداوة في إخا لا يصرم
كان التقاطع بينهم من قبله ... حتى القريب فريبه لا يرحم
والبغي والعدوان شيمتهم وهم ... شتى العقائد شركهم مستحكم
ما عندهم من حرمة للشرع بل ... طاغوتهم بالجهل فيهم يحكم
قطع الطريق وقتل سالكه لهم ... خيم وخيم عندهم لا يحرم
شن الإغارة دأبهم وطعامهم ... وشرابهم منه وبئس المطعم
فغدوا تقاة صالحين وخوفهم ... لله ليس يزال دوما يعظم
بسياسة الملك الإمام المرتضى ... عبد العزيز الفارس المستئلم
هذي الكرامات العظام حقيقة ... لا ما يقول مشعوذ يتوهم
هذا هو القطب الكبير ديانة ... وشجاعة وعدالة إذ يحكم
قطب السياسة والمكارم والعلا ... حام الحقيقة في الوغى لا يحجم
يلقى العداة إذا الجيوش تلاطمت ... أمواجها مستبشراً يتبسم
يلقى الوفود ووجهه متهلل ... رائيه مغتبط به متنعم
ذا الجزء أرفعه إليك هدية ... ولأنت أفضل من إليه يقدم
ألفته رداً على شيخ الروا ... فض بالأدلة مبطلاً ما يزعم(39/220)
زعم البناء على القبور وقصدها ... من كل أفق للدعاء لا يحرم
هذا ودم شمساً لهذا الدين في ... أوج السعادة بالمكارم تنعم
فتقبله بأحسن قبول وأمر بطبعه فأخذه رئيس القضاة الشيخ عبد الله بن حسن رحمه الله وسلمه إلى الشيخ ماجد الكردي مدير المعارف فطبع منه ألف نسخة ووزعت، ولا بد أن يكون الشيخ مهدي القزويني قد اطلع على هذا الكتاب. وقد بلغني أنه ألف كتابا في الرد علي ولكني لم أره وهذا هو سبب ما ذكرته من قبل أنه يوجد في المحفظة الخاصة بي التي يسمونها بالعجمية (دوسيا) أنني عدو لأبناء الشيعة. هكذا سجلوا علي ذلك لجهلهم وضلالهم وإلا فهل كان أئمة آل البيت الذين نقل عنهم ذلك الكاتب أحاديث النهي عن البناء على القبور كحديث الصحيحين: ((لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)) ونحوه هل كان أولئك الأئمة رضوان الله عليهم أعداء لأبناء الشيعة ومنهم جعفر الصادق الذي ينتسبون إليه؟! إذًا فمن هو وليهم؟!.
*شيخ متملق*
كان رجل ينسب إلى العلم -والعلم منه بعيد- يسكن في بلدة فاو الواقعة عند مصب شط العرب في خليج البصرة ويسميه الأوروبيون الخليج الفارسي وكان من المتملقين لذلك الشيخ المذكور الذي هو من أقارب الشيخ مصطفى آل إبراهيم، فشكى الشيخ الغني إلى ذلك المتأكل بالدين ما أبطلته من البدع في مسجد الدورة فقال الشيخ الفوي: هذا الرجل مناع للخير، يعنيني بذلك فهجوته بقصيدة نسيت أكثرها وأثبت هنا ما بقي في حفظي منها وقد حذفت منها بيتا لأن فيه إقذاغا كثيرا. فإن قلت إذا كان ذلك الإقذاع لا يجوز شرعا فلماذا قلته حتى احتجت إلى حذفه؟ فالجواب أنه يجوز شرعا ولكن تركه أيضا جائز وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((من تعزى عليكم بعزاء الجاهلية فأعضّوه بهن أبيه ولا تكنوا)).
وهذا ما بقي من القصيدة:
أتاني فحش القول من جاهل فدم(1) ... وقدماً كلاب الجهل تنبح ذا العلم
__________
(1) الفدم: ثقيل الفهم.(39/221)
ولست بملا(1) في القرى متأكل ... بدين ولا دين لدى الأرذل الوخم
يظل عدو العلم يكذب جاهداً ... على ربه كي يأكل السحت بالرجم
فدع عنك دعوى العلم ولتبغ قاربا ... تصيد به الحيتان في لجة اليم
ودربه في كل البلاد مناديا ... صبورا صبورا واترك العيش باللؤم
فذلك أجدى من سؤال وكدية ... وإفساد دين الله بالخرص والوهم
فلا تحسبن العلم أكل ثريدة ... وجمع زكاة من غريب ومن عجم
ومثلك إن يسأل يجئ يوم حشرنا ... وما وجهه إلاعظام بلا لحم
وإن كان كالعصفور عقلك خفة ... وطيشافمثل البغل قد صرت في الجسم
علام استطبت الأكل من صدقاتهم ... ءأعرج أم أعمى أم أنت أخو سقم
نعم فيك سقم لم ير الناس مثله ... وذلك سقم العقل والدين والفهم
وفيك عمى لم تبصر العين مثله ... عمىالجهل إن الجهل للقلب قد يعمي
ودعواك في العلم العزيز مكانه ... كدعوى بني حرب زيادا على زعم
لقد هزلت حتى بدا من هزالها ... كلاها وحتى سامها كل ذي عدم
قولي: (صبورا صبورا) الصبور نوع من السمك يصاد من البحر كبير الحجم كثير العظام ولكن لحمه لذيذ يدور الباعة بزوارقهم في أنهار جنوب البصرة منادين (صبور صبور).
*الدعوة إلى الله في النخيل*
لما نزلنا بالمدينة النبوية -على من شرفها الله به أفضل الصلاة وأزكى التحية- وجدت بها من مشاهير الشيوخ (ألفا هاشم) وهو من السودان المغربي وأظنه سنغالياً وكان مقدماً للطريقة التجانية، فكتبت صحيفة ضمنتها ثلاث عشرة مسألة من ضلالات التجانيين وناولتها الشيخ عبد الله بن حسن فلما قرأها اقشعر جلده منها وقال: أعوذ بالله أعوذ بالله أيوجد في الدنيا من يعتقد مثل هذا؟! فقلت نهم وهو معك هنا في المدينة أحد كبار المدرسين في المسجد النبوي فقال لي: من هو؟ قلت (ألفا هاشم) ومعنى ألفا بلغة السودان: الفقيه، فكأنها مختصرة من كلمة الفقيه.
__________
(1) يقصد الإمام الذي يتخذ الإمامة مهنة.(39/222)
فدعا به فلما جلس ناوله الصحيفة فقال: اقرأ هذه الصحيفة فقرأها فقال له الشيخ: هل تعتقدون ما في هذه الصحيفة؟ فقال: يوجد في كتب طريقتنا كل ما ذكر في هذه الصحيفة ولكن أنا لا أعتقد هذا، فقلت له: قل هذا حق أو باطل فقال لي: إن الشيخ ليس محتاجاً إلى أن تعينه فقال الشيخ عبد الله بن حسن رحمه الله والله بل أنا محتاج إلى أن يعينني لأنه يعرف ضلالكم وأنا لا أعرفه، فاضطر (ألفا هاشم) إلى أن يقول: إن ذلك باطل، فقال له الشيخ عبد الله بن حسن رحمه الله: قد اعترفت الآن بأنك رئيس طريقة تشتمل على ضلالات فتب إلى الله منها فقال: أنا تائب إلى الله من كل ضلالة فقال له الشيخ عبد الله بن حسن: اكتب رسالة وبين فيها ضلال هذه الطريقة وأنك تبت إلى الله لنوزعها على أتباعك وغيرهم ليحذروها الناس فقال: نعم. فقال له: إذا كتبت الرسالة فسلمها إلى محمد تقي الدين الهلالي لينظر هل هي وافية بالمطلوب فإن وجدها كذلك يبعثها إلي وأن آمر بطبعها.
وقبل أن يسافر الشيخ عبد الله بن حسن رحمة الله عليه دعا أمير المدينة عبد العزيز بن إبراهيم فجاءه إلى منزله بدار الضيافة فقال له هذان الشيخان محمد الهلالي ومحمد بن عبد الرزاق نثق بعلمهما ودينهما فعليك أن تشاورهما وتأخذ بنصيحتهما فقال الأمير: ((حبّا وكرامة. يقال: إذا رأيت الأمراء عند أبواب العلماء فنعم العلماء ونعم الأمراء، فحقهما أن آتي إلى زيارتهما لأستشيرهما وأستفيد من علمهما ولكن أرجو من فضلهما أن يسامحاني في هذا الحق لكثرة أشغالي ويتفضلا بزيارتي)).(39/223)
وبعد خمسة عشر يومًا لقيت ألفا هاشم فقلت له: هل أتممت الرسالة التي أمرك الشيخ بتأليفها؟ فقال: ما أكملتها بعد فأمهلني فانتظرت خمسة عشر يوما أخرى ولقيته فسألته فقال لي: الآن ما أتممتها، فحثثته على إتمامها برفق. فذهب إلى الأمير وقال له: نحن نعتقد أنك أمير هذا البلد وأنت الحام فيه وقد آذاني محمد تقي الدين الهلالي وصار يتحكم في ويأمرني وينهاني، فدعاني الأمير وقال لي: ما سبب الخلاف بينك وبين ألفا هاشم؟ فقلت له: ليس بيني وبينه خلاف وحكيت له القصة من أولها إلى آخرها فقال: أنا آخذ الكتاب منه وأبعثه إلى الشيخ فقلت له: أنت لا تعرف ما يتضمنه الكتاب، وهل هو واف بالمطلوب أو غير واف وإنما كلفني الشيخ عبد الله بن حسن بقراءته قبل إرساله إليه لأني أعرف هذه الطريقة وأعرف ما يجب على التائب منها ما يقول لأني كنت متمسكا بها تسع سنين، وانصرفت من عنده ولم أطالب ألفا هاشم بعد ذلك بشيء ولم يؤلف شيئا.(39/224)
وهذا أول خلاف وقع بيني وبين الأمير ثم تلاه اختلاف كثير شاركني فيه رفيقي الشيخ محمد بن عبد الرزاق، فكنا إذا سمعنا بمنكر وقع وكان الجنود المكلفون بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يخبروننا بما يقع من الحوادث فإذا رأينا تقصيرا نذهب إليه وننصحه فكان يتحمل ذلك على مضض واشمئزاز ويقول في غيبتنا: هذان رجلان من المطاوعة (جمع مطوع كلمة تطلق على الفقيه والعالم في نجد) يشتغلان بالدروس في المسجد، فلماذا يتدخلان في شؤون الأمير وفي شؤون جماعة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟! (والتعبير المعتاد هيئة الأمر بالمعروف، وقد تركت هذا التعبير لأنه فاسد لأن الهيئة هي الشكل كما قال تعالى: { أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ } (آل عمران:49) وزاد في طينه بلة وفي طنبوره نغمة أن المكاتبة بيننا وبين الملك عبد العزيز قدس الله روحه كانت متواصلة. ومن عادته رحمة الله عليه أنه إذا كتب لنا جوابا يأمر الكاتب فيكتبه بآلة الكتابة ثم يأخذ صحيفة فيكتب فيها بضعة أسطر بخط يده يسمي فيها المرسل إليه ويسلم عليه يدعو له وهذه مزية لا نعلم أحدًا من الملوك كان يفعلها فنسأل الله أن يثيبه في جنات النعيم. وكانت الأجوبة التي تأتنا من الملك عبد العزيز تصل إلينا بواسطة الأمير المذكور فكان كلما جاءنا كتاب من الملك يصيبه المقيم المقعد ويغضب ويقول ما شأن هذين الرجلين ومكاتبة الملك أهما من الأمراء؟ فيلتفت الأمير إلى الشيخ محمود شويل ويقول: يا محمود: ألا يمكنك أن تمون عليهما وتفتح الرسالتين؟! (ومعنى تمون تتجرأ وتنوب) فيقول الشيخ محمود أصلح الله الأمير إذا كنت أنت لا تستطيع أن تمون عليهما وأنت الأمير فكيف أستطيع أنا وأفتح رسالة الملك المرسلة إلى شخص بعينه؟! فيجيئنا الشيخ محمود شويل ويقول: إن الأمير مهتم بهاتين الرسالتين فإن لم يكن فيهما شيء تخفيانه عنه فأرجو أن تفرجا عنه بتمكينه من قراءتهما فنعطيه الرسالتين(39/225)
فيقرأ كل رسالة، يقرأ صحيفتيها المكتوبة بخط اليد والمكتوبة بالآلة وتوسوس له نفسه بأنه يمكن أن تكون هناك صحيفة ثالثة لم ندفعها إليه.
* الاختلاف مع الشيخ عبد الله بن بلهيد *
ندع الآن خلافنا مع الأمير لنستأنفه فيما بعد ونذكر قصة طريفة وقعت بيننا وبين الشيخ عبد الله بن بلهيد رحمة الله عليه فإنه قصد المدينة ليصوم فيها رمضان سنة 1347 هـ، ولما كنت أنا أقوم بمراقبة المدرسين في المسجد النبوي ويعينني على ذلك رفيقي الشيخ محمد بن عبد الرزاق كان بعض المدرسين يجتمعون عندنا في مكتبة المراقبة وكان في غرفة فوق باب المجيدي فنتذاكر في مسائل العلم، فجرى ذكر مسألة الأرض هل هي كرة أو سطح؟ فبينا لهم أنها كرة يقينا وذكرنا العلماء الذين نصوا على ذلك ومنهم شيخ الإسلام أحمد بن تيمية وتلميذه ابن القيم، فأسروها في أنفسهم فلما جاء الشيخ عبد الله بن بلهيد سألوه: هل الأرض كرة أو سطح؟ فقال: لا يقول أحد بأنها كرة إلا المعطلة الذين ينفون استواء الله على عرشه فقالوا إن مراقب التدريس محمد تقي الدين الهلالي ورفيقه محمد بن عبد الرزاق يقولان بذلك، فغضب غضبا شديدا.(39/226)
فلما جئنا لزيارته رحب بنا ثم قال: محمد ومحمد هؤلاء المدعون للعلم من أهل الأمصار يزعمون أن الأرض كرة ولابد أن تكون لهم شبهة وأنتما تعلمانها فأخبراني بها فقلنا له: سلمك الله إن أقوى ما يستدلون به على كروية الأرض اختلاف الليل والنهار فإن الشمس حتى في القطر الواحد تختلف في الشروق والغروب ويبلغ اختلافها في القطر الكبير إلى ساعة بين مشرق ذلك القطر ومغربه، ومثال ذلك: أن الشمس تشرق في الرياض قبل المدينة بنحو نصف ساعة وتغرب في الرياض قبل المدينة بمثل ذلك وقلنا له: واستدلوا على ذلك أيضا بأن المسافر في البحر أول ما يرى من سفينة مقبلة رءوس أعمدتها المعروفة بالصواري ثم كلما دنت انكشف له الجزء الأسفل من العمود حتى تنكشف له السفينة كلها، وإذا كان في البر مقبلا على بلد فيه نخل فأول ما يرى رؤوس النخيل ثم كلما تقدم انكشف له الأجزاء السفلى إلى أن ينكشف النخيل كله وكان عندنا دليل آخر هو أوضح من هذا كله، ولكن خفنا أن نذكره له وهو أن المسافر إذا سافر إلى الشرق. على خط مستقيم أو شبه مستقيم واستمر في وجهته لا يغيرها يرجع إلى البلد الذي سافر منه. فلما سمع كلامنا غضب غضبا شديدا وقال: هذا كلام المعطلة فتوبا إلى الله منه ولم يقصدوا بهذا الكلام إلا أن يقولوا: لا إله فوق العرش وتشفى فينا المدرسون وكثر لهطهم وأخذوا يضحكون علينا فقال بعضهم يعنينا ومن يقول بقولنا: هؤلاء القوم ليس لهم عقول لو كانت الأرض كرة سابحة في الفضاء فلماذا لم تنصب هذه البحر ومياه الآبار ولماذا لم تسقط الصخور والأحجار وكل ما على الأرض من حيوان وإنسان؟! وعلى قول هؤلاء يمشي الناس على وجه الأرض ورؤوسهم إلى أسفل. وكان المدرسون يبغضوننا لأنهم كانوا يمرون بآيات التوحيد وأحاديث التوحيد مرور الكرام باللغو فلا يبينون للناس توحيد الربوبية وتوحيد العبادة وتوحيد الأسماء والصفات فكنت أدعوهم إلى المراقبة وأعظهم وأحذرهم من وعيد من كتم علما ولكنهم(39/227)
كانوا مصرين على حيدتهم إلا من سأذكره فيما بعد.
فانصرفت من عند الشيخ عبد الله بن بلهيد نادما على زيارته ومع أنه التمس مني أن أتعشى معه مدة رمضان لكنى لم أزره بعد ذلك. فجلت جولة في الكتب وكانت كثرة عندي لأن خزانتي كانت قد وصلت إلى من العراق وهي حافلة بأصناف الكتب، وأصل هذه الخزنة خزانة الشيخ علي بن سليمان القصيمي الذي كان ساكنا بالدورة إلى أن توفي رحمه الله عليه فوصلت أنا الدورة بعد وفاته فوهبنيها ورثته بإشارة من كبيرهم الشيخ حسن بن علي قالوا: لأنه ليس فينا لسوء الحظ من يستطيع الانتفاع بهذه الكتب ونحن نريد أن نهبك إياها رجاء أن ينفع الله بثواب هذه الهبة والدنا ولا تزال عندي بقايا من هذه الخزانة، وبعضها تلف بالنقل من بلد إلى بلد وبعضها تلف بالبلى والقدم.(39/228)
فوجدت أن الشيخ الإسلام أبا العباس أحمد بن تيمية قدس الله روحه ذكر هذه المسألة في الرسالة العرشية ووضحها كل التوضيح فبعدما بين أن الأجرام السماوية كلها كروية الشكل ذكر الأرض وأخبر أن كل جهاتها فوق وأسفل إنما هو وسط جوفها، وقال رحمه الله: فلو وضعت حجرا في المشرق وحجرا في المغرب ولم يجدا مانعا من النزول هذا من المشرق وهذا من المغرب حتى يجتمعا في مركز الأرض، ولو جعلت بدل الحجرين إنسانين أحدهما يخترق الأرض من المشرق والآخر يخرقها من المغرب لالتقت أقدامهما في المركز، فخططت بالقلم الأحمر على هذا الكلام وبعثته إلى الشيخ عبد الله بن بلهيد فبلغني أنه ازداد غضبا وقال: يا عجبا للهلالي يريد أن يعرفني بما في كتب الشيخين: إن كلام الشيخين لا يفهمه كل الناس لأن فيه إطلاقا وتقييدا وخصوصا وعموما وإجمالا وتفصيلا، وأنا أشتغل بدراسة كتب الشيخين منذ كنت مثل هذا الورع وأشار إلى صبي صغير (وأهل نجد يسمون الغلام ورعا). ثم أخذت أبحث في كتاب مفتاح دار السعادة لابن القيم رحمه الله فوجدته نص على أن الأرض كرة نصا لا يحتمل تأويلا وعلل اختلاف الليل والنهار في البلدان المختلفة بكروية الأرض فبعثته إليه مع الشيخ محمد بن عبد الرزاق فلما أعطاه الكتاب قرأ كلام ابن القيم مرارا ثم قال له: إن كانت الأرض كرة في الجهة الأخرى التي لسنا فيها فذلك ممكن أما الجهة التي نحن فيها فنحن نشاهدها سطحا وسكن غضبه علي ولكن لم يعترف، ثم لقيت بعد ذلك الشيخ الجليل مقدم آل الشيخ وكبيرهم وعالمهم في عصره أعني الشيخ محمد بن عبد اللطيف رحمة الله عليه فقال لي: بلغني ما وقع بينك وبين ابن بلهيد وهو مخطئ وإياك أن تعتقد أن علماء أهل نجد كلهم على رأيه فإن عندي ثلاثة كتب للشيخين في كل واحد منها ما يكفي ويشفي للدلالة على أن الأرض كرة.
* * *
* الشيخ الطيب التنبكي *(39/229)
تقدم أن المدرسين كانوا يحيدون عن بيان الحق في مسائل التوحيد وكانوا يتعصبون لمذاهبهم كل التعصب، وكان الشيخ الطيب رحمة الله عليه حين جئنا إلى المدينة أنا ورفيقي الشيخ محمد بن عبد الرزاق المصري مولدا ونشأة، السعودي مستوطنا ودارا نسأل الله له الشفاء، كان الشيخ الطيب متمسكا بالطريقة القادرية وبعقيدة المتأخرين من الأشعرية ومتعصبا للمذهب المالكي وكان لا يطيل الجلوس معنا، ولكنه كان يبعث إلينا تلميذه الشيخ عبد الله بن محمود وكان في ذلك الوقت شابا لم تستدر لحيته، وكان يأتينا كل يوم بمسائل يلقيها علينا فنجيبه عنها فيحمل الجواب إلى أستاذه ومضى على ذلك مدة تقارب ستة أشهر، وعند ذلك جاءنا الشيخ الطيب وقال لنا: إنني فكرت في أجوبتكما فوجدت أن ما تدعون إليه هو الحق وأشهدكما أني تركت كل ما كنت عليه من طريقة وعقيدة أشعرية وتعصب للمذهب، ففرحنا بذلك فرحا عظيما.
وكان المدرسون من أهل المدينة يأخذون ستة دنانير ذهبا أو ما يعادلها بسعر الوقت أريلة فضية، وكنا نحن نأخذ عشرة دنانير، لكل واحد منا فكتبنا إلى ولاة الأمر رحمهم الله وقلنا لهم: إن الشيخ الطيب الأنصاري التنبكي ترك ما كان عليه ورجع إلى عقيدة السلف فنرجو أن يعطى راتبا كرواتبنا فجاء الجواب بالموافقة -وقد نسيت الآن هل كتبنا للملك عبد العزيز نفسه أو لمن دونه- وصار يأخذ عشرة دنانير ذهبا وكانت المعيشة في المدينة رخيصة تكفي أهل البيت بعيالهم وضيوفهم ثلاثة دنانير في الشهر يعيشون بها عيشة راضية وثبت الشيخ الطيب على العقيدة السلفية إلى أن جاءه الأجل فرحمه الله رحمة واسعة، وقد أخبرني بعض الإخوان أنه اختصر تفسير ابن جرير وأن اختصاره هذا موجود فنسأل الله أن يوفق أهل الفضل والإحسان وفي مقدمتهم إمامهم جلالة الملك فيصل لطبع هذا الكتاب.
* الشيخ محمود شويل *(39/230)
لما وصلنا إلى المدينة كان الشيخ محمود شويل خرافيا ومتعصبا للمذهب المالكي أشد التعصب، كنا نفطر صباحا في بيتي فأخذ يذكر فضائل الإمام مالك رحمه الله ويدعي أنه لا نظير له في الأئمة ولا أحد يكاد يبلغ منزلته في العلم والفضل فقلت له: إن البخاري أعلم منه لأن كل حديث صحيح رواه مالك يعرفه البخاري ويزيد على ذلك بآلاف الأحاديث، فغضب غضبا شديدا وترك الأكل وقال في البخاري كلاما قبيحا لا يحسن ذكره، واستمر على مجالستنا إلى أن تخلص من عقيدته وخرافاته وتعصبه للمذهب، وأخبرته بوجود شيخ سلفي من كر العلماء له تآليف وهو الشيخ حسن عبد الرحمن من أغنياء مصر له مزارع كثيرة بين دمنهور والإسكندرية لا أذكر اسم بلدته الآن، فكتب إليه الشيخ محمود شويل يلتمس منه شيئا من كتبه التي ألفها في الدعوة إلى السلفية، وقال له في كتابه إليه: الشيخ محمد بن عبد الرزاق والشيخ محمد تقي الدين الهلالي وثالثهم كلبهم محمود شويل. فبعث إليه الشيخ حسن عبد الرحمن رحمه الله عليه ما طلب من الكتب، وقال له في جواب كتابه: ما نصه يظهر أنك داخل في المقدر من جديد لأن المؤمن لا ينزل بنفسه إلى أن يصير كلبا، وبالغ الشيخ محمود شويل في التمسك بالتوحيد والسنة وكانت فيه حدة شديدة فأخذ في كل يوم يتخاصم مع الناس إذا سمعهم يشركون بالله أو يبتدعون في الدين، فكثرت به الشكايات إلى الأمير فاتخذه مستشارا علميا ليشغله عن الخصومات، ولكن ذلك لم يمنعه مما كان عليه من الشدة حتى نفي إلى أكثر من مرة.
* الخروج إلى البادية *(39/231)
كنت قد طلبت من الشيخ عبد الله بن حسن رئيس القضاة تغمده الله برحمته أن أخرج إلى القرى والبوادي للدعوة إلى الله تعالى في بعض الأحيان، فاستحسن ذلك كل الاستحسان وأمر الأمير عبد العزيز بن إبراهيم أن يهيئ لي راحلتين ورجلا يرافقني فأجاب إلى ذلك ووعد به، فلما طالبته بالوفاء اقترح علي أن أذهب إلى الجرف والعوالي ولم يكن غرضي ذلك لأن أهل هذه القرى شيعة لا يكادون يقبلون شيئا من واعظ سني، وإنما كان مرادي التوجه إلى البوادي السنية في ناحية الحناكية وغيرها من قبائل حرب وكان بعضهم متدينا وبعضهم لا يزال على الجاهلية الأخرى، فأخبرت بذلك الأمير فقال: ابدأ بالأقربين وبعد ذلك أهيئ لك السفر إلى غيرهم، واخترت الشيخ الحميدي بن رديعان أحد الأئمة غي المسجد النبوي وكان شيخا صالحا من أهل حائل لمرافقتي، فذهبنا إلى القرى المحيطة بالمدينة فلم نجد أحدا منهم ثأثر بدعوتنا إلا رجلا في الجرف وأظنه كان سنيا أما الباقون فإنهم كانوا يضيفوننا ولا يظهر عليهم أثر القبول.
وكررت الطلب على الأمير أن يهيئ لي أسباب السفر إلى الحناكية ونواحيها فكان يماطل، فاتفقت مع الأمير ماجد بن موقد أمير عوف القاطن في قرية النخيل وسافرت معه إلى النخيل بدون استئذان الأمير وبقيت هناك زهاء شهر. وأشهد بالله أنني ما مرت علي في حياتي كلها أيام صفا فيها قلبي وازداد إيماني وإقبالي على ذكر الله تعالى مثل تلك الأيام. وكانت معيشتهم في غالب الأوقات بل في كلها اللبن المخيض فقط إلا إذا جاءهم ضيف فإنهم يذبحون له ذبيحة ويبحثون عن شيء من الأرز من أردا أصنافه فيطبخونه نصف طبخ فلا أستسيغه، وكذلك اللحم يطبخونه نصف طبخ ولكني كنت آكل من الألية لأنها تنضج بأدنى طبخ، ومع ذلك كانت عندي تلك المعيشة أحسن من موائد الأمراء والمترفين وسأشير إلى ذلك في القصيدة الآتية إن شاء الله.(39/232)
ولما سمع الأمير بسفري غضب غضبا شديدا ولعنني ولعن قبيلة بني هلال كلها- توهما منه أنني أنتسب إليها وأنا إنما أنتسب إلى هلال وهو الجد الحادي عشر من ذرية الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه- وقال للشيخ محمود شويل: يا محمود قل له إذا رجع لا يمسك ورقة ولا يجلس في المسجد وقل لمحمد بن عبد الرزاق لا يجعله نائبا عنه في الصلاة أبدا، فلما رجعت زرته ومعي الأمير ماجد بن موقد وأخبرته أن رحلتي إلى النخيل كانت بإذن وحث وترغيب من رئيس القضاة الشيخ عبد الله بن حسن وهو يعلم ذلك فلم يقل شيئا.
واستمر الأمر على تلك الحال مدة سنتين فضاق الأمير بنا ذرعا ونفد صبره، فدعانا ذات يوم إلى قصره بعد صلاة الظهر وكانت العادة أن تكون الضيافة في الطبقة الأولى ولكنه صعد بنا إلى الطبقة الرابعة التي يسكن فيها عياله ووضع لنا تمرا وجحا وهو الحبحب بلغة أهل الحجاز ولبنا وقال لنا: هذا طعامنا معشر أهل نجد في النهار ثم قال: أنا ما دعوتكما للطعام ولكن دعوتكما لأخبركما بأني لا أشك في صحة عقيدتكما وأنكما تريدان الخير ولكنكما تجاوزتما الحد في الشدة، وأنتما تسمعان كلام الملك في مجالسه العامة وتفهمان منه شيئا ونحن نسمع كلامه في المجالس الخاصة وفي الرسائل الخاصة ونفهم منه شيئا آخر فعلى أي شيء نعمل على فهمنا أم على فهمكما؟! فقلنا له: إن كان الأمر كذلك ينبغي أن تعملوا على فهمكم فقال: إذا فتلطفا واتركا الشدة وكلاما طويلا من هذا القبيل ثم انصرفنا من عنده.
وكان يعني بالكلام الذي يقوله الملك في المجالس العامة ما كان يلهج به رحمة الله عليه إذا اجتمع عنده مشايخ العلم وهو قوله: أيها العلماء مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر فقد أخذت هذه الأمانة من عنقي ووضعتها في أعناقكم وأول من تبدؤون به في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أنا ثم أهل بيتي ثم عامة الناس.(39/233)
فلم نصدقه في قوله واعتقدنا أنه أراد أن يخدر أعصابنا بذلك الكلام الباطل واستمررنا على خطتنا، فتهيأ هو للانتقام وعرف ذلك أخوه العالم الصالح الشيخ محمد بن إبراهيم رحمة الله عليه فدعانا وقال لنا: اشهد الله على محبتكما وكأنه يتنصل بذلك ويتبرأ مما يبيته أخوه، وكذلك العالم الورع الشيخ عمر بن سليم رحمة الله عليه حذرنا من مكائد الأمير.
فأما الشيخ محمد بن عبد الرزاق فكاد له كيدا عظيما وكان- والحق يقال- أشد وأعنف عليه مني، وذلك أنه كتب إلى الملك عبد العزيز رحمه الله يقول: إن محمد ابن عبد الرزاق لا يطاق بقاؤه فقد كرهه سكان المدينة لغلظته وشدته وبلغ به التهور إلى أن وقف على المنبر وقال: لعنة الله عليكم يا أهل المدينة كلكم كفار، وهذا بهتان عظيم فإني كنت جالستا عند المنبر أستمع الخطبة التي زعم أنه قال ذلك فيها وكانت من خطب شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب بدون زيادة إلا ماجرت به العادة من الدعاء في آخر الخطبة الثانية فجاءت برقية من الملك تأمر الشيخ عبد الرزاق بالتوجه إلى مكة ليكون واعظا في المسجد الحرام كما كان من قبل.
أما أنا فكتب في شأني إلى الملك عبد العزيز وأخبره أني مشوش منفر قال: ولم يكفه إطلاع الإخوان الذين يزورونه في المدينة، على ما يزعم أنه من تقصير الحكومة حتى سافر إليهم في النخيل وجرأهم على انتقاد ولاة الأمر. وكان سبب غضبه علي أنه لم يكن يريد أن أتصل بقبائل حرب؛ لأنهم كانوا يشتكون غلظته وشدته وظلمه في أخذ الزكاة وغيرها من الأحكام فظن أنني ذهبت لأعرف ما ينتقد عليه وأكشفه، ويعلم الله أني كنت في واد وهو في واد وأن الوقت الذي قضيته عندهم كان كله في ذكر الله ومجالس العلم والوعظ والإرشاد، ولم أر مدة إقامتي عندهم منكرا حتى تمنيت أنني أبقى عندهم في ذلك الجو الرباني الصافي من كل الاكدار ولم أفكر قط في التدخل في شؤون الأمير.(39/234)
ولما كتب بذلك إلى الملك عبد العزيز رحمه الله انتظر أن تأتيني برقية تدعوني - إلى مكة كما وقع لرفيقي فلم يأتني شيء، فأمر وكيل المالية الشيخ عبد العزيز ا الخريجي أن لا يدفع لي راتبا، وحان وقت الحج فمر بنا الشيخ محمد بن. عبد اللطيف رحمة الله عليه فسافرت معه إلى مكة. وطلبت النقل إلى التدريس في المسجد الحرام فأجابني إلى ذلك الشيخ عبد الله بن حسن وطيب خاطري بكلام حسن أسأل الله أن يجزيه عني خيرا في دار القرار، وكان ذلك آخر العهد بالمدينة إلى أن ردني الله إليها بدعوة من صاحب السماحة العالم الصالح الورع الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز قبل ثلاث سنين زاده الله من فضله وأعلى درجته وجعله من الصديقين.
ذكر ما قلته من الشعر
أيام إقامتي الأولى في المدينة..( اللامية)
أصبح قول الحق في طيبة ... مثل يتيم ماله كافل
أنصاره مستضعفون على ... قلتهم وضدهم صائل
من يأمر بالعرف أو ينه عن ... نكر يغله منهم غائل
يكيده زعيمهم مثل ما ... يكيده السوقة والسافل
وذنبه عندهم جل أن ... يشمله من عفوهم شامل
إذ كل ذنب عندهم دون ذنب ... من يغار إن بدا باطل
ويرمقونه بأبصارهم ... شزرا وفيها حقدهم جائل
وإن رأى شركا وأنكره
... بالقول فهو الظالم العائل
قد عكسوا حكم إله الورى ... في الشرك بئس الفعل والفاعل
الله يغفر الذنوب معا ... وهو لكل تائب قابل
إلا الذي قد جاء بالشرك فهو ... آيس من عفوه عاطل
لأنه أكبر ذنب ورد ... أو منكر يعمله العامل
إنكاره التوحيد حتما فمن ... أقره فدينه باطل
وينصر الشرك على علمه ... بسوء عقبى من له مائل
إن جاءه مستنصرا صالح ... شالك له لنصره آمل
يكن كمن قد استجار بعمرو ... فأتاه حتفه العاجل
يأمر بالرفق وباللين في ... حق الإله صفحه شامل
ومن يرم من حقه ذرة ... فهو عليه ضيغم صائل
لا سامع عدلا ولا راحم ... ضعفا ولا شاكته قابل
يسلب من يأمر بالعرف حقا ... قد حباه المالك العادل(39/235)
ويستبد بالأمور معا ... حتى القضا فهو بد داخل
إن وافق الحكم هواه مضى ... أولا يحل من دونه حائل
* * *
قصة ابن منصور:
ويح ابن منصور غداة أتاه ... وهو لانتصاره آمل
الرافضي خصمه طالب ... تعزيره بكيده عامل
الرافضي قال: يا سيدي ... إنك أنت الحاكم الفاضل
كنت أسير في طريق قبا ... وشرب تتن شغلي الشاغل
فجائني هذا بظلم فقال: ... ألق هذا التتن يا جاهل
قلت له: دع الفضول ورح ... مثلك ما أنا به حافل
تناول التتن وألقاه من ... يدي فبى من فعله خابل
وهذه ياسيدي قصتى ... فحكم فإن حكمك الفاصل
قال: الأمير لابن منصور هل ... وقع ما قد قال ذا القائل
قال: نعم سلمك الله ما ... ذكره فكله حاصل
وقادني لك فقلت له: ... تسعى إلى حتفك يا سافل
واليوم ظني فيك أن تعلي الحق ... وأن ينخفض الباطل
ما كان من أمر الأمير سوى ... ركوب عار ما له غاسل
إلا بتوبة نصوح، وحب الجاه ... سد دونها حائل
تناول العصا وأمعن في ... ضرب فتى عن الأذى غافل
وهو إمام مسجد طالب ... لعلم حق ربه عامل
* * *
ضيم الحق:
خدش وجه الحق في ذلك النهار ... حتى دمه سائل
ضرب الموحد لإرضاء ذي الرفض ... بلاء غمه طائل
نهاه عن ذلك نصحا له ... يومئذ شقيقه الفاضل
قال له خف الإله فذا ... أمر عظيم شره هائل
ضربك من يأمر بعرف في
... طيبة لا يرضى به عاقل
* * *
فرح الفساق وحزم أهل الحق:
يا فرحة الفساق يومئذ ... طرا بما ارتكبه العامل
وحزن أهل الحق إنهم ... من ذا المصاب كلهم ذاهل
وذا نوذج لأفعاله ... وجلها عن الهدى مائل
تلون الحرباء في قوله
... وفعله لا حبذا الفاعل
فأين رفقه بلى إنه ... للمجرمين وحدهم شامل
لكن أهل الأمر بالعرف لا ... ينالهم من رفقه نائل
رفق بذي شرك وذي بدعة ... وذو الرشاد ليس يستاهل
وحسبه من رفقه أنه ... بسوطه لرأسه صامل (1)
كأن ذا المغرور يحسب أن ... الله عن أعماله غافل
من باع بالعاجل آجله ... يفوته العاجل والآجل
__________
(1) صمله بالعصا صملا: إذا ضربه.(39/236)
لم يعتبر ما قال خير الورى ... يا حبذا المقول والقائل
من يحدث الحدث في طيبة ... عليه لعن ربه نازل
ولعنه الأملاك والناس أجمعين ... قد صححه الناقل
مهما أتى بمنكر موبق ... يقل كذا أمرني العاهل
وإن أتاه الأمر بإصلح ... فما هوبه عامل
معتذر بأنه قد يرى الشاهد ... ما يجهله الراحل
* * *
تبرئة الإمام:
حاشا إمام المسلمين فلا ... يرضى بما يفعل ذا الخاتل
قوام ليل خائف ربه ... فوق الذي يأمله الآمل
ذو ذلة على الألى آمنوا ... وعزة إذا اعتدى الجاهل
نور الهدى بوجهه لائح ... ما هو مخسوف ولا أقل
من يره بديهة يحبه ... بدر علاه مشرق كامل
سبحان من ألبسه حلة ... من فضله فهو بها رافل
من معجزات المصطفى ... أمره لأنه بهديه عامل
يا أوحد الأملاك يا أول السبعة ... يا من بره هاطل
عبد العزيز العلم الفرد من ... عز وجل به دين الهدى الكامل
ابن سعود سعد الناس منذ ... بدا لهم فغمهم زائل
تشكو إليك طيبة كامل ... إليكم من ربنا واصل
يروي عن الرياض عن زهرها ... إلى الرياض طيبة حامل
( تمت اللامية)
*التائية*
يحركني للشعر من بعد تركه ... سنون هموم أكثرت زفراتي
أرى كل يوم منكرات كثيرة ... يقطع نفسي رأيها حسرات
فناديت في كل النوادي مؤذناً ... بنصح وكم رهبتهم بعظات
أيا قومنا هبوا من النوم أنكروا ... وغاروا على هتك لذي الحرمات
ألا غاضب لله يحمي حدوده ... ألا قائم بالحق حلف ثبات(1)
ألا باذل لله نفساً كريمة ... وعرضا مصوناً أصدق البذلات
يصيح يا أهل الشرك والفسق صائلاً ... كزأرة ضرغام على حمرات
ويدعو إلى التوحيد بالصدق دعوة ... معززة محمية بظبات(2)
يسيل على أهل العقول لسانه ... كسيف صقيل صادق اللهجات
يشن على أهل البدائع غارة ... فيحصد ما أبدوا من الشبهات
ويخطب في التحيد يبدي محاسناً ... تفيض لديها العين بالعبرات
__________
(1) ثبات: مفردها: ثبة، وهي الجماعة.
(2) مفردها: ظبة، أي حد السيف.(39/237)
يجيبه أهل العقل لبيك داعياً ... يخفون وحداناً له وثبات
ومن قد أبى إلا ضلالا فؤاده ... مصراً على الإشراك والبدعات
ويزري على التوحيد إما مصرحا ... وإما بتعريض بمشتبهات
مكباً على نشر الضلالة موضعاً ... إلى الشرك يهوي الخبط في الظلمات
فذلك حد السيف أشفى لدائه ... وإلا فسوط مؤلم الضربات
وإلا فحبس في السجون مخلداً ... وإلا فنفي مؤذن بشتات
وإلا فرفع للإمام بشرعة ... يرى فيه رأياً صادق العزمات
وإلا فقد خنتم أمانة ربكم ... وخنتم لخير الخلق كل وصاة
وخنتم إمام المسلمين بغشكم ... وقد أوجب الرحمن نصح ولاة
وخنتم عباد الله سراً وجهرة ... وكنتم لما ترعون شر رعاة
فلا تحسبن الله يغفل عنكم ... تعالى عن الإهمال والغفلات
ألم تسمعوا إيعاده في كتابه ... لمن لا يزيل النكر باللعنات
بلى قد سمعتم وعده ووعيده ... ولكنكم ساهون في الغمرات
أغركم إمهاله فطغيتم ... وصارت قلوب منكم صخرات
أفيقوا أفيقوا ويحكم قد هلكتم ... وإن الذب قد توعدون لآت
وليأتينكم عما قريب ترونه ... سراباً ولا يبقى سوى الحسرات
أفيقوا أفيقوا ويحكم قد بليتم ... ولا يفتننكم زخرف الشهوات
فتوبوا إلى الرب الغفور وأصلحوا ... وأوبو لنهج الرشد قبل فوات
لعمري لقد نبهت من كان نائماً ... وأيقظت من يصغي إلى كلماتي
فيا عجباً من ناصر لضلالة ... وخاذل لدين الحق فعل غواة
ومن بائع رشداً بغي سفاهة ... ولم يك ذا جهل بما هو آت
مخادع دين الله ساع لهضمه ... بكيد عظيم محكم الشبهات
ألم يدر أن الله يعلم جهره ... ويعلم ما يخفيه في الخلوات
ألم يدر أن الله ناصر دينه ... وقاذف أهل البغي في الهلكات
ويلبس مسك(1) الكبش سيد عملس(2) ... لتأمين أغنام وخدع رعاة
فكم خدع الراعي وعاث بضأنه ... فيا ضيعة الخرفان والنعجات
ويا ضيعة الدين الذي صار لعبة ... بأيدي طغام في الشرور سعاة
وإن هم دعوا للعرف أو نفي منكر ... تولوا وحاصوا حيصة الحمرات
__________
(1) مسك: جلد.
(2) أي ذئب مخادع.(39/238)
وصدوا عن الداعي وعدوه أحمقاً ... ثقيلاً بليد الطبع غير مؤات
يخوض بأمر ليس يعنيه ساعياً ... إلى حتفه جهلاً بغير حصاة
وقالوا له ذا ليس شأنك فانته ... وإلا تلاقى عاجل النكبات
فما أنت والأمر الذي لست أهله ... هذا ذيك يا مسكين فز بنجاة
فنحن ولاة الأمر فوقك حكمنا ... ونحن اصطفينا لا عتلا الرتبات
وأنت لحمق فيك أبقيت مهملاً ... ولم تك أهلا لارتقاء الدرجات
فدم في خمول واستعد لمحنة ... معجلة من أعظم المحنات
وقالوا تعالوا دبروا في مكيدة ... لنوقع ذا المجنون في الهلكات
تعالوا فشوا(1) عند الإمام ونمقوا ... له فرية من زخرف الكذبات
وقولوا له هذا شديد منفر ... عديم سياسات عديم أناة
فكم فتنة قد شب في الناس نارها ... وكم ذا له من طائش الحركات
نخاف اتساع الخرق إن دام أمره ... فأنزل عليه أعظم النقمات
ليزدجر الحمقى من الناس مثله ... وتنظيم الأحكام منضبطات
لقد غفلوا عن قول أصدق قائل ... لدى النمل تحذيراً لنا وعظات
فأخبر أن القوم جاؤوا بمكرهم ... فقد جاءهم مكر من الله آت
ففي آل عمران والأعراف والنسا ... كذلك آي غير مشتبهات
وهل تنفع الآيات إلا أولي تقى ... وأفئدة صينت من الكدرات
وأما القلوب الغافلات عن الهدى ... فليست -وإن تحرص- بمنتفعات
وما يستوي الأعمى وذو البصر الذي ... يميز به البيضا من الحفرات
وما يستوي النور المبين والدجى ... وما يستوي الأحياء وأهل ممات
فيا أيها القوم الذين تواطئوا ... على نصر ضلال وكيد هداة
ألم تسمعوا لعن الرسول لمحدث ... بطيبة يرويه أجل رواة
وأخبر أن الله يلعنه كذا الملائك ... طراً أعظم اللعنات
ويلعنه الإنسان مع كل لاعن ... مدى الدهر في الآصال والبكرات
ويشمل هذا اللعن من كان راضياً ... بما قد أتى من سيء الفعلات
تحمل هذا اللعن من ضل سعيه ... ليستمتع المغبون بالشهوات
فيا ويله ماذا تحمل من بلا ... لحظ قليل معقب بفوات
__________
(1) أي من الوشاية.(39/239)
ولو عاش فيهما عمر نوح وضعفه ... لما وعد شيئا إذ يرى الهلكات
فعما قريب يقرع السن نادماً ... إذ ما صحا في سكرة الغفلات
إلى الله أشكو لا إلى الناس إنني ... أرى الدين في نقص وافقد حماة
ويزداد لنا إلا إلى الله ملجأ ... لما مسناً من فادح النكبات
وليس لنا إلا إلى الله مفزع ... يفاجيئ أهل الزيغ بالنقمات
فيا رب، يا الله، يا سامع الدعا ... ويا كاشف الضراء والكربات
أغثنا بنصر من لدنك مؤيد ... لدين الهدى مخز لمن هو عات
فيخسر حزب المبطلين إذا بدا ... ويفرح حزب الله ساعة ياتي
وبصر إمام المسلمين بمكر من ... غدا لابساً للحق بالشبهات
ووفقه للخيرات وانصر جنوده ... على جند إشراك وكل بغاة
ويا رب متعنا بطول حياته ... وحفظاً له من كيد كل عداة
وصل على خير الأنام ومن مشى ... على نهجه بالصدق خير صلاة
وذي نفثة المصدور في وجه من بغى ... ثمانون بيتاً مثل نبل رماة
(تمت)
*اليائية*
خرجت بحمد الله للبدو داعيا ... إلى الله حسبي ناصراً وكفانيا
على جمل صعب بطيء مسيره ... وقر شديد في الشتاء عرانياً
لأرض قفار لا أنيس بها سوى ... أبي جعدة يعوي على الحزن عاليا
وإلا قليلاً من أعيرابها وهم ... كمثل وحوض في الفلاة رواعيا
تحملت في ذاك المسير شدائداً ... أريد به وجه الذي قد برانيا
تركت وثير الفرش مع لذة الغذا ... وراحة جسم في المقام بداريا
فوالله لا مالاً أريد له ولا ... لرفعه جاه كنت إذ ذاك ساعياً
ولكن مقصودي هداية معشر ... غدوا في قفار ما رأوا قط هاديا(39/240)
تنقلت في أحيائهم سبع عشرة(1) ... أذكر في أيامها واللياليا
وما منهم إلا مطيع ومقبل ... سوى بعض أعراب فما كان صاغيا
فلله أوقات مضت في ديارهم ... لقد كان فيها الدهر صفوا مؤايتا
معمرة بالذكر والفكر في الهدى ... فلم يك فيها القلب كالان لاهيا
بقول إله الحق طابت وبعده ... بقول رسول الله يذكر قافيا
منزهة عن فحش قول ولغوه ... لقد كان فيها القلب أبيض صافيا
ويزعم ذو البهت المبين بأنني ... خرجت لإفساد وما زال فاريا
__________
(1) إشارة إلى الأيام التي خرجت فيها إلى البوادي ورافقني الأمير ماجد بن موقد رحمة الله عليه، وكان أولئك البداة على دين الجهل والشرك وإتيان الكهان وترك الصلاة، فكانت الكاهنة تشد إليها الرحال ولا تتكهن لأحد إذ إذا وقع لها جملاً أو ناقة حلوانا، وكان الأمير ماجد رحمه الله شديداً عليهم لا يبدؤهم بالسلام، وإذا نزلنا في حي يأمرهم أن يأتوا بالشاة التي تعد لضيافتنا، فيذبحها أحد رفقائنا لأنه كان يعتبرهم مشركين لا تحل ذبائحهم وحدثني ونحن بين ظهرانيهم فقال: قد علمتنا التجارب التي شاهدناها بأعيننا أن النصر مقرون بالتوحيد والهزيمة مقرونة بالشرك فقد كنا نحن أنفسنا -قبل أن يمن الله علينا بالهداية- نستعد لقتال أهل التوحيد إخوان من أطاع الله بالآلاف والخيل والسلاح، فيأتينا منهم ثلاثمائة أو أربعمائة فإذا رأينا قلتهم طمعنا في استئصالهم حتى إذا رفعوا أصواتهم وقالوا: لا إله إلا الله وهجموا علينا تفرق جمعنا وانهزمنا لا نلوي على شيء، ونسيت أيضاً أن أقول فيما مضى: إن أمير النخيل في الوقت الحاضر المجمع على صلاحه وتقواه مشعان بن أخت ماجد كان في ذلك الوقت يافعاً، وكان يقرأ علي القرآن في أوقات فراغه فكان الصلاح عليه ظاهراً في تلك السن، لأنه كان يمل من حفظ القرآن كعادة الصبيان وهو الآن حي يشهد بصحة كل ما ذكرت وأن ما ادعاه أمير المدينة في ذلك الزمان علي كان اختلاقاً.(39/241)
ويزعم أني قد ركنت لمن بغوا ... فقبح ربي أينا كان باغيا
فيا ليته يأتتي إليّ مباهلاً ... لدى باب بيت الله له داعيا
فنجعل لعنات الإله جميعها ... على أينا قد كان في الشر ساعيا
ولا بد يوما أن يهشم باطل ... ويظهر حق كان من قبل خافيا
على الملك النقاد يطمع ذو الغبا ... يروج مكذوباً من القول واهيا
ويأبى له العقل الرجيح ودينه ... قبولاً لبهتان الذي جاء واشيا
وإنصافه عم النواحي وحلمه ... وبذل الندى من أم نحوه جائيا
لعبد العزيز الملك ن آل فيصل ... ثبات به فاق الجبال الرواسيا
ولكنه خف إلى المجد والندى ... وتلقاه يوم الروع عضبا(1) يمانيا
لئن قد بلغت عني خيانة ... لمبلغك الواشي أتى المين(2) غاويا
فما الباطل المأفوك إلا ضبابة ... تزول ويبدو الحق أبلج صافيا
لتبحث إمام المسلمين بعزمة ... سعودية تجلي الأمور كما هيا
وعندي من البرهان ما يهدم الذي ... بناه العدا من زخرف القول واهيا
أصغ لي إمام الخير واسمع أدلتي ... فلا زلت للمظلوم ملجأ صاغيا
بعدل وإنصاف أقامك ربنا ... مليكاً على هذي البلاد وراعيا
أوائله بالشام تلفي وحده ... يمد إلى أرض العراقين ضافيا
فلا زلت شمساً في اعتلاء ورفعة ... تضيء على المولى وتفني الأعاديا
ولا زلت ذا شكر على النعم التي ... حباك إله الناس للخير هاديا
وصل إلهي كل حين وساعة ... على المصطفى المبعوث للخير داعيا
(تمت)
*بيان قصة ابن منصور الواردة في القصيدة اللامية*
__________
(1) العضب: السيف.
(2) أي الكذب.(39/242)
هو محمد بن منصور إمام قرية من القرى التابعة لإمارة المدينة نسيت اسمها كان صالحاً حريصاً على الخير يحب في الله ويبغض في الله ويرضي الله وهو شاب من أهل نجد، وقعت له مع الأمير قضيتان الأولى هي التي ذكرت في القصيدة، كان ماشياً إلى قبا فلقي رجلاً من شيعة المدينة يشرب الدخان، فأمره بإلقائه فأبى فأخذه من يده وألقاه على الأرض، فأمسك به الشيعي وقال أخاصمك إليه فأينا المذنب؟! فقال الشيعي: أنت المذنب الظالم، فانطلق إلى الأمير وتبعه محمد بن منصور فلما وصلا إلى الأمير ذكر الشيعي ما وقع بينه وبين ابن منصور، فقال: إن ما قاله واقع وأنا اقتصرت في تغيير المنكر على أدنى ما يجب وهو أخذ لفافة الدخان من بيده وإلقاؤها على الأرض، وهو يستحق عقابا أكثر من هذا، فضرب الأمير ابن منصور ووبخه وقال له: مالك وله كان يشرب الدخان في الفضاء خارج البلد ومن جعلك رقيبا عليه هل أنت من جماعة الأمر بالمعروف؟ فقال ابن منصور: إن الأمر بالمعروف واجب على كل مسلم عموما وخصوصا على الأمراء فغضب عليه وضربه.
*القصة الثانية وهي أفظع*(39/243)
كان ابن منصور يدق الأبواب على أهل القرية قبل الفجر يوقظهم للصلاة فنهاه أهل القرية عن ذلك فلم ينته فضربوه، وعلم أنه إذا اشتكى إلى الأمير لا يأخذ له حقا ولا يدفع عنه ضيما، فانتظر حتى جاء الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن رحمه الله من الرياض مارا بالمدينة إلى مكة فكتب شكوى وسلمها إلي راجيا أن أبلغها إلى الملك فأخذتها حتى وضعتها في يد الملك فقرأها وسلمها إلى الشيخ عبد الله بن حسن رحمه الله ليحكم فيها، فدعا الشيخ الأمير وسلمها له وقال له: كيف يقع هذا في إمارتك؟ فقال: ما جاءني ولا أخبرني وأظهر تحمسا لنصره، وقال للشيخ: كن مطمئنا فإني سأعاقب أولئك الأنذال عقابا يردعهم، فلما توجه الملك عبد العزيز ومعه الشيخ عبد الله بن حسن إلى مكة دعا الأمير الذين ضربوه وأحضر ابن منصور وأوصى حاشيته أن يطلبوا منه العفو عنهم ويلحوا عليه في ذلك، فوبخهم الأمير وسبهم وهم بضربهم فقام أصحابه وقالوا: أيها الأمير أصلحك الله مهلا؛ لعله يصفح عنهم فطلبوا منه الصفح وألحوا عليه، وأظهر أهل القرية التوبة فعرف أنه مخذول وأن الأمر بيت بليل فصفح عنهم ولم يحصل على طائل، ولم أدرج هذه القصة في القصيدة لأنها وقعت بعد نظمها وفيما ذكرته في القصائد الثلاث كفاية.
* التدريس في المسجد الحرام *(39/244)
تقدم أني نقلت أنا ورفيقي إلى التدريس في المسجد الحرام. والتدريس في المسجد الحرام امتحان عظيم للمدرس فبينما ترى مدرسا مشهورا بالعلم والفضل قد جلس للتدريس في المسجد الحرام فلم يحضر درسه إلا قليل من الناس لا يكادون يتجاوزون عشرة ترى مدرسا آخر ربما يكون دونه في الشهرة أو في العلم قد حضر درسه مئات من المستمعين، وهذه الأمور تسير طبقا لقسمة الله تعالى كما ترى أصحاب الدكاكين هذا يزدحم المشترون عليه ويتدافعون وإلى جانبه دكان يحتوي على مثل ما في ذلك من البضائع أو أحسن وصاحبه عاطل لا يأتيه أحد، وكنت ولله الحمد من القسم المحظوظ فكان يحضر درسي أمام باب إبراهيم مئات من الناس ولم أعرف لذلك سببا إلا أني كنت أتكلم بلغة يفهمها أهل الأقطار المختلفة من البلاد العربية وأولئك المدرسون الذي كانوا في أزمة من قلة المستمعين حيث كانوا يتكلمون بعاميتهم الخاصة.
* التدريس في ا لمعهد السعودي *(39/245)
كانت مدارس الفلاح التي أسسها الشيخ عبد الله حمدوه منتشرة في أنحاء مكة والتلاميذ يقبلون عليها كل الإقبال؛ لأن الشيخ عبد الله حمدوه كان مربيا ناجحا في عمله وكان يدعوني كل سنة للاشتراك في الامتحان مع أساتذة المدرسة العليا له، وكان المعهد السعودي قد أسس قبل ذلك بمدة، ولم يحصل عليه إقبال للدعاية السيئة الراسخة في أذهان العامة أنه معهد وهابي يعلم تلامذته المذهب الوهابي حسبما يزعمه أعداء التوحيد ولم يكن ذلك هو السبب وحده بل كان هنالك سبب آخر وهو عدم كفاية المدرسين، فاجتمع رجال الشورى للنظر في رفع مستوى المعهد السعودي، واتفق رأيهم برئاسة سمو الأمير فيصل نائب الملك على أن يختاروا للمعهد معلمين اكفاء فوقع اختيارهم على مؤلف هذا الكتاب ورفيقه الشيخ محمد بن عبد الرزاق وأخيهم العالم السلفي الشيخ بهجت البيطار، فانتعش بذلك المعهد وكثر طلابه وصارت له مكانة عند الناس وكان مدير المعهد أخانا ورفيقنا الشيخ إبراهيم الشورى وكان يبذل جهده في رفع مستوى المعهد.
* السفر إلى الهند *(39/246)
أقمت في الحجاز اكثر من ثلاث سنين وأنا لا أزال فى عنفوان الشباب، ورأيت حتى في ذلك الزمان أن العالم بلا شهادة كالمسافر بدون جواز سفر ليس له مكان فى المدارس العليا، وإذا لئف كتابا أو أنشأ مقالآ فأول سؤال يسأله الناس: هل عنده شهادة عالمية؟ فيجيء الجواب: لا. فيقال حينئذ: (سيبك منه) يعني دعه ولا تلتفت إليه، وتاقت نفسي إلى الحصول على شهادة عالمية وكنت متصلا بالمكاتبة مع عالمين جليلين أحدهما تقدم ذكره وهو السيد سليمان الندوي، والآخر لم يتقدم ذكره وهو الشيخ أحمد السركتي في أندونيسيا، فلما علما بغرضي دعاني كل واحد منهما أن أكون مدرسا في مدرسته وأملت أني أستطيع أن أدرس دراسة عالية في الهند أو في أندونيسيا، وأحصل على شهادة أستطيع بها أن أروج علمي وآخذ حقي وأغزو المدارس العليا بدعوتي، فرجحت بقضاء وقدر من الله تعالى التوجه إلى الهند كان ذلك في أول سنة 1349 فعينت رئيسا لأساتذة الأدب العربي في كلية ندوة العلماء، وبقيت فيها ثلاث سنين ونيفا أبذل كل جهد في تعليم أدب اللغة العربية من أول درس إلى آخر درس بدون استعمال لغة أخرى.(39/247)
وقد كتب المربي الجرماني (برلتس) في مقدمة كتبه في تعليم اللغات الحية كلاما موزونا مفيدا جدا أقتبس منة قليلا قال: (( يجب على كل معلم للغة ما أن يعلم تلك اللغة بنفسها من أول درس إلى آخر درس ويمتنع من الترجمة امتناعا كليا، فإن تعلم لغة بلغة أخرى عقيم وفيه مفاسد: أولها: أن أكثر الوقت يمضي في استعمال لغة غير مقصودة بالذات، فيشتغل اللسان والفكر بشيء غير مقصود لذاته وذلك تضييع للوقت، وثانيها: أن المتعلم بتوسط لغة أخرى يضطر إذا أراد أن يكتب أو يتكلم إلى التفكير باللغة المتوسطة ثم ينتقل منها إلى اللغة المقصودة؛ ولنضرب لذلك مثلا: طالب عربي يريد أن يتعلم اللغة الإنكليزية إذا علمناه اللغة الإنكليزية بواسطة اللغة العربية وأراد أن يتكلم بالإنكليزية أو يكتب مقالا فلابد أن يفكر أولا بالعربية ثم ينتقل منها إلى اللغة الإنكليزية فيجيء كلامه وإنشاؤه ركيكين خاليين من الفصاحة وحسن البيان. ثالثها: أن مدة تعليمه تطول لأن اللغة المقصودة بالذات لا تنال من وقته إلا القليل كما تقدم. وضرب لذلك مثلا بالأطفال الصغار كل طفل يتعلم لغة أمه بدون ترجمة مع ضعف إدراكه في مدة قصيرة فينطق بها بغاية الفصاحة ولا يشعر بأدنى تكلف. وهذا هو الأسلوب الصحيح لتعلم اللغات وهو تكرر السماع على أذني المتعلم يعقبه النطق الصحيح، والكبير أحوج إلى هذا الأسلوب وأكثر انتفاعا به لكمال إدراكه وكم رأينا من رجل غريب حل بأرض قوم وهو لا يعرف من لغتهم شيئا وفي بضع سنين صار فصيحا في لغتهم دون استعمال ترجمة.(39/248)
ومن نصائح العالم الجرماني برلتس لمن يريد أن يعلم الناس لغة أن يبدأ بالمرئيات فيأخذ الكتاب مثلا، ويشير إليه وينطق بلفظ (كتاب) فيسمعه المتعلم فينطق مثله ويكرر ذلك حتى يرسخ اسم الكتاب في ذهنه، ثم ينتقل إلى القلم والقرطاس والمسطرة وهكذا دواليك. أما في الأفعال فيقوم المعلم وينطق بلفظ أقوم، ويجلس وينطق بلفظ (أجلس) ويمشي وينطق بلفظ (أمشي)، وهكذا إلى أن يتعلم الطالب ما يكفي السؤال والجواب فينتقل معه إلى طريقة السؤال والجواب، وهي أحسن الطرق في تعليم اللغات وقد شاع هذا الأسلوب في هذا الزمان. وقد استعملت هذا الأسلوب ولقيت صعوبة في أول الأمر لأني كنت أدزس كتب النهايات وبعد شهرين زالت الصعوبة وصار الطلبة يفهمون. وكنت أعلم الإنشاء والخطابة مرتين في الأسبوع في مقصورة واسعة معدة لإلقاء الخطب وفي ثلاث سنين وبضعة أشهر تخرج في الأدب العربي جماعة من الشباب أذكر منهم: مسعود عالم الندوي وأبا الحسن علي الندوي- وقد ذكرته من قبل- ومحمد ناظم الندوي وأبا الليث شير محمد الندوي وهو رئيس الجماعة الإسلامية في الهند في الوقت الحاضر وصار هؤلاء وغيرهم كتابا ومؤلفين وخطباء ولم يعهد مثل ذلك في الهند، وقد بين ذلك تلميذي الأستاذ أبو الحسن علي الندوي في مقالات نشرها. ولم يكن راتبي يزيد على مائة روبية ولكنني كنت أحتسب عند الله من الأجر والثواب في العاجل والآجل ما يفوق القناطير المقنطرة من الذهب والفضة. واغتبط بذلك رئيس الندوة السيد سليمان الندوي ونائبه وساعده الأيمن الطبيب الماهر الدكتور عبد العلي، واقترح على السيد سليمان أن أنشئ مجلة باللغة العربية ليتدرب فيها المتقدمون في العلم من الطلبة بكتابة المقالات فأنشأت مجلة ((الضياء)) وكان لها شأن عظيم لمدة من الزمن والآن تصدر في الندوة حفيدتها مجلة ((البعث الإسلامي)) وهي أشهر عند قراء اللغة العربية من نار على علم.
* محنة *(39/249)
كل قاصد لأمر عظيم لابد له من امتحان فإذا صبر ظفر وانتصر وإذا جزع ومل خاب وانكسر، كان للندوة رجال من مشاهير العلماء والأغنياء يدبرون شؤونها تحت رئاسة السيد سليمان الندوي، واتفق أن أحد كبارهم ويسمى الشيخ الشرواني لقيني وكان يريد أن أخضع له كما يفعل معه غيري من الشباب فلم أخضع له بل سلمت عليه سلاما عاديا فاغتاظ، وقال لي: لماذا تقص لحيتك؟ مع أني كنت أترك منها قبضة اليد كما جاء عن عبد الله بن عمر فقلت له: أقصها لأنها لحيتي وليست لحيتك!! فقال: لا تأخذ منها شيئا لأن الطلبة يقتدون بك، فقلت له: أنا أستاذ الأدب العربي وهناك أستاذ الفقه وأستاذ الحديث ولهما لحيتان طويلتان فكيف يتركون الاقتداء بهما ويقتدون بي؟! فغضب وانصرف، وكان ذلك من نزوات الشباب فعمل على إخراجي من الندوة، فانتظر إلى أن انعقد مجلس رجال الندوة (ولا أقول أعضاؤها لأنه محدث مقتبس من اللغات الأجنبية) فخطب فيهم الشيخ الشرواني وقال لهم: هذا الأستاذ العربي لا يعرف لغة أردو ولا يمكن أن يتمكن من تفهيم الطلبة مسائل العلم دون أن يشرحها لهم بلغتهم التي يفهمونها، فرد عليه السيد سليمان الندوي والدكتور عبد العلي وبينا له شدة حاجة الطلبة إلى سماع علوم الأدب العربي باللغة العربية، فوقع خلاف بين شيوخ الندوة وأخذت الآراء فانتصر الشرواني.(39/250)
فجاءني السيد سليمان الندوي والدكتور عبد العلي متأسفين ومعتذرين وقالا لي: لا شك عندنا أنك تريد بعملك في هذه المدرسة وجه الله تعالى بتعليم لغة القرآن، وقد قدر الشيخ الشرواني أن يقنع اكثر الشيوخ برأيه الباطل لجهلهم بشئون التعليم فنرجو من فضلك أن تمهلنا أربعة أشهر نجعل لك فيها سبعين روبية بنقص ثلاثين من الراتب وبعد أربعة أشهر، نرجو أن نفهم شيوخ الندوة مقدار الفائدة التي يجنيها الطلبة من علمك. فقبلت اقتراحهما، وأسست مدرسة صغيرة في بيتي لتعليم التلاميذ الصغار اللغة العربية لأبين خطأ رأي الشرواني الذي يزعم أن تعليم اللغة العربية بدون ترجمة لا يمكن، فاتفقت مع الدكتور عبد العلي ورجل من أشراف البلد كنا ندعوه منشي صاحب نسيت اسمه، فاخترنا عشرة من التلاميذ من صبيان المحلة لا يزيد عمر أحد منهم على أربع عشرة سنة وأخذت أعلمهم اللغة العربية بدون ترجمة طبعا، وبعد أربعة أشهر دعونا الأساتذة ليمتحنوهم فامتحنوهم في الإنشاء والإملاء والتحدث بالعربية والقراءة فوجدوهم قد تعلموا في أربعة أشهر ما لم يتعلمه كيرهم من الطلبة الكبار في خمس عشرة سنة بالترجمة، فتعجب الحاضرون وازدادوا يقينا بصحة ما قلته لهم. ثم انعقد مجلس الندوة وكان الرئيسان المذكوران قد عملا في تلك المدة على تفهيم شيوخ الندوة وإقناعهم بأن اللغة العربية لا يمكن تعلمها تعلما ناجحا إلا باستعمالها نفسها فأخذت الآراء فانهزم الشرواني ورجعت إلى الندوة.
* مكرمة عربية *(39/251)
لما علم السري النبيل الشيخ مصطفى آل إبراهيم بهذه الحادثة بعث إلي ألفا ومائتي روبية وقال لي: إني سمعت أن أهل الندوة عزلوك بعثت إليك هذه الدراهم وأنا مستعد لتلبيتك في كل طلب، وهذا المقدار الذي أهداه إلي هذا الرجل الكريم يساوي راتبي في الندوة لمدة سنة وكم له من مكارم. وهاك مكرمة أخرى نسيت أن أذكرها في موضعها، لما أمضيت سنة في الدورة اجتمع عندي من المال ما يكفي للتزوج والمعيشة استشرت العالم السلفي المحقق المتفق في علوم كثيرة الشيخ محمد بن أمين الشنقيطي نزيل (الزبير) بلدة قرب البصرة، استشرته وطلبته أن يساعدني على اختيار زوجة ولم أكن أعلم أن عنده بنتا بلغت سن الزواج، فلما أخبرت بذلك خطبت إليه ابنته فقال لي رحمه الله: أنا لا أجد لها أحدا أفضل منك، ولكن أمرها يبدأ منها فأنا أكون واسطة بينكما، فقلت: إني مستعد لإرضائها فلتطلب من المهر ما شاءت فطلبت مهرا عاليا فأجبتها إلى طلبها.(39/252)
وكان الشيخ مصطفى آل إبراهيم إذ ذاك في الهند فلما سمع بعزمي على الزواج بعث كتابا إلي وكيله الشيخ أحمد المشاري آل إبراهيم بارك الله في حياته يقول له: اجعل نفقات زواج الهلالي من السركار، فقال لي الشيخ أحمد: إن مصطفى كتب إلي بكذا وكذا فكم تحتاج إليه من النفقة؟ فقلت: لا أحتاج إلى شيء فقال: لابد من تنفيذ ما طلب مني فأصررت على أني لا أريد شيئا فكتب لي كتابا إلى الحاج أحمد الذكير بالبصرة يقول فيه: أي مقدار طلبه منك حامل الكتاب فلان فأعطه إياه، ورافقني أحد عبيدهم وهو أبو مقبل، فقال لي: إن الشيخ أحمد كتب إلى الذكير بكذا وكذا، فكيف تمتنع من قبول هديتهم وأنت أستاذهم ونحن عبيدهم وخدامهم يزوجوننا من السركار؟! وأخذ يخاصمني طول الطريق من الدورة إلى البصرة، ويقترح علي أن أطلب من الحاج حمد على الأقل ألفي روبية، وكان سعر الروبية في ذلك الزمان ثلاث عشرة روبية بجنيه إنكليزي، فلما وصلنا إلى الحاج حمد الذكير قال لي: كم تريد فقلت: ألفا وخمسمائة، فلما علم ذلك الشيخ مصطفى بعث إلي من الهند حوالة قدرها سبعمائة روبية فصار المجموع ألفين ومائتين روبية، فأسأل الله سبحانه أن يكرمه في الدنيا والآخرة، والسبب في ذلك كله حركة إعراب وهي فتحة قوله تعالى: { حَمَّالَةَ الْحَطَبِ } لأنها كانت سبب التعارف ثم صارت بيننا رابطة توحيد الله واتباع رسوله صلى الله عليه وسلم.
* رحلة إلى أفغانستان *(39/253)
وقعت في أفغانستان في ذلك الزمان حركة أمان الله خان، وأشيع أنه أراد تغيير أحكام الإسلام من جنس ما فعله مصطفى كمال في البلاد التركية، فثار عليه الملك ناذر شاه وقضى على حركته واستولى على الملك، فتاقت نفسي إلى معرفة أحوال المسلمين في تلك البلاد، فتوجهت إلى سملة وهي عاصمة بلاد الهند الصينية وحصلت على سمة دخول إلى أفغانستان من السفارة الأفغانية. ومدينة سملة مبان متفرقة في سفح أحد جبال هملايا والتجول فيها لا يمكن إلا بركوب الركشة وهي عربة فيها مقعد واحد يجرها رجلان من أمام ويدفعها رجلان من خلف لأن الطريق جبلية ضيقة ولا يوجد في ذلك الجبل عدا ذلك إلا سكة الحديد وطريق واحد يمتد في وسط المدينة يمكن أن تسير فيه السيارة.(39/254)
وكان الشيخ إسماعيل الغزنوي رحمه الله كتب لي توصية إلى إمام المسجد، وبعد مشقة وصلت إلى المسجد فلم أجد الإمام فأعطاني قيم المسجد غرفة مفروشة حين أخبرته أنني جئت إلى الإمام بوصية، وكان الوقت بعد صلاة الظهر وكنت جائعا فخرجت من المسجد فرأيت بيتا كالدكان فيه رجل يطالع كتابا له لحية طويلة سوداء، فتوسمت أن يكون مسلما فسلمت عليه فرد علي أحسن رد، وقلت له: إني جائع أريد طعافا فدلني على مطعم قريب، فطوى كتابه وقام وسد الدكان وقال: اتبعني فصعد في الجبل في طريق للمشاة ملتو يسقى في جبال نمسا بالطريق الحنشي لأنه يشبه الحنش، حتى وصلنا إلى بيت فدخل وأذن لي في الدخول ثم فتح مقصورة وأمرني بالجلوس فجلست، وغاب عني قليلاً وأنا أتعجب لأن هذا المكان ليس بمطعم قطعًا فجاءني بطعام كثير، فأكلت ثم جاء بالحلوى ثم قال لي: هذا بيتي أرجو أن يكون هذا الطعام قد وافقك وكان كلامه كله بالعربية، ثم سألني من أنت؟ فقلت له: أنا محمد تقي الدين الهلالي أستاذ اللغة العربية بندوة العلماء، فعانقني وقبل رأسي وقال لي: هذا يوم مبارك سعيد، فنادى ابنه وهو شاب في سن العشرين وقال له إن الله أكرمنا في هذا اليوم بكرامة عظيمة هذا الأستاذ محمد تقي الدين الهلالي مؤسس مجلة الضياء الذي نقرأ مقالاته، ونحن في شوق إلأى لقائه قد جاءنا وشرف بيتنا فعانقني ابنه وبالغ كلاهما في الترحيب، ومن سوء الحظ نسيت اسم هذا الرجل وكنت أذكره إلى وقت قريب ثم ذهبنا إلى المسجد، والتقينا بالإمام الذي جئت بتوصية إليه فقرأها وتنافس الرجلان في ضيافتي وإكرامي. فبقيت في ضيافتهما ثلاثة أيام قضيت في أثنائها الوطر الذي سافرت إلى سملة من أجله، وهو طلب سمة الدخول إلى أفغانستان من السفارة الأفغانية، إلا أن رجال السفارة مع إكرامهم لي اعتذروا لي بأن النظام المتبع يقتضي أن تبعث رسالة برقية إلى وزارة الخارجية في كابل، فإذا جاء الإذن منها يمكن إعطاء سمة الدخول. قال لي أحد(39/255)
رجال السفارة: أيمكنك أن تدفع ثمن البرقية؟ فقلت: نعم. فقال لي: سأحاول أن أجعلها رخيصة الثمن لأن العادة تقضي بأن نكتبها باللغة الفارسية لكن بحروف إنكليزية والقانون يقضي على مكتب البريد أن يعد كل خمسة عشر حرفا كلمة واحدة، ولذلك سأجمع لهم في كل كلمة عدة كلمات فشكرته على ذلك. فلم يبطئ الجواب وجاء بالقبول فتوجهت من سملة إلى لاهور ومنها إلى بشاور. وبقي علي أمران أحدهما طلب الإذن بالدخول إلى أفغانستان من السفارة الفرنسية، وأقرب سفارة فرنسية إلى بشاور هي بومباي والمسافة بين بشاور وبومباي خمس وثلاثون ساعة في القطار ذهابا ومثلها إيابا وفي ذلك من النفقة والتعب ما لا يخفى، وكان عندي جواز مغربي فرنسي آخر بلد مذكور فيه (فارس) وتسمى بالفرنسية (لابرس) وقواعد اللغة الأوروبية كالفرنسية والإنكليزية والجرمانية والإسبانية تقضي في المتعاطفات أن لا يذكر حرف العطف إلا في آخرها فإذا أرادوا مثلاً أن يقولوا جاء زيد وعمرو وبكر وخالد يقولون: جاء زيد عمرو بكر وخالد، ومن تفطن إلى لغة القردة من كتاب العرب ومذيعيهم يجدهم يستعملون هذه القاعدة في اللغة العربية، ففكرت للمرة الأولى والأخيرة في التصرف في جواز السفر بزيادة لفظة أفغانستان فجربت ألوانًا من الحبر حتى وجدت حبرا مشابها للحبر الذي كتبت به أسماء البلدان المأذون في دخولها في جواز سفري وكان جواز سفري قد بلغ بكثرة الإضافات خمسين صفحة يتحير فيه كل من رآه حتى أرشده أنا إلى ما يريده، فلما وجدت الحبر المناسب عمدت إلى حرف العطف الذي قبل فارس فكشطته بسكين حادة ثم كتبت مثله وبعده كلمة أفغانستان، وهذه مخاطرة عظيمة ولاسيما في مدينة بشاور لأنها آخر مدينة في حدود المستعمرة البريطانية العظمى التي كانت تسمى الهند الإنكليزية، وفيها من الشرطة السرية والعلنية ومراقبة المسافرين ما يوجد عادة في البلاد التي على الحدود فلابد أن أدخل امتحانا عظيما حين أقدم جوازي لرجال الأمن(39/256)
لأنهم يفحصونه فحصا دقيقا وإذا اطلعوا على التزوير يبالغون في عقابي. وكنت قد نزلت ضيفا مكرما عند الشيخ عبد العزيز الندوي البشاوري، وكان من كبار التجار من العلماء. فبقيت عنده أسبوعا، ومن خصائص هذه المدينة أن أهلها لهم صهاريج كبيرة يملأونها ثلجًا في وقت الشتاء وفي وقت الصيف يأخذون منه كل يوم ما يبردون به مشروباتهم، وأظن أني رأيت مثل ذلك في مدينة كركوك وأربل في شمال العراق، وكتب لي توصية لابن عمه في كابل وهو تاجر كبير اسمه إلهي بخش.
ثم دخلت الامتحان وهو تقدديم جواز سفري لرجال الأمن ليرخصوا لي في الخروج من الهند إلى أفغانستان، وكنت خائفا جدا أن يكتشفوا التزوير فأعماهم الله عنه ورخصوا لي في الخروج من الهند. وقبل أن أخرج من بشاور أخبر القارئ أن سكانها أفغانيون يتكلمون بأربع لغات لغتهم الخاصة ولغة أردو ولغة بشتو وهي الأفغانية واللغة الفارسية وهي لغة حكومة أفغانستان الرسمية والعلمية، ولغة بشاور قريبة من لغات بنجاب!(39/257)
ويختلف الأفغانيون عن أهل الهند ببياض ألوانهم وقوة أجسامهم وكثرة أكلهم بالنسبة إلى أهل الهند. ركبت سيارة البريد وتوجهت إلى كابل ولما وصلتها أخذت عربية إلى بيت إلهي بخش فوصلت إلى بيته وناولته الكتاب، فقال لي بلغة أردو: بأي لغة تتكلم؟ فقلت له: بالعربية فقال لي: بالعربية فقط؟ فقلت: نعم ثم قلت له: إن العربية لغة القرآن ولغة الرسول صلى الله عليه وسلم فيجب على كل مسلم أن يتعلمها فقال: (مشكل) وهذه الكلمة تستعمل في لغة أردو بمعناها العربي، ثم قال لي: ادخل فدخلت وصعدت معه الدرج إلى الطبقة الأولى بناء على اصطلاح الأوروبيين، فإنهم لا يعدون الطبقة الأرضية، فوجدت فيها مكتبه التجاري وغرفاً أخرى فجاءني بالشاي الأخضر، لأن أهل أفغانستان يشربون الشاي الأخضر كالمغاربة وجاء بالخبز فملأ كأسي وحلاّها بالسكر وأكلت معها شيئاً من الخبز ثم صبّ لي الكأس الثانية إلى نصفها ولم يملأها ولا وضع فيها سكرًا! فقلت له: ضع فيها السكر فقال لي: إنها الكأس الثانية فقلت له: وهل الكأس الثانية تشرب مرة؟ فقال: نعم هذه عادتنا نحن لا نحلي إلا الكأس الأولى وما زاد عليها نجعله إلى النصف مرا، فقلت: { وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا } ثم صعد بي إلى الطبقة الثانية وأدخلني غرفة مفتوحة للسطح وفيها فراش، فقال لي: اجلس هنا وأنا أرجع إلى أشغالي التجارية وسأعود إليك بعد صلاة الظهر، فأخرجت القرطاس والقلم وكتبت إلى الشيخ عبد العزيز الندوي كتابا قلت له: فيه إن ابن عمك إلهي بخش لم يكرمني ولم يتلقني ببشاشة، فبدلاً من أن يرحب بي قال لي: (مشكل) وسأنتقل من بيته إلى (مسافر خانه) أي بيمت المسافر وهو بمنزلة الفندق في أقرب فرصة، ووضعت الكتاب في غلاف وكتبت عليه العنوان باللغة الإنكليزية فلما جاء بعد صلاة الظهر رأى ذلك الكتاب موضوعا إلى جانبي فقال لي: من كتب هذا؟ فقلت: أنا. فقال: تعرف اللغة الإنكليزية فقلت: نعم فتهلل وجهه وظهرت عليه أمارات الفرح(39/258)
وأخذ يتكلم معي بالإنكليزية قال لي: لما سألتك ماذا تعرف من اللغات قلت لا أعرف إلا العربية فلماذا لم تخبرني بأنك تعرف اللغة الإنكليزية؟ فقلت لم يخطر ببالي أنك تعرفها لأن هيئتك بهذه اللحية الطويلة والثياب الأفغانية لا تدل على ذلك فقال لي: بلى أنا سافرت إلى البلاد البريطانية مرارا لجلب البضائع واستمر على تلك البشاشة مدة إقامتي في كابل وهي خمسون يوما، وبلغ به الحرص على إكرامي إلى أننا حين زرنا وزير الخارجية فضل محمد لنأخذ منه الإقامة، دعاني الوزير إلى أن أكون ضيفا على الحكومة فجزع إلهي بخش لذلك وقال له: أنا خادم الحكومة، وأنا أنوب عنها فأرجو أن تسمحوا ببقائه عندي فقال: لابأس.(39/259)
ثم زرت العلماء وهم الشيخ سيف الرحمن الأفغاني والشيخ منصور الهندي وشيخ الطريقة الشيخ المجددي. والطريقة المجددية في البلاد الأفغانية هي أعظم الطرائق انتشارا وتليها الطريقة القادرية. وأهل أفغانستان كلهم إلا المتفرنجين متمسكون بطرائق المتصوفة وشيوخ الطرائق كثير عددهم. وقد كنت جالسا في مكتب إلهي بخش فجاء رجل يتبعه ستة نفر ويعظمونه غاية التعظيم فجلس وشرب الشاي ثم أعطاه إلهي بخش شيئا من الدراهم وانصرف وتبعه عبيده، فقال لي الشيخ إلهي بخش: أتدري من هذا؟ قلت: لا. قال: هذا شيخ طريقة. ومن هم أولئك النفر الذين يتبعونه؟ فقال لي: هم كل ما عنده من المريدين وقد فرض عليهم أن يخصصوا يوما في الأسبوع لخدمته من الصبح إلى المساء يطوفون معه على التجار لجمع الصدقات فتعجبت من ذلك، فقال لي: لا تعجب فإن هذا شيخ محظوظ لأنه حصل على ستة مريدين، وهناك شيوخ ليس لهم ولا مريد واحد وهم يبحثون عمن يكون مريدا لهم فلا يجدون، فيأتي أحدهم مثلاً إلى الرجل فيقول له: أريد أن تجعل لي بعض أولادك يكون مريدا لي فيقول: كل أولادي يتبعون شيوخا آخرين فيقول: أعطني من سيولد لك!! فيقول: قد وعدت بهم شيخا آخر، فإذا ظفر برجل يعده بأنه إذا ولد له ولد يكون مريدا له ينتظره إلى أن يولد ويكبر فيتخذه مريدا.(39/260)
أما الطريقتان المجددية والقادرية فهما غنيتان عن مثل هذا العمل. ورأيت الشيخ المجددي وأنا عنده يأتيه الشخص ويذكر له أن عنده مريضا فيأخذ عُوذة من وعاء مملوء بالعوذ ويناولها إياه ويأخذ منه دريهمات. وهذا الشيخ المجددي يعظمه جميع الناس ويقبلون يده حتى الملك ناذر شاه، وقد عرض عليه أن يكون وزيرا للعدل فامتنع من ذلك لأنه يحط من قدره إذ يحتاج إلى أن يقف مع الوزراء في المحافل الرسمية، ثم قبله على أن ينيب عنه صهره في الاشتراك في المحافل ولا يباشر هو بنفسه عمل الوزارة. وقد رحب بي هؤلاء الشيوخ وفرحوا بمقدمي وأجمعوا على أنه لابد أن أنزل في ضيافة الحكومة، فكلموا وزير الخارجية فقال لهم: لقد دعوته إلى ذلك من قبل فلم يقبل أبو مثواه، فحتموا عليّ أن أنزل في دار الضيافة فنزلت فيها وهي في الفندق الفخم المسمى هوتيل دي كابل خارج المدينة، ونزّال هذا الفندق ما بين أوروبي وأمريكي وتركي أو متفرنج يتزيا بزيهم، وبين الفندق ووسط المدينة نصف ساعة لراكب العربة فشق علي أن أقيم في ذلك الفندق للأسباب التي ذكرتها، أضف إلى ذلك أن أجرة اليوم الواحد في ذلك الفندق ست عشرة روبية أفغانية، وأنا أستطيع أن أعيش بروبية واحدة في كل يوم فإن الأطعمة والفواكه كثيرة ورخيصة فلماذا أتحمل تلك المنة؟!
فبقيت ثلاثة أيام ثم قلت لأولئك العلماء: أنا جئت من الهند لزيارتكم والتحدث معكم وقد أبعدتموني عنكم وصعبتم علي لقاءكم بهذه الضيافة التي حتمتم علي فقالوا لي: نحن أردنا إكرامك فإن كان الأمر كذلك فاذهب إلى وزير الخارجية واعتذر له بمثل ما ذكرت لنا، وكان الوزير قد عين لي شهرا كاملاً في الضيافة فذهبت إليه فأعفاني من ذلك ورجعت إلى بيت إلهي بخش.
*الشيخ عمر أوزبك*(39/261)
من فوائد هذه الرحلة أني لقيت العالم الأمير المجاهد الشيخ عمر أوزبك، وهو عالم من خيرة علماء أوزبكستان من الأتراك المسلمين القاطنين بالاتحاد السوفييتي، حارب الاستعمار الروسي اثنتي عشرة سنة كما أخبرني هو بنفسه بذلك رحمة الله عليه وقص لي قصته، وهي باختصار أنه لما وصل الزحف الشيوعي إلى بلاده نادى في الناس بالجهاد فتبعه تلامذته وكثير من المؤمنين، وخرجوا إلى الجبال وأخذوا يغيرون على العدو المغير على بلاده ليسلبهم أثمن شيء عندهم وهو الدين، فما زالوا يحاربون مدة اثنتي عشرة سنة حتى قتل أكثرهم وضاقت عليهم المعيشة ففروا إلى الحدود الأفغانية فقبض عليهم الأفغانيون، وكان مع الشيخ أهله وثلاثمائة من خير أنصاره ثم عرفت الدول الأفغانية فضل هذا الشيخ وعلمه وصلاحه فأطلقت سراحه وأعطته مبنى كبيرا سكن فيه وجعل بعضه مدرسة ومسجداً، ففرحت كثيرا بلقاء هذا الشيخ لأن نور الإيمان كان يشرق على وجهه كما قال تعالى: { سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم } (ا لفتح: 29).
*الكلام بالعربية*
كنت أزور هذا الشيخ مرة بعد مرة فجاءني يوما رجل وقال لي: إن زوجة الشيخ تسلم عليك، وتقول: إنها علمت أن الشيخ قد فرح بقدومك وأجلّك فهي ترجو أن تشفع لها ولأولادها عنده أن يتكلم معهم بلغتهم ولو ساعة في كل يوم، فقلت في نفسي: هذه معضلة! ثم ذهبت إليه وشفعت عنده، فقال لي: إن الروسيين أجبرونا على تعلم لغتهم فتعلمناها، وأتقناها، ولولا أنهم علموا أن تعلم لغة القوم يقرب المتعلم منهم لما أجبرونا على تعلم لغتهم، فأنا لا أتلكم مع المسلمين الأقربين والأبعدين إلا بلغة القرآن والرسول صلى الله عليه وسلم، لإإن شاءت هي وأولادها أن أتحدث معهم فليتعلموا لغة القرآن والرسول وأنا مستعد لتعليمهم إياها. وكان هذا الشيخ الجليل يتقن ثلاث لغات التركية وهي لغته والفارسية والروسية، كتابة وقراءة وتحدثاً وتأليفاً وكان رحمه الله صادقاً فيما ذكر.
*زيارة الملك*(39/262)
في تلك الأيام جيء بجنازة محمد عزيز خان أخي الملك ناذر شاه قتل في جرمانية وكان سفيراً لأخيه في برلين، فوجهت أم الملك السابق آماني الله خان طالباً أفغانياً لقتله انتقاماً لابنها فقتله، وكان وزير الخارجية فضل محمد قد عرض عليّ مرتين زيارة الملك فدعوت للملك بخير، وقلت لا حاجة لي عند الملك وإنما جئت للقاء العلماء، فإن كان واجب اليافة يقضي علي بزيارته فأنا مستهد لها، فلما جاءت جنازة أخيه رأى العالمان الجليلان الشيخ سيف الرحمن والشيخ منصور أنه لا بد من زيارته وتعزيته فذهبت معهما وعزيناه فتلقانا بما ينبغي للعلماء من الإجلال وجلسنا في مكان غير بعيد من مجلسه. وكان المجلس يضم جميع الوزراء والأعيان وسفراء الدول كلهم فكانت الوفود من القبائل والمدن تأتي لتعزيته فلا يكاد الوفد الواحد يحصل على أكثر من خمس دقائق لكثرة الوفود وضيق الوقت المحدد، وكان كل وفد يقدم أمامه قارئ القرآن فيقرأ آية واحدة قصيرة ثم يعزونه بالفارسية فهمت تقريبا كل ما قال وفي السوق إذا سمعت كلام أصحاب الدكاكين لا أفهم ما يقولون إلا قليلاً، وسبب ذلك أن المتكلمين باللغة الفارسية في تلك البلاد مختلفون فكلما ازداد أحدهم علوا في الثقافة والأدب الفارسي يكثر من إدراج المفردات والجمل العربية في كلامه فلا يبقى إلا الضمائر وبعض الأفعال التي تختم بها الجمل، وبينما نحن كذلك جاء الشيخ عمر أوزبك، ولم يصحبه أحد مع أن تلامذته يعذون بالمئات كما تقدم وأظنه فعل ذلك تواضعا، ووقف أمام الملك فتعوذ وبسمل بصوت عال وبدأ سورة طه حتى وصل إلى قوله تعالى: { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي النُّهَى } (طه: 54)، وذلك ربع هذه السورة وكانت قراءته في غاية الترتيل ولم يجسر أحد أن يقول له: قد أطلت وأخذت أكثر من حقك من الوقت فاختم، ثم عزاه بالعربية الفصحى وانصرف.
*لماذا لم أحرص على زيارة الملك؟*(39/263)
لم أحرص عليها لأن القوم اعتادوا أن لا يجيئهم أحد من العرب إلا طامعا في رفدهم فتوكلت على الله، وقلت في نفسي: لأقيمن لهم البرهان على أن العرب ليسوا كلهم مستجدين لاسيما وقد علمت من أستاذ اللغة العربية وهو مصري -نسيت اسمه لسوء الحظ- أنه في تلك السنة زار أفغانستان رجلان ممن ينتمون إلى العلم والأدب؛ أحدهما عراقي والآخر شامي (ولا أقول سوري لأنه معرب سرياني كما أن سوريا معناه بلاد السريانيين والعرب لا تعرف بين العراق ومصر إلا الشام كما قال شاعرها:
أزمان سلمى لا يرى مثلها ... الراؤون في شام ولا في عراق
وأشعارهم في ذلك كثيرة).(39/264)
أما العراقي فحكى لى عنه أمورا قبيحة منها أنه عندما أراد التوجه إلى أفغانستان ذهب إلى سفيرها الأستاذ المجددي في جدة فسأله توصية إلى الحكومة لتضيفه وتكرمه فكتب له ما أراد، فلما وصل لم يستقبله وزير الخارجية ولا رجال الضيافة بما كان يؤمل من الحفاوة وزاد في الطين بلة وفي الطنبور غنة أنه طلب لقاء الملك فلم يروه أهلاً لذلك إلا أنهم أنزلوه في دار الضيافة ولما أراد السفر سألوه: ما هي وجهتك؟ فقال: بغداد، فقالوا: بأي طريق؟ فقال: إيران. فقدموا له من المال ما لكفى لنفقات سفره فى الدرحة الأولى وظن أن ذلك المال جائزة فاستصغرها وأطلق لسانه في الفندق بسب الحكومة والطعن فيها، فبلغ وزير الخارجية فدعاه وقال له: بلغنا أنك تسبنا على رؤوس الأشهاد فما ذنبنا؟ فقال: أنا صحفي كبير مرتبط مع صحيفة واسعة الانتشار ولم تسهلوا لي لقاء الملك ثم أعطيتموني جائزة حقيرة، فقال له الوزير: لولا أن الناس رأوك في ضيافتنا لأمرت بسجنك ثم إخراجك من البلاد على حالة لا تسرك، ولو علمنا أنك هكذا ما استقبلناك ولا أنزلناك في دار الضيافة والنقود التي أعطيناك ليست جائزة كما توهمت ولا ثمناً لدعاية تعملها لنا في الصحيفة التي تذكر أنك مراسلها فلا حاجة لنا بدعايتك، ولكن من عادتنا أن كل ضيف ننزله في دار ضيافتنا إذا أراد الرحيل قدمنا له زاداً يوصله في الدرجة الأولى إلى البلد الذي جاء منه وقد سألتك عن وجهتك وطريق سفرك وإلى أين تسافر فأخبرتني فقدمنا لك مقدار ما يكفي لسفرك في الدرجة الأولى، فقال: عدلت عن السفر بطريق إيران وأريد أن أسافر بطريق البحرو هذا لا يكفيني فقال الوزير: فهلا جئتني وأخبرتني بذلك فأزيد في مقدار الدراهم دون أن تطلق لسان السوء في فندق مشحون بالأجانب من أجناس مختلفة.(39/265)
وخبرني الأستاذ المصري بأمر هو أخبث من ذلك، فقال: قال لي ذلك العراقي: هل تريد أن تسافر إلى مصر بطريق العراق؟ قال: فقلت: نعم، قال: فقال لي إذا وصلت إلى بغداد فزرني، فإن لي أختاً جميلة أقدمها لك لترافقك، (قال مؤلف هذا الكتاب: ووجود هذا الرجل في العراق لا يضير العراقيين ولا ينقص من قدرهم فهم أهل الشجاعة والكرم والإباء وشرف النفس ولا يوجد في الدنيا شعب كلهم خيار، فهذا من شذاذ وقد سجنه العراقيون سنين ونبذوه فهام على وجهه)، أما العالم الشامي فإنه لم يفعل شيئا من مثل ذلك إلا أنه جاءهم بقصد الاستجداء وقبل ما قدموه له من المال ولم يتعفف عنه ولذلك صمصت ألا أقبل منهم شيئا.
*المرض بالحمى النافض*
كانت مدينة كابل في ذلك الزمان وهو سنة 1352هـ غير نظيفة ولا مبلطة الشوارع، وكانت المياه القذرة تجري في وسط المدينة في قنوات مكشوفة وتنبعث منها رائحة كريهة، فبعد إقامتي فيها نحو شهر أصابتني الحمى النافض التي تسمى في هذا الزمان ملاريا، وكنت في دار إلهي بخش ولا أستطيع أن أتفاهم مع خدامه وأخذني إلى طبيب متخرج في لندن فأعطاني دواء فلم ينفعني، وكان يتردد علي لطلب علم الأدب العربي الشيخ محمد عمر الأفغاني، وكان قد درس في بلاد الشام وتزوج بامرأة شامية وله منها ولد عمره اثنتا عشرة سنة، وكان قد اقترح علي أن أنتقل إلى منزله ليخدمني هو وأهله فأبى إلهي بخش، فلما مرضت وعجزت حتى عن تناول الماء للشرب استأذنت أبا مثواي في الانتقال إلى بيت محمد عمر فأذن لي، فأقمت في بيته مدة تقارب عشرين يوما وكان إلهي بخش لا ينقطع عن زيارتي، ومما قاله لي ذات يوم: نحن ما رأينا من العرب أحدا عفيف النفس يحافظ على شرفه مثلك، فقلت له: إن في العرب من أهل الفضل والشرف والعفاف الجم الغفير، ولو أنك ذهبت إلى بلادهم لرأيت إباءهم وكرمهم وعلو همتهم، ولا يأتيكم هنا منهم إلا قليل جدا من ذوي الحاجات.(39/266)
وكانت الحمى تأتيني يوما وتتركني يوما، وفي اليوم الذي تأتيني فيه تبدأ قبل الزوال بساعة فلا يأتي وقت العصر إلا وقد فقدت إدراكي وصرت أهذي هذيانا، وكان محمد عمر وأهل بيته يعتنون بي أشد العناية بحيث لو كنت في بيتي لما لقيت أكثر من ذلك فجزاهم الله خيرا وأكرمهم في الدنيا والآخرة، وكانت لغتهم هي العربية فلا أحتاج إلى كلفة فيما أريد ولم تكن تفارقني الحمى إلا بعد منتصف الليل، وكنت في ذلك الزمان أعتقد أن جمع التقديم للمسافر لا يجوز وإنما جمع التأخير فكنت أؤخر صلاة الظهر إلى أول وقت العصر فلا يكون عندى من الإدراك ما أضبط له الصلاة، فكنت أسرع في الصلاة مضطجعا بالفكر وحده فتأخذني غمرة من الإغصاء ثم أفيق ثم أشرع في الصلاة مرة أخرى ثم يأخذني الإغماء ثم أشرع فيها مرة ثالثة فلا أكاد أتمها إلا في الثالثة أو الرابعة، ولو كنت في ذلك الوقت آخذا بالرخصة كما آخذ بها الآن، لصليت الظهر والعصر جمعا في أول وقت الظهر قبل أن يختل عقلي وكانت تلك الحمى تبلغ من الشدة إلى حد أنني حين أبول أصيح من شدة حر البول، فلم يمل محمد عمر ولم يكل.
*علاج غريب*(39/267)
كنت في زمان الجهل أكتب للمحموم في قشرة لوز (فرعون) وفي أخرى (قارون) وفي أخرى (هامان) كلهم في النار، فآمر المحموم أن يتبخر بالقشرات الثلاث في كل يوم حين تجيئه الحمى فقلت في نفسي وقد ضعف عقلي وجسمي: دعني أجرب هذا العلاج، ثم قلت: ليس عندي دليل شرعي على أن هذا يجوز ولكن غلبني الضعف، وقلت لمحمد عمر: ائتني بشيء من اللوز لاكتب على قشوره فلم يجد شيئا فقلت له: اكتب على قطع من القرطاس بدل قشرة اللوز ما تقدم ذكره فكتب ذلك، ولما جاءتني الحمى وبدأ غليانها يشتد تبخرت بتلك القطع فخفت عني الحمى إلى حد أنني لم أفقد عقلي في ذلك، وصليت الظهر والعصر جالسا وقلت لمحمد عمر: ينبغي أن أرجع إلى الهند. فقال لي: أنت ضعيف جدا لا تستطيع السفر فقلت له: اطلب من مدير المدرسة رخصة ثلاثة أيام لتصحبني إلى حدود الهند فإن مت في الطريق فغسلني وصل علي وادفني، وإن وصلت إلى الحدود فارجع راشدا، فطلب الإجازة وحصل عليها.(39/268)
وفي ذلك اليوم جاءني إلهي بخش فقلت له: سلم لي على وزير الخارجية فضل محمد وقل له: إني أشكره وأشكر جلالة الملك ورئيس الوزارة على إكرامهم واستأذن في السفر، فرجع إلي في اليوم الثاني الذي لا تجيئني الحمى ووجد رجلين من المدينة النبوية عند محمد عمر فسألني عن الحال وبلغني سلام وزير الخارجية وقال لي: اكتب عليها بالإنكليزية أنك تسلمت خمسمائة روبية أمر لك بها رئيس الوزراء على ما جرت به العادة من تقدرتم الزاد لكل ضيف ينزل في ضيافة الحكومة بقدر ما يوصله إلى البلد الذيم يقصده، وقد أخبرته أنك تريد الرجوع إلى لكناو وهذا المقدار هو أجرة السفر إلى لكناو في الدرجة الأولى، فكتبت على تلك الصحيفة بالإنكليزية إني أشكر جلالة الملك ومعالي رئيس الوزراء، ومعالي وزير الخارجية، وأعتذر عن قبول هذه الهدية لأني كما أخبرت معالي الوزير في البرقية قبل دخول أفغانستان وأخبرته مرارا مشافهة أن غرضي من زيارة أفغانستان زيارة العلماء والاطلاع على أحوال المسلمين ولا حاجة لي بذلك المال، فقرأه إلهي بخش وقال: الحمد لله هذا الذي كتبت كنت أتوقعه وأخبرت الوزير به وكنت خائفا أن أكون مخطئا فإني قلت له: غالب ظني أن محمذا تقي الدين الهلالي لا يقبل هذه الدراهم وقد صدق ظني.
ففهم الرجلان المدنيان أنني رفضت قبول ذلك المال، فلما انصرف إلهي بخش أظهرا غضبهما، وقالا لي: يا شيخ إيش سويت؟ ما تخاف الله نحن جئنا من المدينة إلى هنا وقطعنا بحورا وبرا ونحن محتاجان إلى روبية واحدة وهذا مال حكومة فإن كنت مستغنيا عنه فهلا قبلته وقدمته لنا حتى يكون لك عند الله أجر عظيم، وأغلظا علي في القول حتى اتهماني بالنفاق فأنكر ذلك عليهما محمد عمر فقلت له: دعهما فإن الحاجة أنطقتهما بذلك وشرحت لهما قصة العراقي والشامي فأصرا على أن عملي كان خطأ فقلت لهما؟ هذا هو اجتهادي.
*حال المسلمين في أفغانستان في ذلك الزمان*(39/269)
كان أمان الله خان الملك السابق قد أجبر النساء على السفور ولبس الثياب التي لا تستر عورة المرأة وهي كلها عورة إلا الوجه والكفين، وأجبر الرجال حتى قاضي كابل وعمره ثمانون سنة أن يلبسوا الثياب الأوروبية الضيقة، وكان يشجع الفتيات على حضور الحفلات شبه عاريات، فلما انتصر عليه الملك ناذر شاه رجعت النساء إلى حجابهن ومنعن من الخروج إلا لحاجة مع التستر التام، ولكن كانوا غالين في التمسك بفروع المذهب الحنفي فكانوا يؤخرون العصر إلى قرب الاصفرار ولا يقبلون من مسلم أن يكون له مذهب غير حنفي، حتى إنني لما كنت مسافرا من بشاور إلى كابل وصار وقت الظهر ووقفت السيارة فنزلت وتوضأت وتوضأ بعضى المسافرين وجاؤوا ليصلوا معي فلما رأوني رفعت يدي عند الركوع قطعوا صلاتهم وصلى كل واحد وحده.
ومرة سافرت في سيارة من لاهور إلى بشاور فلما جاء وقت الصلاة توضأت وصليت معهم مأموما، فلما رأوني أرفع يدي عند الركوع وعند الرفع منه وعند القيام من التشهد الأول أخذوا يتكلمون مع الإمام غضابا باللغة الأفغانية وطال خصامهم معه حتى بعد ما ركبنا في السيارة، فلما انتهت الخصومة التفت إلي وقال بالعربية: أتعرف لماذا كان هؤلاء يخاصمونني؟ قلت: لا. قال: لأنك رفعت يديك في الصلاة ظنوا أنك من الفرق الضالة فبينت لهم أن الحق ليس منحصرا في المذهب الحنفي وحده وأن أئمة أهل السنة كل واحد منهم روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث صحت عنده فعمل بها وعمل بها أتباعه.(39/270)
وكان ذلك الإمام من جماعة مولاي إلياس وهي جماعة مشهورة في الهند عندها شيء من التصوف يطوف رجال هذه الجماعة في جميع أرجاء الهند وفي أوروبا وأمريكا وفي أفريقية، وكانوا يزورون المغرب في كل سنة يدعون الناس إلى قول لا إله إلا الله والمحافظة على الصلاة وهم موجودون هنا في المدينة أيضا، ومن عادتهم أنهم لا يقبلون من أحد من أهل البلدان التي يزورونها شيئا لا مالاً ولا طعامًا إلا إذا تحققوا أن من قدم لهم ذلك الطعام من أهل العلم والصلاح إخلاص النية لله، وكان يخرج معهم بعض أصحابنا السلفيين إلى القرى والبوادي للدعوة، والذي أخذته عليهم هو الالتزام الشديد لفروع الحنفية فلا يكادون يعملون بالأحاديث الصحيحة إذا خالفت فروع الحنفية، وهناك شيء آخر أقبح من ذلك وذلك أنهم يصلون في المساجد المبنية على القبور التي اتخذت أوثانا تعبد من دون الله ولا ينكرون على عبادها وحضرت مجالسهم في بشاور يجتمعون كل يوم جمعة بعد العصر في بيت أحدهم، وما عندهم لا رقص ولا غناء ولا ذكر مشتمل على بدعة، يقرأ كل واحد منهم ما تيسر من القرآن في المصحف ثم يترجمه إلى لغة يفهمها الحاضرون إما لغة أردو أو الفارسية أو الإنكليزية، وأنا لا أمنع أصحابنا من مرافقتهم إلا أنني أحذرهم من الصلاة في المساجد المبنية على القبور وآمرهم بإنكار الشرك والبدعة كلما رأوا شيئا من ذلك بقدر جهدهم.
ولم أر في أفغانستان منكرات ظاهرة كتبرج النساء وشرب الخمور، ونسيت أن أقول: إنني لما قطع أولئك الأفغانيون صلاتهم خلفي لمتهم على ذلك فقال لي رجل من الذين لم يصلوا: لا تعبأ بهؤلاء فإنهم لا صلاة لهم لأنهم (سود خور) يعني أكلة الربا.
*بوز دوزخ*(39/271)
ذكرت فيما مضى أني لم أر في أفغانستان منكرات ظاهرة، وذلك يدل على أنهم كانوا متمسكين بالدين على قدر مبلغهم من العلم ولكن كان هناك متفرنجون قليل عددهم عظيم كفرهم، وكانوا مستائين من انتصار الملك ناذر شاه وقضائه على دعوة أمان الله خان التي تشبه الدعوة الكمالية: ومن هؤلاء نائب وزير التعليم وكان الأفغانيون يسمونه بوز دوزخ؛ ومعناه بالفارسية تيس جهنم، أخبرني الشيخ إسماعيل الغزنوي رحمة الله عليه أنه زاره في مكتبه فرأى صورة لينين معلقة فوق رأسه فقال له: كيف تعلق هذه الصورة وأنت تعلم أن صاحبها عدو للدين؟ فأجابه بقوله: إني أعبد هذا الرجل.
*عودة إلى السفر*(39/272)
خرجت مسافرا من كابل يرافقني الصديق المخلص محمد عمر في اليوم الذى لا تأتيني فيه الحمي على أنها بعد ذلك العلاج الغريب صارت لا تأتيني إلا خفيفة جدا. ركبنا في سيارة البريد وسارت بنا ساعة واحدة، فأحسست بالجوع ولم أحس به منذ أصابتني الحمى إلا في تلك الساعة فقلت: يا محمد عمر أنا جائع، فقال: هذه علامة خير أنا ما جئت بطعام لعلمي أنك لا تأكل وما عندي إلا شيء من الخبز والمشمش، والمشمش في كابل مطعم بالخوخ كبير الحجم لذيذ الطعم، (والتطعيم هو أن يؤخذ غصن من شجرة فيحفر له في ساق شجرة أخرى غار ويدخل بعض الغصن في ذلك الغار ثم يسد فتتغير ثمرة الشجرة وتصير ممتزجة مع ثمرة الشجرة التي أخذ منها الغصن فيتألف منهما حجم جديد وطعم جديد). فأخرج لي ما عنده من الخبز والمشمش فأكلته ولم أشبع ومررت على مطعم فيه قدور كبيرة مملوءة باللحم والمرق وخبز أفغاني كبير يكاد الرغيف منه يكون كخمرة المصلي أي الحصير الذي يصلي عليه، فقلت لصاحب السيارة: قف فإني جائع جدا فقال لي: أمامك مطاعم أفضل من هذا. ثم تعطلت السيارة فلم نصل إلى أول مطعم إلا بعد مضي هزيع الليل، وكنت خائفا أن لا أجد طعاما ولكني وجدته فأكلت شيئا كثيرا من اللحم والمرق والبطيخ ولم أجد خبزا ولم يضرني شيء من ذلك ولا أصابتني الحمى بعد ذلك، فتعجبت من تأثير ذلك العلاج العجيب ولم أستطع تعليله إلى الآن وخطر ببالي أنه ربما يكون حر الجمر والدخان الذي كنت أتبخر به سببا في زوال الحمى، وقد خبرني بعض الأطباء الأوروبيين الذين هم معجبون بطب العرب أن العرب كانوا يداوون الشيء بجنسه لا بضده، كما يفعل اليونانيون فيداوون الحرارة بحرارة من نوع آخر والبرودة برودة من نوع آخر وهكذا، فإن صح ما قاله هذا الطبيب فلعل حرارة النار أذهبت حرارة الحمى بإذن الله والله أعلم.(39/273)
ولما وصلنا إلى حاكم بلاد الحدود بين أفغانستان ومستعمرة الهند الإنكليزية ويسمى هذا الحاكم سرحد دار (ومعنى سرحد بالفارسية رأس الحد، ودار تختم جزء كلمة تختم بها أسماء المحترفين فيقال للخازن خزنه دار). أكرمنا حاكم الحدود وقدم لنا نوعا من البطيخ لينا يؤكل بالملعقة تقطع البطيخة نصفين وتغرز ملعقة في وسط كل نصف ويقدم للضيف في صحن فيأكل اللباب بالملعقة ويبقى القشر كأنه إناء مستدير، وجاءت امرأة أوروبية وقدمت له جوازها فسألها بالفارسية فلم تفهم شيئا وتكلمت باللغة الفرنسية فلم يفهم أحد من الحاضرين ما قالت ثم تكلمت بالإنكليزية فلم يفهم أحد شيئا فاستأذنت الحاكم في أن أترجم له كلامها ففرح بذلك، فقلت له: أنها فرنسية وإانها مسافرة إلى كابل لزيارة زوجة السفير الفرنسي في كابل، فقدم لها نصف بطيخة وفيها ملعقة مغروزة وكنا نحن قد فرغنا من أكل البطيخ فتحيرت وقالت لي: كيف يمكن أكل البطيخ بالملعقة؟ فقلت لها: هذا النوع لين جدا يمكن أن تدخلي فيه الملعقة وتأخذي ملئها ثم تملئيها مرة أخرى حتى يبقى القشر كأنه إناء فارغ.
*استدراك*(39/274)
ذكرت شيئا وقع في كابل نسيت أن أذكره في محله. جاءني صاحب صحيفة إصلاح، وسألني أسئلة كثيرة تتعلق بحال المسلمين في المغرب فأخبرته بجميع ما يرتكبه المستعبدون الفرنسيون في المغرب من الفظائع من قتل وسجن ونفي وتعذيب واغتصاب أملاك، وكان جواز سفري قارب الانتهاء فعزمت على أن أرجع إلى الهند قبل انتهاء مدته لأنني كنت لا أشك بأن السفارة الفرنسية في كابل قد اطلعت على ذلك المقال وعلى مقال آخر نشرته في مجلة أخرى نسيت اسمها، فمنعني الشيخان سيف الرحمن ومنصور فقلت لهما: إن السفير الفرنسي لابد أن يكون قد اطلع على المقالين فإذا أقمت هنا إلى أن تنتهي مدة الجواز وذهبت إليه ينتزع مني الجواز ويطردني فقالا: توكل على الله ولا تعجل بالرحيل وربما نأخذ لك جوازا أفغانيا. وهذا من المستحيل ولكنهما شيخان من شيوخ علم الدين لا علم لهما بقوانين جواز السفر. فبقيت إلى أن انتهت مدة الجواز وتوجهت إلى السفارة الفرنسية وأنا خائف أشد الخوف فلما قدمت جوازي للكاتب أخذ يسألني عن المغرب وعن رحلتي إلى هذه البلاد وقبل ذلك قال لي: بأي لغة تتكلم؟ فقلت بالعربية والإنكليزية، فقال لي: ولا تعرف الفرنسية؟ فقلت: لا، فدعا بترجمان يسمع كلامي بالعربية، ثم يترجمه بالفارسية. ثم يترجم بالفرنسية! ثم قال لي: تكلم بالعربية فتكلمت فقال لي: أنا أفهم كل ما تقول ولا حاجة إلى الترجمة وقد أقمت بالمغرب سنين وبالجزائر سنين فما رأيت أحدا يتكلم بالعربية بفصاحة مثلك وأخذ الجواز وجدده وقال لي: إن ثمن التجديد خمس عشرة روبية وقد أعفيتك من دفعها إكراما لعلمك باللغة العربية ثم قال لي: أين تعلمت الإنكليزية؟ فقلت: في الهند، فقال لي: كم سنة قضيت في تعلمها؟ فقلت: سنتين، فقال: سنتان فقط وتقدر أن تتكلم بها!! فقلت: نعم.
*عودة إلى الهند*(39/275)
لما وصلنا إلى حدود الهند ودعني الشيخ محمد عمر راجعًا إلى كابل لأنه وجد سيارة متوجهة إليها ولما رأى مفتش الأجوزة جوازي، قال لي: أنت ليست عندك سمة الدخول إلى الهند، فأريته أن نائب القنصلية الفرنسية في البصرة كتب في جوازي ما نصه (يجوز لحامله أن يدخل الهند كم شاء من المرات ما لم تنقض سنة من تاريخه) فأخرج لي كراسًا مكتوبًا بالآلة وقال لي: اقرأ هنا فقرأت بالإنكليزية ما معناه (كل قادم من أفغانستان يجب أن تكون عنده سمة دخول إلى الهند إما منكابل وإما من جلال آباد) وجلال آباد مدينة صغيرة على نحو الثلث من طريق كابل ثم قلت له: راجع رؤساءك في بشاور بالتليفون فقال لي: إن القانون صريح فمراجعتي لهم تكون غباوة مني وإياك أن تظن أنني أريد بك شرا، هذا سرير للنوم وأنا مستعد لضيافتك إلى أن تمر بنا سيارة متوجهة إلى أفغانستان، ففوضت أمري إلى الله وذهبت حقيبتي مع سيارة البريد التي كنت مسافرا فيها إلى بشاور وقال لي: تريد شرابا أخضر أو أسود؟ فقلت: لا أريد شيئا، فلم يمض إلا وقت قليل حتى جاءت سيارة من الهند متوجهة إلى أفغانستان فأمر سائقها أن يوصلني إلى سرجد.
فلما رجعت إلى حاكم الحدود وأخبرته بما جرى تأسف وقال لي: مرحبا بك بت هذه الليلة هنا وفي الصباح تسافر إلى جلال آباد فإن فضي غرضك فيها فذاك وإلا تتوجه إلى كابل، وأخبرني أن تلك المرأة الفرنسية لما ذهبت أنا إلى حدود الهند سألتهم بالإشارة عني فأخبروها أني مغربي فطلبت لقائي فلما بحثوا وجدوا السيارة قد سارت، وكان الفرنسيون في ذلك الوقت يحكمون المغرب الكبير أي معظمه من حدود تونس إلى حدود سينيغال ويعطفون على المغاربة إذا رأوهم خارج المغرب كأنهم منهم، أما في داخل المغرب فيذيقونهم العذاب الأليم.(39/276)
فبت تلك الليلة عند الحاكم، وفي الصباح توجهت إلى جلال آباد فلقيت الكاتب المختص فلم يأذن لي بالدخول إلا بعد مضي ساعتين ولما أذن لي وأخبرته بمرادي أخذ يقرأ جوازي ويسألني عن كل شيء خفي عليه منه إلى أن أتى عليه ثم قال لي: لابد أن تسافر إلى كابل واستغرق بحثه في الجواز ساعة وكان من أخبث الكتاب وكان هنديا ثم توجهت إلى كابل وأقمت بها أربعة أيام حتى حصلت على سمة الدخول إلى الهند من السفارة الإنكليزية ورجعت إلى بشاور ونزلت عند الشيخ عبد العزيز الندوي ثم عدت إلى لكناو.
* ركوب الفيل*
ترددت قليلاً في إثبات قصة ركوب الفيل لأنها من الاستطراد الذي لا علاقة له بالدعوة ولا بطلب العلم فخيلت أن بعض القراء الذين يحبون الاطلاع على كل شيء يقول لي: أثبتها كما أثبت غيرها مما لا علاقة له بالموضوع، ونهمة القراءة كنهمة الطعام فكما أن الطاعم لا يصبر على طعام واحد فكذلك القارئ.(39/277)
كان في الهند رجل من أهل العلم يتردد علي حين كنت في لكناو وقد أخبرني أن أصله من العرب وأبوه (راخا) أي من رؤساء الإقطاع ودعاني مرارا لزيارة والده فأجبته إلى ذلك، وأخذت معي أخي محمد العربي ومحمد مظهر وكلاهما كان طالبا في المعهد السعودي بمكة ثم انضم محممد مظهر إلى تلامذة ندوة العلماء وهو مولود بمكة وأصله من الهند، فبعث لنا ابن الراجا فيلاً قد جعل على ظهره متكأ من الزرابي والوسائد وركبنا القطار من لكناو حتى وصلنا إلى المحطة التي كان الفيل ينتظرنا فيها فأناخ الفيال الفيل، ولم أكن أعلم قبل ذلك أن الفيل يناخ كما يناخ البعير وبعد ما أناخه لم ينقص من علوه إلا قليل لقصر قوائمه وضخامة بطنه، فأعاننا الفيال حتى ارتقينا إلى ظهره وجلسنا نتحدث ونطالع الكتب، فركب الفيال على قفا الفيل وبيده عصى كعصى القدوم في رأسها حديدة يضرب بها الفيل على رأسه عند الحاجة فسار بنا الفيل سيرا سريعا، وكان الفيال قاسيا على من يصادفه في الطريق من الفلاحين الذين كانوا يسافرون من مكان إلى مكان في عربات تجرها الثيران، فإذا أحس الثور بصوت الفيل ينفر ويخرج من الطريق وهو مرتفع فيقع في المزرعة ويسقط الفلاحون من عرباتهم المفتوحة وتسقط أمتعتهم فيضحك الفيال فرحمناهم ونهيناه عن ذلك. ولما حان وقت صلاة الظهر قلنا له: نريد أن نصلي فأناخ الفيل حتى نزلنا وصلينا ثم عدنا للركوب. وللفيالين لغة تعرفها الأفيال ولا يعرفها أحد غيرهم، فوصلنا إلى الراجا ووجدنا له قصرًا تحيط به أراض واسعة يملكها كلها ويملك من فيها من الفلاحين، فأقمنا عنده بضعة أيام وأكرمنا غاية الإكرام وأخبرنا أن جده جاء من عمان منذ زمان وأن أسلافه تركوا له هذه الثروة وهو يحن إلى وطنه الأصلي إلى بلاد العرب.(39/278)
وعلى ذكر الفيلة أقول إن أمثال هذا الراجا في الهند كثير وكلهم رؤساء إقطاع الواحد منهم يملك بضعة وعشرين فيلا، علفُ الفيل الواحد منها يكفي للنفقة على إطعام خلق كثير من الناس وليس لهم غرض بهذه الفيلة إلا التفاخر والتكاثر، وكنت أشاهد مواكب الفيلة في مدينة لكناو إذا كان عند أحد الرؤساء الملقبين بهذا اللقب فرح كعرس أو خطبة يؤلف رعاياه موكبا من الفيلة وعلى ظهرها قباب من الحرير المذهب يجلس فيها أقارب الراجا من رجال ونساء ويطوف الموكب المدينة كلها، وتكون القباب التي على ظهور الفيلة مساوية في الارتفاع تقريبا لمن يجلس في الطبقة الأولى من البيوت.(39/279)
أقمنا عند الراجا العربي بضعة أيام كما تقدم ثم استأذناه في السفر فهيأ لنا الفيل وكان أخي محمد العربي مولعا بركوب الإبل فسأله أن يعطيه ناقة يركبها بدل الفيل فأعطاه إياها، ولما أخذ الفيل يسير بنا في الطريق إلى محطة سكة الحديد وبيننا وبينها ثلاث ساعات بسير الفيل أخذ يسير ببطء شديد، فقلنا له: أسرع كما كنت تسرع في المجيء حتى لا يفوتنا القطار فقال لنا: إنني سأسرع بكما كما أسرع بسيدي الراجا ولكن لا أضمن لكما أن تصلا إلى المحطة قبل وصول القطار إليها وإذا وصلنا متأخرين ووجدنا القطار قد فات يلزمكم أن تبيتوا في القرية المتصلة بالمحطة ولا تجدون فيها طعاما ولا مأوى وتمضون فيها يوما وليلة إلى أن يجيء القطار من الغد، ففهمنا مقصوده وهو أنه يريد البخشيش فأخذني العناد وقلت في نفسي: سيده يدعونا ليكرمنا وهو عبد يتحكم في رقابنا ويغرمنا، فقلت له: إما أن تسرع كما فعلت في المجيء وإلا كتبت إلى سيدك لينزل بك أشد العقاب يا غدر يا لكع فأخذ يتكلم مع الفيل بلغة الفيالين ويضربه على رأسه بالحديد ويقول له: مَجَمّ مَجَمّ (بفتح الميم والجيم وتشديد الميم) أي أبطئ فلا يزيد الفيل إلا إبطاء وتثاقلاً، فتعجبنا من ذلك. وكنا قد سبقنا أخي محمد العربي بمسافة طويلة فلما تباطأ الفيل لحقنا فسمع الفيل رغاء الناقة فنفر وهرب بنا فأخذ الفيال يضربه بالحديدة ويقول: مَجَمّ مَجَمّ فلم يطعه فقلنا: الحمد لله انحلت المشكلة وأمرت أخي محمد العربي أن يبقى دائما خلفنا بناقته ويضربها لترغي فبطل كيد الفيال وضحكنا عليه كثيرا، فوصلنا المحطة قبل مجيء القطار بساعة، وكان الفيال وثنيا فلما نزلنا وأراد أن يرجع جمع كفيه وألصق يديه بصدره إشارة لتحية الوداع وهي تحية معروفة عند الوثنيين، وطلب البخشيش وهو ما يعطى من الإكرام للخدم فقلت له: مَجَمّ مَجَمّ هذا هو البخشيش الذي نعطيك الذي أعطيتنا وهو مجم مجم، فانصرف خائبا وهذه القرية التي فيها محطة سكة(39/280)
الحديد هي أحد أملاك الراجا.
*الحمى النافض*
اشتد علي مرض الحمى حتى أصابتني في تسعة أشهر سبع مرات في كل مرة أبقى محموما من أسبوع إلى أسبوعين. ومن أجل من عرفته من الأطباء النطاسيين في مدينة لكناو الدكتور محمد نعيم الأنصاري، وقد نزلت عنده ضيفا مكرما مرارا قبل أن أستوطن لكناو في إحداها أقمت عنده خمسة عشر يوما ليس لنا طعام إلا العدس لأن الحرب شبت نارها بين المسلمين والهنادك فتعطلت الأسواق، وجعل أغنياء الهنادك لكل من يأتيهم من سفلتهم برأس شخص مسلم سواء أكان ذكرا أو أنثى صغيرا أو كبيرا قويًا أو عاجزا مبصرا أو أعمى عشر روبيات.
وكان غاندي الزعيم الهندي طليقا غير مسجون وكان في إمكانه أن يخمد تلك الحرب بكلمة واحدة فلم يفعل لأنه كان من أكبر أعداء الإسلام، والجاهلون بحاله من العرب يقدسونه كما يقدسه الوثنيون في الهند ويسمونه المهاتما جهلاً منهم والمهاتما معناه المقدس عند الوثنيين، وكان عالي الثقافة شديد التعصب عظيم المكر والدهاء يتظاهر للمسلمين بالمسالمة والمحبة كالحية الرقطاء، وقد زعم في صحيفة هريجان أن الله أوحى إليه أن طهر المنبوذين وألحقهم بإخوانهم من الطبقات العليا. وقال في صحيفته: فإن سألتموني دليلاً حسيًا على أن الله أوحى إليَّ بذلك أقول لكم: ما عندي دليل ولكني لا أشك في هذا الوحي.(39/281)
وهذا العمل منه يدل على أنه لم يكن مؤمنا بدين أسلافه البراهمة لأن محو الطبقات وتوحيدها يهدم الذين البرهمي من أساسه لأنه مبني على عقيدة تناسخ الأرواح، وذلك أن الأرواح تأتي إلى الدنيا في أجسام الأطفال عند ولادتهم فإذا كبر الطفل وعمل أعمالاً مطابقة لما تريده الآلهة وكان في طبقة سافلة كالمنبوذين تنتقل روحه بعد موته وترجع إلى الدنيا في مولود من طبقة أعلى منها، فإذا عمل بما تريده الآلهة في هذه الطبقة الثانية يرجع إلى الدنيا بعد موته في جسم مولود من الطبقة الثالثة، ثم إذا عمل بما تريده الآلهة في الدور يرجع بعد موته إلى الدنيا في جسم مولود من الطبقة العليا وهي طبقة البراهما.
أما إذا عمل بخلاف ذلك وكان في طبقة عالية غير طبقة البراهمة فإنه يعود إلى الدنيا في طبقة أسفل منها، وإن استمر على فعل السيئات في نظرهم لا يزال يسفل إلى أن ترجع روحه في أجسام الحيوان ثم لا تزال تسفل حتى ترجع في أجسام الحشرات طبقا لقانون الجزاء وهو الثواب والعقاب، ولذلك قتله المتعصبون من أبناء جنسه غيرة منهم على دينهم، وكنت مجاوزا لأحد أتباعه من خاصته وكان طلبة العلم يأتون إلى بيتي فنجتمع على ذكر الله فآذاني ذلك الجار حتى اضطرني إلى الانتقال من شدة بغضه للمسلمين.
والآن بعد هذه الجولة أرجع إلى علاج الحمى كان الدكتور محمد نعيم الأنصاري إذا لم يكن مسافرا يفحصني ويكتب لي العلاج ويحدد لي يوما وليلة لزوال الحمى، وإذا كان مسافرا لا ينفعني علاج غيره، وهذا سبب عزمي على الرجوع إلى العراق وترك السكنى في الهند وكان ذلك في شعبان سنة 1352هـ ولم أبق في العراق إلا مدة يسيرة حتى سافرت إلى أوروبا كما تقدم.
* الدعوة إلى الله في مكناس*(39/282)
سافرت من العراق إلى البلاد الجرمانية كما تقدم في سنة 1959 بتاريخ النصارى ثم توجهت إلى المغرب، وجلت فيه جولة ثم نزلت عند عميد الدعوة السلفية في المغرب أستاذي ومرشدي شيخ الإسلام محمد بن العربي العلوي في بيته بمدينة فاس رحمة الله عليه وبقيت عنده إلى أن تم نقل عملي من جامعة بغداد إلى جامعة الرباط، والفضل في ذلك لله وحده ثم لنابغة المغرب العالم الأديب المتفنن ذي التآليف المفيدة والفضائل العديدة السيد عبد الله كنون أطال الله بقاءه وأدام في المعالي ارتقاءه.
ولما استقررت في مدينة فاس عزمت على استئناف العمل في الدعوة إلى اتباع الوحي عملاً بقوله تعالى في سورة الزخرف: { فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ * وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ } (الآيتان: 43، 44) ما أعظم هذه الآية! وما أشد موت قلب من لا تحركه ولا تؤثر فيه! فشاورت شيخنا المذكور في ذلك فوجدته قد استولى عليه اليأس، فقال لي: دع هؤلاء الأموات فقد طبع الله على قلوبهم فقد تعبت في دعوتهم، وتعب قبلي رائد الدعوة السلفية العالم الكبير الشيخ شعيب الدكالي وكان بحرا زاخرا في علم الكتاب والسنة وعلوم كثيرة فقلت له: يا أستاذي إني دعوت إلى الله في أقطار مختلفة فنجحت دعوتي فدعني أجرب فقال لي: توكل على الله.(39/283)
فبدأت دروس الدعوة في مسجد المدرسة العنانية في فاس فما مضى إلا أسبوع واحد حتى غص المسجد بالمستمعين، وبعد مدة حضر درسي رجل يرتدي بزة أوروبية فاخرة فلما فرغنا من الدرس وصلينا العشاء عرفني بنفسه، وأخبرني أنه وزير فأرجو أن تزورني في وزارة الأوقاف وأثنى على درسي وقال لي أين تريد أن تذهب؟ فقلت: أنا نازل في بيت أستاذي شيخ الإسلام محمد بن العربي العلوي فقال لي: أنا آخذك بالسيارة إلى هناك وذهبنا إلى هناك، فرحب به شيخنا وزاده تعريفاً بي، فقال لي: إذا أتيت الرباط فأرجوا أن تزورني في وزارة الأوقاف فزرته لما ذهبت إلى الرباط لألقي دروسي في الجامعة، وبين فاس والرباط مائتان من الأميال المعروفة بكيلو متر. وإنما سكنت في فاس مع بعده من الجامعة خوفا من مرض الربو الذي يشتد علي بقرب البحر ويخف أو يزول إذا ابتعدت منه، وقد علمتني التجارب أن كل من أصيب بهذا المرض في بلاد رطبة الهواء كشواطئ البحار فدواؤه أن يفر إلى الأراضي الجافة الهواء كالصحاري، أما من أصيب به في بلد يابس الهواء فدواؤه شواطى البحار.
فزرت الأستاذ السيد مكي بادو فرحب بي ودعاني للطعام وأكرمني غاية الإكرأم ولما خرجت من عنده جاءني أحد الموظفين وقال لي: إن السيد المكي يعلم أنك تلقي دروس الوعظ والإرشاد لوجه الله لا تريد عليها مكافأة، ولكنه يحب أن تكون واعظًا رسميا معينا من قبل وزارة الأوقاف وقد جعل لك مائتي درهم في كل شهر وهذا شيء حقير جدا بالنسبة إلى مقامك ودروسك القيمة ولكن نظام الوزارة لا يسمح بأكثر من هذا فإن رواتب الوعاظ لا تزيد على مائة درهم، فقبلت ذلك واستمررت في دروسي ثمانية أشهر.(39/284)
ثم انتقلت إلى مكناس بإشارة من أستاذي لأنها أقرب إلى الرباط فبينهما مائة وأربعون ميلاً ينقص ستين ميلاً هذا بعد ما جربت هواءها ووجدته مناسبا، وشرعت ألقي دروس الوعظ في الجامع الكبير فأقبل الناس كذلك على درسي في مكناس إقبالاً عظيما، ولكن الجامدين من الفقهاء وأصحاب الطرائق شرقوا بتلك الدروس وكذلك المتأكلون بالنسب ورأوا أنها أخذت تهدم ما بنوه من قصور الخرافات على الرمال، وتظهر للعامة جهلهم وانحرافهم عن الجادة فأجمعوا على أن يكيدوا لي كيدا يقضي علي، وكان الذي تولى كبر ذلك رجلاً له نفوذ ودالة على أمير مكناس ونواحيها وكان هذا الأمير من أبناء عمومة الملك محمد الخامس رحمة الله عليه وبينهما مصاهرة، فكان يفعل في إمارته ما يشاء ولعلو مكانته عند الملك لا يستطيع وزير ولا رئيس أن يعارضه، فكتب ذلك الشخص ومع أولئك الأعداء كتابًا إلى وزارة الأوقاف يطلبون منعي من التدريس لأمور: منها: أنني بزعمهم أنكر كرامات الأولياء وأنقض المذهب المالكي وعدوا أمورا سمعوها في درسي من إنكار الشرك والبدع، ووقع على هذا الكتاب خمسمائة شخص.
وكان وزير الأوقاف في ذلك الوقت كما هو الآن معالي الأستاذ الحاج أحمد بركاش ومدير شؤون الوعظ والإرشاد هو العالم السلفي صاحب الفضيلة السيد محمد الطنجي وهما يعلمان أن الساعي في ذلك له نفوذ عظيم عند الأمير لا يرد له طلبا ومع ذلك وفقهما الله سبحانه إلى جواب حاسم كان شجا في حلوق المبتدعين ومضمونه: إنكم طلبتم عزل محمد تقي الدين الهلالي من دروس الوعظ ونقمتم عليه مسائل نسبتموها له فنحن نأمركم أن تكتبوا أدلتكم على صحة ما ذهبتم إليه في تلك المسائل ونأمره أن يكتب أدلته على صحة ما ذهب إليه فيها ثم تؤلف لجنة برئاسة الأستاذ عبد الله كنون وتنظر في تلك المسائل وتحكم بالحق، فسقط في أيديهم ولم يكتبوا شيئا.(39/285)
وذهبت إلى شيخ الإسلام محمد بن العربي العلوي رحمه الله وأخبرته بذلك، قال لي: اذهب إلى الأمير وقل له إن أستاذي محمد بن العربي العلوي حثني على زيارتك وأخبرني أنك من أعز أصدقائه ولا تزده على ذلك شيئا، وقبل أن أقوم بزيارة الأمير اجتمعت بذلك الشخص الذي أثار تلك الفتنة فقال لي: إن المخبرين بلغوني أنك تخوض في مسائل السياسة في دروس وعظك والخوض في السياسة لا يجوز لأي واعظ، فقلت له: أنا لا أذكر في دروسي إلا ما دل عليه الكتاب والسنة وقد دأبت على إلقاء الدروس بهذه الطريقة في أقطار مختلفة منذ أربعين سنة وتصدى لمحاربتي رجال أقوى منك، فلم يستطيعوا أن يصدوني عن هذه السبيل وليس بيني وبينك إلا هذه الدريهمات، وسأذهب إلى الرباط وأتكلم مع معالي وزير الأوقاف فإن كان ما نسبت إليه صحيحا استمررت على الدعوة إلى الله إلى أن تمنعوني بالعنف والقوة التي تدعون، فدعا شخصا من الموظفين وقال: يا فلان تعال اسمع ما يقول، فقلت له: أنا لا أنكر كلامي فلا حاجة بك إلى الاستشهاد، وانصرفت من عنده.
ثم زرت الأمير وأخبرته بما أمرني به أستاذي أن أقول له فرحب بي وقال لي: إن شؤون الأوقاف ليست بيدي هي بيد وزير الشؤون الإسلامية علاّل الفاسي أما ما سواها من الأمور المدنية فكل ما تريده من الحاجات فأنا مستعد لقضائه، فقلت له: أطال الله بقاءك أنا ما جئت لحاجة تتعلق بالأوقاف ولا بغيرها وإنما جئت لامتثال ما أمرني به أستاذي من زيارتكم ثم انصرفت من عنده.
وبقيت في مكناس تسع سنين في أثنائها هجم علي أولئك المحاربون برئاسة الشخص المشار إليه مرارا وفي كل مرة يجمعون أمرهم ويجتهدون في كيدهم حتى يظنوا أنني لا أفلت فينجيني الله تعالى ويبطل كيدهم.
*المكيدة الثانية*(39/286)
بُني في المدينة الجديدة من مكناس مسجد جديد بأمر من الملك محمد الخامس رحمة الله عليه، وهذا المسجد قريب من بيتي وعين فيه إمام وخطيب من أحد إخواننا السلفيين مولاي هاشم العلوي ففرحنا بذلك وجعلنا نصلي فيه الجمعة، وكنت أصلي فيه صلاة الصبح إماما، ويحضر الصلاة بعض إخواننا ويحضر كذلك المبتدعون وكان المسجد بعيذا من بيت الإمام فلم يكن يستطيع أن يحضر لصلاة الصبح، وكنت كذلك ألقي فيه درسا أسبوعيا بين العشاءين فكنت أصلي المغرب والعشاء إماما بإذن منه ولو كان حاضرا واستمررنا على ذلك لمدة سنة، فاتفق ذلك الشخص الذي تسبب في المكيدة الأولى مع فقيه منحرف على الكيد للإمام السلفي ولجماعتنا السلفية.
ومن عادة سكان المدن المغربية أن يصلوا الصبح على حساب المنجمين ولا يكلف أحد منهم نفسه أن ينظر إلى الفجر أطلع أم لم يطلع، فكانوا يصلون الصبح قبل طلوع الفجر الذي يرى بالبصر بنحو نصف ساعة، فنهيت جماعتنا عن مشاركتهم في هذه الصلاة الباطلة فكنا نؤخر الصلاة إلى أن يتحقق طلوع الفجر، وكان المبتدعون يمتعضون لذلك ولكنهم لم يتجرؤوا على الكلام حتى وقع الاتفاق بين الرئيس والفقيه، فأوعز الفقيه إلى اثنين من الجهال المتحمسين للبدعة أن يوقعا فتنة في المسجد، فجاءا ذات يوم بل ذات ليلة ولما وصل الوقت المعين لصلاة الصبح بحساب المنجمين قالا لشخص كان ينوب عن الإمام في حال غيبته: قم صل الوقت فلماذا ننتظر الهلالي وهو نائم في بيته؟ فامتنع إخواننا من الصلاة لأول وهلة ثم خافوا أن تقع مشاجرة في المسجد فصلوا معهم، فلما وصلت أنا وجدتهم قد فرغوا من الصلاة فأمرت إخواننا أن يعيدوا صلاتهم وصليت بهم وبمن حضر من غيرهم.(39/287)
وكنت ألقي درساً بعد صلاة الصبح كل يوم فلمتهم على موافقتهم للمبتدعين وبينت بالأدلة القاطعة أن من صلى أي صلاة قبل أن يتحقق دخول وقتها بالرؤية لطلوع الفجر وغروب الشمس إن لم يحجب طلوعها حاجب فإن كان هناك حاجب من سحاب وضباب وجب الانتظار إلى أن ينتشر الضوء، وإلى أن يأتي ظلام الليل مساء، أما صلاة الظهر والعصر والعشاء في أوقات الغيم فيقدر لها بالتأخير إلى أن يتحقق دخول الوقت.
وفي الغد حضر ذانك الشخصان الساعيان في الفتنة فأرادا من نائب الإمام والحاضرين تعجيل الصلاة فمنعهما أصحابنا، فدعا ذلك الرئيس الإمام السلفي وقال له: لماذا تركت الصلاة في مسجدك الذي أنت معين فيه وأذنت لمحمد تقي الدين الهلالي أن يصلي عوضا عنك؟ فقال: لأن المسجد بعيد من بيتي وليس لي سيارة فاتخذ الرئيس ذلك سببا لعزله وهو المقصود بإثارة تلك الفتنة فعزله وولى ذلك الفقيه المنحرف.(39/288)
واتفق أن إمام المسجد الكبير توفي في تلك الأيام وكان مسالما لنا لا يُظهر شيئا من الشرك بل نحن نظن أنه كان موحدا حقا وصدقا فولي شخص مبتدع معلن للشرك، ولاه ذلك الرئيس الإمامة في المسجد الكبير، فلما شرع الإمامان إمام الجامع الكبير وإمام المسجد الجديد يؤمان الناس قام نفر لا يزيدون على خمسة من الشباب السلفيين في وجه إمام الجامع الكبير، وقالوا له: أنت مشرك لا تصح الصلاة خلفك وصلوا وحدهم جماعة ثانية وهو يؤم المصلين في وقت واحد وفعلوا مثل ذلك في المسجد الجديد، فظن الرئيس أن هذه فرصة عظيمة للقضاء على دعوتنا وحرك رؤوس الفتنة من الفقهاء والطرقيين، ومن غريب المصادفات أن عامل الإقليم كان قد ولي العمالة جديدا ولم يكن يعرف أحوال المدينة فذهب إليه خلق كثير بتحريض من ذلك الرئيس يؤمهم الفقهاء المنحرفون الطرقيون، وقالوا له: إن جماعة الهلالي أثاروا فتنة عظيمة في المساجد وصار الناس يصلون جماعتين في وقت واحد ووقع نزاع ومشاجرة في كل مسجد بسبب هؤلاء مع أنهم وهابيون خارجون عن مذاهب أهل السنة.(39/289)
فأخذ العامل التليفون وكلم معالي وزير الأوقاف الأستاذ الحاج أحمد برقاش بارك الله فيه وأدام توفيقه للخيرات، فأخبره بشكوى المبتدعين فقال له: نحن نعرف محمد تقي الدين الهلالي فدع عنك هذه المسألة فسأتولى التحقيق فيها أنا بنفسي، وكنت مسافرا في فاس فلما رجعت علمت أن معالي الوزير فتح التليفون ليكلمني فلم يجدني، فقال لمن كان ممسكا للتليفون: قل له: يتوجه إلى الرباط للاجتماع بي، فتوجهت إليه وكان عنده شيء من الشك في صحة ما نسب أولئك المبتدعون لجماعتنا، فأوعز إلى نائبه في الشؤون الدينية الأستاذ الفاضل السيد عبد الرحمن الدكالي أن يتحدث معي في تلك القضية فقال لي الأستاذ الدكالي في فاتحة الحديث: سافرت إلى الهند، فما زرت جامعة ولا محفلا علميا إلا وجدت الناس هناك يلهجون بالثناء عليك وكثير منهم أخبروني أنهم تلامذتك ففرحت بذلك كثيرا، ولما رجعت أخبرت سيدنا المنصور بالله يعني جلالة الملك الحسن الثاني وأخبرت معالي الوزير ونحن نفتخر بك. يضاف إلى ذلك أن والدي العلامة الكبير الشيخ شعيبا الدكالي هو أول من دعا إلى السلفية في المغرب، فأنا من المؤيدين لدعوتك المعجبين بها، ولكن ينبغي الاعتدال وترك التشدد الذي يثير الفتن فقلت له: ماذا تعني بهذا؟ فأخبرني بمكالمة العامل مع الوزير وإخباره بما زعمه المبتدعون فقلت له: إن ما ذكروه غير صحيح، خمسة من تلامذة المدارس من الشباب عارضوا الإمامين مرة واحدة ولما جاء اليوم الذي ألقي فيه الدرس في الجامع الأعظم تكلمت في درسي وبينت أن ما فعله أولئك النفر من الشباب خطأ عظيم واستنكرته أشد الاستنكار، وصرحت بأن تولية الأئمة هي لصاحب الجلالة لأ ينازعه فيها أحد وقد أناب صاحب الجلالة الملك المعظم صاحب المعالي الأستاذ الحاج أحمد برقاش وزير عموم الأوقاف فالواجب على الناس جميعا أن لا يتعرضوا لإمام من أئمة المساجد الرسميين ولا ينازعوه لأن ذلك عصيان لأمر صاحب الجلالة وتدخل في الشؤون(39/290)
المنوطة بمعالي وزير الأوقاف، وليست تولية الأئمة راجعة إلى شهوة المصلين ولو كان الأمر كذلك ما صحت تولية إمام قط لأن المصلين لا يكادون يتفقون على إمام واحد. وحين كنت أبين هذا كان الإمام نفسه يسمع ومئات من الناس كانوا حاضرين وهؤلاء المبتدعون إنما ظنوها فرصة مواتية فاغتنموها.
وأخبرني رفيقي أن سعادة الكولونيل عبد الرحمن الدكالي لما سمع هذا البيان تهلل وجهه فذهب إلى معالي الوزير وأنبأه بما قلت له فدعاني الوزير وعانقني وقال لي: معاذ الله أن نظن بك ما نسبوا إليك، وتحدثنا مليا في طبع كتاب التمهيد الذي أمر به صاحب الجلالة الملك المعظم الحسن الثاني أجزل الله مثوبته وخلد في الصالحين ذكره وأطال عمره ليضيف إلى هذه الحسنة حسنات أخرى.
وبعد ما رجعت إلى مكناس علمت أن معالي الوزير الأستاذ الحاج أحمد برقاش كلم العامل في التليفون وأخبره بأنه أجرى تحقيقا دقيقا في القضية فوجد ما قاله أولئك الوشاة كذبا وبهتانا، وقال له: أرجو من فضلك أن لا تتسرع مرة أخرى في مثل هذه الأمور فباء أعداء التوحيد والسنة بخيبة وخسران مبين.
* * *
* المكيدة الثالثة *(39/291)
قبيل توجهي إلى المدينة للانخراط في سلك المدرسين في الجامعة الإسلامية أراد رؤساء الشرك والبدعة أن يجعلوا خاتمة وعظي في الجامع الكبير سيئة؛ ليبنوا عليها ما تسول لهم أنفسهم من الفرى، وكنت أدرس كتاب فتح المجيد شرح كتاب التوحيد لشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمة الله عليه ولم أترك تدريسه قط منذ حللت مكناس إلى أن توجهت إلى المدينة أختمه ثم أبدؤه من جديد وبينما أنا أقرر تفسير قوله تعالى في سورة الشعراء: { أُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ * وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ * وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ * مِن دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنصُرُونَكُمْ أَوْ يَنتَصِرُونَ * فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ * وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ * قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ * تَاللَّهِ إِن كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ * إِذْ نُسَوِّيكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ * فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ * وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ * فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } [الشعراء: 90-102] فبينت في معنى قوله تعالى: { وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ } أن كل من دعا إلى عبادة القبور وتعظيمها ببناء القباب عليها والذبح والنذر لها، والطواف بها وسؤال قضاء الحاجات وتفريج الكربات من المقبورين فيها وأقام لها المواسم والأعياد فهو من هؤلاء المجرمين الذين ذكرهم الله تعالى؛ فقام رجل من دعاة الشرك والبدعة فرفع صوته وقال: حتى صاحب الجلالة من المجرمين فبادرت بالجواب وقلت له: أنت المجرم وصاحب الجلالة بريء مما تريد أن تلصقه به من عبادة القبور، وهو أعلم بالله وأتقى وأجل من أن يعبد القبور فقد كذبت عليه وجاوزت الحد في الوقاحة إذ تنسب هذا الإمام العظيم ملك العلماء وأعلم الملوك إلى عبادة القبور التي لا يرضى بها إلا شرار الجهال أمثالك.(39/292)
فارتفعت أصوات من الجالسين وكان عددهم نحو سبعمائة: أنت المجرم أنت المجرم وأرادوا أن يضربوه، فقام العالم المصلح السلفي الحكيم الحاج محمد بن عبود ونصح لهم أن لا يضربوه لأنهم إذا ضربوه يمكنونه من مراده في إثارة الفتنة وادعاء أن درس التوحيد يفضي إلى المشاجرة والتقاتل فيجب منعه، وأصاب هذا الناعق رعب شديد فأراد أن يخرج من المسجد فخاف أن يضرب خارجه ولم يستطع البقاء بين الجالسين لكثرة إنكارهم عليه فما وجد سبيلا إلا أن التجأ إلى الصعود إلى المنارة.
ومع هذه الهزيمة التي وقعت للمشركين طمعوا أن يتخذوها ذريعة لمنع دروس التوحيد، واتفق أن الرؤساء من الحكام كانوا غائبين عن مدينة مكناس لأنهم ذهبوا ليستقبلوا جلالة الملك الحسن الثاني عند رجوعه إلى عاصمة ملكه من زيارة الجزائر ولم يوجد إلا نائب من نواب المتصرف فالتجأوا إليه وطلبوا منه أن يمنع دروس التوحيد، فانتظر إلى قرب أذان المغرب الذي بعده يكون الدرس فبعث إلي شيخين من شيوخ الحارات راكبين على سيارة العمالة فدخلا علي وقالا لي: إن سعادة العامل -يعنون الأمير- يقول لك: اترك التدريس في الجامع الكبير إلى أن ينظر في القضية التي حصلت البارحة وقال لنا: قولوا له يجبكم بنعم أو لا، فقلت لهم: أنا لا أعارض أمر العامل وامتنعت من التدريس في المساء ففرح المشركون فرحا عظيما وظنوا أنهم أدركوا وطرهم وقضوا على الموحدين المتبعين للرسول قضاء مبرما ولكن الله العلي العظيم الذي نصرنا في المرة الأولى والثانية نصرنا في هذه أيضا نصرا مؤزرا من فضله ورحمته لا باستحقاق لأننا مقصرون في طاعته.(39/293)
بعد يوم واحد رجع العامل ورجع النائب الأول للمتصرف، ومتصرف مكناس هو الحسيب النسيب صاحب السعادة مولاي سلامة بن زيدان العلوي، وما رأينا منه إلا البر والإكرام حاشا له أن ينضم إلى من يحارب سنة جده المصطفى، وعند ذلك ذهبت يصحبني جماعة من إخواننا إلى العامل فقلت له بعد التحية: إن أحد نواب المتصرف بعث إلى شيخين من شيوخ الحارات في سيارة من سيارات العمالة يقول: إن العامل يأمرك بالامتناع عن إلقاء دروس التوحيد في الجامع الكبير، فقال لي: أنا كنت مسافرا ولم يصدر مني أي شيء مما زعم، وقد قدر هؤلاء المحاربون للسنة أن يكذبوا علي ويوهموني صدق مفترياتهم فيما مضى ولن يستطيعوا أن يروجوا علي مكرهم مرة أخرى فأنا لا أتعرض لدروسك أبدا فاستمر فيها على بركة الله، وقال النائب الأول لسعادة متصرف المدينة مثل ذلك.
وقد قام العالم السلفي السيد محمد بن عبد الله العلوي القاضي بجهود مشكورة في ذلك اليوم أيضا، فسقط في أيدي أولئك المفسدين وانهزموا شر هزيمة، فاستمررت في الدرس كل مساء إلى أن سافرت إلى المدينة وقرت بذلك أعين أهل التوحيد والاتباع، وخسر هنالك أهل الشرك والابتداع { فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } [الأنعام: 45].
* المدرسة الحسنية *
لم يزل أولئك المفسدون ينقلون الوشايات إلى جلالة الملك المعظم الحسن الثاني أيده الله وأدام توفيقه وتسديده، فلم يستطيعوا أن يؤثروا فيه لحكمته وتثبته، وبلغني والعهدة على الراوي أنه حين أكثروا عليه حضر الدرس بنفسه متنكرا؛ فعلم أن دروسي إنماهي دعوة لاتباع الكتاب والسنة وتحذير من الشرك والبدعة اللذين هما سبب كل شقاء أصاب المسلمين فلم أر من هذا الملك الرشيد إلا الخير.(39/294)
وقبل بضع سنين ألهم الله جلالة الملك الحسن الثاني أن يبني مكرمة طالما غفل عنها الملوك السابقون، وهي من المزايا التي خصه الله بها والله يختص بفضله من يشاء، ألا وهي تأسيس دار الحديث الحسنية ولما نشر خبر هذه الفكرة امتلأت قلوبنا سرورا؛ لأن علم الحديث أهمل منذ عصور طويلة إلى أن اندرس ولم يبق له وجود لا من الوجهة العلمية، ولا من الوجهة العملية وصار الوعاظ وخطباء الجماعات يملؤون حديثهم بالموضوعات، ولا يميزون خبرا صحيحا من خبر ضعيف أو موضوع، ومن المعلوم أن علم الحديث هو مفتاح علوم الدين كلها لأنه لا تعرف معاني القرآن الذي هو حجة الله على خلقه إلا بأقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله، كما قال تعالى في سورة النحل: { وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } [النحل: 44] وخفنا أن لا تخرج هذه الفكرة إلى حيز العمل، ولكن أبا محمد الحسن الثاني أيده الله من أهل العزم الذين إذا قالوا فعلوا وإذا فعلوا أجادوا فخرجت هذه الفكرة إلى حيز العمل، وأنشئت دار الحديث الحسنية، ولم أدع إلى التدريس فيها إلا بعد مضي شهرين من إنشائها بسبب وشاية أولئك الوشاة ثم دعاني وزير الأوقاف الأستاذ أحمد برقاش إلى مكتبه بالوزارة، وتلقاني بغاية الحفاوة وقال لي: إن سيدنا المنصور بالله أسس هذه المدرسة وإننا نرجو أن يكون لها مستقبل عظيم فينبغي أن تشارك في هذا العمل المبرور، فقلت له: منذ ظهرت فكرة إنشاء هذه الدار وقبل أن تحقق وتخرج إلى حيز الوجود كنت أول المرحبين بها المستبشرين بظهورها، ونشرت في ذلك مقالا طويلا في مجلة ((دعوة الحق)) التي تصدرها وزارتكم نظما ونثرا فقال لي: لم أطلع عليه فقال له الأستاذ الحاج عبد الرحمن الدكالي: بلى يا صاحب المعالي نشر هذا المقال في المجلة منذ زمان، فأعطاني معالي الوزير أهم الدروس التي تلقى في دار الحديث وهو تفسير القرآن(39/295)
وكتاب الموطأ في الحديث للإمام مالك رحمه الله.
فبدأت في إلقاء الدروس أحضر دروس القرآن والحديث ثم ألقيها على الطلبة وكان عددهم في أول الأمر ثلاثين طالبا، ففرح الطلبة بتلك الدروس وأقبلوا عليها إلا أربعة كانوا طرقيين تجانيين فإنهم كرهوا دروسي وأخذوا يشاغبون ويكثرون من الأسئلة التعنتية وأنا أدفعهم بالتي هي أحسن.
وكان عندي أربعة دروس في كل أسبوع فكنت أتوجه إلى الرباط لإلقاء دروسي في جامعة محمد الخامس رحمه الله وأنتهي منها قبل الزوال وكان الوقت المحدد للدرسين اللذين كنت ألقيهما في دار الحديث الحسنية أحدهما قبل صلاة العصر والثاني بعدها وكنا في رمضان، فكنت أرجع إلى مكناس بعد الفراغ من الدرس الثاني فيدركني المغرب في الطريق فأفطر على التمر والماء وكنت أتلقى تلك المشقة بصدر رحيب بل بفرح وسرور لما كنت أرجو من أجرها وثوابها وانتفاع الطلبة بها، ولكن مشاغبة أولئك المفسدين كانت تسوءني وخصوصا في رمضان الذي يجب فيه على كل مسلم أن لا ينطق إلا بالكلم الطيب، فقلت في نفسي: عل شر هذه الدروس أكثر من خيرها.
وفي ذات يوم كنت أفسر قوله تعالى: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } فبينت أن كل من دعا غير الله أو استغاث به لجلب نفع أو دفع ضر فقد وقع في الشرك الأكبر الذي لا يغفر، فضج التجانيون وقالوا: كفرت أسلافنا!! فقلت: إن كان أسلافكم يدعون إلى الشرك بالله فأبعدهم الله وأخرجت أحدهم من الدروس.
ولم يكن معالي الوزير موجودا في الرباط بل كان مسافرا وعميد الكلية كان متصوفا
خرافيا يزعم أن الأولياء إذا وصلوا إلى درجة الفناء تسقط عنهم التكاليف ويباح لهم ارتكاب الكبائر كلها، فصممت على ترك التدريس وكتبت استقالتي إلى معالي الوزير، واعترف أن ذلك كان تسرعا مني وكان ينبغي لي أن أنتظر أوبته، ولكن المقدر كائن وعذري في ذلك أني أردت أن أصون صيامي من اللغو عملا بقول من قال:(39/296)
إذا لم يكن في السمع مني تصون ... وفي بصري غض وفي منطقي صمت
فحظي إذا من صومي الجوع والظما ... وإن قلت: إني صمت يوما فما صمت
وقال آخر:
واعلم بأنك لا تكون تصومه ... حتى تكون تصومه وتصونه
فلما رجع معالي الوزير تأسف على ذلك وقبل استقالتي وكانت مدة تدريسي في دار الحديث الحسنية شهرين ونصفا.
وهذه هي القصيدة التي قلتها في الترحيب بفكرة دار الحديث الحسنية.
بدار حديث المصطفى حقت البشرى ... فأشرقت الآفاق وامتلأت بشرا
في الفكرة الحسنى بها الحسن ارتقى ... إلى ذروة الإحسان وهو بها أحرى
فلا شك أن الله ألهم عبده ... لذا العمل المحمود والنعمة الكبرى
وصية خير الخلق طرا وعهده ... إلى أمة القرآن يا سعد من برا
على حين عم الجهل في الناس كلهم ... ولا سيما بالذكر والسنة الغرا
وشاع ابتداع فاتك في ربوعهم ... فأظلمت الأرجاء وامتلأت نكرا
وساد رءوس الجهل واشتد كيدهم ... وقد أضمروا للأمة المكر والغدرا
مضوا يسلبون المال والعقل والهدى ... ويستعبدون الناس بالحيل الحقرا
فأطلعها نورا يضيء حنادسها(1) ... من الجهل ذاق الناس من طعمها المرا
وأحيا من الآمال ما كان ميتا ... فأصبح ثغر اعلم والدين مفترا
ومن يحي سنات الرسول وهديه ... يهيء له الرحمن من أمره يسرا
ويعظم له أجرا ويرفع ذكره ... ويبلغه آمالا ويشرح له الصدرا
ومن رام من أعدائه أن يكيده ... ببغي فإن الله يمنحه النصرا
ومن ينصر الرحمن ينصره عاجلا ... وينصره يوم الحشر في النشأة الأخرى
ومن يقرأ القرآن من غير سنة ... يضل ويلقى في عواقبه خسرا
فتفسير قول الله هدي رسوله ... وذلك في القرآن متضح يقرا
فيا أيها الملك الهمام الذي سرت ... بأخباره الركبان تنشرها نشرا
وما زال بالأفعال يشفع قوله ... فتبني له بين الورى المجد والفخرا
جزاك إله الناس خير جزائه ... على دار علم شدتها للهدى فجرا
__________
(1) مفردها: حندس وهو الظلمة، واليل الشديد الظلمة.(39/297)
إليك أسوق اليوم نظما ملفقا ... وكان بودي أن أنظمه درا
ولكن هجرت الشعر دهرا فأوصدت ... على قوافيه وكافأني هجرا
فقابله بلصفح الذي أنت أهله ... وأسدل عليه جميل الرضى سترا
* * *
* الرجوع إلى الدينة المنورة*
قد عرف القراء سبب خروجي من هذه المدينة المباركة فيما مضى، ولما أراد الله بفضله ورحمته أن يردني إليها ألهم صاحب السماحة العالم السلفي ناصر السنة وقامع البدعة الورع الزاهد الأواب الأستاذ الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز رئيس الجامعة الإسلامية أن يدعوني إلى التدريس في الجامعة الإسلامية، وعندما لقيته بمنى سنة 1388 هـ قال لي: إن الجامعة الإسلامية في حاجة إليك فقلت له: وأنا في حاجة إليها أيضا فقال لي بأي طريق ندعوك إلى التدريسى فيها؟ فأخبرته فدعاني دعوة رسمية بطريق وزارة الخارجية السعودية، فالسفارة السعودية بالمغرب فوزارة التعليم العالي بالرباط، وأتيت إلى هذا البلد المبارك وأنا أسأل الله متوسلا إليه بأسمائه الحسنى وصفاته العليا أن يجعل إقامتي فيه طبق ما يجب على كل ساكن فيه مراعاة حرمته والبعد عن ارتكاب أي حدث يتنافى مع قدسيته.
وهذه القصيدة المكناسية تعبر عما تقدم بالأسلوب الشعري وقد حذفت عشرة من أبياتها إبقاء على بعض الناس على أنني لم أصرح فيها باسم أحد لا في المحذوف ولا في المثبت وبالله التوفيق:
لقد طال ليلي والجوى مالئ صدري ... وبرح بي شوق إلى ربة الخدر
وأقي نهاري دائم الفكر والأسى ... وليلي تسهاد إلى مطلع الفجر
وأكتم أسراري حذار من العدا ... ومهما أبح فالحب أفقدني صبري
تذكرت أيام الوصال فكاد من ... تذكرها قلبي يطير من الصدر
فيا ويح قلبي ما يلاقي من الهوى ... ومن فرط آلام الصبابة والهجر
وعاذلة جاءت بلوم كأنه ... نعاب غراب للفؤاد غدا يبري
ولست بسال لو أطلت ملامتي ... فكفي عن الإسفاف والمنطق الهجر
وكيف سلوي بعد ما شاب مفرقي ... وأنفقت في حبي لها زهرة العمر(39/298)
ألم تعلمي أن الملام وإن غدا ... عديما من الجدوى فبالحب قد يغري
وطفت بلاد الله شرقا ومغربا ... على قدمي طورا وطورا على مهر
وأنضيت بعرانا(1) وحلقت في السما ... على جائبات الجو كالنجم إذ يسري
وطورا على فلك عظيم كأنه ... ثبير(2) يروع الحوت في لجة البحر
حليف اغتراب في ثواء ورحلة ... وإن كنت في أهل كثير ذوي وفر
(وما غربة الإنسان من شقة النوى ... ولكنها) في الدين والخلق والبر
إلى الله أشكو غربة الدين والهدى ... وطغيان أهل الكفر والفسق والغدر
ومن يقل سنات الرسول فإنه ... يعذب في الدنيا وفي فتنة القبر
ويسأله فيه نكير ومنكر ... وما من جواب عنده غير لا أدري
وذي سنة الجبار في كل من غدا ... يحارب دبن الله في السر والجهر
ألم تدر أن الله ناصر دينه ... وموقع أهل البغي في دارة الخسر
وكم قد سعى ساع لإطفاء نوره ... بكيد فرد الله كيده في النحر
وتنصر إشراكاً وفسقاً وبدعة ... وناصر هذا خاسر أبد الدهر
دعا المصطفى قدماً عليه بلعنة ... ومن يلعن المختار فهو إلى شر
وتلعنه الأملاك من فوق سبعة ... كذلك أهل الأرض في السهل والوعر
فيا ناطح الطود المتين بهامة ... مدورة جوفاً حذار من الكسر
وليس يحيق المكر إلا بأهله ... وحافر بئر الغدر يسقط في البئر
وكم حافر لحداً ليدفن غيره ... على نفسه قد جر في ذلك الحفر
وكم مشرك طاغ تردى بشركه ... وسادن قبر باء بالخزي والخسر
وكم رائش سهماً ليصطاد غيره ... أصيب بذاك السهم في ثغرة النحر
وقبره أضحى لها الجو خالياً ... من النسر والعقبان والباز والصقر
فلا تفرحي يوماً سيأتيك صائد ... ويسقيك كأس الحتف كالصاب(3)والصبر
(فإن كنت لا تدري فتلك مصيبة ... وإن كنت تدري) زدت وزراً على وزر
وإنك لم يفخر عليك كفاخر ... ضعيف ولم يغلبك كالساقط القدر
__________
(1) مفردها: بعير، وأنضيت: أهزلت، والكلام كناية عن طول السفر.
(2) ثبير: جبل بمكة.
(3) الصاب: شجر مر.(39/299)
فيا عجباً كليب تسبني ... كأن أباها من لؤي ومن فهر
أتغتر بالإمهال تحسب أنه ... عدمتك إهمال وذا ديدن الغمر
وما نحن إلا خادون لسنة ... أتت عن نبي الله ذي الفتح والنصر
وخادم سنات الرسول حياته ... كخادمها من بعد ما صار في القبر
وما غاب إلا شخصه عن عيوننا ... وأنواره تبقى إلى الحشر والنشر
فيا مبغضي هدي النبي ألا أبشروا ... بخزي على خزي وقهر على قهر
سلكتم سبيلاً قد قفاها إمامكم ... أبو جهل المقصوم في ملتقى بدر
وعاقبة المتبوع ختم لتابع ... كما لزم الإحراق للقابض الجمر
فإن أنتم مذبتم بوعيده ... فكم كذبت من قبلكم أمم الكفر
فصب عليهم ربهم سوط نقمة ... فصاروا أحاديث المقيمين والسفر
(فيا رب هل إلا بك النصر يرتجى ... عليهم) إليك الأمر في العسر واليسر
قلوا سنة المختار يبغون محوها ... وكادوا لها فاجعل لهم كيدهم يفري
هم استضعفونا اليوم من أجل أننا ... قليل وقد يعلوا القليل على الكثر
ولا سيما إن كان لله قائم ... وأعداؤه للبغي من جهلها تجري
وإدراك إحدى الحسنيين محقق ... لمن يقتدي بالمصطفى من ذوي الحجر
ومن ظن أن الله مخلف وعده ... وخاذل أنصار النبي بذا العصر
فذاك غليظ الطبع أرعن جاهل ... عربض القفا بين الورى مظلم الفكر
تكفل بالنصر العلي لحزبه ... حياتهم هذي وفي موقف الحشر
ففي غافر قد جاء ذلك واضحاً ... ولكنه يخفى على الفدم والغمر
سلام على أنصار سنة أحمد ... فهم أولياء الله في كل ما دهر
إليهم أجوب البرو البحر قاصداً ... فرؤيتهم تشفي السقيم من الضر
هم حفظوا الدين الحنيف وناضلوا ... عن الحق بالبرهان والبيض والسمر
هم خلفوا المختار في نشر سنة ... بفعل وأقوال تلألأ كالدر
هم جردوا التوحيد من كل نزعة ... من الشرك والإلحاد والزيغ والنكر
فلا قبة تبنى على قبر ميت ... ولم يعبدوا قبراً بذبح ولا نذر
ولا بطواف أو بتقبيل تربة ... فذلك فعل المشركين ذوي الكفر(39/300)
ولا رحلوا يوماً لغير ثلاثة ... مساجد خصت بالفضائل والأجر
ولم يستغيثوا في الشدائد كلها ... بغير إله الناس ذي الخلق والأمر
ولم يصفوا الرحمن إلا بما أتى ... بنص كتاب الله والسنن الزهر
يقرون آيات الصفات جميعها ... كما فعل المختار مع صحبه الغر
فلو كان في التأويل خير لبادروا ... به فهم الفرسان في النظم والنثر
(أولئك آبائي فجئني بمثلهم ... إذا ما) اجتمعنا في المجالس للفخر
وقد أكمل الرحمن من قبل دينه ... فلم يبق من زيد لزيد ولا عمرو
بمائدة قد جاء بالنص ختمه ... وإتمام إنعام يجل عن الحصر
وكم زائد في الدين أصبح ناقصاً ... يبدل دين الله بالحدس والحزر
ومن ظن تقليد الأئمة منجياً ... فأفتى بتقليد فيا له من غر
كمنتحل عذراً ليغفر ذنبه ... أضاف له جرماً تجدد بالعذر
ألا إنما التقليد جهل وظلمة ... وطالبه خلو من العلم والخبر
كطالب ورد بعد ما شفه الظما ... جرى خلف آل لاح في مهمة قفر
فإن قمت بالإفتاء أو كنت قاضياً ... فإياك والتقليد فهو الذي يزري
وجود سيوفاً من براهين قد سمت ... عن الحدس والتخمين والسخف والهتر
وطرفك سرح في الكتاب فإنه ... رياض حوت ما تشتهيه من الزهر
ومن بعده فاعلق بسنة أحمد ... فأنوارها تسمو على الشمس والبدر
ولا تحكمن بالرأي إلا ضرورة ... كما حلت الميتات أكلا لمضطر
ومهما بدا أن القضاء على خطأ ... أقيم فبادر للرجوع على الفور
ومن يقض بالتقليد فهو على شفا ... كعشوا(1) غدت في كافر حالك تسري
ومن يفت بالتقليد فهو قد افترى ... وفي النحل نص جاء في غاية الزجر
لعمرك ما التقليد للجهل شافياً ... وأما نصوص الوحي فهي التي تبري
وصل وسلم يا إلهي على النبي ... صلاة تدوم الدهر طيبة النشر
فدونكها بكراً عروباً خريدة ... مهفهفة غيداً عروساً من الشعر
__________
(1) العشواء: الناقة التي بعينها سوء إذا خبطت بيدها. يقال هو يخبط خبط العشواء. والكافر المذكور في البيت هو الليل.(39/301)
يضيء ظلام الليل نور جمالها ... وليس لها إلا القراءة من مهر
قصدت بها نصراً لسنة أحمد ... وناصرها لا شك يظفر بالنصر
وعدتها تسعون من بعد خمسة ... وأختمها بالحمد لله والشكر
هذا مما حضرني من الحوادث المتعلقة بالدعوة إلى الله والاشتغال بالعلم أمليته مما بقى عالقا بذاكرتي بعد مضي عشرات السنين، وتركت كثيرا من الحوادث التي لاتمت إلى الغرض المقصود بصلة وأسأل الله حسن الخاتمة إنه جواد كريم، وصل اللهم على محمد سيد المرسلين وعلى آله وأصحابه أجمعين، وعلى التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعلينا معهم بمنك يا أكرم الأكرمين. وكان الفراغ من إملائه مساء يوم السبت بمنزلي بالمدينة النبوية لاثنتي عشرة خلون من ربيع الثاني سنة 1391هـ من هجرة النبي الأكرم صلى الله عليه وسلم والحمد لله رب العالمين.
الفهرس
نبذة عن المؤلف…
مقدمة المؤلف…
الدعوة إلى الله في الإسكندرية…
امتحان الدعاة إلى الله…
سبب منع أبي السمح من الصلاة والوعظ في مسجد أبي هاشم برمل الإسكندرية…
الدعوة إلى الله في الصعيد…
السر الخفي…
عودة إلى دروس الوعظ…
عودة إلى الريرمون…
المناظرة…
الدعوة إلى الله في تندا…
قدّم مراد الله يقدم الله مرادك…
من مخارق شيوخ المتصوفة المبتدعين…
الدعوة إلى الله في تطوان…
الحوادث التي وقعت أثناء إقامتي في شمال المغرب…
الحدث الثاني في تطوان ونواحيها…
الحدث الثالث: همّ جماعة من الناس بقتلي…
معركة مع شيخ متصوف من أهل تطوان…
السفر إلى مكة في لحظة…
عزل الشيخ المتصوف من جميع المناصب…
فتوي الشيخ المتصوف…
عقيدة الأشعرية…
التعيين في خزانة الكتب العامة…
خمسمائة بسيطة من وزارة الأوقاف…
غضب رئيس الوزراء أحمد الغنيمة…
معركة مع فقيه مقلد مشرك…
ترف أهل تطوان…
الأمير الملالي والاستسقاء…
صلاة الاستسقاء…
الاجتماع بالأمير الملالي…
الاستسقاء بذبح الخيل…
الاستسقاء بالحصى…
فجو فقيه مبتدع مر علينا ولم يسلم…(39/302)
انتقام المستعمرين مني…
الاتصال بالوطنيين المقاومين للاستعمار…
تأليق مختصر هدي الخليل…
التعاون مع الإمام الشهيد حسن البنا…
الاجتماع بالحاكم الإسباني…
الانتقال إلى تطوان…
لماذا خذلني خليفة السلطان؟…
طلب أمير شفشاون للصلح مرة أخرى…
عاقبة أمير شفشاون اليزيد بن صالح…
بين اليزيد والملالي…
شكر أهل شفشاون…
كيف كانت عاقبة وزير العدل…
في السفارة الإنكليزية…
حادثة أصيلا…
السفر إلى مجريط ثم إلى القاهرة…
اٌامة بالقاهرة…
الصدق منجاة والكذب مهلكة…
الدعوة إلى الله في العراق…
جامع الدهان…
تطهير الجامع من البدع…
هجوم مدير الأوقاف علينا…
وقوف الأستاذ منير القاضي إلى جانبنا…
مكيدة أخرى…
أخذ الأجرة على صلاة الجمعة…
ملاحقة الاستعمار لمؤلف هذا الكتاب…
الانقلاب…
الدعوة إلى الله في الدورة…
كيف كان ال السلفيين في الحجاز…
مناظرة مع ابن مايابا الشنقيطي…
مداهنته لمن يسميهم بالوهابية…
إزالة بستان فاطمة…
العشاء في قصر الملك حسين…
ملك الحجاز غير المتوج…
عبد الرؤوف الصبان…
السفر إلى الهند…
حادثة عجيبة…
التجول في الهند…
السيد سليمان الندوي…
لقاء الشيخ مصطفى آل إبراهيم…
السفر إلى العراق في الباخرة…
الوصول إلى الدورة…
مناظرة مع مجتهد الشيعة في المحمرة…
مناظرة مع شيعي آخر…
شيق متملق…
الدعوة إلى الله في النخيل…
الاختلاف مع الشيخ عبد الله بن بلهيد…
الشيخ الطيب التنبكي…
الشيخ محمود شمويل…
الخروج إلى البادية…
قصة ابن منصور…
القصة الثانية وهي أفظع…
التدريس في المسجد الحرام…
التدريس في المعهد السعودي…
السفر إلى الهند…
محنة…
مكرمة عربية…
رحلة إلى أفغانستان…
الشيخ عمر أوزبك…
الكلام بالعربية…
زيارة الملك…
لماذا لم أحرص على زيارة الملك…
المرض بالحمى النافض…
علاج غريب…
حال المسلمين في أفغانستان…
بوزدوزج…
عودة إلى حدود الهند…
ركوب الفيل…
الدعوة إلى الله في مكناس…
المكيدة الثانية…
المكيدة الثالثة…
المدرسة الحسنية…(39/303)
الرجوع إلى المدينة المنورة…(39/304)
رسالة
الدلائل في حكم موالاة أهل الإشراك
للشيخ
سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب
من كتاب
مجموع الرسائل
تحقيق
د. الوليد بن عبدالرحمن بن محمد آل فريان
بسم الله الرحمن الرحيم
تمهيد
لم يكن متوقعاً أن تشهد الجزيرة العربية تغيراً شاملاً يعصف رتابة الحياة ويزجها في أتون الصراعات الخارجية، بعد أن ظلت قروناً طويلة: ممزقة الأوصال، تعيش في دوامة الضياع والتشتت، وترضى من الدنيا بأقل القليل.
ولكن الله تعالى قدر لهذا الجزء القابع في أعماق الصحراء، البعيد عن أطماع المستعمرين، الذي لا يملك من أسباب الترف والرفاهية شيئاً، أن يقفز خلال سنوات قليلة إلى مصاف الدول المتحضرة، ويحقق لنفسه مكاناً أعاد للأذهان انتصارات الجيل الأول وفتوحاته المجيدة.
وهذه النقلة الرائعة التي استلفتت الأنظار ما كان لها أن تتحقق لولا عناية الله تعالى ثم جهود الدعوة السلفية الخالدة، التي ترعرعت بين روابي نجد ووهادها: فأمرعت وأينعت بأطيب الثمار. غير أنها حينما أخذت تمد يدها الحانية لجاراتها وتمكنت من بسط نفوذها على بلاد الحرمين وتخليصه من هيمنة الوثنية، وانتزاعه من براثن الشرك، أثار ذلك الانعتاق مخاوف الدولة العثنامنية. ورأت فيه تعجيلاً بنهايتها، ونسفاً لمبررات وجودها، المعتمد على ثقلها الديني، والمنبثق من سيطرتها على الأماكن المقدسة.
الأمر الذي يتطلب السعي الحثيث للقضاء على هذه الدعوة المتمردة قبل استفحالها وتعاظم خطرها، وحتى لا يصبح من العسير بعد ذلك إبادتها.(40/1)
فاستخدمت لتحقيق هدفها ما استطاعت من ضروب الحيل والمكر والتأليب، ونجحت في قتل قائدها الفذُّ عبد العزيز بن محمد بن سعود غيلة (1) . لكن تلك الجريمة البشعة، لم تُفلح في إيقاف نجاح الدعوة أو كبح جماحها. ولهذا تيقنت الدولة العثمانية ومن ورائها الدول الاستعمارية الغادرة أنه لا مناص من البحث عن وسيلة قادرة على حسم الموقف. فلم تجد أفضل من خادمها محمد علي. حيث رأى في تنامي هذه الحركة ما يهدده، وخشي أن تؤثر على سلطانه المتهالك: يبث تلك الروح الجديدة بين رعاياه عن طريق الاتصال بهم في مواسم الحج. إلى جانب ما كان يتطلع إليه من مد دولته وتوسيع حدودها، فجندته لتحطيم الدعوة وسحقها.
ولم يتورع قط عن ارتكاب أبشع الجرائم في سبيل أطماعه وشهواته المريضة.
وليس بوسعنا الآن التعرض لمظالمه وفظائعه، التي تقشعر منها الأبدان. أو التطرق للمخازي التي اقترفها في نجد، مما يمكن أن يوصف بالوحشية والبربرية وما شئت من أوصاف.
وبمقدورنا تبين حجم ما فعله هذا المسخ المشوه بأمته – إن كان ثمة دين يربطه بهذه الأمة – من البهجة والسرور الذين استقبلت بهما الأمبراطورية البريطانية هذه الأحداث(2).
والمتصفح لتاريخ الشيخ عبد الرحمن الجبرتي، وما سجله كل من (بركهارت) و (هوغارث) (3) وهم من المعاصرين لأحداث تلك الفترة لا يعوزه الدليل الصارخ على ما قلنا.
__________
(1) كان ذلك بواسطة أحد العملاء الجبناء (درويش)، الذي انقض عليه وهو ساجدٌ أثناء صلاة العصر في مسجد الطريف بالدرعية في العشر الأواخر من شهر رجب سنة ثمان عشرة بعد المائتين والألف. "عنوان المجد" (1/264).
(2) ينظر "كتاب العربية" لسانت جون فلبي ( ص / 103) عن " كتاب محمد بن عبد الوهاب" لمسعود الندوي ( ص / 121).
(3) ينظر " كتاب محمد بن عبد الوهاب المفترى عليه" لمسعود الندوي ( ص / 128).(40/2)
ولقد وقف رجال الدعوة وقادتها وعلماؤها في وجه الزحف الغادر بكل ما أتوا من قوة، وبذلوا أموالهم ودماءهم في سبيل الذود عن مبادئها ودفع غائلة الشر عنها.
ومع كل ما تعرضت له من ألوان المحو والطمس، وما تعرض له قادتها وعلماؤها من القمع والتنكيل.
فقد بقيت حية غضة في قلوب أبنائها، واستمرت مصدر إشعاع. ولا زلنا بحمد الله نتفيأ ظلالها الورافة، ونعيش في كنفها الرحب. إلا أن ذلك سيظل منوطاً بما يقدم لهذه الدعوة من دعم وتشجيع، وما تحاط به من رعاية واهتمام، تستمر في أداء رسالتها وتقديم الصورة الصحيحة للإسلام.
ولابد إذا ما كنا جادين في تثبيت دعائمها، ومقتنعين بأهميتها وحيويتها وسلامة منهجها. من الاستفادة من تاريخها ومسيرتها الطويلة، والتنقيب عن أسباب انتشارها، والبحث عن الملابسات التي أدت إلى انحسارها وتقهقرها أمام الغزاة في ذلك الوقت.(40/3)
ولندع الآن حفيد إمام الدعوة العلامة الشيخ عبد الرحمن بن حسن (1) يشرح لنا أهم الأسباب التي ساهمت في اشتعال الفتنة، ويحلل لنا أبعاد الموقف المتأزم – من وجهة نظره الخاصة باعتباره من المعاصرين لها وممن اكتوى بنارها – يقول وهو يخاطب الإمام عبد الله ابن فيصل رحمه الله: تفهم أن أول ما قام به جدك محمد وعبد الله، وعمك عبد العزيز أنها خلافة نبوة. يطلبون الحق ويعملون به ويقدمون ويغضبون له، ويرضون ويجاهدون، وكفاهم الله أعداءهم على قوتهم. إذا مشى العدو كسره الله قبل أن يصل؛ لأنها خلافة نبوة، ولا قاموا على الناس إلا بالقرآن والعمل به، كما قال تعالى : {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ} (2) .. وصار أهل الأمصار يخافونهم. وأراد الله سبحانه إمارة سعود بعد أبيه يرحم الله الجميع، وأراد الله أن يغير طريقة والده الذي قبله، وبغاها ملكاً وبدأ الأمر. ينقص أمر الدين والدنيا تطغى .. وصار العاقبة القصور – التي بنيت بقناطير – والمقاصير – التي تنفذ فيها الأموال العظيمة – التي تسوى ثلاثة آلاف ما تسوى اليوم الاجديدة (3) لما جرى من تسليط الأعداء عليهم. هذا وهم على التوحيد. لكن ما أعطوه حقه. اشتغلوا بالدنيا ونضارتها وما فتح الله عليهم، وأعرضوا عما أوجب الله عليهم القيام به في أنفسهم وعلى الناس. فجرى ما جرى .. وهذا بسبب الغفلة عما أوجب الله؛ لأن الله اختار لهم أمراً عظيماً ومكنهم منه ومن الناس. لكن حصل تفريط في هذه النعمة العظيمة.
__________
(1) المجدد الثاني للدعوة ولد رحمه الله سنة 1193 وامتد به العمر إلى أن أدركه الأجل سنة 1285. " مشاهير علماء نجد" ( /58)..
(2) سورة النور آية 55.
(3) نوع من العملة قليل القيمة.(40/4)
والدرعية اليوم من تدبر حالها وحللها: عرف أن ما جاءهم إلا ذنوبهم. فاعتبروا يا أولي الأبصار(1).
وغني عن القول أن هذا الرصد التأريخي، لا يعني بأي حال الاستهانة بالدور الذي لعبته الخلافة العثمانية في جمع شمل المسلمين وحمايتهم من هجمات الصليبيين وأطماع المستعمرين، وما تحقق في وقتهم من انتصارات وفتوح شاسعة، وطرق الأبواب الجديدة في سبيل توسيع رقعة الإسلام.
لكن في الوقت نفسه، لا يمكن أيضاً أن ينسينا ما فعلته هذه الخلافة في أيامها الأخيرة بالأمة الإسلامية، باسم الإسلام وتحت مظلته. وما أسدت في شيخوختها من أياد سوداء، ومواقف مخزية بشعة. فتحولت من خلافة إسلامية إلى خلافة من نوع آخر، يحكمها الماسون ويسيرها التعصب والحمية الجاهلية (2) . ولم يعد لها من اسمها أي نصيب يذكر، غير التسلط والاستغلال وهدر جميع فرص التقدم. بل أصبحت وكراً تحاك فيه المؤامرات ضد الشعوب المسلمة المستضعفة، وسادناً مخلصاً لكل بدعة وخرافة تلفظها العقول.
***
موضوع الرسالة
الولاء والبراء أصلان عظيمان من أصول الإسلام، ومظهران بارزان من عقيدة أهل السنة والجماعة تتميز به عن غيرها. وذلك نابع من كونهما من أهم لوازم كلمة التوحيد (لا إله إلا الله).
__________
(1) " الدرر السنية" (11/47) ، وإلى هذا يشير أيضاً: ابن بشر في "عنوان المجد" (1/277)، والحازمي في " الرسائل" (99، 125، 137) .
(2) ولا زالت بقايا هذه الدولة ترزح تحت عدوان هؤلاء، وتتجرع مرارة التخريب والإفساد.(40/5)
وبما أنه لا ولاء إلا ببراء، كان من الضروري توضيح مبدأ البراء، والكشف عن معانيه. ومن هنا اكتسبت الرسالة أهميتها، وحرص علماء نجد خاصة على تلقينها للطلاب وحفظها عن ظهر قلب (1) .
وقد استهدفت الرسالة إثراء هذه القضية، وبيانها على نحو بعيد عن الغموض أو الابهام. فاستهلها المؤلف بالحديث عن حكم إظهار الموافقة للمشركين وموالاتهم، وكان قوله صريحاً صارماً منذ البداية ومدعماً بالدليل من الكتاب والسنة. ولذا تمكنت من إسقاط جميع الأعذار التي يتشبث بها من لم يقر في قلبه الإيمان، بصورة أزاحت الغشاوة عن العيون، وبددت ما كان عالقاً في الأذهان مما نسجه الخوف، وغذته الوساوس. ويلمح القارئ للرسالة اهتمام المؤلف بأمرين :
أولهما: التأكيد على خطر بعض صور الشرك في وقته، ولا سيما تعظيم القباب، ودعاء الأموات: لأن ذلك شرك صريح مخرج عن الملة، ولا مجال للجدال فيه.
وثانيهما: أن الإكراه عن الشرك والكفر، يسقط المؤاخذة. إذا ما كان إكراهاً حقيقياً يتعذر دفعه. والقلب مطمئن بالإيمان لا يخالطه ريب أو شك.
__________
(1) حدثني بذلك الشيخ المعمر عبد العزيز المرشد، وذكر لي أنه قرأها مرات كثيرة على شيخه العلامة عبد الله بن عبد اللطيف رحمه الله. كما أشار إلى هذه العناية الشديدة: الشيخ ابن قاسم " الدرر" (12/48)، والشيخ إبراهيم بن محمد آل الشيخ في مقدمة "تيسير العزيز الحميد" (ص / 13)..(40/6)
ويبدو من سياق الرسالة وأسلوبها الحازم الصريح، أن الشيخ سليمان كتبها أثناء اجتياح الجيوش العثمانية لنجد، بعدما تسامع الناس عن مواقف بعض القرى والبوادي المتخاذلة (1) يقول رحمه الله في حديثه على الدليل السادس عشر { وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ }: فهذه الآية مطابقة لحال المنقلبين عن دينهم في هذه الفتنة سواء بسواء ... لما أصابتهم هذه الفتنة انقلبوا عن دينهم وأظهروا موافقة المشركين (2) .
وصف النسخ
اعتمدت في تحقيق الرسالة على خمس نسخ تامة، وهي كما يلي :
الأولى: وكتب في أولها، ما نصه: بسم الله. قال الشيخ الإمام العالم الرباني سليمان بن الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب. أجزل الله لهم الثواب وأمنهم من عذاب النار وأليم العقاب ووقفنا وذرياتهم للصواب.
نقلها الشيخ عبد الله بن حمود (3) سنة 1251 (4) ، وتقع في سبع ورقات ومسطرتها 21 سطراً. وقد عثرت عليها ضمن أوراق (دشوت) بمكتبة الشيخ عبد العزيز المرشد (ت 1417هـ).
__________
(1) ذكر الشيخ عبد الرحمن بن حسن – وهو ممن عاصر تلك الأحداث الدامية – شيئاً من هذه المواقف وعقبها بقوله : (إن هناك من أهل نجد من أعانهم وساعد المعتدين ممن لم يتمكن الإيمان في قلبه) وكان الشيخ رحمه الله على يقين من ذلك حيث وعد بتحديد أعيانهم فيما لو سأله سائل عنهم. ينظر "المقامات" ورقة (21، 24)..
(2) وانظر كلامه أيضاً عن الدليل السابع عشر والثاني عشر. وفي رسالة للشيخ عبد الله العنقري – رحمه الله – بعثها إلى بعض المنتسبين إلى العلم ما يؤكد ذلك. قال: نبين لكم سبب تصنيف الدلائل. فإن الشيخ سليمان صنفها لما هجمت العساكر التركية على نجد في وقته وأرادوا اجتثاث الدين من أصله وساعدهم جماعة من أهل نجد من البادية والحاضرة، وأحبوا ظهورهم . "الدرر السنية" (5/309)..
(3) لم أعثر على ترجمته فيما بين يدي من المصادر.
(4) أشار إلى ذلك في خاتمة الرسالة التي تلتها.(40/7)
وهي نسخة مقابلة مصححة، منقولة من خط المؤلف (1). ولذلك جعلتها أصلاً.
الثانية: وتقع في ست ورقات، ومسطرتها 25 سطراً.
وهي نسخة مقابلة ومصححة؛ كما يتضح من كثرة التعليقات. غير أنها خلت من العنوان واسم المؤلف؛ لأنها كانت فيما يبدو ضمن مجموع انفرط عقده.
وقد عثرت عليها أيضاً مع أوراق (دشوت) بمكتبة الشيخ الفاضل عبد العزيز المرشد، ورمزت لها بحرف (ع).
الثالثة: وعثرت عليها في مجموع صغير، تضمن بعض رسائل ابن تيمية وأئمة الدعوة، محفوظ بمكتبة الرياض السعودية بدون رقم. وتقع في إحدى عشرة ورقة، ومسطرتها 15 سطراً، ليس لها عنوان أو اسم ناسخ ولا تاريخ نسخ. وقد كتبت بخط جميل جداً، إلا أن فيها بعض التحريف والنقص. ورمزت لها بحرف (ر).
الرابعة : ودون في بدايتها، ما نصه: هذه إحدى وعشرون دليل في أن من ساكن المشركين ووالاهم فهو مشرك مثلهم ... للشيخ سليمان بن عبد الله بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب.
ولم يشر الناسخ إلى اسمه، أو تاريخ فراغه من نسخها.
وهي تقع في سبع ورقات، ومسطرتها 24 – 26 سطراً.
وسجل على ورقتها الأخيرة تملك، ونصه في ملك الفقيرة إلى ربها العزيز أمته حليمة آل عبد العزيز غفر الله لها ..
ورمزت لها بحرف (م).
الخامسة: نشرت مع رسائل لابن تيمية وابن القيم، في مجموع بعنوان الجامع الفريد سنة 1387هـ دون تحقيق.
__________
(1) كما نبه عليه الناسخ في آخر الرسالة. ولا يمنع عدم جزمه بما ذكر، لأن حظ الشيخ سليمان معروف لا يشتبه بغيره. فلم يكن في زمنه من يكتب بالقلم مثله، كما قال ابن قاسم 12/48 وغيره.(40/8)
وتقع في ست ورقات، من الصفحة 371 إلى 382. ولم يذكر شيء عن الأصل الذي اعتمد عليه في النشر، إلا أنه تبين لي بمعارضتها مع النسخ الأخرى اتفاقها في كثير من الأحيان مع نسخة (ر)، وهي نسخة ناقصة تجاوز سقطها في بعض المواضع السطرين أو يزيد. وقد أشرت إليه في الهامش، ورمزت لها بحرف (ط) (1).
عنوان الرسالة:
اغفلت النسخ المحفوظة الإشارة إلى اسم الرسالة، فيما عدا النسخة (م). حيث ورد فيها هكذا: إحدى وعشرون دليل في أن من ساكن المشركين ووالاهم فهو مشرك مثلهم. ويبدو أن الناسخ أخذه من المضمون، فجاء على هذا النحو.
أما في المطبوعة، فجعله الناشر: حكم موالاة أهل الإشراك.
وإذا انتقلنا إلى كتب التراجم، فإننا نجد الشيخ ابن قاسم ينص على أن اسمها: الدلائل في حكم موالاة أهل الإشراك (2).
بينما يسميها ابن بسام (3)، وصاحب مشاهير علماء نجد (4): الدلائل في عدم موالاة أهل الإشراك (5).
ويبدو أن الأقرب هو ما ذكره الشيخ عبد الرحمن بن قاسم (ت 1393)؛ لما عرف عنه من ممارسة طويلة لتراث أئمة الدعوة، وخبرة واسعة مكنته من جمعه وترتيبه وإخراجه في أسفار كثيرة.
منهج التحقيق :
اتخذت النسخة المنقولة من خط المؤلف أصلاً. وعولت كثيراً على ما ورد فيها؛ لقدمها وصحتها. أما بقية النسخ، فعارضتها بالأصل وأثبت ما بينها من فروق. ولم أضف إلى الأصل إلا ما رأيت الحاجة تدعو إليه، فألحقته في الصلب بين حاصرتين. كما قمت بعزو الآيات الكريمة، وتخريج الأحاديث، وذكرت ما قاله أهل العلم في شأن ثبوتها بقدر الإمكان. وترجمت للأعلام ممن يحتاج إلى تعريف، وفسرت ما غمض، إلى غير ذلك.
__________
(1) ينظر: ابن قاسم " الدرر السنية" (5/47) ويلاحظ ما بينهما من التشابه الكثير. فلعلها عن أصل واحد.
(2) "الدرر" (12/48).
(3) "علماء نجد" (1/295).
(4) الشيخ عبد الرحمن بن عبد اللطيف.
(5) عند ابن بسام: أهل الشرك.(40/9)
وبعد: فأرجو الله العلي القدير أن يعلمنا ما ينفعنا وينفعنا بما علمنا، وأن يمنحنا الفقه في الدين والسير على شرعه القويم، إنه جواد كريم وبالإجابة جدير. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
النص المحقق
بسم الله الرحمن الرحيم(1)
(2) الحمد لله رب العالمين21.
اعلم رحمك الله: أن الإنسان إذا أظهر للمشركين الموافقة على دينهم: خوفاً منهم، و مداراة لهم و مداهنة؛ لدفع شرهم. فإنه كافر مثلهم (3)، وإن كان يكره دينهم ويبغضهم، ويحب الإسلام والمسلمين. هذا إذا لم يقع منه إلا ذلك. فكيف إذا كان في دار منعة، واستدعى بهم، ودخل في طاعتهم (4) وأظهر الموافقة على دينهم الباطل، وأعانهم عليه بالنصرة والمال (5)، ووالاهم وقطع الموالاة بينه وبين المسلمين، وصار (6)من جنود الشرك والقباب (7) وأهلها، بعدما كان من جنود الإخلاص والتوحيد وأهله. فإن هذا لا يشك مسلم أنه كافر، من أشد الناس عداوة لله ورسوله صلى الله عليه وسلم (8). ولا يستثنى من ذلك إلا المكره: وهو الذي يستولي عليه المشركون (9)، فيقولون (10)له: اكفر، أو (11)افعل كذا وإلا فعلنا بك وقتلناك. أو (12)يأخذونه، فيعذبونه حتى يوافقهم. فيجوز له الموافقة باللسان، مع طمأنينة القلب بالإيمان.
__________
(1) بزيادة: وبه نستعين ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم و حسبنا الله و نعم الوكيل
(2) ما بينهما ساقط من (ر) و (ط) وعلق في هامش (ع) زيادة: و الصلاة و السلام على محمد و على آله. و عليه كلمة صح.
(3) ينظر التفريق عند أئمة الدعوة: بين المداراة و المداهنة. و أن المداراة لا بأس بها؛ عند الحاجة المعتبرة. ابن قاسم ((الدرر السنية)) (5/35) و انظر أيضاً: الآجري ((الغرباء)) (79).
(4) ولايتهم.
(5) في طاعتهم، ساقطة.
(6) فصار.
(7) القباب و الشرك.
(8) صلى الله عليه وسلم ليست في (ر).
(9) المشركين. تحريف.
(10) و يقولون
(11) و.
(12) و.(40/10)
وقد أجمع العلماء على أن من تكلم بالكفر هازلاً أنه يكفر(1)فكيف بمن أظهر الكفر خوفاً وطمعاً في الدنيا؟ ! وأنا أذكر بعض الأدلة على ذلك، بعون الله وتأييده:
الدليل الأول: قول الله تعالى (2): (ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم) (3).
فأخبر تعالى: أن اليهود والنصارى وكذلك المشركون، لا يرضون عن النبي صلى الله عليه وسلم حتى يتبع ملتهم، ويشهد أنهم على حق.
ثم قال: (قل إن هدى الله هو الهدى ولئن اتبعت أهوآءهم بعد الذي جآءك من العلم ما لك من الله من ولى ولا نصير) (4)وفي الآية الأخرى: (إنك إذا لمن الظالمين)(5)فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم لو(6)يوافقهم على دينهم ظاهراً من غير عقيدة القلب ـ لكن خوفاً من شرهم ومداهنة ـ كان من الظالمين، فكيف بمن أظهر لعباد القبور والقباب (7)أنهم على حق وهدى مستقيم ؟ ! فإنهم لا يرضون إلا بذلك.
الدليل الثاني: قول الله تعالى (8): (ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون) (9)
__________
(1) وسند الإجماع، قول الله تعالى: (و لئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض و نلعب قل أبالله و ءاياته و رسوله كنتم تستهزءون (65) لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم) الآية سورة التوبة الآيتان 66،65.
(2) قوله.
(3) سورة البقرة آية 120.
(4) سورة البقرة آية 120.
(5) سورة البقرة آية 145
(6) لم
(7) القباب و القبور
(8) قوله تبارك و. (ع) قوله.
(9) سورة البقرة آية 217.(40/11)
فأخبر تعالى: أن الكفار لا يزالون يقاتلون المسلمين حتى يردوهم / عن دينهم إن استطاعوا. ولم يرخص في موافقتهم خوفاً على النفس والمال والحرمة، بل أخبر عمن وافقهم بعد أن قاتلوه (1)ليدفع شرهم أنه مرتد. فإن مات على ردته بعد أن قاتله المشركون، فإنه من أهل النار الخالدين فيها. فكيف بمن وافقهم من غير قتال ؟ ! فإذا كان من وافقهم بعد أن قاتلوه، لا عذر له، عرفت أن الذين يأتون إليهم (2)ويسارعون في الموافقة لهم من غير خوف ولا قتال، أنهم (3)أولى بعدم العذر، وأنهم كفار مرتدون.
الدليل الثالث: قوله تبارك وتعالى: (لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء إلا أن تتقوا منهم تقاة) (4).
فنهى سبحانه المؤمنين عن اتخاذ الكافرين أولياء وأصدقاء وأصحاباً من دون المؤمنين، وإن كانوا خائفين منهم، وأخبر أن من فعل ذلك: (فليس من الله في شيء). أي (5): لا يكون من أولياء الله الموعودين بالنجاة في الآخرة.(6) (إلا أن تتقوا(7)منهم تقاة)، وهو أن يكون الإنسان مقهوراً(8) معهم، لا يقدر على عداوتهم.فيظهر لهم المعاشرة، والقلب مطمئن بالبغضاء والعداوة(9)، وانتظار زوال (10)المانع. فإذا زال، رجع إلى العداوة والبغضاء. فكيف بمن اتخذهم أولياء من دون المؤمنين من غير عذر، إلا(11) استحباب الحياة الدنيا على الآخرة، والخوف من المشركين وعدم الخوف من الله، فما جعل الله الخوف منهم عذراً؛ بل قال تعالى: (إنما ذالكم الشيطان يخوف أولياءه فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين)(12).
__________
(1) بعداوته.
(2) إليهم. ساقطة.
(3) فغيرهم تحريف.
(4) سورة آل عمران آية 28
(5) و.
(6) ما بينهما ساقط من (م)
(7) يتقوا
(8) مقهور تحريف
(9) ما بينهما ساقط من (م) و (ر) و (ط)
(10) لزوال.
(11) ولا (ر) (ط) ساقطة.
(12) سورة آل عمران آية 175(40/12)
الدليل الرابع: قوله تعالى: (يأيها الذين ءامنوا إن تطيعوا الذين كفروا يردوكم على أعقابكم فتنقلبوا خاسرين)(1).
فأخبر تعالى: أن المؤمنين إن أطاعوا الكفار، فلابد أن يردوهم على أعقابهم عن الإسلام؛ فإنهم لا يقنعون منهم بدون الكفر. وأخبر: أنهم إن فعلوا ذلك، صاروا من الخاسرين في الدنيا والآخرة. ولم يرخص في موافقتهم وطاعتهم خوفاً منهم.
…وهذا هو الواقع؛ فإنهم(2) لا يقتنعون ممن وافقهم إلا بشهادة(3) أنهم على حق، وإظهار العداوة والبغضاء للمسلمين، وقطع اليد منهم.
…ثم قال: (بل الله مولاكم وهو خير الناصرين)(4). (5) ففي ولايته وطاعته ، غنية وكفاية (6) عن طاعة الكفار.
فيا حسرة (7) / على العباد: الذين عرفوا التوحيد، ونشئوا (8) فيه، ودانوا به زماناً (9). كيف (10) خرجوا عن (11) ولاية رب العالمين، وخير الناصرين. إلى ولاية القباب وأهلها، ورضوا بها بدلاً عن (12) ولاية من بيده ملكوت (13)كل شيء... ؟ !! بئس للظالمين بدلاً.
الدليل الخامس: قوله تعالى: (أفمن اتبع رضوان الله كمن باء بسخط من الله ومأواه جهنم وبئس المصير)(14).
__________
(1) سورة آل عمران آية 149
(2) انهم
(3) بالشهادة.
(4) سورة آل عمران آية 150
(5) فاخبر تعالى أن الله مولى المؤمنين و ناصرهم وهو خير الناصرين. ففي ولايته).
(6) كفاية و غنية.
(7) حسرتي.
(8) و شابوا.
(9) زمنا.
(10) فكيف.
(11) من و علق في الهامش: عن.
(12) من.
(13) ملحقه في هامش (ر) و بجوارها كلمة صح.
(14) سورة آل عمران آية 162(40/13)
…فأخبر تعالى: أنه لا يستوي من اتبع رضوان الله، ومن اتبع ما يسخطه (1) ومأواه جهنم يوم القيامة. ولا ريب أن عبادة الرحمن وحده (2) ونصرها، وكون الإنسان (3)من أهلها: (4) من رضوان الله. و أن عبادة القباب و الأموات و نصرها و الكون من أهلها: مما يسخط الله. فلا يستوي عند الله من نصر توحيده و دعوته بالإخلاص، و كان مع المؤمنين. و من نصر الشرك و دعوة الأموات و كان مع المشركين.
…فإن (5) قالوا: خفنا!!. قيل لهم (6): كذبتم و أيضاً: فما جعل الله الخوف عذراً في اتباع ما يسخطه، و اجتناب ما يرضيه.
…وكثيراً (7) من أهل الباطل: إنما يتركون الحق خوفاً من زوال دنياهم، و إلا فيعرفون الحق و يعتقدونه. ولم يكونوا بذلك مسلمين (8).
…الدليل السادس: قوله تعالى: (إن الذين توفاهم الملائكة ظالمى أنفسهم قالوا فيم كنتم)(9).(10). أي: في أي فريق كنتم (11)، أفي فريق المسلمين أم في فريق المشركين ؟. فاعتذروا عن (12) كونهم ليسوا (13) في فريق المسلمين: بالاستضعاف. فلم تعذرهم الملائكة، و قالوا لهم (14)
__________
(1) سخطه.
(2) وحدها.
(3) و الكون.
(4) من هنا إلى ((أهلها)) ملحق في هامش الأصل، و بجواره كلمة صح.
(5) و إن.
(6) : لهم. ساقط.
(7) الأصل كثيراً.
(8) مسلمين بذلك.
(9) سورة النساء آية 97
(10) أتمت الآية الكريمة.
(11) أنتم.
(12) من.
(13) لم يكونوا (ع) شطب عليها.
(14) لهم. ساقطة.(40/14)
: (ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم و ساءت مصيراً (1) و لا يشك عاقل: أن [ أهل ](2) البلدان (3)الذين خرجوا عن المسلمين، صاروا مع المشركين وفي فريقهم و جماعتهم. هذا مع أن الآية نزلت: في أناس من أهل مكة. أسلموا، و احتبسوا عن الهجرة. فلما خرج المشركون (4) إلى (5) بدر، أكرهوهم على الخروج معهم، فخرجوا خائفين. فقتلهم المسلمين يوم بدر؛ فلما علموا بقتلهم تأسفوا، و قالوا: قتلنا إخواننا.
…فأنزل الله فيهم هذه الآية (6).
__________
(1) سورة النساء: آية 97.
(2) ما بينهما ساقط من جميع النسخ و معلق في هامش (ع) و بجواره كلمة صح.
(3) البدوان.
(4) خرجوا المشركين. تحريف.
(5) يوم.
(6) أخرجه البخاري في ((الصحيح)) الرقمان (7085،4596)، و النسائي في ((السنن الكبرى)) (كتاب التفسير) كما في ((تحفة الأشراف)) (5/166)، و الطبري في ((التفسير)) (5/234) و البيهقي في ((السنن الكبرى)) (9/12)، و الطبراني في ((الأوسط)) وابن راهويه، و الإسماعيلي، وابن المنذر، كما في ((فتح الباري)) (8/263)، و ابن أبي حاتم، وابن مردويه، كما في ((الدر المنثور)) (2/206) و البزار في ((مسنده)) كما في ((مجمع الزوائد)) للهيثمي (7/10) وقال: ورجاله رجال الصحيح غير محمد بن شريك وهو ثقة. عن ابن عباس رضي الله عنه بألفاظ مختلفة.(40/15)
…فكيف بأهل البلدان: الذين كانوا على الإسلام، فخلعوا ربقته من أعناقهم، و أظهروا لأهل الشرك الموافقة على دينهم، و دخلوا في طاعتهم، وآووهم و نصروهم، و خذلوا أهل التوحيد، واتبعوا غير سبيلهم، و خطئوهم، و ظهر فيهم: سبهم (1)، و شتمهم (2)، و عيبهم، و الاستهزاء بهم، و تسفيه رأيهم ـ في ثباتهم على التوحيد و الصبر عليه، و على الجهاد فيه ـ و عاونوهم على أهل التوحيد طوعاً لا كرهاً، واختياراً لا اضطراراً (3). فهؤلاء / أولى بالكفر و النار من الذين تركوا الهجرة شحاً بالوطن، و خوفاً من الكفار، و خرجوا في جيشهم مكرهين خائفين.
…فإن قال قائل: هلاً كان الإكراه (4) عذراً (5) ـ للذين قتلوا يوم بدر ـ على الخروج (6)؟. قيل: لا يكون عذراً (7) لأنهم في أول الأمر لم يكونوا معذورين. إذا (8) أقاموا مع الكفار، فلا يعذرون بعد ذلك بالإكراه (9)؛ لأنهم السبب في ذلك، حيث أقاموا (10) معهم وتركوا الهجرة.
…الدليل السابع: قوله تعالى: (و قد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم ءايات الله يكفر بها و يستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذا مثلهم) (11).
__________
(1) بسبهم.
(2) و شتمهم. ساقطة.
(3) اضطراباً تحريف.
(4) الإكراه على الخروج.
(5) عذر. تحريف.
(6) . (م) (ر): على الخروج. ساقطة.
(7) عذراً لهم.
(8) إذا. تحريف.
(9) الإكراه.
(10) قاموا.
(11) سورة النساء آية 140(40/16)
…(1)فذكر تبارك و تعالى، أنه نزل على المؤمنين (2) في الكتاب: أنهم (3) إذا سمعوا آيات الله يكفر بها، و يستهزأ بها فلا يقعدوا معهم، حتى يخوضوا في حديث غيره. و أن من جلس مع الكافرين بآيات الله، المستهزئين بها في حال كفرهم واستهزائهم: فهو (4) مثلهم. و لم يفرق بين الخائف و غيره. إلا المكره.
…هذا وهم في بلد واحد، في أول الإسلام (5). فكيف بمن كان في سعة الإسلام و عزه و بلاده، فدعا الكافرين بآيات الله المستهزئين بها إلى بلاده، واتخذهم أولياء و أصحاباً و جلساء، وسمع (6)كفرهم واستهزاءهم واقرهم، وطرد أهل التوحيد و أبعدهم ؟ !!.
الدليل الثامن: قوله تعالى: (يأيها الذين ءامنوا لا تتخذوا اليهود و النصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدى القوم الظالمين) (7).
…فنهى سبحانه المؤمنين: عن اتخاذ اليهود و النصارى أولياء.
…و أخبر: أن من تولاهم من المؤمنين،فهو منهم (8). وهكذا حكم من تولى الكفار من المجوس وعباد الأوثان، فهو منهم.
… فإن جادل مجادل: في أن عبادة القباب، و دعاء (9) الأموات مع الله ليس بشرك، و أن (10) أهلها ليسوا بمشركين. بان أمره، و اتضح عناده و كفره.
__________
(1) ما بينهما ساقطة من (ع)
(2) الذي أحيل عليه في هذه الآية، من النهي في ذلك: هو قوله تعالى، في سورة الأنعام: (و إذا رأيت الذين يخوضون في ءاياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره و إما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين) انتهى من تفسير ابن كثير 1/567.
(3) ساقطة.
(4) الأصل (ع) فهم.
(5) ولا يخفى ما يكتنف البدايات من افتقار إلى المساندة و الدعم، لاسيما في البلاد التي انبثقت منها الدعوة. ومع كل هذا، كان موقف الإسلام صريحاً منذ الوهلة الأولى.
(6) مع
(7) سورة المائدة آية 51
(8) ما بينهما ساقط من (م) (ر).
(9) : و دعاء. ساقطة.
(10) ما بينهما ساقط من (م).(40/17)
…ولم يفرق تبارك وتعالى بين الخائف، وغيره. بل أخبر تعالى: أن الذين في (1) قلوبهم مرض يفعلون ذلك خوفاً من الدوائر. وهكذا حال هؤلاء المرتدين: خافوا من الدوائر، وزال ما في (2)قلوبهم من الإيمان (3) بوعد الله الصادق بالنصر لأهل التوحيد. فبادروا وسارعوا / إلى أهل (4) الشرك، خوفاً أن تصيبهم دائرة، قال تعالى: (فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين)(5).
…الدليل التاسع: قوله تعالى: (ترى كثيراً منهم يتولون الذين كفروا لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون)(6).
…فذكر تعالى: أن موالاة الكفار موجبة لسخط الله، و الخلود في العذاب (7) بمجردها، و إن كان الإنسان خائفاً (8). إلا من أكره بشرطه. فكيف إذا اجتمع ذلك مع الكفر الصريح، وهو: معاداة التوحيد و أهله، و المعاونة على زوال دعوة الله بالإخلاص، وعلى تثبيت دعوة غيره.
…الدليل العاشر: قوله تعالى: (ولو كانوا يؤمنون بالله و النبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء و لكن كثيراً منهم فاسقون) (9).
…فذكر تعالى: أن موالاة الكفار منافية للإيمان بالله، و النبي وما أنزل إليه. ثم أخبر: أن سبب ذلك، كون كثير منهم فاسقون (10). و لم يفرق بين من خاف الدائرة و بين (11)من لم يخف. و هكذا حال كثير من هؤلاء المرتدين، قبل ردتهم كثير منهم فاسقون. فجرهم(12) ذلك إلى موالاة الكفار،و الردة عن الإسلام. نعوذ بالله من ذلك.
__________
(1) : في. ساقطة.
(2) لما.
(3) عدم الإيمان.
(4) : أهل. ساقطة.
(5) سورة المائدة آية 52
(6) سورة المائدة آية 80
(7) النار.
(8) ينظر الفرق بين الموالاة و التولي، و أن الموالاة بمجردها لا تعد كفراً المؤلف ((أوثق عرى الإيمان)) (133) وابن قاسم ((الدرر السنية)) (5/201).
(9) سورة المائدة آية 81.
(10) فاسقين.
(11) بين. ساقطة.
(12) فجر.(40/18)
الدليل الحادي عشر: قوله تعالى: (و إن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم و إن أطعتموهم إنكم لمشركون)(1).
…وهذه الآية (2) نزلت، لما قال المشركون: تأكلون ما قتلتم، ولا تأكلون ما قتل الله. فأنزل الله هذه الآية(3).
…فإذا كان من أطاع المشركين في تحليل الميتة مشركاً(4) ـ من غير فرق بين الخائف و غيره، إلا المكره (5)ـ فكيف بمن (6) أطاعهم في تحليل موالاتهم، و الكون معهم و نصرهم، و الشهادة أنهم على حق، واستحلال دماء المسلمين و أموالهم، و الخروج عن جماعة المسلمين إلى جماعة المشركين ؟؟. فهؤلاء أولى بالكفر و الشرك، ممن وافقهم على أن الميتة حلال(7).
…الدليل الثاني عشر: قوله تعالى: (واتل عليهم نبأ الذي ءاتيناه ءاياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين)(8)
__________
(1) سورة الأنعام آية 121
(2) ساقطة.
(3) أخرجه أبو داوود في ((السنن)) رقم (2818) و النسائي في ((المجتبي)) (7/237)، و الترمذي في ((الجامع)) رقم (3069) وقال: حديث حسن غريب، و الحاكم في ((المستدرك)) (4/233)و الطبري في ((التفسير)) (8/17)، و البيهقي في ((السنن الكبرى)) (9/241) و الفريابي، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، و النحاس، و أبو الشيخ، وابن مردوية، و الطبراني، كما في ((الدر المنثور)) (3/43) عن ابن عباس رضي الله عنهما.
(4) شرك. تحريف (ط) ساقطة.
(5) : الا المكره. ساقطة.
(6) من.
(7) جميع الدليل الحادي عشر ملحق في هامش نسخة (ع)
(8) سورة الأعراف آية 175(40/19)
…وهذه الآية: نزلت في رجل(1) عالم عابد، في زمان بني إسرائيل يقال له: بلعام(2). وكان يعلم الاسم الأعظم. قال ابن أبي طلحة(3)، عن ابن عباس: لما نزل بهم موسى عليه السلام ـ يعني: بالجبارين(4) ـ أتاه(5) بنوا عمه و قومه، فقالوا(6): إن موسى رجل حديد، ومعه جنود كثيرة. و أنه إن يظهر علينا يهلكنا، فادع الله أن يرد عنا(7) / موسى و من معه. قال: إني إن دعوت(8) ذهبت دنياي و آخرتى. فلم يزالوا به حتى دعا عليهم، فسلخه الله مما كان عليه؛ فذلك قوله: (فأنسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين) (9) وقال ابن زيد(10): كان هواه مع القوم، يعني: الذين حاربوا موسى و قومه.
__________
(1) رجل. ساقطة.
(2) بلعام بن باعوراء و في بعض الروايات بلعم بإسقاط الألف، وفي أخرى بلعام ابن عامر. ينظر: الطبري ((التفسير)) (13/ 257) و الحاكم في ((المستدرك)) (2/325)
(3) أبو الحسن علي بن سالم، مولى ابن العباس، سكن حمص، أرسل عن ابن عباس و لم يره، صدوق قد يخطىء ت143. ((تقريب)) (ص/402).
(4) نسبة إلى مدينة الجبارين.
(5) أتوه.
(6) : عنا. ساقطة.
(7) و قالوا.
(8) دعوته. (م) دعوت الله.
(9) أخرجه ابن المنذر، وابن أبي حاتم، كما في ((الدر المنثور)) (3/145) عن ابن عباس رضي الله عنهما. قال الحافظ ابن كثير: و هو المشهور في سبب نزول هذه الآية الكريمة، وقد أغرب بل أبعد بل أخطأ، من قال: كان قد أوتي النبوة فانسلخ منها. ((التفسير)) (2/65).
(10) عبد الرحمن بن زيد بن أسلم العدوي، مولاهم، ضعيف ت 182. ((تقريب)) (ص/340).(40/20)
…فذكر تعالى: أمر هذا المنسلخ من آيات الله بعد أن أعطاه الله إياها، و عرفها و صار من أهلها، ثم انسلخ منها. أي: ترك العمل بها، و ذكر في انسلاخه منها، ما معناه: أم مظاهرة المشركين و معاونتهم برأيه، و الدعاء على موسى عليه السلام ومن معه أن يردهم الله عن قومه؛ خوفاً على(1) قومه و شفقة عليهم. مع كونه يعرف الحق و يقطع به، و يتكلم به(2) ويشهد به، و يتعبد. و لكن صده عن العمل به: متابعة قومه و عشيرته وهواه، و إخلاده إلى الأرض. فكان هذا إنسلاخاً من آيات الله.
…وهذا هو الواقع من هؤلاء المرتدين، و أعظم. فإن الله أعطاهم آياته التي فيها(3) الأمر بتوحيده(4) و دعوته وحده لا شريك له، و النهي عن الشرك به(5) و دعوة غيره، و الأمر بموالاة المؤمنين (6) و محبتهم و نصرتهم، و الإعتصام بحبل الله جميعاً، و الكون مع المؤمنين، و الأمر بمعاداة المشركين و بغضهم و جهادهم و فراقهم، و الأمر بهدم الأوثان، و إزالة القحاب(7) و اللواط و المنكرات. و عرفوها و أقروا بها، ثم انسلخوا من ذلك كله. فهم (8) أولى بالانسلاخ من آيات الله و الكفر و الردة من بلعام، أو هم (9) مثله.
…الدليل الثالث عشر: قوله تعالى: (ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار و مالكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون)(10).
…فذكر تعالى: أن الركون إلى الظلمة من(11) الكفار و الظالمين موجب لمسيس النار، ولم يفرق بين من خاف منهم، و غيره. إلا المكره.
__________
(1) الأصل و (ع) من. و لعل المثبت هو الصواب.
(2) ما بينهما ساقط من (ر) و (ط).
(3) في .
(4) بالتوحيد.
(5) : به. ساقطة.
(6) ما بينهما ساقط من (م).
(7) القحاب في الأصل: فساد الجوف من داء. و القحبة: الفاسدة الجوف. ثم أطلق على البغي المكتسبة بالفجور. ((تاج العروس)) (3/518).
(8) فهو
(9) هو.
(10) سورة هود آية 113
(11) و.(40/21)
…فكيف بمن اتخذ الركون إليهم ديناً و رأياً حسناً، و أعانهم بما قدر عليه من مال و رأي(1)، و أحب زوال التوحيد و أهله، واستيلاء أهل الشرك عليهم...؟!! فإن هذا (2)من أعظم الكفر و الركون.
الدليل الرابع عشر: قوله تعالى: (من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره و قلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر / صدراً فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم * ذلك بأنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة وأن الله لا يهدى القوم الكافرين).(3) (4)
فحكم تعالى حكماً لا يبدل: أن من رجع عن دينه إلى الكفر، فهو كافر. سواء كان له عذر ـ خوف (5)على نفس، أو مال أو أهل ـ أم لا. وسواء كفر بباطنه وظاهره(6)، أم بظاهره دون باطنه. وسواء كفر بفعاله و مقاله، أم بأحدهما(7) دون الآخر. وسواء كان طامعاً في دنيا(8) ينالها من المشركين أم لا. فهو كافر على كل حال، إلا المكره، و هو في لغتنا: المغصوب (9).
__________
(1) المال و الرأي.
(2) هذا من. ساقطة.
(3) سورة النحل الآيتان 107،106
(4) في نسخة (م) أضاف الآية التي تليها.
(5) خوفا. تحريف.
(6) : وظاهره. ساقطة.
(7) أحدهما.
(8) الدنيا.
(9) المحمول على أمر هو له كارة بالقهر و الإرغام. ينظر ((لسان العرب)) (3/536) و((المصباح المنير)) (2/729).(40/22)
فإذا أكره الإنسان على الكفر، وقيل له: أكفر و إلا قتلناك، أو (1)ضربناك. أو(2) أخذه المشركون فضربوه، و لم يمكنه التخلص إلا بموافقتهم. جاز له موافقتهم في الظاهر، بشرط أن يكون قلبه مطمئناً(3) بالإيمان. أي: ثابتاً(4) عليه، معتقداً(5) له. فأما إن وافقهم بقلبه: فهو كافر، و لو كان مكرهاً. وظاهر كلام أحمد(6) رحمه الله: أنه في الصورة الأولى. لا يكون مكرها (7)حتى يعذبه المشركون؛ فإنه لما دخل عليه يحيي بن معين (8) وهو مريض، فسلم عليه: لم يرد عليه السلام، فما زال يعتذر، و يقول: حديث عمار(9) و قال الله: (إلا من أكره و قلبه مطمئن بالإيمان) فقلب أحمد وجهه الى الجانب(10) الآخر. فقال يحيى: لا يقبل عذراً (11)!!فلما خرج يحيي. قال أحمد: يحتج بحديث عمار. وحديث عمار(12): مررت بهم وهم يسبونك فنهيتهم فضربوني(13)
__________
(1) أو.
(2) و.
(3) مطمئن. تحريف.
(4) ثابت.
(5) مفتقد.
(6) أبو عبد الله بن محمد بن حنبل بن هلال بن أسد الشيباني المروزي نزيل بغداد، أحد الأئمة، ثقة حافظ فقيه حجة، ت 241. ((تقريب)) (14).
(7) مكروها. تحريف.
(8) أبو زكريا يحيي بن معين بن عون الغطفاني مولاهم البغدادي، ثقة حافظ مشهور إمام الجرح و التعديل ت 233 ((تقريب)) (597).
(9) ما بينهما ملحق في هامش (ع)
(10) جانب
(11) عذر. تحريف.
(12) ما بينهما ملحق في هامش (ع).
(13) أخرج نحوه الطبري في ((التفسير)) (14/182) و الحاكم في ((المستدرك)) (2/357) وصححه ووافقه الذهبي، و البيهقي في ((السنن الكبرى)) (8/208) و أبو نعيم في ((الحلية)) (1/140) وابن سعد في ((الطبقات)) (3/249) وعبد الرزاق وعنه إسحاق بن راهوية في مسنده كما في ((نصب الراية)) (4/159) وابن أبي حاتم و ابن مردويه وبن المنذر وبن عساكر كما في ((الدر المنثور)) (4/132) ومسدد في مسنده كما في ((المطالب العالية)) (3/347) وعبد بن حميد و الفاكهي وفيه: أن ذلك وقع من عمار عند بيعة الأنصار في العقبة كما في ((فتح الباري)) (12/312) من طريق أبي عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر وابن سيرين و أبي المتوكل و قتادة. قال الحافظ: وهذه مراسيل يقوي بعضها بعضا. ((الفتح)) (12 /312). وقال: واتفقوا على أنه نزل فيه (إلا من أكره و قلبه مطمئن بالإيمان). ((الإصابة))(7/65).(40/23)
. و أنتم قيل لكم: نريد أن نضربكم. فقال يحيى: ما رأيت و الله (1)تحت أديم(2) سماء الله(3) أفقه في دين الله منك (4) (5).
…ثم أخبر تعالى: أن على(6) هؤلاء المرتدين، الشارحين صدورهم بالكفر(7) ـ و إن كانوا يقطعون على الحق(8)، و يقولون ما فعلنا هذا إلا خوفاً _ غضب(9) من الله ولهم عذاب عظيم. ثم أخبر تعالى: أن سبب هذا الكفر و العذاب ليس بسبب الاعتقاد للشرك(10) أو الجهل بالتوحيد، أو البغض (11)للدين(12) أو محبه للكفر؛ و إنما سببه: أن له في ذلك حظا(13)ً من حظوظ الدنيا، فآثره على الدين وعلى رضى رب العالمين.
فقال: (ذلك بأنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة [ و أن الله لا يهدى القوم الكافرين) (14) فكفرهم تعالى، و أخبر أنه لا يهديهم مع كونهم يعتذرون بمحبة الدنيا. ثم أخبر تعالى: أن هؤلاء المرتدين لأجل استحباب الدنيا(15) على الآخرة ](16) هم الذين طبع الله(17) على قلوبهم و سمعهم و أبصارهم، و أنهم الغافلون(18). ثم أخبر خبراً مؤكداً محققاً: أنهم في الآخرة هم الخاسرون(19).
__________
(1) و الله ما رأيت.
(2) أديم السماء: وجهها وما ظهر منها. ((الصحاح)) (5/1858)
(3) السماء
(4) منك في دين الله
(5) أخرجه ابن أبي يعلى في ((الطبقات)) (1/404)، وابن الجوزي في ((مناقب الإمام أحمد)) (474). عن أبي بكر المروذي.
(6) : على. ساقطة.
(7) بالكفر صدراً.
(8) يعرفونه ولا يفوتهم منه فائت.
(9) فعليهم غضب. (م) عليهم.
(10) : للشرك. ساقطة.
(11) لبغض.
(12) للتوحيد.
(13) حظ في ذلك. (ر) ملحق في الهامش و بجواره كلمة صح.
(14) سورة النمل الآية 107.
(15) الحياة الدنيا.
(16) ما بينهما ساقط من الأصل و (ع).
(17) طبع.
(18) هم الغافلون.
(19) قال تعالى (أولئك الذين طبع الله قلوبهم و سمعهم و أبصارهم و أولئك هم الغافلون * لا جرم أنهم في الآخرة هم الخاسرون) سورة النحل الآيتان 109،108.(40/24)
الدليل الخامس عشر: قوله تعالى عن أهل الكهف (إنهم إن يظهروا عليكم يرجموكم أو يعيدوكم في / ملتهم و لن تفلحوا إذا أبدا)(1).
فذكر تعالى عن أهل الكهف _ أنهم ذكروا عن المشركين _: إن(2) قهروكم و غلبوكم، فهم بين أمرين: إما أن يرجموكم. أي: يقتلوكم شر قتلة بالرجم(3). و إما أن يعيدوكم في ملتهم و دينهم، و لن تفلحوا إذا أبداً. أي: و إن وافقتموهم على دينهم بعد أن غلبوكم و قهروكم (4)، فلن تفلحوا إذا أبداً.
فهذا حال من وافقهم بعد أن غلبوه.فكيف بمن وافقهم وراسلهم من بعيد، وأجابهم إلى ما طلبوا من غير غلبة(5)ولا إكراه...؟!
ومع ذلك يحسبون أنهم مهتدون.
الدليل السادس عشر: قوله تعالى: (ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به و إن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا و الآخرة ذلك هو الخسران المبين)(6).
فأخبر تعالى: أن (ومن الناس من يعبد الله على حرف). أي على طرف. (فإن أصابه خير) أي: نصر و عز و صحة، وسعة و أمن(7) وعافية و نحو ذلك (اطمأن به). أي: ثبت، و قال: هذا دين حسن.
ما رأينا فيه إلا خيراً(8). (و إن أصابته فتنة). أي: خوف ومرض وفقر و نحو ذلك (انقلب على وجهه). أي: ارتد عن دينه، ورجع إلى الشرك(9).
__________
(1) سورة الكهف آية 20.
(2) أنهم إن.
(3) برجم.
(4) قهروكم و غلبوكم.
(5) غليبة.
(6) سورة الحج آية 11
(7) وسعة و أمنا. تحريف.
(8) الخيرا. (م) خير. تحريف.
(9) أهل الشرك.(40/25)
فهذه الآية مطابقة لحال المنقلبين عن دينهم في هذه الفتنة سواء بسواء؛ فإنهم قبل هذه الفتنة(1) يعبدون الله على حرف. أي: على طرف. ليسوا ممن يعبد الله على يقين و ثبات. فلما أصابتهم هذه الفتنة، انقلبوا عن دينهم و أظهروا موافقة المشركين، و أعطوهم (2)الطاعة، و خرجوا عن جماعة المسلمين إلى جماعة المشركين. فهم معهم في الآخرة، كما هم معهم (3)في الدنيا. فخسوا الدنيا و الآخرة، ذلك هو الخسران المبين.
هذا مع أن كثيراً(4) منهم في عافية، ما أتاهم عدو(5). و إنما ساء (6) ظنهم بالله، فظنوا: أنه يديل(7) الباطل و أهله على الحق و أهله.
فأرداهم سوء ظنهم بالله؛ كما قال تعالى فيمن(8) ظن به ظن السوء (و ذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم فأصبحتم من الخاسرين)(9).
فأنت(10) يا من منَّ الله عليه بالثبات على الإسلام: احذر أن يدخل قلبك (11) شيء من الريب، أو تحسين أمر هؤلاء المرتدين، و أن موافقتهم للمشركين و إظهار طاعتهم رأي حسن؛ حذراً على الأنفس و الأموال و المحارم. فإن هذه الشبهة: هي التي أوقعت كثيراً من الأولين و الآخرين في الشرك بالله، ولم يعذرهم الله بذلك. و إلا فكثير(12) منهم / يعرفون الحق و يعتقدونه بقلوبهم، و إنما يدينون (13)بالشرك للأعذار الثمانية التي ذكرها (14)الله في كتابه، أو لبعضها(15).
__________
(1) ما بينهما ساقط من (ط)
(2) و عطوهم. تحريف.
(3) : معهم. ساقطة.
(4) كثير. تحريف.
(5) عدوهم (ر) عدوا. تحريف (ط) من عدو.
(6) اساؤا. تحريف.
(7) من الإدالة وهي الغلبة.
(8) ما بينهما ساقط من (م)
(9) سورة فصلت آية 23
(10) و أنت.
(11) في قلبك.
(12) فكثيراً.تحريف.
(13) يدينون الله.
(14) ذكر.
(15) ولا ببعضها.(40/26)
فلم(1) يعذر بها أحداّ(2) ولا ببعضها (3)؛ فقال (قل إن كان ءاباؤكم و أبناؤكم و إخوانكم و أزواجكم وعشيرتكم و أموال اقترفتموها و تجارة تخشون كسادها و مساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره و الله لا يهدى القوم الفاسقين)(4).
الدليل السابع عشر: قوله تعالى: (إن الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى الشيطان سول لهم و أملى لهم * ذلك بأنهم قالوا للذين كرهوا ما نزل الله سنطيعكم في بعض الأمر و الله يعلم إسرارهم * فكيف إذا توفتهم الملائكة يضربون وجوههم و أدبارهم * ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله و كرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم)(5).
فذكر تعالى عن المرتدين على أدبارهم: أنهم من بعد ما تبين لهم (6)، ارتدوا على علم. و لم (7)ينفعهم علمهم بالحق مع الردة، و غرهم الشيطان بتسويله و تزيين ما ارتكبوه من الردة.
__________
(1) ما بينهما ساقط من (م).
(2) أحد. تحريف.
(3) بعضها.
(4) سورة التوبة الآية 24.
(5) سورة محمد الآيات 25-28
(6) لهم الهدى.
(7) فلم.(40/27)
وهكذا حال هؤلاء المرتدين في هذه الفتنة: غرهم الشيطان و أوهمهم أن الخوف عذر(1) لهم في الردة، و أنهم بمعرفة الحق و محبته و الشهادة (2)به لا يضرهم ما فعلوه. و نسوا أن كثيراً من المشركين يعرفون الحق، و يحبونه و يشهدون به: و لكن يتركون متابعته (3)والعمل به؛ محبة للدنيا(4)، و خوفاً على الأنفس و الأموال و المأكل و الرياسات. ثم قال تعالى: (ذلك بأنهم قالوا للذين كرهوا ما نزل الله سنطيعكم في بعض) فأخبر تعالى: أن سبب ما جرى(5) عليهم من الردة(6) وتسويل الشيطان، و الإملاء (7)لهم، هو قولهم(8) للذين كرهوا ما نزل الله: سنطيعكم في بعض الأمر.
فإذا كان من وعد المشركين الكارهين(9) لما نزل الله بطاعتهم (10)في بعض الأمر كافراً، و إن لم يفعل ما وعدهم به. فكيف بمن وافق المشركين الكارهين لما نزل الله من الأمر: بعبادته وحده لا شريك له، و ترك عبادة (11)ما سواه من الأنداد والطواغيت والأموات، و أظهر أنهم على هدى، و أن أهل التوحيد مخطئون في قتالهم، و أن الصواب (12)مسالمتهم و الدخول في دينهم، الباطل ؟!.
فهؤلاء أولى بالردة من أولئك / الذين و عدوا المشركين بطاعتهم في بعض الأمر. ثم أخبر تعالى عن حالهم(13) الفظيع عند الموت ثم قال: (ذلك). أي(14): الأمر الفظيع عند الوفاة (بأنهم اتبعوا ما أسخط الله و كرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم).
__________
(1) عذرا. تحريف.
(2) ومحبة الشهادة.
(3) متابعته. ساقطة.
(4) للحياة الدنيا.
(5) ما اجرى.
(6) الرده هو.
(7) و إملائه.
(8) الحق لهم. تحريف.
(9) : الكارهين. ساقطة.
(10) ما بينهما ملحق في الهامش (ع) و بجواره كلمة صح.
(11) : عبادة. ساقطة.
(12) الصواب في.
(13) مآلهم.
(14) : أي. ساقطة.(40/28)
ولا يستريب مسلم (1)، أن اتباع المشركين و الدخول في جملتهم و الشهادة أنهم على حق، و معاونتهم على زوال التوحيد و أهله، و نصرة القباب و القحاب و اللواط: من اتباع ما يسخط الله و كراهة رضوانه، و إن ادعوا أن ذلك لأجل الخوف. فإن الله ما عذر أهل الردة بالخوف من المشركين. بل نهى عن خوفهم. فأين هذا ممن يقول: ما جرى منا شيء، ونحن على ديننا !!!.
الدليل الثامن عشر: قوله تعالى: (ألم تر إلى الذين نافقوا يقولون لإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب لئن أخرجتم لنخرجن معكم و لا نطيع فيكم أحداً أبداً و إن قوتلتم لننصرنكم و الله يشهد إنهم لكاذبون)(2).
فعقد تعالى الأخوة بين المنافقين و بين (3)الكفار. و أخبر أنهم يقولون لهم في السر: (لئن أخرجتم لنخرجن معكم)(4). أي: لئن غلبكم محمد صلى الله عليه وسلم و أخرجكم من بلادكم لنخرجن معكم، (ولا نطيع فيكم أحداً أبداً). أي: لا نسمع من أحد فيكم قولا ً، ولا نعطي فيكم طاعة (و إن قوتلتم لننصرنكم) و نكون(5) معكم. ثم شهد تعالى: أنهم كاذبون(6) في هذا القول.
فإذا كان وعد المشركين في السر – بالدخول معهم و نصرتهم (7)و الخروج معهم إن جلوا(8) – نفاقاً و كفراً(9) و إن كان كذباً. فكيف بمن أظهر لهم(10) ذلك صادقاً، وقدم عليهم، ودخل في طاعتهم، ودعا إليها، و نصرهم و انقاد لهم، وصار من جملتهم و أعانهم بالمال و الرأي...؟! هذا مع أن المنافقين لم يفعلوا ذلك إلا خوفاً من الدوائر؛ كما قال تعالى: (فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة)(11).
__________
(1) المسلم.
(2) سورة الحشر أية 11
(3) ساقطة.
(4) ما بينهما ملحق في هامش (ع) و بجواره كلمة صح.
(5) أي إن قاتلكم محمد صلى الله عليه وسلم لننصرنكم و نكون.
(6) لكاذبون.
(7) ونصرهم.
(8) أجلو.
(9) نفاق و كفر.
(10) : لهم. ساقطة.
(11) سورة المائدة آية 52(40/29)
وهكذا(1) حال كثير من المرتدين (2)، في هذه الفتنة: فإن عذر كثير منهم، هو هذا(3) العذر الذي ذكره الله عن الذين في قلوبهم مرض. و لم يعذرهم به؛ قال الله تعالى: (فعسى الله أن يأتى بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين * ويقول الذين ءامنوا هؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم إنهم لمعكم حبطت أعمالهم فأصبحوا خاسرين)(4) ثم قال تعالى: (يأيها الذين ءامنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتى الله بقوم يحبهم و يحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين)(5) فأخبر تعالى، أنه لابد عند وجود المرتدين: من وجود المحبين المحبوبين المجاهدين. ووصفهم بالذلة والتواضع للمؤمنين، والعزة والغلظة والشدة على الكافرين.
بضد من كان تواضعه وذله (6)، ولينه: لعباد القباب، وأهل القحاب واللواط. وعزته، وغلظته: على أهل التوحيد(7) والإخلاص !!!.
فكفى بهذا دليلاً(8) على كفر من وافقهم.
و إن ادعى أنه خائف؛ فقد قال تعالى (ولا يخافون لومة لائم).
وهذا بضد من يترك الصدق، و الجهاد: خوفاً من المشركين.
ثم قال تعالى: (يجاهدون في سبيل الله)(9). أي: في توحيده، صابرين على ذلك ابتغاء وجه ربهم؛ لتكون كلمته(10) هي العليا (ولا يخافون لومة لائم)(11). أي لا يبالون بمن لامهم و آذاهم في دينهم. بل يمضون على دينهم مجاهدين(12) فيه، غير ملتفتين للوم أحد من الخلق ولا لسخطه(13) ولا رضاه و إنما همتهم و غاية مطلوبهم رضى سيدهم و معبودهم، والهرب من سخطه.
__________
(1) فهكذا (ط) فكذا.
(2) هؤلاء المرتدين.
(3) هذا هو.
(4) سورة المائدة الآيتان 52 – 53
(5) سورة المائدة آية 54
(6) : وذله. ساقطة.
(7) لأهل.
(8) دليل. تحريف.
(9) سورة المائدة آية 54.
(10) كلمة الله.
(11) سورة المائدة آية 54
(12) يجاهدون.
(13) سخطه.(40/30)
وهذا بخلاف من كانت(1) همته(2) وغاية مطلوبه: رضى عباد القباب، و أهل القحاب و اللواط و رجاءهم(3)، والهرب مما يسخطهم !!!. فإن هذا غاية الضلال و الخذلان.
ثم قال تعالى: (ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء(4) و الله واسع عليم)(5) فأخبر تعالى: أن هذا الخير العظيم، و الصفات الحميدة لأهل الإيمان الثابتين على دينهم(6) عند وقوع الردة(7) و الفتن: ليس بحولهم ولا بقوتهم، و إنما هو فضل الله يؤتيه من يشاء(8)؛ كما (9)قال (يختص برحمته من يشاء و الله ذو الفضل العظيم)(10).
ثم قال تعالى (إنما وليكم الله ورسوله و الذين ءامنوا الذين يقيمون الصلاة و يؤتون الزكاة و هم راكعون)(11) فأخبر تعالى _ خبراً(12) بمعنى الأمر _: بولاية الله(13) ورسوله و المؤمنين، وفي ضمنه النهي عن موالاة أعداء الله ورسوله و المؤمنين.
ولا يخفي: أي(14) الحزبين أقرب _ إلى الله ورسوله وإقامة الصلاة و إيتاء الزكاة _. أأهل (15)الأوثان و القباب و القحاب واللواط و الخمور و المنكرات، أم أهل الإخلاص و إقام الصلاة و إيتاء الزكاة....!!!؟ فالمتولي لضدهم: واضع للولاية(16) في / غير محلها، مستبدل(17) بولاية الله ورسوله و المؤمنين _ المقيمين للصلاة(18) المؤتين الزكاة(19) ولاية أهل الشرك و الأوثان و القباب.
__________
(1) كان.
(2) : همته. ساقطة.
(3) ورجاءهم. تحريف.
(4) ما بينهما ساقط من (ع).
(5) سورة المائدة آية 54.
(6) : على دينهم. ساقطة.
(7) : الردة. ساقطة.
(8) : يشاء. ساقطة.
(9) ما بينهما ساقط من (ر) و (ط).
(10) سورة آل عمران آية 74.
(11) سورة المائدة آية 55
(12) خبراً. ساقطة.
(13) بولايته.
(14) أن تحريف.
(15) ما بينهما ساقط من (م) و(ر) و (ط)
(16) الولاية.
(17) مستبدلاً. تحريف.
(18) الصلاة و.
(19) للزكاة.(40/31)
ثم أخبر تعالى: أن الغلبة لحزبه، و لمن(1) تولاهم؛ فقال: (ومن يتول الله ورسوله و الذين ءامنوا فإن حزب الله هم الغالبون) (2).
الدليل التاسع عشر: قوله تعالى (لا تجد قوماً يؤمنون بالله و اليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا ءاباءهم أوأبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم)(3) الآية(4).
فأخبر تعالى: أنك لا تجد(5) من يؤمن بالله و اليوم الآخر، يوادون(6) من حاد الله ورسوله، ولو كان أقرب قريب. و أن هذا مناف للإيمان مضاد له، لا يجتمع هو(7) و الإيمان إلا كما(8) يجتمع الماء و النار؛ وقد قال تعالى في(9) موضع آخر(10): (يأيها الذين ءامنوا لا تتخذوا ءاباءكم و إخوانكم أولياء إن استحبوا الكفر على الإيمان ومن يتولهم منكم فأولئك هم الظالمون)(11) ففي هاتين الآيتين، البيان الواضح: أنه لا عذر لأحد في الموافقة على الكفر، خوفاً على الأموال و الآباء، و الأبناء و الأزواج و العشائر، ونحو ذلك مما يتعذر به كثير من الناس.
إذا (12)كان لم يرخص(13) لأحد في موادتهم، واتخاذهم أولياء بأنفسهم: خوفاً منهم و إيثاراً(14) لمرضاتهم. فكيف بمن اتخذ الكفار الأباعد أولياء و أصحاباً، و أظهر لهم(15) الموافقة على دينهم، خوفاً على بعض هذه الأمور و محبة لها ؟! ومن العجب استحسانهم لذلك، و استحلالهم له، فجمعوا مع الردة استحلال المحرم (16).
__________
(1) ومن.
(2) سورة المائدة آية 56.
(3) سورة المجادلة آية 22.
(4) الآية: ليست في (م).
(5) من كان.
(6) يواد.
(7) ما بينهما في هامش (ع) و بجواره كلمة صح.
(8) كما لا.
(9) في غير. تحريف.
(10) ساقطة.
(11) سورة التوبة آية 23.
(12) و إن.
(13) يترخص.
(14) و ايثار. تحريف.
(15) : لهم. ساقطة.
(16) الحرام.(40/32)
الدليل العشرون: قوله تعالى: (يأيها الذين ءامنوا لا تتخذوا عدوى و عدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة)(1) إلى قوله: (ومن يفعله منكم فقد ضل سواء السبيل)(2).
فأخبر(3) تعالى: أن من تولى أعداء الله – و إن كانوا أقرباء _ (فقد ضل سواء السبيل) . أي: أخطأ الصراط المستقيم، وخرج عنه إلى الضلال(4). فأين هذا ممن يدعي أنه الصراط المستقيم لم يخرج عنه !! فإن هذا تكذيب لله، ومن(5) كذب الله فهو كافر. واستحلال لما(6) حرم الله: من ولاية الكفار. ومن استحل محرماً (7)، فهو كافر.
ثم ذكر تعالى شبهة من اعتذر بالأرحام و الأولاد؛ فقال: (لن تنفعكم أرحامكم ولا أولادكم يوم القيامة يفصل بينكم و الله بما تعملون بصير) (8)فلم يعذر تعالى من اعتذر بالأرحام و الأولاد، و الخوف عليها(9) ومشقة مفارقتها (10). بل أخبر / أنها لا تنفع يوم القيامة، ولا تغني من عذاب الله شيئاً(11)؛ كما قال تعالى في الآية الأخرى: (فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون)(12).
__________
(1) تمام الآية (وقد كفروا بما جاءكم من الحق يخرجون الرسول و إياكم أن تؤمنوا بالله ربكم إن كنتم خرجتم جهاداً في سبيلى و إبتغاء مرضاتى تسرون إليهم بالمودة و أنا أعلم بما أخفيتم وما أعلنتم...).
(2) سورة الممتحنة آية 1.
(3) ما بينهما ساقط من (م).
(4) الضلالة.
(5) فمن.
(6) ما.
(7) محرم.
(8) سورة الممتحنة آية 3.
(9) عليهما.
(10) مفارقتهما.
(11) من شيء.
(12) سورة المؤمنون آية 101.(40/33)
الدليل الحادي والعشرون: من السنة، ما رواه أبو داود، وغيره عن سمرة بن جندب، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه(1) قال(2): (من جامع المشرك، وسكن معه فإنه مثله)(3) فجعل صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث: من جامع المشركين _ أي اجتمع معهم، و خالطهم وسكن معهم مثلهم(4). فكيف بمن أظهر لهم الموافقة على دينهم، و آواهم و أعانهم!!؟.
فإن قالوا: خفنا !. قيل لهم: كذبتم. و أيضاً فليس الخوف بعذر؛ كما قال تعالى: (ومن الناس من يقول ءامنا بالله فإذا أوذى في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله)(5) فلم يعذر تبارك و تعالى من يرجع عن دينه عند الأذى و الخوف. فكيف بمن لم يصبه أذى ولا خوف، و إنما جاء (6) إلى الباطل(7) محبة له و خوفاً من الدوائر.؟!.
و الأدلة على هذا كثيرة. وفي هذا كفاية لمن أراد الله هدايته.
__________
(1) ما بينهما ساقط (ع).
(2) ما بينهما ساقط (م).
(3) سنن أبي داود)) رقم (2787) ورواه الطبراني من نسخة مروان السمري، كما في ((الميزان)) (4/89) و أخرج نحوه الحاكم في ((المستدرك)) (2/141) و أبو نعيم كما في ((صحيح الجامع)) للألباني (6/279).
(4) فهو مثلهم.
(5) سورة العنكبوت آية 10.
(6) جاؤا.
(7) بالباطل.(40/34)
وأما من أراد الله فتنته و ضلالته(1)؛ فكما(2) قال تعالى: (إن الذين حقت عليهم كلمت ربك لا يؤمنون * ولو جاءتهم كل ءاية حتى يروا العذاب الأليم)(3). و نسأل(4) الله الكريم المنان: أن يحيينا مسلمين، و أن يتوفانا مسلمين، و أن يلحقنا بالصالحين غير خزايا ولا مفتونين برحمته وهو أرحم الراحمين. و صلى الله علي محمد(5) وعلى(6) آله و صحبه(7) و سلم(8).(9) .
__________
(1) : وضلالته. ساقطة.
(2) وكما.
(3) سورة يونس. الآيتان 97،96.
(4) فنسأل.
(5) نبينا محمد.
(6) : على. ساقطة.
(7) وصحبه أجمعين.
(8) وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين آمين ثم آمين.
(9) كتب بعد ذلك في الأصل ما نصه (بلغ مقابلة. تمت و كملت و الله أعلم. كتبه لنفسه الفقير إلى الله عبد الله بن حمود. وجدتها بخط أظنه خط المؤلف رحمه الله تعالى ورحم الله الشيخ، ومن صلح من ذريته و نصره و آواه و جعلنا من أتباعهم بإحسان آمين).(40/35)
الذكر الجماعي بين الاتباع والابتداع
د. محمد بن عبد الرحمن الخميس
الأستاذ المشارك - قسم العقيدة
جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية الرياض
ملخص البحث
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وبعد :
فإن الهدف من هذا البحث هو بيان مدى مشروعية ما يفعله كثير من الناس ، من الاجتماع في البيوت والمساجد في أوقات معينة ، أو مناسبات معينة ، أو بعد الصلوات المكتوبة لذكر الله تعالى بشكل جماعي ، أو يردد أحدهم ويرددون خلفه هذه الأذكار .
ولأن هذا الفعل قد كثر وشاع بين الناس في كثير من بلدان المسلمين ، فقد جاء هذا البحث لبيان حكم الشريعة في مثل هذا الفعل .
وقد اشتمل البحث على مقدمة ، وتمهيد ، وستة مباحث ، وخاتمة .
أما المقدمة : فهي في بيان أسباب اختيار الموضوع ، وبيان خطة البحث ، وكذلك بيان اعتقاد العامة في بعض البلدان وجوب الذكر الجماعي بعد الصلاة وغيرها ، وذلك كمدخل للبحث .
وأما التمهيد : فهو حول بيان منزلة الذكر كعبادة عظيمة ، وتوضيح أن العبادات توقيفية لا مجال فيها للرأي ولا للاستحسان .
وأما المبحث الأول : فهو في تعريف الذكر لغة وشرعاً .
والمبحث الثاني : حول نشأة بدعة الذكر الجماعي من الناحية التاريخية ، وتوثيق ذلك .
والمبحث الثالث : في بيان حجج من أجاز الذكر الجماعي ، وقد سقتها مفصلة .
والمبحث الرابع : في بيان حجج المانعين من الذكر الجماعي ، وجوابهم على حجج المجيزين ، مع بيان فتاوى للمتقدمين والمعاصرين في هذا .
والمبحث الخامس : في بيان حكم الذكر الجماعي وذلك كنتيجة لهذا البحث .
وأما المبحث السادس : فهو في بيان مفاسد الذكر الجماعي ، وآثاره السلبية سواءً على فاعله ، أو على غيره .
وأما الخاتمة : فهي في بيان خلاصة البحث ونتائجه .
فهذا ملخص البحث المذكور ، وأسأل الله المغفرة والقبول ، والحمد لله رب العالمين .
المقدمة :(41/1)
إنَّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله .
{ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون } [ آل عمران: 102 ] .
{ يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منها رجالاً كثيراً ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيباً } [ النساء : 1 ] .
{ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً . يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً } [ الأحزاب : 70 ، 71 ] .
أما بعد : فإن أصدق الحديث كتاب الله ، وخير الهدى هدي محمد - صلى الله عليه وسلم - ، وشر الأمور محدثاتها ، وكل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة في النار(1) .
وبعد : فقد انتشرت بين الناس بدع كثيرة في دين الله تعالى ، واستبدلوها بسنن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، حتى كادت معالم السنة تندثر وأصبح الباطل حقاً ، والحق باطلاً . وأضحت البدعة سنة، والسنة بدعة .
ومن صور العبادات التي انتشرت بين عامة المسلمين ، ظاهرة الذكر الجماعي ، في المساجد والبيوت ، والمنتديات وغيرها ، وذلك في كثير من البلدان الإسلامية ، حتى عمت بها البلوى .(41/2)
كما يوجد في بعض البلاد الإسلامية من يعتقد أن الدعاء بعد الصلوات المفروضة بشكل جماعي من مستحبات الصلاة . وهم يعتبرونها مثل الراتبة(2) التي تصلى بعد الفريضة ، أو أكثر منها ، ويحرصون عليها أشد الحرص ، ويواظبون عليها . فإذا لم يدع لهم الإمام بعد الصلاة ولم يجتمع معهم على الذكر بصورة جماعية ، رأوا أن صلاتهم ناقصة ، وأساءوا الظن به ، واتهموه بأنواع من التهم ، ولما كان الذكر عبادة لله تعالى ، والعبادات توقيفية لا مجال للابتداع فيها ، أو للاستحسان . من أجل هذا كان لابد من بيان حكم هذا العمل ، والكلام عليه ، وذلك كما سيأتي إن شاء الله في مباحث هذا الكتاب .
ولما كان بيان ( السنة ) والذب عنها ، ورد البدعة من أوجب الواجبات على العلماء، وطلبة العلم ، والدعاة إلى الله تعالى . ولما كانت ظاهرة الذكر الجماعي مما عمت به البلوى. وشاع بين العامة في كثير من البلدان ، واختلف فيه الناس بين مانع منه ، ومجوِّز له . وقد بحثت عمن ألَّف في هذا الموضوع خصوصاً ، بحيث يستوعبه من جميع جوانبه ، ويبين السنة فيه - لكني لم أقف على كتاب في هذا الموضوع . لذلك رأيت مستعيناً بالله تعالى أن يكون موضوع هذا البحث هو بيان مدى مشروعية الذكر الجماعي ، هل يجوز أم لا ؟ وقد جمعت أقوال المانعين منه وأدلتهم ، والمجيزين له وأدلتهم ، في محاولة لاستيعاب هذا الموضوع، والوقوف على مدى مشروعية هذا الفعل . وأسميت هذا البحث (( الذكر الجماعي بين الاتباع والابتداع )) .
خطة البحث :
اشتمل البحث على : خطبة الحاجة ، ومقدمة ، وتمهيد ، وستة مباحث ، وخاتمة .
فأما المقدمة : فهي في أسباب اختيار الموضوع ، مع بيان خطة البحث . وكذلك التنبيه على اعتقاد بعض العامة في بعض البلدان وجوب الذكر الجماعي بعد الصلاة وغيرها، وذلك كمدخل للبحث .(41/3)
وأما التمهيد : فهو حول بيان منزلة الذكر كعبادة عظيمة ، وتوضيح أن العبادات توقيفية لا مجال فيها للرأي ولا للاستحسان .
وأما المبحث الأول : فهو في تعريف الذكر الجماعي .
والمبحث الثاني : حول نشأة بدعة الذكر الجماعي .
والمبحث الثالث : حجج المجوزين للذكر الجماعي وأدلتهم .
والمبحث الرابع : حجج المانعين من الذكر الجماعي وأدلتهم .
والمبحث الخامس : في حكم الذكر الجماعي .
والمبحث السادس : حول مفاسد الذكر الجماعي .
والخاتمة : في بيان خلاصة البحث ونتائجه .
والله أسأل أن يرزقنا الإخلاص والتوفيق ، والسداد ، وأن يجنبنا الخطأ والزلل والزيغ، وأن يتقبل منا هذا العمل .
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
تمهيد : مشروعية الذكر ووجوب الاتباع في العبادة
من المعلوم أن الذكر من أفضل العبادات ، وهو مأمور به شرعاً كما قال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكراً كثيراً . وسبحوه بكرةً وأصيلاً } [ الأحزاب : 41 ، 42 ] .
فالمسلم مطالب بذكر الله تعالى في كل وقت ، بقلبه ، وبلسانه ، وبجوارحه ، وهذا الذكر من أعظم مظاهر وبراهين التعلق بالله تعالى ، ولاسيما أذكار ما بعد الصلاة ، وطرفي النهار ، والأذكار عند العوارض والأسباب ، فإن الذكر عبادة ترفع درجات صاحبها عند الله ، وينال بها الأجر العظيم دون مشقة أو تعب وجهد .
لكن ينبغي للمسلم أن يكون في ذكره لله تعالى ملتزماً بحدود الشريعة ونصوصها ، وهدي النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وصحابته وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين ، وذلك لأن الاتباع شرط لصحة العمل ، وقبوله عند الله تعالى ، كما قال - صلى الله عليه وسلم - : (( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد ))(3) أي باطل مردود على صاحبه .(41/4)
ومما هو معلوم أن العبادات - ومنها الذكر - كلها توقيفية ، أي : لا مجال فيها للاجتهاد ، بل لابد من لزوم سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - وشريعته فيها ، لأنها شرع من عند الله تعالى ، فلا يجوز التقرب إلى الله بتشريع شيء لم يشرعه الله تعالى ، وإلا كان هذا اعتداءً على حق الله تعالى في التشريع ، ومنازعة لله تعالى في حكمه ، وقد قال تعالى : { أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله } [ الشورى : 21 ] .
قال السعدي في تفسير هذه الآية : (( .. { شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله } من الشرك والبدع وتحريم ما أحل الله ، وتحليل ما حرم الله ، ونحو ذلك ، مما اقتضته أهواؤهم مع أن الدين لا يكون إلا ما شرعه الله تعالى ، ليدين به العباد ويتقربوا به إليه . فالأصل : الحجر على كل أحد أن يشرع شيئاً ما جاء عن الله ولا عن رسوله ... )) اهـ(4) .
فلا ينبغي ، بل ولا يجوز التقرب إلى الله تعالى إلا بما شرع ، وبما بيَّن على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - . ومن هنا كان لازماً على المسلم أن يلزم السنة في كل عباداته ، وألا يحيد عنها قيد أنملة ، وإلا أحبط عمله وأبطله إذا كان مخالفاً هدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في العمل .
ولهذا فإن المسلم ينبغي له ألا يحدث في ذكره لله شيئاً مخالفاً لما كان عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو وأصحابه ، وإلا كان مبتدعاً في الدين ، محدثاً في العبادة ما ليس منها .
ومهما استحسن الإنسان بعقله شيئاً في العبادة ، فإنه - أي الاستحسان - ليس دليلاً على مشروعية تلك العبادة ، بل إن هذا الاستحسان قد يكون مصادماً لحكم الله تعالى ، فلا ينبغي أبداً أن يتعبد الإنسان لله تعالى إلا بما شرع الله على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - .
المبحث الأول : تعريف الذكر الجماعي
الذكر الجماعي يتركب من كلمتين ، وإليك بيان معنى كل منهما :(41/5)
أولاً ( الذِّكر ) : بالكسر : الشيء الذي يجري على اللسان(5) ، وتارة يقصد به الحفظ للشيء .
قال الراغب في المفردات : (( الذكر : تارة يقال ويراد به : هيئة للنفس بها يمكن للإنسان أن يحفظ ما يقتنيه من المعرفة ، وهو كالحفظ إلا أن الحفظ يقال اعتباراً باحترازه ، والذكر يقال اعتباراً باستحضاره . وتارة يقال لحضور الشيء القلب أو القول . ولذلك قيل منهما ضربان : ذكر عن نسيان . وذكر لا عن نسيان ، بل عن إدامة الحفظ ))(6) .
وأما معنى الذكر في الشرع فهو كل قول سيق للثناء والدعاء . أي ما تعبدنا الشارع بلفظ منا يتعلق بتعظيم الله والثناء عليه ، بأسمائه وصفاته ، وتمجيده وتوحيده ، وشكره وتعظيمه ، أو بتلاوة كتابه ، أو بمسألته ودعائه(7) .
ثانياً : معنى ( الجماعي ) : هو ما ينطق به المجتمعون للذكر بصوت واحد ، يوافق فيه بعضهم بعضاً(8) .
والمقصود بكلامنا وقولنا : الذكر الجماعي هو ما يفعله بعض الناس من الاجتماع أدبار الصلوات المكتوبة ، أو في غيرها من الأوقات والأحوال ليرددوا بصوت جماعي أذكاراً وأدعية وأوراداً وراء شخص معين ، أو دون قائد ، لكنهم يأتون بهذه الأذكار في صيغة جماعية وبصوت واحد ، فهذا هو المقصود من وراء هذا البحث .
المبحث الثاني : نشأة الذكر الجماعي
كان مبتدأ نشأة الذكر الجماعي وظهوره في زمن الصحابة رضي الله عنهم كما سيأتي ذلك مفصلاً في المبحث الرابع إن شاء الله وقد أنكر الصحابة هذه البدعة لما ظهرت وقد قل انتشار هذه الظاهرة ، وخبت بسبب إنكار السلف لها . ثم لما كان زمن المأمون ، أمر بنشر تلك الظاهرة . فقد كتب إلى إسحاق بن إبراهيم نائب بغداد يأمره أن يأمر الناس بالتكبير بعد الصلوات الخمس . فقد ذكر الطبري في تاريخه في أحداث عام 216 هـ(41/6)
ما نصه : (( وفيها كتب المأمون إلى إسحاق بن إبراهيم يأمره بأخذ الجند بالتكبير إذا صلوا ، فبدؤوا بذلك في مسجد المدينة والرصافة ، يوم الجمعة لأربع عشرة ليلة بقيت من شهر رمضان ، من هذه السنة )) (9) وجاء في تاريخ ابن كثير : (( وفيها كتب المأمون إلى إسحاق بن إبراهيم نائب بغداد ، يأمره أن يأمر الناس بالتكبير عقب الصلوات الخمس )) (10) . فكان هذا مبتدأ عودة ظاهرة الذكر الجماعي إلى الظهور وبقوة ، بسبب مناصرة السلطان لها . ومن المعلوم أن السلطان إذا ناصر أمراً ، أو قولاً ما ، ونشره بالقوة بين الناس ، فلابد أن ينتشر ويذيع ، إذ إن الناس على دين ملوكهم .
واستمرت هذه الظاهرة منتشرةً بين الرافضة والصوفية ومن تأثر بهم(11) .
هذا وقد جمعوا بين أمرين ، هما : الذكر الجماعي ، والذكر بالاسم المفرد .
وقد اختلف في جواز الذكر بالاسم المفرد ، فذهب جمهور أهل العلم إلى أنه لابد من الذكر في جملة لأنها هي المفيدة ولا يصح الاسم المفرد ، مظهراً أو مضمراً ، لأنه ليس بكلام تام ولا جملة مفيدة . ولم ينقل ذلك عن أحد من السلف .
ومن صور هذا الذكر كذلك أن يزيدوا ياءً في ( لا إله إلا الله ) بعد همزة لا إله . ويزيدون ألفاً بعد الهاء في كلمة ( إله ) فتصبح ( لا إيلاها ) . ويزيدون ياءً بعد همزة إلا وبعد ( إلا ) يزيدون ألفاً فتصبح ( إيلا الله ) وكل ذلك حرام بالإجماع في جميع الأوقات(12).
وكذلك يلحن بعضهم في ( لا إله إلا الله ) . فيمد الألف زيادة على قدر الحاجة ، ويختلس كسرة الهمزة المقصورة بعدها ولا يحققها أصلاً ، ويفتح هاء له فتحة خفيفة كالاختلاس ، ولا يفصل بين الهاء وبين إلا الله(13) .
وكذلك من صوره أنهم يذكرون بالحَلْقِ ، أي يحاولون إخراج الحروف من الحلق ، وهذا يلزمهم بفتح أشداقهم ، والتقعر في الكلام ، والتكلف في النطق ، ومعلوم أن مورد الذكر اللسان والحلق والشفتان لأنها هي التي تجمع مخارج الحروف(14) .(41/7)
وقد تعددت صور ذلك . فمنهم من يجتمعون في بيت من البيوت ، أو مسجد من المساجد فيذكرون الله بذكر معين وبصوت واحد : كأن يقولوا : لا إله إلا الله . مائة مرة(15) . قال الشقيري : (( والاستغفار جماعة على صوت واحد بعد التسليم من الصلاة بدعة . والسنة استغفار كل واحد في نفسه ثلاثاً ، وقولهم بعد الاستغفار : يا أرحم الراحمين - جماعةً - بدعة ، وليس هذا محل هذا الذكر ))(16) .
ومن صور الذكر الجماعي مما هو موجود عند جماعات من الناس :
1 - الاستغفار عقب الصلاة ، والاتيان بالأوراد الواردة أو غيرها بصوت واحد مرتفع(17) . قال الأذرعي : (( حمل الشافعي رضي الله عنه أحاديث الجهر على من يريد التعليم ))(18) .
2 - أو أن يدعو الإمام دبر الصلاة جهراً رافعاً يديه ، ويؤمن المأمومون على دعائه وبصوت واحد(19) .
3 - ومنه أن يجتمع الناس في مكان - مسجد أو غيره - ويدعون الله ، وبصوت واحد إلى غروب الشمس ويجعلون الاجتماع لهذا الذكر شرطاً للطريقة(20) .
وقد قال التيجاني : (( من الأوراد اللازمة للطريقة ذكر الهيللة بعد صلاة العصر يوم الجمعة مع الجماعة ، وإن كان له إخوان في البلد فلابد من جمعهم وذكرهم جماعة . وهذا شرط في الطريقة ))(21) . وقال الرباطي : (( وترك الاجتماع من غير عذر شرعي يعرض في الوقت ممنوع عندنا في الطريقة ، ويعد تهاوناً ، ولا يخفى وخامة مرتع التهاون ))(22) .
وقد أفتى العلماء ببطلان الذكر الجماعي ، فقد جاء في بعض الأسئلة الواردة إلى هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية ما نصه :
قال السائل : لنا جماعة هم أصحاب الطريقة التيجانية يجتمعون كل يوم جمعة ويوم الاثنين ويذكرون الله بهذا الذكر ( لا إله إلا الله ) ، ويقولون في النهاية ( الله الله ... ) بصوت عال . فما حكم فعلهم هذا ؟
الجواب : ( بعد بيان ضلال هذه الطريقة ) . والاجتماع على الذكر بصوت جماعي(41/8)
لا أصل له في الشرع ، وهكذا الاجتماع بقول : ( الله الله ... ) أو : ( هو هو ... ) والاجتماع بصوت واحد هذا لا أصل له ، بل هو من البدع المحدثة(23) .
4 - ومن صور الذكر الجماعي الموجودة أن يجتمع الناس في مسجد وقد وقع البلاء في بلد فيدعون الله بصوت واحد لرفعه .
5 - ومن هذه الصور كذلك ما يحصل عند بعض الناس في أعمال الحج من الطواف والسعي وغيرها ، حيث إن بعضهم يؤجرون من يدعو لهم ، ويرددون وراءه أدعية معينة لكل شوط ، بدون أن يكون لكل أحد الفرصة للدعاء فيما يتعلق بحاجته الخاصة التي يريدها . وقد يكون بعض هؤلاء المرددين لصوت الداعي لا يعرفون معنى ما يدعو به الداعي : إما لكونهم لا يعرفون اللغة العربية . أو للأخطاء التي تحصل من الداعي ، وتحريفه للكلام . ومع هذا يحاكونه في دعائه ، وهذه الأدعية إنما صارت بدعة من وجهين :
الأول : تخصيص كل شوط بدعاء خاص ، مع عدم ورود ذلك . قال الشيخ
عبد العزيز بن باز - رحمه الله - : (( وأما ما أحدثه بعض الناس : من تخصيص كل شوط من الطواف أو السعي بأذكار مخصوصة ، أو أدعية مخصوصة فلا أصله له ، بل مهما تيسر من الذكر والدعاء كافي ))(24) .
الثاني : الهيئة الجماعية ، مع رفع الصوت ، وحكاية ألفاظ بدون تدبر واستحضار معنى .
6 - ومن صور الذكر الجماعي كذلك ما يقع عند الزيارة للقبر النبوي ، أو قبور الشهداء ، أو البقيع ، أو غير ذلك من ترديد الزائرين صوت المزورين ، قال الشيخ الألباني - رحمه الله - عند تعداده لبدع الزيارة في المدينة المنورة : (( تلقين من يعرفون بالمزورين جماعات الحجاج بعض الأذكار والأوراد عند الحجرة ، أو بعيداً عنها بالأصوات المرتفعة ، وإعادة هؤلاء ما لقنوا بأصوات أشد منها ))(25) .(41/9)
7 - ومن هذه الصور كذلك اجتماع الناس في المساجد وأماكن الصلوات - ولاسيما في العيدين - ليرددوا التكبير جماعة خلف من يتولى التكبير في مكبر الصوت ، ويرددون وراءه جماعة بصوت واحدٍ ، فهذا كذلك من البدع .
المبحث الثالث : حجج المجوزين للذكر الجماعي وأدلتهم
احتج المجيزون للذكر الجماعي بحجج(26) ، نوجزها فيما يلي :
…أولاً : النصوص الشرعية الواردة في الثناء على أهل الذكر بصيغة الجمع بما يدل على استحباب الاجتماع على ذكر الله منها ما جاء في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : (( إن لله تعالى ملائكة سيارة ، فضلاً يتبعون مجالس الذكر ، فإذا وجدوا مجلساً فيه ذكر ، قعدوا معهم ، وحف بعضهم بعضاً بأجنحتهم ، حتى يملؤوا ما بينهم وبين السماء الدنيا ، فإذا تفرقوا عرجوا ، وصعدوا إلى السماء . قال : فيسألهم الله عز وجل وهو أعلم بهم : من أين جئتم ؟ فيقولون : جئنا من عند عبادك في الأرض ، يسبحونك ، ويكبرونك ، ويهللونك ، ويحمدونك ، ويسألونك ... )) وفي نهاية الحديث يقول الله : (( ... قد غفرت لهم فأعطيتهم ما سألوا ، وأجرتهم مما استجاروا ... ))(27) .(41/10)
فيرى المجيزون للذكر الجماعي أن هذا الحديث يدل على فضل الاجتماع للذكر ، والجهر به من أهل الذكر جميعاً ، لأنه قال : (( يذكرونك ، يسبحونك ، ويكبرونك ، ويمجدونك )) بصيغة الجمع ، ثم استدلوا بقول الحافظ ابن حجر في شرحه على صحيح البخاري حيث قال : (( المراد بمجالس الذكر هي المجالس التي تشتمل على ذكر الله بأنواع الذكر الواردة من تسبيح وتكبير وغيرها ، وعلى تلاوة كتاب الله سبحانه وتعالى ، وعلى الدعاء بخيري الدنيا والآخرة ، وفي دخول الحديث النبوي ومدارسة العلم الشرعي ومذاكرته والاجتماع على صلاة النافلة في هذه المجالس نظر ... والأشبه اختصاص ذلك بمجالس التسبيح والتكبير ونحوها والتلاوة فحسب ، وإن كانت قراءة الحديث ومدارسته ، والمناظرة فيه ، من جملة ما يدخل تحت مسمى ذكر الله تعالى )) (28) . ومن هذه الأحاديث كذلك ما أخرجه أحمد من طريق : إسماعيل بن عياش ، عن راشد بن داود عن يعلى بن شداد ، قال : حدثني أبي شداد بن أوس ، وعبادة بن الصامت حاضر يصدِّقه ، قال : كنا عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : (( هل فيكم غريب ؟ )) يعني أهل الكتاب ، فقلنا : لا يا رسول الله ، فأمر بغلق الباب ، وقال : (( ارفعوا أيديكم وقولوا لا إله إلا الله )) فرفعنا أيدينا ساعة ، ثم وضع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يده ، ثم قال : (( الحمد لله ، بعثتني بهذه الكلمة ، وأمرتني بها ، ووعدتني عليها الجنة ، وإنك لا تخلف الميعاد ، ثم قال : أبشروا فإن الله عز وجل قد غفر لكم ))(29) .(41/11)
قلت : الحديث ضعيف . فيه إسماعيل بن عياش . وهو مدلس . ولم يصرح بالسماع ، ومدار هذا الحديث على راشد بن داود ، قال ابن معين : (( ليس به بأس ، ثقة )) ، وقال دحيم : (( هو ثقة عندي )) ، بينما ضعَّفه الإمام البخاري - رحمه الله - فقال : (( فيه نظر ))، وهذا جرح شديد عنده ، بمعنى أنه متهم أو غير ثقة . كما أشار إلى ذلك الحافظ الذهبي(30) ، وقال الدارقطني : (( ضعيف لا يعتبر به )) ، فاتفق مع البخاري في تضعيفه ، وهو الظاهر من حاله ، فإن في الحكم بالجرح زيادة علم عن الحكم بالتعديل ، فإذا صدر من إمام عالم متمكن غير متشدد كان مقبولاً من غير شك ، هذا من جهة .
ومن ناحية أخرى ، فلو فرضنا جدلاً صحة هذا الحديث فليس فيه دلالة على جواز الذكر الجماعي ، فهو صريح الدلالة على أن ذلك كان للبيعة - أو لتجديد البيعة - وليس لمجرد الذكر ، لاسيما وقد أمرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - برفع الأيدي ، فهذا للمبايعة ، ولا يشترط - بل ولا يستحب - في الذكر .
…ثانياً : الأحاديث الكثيرة الواردة في فضل مجالس الذكر ، والتي منها :
1 - ما جاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( يقول تعالى : أنا عند ظن عبدي بي . وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم ... ))(31) الحديث . والشاهد في قوله : (( وإن ذكرني في ملأ )) فدل على جواز الذكر الجماعي(32) .
2 - ما جاء في صحيح مسلم عن معاوية أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج على حلقة من أصحابه فقال : (( ما أجلسكم ؟ )) قالوا : جلسنا نذكر الله ونحمده على ما هدانا للإسلام، ومنَّ به علينا . فقال : (( الله ما أجلسكم إلا هذا ؟ )) قالوا : الله ما أجلسنا إلا ذلك . فقال : (( أما إني لم أستحلفكم تهمة لكم ، ولكن أتاني جبريل فأخبرني أن الله عز وجل يباهي بكم الملائكة ))(33) .(41/12)
3 - ما رواه أبو داود في سننه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : (( لأن أقعد مع قوم يذكرون الله تعالى من صلاة الغداة حتى تطلع الشمس - أحب إلي من أن أعتق أربعة من ولد إسماعيل ، ولأن أقعد مع قوم يذكرون الله من صلاة العصر إلى أن تغرب الشمس - أحب إلي من أن أعتق أربعة ))(34) وغير ذلك من الأحاديث التي ورد فيها فضل مجالس الذكر وفضل الاجتماع عليه
واستدلوا كذلك ببعض الأحاديث التي ورد فيها ذكر الدعاء الجماعي ، وهي أقرب ما يمكن أن يُستدل به في هذا الموضوع ؛ لو سلمت من الطعن ، وها هي بين يديك ، مع ما قاله الأئمة المعتمدون في علم الجرح والتعديل في رواتها وأسانيدها .
الحديث الأول : عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رفع يديه بعدما سلم وهو مستقبل القبلة ، فقال : (( اللهم خلِّص الوليد بن الوليد ، وعياش بن أبي ربيعة ، وسلمة بن هشام ، وضعفة المسلمين الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلاً ، من أيدي الكفار )) . أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره(35) ، وابن جرير في تفسيره(36) . وفي سنده علي بن زيد بن جدعان ، قال ابن حجر في التقريب : ضعيف(37) ، ونقل الذهبي في السير(38) تضعيفه عن أحمد بن حنبل والبخاري والفلاس والعجلي ، وغيرهم … انتهى.
ومع الضعف الذي في علي بن زيد ، فليس فيه دليل على الدعاء الجماعي ، وهذه الرواية مخالفة لما جاء في الصحيحين ، وهو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا رفع رأسه من الركعة الآخرة يقول : (( اللهم أنج عياش ... ))(39) الحديث . أي يقول هذا الدعاء في قنوت الفجر ، قبل الخروج من الصلاة .(41/13)
الحديث الثاني : عن محمد بن أبي يحيى الأسلمي قال : رأيت عبد الله بن الزبير ورأى رجلاً رافعاً يديه بدعوات قبل أن يفرغ من صلاته ، فلما فرغ منها قال : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يرفع يديه حتى يفرغ من صلاته . رواه الطبراني في الكبير(40) وسنده ضعيف لضعف فضيل بن سليمان . فقد قال عنه ابن معين : ليس بثقة . وفي رواية : ليس هو بشيء ولا يكتب حديثه . وقال صالح جزرة : منكر الحديث . وقال أبو حاتم : يكتب حديثه ، ليس بالقوي . وقال النسائي : ليس بالقوي . وذكر أبو داود أنه استعار كتاباً من موسى بن عقبة فلم يرده . وكان عبد الصمد بن مهدي لا يحدث عنه . وقال أبو زرعة : لين الحديث ، روى عنه علي بن المديني وكان من المتشددين ومع ضعف فضيل ، ففي القلب شيء من رواية محمد بن أبي يحيى عن ابن الزبير ، فلا أظنه أدركه ، لأن وفاة ابن الزبير كانت سنة ( 73 هـ ) ووفاة محمد كانت سنة ( 144 هـ ) (41) . ومعنى الحديث أنه - صلى الله عليه وسلم - ما كان يرفع يديه حتى يفرغ من الصلاة وهو غير رافع يديه للدعاء ، أو أنه كان يرفع بعد الفراغ من الصلاة للدعاء ؛ ولكن ليس فيه أنه كان يجهر بالدعاء ويجهر المأمون بالتأمين . وعليه ، فليس فيه دليل للدعاء الجماعي ، وإنما هو دليل للدعاء منفرداً .(41/14)
الحديث الثالث : عن أنس رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : (( ما من عبد يبسط كفّيه في دبر كل صلاة ثم يقول : اللهم إلهي وإله إبراهيم وإسحاق ويعقوب ، وإله جبريل وميكائيل وإسرافيل ، أسألك أن تستجيب دعوتي فإني مضطر وتعصمني في ديني فإني مبتلى ، وتنالني برحمتك فإني مذنب ، وتنفي عني الفقر فإني متمسكن . إلا كان حقاً على الله عز وجل ألا يرد يديه خائبتين )) . رواه ابن السني في عمل اليوم والليلة(42) ؛ والحديث فيه عبد العزيز بن عبد الرحمن وخصيف . أما عبد العزيز فقد ضعفه جمع من الأئمة ، وأما خصيف فقد قال الحافظ ابن حجر فيه : صدوق سيء الحفظ خلط بأخرة ، ورُمِي بالإرجاء . انتهى(43) . وإضافة إلى هذا الضعف الذي في هذا الحديث ، فليس فيه دلالة على المطلوب ، بل هو كالحديثين السابقين .
الحديث الرابع : عن الأسود العامري ، عن أبيه قال : صلَّيت مع رسول الله الفجر ، فلما سلم ، انحرف ورفع يديه ودعا قال العلامة المباركفوري(44) : الحديث رواه ابن أبي شيبة في مصنفه ، كذا ذكر بعض الأعلام هذا الحديث بغير سند ، وعزاه إلى المصنف . ولم أقف على سنده . فالله تعالى أعلم . أهو صحيح أو ضعيف ؟ . انتهى من التحفة . والحديث أخرجه ابن أبي شيبة(45) ، وابن حزم في المحلى(46) . وليس فيه : (( ورفع يديه ودعا )) ، وإنما هو هكذا : حدثنا هُشيم قال : نا يعلى بن عطاء ، عن جابر بن يزيد الأسود العامري ، عن أبيه قال : صليت مع رسول الله الفجر ، فلما سلم انحرف . ولفظ ابن حزم: فلما صلى انحرف . فإذن ليس في الحديث : رفع يديه ودعا . ولو سلمنا بثبوت هذه الجملة فإنها لا تكفي للوفاء بالاستدلال المقصود ؛ لأنها ليس فيها الجهر بالدعاء من الإمام ، ولا تأمين المأمومين جهراً .(41/15)
الحديث الخامس : عن الفضل بن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( الصلاة مثنى مثنى ، تشهد في كل ركعتين وتخشع وتضرع وتمسكن ، ثم تنفع يديك - يقول : ترفعهما إلى ربك مستقبلاً ببطونهما وجهك ، وتقول : يا رب يا رب - ومن لم يفعل ذلك فهو كذا وكذا ))(47) . رواه أحمد والترمذي . وفي رواية للترمذي : فهو خداج . قال الترمذي(48) : سمعت محمد بن إسماعيل - يعني البخاري - يقول : روى شعبة هذا الحديث عن عبد ربه بن سعيد ، فأخطأ في مواضع . انتهى .
والحديث ضعيف . فيه عبد الله بن نافع بن العمياء ، وقال الحافظ في تقريب التهذيب: مجهول(49) . وحتى ولو فرضنا صحة الحديث ، فليس فيه دليل للدعاء الجماعي، وإنما هو دليل للدعاء منفرداً كما هو واضح في سياقه وألفاظه .
ثالثاً : ومن أدلتهم أيضاً بعض الآثار التي جاءت عن بعض السلف ، فمنها :
1 - ما جاء عن عمر رضي الله عنه من أنه كان يكبر في قبته بمنى ، فيسمعه أهل المسجد ، فيكبرون ، ويكبر أهل الأسواق ، حتى ترتج منى تكبيراً(50) .
2 - أن ميمونة بنت الحارث زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - - ورضي الله عنها - كانت تكبر يوم النحر ، وكن النساء يكبرن خلف أبان بن عثمان وعمر بن عبد العزيز ليالي التشريق مع الرجال في المسجد(51) .
رابعاً : ومن أدلتهم أيضاً المصالح المترتبة على الذكر الجماعي لأن فيه - كما يرون - مصالح كثيرة ، منها :
1 - أن فيه تعاوناً على البر والتقوى ، وقد أمر الله بذلك في قوله : { وتعانوا على البر والتقوى } [ المائدة : 2 ] .
2 - أن الاجتماع للذكر والدعاء أقرب إلى الإجابة .
3 - أن عامة الناس لا علم لهم باللسان العربي ، وربما لحنوا في دعائهم ، واللحن سبب لعدم الإجابة ، والاجتماع على الذكر والدعاء بصوت واحد يجنبهم ذلك(52) .(41/16)
خامساً : ومما يستدلون به أن هذا العمل عليه أكثر الناس ، والغالبية هي الجماعة والنبي - صلى الله عليه وسلم - أوصى بلزوم الجماعة في غير ما حديث(53) .
سادساً : أن الذكر على هذه الهيئة وسيلة ، والغاية منها عبادة الله ، والقاعدة تقول : أن الوسائل لها حكم الغايات والمقاصد(54) ، وعبادة الله أمر مطلوب ، وعليه فيكون الذكر الجماعي أمراً مطلوباً(55) .
وأما جوابهم على أدلة المانعين من الذكر الجماعي ، فإنهم يرون أن الآثار الواردة عن الصحابة في المنع من الذكر الجماعي ، والإنكار على فاعليه ، يرون أنها آثار معارضة بالأحاديث الكثيرة الثابتة المتقدمة ، وهذه الأحاديث مقدمة على تلك الآثار عند التعارض . قال السيوطي : هذا الأثر عن ابن مسعود(56) يحتاج إلى بيان سنده . ومن أخرجه من الأئمة الحفاظ في كتبهم ؟ وعلى تقدير ثبوته فهو معارض بالأحاديث الكثيرة الثابتة المتقدمة وهي مقدمة عليه عند التعارض(57) .
المبحث الرابع : حجج المانعين من الذكر الجماعي وأدلتهم
استدل المانعون من الذكر الجماعي بأدلة . منها :
أولاً : أن الذكر الجماعي لم يأمر به النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ولا حث الناس عليه ، ولو أمر به أو حث عليه لنُقل ذلك عنه عليه الصلاة والسلام . وكذلك لم يُنقل عنه الاجتماع للدعاء بعد الصلاة مع أصحابه .
قال الشاطبي : (( الدعاء بهيئة الاجتماع دائماً لم يكن من فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ))(58) .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية : (( لم ينقل أحد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا صلى بالناس يدعو بعد الخروج من الصلاة هو والمأمومون جميعاً ، لا في الفجر ، ولا في العصر ، ولا في غيرهما من الصلوات ، بل قد ثبت عنه أنه كان يستقبل أصحابه ويذكر الله ويعلمهم ذكر الله عقيب الخروج من الصلاة ))(59) .(41/17)
ثانياً : فعل السلف من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - والتابعين لهم بإحسان ، فإنهم قد أنكروا على من فعل هذه البدعة ، كما سيأتي ذلك في النصوص الآتية عن عمر وابن مسعود وخباب رضي الله عنهم ، ولو لم يكونوا يعدون هذا العمل شيئاً مخالفاً للسنة ما أنكروا على فاعله ، ولا اشتدوا في الإنكار عليه ، فممَّن أنكر من الصحابة هذا العمل :
1 - عمر بن الخطاب رضي الله عنه . فقد روى ابن وضاح بسنده إلى أبي عثمان النهدي قال : (( كتب عامل لعمر بن الخطاب رضي الله عنه إليه : أن ها هنا قوماً يجتمعون، فيدعون للمسلمين وللأمير . فكتب إليه عمر : أقبل وأقبل بهم معك فأقبل . فقال عمر ، للبواب : أعِدَّ سوطاً ، فلما دخلوا على عمر ، أقبل على أميرهم ضرباً بالسوط . فقلت: يا أمير المؤمنين إننا لسنا أولئك الذي يعني ، أولئك قوم يأتون من قبل المشرق ))(60).
2 - وممن أنكر من الصحابة كذلك الاجتماع للذكر : عبد اله بن مسعود رضي الله عنه وذلك في الكوفة . فعن أبي البختري قال : أخبر رجل ابن مسعود رضي الله عنه أن قوماً يجلسون في المسجد بعد المغرب ، فيهم رجل يقول : كبروا الله كذا ، وسبحوا الله كذا وكذا ، واحمدوه كذا وكذا ، واحمدوه كذا وكذا . قال عبد الله : فإذا رأيتهم فعلوا ذلك فأتني ، فأخبرني بمجلسهم . فلما جلسوا، أتاه الرجل ، فأخبره . فجاء عبد الله بن مسعود، فقال : والذي لا إله إلا غيره ، لقد جئتم ببدعة ظلماً ، أو قد فضلتم أصحاب محمد علماً . فقال عمرو بن عتبة : نستغفر الله . فقال : (( عليكم الطريق فالزموه ، ولئن أخذتم يميناً وشمالاً لتضلن ضلالاً بعيداً ))(61) .(41/18)
3 - وممن أنكر عليهم من الصحابة : خباب بن الأرت ، فقد روى ابن وضاح بسند صحيح عن عبد الله بن أبي هذيل العنزي عن عبد الله بن الخباب قال : (( بينما نحن في المسجد ، ونحن جلوس مع قوم نقرأ السجدة ونبكي . فأرسل إليَّ أبي . فوجدته قد احتجز معه هراوة له . فأقبل عليَّ . فقلت : يا أبت ! مالي مالي ؟! قال : ألم أرك جالساً مع العمالقة(62) ؟ ثم قال : هذا قرن خارجٌ الآن ))(63) ، كما أنكر عامة التابعين رحمهم الله تعالى كذلك هذه البدع ومن جملة ذلك : كراهية الإمام مالك الاجتماع لختم القرآن في ليلة من ليالي رمضان . وكراهيته الدعاء عقب الفراغ من قراءة القرآن بصورة جماعية(64)
وقد نقل الشاطبي في فتاواه كراهية مالك الاجتماع لقراءة الحزب ، وقوله : إنه شيء أُحدث ، وإن السلف كانوا أرغب للخير ، فلو كان خيراً لسبقونا إليه(65) .
فهذه النقول ، التي أوردناها في هذا الباب ، كلها توضح أن السلف - رضي الله عنهم - كانوا لا يرون مشروعية الاجتماع للذكر بالصورة التي أحدثها الخلف . ولله در السلف ! ما كان خير إلا سبقوا إليه ، ولا كانت بدعة منكرة إلا كانوا أبعد الناس عنها ، محذرين منها . فما من إنسان يخالف هديهم إلا كان تاركاً لسبل الخير ، معرضاً عنها ، مقتحماً أبواب الضلال .
فلو كان الذكر الجماعي مشروعاً أو مستحباً لفعله السلف ، ولو فعلوه لنُقل عنهم ، ولَوَرَدَ إلينا . فلما لم يُنقل ذلك عنهم ، بل نُقل عنهم ما يخالف من الإنكار على فاعله ، كما حدث من ابن عمر ، وابن مسعود ، وغيرهما . دل ذلك على أن هذا العمل غير مشروع أصلاً .(41/19)
ثالثاً : النصوص العامة التي فيها المنع من الابتداع في الدين ، كحديث عائشة رضي الله عنها مرفوعاً : (( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد ))(66) . ومعلوم أن الذكر الجماعي لم يأمر به النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يدل عليه ، فلو شرعه النبي - صلى الله عليه وسلم - لأمر به وحث الناس عليه ، ولشاع ذلك عنه - صلى الله عليه وسلم - بينهم مع قيام المقتضى .
رابعاً : أن في القول باستحباب الذكر الجماعي استدراكاً على شريعة النبي - صلى الله عليه وسلم - بحيث إن المبتدعين له شرعوا أحكاماً لم يشرعها النبي - صلى الله عليه وسلم - ، قال تعالى : { أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله } [ الشورى : 21 ] . فلما لم يشرع النبي - صلى الله عليه وسلم - لأمته هذا العمل، دل ذلك على بدعيته .
خامساً : ومن أدلة المانعين من الذكر الجماعي : أن في هذا الذكر بصوت واحد تشبهاً بالنصارى الذين يجتمعون في كنائسهم لأداء التراتيل والأناشيد الدينية بصوت واحد . هذا مع كثرة النصوص الشرعية التي وردت في النهي عن التشبه بأهل الكتاب ، والأمر بمخالفتهم .
سادساً : ومن أدلة المانعين من الذكر الجماعي : أن فيه مفاسد عديدة تقطع بعدم جوازه ، لاسيما وأنها تربو على ما له من منافع زعمها المجيزون له ، فمن هذه المفاسد :
1 - التشويش على المصلين والتالين للقرآن مع ورود النهي عن هذا التشويش ، ومنها على سبيل المثال قوله - صلى الله عليه وسلم - : (( إلا إن كلكم مناج ربه . فلا يؤذين بعضكم بعضاً ، ولا يرفع بعضكم على بعض في القراءة ))(67) .
2 - الخروج عن السمت والوقار الذين يجب على المسلم المحافظة عليهما .
3 - أن اعتياد الذكر الجماعي قد يدفع بعض الجهال والعامة إلى الانقطاع عن ذكر الله إذا لم يجدوا من يجتمع معهم لترديد الذكر جماعة كما اعتادوا .(41/20)
4 - أنه قد يحصل من بعض الذاكرين أحياناً تقطيع الآيات حتى يتمكن قصار النَفَس من الترديد مع طوال النَفَس . فهذه أظهر أدلة المانعين من الذكر الجماعي . وقد سقتها - على وجه التفصيل - في حدود ما وقفت عليه ، مع تحري الأمانة فيما نقلت .
وأما أدلة المجيزين للذكر الجماعي فقد أجاب المانعون عنها بما يلي :
أولاً : الجواب على الدليل الأول : وهو احتجاجهم بالنصوص الواردة في مدح الذاكرين بصيغة الجمع ، وادعاؤهم أن هذا يقتضي اجتماعهم على الذكر بشكل جماعي ، وللجواب على هؤلاء يقال :
إن الحث على الذكر بصيغة الجمع ومدح الذاكرين بصيغة الجمع لا يقتضي الدلالة على استحباب أو جواز الذكر الجماعي ولا يلزم منه ذلك . بل غاية ما في هذه النصوص الدلالة على استحباب الذكر لجميع المسلمين ، والحث عليه ، وسواء كان ذلك على وجه الانفراد ، أو الاجتماع ، ظاهراً ، أو خفياً .
ثانياً : الجواب على الدليل الثاني : وهو استدلالهم بعموم الأحاديث الدالة على فضل الاجتماع على ذكر الله ومجالس الذكر .
فالجواب على هذا الدليل من وجهين :
الوجه الأول : أن ذكر الله ليس مقصوراً على التسبيحات والدعوات ، وما يقال باللسان ، بل إن ذكر الله سبحانه وتعالى يشمل كل قول وفعل يرضي الله تعالى ومنه مجالس العلم والفقه ، والقرآن ، ولذلك فإن ما ورد في فضل مجالس الذكر ليس المقصود منها فقط ما ذكروه ، بل وغير ذلك .
ويدل على ذلك ما ورد في كتاب الحلية لأبي نعيم الأصبهاني ، بسنده إلى أبي هزان قال : سمعت عطاء بن أبي رباح يقول : من جلس مجلس ذكر كفر الله عنه بذلك المجلس عشرة مجالس من مجالس الباطل . قال أبو هزان : قلت لعطاء : ما مجلس الذكر ؟ قال : مجلس الحلال والحرام ، وكيف تصلي ، وكيف تصوم ، وكيف تنكح ، وكيف تطلق وتبيع وتشتري(68)(41/21)
وقال الحافظ ابن حجر : والمراد بالذكر : الإتيان بالألفاظ التي ورد الترغيب في قولها والإكثار منها ، مثل : الباقيات الصالحات وهي : (( سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر )) ، ونحو ذلك . والدعاء بخيري الدنيا والآخرة . ويطلق ذكر الله أيضاً ، ويراد به : المواظبة على العمل بما أوجبه ، أو ندب إليه : كتلاوة القرآن ، وقراءة الحديث ، ومدارسة العلم والتنفل بالصلاة(69) .
قال العلامة المباركفوري(70) : (( المراد بالذكر - هنا - : الإتيان بالألفاظ التي ورد الترغيب في قولها، والإكثار منها مثل الباقيات الصالحات ، وهي: سبحان الله ، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر ، وما يلتحق بها من الحوقلة ، والبسملة ، والحسبلة ، والاستغفار، ونحو ذلك ، والدعاء بخيري الدنيا والآخرة . ويُطلق ذكر الله أيضاً ويُراد به المواظبة على العمل بما أوجبه ، أو ندب إليه ، كتلاوة القرآن ، وقراءة الحديث ، ومدارسة العلم ، والتنفل بالصلاة )) .
فإن قال قائل من هؤلاء : إن الذكر بالألفاظ الواردة نوع من أنواع الذكر اللساني يشمله أحاديث فضل مجالس الذكر فدل ذلك على استحباب الاجتماع لأجل هذا الذكر اللساني .
فالرد عليه بالوجه الثاني : أن هذه الأحاديث لم تدل على الذكر الجماعي واستحبابه ، وإنما هي دالة على استحباب الاجتماع على ذكر الله . وهناك فرق كبير بين هذا وذاك .
فالاجتماع على ذكر الله مستحب مندوب إليه بمقتضى الأحاديث الواردة في فضله ، ولكن على الوجه المشروع الذي فهمه الصحابة وعملوا به ، فقد كانوا يجتمعون للذكر كما ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية : (( كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا اجتمعوا أمروا واحداً منهم يقرأ ، والناس يستمعون . وكان عمر يقول لأبي موسى : ذكرنا ربنا . فيقرأ وهم يستمعون لقراءته ))(71) .(41/22)
وقال الطرطوشي : (( هذه الآثار(72) تقتضي جواز الاجتماع لقراءة القرآن الكريم على معنى الدرس له والتعلم والمذاكرة وذلك يكون بأن يقرأ المتعلم على المعلم ، أو يقرأ المعلم على المتعلم ، أو يتساويا في العلم ، فيقرأ أحدهما على الآخر على وجه المذاكرة والمدارسة هكذا يكون التعليم والتعلم ، دون القراءة معاً .
وجملة الأمر أن هذه الآثار عامة في قراءة الجماعة معاً على مذهب الإدارة ، وفي قراءة الجماعة على المقرئ ... ومعلوم من لسان العرب أنهم لو رأوا جماعة قد اجتمعوا لقراءة القرآن على أستاذهم . ورجل واحد يقرأ القرآن ، لجاز أن يقولوا : هؤلاء جماعة يدرسون العلم ، ويقرؤون العلم والحديث . وإن كان القارئ واحد(73) .
ثالثاً : وأما الآثار التي استدلوا بها عن عمر رضي الله عنه ، وميمونة رضي الله عنها . فيجاب عنها من ثلاثة وجوه :
الأول : أنها غير صريحة في التكبير الجماعي بالشكل الذي يدعو إليه من يقولون بمشروعية الذكر الجماعي ، بل غاية ما فيها أن الناس تأسَّوا بعمر رضي الله عنه فكبروا مثله وبأصوات مرتفعة ، وبسبب تداخل واختلاط الأصوات مع كثرة الحجيج فقد ارتجت منى بالتكبير . ولا يفهم منه أن عمر رضي الله عنه كان يكبر ثم يسكت حتى يرددوا خلفه بصوت رجل واحد . وإلا فإن أئمة المذاهب المتبوعة لم ينقل عنهم الإقرار للذكر والتسبيح والتكبير بصوت واحد فلو فهموا منه ما فهمه دعاة الذكر الجماعي لقالوا به . ولكنهم فهموا هذه الآثار - والله أعلم - على ما سبق ذكره في أول هذا الوجه .
وأما أثر ميمونة فيقال فيه ما قيل في أثر عمر . وليس فيه إلا تكبير النسوة مع الرجال في المسجد .
الثاني : أن عمر رضي الله عنه قد ثبت عنه أنه عاقب من اجتمعوا للدعاء والذكر وغيره كما في الأثر الذي رواه ابن وضاح . وقد سبق إيراده في بيان حجج المانعين من الذكر الجماعي وأدلتهم .(41/23)
الثالث : أن مثل هذا التكبير من عمر والترديد من الناس لم ينقل في غير أيام منى ، ووقت الحج . ولو جاز تعميم الحكم ، والقول بجواز الذكر الجماعي في المساجد والبيوت، وبعد الصلوات وفي الأوقات المختلفة ، لكان في هذا مخالفة واضحة للآثار السابقة عن عمر ، وابن مسعود ، وخباب ، وغيرهم رضي الله عنهم جميعاً .
رابعاً : وأما الأمر الرابع الذي استدلوا به : وهو دعواهم أن للذكر الجماعي مصالح عديدة ، فيجاب عنه بما يأتي(74) :
1 - قولهم إن فيه تعاوناً على البر والتقوى باطل ، يرده فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - . فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - هو الذي أنزل عليه { وتعانوا على البر والتقوى } وكذلك فعله عليه السلام ، ولو كان الاجتماع للدعاء والذكر بعد الصلاة جهراً لمن شهد الصلاة ، وفي غير ذلك من الأوقات . لو كان هذا كله من باب التعاون على البر والتقوى لكان أول سابق إليه هو النبي عليه السلام ولفاز بالسبق إليه أصحابه رضوان الله عليهم ، ومن المعلوم أنهم لم ينقل عنهم ذلك قطعاً . وكذب من ادعى عليهم شيئاً من ذلك .
2 - وأما قولهم إن الذكر الجماعي أقرب للإجابة . فيجاب عليهم بأن هذه العلة كانت موجودة في زمانه عليه السلام بل هو - صلى الله عليه وسلم - أعظم من تجاب دعوته ولا شك في ذلك ، فهو عليه السلام كان أحق بأن يفعل ذلك ويدعو مع أصحابه - جماعة - خمس مرات في اليوم والليلة . ولكن رغم ذلك لم ينقل عنه أنه فعل ذلك . وبالتالي يصبح من الواجب الحكم على هذا الفعل بأنه بدعة بناء على ما ثبت من فعله عليه الصلاة والسلام ، وبناء على الأدلة الكثيرة في بيان وجوب طاعته والاهتداء بهديه ، والاقتداء بسنته .
3 - وأما قولهم إن الذكر الجماعي أبعد عن اللحن في الدعاء والذكر ولاسيما للعوام، فيجاب عليهم بما يلي :(41/24)
أ - أنه ليس من شروط صحة الدعاء عدم اللحن فيه ، بل يشترط الإخلاص وصدق التوجه ومتابعة النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك .
وقد كان الصحابة متوافرين بعد انتشار الفتوحات ، وظهور العجمة في الألسنة بعد أن كثر العجم الداخلون في الإسلام وشاع بين الناس اللحن في الكلام ، ومع ذلك لم ينقل عن الصحابة شيء من هذا الذكر الجماعي .
ب - أن هذا اللحن الذي زعموه ، والموجود في الدعاء ، يوجد أيضاً من هؤلاء العوام في قراءة القرآن ، وفي الصلاة وفي غيرها من شعائر الدين ، وكان الجدير بهؤلاء أن يعلموهم بعد الصلوات تلك الأحكام ، لأنها أمور واجب تعلمها على المسلم ، أما الدعاء فهو أمر مستحب .
رابعاً : قولهم : إن هذا عمل الناس ، وعليه الجماعة ، وقد اجتمع عليه أكثر الناس .
فيجاب عليهم بأن هذا احتجاج بالناس على الشرع ، وهذا باطل . بل يحتج بالشرع وبالدليل على الناس ، وعلى الرجال ، وأما اتباع عامة الناس وأغلبهم في أمور الدين فهذا باب ضلال ، وقد ذمه الله عز وجل في كتابه فقال : { وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله } [ الأنعام : 116 ] . ولسنا متعبَّدين بطاعة الناس واتباعهم ، بل بطاعة النبي - صلى الله عليه وسلم - واتباعه .(41/25)
وقد جاء عن أبي علي بن شاذان بسند يرفعه إلى أبي عبد الله بن إسحاق الجعفري قال : (( كان عبد الله بن الحسن - يعني ابن الحسن بن علي بن أبي طالب يكثر الجلوس إلى ربيعة فتذاكروا يوماً . فقال رجل كان في المجلس : ليس العمل على هذا ( أي أن عمل العوام يخالف ذلك ) . فقال عبد الله : أرأيت إن كثر الجهال حتى يكونوا هم الحكام ، أفهم الحجة على السنة ؟ فقال ربيعة : أشهد أن هذا كلام أبناء الأنبياء ))(75). فبيَّن عبد الله ابن الحسن أن كثرة الجهال والمبتدعين ، وتسلطهم على الناس ، ونشرهم لبدعتهم ، ليس حجة على السنة وعلى الشرع ، ولا ينبغي ولا يجوز أن يعارض شرع الله، وسنة الرسول - صلى الله عليه وسلم - بفعل أحد من الناس ، كائناً من كان .
خامساً : دعواهم أن الذكر الجماعي وسيلة لها حكم غايتها ، وغاية الذكر الجماعي عبادة الله .
فيجاب عليهم بما يلي :
1 - أن هذه القاعدة ليست قاعدة مطردة على الدوام ، بل إن لها موارد مقصورة عليها ، فهذه القاعدة مقصورة على ما ورد في الشرع سواء كان وسيلة أم غاية . ومما يدل على ذلك أن الشيء قد يكون مباحاً ، بل واجباً ، ومع ذلك تكون وسيلته مكروهة أو محرمة . كمن يتوصل إلى تحصيل ماء الوضوء عن طريق الغصب أو السرقة .
2 - يدلك على هذا كذلك فعل السلف الصالح ، فإنهم - رضي الله عنهم - كانوا يتحرون في أمور العبادات كلها تحرياً شديداً من غير التفات إلى الفرق بين ما يسمى
(( وسائل )) و(( غايات ))(76) .
سادساً : وأما قولهم : إن الآثار المانعة للذكر الجماعي تعارض الأحاديث الكثيرة التي تثبت مشروعية الذكر الجماعي ( كذا زعموا ) ، فتُقدَّم الأحاديث عليها .
فيجاب عليهم بأنه لا تعارض بين هذه الآثار وتلك الأحاديث كما سبق ، بل إن تلك الأحاديث ينبغي أن تفهم وتفسر في ضوء فهم السلف الصالح لها ، وهذه الآثار الواردة عن السلف تفسر جانباً من هذه الأحاديث ، كما سبق وأن ذكرناه .(41/26)
وأما ما رد به السيوطي أثر ابن مسعود بأنه لا يعرف له سند ، فمردود بأنه أثر صحيح بمجموع طرقه رواه الدارمي في سننه ، وابن وضاح في البدع(77) . والعجب أن الإمام السيوطي - رحمه الله - ذكر هذا في كتابه (( الأمر بالاتباع والنهي عن الابتداع ))(78) .
وأما قول الدكتور الزحيلي(79) : (( فلا يصح القول بتبديع الدعاء الجماعي بعد الصلاة ... )) إلخ .
فيقال : قوله : ( لا يصح ) . هذه كلمة شرعية ، وإطلاق لحكم شرعي ، وهذا يقتضي عدم الجواز . فمن أين أتى بهذا الحكم ؟ ومَنْ سبقه بهذا من أهل العلم المعتبرين ؟ ولا دليل عليه لا من كتاب ولا من سنة .
ثم قوله : (( وجرى العمل بين المتأخرين بالاجتماع على الدعاء ))(80) أهـ .
فيقال له : ومتى كان اجتماع الناس على عملٍ ما قاضياً على شرع الله عز وجل ؟ فالحجة إنما هي في النصوص وفي عمل الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، والصحابة الكرام ، لا في عمل المتأخرين .
ثم قوله في إنكار ابن مسعود على المجتمعين على الذكر : (( والواقع أن هذا الإنكار ليس بسبب اجتماعهم على الذكر . وإنما لشذوذهم وادعائهم أنهم أشد اجتهاداً في الدين من غيرهم ))(81) أهـ .
فيقال له : ما دليلك على هذا الكلام ؟! وكل من روى هذه الواقعة فهم منها إنكار ابن مسعود للذكر الجماعي ، ومثله إنكار خباب بن الأرت على ولده ، وهل كان هناك شذوذ عند هؤلاء المذكورين غير اجتماعهم على الذكر الجماعي ؟ إذ لا يمكن أن يقال إن شذوذهم كان بسبب أنهم يذكرون الله كثيراً .
ومن هنا يتبين لك ضعف استدلال المجيزين للذكر الجماعي بالأدلة التي استدلوا بها ، وأنها لا تنهض لهم بما أرادوا ، وأن الحجة قائمة عليهم بحمد الله تعالى . وكذلك يتبين لك قوة أدلة المانعين من الذكر الجماعي .
المبحث الخامس : حكم الذكر الجماعي(41/27)
سبق ذكر موقف السلف من الذكر الجماعي ، وأنهم يعدونه محدثاً في الدين لم يفعله النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا الصحابة رضي الله عنهم ، ولا من بعدهم . وكذلك الدعاء جماعة ، سواء بعد الفريضة أو غيرها فهم يعدونه بدعة ، إلا ما ورد به الدليل ، وقد تعددت النقول عنهم في ذلك ، وقد تقدم ذكر بعضها ، ودرج على منوالهم فقهاء الإسلام على اختلاف مذاهبهم، فمن ذلك :
1 - ذكر الإمام علاء الدين الكاساني الحنفي في كتابه ( بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع )(82) ، عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى : أن رفع الصوت بالتكبير بدعة في الأصل ، لأنه ذكر . والسنة في الأذكار المخافتة ؛ لقوله تعالى : { ادعوا ربكم تضرعاً وخفية } [ الأعراف : 55 ] . ولقوله - صلى الله عليه وسلم - : (( خير الدعاء الخفي ))(83) . ولذا فإنه أقرب إلى التضرع والأدب ، وابعد عن الرياء فلا يترك هذا الأصل إلا عند قيام الدليل المخصص . انتهى .
وقال العلامة المباركفوري في ( تحفة الأحوذي )(84) : اعلم أن الحنفية في هذا الزمان ، يواظبون على رفع الأيدي في الدعاء بعد كل مكتوبة مواظبة الواجب ، فكأنهم يرونه واجباً، ولذلك ينكرون على من سلم من الصلاة المكتوبة وقال : اللهم أنت السلام ومنك السلام ، تباركت يا ذا الجلال والإكرام . ثم قام ولم يدع ولم يرفع يديه . وصنيعهم هذا مخالف لقول إمامهم الإمام أبي حنيفة ، وأيضاً مخالف لما في كتبهم المعتمدة . انتهى .(41/28)
2 - ومما يتعلق بمذهب مالك رحمه الله في الذكر الجماعي ما جاء في كتاب ( الدر الثمين ) للشيخ محمد بن أحمد ميارة المالكي(85) : كره مالك وجماعة من العلماء لأئمة المساجد والجماعات الدعاء عقيب الصلوات المكتوبة جهراً للحاضرين . ونقل الإمام الشاطبي في كتابه العظيم ( الاعتصام )(86) قصة رجل من عظماء الدولة ذوي الوجاهة فيها موصوف بالشدة والقوة ، وقد نزل إلى جوار ابن مجاهد . وكان ابن مجاهد لا يدعو في أخريات الصلوات، تصميماً في ذلك على المذهب - مذهب مالك - لأن ذلك مكروه فيه. فكأن ذلك الرجل كره من ابن مجاهد ترك الدعاء ، وأمره أن يدعو فأبى فلما كان في بعض الليالي قال ذلك الرجل : فإذا كان غدوة غد أضرب عنقه بهذا السيف . فخاف الناس على ابن مجاهد فقال لهم وهو يبتسم : لا تخافوا ، هو الذي تُضرب عنقه في غدوة غد بحول الله . فلما كان مع الصبح وصل إلى دار الرجل جماعة من أهل المسجد فضربوا عنقه . انتهى .
3 - وأما مذهب الشافعي رحمه الله ، فقد قال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى في ( الأم )(87) : وأختار للإمام والمأموم أن يذكرا الله بعد الانصراف من الصلاة ، ويخفيان الذكر إلا أن يكون إماماً يجب أن يُتعلم منه فيجهر حتى يرى أنه قد تُعُلِّم منه ثم يُسِرُّ ، فإن الله عز وجل يقول : { ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها } [ الإسراء : 110 ] يعني - والله تعالى أعلم - الدعاء ، ولا تجهر : ترفع . ولا تخافت : حتى لا تسمع نفسك . انتهى .(41/29)
وقال الإمام النووي في المجموع(88) : اتفق الشافعي والأصحاب رحمهم الله تعالى على أنه يُستحب ذكر الله تعالى بعد السلام ، ويُستحب ذلك للإمام والمأموم والمنفرد والرجل والمرأة والمسافر وغيره ... وأما ما اعتاده الناس أو كثير منهم من تخصيص دعاء الإمام بصلاتي الصبح والعصر ، فلا أصل له . انتهى . قلت : ولقائل أن يقول : نفيه للتخصيص في هذين الوقتين يدل على جواز الدعاء في جميع الصلوات ، ويبطل هذا الزعم قول النووي نفسه في ( التحقيق )(89) : يندب الذكر والدعاء عقيب كل صلاة ويسر به ، فإذا كان إماماً يريد أن يعلمهم جهر ، فإذا تعلموا أسر . انتهى .
4 - وأما ما يتعلق بمذهب الحنابلة ، فقد قال ابن قدامة في ( المغني )(90) : ويُستحب ذكر الله تعالى والدعاء عقيب صلاته ، ويُستحب من ذلك ما ورد به الأثر ، وذكر جملة من الأحاديث ، فيها شيء من الأذكار التي كان - صلى الله عليه وسلم - يقولها في دبر كل صلاة مكتوبة . وقد سُئل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى(91) عن الدعاء بعد الصلاة ، فذكر بعض ما نقل عنه - صلى الله عليه وسلم - من الأذكار بعد المكتوبة ، ثم قال : وأما دعاء الإمام والمأمومين جميعاً عقيب الصلاة فلم ينقل هذا أحد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - . انتهى .
قلت : وفيما يختص بدعاء الإنسان منفرداً من غير جماعة فإنه إذا كان إماماً أو مأموماً أو منفرداً فليس ثم مانع يمنعه من الدعاء إذا بدأ بالأذكار المسنونة والتسابيح المشروعة في أعقاب الصلوات ، وقد دل على ذلك كتاب الله تعالى وسنَّة رسوله الكريم - صلى الله عليه وسلم - وهدي السلف الصالح رضي الله عنهم . أما الدليل من الكتاب العزيز ، فقول الله تعالى : { فإذا فرغت فانصب . وإلى ربك فارغب } [ الشرح : 7 - 8 ] .(41/30)
وقد ورد في الكلام على هاتين الآيتين ، في إحدى الروايتين : فإذا فرغت من صلاتك ، فانصب إلى ربك في الدعاء وسله حاجتك . نقل هذا ابن جرير الطبري(92) في تفسيره وابن أبي حاتم(93) ، والسمعاني(94) ، والقرطبي(95) ، وابن الجوزي(96) ، وابن كثير(97) ، والشوكاني(98) ، والسعدي ، وغيرهم من المفسرين .
قال السعدي رحمه الله في تفسير هاتين الآيتين : { فإذا فرغت فانصب } أي إذا تفرغت من أشغالك، ولم يبق في قلبك ما يعوقه فاجتهد في العبادة والدعاء . { وإلى ربك } وحده { فارغب } أي أعظم الرغبة في إجابة دعائك ، وقبول دعواتك ولا تكن ممن إذا فرغوا لعبوا وأعرضوا عن ربهم وعن ذكره ، فتكون من الخاسرين . وقد قيل : إن معنى هذا : فإذا فرغت من الصلاة ، وأكملتها فانصب في الدعاء . { وإلى ربك فارغب } في سؤال مطالبك . واستدل من قال هذا القول على مشروعية الدعاء والذكر عقب الصلوات المكتوبات . والله أعلم(99) . انتهى .
وأما من السنة ، فعن أبي أمامة قال : قيل يا رسول الله أي الدعاء أسمع ؟ قال (( جوف الليل الآخر ، ودبر الصلوات المكتوبات )) . رواه الترمذي(100) وقال : هذا حديث حسن.
وقد جاءت بذلك فتاوى العلماء قديماً وحديثاً :
فمن القديم ما ذكره ابن مفلح قال : قال مهنا : سألت أبا عبد الله عن الرجل يجلس إلى القوم ، فيدعو هذا ، ويدعو هذا ويقولون له : ادع أنت . فقال : لا أدري ما هذا ؟! أي : أنه استنكره .
وقال الفضل بن مهران : سألت يحيى بن معين وأحمد بن حنبل قلت : إن عندنا قوماً يجتمعون ، فيدعون ، ويقرأون القرآن ، ويذكرون الله تعالى ، فما ترى فيهم ؟(41/31)
قال : فأما يحيى بن معين فقال : يقرأ في مصحف ، ويدعو بعد الصلاة ، ويذكر الله في نفسه ، قلت : فأخ لي يفعل ذلك . قال : أنهه ، قلت : لا يقبل ، قال : عظه . قلت : لا يقبل . أهجره ؟ قال : نعم . ثم أتيت أحمد فحكيت له نحو هذا الكلام فقال لي أحمد أيضاً : يقرأ في المصحف ويذكر الله في نفسه ويطلب حديث رسول الله . قلت : فأنهاه ؟ قال : نعم . قلت : فإن لم يقبل ؟ قال : بلى إن شاء الله ، فإن هذا محدث ، الاجتماع والذي تصف(101) .
وقال الإمام الشاطبي في بيان البدع الإضافية ما نصه : (( كالجهر والاجتماع في الذكر المشهور بين متصوفة الزمان . فإن بينه وبين الذكر المشروع بوناً بعيداً إذ هما كالمتضادين عادة ))(102) .
وقال ابن الحاج : (( ينبغي أن ينهى الذاكرون جماعة في المسجد قبل الصلاة، أو بعدها، أو في غيرهما من الأوقات . لأنه مما يشوش بها ))(103) .
وقال الزركشي : (( السنة في سائر الأذكار الإسرار . إلا التلبية ))(104) .
جاء في ( الدرر السنية ) : (( فأما دعاء الإمام والمأمومين ، ورفع أيديهم جميعاً بعد الصلاة ، فلم نر للفقهاء فيه كلاماً موثوقاً به . قال الشيخ تقي الدين : ولم ينقل أنه - صلى الله عليه وسلم - كان هو والمأمومون يدعون بعد السلام . بل يذكرون الله كما جاء في الأحاديث ))(105) .
وجاء في فتاوى الشيخ محمد رشيد رضا ما يلي : (( ختام الصلاة جهاراً في المساجد بالاجتماع ، ورفع الصوت ، من البدع التي أحدثها الناس ، فإذا التزموا فيها من الأذكار ما ورد في السنة ، كانت من البدع الإضافية ))(106) . وقال في موضع آخر : (( إنه ليس من السنة أن يجلس الناس بعد الصلاة بقراءة شيء من الأذكار ، والأدعية المأثورة ، ولا غير المأثورة برفع الصوت وهيئة الاجتماع .. وأن الاجتماع في ذلك والاشتراك فيه ورفع الصوت بدعة ))(107) .(41/32)
وجاء في الفتاوى الإسلامية للشيخ ابن عثيمين : (( الدعاء الجماعي بعد سلام الإمام بصوت واحد لا نعلم له أصلاً على مشروعيته ))(108) .
وقال الشيخ صالح الفوزان : (( البدع التي أحدثت في مجال العبادات في هذا الزمان كثيرة ، لأن الأصل في العبادات التوقيف ، فلا يشرع شيء منها إلا بدليل . وما لم يدل عليه دليل فهو بدعة ... ثم ذكر بعض البدع . وقال : ومنها الذكر الجماعي بعد الصلاة لأن المشروع أن كل شخص يقول الذكر الوارد منفرداً ))(109) .
فأصل الدعاء عقب الصلوات بهيئة الاجتماع بدعة ، وإنما يباح منه ما كان لعارض ، قال الإمام الشاطبي - رحمه الله - : (( لو فرضنا أن الدعاء بهيئة الاجتماع وقع من أئمة المساجد في بعض الأوقات : للأمر يحدث عن قحط أو خوف من ملم لكان جائزاً .. وإذا لم يقع ذلك على وجه يخاف منه مشروعية الانضمام ، ولا كونه سنة تقام في الجماعات ، ويعلن به في المساجد كما دعا رسول الله دعاء الاستسقاء بهيئة الاجتماع وهو يخطب ))(110) .
وإنما كان هذا الدعاء بعد الصلوات بهيئة الاجتماع بدعة ، مع ثبوت مشروعية الدعاء مطلقاً ، وورود بعض الأحاديث بمشروعية الدعاء بعد الصلوات خاصة ، وذلك لما قارنه من هذه الهيئة الجماعية ، ثم الالتزام بها في كل الصلوات حتى تصير شعيرة من شعائر الصلاة . فإن وقع أحياناً فيجوز إذا كان من غير تعمد مسبق، فقد روي عن الإمام أحمد - رحمه الله - أنه أجاز الدعاء للإخوان إذا اجتمعوا بدون تعمد مسبق ، وبدون الإكثار من ذلك حتى لا يصير عادة تتكرر(111) ، وقال شيخ الإسلام : (( الاجتماع على القراءة والذكر والدعاء حسن مستحب إذا لم يتخذ ذلك عادة راتبة كالاجتماعات المشروعة ولا اقترن به بدعة منكرة ))(112) وقال : (( أما إذا كان دائماً بعد كل صلاة فهو بدعة ، لأنه لم ينقل ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - والصحابة والسلف الصالح ))(113) .
المبحث السادس : مفاسد الذكر الجماعي(41/33)
سبق الإشارة إلى بعض مفاسد الذكر الجماعي باختصار ضمن المبحث الرابع . ونظراً لأهمية هذه المسألة فقد أفردتها بهذا المبحث المستقل . فأقول - مستعيناً بالله - إن من مفاسد الذكر الجماعي :
الأولى : مخالفة هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه رضي الله عنهم ، فإنهم لم ينقل عنهم شيء من ذلك . ولا شك أن ما خالف هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - وهدي أصحابه الكرام رضي الله عنهم ، فهو بدعة ضلالة . ولو كان خيراً لفعله - صلى الله عليه وسلم - ، ولتبعه في ذلك الصحابة الكرام ، ولنقل ذلك عنهم ولا شك . فلما لم ينقل ذلك عنهم دل على أنهم لم يفعلوه . وما لم يكن ديناً في زمانهم فليس بدين اليوم .
الثانية : الخروج عن السمت والوقار ، فإن الذكر الجماعي قد يتسبب فيب التمايل ، ثم الرقص ، ونحو ذلك ، وهذا لا يجوز بحال ، بل هو منافٍ للوقار الواجب عند ذكر الله تعالى ، وحال أهل الطرق الصوفية معروف في هذا الباب .
الثالثة : التشويش على المصلين ، والتالين للقرآن ، وذلك إذا كان الذكر الجماعي في المساجد . ولاشك أن المجيزين له يعدون المساجد أعظم الأماكن التي يتم الالتقاء فيها للذكر الجماعي .
الرابعة : أنه قد يحصل من الذاكرين تقطيع في الآيات، أو إخلال بها وبأحكام تلاوتها، أو بأذكار مما يجتمع عليها ، كما لو أن أحدهم قد انقطع نَفَسُه ثم أراد إكمال الآية فوجد الجماعة قد سبقوه ، فيضطر لترك ما فاته واللحاق بالجماعة فيما يقرأون . أو أن يكون بعض القارئين مخلاً بالأحكام فيضطر المجيد للأحكام إلى مجاراتهم حتى لا يحصل نشاز وتعارض ، ونحو ذلك .
الخامسة : أن في الذكر الجماعي تشبهاً بالنصارى الذين يجتمعون في كنائسهم لأداء التراتيل والأناشيد الدينية جماعة وبصوت واحد . وهذا التشبه بأهل الكتاب مع ورود النهي الشديد عن موافقتهم في دينهم دليل واضح على عدم جواز الذكر الجماعي .(41/34)
السادسة : أن فتح باب الذكر الجماعي قد يؤدي إلى أن تتبع كل طائفة شيخاً معيناً يجارونه فيما يذكر ، وفيما يقول ، ولو أدى ذلك إلى ظهور أذكار مبتدعة ، ويزداد التباعد بين أرباب هذه الطرق يوماً بعد يوم ؛ لأن السنة تجمع ، والبدعة تفرق
السابعة : أن اعتياد الذكر الجماعي قد يؤدي ببعض الجهال والعامة إلى الانقطاع عن ذكر الله إذا لم يجد من يشاركه ، وذلك لاعتياده الذكر الجماعي دون غيره .
ولاشك أن للذكر الجماعي مفاسد أخرى ، وفيما ذكرت كفاية ،،،، ولله الحمد .
• • •
الخاتمة :
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وبعد :
فمن خلال هذا البحث ، وما ورد فيه ، يتبين لنا أن الذكر الجماعي ليس له أصل في دين الله تعالى ، إذ لم ينقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا عن الصحابة الكرام أنهم كانوا يذكرون الله جماعة ، ولم يفعله السلف الصالح رضي الله عنهم ، بل أنكروا على من فعل ذلك ، ولم تنتشر هذه البدعة إلا بقوة السلطان ، وذلك على يد المأمون بن هارون الرشيد ، لما أمر به ودعا إليه ثم اعتاده الناس ، وشاع بينهم حتى أصبح عندهم كالفريضة .
وقد احتج أصحاب هذه البدعة بنصوص عامة لا تسعفهم صراحة عند الاستدلال بها. وقد استدلوا كذلك بمصالح - ادعوها - للذكر الجماعي ، وقد سقنا - والحمد لله - الجواب عن حججهم ، بل وذكرنا بعضاً من مفاسد هذه البدعة في مبحث مستقل خلال هذا البحث ، وبينا بعضاً من أضرارها على صاحبها ، وعلى غيره .
وأسأل الله أن أكون قد وفقت في إخراج هذا البحث ، وما كان فيه من صواب فمن الله ، وما كان من خطأ فمني ، والله ورسوله منه براء ، وأسأل الله القبول ، والحمد لله رب العالمين .
الحواشي والتعليقات(41/35)
(1) هذه خطبة الحاجة التي كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يستفتح بها خطبه ، رواها الإمام أحمد في المسند ( 1 / 392 - 293 ) وأبو داود ( 2118 ) ، والترمذي ( 1105 ) ، وابن ماجه ( 1892 ) . وأخرج بعضها الإمام مسلم في صحيحه ( 867 ) و( 868 ) وللشيخ الألباني رسالة مطبوعة في إثبات صحتها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد صححها كذلك في صحيح أبي داود ( 860 ) وصحيح ابن ماجه ( 1535 ) ، وفي تخريج مشكاة المصابيح 3149 ) .
(2) انظر : تحفة الأحوذي في شرح جامع الترمذي ( 1 / 246 ) .
(3) أخرجه البخاري ( 2697 ) ، ومسلم ( 1718 ) من حديث عائشة .
(4) انظر : تفسير السعدي المسمَّى ( تيسير الكريم المنان في تفسير كلام الرحمن ) ( 6 / 609 ) ، ط مؤسسة السعيدية بالرياض .
(5) القاموس المحيط ( 507 ) ، لسان العرب لابن منظور ( 5 / 48 ) .
(6) مفردات الراغب ( 328 ) .
(7) انظر : الموسوعة الفقهية ( 21 / 220 ) ، والفتوحات الربانية ( 1 / 18 ) .
(8) الموسوعة الفقهية ( 21 / 252 ) .
(9) تاريخ الأمم والملوك ( 10 / 281 ) .
(10) البداية والنهاية ( 10 / 282 ) .
(11) دراسات في الأهواء ( ص 282 ) .
(12) انظر : الإبداع في مضار الابتداع ( 317 ) .
(13) الإبداع في مضار الابتداع ( 316 ) .
(14) الإبداع في مضار الابتداع ( 317 ) .
(15) السنن والمبتدعات ( 60 ) ، وعلم أصول البدع ( 151 ) .
(16) السنن والمبتدعات ( 60 ) .
(17) انظر : علم أصول البدع ( 151 ) .
(18) إصلاح المساجد ( ص 111 ) .
(19) مسك الختام في الذكر والدعاء بعد السلام ( 123 ) .
(20) الحوادث والبدع ( 126 ) .
(21) تقديس الأشخاص ( 3361 ) .
(22) تقديس الأشخاص ( 1 / 336 ) .
(23) البدع وما لا أصل له ( ص 425 ) .
(24) التحقيق والإيضاح لكثير من مناسك الحج والعمرة ( 35 ) .
(25) مناسك الحج والعمرة في الكتاب والسنة وآثار السلف للألباني ( 63 ) رقم ( 166 ) .(41/36)
(26) انظر : حجج من أجاز الذكر الجماعي في كتاب ( نتيجة الفكر في الجهر بالذكر ) للسيوطي ( 2 / 23 - 29 ) مطبوع ضمن الحاوي للفتاوي وكتاب صفة صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - لحسين السقاف ( ص 244 - 257 ) .
(27) البخاري ( 6408 ) ، ومسلم ( 2689 ) عن أبي هريرة .
(28) فتح الباري ( 11 / 212 ) .
(29) رواه أحمد في المسند ( 4 / 124 ) ، والطبراني في الكبير ( 7 / 290 ح 7163 ) .
(30) انظر الموقظة للذهبي ( ص 83 ) .
(31) البخاري ( 7405 ) ، ومسلم ( 2657 ) عن أبي هريرة .
(32) ما جاء في البدع ( ص 48 رقم 25 ) .
(33) مسلم ( 2701 ) عن معاوية .
(34) أخرجه أبو داود ( 3667 ) وهو في صحيح أبي داود ( 3114 ) .
(35) تفسير ابن أبي حاتم ( 3 / 1048 ) .
(36) تفسير ابن جرير ( 4 / 438 ح 12081 ) .
(37) تقريب التهذيب ( 401 ) .
(38) سير أعلام النبلاء ( 5 / 206 ) .
(39) البخاري ( 2 / 225 ، 226 ) ، ومسلم ( ح 392 ) في الصلاة ، وأبو داود ( ح 836 ) ، والنسائي ( 2 / 233 ) .
(40) المعجم الكبير ( قطعة من جزء 13 رقم 324 ) من طريق فضيل بن سليمان عن محمد بن أبي يحيى، وسنده ضعيف .
(41) انظر : تهذيب الكمال وحاشيته ( 23 / 274 ، 275 ) .
(42) عمل اليوم والليلة لابن السني ( ص 53 ) .
(43) تقريب التهذيب ( 193 ) .
(44) تحفة الأحوذي شرح الجامع للترمذي ( 1 / 246 ) .
(45) مصنف ابن أبي شيبة ( 1 / 337 ) .
(46) المحلى لابن حزم ( 4 / 261 ) .
(47) جامع الترمذي بشرح تحفة الأحوذي ( 1 / 299 ) ؛ ومسند أحمد ( 3 / 229 - 230 ) .
(48) جامع الترمذي بشرح تحفة الأحوذي ( 1 / 299 ) .
(49) تقريب التهذيب ( 1 / 317 / 3757 ) .(41/37)
(50) أخرجه البخاري تعليقاً مجزوماً به ( الفتح 2 / 534 ) ، وابن المنذر في الأوسط ( 4 / 299 / رقم 2197 ) والبيهقي في السنن الكبرى ( 3 / 312 ) . قال ابن حجر في الفتح ( 2 / 535 ): (( وصله سعيد بن منصور من رواية عبيد بن عمير ، ووصله أبو عبيد من وجه آخر بلفظ التعليق ، ومن طريقه البيهقي )) وذكر ابن حجر نفس الكلام في تغليق التعليق ( 2 / 379 ) .
(51) أخرجه البخاري تعليقاً مجزوماً به ( الفتح 2 / 534 ) . قال ابن حجر في الفتح ( 2 / 535 ) : (( وقد وصل هذا الأثر أبو بكر بن أبي الدنيا في كتاب العيدين )) .
(52) وهذه المصالح التي زعموها ذكرها الشاطبي في الاعتصام ( 1 / 461 ) وما بعدها .
(53) المرجع السابق ( 1 / 460 ) .
(54) القواعد والأصول الجامعة ( ص 25 ) .
(55) هذه من الحجج التي احتج بها بعض الناس في إثبات كثير من المحدثات . انظر : علم أصول البدع ص 246 .
(56) يعني الأثر الذي رواه الدارمي ، والذي فيه إنكاره الذكر الجماعي . وكذلك وردت آثار أخرى عنه ذكر فيها إنكاره الذكر الجماعي كما في البدع لابن وضاح .
(57) الحاوي للفتاوي ( 2 / 132 ) .
(58) الاعتصام ( 1 / 219 ) .
(59) الفتاوى الكبرى ( 2 / 467 ) .
(60) ما جاء في البدع لابن وضاح ( 54 ) ، وابن أبي شيبة في المصنف ( 8 / 558 ) . وسنده حسن .
(61) الدارمي ( 1 / 68 - 69 ) بإسناد جيد ، وابن وضاح في البدع ( ص 8 - 10 ، 11 ، 12 ، 13 ) من عدة طرق عن ابن مسعود . وابن الجوزي في تلبيس إبليس ( ص 16 - 17 ) ، وأورده السيوطي في الأمر بالاتباع ( ص 83 - 84 ) قال محقق كتاب ( الأمر بالاتباع ) للسيوطي : (( والأثر صحيح بمجموع طرقه )) .(41/38)
(62) العمالقة : الجبابرة الذين كانوا بالشام من بقية قوم عاد . ويقال لمن خدع الناس ويخلبهم : عملاق ، والعملقة : التعمق في الكلام . فشبَّه القصاص بهم لما في بعضهم من الكبر والاستطالة على الناس . أو بالذين يخدعونهم بكلامهم . وهو أشبه . قاله ابن الأثير في النهاية ( 3 / 301 ) .
(63) ابن وضاح في البدع والنهي عنها ( ص 32 رقم 32 ) ، وابن أبي شيبة في المصنف ( 8 / 559 ).
(64) كتاب الحوادث والبدع للطرطوشي ص 62 ، 63 - 68 .
(65) فتاوى الشاطبي ص ( 206 - 208 ) .
(66) أخرجه : البخاري ( 2697 ) ، ومسلم ( 1718 ) عن عائشة .
(67) أخرجه أبو داود ( 1332 ) وصححه الألباني في صحيح أبي داود ( 1183) وفي صحيح الجامع الصغير( 2639 ) ونسبه لأحمد والحاكم والبيهقي وابن خزيمة .
(68) الحلية ( 3 / 313 ) .
(69) الفتح ( 11 / 250 ) .
(70) تحفة الأحوذي ( 9 / 314 ) .
(71) مجمع الفتاوى ( 11 / 533 ) .
(72) أي التي تدل على فضل مجالس الذكر والاجتماع عليه .
(73) الحوادث والبدع ص 166 .
(74) انظر : الاعتصام للشاطبي ( 1 / 461 ) بتصرف .
(75) الاعتصام ( 1 / 460 ) .
(76) علم أصول البدع ص 246 .
(77) ما جاء في البدع ( ص 400 وما بعدها ) رقم ( 9،17،18،19،20 ،23 ) .
(78) الأمر بالاتباع والنهي عن الابتداع ( ص 83 ) .
(79) البدع المنكرة ( ص 47 ) .
(80) المصدر السابق ( ص 47 - 48 ) .
(81) المصدر السابق ( ص 48 - 49 ) .
(82) بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع ( 1 / 196 ) .
(83) أخرجه الإمام أحمد في المسند ( 3 / 44 ) ، وأبو يعلى في مسنده ( 2 / 81 ) ( 731 ) ، وابن حبان في صحيحه ( 3 / 91 ) ( 809 ) ، وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد ( 10 / 81 ) وقال : (( رواه أحمد وأبو يعلى ، وفيه محمد بن عبد الرحمن بن لبيب ، قد وثقه ابن حبان ... وضعفه ابن معين وبقية رجاله رجال الصحيح )) .
(84) تحفة الأحوذي شرح الجامع للترمذي ( 1 / 246 ) .(41/39)
(85) الدر الثمين والمورد المعين ، للشيخ محمد بن أحمد ميارة المالكي ( ص 173 ، 212 ) .
(86) الاعتصام ، للشاطبي ( 2 / 275 ) ، بتصرف .
(87) الأم ، للشافعي ( 1 / 111 ) .
(88) المجموع للنووي ( 3 / 465 - 469 ) .
(89) كتاب التحقيق للنووي ( 219 ) . كمال في كتاب مسك الختام ( 137 - 141 ) .
(90) المغني لابن قدامة ( 2 / 251 ) .
(91) مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ( 22 / 515 ) .
(92) تفسير الطبري ( 12 / 628 - 629 ) .
(93) تفسير ابن أبي حاتم ( 10 / 3446 ) .
(94) تفسير السمعاني ( 6 / 252 ) ، ط دار الوطن .
(95) تفسير القرطبي ( 20 / 74 ) ، ط دار الكتب العلمية .
(96) تفسير ابن الجوزي ( 9 / 166 ) ، ط المكتب الإسلامي .
(97) تفسير ابن كثير ( 4 / 497 ) ، ط دار الكتب العلمية .
(98) تفسير الشوكاني ( 5 / 462 ) ، ط دار الوفاء .
(99) تيسير الكريم الرحمن ( 859 ) ، ط مؤسسة الرسالة .
(100) الترمذي ( 5 / 526 / ح 3499 ) ، وأبو داود ( 2 / 25 ) .
(101) الآداب الشرعية ( 2 / 75 ) .
(102) الاعتصام ( 4 / 318 ) .
(103) إصلاح المساجد للقاسمي ( ص 111 ) .
(104) إصلاح المساجد للقاسمي ( ص 111 ) .
(105) الدرر السنية ( 4 / 356 ) .
(106) ( 4 / 358 ) .
(107) ( 4 / 359 ) .
(108) ( 4 / 318 ) .
(109) الإرشاد إلى صحيح الاعتقاد ( ص 389 ) .
(110) الاعتصام للشاطبي ( 2 / 23 ) .
(111) الاقتضاء ( 304 ) .
(112) الاقتضاء ( 304 ) .
(113) الفتاوى الكبرى المصرية ( 1 / 188 ) ، مجموع الفتاوى ( 22 / 492 ) ، اقتضاء الصراط المستقيم ( 203 )
المصادر والمراجع
1- إصلاح المساجد ، للقاسمي . ط المكتب الإسلامي ، بيروت .
2- اقتضاء الصراط المستقيم ، لابن تيمية . ط بيروت ، ت : محمد حامد الفقي ، وطبعة أخرى
تحقيق : د. ناصر العقل .
3- الآداب الشرعية ، لابن مفلح . ط بيروت .
4- الإبداع في مضار الابتداع ، لعلي محفوظ . ط دار الاعتصام بمصر .(41/40)
5- الإرشاد إلى صحيح الاعتقاد ، لصالح الفوزان . ط دار العاصمة ، الرياض .
6- الاعتصام ، للشاطبي . ط بيروت .
7- الأمر بالاتباع والنهي عن الابتداع ، للسيوطي . ط دار ابن القيم ، الدمام ، وطبعة أخرى مصرية .
8- الأم ، للشافعي . ط دار الشروق ، بيروت .
9- الأوسط ، لابن المنذر . ط دار طيبة ، الرياض .
10-بدائع الصنائع ، للكاساني . ط دار الكتاب العربي ، بيروت .
11-البداية والنهاية ، لابن كثير . ط مكتبة المعارف ، بيروت .
12-البدع المنكرة ، د. وهبة الزحيلي . ط دمشق .
13-تاريخ الأمم والملوك ، للطبري . دار سويدان ، بيروت .
14-تحفة الأحوذي ، للمباركفوري . ط دار الكتاب العربي .
15-تفسير القرآن العظيم ، لابن كثير . ط دار الفكر .
16-تقديس الأشخاص في الفكر الصوفي لمحمد أحمد نوح . ط دار الهجرة بالدمام .
17-تقريب التهذيب ، لابن حجر . ط دار الرشيد ، وط دار المعرفة .
18-تيسير الكريم المنان ، السعدي . ط السعيدية ، وط الرسالة .
19-التحقيق والإيضاح لكثير من مناسك الحج والعمرة ، لعبد العزيز بن باز . ط الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية ، الرياض .
20-الجامع الصحيح ( سنن الترمذي ) . ط دار الكتب العلمية .
21-الجرح والتعديل ، لابن أبي حاتم . ط دار الكتب العلمية .
22-حلية الأولياء ، لأبي نعيم الاصبهاني . ط دار الكتب العلمية .
23-الحاوي للفتاوي ، للسيوطي . ط المكتب الإسلامي .
24-الحوادث والبدع . ط دار الراية بالرياض .
25-دراسات في الأهواء ، د. ناصر العقل ، ط دار الوطن .
26-الدر الثمين والمورد المعين ، لمحمد بن أحمد ميارة المالكي .
27-الدرر السنية ، جمع ابن قاسم . ط بيروت .
28-سير أعلام النبلاء ، للذهبي . ط مؤسسة الرسالة .
29-السنن ، لابن ماجه . ط دار الفكر العربي .
30-السنن ، لأبي داود . ط دار الكتاب العربي ، وط دار الحديث ، سوريا .
31-السنن ، للدارمي . ط بيروت .(41/41)
32-السنن ، والمبتدعات للشقيري . ط القاهرة .
33-السنن الكبرى ، البيهقي . ط دار المعرفة ، بيروت .
34-صحيح البخاري ، للبخاري . ط مصطفى البغا .
35-صحيح سنن ابن ماجة ، الألباني . ط مكتب التربية العربي .
36-صحيح سنن أبي داود ، الألباني . ط مكتب التربية العربي .
37-صحيح مسلم ، لمسلم بن الحجاج . ط الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية ، الرياض .
38-علم أصول البدع ، علي عبد الحميد . ط دار الراية ، الرياض .
39-عمل اليوم والليلة ، لابن السني . ت: أبي محمد السلفي ، ط دار المعرفة ، بيروت .
40-عون المعبود ، لشمس الحق العظيم آبادي . ط مكتبة ابن تيمية ، القاهرة .
41-فتاوى الشيخ محمد رشيد رضا . ط بيروت .
42-فتح الباري بشرح صحيح البخاري ، لابن حجر العسقلاني . ط السلفية ، وط الريان .
43-الفتاوى الإسلامية ، لابن عثمين . ط دار الوطن .
44-الفتاوى الكبرى المصرية ، لابن تيمية . ط دار المعرفة .
45-الفتوحات الربانية ، لابن علان . ط دار إحياء التراث ، بيروت .
46-القاموس المحيط ، للفيروزآبادي . ط مؤسسة الرسالة ، بيروت .
47-القواعد والأصول الجامعة ، للسعدي . ط بيروت .
48-كتاب التحقيق ، للنووي . ط بيروت .
49-كتاب الضعفاء والمتروكين ، للنسائي . ط مؤسسة الكتب الثقافية ، وط دار القلم .
50-الكتاب المصنف ، لابن أبي شيبة . ط الدار السلفية ، الهند ، وط بيروت .
51-لسان العرب ، لابن منظور . ط المؤسسة المصرية العامة للتأليف . وط دار صادر .
52-لسان الميزان ، لابن حجر . ط مؤسسة الأعلمي للمطبوعات ، بيروت .
53-اللؤلؤ والمرجان . ط دار الحديث ، القاهرة .
54-ما جاء في البدع ، لابن وضاح . تحقيق : البدر ، ط دار الصميعي ، وط دار الكتب العلمية .
55-مجموع فتاوى شيخ الإسلام ، لابن تيمية . ط مؤسسة الرسالة .
56-مسك الختام في الذكر والدعاء بعد السلام، لأحمد بن سعيد الأنبالي، دار ابن حزم ، بيروت .(41/42)
57-مناسك الحج والعمرة ، للألباني . ط بيروت .
58-ميزان الاعتدال ، للذهبي . ط دار المعرفة ، بيروت .
59-المجموع ، للنووي . ط مكتبة ابن تيمية .
60-المحلى ، لابن حزم . ط دار الآفاق الجديدة .
61-المسند ، للإمام أحمد بن حنبل . ط المكتب الإسلامي .
62-المغني ، لابن قدامة . ط دار هجر بمصر .
63-المفردات ، للراغب . ط دار المعرفة ، بيروت ، وطبعة أخرى .
64-الموسوعة الفقهية . ط وزارة الأوقاف والشئون الإسلامة ، الكويت .(41/43)
الرد على بن عربي
شيخ الإسلام بن تيمية
جامع الرسائل
رسالة في الرد على ابن عربي في دعوى إيمان فرعون.
هذا سؤال أجاب عنه الشيخ الإمام العلامة الأوحد شيخ الإسلام تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبدالحليم بن عبدالسلام بن عبد الله بن أبي القاسم بن محمد بن تيمية الحراني.
بسم الله الرحمن الرحيم وبه التوفيق
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم.
ما تقول السادة العلماء رضي الله عنهم في قول فرعون عند الغرق آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين سورة يونس 90 هل فيه دليل على إيمانه وإسلامه وما يجب على من يقول إنه مات مؤمنا والحالة هذه
الجواب
الحمد لله
كفر فرعون وموته كافرا وكونه من أهل النار هو مما علم بالإضطرار من دين المسلمين بل ومن دين اليهود والنصارى فإن أهل الملل الثلاثة متفقون على أنه من أعظم الخلق كفرا ولهذا لم يذكر الله تعالى في القرآن قصة كافر كما ذكر قصته في بسطها وتثنيتها ولا ذكر عن كافر من الكفر أعظم مما ذكر من كفره واجترائه وكونه أشد الناس عذابا يوم القيامة(42/1)
ولهذا كان المسلمون متفقين على أن من توقف في كفره وكونه من أهل النار فإنه يجب أن يستتاب فإن تاب وإلا قتل كافرا مرتدا فضلا عمن يقول إنه مات مؤمنا والشك في كفره أو نفيه أعظم منه في كفر أبي لهب ونحوه وأعظم من ذلك في أبي جهل وعقبة بن أبي معيط والنضر بن الحارث ونحوهم ممن تواتر كفرهم ولم يذكر باسمه في القرآن وإنما ذكر ما ذكر من أعمالهم ولهذا لم يظهر عن أحد بالتصريح بأنه مات مؤمنا إلا عمن فيه من النفاق والزندقة أو التقليد للزنادقة والمنافقين ما هو أعظم من ذلك كالإتحادية الذين يقولون إن وجود الخالق هو وجود الخلق حتى يصرحون بأن يغوث ويعوق ونسرا وغيرها من الأصنام هي وجودها وجود الله وأنها عبدت بحق وكذلك العجل عبد بحق وأن موسى أنكر على هارون من نهيه عن عبادة العجل وأن فرعون كان صادقا في قوله أنا ربكم الأعلى وأنه عين الحق وأن العبد إذا دعا الله تعالى فعين الداعي عين المجيب وأن العالم هويته ليس وراء العالم وجود أصلا(42/2)
ومعلوم أن هذا بعينه هو حقيقة قول فرعون الذي قال يا هامان ابن لي صرحا لعلي أبلغ الأسباب أسباب السموات فأطلع إلى إله موسى وإني لأظنه كاذبا سورة غافر 35 36 ولقد خاطبت بعض الفضلاء مرة بحقيقة مذهبهم وأنه حقيقة قول فرعون فذكر لي رئيس من رؤسائهم أنه لما دعاه إلى هذا القول وبينه قال قلت له هذا قول فرعون فقال له ونحن على قول فرعون وما كنت أظن أنهم يقرون أو يعترفون بأنهم على قول فرعون قال إنما قلت ذلك استدلالا فلما قال ذلك قلت له مع إقرار الخصم لا يحتاج إلى بينة وهم مع هذا الكفر والتعطيل الذي هو شر من قول اليهود والنصارى يدعون أن هذا العلم ليس إلا لخاتم الرسل وخاتم الأولياء الذي يدعونه وأن خاتم الأنبياء إنما يرى هذا العلم من مشكاة خاتم الأولياء وأن خاتم الأولياء يأخذ من المعدن الذي يأخذ منه الملك الذي يوحى به إلى خاتم الأنبياء وهو في الشرع مع موافقته له في الظاهر مشكاة له في الباطن ولا يحتاج أن يكون متبعا للرسول لا في الظاهر ولا في الباطن وهذا مع أنه من أقبح الكفر وأخبثه فهو من أفسد الأشياء في العقل كما يقال لمن قال فخر عليهم السقف من تحتهم لا عقل ولا قرآن لأن الخرور لا يكون من أسفل وكذلك الإستفادة إنما يستفيد المتأخر من المتقدم ثم خاتم الأولياء الذين يدعونهم ضلالهم فيه من وجوه حيث ظنوا أن للأولياء خاتما وأن يكون أفضلهم قياسا على خاتم الأنبياء ولم يعلموا أن أفضل الأولياء من هذه الأمة أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وهم السالفون من الأولياء لا الآخرون إذ فضل الأولياء على قدر اتباعهم للأنبياء واستفادتهم منهم علما وعملا وهؤلاء الملاحدة يدعون أن الولي يأخذ من الله بلا واسطة والنبي يأخذ بواسطة وهذا جهل منهم فإن الولي عليه أن يتبع النبي ويعرض كل ما له من محادثة وإلهام على ما جاء به النبي فإن وافقه وإلا رده إذ ليس هو بمعصوم فيما يقضي له وقد يلبسون على بعض الناس بدعواهم أن ولاية النبي أفضل من(42/3)
نبوته وهذا مع أنه ضلال فليس هو مقصودهم فهم مع ضلالهم فيما ظنوه من خاتم الأولياء ومرتبته يختلفون في عينه بحسب الظن وما تهوى الأنفس لتنازعهم في تعيين القطب الفرد الغوث الجامع ونحو ذلك من المراتب التي يدعونها وهي معلومة البطلان بالشرع والعقل ثم يتنازعون في عين الموصوف بها وهذا باب واسع والمقصود هنا أن هؤلاء الإتحادية من أتباع صاحب فصوص الحكم وصاحب الفتوحات المكية ونحوهم هم الذين يعظمون فرعون ويدعون أنه مات مؤمنا وأن تغريقه كان بمنزلة غسل الكافر إذا أسلم ويقولون ليس في القرآن ما يدل على كفره ويحتجون على إيمانه بقوله حتى إذا أدركه الغرق قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين سورة يونس 90 وتمام القصة تبين ضلالهم فإنه قال سبحانه آلآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين سورة يونس 91 وهذا استفهام إنكار وذم ولو كان إيمانه صحيحا مقبولا لما قيل له ذلك وقد قال موسى عليه السلام ربنا إنك آتيت فرعون وملأه زينة وأموالا في الحياة الدنيا ربنا ليضلوا عن سبيلك ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم سورة يونس 88 قال الله تعالى قد أجيبت دعوتكما سورة يونس 89 فاستجاب الله دعوة موسى وهارون فإن موسى كان يدعو وهارون يؤمن أن فرعون وملأه لا يؤمنون حتى يروا العذاب الأليم وقد قال تعالى أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أكثر منهم وأشد قوة وآثارا في الأرض فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون فلما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم وحاق بهم ما كانوا به يستهزءون فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا سنة الله التي قد خلت في عباده وخسر هنالك الكافرون سورة غافر 82 85 فأخبر سبحانه وتعالى أن الكفار لم يك ينفعهم إيمانهم حين رأوا البأس وأخبر أن هذه سنته التي قد خلت(42/4)
في عباده ليبين أن هذه عادته سبحانه في المستقدمين والمستأخرين كما قال سبحانه وتعالى وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن ولا الذين يموتون وهم كفار سورة النساء 18 ثم إنه سبحانه وتعالى قال بعد قوله آلآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية سورة يونس 91 92 فجعله الله تعالى عبرة وعلامة لمن يكون بعده ن الأمم لينظروا عاقبة من كفر بالله تعالى ولهذا ذكر الله تعالى الإعتبار بقصة فرعون وقومه في غير موضع وقد قال سبحانه وتعالى كذبت قبلهم قوم نوح وأصحاب الرس وثمود وعاد وفرعون وإخوان لوط وأصحاب الأيكة وقوم تبع كل كذب الرسل فحق وعيد سورة ق 12 14 فأخبر سبحانه أن كل واحد من هؤلاء المذكورين فرعون وغيره كذب الرسل كلهم إذ لم يؤمنوا ببعض ويكفروا ببعض كاليهود والنصارى بل كذبوا الجميع وهذا أعظم أنواع الكفر فكل من كذب رسولا فقد كفر ومن لم يصدقه ولم يكذبه فقد كفر فكل مكذب للرسول كافر به وليس كل كافر مكذبا به إذ قد يكون شاكا في رسالته أو عالما بصدقه لكنه يحمله الحسد أو الكبر على ألا يصدق وقد يكون مشتغلا بهواه عن استماع رسالته والإصغاء إليه فمن وصف بالكفر الخاص الأشد كيف لا يدخل في الكفر ولكن ضلالهم في هذا نظير ضلالهم في قوله مقام النبوة في برزخ * فويق الرسول ودون الولي وقد علم أن كل رسول نبي وكل نبي ولي ولا ينعكس وقال سبحانه وتعالى كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وفرعون ذو الأوتاد وثمود وقوم لوط وأصحاب الأيكة أولئك الأحزاب إن كل إلا كذب الرسل فحق عقاب سورة ص 12 14 وقال تعالى وجاء فرعون ومن قبله والمؤتفكات بالخاطئة فعصوا رسول ربهم فأخذهم أخذة رابية سورة الحاقة 9 10 .(42/5)
ثم إن الله تعالى أخبر عن فرعون بأعظم أنواع الكفر من جحود الخالق ودعواه الإلهية وتكذيب من يقر بالخالق سبحانه ومن تكذيب الرسول ووصفه بالجنون والسحر وغير ذلك ومن المعلوم بالإضطرار أن الكفار العرب الذين قاتلهم النبي صلى الله عليه وسلم مثل أبي جهر وذريته لم يكونوا يجحدون الصانع ولا يدعون لأنفسهم الإلهية بل كانوا يشركون بالله ويكذبون رسوله وفرعون كان أعظم كفرا من هؤلاء قال الله تعالى ولقد أرسلنا موسى بآياتنا وسلطان مبين إلى فرعون وهامان وقارون فقالوا ساحر كذاب فلما جاءهم بالحق من عندنا قالوا اقتلوا أبناء الذين آمنوا معه واستحيوا نساءهم وما كيد الكافرين إلا في ضلال وقال فرعون ذروني أقتل موسى وليدع ربه إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد وقال موسى إني عذت بربي وربكم من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم سورة غافر 23 28 إلى قوله وقال فرعون يا هامان ابن لي صرحا لعلي أبلغ الأسباب أسباب السموات فأطلع إلى إله موسى وإني لأظنه كاذبا وكذلك زين لفرعون سوء عمله وصد عن السبيل وما كيد فرعون إلا في تباب سورة غافر 36 37 أخبر الله سبحانه وتعالى أن فرعون ومن ذكر معه قال إن موسى ساحر كذاب وهذا من أعظم أنواع الكفر ثم أخبر الله أنه أمر بقتل أولاد الذين آمنوا معه لينفروا عن الإيمان معه كيدا لموسى قال تعالى وما كيد الكافرين إلا في تباب سورة غافر 37 فدل على أنهم من الكافرين الذين كيدهم في تباب فوصفهم بالتكذيب وبالكفر جميعا وإن كان التكذيب مشتملا مستلزما للكفر كما أن الرسالة مستلزمة للنبوة والنبوة مستلزمة للولاية ثم أخبر عن فرعون أنه طلب بقتل موسى وقال وليدع ربه وهذا تنبيه على أنه لم يكن مقرا بربه ولهذا قال في تمام الكلام ما علمت لكم من إله غيري سورة القصص 38 وهذا جحد صريح لإله العالمين وهي الكلمة(42/6)
الأولى ثم قال بعد ذلك لما ذكره الله تعالى بقوله فكذب وعصى ثم أدبر يسعى فحشر فنادى فقال أنا ربكم الأعلى سورة النازعات 21 24 قال الله تعالى فأخذه الله نكال الآخرة والأولى إن في ذلك لعبرة لمن يخشى سورة النازعات 25 26 قال كثير من العلماء أي نكال الكلمة الآخرة ونكال الكلمة الأولى فنكل الله تعالى به على الكلمتين باعترافه وجعل ذلك عبرة لمن يخشى ولو كان هذا ممن لم يعاقب على ما تقدم من كفره ولم يكن عقابه عبرة بل من آمن غفر الله له ما سلف ولم يذكره بكفر ولا بذم أصلا بل يمدحه على إيمانه ويثني عليه كما أثنى على من آمن بالرسل وأخبر أنه نجاهم وفرعون هو أكثر الكفار ذكرا في القرآن وهو لا يذكره سبحانه إلا بالذم والتقبيح واللعن ولم يذكره بخير قط وهؤلاء الملاحدة المنافقون يزعمون أنه مات طاهرا مطهرا ليس فيه شيء من الخبث بل يزعمون أن السحرة صدقوه في قوله ما علمت لكم من إله غيري وأنه صح قوله أنا ربكم الأعلى وأنه كان عين الحق وقد أخبر سبحانه وتعالى عن جحوده لرب العالمين قال لما قال له موسى عليه السلام إني رسول من رب العالمين حقيق على أن لا أقول على الله إلا الحق قد جئتكم ببينة من ربكم فأرسل معي بني إسرائيل سورة الأعراف 104 105 قال فرعون وما رب العالمين قال رب السموات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين قال لمن حوله ألا تستمعون قال ربكم ورب آبائكم الأولين قال إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون قال رب المشرق والمغرب إن كنتم تعقلون قال لئن اتخذت إلها غيري لأجعلنك من المسجونين سورة الشعراء 23 29 فتوعد موسى بالسجن إن اتخذ إلها غيره وهؤلاء مع تنظيمهم لفرعون يشاركون في حقيقة كفره وإن كانوا مفارقين له من جهة أخرى فإن عندهم ما ثم موجود غير الله أصلا ولا يمكن أحد أن يتخذ إلها غيره لأنه أي شيء عبد العابد من الأوثان والأصنام والشياطين فليست عندهم غير الله أصلا وهل يقال هي الله لهم في ذلك قولان وإخباره سبحانه(42/7)
وتعالى عن تكذيب فرعون وغير ذلك من أنواع كفره كثير في القرآن وكذلك إخباره عن عذابه في الآخرة فإن هؤلاء الملاحدة يزعمون أنه ليس في القرآن آية تدل على عذابه ويقولون إنما قال سبحانه يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم النار وبئس الورد المورود سورة هود 98 قالوا فأخبر أنه يوردهم ولم يذكر أنه دخل معهم قالوا وقد قال أدخلوا آل فرعون أشد العذاب سورة غافر 46 فإنما يدخل النار آل فرعون لا فرعون وهذا من أعظم جهلهم وضلالهم فإنه حيث ذكر في الكتاب والسنة آل فلان كان فلان داخلا فيهم كقوله إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين سورة آل عمران 33 وقوله إلا آل لوط نجيناهم بسحر سورة القمر 34 وقوله سلام على إل ياسين سورة الصافات 130 وقول النبي صلى الله عليه وسلم اللهم صل على آل أبي أوفى وقوله لقد أوتي هذا مزمارا من مزامير آل داود .(42/8)
ومنه قوله تعالى وإذ نجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب سورة البقرة 49 كدأب آل فرعون سورة آل عمران 11 ولقد جاء آل فرعون النذر كذبوا بآياتنا كلها فأخذناهم أخذ عزيز مقتدر سورة القمر 41 42 وقوله أدخلوا آل فرعون أشد العذاب سورة غافر 46 متناول له ولهم باتفاق المسلمين وبالعلم الضروري من دين المسلمين وهذا بعد قوله تعالى حكاية عن مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله سورة غافر 28 والذي طلب قتله هو فرعون فقال المؤمن بعد ذلك مالي أدعوكم إلى النجاة وتدعونني إلى النار تدعونني لأكفر بالله وأشرك به سورة غافر 41 42 والداعي إلى الكفر هو كافر كفرا مغلظا فهذا فيه ووصفهم أيضا بالكفر إلى قوله فوقاه الله سيئات ما مكروا وحاق بآل فرعون سوء العذاب النار يعرضون عليها غدوا وعشيا ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب سورة غافر 45 46 فأخبر أنه حاق بآل فرعون سوء العذاب ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب ثم قال وإذ يتحاجون في النار فيقول الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعا فهل أنتم مغنون عنا نصيبا من النار قال الذين استكبروا إنا كل فيها إن الله قد حكم بين العباد سورة غافر 47 48 ومعلوم أن فرعون هو أعظم الذين استكبروا ثم هامان وقارون وأن قومهم كانوا لهم تبعا وفرعون هو متبوعهم الأعظم الذي قال ما علمت لكم من إله غيري وقال أنا ربكم الأعلى وقد قال واستكبر هو وجنوده في الأرض بغير الحق وظنوا أنهم إلينا لا يرجعون فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم فانظر كيف كان عاقبة الظالمين وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار ويوم القيامة لا ينصرون وأتبعناهم في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة هم من المقبوحين سورة القصص 39 42وهذا تصريح بأنه نبذه وقومه في اليم عقوبة الذي هو الكفر وأنه أتبعه وقومه في الدنيا لعنة ويوم القيامة هم من المقبوحين هو وقومه جميعا وهذا موافق لقوله ولقد أرسلنا موسى بآياتنا(42/9)
وسلطان مبين إلى فرعون وملإه فاتبعوا أمر فرعون وما أمر فرعون برشيد يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم النار وبئس الورد المورود وأتبعوا في هذه لعنة ويوم القيامة بئس الرفد المرفود سورة هود 96 99.
فأخبر سبحانه أنهم اتبعوا أمره وأنه يقدمهم لأنه إمامهم فيكون قادما لهم لا سائقا لهم وأنه يوردهم النار فإذا كان التابع قد ورد النار فمعلوم أن القادم الذي يقدمه وهو متبوعه ورد قبله ولهذا قال بعد ذلك وأتبعناهم في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة هم من المقبوحين سورة القصص 42.(42/10)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، وصلى الله وسلم على نبيِّنا محمَّد ، وعلى آله ، وصحبه أجمعين
وبعد
أخي العزيز
وصلتنى رسالتكم ، والحمد لله أنَّكم متمتِّعون بالصحة الجيدة ، وأنَّكم مستمرون في الدراسة ، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يعينكم ، وأنْ تعودوا إلى أهلكم ، وبلادكم ، وأنتم في أحسن حال.
والذي دفعني إلى هذه الرسالة الشفوية إليكم : هو ما كتبتم لي من السؤال عن ما وقع عندنا هنا في المملكة من فتنة أثارها المدعو محمد علوي مالكي ؛ وتقول لي : إن "حوار مع المالكي" الذي ألَّفه الشيخ عبد الله بن سليمان بن منيع وصلكم ، وقد استفدتم منه ، وتعجبتم ، أو بتعبيركم "ذهلتم" من هذه الأمور ، وهذه الشركيات ، وهذه المنكرات ، وكيف أن هذا الرجل يرتكبها ، ولكن - كما تقولون – وصلكم كتاب ؛ بل بالأحرى عدة كتب أهمها : كتاب "الرد على بن منيع" الذي ألَّفه يوسف هاشم الرفاعي الكويتي ، وتقول أيضاً : أنَّه وصلكم أخيراً كتابان ألَّف أحدَهما رجلٌ من البحرين سماه "إعلام النبيل" ، والثاني : ألَّفه اثنان من المغاربة وسمَّياه "التحذير من الاغترار بما جاء في كتاب الحوار" ، وتطلب مني باعتباري – كما ذكرتَ – متخصِّصاً في العقيدة ، ومقيماً هنا في البلاد ؛ بأن أكتب إليك مرئياتي عن هذا الموضوع ، وعن حقيقة الخلاف بيننا وبين الصوفية ، وهل الصوفية تعتبر هي أهل السنة والجماعة كما يزعم هؤلاء ؟ وبقية الأسئلة التي - إن شاء الله - سآتي عليها من خلال هذه الرسالة .(43/1)
فأنا - يا أخي - أعتذر لك عن الكتابة ؛ لأنَّ مطلبك هذا الذي طلبتَه أن أكتبه ؛ يحتاج إلى رسالةٍ ، وكما تعلم أنني مشغول جداً برسالتي التي أحضِّرها الآن ، فكيف أستطيع أن أكتب لك رسالة أخرى عن التصوف ، ونشأته ، وعن الخلاف بيننا وبين أهله !! هذا كلامٌ طويلٌ جدّاً ، ونحن أحوج ما نكون إلى المنهج العلمي ، التفصيلي ، الذي ينبني على الأدلَّة ، والذي يتثبت ، والذي ينقل مِن كتب هؤلاء القوم ، ويتتبع أصول هذه الفرق جميعاً ليردَّ عليها ردّاً علميّاً ، صحيحاً ، سليماً ، وهذا يتطلب جهداً كبيراً ، وأمَّا مجرد خطبة عابرة ، أو نقد عابر ؛ فهذا من الممكن أن يكون في وريقات ، لكن الذي أراه أنَّنا – نحن – أمام هجمة صوفيَّة شديدة .
وكما ذكرتم لي سابقاً - عندكم في أمريكا - تلاحظون أنَّ التصوف بدأ ينتشر ، وبدأ كمحاولة للصدِّ عن سبيل الله تعالى ! أي أنَّ الأمريكي الذي يريد الدخول في الإسلام يقال له : ادخل في هذا الدين ! فيدخل في التصوف ، فيُحرم المسلمون منه ، وربما ينفرون! - كما حدثْتني عن بعضهم - لأنَّه إذا رأى ما في التصوف مِن الخرافات ؛ ينفر مِن الإسلام نهائيّاً وينفِّر غيره ، ويقول لهم : خرافات النصرانيَّة أخفُّ مِن خرافات الإسلام، وهذا - والعياذ بالله – مِن صور الصدِّ عن سبيل الله .
ولاشك - يا أخي - لديَّ أنَّ وراء ذلك مؤامرات يحيكها أعداء الإسلام من اليهود ، والنَّصارى ، مستغلِّين هؤلاء الصوفيَّة الذين كثيرٌ منهم زنادقة متسترون يريدون هدم الإسلام مِن الداخل ، وعندما أقول ذلك لا تفهم منِّي أنَّني أقول إنَّ كلَّ مَن يحضر المولد زنديق ! أو كل مَن يحب الطرق الصوفية زنديق ! .(43/2)
ليس هذا هو المقصود ، المخدوعون كثيرٌ بالدعوات ، ولكن نحن نتحدث عن التصوف كفكرة ، وكعقيدة لها جذورها القديمة ، ولها فلسفاتها المستقلة ، ونتحدث كيف دخلتْ في الإسلام ، وكيف خُدع بها أكثر هذه الأمة ، فالذي نحكم عليه هي الصوفيَّة ، وأنتم تعرفون "الثيوصوفية" .
"الثيوصوفية"، هذه التي في أمريكا ، والتي عرَّفها صاحب المورد العربي الإنجليزي زهير بعلبكي بأنَّها فرقة حديثة ، نشأت في الولايات المتحدة الأمريكية ، وليست في الحقيقة حديثة بالمعنى الذي ذكره "المورد" ، "الثيوصوفية" قديمة ، وسأتحدث عنها - إن شاء الله- عندما أبدأ بموضوع "نشأة التصوف".
لكن بخصوص سؤالكم أنت وزملائكم في المركز ، وبعض إخوانكم في الله من المسلمين في أمريكا عن حقيقة ما جرى مِن هذه المشكلة ، وعن موقف هؤلاء الذي دافعوا عن المالكي بخرافاته ، وهو أنَّهم كثيرون -كما تقولون - .(43/3)
أقول لكم - يا أخي - : ما جرى مع المالكي ليس في حاجةٍ إلى أن يدافع عنه أحد على الإطلاق، لأنَّ المسألة : مسألة اعتراف وإقرار ، والاعتراف هو سيِّد الأدلة ، هذه حقيقة معروفة ، فمحمد علوي المالكي اعترف هو بنفسه في محضرٍ رسمي أمام الشيخ عبد الله بن حميد رحمه الله ، والشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله ، ورئيس الحرمين ، وكُتب هذا الاعتراف في محضرٍ رسميٍّ ، والمعاملات محفوظة ، ولدى الإفتاء ، ولدى مجلس القضاء الأعلى، ولدى شئون الحرمين ، معاملات ، وصور ، وملفات لهذه القضية ، فيها اعترافات الرجل ، الرجل معترف بأنه ألَّف "الذخائر" ، وكتاب "الذخائر" ليس هو الذي ألَّفه ؛ لانَّ كتاب "الذخائر" عندي ، ومذكور فيه – وأنا الآن أفتحه أمامي– ما يدل على أنَّ هذا الكتاب مِن تأليف والده في صفحة 33 منه ؛ لأنَّه يقول إنَّه سافر إلى المدينة ، واطلع على المخطوط عام 1354هـ ، فهذا على ما هو معروف من عُمُر محمد علوي مالكي أنَّه لم يكن قد ولد في تلك الفترة ، أو على أكثر تقدير أنَّه مازال طفلاً ؛ فالذي كتبه إذاً هو أبوه ، المهمُّ أنَّه اعترف بأنَّه ألَّف هذا الكتاب ، وأنَّه له ، وما فيه من الأمور الشركية : يقول : إنَّني نقلتُها عن غيري ، وأخطأتُ ! وفاتني أن أنبِّه على أنَّها شركٌ - يمكنك مراجعة صفحة (12) ، وصفحة (13) من كتاب الحوار للشيخ ابن منيع - .
فما دام الرجل اعترف ، ومادام المتهم المجرم الجاني اعترف ، فما الدَّاعي إلى أن يأتي أحدٌ ويدافع عنه، ممكن ادَّعى الإكراه !!؟ كان ينبغي ويجب عليه أن يبين ، وأن يقول : أنا أُكرهت على ذلك ، وأن ينشر ذلك في داخل المملكة ، أو في خارجها ، أو يقوله للنَّاس إذا جلس معهم .(43/4)
أمَّا نحن فكما تعلم كم يُقطع من الرقاب في الحدود ، عندما تقطع رقاب ، أو أيدي ، أو يُجلد ، بناء على الإقرار أمام قاضي عادي في محكمةٍ شرعيَّةٍ من المحاكم في المملكة ؟ فينفَّذ الحدُّ على المجرم بإقراره أمام هذا القاضي ، ربما يكون قاضي حديث العهد ، خرِّيج كليَّة ، فما بالك برئيس مجلس القضاء الأعلى !؟ وبرئيس الإدارات العلمية ، والبحوث ، والإفتاء !؟ وبرئيس الحرمين الشريفين !؟ ومَن حضر معهم مِن العلماء – وهم كبار العلماء في المملكة - !؟.
هل يخطر ببالكم – يا أخي – أنَّ هؤلاء العلماء يتواطئون جميعاً ، ويتفقون على أن يفتروا على الرجل محضَراً ، وينسبوا إليه فيه أنَّه اعترف ، وأنَّه أقر أنَّ هذا شرك !؟ كيف يمكن هذا وهُم سجَّلوا عليه اعترافه ، وهم ليسوا محل التهمة ، وليس هناك مِن داعٍ لأن يظلموه!؟ ولو أنَّه أنكر تأليف الكتاب بالمرَّة لقالوا ذلك ، كما ذكروا أنَّه أنكر كتاب "أدعية وصلوات" – مثلاً - ، ذكروا أنَّه أنكره في هذا المحضر ، والمحضر أصبح الآن وثيقة تاريخية .
هذه الإدارات الثلاثة بالإضافة إلى مجلس الوزراء ؛ تحتفظ – جميعاً – بطبيعة الحال بأرقام لهذا المحضر وبملفات له .
فمَن اعترف ، ومَن أقر بأنَّ هذه الأمور شركٌ لا يحقُّ له - فضلاً عن أحدٍ من اتباعه الذين يعيشون في المغرب ، أو في البحرين ، أو في الكويت ، أو غيره - أن يدافع عنه ، أو أن يقول إنَّه مظلوم ، أو أن يتنحَّل له العلل ، والمعاذير - هذا بالنسبة له في ذاته -.
القضية الأخرى : قد تكون قضية جزئيَّة ، أو فرعيَّة ، لكنَّها مهمَّة من ناحية أخرى ، وهى قضية نسب الرجل !!
تقولون : أنَّه ما كان ينبغي للشيخ ابن منيع أن يشكك في نسب الرجل !(43/5)
أنا أقول لكم - يا أخي - : أنتم تعرفون الوضع عندنا هنا ، تعرفون الأشراف المقيمين عندنا في الحجاز ، وتعرفون كم مِن الأُسَر يتبرأ منها الأشراف الموجودون حاليّاً في مكة ، يتبرؤون مِن أُسَرٍ كثيرةٍ ويقولون : إنَّ هذه الأُسَر تدَّعي النَّسب لآل البيت وليست منَّا ! إمَّا أنَّهم ليس عندهم شجرة، أو أنَّ شجرتهم مكذوبة .
وتعرفون ما فعله "العبيديون القرامطة" في بلاد المغرب مِن ادعائهم النَّسب الشريف ، وهم ليسوا منه، فهذه - يا أخي - ليست القضية قذف كما يزعم هؤلاء المغفلون ، يقولون إنه قاذف !!
إذا جاءنا رجل مِن جنس القوقازي ، أو الجنس الصيني ، أو من أي بلدٍ ، وادَّعى أنَّه مِن أهل البيت ؛ فنحن – على كلامه – أمام خيارين : إما أن نقول نعم ، هذا مِن آل بيت الرسول صلى الله عليه وسلم ، وإما أن نقول لا ، فيقولون : أنتم قذفتموه !
لا يا أخي النسب هذا علمٌ معروفٌ ، وفى علم النَّسب يقال هذه القبيلة تنتسب إلى كذا ، ولا تنتسب إلى كذا ، وأخطأ من نسبها إلى كذا ، أو ادِّعاؤه أنَّ فلاناً مِن قبيلة كذا ليس صحيحاً ! وإنما هو من قبيلة كذا .
فهم الآن لم يقذفوا أمَّ رجل معين بأنَّها - والعياذ بالله – زنت ! ليس هذا هو القذف ، هذا تصحيحٌ للنَّسب ، هذا تطهير لنفس النَّسب الشريف ، وإلا لادَّعى كلُّ مدَّعٍ ما شاء، والنَّسب هذا يترتب عليه إرثٌ ، ويترتب عليه أحكامٌ مثل - ما تعلم - أنَّ آل البيت تحرُم عليهم الزكاة ، و لهم الخمس ، و لهم كذا ، كأحكام كثيرة تترتب ، وتتوقف على ثبوت ذلك ، فكون الإنسان يتأكد منه هذا لا يعني القدح ، ولا يعني الطعن ، وكون الإنسان يشكِّك فيمن هو أهلٌ لأن يُشكَّك في نسبه ؛ أنا أقول لك بصريح العبارة : إنَّ الشيخ ابن منيع ربما ليس لديه الأدلَّة الكافية ، أو القراءة الكافية عن بعضهم، لكن أنا أقول إنَّه على حقٍّ ، على حقٍّ في التشكيك في نسب المالكي ، بدليل :
أولاً :(43/6)
هناك أقرباء لمحمد علوي مالكي موجودون الآن في مكة ، وهم - مِن فضل الله - معتزلون لشركياته، وضلالاته ، وهؤلاء يقولون : نحن نعرف أنَّ جَدَّنا مِن المغرب ، وقدِم إلى مكة .
أمَّا قضية النَّسب ؛ فهذا أمر يعلمه الله سبحانه وتعالى ، غير متأكدين ، ولا يثبت ، ولا يجزمون في ذلك ، هؤلاء مِن نفس أسرته يجمعهم وإياه جَدٌّ واحدٌ .
هذا شيء .
والشيء الآخر :
عندنا زعماء التصوف - يا أخي - ننظر إلى تاريخهم ، الرفاعي - مثلاً – كمثال : هاشم الرفاعي - الذي ردَّ على ابن منيع - يسمِّي نفسه يوسف السيد هاشم الرفاعي ، ويذكر في كتابه "استدلالات من كتاب" : السيد أحمد الرفاعي مؤسس الطريقة الرفاعية، أحمد الرفاعي هذا يقول عنه الشعراني في "الطبقات الكبرى" - وهو أكبر طبقات المتصوفة، ومِن أوثق مراجعهم - يقول في ترجمته :
ومنهم : الشيخ أحمد بن أبي الحسين الرفاعي رضي الله تعالى عنه ، منسوبٌ إلى بني رفاعة - قبيلة من العرب - ، وسكن أم عبيدة بأرض البطائح إلى مات بها رحمه الله !! .
انظر : رفاعة القبيلة المعروفة عندنا الآن في الحجاز هنا ؛ هذه القبيلة ما هي من قريش أصلاً ، فكيف يكون الرفاعي قرشياً ! فضلاً عن أن يكون مِن آل البيت ؟
لو أنَّ رجلاً مِن أقرب النَّاس إلى آل البيت ، مثلاً رجل من بني أميَّة لا يجوز له أن يقول أنا مِن آل محمد صلى الله عليه وسلم ، بمعنى أنَّه من ذرية الحسن والحسين ، أو غيرها ، وإن كان من نفس قريش ، ومِن أسرةٍ قريبةٍ مِن آل البيت لا يجوز له ، فكيف يجوز لرجل مِن "رفاعة" ؟ بل الرفاعي هو لم يدَّع – فيما أذكر - ، وهذا الشعراني يقول إن رفاعة قبيلة من العرب منسوب إليها هذا الرجل .(43/7)
أيضاً : الحافظ ابن كثير رحمه الله في "البداية والنهاية" الجزء الثاني عشر في ترجمة أحمد الرفاعي ، يقول : إنَّه منسوب إلى رفاعة قبيلة مِن العرب ، هذا الرجل يدَّعي له بعض الصوفية أنَّه مِن آل البيت ويعملون له شجرة ، ومنهم ابن الملقن – مثلاً - في "طبقات الأولياء" صفحة 93 ، وأحد الرفاعية الموجودون في هذا العصر ، الذي ألَّف كتاباً وهو "أبو الهدى الصيادي" عنه ؛ هؤلاء يقولون : إنَّ الرجل مِن آل البيت ، ويعملون له شجرة! ويصرُّون على نسبته إليهم ، ويضعون أمام اسمه كلمة السيِّد ، أو سيدي ، فإذاً نحن في الحقيقة من حقنا أن نشك ؛ لأن هناك سوابق .
أيضاً: مثلاً الشاذلي : فالشاذليَّة الآن يدَّعون ما تدَّعيه الرفاعية أنَّ الشاذلي مِن آل البيت! بينما مثلاً ابن الملقن هذا نفسه الذي ذكر شجرة نسب الرفاعي ، يقول في ترجمته الشاذلي: اسمه : على بن عبد الله بن عبد الجبار بن يوسف أبو الحسن الهذلي الشاذلي .
يقول : وقد انتسب في بعض كتبه إلى الحسن بن على بن أبى طالب .
هل لاحظتَ ؟ يعني : هذا مِن هذيل ، وهذا من رفاعة ، وكلٌّ منهم يدَّعي أنَّه مِن ذرية الحسين أو الحسن أبناء على بن أبى طالب فكيف يُصدَّق هذا ؟(43/8)
ويقول ابن الملقن : إنَّ الشاذلي ذكر نسبه ، ثم وصَّل ذكر هذا النَّسب إلى على بن أبى طالب ، قال ابن الملقن : وتُوقِّف فيه ، يعني : لا نستطيع أنْ نجزم بأنَّ الشاذلي أيضاً مِن ذرية الحسن ، وإنَّما هو مِن هذيل ، فإذا كان هذا مِن رفاعة ، وهذا مِن هذيل ، فأين هاتان مِن قريش ، فضلاً عن بني هاشم، فضلاً عن الحسن والحسين رضي الله عنهما؟ فهذا يدل على أنَّ للعبيديين خلفاً كثيراً ، وأنَّ كثيراً مِن الملايين التي تنتسب إلى آل البيت في إيران ، وفي المغرب ، وفي حضرموت ، وفي بلاد كثيرة، كثيرٌ منهم : نسبه غير صحيح ، بل قد ظهر حديثاً في مكة كتابٌ – طبع هذه السنَة – عن الأشراف ، وأنسابهم، وكما سمعتُ أنَّه مُنع ؛ لأنَّه اعترَضَ عليه كثيرٌ مِن النَّاس.
والأشراف كما قلتُ لكم – وكما تعلمون وأنتم هنا - أنَّ الأشراف يتبرءون مِن كثيرٍ مِن الأُسر ، ومِن كثيرٍ مِن العائلات .
فعلى كل حال : ما يتعلق بأنَّ فلاناً ليس نسبه صحيحاً ، أو غير صحيح ؛ ليس مستوجباً للقذف كما يفتري هؤلاء الدجالون ، وإلاَّ لكان ابن الملقن نفسه قاذفاً ، وهو مِن أئمتهم ، وكَتب في طبقاتهم ، ولكان الشعراني أول مَن قذف ؛ لأنَّه يقول : إن أحمد الرفاعي من بني رفاعة ، القبيلة المعروفة ، وليس مِن آل البيت .
فليكن عندكم معلوماً أن الصوفية يتسترون بالنسب الشريف ، وأنَّ هذه دعوى استفادوها من الشيعة ، بل سنعرض -إن شاء الله - عما قليل - عندما أحدثكم عن نشأة التصوف - أن أصل التصوف هو التشيع ، أول ما وجد التصوف في صفوف الشيعة، ولذلك نجد الصلة بين التصوف و بين التشيع قوية جدّاً ، ونجد أنَّ كثيراً مِن الضلالات ، ومِن الخرافات المشتركة بين الطائفتين : خرافات مشتركة بالفعل ، ويجمع الطائفتين دعوى الغلو ، هؤلاء غَلَوا في "علي" ، وهؤلاء غَلَوا في الرسول محمَّد صلى الله عليه وسلم .(43/9)
أمَّا قضية رأيي - كما ذكرتم - ما رأيك في هذه الكتب ؟ وما رأيي في ردِّهم على الشيخ ابن منيع والعلماء في المملكة ؟ - فأنا يا أخي أقول لكم : إنَّ الشيخ ابن منيع جزاه الله خيراً ، والعلماء الذين كتبوا ، كتاب الشيخ ابن منيع بالذات ، الكتاب يركِّز على قضية المولد ، وأحب أن أقول : إنَّ القضية التي نختلف نحن والصوفية فيها ليست هي قضية المولد، القضية أكبر من ذلك وأعظم .
الصوفية ديانة قديمة ، معروفة لدى الهنود ، ولدى اليونان القدماء ، ديانة قديمة جاءت ودخلت ، وتغلغلت في الإسلام باسم الزنادقة ، والزنادقة هم الذين أدخلوها في الإسلام باسم التصوف ، وباسم التعبد ، وباسم الزهد ، - كما سنعرض إن شاء الله - ، فالخلاف ليس محصوراً كما أراد الرفاعي ، وهذا البحريني ، والمغاربة ، ليس محصوراً تعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم، كتاب الرفاعي مِن أوله إلى آخره ، والآخر ، والثالث : هذه الكتب تتحدث عن منزلة الرسول صلى الله عليه وسلم ، وعن عظمة الرسول صلى الله عليه وسلم ، وعن معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم ، وعن خوارق الرسول صلى الله عليه وسلم ، إلى آخره .
نقول : بغض النظر عمَّا احتوته هذه الكتب مِن الأباطيل ، ومِن المتناقضات ، ومن الشركيات : ليس الخلاف بيننا وبينهم في قضية الرسول صلى الله عليه وسلم أبداً ، هذه جزئية ، نعم هي إحدى فروع الخلاف ، إحدى المسائل التي نختلف وإيَّاهم فيها ، أنَّهم غَلَوا ، واشتطوا ، حتى شابهوا النَّصارى ، ونحن اقتصدنا ، وعظَّمْنا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم بما عظمه الله به ، وبما صحَّ في سنَّته وسيرته .(43/10)
ليس الموضوع هو أنَّهم يحبون رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أكثر منَّا - كما يزعمون - الخلاف بيننا وبينهم ليس المولد ، وليس في كيفية الذكر ، ليس في أنواع التوسل التي أطالوا ، واطنبوا في تفصيلها ، وليس في تعريف البدعة ، وأنَّها هل هي خمسة أنواع ، أو نوعين ، أو نوع واحد ، لا يا أخي ؛ الخلاف بيننا وبين الصوفية هو خلاف بين الإسلام وبين ديانة ، وثنية ، فلسلفية ، قديمة ، خلاف في الربوبية ، والألوهية ، أهي لله وحده ، أم له فيها شركاء كما يدَّعون !؟
لأنَّ دعوى الصوفية أنَّ الربوبية ، والألوهية – كثيراً من حقائق الألوهية والربوبية – إعطاؤها للنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ، أو للأولياء ، أو مَن يسموهم الصالحين ، وهذا : شركٌ كبيرٌ ، لكن ليست هذه فقط !! يعني : الصوفية لم تكتف بأن تَصرِفَ الألوهية لهؤلاء ، وإنَّما صرفتْها للزنادقة ، صرفتْها للدجالين ، للكهان ، للمشعوذين .
ولابد أنَّكم تعرفون الرجل الذي عندنا هنا في مكة ، والذي كان بعض النَّاس سألني - وأنتم عندنا - يقول هل أذهب لأتعالج عنده ؟ وهو "الأهدل" يسمُّونه "السيد الأهدل" هذا هو شيخ محمد علوي مالكي ، رجلٌ خرافيٌّ ، ورجل يقول لهم : أحضِروا تَيْساً أسود، واذبحوه ، ولا تذكروا اسم الله ، وافعلوا كذا ، وافعلوا كذا ، من الشعوذات ، ومن الكهانة ، وينجِّم الرجل والمرأة ، ويقول : نجم المرأة كذا ، ونجم الرجل كذا ، فإن كانت النُّجوم متطابقة فلا بأس أن تتزوجها ، وإن كان النجم مختلفاً قال كذا ، وشعوذات ينقلها لنا العوام هنا في مكة ، شعوذات غريبة ، هذه مِن مثل هذا الدجل ، ومن مثل هذه الشعوذة ، يصرفون ربوبية الله ، وألوهيته : للمشعوذين ، وللدجالين ، المتعاطين السحر ، المتعاملين مع الجن ، الذين يقولون : نحن نعلم الغيب ، ويطلبون مِن المريدين أن يقدِّموا لهم العبوديات التي لا تليق إلا بالله سبحانه وتعالى .(43/11)
نحن نعرف أنَّ الله سبحانه وتعالى وحده المتصرف في الكون ، هذه حقيقة لا يمكن أن يماري فيها أي مسلم ، ونعرف أنَّ الله سبحانه وتعالى هو الذي عنده اللوح المحفوظ ، وهو الذي يمحو ما يشاء ، ويثبت ، وهو الذي يحي ويميت ، وهو الذي يعلم ما تسقط مِن ورقة في ظلمات البرِّ والبحر ، وهو الذي يفتح أبواب الجنَّة لمن شاء ، أو النار - والعياذ بالله - ، وهو الذي يسلب الإيمان مِن القلوب ، أو يضع فيها اليقين ، ولا أحدَ يملك ذلك غيره ، نحن نعتقد أنَّه سبحانه وتعالى هو الذي يغيث الملهوفين في الكربات ، وفى الظلمات، ويعلم ما في سرائر القلوب ، وما تختلج به الخواطر ، إلى غير ذلك .
لكن هؤلاء هم يؤمنون - أو يقولون - : بأنَّ مِن أوليائهم مَن يتصرف في الأكوان ، في حلقة الذكر الجيلانية يقولون : "عبد القادر يا جيلاني ، يا متصرف في الأكوان" !!
إذا كان متصرف في الأكوان ماذا بقي لله سبحانه وتعالى ؟
وسأنقل إليكم أدلةً كثيرةً جدّاً ، مِن كتاب الشعراني تدل على هذا الشرك الأكبر ، يذكرون : أنَّ هناك مَن يرى اللهَ ، ومَن يخاطبُه اللهُ في الدنيا ، ومَن يكلِّمه ، ومَن يقول له هذا حلال ، وهذا حرام ، ويذكرون : أنَّ هناك منهم مَن يستأذن جبريل قبل أن يبدي رأيه، يأتي المريد يسأله فيقول : أمهلني حتى أستأذن جبريل !! فيسأل جبريل فيجيبه !! وهذا إن شاء الله سأذكر لك بعضَها – إن أمكن بالجزء والصفحة - .(43/12)
يذكرون : أنَّ منهم مَن يمسك الشمس عن الغروب ! يذكرون : أنَّ منهم مَن يعلم مِن أسرار القرآن مالا يعلمه ملَكٌ مقرَّبٌ ، ولا نبيٌّ مرسلٌ ! يقولون : إن الولي فلان كان يحك رأسه بقائمة عرش الرحمن ! يقولون : إن فلاناً جاءه أحدُ المريدين وقال : لماذا لا تحج ؟ فقال : هل يحج مَن تطوف حوله الكعبة !؟ قال المريد : كيف ذلك ؟ فقال : انظر، ورأى الكعبة وهى تطوف حول الرجل !! حول الشيخ !! وهى تغني – أي : الكعبة - وتقول : إن له رجالاً ، دلَّلهم دلالاً ، وهي تطوف حوله !! .
أشياء كثيرةٌ جدّاً إن شاء الله سأتعرض لبعضها .
المقصود : أن بعضكم - بعض الشباب هناك في أمريكا وغيرها - يحسبون أنَّ التصوف مجرد زهد ، أذكار ، احتقار لمتاع الدنيا الفاني ، وبعضهم قد يتعاطف مع المتصوفة بناءً على هذا الاعتبار ، الحقيقة يا أخي : ليس التصوف هو المولد ، وليس هو مجرد الذِّكر ، وليس هو الزهد - كما يدَّعون - ، وإنَّما الصوفية هي دينٌ آخر ، هي عالَمٌ آخر ، إذا دخله الإنسان وبدأ فيه : فعليه أن يخلع عقلَه عند عتبة الدخول ، وهناك يدخل في عالم غريب ، عالَمٌ يخيل إليك - عندما تقرأ في كتب طبقاتهم ، ورجالهم - تماماً أنَّك تقرأ في القصص الخرافيَّة ، مثل سيف بن ذي يزن ، مثل عنترة ، وكتب الأسمار، والأخبار ، وغير ذلك .
والذي أحب أنْ أقوله : أنَّ كتاب الرفاعي ، وكتاب البحريني ، وكتاب المغربييْن هؤلاء ؛ أنَّه جاء على خلاف الأصل عند الصوفية ، كيف هذا ؟
الأصل عند الصوفية : أنَّ مصدر التلقِّي ، ومصدر المعرفة ؛ ليس هو الحديث ، ليس هو القرآن والسنَّة ؛ حتى يأتي هؤلاء فيقولون : الله تعالى قال كذا ، والرسول صلى الله عليه وسلم قال كذا ، وصحيح أنكم أنتم تضعِّفون الحديثَ ؛ لكن نحن نصححه ! والمسألة : خلافية ، ولا داعي للتكفير ! لماذا يكفِّر بعضُنا بعضاً في مسألة خلافية ؟(43/13)
حديث نحن صححناه ، وأنتم ضعَّفتموه ، أو العكس ، فالمسألة بسيطة ، ونحن نهتم بحرب الصهيونيَّة ، والشيوعيَّة ، ولا نختلف فيما بيننا …-من مثل هذا الافتراء والدجل- .
أقول : منهج هؤلاء النَّاس : ليس هو هذا ، أنت ترثي الإنسان عندما يحارب في غير ميدانه ، أو عندما يتكلف ما لا قِبَل له به .
الأصحاب هناك مع المريدين والشيخ يرقصون في الحضرة ! ويتلقون العلم اللدنِّي - كما يسمُّونه- العلم الحقيقي مباشرة ، وهذا جالس يقول : هذا الحديث صحيح ، وهذا ضعيفٌ ، وهذا كذا ! هذا خلاف الأصل ، هو مفروض أن يكون يرقص معهم يتلقَّى من هناك العلم على زعمهم .
فأقول لك : إنَّ كلامك في قضية "أنك تقول : إن بعض الطلبة الكويتيين قالوا :إن هاشم الرفاعي ليس هو الذي كَتَبَ الكتاب" ، نعم ، الحقيقة أنَّ معهم حقٌّ في ذلك لأنَّ أسلوب الكتاب يذكِّرني ببعض كتبٍ كتَبَها أناسٌ مِن المبتدعة ، وردُّوا بها على أهل السنَّة قبل خمس عشر سنة ، أو نحو ذلك ، وبعضهم أعرِف أنَّه موجودٌ في الكويت ، فلا شك أنَّ هناك تعاوناً ، ومِن أدلة التعاون : هذا التظافر الموجود ؛ هذا مِن المغرب ، وهذا مِن البحرين ، وهذا مِن الكويت ، وقالوا : واحدٌ – أيضاً – مِن مصر ، وواحدٌ مِن اليمن ، يقولون : ستخرج - كما هو مذكور في هذه الكتب - .
أقول: إنَّ هذا ليس أسلوب الصوفيَّة أصلاً ، أن يأتوا إلى الحديث ، ويصحِّحوه ، ويضعِّفوه ؛ ليأخذوا منه الحقيقة ، وليأخذوا منه العلم ، لا .(43/14)
"الحلاج" - إمامهم المتقدم – الذي قُتل بالزندقة - بعد أن ثبت ذلك عنه – ما كان يعتكف يتعبَّد ، ويدعو الله عز وجل ، فتنكشف له بعض الأشياء – مثلاً – ويقول : هذا علمٌ أطلعني الله عليه لا ، ذهب إلى الهند ، ورأى سحرة الهند يقف الواحد منهم على رأسه الأيام الطويلة بدون أكل ، ولا شرب ، ولا نوم ، فتعلَّم هذه الرياضة منهم ، فإذا وقف على رأسه هذه الفترة : يدخل في المرحلة التي يسمونها (المالوخوليا) تأتي له صور ، وخيالات مِن الجوع ، ومِن هذه الانتكاسة ، ومِن الشياطين، ويخيَّل له بأشياء ، ومخاطبات، وكلام ، فيقول : الله خاطبني ! أو الرب كلَّمني ! أو كذا ، ثمَّ يترقَّى إلى أنْ يقول : أنا الله !! ما في الجبَّة إلا الله !! أو سبحاني سبحاني !! – كما قال هو ، والبسطامي وغيرهم - ، ويقول – كما هو ثابت مِن أبياته في ديوانه - :
كفرتُ بدين الله والكفرُ واجبٌ لديَّ وعند المسلمين قبيحُ
ومرةً ثانيةً ينتكس ، ويهستر ويقول :
على دين الصليب يكون موتي فلا بطحاء أريد ولا المدينة(43/15)
يعني : يذكر أنَّه صليبيٌّ – والعياذ بالله - ، فنفس ما وقع للحلاَّج ! عندما يقول هذا الكلام : قام علماء السنَّة فكفروه بناءً على هذه الكفريات الشنيعة ، فقام المدافعون عنه – مثل ما قام الرفاعي يدافع عن المالكي – وتأولوا بعد أن عمل هذا العمل ، قالوا – أي: المتأولة – انتظروا لم تكفروه ؟ نحن نأتي لكم بأدلة ! ثمَّ قالوا : نعم ، أبو نعيم في "الحلية" روى كذا ، أيضاً : عندنا ابن عساكر روى كذا ، عندنا كذا ، بعض هذه الأشياء استنتجوها ، وبحثوا عنها ، وجدوها بعد أن قُتل الحلاج بسنواتٍ طويلةٍ ، الحلاج لا قرأها، ولا اطَّلع عليها ، ولا قال ما قال لأنَّه اطَّلع على الكتاب والسنَّة، ثم استنتج منها هذا الاستنتاج ، بل أنا أضرب لك مثالاً فيه كتاب عندنا عن تاريخ الدولة الظاهرية اسمه "الدرَّة المضيئة" - موجود عندي ، والحمد لله - يذكر فيه أولَّ ما بدأتْ كلمة "سيدنا" - أشهد أنَّ سيدنا محمَّداً رسولُ الله ، متى بدأت هذه الكلمة في الأذان - يذكر أنَّ أحد سلاطين المماليك رأى في المنام الرسول صلى الله عليه وسلم ، فقال له : إذا أذَّنتَ فقل - أو قل للمؤذِّن إذا أذن يقول - أشهد أنَّ سيدنا محمَّداً رسول الله ، فلما استيقظ السلطان هذا ؛ أمر المؤذنَ أنْ يقول ذلك ، فسمعها بعضُ الخرافيِّين ، والصوفيَّة فقالوا : رؤيا حسنة، فاستحسنوا ذلك .(43/16)
نحن الآن في هذا العصر عندما نقول : هذه الكلمة لا تضاف في الأذان ؛ يقولون : كيف لا تضاف ، وعندنا أحاديثُ صحيحةٌ على أنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم هو سيد ولد آدم ، وأنَّه كذا ، وأنَّه كذا ؟ وأنتم تنكرون سيادة الرسول ! أنتم تكرهون الرسول ! أنتم تعادون الرسول ! فيهاجموننا بهذا الكلام ؛ بينما أصلُ القضية لم يكن أنَّهم قرؤوا البخاري ومسلم ، وجدوا أحاديث السيادة ، وضعوها في الأذان ، أصلها رؤيا ، فالصوفيَّة تعتمد في مصدر التلقِّي على المنامات ، على الأحلام ، على التخيُّلات ، على التكهنات ، على ما يسمونه "الذوق" ، أو الوجد ، أو الكشف ، هذا هو مصدر القوم .
فبعد ذلك يأتي مَن يفلسف هذه الأشياء التي ثبتت عندهم ، ووصلتهم من هذا الطريق، يأتي من يفلسفها ويقول إنَّ لها أصلاً ، إنَّها تقوم عليها الأدلة الشرعيَّة ، إنَّها مأخوذة مِن الكتاب والسنَّة ، ثم يزعمون - كما زعم الرفاعي - أنَّهم هم أهل السنَّة والجماعة ، وهم الذين على الحق ، وأنَّ المخالفين لهم : مِن الخوارج ، أو مِن الغلاة ، أو مِن المتنطعين ، أو مِن التكفيريين ، إلى آخر هذا الهراء.
أقول : إنَّني سأستعرض معك الآن بعضَ الكتب التي تدل على أصل التصوف ، مثلاً بين يدي الآن كتاب للبيروني "تحقيق ما للهندي من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة" ، الكتاب ألَّفه أبو الريحان البيروني ، وهو ليس مِن أئمَّة أهل السنَّة والجماعة ، هو رجلٌ ، مسلمٌ ، مؤرِّخٌ ، تستطيع أن تقول – بالأحرى – جغرافيٌّ ، ومتكلمٌ ، ومتفلسفٌ ، ذهب إلى الهند يبحث عن أديانها ، وعن عقائدها ، ويكتب عن جغرافيتها ، وعن أرضها، وعن علومها ؛ هذا الرجل ألَّف الكتاب ، وذكر فيه حقائق لا يمكن أن يُتهم بأنَّه تواطأ فيها مع أهل السنَّة والجماعة .(43/17)
مثلاً : يقول في صفحة (24) ، منهم : مَن كان يرى الوجودَ الحقيقي للعلة الأولى فقط ، لاستغنائها بذاتها فيه ، وحاجة غيرها إليه ، وأنَّ ما هو مفتقر في الوجود إلى غيره : فوجوده كالخيال غير حقٍّ ، والحقُّ هو الواحد الأول فقط ، وهذا رأي السوفية – كتبها بالسين - ، وهم الحكماء ، فإنَّ سوف باليونانية : (الحكمة) وبها سمي الفيلسوف : بيلاسوفا ، أي : محب الحكمة ، ولما ذهب في الإسلام قوم إلى قريبٍ مِن رأيهم –أي : رأي حكماء الهند - سُمُّو باسمهم – أي: الصوفيَّة - ، ولم يَعرف اللقبَ بعضُهم فنسبهم للتوكل إلى الصُفَّة وأنَّهم أصحابها في عصر النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ، ثمَّ صُحِّفَ بعد ذلك ، فصُيِّر مِن صوف التيوس ! الخ .
ويقول بعد ذلك : إنَّ المنصرف بكليته إلى العلة الأولى متشبهاً بها على غاية إمكانه : يتحد بها عند ترك الوسائط ، وخلع العلائق ، والعوائق .
ويقول - في الوحدة هذه "وحدة الوجود" - : وهذه آراء يذهب إليها السوفية لتشابه الموضوع .
يتكلم عن ديانة الهند ، وعن فلاسفة الهند - هؤلاء الملاحدة - ، ثم يذكر أنَّ الصوفيَّة يذهبون إليها لتشابه الموضوع .
فالرجل يقول : إن الصوفيَّة هم حكماء الهند ، وأنَّ اسمهم هو "السوفية" ، وأنَّ ما يُطلق عليهم مِن الأسماء ، أو يُطلق عليهم مما حدث للاسم مِن التصحيف – فقيل : إنَّه مِن الصوف أو غير ذلك - : هذا ليس له حقيقة .
والقشيري نفسه في "الرسالة" يقول : ليس للاسم أصل في اللغة العربية - والقشيري مِن أئمَّة الصوفيَّة له كتاب "الرسالة" – وهو صادقٌ في ذلك .(43/18)
هناك مصدر آخر ، ننتقل - مثلاً - إلى "دائرة المعارف الإسلاميَّة" - كما سمَّاها المستشرقون - وهي دائرة معارف استشراقية : مادة "التصوف" ، الجزء الخامس : ذكروا أنَّ كلمة "الثيوصوفيا" - الكلمة اليونانيَّة - يقولون : هذه هي الأصل كما ينقل كاتبها "ماسنيوم" عن عدد المستشرقين ؛ بأنَّ أصل التصوف : هو مشتق مِن "الثيوصوفية" ، وهذه "الثيوصوفية" كما يذكر – أيضاً – عبد الرحمن بدوي ، وينقل عن مستشرق ألماني (فول هومر) يقول : إن هناك علاقة بين الصوفية ، وبين الحكماء العراة مِن الهنود ، ويكتب باللغة الإنجليزية ( جانيوسوفستز) و"سوفستز" يعني : الصوفيين ، هؤلاء إذا ربطنا هذه مع "الثيوصوفية" – أي : الصوفية – التي نقول (الثيو) معناها الله عز وجل في لغتهم، فمثلاً الحكم الثيوقراطي يعنى الحكم الإلهي ( الثيوصوفية) عشاق الله ، أو محبو الله سبحانه وتعالى ، الفيلسوفي هذا : عاشق الحكمة – "فيلا" معناها : حكمة - ، أو محب الحكمة .
عاشق الله - كما يدَّعون ، وكما يزعمون - يسمَّى : الصوفي .
إذاً الصوفية نستطيع أن نقول أننا الآن أمام أساس – وسيأتي عرض آخر يبين هذه القضية- هذه الكلمة وأنَّه غير إسلامي أصلاً ، وغير عربي أصلاً ، وإنَّما هو دينٌ آخر .
نرجع لكتاب البيروني ؛ مثلاً : أفتح معك إلى صفحة (51) ، الكتاب الآن بين يديَّ ، في صفحة (51) يقول : إذا كانت النَّفس مرتبطةً في هذا العالم ، والخلاص – خلاص النفس – مِن العالم ، وانقطاعها عنه ، .. كيف أنَّ الهنود يحاولون أن ينقطعوا عن الدنيا ، وأن يتحدوا بالجوهر الأسمى – وهو الله سبحانه وتعالى - يتحدث عن هذا الموضوع بكلام فيه صعوبة.(43/19)
إنَّما المقصود من ذلك : أنَّه يقول : إن هناك كتاب هندوسي اسم الكتاب "باتنقل" ، وأنا سألت بعض إخواننا - هنا - الهنود عن كتاب "باتنقل" ، يقول : إنَّ الكتاب معروف إلى الآن ، وأنَّه مِن كتب الأديان عند الهندوس ، وفي إمكانكم أنْ تسألوا إذا كان لكم إخوة ، أو ناس في أمريكا - حتى من الهندوس - أنْ تسألوهم عن الكتاب .
كتاب "باتنقل" هذا يقول البيروني - بعد أن تكلم عن قضية الإتحاد هذه - يقول : وإلى مثل هذا إشارات الصوفية في العارف إذا وصل إلى مقام المعرفة ؛ فإنَّهم يزعمون - أي : الصوفية – أنَّه يحصل له روحان : قديمة لا يجري عليها تغير ، أو اختلاف ، بِها يعلم الغيب ! ويفعل المعجز ! ، وأخرى بشرية للتغير ، والتكوين ، ما يبعد عن مثله أقاويل النصارى .
لاحظ أنَّ البيروني يربط بين كلام الصوفية ، وبين أقاويل النصارى ، وأنَّهم يقولون : إنَّ العارف له روحان : روح أزليَّة ثابتة ، وروح حادثة ، وهي التي تعتريها البشرية ، أي: كما قال النصارى في عيسى بن مريم عليه السلام !! .
وأنا في إمكاني الآن أنْ أقرأ عليك ما يدل على هذه العقيدة عند الصوفية :
يقول إبراهيم الدسوقي المتوفى سنة 676هـ ، وهو مِن أكبر الطواغيت الصوفيَّة المعبودين حالياً في مصر ، وهو وصل عندهم إلى درجة القطبية العظمى – وسنشرح لك إن أمكن ما معنى القطب الأعظم ، وما هي خصائصه - ، يقول الدسوقي – كما في ترجمته من "طبقات الشعراني" – الجزء الأول صفحة (157) : قد كنتُ أنا ، وأولياء الله تعالى أشياخاً في الأزل ، بين يدي قديم الأزل ، وبين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن الله عز وجل خلقني مِن نور رسول الله صلى الله عليه وسلم – يعني في الأزل - ، وأمرني أن أخلع على جميع الأولياء ، فخلعتُ عليهم بيدي – يعني : ألبسهم – فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم يا إبراهيم أنت نقيبٌ عليهم – أي:على الأولياء -.(43/20)
يقول : فكنتُ أنا ، ورسول الله صلى الله إليه وسلم ، وأخي عبد القادر – يعني : عبد القادر الجيلاني شيخ القادرية - خلفي ، وابن الرفاعي -يعني : أحمد الرفاعي شيخ الرفاعية- خلف عبد القادر ، ثم التفت إليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقال :يا إبراهيم سر إلى مالك – خازن النيران - وقل له يغلق النيران ، وسر إلى رضوان - خازن الجنة – وقل له يفتح الجنان ، ففعل مالك ما أُمر به ، وفعل رضوان ما أُمر به !!…إلى آخر ما ذكره من الكلام .
نعود إلى البيروني : انتقل إلى صفحة (66) من الكتاب – إن كان الكتاب عندك – :
يقول : وإلى طريق "باتنقل " -هذا الهندي الذي سبق ذكره - ذهبت الصوفية في الاشتغال بالحق، فقالوا : مادمتَ تشير فلستَ بموحدٍ ؛ حتى يستولي الحقُّ على إشارتك بإفنائها عنك ، فلا يبقى مشيرٌ، ولا إشارةٌ – أي : "وحدة الوجود الكاملة " - .
ويقول : ويوجد في كلامهم ما يدل على القول بالإتحاد ؛ كجواب أحدهم عن الحقِّ ، وكيف لا أتحقق مَن هو أنا بالإنيَّة ، ولا أنا بالأَيْنِيَّة .
هذا كلام أحد أئمَّة التصوف سئل عن الله فأجاب بأنه هو يعنى نفسه ! .
وقول أبي بكر الشبلي - وهو مِن أئمَّة التصوف – يقول : اخلع الكلَّ تصل إلينا بالكلية فتكون ولا تكون ، إخبارك عنا – يعني : الكلام الذي تقوله هو عنَّا - ، وفعلُك فعلُنا .
وكجواب - والكلام ما يزال البيروني - أبي يزيد البسطامي ، وقد سئل بم نلت ما نلت ؟ قال : إنِّي انسلختُ مِن نفسي ، كما تنسلخ الحيَّةُ مِن جلدها ، ثم نظرتُ إلى ذاتي فإذا أنا هو .
وقالوا في قول الله تعالى : { فقلنا اضربوه ببعضها } : إنَّ الأمر بقتل الميت لإحياء الميت : إخبارٌ أنَّ القلب لا يحيا بأنواع المعرفة إلا بإماتة البدن بالاجتهاد ، حتى يبقى رسماً لاحقيقة له ، وقلبك حقيقة ليس عليه أثر مِن المرسومات .(43/21)
وقالوا : إنَّ بين العبد وبين الله ألف مقام مِن النُّور والظلمة ، وإنَّما اجتهاد القوم في قطع الظلمة إلى النُّور ، فلمَّا وصلوا إلى مقامات النُّور : لم يكن لهم رجوعٌ . انتهى كلام البيروني
وهو يقول إن هذا الكلام بعينه هو كلام الهنود وهو الذي سار عليه أئمة التصوف .
أقول : إنَّ الثابتَ مِن الكتب التي كتبها كثيرٌ مِن المعاصرين عن الصوفية ، ومِن القدماء: أنَّ أولَّ مَن أسَّس التصوف : هم الشيعة ، وأنَّ هناك – بالذات – رجليْن كانا لهما دورٌ في ذلك :
الأول : يسمَّى "عبدك" ، والثاني : يسمَّى "أبو هاشم الصوفي" ، أو أبو هاشم الشيعي، فـ "عبدك" ، و"أبو هاشم" هؤلاء هما اللذان أسَّسا دين التصوف .
عندما نريد أن نتحدث عن "عبدك" ، وعن أبي هاشم : ننتقل إلى مصدرٍ مهمٍّ جدّاً مِن مصادر الفِرَق الإسلاميَّة وهو كتاب "التنبيه والرد" لأبي الحسين الملْطي الشافعي رحمه الله.
ومِن المهم جدّاً مِن الناحية الوثائقيَّة أنْ تعرف أنَّ كتاب الملطي هذا منقولٌ عن كتاب الإمام قشيش بن أصرم - وهذا رجلٌ ، عالِمٌ ، إمامٌ ، ثقةٌ ، وهو شيخ الإمام أبي داود ، والنسائي ، وهو مِن الأئمَّة المعاصرين للإمام أحمد توفى سنة 253هـ - ، وهذا يعطي كتابَه أهميَّة كبيرة ؛ لأنَّه متقدم في الفترة المبكرة جدّاً التي لم تكن كلمة صوفي فيها قد شاعت وقد انتشرت ، فماذا قال الإمام قشيش بن أصرم رحمه الله – كما نقل عنه الملطي- ، ماذا قال عن هذه الفِرق – عن "عبدك" ، وعن أبي هاشم ، وعن جابر بن حيان الذي يقال له جابر الكيميائي – وهو أيضاً ممن نُسب أنَّه أول مَن أسَّس التصوف وقد قرأت له مجموعة رسائل طبعها أحد المستشرفين يظهر فيها بجلاء أنَّ الرجل شيعي تماماً ، وقد عاش جابر في القرن الثاني- .(43/22)
قال أبو الحسين الملطي رحمه الله تعالى : قال أبو عاصم قشيش بن أصرم – قال سفر : والإسناد عنه في أول الكتاب - في افتراق الزنادقة يقول : فافترقت الزنادقة على خمس فرق ، وافترقت منها فرقة على ست فرق .. إلى أن يقول : ومنهم - أي:من أقسام الزنادقة – "العبدكية" ، زعموا أنَّ الدنيا كلَّها حرامٌ محرَّم ، لا يحل الأخذ منها إلا القوت ، من حين ذهب أئمَّة العدل ، ولا تحل الدنيا إلا بإمام عادل ، وإلا فهي حرام ، ومعاملة أهلها حرام ، فحِلٌّ لك أن تأخذ القوت من الحرام ، مِن حيث كان !
وإنَّما سمُّو "العبدكية" : لأنَّ "عبدك" وضع لهم هذا ، ودعاهم إليه ، وأمرهم بتصديقه .
يقول: ومنهم الرَّوْحانيَّة ، وهم أصناف ، وإنَّما سمُّوا "الروحانية" ؛ لأنَّهم زعموا أنَّ أرواحهم تنظر إلى ملكوت السموات ، وبها يعاينون الجِنان – أي : الجنات – ويجامعون الحور العين ، وتسرح في الجنة ، وسمُّوا أيضاً : "الفكرية " لأنَّهم يتفكرون – زعموا – في هذا حتى يصلون إليه ، فجعلوا الفكر بهذا غاية عبادتهم ، ومنتهى إرادتهم ، ينظرون بأرواحهم في تلك الفكرة إلى هذه الغاية فيتلذذون بمخاطبة الله لهم ، ومصافحته إياهم ، ونظرهم إليه – زعموا – ويتمتعون بمجامعة الحور العين ، ومفاكهة الأبكار ، على الأرائك متكئين ، ويسعى عليهم الولدان المخلَّدون بأصناف الطعام ، وألوان الشراب ، وطرائف الثمار …إلى آخره .(43/23)
يقول : ومنهم صنف مِن الرَّوْحانيَّة زعموا أنَّ حُبَّ الله يغلب على قلوبهم ، وأهوائهم، وإرادتهم حتى يكون حبُّه أغلب الأشياء عليهم ؛ فإذا كان كذلك عندهم : كانوا عنده بهذه المنزلة : وقعت عليهم الخُلة مِن الله فجعل لهم السرقة ، والزنا ، وشرب الخمر ، والفواحش كلها على وجه الخُلة التي بينهم وبين الله لا على وجه الحلال – يعني : تحل لهم على وجه أنَّهم أخلاء لله ، وسيأتي على هذا نقولٌ كثيرةٌ وشواهد تدل على ذلك عند الصوفية – يقول: كما يحل للخليل الأخذ مِن مال خليله بغير إذنه ، منهم : "رباح" و"كليب" ، كانا يقولان بهذه المقالة ويدْعُوَان إليها ، - وهؤلاء أيضاً ممن ذُكر أنَّهم مِن أئمَّة التصوف القدامى - .
يقول : ومنهم صنفٌ مِن الرَّوْحانية زعموا أنَّه ينبغي للعباد أنْ يدخلوا في مضمار الميدان حتى يبلغوا إلى غاية السبقة ، منتظمين لأنفسهم – يعني : تجميعها - وحملها على المكروه فإذا بلغت تلك الغاية : أعطى نفسَه كلَّ ما تشتهي ، وتتمنى ، وإنَّ أكْلَ الطيبات كأكْل الأراذلة مِن الأطعمة ، وكان الصبر ، والخبيث عنده بمنزلة ، وكان العسل ، والخل عنده بمنزلة ! ؛ فإذا كان كذلك : فقد بلغ غاية السبقة ، وسقط عنه تضمير الميدان ، وأتْبع نفسه ما اشتهت ، منهم ابن حيان كان يقول هذه المقالة.
ويقول رحمه الله : ومنهم صنف يقولون إنَّ ترك الدنيا : إشغال للقلوب ، وتعظيم للدنيا ، ومحبة لها ، ولمَّا عظُمت الدنيا عندهم : تركوا طيِّب طعامها ، ولذيذ شرابها ، وليل لباسها ، وطيب رائحتها ؛ فأشغلوا قلوبهم بالتعلق بتركها ، وكان من إهانتها مواتات الشهوات عند اعتراضها حتى لا يشتغل القلب بذكرها ، ويعظم عنده ما ترك منها.
قال : و رباح وكليب كانا يقولان هذه المقالة .(43/24)
هذا كلام الإمام قشيش بن أصرم رحمه الله ، المكتوب قبل منتصف القرن الثالث الهجري - حوالي 240هـ ، أو هكذا – كَتَب الكتاب ، هذا الكلام كما لاحظنا هو عقيدة الصوفية ، الحب – حبُّ الله كما يدَّعون - ، تحريم الدنيا ، تحريم الحلال ، دعوى أنَّهم يرون الله ، ويخاطبونه في الدنيا ، وأنَّه يحدِّثهم … إلى غير ذلك مِن الدعاوى: هي دين الصوفية ، لكن لاحظ أنَّ الإمام قشيش لم يقل : "الصوفيَّة" ؛ إنما قال : "الزنادقة" - قال : هذه مذاهب قوم مِن الزنادقة - ، وصدق هذا هو مذهب الزنادقة في حقيقته .
ننتقل إلى مصدر بعده ، وهو من أوثق المصادر في الخلافات ، والفرق : وهو كتاب "مقالات الإسلاميين" للإمام أبي الحسن الأشعري رحمه الله الذي رجع إلى مذهب أهل السنَّة والجماعة ، وإن كان الأشاعرة ما يزالون يتَّبعون ما كان عليه قبل رجوعه ، نسأل الله أن يهديهم إلى الحق .
يقول - في صفحة (288) من طبعة هيلموتايتر - الثالثة - : هذه حكاية قولِ قومٍ مِن النُّساك – والنساك : هو أيضاً اسم عبَّاد الهند - طبعاً تَرجم لهم - وهي مأخوذة مِن النسك ، أو التعبد .
وهذا هو الذي ترجم به عبد الله بن المقفع صوفية الهند ، وسمَّاهم : "النُّساك" في كتاب "كليلة ودمنة" ، فيسمَّى العابد : النَّاسك .(43/25)
يقول : وفي الأمَّة قوم ينتحلون النُّسك يزعمون أنَّه جائزٌ على الله سبحانه الحلول في الأجسام ، وإذا رأوا شيئاً يستحسنونه قالوا : لا ندري لعله ربنا !! ، ومنهم من يقول : إنَّّه يرى الله سبحانه وتعالى في الدنيا على قدر الأعمال ! فمَن كان عمله أحسن : رأى معبوده أحسن ! ومنهم مَن يجوِّز على الله سبحانه وتعالى المعانقة ، والملامسة ، والمجالسة في الدنيا ، وجوزوا مع ذلك على الله تعالى –على قولهم- أنْ نلمسه ، ومنهم مَن يزعم أنَّ الله سبحانه ذو أعضاء ، وجوارح ، وأبعاض لحم ، ودم على صورة الإنسان له ما للإنسان مِن الجوراح – تعالى ربُّنا عن ذلك علوّاً كبيراً - .
وهذا القول الذي ذكره الأشعري هنا : هو قول أبي هاشم المشبِّه ، الصوفي ، الشيعي، مؤسِّس هذا الدين ، أو مِن مؤسِّسيه -كما قلنا - .
يقول الإمام الأشعري : وكان في الصوفيَّة رجلٌ يُعرف بأبي شعيب : يزعم أنَّ الله يُسرُّ ويَفرح بطاعة أوليائه ، ويغتمُّ ، ويحزن إذا عصَوْه -يعني : كَفَرح المخلوقين وكغَمِّهم-.
ويقول : وفي النُّساك قومٌ يزعمون أنَّ العبادة تبلغ بهم إلى منزلةٍ تزول عنهم العبادات، وتكون الأشياء المحظورات على غيرهم – من الزنا ، وغيره - : مباحات لهم .
وفيهم من يزعم : أنَّ العبادة تبلغُ بهم أنْ يروا الله سبحانه وتعالى ، ويأكلوا مِن ثمار الجنَّة ، ويعانِقوا الحورَ العين في الدنيا ، ويحارِبوا الشياطين .
ومنهم مَن يزعم : أنَّ العبادة تبلغ بهم إلى أن يكونوا أفضلَ مِن النَّبيِّين ، والملائكة المقرَّبين .(43/26)
هذا كلام الإمام الأشعري ، وهو يؤكِّد ما قاله الإمام قشيش ، ويذكر عنهم قضية سقوط التكاليف وسقوط التعبدات ، وأنَّ الإنسان يترقَّى -كما يقول الصوفيَّة أنَّ الله تعالى يقول {واعبد ربك حتى يأتيك اليقين} ، فإذا جاء اليقين أو إذا وصلت إلى الحقيقة: سقطتْ عنك الشريعة ؛ لأنَّ المريد عندهم – أو الصوفي – يبدأ مُريداً ، ثمَّ سالكاً ، ثم واصلاً ، الواصل : وصل للحقيقة ، وسقطت عنه التكاليف ، وسقطت عنه التعبدات .
هذا الكلام يقوله الإمام الأشعري –وهو المتوفى سنة 324 هـ- أي : أيضاً ما يزال متقدماً بالنِّسبة لانتشار الصوفيَّة ، ولم يذكر أنَّ هؤلاء صوفيَّة أبداً ، إنَّما قال : "هؤلاء نساك" ، وهذا القول لاشك أنَّه قول زنادقةٍ ، وكفَّارٍ ، سيحكيه على أنَّهم قومٌ يدَّعون ، أو ينتسبون إلى هذه الأمَّة ، وليسوا مِن هذه الأمَّة ، ليسوا مِن أمَّة الإسلام ، ولا مِن أمَّة محمَّد صلى الله عليه وسلم ، فلنرى كيف أنَّ هذا القول أصبح ديناً عند المتأخرين من المسلمين المنتسبين للإسلام من الصوفيَّة ، ويدَّعون مع ذلك أنَّهم هم أهل السنَّة والجماعة !!.
لا نقف عند الأشعري ، وإنَّما - أيضاً - ننتقل إلى إمامٍ مِن المؤلِّفين في الفرق ، وهو "فخر الدين الرازي" – وقد توفي سنة 606 هـ ، ونحن نتابع المسألة بتطور الزمن - ، وهو مِن أكبر أئمَّة الأشاعرة ، يعني : الرجل ليس مِن أئمَّة أهل السنَّة والجماعة ، بل هو مِن أئمَّة الأشاعرة الذي ألَّف كتاب "أساس التقديس" ، وردَّ عليه شيخ الإسلام ابن تيمية في كتاب "بيان تلبيس الجهمية" ، فهو مِن أكبر الأشاعرة ، وأقواله عندهم مِن أهمِّ الأقوال ، سننقل ، ونقرأ لك بعض كلامه في هؤلاء الصوفيَّة ، ما كان فيه مدح ، وما كان فيه ذم .(43/27)
يقول : الباب الثامن في أحوال الصوفية : اعلم أنَّ أكثر مَن قصَّ فِرَق الأمَّة لم يذكر الصوفيَّة ؛ وذلك خطأ لأنَّ حاصل قول الصوفيَّة : أنَّ الطريق إلى معرفة الله تعالى : هو التصفية ، والتجرد مِن العلائق البدنيَّة ، وهذا طريقٌ حسنٌ ! وهم فِرقٌ .
الأولى : أصحاب العادات ، وهم قومٌ منتهى أمرِهم ، وغايتهم : تزيين الظاهر كلبس الخرقة ، وتسوية السجادة .
الثانية : أصحاب العبادات ، وهم قومٌ يشتغلون بالزهد ، والعبادة ، مع ترك سائر الأشغال .
والثالثة : أصحاب الحقيقة ، وهم قومٌ إذا فرغوا مِن أداء الفرائض :لم يشتغلوا بنوافل العبادات ؛ بل بالفكر ، وتجريد النَّفس عن العلائق الجسمانية – يعني : مثل ما قلنا عن جماعة "باتنقل" في أقوال البيروني – يقول : وهم يجتهدون أنْ لا يخلو سرُّهم ، وبالهُم عن ذكر الله تعالى ، وهؤلاء خير فرق الآدميين !! - قال سفر : طبعاً متعاطف معهم - .
الرابعة : النُّوريَّة ، وهم طائفة يقولون : الحجاب حجابان نوري ، وناري ، أمَّا النوري : فالاشتغال باكتساب الصفات المحمودة كالتوكل ، والشوق ، والتسليم ، والمراقبة ، والأُنس ، والوحدة ، والحالة ، أمَّا الناري فالاشتغال بالشهوة ، والغضب ، والحرص ، والأمل ؛ لأنَّ هذه الصفات : صفات نارية ، كما أنَّ إبليس لما كان ناريّاً فلا جرم وقع في الحسد .
طبعاً ، هذه النظرية اليونانية التي تُروى عن قدماء اليونان أرسطو وجماعته : أنَّ الكون يتركب مِن أربعة عناصر : الماء ، والتراب ، والنار ، والهواء …إلى آخره !! رتَّبوا هذه على تلك .(43/28)
الخامسة - مِن فِرقهم - : الحلوليَّة ، وهم طائفةٌ مِن هؤلاء القوم الذين ذكرناهم ، يرَوْن في أنفسهم أحوالاً عجيبة ، وليس لهم مِن العلوم العقليَّة نصيبٌ وافر ، فيتوهَّمون أنَّه قد حصل لهم الحلول أو الاتحاد – يعني : بالله تعالى - يقول : فيدَّعون دعاوى عظيمة ، وأوَّل مَن أظهر هذه المقالة في الإسلام : الروافض ؛ فإنَّهم ادَّعوا الحلول في حقِّ أئمَّتهم .
هنا فائدة مهمة : وهو أنَّ الرازي يربط الصوفيَّة بالشيعة ، وهو ربط مؤكد – كما سبق أن قلنا – يقول الرازي :
السادسة : المباحية ، وهم قوم يحفظون طامَّاتٍ لا أصل لها ، وتلبيساتٍ في الحقيقة وهم يدَّعون محبة الله تعالى وليس لهم نصيبٌ مِن شيءٍ مِن الحقائق ؛ بل يخالفون الشريعة ، ويقولون : إن الحبيب رُفع عنه التكليف ، وهو الأشرُّ مِن الطوائف ، وهم على الحقيقة على دين "مزدك" ، كما سنذكر بعد هذا - قال سفر : وهو الدين الذي هو أصل الشيوعية ، ودين "مزدك" كما تكلم عنه هو يقول : أن المزدكية هم أتباع مزدك بن موبذان ، وكان موبذان في زمن قبَّاز بن فيروز والد أنو شروان العادل ، ثمَّ ادَّعى النُّبوة ، وأظهر دين الإباحة ، وانتهى أمره إلى أن ألزم قبَّاز أن يبعث امرأته ليتمتع بها غيره !! فتأذى أنو شروان مِن ذلك الكلام – يعني : تأذى مِن كلامه غاية التأذي – وقال لوالده : اترك بيني وبينه لأناظره ؛ فإنْ قطعني طاوعته ، وإلا قتلته فلمَّا تناظر مع أنو شروان : انقطع مزدك – يعني : انقطع في المناظرة وأفحم – وظهر عليه أنو شروان ، فقتله وأتباعه ، وكلُّ مَن هو على دين الإباحة في زماننا هذا فهم بقية أولئك القوم .
هذا كلامه عن المزدكية ، ويقول : الصوفية ، والفرقة المسمَّاة المباحية منهم على دين "مزدك" الذي هو أصل الشيوعية ، وأصل نظريَّة "كارل ماركس" الذي كما ذكر هؤلاء الخرافيون يقولون : أنتم مشتغلون بالردِّ على المسلمين ، وتتركون الشيوعيَّة !!.(43/29)
هذا الرازي ، وهو إمامٌ مِن أئمَّة الأشاعرة وكتابه "اعتقادات فرق المسلمين والمشركين" : مطبوع موجود ، يقول : إنَّه تلتقي الصوفية بالمزدكية ، يعنى : الشيوعية والصوفيَّة تلتقي عند "مزدك" ، فهذا هو كلامهم ، وليس كلامنا نحن .
ومن الرازي - المتوفى سنة 606 هـ – ننتقل إلى أحد الأئمَّة مِن علماء اليمن ، يسمَّى "عباس بن منصور السكسكي" قيل : إنَّه كان حنبليّاً – وهذا غريب في أئمَّة اليمن - ، وقيل : إنَّه شافعيٌّ ، وعلى كل حال ، يمكن مراجع ترجمته في "الأعلام" (ح3 – ص268 ط –4)
هذا الإمام السكسكي متوفى سنة 683هـ فهو أيضاً متقدمٌ – لا بأس – وطبعاً : قبل شيخ الإسلام ابن تيميه المتوفى بكثير ، المهم أنَّه كتب كتاباً اسمه : "البرهان في معرفة عقائد أهل الأديان" ، هذا كتابٌ مطبوعٌ ، وأنا الآن أقرأ ما كتبه عن الصوفيَّة بنصِّه .(43/30)
يقول في آخر الكتاب - : قد ذكرتُ هذه الفرقة الهادية ، المهديَّة – يعني : أهل السنَّة - ، وأنَّها على طريقةٍ متَّبعةٍ لهذه الشريعة النبويَّة …إلى أن يقول : وغير ذلك مما هو داخل تحت الشريعة المطهرة ، ولم يشذَّ أحدٌ منهم عن ذلك سوى فرقة واحدةٍ تسمَّت بالصوفيَّة ، ينتسبون إلى أهل السنَّة، وليسوا منهم ، قد خالفوهم في الاعتقاد ، والأفعال ، والأقوال ، أمَّا الاعتقاد : فسلكوا مسلكاً للباطنية الذين قالوا : إن للقرآن ظاهراً ، وباطناً، فالظاهر : ما عليه حملة الشريعة النبويَّة ، والباطن : ما يعتقدونه ، وهو ما قدَّمتُ بعض ذكره ، فكذلك أيضاً فرقة الصوفيَّة ، قالت : إنَّ للقرآن والسنَّة حقائق خفيَّة ، باطنة ، غير ما عليه علماء الشريعة مِن الأحكام الظاهرة ، التي نقلوها خَلَفاً عن سلف ، متصلة بالنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم بالأسانيد الصحيحة ، والنقلة الأثبات ، وتلقته الأمَّة بالقبول ، وأجمع عليه السواد الأعظم ، ويعتقدون أنَّ الله عز وجل حالٌّ فيهم !! ومازج لهم !! وهو مذهب الحسين بن منصور الحلاَّج المصلوب في بغداد في أيام المقتدر - الذي قدمتُ ذكره الروافض في فصل "فرقة الخطابيَّة" - ولهذا قال : أنا الله - تعالى الله عن ذلك علوّاً كبيراً - ، وأنَّ ما هجس في نفوسهم ، وتكلموا به في تفسير قرآنٍ ، أو حديثٍ نبويٍّ ، أو غير ذلك مما شرعوه لأنفسهم ، واصطلحوا عليه : منسوب إلى الله تعالى ، وأنَّه الحق ، وإِنْ خالف ما عليه جمهور العلماء، وأئمَّة الشريعة ، وفسَّرتْه علماء أصحابه ، وثقاتهم ، بناءً على الأصل الذي أصَّلوه مِن الحلول ، والممازجة ، ويدَّعون أنَّهم قد ارتفعت درجتُهم عن التعبدات اللازمة للعامَّة ، وانكشفت لهم حجب الملكوت ، واطَّلعوا على أسراره ، وصارت عبادتهم بالقلب لا بالجوارح .
- نتابع ، وما يزال الكلام للسكسكي صفحة (65) من كتاب "البرهان" يقول : -(43/31)
وقالوا : لأنَّ عمل العامة بالجوارح سُلَّمٌ يؤدِّي إلى علم الحقائق ، إذ هو المقصود على الحقيقة ، وهي البواطن الخفيَّة عندهم ، لا عملٌ بالجوارح .
قد وصلنا ، واتصلنا ، واطَّلعنا على علم الحقائق الذي جهلته العامَّة ، وحملة الشرع وطعنوا حينئذٍ في الفقهاء ، والأئمَّة ، والعلماء ، وأبطلوا ما هم عليه ، وحقَّروهم ، وصغَّروهم عند العوام ، والجهَّال ، وفي أحكام الشريعة المطهرة ، وقالوا : نحن العلماء بعلم الحقيقة ، الخواص الذين على الحق ، والفقهاء هم العامة ؛ لأنَّهم لم يطلعوا على علم الحقيقة ، وأعوذ بالله من معرفة الضلالة ، فلمَّا أبطلوا علم الشريعة ، وأنكروا أحكامها : أباحوا المحظورات ، وخرجوا عن التزام الواجبات ، فأباحوا النظر إلى المردان ، والخلوة بأجانب النسوان ، والتلذذ بأسماع أصوات النساء ، والصبيان ، وسماع المزامير ، والدفاف، والرقص ، والتصفيق في الشوارع والأسواق بقوة العزيمة ، وترك الحشمة ، وجعلوا ذلك عبادة يتدينون بها ، ويجتمعون لها ، ويؤثرونها على الصلوات ، ويعتقدونها أفضل العبادات، ويحضرون لذلك المغاني من النساء ، والصبيان ، وغيرهم مِن أهل الأصوات الحسنة للغناء بالشبابات ، والطار ، والنقر ، والأدفاف المجلجلة ، وسائر الآلات المطربة ، وأبيات الشعر الغزلية التي توصف فيها محاسن النِّسوان ، ويذكر فيها ما تقدم من النساء التي كانت الشعراء تهواها ، وتشبب بها في أشعارها ، وتصف محاسنها كليلى ، ولبنى ، وهند ، وسعاد ، وزينب ، وغيرهنَّ ، ويقولون : نحن نكنِّي بذلك عن الله عز وجل !! ونَصرف المعنى إليه .(43/32)
أقول – أنا سفر - : إن كتاب "إغاثة اللهفان" للإمام ابن القيم رحمه الله فصَّل هذه الأمور تفصيلاً مفيداً ، لكن آثرت أن لا أنقل عنه حتى لا يقال لا يعرفون إلاَّ ابن تيمية ، أو ابن القيم ، وهذا قبل ابن القيم ، وابن تيمية ، وليس ممن له شهرة أنَّه حارب التصوف باسم أنَّه كما يقولون : سلفي ، أو تيمي ، أو ، وهَّابي ، بل هو قبل أولئك جميعا ، ويكتب بموضوعيَّة ، وينقل مِن مصادر كثيرة ، أنا أواصل كلامه لتنظروا بعض مصادره :
يقول : فقد ذكر الفقيه موسى بن أحمد ذلك في الرسالة التي ردَّ بها عليهم ، وبيَّن فيها فساد مذهبهم ، فقال في بيت شعر أنشده فيهم :
يُكنُّون عن ربِّ السماء بزينب وليلي ولبنى والخيال الذي يسري
وتختلط الرجال بالنساء ، والنساء بالرجال ، ويتنادى الرجال والنساء ، ويتصافحون ، وإذا حصل فيهم الطرب وقت السماع من الأصوات الشجية ، والآلات المطربة : طربوا ، وصرخوا ، وقاموا ، وقفزوا ، وداروا في الحلقة ؛ فإذا دارت رؤوسهم ، واختلطت عقولهم من شدة الطرب ، وكثرة القفز والدوران : وقعوا على الأرض مغشيّاً عليهم ، ويسمُّون ذلك "الوجد" ، أي : أنَّ ذلك مِن شدة ما يجدون مِن شدة المحبَّة ، والشوق ، قالوا : فأمَّا الخوف ، والرجاء : فنحن لا نخاف النَّار ، ولا نرجو دخول الجنَّة ؛ لأنَّهما ليست عندنا شيئاً ؛ فلا نعبد خوفاً مِن النَّار ، ولا طمعا في الجنة !!
قال سفر : احفظوا هذه الكلمة يا إخوان التي يقولها الإمام لنجد شواهد عليها فيما بعد ، وهي قولهم : "لا نعبد خوفاً مِن النَّار ، ولا نعبد طمعاً في الجنة" .
يقول : هذا مخالفٌ للكتاب ، والسنَّة ، والإجماع ، ومجوِّزات العقول ، ثمَّ إنَّهم يَحملون الأشياء كلها على الإباحة ، فيقولون : كلُّ ما وقع في أيدينا مِن حلالٍ ، أو حرامٍ: فهو حلالٌ لنا ، ولا يبالون هل أكلوا مِن حلالٍ ، أو حرامٍ .(43/33)
قال الإمام أبو عبد الله محمد بن على القلعي في كتاب "أحكام العصاة" : وهذان الصنفان في الكفر ، والإضلال : أشدُّ ، وأضرُّ على الإسلام ، وأهله مِن غيرهما ، وجميعهم ممن يساق إلى النَّار مِن غير مسألةٍ ، ولا محاسبةٍ ، ولا خلوصَ لهم منها أبد الآبدين – يعني: هذه الفرقة التي ذكرتُها مِن الصوفيَّة ، وفرقة مِن الإسماعيلية الباطنيَّة ، وهم قوم منهم يدَّعون أنَّهم قد اطلعوا على أسرار التكليف، وأحاطوا علماً بموجبه ، وأنَّه إنَّما شرع ذلك للعامَّة ليرتدعوا عن الأهواء المؤدِّية إلى سفك الدماء ، فيُحفظ بذلك نظام الدنيا ، وذلك للمصالح العظمى التي لم يطَّلع عليها الأنبياء ، ومَن قام مقامهم في السياسة ، قالوا : ولهذا اختلفت الشرائع لاختلاف مصالح النَّاس باختلاف الأزمنة بهمَّتنا ، وقوَّة رأينا، ووافي أحلامنا ما نستغني به عن التزام سياسة غيرنا ، والانتظام في سلك المبايعة لغيرنا فلا حظر علينا، ولا واجب ، فإذا سئلوا لأيِّ شيءٍ تُصلُّون ، وتصومون ، وتأتون بما يأتي به المسلمون مِن الواجبات ؟ قالوا : لرياضة الجسد ، وعادة البلد ، وصيانة المال والولد – أي : مِن القتل - ، ولأنَّ هذين الصنفين متفقات في أصل الاعتقاد وإن اختلفا في التأويل إلاَّ مَن عصمة الله تعالى منهم أعني مِن فرق الصوفيَّة، والتزم أحكام الشريعة ، وعمل بها ، وحقَّ العلماء ، والفقهاء – يعني : اعترف لهم بالحق – ولم يَدخل في شيءٍ مِن هذه الخزعبلات ، والأباطيل التي دخلوا فيها ؛ فصحَّ اعتقاده ، وصفت سريرته : فإنَّه مُبرَّأ مما هم عليه .
والى هنا ينتهي كلام الإمام .
يعني يقول : إنَّ مَن انتسب إلى التَّصوف اسماً ولم يكن مثلهم على هذه
الأشياء فهو لا يأخذ حكمهم ، وهذا صحيح ، وكما قلنا : إن هناك كثير مِن النَّاس مخدوعين .(43/34)
الحاصل : قد سمعنا كلام الإمام قشيش ، وكلام الإمام الأشعري ، وكلام السكسكي ، وكلام الرازي ، وكلام البيروني ؛ من مصادر – والحمد لله – موجودة ، وموثقة ، ومطبوعة .
وأيضاً : مِن المعاصرين : هناك أناسٌ كثيرٌ : كتب عنهم عبد الرحمن بدوي ، وكتب عنهم طلعت غنَّام ، وكتب عنهم آخرون - لا داعي لاستعراضهم - .
المهم : أنَّنا ننظر الآن إلى كتابٍ مِن كتب محمد علوي مالكي - ربَّما لم يطلع عليه بعض النَّاس – ؛ الكتاب سمَّاه : "المختار مِن كلام الأخيار" ، طبع في مصر سنة 1398هـ ، ولنقارن ما جاء في هذا الكتاب بما سمعنا الآن مِن عقائد الصوفيَّة ؛ لننظر على أيِّ دينٍ هذا الرجل ، ونعرف عندئذٍ حكمَه ، ونعرف القضيَّة الأساسيَّة التي هي - كما قلتُ - أنَّ التصوف دينٌ مستقلٌ عن الإسلام ، وإنْ دخله مَن ينتسب إلى الإسلام ويدَّعي أنَّه مسلم !!.
يقول محمد علوي مالكي في هذا الكتاب - صفحة (134) - عن السري السَقَطي – يقول : رأيتُ كأنِّي وقفتُ بين يدي الله عز وجل ، فقال : يا سري ! خلقتُ الخلقَ فكلُّهم ادَّعوْا محبتي ، فخلقتُ الدنيا فذهب منِّي تسعةُ أعشارهم ! وبقيَ معي العشر ، قال: فخلقتُ الجنَّة فهرب منِّي تسعةُ أعشار العشر ، فسلَّطتُ عليهم ذرةً مِن البلاء ؛ فهرب تسعةُ أعشار عشر العشر ! فقلتُ للباقين معي : لا الدنيا أردتم ، ولا الجنَّة أخذتم ، ولا مِن النَّار هربتم ، فماذا تريدون ؟ قالوا : إنَّك لَتعلم ما نريد ! فقلتُ لهم : فإنِّي مسلِّطٌ عليكم مِن البلاء بعدد أنفاسكم ؛ مالا تقوم له الجبال الرواسي ، أتصبرون ؟ قالوا : إذا كنتَ أنتَ المبتلي لنا فافعل ما شئتَ . فهؤلاء عبادي حقا.(43/35)
لاحظوا هذا الكلام !! متى خاطب الله السري ؟ هل كلَّم اللهُ أَحَداً بعد موسى عليه السلام ؟ هل عن طريق الوحي ؟ هل نزل جبريل على أحدٍ بعد محمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلم ؟ انظروا هذه هي الأقوال التي أقول إنَّها أساس الخلاف بيننا وبين الصوفيَّة ، وهو : التلقِّي ، إنَّهم لا يتلقَّوْن مِن الكتاب والسنَّة ، بل يتلقَّوْن مِن المخاطبة المباشرة – علم الحقيقة ، العلم اللدني ، العلم المباشر عن الله – كما يدَّعون أنَّ الله يكلِّمهم ، ويخاطبهم مثل ما ذكر هؤلاء الأئمة – قشيش ، أو الرازي ، أو السكسكي، أو الأشعري - .
هذا الكلام ينقله محمد علوي مالكي عن السريِّ السقطي ، فلنفرض أنَّ السريَّ السقطي أخذ هذا الكلام مِن كتاب "باتنقل" - كتاب الهند الذي قال عنه البيروني - ، أو كتاب "زندادست" هذا ، أو أي كتاب ، أو أي مصدر ، كيف ينقله محمد علوي مالكي؟ .
السؤال هنا للمالكي : كيف تنقل هذا النصَّ وتقرُّه ؟ وأين هم هؤلاء الذين يعبدون الله لا خوفا مِن النَّار ، ولا حبًّا في الجنَّة ؟ ، هؤلاء أفضل مِن أنبياء الله الذين قال الله تبارك وتعالى فيهم { إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغباً ورهباً وكانوا لنا خاشعين} والأنبياء – صلوات الله وسلامه عليهم – تعوَّذوا مِن البلاء ؟ ومتى امتحن الله تعالى الخلقَ بعددِ ذراتِهم مِن البلاء ما تصبر له الجبال الرواسي ، وهؤلاء هم – فقط – مَن يحبُّون الله ؟ والله عز وجل بيَّن لنا طريق محبتِه أعظمَ البيان ، فقال الله تبارك وتعالى { يا أيها الذين آمنوا مَن يرتدَّ منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلةٍ على المؤمنين أعزةٍ على الكافرين يقاتلون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم} ، ويقول الله سبحانه وتعالى { قل إن كنتم تحبون الله فاتَّبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم } .(43/36)
فذكر أنَّهم يجاهدون في سبيل الله ، وأنَّهم يتَّبعون رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ، هؤلاء هم الذين يحبُّون الله .
وننتقل إلى نصٍّ آخر ، يقول محمد علوي مالكي صفحة (135) نقلاً من كلام علي بن موفق ، يقول : قال اللهمَّ إن كنتَ تعلم أنِّي أعبدك خوفاً مِن نارك فعذِّبني بها ! وإن كنتَ تعلم أنِّي أعبدك حبّاً لجنتك فاحرمني منها ! وإن كنتَ تعلم أنِّي أحبُّك حبّاً منِّي لك ، وشوقاً إلى وجهك الكريم : فأبِحْنيه ، واصنع بي ما شئت !!!
عجيب - والله – يعني أدعية النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلم الكثيرة في الاستعاذة مِن النَّار، وما أمرنا به سبحانه وتعالى أن نقوله في القرآن {ربنا أتنا في الدنيا حسنة وفى الآخرة حسنة وقنا عذاب النَّار }، ودعاء الذين ذكرهم الله تعالى في آخر سورة آل عمران {.. فقنا عذاب النَّار } ، هذه كلها باطل ! وهذه كلها لهو ! وهذه كلها لعب عند الصوفيَّة ! ، والصحيح ، والدين الحق – عندهم - : هو المحبة المطلقة ، كما قلنا : العشق المطلق ، يعني : كلمة "ثيوصوفية" ، عِشق الله عِشقاً مطلقاً ، محبة مطلقة ، هذه هي التي كانت عند الهنود ، وهذه التي ينقلها محمد علوي مالكي وجماعته ، ويقولون : إنَّهم لا يشتهون الجنَّة ، وإنَّهم زهَّاد في الدنيا ، ومع ذلك ينقل هو - المالكي- في صفحة (129) من كتابه عن بشر الحافي ، أنَّه اشتهى الشواء أربعين سنةً!!
أقول : فكيف يجمع المالكي بين نقله عن هؤلاء الذين لا يشتهون الجنَّة ، وبين نقله عن بشر ، وعن – أيضاً - رجلٍ يُدعى إسماعيل الدويري أنَّه اشتهى حلوى كذا سنين .
يعني هذا التناقض كيف يوفِّق بينه هذا الرجل ؟ علماً بأنَّه – أي : بشر الحافي رحمه الله - مِن أمثلهم ، وأفضلهم ، بل هو ليس صوفياً ، إنَّما رجلٌ ، فاضلٌ ، عابدٌ .(43/37)
والإمام أحمد رحمه الله إنما أخذ عليه أنه لم يتزوج ، وهذا مأخذ شرعي ، رحم الله ، الإمام أحمد في ذلك ، فهو يثبت لبشر الحافي التعبُّد ، والزهد ، والورع ، ولكنَّه لأنَّه لم يتزوج : فقد عدَّه الإمام أحمد مخالفاً للسنَّة في هذا .
ونعود إلى كلام المالكي نستعرض ما في هذا الكتاب الذي سمَّاه كما قلنا "المختار من كلام الأخيار" ، والأخيار عندهم : الصوفيَّة حتى البهاليل ، أو المجانين ، أو المجاذيب منهم!!
يقول في صفحة (142) عن إبراهيم بن سعد العلوي ، يقول : مِن كراماته : معرفة ما في الخاطر، والمشي على الماء ، وحرَّك شفتيه فخرجت الحيتان مِن البحر مدَّ البصر رافعةً رؤوسها ، فاتحةً أفواهها ..إلى أخره ، يعني : إبراهيم هذا كان يعرف ما في الخاطر ، وكان يستطيع أن يمشى على الماء، وكان يجمع الحيتان مدَّ البصر بحركة مِن شفتيه !!
مثل هذه الكرامات - علم الغيب - هذا يربطنا بقضيةٍ كبيرةٍ جداً تعرَّض لها هؤلاء الخرافيُّون الأربعة – وهم الرفاعي ، والبحريني ، والمغربييْن -، تعرضوا لهذه القضية ، وهيَ قضية : أنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم يعلم الغيب ! ودافعوا عن علوي مالكي في ذلك.
الصوفيَّة حينما يدَّعون أنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم يعلم الغيب ، وحين يُكثرون من الكلام على معجزات النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم : يريدون أن يثبتوا بذلك الكرامات الأولياء ؛ لأنَّهم يقولون كل ما ثبت للنَّبيِّ معجزة : فهو للولي كرامة ، فإذا أيقنتَ ، وآمنتَ أنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم يعلم الغيب : فيجب عليك – تبعاً – أنْ توقن ، وأنْ تؤمن بأنَّ الأولياء يعلمون الغيب أيضاً ، لأنَّ هذه للنَّبيِّ معجزة ، وهذه للوليِّ كرامة ، والفرق بينهما : أنَّ النَّبيّ يدعي النُّبوة ، والوليُّ لا يدعيها وأما ظاهر أو صورة الخارق للعادة : فهي صورة واحدة ، وهذا سيأتي له بسط إن شاء الله فيما بعد.(43/38)
المقصود : أنَّ هذا الرجل ينقل هذا الهراء ، وهذه الخرافات ، ويسميها كرامات.
ونستمر معه أيضا في صفحة (144) يتكلم عن النُّوري ويقول سئل النُّوري عن الرضا، فقال : عن وجدي تسألون أم عن وجد الخَلق ؟ فقيل : عن وجدك ، فقال : لو كنتُ في الدرك الأسفل مِن النَّار : لكنتُ أرضى ممن هو في الفردوس !! نسأل الله العافية .
يعني : يقول : إنَّه لو وضعه الله عز وجل في الدرك الأسفل مِن النَّار : سيكون أرضى عن الله تعالى ، وعمَّا هو فيه ممن هو في الفردوس !! لماذا ؟ لماذا هذا الرضا ؟ يَظنون أنَّهم بهذا يرتفعون عن درجة العامَّة ، هم خاصة الله ، أهل الرضا ، محبتهم بلغت بهم إلى هذا الحد مِن محبة الله بزعمهم ، أمَّا العامَّة ، ومنهم – في نظرهم ، والعياذ بالله -: الأنبياء فهؤلاء يخافون مِن النَّار ، ولا يرضون بها ، هم بزعمهم أعلى درجةً مِن الأنبياء ! وحصلت لهم أحداث تدل على كذبهم في ذلك ؛ فإنَّ "سمون" ، وقيل : إنَّه "رويم" لما أراد أن يَمتحن محبته ، فصنع بيتاً من الشعر فقال :
لم يبق لي في سواك بد فكيفما شئتَ فامتحنيِّ
فامتحنه الله بعسر البول ، فحبس بوله عن الخروج ، فكان يصرخ في الطريق ، وينادي الصبيان ، ويقول : احثو التراب على عمِّكم المجنون ، أو انظروا إلى عمكم المجنون .
هذه الأمثال ، نسأل الله سبحانه وتعالى العافية ، ولا يدَّعي كما يدَّعي هؤلاء الزنادقة - وهم فعلاً زنادقة - يعتقدون عبادة الله عز وجل بالحب وحده ، وكما نعلم جميعاً أن السلف جميعاً أنَّ السلف قالوا : مَن عَبَد الله بالخوف وحده فهو : حروري - يعني : خارجي مِن الخوارج – ، ومَن عَبَد الله بالحبِّ وحده فهو : زنديق ، ومَن عبده بالرجاء وحده فهو : مرجئ ، ومَن عبده بالخوف والرجاء والحب فهو : السنيِّ .(43/39)
فمن عبده بالحب وحده فهو زنديق وهذا يتفق عليه مع ما ذكره أصحاب الفرق ، أو المؤلِّفون في الفرق وهم : الإمام قشيش ، والأشعري ، والرازي ، والسكسكي - هؤلاء كلهم أئمَّة فرَقٍ وذكرنا النُّقول عنهم - في أنَّ هؤلاء زنادقة ، فهذه العبارة أيضاً تتفق مع ذلك ، فما كان المدَّعون للحبِّ المجرد عند السلف إلا زنادقة ؛ لأنَّهم يُبطنون ، ويخرجون جزءاً مهمّاً جدّاً مِن أعمال القلوب مِن تعبداتها ، مِن أنواع العبادات العظمى ، وهي : عبودية الرجاء ، وعبودية الخوف ، فيسقطونها بالحب .
والله سبحانه وتعالى - كما قلنا - ذكر عن أنبيائه أنَّهم يسألونه الجنَّة ، ويستعيذون به من النَّار ، وإمام الموحدين إبراهيم عليه السلام يقول كما في سورة الشعراء : {واجعلني من ورثة جنة النعيم }.
فكيف يدَّعي هؤلاء أنَّهم أعظم مِن خليل الرحمن - سبحانه وتعالى - وأعلى درجةً ، بل هم ينقلون - وبلغ بهم الاستخفاف أنَّهم نقلوا - كما في "طبقات الشعراني" أنَّ رابعة العدوية قالت لما قرئ عندها قول الله تبارك وتعالى {وفاكهة مما يتخيرون ولحم وطير مما يشتهون } ، قالت : يَعدوننا بالفاكهة والطير كأنَّنا أطفال !!! نعوذ بالله مِن الاستخفاف، سواء صحَّ عنها أنَّها قالت [ أو لم يصح ]، المهمُّ : مَن نقل هذا الكلام : فهو مقر بهذا الاستخفاف بنعيم الله عز وجل وبجنته .
فالتناقض - كما قلنا – أنَّهم ينقلون مثل هذا الكلام ؛ مع نقلهم أنَّ فلاناً اشتهى الشواء أربعين سنَة ، وهذا اشتهى الحلوى كذا سنة .(43/40)
قضية : "ماذا يهدف ؟ ماذا يريد هؤلاء الزنادقة مِن مثل هذه الأمور ؟" : سنتعرض لها إن شاء الله ، نتعرض للهدف : وهو إسقاط التعبدات ، بعد أنْ نستكمل بعض قراءات مِن كتاب المالكي ، هذا الذي - كما قلنا - لم يطلع عليه بعض النَّاس ، أو بما رأوه ولم ينتبهوا لما فيه ، ولم يردَّ عليه أحدٌ ، ونحن نقول لهؤلاء الخرافيين الذين يدافعون عن "الذخائر" : انظروا أيضاً إلى هذا الكتاب ، واجمعوا فكر الرجل مِن جميع جوانبه ، ثم انظروا أيضاً ما هي صلته بالإسلام ، أو بالتصوف الذي هو الدين القديم .
يقول المالكي في صفحة (145) قال "رويم" : مكثتُ عشرين سَنَة لا يعرِض في سرِّي ذكر الأكل حتى يحضر ! .
يعني : مِن زهده لا يعرض له في خاطره ذكر الأكل إلا إذا حضر أمامه .
أولاً : هذا أمرٌ لم يتعبدنا الله عز وجل به ، والله عز وجل ذكر الطعام في القرآن ، وإن كان يخطر ببالِ كلِّ إنسان ،وورَدَ ذكره في أحاديث كثيرة - وليس هنا المجال لحصرها - وليس هناك ما يعيب الإنسان أن يتذكر الطعام ، أو غيره .
وأيضاً : ليس هناك ما يرفع درجته بأنَّه لا يتذكر الطعام ؛ لأنَّ الله سبحانه وتعالى لم يتعبدنا بهذا ، ثمَّ هذا عملٌ وأمرٌ لو حصل لأحدٍ فهو أمرٌ خفيٌّ ؛ لأنَّ الخواطر في القلب ، فلماذا يظهرُها ويخبر النَّاس بها ؛ إلا وهم - والعياذ بالله - يحرصون على أن يشتهروا ، أو يُعرفوا .
فهذا العمل الذي لم يفعله الصحابة رضي الله عنهم ، ولم يفتخر به الأنبياء : يأتي مثل هذا الرجل فيذكرونه في الرياء الكاذب ، هذا هو الرياء الكاذب حقّاً .
ومن الرياء الكاذب أيضاً : ما ينقله عن بعضهم أنَّه قال في صفحة (146) : منذ ثلاثين سنة ما تكلمت بكلمةٍ أحتاج أن أعتذر منها .
وينقل في صفحة (147) عن آخر : منذ عشرين ما مددتُ رجلي في الخلوة ، فإنَّ حسن الأدب مع الله تعالى : أولى .
[ بعد ] هذا الكلام : قد تقولون : هذه فرعيَّات ! نعم ، لكن نربطها بمنهج الرجل .(43/41)
يعلِّق المالكي على هذا القول الأخير ، يقول : فإنَّ قيل : فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمدُّ رجلَه في الخلوة ، وكان أحسن العالمين أدباً ؟
قلنا – أي : المالكي - : شأن أهل المعرفة أبسط ، وأوسع من شأن أهل العبادة ، ولكن لا إنكار عليهم في تضييقهم على أنفسهم ؛ لأنَّ ذلك مقتضى أحوالهم .
لاحظِ العبارة "شأن أهل المعرفة أبسط وأوسع من شأن أهل العبادة"!!!! ، يعني : النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم مِن أهل المعرفة ؛ فشأنه أبسط ، وأوسع مِن أهل العبادة ، فيمدُّ رجله لكنَّ أهل العبادة لا إنكار عليه في تضييقهم على أنفسهم ؛ لأنّ ذلك مقتضى أحوالهم!! .
هذه الحال ، وقضية الحال عند الصوفيَّة ، وأنَّ الولي يسلَّم له حاله ، لا يعترض على حاله ، هذه جعلوها طاغوت ، وركَّبوا عليها مِن القضايا البدعيَّة والشركيَّة الشيءَ الكثير جدّاً ، فكون هذا صاحب حالٍ : لا يعترض على حاله ؛ لأنَّه صاحب عبادة ، وهذا صاحب معرفة ! ، هذا مِنَ العوام ، وهذا مِن الخاصَّة ! والحال يسلَّم للخاصة ! وفرقٌ بين هذا الرجل [ وبين غيره ] فما كان حلالاً في حقِّ هذا : فهو حرامٌ في حقِّ الآخر ، وما كان حسنُ أدبٍ مع هذا : فهو سوء أدبٍ مع الآخر !! .
ولذلك ينقل في صفحة (149) ، يقول : إنَّ "الشبلي" - وهو مِن أئمَّتهم - لا نعلم له مسنداً سوى حديثٍ واحدٍ عن أبى سعيد رضيَ الله تعالى عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لبلال "القَ اللهَ عزَّ وجلَّ فقيراً ، ولا تلْقَهُ غَنِيّاً" ، قال : يا رسولَ الله كيف لي بذلك ؟ قال : هو ذاك ، وإلا فالنَّار" !.
يقول المالكي : إن قيل : كيف تجب النَّار بارتكاب أمرٍ مباحٍ في الشرع ؟
قلنا : حال بلال ، وطبقته مِن الفقراء تقتضي ألا يدَّخروا ! فمتى خالفوا مقتضى حالتهم : استوجبوا العقوبة على الكذب في دعوى الحال ، لا على كسبهم ، وادِّخارهم الحلال ! .(43/42)
إذاً هنا قضيَّة تشريعيَّة مهمَّة ، هنا مناط تكليف ، ومناط تشريع يختلف ، ليس المناط أو متعلق التكليف هو أنَّه مسلمٌ ، عاقلٌ ، بالغٌ ، حرٌّ ، لا ، أيضاً هناك مناط آخر وضعته الصوفيَّة ، هل هو صاحب حال ؟ أو صاحب عبادة مِن العامة ؟
إنْ كان مِن أهل الشريعة ، من أهل العبادة ، مِن العامة : فهذا في حقِّه الأشياء حلال، لكن إن كان مِن أصحاب الأحوال : فهذا حتى مجرد جمع المال : حرام ! فإمَّا أن يلقى الله عز وجل فقيراً ، وإلاَّ فليدخل النَّار ،كما وضعوا هذا الحديث المكذوب على رسول صلى الله عليه وسلم ، فيقول - كما يقول المالكي - : "متى خالفوا مقتضى حالهم : استوجبوا العقوبة على الكذب في دعوى الحال ، لا على كسبهم" !! .
يعني : بلال رضيَ الله عنه وأرضاه لو جمع مالاً حتى صار غنيّاً : يدخل النَّار ويعذب لا على أنَّ المال الذي جمعه حرام – هو حلال نعم - لكن على أنَّه مخالف للحال ! كيف يدَّعي حالاً ولا يوافقها !؟
فأية دعوى التي ادعاها بلال ؟ وأية حال ؟
هذه هي المشكلة ؛ أن القوم يضعون تشريعات ، وتقنينات أصلها مأخوذ من أولئك الزنادقة .
ويأتي في صفحة (151) : ينقل عن رجل يقال له "أبو أحمد المُغازَلي" ، يقول : خطر على قلبي ذكرٌ مِن الأذكار ، فقلت : إن كان ذِكرٌ يُمشى به على الماء فهو هذا ، فوضعتُ قدمي على الماء : فثبتت ، ثم رفعتُ قدمي الأخرى لأضعها على الماء فخطر على قلبي كيفية ثبوت الأقدام على الماء فغاصتا جميعاً !!
أرأيتم هذا الذكر خطرَ على قلبه ، لا هو مِن "صحيح البخاري" ، ولا هو مِن "المواهب اللدنيَّة" التي يرجع إليها هؤلاء الخرافيُّون ، ولا من السيوطي ، ولا مِن ابن عساكر ، ولا مِن "الحِلية" ، [ إنَما]خطر على قلبه ! .
وهنا نقف عند قضية خطيرة في منهج التصوف ، والتي أشرنا إليها ، وهي قضية التلقِّي – العلم اللدنِّي - المباشر عن الله .(43/43)
هم يقولون : حدَّثني قلبي عن ربِّى ، ويقولون : أنتم - أي : أهل السنَّة والجماعة – تأخذون علمَكم ميِّتاً عن ميِّت - حدثنا فلان عن فلان عن فلان ، كله ميِّت عن ميِّت - ونحن نأخذ علمَنا عن الحيِّ الذي لا يموت !!
وأنا أقول : إنَّ الحيَّ الذي لا يموت إلى يوم يبعثون - كما أنبأ الله تعالى - :هو إبليس وأنَّه لاشك أنَّ الصوفيَّة يأخذون هذه الوسوسات مِن إبليس ؛ وإلا كيف خطر على قلب هذا الرجل ذِكرٌ مِن الأذكار ؟ ما هو هذا الذِّكر ؟ ما مدى مشروعيته ؟ ما مدى صحته ؟ لا ندري فيقول في نفسه : إن كان ذِكراً يمشى به على الماء فهو هذا ، ثمَّ يضع قدمه على الماء ، ثم يمشي على الماء .
انظروا هذه الخرافات ، يَنقلها هذا الرجل ، ويقرُّها ، لا أقصد أن هذه الخرافات في ذاتها فقط خرافة ، [ إنَّما ] أقصد أن نربطها بمنهج الرجل - منهجه في التلقي - وهو الاستمداد مِن العلم المتلقَّى اللدنِّي ، والاستمداد مِن المنامات ، ومِن الأحلام - كما يأتي أيضاً بعض إيضاح لذلك - .
ثم ينقل - مِن جملة ما ينقل - عن إبراهيم الخَوَّاص صفحة (239) ، يقول : إنَّ الخوَّاص قال : سلكتُ البادية إلى مكة سبعة عشر طريقاً ، منها طريقٌ مِن ذهب ! وطريقٌ مِن فضَّة !
ثم يقول علوي مالكي : فإنْ قيل : وهل في الأرض طرقٌ هكذا ؟ ، قلنا : لا ؛ ولكن هذا مِن جهة كرامات الأولياء !(43/44)
مَن منكم يفهم هذا الكلام ؟ مَن استحل هذا الكلام في عقله ؟ لكن أنتم مخطئون إذا استخدمتم العقل ؛ لأنَّ الصوفيَّة لا تؤمن بالعقل أصلا ، [ بل ] ولا بالنقل ، الصوفيَّة تؤمن بالكشف ، وبالذوق ، فأنتم ما ذقتم- ولا أنا – شيئاً ، ما تذوقنا أنَّنا نمشي في البادية إلى مكة سبعة عشر طريقاً ، منها طريقٌ مِن ذهب ، وطريقٌ مِن فضة ، إذا قلنا مشينا [ إلى مكة ] مَا رأينا شيئاً ، قالوا : أنتم لست أصحاب حال ، أنتم مِن العامَّة ، أصحاب شريعة ؛ لكن نحن أصحاب حقيقة ! نرى هذه الطرق ، فهذه مِن كرامات الأولياء !
هكذا ينقل محمَّد علوي مالكي ، يستشكل ، ثمَّ يأتي بالجواب الذي يعتقد أنَّه جوابٌ مفحِمٌ ، مُسكتٌ .
وينقل عن أخت داود الطائي ، أنَّها قالت له - وهذا يذكرنا بما يفعله عُبَّاد الهنود ، كما ذَكَر البيروني وغيره مما هو معروفٌ عنهم الآن مِن تعاليم النفس – : لو تنحيتَ مِن الشمس إلى الظلِّ – [ يعني : ] تقول : انتقل مِن الشمس إلى الظل - فقال : هذه خُطًا لا أدرى كيف تُكتب .
الصوفيَّة يؤمنون بالجبريَّة المطلقة – سلبية المطلقة – التوكل عندهم : هو تواكل ، يقعد ليذهب في البادية بدون أي زاد ، يقول : متوكِّل على الله ! يجلس في المسجد ، وتُعطى له الزكاة ، وتعطى له الصدقات ، والهبات ، ويقول : متوكِّل على الله .
تقول له [ أخته ] : قم مِن الشمس إلى الظل ، فيقول : خطًا ، لا أدرى كيف تكتب.
لو قمتَ { وما تشاءون إلا أن يشاء الله } ، الله عز وجل قال لنا هذا ، وأمَرَنا أنْ نتخِّذ الأسباب.
مثل هذه الأشياء ينقلها ، ويعتبرها هي درر كلام الأخيار ، ومِن أفضله .
ننتقل إلى صفحة (242) ، عن أبي يزيد البسطامي : يقول رأيتُ ربَّ العزة في المنام فقلت : "ياباراخُدا" – بالفارسية - .(43/45)
الصوفيَّة يقولون : إنَّهم يروْن الله تعالى في المنام ، ويروْن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم في المنام ، ويقولون : إنَّهم يرون النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم يقظةً .
وبعض تلاميذ علوي مالكي سواءٌ الذين هداهم الله ، أو غيرهم يقولون : إنَّهم يمشون في هذا الطريق – أي : الترقِّي – حتى يرَوا الرسولَ صلى الله عليه وسلم في المنام ، وأنَّهم سيستمرُّون حتى يصبحوا ليروْنَه يقظةً .
وهذا مِن العقائد الراسخة عند الصوفيَّة - أغلب طرقهم ، أوكلها - مثلا : كتاب "التيجانية" ذكر أنَّ هذا مِن عقائد التيجانية ، وموضَّح فيه ، و"طبقات الشعراني" نقل هذا عن كثيرٍ منهم ، و"جامع كرامات الأولياء" - أيضاً - نقل هذا ، وكثيرٌ مما لا أستطيع أنْ اسمِّيَهم الآن .
في تراجمهم نقلوا أنَّهم رأوا الرسول صلى الله عليه وسلم ، وأمرهم بكذا ! ونهاهم عن كذا ! وكلُّ هذا مِن البدع ، ومِن الضلالات التي زيَّنها لهم الشيطان .
الحاصل : أنَّ أبا يزيد يقول : إنَّه رأى ربَّ العزَّة في المنام .
قول هؤلاء : إنَّهم يرَوْن الرسول صلى الله عليه وسلم ، وأشنع منه : مَن يدعى رؤية الله تبارك وتعالى منهم .
لكن خفت عند الصوفيَّة المتأخرين قضية رؤية الله سبحانه وتعالى نوعاً ما ؛ ليُكثرَ مِن رؤية النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ، ربما لأنَّ الاستنكار عليهم كثُر ، ولسببٍ آخر مهمٍّ وهو ازدياد علاقة التصوف بالتشيع ، فكلَّما غلا أولئك في علي رضي الله عنه : غلا هؤلاء في الرسول صلى الله عليه وسلم ؛ لأنَّ الهدف واحدٌ .
وهذا يدعُنا نترك كتابَ "علوي" الآن ، ونتحدث عن هذه القضيَّة ؛ لأنَّها قضيَّة مهمَّة.
هذه القضية : هي قضية أنَّ أعلى سند إلى الصوفيَّة ينتهي إلى عليٍّ رضيَ الله عنه ، يقولون : إنَّ عليّاً أخذ الخِرقة مِن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم .(43/46)
فالخرقة هذه : يتناقلونها يداً عن يدٍ إلى عليٍّ رضيَ الله عنه ، ويتعلق الصوفيَّة بعليٍّ رضي الله عنه تعلُّقاً شديداً ، يشبه تعلُّقَ الرافضة .
هذه تُظهر لنا الصلة بين دين الشيعة الذي أسَّسه عبد الله بن سبأ ، وبين التصوف ، فتأليه البشر ، أو الحلول والاتحاد - الذي ادَّعاه عبد الله بن سبأ - موجودٌ لدى الطائفيين جميعاً ، وأصله - كما نعلم - مِن اليهود ؛ لأنَّ عبد الله بن سباً يهوديٌّ ؛ فأصلُ الحلول هذا : مِن اليهود ، واليهودي "بولس شاول" هو الذي أوجد هذا الحلول في دين النَّصارى وقال : إن الله جلَّ وتعالى عن ذلك حلَّ في عيسي عليه السلام ، فهو مبدأ يهودي أدخله اليهود في هذه الأديان .
الحاصل : أَّننا نجد أنَّه في القرن الخامس اجتمعت الضلالات والبدع ، ونجد أنَّ نهاية سند الخرقة الصوفيَّة ، ومبدأ العلم اللدنِّي ، والحقيقة التي يدَّعونها ، وعلم الباطن : ينتهي إلى عليٍّ رضي الله عنه .
المعتزلة ينتهي سندُهم إلى علي رضى الله عنه وأنَّه أولُّهم ، ففي كتاب "طبقات المعتزلة" - كتاب "المنية والأمل" وأمثاله - يجعلون أولَّهم علي رضي الله عنه ، فأوَّل المتكلمين : هو علي رضي الله عنه .
أيضاً : بالنِّسبة للشيعة معروف أنَّهم يجعلونه أول الأئمَّة الاثني عشرية ، وكثيرٌ مِن فِرقِ الشيعة تؤلِّهُ عليّاً رضي الله عنه – فهنا ملتقى .
الباقون أيضاً : يلتقون عند علي رضي الله عنه ، في قضية أنَّه هو الباد للدور السابع مِن أدوار الباطنية ، أو الإسماعيلية ، على اختلاف فِرَقِهم في ذلك .
إذاً هناك تخطط ، ومؤامرة ، وجدوا أنَّ نجاح هذا الهدف ، وتحقيق هدم الإسلام : يمكن أن يكون عن طريق تجسس العواطف لحب علي رضي الله عنه .(43/47)
والصوفيَّة لما رأوا كراهية النَّاس للتشييع ، وللرفض - أي : عامَّة المسلمين يكرهون ذلك - لجئوا إلى الطريق الأخبث ، وهو الغلو في محبة الرسول صلى الله عليه وسلم ، وكلُّ ذلك بإيحاءٍ مِن الشيطان ، فغلا هؤلاء في النَّبيِّ صلى الله عليه وسلَّم غلُوّاً خرجوا به في كثيرٍ مِن الأمور عن حدِّ الإسلام ، وهذا يدلُّ على أنَّ هناك تخطيطاً ، وتعاوناً ماكراً هدفه : هو هدم الإسلام ، واجتثاث هذا الدين ، والقضاء على عقيدة أهل السنَّة والجماعة بالتلاعب بهذه العواطف - أعني : عواطف العامَّة - بالنسبة لحبِّ علي رضي الله عنه ، أو حب النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم .
ولو شئنا أن نأخذ بعضَ الأدلَّة مِن كلام الصوفيَّة على ذلك : ننظر مثلاً كتاب "أبو حامد الغزالي" على سبيل المثال ، والغزالي كما هو معروف مِن أئمَّة التصوف الكبار ، يقول في صفحة (117) مِن كتاب أو مجموعة "قصور العوالي في رسائل الإمام الغزالي" من الجزء الأول يقول : قال علي رضي الله عنه – وهو يتحدث عن العلم اللدني - : إنَّ الله سبحانه وتعالى أخبر عن الخضر فقال : { وعلَّمْناه مِن لدنَّا علماً } ، وقال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه !! أدخلتُ لساني في فمي ، ففتح في قلبي ألف بابٍ مِن العلم ، مع كلِّ بابٍ ألفُ باب !!
وقال : لو وُضعت لي وسادة ، وجلستُ عليها : لحكمتُ لأهل التوراة بتوراتهم ، ولأهل الإنجيل بإنجيلهم ، ولأهل القرآن بقرآنهم !!.
يقول الغزالي : وهذه مرتبة لا تُنال بمجرد التعلم الإنساني ، بل يتحلى المرء بهذه المرتبة بقوة العلم اللدني !! .
وقال أيضاً رضي الله عنه : يُحكى عن عهد موسى عليه السلام بأنَّ شرح كتابه أربعون حِملاً ، فلو يأذن الله بشرح معاني الفاتحة : لأشرع فيها حتى تبلغ مثل ذلك ، يعني : أربعين وِقراً !! .
وهذه الكثرة ، والسعة ، والانفتاح في العلم : لا يكون إلا لدنيّاً ، إلهيّاً ، ثانوياً . انتهى كلام الغزالي .(43/48)
يعني هذا التعظيم هل يمكن أن ننظر هذه العبر ؟ هل يمكن أنْ يقول علي رضي الله عنه هذا الكلام ؟ ما معنى "أدخلتُ لساني في فمي" ؟ وأين كان اللسان ؟ [ وانظر إلى ] ركاكة العبارة ، وصياغتها ، ثم كيف يحكم علي رضي الله عنه لأهل التوراة بتوراتهم ، ولأهل الإنجيل بإنجيلهم ! والله عز وجل قد نسخ هذه الكتب ، ونسخ هذه الشرائع ؟ وكيف عرف علي رضي الله عنه ذلك ، ونحن عندنا الحديث الصحيح الذي رواه البخاري ، ومسلم ، والإمام أحمد ، وغيرهم ، والأئمَّة في مواضع كثيرة : "أنَّ أحد أصحاب علي رضي الله عنه – وهو أبو جحيفة - قال له : يا أمير المؤمنين هل خصَّكم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بشيءٍ مِن العلم ؟ فقال علي رضي الله عنه : لا والذي فلق الحبَّة ، وبرأ النسمة ، ما خصَّنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بشيءٍ مِن العلم ؛ إلا ما في هذه الصحيفة ، أو فهماً يؤتاه المرء من كتاب الله عز وجل ، فأخرج الصحيفة ، فإذا مكتوب فيها : العقل - أي : والديات - ، وفكاك الأسير ، وأن لا يُقتل مسلمٌ بكافر ، - وفي بعضها - : أنَّ المدينة حَرامٌ" .
فهي وثيقة كتبها النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم ، ويقال : إنَّها مِن الوثائق التي كتبها مِن معاهدات الصلح ، احتفظ بها علي رضي الله عنه .
المهمُّ : أنَّه يُقسِم أنَّ ذلك لم يكن ، هذا دليل على أنَّ الدعوة قديمة قيلت في عهده رضي الله عنه ، وأنَّ عبد الله بن سبأ ، والزنادقة الذين كانوا معه مِن اليهود ، وأمثالهم : هم الذين ابتدعوها .
وننظر إلى كتاب "طي السجل" - وهو أحد مراجع الرفاعي في ردِّه على الشيخ ابن منيع - في صفحة (322) ، يقول : يُروى أنَّ الإمام جعفر الصادق أخذ علم الباطن عن جده لأمِّه الإمام القاسم بن محمد بن سيدنا أبي بكر الصديق رضي الله عنهم أجمعين ، وهو أي : أبو بكر رضي الله عنه أخذ عن سيِّدنا سلمان الفارسي رضي الله عنه ! وهو أخذ عن سيِّد المرسلين صلى الله عليه وسلم ! ! .(43/49)
لكن يقول بعد ذلك : وقد صحَّ أنَّ سلمان تلقى علم الباطن عن أمير المؤمنين علي ، وهو ابن عمه صلى الله عليه وسلم ، فلا فرق إذا الكلُّ راجع إليه صلوات الله عليه.
أين هذا العلم الباطن ؟ وما هو هذا العلم الباطن الذي أخذوه ؟ وأين يوجد ؟ ولماذا وُضع سلمان بالذات ؟
لاحظوا أنَّ الباطنية تضع سلمان لأنَّ أصل هذه الفكرة ، سواء التصوف ، أو الباطنيَّة ، أو الزنادقة : جاءت مِن الأفكار المجوسيَّة ، والوثنيَّة – والهندية ، وغيرها - .
والرجل الأعجمي الذي كان في عهد النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم في تلك الديار : هو سلمان رضي الله عنه ، فإذاً فليُجعل هذا هو التُّكئة ، وجُعل سلمان عند بعض طرق الباطنية هو الباب ، أو الحجاب ، إذا الإمام مستور !! وعند الشيعة هو رضي الله عنه مع أبي ذر ، والمقداد ، وعلي - هؤلاء الأربعة - هم الوحيدون المسلمون مِن الصحابة !! وإن كان بعضهم يصلهم إلى أكثر مِن هؤلاء الأربعة فيضيف عمَّار ، وأمثاله .
المهمُّ : أنَّه هو مِن المعدودين مِن الذين ثبتوا على الإسلام ، ولم يرتدوا ، لماذا ؟ لأنَّ الفكرة التي تهيئ نفسها : فكرة يهوديَّة ، مجوسيَّة ؛ إنَّما نشأت في بلاد المجوس ، وانتشرت عن طريقهم ، فيوضع سلمان رضي الله عنه في السند ، وأنَّه تلقى علم الباطن .
ما هو هذا العلم الباطن ؟ هذا الذي نجده في كلام الصوفيَّة في تفسيرهم الذي يسمونه "التفسير الإشاري" ، في إشاراتهم ، في أقوالهم ، في كتبهم ، هذا العلم الباطن ، الذي هو تعبيرٌ آخر عن ما يسمَّى العلم اللدني ، أو علم الحقيقة ، ليس هو العلم الذي بين أيدينا ، ليس هو البخاري ، ولا مسند الإمام أحمد ، ولا كتب الفقه المعروفة أبداً .(43/50)
ولذلك قلتُ : إنَّ معرفتنا بمنهج المتصوفة : أهمُّ مِن الردِّ التفصيلي عليهم ؛ بأنَّ هذا الحديث ضعيف الذي استشهدتم به ، أو هذا الحديث صحيح ، أو غير ذلك ، نقول لهم : أصلاً ليس مِن منهجكم العلمي أنْ ترجعوا إلى كتب السنَّة ، ولا إلى غيرها حتى تردُّوا علينا "بأنَّكم ضعفتم حديثاً ، ونحن نصححه" ، الخلاف [ يسير ] ، ولا داعي للتكفير .
لا ، أنتم مرجعكم إلى الكشف ، إلى الحال ، إلى الذوق ، إلى الوجد ، وليس مرجعكم نصوص الوحي ، فهذا العلم اللدني الذي تتلقونه عن طريق الكشف ، هذا العلم الباطن : نحن نبدأ الجدال ، والنقاش بيننا وبينكم من هذه النقطة ؛ إمَّا أنْ تعودوا إلى الشريعة ، وإمَّا أن تُصروا على أنَّ ما أنتم عليه هو الحقيقة ، وهو العلم الباطن ، فتأخذون حكم الباطنيَّة ، وحكم الملاحدة الذين يدَّعون ذلك.
وبمناسبة قولهم رؤية النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم في المنام - كما سبق - ، وبمناسبة قضية العلم اللدنِّي ؛ أنقل قصة عن أحد أئمَّة الرفاعيَّة ، ومشايخها الكبار ، الذين أخذوا عن أحمد الرفاعي المؤسس ؛ ننقل هذه كما أوردها صاحب كتاب " طي السجل" صفحة (368) ؛ نقرأ قصة إلباس الخرقة للشيخ علي الأحور ، كما نقلها هذا الرجل ، يقول مؤلف "طي السجل" : وهنا نذكر تيمُّناً قصة إلباس الخرقة للشيخ الجليل علي الأحور شيخ السيد علي الأهدل ، مِن يد حضرة القطب الأعظم السيد الكبير أحمد الرفاعي رضي الله عنه ، بأمر النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ، قال الإمام العلامة أبو بكر الأنَّصاري في "عقود اللآل" حين ترجم للعارف الأحور ما نصه :(43/51)
شيخ الشيوخ ، الإمام ، العارف ، الشيخ علي الأحور بن أحمد .. الخ النسب ، أخذ في بداية أمره عن الشيخ العارف بالله عبد القادر الجيلي – يعني : الجيلاني - قدس الله سرَّه ، رأى بـ " أسعر " من بلاد الجزيرة سنة ستين وخمسمائة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقال : يا رسول الله ، دلني على أحب مشايخ الوقت إليك ، وأحبهم طريقة عندك لأتمسك به ؟ قال عليه الصلاة والسلام : يا علي أحب مشايخ الوقت إليَّ ، وأرضاهم عندي طريقة : طريقة ولدي السيد أحمد الرفاعي صاحب "أم عبيدة" – وأم عبيده بلدة في جنوب العراق في البطائح التي كان يعيش فيها الرفاعي – قلت يا رسول الله : وكذلك هو – (يعنى هو أفضل المشايخ) - ؟ قال : وكذلك هو ، رغماً على أنفك ! وضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه ، قال الأحور : فانتبهت خائفاً ، مرعوباً ، وقمت على قدم الإخلاص راجعاً أكر إلى "أم عبيدة" ، فلما دخلتُ على سيدي إمام القوم ، تاج الطائفة ، السيد أحمد الرفاعي رضي الله عنه ، وطلبتُ منه الخرقة ؛ فقال لي : أنا وأخي عبد القادر والفقراء كلهم واحد فالزم شيخك .
قال سفر : لاحظ تقسيمات الصوفيَّة ، هم الذين يفرقون الأمَّة ، هذا تبع هذا الشيخ ، وهذا تبع هذا ، مايحق لهذا أن يأخذ من هذا ، ولا هذا يأخذ من هذا ؛ فكأن المسألة شركات ، و مساومات ، ويحصل بينهم الغضب الشديد على أن طالباً أخذه هذا من هذا.(43/52)
فالرفاعي يقول : الزم شيخك ، قال : فقلت لي معك خلوة ، قال : فليكن ، قال : فلما خلوتُ به : قلت : بالله أسألك مَن أرضي المشايخ طريقة اليوم ، وأحبهم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ ، فقال – أي الرفاعي - : مَن يقال ذلك بشأنه : "على رغم أنفك" – يعني : نفسه - ، يقول : - يعني : أحمد الرفاعي – يدَّعي علم الغيب ، ويدعي أنه عرف الرؤيا ، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم لما قال لهذا المريد على : "رغم أنفك" - يعني : الرفاعي والشيخ على رغم أنفك – فالرفاعي عنده خبر بهذا الكلام ، ولذلك يقول للمريد : أفضلهم مَن قيل في حقه على "رغم أنفك" ، يقول هذا المريد الأحور : فأغشي عليَّ من هيبته ؛ فأجلسني بيديه ، وتواضع لي كل التواضع ، وقال : يامبارك أنت ما تعرف الملاطفة ، طيب خاطرك ! قلت : لا برحتُ إلا بخرقتك ، قال : لا جعلني الله ممن يفرق بين الفقراء ، ويفضل نفسه عليهم ، اصبر هنا برهة يسيرة ، ويقضي الله خيراً ، قال : فمكثتُ سنَةً كاملةً لا أتجرأ على ذكر شيءٍ مما أنا فيه ، وقد جاء شهر ربيع الآخر وفي أول ليلة منه رأيتُ الرسول صلى الله عليه وسلم !! وأنا في زاوية من زوايا "الرواق" ، فطرحتُ نفسي على قدميه ، وقلت : يارسول الله ، في الليل تشرفني برؤيتك بـ"أسعر" ، وأنا أنتظر أن يسلكني ولدك السيد أحمد الرفاعي – قال سفر : هذا من رفاعة ويقول ولدك !! – طريقتك المباركة ، فتبسم عليه الصلاة والسلام ، وقال : يا علي.. فنادى أحمد ، فجاء سيدي السيد أحمد الرفاعي خاشعاً ، متواضعاً ، فقبَّل يد النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ، ووقف أمامه ، وقال عليه الصلاة والسلام : يا ولدي ! سلِّك الشيخ على طريقتك ، وألبسه الخرقة ! ، فقال : روحي لك الفداء يا حبيبي ، عليك من ربك أفضل الصلاة والسلام ، أنت تعرف أنني لا أحب التفرقة بين فقراء الوقت ، وقصْد الجميع أنت بعد الله سبحانه وتعالى – قال سفر : يعنى يقول : أنا لا أريد أن أعتدي على الشيخ(43/53)
عبدالقادر الجيلاني ، كلُّنا واحد ، وأنت مقصد الجميع – فقال : كذلك ، ولكن أنت شيخ الوقت ، شيخ الفقراء كلهم ، فافعل ما آمرك به ، فقبَّل الأرض بين يدي رسول الله.
يقول هذا المسمَّى الأحور : فانتبهتُ فرحاً مسروراً ، فأحسْنت الوضوء ، وصليتُ ما تيسَّر ، ودخلتُ جامع "الرواق" لأداء صلاة الصبح مع الجماعة ، فرآني سيدي قبل دخولي باب المسجد ، فأخذ بيدي ، وضمَّني إليه ، وأجلسني على بارية هناك ، وأخذ عليَّ العهد ، وألبسني الخرقة ! وقال : هذه لك مِن رسول الله صلى الله عليه وسلم ! فالبسْها مباركةً إن شاء الله تعالى ! – قال سفر : يعني : في نفس الوقت الرفاعي يعلم الغيب ، عرف الرؤيا ، وعرف ما قاله الرسول بزعمهم للأحور - .
قال : وفي اليوم الثامن من ربيع الآخر توفي الشيخ عبد القادر الجيلاني رحمه الله في بغداد … إلى آخره .
يعني : ألْبسه الخرقة ، فتوفي عبد القادر - شيخه الأول - فكان أحمد الرفاعي هو الشيخ البديل ، فنقول : هذا نموذج مِن نماذج كثيرة جدّاً نعرف بها ادَّعاؤهم بهذا العلم اللدنِّي ، ومع تعلقهم بالرسول صلى الله عليه وسلم ادَّعوا أنَّهم يحبونه وما قصدهم ، وما هدفهم إلا ما ذكرنا ، وأنا لأن أنقل عن من هو أقدم مِن هؤلاء لنعرف حقيقة سبب غلوهم في النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ؛ وهو الحلاج ، والحلاج : أفتِيَ بكفره – ولله الحمد - في محضر كبير من علماء المسلمين ، وأقيم عليه الحد ، وقتل بتهمة الزندقة بعد أن اعترف بكثيرٍ مِن الكفريات ، وأنا الآن أقرأ بعض ماذكر مما يتعلق بموضوع الغلو في النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ، ليجد أساسه عند الصوفيَّة ، للحلاج كتاب اسمه كتاب "الطواسين " – مطبوع – يبتدأ من صفحة 82 ، من كتاب "أخبار الحلاج" ، أوَّل الطواسين : هو طاسين السراج ، طبعاْ السراج يقصد النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم ، أي : السراج المنير يقول :(43/54)
طاسين ، سراج مِن نور الغيب ، بدأ وعاد ، وجاوز السراج وساد ، قمرٌ تجلى مِن بين الأقمار ، برجه من فلك الأسرار ، سمَّاه الحق أمِّيّاً لجمع همَّته ، وحَرَمِيّاً – يعني : نسبة إلى الحرم – لعظم نعمته ، ومكيّاً لتمكينه عند قربه ، شرَح صدرَه ، ورفع قدره ، وأوجب أمره ، فأظهر بدره ، طلع بدره من غمامة اليمامة ، وأشرقت شمسه من ناحية تهامة ، وأضاء سراجه من معدن الكرامة ، … إلى أن يقول :
ما أبصره أحد على التحقيق سوى الصدَّيق ؛ لأنَّه وافقه ثم رافقه ؛ لئلا يبقى بينهما فرق ، ما عرفه عارف إلا جهل وصفه ، { الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وإن فريقاً منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون } ، أنوار النبوة مِن نوره برزت ، وأنوارهم مِن نوره ظهرت ، وليس في الأنَّوار نور أنور وأظهر وأقدم من القدم سوى نور صاحب الكرم ، همته سبقت الهمم ، ووجوده سبق العدم !!! واسمه سبق القلم – أي : قبل أن يخلق القلم – لأنَّه كان قبل الأمم ، ما كانت الآفاق وراء الآفاق ودون الآفاق ، أظرف ، وأشرف ، وأعرف ، وأرأف ، وأخوف ، وأعطف من صاحب هذه القضية ، وهو سيِّد البرية الذي اسمه أحمد ، ونعته أوحد ، وأمره أوكد ، وذاته أوجد ، وصفته أمجد، وهمَّته أفرد ، يا عجباً ما أظهرَه ، وأنضره ، وأكبره ، وأشهره ، وأنوره ، وأقدره ، وأظفره ، لم يزل كان ، كان مشهوراً قبل الحوادث ، والكوائن ، والأكوان ، ولم يزل ، كان مذكوراً قبل القبل ، وبعد البَعد والجواهر والألوان ، جوهره صفويٌّ ، كلامه نبويٌّ ، علمه عَلَويٌّ – نسبة إلى علي - ، عبارته عربيٌّ ، قبيلته لا مشرقي ، ولا مغربي ، جنسه أبويٌّ ، رفيه رفويٌّ ، صاحبه أميٌّ ...إلى آخر الكلام الذي ينقله الحلاج ، إلى أن يقول :(43/55)
الحق وبه الحقيقة ، هو الأول في الوصلة ، وهو الآخر في النبوة ، والباطن بالحقيقة ، والظاهر بالمعرفة ، ما خرج عن ميم محمد ، وما دخل في حائه أحد ، حاؤه ميم ثانية ، والدال ميمٌ ، داله دوامه ، وميمه محله ، وحاؤه حاله ، وحاله ميم ثانية .
قال سفر : هذه الطلاسم التي يذكرونها ، هي حساب "الجمَّل" ، أو "أبو جاد" ، أو أبجد هوز والحاء والميم .
نستمر في كلام الحلاج الذي نرى حقيقته ، وحقيقة دينه من قوله في طس الأزل والالتباس ، يقول :
قيل لإبليس : اسجد ، ولأحمد انظر ، هذا ما سجد ، وأحمد ما نظر ! ما التفت يميناً ولا شمالاً ، ما زاغ البصر ، وما طغي – قال سفر : يعني يشبِّه موقف النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم بموقف إبليس - والعياذ بالله - وأن إبليس لم يسجد ، وأحمد لم ينظر فالاثنان سواء، فإن قلت كيف يشابه النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم إبليس ، فيقول لك : لا تستغرب، أنظر ماذا قال بعد ذلك في صفحة (99) يقول :
تناظرت مع إبليس وفرعون في "الفتوة" – وهي : درجة مِن درجات الصوفيَّة ، ومقام من مقاماتهم - فقال – أي : إبليس يقول للحلاج - : إن سجدتُّ سقط عني اسم الفتوة ! وقال فرعون : إن آمنتُ برسوله سقطتُّ من منزلة "الفتوة" – والعياذ بالله – وقلت أنا – يقول الحلاج – : إن رجعت عن دعواي ، وقولي سقطت من بساط "الفتوة" – قال سفر : ودعواه هي وحدة الوجود - .
يقول : وقال إبليس أنا خير منه حين لم يره غيره خيراً ، وقال فرعون : ماعلمت لكم من إله غيري حين لم يعرف في قومه من يميِّز بين الحق والباطل – قال سفر : وحدة الوجود ، يصدِّقون كلام فرعون في قوله "ما علمتُ لكم مِن إله غيري" ، يقول : وقلت أنا : إن لم تعرفوه فاعرفوا آثاره ، وأنا ذلك الأثر وأنا الحق !! – قال سفر : الحلاج كان يقول أنا الحق – يعني : أنا الله – .(43/56)
يقول : وأنا ذلك الأثر ، وأنا الحق لأنَّي مازلت أبداً بالحق حقّاً ، فصاحبي وأستاذي إبليس وفرعون ، هُدِّد بالنار وما رجع عن دعواه ، وفرعون أغرق في اليم وما رجع في دعواه ، ولن يضر بالواسطة البتة ، لن يضر بالوسائط ، ولكن قال "آمنت أنه لا اله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل" ، وألم تر أنَّ الله قدر عارض جبريل لشأنه ، فقال : لماذا ملأتَ فمه قملاً ؟ .
أقول : ما في كتاب "الذخائر" لعلوي مالكي أصله : مِن مثل كلام الحلاج هذا .
والحلاج ممن أسَّس لهم الغلو في النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم بمثل هذا الكلام حين يجعله - والعياذ بالله – كإبليس ! وحين يقول إنه مخلوق قبل الأكوان جميعاً ، وقبل أن توجد السموات والأرض ، إلى غير ذلك من الكلام ، الذي احتج الرفاعي وصاحباه احتجا بأن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم كان مخلوقاً قبل الكائنات .
أما أن نبوة النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم ثابتة ، أو حق قبل خلق السموات والأرض كما ورد في بعض الأحاديث "كنت نبياً وآدم بين الروح والجسد" : فعلى فرض صحة هذه الأحاديث ، [ نقول ] نعم نبوة النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ثابته ؛ لأنَّ الله عز وجل "كتب في اللوح المحفوظ كل شيءٍ قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة" ، كما في الحديث الصحيح ، ومما كتب أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم سيكون نبيّاً وسيبعث ، فإثبات النبوة شيء ، وإثبات أنه أول من خُلق – كما يقول هؤلاء الخرافيون - شيءٌ آخر.
ونعود فنؤكد أن وراء غلو الصوفيَّة في النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وما يدَّعونه من المعجزات ، وما يضعونه ، ويفترونه على النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ، وعلى السنَّة ، والسيرة من هذه الأكاذيب ، والمخترعات ، والخزعبلات إنما قصدهم بذلك إثبات هذه الأكاذيب والخزعبلات للأولياء بدعوى أنها : ما كان للنَّبيِّ من معجزة فهو للوليِّ كرامة ، وهذه دعوى خبيثة .(43/57)
ولو نظرنا إلى المولد أيضاً لوجدنا اعتناءهم بمولد النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ، وهو الذي أسسه العبيديون ، الزنادقة ، الباطنية ، [ فهم ] أول من أسَّسه ، لو نظرنا إلى اهتمامهم بالمولد [ لرأينا أنهم ] يستمدون منه الاهتمام بموالد أئمتهم ، وسادتهم ، بل قد يعتقدون أن موالد أئمتهم ، وسادتهم ، وأصحاب طرقهم : أعظم مِن المولد الذي يقيمونه للرسول صلى الله عليه وسلم ، حتى المولد نفسه إنما يقيمونه لهذا الغرض ، ولو شئتم لقرأتُ عليكم ما نقله كتاب "طبقات الشعراني " عن مولد أحمد البدوي – سيِّدهم - مِن مصر الذي يقال له أحمد البدوي يقول الشعراني :
قلت : وسبب حضوري مولده كلَّ سنَة أن شيخي العارف بالله تعالى محمد الشناوي رضي الله عنه ! أحد أعيان بيته رحمه الله قد كان أخذ عليَّ العهد بالقبة تجاه وجه سيدي أحمد رضي الله عنه ، وسلمني إليه بيده ، فخرجت اليدُ الشريفة إلى الضريح ! وقبضتْ على يدي ، وقال : سيدي يكون خاطرك عليه ، واجعله تحت نظرك ، فسمعتُ سيدي أحمد رضي الله عنه مِن القبر يقول : نعم !! .
قال سفر : أحمد البدوي توفي قبل الشعراني بحوالي ثلاثمائة سنة ! سمعه من القبر يقول : نعم ، وأخرج يده ، وبايعه .
يقول : ثم إني رأيتُه بمصر مرة أخرى هو وسيدي عبد العال ، وهو يقول : زرنا بطندتا – وهي : طنطا - ونحن نطبخ لك ملوخية ضيافتك ، فسافرت ، فأضافني غالب أهله ، وجماعة المقام ذلك اليوم كلهم بطبيخ الملوخية .
يقول : ثم رأيته بعد ذلك وقد أوقفنى على جسر "قحافة" تجاه طندتا ، وجدته سوراً محيطاً ، وقال : قف هنا ، أدخل عليَّ من شئت وامنع من شئت .
قال سفر : يعني : الجسر تحول إلى سور عريض ويقول له : أنت هنا ، كل مَن يحضر المولد : أدخل من أردت ، وامنع مَن أردت مِن حضور المولد .(43/58)
يقول : ولما دخلتُ بزوجتي فاطمة أم عبدالرحمن ، وهي بكر ، مكثت خمسة شهور لم أقرب منها ، فجاءني وأخذني وهي معي ، وفرش لي فرشاً فوق ركن القبة التى على يسار الداخل ، وطبخ لي حلوى ، ودعا الأحياء والأموات إليه ، وقال : أزل بكارتها هنا !! فكان الأمر تلك الليلة .. إلى أن يقول :
وتخلفتُ عن ميعاد حضوري للمولد سنة 948 ، وكان هناك بعض الأولياء فأخبرني أنَّ سيدي أحمد رضي الله عنه كان ذلك اليوم يكشف الستر عن الضريح ، ويقول : أبطأ عبدالوهاب ما جاء - يعني : هو الشعراني فاسمه عبد الوهاب - وأردت التخلف سنَةً من السنين – يعني : عن المولد - فرأيت سيدي أحمد رضي الله عنه ومعه جريدة خضراء وهو يدعو الناس من سائر الأقطار ، والنَّاس خلفه ، ويمينه ، وشماله ، أمم ، وخلائق لا يحصون فمر عليَّ وأنا بمصر ، فقال أما تذهب ؟ فقلت : بي وجع ، فقال : الوجع لا يمنع المحب ، ثم أراني خلقاً كثيراً مِن الأولياء وغيرهم الأحياء ، والأموات من الشيوخ ، والزَّمنى ، بأكفانهم يمشون ، ويزحفون معه يحضرون المولد ، ثم أراني جماعة من الأسرى جاؤا من بلاد الإفرنج مقيَّدين ، مغلولين ، يزحفون على مقاعدهم ، فقال : انظر إلى هؤلاء في هذا الحال ، ولا يتخلفون ، فقويَ عزمي على الحضور ، فقلت له : إن شاء الله تعالى نحضر ، فقال لابد مِن الترسيم عليك ، فرسم عليَّ سبُعيْن – يعني : وضعه بحراسة سبُعين – عظيمين أسْوَدين كالأفيال ، وقال : لاتفارقاه حتى تحضرا به ، فأخبرتُ بذلك سيدي الشيخ محمد الشنَّاوي رضي الله عنه ، فقال :سائر الأولياء يَدْعون الناس بقصَّادهم – يعني: يوصون من يدعوهم إلى مولده – و سيدي أحمد رضي الله عنه يدعو الناس بنفسه إلى الحضور ، ثم قال : إن سيِّدي الشيخ محمد السروي رضي الله عنه تعالى عنه شيخي تخلف سنَةً عن الحضور ، فعاتبه سيِّدي أحمد رضي الله عنه ، وقال : موضع يحضر فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والأنبياء عليهم الصلاة(43/59)
والسلام معه ، وأصحابه ، والأولياء رضي الله عنهم ؛ ما يحضره ؟ فخرج الشيخ محمَّد رضي الله عنه إلى المولد فوجد الناس راجعين ، وفات الاجتماع ، فكان يلمس ثيابهم ، ويمرُّ بها على وجهه !!.أ.هـ
يقول الشعراني : وقد اجتمعتُ مرة أنا وأخى أبو العباس الحريثي رحمه الله تعالى بوليٍّ مِن أولياء الهند بمصر المحروسة ، فقال رضي الله عنه : ضيِّفوني فإني غريب ، وكان معه عشرة أنفس ، فصنعتُ لهم فطيراً ، وعسلاً فأكل ، فقلت له : مِن أيِّ البلاد ؟ فقال : مِن الهند ، فقلت : ما حاجتك في مصر ؟ فقال : حضرْنا مولد سيِّدي أحمد رضي الله عنه ، فقلت له : متى خرجتَ مِن الهند ؟ فقال : خرجنا يوم الثلاثاء ، فنمنا ليلة الأربعاء عند سيِّد المرسلين صلى الله عليه وسلم ، وليلة الخميس عند الشيخ عبدالقادر رضي الله عنه ببغداد ، وليلة الجمعة عند سيِّدي أحمد رضي الله عنه بطندتا ، فتعجبْنا مِن ذلك ، فقال : الدنيا كلها خطوة عند أولياء الله عز وجل ، واجتمعنا به يوم السبت انفضاض المولد طلعة الشمس ، فقلنا لهم : مَن عرَّفكم بسيِّدي أحمد رضي الله عنه في بلاد الهند ؟ فقالوا : يالله العجب أطفالنا الصغار لايحلفون إلا ببركة سيِّدي أحمد رضي الله عنه ، وهو من أعظم أيمانهم - قال سفر : انظروا إلى هذا الشرك - وهل أحدٌ يجهل سيِّدي أحمد رضي الله عنه ؟ إن أولياء ما وراء البحر المحيط ، وسائر البلاد ، والجبال يحضرون مولده رضي الله عنه .(43/60)
يقول الشعراني : وأخبرنى شيخنا الشيخ محمد الشناوى رضي الله عنه أن شخصاً أنكر حضور مولده فسُلب الإيمان !! فلم يكن فيه شعرة تحنُّ إلى دين الإسلام فاستغاث بسيِّدي أحمد رضي الله عنه ، فقال : بشرط أن لا تعود ؟ فقال : نعم ، فردَّ عليه ثوب إيمانه ! ثم قاله له : وماذا تنكر علينا ؟ - يعني : في المولد - قال : اختلاط الرجال والنساء ، فقال له سيِّدي أحمد رضي الله عنه : ذلك واقعٌ في الطواف ، - قال سفر: يختلط الرجال بالنساء في الطواف ، ويشبِّه مولده بالطواف – ولم يمنع أحدٌ منه ، ثم قال : وعزة ربي ما عصى أحدٌ في مولدي إلا وتاب وحسنت توبته ، وإذا كنتُ أرعى الوحوش ، والسمك في البحار ، وأحميهم من بعضهم بعضاً ، أفيعجزني الله عز وجل عن حماية مَن يحضر مولدي ؟
قال سفر : هذا هو التصرف في الكون ، إنَّه حتى الوحوش يحميها بعضها من بعض ، ويحجزها ، والسمك في البحار ، فيتصرف في هذه الأمور كلها ، فكيف لا يتصرف فيمن يحضر مولده ؟ هذا هو أحمد البدوي ، ماذا تتوقعون أن يقولوا في مولد الرسول صلى الله عليه وسلم ؟ إن قالوا أعظم من هذا : فهو – والعياذ بالله – الشرك والكفر ، وإن قالوا : لا ، نحن نفضل مولد البدوي على مولد الرسول صلى الله عليه وسلم ، ونعطي البدوي مِن الولاية والاختصاص ما لا نعطي الرسول صلى الله عليه وسلم : فهي الطامَّة الكبرى وإذاً هم الذين يحتقرون رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يحبونه ، وليس أهل السنَّة والجماعة - كما يزعمون - فليختاروا مِن هذين ما شاؤوا .(43/61)
يقول : وحكى لي شيخنا أيضاً : أن سيِّدي الشيخ أبا الغيث بن كتيلة أحد العلماء بـ"المحلة الكبرى" ، وأحد الصالحين بها كان بمصر ، فجاء إلى "بولاق" ، فوجد الناس مهتمين بأمر المولد ، والنزول في المراكب ، فأنكر ذلك ، وقال : هيهات أن يكون اهتمام هؤلاء بزيارة نبيِّهم صلى الله عليه وسلم مثل اهتمامهم بأحمد البدوي ، فقال له شخص : سيِّدي أحمد وليٌّ عظيم ، فقال : ثَمَّ في هذا المجلس من هو أعلى منه مقاماً ، فعزم عليه شخص – أي : عزمه – فأطعمه سمكاً ، فدخلتْ حلقَهُ شوكةٌ تصلَّبَتْ فلم يقدروا على نزولها بدهن عطاسٍ ، ولا بحيلة مِن الحيل ، وورِمت رقبتُه حتى صارت كخلية النَّحل تسعة شهورٍ وهو لا يلتذ بطعام ، ولا شراب ، ولا منام ، وأنساه الله تعالى السبب ، فبعد التسعة شهور : ذكَّره الله تعال بالسبب فقال : احملوني إلى قبة سيِّدي أحمد رضي الله عنه ، فأدخلوه ، فشرع يقرأ سورة "يس" ، فعطس عطسةً شديدةً فخرجت الشوكة مغمسة دماً ، فقال : تبتُ إلى الله تعالى يا سيِّدي أحمد !! وذهب الوجع ، والورم من ساعته .
قال سفر : أصيب هذا الرجل لأنَّه يقول إن الناس تهتم بزيارة مولد البدوي أكثر من زيارتهم للرسول صلى الله عليه وسلم .
ويستمر الشعراني فيقول : وَأنكر ابن الشيخ خليفة بناحية "أبيار" بالغربة حضور أهل بلده إلى المولد ، فوعظه شيخنا محمد الشناوى ، فلم يرجع ، فاشتكاه لسيِّدي أحمد فقال: ستطلع له حبَّة ترعى فمَه ولسانَه ، فطلعت مِن يومه ذلك ، وأتلفت وجهه ، ومات بها .(43/62)
ويقول : ووقع ابن اللَّبَّان في حق سيِّدي أحمد رضي الله عنه - بمعنى : انتقص حقه - فسُلب القرآن ، والعلم ، والإيمان !! فلم يزل يستغيث بالأولياء ، فلم يقدر أن يدخل في أمره – يعني : ما دخل أحدٌ بينه وبين البدوي ليُخلَّصه منه - فدلُّوه على سيِّدي ياقوت العرشي ، - قال سفر : وهذا سمُّوه ياقوت العرشي ، قيل : إنه كان يسمع حملة العرش ! وقيل : إنَّه يرى العرش لذلك سُمِّي العرْشي ، وربما يمر علينا شيءٌ مِن ترجمته – فمضى إلى سيِّدي أحمد رضي الله عنه ، وكلَّمه في القبر ، وأجابه ، وقال له : أنت أبو الفتيان رُدَّ على هذا المسكين رسماله ، فقال : بشرط التوبة ! فتاب ، ورَدَّ عليه رسماله ، وهذا كان سبب اعتقاد ابن اللبان في سيدي ياقوت رضي الله عنه ، وقد زوجه سيِّدي ياقوت ابنتَه ودُفن تحت رجليها بالقرافة .
إلى أن يقول :
وكان سيِّدي عبد العزيز إذا سئل عن سيِّدي أحمد رضي الله عنه يقول : هو بحر لا يُدرك له قرار ، وأخباره ، ومجيئه بالأسرى مِن بلاد الإفرنج ، وإغاثة الناس مِن قُطَّاع الطريق ، وحيلولته بينهم وبين مَن استنجد به : لاتحويها الدفاتر رضي الله عنه .
قلت : وقد شاهدتُ أنا بعيني سنة خمس وأربعين وتسعمائة أسيراً على منارة سيِّدي عبد العال رضي الله عنه – وهو تلميذ البدوي - مقيَّداً مغلولاً وهو مخبَّط العقل ، فسألتُه عن ذلك ، فقال : بينا أنا في بلاد الإفرنج آخر الليل ، توجَّهتُ إلى سيِّدي أحمد – يعني : دعا أحمد - فإذا أنا به فأخذني ، وطار بي في الهواء ، فوضعني هنا ، فمكث يومين ورأسه دائرة عليه مِن شدة الخطفة رضي الله عنه .أ.هـ(43/63)
فإذا كان هذا اعتقادهم في البدوي وفيمن يحضر مولده ، وعقوبة مَن يشكِّك في حضور مولد البدوي ؛ فما ظنك بقولهم ، واعتقادهم بمولد الرسول صلى الله عليه وسلم ؟ وكما قلنا ؛ إما أن يقولوا إنه أعظم : فهو أعظم شركاً ، وإما أن يقولوا : لا ، مولد البدوي أعظم ، فقد فضَّلوا البدوي على رسول الله صلى الله عليه وسلم .
أقول هذا ليعلم الإخوان أن المسألة ليست أن محمَّد علوي مالكي ومن معه يحضرون كما يقولون يأتون بالكوازي ، والكبسات ، ويقولون للنَّاس : تعشُّوا ، وصلُّوا على الرسول ، واحتفلوا بذكراه ، ونقرأ شيئاً مِن السيرة ، وندعو النَّاس إلى محبَّته صلى الله عليه وسلم ، ونستغلها فرصة للوعظ ، ولتبيين أحوال المسلمين ، وللتذكير بالمحرمات ، ومحاربة الشيوعية ، ولغير ذلك مما جعجع ، وطنطن به الرفاعي ، والمغربيان ، والبحريني .
المسألة هي هذا الشرك ، وهذه الاستغاثات ، وهذه النداءات ، وأن من ينكر ذلك يُسلب إيمانه ، ويسلب دينه ، ويبتلى بكذا وكذا ، أوهام ينسجونها ، وأساطير يُرهبون بها الناس حتى لا ينقدوهم ، وحتى لا يفتحوا أفواههم عليهم ، وحتى يستعبدوهم بها ، وكما نرى كثيراً مِن النَّاس يدفعون لهم الأموال الطائلة ، ويتبركون بهم ، ولا يتزوجون إلا بإذنهم ، ولا يسافرون إلا بأمرهم ، ولا يعملون أيَّ عملٍ إلا بعد أن يستأذنونهم ، ويتبركون بمشورتهم ، وبنصيحتهم بسبب ما يحيطون به أنفسهم مِن هذا الإرهاب الشديد الفظيع ، وأنهم يملكون أن يوقعوا بأعدائهم مثل هذه الأمور نسأل الله السلامة والعافية .(43/64)
ونبدأ بالحديث عن تعلقهم بالمولد ، وتعظيمهم له لا من حيث أنه هو قضية في ذاتها فحسب كما أسلفنا ؛ وإنما من حيث دلالته على منهج هؤلاء ، وعلى ضلالهم ، وعلى ما يأتي فيه من الخرافات ، ومن الشركيَّات التي إذا ربطناها بأصل التصوف السابق عرفنا أن القوم فعلاً يستقون مِن معين "الثيوصوفية" ، ومِن معين الأفكار الفلسفيَّة الوثنيَّة ، ومِن معين الخرافات النصرانيَّة والمجوسيَّة التي هي بعيدة كل البعد عن الاسلام وليس عليها دليل مِن كتاب الله ، ولا مِن سنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم .
المالكي ينكر أن القيام في المولد سببه ادعاء رؤية النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ، ينكر هذه الدعوى ، ويقول : نحن لا نقف مِن أجل ذلك ، لكن أؤكد لكم أنَّ مَن حضر المولد ممن هداهم الله سبحانه وتعالى ، ومِن النَّاس الآخرين الذين حضروا لغرض أن يروا ما فيه ودعوا إلى ذلك فوافقوا ، أكدوا ، وأخبروا أنَّهم يقولون : جاء الرسول ، جاء الرسول !! ويقفون ، وعلى أية حال مهما أنكر المالكي وقال هو وأصحابه ؛ فنحن نقرأ ما ذكره هو بنفسه في كتاب "الذخائر" صفحة 107 ليرى الحق بإذن الله تعالى : يقول العنوان : (صلوات مأثورة لرؤية الحبيب صلى الله عليه وسلم !) :
نقل الشيخ الغزالي في "الإحياء" عن بعض العارفين نقلاً عن العارف المرسي رضي الله عنه أنَّ مَن واظب على الصلاة ، وهي : "اللهمَّ صلِّ على سيِّدنا محمَّدٍ عبدك ونبيك ورسولك النَّبيِّ الأمِّيِّ وعلى آله وصحبه وسلم" في اليوم والليلة خمسمائة مرة لا يموت حتى يجتمع بالنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم يقظة !!.(43/65)
ونقل عن الإمام اليافعي في كتابه "بستان الفقراء" أنه ورد عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قال : مَن صلَّى عليَّ يوم الجمعة ألف مرة بهذه الصلاة ، وهي : "اللهمَّ صلِّ على سيِّدنا محمَّد النَّبيِّ الأمِّيِّ" فإنَّه يرى ربَّه في ليلته ، أو نبيَّه ، أو منزلتَه في الجنَّة ، فإن لم يرَ فليفعل ذلك في جمعتين ، أو ثلاثٍ ، أو خمسٍ ، وفي رواية : زيادة : "وعلى آله وصحبه وسلِّم" .
وفي كتاب "الغنية" للقطب الربَّاني سيدي عبد القادر الجيلاني عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لا يصلِّي ليلة الجمعة ركعتين يقرأ في كل ركعةٍ فاتحة الكتاب وآية الكرسي مرة ، وخمسة عشر مرة { قل هو الله أحد } ويقول في آخر صلاته ألف مرة : "اللهمَّ صلِّ على سيِّدنا محمَّد النَّبيِّ الأمِّيِّ فإنَّه يراني في المنام ولا تتم له الجمعة الأخرى إلا وقد رآني ، فمن رآني فله الجنة ! وغفر له ما تقدم مِن ذنبه ، وما تأخر" .
هذا الكلام ذكره محمد علوي مالكي في "الذخائر" بهذا العنوان (صلوات مأثورة لرؤية الحبيب صلى الله عليه وسلم ) ، ونحن نسأله ، ونسأل أتباعه : هل أنتم تشتاقون لرؤية الحبيب صلى الله عليه وسلم ؟ هم يقولون : إنَّهم أشد الناس حبّاً له ، وتعظيماً له ، وشوقاً له ، أيضاً نسألهم سؤالاً آخر : هل أنتم ممن يعمل بما يعلم ؟ فيقولون : نعم ، نحن كل شيءٍ نراه مِن السنَّة ، ومن العلم نعمل به ؛ فنقول : لابد أنَّكم عملتم بهذا الكلام ، أنتم مشتاقون إلى الرسول بزعمكم ، وتعملون بما تعلمون ، وتكتبون فلابد أنكم عملتم بهذا .(43/66)
فلذلك الذي يدخل معهم ، والذي يتقرب إليهم ، والذي يقدِّسهم ، ويبجِّلهم : إنَّما يفعل ذلك اعتقاداً أنهم عملوا هذه الصلوات ، وحصلت لهم الرؤية كما يصدر عنهم من أقوال ، أو أعمال ، أو نصائح ، أو مشورة ؛ فليس مِن عند ذاتهم ، وإنما في إمكانهم أن يأخذوه عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم مباشرة .
أقول هذا الكلام ليؤكد الحقيقة السابقة وهي أنَّ المسألة ليست مسألة نقاش علمي أنَّهم يصحِّحون حديثاً ضعفناه ، أو وضَّعناه ؛ أبداً ليست القضية بهذا الشكل ، القضية أنَّه يرجعون هم مباشرةً بزعمهم إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فيأخذون منه ، ونحن نجهد أنفسنا في البحث عن الرجال ، والتنقيب في الجرح والإسناد والتعديل إلى غير ذلك ، وهم يأخذون مباشرة ! – بزعمهم - ، ومِن أسباب الأخذ المباشر هو حضور النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ليتَلَقَّوا عنه المولد ، فيقيمونه لهذا الغرض ، وأنبِّه مرة أخرى ، وأنا كررته : أنني لا أعني أنَّ كلَّ مَن يحضر المولد ويتعشى يحصل له هذا الكلام .
وإن المسألة درجات ، وأنا سأبين بعد قليل مراتب ، ودرجات رجال الغيب عند الصوفيَّة فيتضح أن المسألة درجات ، وأن الذي يحضر ويتعشى ، أو يتبرع لهم بعشاء ليس مثل المريد المتعمق الذي يداوم على ذكر الأوراد وعلى ما يحصل في الخلوات ، وعلى ما يتقرب به هؤلاء الناس .
وأنقل الآن شاهداً واحداً لتعرفوا به أيها الإخوة لماذا يدافع هاشم الرفاعي وأمثاله عن علوي مالكي :
هناك كتاب للرفاعيَّة نقل منه الرفاعي ، وجعله من مراجعه في الأخير وهو كتاب "طي السجل" الذي نقلتُ منه بعض أشياء فيما تقدم ، وأقرأ لكم فقط منه قضية هذا المؤلف عندما حصل على درجة القطب الأعظم ، أو الغوث الأعظم الذي سنعرف عند تفصيل رجال الغيب : نعرف قيمته ، وما هي مهمته بالنسبة لرجال الصوفيَّة .
يقول هذا الروَّاس :(43/67)
… سرٌّ غريبٌ ، جئتُ من مدينة سيد الأنَّام عليه من ربه أفضل الصلاة وأكمل السلام إلى بلد الله الحرام ، فبعد أن دخلتُ الحرم المحترم ، وقفتُ تجاه المشهد الابراهيمي المكرَّم كشف الله أغطية الأكوان علويَّها وسفليَّها !! فطافت همَّتي في زواياها ، وكُشفتْ حجب خباياها ، ورجعتْ عن كلِّها إلى الله تعالى ، متحققة بالطمأنينة المعنيَّة بسر قوله تعالى { يا أيتها النَّفس المطمئنَّة ارجعي إلى ربك راضيةً مرضيَّةً } ، وقد تدلَّتْ هناك إلى قلبي قصص السموات – قال سفر : ولا أدري ماذا يريد بهذا - منحدرةً مِن ساحل بحر قلب النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ، وقد شخصتْ إليَّ الأبدال ، والأنجاد ، ورجال الدوائر ، وأهل الحضارات ، وأرباب المكاشفات ، والمقرَّبون مِن عوالم الإنْس والجن ، وفقهتُ نطق الجمادات الظني ولغات الطيور ، ومعاني حفيف الأشجار والنباتات ، ورقائق خرير الماء ، ودقائق صرير الأقلام ، وجمعتُ شفاف الرموز ، فكنتُ أحضر وأغيب معي وعني في اليوم والليلة ثمانين ألف مرة ، وانفسح سمعي فوعتْ أذني أصوات النَّاطقين ، والمتكلمين على طبقاتهم واختلاف لغاتهم مِن مشارق الأرض ومغاربها ، ومزقتُ بردة الحجاب المنسدل على بصري فرأيت فسيح الأرض ومن عليها ذرةً ذرةً ، وتصمتتْ همَّتي فانجدلتُ في الكل تمريراً لحكم التصرف بمنزلة الغوثيَّة الكبرى ، والقطبيَّة العظمى ! .
قال سفر : يريد أن يقول هذا تمريراً لكي يتصرف ، ويصبح الغوث الأكبر ، والقطب الأعظم الذي يتصرف في الكون كله – بزعمهم ، والعياذ بالله - كما سنوضح إن شاء الله .(43/68)
يقول : وحملتْني أكفُّ عناية سادات النَّبيِّين والمرسلين ، وأغاثتْني في كل حركةٍ وسكنةٍ إعانة روح سيد المخلوقين ، وأتممتُ مناسكي ، وإذا هناك شيخ الدوائر ، وسلطان المظاهر وأمين خزائن البواطن والظواهر ، وشحنة الجمْع ، وعالم الفرْق ، وقيل لي : سِرْ على بركات الله بقدمك وقالبك إلى الروم - يعني : القسطنطينية مقر الدولة العثمانية ؛ لأنَّ هذا يكتبه في آخر أيام سلاطين الدولة العثمانية - .
قال : فانحدرتُ بعد أداء ما وجب إلى مصر ، ومنها إلى الشام ، ومنها إلى مرقد الإمام الصيَّاد - الذي ينتسب إليه الصيَّادي ، مؤلف الكتاب عن الرفاعي – وجددتُّ العهد الذي مضى ، والوقت الذي انقضى ، وقمتُ مِن حضرته أرفل بحلل الرضا حتى وصلتُ إلى "جسر الشغور" – بلد في سوريا – ومنها إلى قرية هناك بظاهر البلدة اسمها "كفر ذبين" وأنا في حال جمعٍ محمَّدي ، وأقف على ظهر جامع خربٍ طُويت أخباره ، وانطمست بالتراب آثاره ، فنوديتُ بالغوثيَّة الكبرى مِن مقام التصرف – قال سفر : نودي بأنَّه الغوث الأكبر من مقام التصرف في هذا الجامع الخرب وهو هناك بالشام !! كيف نودي ؟ - يقول :
أبصرتُ العلم المنتشر بالبشرى وقد رفعه عبد السلام أمين حراس الحضرة النبوية من أولياء الجنِّ !! – يعني : عبد السلام هذا أمين حراس الحضرة النبويَّة مِن أولياء الجنِّ رَفع له العلم مِن المدينة وهو هناك في الشام ، علم الولاية ، مقام التصرف وأنه أصبح الغوث الأكبر والقطب الأكبر –(43/69)
يقول : فانعطفتْ إليَّ أنظار الصدِّيقين ، وتعلقتْ بي قلوب الواصلين ؛ فسجدتُّ لله شكراً ، وحمدتُّه سبحانه وتعالى على نِعَمَه ، وعظيم كرمه ، وسرتُ ، ولمحل ندائه معنىً في القلب سيظهر إن شاء الله وتعمر البقعة ، وتقام في الجامع الجمعة ، كذا وعدني ربي بالإلهام الحق ، وهو لا يخلف الميعاد ، قاله الله – هكذا - ، وانتهيتُ في حسيني من طريق "الكلب" إلى "عين تاب" و"مرعش" ثم إلى "آل البستان" ، ومنها مرحلة مرحلة إلى بلدة "صانصول" ، ودخلت اللجة – يعني : البحر – أفجُّها فجة فجة ، حتى انتهى الثور المائي إلى القسطنطينية … - إلى أن يقول : وفي القسطنطينية قابل السلطان – إلى أن يقول :
واجتمعتُ بِها على الخضر عليه السلام ست مرات ، فيالله مِن حكم سماويَّة تنزل مِن لفاف دور القَدَر يمضيها الحُكم الإلهي في تلك البلدة إمضاءً ، وإنفاذاً ، ولربي الفعل المطلق ، له الحكم وإليه ترجعون .أ.هـ
ثم يتحدث طويلاً ، المهم أن هذه هي قضية بيعته ، وكيف بويع ، وهذا الرفاعي هو الذي ينقل عنه هاشم الرفاعي كما قلنا ويؤيد كلام المالكي .
فإذاً لا نستغرب منه أن يؤيد ما يتعلق برؤيتهم النَّبيّ صلى الله عليه وسلم ، ومخاطبتهم له ، وهذا طريق حراس حضرتهم من الجن يرفع الولاية ، وهو أيضاً كما يقول يبشر هذا الرجل بالولاية الكبرى ، بل أن هناك ما يخبر بأن هذا الجامع الخرب الذي عين بيع فيه بالقطبية العظمى والولاية الكبرى سوف يعمر … هذا غيضٌ مِن فيضٍ ، والأمثلة كثيرة جدّاً لكن لا أريد أن أستغرق فيها ؛ لأنَّنا نريد أن ننتقل إلى موضوعٍ أكثر تفصيلاً وهو حقيقة سُلَّم الترقِّي عند الصوفيَّة ! كيف يترقون ؟ وكما قلت ليس مَن يحضر العشاء أو يتعاطف معهم هو منهم ، بل هناك درجة ، وهناك شكل هرمي معيَّن يترقَّون خلاله وهو مما يزيدنا تأكيداً وإلحاحاً على أن هؤلاء القوم باطنيَّة زنادقة ؛ لأنَّ نفس هذا الترتيب موجود عند الباطنية .(43/70)
نقول : إنَّ أركان الطريق عند الصوفيَّة هي أربعة - أو خمسة إذا أضفنا "الشطحات" -
الأول : هو الشيخ ، وهذا الشيخ - أو المرشد كما يسمُّونه - ركنٌ أساسيٌّ عندهم ولابد أن يرتبط الإنسان بشيخٍ ، بل في كتاب "تربية الأولاد" الذي ألَّفه الشيخ عبد الله علوان يقول : لابد أن يُربط الطفل بشيخ !! وهذا مِن آثار التصوف ، فعنده لابد أن يرتبط به ، ولابد أن يسير على نَهجه ، وأن يقتدي به ، وأن يسلِّم له بالكلية ، كما عبَّر أبو حامد الغزالي وعبَّر غيره : أن يكون عند الشيخ كالميِّت بين يدي الغاسل لا تصرف له على الإطلاق !! .
ثم بعد ذلك تكون : الخلوة ، والخلوة : بعد ما يرتبط بالشيخ يُدخله في خلوة معيَّنةٍ ويُلقِّنُه الأذكار المعينة ، والخلوة هذه ينقطع الواحد منهم فيها عن الجُمَع والجماعات ، وعن سائر العبادات ، ويردِّد الذِّكر المعيَّن الخاص بالطريقة الذي يلقِّنُها إيَّاه الشيخ ويستحضر في قلبه أثناء الذكر ، وأثناء تَرداده صورة الشيخ ، ويستمر على ذلك حتى يحصل له الفتح ! وبعضهم يأتيه فتحُه - كما يقولون - في أيامٍ ، وبعضهم في أسابيع ، وبعضهم إلى عشرين سنَة ، أو أكثر ، وهو لم يُفتح عليه ، يُردِّد يردِّد ولم يفتح عليه ؛ فيقولون: لم يُفتح عليك لأنَّ قلبك لم يتنقَّ ، أو ارتباطك بالشيخ ضعيف !.(43/71)
الحاصل : عندهم فلسفات طويلة ، وأمور كثيرة يعالجون بها هذه الأمور ، ثم إذا حصل الفتح أو الكشف : ينتقل الطالب أو المريد من مرحلة المجاهدات والرياضات إلى مرحلةٍ يسمُّونها المشاهدات ، والكشوفات ، والتجليات : فيحصل له الفتح بأن يُخاطَب - يخاطبُه رجلٌ - أو يرى مناظر غريبة جدّاً ، أو يرى أشياء تخاطبه وتكلمه ، وهذا الفتح يكون عبارة عن كرامة بالنسبة لهذا المريد ، فإذا أعطي هذه الكرامة - كما يسمُّونها – تكون : خوارق حسيَّة ، وتكون اطِّلاع على المغيبات - كما يعتقدون - ، تكون برؤية النبيِّ صلى الله عليه وسلم ، والاجتماع به يقظة ، تكون بمخاطبة الله له مباشرة !! .
وبالمناسبة أذكر لكم أن هناك كتاباً اسمه "المواقف والمخاطبات" لعبد الجبار النَّسَري ، عاش في القرن الخامس ، وهو كتاب كبير ، أظنه أكثر من خمسمائة صفحة ، هذا الكتاب كله مخاطبات ، ومواقف ، مثل : وقفتُ بين يدي الله الحق فقال لي ! وخاطبني الحق فقال لي ! وهذا مِن أئمتهم ، ويستشهدون بما في هذا الكتاب الذي حققه المستشرقون - الذين هم دائماً وراء نشر تراث الصوفية - .
المهم : تحصل له هذه المخاطبات ، أو هذه المكاشفات ، ثم ينتقل بعد ذلك من هذه الكرامات إلى أنه قد يصير هو شيخاً ، يمكن أن يبقى مرتبطاً بالشيخ الأول ، تختلف الأحوال .
المهم : أن الدرجة الخامسة بعد الكرامات ، والكشوفات هي :(43/72)
الشطحات : وهو أنه إذا ذَكَر ، أو حضر مجلس ذكر ، أو حضر أمامه ناسٌ : تظهر على لسانه الكلمات الكفرية الشنيعة جدّاً ، ويسمُّونها شطحات ويعبِّرون بها عن عين الجمع - كما يسمُّونه - ومعنى عين الجمع : اتحادهم بالله !! - والعياذ بالله - أو الاستغراق ، أو السُّكُر ، والحُب ، والوجد ، أو ما يلبِّسون به على النَّاس بأنَّ هذه الكلمات الكفريات سببها هذا الكلام ، ثم إن من يبلغ به الحد إلى الشطحات - كما كان الحلاَّج وأمثاله كل كلامهم شطحات من هذه الكفريات - يعتبرون أنَّ هذا قد بلغ غاية الولاية ، عندما يمشي الحلاج في الشارع - مثلاً - ويدَّعى أنَّه هو الله ! ويقول : أنا الحق ! وما في الجبة إلا الله ! ويسمعه الناس - هو وأبو اليزيد البسطامي وأمثالهم - .
أقول : إن هذه الدرجة : الولاية الكبرى ، هذا ليس كفراً ! كما يظنُّ النَّاس الملبَّس عليهم ، المحجوبون ، المغفلون ، هذا مِن عِظَم ولايتهم ، ترقَّوا في مشاهدة الحقَّ ! والفناء فيه ، والجمع معه ، والالتصاق به ، حتى أصبحوا بهذه الدرجة ، هذا الأمر يجعلنا نستعرض بعض كلام لأبي حامد الغزالي ، وأنا تعمدت اختيار الغزالي لأنَّه متقدمٌ ؛ ولأن كتبه مشهورة ، ولأنَّه معروف عند الكثير.
يقول الغزالي في الجزء الرابع من "مجموعة رسائله" (صفحة 25) :
أول مبادئ السالك : أن يكثر الذكرَ بقلبه ، ولسانه بقوة ، حتى يسري الذكر في أعضائه ، وعروقه ، وينتقل الذكر إلى قلبه .
- قال سفر : لعلَّ الوقت يتَّسع ، وأنقل لكم صورة مولد حصلت ، وحضرها أحد الكتَّاب الإنجليز ، وسجَّلها ، ودوَّنها ، لتشاهدوا قضية كيف أن الذِّكر يقوُّونه حتى يدخل في الأعضاء ، ثم يحصل للإنسان الإغماء - .
يقول : فحينئذ يسكت لسانه ، ويبقى قلبه ذاكراً يقول : "الله ، الله " باطناً مع عدم رؤيته لذكره ، ثم يسكن قلبه ، ويبقى ملاحظاً لمطلوبه ، مستغرقاً به ، معكوفاً عليه ، مشغوفاً إليه ، مشاهداً له .(43/73)
- قال سفر : وهذه درجة المشاهدة ، يذكر الله - كما يزعمون - حتى يصل إلى مرحلة المشاهدة ، ولا تعجبوا مِن قوله "يسكت حتى عن الذكر باللسان" ، ثم حتى عن الذكر بالقلب ؛ لأنَّ الغزالي يذكر في "الإحياء" ، يقول : لا ينبغي للمريد في أثناء الخلوة أن يُشغل نفسه ، لا بتفكيرٍ ، ولا بحديثٍ - يذكر ذلك عن الصوفية لا عن نفسه فقط - ولا بقرآنٍ ، ولا بعلمٍ ، بل يتفرغ للذكر ، فقط "الله ، الله " أو : "هو ، هو" باللسان ، والقلب ، والأعضاء ، ثم يترك اللسان إلى القلب ، ثم يترك القلب فيصل إلى المشاهدة - .
ونتابع كلامه عن المشاهدة يقول : ثم يغيب عن نفسه لمشاهدته ، ثم يفنى عن كليَّته بكليَّته حتى كأنَّه في حضرة ! { لمن الملك اليوم للواحد القهار } ، فحينئذ يتجلَّى الحقُّ على قلبه ! فيضطرب عند ذلك ، ويندهش ، ويغلب عليه السُّكُر ، وحالة الحضور ، والإجلال ، والتعظيم ، فلا يبقى فيه متَّسعٌ لغير مطلوبه الأعظم - كما قيل : فلا حاجة لأهل الحضور إلى غير شهود عيانه ! وقيل في قوله تعالى { وشاهدٍ ومشهودٍ } – قال سفر : انظروا تفسير الباطنية - قيل : فالشاهد : هو الله ، والمشهود : هو عكس جمال الحضرة الطلبية فهو الشاهد والمشهود - يعني : الله تعالى - .
ثم يقول عن كيفية السير إلى الطريق ، أو كيف يبذل الجهد اليسير ، يقول : هناك طرق أوأنواع :
الأول : تقليل الغذاء بالتدريج ، فإنَّ مَددَ الوجود ، والنَّفس ، والشيطان من الغذاء ؛ فإذا قلَّ الغذاء : قلَّ سلطانه .
قال سفر : وهذا هو الذي يستعمله سحرة الهند ! وهي التي تنقلهم إلى مرحلة "المانخوليا"، فإنَّ أيَّ إنسانٍ يجوع لأيامٍ طويلةٍ يُهلوس ، ويهوِّس ، ويرى مثل هذه الأشياء ؛ لكن هم يعتقدون أنها كشوفات إلهيَّة ، وتجليات ربانيَّة - والعياذ بالله - .(43/74)
الثاني : ترك الاختيار ، وإفناؤه - يعني يفني نفسه ، وينسى نفسه - في اختيار شيخ مأمون ليختار له ما يصلحه فإنَّه – أي : المريد - مثل الطفل ، والصبي الذي لم يبلغ مبلغ الرجال ، أو السفيه المبذِّر ، وكل هؤلاء لابد لهم مِن وصيٍّ ، أو وليٍّ ، أو قاضٍ ، أو سلطان يتولى أمرهم .
قال سفر : المريد يكون بمثل هذه الحالة ، ولذلك قلت : إن الإنسان يخلع عقله ، ويخلع علمه ، ويخلق كلَّ شيءٍ عندما يريد أن يدخل إلى عالم الصوفية ، يسلِّم كلَّ شيءٍ للشيخ، ولا يعترض عليه بأي شيءٍ .
الطريق الثالث : يقول من الطرق طريقة الجنيد قدَّس الله روحه ، وهو خلال شرائط : دوام الوضوء ، ودوام الصوم ، ودوام السكوت ، ودوام الخلوة ، ودوام الذكر وهو قول لا إله إلا الله ، ودوام ربط القلب بالشيخ ، واستفادة علم الواقعات منه بفناء تصرفه في تصرف الشيخ ، ودوام نفى الخواطر ، ودوام ترك الاعتراض على الله تعالى في كل ما يرد منه عليه ضراً كان أو نفعاً .
قال سفر : [ هذه هي ] الجبرية المطلقة ، والاستكانة المطلقة ، ويقول الآن أصبحت منفعلاً لما تختاره مني ففعلي كله طاعات ، يجلس وما يتصرف فيه الله فهو الفعل ، وهو الطاعة ، كما قلنا هذا في الخلوة ، وقد ترك الجمعة ، والجماعة ، والعبادات .
إلى أن يقول :
وترك السؤال عنه مِن جنة ، أو تعوذ من نار !
بمعنى : يحذر في هذه الحالة أن يسأل الله الجنة ، أو يتعوذ به من النار ! لاحظتم هذا الربط بما ذكره محمد علوي مالكي في كلامه السابق ، ونقولاته السابقة ، وما ذكرناه هناك من أنَّهم لا يسألون الله الجنة ، ولا يستعيذون به من النار ، يعتبرون أنهم لو سألوا الله الجنة في تلك اللحظة ، والاستعاذة به من النار : تفرق جمعيته - يعني : تشتت قلبه - ولا يمكن أن يعود إلا بأن يبدأ الخلوة مِن أولها ، ويبدأ الأذكار من أولها حتى يجتمع قلبه على المحبوب وحده فقط ، فلا ينظر إلى جنَّة ، ولا إلى نار ولا لأيِّ شيءٍ .(43/75)
وإلى حد هنا هذا هو مقام المشاهدة .
يحذرنا الغزالي يقول : إن الإنسان عندما ينتقل من مقام المشاهدة إلى مقام المكاشفة تبدأ الصور تظهر أمامه فيقول له : كيف تفرق بين الصورة ؟ كيف تعرف حقائقها ؟
يقول – يستمر كلامه في صفحة (26) - : والفرق بين الوجودي والنفسي والشيطاني في مقام المشاهدة أن الوجود شديد الظلمة في الأول – يعني : ترى الشيء مظلماً جدّاً – فإذا صفا قليلاً تشكَّل قُدَّامك بشكل الغيم الأسود ، فإذا كان هذا المتشكِّلُ عرشَ الشيطان كان أحمر ، فإذا صلح وفنيت الحظوظ منه ، وبقي الحقوق : صفا وابيضَّ مثل المزن هذا الوجود .
والنفس إذا بدَت فلونها لون السماء ، وهي الزرقة ، ولها لَذَعان كلذعان الماء من أصل الينبوع ؛ فإذا كانت عرشَ الشيطان – أي : النفْس - : فكأنها عينٌ مِن ظلمةٍ ونارٍ ، ويكون لذعها أقل ، فإنَّ الشيطان لا خير فيه ، وفيضان النَّفس عن الوجود ، وتربيته : منها ، فإن صفَت وزكت : أفاضت عليه الخير وما نبت منه ، وإن أفاضت عليه الشر : فكذلك ينبت منه الشر .
قال سفر : عرفنا الوجود ، وعرفنا النفس ، فكيف نعرف الشيطان ؟ "نريدها في الخلوة في حالة الانتقال من مقام المشاهدة إلى مقام المكاشفة" ، كيف يرى الشيطان ويعرفه ؟
يقول : الشيطان نار غير صافية ، ممتزجة بظلمات الكفر ، في هيئة عظيمة ، وقد يتشكل قُدَّامك كأنَّه زنجي طويل له ذو هيبة يسعى كأنه يطلب الدخول فيك ، فإذا طلبت منه الانفكاك : فقل في قلبك : يا غياث المستغيثين أغثنا ؛ فإنه يفر عنك . انتهى كلام الغزالي صفحة (27) من الجزء الرابع .
في هذه المرحلة - يعني التخلص مِن النفس ، ومِن الوجود : يلتحم بالوجود الكلي -المطلق عندهم - ، ومن الشيطان الذي يأتيه - كما يقول - في صورة زنجي أسود طويل يريد أن يدخل فيه .(43/76)
هذه المرحلة - مقام المشاهدة - يعرض للمريدين ، ويرون هذه الصور ، ويرون هذه الخيالات ، وما هي إلا بعض مِن خرافاتهم ، ولو أنَّنا نملك وقتاً أطول : لنقلنا كثيراً جدّاً مِن أمثال هذه الرؤى التي يرونها ليصلوا ، وينتقلوا مِن مقام المشاهدة إلى مقام المكاشفة ، والتي بعدها يروْن الرسولَ صلى الله عليه وسلم ، ويرون الله ، ويروْن الحقائق كلها ، لكن على كل حال مَن لم يمر بهذا الشيء : فلا يمكن أن يحصل له ذلك .
بقيَ موضوع الشطحات :
عندما ينتقل الإنسان إلى مقام المكاشفة ، ويتعمق في الكرامات والكشوفات : يصل إلى درجة الشطحات .
يقول الغزالي صفحة (19) من الجزء الثاني : العارفون بعد العروج إلى سماء الحقيقة اتفقوا على أنهم لم يروا في الوجود إلا الواحد الحق – يعني : الله فقط ! ليس في الوجود إلا هو – لكن منهم من كان له هذه الحالة عرفاناً علميّاً ، ومنهم من صار له ذوقاً وحالاً وانتفت عنهم الكثرة بالكلية ، واستغرقوا بالفردانية المحضة ، واستهوت فيها عقولهم ؛ فصاروا كالمبهوتين فيه ، ولم يبق فيهم متسعٌ لذكر غير الله ، ولا ذكر أنفسهم أيضاً فلم يبق عندهم إلا الله ؛ فسكِروا سكراً وقع دونه سلطان عقولهم ، فقال بعضهم : أنا الحق - كالحلاج - ، وقال الآخر : سبحاني ما أعظم شأني – كأبي يزيد [البسطامي ] مثلاً - ، وقال الآخر : ما في الجبة إلا الله ، وكلام العشاق في حال السُّكر يُطوى ولا يحكى ، فلما خفَّ عنهم سكرهم ، وردوا إلى سلطان العقل الذي هو ميزان الله في أرضه: عرفوا أن ذلك لم يكن حقيقة الاتحاد ، بل يشبه الاتحاد . أ.هـ(43/77)
قال سفر : نحن نقرأ أن بعض الصوفية يقول : أن الحلاج استحق القتل ! لماذا ؟ يقول : لأنه باح بالسرِّ قبل أن يصل إلى الدرجة العليا ، الحلاج لم يصل إلى حقيقة الاتحاد عندهم! بل رأى عوارض ، وبوارق كما يسمونها ، فقال : أنا الحق ، فقتل ، فهو يستحق القتل في نظرهم لا لزندقته ، ولا لدعوى أنه هو الحق ؛ لكن يقولون لأنه لم يصل بعدُ ، صرَّح وباح بالسر قبل أن يصل بعد ، والغزالي يقول لم تحصل لهم حقيقة الاتحاد بل هذا يشبه الاتحاد .
ونتابع كلامه ، يقول :
مثل قول العاشق في حال فرض العشق :
أنا مَن أهوى ومَن أهوى أنا نحن روحان حللنا بدناً
وهذا من نداءات الحلاج ؛ فلا يبعد أن يفجأ الإنسان مرآةٌ فينظر فيها ، ولم ير المرآة قط فيظن أن الصورة التي رآها في المرآة هي صورة المرآة متحدة بها – قال سفر : يعني : يشبِّه رؤيتهم لله كإنسانٍ ينظر في مرآة فنسي المرآة ، وظن أن الصورة التي رآها أمامه وهي عين الشيء المرئي بينما هو في الحقيقة مجرد مرآة ، ويقول : إن بعض العارفين لم يصل إلى درجة الاتحاد ، ولكن يظن أنَّه وصل إليها ؛ إنما هي كالمرآة - ، أو مَن يرى الخمرة في الزجاج فيظن أن الخمرة لون الزجاج فإذا صار ذلك عنده مألوفاً ، ورسخ فيه قدمه واستغرقه فيه فقال :
رق الزجاج وراقت الخمر وتشابها فتشاكل الأمر
فكأنما خمر ولا قَدَح وكأنما قدَح ولا خمر
قال سفر : طبعاً استشهاد الصوفية بأبيات الخمر ، والعشق ، والغزل ، والنهود ، والقدود، والخدود : هذا أمرٌ لا يحتاج إلى تنبيه ؛ لأنه دائمٌ عندهم !! .
يقول : وفرقٌ بين أن يقال : الخمر قَدَح ، وبين أن يقال : كأنَّه قدح – قال سفر : يعني : أيضاً فرقٌ بين من يقول إنَّه رأى الله أو كأنه رأى الله وتجلَّى له – .(43/78)
ويقول : وهذه الحالة إذا غلبت سمِّيت بالإضافة إلى صاحب الحال : (فناء) ، بل (فناء الفناء) ؛ لأنه فنيَ عن نفسه ، وفني عن فنائه ؛ فإنه ليس يشعر بنفسه في تلك الحال ، ولا بعد شعوره بنفسه ، ولو شعر بعدم شعوره بنفسه : لكان قد شعر بنفسه ، وتُسمَّى هذه الحال بالإضافة إلى المستغرق فيها بلسان المجاز : (اتحاداً) ! وبلسان الحقيقة : (توحيداً) .
قال سفر : هذا هو توحيد الصوفية ، وهو : هذه الحالة حالة الاستغراق التي تسمَّى بالإضافة إلى المستغرق فيها بلسان المجاز : (اتحاداً) – كما يقول الغزالي إنَّه مجاز فقط - وبلسان الحقيقة : (توحيداً ) ، وليس مجازاً .
ويقول : ووراء هذه الحقائق أيضاً أسرار لا يجوز الخوض فيها .أ.هـ
يقول أبو حامد : أيضاً ما يزال هناك أسرارٌ ، وأمور لا يجوز الخوض فيها ، ولا يجوز ذكرها ؛ لأنَّه لو ذكرها هو ، أو غيره : ربما كان مصيره مصير الحلاج مِن القتل ، ومِن الإعدام .
هذا عرضٌ سريعٌ لهذا الكاتب المتقدم – وهو الغزالي - لدرجات ، أو أركان الطريق عند الصوفية ابتداء مِن الشيخ ، والخلوة ، ثم المشاهدات ، ثم المكاشفات ، وأخيراً الشطحات!! – بعد ذلك يصبح الإنسان عندهم مِن رجال الغيب .
رجال الغيب هؤلاء هم – كما يزعمون - : الأولياء الذين يتصرفون في الكون ، ويتحكمون في كل صغيرة وكبيرة ؛ كما سيأتي في النماذج التي نذكرها عنهم .(43/79)
أعظم رجال الغيب عندهم هو : القطب الأعظم ، أو قطب الوجود ، أو الغوث الأعظم ، أو واحد الزمان ، وهذه أسماء متقاربة ، هناك حقيقة فلسفيَّة ثابتة ، وأكثر الباحثين المعاصرين ذكروها ونقلوها ، ومِن قبلهم أيضاً : أنَّ أصل فكرة القطب الأعظم عند الصوفية هي العقل المطلق عند أفلاطون ، وأفلاطون كما ذكر سيد قطب رحمه الله في "خصائص التصور الإسلامي" في فصل الواقعية نقلاً عن العقاد – كما أظن – وقد ذكرها في صفحة (166) ، والعقاد ذكر ذلك في عقائد المفكرين ، المهم أن أفلاطون يقول : إن الله كامل ، ولا يصدر عنه الشر ، والعالم ناقص ، و الشر فيه كثير ، ولا يليق بالكامل أن يفكر في الناقص ، ولا يليق بالله أن يكون هذا الشر منه ؛ فلابد من تقدير واسطة بين الله والعالم ؛ تكون هي المتصرفة في الكون ، وهي المفكرة فيه ، المشتغلة بأمره، وتكون الشرور ، ومصدر الشرور : منها ، وتكون تفكيرها في هذه الشرور ونسب هذه الشرور إلى الله بزعمهم .
الصوفية أخذوا هذه الفكرة مِن أفلاطون ، ولا تستغربوا أنني أقول أخذوها من أفلاطون ؛ بينما أنا أقول إن أصل التصوف هندي ؛ لأنَّ البيروني نفسه ذكر هذا ، ومعروفة أيضا في تاريخ الفكر الأوربي : اليونان لم يكونوا يملكون فكراً فلسفيّاً وإنَّما كانوا يقتبسون مِن الهند ، و"الجنس الآري" : يجمع الأوربيين بالهنود في جنس واحد ، ثم لما وُجدت لهم فلسفاتهم – أفلاطون ، وأرسطو ، وأمثالهم - : استغنوا ، وانفصلوا عن الهنود في حين أن أرسطو ، وأفلاطون يُعتبروا متأخرين ، بينما فلاسفة الهنود [ كانوا قبل ] آلاف السنين قبل الميلاد .
والحاصل : أن هذا العقل المطلق عند أفلاطون سماه الصوفية : (القطب الأعظم ) أو : (واحد الزمان) ، أو (الغوث الأكبر) ، أو نحو ذلك ، ويقولون - كما في "طبقات الشعراني" ( 1/ 173) – يقول : لو لم يصبح واحد الزمان يتوجه في أمر الخلائق مِن البشر لفاجأهم أمرُ الله عز وجل فأهلكهم .أ.هـ(43/80)
يقول : أن مهمة القطب هذا أنه لو كان أمر الله يأتي البشر مباشرة ؛ يأمر الله أن هذا يحيا ، وهذا يموت ، وهكذا – مباشرة - : لا يتحمل البشر ، يفجأهم الأمر ، ويهلكهم فيحتاج الله – والعياذ بالله – إلى واسطة يتلقَّى الأمر ، ثم هو ينفذه في الكون ، وهو الغوث ، وهو واحد الزمان ، أو القطب الأعظم ، ويقولون : لو أنَّ المدد الحقيقي ورد في هذا العالم مِن عارفيْن على السواء : لسرى في قلوب الآخذين – أي : المتلقين للمدد – الشرك الخفي ! يعني : لابد أن يكون القطب واحداً ، ولذلك فالرفاعي الذي [ ذكرتُ ] لكم تعيينه قطباً ، يقول : حتى النَّبيين سلَّموا له ، والصديقين كلهم ، والأبدال جميعاً ، والنجباء ، والنقباء كلهم سلَّموا له ؛ لأنَّه لابد أن يكون واحداً ، لماذا ؟ قالوا : لو كانوا اثنين ربما يدخل الناس في الشرك !!.
سبحان الله ! كأن الصوفية يحاربون الشرك ، قالوا : لابد أن يكون القطب ، الواسطة بين الله والخلق ، المتصرف في الأكوان : واحداً !
والعجيب : أنَّ كل طائفة مِن طوائف الصوفيَّة تدَّعي القطبيَّة العظمى لشيخها فقط دون مَن سواه ، وبذلك فرَّقوا الأمة ومزقوها .
والغريب : أنَّ الرفاعي ، والقادري كانا متعاصريْن ، فإذا كان القطب واحداً فيهما كان المتصرف في الكون ؟ نتركه لكلام الصوفية ، ولهؤلاء الخرافيين الذين يقولون : إنَّما نحن أهل السنة والجماعة ، ونحن نفرق الأمة عندما نقول : اتركوا هذه الخرافات !!لكن هم الذين يفرقونها ، فماذا يكون جوابهم عن وجود قطبين في وقت واحد ؟ الله أعلم .
المهم : أن بعضهم أيضاً يدَّعي أنَّه أعلى مِن درجة القطبية ، مثلاً : أحمد الرفاعي مؤسسة الرفاعية يدَّعي ذلك ، فقد نقل عنه الشعراني أنَّه قال له أحد تلاميذه : يا سيِّدي أنت القطب ؟ فقال : نزِّه شيخك عن القطبيَّة ، فقال : وأنت الغوث ؟ فقال : نزَّه شيخك عن الغوثيَّة !! .(43/81)
ويعلِّق الشعراني على هذا قائلا : قلت : وفي هذه دليل على أنَّه تعدَّى المقامات ، والأطوار ؛ لأنَّ القطبيَّة ، والغوثيَّة مقامٌ معلومٌ ، ومن كان مع الله وبالله فلا يُعلم له مقام ، وإن كان له في كلِّ مقامٍ مقالٌ والله أعلم . أ.هـ
يقول : إنَّ الصوفية متفقون على أنَّه ليس بعد القطبية إلا الألوهية ، وفيما أعلم أنه ليس هناك عندهم خلاف بهذا ، أعلم أن درجة القطب ليس هناك درجة أعلى ، وليس هناك مقام أعلى مِن مقام القطبيَّة .
إذاً فهذا يتفق مع دعواهم الاتحاد بالله سبحانه وتعالى ، أو حلول الله فيهم ، أو وحدة الوجود ، أي : أنه ليس بعد درجة القطبية إلا أن يكون درجة الألوهية فيتحد بالله ؛ فكأنَّه هو الله !! وليس هذا غريباً بعد أن سمعنا ، ونعلم جميعاً ما صرَّحوا به من قولهم : أنا الله ! وما في الجبة غير الله ! وقول ابن عربي : العبد رب ، والرب عبد فهذا كله جائز الموارد .
بقيَ أن نتحدث عن بعض أعمال القطب الأعظم ، غير تصرفه في الكون ! وإنقاذه الملهوفين وإغاثتهم ! مما سيأتي ذكره في الكرامات ، هناك أمرٌ خطيرٌ جدّاً - وهو كما قلنا- يتعلق بمنهج الصوفيَّة في التلقي الذي هو أصل موضوعنا هنا :
مِن أعظم أعمال القطب الأعظم : التشريع ، يشرَّع لهم الأذكار ، والأوراد ، والأدعية، ثم يستعملونها وهي - كما يزعمون - ترفع المريدين إلى الملأ الأعلى ، توصله إلى العرش ، بالقوة الروحانيَّة ! كما في كتاب – وهو مطبوع – "أوراد الرفاعية " ، وأيضاً "الأوراد الشاذلية " كتب الأوراد تقرأ فيها أن لهذا الذكر قوة روحانية عظمى دافعة …إلى آخره ، هذه القوة الروحانية - في زعمهم - تجعل الذاكر المريد هذا يرى الرسول صلى الله عليه وسلم يقظة ، بل تجعله يرى الله تعالى بزعمهم!! ونختار من هذه التشريعات قضيتين كانتا مما ناقش ، وجعجع حولها الرفاعي – وتعرض لها أصحابه أيضاً - وهي قضية صلاة الفاتح ، والقضية الثانية : قضية التوحيد والوحدة .(43/82)
صلاة الفاتح ذكَر نصَّها الرفاعي في صفحة (67) مِن "ردِّه" ، وهي : "اللهمَّ صلِّ وسلِّم وبارك على سيِّدنا محمَّد الفاتح لما أغلق ، والخاتم لما سبق ، وناصر الحق بالحق ، والهادي إلى صراطك المستقيم صلى الله عليه وسلم ، وعلى آله وأصحابه حق قدره ، ومقداره العظيم" .
وأعرف ممن هداهم الله سبحانه وتعالى ممن كان في جانبهم مَن أحضرها لي ، وذكر لي كم يقولونَها [ مِن ] مَرَّات ، وماذا يحصل نتيجة هذه القراءة ، وأيضاً هناك مصدر وثيق موجود وهو كتاب "التيجانية " فقد ذكَر هذه الصلاة ، وتعرَّض لها .
يهمُّنا هنا قضية القطب ، أو أنها من أعمال القطب ، قول الرفاعي : أن هذه الصلاة - نقلاً عن القسطلاني – يقول : هذه أنفاسٌ رحمانيَّة ، وعوارف صمدانيَّة – أي : كأنها مِن أنفاس الرحمن ، ومن عوارف الصمد سبحانه وتعالى - لقطب دائرة الوجود وبدر أساتذة الشهود ، تاج العارفين ، سيِّدنا ، وأستاذنا ، ومولانا الشيخ محمد بن أبي الحسن البكري .. إلى آخره .
يعني : مادام أن هذا القطب البكري هو الذي وضعها ، وهو الذي كتبها : فهي أنفاس رحمانية ، وعوارف صمدانية ، ولا يحق لأحدٍ أن يعترض عليها على الإطلاق ، والتيجانية أخذوا هذه - مادامت عن هذا القطب - ، وعلى أي حال : ماذا يقول عنها التيجانية :
يقول مؤلف كتاب "التيجانية" صفحة (116) : قال مؤلف "جواهر المعاني" مِن التيجانية :
ثم أمرني بالرجوع صلى الله عليه وسلم إلى صلاة الفاتح لما أُغلق ، فلما أمرني بالرجوع إليها سألتُه صلى الله عليه وسلم عن فضلها ؛ فأخبرني أولاً : بأنَّ المرة الواحدة منها تعدل مِن القرآن ست مرات !! – يعني : الذي يقرأ هذه الصلاة مرة واحدة كأنه قرأ القرآن ست مرات ! لاحظوا مَن الذي يزدري كتاب الله ، ويحتقره ، وبالتالي يحتقر رسول الله ، ويكرهه ، ولا يحبه ؟ -(43/83)
ثم أخبرني ثانياً : أن المرة الواحدة منها تعدل مِن كلَّ تسبيحٍ وقع في الكون ، ومِن كلِّ ذكرٍ ، ومِن كل دعاءٍ كبيرٍ أو صغيرٍ ، ومن القرآن : ستة آلاف مرة ؛ لأنَّه مِن الأذكار - أي : القرآن - .
ثم أيضاً يذكر في صفحة (117) : أنهم يعتقدون أنها مِن كلام الله ، وفى ذلك يقول مؤلف "الرماح" أنَّ مِن شروط هذه الصلاة : أنْ يعتقد أنَّها مِن كلام الله ، وهاشم الرفاعي نفسه في "ردِّه" ينقل أنَّها أنفاس رحمانية مِن أنفاس الرحمن - نسبةً للرحمن - .
إذاً هذا يؤيد ما قلناه مِن أن القطب عندهم له درجة الألوهية حتى أنَّه يشرِّع هذه الأشياء ، ويقول : إنَّها مِن الله ، وأنَّ على الذاكر أن يعتقد أنَّها مِن كلام الله .
ويقول أيضاً مؤلف "التيجانية" : وقال مؤلف "بغية المستفيد" : مع اعتقاد المصلِّي أنَّها ليست مِن تأليف البكري ، ولا غيره ، وأنَّها وردت مِن الحضرة القدسيَّة ، مكتوبةً بقلم القدرة في صحيفة نورانيَّة . أ.هـ
هذه هي صلاة الفاتح ، وهذه قيمتها عندهم ، وهي أيضاً مِن كلام الله عند الصوفية ولها هذه المنزلة .
وفي صفحة (110) مِن "الذخائر" يذكر محمد علوي مالكي هذه الصلاة ويشرحها .
انظر كيف : هذا رفاعي ، وهذا تيجاني ، والمالكي طريقته – أظن – على الطريقة الحسينيَّة العربيَّة في مصر .
المهم الطرق تختلف لكنهم يتفقون على هذه الصلاة التي يقولون : أنَّ مَن ذكرها ، وقرأَ بها : أفضل مِن القرآن ستَّة آلاف مرة ، فانظروا بعد ذلك أي كفرٍ ، وأي شركٍ فوق هذا؟ .
أقول هذا فيما يتعلق بقضية صلاة الفاتح ، والقضية الأخرى التي من تشريعات الأقطاب أو من كلام الأقطاب قضية : "الوحدة والتوحيد" :
العبارة التي يقولها الصوفيَّة وهى : "اللهم اقذف بي على الباطل فأدمغه ، وزُجَّ في بحار الأحدية ! وانشلني من أوحال التوحيد ! ".(43/84)
يقول الرفاعي في شرح هذه العبارة - مهاجماً الشيخ ابن منيع لأنه هاجمها - : فنحن نقول لشرح معنى هذه العبارة التي التبست عليهم - يعني على العلماء في المملكة - ( وزُجَّ في بحار الأحدية ، وانشلني من أوحال التوحيد ) : إن التوحيد لغةً : الحكم بأنَّ الشيء واحد ، والعلم بأنه واحد ، والتوحيد شرعاً : إفراد المعبود بالعبادة مع اعتقاد وحدته ، والتصديق به ذاتاً ، وصفاتٍ ، وأفعالاً .
ثم يقول : والتوحيد في اصطلاح أهل الحقيقة مِن الصوفيَّة : تجريد الذات الإلهية عن كل ما يتصور في الأفهام ، ويخيل في الأذهان ، والأوهام !! انتهى كلام الرفاعي .
إذاً نقول : أنت الآن تفرق بين التوحيد عند الصوفيَّة ، وبين التوحيد شرعاً ، كما هو نص كلامك : التوحيد شرعاً : إفراد المعبود بالعبادة ، والتوحيد عند أهل الحقيقة : هو تجريد الذات الإلهية …إلى آخره .
هذه هي القضية ، قضية أنهم يفرِّقون بين الشريعة ، وبين الحقيقة ، فنحن أهل السنَّة والجماعة أهل شرع ، واتِّباع ، ولا يمكن للواحد منَّا أن يدعو الله سبحانه وتعالى أن يخرجه عن التوحيد - والعياذ بالله - لأنَّه مادام التوحيد هو إفراد الله بالعبادة عندنا - كما يذكر هو أيضاً باعترافه - : فنحن ندعو الله سبحانه وتعالى أن يثبِّتنا على التوحيد ، وأن يميتنا موحِّدين ، ويبعثنا موحِّدين .
لكن الصوفيَّة لما كان عندهم علم الحقيقة ، والتوحيد في عرف الحقيقة وفى اصطلاح الحقيقة شيء آخر : فهُم يدعون الله تعالى ليل نهار أن يخرجهم من التوحيد الذي هو توحيد أهل الشريعة نحن .
هو يقول : نحن لا نقصد الخروج من التوحيد بمصطلحنا ، أو مصطلح الحقيقة لا ، إنما يخرجنا من التوحيد بمصطلحكم أنتم يا أهل الشريعة ؛ ليلقيه في بحار الأحدية التي هي ليس هناك أوهام ولا تخيلات في الأذهان ، بل هي كما يعبِّر عنها ويقول : هي التوحيد ، وهي حقيقة التحقيق لمعرفة كمال وجمال وجلال الأحدية …إلى آخر الكلام .(43/85)
إذاً نقول لهؤلاء : باعترافكم هذا ، ومن كلامكم هذا ماذا تقولون : هل كان النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم على التوحيد الذي عرَّفتموه بأن التوحيد شرعاً ؟ أو على الأحدية التي تريدون أن ينتشلكم الله إليها ، ويزج بكم في بحارها ؟.
نسألكم ، ونقول لكم : الرسول صلى الله عليه وسلم عندما أرسل معاذاً إلى اليمن ، وقال له – كما في الروايات الصحيحة في لبخاري - : " فليكن أول ما تدعوهم إليه أن يوحدوا الله " ، والكلام لا يخلو من أمرين : إما أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم جاهلاً ، وحاشاه من ذلك ، بأن فوق التوحيد درجة عليا هي درجة الأحدية هذه ، ولذلك أرسل معاذاً بالدرجة التي يعلمها فقط ، وهي التوحيد دون درجة الأحدية لأنَّه هو وأصحابه ؛ حتى جاء أصحاب الكشف والفيض الأفلاطوني ، والذوق ، والتيجاني في القرون المتأخرة ، أو البكري ووضعوا مثل هذه الأفكار والأدعية التي تُعلِّم الناس التوحيد، وحقيقة التوحيد ؟ فإما أن تقولوا هذا والعياذ بالله ، وإما أن تقولوا أن الرسول صلى الله عليه وسلم علِم التوحيد الشرعي وعلَّم أمته ؛ لكن هذا التوحيد هو عين الشرك ! وعلَّم الأمة في الجملة عين الشرك ، وكتَم التوحيد الحقيقي الذي هو الأحدية ! وهذا – والعياذ بالله - اتهام للرسول صلى الله عليه وسلم ، وحاشاه أن يكتم شيئاً مما علمه الله ، أو تقولوا كلاماً آخر : وهو أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم علَّم توحيد الشريعة للعامة ، وعلَّم الأحدية للخاصة ، ربما يكون هذا مِن أقوالكم ، نحن نفترض أنكم تقولون ؛ فاختاروا ما شئتم وكلها نادمة لكم مهما تنصلتم .
المضحك فعلاً : أن الرفاعي عندما يدافع عن هذه العبارة يقول : لا غبار عليها ، لا تنكروا علينا أننا ندعو الله ينشلنا مِن التوحيد إلى الوحدة !! هذا هو الصحيح !! .(43/86)
[ حسناً ] أنت إذاً تدعو الله أن ينتشلك من التوحيد الذي هو إفراد المعبود شرعاً ، أو ينتشلك من التوحيد الذي عرَّفته أنه توحيد الحقيقة ؟ فسواء هذا أو هذا فأنت تدعو الله أن ينتشلك منه ، إما توحيد أهل الشريعة ، وإما توحيد أهل الحقيقة ، فتدعو الله أن ينتشلك من التوحيد ، على أي التعريفين ؟ تعريف أهل الشريعة ، أو الحقيقة ؟
ولهذا أقول : إن الرجل لا يعي ما يقول ، لكن مِن المؤكد أن الأقطاب الذين وضعوا هذه العبارة يعون ذلك جيداً ، ويفهمون دلالتها ، وأنَّه ينتشلهم من هذا ، ومن ذاك ليتحقق لهم وحدة الوجود التي هي عندهم عين الأحدية .
ننتقل الآن للحديث عن رجال الغيب ، عندنا مرجع سهل ، أو قريب صاحبه كأنه معاصر وهو " النبهاني " الذي توفى سنة 1350هـ .
وحتى لا يقولوا هذه فكرة قديمة كما يقول بعض الناس مع الأسف : هذه أفكار قديمة وعفا عليها الزمن ، لا ، فالنبهاني توفى عام 1350هـ ، وتلاميذه مازالوا موجودين ، ومنهم : هؤلاء القوم أو من طرق أخرى .
يقول : إن رجال الغيب كثيرون ، ومنهم رضي الله عنهم "النقباء" ، وهم اثنا عشر نقيباً في كل زمان لا يزيدون ، ولا ينقصون ، ومنهم رضي الله عنهم "النجباء" ، وهم ثمانية في كل زمان لا يزيدون ، ولا ينقصون ، ومنهم رضي الله عنهم "الحواريون" ، وهو واحد في كل زمان لا يكون فيه اثنان ، فإذا مات ذلك الواحد : أقيم غيره ، ومنهم رضي الله عنهم "الرجبيون" ، وسموا رجبيين لأن حال هذا المقام لا يكون لهم إلا في شهر رجب، ومنهم رضي الله عنهم "الأبدال" ، وهم سبعة لا يزيدون ، ولا ينقصون يحفظ الله بهم الأقاليم السبعة !!.
قال سفر : يعني مثل ما قلنا : لا يتصرف الله عز وجل عند الصوفيَّة إلا بواسطة ! فالأقاليم السبعة على الجغرافيا القديمة التي كانت قبل ألف سنة ، وضع الصوفيَّة سبعة رجال مِن الأبدال كلٌّ منهم يحفظ إقليمه ، ويتصرف فيه .(43/87)
ويقول : ومنهم رضي الله عنهم "الختم" ، وهو واحدٌ لا في كل زمان ، بل هو واحد في العالم ، يختم الله به الولاية المحمدية .
قال سفر : خاتم الأولياء واحد ، ولذلك حاص ابن عربي ، وابن سبعين ، وأحمد التيجاني ، ومحمود محمد طه ، كلٌّ منهم يدَّعي ، ويحرص أن يكون هو خاتم الولاية ؛ كما يدَّعي كذابو الشيعة ، وغيرهم : أنَّ كلاًّ منهم هو المهدى المنتظر .
يقول : ومنهم رضي الله عنهم ثلاثمائة نفس على قلب آدم عليه السلام ، ومنهم رضي الله عنهم أربعون نفساً على قلب نوح عليه السلام ، ومنهم رضي الله عنهم سبعة على قلب الخليل عليه السلام .
قال سفر : تذكروا ما قلت لكم مِن أن حرصهم على تعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم : إنما هو تعظيمٌ لأنفسهم ؛ لأنهم يقولون : إن رجال الغيب منهم مَن يصل إلى أن يكون على قلب فلان مِن الأنبياء ؛ فهو كالنَّبيِّ وأسقطوا الفرق بين البشر العاديين وبين الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم ، بل وبين الملائكة أيضاً.
ويقول النبهاني : ومنهم رضي الله عنهم خمسة على قلب جبريل عليه السلام ، ومنهم رضي الله عنهم ثلاثة على قلب ميكائيل عليه السلام ، ومنهم رضي الله عنهم واحد على قلب إسرافيل عليه السلام ، ومنهم رضي الله عنهم ثمانية عشر نفساً أيضاً هم الظاهر بأمر الله عن أمر الله ، ومنهم رضي الله عنهم ثمانية رجال يقال لهم "رجال القوة الإلهيَّة" ، ومنهم رضي الله عنهم خمسة عشر نفساً ، هم "رجال الحنان والعطف الإلهي" !!
قال سفر : الله تعالى قوته ، وحنانه ، أو رحمته تكون عن طريق هؤلاء بزعمهم .(43/88)
قال : ومنهم رضي الله عنهم أربعةٌ وعشرون نفساً في كل زمان يسمَّون "رجال الفتح" ، ومنهم رضي الله عنهم واحد وعشرون نفساً ، وهم "رجال التحت السفلي " ، ومنهم رضي الله عنهم ثلاثة أنفس ، وهم "رجال الإمداد الإلهي والكوني" ، ومنهم رضي الله عنهم ثلاثة أنفس "إلاهيون ، رحمانيون" في كل زمان ، ومنهم رضي الله عنهم رجل واحد وقد يكون امرأة في كل زمان ، ومنهم رضي الله عنهم رجلٌ واحدٌ مركَّبٌ ممتزج في كل زمان لا يوجد غيره في مقامه ، وهو يشبه عيسى عليه السلام متولِّدٌ بين الروح والبشر ، لا يُعرف له أبٌ بشري ، كما يحكى عن بلقيس أنها تولدت بين الجنِّ والإنس ، فهو مركَّب بين جنسين مختلفين ، وهو "رجل البرزخ" ، به يحفظ الله تعالى البرزخ ..إلى آخر كلامه .(43/89)
المهم : انظروا ترتيب هؤلاء الرجال ، وانظروا تصنيفهم ، وانظروا أعدادهم ، لماذا كانوا بهذا الشكل ، انظروا هذا الأخير الذي يشبه عيسى عليه السلام ، أليس هذا يصدِّق بأن أصل الصوفيَّة ، أو مِن أصولها : النصرانية التي هي في الأصل منقولة عن النصرائية ، نقلها بولس شاوا اليهودي ، فهي في الأصل دسيسة يهودية نقلت من النصرائيَّة ديانة وثنية شرقية إلى النصارى ، ثم أخذها هؤلاء عن طريق النصارى ؟ وهذا يؤكد ما هو معروف مِن أنَّ أول مَن وضع ما يسمُّونه (خانقاه) ، أو (الرباط) للصوفية هو أحد أمراء "الرملة" النَّصارى في فلسطين ، هو الذي وضع لهم (الخانقاه) هذا أو (الرباط) ، ثم انتشرت الأربطة فيما بعد ، وهذا الكلام – وهو أنَّ أول مَن بنى الرباط هو أمير نصراني في الرملة - : نقله عبد الرحمن الجاني في كتابه " نفحات الأنس " صفحة 34 ، ونقله الدكتور طلعت غنام صفحة 64 في كتاب " جهلة الصوفيَّة " ، وعبد الرحمن الجاني هذا مِن الصوفيَّة الذين يقولون بوحدة الوجود ، عاش في نهاية القرن التاسع ، وله كتاب في وحدة الوجود طبعه الطابعون في مصر مع "أساس التقديس" للرازي لأنَّ القوم أشاعرة ، وصوفية ؛ فطبعوا "أساس التقديس" - كتاب الأشاعرة - ، وطبعوا معه "رسالة الجواهر" أو "الدرر" لعبد الرحمن الجاني في وحدة الوجود ، وترجم له الزركلي في "الأعلام" ، من شاء أن يراجع ترجمته هناك فليراجعها .
والحديث - طبعاً - عن هؤلاء الرجال طويل جداً ، ولا أستطيع أن أحدثكم عنه بالتفصيل بقدر ما أحاول - إن شاء الله - أن أنقل كثيراً مما نُسب إليهم مِن كرامات ، وشركيَّات، وتعلقات بهم ، إنما هناك قضية خطيرة ينبغي لي أن أنبِّه عليها وهي تجمع هؤلاء الرجال جميعاً ، وتعطينا وصفاً لهم .(43/90)
هذه القضية : أنَّ رجال الغيب عند الصوفيَّة الموصوفين بهذه الصفات ، هم يعيشون بين الناس ، وهم رجال مِن البشر ، يعيشون بيننا ، منهم المعروف ، ومنهم المجهول ، ومنهم الظاهر للناس ، ومنهم المستتر عنهم ، بحيث أنَّه يراهم ، وهم لا يرونه ، ويكاشف متى شاء !! ، هذه الصفة مشتركة بين هؤلاء الرجال ، ولذلك تجد الصوفيَّة - حتى من العوام وغيرهم – يقولون : "فلان يمكن يكون ولي" ، "يمكن يكون مِن رجال الغيب فلا تتعرض له لا تكلمه" .
كيف !؟ وبأي دليل يستدلون على هذا ؟ هنا القضية ، القضية : أن هؤلاء الرجال مخالفون في سيرتهم ، وفي أحوالهم للشريعة ، ولمألوفِ النَّاس ، فلا تتصور رجلاً مقيماً في مكان يدرس سنَّة الرسول صلى الله عليه وسلم ، أو عالم مِن العلماء مشتغل بالتفسير ، أو بالحديث ، أو بالسنَّة أو بالدعوة ، أو بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، أو بالجهاد :
لا تتصور أن الصوفيَّة يعتقدون أنَّ هذا مِن رجال الغيب ، لا ليس هذا أبداً ، القضية : أن هذا الرجل ينبغي أن يكون كما يسمونه "بهلولاً" ، "مجذوباً" ، يقع على المزابل ، يلتقط من القاذورات ، ورأينا نماذج مِن هؤلاء في الحرم مِن أقذر الناس ، شعورُهم نافرة ، وأظافرهم طويلة ، وهكذا نجد أشكالاً غريبة جدّاً ، خارجة عن المألوف ، ويقال : هؤلاء هم "الأولياء" ، ربما يكون هذا هو "القطب الأعظم" الذي يدير الكون كلَّه وأنت لا تدري !! ، وربما يكون مِن "رجال الغوث" ، ربما يكون مِن "النجباء" ، ربما يكون مِن "الرجبيين" ، وربما يكون مِن "الرحمانيين" ، وربما يكون على قلب نوح ، أو الخليل ، وأنت لا تدري ! .(43/91)
وهنا خطورة كبرى ، ومطب كبير أفسدتْ به الصوفيَّةُ دينَ المسلمين ، بل أنا أقول : إن سرَّ التصوف يكمُن تحت مثل هذه الأمور ، لماذا ؟ نرجع إلى الوراء قليلاً ، إلى مرجع قديم من مراجع الصوفيَّة ، وهو كتاب أبي عبد الرحمن السلمي ، من كبار الصوفيَّة المعروفين ، مؤلف التفسير الإشاري لهم "حقائق التنزيل" كتب كتاباً عن "الملاميَّة" ، أو "الملامتية" : وهم فرقة الصوفيَّة في المشرق ، وهم مِن أوائل الزنادقة الذين أسَّسوا هذه الفكرة ، وهي فكرة أن الأولياء مخالفون لظواهر الشرع ، مخالفون لأحوال الناس ، هؤلاء "الملامية" أو "الملامتية" ، يقول عنهم في صفحة (98) مِن كتابه "الملامتية" ، الذي حققه أبو العلا عفيفي ، طبع في مصر سنة 1364هـ ، يقول : إنَّهم رأوا التديَّن بشيءٍ مِن العبادات في الظواهر : شِركاً ! والتزيَّن بشيء مِن الأحوال في الباطن : ارتداداً ! .
يقولون : مَن يُظهر شيئاً مِن الطاعات ، ومن العبادات : هذا مشرك ، وأسرَّ في قلبه شيئاً مِن الأحوال : فهو أيضاً مرتد .
ويقولون إن كلَّ عملٍ ، وطاعةٍ وقعت عليه رؤيتُك ، واستحسنْتَه مِن نفسك
فذلك باطل .
ويقول عنهم - ينقل عن أحدهم ، قال - : هم قومٌ قاموا مع الله تعالى على حفظ أوقاتهم ، ومراعاة أسرارهم ، فلاموا أنفسهم على جميع ما أظهروا مِن أنواع القُرَب ، والعبادات ، وأظهروا للخلق قبائح ما هم فيه ، وكتموا عنهم محاسنَهم ، فلامهم الخلْقُ على ظواهرهم ، ولاموا هم أنفسهم على ما يعرفون مِن بواطنهم ، فأكرمهم الله بكشف الأسرار والاطلاع على أنواع الغيوب ، وتصحيح الفِراسة في الخلق ، وإظهار الكرامات عليهم !!.(43/92)
قال سفر : لاحظوا هذا الكلام ، يعني هؤلاء القوم لما أظهروا القبائح - بزعمهم - ازدراءً لأنفسهم ، وحتى لا يتعلق بهم النَّاس ، وحتى لا يظنوا فيهم أنَّهم أولياء ، وهم يريدون أن يكونوا أولياء في الباطن فقط ، ولا أحد يعلم بهم ، وينزِّهوا عن أنفسهم الرياء ، وعن كلام الناس : أظهروا القبائح ، وأظهروا المعايب ، وأظهروا الشنائع حتى أن منهم مَن كان يأتي الفاحشة في الدواب علانية أمام الناس ، وهذا منقول ، وربما نتعرض له ، ومنهم مَن دخل الحمَّام فسرق لباس أحد النَّاس ، ولبسه بحيث يُرى ، وخرج في الشارع ، وكان الناس يعتقدون فيه الولاية ، فلما رأوه أدركوه ، وضربوه ، وأخذوا الملابس ، فقيل له في ذلك ، فقال لهم : حتى أَسْقط مِن أعينهم ، وأبقى في عين الحق !! إلى آخر ما ينسجونه حولهم مِن الحكايات يصنعونها – كما يقولون – في تزكية النفس ، وتطهيرها .
طبيعي أن هذا مخالف لقول النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح : "مَن سرَّته حسنتُه ، وساءتْه خطيئتُه فهو المؤمن" ، والمؤمن لا يحب ، ولم يؤمر أن يُظهر السيئات والقبائح ، لكن القضية أكبر مِن قضية مخالفة هذا الحديث ، القضية : أنَّها مخالفة للإسلام ، وهدم الإسلام ، وإيضاح ذلك بالتفصيل ، أو بشيء مِن التفصيل :(43/93)
إن الزنادقة الذين أنشئوا هذا الدين ، وركَّبوه ، ونقلوه إلى المسلمين ، ولبَّسوا به عليهم، هؤلاء واجهتهم الأمَّة بالإنكار ، واجهتهم بالرد ، والتكذيب حتى العوام مِن المسلمين ، ودمغوهم بالكفر ، والزندقة ، وقلَّ أن تجد عالماً مِن كبار الصوفيَّة إلا واتُّهم بالزندقة ؛ إمَّا أن يكون قُتل بتهمة الزندقة ، أو اتُّهم بها ، أو سجن كما سجن ذو النون ، وكما اتُّهم الجنيد ، وقتل الحلاج ، وكثيرون مِن هذا النوع ، واستدل العلماء ، والمسلمون بظاهر حالهم هذا المخالف للشرع على خبث الباطن ، وعلى خبث الطوية ؛ لأنَّه ليس بوسع المسلم أن يرى رجلاً يمشى مكشوف العورة ، أو رجلاً يرتكب الفاحشة في البهائم علانية ، ويترك الجمع ، ويترك الجماعات ، ويُقره على ذلك ؛ فضلاً عن أن يعتقد أن هذا مِن رجال الغيب ، أو مِن أولياء الله ، لا يمكن هذا أبداً .
الزنادقة أرادوا أن يخترعوا تقاة ، أو تقية ، خديعة شيطانية ، أرادوا أن يوقعوا بها النَّاس، وأرادوا أن يلبِّسوا بها على المسلمين ، فقالوا لهم : هؤلاء القوم أولياء ، وصلت بهم مجاهدة النفس إلى حد استعذاب الأذى في ذات الله تعالى ، وإلى استجلاب تهمة الناس لهم ، هم يدْعون النَّاس إلى أن يتهموهم ، وأن يلوموهم ، وأن يتكلموا فيهم ، وأن يكرهوهم ، وأن يحتقروهم ، هم يريدوا بذلك أن يُنقُّوا أنفسهم ، ومحبتهم لله ، وأن يتجردوا عن الرياء ، وعن الشهرة ، وأن يسقطوا مِن عين الخلق ، ويبقوا في عين الحق كما يقولون ، فهم متعمِّدون في هذا ، ويحبون أن يقول النَّاس أنَّهم زنادقة ! وأنَّهم مخالفون ! وأنهم كذا ، ويستمرون على إظهار هذه الأحوال على حد قول الشاعر كما هم يقولون :
أجد الملامة في هواك لذيذة حبّاً لذكرك فليلمني اللُّوَّم(43/94)
لكن في الحقيقة أن المسخور منهم ، المستهزأ بهم : هم هؤلاء أصحاب الظاهر المغفلون الذين ينتقدون مثل هؤلاء الأولياء ، أو يلمزونهم ، أو يتكلمون فيهم بدعوى أنهم مخالفون لظاهر الشرع ، وهؤلاء شهدوا الحقيقة الكونيَّة ، وأدركوا سرَّ القدر ، واشتغلوا بإصلاح القلب عن إصلاح الظاهر ، واشتغلوا بمحبة الحق عن سماع إنكار الخلق ، ويقولون مِن جملة ما يقولون ، ويتعللون به : إنَّكم أنتم يا أهل الظاهر : الفقهاء ، والعلماء ، والرسوم، تنكرون علينا أننا نترك صلاة الجمعة ، وأنتم تكتبون في كتب الفقه : أن مَن خاف ضياع ماله : جاز له تركها لأجله ، ومَن كان مسافراً ، ولو كان مسافراً للدنيا ، أو للتجارة يجمع المال : تسقط عنه صلاة الجمعة ، فكيف الذي في الخلوة مستغرق مع الله سبحانه وتعالى ، وقلبه متعلق بمحبة الله الذي هو أغلى مِن الدنيا كلِّها ؟ وتقولون : هذا لا يمكن أن يَترك الجمعة ، والجماعات ؟ ولا يجوزله أن يعتكف في خلوة ، ويترك الجُمُع والجماعات ؟ [ يقولون ] : أليس الله تعالى أغلى ، وأعظم مِن الدرهم والدينار ؟ المجتمِع مع الله أليس هو أعظم ممن هو مجتمِع على قليلٍ مِن المال يخشى أن يضيع منه ؛ فيجوز له عندكم في فقهكم أن يترك الجمعة لأجله !؟
ويقولون : أنتم تقولون : أن الإنسان إذا أغمي عليه ؛ فانكشفت عورته : هذا جائز،
وقد يكون هذا الإغماء بسبب ضربة شمس ، أغمي عليه ؛ فكُشفت عورته هذا جائز ، أو لمرضٍ ، أو نحوه : لا حرج عليه أن تكشف عورته .(43/95)
وتذكرون – أيضاً - في كتبكم يا أهل السنَّة أن زوج بريرة كان يتبعها في طرقات المدينة ، ودموعه تنحدر حبّاً لها ، ولم يحرَّج عليه كذلك ، وكان ذلك في عهد النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ، وأشياء مِن هذا القبيل ، فكيف لا تُنكرون ذلك ؟ وتنكرون على مَن يكون إغماؤه لآية سمعها ، أو كشفٍ جلَّ له الحق فأغمي عليه وكشفت عورته ، وأخذ يصرخ ويقول : أنا الحق ، أنا الحق ، أنا الله ، أنا الله !! كيف تُعذرون مَن سقط وتكلَّم بما لا يدري من مرضٍ أو نحوه ، وبين مَن لم يسقط إلا حبّاً ، ووجداً ، وهياماً بالمعبود الحق ، وبالحبيب الأعظم – وهو الله تعالى عندهم - .
أقول : رأى الزنادقة أن هذه هي أخطر وسيلة لهدم دين الإسلام ، وإبعاد الأوامر ، والنواهي ، وإبطالها ، وإبطال الجهاد ، وإبطال الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ، واندثار أمر الإسلام بالكلية ، والقصص في ذلك كثيرة ، منها ما ذكره شيخ الإسلام ، وتحدَّث عنه في كتاب "الاستقامة" : أن بعضهم كان إذا سمع المؤذن يقول له : اسكت يا كلب ! ولعنك الله ! أو نحو ذلك ، ينهره ، ويشتمه ، وكثيرٌ مِنهم كان يصنع هذا ، فإذا قيل له كيف تقول ذلك ؟! قال : هؤلاء أهل الظاهر يؤذِّن في الظاهر ، وهو في الباطن لا يعلم حقيقة التوحيد الذي يقوله عندما يقول : "أشهد أن لا إله إلا الله" ، فإذا نقدهم أحد كيف تقول للمؤذن هذا الكلام ؟ يقول : هذا مِن ولايته ، هذا مِن فهمه للتوحيد يشتم المؤذن ؛ لأنه يقول : "أشهد أن لا إله إلا الله" ، وهو لا يدرك التوحيد .. إلى غير ذلك .(43/96)
المهم : أن هذه طريقة لإسقاط الأوامر والنواهي ، لا تنكر على أي إنسان ! أنت لا تدري في عرفهم ، وفي كلامهم ، ربما هذا المجذوب الذي تراه مطروحاً على المزبلة والناس هناك يصلون ؛ ربما أنه ما يفعل هذا إلا تستراً ، وإلا فهو قوَّام بالليل ، وبكَّاء بالسَّحَر ، وأوَّاه منيبٌ في خلوته حين ينقطع عن الخلق وينفرد بالحق ، وما يدريك أنك قد تنكر على رجلٍ سكران في الشارع ، وهو ما هو بسكران سُكْر خمرٍ إنما هو سُكْر الوله ، والمحبة ، والوجد ، والشوق !! .
أيضاً : قد ترى امرأة عارية الشعر ، والنَّحر تتواجد ، تتمايل ، فتقول : هذه لاهية ، أو راقصة ، أو هذه مطربة ، وهي وليَّة ! مستغرقة في عين الجمع مع الله ! أنت ترى جسدها على الأرض ، ولكن قلبها في السماء عند الله ، أو في العرش !! .
يمكن ترى مجنوناً يرغي ، ويزبد ، ويطارد الصبيان في الشوارع ، وتقول : "الحمد لله الذي عافاني مما ابتلاه به" ، أو نحو ذلك ، لكن لا تدري - على كلامهم - أنت المبتلى بحجاب الغفلة ، هذا عارفٌ مِن العارفين ، أو بَدلٌ مِن الأبدال ، تستَّر بالجنون حتى لا يُدرى عنه ، حتى تكون هذه الولاية خاصة بينه وبين الله ، حتى يلومه النَّاس فيما يفعل ؛ فيحصُل له الأجر مِن لومهم .(43/97)
أقول : إن مثل هذا الكلام : تلبيس الحقائق ، وإضاعة المعايير التي نعرف بها الصالح مِن الطالح ، والمجنون مِن الصاحي ، تضيع المعايير ، وإفقاد العوام لها ، ثم نشر هذه بين عامة المسلمين ، وجهلتهم ، خاصة المناطق النائية في القديم ، وخاصة جميع عوام المسلمين تُنشر هذه بينهم ، فماذا يكون رد الفعل عند المسلمين إذن ، إذا اعتقدوا أن الولي ليس الذي يدرِّس كتاب الله ، والصحيحين في المسجد الحرام مثلاً ، أو يجاهد في سبيل الله ؟ وإنما الولي : هذا الأشعث ، الأغبر ، القذر ، المنتن ، الذي نراه يلتقط القمائم مِن جوار الحرم ، ولا يمد يده لأحدٍ لأنَّه متوكلٌ ، فيقول : ربما كان هو "القطب الأعظم" ! أمَّا هذا الذي يجلس في الحَرَم يدرِّس "البخاري" ، أو "فتح الباري" هذا من علماء الظاهر ، مِن الناس العاديين ، وليس مِن "رجال الغيب" ، ولا مِن "أهل الحقائق" .
هنا الخطورة ، وتحت هذا اللَّبس يذكرون الكرامات ، ويذكرون الشركيات الشنيعة ، ويدافعون عن ذلك دفاعاً مريراً ، وأنا أنقل نصّاً واحداً مِن اندفاعهم من كتاب "المشرع الروي في فضائل آل با علوي" نقلاً مِن اليافعي الذي له كتاب "مرآة الجنان" مليء بهذه الخرافات أيضاً .
يقول اليافعي في الجزء الأول صفحة (322) : وكثيرٌ مِن هذه الطائفة - أعني الصوفيَّة- جمعوا بين الوَلَه ، والتجريد في ظاهر الشرع ، تخريباً بائناً ، أسقطهم عن أعين الناس ؛ ليستتروا عن شهرة الصلاح ، يخفون محاسنهم ، ويظهرون مساوئهم ، ومنهم مَن يكشف عورته بين الناس ، ومنهم مَن يرى أنَّه لا يصلي ، وهم يصلُّون ، ويجتهدون فيما بينهم وبين الله تعالى ، وقد شوهد كثيرٌ منهم يصلى في الخلوات ، وفى جوف الليل ؛ لأنَّهم كانوا يبالغون في نفي رؤية الخلق ، وإسقاطها مِن قلوبهم ، ولا يبالي أحدهم بكونه عند النَّاس زنديقاً إذا كان عند الله ليس زنديقاً ، كنسوا بنفوسهم المزابل لتحيا لمولاهم حياةً طيبةً قبل المعاد ! . أ.هـ(43/98)
يقولون : فليكن زنديقاً عندك ، وعند غيرك ، هو عند الله ولي !
[ حسناً ] ، لو جاء زنديق حقيقي ، وقال هذه الكفريات ! ما أدرانا ؟ ، يمكن يكون هذا وليّاً ، ضاعت معايير – كما قلت – الصلاح ، والفساد ، والزندقة ، والإيمان .
إلى أن يقول : ومنهم مَن يحتجب بحاله عن أعين الناس ، وهم معهم في الصلوات !.
قال سفر : لاحظتم ! صلَّى مع الجماعة ويمكن أننا لم نره !! .
يقولون : هذا موجود فلا تُنكر عليه ، ولهؤلاء أطوار لا يدركها العقل - هم يسمُّون اختلاف التشكل : تطوراً !! لعلنا نقرأ هذا في الكرامات ، التطور هذا مِن عمل المشعوذين ، والسحرة ، والجن ، واستعانتهم بالشياطين ، - وإنما تدرك بالنُّور - يعني : بالكشف - ويعرفها العارفون بالله تعالى – يعني : لا نعرفها نحن المحجوبون - .
يقول : فقد روِّينا أن بعضهم كان لا يُرى أنَّه يصلي ، فأقيمت الصلاة يوماً وهو جالس ، فقال له بعض الفقهاء : قم فصلِّ مع الجماعة – فالفقيه أنكر عليه ، وقال له قم صلِّ- ، فقام ، وأحرم معهم ، وصلَّى الركعة الأولى ، والفقيه المنكِر ينظر إليه ، فلمَّا قاموا إلى الركعة الثانية : نظر الفقيه إلى مكان الرجل ، فإذا به غيره يصلي ؛ فتعجب مِن ذلك ، ثم رأى في الركعة الثالثة شخصاً ثالثاً ، ثم في الرابعة رابعاً ، فزاد تعجبه – أربعة أشخاص في أربعة ركعات ! – ، فلما سلَّم مِن صلاته التفت ، فرأى صاحبَه الأول جالساً مكانه ، وليس عند أحدٌ ، فتحير الفقيه مما رأى ، فقال له الفقير وهو يضحك - الصوفي يسمونه فقيراً - : يا فقيه ! أي الأربعة صلَّى معكم هذه الصلاة ؟ يقول اليافعي: فاعترف الفقيه بفضله ، وزال ما عنده من الإنكار !! أ.هـ(43/99)
مادام يصلى كل ركعة بشكل شخص آخر : إذاً يمكن هو يصلي في أي وقت ، وأنت لا تنكر على أي إنسان تراه تاركاً للصلاة ، والناس يصلون الجمعة ، والجماعات لأنَّك ما تدري يمكن صلى في صورة أخرى ، كيف تنكر على أولياء الله وأنت مِن جهلك ؟ لأنَّك تنظر بنظرك العقلي ، الحسي ، العادي ، وهؤلاء قوم لهم أمور أخرى ، ولهم أطوار أخرى!! .
أقول : إنَّه بمثل هذا الكلام استطاع الصوفيَّة أن يضربوا بسورٍ عريضٍ بين أولياء الله الحقيقيين ، بين المجاهدين في سبيل الله ، بين علماء الأمة العظام الذين يقفون في وجه المنكرات ، ويحاربون أعداء الله سبحانه وتعالى ، بين هؤلاء الأولياء الحقيقيين ، وبين عامة المسلمين ، ضربوا بسورٍ عظيمٍ ؛ فأصبح مَن لم يكشف عورته ، ومَن لم يترك الصلاة ، ومَن لم يطرح نفسه على المزابل ، ومَن يَظهر للنَّاس أنَّه بَهلول ، أو مجذوب : فهذا ليس بوليٍّ عند عامَّة المسلمين ، وليس مِن أصحاب الكرامات ، ومِن ثَمَّ فلا يلتمس منه هدًى ، ولا علم ؛ لأنَّه مِن أصحاب الظاهر ، مِن أصحاب الرسوم ، مِن الملبَّس عليهم ، من المحجوبين .. إلى آخر هذه الألقاب الذي ينبز بها الصوفيَّة علماء الشريعة ، وفقهاء السنَّة ، وأولياء الله تعالى الحقيقيين .
ولم تقف الصوفيَّة عند هذا الحد بل أصبحت تُنكر على مَن يُنكر على أي دين ! يعني: لا يكفي أن تنكر على إنسان مسلم أنَّه كشف عورته ، وترك الجمعة ، والجماعة ، بل يقولون : لا تنكر على أي إنسان أنه منتسب إلى أي دين !!(43/100)
انظروا "أخبار الحلاج" صفحة (54) ، يقول عبد الله بن طاهر الأزدي : كنتُ أخاصم يهوديّاً في سوق بغداد ، وجرى على لفظي أن قلتُ له : "يا كلب" ، فمر بي الحسين بن منصور الحلاج ، ونظر إليَّ شزراً ، وقال : لا تُنبِح كلبك ، وذهب سريعاً ، فلما فرغتُ مِن المخاصمة قصدته ، فدخلتُ عليه فأعرض عني بوجهه ، فاعتذرتُ إليه ، فرضي ، ثم قال لي : يا بني ، الأديان كلها لله عز وجل !! شَغَل الله بكل دينٍ طائفة لا اختياراً فيهم ، بل اختياراً عليهم ، فمن لام أحداً ببطلان ما هو عليه : فقد حَكَم أنَّه اختار ذلك لنفسه ، وهذا مذهب القدرية ، و"القدرية مجوس هذه الأمة" ، وأعلم أن اليهودية ، والنصرانية ، والإسلام ، وغير ذلك مِن الأديان : هي ألقاب مختلفة ، وأسامٍ متغايرة ، والمقصود منها لا يتغير ، ولا يختلف ، ثم قال : وأنشد الحلاج شعراً بعد ذلك يقول :
تفكرت في الأديان جداً محققاً فألفيته أصلاً لها شُعُبٌ جمّاً
فلا تطلبن للمرء دنيا فإنه يصد عن الأصل الوثيق وإنما
يطالبه أصل يعبر عنده جميع المعالي والمعاني فيفهما
قال سفر : الأديان كلها واحدة ! ولا تقل لأحدٍ إنَّك يهودي ، ولا نصراني ،كله حق ، وكلها طرق إلى الله ! هكذا يقول ، وهنا تلتقي الماسونية الحديثة بهذه الأفكار القديمة ، ومثل هذا قول ابن عربي :
لقد كنت قبل اليوم أنكر صاحبي إذا لم يكن ديني إلى دينه داني
لقد صار قلبي قابلاً كل صورة فمرعى لغزلان ودير لرهبان
وبيت لأوثان وكعبة طائف وألواح توراة ومصحف قرآن
أدين بدين الحب أنَّى توجهت ركائبه فالحبُّ ديني وإيماني(43/101)
يقول ابن عربي : ديني دين الحب مثل ما قلنا أن "الثيوصوفية" محبة الله فدينهم دين الحب فقط ، فمَن أحب الله على أي ملة ، وعلى أي نحلة – يهوديَّة أو نصرانيَّة أو إسلام - : فهو حبيب الله عندهم ، ولا ينكَر عليه على الإطلاق ، هنا تلتقي مع الماسونية ، هنا نرى لماذا الماسونية تشجع التصوف ؛ لأنَّ الماسونية تحت هذا الكلام يهدمون الأديان جميعاً ليبنوا هيكل سليمان ، ودين اليهودية فقط ، يطلبون مِن الناس أن يتركوا أديانهم .
أمَّا اليهود فهم بطبيعة الحال دينهم مغلق ، هم لا يريدون أن يدخل أحدهم أصلاً ، فلا يدْعون أحداً إلى دينهم ، فيريدون مِن أهل الأديان الأخرى أن يتخلوا عنها ، وأن يتركوها ، وأن يساهموا جميعاً في بناء هيكل سليمان .
الماسونية ، والصوفيَّة تلتقي هنا ، والمؤسسون متفقون مِن الأصل ، وإلى الآن ، ولذلك لا عجب أن نرى الماسونية ، والدول التي تحركها الماسونية في الخفاء تدعم والتصوف ، وتنشره ، وتحقق تراثه ، وتفتتح أقسام الدراسات العليا ونحوها عن الإسلام ، وما هي عن الإسلام ، وإنما هي عن هذا التصوف .
أقول هذا : لنعرف حقيقة هذا الدين ، وحقيقة الدوافع التي تدفع الصوفيَّة لإظهار القبائح كما يسمُّونها ، وعن استعراضنا للكرامات سنجد الكثير مِن مثل هذه الأمور ، ونعرف علتهم ، وهدفهم وراء ذلك كله .
الكرامات - كما يسمُّونها - وهي : أحوال ، منها كرامات ، ومنها استغاثات ، وسأقرأ بعضها سريعاً ، وحتى لا أطيل في ذكر الجزء ، والصفحة ، والمصادر : وهي "طبقات الشعراني " أو " المشرع الروي في فضائل آل با علوي " أو "جامع كرامات الأولياء " ، سأذكر اسم صاحب الكرامة ، وعليك أن تبحث عن ترجمته ، وستجد هذا الكلام فيه ، وذلك منعاً للإطالة .
يقول أحدهم - وهو عبد القادر الطشطوشي - : أرباب الأحوال مع الله كحالهم قبل الخلق وإنزال الشرائع .(43/102)
أبو بكر بن عيسي - أحد أكابر الأولياء عندهم - يقول : كان كثير الاستغراق ، ويخبر بالمغيبات ، ويرجع إليه في المعضلات ، وكان أهل الأجلاب إذا سافروا في البحر ، وحصل لهم شدة يذكرونه ، وينذرون له بشيءٍ ؛ فيرونه عندهم عِياناً ، فينجيهم الله تعالى ببركته ، وإذا جاءوا إلى بلدته : طالبهم بالنذر الذي نذروه له .
أبو عبد الله محمد بن على الرياحي - نقلاً عن الجلبي - يقول عن الفقيه محمد بن عباس الشعبى : رأيت ذات ليلة في المنام أن القيامة قد قامت ، ورأيت النَّاس مجتمعين في صعيدٍ واحدٍ ، حفاةً ، عراةً ، كما جاء في الخبر ، وأنا مِن جملتهم عرياناً ، ورأيتُ موضعاً مرتفعاً ، والقاضي محمد بن على - الولي صاحب الكرامة - واقفاً عليه ، وعليه ثيابه كلها حتى العمامة ، والنَّاس محدقون به ، فهرولت إليه ، فلما دنوتُ منه سمعتُه يقول: المهم ، كلكم في شفاعتي فاطمأنوا !! فقلت له : وأنا معهم ؟ فقال : وأنت معهم.
يروون عن أحدِ كبرائهم ، وهو المسمَّى " شمس الدين محمد الحنفي " : أنَّه أوصى في مرض موته فقال : مَن كان له حاجة فليأت إلى قبري ، ويطلب حاجته : أقضها أنا !
أبو عبد الله محمد بن يوسف اليمني الضجاعي : مِن كراماته أنَّه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول له : إن أردت أن يفتح الله عليك بالعلم : فخذ مِن تراب قبري الضرِّير شيئاً وابتلعه على الريق ؛ ففعل الفقيه ذلك ، فظهرت بركته .
وعن هذا الحنفي أيضاً ، يسمُّونه أعظم خلفاء البكري : أنَّه امتحنه البكري مرة ، فقال له : كان الليلة في نفسي أمر ما هو ؟ ! فأخبره به ! فقال : أصبتَ هذا الذي كان في نفسي ! – قال سفر : هذا علم الغيب ، وعندهم كثيرٌ جدّاً : يعلم الواحد منهم ما في نفس المريد – ، ويقول : اشتدَّ بنا الكرب الليلة ، والأغلال في أعناقنا فاستغثنا بحضرة الشيخ واستجرنا ! ومتى استغاث به أحدٌ أدركه.(43/103)
قال سفر : الرفاعي والبحريني وهؤلاء المغاربة يقولون : هذا ما يفعله بعض الجهال ، والواقع أنَّه ما يفعله هم هؤلاء الأولياء ، يقول : تعالَ عند قبري ، ويقول : استغثْنا ، ويقول : استغِث .
ويقول : كان جالساً يوم مع أصحابه في رباطه إذ ابتلَّت يده الشريفة وكمُّه إلى إبطه ، فعجبوا من ذلك ، وسألوه عنه ، فقال قدس الله سره : استغاث بي رجلٌ مِن المريدين تاجرٌ ، وكان راكباً في السفينة ، وقد كانت تغرق ، فخلَّصتها مِن الغرق ! فابتلَّ لذلك كمِّي ويدي ! فوصل هذا التاجر بعد مدةٍ ، وحدَّث بهذا الأمر كما أخبر الشيخ ! – قال سفر : الشيخ في حضرموت ، والسفينة في بحر الهند ، وأنقذها وهو جالس مع أصحابه لأنهم استغاثوا به ! - .
ويقول علي بن محمد بن سهل الصائغ الدينوري : تركتُ قولي للشيء كن فيكون تأدباً مع الله تعالى – قال سفر : تأدباً مع الله وإلا فهو يستطيع أن يقول للشيء كن فيكون -.
وجاكير الهندي يقول : استأذن رجل واسطيٌّ الشيخَ جاكير في ركوب بحر الهند للتجارة فقال له الشيخ : إذا وقعت بشدةٍ فنادي باسمي !فلمَّا كان وقت كذا وكذا عصفت الرياح الشماليَّة فتلاطمت الأمواج ، فأشرفنا على الغرق فتذكرت قول الشيخ فقمتُ واستقبلتُ العراق ! وناديتُ : "يا شيخ جاكير أدركنا" ! فلم يتمَّ كلامي حتى رأيناه عند السفينة ، وأشار بكمِّه إلى الشمال فسكتت الريح ، ومشى خطوات يميناً وشمالاً فسكن البحر ، ثم أشار بكمِّه إلى الجنوب ، فهبت ريحٌ طيبةٌ أوصلتنا إلى طريق السلامة ، ومشى الشيخُ على الماء حتى غاب عنَّا .
قال الإمام الشعراني : وكان الشيخ جاكير يقول : ما أخذتُ العهد على مريدٍ حتى رأيتُ اسمَه مكتوباً في اللوح المحفوظ ! وأنَّه مِن أولادنا – قال سفر : لاحظوا أنَّهم يطَّلعون على اللوح المحفوظ ! - .(43/104)
عبد القادر الجزائري الذي يقال إنَّه بطل الجهاد في الجزائر ، وهو رجلٌ باطنيٌّ ، وبريءٌ مِن الجهاد ، وله كتاب "المواقف" على مذهب ابن عربي مِن نفس الباطنية يقول - كما نقل عنه النَّبهاني - : إنِّي لمَّا بلغت المدينة – "طيبة" - وقفتُ تجاه الوجه الشريف بعد السلام عليه صلى الله عليه وسلم وعلى صاحبيه الذين شرَّفهم الله بمصاحبته حياةً وبرزخاً فقلتُ : يا رسول الله عبدُك ببابك ! يا رسول الله كلبك بأعتابك ! يا رسول الله نظرةٌ مِنك تُغنيني ! يا رسول الله عطفةٌ منك تَكفيني ! فسمعتُه صلى الله عليه وسلم ، يقول لي : أنتَ ولدي ، ومقبول عندي ، بهذه السجعة المباركة – يعني : يقول : إنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم خاطبه بهذه السجعة – .
والرفاعي - والحمد لله - قد اعترف المغربيان اللذان ألَّفا كتاب "التحذير من الاغترار" اعترفا : بأن الرفاعي مؤسس الرفاعيَّة ادَّعى أنَّه ذهب إلى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وناداه وطلب أن يصافحه ، وأخرج النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم يده الشريفة مِن القبر الشريف وصافحه ، وأنَّه رأى ذلك خمسون ألف حاجٍّ رأوه وهو يصافح الرفاعي ، واعْترفَ المغربيَّان - نقلاً عن الغماريِّ الخرافي الأكبر - بأنَّ هذا كذبٌ لأنَّ ما يمكن أن يُنقل تواتراً لا يقبل فيه نقل الآحاد ، ولم يُنقل عن غير أحدٍ مِن الخمسين ألف هؤلاء إلا الرفاعي !! نفسه ادَّعى ذلك .
إذاً هذه الحكاية لا تقبل وهيَ منقولة عن غير الرفاعي .
با عبَّاد الحضرمي – وهو ممن ذكروهم مِن الأولياء الكبار - كان يقول لأصحابه : مَن وقع منكم في ضيق : فليتوسل إلى الله تعالى بي ويدعوني ؛ فإني أحضركم أينما كنتم !
يقول المؤلف : وجرَّب ذلك بعضُهم فوجده كما قال .(43/105)
عبد الله بن علو ي الحداد – وهذا أيضاً مِن كبارهم وله كتب أذكار توزع في مكة كثيراً - يقول عنه صاحبه : له كرامات كثيرة ، مِنها : أنَّ أحدَ تلامذَتِه وهو الشيخ حسين بن محمد با فضل كان معه حين حج ، واتفقوا أنَّه لما وصل إلى المدينة مرض مرضاً أشرف فيه على الموت ، وكُشف للسيد عبد الله المذكور أنَّ حياةَ الشيخ قد انقضت ، فجمع جماعةً مِن أصحابه ، واستوهب مِن كلِّ واحدٍ منهم شيئاً مِن عُمُره – يعني :حتى يضمَّه إلى عُمُر الشيخ ! - يقول : فأول مَن وهبه السيد عمر أمين ، فقال : وهبتُه مِن عمُري ثمانية عشر يوماً ، فسئل عن ذلك ، فقال : مدة السفر مِن طيبة إلى مكة اثنا عشر يوماً ، وستة أيام للإقامة بها ، ووهبه آخرون شيئاً مِن أعمارهم ، فعاش الرجل ! وذهب إلى مكة ، وما مات حتى انتهت الأيام التي أعطوْه .
انظروا ! يتصرَّفون حتى في أعمارهم وأعمار غيرهم ، يعطونهم ، وينقصونهم .
عبد الله با علوي ينقل عنه "المشرع الروي" صفحة (409) الجزء الثاني يقول :
اشترط رجل عليه أن يضمَن له الجنَّة ، فدعا له بالجنَّة ، فحسُنت حال الرجل ، وانتقل إلى رحمة الله ، وشيَّعه السيد عبد الله المذكور ، وحضر دفنَه ، وجلس عند قبره ساعة فتغير وجهه – أي : تغير وجه با علوي – وهو واقف على القبر ثم ضحك ، واستبشر ، فسئل عن ذلك ، فقال : إن الرجل لما سأله الملكان عن ربه : مَن ربك ؟ قال : شيخي عبد الله با علوي !! فتعبتُ لذلك !! – أي : عبد الله – فسألاه أيضاً فأجاب بذلك ، فقالا : مرحباً بك ، وبشيخك عبد الله با علوي ، فلمَّا قبِله الملَكان ، وقبِلاني معه فرِحتُ .
ويعلِّقُ المؤلف ، فيقول : قال بعضهم هكذا يجب أن يكون الشيخ يحفظ مريدَه حتى بعد موته .
ومِن كراماته : أنَّه كان يخبر أصحابه بما في بيوتهم ، أو بما يضمرونه – أي : في أنفسهم - ويخبر أهلَهم بما يخفونه عنه ، وأخبر جماعةً قصدوه مِن بعيدٍ بما وقع لهم في طريقهم .(43/106)
ومنها : أنَّه ما استغاث به أحدٌ بصدقِ نيَّةٍ وحسنِ الظن إلا أتاه الغوث سريعاً .
لاحظوا ، أنَّه في الطبعة الأخيرة مِن "المشرع الروي" الذي طبعه الشاطري في "جدة" حذفوا آخر الكرامة هذه ! بعض الكرامات يحذفونها ، ويكتبون تحت : هاهنا شيءٌ حذفناه ، لكن في "جامع كرامات الأولياء" هذه الكرامات موجودة كاملة ، فأحببتُ أن أنبِّه لذلك .
ينقل عن إبراهيم الخرساني : بينما أنا في يوم صائف إذ عدلتُ إلى مفازةٍ فدخلتُها فما لبثتُ أن دخل علي ثعبان كأنه نخلة ، وجعل ينظر إليَّ ، فقلتُ : لعلِّي رزقٌ له ، فخرج ثم أقبل إليَّ وفي فمِه رغيفٌ حوراي ، ووضعه عندي ، ورجع ، فقال : رأيتُ فقيراً بالمسجد الحرام وعليه خرقتان ، فقلتُ في سرِّي : هذا وشبهه كَلٌّ على النَّاس ، فناداني الفقير ، وقال : { إنَّ الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه } ، فاستغفرتُ الله في سرِّى فناداني ، وقال : { وهو الذي يقبل التوبة عن عباده } ، ثم غاب عنِّي فلم أره .
ينقل عن إبراهيم بن علي الأعزب ، يقول : عن أبى النعالي عامر بن مسعود العراقي التاجر الجوهري قال : أتيت الشيخ مودِّعاً إلى بلاد العجم ، فقال: إنْ وقعتَ بشدَّةٍ فنادي باسمي ! قال : ففي صحراء خراسان أخذتْنا خيَّالة ، وذهبوا بأموالنا ، فذكرتُ قولَ الشيخ وكان معي رفقة معتبرون ، فاستحييْت مِن ذكر اسمه بلساني ؛ لأنَّهم لا يفهمون مثل ذلك فاختلج في صدري الاستغاثة به ، فلم يتم حتى رأيتُه على جبل يومئُ بعصاة إليهم فجاءوا بجميع أموالنا .(43/107)
من كرامات العيدروس - وهو مِن المعظَّمين مع الأسف حتى الآن عند كثيٍر مِن أهل الحجاز وخاصة الحضارمة - يقول النَّبهاني : أنَّه لما رجع مِن الحرمين دخل "زيلع" وكان الحاكم بها يومئذ محمد بن عتيق ، واتَّفق أن أم ولدٍ له - جارية – ماتت ، وكان مشغوفاً بها ، فدخل عليه الشيخ ليعزِّيَه ، ويصبِّره ، فلم يُفِد فيه شيء ، ورآه في غاية التعب ، وأكبَّ على قدَم الشيخ ليقبِّلها ، ويبكي ، فكشف الشيخ عن وجهها ، وناداها باسمها ، فأجابته ! وردَّ الله عليها روحَها ! وأكلتْ الهريسة بحضرة الشيخ .
لاحظوا : إنَّها أشياء تغني عن التعليق .
وينقلون أيضاً عن السقَّاف ، وهو ممن يعتقدون فيهم كالعيدروس ، والحداد ، يقولون - كما في "المشرع الروي" - : أنَّه مكث نحو ثلاثين سنَة ما نام فيها لا ليلاً ولا نهاراً وهو يقول : كيف ينام مَن إذا رقد على شقِّه الأيمن رأى الجنَّة ، وعلى شقِّه الأيسر رأى النار !! ؟
يقولون : وكان يزور قبر النَّبيِّ "هود" على نبيِّنا وعليه أفضل الصلاة والسلام ، ويمكث عنده شهراً لا يأكل فيه إلا نحو كفِّ دقيقٍ .
قال سفر : ثلاثين سنَة ما نام ، إنَّ هذه الكرامات فيها الشركيات ، فيها الخرافات ، فيها ما يصدقه العقل ، وهي مختلطة ، ويغني ما فيها مِن التعليق .(43/108)
عن شمس الدين الحنفي ، يقولون : كان رضي الله عنه يتكلم على خواطر القوم ، ويخاطب كلَّ واحدٍ مِن النَّاس بشرح حالِه – يعني : قبل أن يتكلم المريد يقول له : أنتَ تريد كذا ، وعندك كذا - فقال له رجل : بلغَنا عن الشيخ عبد القادر الجيلاني رضي الله عنه أنَّه عمِل يوماً ميعاداً سكوتيّاً لأصحابه – أي : حضرة سكوتية ، يكون كلهم ساكتون ، ولكن القلوب فقط تتخاطب ، وبعضهم يخبر بعضاً - يقول : ومرادُنا أن تعمل لنا ذلك ، فقال الشيخ الحنفي : نفعل ذلك غداً إن شاء الله تعالى ، فجلس على الكرسي وتكلم بغير صوت ولا حرف – هم يقولون : إن الله تعالى يتكلم بلا صوت ولا حرف وهم أشاعرة صوفية ، ومع ذلك تكلم بغير صوت ولا حرف –
المهم : فأخذ كلٌّ مِن الحاضِرين مشروبَه ، وصار كلُّ واحدٍ يقول – يعني :كلُّ واحدٍ مِنَ الحاضرين تلقى ما قال له الشيخ - ثم بعد ذلك طلب منهم الشيخ أن يتكلموا فقال واحد ألقي في قلبي كذا ، قال الشيخ : صدقت أنا قلتُ ذلك ، قال الآخر : ألقي كذا ، يقول : فكان كل مَن يقول ألقي في قلبي كذا وكذا ، يقول له الشيخ صدقت – يعني : أنا هكذا قلتُ ، هكذا وضعتُ ، وألقيتُ في قلبك - .
نصل الآن إلى رجلٍ مهمٍّ جدّاً وهو الرفاعي مؤسس الطريقة الرفاعيَّة ، والطريقة الرفاعيَّة مشهورة جدّاً بالخرافات ، مشهورة بالسحر ، والشعوذة أكثر مِن غيرها مِن الفرق ، حتى أن بعض الفرق الصوفية تعتبرهم مجرد سحرة وليسوا من الصوفيَّة في شيءٍ .
وقصتهم مع شيخ الإسلام ابن تيميه شرحها رحمه الله ، وفصلها في "الفتاوى" وهم يسمُّون بـ"البطائحيَّة" لأنَّ الرفاعيَّ كان في "البطائح" ، ووصلتْ المناظرة مِن الشدَّة إلى حد أنَّهم قالوا للأمير : نحن على الحق ، وابن تيميَّة على الباطل ، نحن نستطيع أنْ ندخل النَّار ، وهذه كرامة لنا تدل على أنَّنا على الحقِّ .(43/109)
شيخ الإسلام رحمه الله بثاقب علمه قال : نحن نغسل أجسادَنا أنا وإياكم ، نغسلها بأنواعٍ قويَّة مِن المزيلات ، ثمَّ ندخل النَّار جميعاً ، ومَن أحرقتْه فعليه لعنةُ الله ، وهو ليس بالوليِّ فعند ذلك نكصوا على أعقابهم ، وخسِئوا أمام الأمير ، وأمام الجمهور ، وأمام الذين معه ، وعرف النَّاس أنَّهم دجالون ، وأخبر شيخُ الإسلام ابن تيميَّة بدَجَلِهم ، وأنَّهم يَدهنون أجسادهم بأنواعٍ مِن الدهون ، ثم يدخلون النَّار ، أو يُدخلون أيديهم فيها ولا يحترقون ، فيقولوا للنَّاس نحن أولياء .
وأحمد الرفاعي هذا مؤسِّس هذه الطريقة ، ينقلون مِن كراماته : أنَّه كان إذا صعد الكرسي لا يقوم قائماً ، وإنما يتحدث قاعداً ! وكان يَسمع حديثَه البعيد مثل القريب حتى أنَّ أهل القرى التي حول القرية التي كان فيها كانوا يجلسون على سطوحهم يسمعون صوته ويعرفون جميع ما يتحدث به ، حتى كان الأطرش والأصم إذا حضروا يفتح الله أسماعهم لكلامه ، وكانت شيوخ الطرق يحضرونه ، ويسمعون كلامه .(43/110)
ومن كراماته : يذكرون إحياء الموتى ! يقولون : إنَّه كان جالساً وحده فنزل عليه رجلٌ مِن الهواء ، وجلس بين يديه ، فقال الشيخ : مرحباً بوفد المشرق ، فقال له : إنَّ لي عشرين يوماً ما أكلتُ ولا شربتُ ، و إني أريد أن تُطعمني شهوتي , فقال له : وما شهوتُك ؟ قال : فنظر إلى الجوِّ وإذا خمس وزات طائرات ، فقال : أريد إحدى هؤلاء مشوية ، ورغيفين مِن بُرٍّ ، وكوزاً من ماء بارد ، فقال له الشيخ : لك ذلك ! ثم نظر إلى تلك الوزات ، وقال : عجِّل بشهوة الرجل ، قال : فما تم كلامُه حتى نزلت إحداهن بين يديه مشويةً ! ثمَّ مدَّ الشيخُ يده إلى حجرين كانا إلى جانبه فوضعهما بين يديه فإذا هما رغيفان ساخنان مِن أحسن الخبز منظراً ، ثم مدَّ يدَه إلى الهواء ، وإذا بيدِه كوزٌ أحمر فيه ماء !! قال : فأكل وشرب ، ثم ذهب في الهواء مِن حيث أتى ، فقام الشيخ رضي الله عنه وأخذ تلك العظام ، ووضعها بيده اليسرى ، وأمرَّ بيده اليمنى عليها ، وقال : أيتها العظام المتفرقة ، والأوصال المتقطعة اذهبي ، وطيري بأمر الله تعالى ! بسم الله الرحمن الرحيم ، قال : فذهبت وزَّةً سويَّةً كما كانت ، وطارت في الجو حتى غابت عن منظري .
وأحد تلاميذه ويدعى علي الملِّيجي ، يقول : إنَّه كان يزور أحدَهم ، فذبح له سيِّده علي فرخاً وأكله ، وقال لسيِّده : لابدَّ أن أكافئك ، فاستضافه يوماً فذبح للسيِّد علي فرخة فتشوشت امرأتُه عليها ، فلمَّا حضرت قال لها سيِّدي علي : هش ! فقامت الفرخة تجري ، فقال – الشيخ السيِّد علي - : يكفينا المرق ولا تشوشي .
وفي "الأجوبة المرضيَّة" للشعراني ، يقول : ومما يتميز به الصوفيَّة عن الفقهاء : الكشف الصحيح عن الأمور المستقبلة وغير ذلك ، فيعرفون ما في بطون الأمهات أ ذكرٌ هو أم أنثى ، أم خنثى ، ويعرفون ما يخطر على بال النَّاس ، وما يفعلونه في قعور بيوتهم .(43/111)
ومِن كرامات با علوي : أن علي بن عبد الله با غريب مرض هو وابنه ثلاثة أشهر مرضاً شديداً ، فجاءت به أمُّه إلى السيد علوي وهي مشفقة عليه مِن الموت ، فقال لها : ما أقلقك عليه ؟ إنَّ عمره مائة سنَة لا يموت ابن ثلاثة أشهر ، ودعا له بالعافية فعوفي ، وعاش مائة سنَة .
والفقيه با علوي مِن أسرة كبيرةٍ معروفةٍ التي ألِّف عنها كتاب "المشرع الروي" .
وشعبان المجذوب ، يقول الشعراني : أخبرني سيدي علي الخوَّاص رضيَ الله عنه ، أنَّ الله تعالى يُطْلِع الشيخ شعبان على ما يقع في كل سنَةٍ مِن رؤية هلالها ، فكان إذا رأى الهلال عرف جميع ما فيه مكتوباً على العباد !!.
إسماعيل بن يوسف الأمبابي ، يقولون : مِن كراماته أنَّه كان يطَّلع على اللوح المحفوظ فيقول : يقع كذا فلا يخطئ ! ! .
ومرة أنكر عليه رجلٌ مِن علماء المالكيَّة ، وأفتى بتعزيره ، فبَلَغَه ذلك ، فقال : رأيتُ في اللوح المحفوظ أنَّه يغرق في البحر ، فكان كما كان .
وعن شعبان - المتقدم - : كان إذا اطَّلع على موتِ البهائم يَلبس صبيحة تلك الليلة جلد البهائم ! البقر ، أو الغنم ، أو البهيمة التي اطلع أنَِّها ستموت ثم تموت فيما بعد ، يعرف النَّاس أنَّ هذا علامة على أنَّها ستموت - بزعمهم - .
ومِن كرامات علي بن محمد با علوي : أنَّه دخل عليه تلميذه محمد بن حسن قبل أن يتزوج ، فقال له : تزوجْ فإنِّي أرى في صلبك ابناً أمُّه مِن غير آل با علوي !! فتزوج "مانية بنت الشيخ عبد الله بن محمد بن حكم با قشير" فولدت له ولداً – يعني : عرف أن في صلبه ابناً مِن غير العائلة فتزوج ، فكان ما أخبر الرجل كما يقولون ! .(43/112)
كما وينقلون عن عبد الله العيدروس في "المشرع الروي" أنَّه قال : غفر الله لمن يكتب كلامي في الغزالي ! وقال : مَن حصَّل كتاب "إحياء في علوم الدين" فجعله في أربعين مجلَّداً ضمنْتُ له على الله بالجنة ، فتسارع النَّاس إلى ذلك ، منهم العلامة عبد الله ابن أحمد با كثير ، فزاد في تبيينه ، وتزيينه ، وجعل لكلِّ جلدٍ كيساً ، فلمَّا رآه العيدروس قال : قد زدتَّ زيادةً حسنةً ، فيحتاج لك زيادة – يعني : لك زيادة عن الجنة ! بعد أنْ وعده بالجنة ! - فما تريد ؟ أريد أن أرى الجنَّة في هذه الديار .
هذا العيدروس ألَّف كلاماً مطبوعاً مع "الإحياء" في الجزء الأخير منه في مدح "الإحياء" والثناء عليه ، ويقول من ضمنه : كان أحد النَّاس يعترض على الإحياء ، فجاء مرَّةً ، وقال : قد تركتُ الإنكارَ والاعتراض عليه ، قالوا : لماذا ؟ قال : لأنِّي رأيتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم في المنام ، وقدمني أبو حامد الغزالي المؤلِّف إليه ، وقال له: هذا ينكر ما في "الإحياء" قال : فأخذَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم "الإحياء" وأبو بكر معه ، وقرأه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ورقةً ورقةً حتى انتهى مما في "الإحياء" ، وقال: هذا الكتاب عظيم وليس لي أي اعتراض فاضربوه ! فضَربوا هذا الرجل ! فقال : بقيتْ آثارُ الضرب على ظهري ، وتبتُ ولله الحمد ، وأنا الآن أمدح "الإحياء" .
العيدروس ينقل هذه القصة ، فانظروا ، حتى نسيَ هؤلاء الوضَّاعون الدجَّالون الكذابون أن الرسُول صلى الله عليه وسلم كان أمِّيّاً لا يقرأ ، فكيف قرأ "الإحياء" كلَّه ، ويقرأه في جلسةٍ واحدةٍ ثم يزكِّيه .(43/113)
فكما قلتُ : هم يعتمدون على المنامات ، وعلى الكشوفات ، فالخلاف بيننا وبينهم لا تقول "الإحياء" وفيه كذا وفيه كذا ، هم يقولون : لا ، فيه أحاديث صحيحة ، وفيه ضعيفة ، القضية : أنَّهم يتبنَّون "الإحياء" مِن أجل المنامات ، فما دمتَ لم تقتنع بمبدئهم هذا : فلا داعي لأَنْ تجادلهم في الفرعيات ، عليك أن تناظرهم في الأصول .
كراماتٌ مختلفة جدّاً ، لكنَّنا ننوع :
واحد اسمه علي الوحيش في كراماته : أنَّه كان إذا رأى شيخ بلد ، أو غيره من الكبار يُنزلهم مِن عَلى الحِمَارة ، ويقول له : أمْسِك رأسَها حتى أفعل فيها ، فإن أبى شيخُ البلد تسمرتْ الحمارةُ في الأرض لا تستطيع أن تخطوَ خطوةً ، وإن سمَحَ له حصل له خجل عظيم ، والنَّاس يمرون !!
وهذا موجود في "طبقات الشعراني" الجزء الثاني صفحة (135).
وهذا أيضاً علي أبو خودة ، مِن كراماته : أنَّه أراد السفر في مركب قد انوثقت ولم يبق فيها مكانٌ لأحدٍ ، فقالوا للريس : إن أخذتَ هذا غرقتْ المركبُ لأنَّه يفعل في العبيد الفاحشة – يعنون الوليَّ بزعمهم - ، فأخرجه الريِّس مِن المركب ؛ فلما أخرجوه مِن المركب قال : يا مركب تسمَّري ، فلم يقدر أحدٌ أنْ يسيرِّها بريحٍ ولا بغيره ، وطلع جميع مَن فيها ولم تسِر.(43/114)
إبراهيم المعروف بـ"الجيعانة" ، يقول النَّبهاني عن شيخه عمر السنزاني رحمة الله عليه يقول : كنت يوماً بظاهر دمشق المحروسة مع جماعة ، فرأيتُ الشيخ إبراهيم الجيعانة واقفاً، وقد أتت امرأةٌ وسألته الدعاء ، وأمرَّتْ يده على أطماره الرثة ، ثم أمرَّت على وجهه ، وهناك فقيهان روميَّان ، فقال أحدهما : يا حرمة تنجست يدُك بما مرت عليه ! فنظر إليه الشيخ مغضباً ، ثم جلس وغاط الشيخ – يعني : أخرج الغائط منه - ثم نهض فتقدم الفقيه المنكِر ، وجعل يلعق غائطه !! ورفيقه متمسك بأثوابه ، ويضمُّه ويقول له : ويلك هذا غائط الشيخ إلى أن لعق الجميع ببعض التراب ، فلمَّا نَهض جعل يعاتِبه ، فقال الفقيه : والله ما لعقتُ إلاَّ عَسَلاً .
قال سفر : انظروا التبرك بآثار هؤلاء ، وهذه الشعوذات ، وهذا السحر ، وهذه الهالة التي يحيطونها بهم ؛ فلو أنَّ أحداً أنكر على هؤلاء الخرافيين ربَّما يفعلون معه هذا الفعل ، فاحذَر أنْ تنكر هذا هو مرادهم .
إبراهيم النبتيتي ، قال المحمَّصاني : وقفتُ أصلِّي في جامع ، فدخَلَ عليَّ رجلٌ مِن الجند ومعه أمرد ، فقصد به إلى جهة المراحيض فتشوشتُ في نفسي ، فقلتُ : ضاقتْ عليه الدنيا ، وما وجد إلا الجامع – يعني : ليفعل فيه الفاحشة ؟ - ولم أنطق بذلك ، فقال لي إبراهيم المذكور : ما فضولك ! وما أدخلك ؟ يا كذا ويا كذا ، وسبَّني ، وشتمني ، وقال: لا تتعترض ما لك وذاك ؟ .
نور الدين الشوني ، يقول الشعراني : أنَّ شخصاً في قنطرة الموسكي كان مُكاريا يحمل النِّساء من بنات الخطا – يعني : بنات الزنا والعياذ بالله - وكان النَّاس يسبُّونه ، ويصفونه بالتَّعريص ! وكان مِن أولياء الله تعالى ، لا يُركب امرأةً مِن بنات الخطا ، وتعود إلى الزنا أبداً .(43/115)
حسن الخلبوصي ، يقول الشعراني : حكى الشيخ يوسف الحريتي رحمه الله قال : قصدته بالزيارة في خان بنات الخطأ – مكان الدعارة الذي تؤجر فيها البنات أنفسهنَّ !! - وجدتُّ واحدةً راكِبةً على عنقه ، ويداها ورجلاها مخضوبتان بالحناء ، وهي تصفعه في عنقه - تلطمه وتضربه على عنقه – وهو يقول لا ، برفق فإنَّ عيناي موجوعتان !!
قال سفر :يعتبرون هذا من كرامات الشيخ أن بنات الزنا في خان الزنا تفعل به هكذا .
أحمد الذي سمَّوه "حمدة" ؛ لأنَّه يقيم مع البغايا في بيت البغايا فسمَّوْه "حمدة" ، هذا من كراماته ! يقولون : له كشفٌ لا يكاد يخطىء ، وكثيراً ما يخبر بالشيء قبل وقوعه فيقع كما أخبر ، وهو مقيم عند بعض النساء البغيَّات بـ"باب الفتوح" ، وما ماتت واحدة منهنَّ إلا عن توبة ببركته ، وربما صار بعضهن مِن أصحاب المقامات !!– قال سفر : يقيم معهن ويسكن معهن حتى يعلمهن الطريق ! والحقيقة : أنَّ الفرق ضعيف بين واحدةٍ ترقص وتطبل في "حضرة" ، وواحدة تطبِّل في مكان دعارة .
علي نور الدين بن عظمة ، مِن كراماته : ما حكاه "حشيش" أنَّه مرَّ عليه يوماً فجرى في خاطره الإنكار عليه لعدم ستر عورته ، فما تمَّ له هذا الخاطر إلا وقد وجَد نفسَه بين إصبعين مِن أصابعه يقلِّبه كيف شاء ، ويقول له : انظر إلى قلوبهم ، ولا تنظر إلى فروجهم.
إبراهيم العريان ، مِن أئمتهم كان رضي الله عنه كما يقولون : إذا دخل على بلدٍ سلَّم على أهلها كباراً وصغاراً بأسمائهم كأنَّه تربَّى بينهم ، وكان يطلع على المنبر ويخطب عرياناً !! فيقول : دمياط ، باب اللوق ، بين القصرين ، جامع طولون ، الحمد لله رب العالمين ! فيحصل للنَّاس بسطٌ عظيمٌ ، يقول المنَّاوي : وكان محبوباً للناس ، معظَّماً عندهم معتقَداً وكان يصعد المنبر فيخطب عرياناً ، ويذكر الوقائع التي تقع في الأسبوع المستقبل فلا يخطئ في واحدة .(43/116)
مِن كرامات عبد الجليل الأرناؤطي كما ينقلون : أنَّه كان يجمع الدراهم مِن النَّاس وينفقها على النساء العجائز البغايا اللاتي كسدن ، وصِرن بحالةٍ لا يُقبِل عليهنَّ أحدٌ مِن الفُسَّاق ، فكان يجمعهن في حجرة ، وينفق عليهن ما يجمعه ويأوي إليهنَّ ، وينام عندهن! ويخدمنه.
عبد العزيز الدباغ ، يقول أحد مريديه : إنَّني ذهبتُ لزيارته ، وكانت إحدى زوجاتي حاملاً ، فتحدثتُ معه في شأنها ، فقال لي : إنَّها تلدُ ولداً ذكراً اسمه أحمد ، فمكثتُ ثلاثة أشهر فذهبتُ لزيارته فقال : حملتْ زوجتُك ؟ فقلت : لا أدري يا سيدي ، فقال : إنَّها حامل منذ خمسة عشر يوماً ، وهو ذَكَر إن شاء الله تعالى ! فسمِّه باسمه وهو يشبهني !! إن شاء الله تعالى ، فلمَّا رجعتُ أعلمتُ الزوجة بما قال ، وفرحتْ ، ثمَّ ولدتْ ذكراً كما قال رضي الله عنه ، وهو أشبه النَّاس به بشرة !! .
ومنها : أنَّ الزوجة الأولى حملت ثانيةً ، فسألتُ عن حملها ، قال لي : بنت ، وسمِّها باسم أمِّي .
وكثير مِن الكرامات عن الدباغ هذا في الأولاد ؛ أنَّه يعرف الذكور مِن الإناث ، ويضع لهذا ذكوراً ، ولهذا إناثاً ، والعياذ بالله .(43/117)
الشيخ علي العمْري ، مِن كراماته رضي الله عنه - كما يترضى عنه النبهاني - ما أخبرني به إبراهيم الحاج المذكور ، قال : دخلتُ في هذا النَّهار إلى الحمام مع شيخنا الشيخ علي العمْري ، ومعَنا خادمُه محمَّد الدبُّوس الطرابلسي ، وهو أخو إحدى زوجات الشيخ ، ولم يكن في الحمام غيرُنا – أي : ثلاثة في الحمام !!- قال : فرأيتُ مِن الشيخ كرامةً مِن أعجب خوارق العادات ، وأغربِها : وهي أنَّه أظهر الغضب على خادمه محمد هذا وأراد أن يؤدِّبَه ، فأخذَ الشيخ إحليل نفسه بيديه الاثنتين – أخذ عضوه التناسلي من تحت إزاره !! - فطال طولاً عجيباً !! بحيث أنَّه رفعه على كتفه ، وهو زائدٌ طويلٌ على كتفه وصار يجلد به خادمَه المذكور !! والخادم يصرخ مِن شدة الألم ، فعل ذلك مرات ثم تركه ، وعاد إحليله إلى ما كان عليه أولاً ، ففهمتُ أنَّ الخادم قد عمل عملاً يستحق التأديب ، فأدبَّه الشيخ بهذه الصورة العجيبة ، ولما حكى ذلك الحاج إبراهيم حكاه بحضور الشيخ ، وكان الشيخ واقفاً ، فقال لي الشيخ : لا تصدِّقه ، وانظر ، ثم أخذ بيدي بالجبر عني ووضعها على موضع إحليله !! فلم أحس بشيءٍ مطلقاً حتى كأنَّه ليس برجلٍ بالكلية فرحمه الله ! ورضي عنه ! ما أكثر عجائبه ، وكراماته . انتهى كلام النبهاني في صفحة (209) .
انظروا هذه الكرامات ! هل هذه مِن الكرامات يضرب المريد بعضوه ! أشياء كثيرة يمنعني الحياء عن ذكر بعضها ، ولكن رأيتُ أن لابدَّ أن نذكر البعض على الأقل حتى تُعرف حقيقة هؤلاء الذين يدَّعون الطهارة ، ويدَّعون الولاية .(43/118)
ويقول : مِن كراماته ما أخبرني به بعض الثقاة مِن أهل طرابلس وأظنُّه الحاج محمد الدبوسي قال المخبِر : كان في طرابلس رجل مِن الشباب قليل الحياء ، معجباً بإحليله ! فكان يمازح الشيخ مزاحاً بارداً فإذا رآه : يضع ذلك الشاب يده على إحليل نفسه ويقول له : هل عندك مثل هذا ؟ - الشاب يقول للشيخ : ما عندك مثل هذا العضو !؟ - فكان الشيخ يضحك مِن ذلك ، فلمَّا تكرر هذا الأمر مرة بعد أخرى مِن ذلك الشاب لقِيَه مرة، فقال له مثل ما يقول ، فضربه الشيخ عليه بيده ، وقال له : اذهب ، فذهب كأنه امرأة لم يتحرك له شيء !!.
ومِن الكرامات التي يذكرونها أيضاً ، قال السراج : رُوِّينا أنَّ امرأةً يقارب عمرها عشرين سنَةً بدمشق المحروسة أعطاها سيدي تاج الدين نصيباً صالحاً مِن الأسرار ، ثم سكنت "المرقب" ، ثم صار الفقراء يترددون إلى منزلها ، فمرَّ عليها فقيران وأقامَا مدة وأرتْهُما أحوالاً عظيمةً ، ومكاشفات عجيبة ، ثم طمَّع أحدُهما نفسَه بها لما رأى من إحسانها وودها ، وسألها ما يسأل النساء ، فأجابته ظاهراً ، واعتقد القبول لاستحكام غفلته ، فلمَّا ضاجعها ليلاً وجدها خشبةً يابسةً ! فقال لنفسه المكابِرة الأمَّارة : الثديانِ ألينُ شيءٍ في المرأة ! فلمسهُما فوجدَهما كحجرين ، فلمَس أنفَها ، فلم يجد أنفاً فعند ذلك اقشعر جلده ! .أ.هـ
هذا ما يفعله الأولياء في خلواتهم !
وحيش المجذوب ، كان إذا رأى شيخ بلدةٍ ، أو غيره يَنزل له عن حمارتِه ، ويقول: أمسك لي رأسَها حتى أفعلَ بها !! فإِذا امتنع سمَّره في الأرض ، فلا يستطع أن ينتقل خطوة واحدة ، وإن أطاع حصل له خجلٌ عظيمٌ مِن المارَّة الناظرين إليه ، مات سنة 917 .
وهذا غير الأول .(43/119)
وهناك كرامات كثيرة ، ولذلك يقول تعقيباً على ذلك : قال المناوي : وتقدم نظير هذه الكرامات ، أي : مروي عن كثيرٍ مِن أئمَّة التَّصوف مثل هذه الحكايِة أنَّه كان يطلب أن يفعل في الدابة ! فإذا وافق الرجلُ صاحبُ الدابة ، ويكون أمير البلد : فالمصيبة ، وإن لم يوافق تسمَّرت في الأرض حتى يوافق أن يفعل فيها الفاحشة علانية .
أحمد بن إدريس ، يقولون : ومن كراماته رضي الله عنه : أنَّ شخصاً اشترى له لحماً ووضعه في ثوبه وأدركته الصلاة فصلى معه رضي الله عنه ، وبعد انقضاء الصلاة ذهب بلحمه إلى بيته ، ووضعه في القدر ، وأوقد عليه النار فلم تؤثِّر فيه شيئاً ، فأكثر عليه النَّار فلم تفِد فيه شيئاً ، فأخبر بذلك الشيخ رضي الله عنه ، فقال : نحن بُشِّرنا أنَّه مَن صلَّى معنا لن تمسه النَّار ! .
فما دام اللحمة صلت معنا فإذاً النار لن تمسها ، لذلك قلنا : لا تستغربوا قولهم إنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم يُقطع مِن أرض الجنة .
وأبو بكر بن أيى القاسم ، يقول : روي عنه أنَّه قال : مَن رآني ورأيتُه دخل الجنَّة ، وواحد مِن أئمَّتهم ، قال : مَن رآني ، ورآى مَن رآني .. إلىسابع مَن رآى : دَخَل الجنَّة وضمن له الجنَّة ، وأنَّ هذا مما يحكى عن الشاذلي .
مدين الأشموني ، جاءته امرأةٌ فقالت : هذه ثلاثون ديناراً وتضمَن لي على الله الجنَّة! فقال الشيخ رضي الله عنه مباسطاً لها : ما يكفي - ثلاثون ديناراً قليلة ! - فقالت : لا أملك غيرَها ، فضمِن لها على الله الجنَّة !! فماتت ، فبلغ ورثتَها ذلك ، فجاؤوا يطلبون الثلاثين ديناراً مِن الشيخ ، وقالوا : هذا الضمان لا يصح ، فجاءتْهم في المنام ، وقالت لهم: اشكروا لي فضل الشيخ فإنِّي دخلتُ الجنة !! فرجعو عن الشيخ .
هذه في "الشعراني" جزء 2 صفحة (93) ، "جامع كرامات الأولياء" جزء 2 صفحة 249 - كما قلتُ كلها بالجزء والصفحة - .(43/120)
انظروا إلى حدِّ تلاعب الشياطين والجنِّ بهم أنَّهم جاءوا لتلك المرأة في شكل جنٍّ ، وتعامل الشيخ مع الجنِّ هو الذي يجعله يسخر أمثال هؤلاء .
موسى بن ماهين المارديني ، يقول النبهاني : وقع بـ "ماردين" حريق فاحش ، وفشا في البلد ، وعظم أمره ، فاستغاثوا بالشيخ موسى الزولي رحمة الله عليه ، فأمرهم بإلقاء عكازه في النار ، فانطفأت كأنْ لم تكن ! فقال : إنَّ الله وعدني ألاَّ يحترق بالنار ما مسَّته يدي !.أ.هـ
أي شيءٍ تمسه يدُه ، فما بالك بالمريدين الذين باركهم !؟ ما بالك بالمريدات !؟ .
محمَّد بن على بن محمَّد صاحب مرباط : ومِن كراماته : أنَّ خادمه بأفريقيا سافر سفراً طويلاً فبلغ أهله أنَّه قد مات ، فتعبوا وأتوا إلى الأستاذ ، فأطرق ساعةً ، وقال :لم يمُت بأفريقيا ، فقيل له : قد جاء الخبر بموته ، فقال : إني اطَّلعت على أهل الجنَّة !! فلم أجده فيها ! ولن يدخل فقيري النَّار !! ثم جاء الخبر بحياته ! أ.هـ
عرفتم كيف عرف الشيخ أنَّه ما مات ؟ قال : اطَّلعتُ على الجنَّة فلم أجده فيها ، والنَّار ما يدخلها لأنَّه مِن تلاميذي – فقيري - ! .
إذاً هذا الرجل لم يمت ، فما يزال حيّاً ، ثم وقع كما قال - بدعواهم ، وبزعمهم - .(43/121)
وينقلون عن أبى يزيد البسطامي - كما نقل الشعراني جزء 2 صفحة (49) - يقول : كان لا يخطر بقلبي شيءٌ إلا أخبرني به ، يقول : أنَّ شقيقنا البلخي ، وأبا تراب النخشبي قدما على أبي يزيد ، فقُدِّمَتُ السفرة ، وشابٌّ يخدم أبا يزيد ، فقال له البلخي : كُلْ معنا يا بني ، أو قال يا فتى ، فقال : إني صائم , فقال له أبو تراب - وأبو تراب النخشبي هو الذي اعترض على الإمام أحمد وقال له : النَّاس يشتغلون بالذِّكر ، وأنت تشتغل بهذا ضعيف وهذا حسن ، ونهره الإمام أحمد رضي الله عنه نهراً شديداً بسبب ذلك ، لا يريدون أن أحداً يقول : ضعيف ، وحسن ، كلُّ حديثٍ يضعونه كما يشاؤون : فهو عندهم كما يريدون حتى ينفتح لهم المجال لهدم دين الإسلام ، فيضعوا مِن الأحاديث ما شاءوا مثل ما رأينا في كتاب "الذخائر" من الموضوعات ، وأبو عبد الرحمن السلمي كان يستحل لهم وضع الحديث كما يقولون ، وكثير مِن الصوفيَّة يستحلُّون أنْ يضع الأحاديث ليرقِّق لهم القلوب - بزعمهم - .
الحاصل : أن أبا تراب النخشبي هذا قال للولد : كُلْ يا ولدى ولك أجر صوم شهر ! فأبى الولد ، فقال له شقيق : كلْ ، ولكَ أجرُ صومِ سنَةٍ ، فأبى ، فقال له أبو يزيد : دعوا مَن سقط مِن عين الله تعالى ! فأُخذ ذلك الشاب في السرقة – يعني : تحول إلى حرامي - فقطعت يدُه !!.
قال سفر : لأنَّه خالف المشايخ ، قالوا له أفطر ونضمن لك أجر سنَة ، على مَن يضمنون !؟ وعن مَن يضمنون !؟ .
والكرامات – كما يسمُّونها -كثيرةٌ ! لكن أحاول أن أختصر ، وأنقل ما يتعلق بشيء مما ذكروه عن كون النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم يعلم الغيب ! وبيده مقاليد السموات والأرض ! ونحو ذلك مما ينسبون أمثاله لأوليائهم ؛ لنعرف لماذا هم يدافعون عن إثباتها للرسول صلى الله عليه وسلم؟ .(43/122)
ينقلون عن إبراهيم المجذوب – ذكرتُ الاسم حتى تُراجع ترجمتُه في "جامع كرامات الأولياء" وفي "طبقات الشعراني" – : كان كلُّ قميصٍ لبسه يخيِّطه ويخرقه على رقبته فإن ضيَّقه جدّاً حتى يختنق : حصل للنَّاس شدة عظيمة ، وإن وسَّعه : حصل لهم الفرج والراحة .
قال سفر : ربطوا أقدار النَّاس وأرزاقهم بثوب هذا الولي بزعمهم .
عبد الرحمن با علوي يقول : كان يخبر بقوله عن نفسه أنَّه لم يبق بيني وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم حجاب ، وأنَّه لم يُعط الطريقة النقشبندية إلا بإذن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
عبد الرحمن بن أحمد الغنَّاوي يقول : كان إذا استشاره إنسان يقول : أمهلني حتى أستأذن جبريل ! ثم يُطرق رأسَه ، ثم يقول : افْعل ، أو لا تفعل .
هذا في صفحة –68- الجزء الثاني مِن "جامع كرامات الأولياء" .
يقول الشعراني - الجزء 2 صفحة 136 – : ومِنهم الشيخ عبد الله أحد أصحاب سيدي عمر النبتيتي نفعنا الله ببركاته ، كتب لي أنه رآني بحضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول للإمام عليٍّ رضي الله عنه : ألبِس عبد الوهاب طاقيتي هذه ، وقل له : يتصرف في الكون !! .أ.هـ
لماذا يثبتون أنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم يتصرف في الكون ويدافعون عنه ، حتى يثبتوا أنَّه أعطى الطاقية لفلان ، وقال : تصرف في الكون نيابةً عني .
ومنهم الشيخ سعد الدين الصناديدي ، وكان مِن أشد المنكرين عليَّ في حضور مولد سيدي أحمد البدوي ، فيقول : كيف يحضر فلان المولدَ وفيه هذه المنكرات ؟ فرأى النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم وقد ضمَّني إلى صدره وثديي يشخبان لبناً حليباً ، والنَّاس يشربون إلى أن روي أهل المولد كلهم ، وسيدي أحمد البدوي واقف تجاه وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول بأعلى صوته : مَن أراد المدد فليزر عبد الوهاب .(43/123)
ومَن جملة ما وقع لي مِن الجن ، يقول الشعراني : بأنَّهم أرسلوا إلى نحو خمسة وسبعين سؤالاً في علم التوحيد !! لأكتب لهم عليها ، وقالوا : قد عجز علماؤنا عن الجواب عنها، وقالوا : هذا التحقيق لا يكون إلا مِن علماء الإنس ، وسمَّوْني في السؤال "شيخ الإسلام" .
محمَّد أبو المواهب الشاذلي ، مِن كراماته : أنَّه كان كثير الرؤيا للنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم في المنام ، حتى كأنَّه لا يفارقه .
وكان يقول : قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم : إنَّ النَّاس يكذبوني في صحة رؤيتي لك ، فقال : وعزة الله ، وعظمته مَن لم يؤمن بها أو كذَّبك فيها لا يموت إلا يهوديّاً أو نصرانيّاً أو مجوسيّاً !!
قال سفر : لاحظتم هذا الكلام ، إنَّه لا يحتاج إلى تعليق .
أبو محمَّد عبد الله بن أسعد اليافعي ، يقول : أنَّه لما قصد المدينة لزيارة النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال : لا أدخل المدينة حتى يأذن لي رسول الله صلى الله عليه وسلم ! قال : فوقفتُ على باب المدينة أربعة عشر يوماً ، فرأيتُ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم في المنام ، فقال لي : ياعبد الله أنا في الدنيا نبيك ، وفي الآخرة شفيعك ، وفي الجنة رفيقك !! واعلم أن في اليمن عشرة أنفس مَن زارهم فقد زارني ، ومَن جفاهم فقد جفاني .
قال سفر : ولذلك يصِرُّون على حديث "مَن حجَّ ولم يزرني فقد جفاني" : صحيح ، ليستفيدوا به في مثل هذا الموضع ، فإذا قلتَ أنتَ : هذا الحديث ضعيف ما يدافعوا عنه لأنه لم يثبت عن رسول الله ، يدافعوا عنه لأنه يبطل دعواهم هم .(43/124)
فقلتُ : مَن هم يا رسول الله ؟ فقال : خمسة مِن الأحياء ، وخمسة مِن الأموات، فقلت: مَن الأحياء ؟ قال : فلان ، وفلان .. إلى أن يقول : خرجتُ في طلب القوم ، وليس الخبر كالمعاينة ، ومَن شكَّ فقد أشرك !! فأتيتُ الأحياء ، فحدثوني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهم كذلك ، قال : وأتيتُ الأموات فحدَّثوني ، فلمَّا أتيتُ الشيخ محمَّد النَّهاري قال : مرحباً برسول رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقلت له : بم نلتَ هذا ؟ قال : قال الله عز وجل { واتقوا الله ويعلمكم الله } .
عن رجلٍ مِن أوليائهم يُدعى أبو السجاد بن عمر بن يحي التغلبي ، يقول : مِن كراماته أنَّه أوتيَ الاسم الأعظم ، ومِن ذلك أنَّه أوتي خصِّيصة مِن خصائص الأنبياء عليهم السلام: أنَّه كان إذا أراد التبرز انفتحت له الأرض ، وابتلعت ما يخرج منه ، ولذلك يحاولون أن يثبتوا مثل هذه للرسول صلى الله عليه وسلم ؛ لأنَّه لو لم يثبت للرسول ما ثبت لهذا التغلبي.
علي الخلْعي يقول : هتف بي هاتف ناداني باسمي ، فقلتُ : لبَّيك داعي الله ، فقال : قل لبَّيك ربي الله – يعني : الله الذي نادى ، وليس داعيه - ما تجد مِن الألم ؟ فقلت : إلهي وسيدي : الحمَّى .
أحمدبن إدريس خصَّه الله - كما يقول النبهاني - بالمواهب المحمديَّة والعلوم اللَّدنية والاجتماعات الصورية الكمالية بالنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ، والأخذ والتلقِّي منه حتى لقَّنه النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم بنفسه أوراد الطريقة الشاذليَّة .(43/125)
لاحظوا يا إخوة : عندما نقول هذا الكلام الذي تقولونه مبتدع ، وهذه الأذكار بدعيَّة هم يردون علينا : بأن هذا ورد في حديث ضعيف ، وهذا ورد في حديث كذا ! هذا ليس هو أصل التشريع ، أصل التشريع : أنَّه رؤيا ، أن الرسول صلى الله عليه وسلم رأى ، ويقولون لاتِّباعهم هذا الرسول لقَّننا إياه ، لكن يقولون لنا نحن : هذا مرويٌّ عند أبي نعيم ، عند ابن عساكر ، عند فلان ، يأتوا بأي حديث .
يقول فلقَّنه النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم بنفسه أوراد الطريقة الشاذليَّة ، فإنَّه صلى الله عليه وسلم أعطاه أوراداً جليلةً ، وطريقةً تسليكيَّةً خاصَّةً له .
قال له : مَن انتمى إليك فلا أَكِلُه إلى ولاية غيري ، ولا إلى كفالته ، بل أنا وليُّه وكفيله ، قال أحمد : اجتمعتُ بالنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم اجتماعاً صورياً .
يعني : في اليقظة ، ومعه الخضر عليه السلام ، فأمر النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم الخضر أن يلقنَّني أذكار الطريقة الشاذليَّة فلقَّنها لي بحضرته .
أحمد بن محمد الجزيري كان عنده جماعة – أي : مِن المريدين - فقال : هل فيكم مَن إذا أراد الله أن يُحدث في المملكة حدثاً أعلمه قبل إبدائه ؟ قالوا : لا ، قال : فابكوا على قلوبٍ لم تجد في الله شيئاً مِن هذا .
عندما يدافع الرِّفاعي وأصحابه أن الله يستشير النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم : المفروض في المريدين أن يكون منهم مَن يستشيره الله ، ويعلمه ، فكيف نستغرب دفاعهم عن أن الرسول صلى الله عليه وسلم يستشار ؟ أو يقال له شيئٌ مِن ذلك .
مِن أوليائهم رجلٌ رفاعي يدعى عبد القادر أبو رباح الدجاني يقول عنه النبهاني : أمَّا من جهة كراماته فإنَّها متواترة بين الناس ، وقد شاهدتُ منها بنفسي أنَّه في حالة الذِّكر أمسك رجلاً مِن مريديه سيفاً كلَّ واحدٍ منهما مِن طرفٍ وجعل حدَّه إلى أعلى ، فوقف الشيخ على حدِّه ، وبقي كذلك مدة قصيرة مِن الزمان ، ثم نزل ومشى ولم يتأثر بشيءٍ .(43/126)
وهذا كثيرٌ عن الرفاعيَّة ، والشيشة يدخلونها مِن البطون ، ويخرجونها من الظهور.
المهم : يقول : وله رسالة حافلة لهذا الرفاعي في إثبات أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم أطلعه الله تعالى علمَ المغيَّبات الخمس وغيرها قبل انتقاله للدار الآخرة ، ومِن هذه الرسالة وأمثالها يعتمد هاشم الرفاعي وأصحابه في تثبيت أنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم يعلم الغيب كله .
يقول : أمَّا كراماته ، ونذكر منها واحدةً وهي ما أخبرني الحاج محمد أبو جيَّاب وهو مِن تلاميذه الصادقين الآخذين عنه ، قال : إنَّه كان جالساً مع الشيخ في حجرة صغيرةٍ مِن حُجر جامع "يافا " الكبير ، فاعترى الشيخَ حالٌ ، فجعل يكبُر ، ويتعاظم ، وكلَّما كبُر جسمُه يتزحزح أبو جياب مِن مكانه حتى ملأ الحجرة ، فلم يجد له مكاناً يجلس فيه ، فخرج المريد ، وجلس بالباب ، ثم رجع الشيخ إلى عادته تدريجيّاً حتى عاد كما كان فقال لأبي جياب : لأي شيءٍ أنت خارج الحجرة ؟ قال : ياسيدي ما بَقيتْ لي مكانٌ ، فضحك الشيخ قدَّس الله سرَّه ، فقال له : ياولدي هذا مقام يعتري الرجال ، وأعلاه ماكان يعتري القطب الرفاعي قدس الله سرَّه فكان ينماع كالماء .
وذكر الشعراني مِن كرامات الرِّفاعي ونقله أيضاً غيره في ترجمة الرفاعي أنَّه كان يذوب حتى يكون كأنَّه قطرة ماء ! ، فيقولون له ما هذا : فيقول : هذا مِن خوف الله عزَّ وجل .
وبقيت كرامات أخرى نستعرضها بسرعة :
حسن سكُّر الدمشقي ، جاءوا إليه بمائةٍ مِن قطع الفضَّة المغشوشة فأخذها ، وألقاها في فمه ، وابتلعها ، وفي الحال : جلس بصورة مَن يقضي حاجته ، فأخرجها مِن أسفله دنانير مِن الذهب ! فأخذوها ، وقالوا : هذا مِن كراماته .(43/127)
أحمد بن بطرس الشيخ العارف بالله تعالى - كما يقول النبهاني - المكاشَف بأسرار غيب الله ، كان إذا أردا أن يتكلم بكشف : يُطرق رأسَه إلى الأرض ، ثمَّ يرفعه وعيناه كالجمرتين يلهث كصاحب الحِمل الثقيل ، ثم يتكلم بالمغيَّبات .
لأنَّ الجنَّ هي التي تكلمه وتخاطبه ، يتلقى منها فيلهث .
ونتابع الكلام عن هذه الكرامات - بزعمهم - ودعواهم مع التنبيه إلى قضية مهمَّة وهي أنَّني تعمَّدتُ أن أحذف تعقيداتهم ، وما يذكرونه مِن الكفريَّات ، والشركيَّات المعقدة التي فيها وحدة الوجود ، التي فيها الحلول والاتحاد ، التي فيها باطنيَّة ، التي فيها زندقة ، وغير ذلك مِن التعقيدات الفلسفيَّة التي تعمَّدتُ حذفَها لأنَّ كلَّ أحدٍ لايستطيع أنْ يفهمها بخلاف هذه المدَّعاة "كرامات" ؛ فإنَّ كلَّ أحدٍ - ولله الحمد - يعرف بطلانها ، ويعرف كذبها ، ويستدل بها على كذبهم في الباقي .
وأيضاً : لأنَّ هذه يدَّعون أنَّهم إنَّما أُعطوْها لوراثتهم للَّنبيِّ صلى الله عليه وسلم ، ولأنَّ هذه كراماتهم هي كالمعجزات بالنِّسبة للنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ، بل هي تأييد للمعجزات بنظرهم ، ولذلك سنقتصر عليها دون الشركيَّات ، والكفريَّات الأخرى .
والآن نتابع الكرامات:
الشيخ أحمد - والذي قلنا إنَّه كان يلهث وعيناه كالجمرتان عندما يتكلم بالمغيبات - يقول تلميذه - كما يصف النَّبهاني - : كنتُ جالساً عنده وحدي ، فخطر لي خاطر هل للشيخ قوة التمكين ؟ فقال : نعم ، لنا قوة التمكين ! ؟
هنا قضية دعوى علم الغيب فعِلم ما في خاطر المريد ، وقضية ادِّعاء قوة التمكين ، وهي السيطرة على الكون .
الشيخ محمد المعروف بأكَّال الحيَّات ، يقول النَّبهانى : هو الشيخ الصالح المعروف بأكَّال الحيَّات ، وغيرها مِن الهوامِّ كالخنافس ، وما في معنى ذلك ، فيرى الخنافس زبيباً ، والحيَّة قثاء .
أبو الخير الكليبانى ، يقول النَّبهاني : كان لا يفارق الكلاب في أي مجلسٍ كان .(43/128)
نحن نذكر الأخوة بأنَّ الشياطين تتمثل في صورة الكلاب ، وفي غيرها مِن الحيوانات لكن بالذات الكلاب وَرَدَ في الحديث أنَّ "الكلب الأسْود شيطان" .
يقولون عن الكليباني : كان لا يفارق الكلاب في أيِّ مجلسٍ كان فيه حتى في الجامع ، والحمَّام ، وكان كلُّ مَن جاءه في حملة - والحملة : يعني : الحاجة ، يسمُّونها هم "حملة" ، ويسمُّون شيوخهم "أصحاب الحمْلات" – فكلَّما جاءهم بحملة ، يقولون له : اشترِ لهذا الكلب رطل لحم شواء لهذا الكلب وهو يقضي حاجتك !.
قال المناوى : وكان أكثر إقامته بـ"باب زويلة" ، ويتعرى عن جميع ثيابه تارة ، ويلبس أخرى ، وكان يدخل الجامع بالكلاب ، فأنكر عليه بعض القضاة ، فقال : هؤلاء لا يحكمون باطلاً ، ولايشهدون زوراً _ يعني : أنَّهم أفضل مِن القضاة ! - ، قال : فرميَ القاضي بالزور ، وأُشهر في الأسواق على ثور ، ولم يزل معزولاً ممقوتاً حتى مات !
كرامة لهذا الشيخ ! .
أبو الحسن محمد بن محمد جلال الدين البكري مِن أقطابهم ، والذي يضع لهم الصلوات ومنها صلاة الفاتح ، يقول النبهانى : له كرامات ، ويدلُّ على ذلك ما أخبرنا به الشيخ الكشكاوي ، قال : رأيتُ الشيخ أبا الحسن البكري وقد تطور فكان كعبة مكان الكعبة – تطور عندهم تغيرت هيئته وشكله ، وهذه الكلمة ترد عندهم كثيراً - ولبس سترها كما يلبس الإنسان القميص .(43/129)
وقال في "عمدة التحقيق" : أنَّ الشيخ المغربى الشاذلي قال : إنَّه حجَّ سنَةً مِن السنين إلى بيت الله الحرام ، وكان بالحج الشريف الشيخ محمد البكري قال : فذهبت إلى المدينة المنورة على ساكنها أفضل السلام ، فدخلتُ يوماً أزرو قبر النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فوجدت الشيخ محمد البكري بالحرم النَّبويِّ وقد عمل درساً ، قال في أثنائه : أُمرتُ أن أقول الآن قدمي على رقبة كلِّ وليٍّ لله تعالى مشرقاً كان أو مغرباً !- وهم يقولون إنَّ هذه الكلمة تُنقل عن عبدالقادر الجيلاني فيما مضى - فعلمتُ أنَّه أعطي "القطبانية الكبرى" ، وهذا لسان حالها ، فبادرتُ إليه مسرعاً ، وقبَّلتُ قدَمَيْه وأخذتُ عليه المبايعة ، ورأيتُ الأولياء تتساقط عليه كالذباب ، الأحياء بالأجسام ، والأموات بالأرواح ، فقلت حينئذ فوراً بيتَ ابنِ الفارض رضي الله عنه ! :
وكلُّ الجهات الستِّ عندي توجهت بما تمَّ مِن مسك وحج وعمرة
مِن أوليائهم المدعو بركات المجذوب ، كان يَرى النَّاسُ أنَّه يأكل الحشيش ، فسلَّ عليه جنديٌّ سيفاً وقال له : كيف أنت شيخ وتأكل الحشيش ؟ فقال له : هذا ما هو حشيش ! فأعطاه الجنديَّ ، فوجده حلاوة مأمونيَّة حارَّة ! .
حقيقته أمام النَّاس حشيش ، فإذا أكله ، قال : يجده حلاوة ، فالمهم أنَّه يأكل الحشيش، وهذا نربطه بما سبق أن قدمنا من هدمهم للشريعة وإتيانِهم بالشواذ والمخالفات فيتجرأ العوام على ارتكاب المحرمات باسم أنَّهم أولياء .
أبو يعقوب الهمدانى ، قال المناوي : مِن كراماته أنَّه توفي رجلٌ مِن بعض أصحابه فجزعوا عليه ، فلمَّا رأى الشيخُ شدَّةَ جزعهم جاء إلى الميت ، وقال له : قم بإذن الله ، فقام وعاش ! .(43/130)
إبن عربى ، قال الشعراني - نقلاً عن "الفتوحات المكيَّة" - باب الحج : ذكر أنَّ الكعبة كلمتْه ، وكذلك الحجر الأسْود ، وأنَّها طافت به ، ثمَّ تتلمذت له ، وطلبت منه ترقيتها إلى مقامات في طريق القوم ، فرقَّاها ، وناشدها أشعاراً وناشدتْه .
المدعو الفرغل ، ينقلون عنه : كان رضي الله عنه يقول : كثيراً كنتُ أمشي بين يدي الله تعالى تحت العرش ! وقال لي كذا ، وقلت كذا ، قال : فكذَّبه شخصٌ مِن القضاة فدعا عليه بالخرَس ، فخرِس القاضي حتى مات !! .
وهذا كثير ادَّعاؤهم أنَّ الله يخاطبهم كما مرَّ .
أحمد الفاروقي السرهندي مِن أركان الطريقة النقشبنديَّة ، يقول : كان كثيراً ما يُعرض بي فوق العرش المجيد ، ولقد عرج بى مرة ، فلمَّا ارتفعتُ فوقهم بمقدار ما بين مركز الأرض وبينه رأيتُ مقام الإمام شاه نقشبند رضي الله عنه ، وقال - قدس الله سرَّه كما يقول النبهاني - : رأيتُ الكعبة المطهرة تطوف بي ، قال : ودعاه للإفطار في شهر رمضان عشرة مِن مريديه فأجابَهم ، فلمَّا كان وقت الغروب حضر عند كلِّ واحدٍ مِن العشرة في آنٍ واحدٍ وأفطر عندهم ! .(43/131)
أبو عمرو عثمان البطائحي ، مِن الرفاعيَّة ، يقول : بينما هو ليلةً يتهجد إذ طرقته منازلةٌ من الجاب الأعظم - لعلَّها مِن الحجاب الأعظم - فتبدَّت له أنوار ، فوقف سبعَ سنين واقفاً شاخصاً إلى السماء دون غذاء ، ولا إحساس بحاله ، ثم عاد إلى بشريته ! – قال سفر : انظروا هذه الكلمة "عاد إلى بشريته" ؛ لأنَّ هذا هو عين ما يقوله النَّصارى في عيسى عليه السلام ، فالوليُّ عندهم ممكن أن ينتقل مِن حالة بشريَّة إلى حالة غير بشرية – ، قال : فقيل له : اذهب إلى قريتك ، وجامع أهلك ، فقد آن ظهور ولدٍ منك ، فطرق بابه ، وأخبر أهله بحاله ، فقالت زوجتُه : إن فعلتَ وقضيتَ تحدث الناس فيَّ – انظروا ! لماذا يتحدث النَّاس ؟ أليس زوجها ، لكن حتى يختلقوا للكرامة مبرراً في دعواهم – ، قال : فصعد السطح ونادى : يا أهل القرية أنا فلان اركبو فإنِّي سأركب ، فأبلغهم الله صوته ، وأفهمهم معناه ، فلمَّا وافقه تلك الليلة رزق ولداً صالحاً .
ينقلون عن المدعو "أبوبكر" بن علي عمر بن الأهدل : أنَّ هرة كانت تأتيه فيطعمها وكان اسمها "لؤلؤة" ، فضربَها خادمه ذات ليلة ، فماتت ، فرمى بِها ، ولم يعلم الشيخ بذلك ، فقال له : أين "لؤلؤة" ؟ فقال : ما أدري فناداها الشيخ يا لؤلؤة فجاءت اليه تجري ! .
أحمد بن عبدالرحمن المشهور بشهاب الدين مِن آل باعلوي : مِن كراماته - كما في كتابهم هذا - : أنَّه طلب من بعضِ العرب خشبةً كبيرةً ليجعلها أبواباً لداره ، فقال له ذلك البعض : وأنا أريد منك حاجة ؛ أريد أن أحفظ القرآن عن ظهرِ قلبٍ ! فقال الشيخ: افتح فمَك ! ففتح فمَه فتفل فيه ثلاث مرات فحفظ القرآن في أسرع زمان !! .
المدعو أبو بكر العبدوك ، تحدث معه شخص مِن أصحابه في أحوال الرجال وما أعطاهم الله تعالى إلى أن وصلَ إلى أن مِن الرجال مَن يطوف بالكعبة شرفها الله تعالى وهو جالس في مكانه ، ومنهم مَن تطوف به الكعبة تشريفاً وتكريماً ! .(43/132)
قال التلميذ : فخرجتُ فوجدتُ الكعبة بهيئتها وصفتها التي أعرفها وهي طائفة حول دار الشيخ وفي أرجائها رجالٌ يترنَّمون بأصواتٍ طيَّبةٍ بأشياء ، مِن جملتها : سبحانه وتعالى قد اصطفى رجالاً ، دلَّلهم دلالاً .
المرثي ، تلميذ الشاذلي ، من الشاذلية ، ينقلون مِن كراماته : أنَّه كان يقول : لي أربعون سنَةً ما حُجبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولو حُجبتُ عنه طرفةَ عينٍ ما عددتُ نفسي مِن جملة المسلمين – قال سفر : ولذلك ينقلون أيضاً عنه أنه كان يقول: "قد يطلع الله الوليَّ على غيبه إذا ارتضاه بحكم التبع للرسل عليهم الصلاة والسلام ، ومِن هنا نطقوا بالمغيبات وأصابوا الحق فيها" ، ولذلك دعواهم في هذه الكتب الثلاثة ، وفي غيرها ، وكما يدَّعي المالكى دائماً ويذكر أنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم يعلم الغيب إنما مرادهم إثبات ذلك للأولياء والمشائخ بالتبع كما يدَّعون .
أحمد بن جعد الأديمي ، يقولون : أتته امرأة ، وقالت : ادعُ لي أن يرزقني الله ولداً ذكراً، فقال : سترزقين ذلك !! فوضعت أنثى !فقالت له فيه ، فقال : والله ما قلتُ لك إلا بعد ما مسستُ ذكره بيدي هذه ، ولكن أراد الله أن يكذب هذه اللحية !!.
انظروا هذا الدجال الكذاب ، وهذا العذر الذي اعتذر به .
ومما يذكرونه أيضاً عن أبي يزيد البسطامي ، يقولون : إنَّه قال : أدخلني الحيُّ في الفلَك الأسفل فدوَّرني في الملكوت الأسفل ، فأرانيه ، ثم أدخلنى في الفلك العلوي وطوى بي السموات ! فأراني ما فيها إلى العرش ، ثم أوقفني بين يديه ، فقال : سلني أيَّ شيء رأيته حتى أهبه لك ! فقلت : ما رأيتُ شيئاً حسناً فأسألك إياه ! فقال : أنت عبدي حقّاً تعبدني لأجلي صدقاً – قال سفر : هذه تشبه العبارة التي نقلناها من كتاب المالكى – لأفعلن بك ، وأفعلن ، وذكر أشياء – يعني مِن الابتلاءات التي ذكرها المالكي - .(43/133)
قال ابن معاذ فهالني ذلك ، وقلت له : لمَ لمْ تسأله المعرفة ؟ قال : غرتُ عليه مني !! لا أحب أن يعرفه غيره .
هذا يسمونه "الغيرة" ، عندهم لا يحب أن يعرف اللهَ غيرُ الله بزعمهم ، ولذلك لم يسأله معرفته .
انظروا هذا المعراج ، ولذلك يكثرون مِن الحديث عن الاسراء والمعراج في المولد ، أيضاً هذا المعراج يدَّعونه أئمَّة الضلالة .
المدعو محمَّد بَهاء الدين نقشبند ، إمام وشيخ النقشبنديِّة ، يقولون : مِن كراماته أنَّه قال: خرجتُ يوماً أنا ومحمد الزاهد إلى الصحراء ، وكان مريداً صادقاً ، ومعنا المعاول نشتغل بها ، فمرت بنا حالة أوجبت أن نرمي المعاول ونتذاكر في المعارف ، فما زلنا كذلك حتى أنْجرَّ الكلام معنا إلى العبودية ، فقلت له : تنتهي - أي : العبودية - إلى درجة إذا قال صاحبها لأحدٍ " مُتْ " مات في الحال ، ثم وقع لي أن قلت له ساعتئذٍ : مُت ، فمات حالاً ! واستمر ميِّتاً مِن وقت الضحى إلى نصف النهار ، قال : فازددت قلقاً إلى وقتئذ أن قل له : يا محمَّد احيا – يعني : قيل له : قل يامحمد احيا - فقلت له ذلك ثلاث مرات ، فأخذتْ تسري فيه الحياة شيئاً فشيئاً ، وأنا أنظر إليه حتى عاد إلى حاله الأولى .
وينقلون عن نقشبند أيضاً أنَّه دعاه بعضهم في بخارى ، قال للمولى نجم الدين من تلاميذه : أتمتثل كلَّ ما آمرك به ؟ قال : نعم ، قال : فإن أمرتُك بالسرقة تفعلها ؟ قال: لا ، قال : ولم ؟ قال : لأنَّ حقوق الله تكفرها التوبة ، وهذه مِن حقوق العباد ، قال : إن لم تمتثل أمرنا فلا تصحبنا ! ففزع المولى نجم الدين فزعاً شديداً وضاقت عليه الأرض بما رحبت ، وأظهر التوبة والندم ، وعزم على أن لايعصي له أمراً - يعني : حتى ولو كان معصية ! – قال : فرحمه الحاضرون ، وشفعوا له عنده ، وسألوه العفو عنه ، فعفا عنه ! - انظروا إلى هذا التحكم - .(43/134)
عبدالرحمن بن محمد الملقب بالسقاف مولى الدويلة في "المشرع الروي" نقل أنه اشتهرت فضائله في الآفاق – مِن كراماته : أنَّه شوهد في مشاعر الحج سنين عديدة ، فسأله بعض خواصه هل حججت ؟ فقال : أمَّا في الظاهر فلا.
ومنها : أنَّه رؤي في أماكن متعددة في آنٍ واحد ! – انظروا كيف الشياطين تتمثل بأشكالهم وتذهب في أماكن أخرى لتضل العالمين -.
وقال تلميذه الشيخ عبد الرحيم بن علي الخطيب : ما خَطر لي في قلبي شيء إلا وفعله شيخنا !.
قال : ومِن كراماته : أنَّه أمسك الشمس عن الغروب !
قال : ومما أخبر به مِن المغيَّبات أنَّه قال لزوجته بقرية "العز" - وكانت حاملاً - ستلدين غلاماً ، ويموت في يوم كذا وأعطاهم ثوبه ، وقال : كفِّنوه بِهذا ، وسافر ، فكان الأمر كما قال !
وقالت له بعض زوجاته : إنَّ أبي قد طال به المرض فادع له بالعافية ، أو بتعجيل الوفاة، فقال لها : سيموت أبوك في يوم كذا ، فكان كما قال !! .
وماينسبونه ويدَّعونه إلى مسلم بن يسار التابعي : أنَّ مالك بن دينار رحمه الله رآه بعد موته بسنَةٍ ، فسلَّم عليه ، فلم يردَّ ، قال : ما منعك أن ترد ؟ قال : أنا ميِّت كيف أرد ؟ - انظروا معاندة العقل ، والتناقض مع العقل ، ينقلون هذا وينسبونه للتابعيين - .
أحمد بن عبد الرحمن السقاف ، ينقلون مِن كراماته : أنَّه صلَّى بجماعةٍ عند قبر "هود" على نبيِّنا وعليه أفضل الصلاة والسلام ، فاعترض عليه بعض الفقهاء في قلبه – يستطيع أن يعترض ، لكن لم يقدر أن يقول له لماذا تأتي هذا القبر – المزعوم أنَّه قبر - وتأتي بالخرافات – قال : فسُلب ذلك الفقيه جميع ما في قلبه مِن قرآنٍ وعلمٍ - والعياذ بالله - .
ينقلون عن أحمد بن إبراهيم اليماني – وهذه تدل على تعذيب النَّفس ومشابهة الهنود في ذلك – : أنَّه قال : ثبت بالتواتر أنَّه أقام عشرين سنَة لا يشرب الماء ! .(43/135)
وأغرب مِن هذا ما ينقلونه عن عيسي بن النجم ، قال الشعراني : قال له تلميذه : مكث عيسى بوضوء واحدٍ سبع عشرة سنَة - بوضوء واحدٍ هذه المدة كلها - .
مِن كرامات مدين الأشموني ، أنَّه مرَّ به إنسانٌ يقود بقرة حلابة ، فقال له : احلب لي شيئاً مِن اللبن أشربه ، فقال له : "ثور" ، فصارت في الحال ثوراً ولم تزل ثوراً إلى أن ماتت .
ومما يدل على فقدان توحيد الألوهيَّة عندهم ما نقله الشعراني ( 1 / 134 ) :
قال : كلُّ بَدَلٍ في قبضة العارف ؛ لأنَّ ملك البدل مِن السماء إلى الأرض ، وملك العارف مِن العرش إلى الثرى – فماذا بقي للرحمن جلَّ شأنه ؟ - .
المدعو حسين أبو علي كان كثير التطورات ، تدخل عليه بعضَ الأوقات تجده جندياً ، ثمَّ تدخل فتجده سبُعاً ، ثم تدخل فتجده فيلاً ، ثم تدخل فتجده غلاماً ، وهكذا .
ينقلون عن موسى بن مهيل الزولي : أنَّه كان كثير المشاهدة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكانت أغلب أفعاله بتوقيفٍ منه صلى الله عليه وسلم – يعني : يأمره حالاً – وكان رضي الله عنه إذا مسَّ الحديد بيده لانَ حتى يصير كاللُّبان ، وكان رضي الله عنه يقول للصبي الذي عمره أربعة أشهر فأقل : اقرأ سورة كذا ، فيقرأها الصبيُّ بلسانٍ فصيحٍ، ولايزال يتكلم مِن ذلك الوقت - يعنى ينطق الطفل ! - .
شيخ آخر يذكره الشعراني (2 / 88) : كان إذا تذكر مِن أصحابه الغائبين عن المائدة يأكل الشيخ عنهم لقمة أو لقمتين ؛ فتنزل في بطونهم في أي مكان كانوا ! ثم يجيئون ويعترفون بذلك .
داوود بن ماخيلا ينقل عن شيخه الشاذلي أنه قال : طوبى لمن رآني ، أو رآى من رآني، أو رأى مَن رأى مَن رآني ، ويقول إنَّ الشاذلي يُقسم فيقول : والله ما مِن وليٍّ لله كان أو هو كائن إلا وقد أظهره الله عليه وعلى اسمه ونسبه وحسبه وحظه مِن الله عز وجل .(43/136)
ويقول الشاذلي أيضاً : مادة كلِّ نبيٍّ وكل وليٍّ في الأصالة مِن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لكن مِن الأولياء مَن يشهد عيناً ، ومنهم مَن تخفي عليه عينه ومادته ؛ فيفنى فيما يرد عليه ، ولا يشتغل بطلب مادته ، بل هو مستغرق بحاله لايرى غير وقته .
ومِن كرامات مدين الأشموني أيضاً ، يقول : أن منارة زاويته الموجودة الآن ، لما فرغ مِن البناء منها مالت إليه ، وخاف أهل الحارة منها فأجمع المهندسون على هدمها ، فخرج إليهم الشيخ على قبقابه فأسند ظهره إليها وهزَّها والنَّاس ينظرون ، فجلستْ على الاستقامة إلى وقتنا هذا .
قال : ومرض سيدي مدين رضي الله عنه مرضاً أشرف فيها على الموت فوهبه الشريمي مِن عمره عشر سنين ثم مات في غيبة الشريمي رضي الله عنه ، فجاء وهو على المغتسل، فقال : كيف مُتَّ ! وعزَّة ربي لو كنتُ حاضراً ما خليتك تموت .
شيخهم - وليُّهم - المدعو محمد الحضري المدفون بناحية (ناهية) بالغربية ، يقول : وضريحه يلوح مِن البعد مِن كذا ، كذا بلداً ، كان يتكلم بالغرائب والعجائب - كما يقول الشعراني -مِن دقائق العلوم والمعارف مادام صاحياً ! فإذا قوي عليه الحال يتكلم بألفاظ لا يطيق أحدٌ سماعها في حق الأنبياء وغيرهم ! وكان يُرى في كذا كذا بلد في وقت واحد .
وأخبرنى الشيخ أبو الفضل أنه جاء يوم الجمعة فسألوه الخطبة ، فقال : بسم الله ، فطلع المنبر فحمد الله وأثنى عليه ومجَّده ، ثم قال : وأشهد أن لا إله لكم إلا إبليس عليه الصلاة والسلام !!! فقال النَّاس : كفر ، فسلَّ السيف ، ونزل فهرب النَّاس كلهم مِن الجامع ، فجلس عند المنبر إلى أذان العصر ، وما تجرأ أحد أن يدخل ، ثم جاء بعض أهل البلاد المجاورة فأخبر أهل كل بلد : أنَّه خطب عندهم وصلَّى بهم ! قال : فعددنا ذلك اليوم ثلاثين خطبة ونحن نراه جالساً عندنا في بلدنا ! .(43/137)
ومِن كراماته : أيضاً يقول : أنَّه كان يقول : الأرض بين يدي كالإناء الذي آكل منه وأجساد الخلائق كالقوارير ، أرى ما في بواطنها .
انظروا هذا الدجال الذي أبطل صلاة الجمعة في ثلاثين بلدٍ في وقت واحد ، شيطان تشبه به ، ولعب على عقول النَّاس به ، ومع ذلك يدَّعي علم الغيب ، ويدَّعي هذه الدعوى العظيمة .
يقول المرسي تلميذ الشاذلي : لو كُشف عن حقيقة وليٍّ لعُبد ؛ لأنَّ أوصافه مِن أوصافه – يعني : مِن أوصاف الله تعالى – ونعوته مِن نعوته .
المدعو أبو علي يقول : إنَّ بعض العُيَّار أرادوا أن يقتلوه فدخلوا على الشيخ فقطَّعوه بالسيف ، وأخذوه في تلِّيس ، ورموه على الكوم ، وأخذوا على قتله ألف دينار ، ثم أصبحوا فوجدوا الشيخ حسيْناً "أبو علي" جالساً ، فقال لهم : غرَّكم القمر .
مدين الأشموني أيضاً ، يقول : كان يوماً يتوضأ في البالوعة التي في "رباط الزاوية" ، فأخذ فردة القبقاب فضرب بها نحو بلاد المشرق – يعني : الحذاء رماها نحو بلاد المشرق – ثم جاء رجلٌ مِن تلك البلاد بعد سنَةٍ وفردة القبقاب معه ، وأخبر أن شخصاً مِن العيَّار – يعني : مِن قطاع الطريق - عبث بابنته في البريَّة – فقالت : يا شيخ أبي لاحظني لأنَّها لم تعرف أنَّ اسمه مدين – ما نادته باسمه ، استغاثت بشيخ أبيها - فيقول : وهي مِن ذلك الوقت إلى الآن عند ذريته رضي الله عنه . - محتفظين بالقبقاب !! - .(43/138)
المدعو محمد وفا مِن العارفين عندهم ، يقول : أخبر ولده سيدي علي رضي الله عنه أنَّه هو خاتم الأولياء ، صاحب الرتبة العليَّة ، وكان أمِّيّاً ، ومع ذلك له لسان غريب في علوم القوم ، ومؤلَّفات كثيرة ألَّفها في صباه وهو ابن سبع سنين ! – انظروا ، أمِّي ويكتب وهو في سبع سنين أو عشر - فضلاً عن كونه كهلاً ، وله رموز في منظوماته ومنثوراته مطلسمة إلى وقتنا هذا لم يفك أحدٌ فيما نعلم معناها – رموز ، وذكر كثيراً منها لا يفهمها أي أحد ، وكتب مؤلفات وهو أمِّي - .
المدعو محمَّد بن أبي جمرة ، يقول : إنَّه كان كبير الشأن معظماً للشرع لكن أنكرو عليه بدعواه رؤية النبيِّ صلى الله عليه وسلم يقظةً ، وعقدوا له مجلساً ، فأقام في بيته لا يخرج إلا لصلاة الجمعة ، ومات المنكِرون عليه على أسوأ حال وعرفوا بركته .
ومما نقله الشعراني في تعظيم أئمَّتهم قوله عن أحدهم : كان يقول : لو كان الحق سبحانه وتعالى يُرضيه خلاف السنَّة لكان التوجه في الصلاة إلى القطب الغوث أولى مِن التوجُّه إلى الكعبة .
– يعني : هي تعبُّديَّة محضة ، وإلا هذا أولى مِن الكعبة - .
هناك رجل آخر مِن كبار أئمَّتهم يتحدثون عنه كثيراً ، وهو المدعو الشمس الحنفي - سبق بعض كراماته كما يدَّعون - وعلاقته بعوارض الرسول صلى الله عليه وسلم تظهر عند ترجمته ، وأنا أنقل ما يدل على ذلك قبل ما يدل على كراماته .(43/139)
يقول الشعراني : كان الشريف النعماني رضي الله عنه أحد أصحاب سيدي محمد رضي الله عنه يقول : رأيتُ جدِّي رسول الله صلى الله عليه وسلم في خيمة عظيمة والأولياء يجيئون فيسلمون عليه واحداً بعد واحد ، وقائل يقول : هذا فلان ، هذا فلان فيجلسون إلى جانبه صلى الله عليه وسلم ، حتى جاءت كبكبة عظيمة وخلق كثير ، وقائل يقول : هذا محمَّد الحنفي ، فلما وصل إلى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أجلسه بجانبه ثم التفت صلى الله عليه وسلم إلى أبي بكر وعمر ، وقال لهما : إنِّي أحب هذا الرجل إلا عمامته الصمَّاء ، أو قال : الزعراء ، وأشار إلى سيدي محمد ، فقال له أبوبكر رضي الله عنه : أتأذن لي يارسول الله أن أعمِّمه ؟ فقال : نعم ، فأخذ أبوبكر رضي الله عنه عمامة نفسه وجعلها على رأس سيدي محمد ، وأرخى لعمامة سيدي محمد عذبة عن يساره وألبسها له ...- ويذكر قصة طويلة ، المهم : أَّن الولاية هذه والعذبة والعمَّة مِن الرسول صلى الله عليه وسلم - .
وهذا الرجل كان زميلاً للحافظ ابن حجر في الدراسة ، ثم ترك العلم وذهب إلى الخرافات - والعياذ بالله – وبمناسبة الحافظ بن حجر قبل أن نذكر كرامات الحنفي هذا : الفرغل الذي ذكرنا قبل ذلك أنَّه "كان يمشى تحت العرش ويقول : خاطبني ربي وخاطبته" - بدعواه - ؛ يقول الشعراني : أنَّه مرَّ عليه شيخ الإسلام ابن حجر رضي الله عنه بمصر يوماً فقال في سرِّه : ما اتخد الله مِن وليٍّ جاهل ، ولو اتخذه لعلَّمه – يعني : على وجه الإنكار عليه – فقال له الفرغل : قف يا قاضي ، فوقف فمسكه ، وصار يضربه ويصفعه على وجهه ، ويقول : بل اتَّخذني وعلَّمني !!.
هكذا يهينون العلماء ويرفعون مِن الخرافيين .
ودخل عليه – أي : الفرغل - بعض الرهبان فاشتهى عليه بطيخاً أصفر في غير أوانه فأتاه به ، وقال : وعزة ربي لم أجده إلا خلف "جبل قاف" – أين هو "جبل قاف" ؟ – .(43/140)
قال : خطف التمساح بنت أحدهم ، فجاء وهو يبكي إلى الشيخ ، فقال له : اذهب إلى الموضع الذي خطفها منه ونادي بأعلى صوتك : يا تمساح تعال كلِّم الفرغل ! فجاء التمساح مِن البحر وطلع كالمركب وهو ماشٍ والخلق بين يديه يميناً وشمالاً إلا أن وقف على باب الدار ، فأمر الشيخ رضي الله عنه الحداد بقلع جميع أسنانه ! وأمره بنفضها مِن بطنه ، فنفض البنتَ حيَّةً مدهوشة ، وأخذ على التمساح العهد أن لا يعود يخطف أحداً مِن بلده مادام يعيش ، ورجع التمساح ودموعُه تسيل حتى نزل البحر ! .
ثم ذكر ما كان يدَّعيه مِن أنَّه يمشي بين يدي الله تعالى تحت العرش ، ويخاطبه ، وأنَّه كان يتكلم عن أخبار سائر الأقاليم مِن أطراف الأرض ...إلى أن آخره .
هذا الفرغل والشمس الحنفي كانا زميلين لابن حجر رحمه الله .
ونذكر ما ذكروه – وهي كثيرة جدّاً - مِن كرامات الشمس الحنفي :
يقول ابن كتيلة : إنَّ محمَّداً الحنفي كان إذا صلى عن يمينه دائماً أربعة روحانية وأربعة جسمانية لا يراهم إلا هو أوخواص أصحابه ، قالوا : وقعت له ابنة صغيرة مِن موضعٍ عالٍ ، فظهر شخصٌ وتلقاها عن الأرض ، فقلنا له : مَن تكون ؟ فقال : مِن الجنِّ مِن أصحاب الشيخ ، قد أخذ علينا العهد أن لا نضرَّ أحداً مِن أولاده إلى سابع بطنٍ ، فنحن لانخالف عهداً .
قال : وكان سكان بحر النِّيل يطلعون إلى زيارته وهو في داره بـ"الروضة" ، والحاضرون ينظرون ، قالت ابنته : فلانة ، ذكرها ، وزاروه مرة وعليهم الطيالسة والثياب النظيفة ، وصلوا معه صلاة المغرب ، ثم نزلوا في البحر بثيابهم ، فقلت : يا سيِّدي أما تبتل ثيابُهم مِن الماء ، فتبسَّم رضي الله عنه ، وقال : هؤلاء مسكنهم في البحر – يعني : ما يستغرب - ، يقول الشمس الحنفي لأحد تلاميذه : أما تسأل ، فلوسألتني شيئاً لم يكن عندي أجبتك مِن اللوح المحفوظ !!.(43/141)
ويذكرون عنه أيضاً : أنَّه كان يُقرئ الجان على مذهب الإمام أبي حنيفة ، فاشتغل عنهم يوماً بأمر فأرسل صهره سيدي عمر فأقرأهم في بيت الشيخ ذلك اليوم ، وكان سيدي عمر يقول : طلبت منِّي جنيَّة أن أتزوجها ، فشاورتُ سيدي محمد رضي الله عنه ، فقال : هذا لا يجوز في مذهبِنا ، فعرض ذلك على ملكِهم حين نزلت معها تحت الأرض ، فقال الملك : لا أعترض على سيدي محمد فيما قال ، ثم قال الملك – أي : ملِك الجنّ - للوزير : صافِح صهرَ الشيخ باليد التي صافحتَ بها النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم ليصافح بها سيدي محمد رضي الله عنه .
- بينه وبين وقت مصافحة النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ثمانمائة سنَة - ثم قال للجنيَّة : ردِّيني للموضع الذي جئتِ بي منه .
ويقول أيضاً الشمس الحنفي : إذا مات الوليُّ انقطع تصرفه في الكون مِن الإمداد .
وكما ذكرنا في أحوال القطب فهو الذي يعطي الزائر مِن المدد على قدر مقام المزود .
ويقول : كنَّا نقرأ حزب سيِّدي ابن الحسن الشاذلي رضي الله عنه فكان بعض النَّاس يستطيله - يراه طويلاً - ، فألَّفتُ الحزب الذي بين أصحابى الآن ، وأخفيْتُه ولم أظهره حتى جاء الإذن مِن سيِّدي أبي الحسن الشاذلي أدباً معه بعد ما مات - مثل عبد الحليم محمود الذي ألَّف كتاباً وقال : استأذنتُ البدوي في تأليفه ! – يقول الشمس الحنفي : أنَّه قبل موته دعا الله أن يبتليَه بالقمل ، والنَّوم مع الكلاب ، والموت على قارعة الطريق ، قال : وحصل له ذلك قبل موته ، فتزايد عليه القمل حتى صار يمشي على فراشه ، ودخل له كلب فنام معه على الفراش ليلتين – إلى أن يقول : - إنَّما تمنَّى ذلك ليكون له أسوة بالأنْبياء عليهم الصلاة والسلام الذين ماتوا بالجوع والقمل .... إلى آخره .
وهذا كذب على الأنبياء ، ما دعوا الله ذلك ، وشرَّفهم الله عن أن يناموا ، ويموتوا والكلاب في أحضانهم .(43/142)
وينقل عن الحنفي أيضاً قال : دخلتْ على الشيخ يوماً امرأة أمير ، فوجدت حوله نساء خاص تكبسه فأنكرت بقلبها عليه – أي : أن المرأة أجنبية وتكبس رجله - ، فلحظها الشيخ بعينه ، وقال لها : انظري ، فنظرت فوجدت وجوههن عظاماً تلوح والصديد خارج مِن أفواهن ومناخرهن كأنهن خرجن مِن القبور - يعني : النساء اللاتي عنده - فقال لها : والله ما أنظر دائماً إلى الأجنبيات إلا على هذه الحال ، ثم قال لمنكرته : إنَّ فيك ثلاث علامات ، علامة تحت إبطك ، وعلامة في فخذك ، وعلامة في صدرك ، فقالت : صدقت والله ! إنَّ زوجي لم يعرف هذه العلامات إلى الآن ! واستغفرتْ وتابتْ ! .
ومما يقول عنه هذا أيضاً : أنَّه كان يتطور في بعض الأحيان حتى يملأ الخلوة بجميع أركانِها ثم يصغر قليلاً قليلاً حتى يعود لحالته المعهودة ! قال : ولما علم النَّاس بذلك سدَّ الطاق التي كانت تُشرف على الخلوة رضي الله عنه ! قال : وكان إذا تغيب من شخصٍ يتمزق كلَّ ممزق ولو كان مستنداً لأكبر الأولياء لا يقدر أن يدفع عنه شيئاً من البلاء . – لاحظوا كل تلميذ يستند لوليٍّ !! فالحنفي يقولون : إنَّه مِن قوَّته يقضي على عدوه مهما كان مستنداً إليه مِن الأولياء - .
يقول : كما وقع لابن التمَّار وغيره ، فإنَّه أغلظ عليه الشيخ في شفاعة ، وكان مستنداً للشيخ البسطامي ، فقال سيدي محمد : مزقنا ابن التمار كلَّ ممزق ولو كان معه ألف بسطامي ! ثم أرسل السلطان فهدم دار ابن التمار فهي خراب إلى الآن .
كل واحد يعبد وليّاً معيَّناً ويستغيث به ، ويستنجد به .
أيضاً : الحنفي يقول : إنَّه اختلى سبع سنين تحت الأرض في الخلوة حتى فُتح عليه ! قال أبو العباس : وكنتُ إذا جئتُ وهو في الخلوة أقف على بابها فإن قال لي ادخل دخلت ، وإنْ سكتَ رجعتُ ، فدخلتُ يوماً عليه بلا استئذان فوقع بصري على أسدٍ عظيمٍ فغشيَ عليَّ ، فلما أفقتُ خرجتُ واستغفرتُ الله تعالى مِن الدخول عليه بلا إذن .(43/143)
قال الشيخ – وهو أبو العباس - : ولم يخرج الشيخ – أي : الحنفي - مِن الخلوة حتى سمع هاتفاً يقول : يا محمَّد ! اخرج إنفع النَّاس ثلاث مرات ، وقال له في الثالثة : إن لم تخرج وإلا هيه ، فقال الشيخ : فما بعد هيه إلاَّ القطيعة ، قال الشيخ : فقمتُ ، وخرجتُ إلى الزاوية فرأيتُ على الفسقية جماعة يتوضأون ، فمنهم مَن على رأسه عمامة صفراء ، ومنهم زرقاء ، ومنهم مَن وجهه وجه قرد ، ومِنهم مَن وجهه وجه خنزير ، ومنهم وجه كالقمر ، فعلمتُ أنَّ الله أطلعني على عواقب أمور هؤلاء النَّاس ، فرجعتُ إلى خلفي وتوجهت إلى الله تعالى فستر عني ما كُشف لي مِن أحوال الناس .
أيضاً : الحنفي يقول : كان أهل المغرب يرسلون يأخذون مِن تراب زاويته ويجعلونه في أوراق المصاحف ، وكان أهل الروم يكتبون اسمه على أبواب دورهم يتبركون به .
وكانت رجال الطيران في الهواء تأتي إليه فيعلمهم الأدب ، ثمَّ يطيرون في الهواء والنَّاس ينظرون إليهم حتى يغيبوا ، وكان رضي الله عنه يزور سكان البحر فكان يدخل البحر بثيابه فيمكث ساعة طويلة ثم يخرج ولم تبتل ثيابه .
ومِن أخبار هذا الحنفي أنَّه كان إذا زار القرافة – أي : المقبرة - سلَّم على أصحاب القبور فيردُّون عليه السلام بصوت يسمعه مَن معه .
ودخل يوماً إلى الحمام مع فقرائه فأخذ الماء من الحوض ورشَّه على أصحابه وقال : النَّار التي يعذب الله بها العصاة مِن أمَّة محمَّد صلى الله عليه وسلم مثل هذا الماء في سخونته - فقط مثل هذا الماء !! - ، قال : ففرح الفقراء بذلك - يعنى تلاميذه - .
وآخر شيءٍ : لما جاءت وفاته ، قال في مرض موته : مَن كانت له حاجة فليأت إلى قبري ، ويطلب حاجته ، أقضِها له ، فإنَّ ما بيني وبينكم غير ذراع مِن تراب ، فكلُّ رجلٍ يحجبه عن أصحابه ذراع مِن تراب فليس برجُل .(43/144)
مِن أوليائهم المدعو الشويمى ، يقول الشعراني : جاء مرةً شخصٌ يحمِّله حمْلة - والحملة هي الحاجة – هذه الحملة هي إمراة يحبها ويريد أن يتزوجها وهي تأبى ، فقال له : ادخل هذه الخلوة واشتغل باسمها – أي : ردِّد اسمها - فدخل واشتغل باسمها ليلاً نهاراً فجاءته المرأة برِجليها إلى الخلوة ! – انظروا السحر ، وانظروا كيف يجمع المرأة بمن لا يجوز – وقالت له : افتح لي أنا فلانة ، فزهد فيها ، وقال : إن كان الأمر كذلك فاشتغالي بالله أولى ، فاشتغل باسم الله تعالى ، ففتح عليه في خامس يوم رضي الله عنه .
وكان الشويمي رضي الله عنه يدخل بيت الشيخ يحس بيده على النِّساء ، فكانوا يشكونه لسيدي مدين رضي الله عنه ، فيقول حصل لكم الخير فلا تتشوشوا !! .
الشويمي كان رفيقاً لمدين الأشموني ، وكان يدخل ويضع يده على عورات النساء ، فيغضبن ويشكون للشيخ فيقول : لا تتشوشوا ! وكثير من مثل هذه الكرامات آثرتُ أن لا أذكره حياءً منكم ، وممن يقرأ ، وإلا فهذا عندهم كثير : يضع يده على عورات النساء، وعلى عورات الرجال .
وهذا الأشمونى ، خرج رجل فقير يوماً مِن الزاوية ، فرآى جرةَ خمرٍ مع إنسان فكسرها، فبلغ الشيخ رضي الله عنه ذلك فأخرجه من الزاوية وقال : ما أخرجته لأجل إزالة المنكر ، وإنَّما هو لإطلاق بصره حتى رأى المنكر ؛ لأنَّ الفقير لا يجاوز بصرُه موضع قدميه فعاقبه على ذلك ! .
ومِن كبار أوليائهم المدعو : أبوبكر الدقدوسي ، ينقل الشعراني عن أحد تلاميذه حج معه ، وكان الشيخ يقترض طول الطريق الألف دينار فما دونها على يدي ، فإذا طلبني المال أجيءُ به إليه فأخبره ، فيقول : عُدَّ لك مِن هذه الحجارة ، - يقول : خُذ هذه الحجارة وعُدَّ على قدر الدَّيْن !! - قال : وكنتُ أعُدُّ الألف والمائة ، والأربعين ، والثلاثين فأعطيها الرجل فيجدها دنانير !(43/145)
وهذا كثير جدّاً ، ومنهم : المدعو أحمد الزاهر ، وآخر : الذي يقول إنَّه كان يطرح الحجارة فتُحوَّل إلى ذهب ، ينقلون هذا عن كثيرٍ مِن أتباعهم ، ولاشك أنَّه مِن السحر كغيره مِن كراماتهم .
يقول : وكان له صاحب يبيع الحشيش بـ"باب اللوق" ، فكان الشيخ رضي الله عنه يرسل إليه أصحابَ الحوائج فيقضيها لهم ، فقال له أحد تلاميذه عن ذلك – يعني : كيف تفعل هذا مع الحشاشين ؟ - فقال له : ياولدي ليس هذا مِن أهل المعاصي ، إنَّما هو جالس يُتَوِّب النَّاس في صورة بيع الحشيش ، فكل مَن اشترى منه لا يعود يبلعها أبداً .
ويقول عن الشيخ أبي بكر أن تلميذه لما حج معه يقول سألته أن يجمعني على القطب فقال : إجلس ها هنا ، فمضى فغاب عنِّي ساعة ثم حصل عندي ثِقَل في رأسي ، فلم أتمالك أحملها حتى لصقت لحيتي بعانتي ! فجلسا يتحدثان عندي - أي : الشيخ والقطب - بين زمزم والمقام ساعة ، وكان مِن جملة ما سمعتُ مِن القطب يقول : آنَستَنا يا عثمان ، حلَّت علينا البركة ، ثمَّ قال لشيخي : توصَّى به فإنَّه يجيءُ منه ، ثم قرأ سورة الفاتحة وسورة قريش ، ودعيا ، وانصرفا ، ثم رجع سيدي أبو بكر رضي الله عنه ، فقال : ارفع رأسَك ، قلت : لا أستطيع ، فصار يمرخني ورقبتي تلين شيئاً فشيئاً ، حتى رجعتْ لما كانت عليه ، فقال : يا عثمان هذا حالك وأنت ما رأيتَه ، فكيف لو رأيتَه ، فمن ثَمَّ كان سيدي عثمان رضي الله عنه - كما يقول الشعراني – لا يريد إلا الانصراف عن جليسه حتى يقرأ سورة الفاتحة ، ولإيلاف قريش ؛ لأنَّه سمع القطب قرأها قبل أن ينصرف .(43/146)
المدعو حسين الجاكي ، مِن كراماته ، قال : عقدوا له مجلساً عند السلطان ليمنعوه مِن الوعظ وقالوا : إنَّه يلحن ، فأمر السلطان بمنعه ، فشكا ذلك لشيخه الشيخ أيوب ، قال : فبينما السلطان في بيت الخلاء ، إذ خرج له الشيخ أيوب مِن الحائط والمكنسة على كتفه في صورة أسدٍ عظيم وفتح فمه يريد أن يبلع السلطان ، فارتعب السلطان ووقع مغشيّاً عليه ، فلمَّا أفاق قال له : أرسل للشيخ حسين يعظ وإلا أهلكتك، ثم دخل مِن الحائط .
ووليُّهم المدعو : حسن التستري ، يقولون : إنَّ الوزير سدَّ زاويته – أقفلها - ، فقال الشيخ : مَن سدَّ هذا الباب ؟ فقالوا : الوزير فلان بأمر السلطان ، فقال : نَحن نسدُّ أبواب بدنه وطيقانه ، فعمي الوزير ، وطرش ، وخرس ، وانسدَّ أنفُه عن خروج النَّفَس ، وانسدَّ قُبُلُه ودُبُرُه عن البول والغائط ، فمات الوزير في الحال ، فبلغ ذلك السلطان فنزل إليه ، وصالحه ، وفتح له الباب .
عبدالرحيم القَناوى ، يقول : نزل يوماً في حلقته شبحٌ مِن الجوِّ لا يدري الحاضرون ما هو ، فأطرق الشيخ ساعةً ثم ارتفع الشبحُ إلى السماء ، فسألوه عنه فقال : هذا ملَكٌ وقعت منه هفوةٌ فسقط علينا يستشفع بنا ، فقبِل الله شفاعتَنا فيه فارتفع .
قال : وكان الشيخ إذا شاوره إنسانٌ في شيءٍ يقول : أمهلني حتى أستأذن لك فيه جبريل عليه السلام ، فيمهله ساعة ، ثم يقول له إفعل أو لاتفعل على حسب ما يقول جبريل .(43/147)
أما المدعو علي الخواص : فينقل عنه أنَّ محمد بن هارون مِن أوليائهم - وهناك خلاف بين هذه الوليَّيْن - سلبه حالَه مرة صبيٌّ القرَّاد أحد الأولياء الآخرين ؛ وذلك أنَّه كان إذا خرج مِن صلاة الجمعة تبعه أهل المدينة يشيِّعونه إلى داره فمرَّ بصبيِّ القراد وهو جالس تحت حائطه يفلي خلقته مِن القمل ، وهو مادٌّ رجليه ، فخطر في سرِّ الشيخ أنَّ هذا قليل الأدب يمد رجليه ومثْلي مارٌّ عليه ، فسُلب لوقته ، وفرَّت النَّاس عنه ، فرجع فلم يجد الصبيَّ ، فدار عليه في البلاد إلى أن وجده في "رميلة" بمصر فلمَّا نظر القَرَّاد الكبير إليه وهو واقف وقد فرغوا ، قال له : تعالَ يا سيدي الشيخ ، مثلك يخطر في خاطره أنَّ له مقاماً أوقدْراً ؟ هذا الصبيُّ سلبكَ حالك - القراد يقول : الصبيُّ سلب الشيخ حالَه - أي : إيمانه – فله أن يمد رجله بحضرتك لكونه أقرب إلى الله منك ، فقال : التوبة ، فأرسله إلى "سنهور" المدينة إلى الحائط الذي كان يفلي ثوبه عندها ، وقال : نادِ السحليَّة التي هناك في الشق ،- يعني : الوزغ التي في الشق عند الحائط - وقل لها : إنَّ قزمان طاب خاطره علي فردي عليَّ حالي ، فخرجتْ ، ونفختْ في وجهه ، فردَّ الله عليه حاله – أي : ردَّ الله إيمانَه لما نفختْ عليه هذه السحلية ! - .
علي البقَّال ، يقولون : مِن كراماته : أنَّ ابن الفارض مرَّ به فرآه يتوضأ وضوءً غير مرتب وهو لا يعرفه ، فقال له : أنتَ في هذا السنِّ في دار الإسلام وتتوضأ وضوءً باطلاً ؟ فنظر إليه وقال :لم أتوضأ إلاَّ وضوءً مرتَّباً لكنَّك لا تبصر ، ولو أبصرت أبصرت هكذا ، وأخذ بيده فأراه الكعبة ، فأكبَّ ابنُ الفارض على أقدامه يستغفر .(43/148)
المدعو علي البحيري ، قال المنَّاوي : أخبرني صاحبُنا زين الدِّين العلاف أنَّه جلس مرة فطأطأ رأسَه ، وتمرَّغ على التراب ، وقال : أستغفر الله ، وكرَّر ذلك وبكى !! فسأله عن ذلك ، فقال : حكَّت رأسى في ساق العرش في هذا الوقت .
علي بن الهيتي ، يقولون : مِن كراماته أنَّه حضر هو وجماعة مِن المشايخ والفقهاء ، عملوا سماعاً – يعني : حضرة - فأخذ المشايخ بحظِّهم مِن الرقص والغناء ، وأنكرت الفقهاء ببواطنهم فطاف عليهم الشيخ علي بن الهيتي - ما أظهروا في الباطن فقط ! - فكان كلَّما قابل رجلاً نظر إليه فيفقد جميع معلومه حتى مِن القرآن ! وانصرفوا ومكثوا كذلك شهراً ثم أتوا واستغفروا وقبَّلوا رجليْه .
يقول الشعراني في "العهود" ، حكى له أحدُهم أنَّ والده سراج الدِّين البلقيني قال : مرَّ يوماً في "باب اللوق" ، فوجد هناك زحمة ، فقال : ما هذه الزحمة ؟ فقالوا : شخصٌ مِن أولياء الله يبيع الحشيش ! - وليٌّ يبيع الحشيش ؟! - فقال : كيف يكون شخص حشاش مِن أولياء الله ؟ إنما هو مِن الحرافيش ، ثم ولَّى ، فسُلب الشيخ جميعَ ما معه حتى الفاتحة .
قال : فمنذ ذلك اليوم ما أنكر الشيخ البلقيني على أحدٍ مِن أرباب الأحوال ! .
كما قلنا هذا هو الإرهاب الذي يضعونه .(43/149)
صدر الدين القونوي الرومي الذي ذكره شيخ الاسلام ابن تيميَّة في كتبه مراراً ، كان تلميذ ابن عربي ، قال المناوي : حكى عن نفسه أنَّه قال : اجتهد شيخي العارف ابن عريى أن يشرِّفني ويوصلني إلى المرتبة التي يتجلى فيها الحق تعالى للطالب بالتجليات البرقيِّة في حياته فما أمكنه – يعني : في حياة ابن عربي - فزرتُ قبره بعد موته ، ورجعتُ ، فبينا أنا أمشي في الفضاء عند "طرسوس" في يوم صائف ، والزهور يحركها نسيم الصبا فنظرت إليها ، وتفكرت في قدرة الله تعالى وكبريائه وجلاله ، فشرفني حبُّ الرحمن حتى كدت أغيب عن الأكوان ، فتمثَّل لي روح الشيخ ابن عربى في أحسن صورة كأنَّه نورٌ صَرف ، فقال : يامحتار ! انظر إليَّ ، وإذا الحقُّ جلَّ وعلا تجلَّى لي بالتجلِّي البرقي مِن الشرف الذاتي فغبتُ عنِّي به فيه على قدر لمح البصر ، ثمَّ أفقتُ حالاً وإذا بالشيخ الأكبر بين يدي فسلم سلام المواصلة بعد الفرقة وعانقني معانقة شديدة ، وقال : الحمد لله الذي رفع الحجاب وواصل الأحباب .
ومِن أكابر مَن أحيا طريقةَ ابنِ عربى ومذهبه في وحدة الوجود المدعو يوسف الكوراني الملقب "العجمي" ، تحدث عنه الشعراني ، فقال - ضمن ترجمته - : لما ورد عليه وارد الحق بالسفر مِن أرض العجم إلى مصر ، فلم يلتفت إليه ، فورد ثانياً – وارد في قلبه - فلم يلتفت اليه ، فورد ثالثاً ، فقال : اللهمَّ إن كان هذا واردَ صدقٍِِِِِ فاقلب لي عينَ هذا النَّهر لبناً حتى أشرب منه في قصعتي هذه ! فانقلبَ النَّهر لبناً وشرب منه ثم ذهب إلى مصر .(43/150)
وله حكاياتٌ كثيرةٌ ننقل منها فقط واحدة ، لتَعلموا حقيقة هؤلاء القوم - ومعهم ابن عربى وأمثاله – يقول : كان رضي الله عنه إذا خرج مِن الخلوة يخرج وعيناه كأنَّهما قطعة جمرٍ تتوقد ، فكلُّ مَن وقع نظره عليه انقلبت عينُه ذهباً خالصاً ، ولقد وقع بصره يوماً على كلبٍ فانقادت إليه جميع الكلاب إن وقف : وقفوا ، وإن مشى : مشوا !!فأعلموا الشيخ بذلك ، فأرسل خلف الكلب وقال : "اخسأ" ! فرجعت عليه الكلاب تعضه حتى هرب منها .
ووقع له مرةً أخرى أنَّه خرج مِن خلوة الأربعين فوقع بصره على كلبٍ فانقادت له جميع الكلاب ، وصار النَّاس يهرعون إليه في قضاء حوائجهم ، فلمَّا مرض ذلك الكلب اجتمع حوله الكلاب يبكون ! ويظهرون الحزن عليه ! فلمَّا مات أظهروا البكاء والعويل وألهم الله تعالى بعض النَّاس فدفنوه ، فكانت الكلاب تزور قبره حتى ماتوا !! .
يقول الشعراني : فهذه نظرة إلى كلبٍ فَعلت ما فعلت فكيف لو وقعت على إنسان ؟ !
وحكاياتهم عن الكلاب وأنَّها من الأولياء كثيرة ، منها : واحد اسمه "علي صاحب البقرة" ، يقول النبهانى : كان له بقرة يحرث عليها فأراد أن يحلبها في بعض الأيام ، فقالت له : يا شيخ علي إمَّا حليب ، وإما حراثة فأتى بِها فاستنْطقها عند أهل القرية ، فقالت مثل المقالة الأولى ، فقال لها : اذهبي فلا حليب ولا حراثة ، ثم سقط ميِّتاً ، وسقطت هي أيضاً ، فدفنا في محلٍ واحدٍ ، وقبرُهما مقصودان للزيارة ، وقد زرناهما في غير هذه المرة مع زمرة مِن الإخوان، وحصل لنا الحظ التام ، وذكرنا الله تعالى عندهما برهة مِن الزمان !
قال سفر : يعني الشيخ والبقرة ، فمِن أوليائهم الكلاب ومن أوليائهم الأبقار .
مِن كرامات ما يسمُّونه علي بن أحمد الجعبري : أنَّه كان إذا جاء ليدخل باباً فوجده مغلقاً دخله مِن شقوقه التي لا تسع نملة .(43/151)
قال النَّبهاني : ومرَّ يوماً بالشارع بدارٍ وإذا هو بامرأة جميلة ، فوقف زماناً ، ثم صاح ، وإذا بها نزلت ، وأتت بالشهادتين ، وكانت نصرانية ! فقال لمن معه : نظرتُ إلى هذا الجمال الباهر ، فقال : أنقذني مِن هذا الكفر الظاهر ، فتوجتُ فأسلمتْ .
يعني : النَّظر إلى المحرمات ، أو كشف العورات لا إشكال ! فهو كثير جدّاً ، ننقل واحدة منها :
المدعو علي الكردي مِن أوليائهم ، أنَّ سهروردي لما جاء إلى دمشق قال : أريد أن أزور علي الكردي ، فقال له الناس : يا مولانا لا تفعل أنت إمام الوجود ، وهذا رجل لا يصلِّي ويمشي مكشوف العورة أكثر أوقاته – لاحظوا هذا الولي لا يصلِّي ، ويمشي أكثر أوقاته وهو مكشوف العورة – قال : لا بدَّ مِن ذلك ، فساعة دخوله مِن الباب خرج الشيخ علي من دمشق ... فلم يدخلها بعد ذلك ، فقالوا للشيخ السهروردي : هو في الجبَّانة ، فركب بغلته ، ودخل يمشي إليه ، فلمَّا رآه علي الكردي قد قرب منه كشف عورته ، فقال الشيخ شهاب الدين : ما هذا شيءٌ يصدُّنا عنك وها نحن ضيفك .
- يعني : مهما كشفت لا يصدُّنا - .
وسأنقل ما ذكره صاحب "المشرع الروي في فضائل آل با علوي" عن بعض العارفين ، قال : أقمتُ بمكة المشرفة سنين ، وكنتُ أجد في المسجد الحرام أنساً جسيماً ، وتجليّاً عظيماً، فلمَّا وصلت "تريم" ودخلت مسجد آل با علوي وجدتُ ذلك الأنس والتجلِّي ، وكذا وجدته في مسجد عمر المحضار ، ومسجد محمد بن حسن جمل الليل – يعني : يشبِّه هذه المساجد بالحرم ، وأغرب مِن هذا أنَّ اللَّجنة التي يرأسها الشاطري - مِن أهل جدة - والتي طبعت الكتاب أنَّها حذفت بعد هذا كرامة مِن الكرامات ، ولم أتمكن مِن الرجوع للطبعة القديمة التي لا حذف فيها .
بقي حاجة وهي عبارة عن نكتة وهي "جهاد الصوفية " كيف يجاهدون ؟ يمكن أنَّ أحداً يقول لا يجاهد الصوفيَّة ؟ وأجيب : بلى ، هم يقولون : نحن نجاهد ، وسأقرأ لكم الآن عن أحدِ أئمَّتهم كيف جاهد .(43/152)
واحد منهم اسمه محمد بن الشيخ أبي بكر العردوك ، يقول النَّبهانى : تأهب الشيخ محمد وتحزَّم ، وأخذ عامود خيمته ، وجعل يقاتل في الهواء غائب العقل ظاهراً ! والجماعة حوله يعلمون أنه في مهمَّ وبقي إلى مثل ذلك الوقت مِن نهارِ الخميس تاليه ثم استلقى كالميت ، وكُلُّ ما عليه مع بدنه ، وعاموده : ملطخ بالدماء ، ثم أفاق بعد ساعة والجماعة حوله يبكون ، فقبَّلوا يديه ورجليه ، وسألوه عمَّا جرى ، فأخبرهم بأنَّه قاتل خفر التتار ، وقتل كبيرهم وأنَّهم في هذا اليوم ينكسرون ، وانكسر التتار بأرض "حمص" يوم الخميس .
قال سفر : الشيخ حاربَهم وهو قاعد يضارب في الهواء .
وشيخ آخر اسمه الشيخ برق ، قال النَّبهاني : روينا أنَّ قاضي دمشق مرَّ يوماً راكباً بمكان بدمشق فنظر إليه الشيخ برق قائماً ، وبين يديه جبَّة غليظة ، وهو يضربه بخشبة غليظة ، والدم يرتفع مِن ذلك المضروب في الهواء ، ويرشرش ماحوله - ماحول الشيخ - والشيخ منزعج ، يصيح مرة ، ويهيم مرة ، ويصير كالسكران إلى أن أفاق الشيخ ورجع إلى حكم الظاهر ، فسأله ما الخبر ؟ فقال : حضرتُ الساعةَ وقعة المنصورة ، وكان جميع ما يرى مِن الضرب وظهور الدماء مِن تلك الوقعة ، وقد نصرتُ المسلمين وخذلت الكافرين .
قال سفر : الشيخ هو الذي فعل ذلك وهو في دمشق يضرب الجبَّة .
بقي أن نقول : إنَّ الكرامات هذه كثيرةٌ جدّاً لا نستطيع أن نأتي بِها جميعاً ، وكلها شركيَّات كما سمعتم ، وخرافات وكلُّها ضلالات ، وكلُّها أوهام وبعضها أو كثير منها يخرجُ صاحبَه مِن الملَّة بمجرد اعتقاده ، ولن نستطيع أن نأتي بها جميعاً ، وإنَّما ذكرتُ ما ذكرتُ منها لإعطاء فكرة عامَّة ، فكرة موجزة عن هذا الدين ، عن خلوته ، وعن شيخه ، ثم عن كراماتهم ، وعن مجاهداتهم كما سبق .(43/153)
فهذه هي أركان الطريق عندهم ، هذا هو دين هؤلاء القوم ، وهذه هي عقيدتهم ، فمن خدع بكتاب "الرد المحكم المنيع" الذي ألَّفه الرفاعي ، أو مَن خُدع بكتاب "التحذير مِن الاغترار بما جاء في كتاب الحوار" الذي ألَّفه المغربيَّان عبد الحيِّ وعبد الكريم ، ومَن خدع بكتاب "إعلام النَّبيل" الذي ألَّفه راشد بن إبراهيم المريخي البحريني ، ومَن خدع بأيِّ كتابٍ مِن كُتب هؤلاء القوم أو بأيِّ دعوةٍ مِن دعواتِهم ، أو بأيِّ فكرة مِن أفكارهم : فليعلم أن هذه هي أصولهم ، لا يغرنَّه ما يذكرونه في هذه الكتب مِن أنَّ الخلاف بيننا وبينهم في "المولد" ، أو في بعض الفرعيَّات ، أو في بعض القضايا التي لا تثير إشكالاً ، وياليت أننا نتعاون على الشيوعيَّة ، نتعاون على أعداء الاسلام ، ونترك هذه البدع كما يقولون أبداً ، هذه هي عقيدتهم ، وكلٌّ منهم آخذٌ منها بحظ ، من لم يأخذها كلها فله حظ منها بقدر ما يأخذ .
أمَّا الاتباع ، وأمَّا المخدوعون فإليهم نوجِّه هذا الكلام ، وأرجو منكم أن توجهوه ، إنَّكم أيها الإخوة : اعرفوا عقيدة هؤلاء القوم وأعلموها ثم بعد ذلك فكِّروا ! هل تنفعكم هذه العقيدة عند الله ؟ هل تتفق هذه العقيدة مع كتاب الله وسنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم أم لا ؟
هذا هو موضع الخلاف أيها الإخوة الذي يجب أن نعلمه جميعاً .
أمَّا دعواهم هم أنَّهم يكرهون الخلاف ، وما يكتبه هؤلاء مِن قولهم أنَّنا لو نترك هذه الخلافات ونتفق على الأمور المجمع عليها ونتعاون عليها مثل محاربة الشيوعيَّة أو اليهوديَّة وما إلى ذلك ، فنقول لهم : مَن الذي بعث الخلاف ، ومَن الذي أثار المشكلة ؟ ومَن الذي فرَّق الجماعة إلا هذا الدين المحدث الذي جئتم به ؟ وإلا هذه الضلالات التي أتيتم بها؟(43/154)
مَن الذي فرَّق جماعة المسلمين إلا البدع والضلالات ؟ مَن الذي يقيم الموالد بين الحين والحين ويدعو إلى البدعة علانية ، ويثير أحقاد العوام والجهلة على العلماء الذين ينكرون هذا المولد ؟ من هم ؟ هذه القاعدة : نحن نطالبكم بها ، نقول لكم : إنَّنا مختلفون معكم في الموالد ، مختلفون معكم في كل البدع المخالفة للكتاب والسنَّة ، فلماذا لا تتركونَها وتأتون إلى مواضع الاتفاق التي نتفق وإياكم عليها ، فنتعاون على حربِها ، نتعاون على حرب الربا والتبرج والعلمانية التي بدأت تأكل الأخضر واليابس والهشيم في مجتمعنا ؟ الانحلال الخلقى الذي بدأ يتفشى ؟ الأفكار الغربية الوافدة التي تظهر في الصحف والكتب وفي كل مكان ؟ لماذا لا تتعاونون معنا على هذه التي أنتم متفقون عليها ، وتتركون البدع التي نختلف فيها نحن وإياكم ؟ هذه القاعدة نحن نقولها لكم ، نحن نطالبكم بها ، ولا تطالبوننا أنتم بها .
ولكنَّه الباطل ، هكذا الباطل ، الباطل دائماً يتخفى الذي لديه ذهب مغشوش لا يمكن أن يبيعه في سوق الذهب ، وإنَّما يذهب به إلى البوادي ، يذهب به إلى أطراف البلاد فيبيعه على الجهلة .
وهؤلاء القوم لو أنَّهم على الحقِّ لم يتخفون به عن العلماء ، وعن النَّاس .
الشيخ محمَّد علوي مالكي هذا الذي يقيم في مصر محتجب عن البشر جميعاً ، لماذا يحتجب إذا كان على الحق ؟ لماذا لا يقيم في القاهرة ويعلن دعوته ما دامت هي الحق ؟ والمالكي لماذا لا يُظهر دعوتَه ما دامت هي الحق ؟ والمالكي لماذا لا يُظهر دعوتَه في مكة ؟ ولماذا لا يناظر عليها العلماء حتى لو أوذي ؟ أصحاب الدعوات الحق يتحمَّلون الأذى مِن أجلها ما دامت حقّاً فلماذا ؟ .(43/155)
لكن أيها الاخوة لأنَّهم هؤلاء هم أول مَن يعلم بطلان دعوتِهم وكذبِها ، وهم أول مَن يعلم ضلالها ، لذلك لا يريدون أن يُظهروها أمام الملأ إلاَّ في الأقطار النائية مِن العالم الإسلامي ، ويُؤثرون المجد والشهرة ، ويُؤثرون أكل السُّحت على الحق كمَا فعل أحبار اليهود ، وكما يفعل علماء الرافضة وآياتهم ، فهم يؤثرون ذلك على الحق ، وإلا فهم يعلمون الأدلة ، ويعلمون أنَّ أدلتهم باطلة ، ويعلمون ما في المولد مِن الشرك ، وإن طنطنوا وجعجعوا ، وقالو ليس فيه شرك ، فاسمعوا الآن مِن كلام محمَّد علوي مالكي نفسه في المولد ما يدلكم على ذلك : " لقطة من المولد " - التسجيل غير واضح - .
سمعتم دفاعه عن البيت الشركي الواضح الجلي : "يا أكرم الخلق ما لي مَن ألوذ به" ، وقذائفه وشتائمه التي يصبُّها على مَن يقول إنَّ هذا شرك .
والأمثلة كثيرة مِن كلامه ، ومِن كلام غيره ، ولكن الوقت قد ضاق ، والشريط أوشك على الانتهاء ، فكلمة أخيرة أقولها لكم ، وقولوها لكل واحدٍ مِن أتباع هذا الرجل أو غيره ، ولكلِّ محبِّ حقٍّ مِن المخدوع بهذا الدِّين ، دين التصوف : لا تنظروا إلى أتباع هذا الرجل وأمثاله ، لا تنظروا إلى عقيدة التوحيد على أنَّها عقيدة أهل نجد ، أو أهل الشام ، اتركوا النَّعرة الجاهلية ، وعودوا إلى الكتاب والسنَّة ، وانظروا إلى مَن يتبع الدليل، ومَن يتَّبع الكتاب والسنَّة ، ومَن يتَّبع الحق ، فكونوا معه ، والحمد لله رب العالمين .(43/156)
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فقد اطلعت على ورقات كتبها الأستاذ يوسف بن السيد هاشم الرفاعي بعنوان: "نصيحة لإخواننا علماء نجد" وقدم لها الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي. ومضمون هذه النصيحة هو الحث على التخلي عن التمسك بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، والأخذ بأقوال الفرق الضالة التي حذرنا الله ـ سبحانه وتعالى ـ منها، بقوله ـ تعالى ـ: ((واعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً ولا تَفَرَّقُوا)) [آل عمران: 103]. وقوله: ((ولا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا واخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ البَيِّنَاتُ وأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ)) [آل عمران: 105]، وقوله ـ تعالى ـ: ((وأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ ولا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)) [الأنعام: 153]، وحذر منها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: "فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي تمكسوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار".
وبقوله صلى الله عليه وسلم: "إن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة".
وبقوله صلى الله عليه وسلم: "إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا: كتاب الله، وسنتي".(44/1)
إن الرفاعي والبوطي يدعوان إلى ترك ذلك كله، والأخذ بما عليه الفرق الضالة المنحرفة التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم: "وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة" وهي الفرقة المتمسكة بما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بخلاف غيرها من قبورية وصوفية وجهمية ومعتزلة وغيرها. وهذا الافتراق هو الذي سبب التناحر والشقاق بين الأمة. والبوطي والرفاعي يريدان للأمة البقاء على هذا الافتراق تحت مظلة اسم الإسلام. إنني تذكرت بتآمرهما هذا على من تمسك بالسنة وترك البدعة قول الشاعر:
ذهب الرجال المقتدى بفعالهم…والمنكرون لكل فعل منكر
وبقيت في خلف يزكِّي بعضهم…بعضاً ليدفع معور عن معور
وأقول: لماذا خصَّا علماء نجد بنصيحتهما هذه مع أن المتمسكين بالسنة ـ والحمد لله ـ كثير في أقطار الأرض وفي مختلف البلاد؟ ما ذاك إلا ليوهما الأغرار أن أهل نجد أهل شذوذ وخروج عن الحق، على قاعدة من يرى أن كل متمسك بالحق فهو متطرف، ولكن هذا لا يضير؛ فالحق واضح يراه كل بصير، وأما الأعمى فلا حيلة فيه كما قال الشاعر:
وقل للعيون الرمد للشمس أعين…سواك تراها في مغيب ومطلع
وسامح عيوناً أطفأ الله نورها…بأهوائها فلا تفيق ولا تعي(44/2)
وإذا كانا يغاران على الأمة الإسلامية ـ كما زعما ـ؛ فلماذا لا يحذرانها من البدع والانحرافات التي تفرقها وتصدها عن سبيل الله وتقضي على وحدتها وقوتها؟ وخذ مثلاً من عجرفة البوطي في مقدمته لتلك النصيحة؛ لتستدل به على مبلغ ما عنده من العلم؛ حيث قال في صفحة 19 ـ 20 يخاطب علماء نجد: (وإذاً لأقلعتم عن ترديد تلك الكلمة التي تظنونها نصيحة وهي باطل من القول، وتحسبونها أمراً هيناً وهي عند الله عظيم، ألا وهي قولكم للحجيج في كثير من المناسبات: إياكم والغلو في محبة رسول الله، ولو قلتم كما قال رسول الله: "لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم" لكان كلاماً مقبولاً، ولكان نصيحة غالية). هذا كلامه بنصه، وقد بخل فيه أن يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم عند ذكره، وعاب على أهل السنة إنكارهم للغلو الذي أنكره الله بقوله ـ تعالى ـ: ((قُلْ يَا أَهْلَ الكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ)) [ المائدة: 77]. وأنكره النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: "وإياكم والغلو؛ فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو". ثم ما الفرق بين الغلو؛ والإطراء الذي نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم في حقه؟ إن معناهما واحد إلا عند البوطي اختراعاً من عنده، حمله عليه الحقد والبغضاء لأهل الحق. والحمد لله أنه لم يجد على أهل الحق ما يعابون به سوى هذه الكلمة التي زعمها باطلاً وهي حق. هذا وإن ما ذكره الأستاذ يوسف الرفاعي في أوراقه التي سماها نصيحة ينقسم إلى قسمين:(44/3)
القسم الأول: حق ونحن وغيرنا من أهل السنة والجماعة سلفاً وخلفاً قائلون به. لكنه رآه باطلاً لعمى بصيرته. ومن أعمى الله بصيرته فإنه يرى الباطل حقاً والحق باطلاً: ((مَن يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً)) [المائدة:41]. وهذه الأمور التي انتقدها علينا، منها قولنا: "كل بدعة ضلالة" كما قال ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فماذا علينا في ذلك إذا أنكرنا البدع وأمرنا بالسنن عملاً بهذه الأحاديث؟
وإليك نماذج مما قاله: سلطتم من المرتزقة الذين تحتضنونهم من رمى بالضلال والغواية الجماعات والهيئات الإسلامية العاملة في حقل الدعوة والناشطة لإعلاء كلمة الله ـ تعالى ـ والآمرة بالمعروف والناهية عن المنكر، كالتبليغ والإخوان المسلمين والجماعات (الديوبندية) التي تمثل أبرز علماء الهند وباكستان وبنجلاديش، والجماعة البريلوية التي تمثل السواد الأعظم من عامة المسلمين في تلك البلاد، مستخدمين في ذلك الكتب والأشرطة ونحوهما. وقمتم بترجمة هذه الكتب إلى مختلف اللغات وتوزيعها بوسائلكم الكثيرة مجاناً، كما نشرتم كتاباً فيه تكفير (أهل أبو ظبي ودبي) الذين معكم في مجلس التعاون. أما هجومكم على الأزهر الشريف وعلمائه فقد تواتر عنكم كثيراً.. وقال: إذا اختلف معكم أحد في موضوع أو أمر فقهي أو عقدي أصدرتم كتاباً في ذمه وتبديعه أو تشريكه (كذا قال). وقال: سمحتم للصغار وسفهاء الأحلام بمهاجمة السلف الصالح الأعلام لهذه الأمة، ومنهم حجة الإسلام الإمام الغزالي ـ رحمه الله ـ بعد التهجم بشتى وسائل مطبوعاتكم على الإمام أبي الحسن الأشعري وأتباعه من السواد الأعظم من المسلمين منذ مئات السنين؛ حيث وصفتموهم بالضالين المضلين.
هذه نماذج من كلامه وأنا أبيّن أهم ما عابه الرفاعي علينا مع الرد عليه:(44/4)
مما عابه علينا: منع النساء من زيارة القبور، وهذا أمر قد منعه النبي صلى الله عليه وسلم بقتوله: "لعن الله زوارات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج" وإذا لعن النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً فإن هذا يدل على تحريمه والمنع منه، وأنه كبيرة من كبائر الذنوب. فماذا علينا إذا أنكرناه ومنعناه؟
2- ومما عابه علينا: منع الناس من الغلو عند الحجرة النبوية، والاقتصار على السلام على النبي صلى الله عليه وسلم السلام المشروع الذي كان يفعله الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ عند قدومهم من سفر كما كان يفعله ابن عمر ـ رضي الله عنه ـ وغيره من الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ.
3 - ومما عابه علينا: منع الغلو في الأموات عند زيارة قبورهم، والاقتصار على السلام عليهم والدعاء لهم كما هي الزيارة المشروعة وتذكر الآخرة بزيارتهم والاستعداد لها.
4 - ومما عابه علينا: منع البناء على القبور عملاً بقول النبي صلى الله عليه وسلم لعلي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ: "لا تدع قبراً مشرفاً إلا سويته". وقوله صلى الله عليه وسلم: "إن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد. فإني أنهاكم عن ذلك" وذلك لأن هذا من وسائل الشرك.
5 - ومما عابه علينا: منع كتاب دلائل الخيرات وأمثاله من الكتب الضالة من دخول المملكة لما فيه من الشركيات والغلو في حق النبي صلى الله عليه وسلم وذلك لحماية عقيدة المسلمين من الغلو الذي حذر منه صلى الله عليه وسلم، وقد علَّمنا صلى الله عليه وسلم كيف نصلي عليه فقال: "قولوا اللهم صل على محمد وعلى آل محمد" إلى آخر الحديث، فلسنا بحاجة إلى صلاة مبتدَعة في كتاب دلائل الخيرات أو غيره.(44/5)
6 - ومما عابه علينا: منع الاحتفال بمناسبة مولد النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه بدعة محدثة لم يفعله صلى الله عليه وسلم ولا أحد من أصحابه والتابعين لهم بإحسان. وقد قال صلى الله عليه وسلم: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ. وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة". ويدخل في ذلك بدعة الاحتفال بمناسبة المولد، فمن فعله فهو مبتدع.
7 - ومما عابه علينا: تركنا للقنوت في صلاة الفجر إلا في حالة النوازل؛ لأنه لا دليل عليه في غير هذه الحالة. ولا يقول به جمهور علماء الأمة، والواجب اتباع الدليل، ولما سئل عنه بعض الصحابة قال: إنه محدَث.
8 - ومما عابه علينا: منعنا من إحياء الآثار المنسوبة للنبي صلى الله عليه وسلم، أو لأحد من أصحابه، من أجل سد الطرق المفضية إلى الشرك، من التبرك بها، والاعتقاد فيها، وهذا هو عمل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فلم يكونوا يهتمون بهذه الآثار ولا يذهبون إليها، فلم يكن صلى الله عليه وسلم بعد البعثة يذهب إلى غار حراء، ولا إلى غار ثور، ولا إلى موضع غزوة بدر، ولا إلى المكان الذي ولد فيه من مكة، ولا كان يفعل ذلك أحد من أصحابه، بل إن عمر ـ رضي الله عنه ـ قطع الشجرة التي وقعت تحتها بيعة الرضوان عام الحديبية لما رأى بعض الناس يذهبون إليها خشية الغلو بها، ولما قال بعض الصحابة حديثي العهد بالإسلام للنبي صلى الله عليه وسلم: "اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط" أي شجرة يتبركون بها ويعلقون بها أسلحتهم كما يفعله المشركون، قال صلى الله عليه وسلم: "قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى: اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة"؛ فالتبرك بالآثار وإحياؤها وسيلة إلى الشرك وعبادة غير الله ـ سبحانه وتعالى ـ، كما حصل لقوم نوح لما غلوا بآثار الصالحين حتى آل بهم الأمر إلى عبادتها من دون الله ـ عز وجل ـ.(44/6)
9 - ومما عابه علينا: منع كتابة بردة البوصيري على الجدران لما فيها وفي أمثالها من الغلو والشركيات التي لا تخفى على ذي بصيرة، مثل قوله في حق النبي صلى الله عليه وسلم:
ما لي سواك من ألوذ به…عند حلول الحادث العمم
وقوله: إن الدنيا والآخرة من جود النبي صلى الله عليه وسلم، وأن ما كتبه القلم في اللوح المحفوظ هو بعض علم النبي صلى الله عليه وسلم، إلى غير ذلك من الكفريات والشركيات التي جره إليها الغلو.
10 - ومما عابه علينا: فصل النساء عن الرجال في المسجد الحرام والمسجد النبوي وفي غيرهما من المساجد، عملاً بسنة النبي صلى الله عليه وسلم حيث كانت النساء تقف في عهده في الصلاة خلف صفوف الرجال، ولأجل صيانتهن وصيانة الرجال من الفتنة والافتتان بهن.
11- زعم الرفاعي أننا نترك المذهب الحنبلي كما قال في نصيحته، وننكر اتباع المذاهب الأربعة ادعاءاً للسلفية، ونحن إنما نعمل بما قام عليه الدليل منها ومن غيرها، وهذا ما أوصى به الأئمة الأربعة وغيرهم ـ رحمهم الله ـ كما هو معلوم من كلامهم، واتباع المذهب الحنبلي أو غيره من المذاهب الأربعة لا يتعارض مع السلفية كما نسب إلينا أننا نراه مخالفاً للسلفية، بل هو السلفية عينها.
12- وكذلك من العجائب ما استنكره الرفاعي من تعليقات الشيخ ابن باز ـ رحمه الله ـ على كتاب "فتح الباري" وهذا لا نكارة فيه، فما زال العلماء يعلقون على الكتب ويبينون الحق للناس من الخطأ.
وأما القسم الثاني: مما يتضمنه ما يسمى بالنصيحة فهو كذب وبهتان في حقنا. وجوابنا عنه أن نقول كما قال ـ سبحانه وتعالى ـ: ((سٍبًحّانّكّ هّذّا بٍهًتّانِ عّظٌيمِ)) [النور: 16].. وذلك مثل قوله:(44/7)
1 - إننا نكفر المسلمين ونتهمهم بالشرك؛ لأننا نوزع الكتب التي فيها التحذير من الشرك والكفر ونرسل الدعاة. ونحن لا نكفِّر إلا من دل الكتاب والسنة على تكفيره كمن يدعو غير الله أو يستغيث به من الأموات والغائبين، وهذا مما لا خلاف فيه. وأما توزيعنا للكتب التي فيها التحذير من الشرك والكفر والبدع فهذا من النصيحة للمسلمين وتبصيرهم بدين الله، ولا يعني هذا أننا نكفر من لم يقم الدليل الصحيح على كفره، وإنما هو من باب التنبيه والتحذير والمحافظة على العقيدة. ومن أجل هذه المهمة نرسل الدعاة إلى الله لتعليم الناس أمور دينهم والدعوة إلى الإسلام والعمل بالسنة وترك البدع والمحدثات؛ ولم نرسلهم لإثارة الفتنة كما زعم الرفاعي والبوطي. وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يرسل الدعاة إلى الله كما أرسل معاذاً إلى اليمن وغيره من الدعاة إلى الأقطار، وكان صلى الله عليه وسلم يكاتب الملوك والرؤساء.
2 - ومن الكذب الصريح: قول الرفاعي: إننا نمنع التدريس في الحرمين إلا من يوافق مذهبنا، وهذا من الكذب؛ فالتدريس في الحرمين ـ ولله الحمد ـ وفي غيرهما لا يزال قائماً على خير ما يرام، ولم يمنع من التدريس إلا من كان مبتدعاً معروفاً بذلك، أو مخرفاً، فمثل هذا منعه حق وواجبٌ حمايةً لعقيدة المسلمين وتلافياً لنشر البدع والخرافات.(44/8)
3 - ولم نمنع من زيارة القبور الزيارة الشرعية ـ كما قال عنا ـ ولكننا نمنع الزيارة البدعية والشركية التي فيها دعاء الأموات والاستغاثة بهم؛ كما منعها النبي صلى الله عليه وسلم ومنع غيرها من الشرك ووسائله. وعلَّمنا صلى الله عليه وسلم ما نقول إذا زرنا القبور من السلام على الأموات والدعاء لهم. هذا ونسأل الله لنا وللأستاذ الرفاعي والدكتور البوطي وسائر المسلمين الهداية للحق وقبوله، وأن يجعلنا جميعاً من العاملين بقوله ـ تعالى ـ: ((فَإن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ والرَّسُولِ إن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ والْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وأَحْسَنُ تَأْوِيلاً)) [النساء: 59].
4- وأما قول الرفاعي: إننا غيّرنا اسم المدينة، من المدينة المنورة إلى المدينة النبوية، فالجواب عنه:
أولاً: أن اسم المدينة جاء في الكتاب والسنة مجرداً من أي وصف لا بالمنورة ولا بالنبوية.
ثانياً: أن وصفها بالنبوية أشرف وأوْلى من وصفها بالمنورة؛ لأن تنويرها إنما هو بالنبوة وسكنى النبي صلى الله عليه وسلم فيها وهجرته إليها.(44/9)
وأخيراً: يعيب الرفاعي على حكام المملكة قتل المفسدين في الأرض بترويج المخدرات، عملاً بقوله ـ تعالى ـ:((إنَّمَا جَزَاءُ الَذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ ورَسُولَهُ ويَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَن يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا ولَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ)) [المائدة: 33]. ويتأسف على قتل هؤلاء المفسدين المجرمين الذي يدمرون الشعوب ويخربون البلاد.. بل لم يقتصر الحكم بقتلهم على المملكة العربية السعودية، بل كثير من دول العالم تقتلهم دفعاً لشرهم وإفسادهم؛ فالرفاعي يشفق على هؤلاء المجرمين المفسدين ولا يشفق على الشعوب التي يفتك بها هؤلاء فساداً ودماراً، ويستدل الرفاعي لقوله هذا بحديث: "أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم إلا في الحدود"، فيعتبر المفسدين في الأرض من ذوي الهيئات، وأن ترويج المخدرات من العثرات اليسيرة التي يقال أصحابها، ونسي أو تناسى أنهم ينطبق عليهم حد الحرابة والإفساد في الأرض المذكور في الآية الكريمة، وأن الحديث المذكور خاص بالتعزير بدليل قوله صلى الله عليه وسلم: "إلا في الحدود". على أن التعزير قد يصل إلى القتل إذا لم يرتدع المخالف عن مخالفته إلا به؛ لأنه أصبح من المفسدين في الأرض كما ذكر ذلك المحققون من أهل العلم كشيخ الإسلام ابن تيمية وغيره ـ مع العلم بأن هذا الحديث الذي استدل به وإن جاء من عدة طرق فإنها كلها لا تخلو من مقال، كما قال ذلك الصنعاني ـ رحمه الله ـ في كتاب: (سبل السلام شرح بلوغ المرام).
وليت الرفاعي صرف عطفه وشفقته إلى ضحايا هؤلاء المفسدين الذين فسدت عقولهم وأبدانهم حتى أفضوا إلى الموت أو أصبحوا عالة على مجتمعاتهم بسبب هؤلاء المفسدين المروجين للمخدرات في المجتمعات البشرية.(44/10)
وختاماً: هذا ما أحببنا التنبيه عليه مما احتوت عليه نصيحة الأستاذ الرفاعي وهو تنبيه على سبيل الاختصار ـ وندعو الأستاذ الرفاعي ـ هداه الله ـ إلى الرجوع إلى الحق ـ فالرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل ـ والله يتوب على من تاب، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.(44/11)
الرد
على شبهات
من أجاز الاحتفال بالمولد
جمع/ أبي معاذ السلفي
المقدمة
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسوله الأمين وعلى آله وصحبه أجمعين،
أما بعد:
فإن من البدع المنتشرة بين أوساط كثير من الناس؛ ما يمسى بالاحتفال بالمولد النبوي،
وقد كتب كثير من أهل العلم قديما وحديثاً عدة كتب ورسائل وفتاوى في التحذير من هذه البدعة؛ فجزاهم الله خير الجزاء على ما بينوا ونصحوا.
ولقد وفقني الله عزوجل- وله الحمد والمنة - في جمع بعض الفوائد التي وقفت عليها والمتعلقة بالرد على الشبهات التي يثيرها من يقول بجواز الاحتفال بالمولد.
فأحببت نشر ما قمت بجمعه، لعل يكون في ذلك فائدة لي ولمن يطلع عليه.
سائلاً الله أن يجعل أعمالي خالصة لوجهه الكريم، موافقه لسنة نبينا محمد- صلى الله عليه وسلم -.
وأرجو ممن كان عنده ملاحظة أو فائدة ألا يبخل بها على أخيه وجزاكم الله خيراً.
وصلى الله على نبينا وقدوتنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
* * *
الفصل الأول:
بيان أن الاحتفال بالمولد النبوي لم يقع من السلف الصالح وأنه من البدع
اتفق أهل العلم ممن قال بجواز الاحتفال بالمولد ومن قال بعدم جواز الاحتفال به على أن السلف الصالح رضي الله عنهم لم يحتفلوا به ومن تصريحاتهم بذلك ما يلي:
1- قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - عن الاحتفال بالمولدالنبوي في "اقتضاء الصراط المستقيم"(2/619):(لم يفعله السلف، مع قيام المقتضى له وعدم المانع منه، ولو كان هذا خيراً محضا، أو راجحاً لكان السلف رضي الله عنهم أحق به منا، فإنهم كانوا أشد محبة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتعظيماً له منا، وهم على الخير أحرص، وإنما كمال محبته وتعظيمه في متابعته وطاعته واتباع أمره، وإحياء سنّته باطناً وظاهراً، ونشر ما بعث به، والجهاد على ذلك بالقلب واليد واللسان، فإن هذه طريقة السابقين الأولين، من المهاجرين والأنصار،والذين اتبعوهم بإحسان) اهـ.(45/1)
2- قال الإمام تاج الدين عمر بن سالم اللخمي المشهور بالفاكهاني- رحمه الله - في "المورد في عمل المولد"(ص20-21):(لا أعلم لهذا المولد أصلا في كتاب ولا سنة، ولا ينقل عمله عن أحد من علماء الأمة، الذين هم القدوة في الدين، المتمسكون بآثار المتقدمين، بل هو بِدعة).
3- قال العلامة ابن الحاج - رحمه الله - في "المدخل" (2/312) نقلاً من "القول الفصل في حكم الاحتفال بمولد خير الرسل" للعلامة الأنصاري رحمه الله (ص57):(فإن خلا - أي عمل المولد- منه - أي من السماع - وعمل طعاماً فقط، ونوى به المولد ودعا إليه الاخوان،
وسلم من كل ما تقدم ذكره - أي من المفاسد- فهو بدعة بنفس نيته فقط، إذ إن ذلك زيادة
في الدين ليس من عمل السلف الماضين، وإتباع السلف أولى بل أوجب من أن يزيد نية مخالفة لما كانوا عليه، لأنهم أشد الناس اتباعاً لسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وتعظيماً له ولسنته - صلى الله عليه وسلم -، ولهم قدم السبق في المبادرة إلى ذلك، ولم ينقل عن أحد منهم أنه نوى المولد، ونحن لهم تبع، فيسعنا ما وسعهم... الخ).
4- قال العلامة عبدالعزيز بن باز - رحمه الله - في "حكم الاحتفال بالمولد النبوي وغيره" ضمن "أربع رسائل في التحذير من البدع" (ص3):(الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يفعله - أي المولد النبوي -، ولا خلفاؤه الراشدون، ولا غيرهم من الصحابة رضوان الله عليهم، ولا التابعون لهم بإحسان في القرون المفضلة، وهم أعلم الناس بالسنة، وأكمل حباً لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومتابعة لشرعه ممن بعدهم... الخ).
5- وقال الشيخ محمد بن عبد السلام الشقيري في "السنن والمبتدعات المتعلقة بالأذكار والصلوات" (ص138-139):(فاتخاذ مولده موسماً والاحتفال به بدعة منكرة ضلالة لم يرد بها شرع ولا عقل، ولو كان في هذا خير كيف يغفل عنه أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وسائر الصحابة والتابعون وتابعوهم والأئمة وأتباعهم؟).(45/2)
وفيما يلي أنقل أقوالاً لبعض من يرى مشروعية الاحتفال بالمولد يتضح من خلالها كذلك أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يحتفل بالمولد وأنه لم يكن من فعل السلف:
1- قال السيوطي - رحمه الله - في "حسن المقصد"ضمن "الحاوي للفتاوى" (1/189):
(أول من أحدث فعل ذلك - أي فعل المولد- صاحب إربل الملك المظفر).
2- قال أبو شامة - رحمه الله - في "الباعث على إنكار البدع والحوادث" (ص95):
(ومن أحسن! ما ابتدع في زماننا من هذا القبيل: ما كان يفعل بمدينة إربل جبرها الله تعالى كل عام في اليوم الموافق ليوم مولد النبي - صلى الله عليه وسلم - من الصدقات والمعروف، وإظهار الزينة والسرور... الخ).
3- قال الإمام السخاوي - رحمه الله - نقلاً من "المورد الروي في المولد النبوي" لملا علي قارى (ص12):(أصل عمل المولد الشريف لم ينقل عن أحد من السلف الصالح في القرون الثلاثة الفاضلة، وإنما حدث بعدها بالمقاصد الحسنة).
4- قال محمد بن علوي المالكي في "حول الاحتفال بالمولد" (ص19):(فالاحتفال بالمولد وإن لم يكن في عهده - صلى الله عليه وسلم -، فهو بدعة، ولكنها حسنة لاندراجها تحت الأدلة الشرعية،والقواعد الكلية).
5- قال يوسف الرفاعي في "الرد المحكم المنيع" (ص153):(إن اجتماع الناس على سماع قصة المولد النبوي الشريف، أمر استحدث بعد عصر النبوة، بل ما ظهر إلا في أوائل القرن السادس الهجري)!.
(وبهذه النقول يتضح أن السلف الصالح لم يحتفلوا بمولد النبي - صلى الله عليه وسلم - بل تركوه، وما تركوه
لا يمكن أن يكون تركهم إياه إلا لكونه لا خير فيه كما أوضحه ابن الحاج في "المدخل"
( 4/278)؛ حيث قال بصدد استنكاره لصلاة الرغائب ما نصه:(ما حدث بعد السلف رضي الله عنهم لا يخلو إما أن يكونوا علموه وعلموا أنه موافق للشريعة ولم يعملوا به؟!
ومعاذ الله أن يكون ذلك، إذ إنه يلزم منه تنقيصهم وتفضيل من بعدهم عليهم، ومعلوم أنهم(45/3)
أكمل الناس في كل شيء وأشدهم اتباعاً.
وإما أن يكونوا علموه وتركوا العمل به؟ ولم يتركوه إلا لموجب أوجب تركه، فكيف يمكن فعله؟! هذا مما لا يتعلل.
وإما أن يكونوا لم يعلموه فيكون من ادعى علمه بعدهم أعلم منهم وافضل واعرف بوجوه البر وأحرص عليها!
ولو كان ذلك خيراً لعلموه ولظهر لهم ومعلوم أنهم أعقل الناس وأعلمهم…الخ).
وفيه دليل من ناحية أخرى على أن ما تركه السلف الصالح لابد أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - قد تركه وتركه - صلى الله عليه وسلم - للشيء مع قيام المقتضي له وعدم المانع منه سنة كما ان فعله سنة فمن استحب فعل ما تركه النبي - صلى الله عليه وسلم - كان كمن استحب ترك ما فعله ولا فرق)(1).
ولا يقول قائل ما هو الدليل على أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - وصحابته رضي الله عنهم لم يحتفلوا بالمولد لأنه لو وقع لنقل إلينا، ولذكره من يحتفل بالمولد النبوي لأن الحجة تكون حينئذ أقوى.
ومما يدل كذلك على أن السلف الصالح لم يحتفلوا بيوم المولد النبوي اختلافهم في تحديد اليوم الذي ولد فيه النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد بسط الكلام على ذلك الخلاف الإمام ابن كثير في "البداية والنهاية" ( 2/260 - 261).
* * *
الفصل الثاني:
إثبات أن الفاطميين أول من احتفل بالموالد
وهذا الفصل مختصر من "القول الفصل في حكم الاحتفال بمولد خير الرسل" للعلامة إسماعيل الأنصاري رحمه الله (ص64-72):
1 - قال تقي الدين المقريزي - رحمه الله - في "المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار"
__________
(1) :"القول الفصل" (ص58-59) للعلامة اسماعيل الأنصاري رحمه الله.(45/4)
(1/490)؛ تحت عنوان "ذكر الأيام التي كان الخلفاء الفاطميون يتخذونها أعياداً ومواسم تتسع بها أحوال الرعية وتكثر نعمهم":(كان للخلفاء الفاطميين في طول السنة أعياد ومواسم، وهي موسم رأس السنة وموسم أول العام، ويوم عاشوراء، ومولد النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومولد علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ومولد الحسن ومولد الحسين عليهما السلام، ومولد فاطمة الزهراء عليها السلام، ومولد الخليفة الحاضر، وليلة أول رجب، وليلة نصفه، وليلة أول شعبان، وليلة نصفه...) اهـ.
2 - وقال مفتي الديار المصرية سابقاً الشيخ محمد بن بخيت المطيعي في "أحسن الكلام فيما يتعلق بالسنة والبدعة من الأحكام" (ص44):(مما أحدث وكثر السؤال عنه الموالد، فنقول: إن أول من أحدثها بالقاهرة الخلفاء الفاطميون، وأولهم المعز لدين الله.. الخ).
3 - وقال الشيخ علي محفوظ - رحمه الله - وهو من كبار علماء مصر- في "الإبداع في
مضار الابتداع" (ص251):(قيل أول من أحدثها - أي الموالد- بالقاهرة الخلفاء الفاطميون
في القرن الرابع، فابتدعوا ستة موالد: المولد النبوي، ومولد الإمام علي - رضي الله عنه -، ومولد السيدة فاطمة الزهراء رضي الله عنها، ومولد الحسن والحسين رضي الله عنهما، ومولد
الخليفة الحاضر... الخ).(45/5)
4 - وقال الدكتوران حسن إبراهيم حسن مدير جامعة أسيوط سابقاً وطه أحمد شرف مفتش المواد الاجتماعية بوزارة التربية والتعليم في كتابهما "المعز لدين الله" (ص284) تحت عنوان "الحفلات والأعياد":(ان المعز كان يشترك مع رعاياه في الاحتفال بعيد رأس السنة الهجرية، ومولد النبي - صلى الله عليه وسلم -، وليلة أول رجب ونصفه، وأول شعبان ونصفه، وموسم غرة رمضان، حتى لا يثير نفوس السنيين! ويقرب مسافة الخلف بين المبادئ السنية والعقائد الشيعية!! وكذلك كان المعز لدين الله يستغل هذه الأعياد التي كان زخر بها عهده في نشر خصائص المذهب الإسماعيلي وعقائده!! لذلك كان يحتفل بيوم عاشوراء ليحيي فيها ذكرى الحسين رضي الله عنه، كما كان يحي ذكرى مولد كثير من الأئمة، وذكرى مولد الخليفة القائم بالأمر، وهكذا اتخذ المعز من الاحتفال بهذه الأعياد وسيلة لجذب رعاياه إليه ونشر مبادئ المذهب الإسماعيلي) اهـ.
* * *
الفصل الثالث:
بيان كذب من يزعم أن من ينكر الاحتفال بالمولد بأنه مبغض
للرسول - صلى الله عليه وسلم - ومكفر لمن يحضر ذلك الاحتفال
لقد أشاع الكثير ممن يقيمون الاحتفال بالمولد النبوي أن من ينكر هذا الاحتفال إنما هو يكره الرسول - صلى الله عليه وسلم -!! وهذا من الكذب الصريح!
كما أشاعوا أن من ينكر ذلك الاحتفال يعتبره شركاً اكبر!
وأن من يحتفل بالمولد يعتبر مشركاً! وهذا أيضاً كذب صريح!!
وإليك أخي القارىء بعض أقوال أولئك المحتفلين حول هذا الأمر وبيان كذبهم في ذلك:
1- قال يوسف الرفاعي في " الرد المحكم المنيع" (ص15- 16) وهو يشير إلى مقال له نشره في جريدة السياسة الكويتية:(وكان عنوان وموضوع مقالي (الرد على الشيخ عبدالعزيز بن باز) عندما هاجم الاحتفال بالمولد النبوي واعتبره شركاً وبدعة … الخ).(45/6)
2- قال راشد المريخي في "إعلام النبيل" (ص17- 18):(وإذا احتفل أحد بليلة مولده - صلى الله عليه وسلم - تعظيما له وإقامة لأبهة الإسلام قالوا: هذا مشرك … فنعوذ بالله من ناشئة تكفر الأمة بمدح النبي - صلى الله عليه وسلم - أو الاحتفال بمولده) انتهى باختصار.
ولبيان كذب أولئك أنقل فيما يلي بعض أقوال المنكرين للاحتفال بالمولد وتصريحهم أن إنكارهم للمولد هو بسبب انه بدعة وليس شركاً:
قال الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله بن باز - رحمه الله - في "مجموع فتاوى ومقالات
متنوعة" (2/380):(كتبت منذ أيام مقالاً يتضمن جواب سؤال عن حكم الاحتفال بالمولد،
وأوضحت فيه أن الاحتفال بها من البدع المحدثة في الدين.
وقد نشر المقال في الصحف المحلية السعودية وأذيع من الإذاعة.
ثم علمت بعد ذلك أن إذاعة لندن نقلت عني في إذاعتها الصباحية أني أقول بأن الاحتفال بالموالد كفر.
فتعين علي إيضاح الحقيقة للقراء فأقول إن ما ذكرته هيئة الإذاعة البريطانية في إذاعتها الصباحية في لندن منذ أيام عني أني أقول بأن الاحتفال بالموالد كفر، كذب لا أساس له من الصحة وكل من يطلع على مقالي يعرف ذلك.
وإني لآسف كثيراً لإذاعة عالمية يحترمها الكثير من الناس ثم تقدم هي أو مراسلوها على الكذب الصريح.
وهذا بلا شك يوجب على القراء التثبت في كل ما تنقله هذه الإذاعة خشية أن يكون كذباً كما جرى في هذا الموضوع... الخ).
2- قال الشيخ أبو بكر الجزائري - حفظه الله - في "الإنصاف فيما قيل في المولد من الغلو والإجحاف" (ص76):(إن مثل هذه البدعة - أي بدعة الاحتفال بالمولد النبوي - لا تكفر فاعلها ولا من يحضرها، ووصم المسلم بالكفر والشرك أمر غير هين).(45/7)
3- وقال أيضاً (ص5) من المصدر السابق:(يشاع بين المسلمين أن الذين ينكرون بدعة المولد هم أناس يبغضون الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولا يحبونه، وهذه جريمة قبيحة كيف تصدر من عبد يؤمن بالله واليوم الآخر؟ إذ بغض الرسول - صلى الله عليه وسلم - أو عدم حبه كفر بواح لا يبقى لصاحبه أية نسبة إلى الإسلام والعياذ بالله تعالى) اهـ.
4- قال الشيخ علي بن حسن الحلبي - حفظه الله - في تعليقه على "المورد في عمل المولد" للفاكهاني (ص19):(يظن بعض الجهلة في زماننا أن الذين لا يجيزون عمل المولد والاحتفال به لا يحبون النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهذا ظن آثم، ورأي كاسد، إذ المحبة وصدقها تكون في الاتباع الصحيح للنبي - صلى الله عليه وسلم -، كما قال تعالى: { قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } ]آل عمران:31[) اهـ.
* * *
الفصل الرابع:
الرد على الشبهات التي اعتمد عليها من قال بمشروعية
الاحتفال بالمولد النبوي
لقد استدل من يرى مشروعية الاحتفال بالمولد النبوي ببعض الشبه؛ وفي هذا الفصل اذكر تلك الشبه مع ردود العلماء عليها.
ولكن قبل ذكر الشبه التي استند إليها من يقول بجواز إقامة الموالد؛ أنقل تنبيه مهم لأهل العلم متعلق باستدلال أهل البدع على بدعهم عموماً، وقد ذكره الشيخ علي الحلبي في "علم أصول البدع" (ص137-145) حيث قال:
(يستدل كثير من الناس بالنصوص العامة لتمشية بدعهم، والتدليل على واقعهم!
وفي هذا خطأ كبير، يناقض قاعدة مهمةً في علم الأصول، سيأتي تقريرها - بعد - إن شاء الله.
فمثلاً: لو أن عدداً من الناس قَدِموا مسجداً للصلاة فيه، فما إن دخلوا؛ حتى اقترح أحدهم عليهم أن يصلوا تحية المسجد جماعة!!
فجابهه بعض أصحابه بالإنكار و الرد!!(45/8)
فاستدل عليهم المقترِح بحديث: { صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده وصلاته مع الرجلين أزكى من صلاته مع الرجل } !!
فافترقوا رأيين!!
بعضهم وافق على هذا الاستدلال، والبعض الآخر خالف؛ لأن هذا الدليل إنما مورده في
غير هذا المقام! فما هو القول الفصل؟
قال الإمام ابن تيمية في "مقدمة في أصول التفسير" (ص8-9):(يجب أن يعلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بين لأصحابه معاني القرآن كما بين لهم ألفاظه، فقوله تعالى: { وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ
مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ } ]النحل:44[ يتناول هذا وهذا، وقد قال أبو عبد الرحمن السلمي حدثنا الذين كانوا يقرئوننا القرآن - كعثمان بن عفان وعبد الله بن مسعود وغيرهما - أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي - صلى الله عليه وسلم - عشر آيات لم يجاوزوها حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل، قالوا: فتعلمنا القرآن و العلم جميعاً.
ولهذا كانوا يبقون مدة في حفظ السورة.
وقال أنس: كان الرجل إذا قرأ البقرة وآل عمران جلَّ في أعيننا.
وأقام ابن عمر على حفظ البقرة عدة سنين – قيل ثمان سنين – ذكره مالك.
وذلك أن الله تعالى قال: { كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِه } ]ص:29[ وقال:
{ أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآن } ]النساء:82[ وقال: { أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ } ]المؤمنون:68[.
وتدبر الكلام بدون فهم معانيه لا يمكن.
وكذلك قال تعالى: { إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } ]يوسف:2[، وعقل الكلام متضمن لفهمه ومن المعلوم أن كل كلام فالمقصود منه فهم معانيه دون مجرد ألفاظه، فالقرآن أولى بذلك.
وأيضاً فالعادة تمنع أن يقرأ قوم كتاباً في فن من العلم كالطب والحساب ولا يستشرحوه
فكيف بكلام الله الذي هو عصمتهم وبه نجاتهم وسعادتهم وقيام دينهم ودنياهم؟) اهـ.(45/9)
وقال الإمام الشاطبي في "الموافقات" (3/72) رداً على من يستدل بالأدلة العامة على خلاف فهم السلف؛ والدعاء إلى العمل به على غير الوجه الذي مضوا عليه في العمل به ماملخصه:(لو كان دليلاً عليه؛ لم يعزب عن فهم الصحابة والتابعين ثم يفهمه هؤلاء، فعمل الأولين كيف كان مصادم لمقتضى هذا المفهوم ومعارِض له، ولو كان ترك العمل.
فما عمل به المتأخرون من هذا القسم مخالف لإجماعِ الأولين، وكل من خالف الإجماع؛ فهو مخطئ، وأمة محمد - صلى الله عليه وسلم - لا تجتمع على ضلالةٍ، فما كانوا عليه من فعلٍ أو تركٍ؛ فهو السنة
والأمر المعتبر، وهو الهدى، وليس ثم إلاَ صواب أو خطأ فكل من خالف السلف الأولين؛ فهو على خطأ، وهذا كافٍ… ومن هنالك لم يسمع أهل السنة دعوى الرافضة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نص على علي أنه الخليفة بعده؛ لأن عمل كافة الصحابة على خلافه دليل على بطلانه أو عدمِ اعتباره؛ لأن الصحابة لا تجتمع على خطا.
وكثيراً ما تجد أهل البدعِ والضلالة يستدلون بالكتاب والسنة؛ يحملونهما مذاهبهم، ويغبرون بمشتبهاتهما على العامة، ويظَنون أنهم على شيء).
ثم قال (3/77):(فلهذا كله؛ يجب على كل ناظر في الدليل الشرعي مراعاة ما فهم منه الأولون، وما كانوا عليه في العمل به؛ فهو أحرى بالصواب، وأقوم في العلم والعمل).
وقال الإمام الحافظ ابن عبد الهادي - رحمه الله - في "الصارم المنكي في الرد على السبكي" (ص318):(ولا يجوز إحداث تأويل في آيةٍ أو سنةٍ لم يكن على عهد السلف
ولا عرفوه ولا بينوه للأمة؛ فإن هذا يتضمن أنهم جهِلوا الحق في هذا، وضلوا عنه، واهتدى
إليه هذا المعترض المستأخر) اهـ.
وقال الإمام ابن القيم - رحمه الله - في "الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة"
(2/128مختصره):(إن إحداث القول في تفسير كتاب الله الذي كان السلف والأئمة على خلافه يستلزم أحد أمرين:(45/10)
إما أن يكون خطأ في نفسه، أو تكون أقوال السلف المخالفة له خطأ ولا يشك عاقل أنه أولى بالغلط والخطأ من قول السلَف).
إلا عند ساقطٍ رقيعٍ يقول في مثل هذا المقام: "نحن رجال وهم رجال"!!
فمثل هذا المغرور قد سقطَ معه الخطاب، وسد في وجهه الباب!!
والله الهادي إلى نهج الصواب!
قلت - مازال الكلام للشيخ علي الحلبي-: فإذا وضحت هذه القاعدة ظهر لك أي الفريقين أهدى في المثال الذي صدرنا لك الكلام به!
إذ ذاك الدليل العام لم يجرِ عليه عمل السلف رضي الله عنهم أو فهمهم؛ استدلالاً به على الجماعة في غيرِ الوارد؛ كالفرائض أو التراويح ونحوهما.
فهو جرى - إذاً - على جزءٍ من أجزاء عمومه لا على جميع أجزائه.
ومثال آخر تطبيقي سلفي:
روى أبو داود في "سننه" (رقم 538) بسند حسن عن مجاهد؛ قال:(كنت مع ابن عمر،
فثوب رجل في الظهرِ أو العصر، فقال: اخرج بنا؛ فإن هذه بدعة)!
و( معنى التثويب: هؤلاء الَذين يقومون على أبواب المساجد، فينادون: الصلاة؛ الصلاة) كما قال الطرطوشي في "الحوادث والبدع" (ص149).
فلو جاء أحد قائلاً: هل من ضيرٍ على من ذكر بالصلاة والله سبحانه يقول: { وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ } ]الذريات:55[؟! لما قبل قوله، بل رد عليه فهمه، إذ لم يفهم السلف رضي الله عنهم من هذه الآية هذا الإطلاق وهذا العموم، ومعلوم عن ابن عمر رضي الله عنهما شدة اتباعه، ودقة التزامه.
ومثال آخر وهو ما رواه الترمذي، والحاكم وغيرهما عن نافع أن رجلاً عطس إلى جنب ابن عمر رضي الله عنهما، فقال: الحمد لله، والسلام على رسوله قال ابن عمر:(وأنا أقول: الحمد لله والسلام على رسول الله وليس هكذا علمنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، علمنا أن نقول: الحمد لله على كل حالٍ) .(45/11)
فقد أنكر ابن عمر رضي الله عنهما على هذا الرجل مع أن عموم قولِ الله تعالى: { إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً } ]الأحزاب:56[ تدخل فيه تلك الصلاة!
ولكن، ما هكذا فهمها الصحابة فمن بعدهم وما هكذا طبقها السلف الصالح رضي الله عنهم، وفهمهم أولى، ومرتبتهم أعلى.
ورحم الله الإمام الأوزاعي حيث قال:(اصبر نفسك على السنة، وقف حيث وقف القوم، وقل بما قالوا، وكف عما كفوا عنه، واسلك سبيل سلفك الصالح؛ فإنه يسعك ما وسعهم).
وعليه؛ نقول:"الحذر الحذر من مخالفة الأولين! فلو كان ثَمَّ فضل ما؛ لكان الأولون أحق به، والله المستعان ") انتهى كلام الشيخ علي الحلبي حفظه الله بتصرف يسير.
فكن أخي القارئ على ذكر لهذا الكلام لان مناقشة الشبهات ستكون في البداية بالإحالة
عليه غالباً.
وبعد بيان ما سبق؛ أذكر الشبه التي اعتمد عليها من قال بجواز الاحتفال بالمولد مع ردود أهل العلم عليها بالتفصيل، علماً أني في بعض الشبه أكتفي بنقل الشبهة دون الإحالة على مرجع لانتشار هذه الشبهة أما إذا كان هناك خطأ آخر متعلق بالشبهة فسوف أنقل من ذكر الشبهة وأنقل كلام أهل العلم في الرد على كلامه.
الشبهة الأولى:قوله تعالى: { قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ }
]يونس:58[.
حيث يفسر بعضهم الرحمة هنا بالرسول - صلى الله عليه وسلم -!
الجواب:
أولاً: يفهم الجواب مما سبق (ص11-16).
ثانياً:(قد فسر هذه الآية الكريمة كبار المفسرين، كابن جرير وابن كثير والبغوي و القرطبي وابن العربي وغيرهم، ولم يكن في تفسير واحد منهم أن المقصود بالرحمة في هذه الآية(45/12)
رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وإنما المقصود بالفضل والرحمة المفروح بهما ما عنته الآية السابقة لهذه الآية، وهو قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ } ]يونس:57[ ذلك هو القرآن الكريم.
فقد قال ابن كثير في "تفسيره" (2/421):( { وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ } ]يونس:57[ أي: يحصل به الهداية والرحمة من الله تعالى، وإنما ذلك للمؤمنين به، والمصدقين الموقنين بما فيه، كقوله تعالى: { وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَاراً }
]الاسراء:82[ وقوله: { قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفَاءٌ } ]فصلت:44[ وقوله: { قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ } ]يونس:58[ أي بهذا الذي جاءهم من الله من الهدى ودين الحق، فليفرحوا فإنه أولى ما يفرحون به) اهـ.
وقال ابن جرير:(يقول تعالى ذكره لنبيه محمد - صلى الله عليه وسلم -: قل يا محمد لهؤلاء المكذبين بك، وبما أنزل
إليك من عند ربك: بفضل الله؛ أيها الناس الذي تفضل به عليكم وهو الإسلام، فبينه لكم
ودعاكم إليه، وبرحمته التي رحمكم بها فأنزلها إليكم، فعلمكم ما لم تكونوا تعلمون من كتابه،
فبصركم بها معالم دينكم؛ وذلك القرآن.
{ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ } يقول: فإن الإسلام الذي دعاهم إليه والقرآن الذي أنزله عليهم، خير مما يجمعون من حطام الدنيا وأموالها وكنوزها.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل) اهـ.
وقال القرطبي:قال أبو سعيد الخدري و ابن عباس رضي الله عنهما:(قل فضل الله القرآن، ورحمته الإسلام)، وعنهما أيضا:(فضل الله القرآن، ورحمته أن جعلكم من أهله).(45/13)
وعن الحسن والضحاك ومجاهد وقتادة:(فضل الله الإيمان ورحمته القرآن) على العكس من القول الأول) اهـ)(1).
وقد قال ابن القيم - رحمه الله - في "اجتماع الجيوش الإسلامية على غزو المعطلة
والجهمية "(ص38) في تفسير قوله تعالى: { قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا } :
(وقد دارت أقوال السلف على أن فضل الله ورحمته - أي في هذه الآية - الإسلام والسنة) اهـ.
ثالثاً:(إن الرحمة للناس لم تكن بولادة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإنما كانت ببعثه وإرساله إليهم، وعلى هذا تدل النصوص من الكتاب والسنة.
أما الكتاب فقول الله تعالى: { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ } ]الانبياء:107[ فنص على أن الرحمة للعالمين إنما كانت في إرساله - صلى الله عليه وسلم -، ولم يتعرض لذكر ولادته.
وأما السنة ففي "صحيح مسلم" عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قيل: يا رسول الله
ادع علَى المشركين.قال: { إني لم أبعث لعاناً.وإنما بعثت رحمة } .
وروى الإمام أحمد وأبو داود بإسناد حسن عن سلمان - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطب فقال: { أيما رجل من أمتي سببته سبة أو لعنته لعنة في غضبي فإنما أنا من ولد آدم أغضب كما يغضبون وإنما بعثني رحمة للعالمين فاجعلها عليهم صلاة يوم القيامة } )(2).
* * *
الشبهة الثانية: قوله تعالى: { إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً } ]الأحزاب: 56[.
ويقولون ان المولد يحث على الصلاة على الرسول - صلى الله عليه وسلم -.
الجواب:
أولاً: يفهم الجواب مما سبق (ص11-16).
__________
(1) :"حوارمع المالكي"للشيخ عبد الله بن منيع (52-54) بتصرف.
(2) :"الرد القوي على الرفاعي والمجهول وابن علوي وبيان أخطائهم في المولد النبوي" للشيخ حمود التويجري رحمه الله (ص66).(45/14)
ثانياً:(يستحب الإكثار من الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - في كل وقت لما رواه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: { صلوا علي فإنه من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشرا.. } وقد حث النبي - صلى الله عليه وسلم - على الإكثار من الصلاة عليه في أوقات معينه كيوم الجمعة وبعد الأذان وعند ذكره - صلى الله عليه وسلم - إلى غير تلك الأوقات ومع ذلك
لم يأمر أو يحث على الصلاة عليه في ليلة مولده فيعمل بما أمر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ويرد ما لم يأمر به لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: { من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد } )(1).
* * *
الشبهة الثالثة: يقولون ان الله كرم بعض الأماكن المرتبطة بالأنبياء مثل مقام إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - حيث قال الله تعالى: { وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً } ]البقرة:125[ وهذا فيه حث على الاهتمام بكل ما يتعلق بالأنبياء ومنها الاهتمام بيوم مولد النبي - صلى الله عليه وسلم -.
الجواب:
أولاً: يفهم الجواب عن هذا الاستدلال مما سبق (ص11-16).
ثانياً:(ان العبادات مبناها على التوقيف والإتباع لا على الرأي والابتداع. فما عظمه الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - من زمان أو مكان فانه يستحق التعظيم وما لا فلا.
والله تبارك وتعالى قد أمر عباده أن يتخذوا من مقام إبراهيم مصلى و لم يأمرهم أن يتخذوا يوم مولد النبي - صلى الله عليه وسلم - عيداً ويبتدعوا فيه بدعاً لم يؤمروا بها)(2).
وقد صح عن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما أنه كان يستلم أركان الكعبة الأربعة فقال له ابن عباس رضي الله عنهما:(إنه لا يستلم هذان الركنان).
فقال معاوية - رضي الله عنه -:(ليس شيءٌ من البيت مهجوراً) رواه البخاري ومسلم والترمذي وأحمد.
__________
(1) :"الرد القوي" (ص70-71).
(2) :"الرد القوي" (ص83)بتصرف.(45/15)
وزاد أحمد:(فقال ابن عباس رضي الله عنهما: { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ } ]الأحزاب:21[ فقال معاوية - رضي الله عنه - :(صدقت).
* * *
الشبهة الرابعة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصوم يوم الاثنين فلما سئل عن ذلك قال: { ذلك يوم ولدت فيه وأنزل علي فيه } رواه أحمد ومسلم وأبو داود.
استدل به محمد المالكي في "حول الاحتفال بالمولد" (ص10).
حيث قال:(أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يعظّم يوم مولده، ويشكر الله تعالى فيه على نعمته الكبرى عليه، وتفضله عليه بالوجود لهذا الوجود، إذ سعد به كل موجود، وكان يعبر عن ذلك التعظيم بالصيام كما جاء في الحديث عن أبي قتادة:(أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل عن صوم يوم الاثنين فقال:
{ ذلك يوم ولدت فيه وأنزل علي فيه } ) رواه الإمام مسلم في "الصحيح" في كتاب الصيام.
وهذا في معنى الاحتفال به إلا أن الصورة مختلفة ولكن المعنى موجود سواء كان ذلك بصيام أو إطعام طعام أو اجتماع على ذكر أو صلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - أو سماع شمائله الشريفة) انتهى.
الجواب:
أولاً: يفهم الجواب عن هذا الاستدلال مما سبق (ص11-16).
ثانياً:(إذا كان المراد من إقامة المولد هو شكر الله تعالى على نعمة ولادة الرسول - صلى الله عليه وسلم - فيه فإن المعقول والمنقول يحتم أن يكون الشكر من نوع ما شكر الرسول - صلى الله عليه وسلم - ربه وهو الصوم؛
لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لا يختار إلا ما هو أفضل، وعليه فلنصم كما صام، وإذا سئلنا قلنا: إنه يوم
ولد فيه نبينا فنحن نصومه شكرا لله تعالى.
ثالثا: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يصم يوم ولادته وهو اليوم الثاني عشر من ربيع الأول إن صح
أنه ذلك، وإنما صام يوم الاثنين الذي يتكرر مجيئه في كل شهر.
رابعاً: هل النبي - صلى الله عليه وسلم - لما صام يوم الاثنين شكراً على نعمة الإيجاد والإمداد وهو تكريمه(45/16)
ببعثته إلى الناس كافة بشيراً ونذيراً أضاف إلى الصيام احتفالاً كاحتفال أرباب الموالد من
تجمعات ومدائح؟
والجواب: لا، وإنما اكتفى بالصيام فقط إذاً ألا يكفي الأمة ما كفى نبيها، ويسعها
ما وسعه؟ وهل يقدر عاقل أن يقول: لا؟
وإذاً فلم ألافتيات على الشارع والتقدم بالزيادة عليه، والله يقول: { وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا } ]الحشر:7[ ويقول: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } ]الحجرات:1[ ورسوله - صلى الله عليه وسلم - يقول: { إياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالَة } )(1).
وحال من قال بجواز إقامة المولد زيادة على صيام يوم الاثنين الثابت في السنة يشبه حال من صلى سنة المغرب مثلاً ثلاث أو أربع ركعات بحجة أنه أتى بالركعتين التي ثبتت بالسنة ثم أضاف إليها ركعتين زيادة في الخير!!.
خامساً:(أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يخص اليوم الثاني عشر من ربيع الأول إن صح أن ذلك هو يوم مولده بالصيام ولا بشيء من الأعمال دون سائر الأيام ولو كان يعظم يوم مولده، كما يزعمون لكان يتخذ ذلك اليوم عيداً في كل سنة، أو كان يخصه بالصيام أو بشيء من الأعمال دون سائر الأيام.
وفي عدم تخصيصه بشيء من الأعمال دون سائر الأيام دليل على أنه لم يكن يفضله على
غيره وقد قال تعالى: { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ } ]الأحزاب:21[)(2).
__________
(1) :"الإنصاف فيما قيل في المولدمن الغلو والإجحاف"لأبي بكر الجزائري(ص64-66) بتصرف.
(2) :"الرد القوي"(61-62) بتصرف.(45/17)
سادساً:(أما قول المالكي عن صيام الرسول - صلى الله عليه وسلم - يوم الاثنين:(وهذا في معنى الاحتفال به، إلا أن الصورة مختلفة، ولكن المعنى موجود) فالجواب عنه يفهم من الجواب عن السؤال التالي:
هل يجوز لنا أن نقول: أن مشروعية الصلاة في الأوقات الخمسة تعني مشروعية الصلاة في الجملة، وأنه يجوز لنا أن نحدث وقتا أو وقتين زيادة على الصلوات الخمس المكتوبة؟
وأنه يجوز لنا أن نقول: أن مشروعية صيام رمضان، تعني مشروعية الصيام في الجملة!
وأنه يجوز لنا أن نحدث صيام شهر آخر غير رمضان على سبيل الوجوب؟
هل يجوز لنا أن نقول: أن مشروعية الحج في زمان مخصوص، تعني مشروعيته في الجملة، وأنه يجوز لنا أن نقول: بتوسعة وقت الحج طوال العام كالعمرة تخفيفا على الأمة وتوسعة عليها؟
إننا حينما نقول بذلك لا نقول بأن الصورة مختلفة، بل الصلاة هي الصلاة، والصوم هو الصوم، والحج هو الحج، إلا أن الجديد في ذلك الزيادة على المشروع فقط.
يلزم المالكي أن يقول: بجواز ذلك كما قال: بأن صيام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم مولده، يدل على
جواز إقامة الاحتفال بذكرى المولد)(1).
الشبهة الخامسة: ما ثبت في "الصحيحين" ان النبي - صلى الله عليه وسلم - لما قدم المدينة رأى اليهود تصوم عاشوراء فقال: { ما هذا؟ } قالوا:(يوم صالح نجى الله فيه موسى وبني إسرائيل من عدوهم فصامه موسى) فقال: { أنا أحق بموسى منكم فصامه وأمر بصيامه } .
ورد الاستدلال بهذا الحديث في جواب للحافظ ابن حجر العسقلاني عن سؤال وجه إليه
عن عمل المولد حسبما ذكره السيوطي في "حسن المقصد في عمل المولد" ضمن "الحاوي للفتاوى" (1/196) حيث جاء فيه:(أصل عمل المولد بدعة لم تنقل عن أحد من السلف الصالح من القرون الثلاثة ولكنها مع ذلك قد اشتملت على محاسن وضدها فمن تحرى في عملها المحاسن وتجنب ضدها كان بدعة حسنة وإلا فلا.
__________
(1) :"حوار مع المالكي" ( 50-51) بتصرف.(45/18)
وقد ظهر لي تخريجها على أصل ثابت وهو ما ثبت في "الصحيحين" (ثم ذكر الحديث)
فيستفاد منه فعل الشكر لله على ما من به في يوم معين من إسداء نعمة أو دفع نقمة ويعاد ذلك في نظير ذلك اليوم من كل سنة والشكر لله يحصل بأنواع العبادة كالسجود والصيام والصدقة والتلاوة. وأي نعمة أعظم من النعمة ببروز هذا النبي نبي الرحمة في ذلك اليوم وعلى هذا فينبغي أن يتحرى اليوم بعينه حتى يطابق قصة موسى في يوم عاشوراء.
ومن لم يلاحظ ذلك لا يبالي بعمل المولد في أي يوم من الشهر بل توسع قوم فنقلوه إلى يوم من
السنة وفيه ما فيه… إلى آخر كلامه).
وقد نقل محمد بن علوي المالكي كلام الإمام ابن حجر مختصراً في "البيان والتعريف"
(ص10-11) وقال في رسالته "حول الاحتفال بالمولد" (ص11-12):(أن النبي - صلى الله عليه وسلم -كان
يلاحظ ارتباط الزمان بالحوادث الدينية العظمى التي مضت وانقضت فإذا جاء الزمان الذي
وقعت فيه كان فرصة لتذكّرها وتعظيم يومها، لأجلها ولأنه ظرف لها.
وقد أصّل - صلى الله عليه وسلم - هذه القاعدة بنفسه كما صرح في الحديث (ثم ذكر حديث صيام يوم
عاشوراء)) اهـ.
الجواب:
أولاً: يفهم مما سبق (ص11-16).
ثانياً:(أن المحاسن التي وردت في فتوى الحافظ أن من تحراها في عمل المولد وتجنب ضدها كان عمل المولد بدعة حسنة لا تعد هي بنفسها من البدع وإنما البدعة فيها جعل ذلك الاجتماع المخصوص بالهيئة المخصوصة في الوقت المخصوص واعتبار ذلك العمل من قبيل شعائر الإسلام التي لا تثبت إلا بنص من كتاب أو سنة بحيث يظن العوام الجاهلون بالسنن أن
عمل المولد من أعمال القرب المطلوبة شرعا!.
وعمل المولد بهذه القيود بدعة سيئة وجناية على دين الله وزيادة فيه تعد من شرع
ما لم يأذن به الله ومن الافتراء على الله والقول في دينه بغير علم.(45/19)
ثم أن حديث صوم يوم عاشوراء لنجاة موسى عليه السلام فيه وإغراق فرعون فيه ليس فيه سوى أن النبي - صلى الله عليه وسلم -صامه وأمر بصومه دون زيادة على ذلك) (1).
ثالثاً: أن الشرط الذي أشترطه الحافظ ابن حجر للاحتفال بالمولد النبوي وهو تحري ذلك اليوم بعينه حتى يطابق قصة موسى عليه السلام لا يلتزمه كثير ممن تبعوه في الاستدلال بهذا الحديث على مشروعية الاحتفال بالمولد فقد قال محمد بن علوي المالكي في "حول الاحتفال بالمولد"(ص6):(أننا لا نقول بسنية الاحتفال بالمولد المذكور في ليلة مخصوصة بل من اعتقد ذلك فقد ابتدع في الدين، لأن ذكره - صلى الله عليه وسلم - والتعلق به يجب أن يكون في كل حين، ويجب أن تمتلئ به النفوس … الخ).
وعلى كلامه فإن الإمام ابن حجر العسقلاني يكون قد وقع في الابتداع في الدين فإنه خصص الاحتفال بيوم واحد في العام كما هو واضح في كلامه السابق!.
رابعاً:(ان الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد صام يوم عاشوراء وحث على صيامه فكان صيامه سنة وسكت عن يوم ولادته الذي هو الثاني عشر من ربيع الأول كما يقول به اكثر المحتفلين فلم يشرع فيه شيئاً فوجب أن نسكت كذلك، ولا نحاول أن نشرع فيه صياماً ولا قياماً فضلاً
عن احتفالاً)(2).
ثم أقول للمالكي حيث أجاز الاحتفال بالمولد في أي يوم:
هل يجوز أن نصوم أو نعمل أي عمل صالح في أي يوم غير يوم عاشورا شكراً لله لأنه نجى موسى عليه السلام وقومه من فرعون؟! وما هو ثواب ذلك ؟!.
__________
(1) :"القول الفصل في حكم الاحتفال بمولد خير الرسل" للعلامة إسماعيل الأنصاري رحمه الله (ص78-79) بتصرف.
(2) :"الإنصاف فيما قيل في المولد"(ص63) بتصرف.(45/20)
وأما بالنسبة لقول المالكي:(ان النبي - صلى الله عليه وسلم -كان يلاحظ ارتباط الزمان بالحوادث الدينية العظمى التي مضت وانقضت فإذا جاء الزمان الذي وقعت فيه كان فرصة لتذكرها وتعظيم يومها لاجلها ولأنه ظرف لها)؛ فقد أجاب عنه الشيخ التويجري رحمه الله في "الرد القوي"(ص68-69) بقوله:(ان من أعظم الأمور التي وقعت في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم -، مجيء الملك إليه بالنبوة وهو في غار حراء وتعليمه أول سورة { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ } ]العلق:1[.
ومن أعظم الأمور أيضاً الإسراء به إلى بيت المقدس والعروج به إلى السموات السبع
وما فوقها وتكليم الرب تبارك وتعالى له وفرضه الصلوات الخمس، ومن أعظم الأمور أيضاً
هجرته - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة، ومن أعظم الأمور أيضاً وقعة بدر وفتح مكة، ولم يرد عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه
كان يعمل الاجتماع لتذكر شيء من هذه الأمور العظيمة وتعظيم أيامها.
ولو كانت قاعدة ابن علوي التي توهمها وابتكرها صحيحة لكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يهتم بأوقات هذه الأمور العظيمة ويعقد الاجتماعات لتذكرها وتعظيم أيامها.
وفي تركه - صلى الله عليه وسلم - ذلك أبلغ رد على مزاعم ابن علوي وغيره وتقولهم على النبي - صلى الله عليه وسلم -) انتهى بتصرف واختصار.
* * *
الشبهة السادسة: ما جاء عن عروة أنه قال في ثويبة مولاة أبي لهب: وكان أبولهب أعتقها فأرضعت النبي - صلى الله عليه وسلم - فلما مات أبو لهب أريه بعض أهله بشر حيبة قال له: ماذا لقيت؟ قال أبو لهب: لم ألق بعدكم غير أني سقيت في هذه بعتاقتي ثويبة .
استدل محمد بن علوي المالكي بهذه القصة في رسالته "حول الاحتفال بالمولد" (ص8) حيث قال:(أن الاحتفال بالمولد النبوي الشريف تعبير عن الفرح والسرور بالمصطفى - صلى الله عليه وسلم - وقد انتفع به الكافر..(45/21)
فقد جاء في البخاري أنه يخفَف عن أبي لهب كل يوم اثنين بسبب عتقه لثويبة جاريته لما بشرته بولادة المصطفى - صلى الله عليه وسلم -...
وهذه القصة رواها البخاري في "الصحيح" في (كتاب النكاح) ونقلها الحافظ ابن حجر في "الفتح" … وهي وإن كانت مرسلة إلا أنها مقبولة لأجل نقل البخاري لها واعتماد العلماء من الحفاظ لذلك ولكونها في المناقب والخصائص لا في الحلال والحرام وطلاب العلم يعرفون الفرق في الاستدلال بالحديث بين المناقب والأحكام وأما انتفاع الكفار بأعمالهم ففيه كلام بين العلماء ليس هذا محل بسطه، والأصل فيه ما جاء في الصحيح من التخفيف عن أبي طالب بطلب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) انتهى باختصار.
الجواب:
أولاً: يفهم مما جاء في (ص11-16).
ثانياً:(ان هذا الخبر لا يجوز الاستدلال به لأمور:
أولاً: أنه مرسل كما يتبين من سياقه عند البخاري في باب { وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ }
{ ويحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب } من صحيحه فقد قال:(حدثنا الحكم بن نافع أخبرنا شعيب عن الزهري قال أخبرني عروة بن الزبير أن زينب ابنة أبي سلمة أخبرته أن
أم حبيبة بنت أبي سفيان أخبرتها أنها قالت:(يا رسول الله انكِحْ أختي بنت أبي سفيان، فقال: { أو تحبين ذلك؟ } فقلت: نعم، لست لك بمخليةٍ، وأحب من شاركني في خيرٍ أختي.
فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: { إن ذلك لا يحل لي } .
قلت: فإنا نحدث أنك تريد أن تنكح بنت أبي سلمة.قال: بنت أم سلمة؟
قلت: نعم.فقال: { لو أنها لم تكن ربيبتي في حجري ماحلت لي. إنها لاَبنة أخي من الرضاعة.أرضعتني وأبا سلمة ثويبة فلا تعرضن علي بناتكن ولا أخواتكن } .
قال عروة: وثويبة مولاة لأبي لهبٍ وكان أبو لهبٍ أعتقها فأرضعت النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلما مات
أبو لهب أريه بعض أهله بشر حِيبةٍ، قال له: ماذا لقيت؟
قال أبو لهب: لم ألق بعدكم. غير أني سقيت في هذه بعتاقتي ثويبة ").(45/22)
ولهذا قال الحافظ ابن حجر"فتح الباري" (9/49):(إن الخبر - أي المتعلق بتلك القضية - مرسل أرسله عروة ولم يذكر من حدثه به...الخ).
وبهذا نعلم انه لا يجوز الاستدلال بهذا الخبر لأنه مرسل، والمرسل من قسم الضعيف لأننا
لا نعلم صدق من أخبر عروة بذلك الخبر؛ والبخاري رحمه الله لم يشترط الصحة في كتابه
إلا على الأحاديث المتصلة السند.
ثانياً: أن ذلك الخبر لو كان موصولاً لا حجة فيه لأنه رؤيا منام ورؤيا المنام لا يثبت بها
حكم شرعي ذكر ذلك أيضا الحافظ ابن حجر.
وقد قال علوي بن عباس المالكي - والد محمد المالكي - في "نفحات الإسلام من البلد الحرام" (ص164-165) والذي جمع مواضيعه ورتبه محمد المالكي نفسه؛ أثناء إنكاره القصة المشهورة الباطلة عن الشيخ أحمد خادم الحجرة النبوية:(النبي - صلى الله عليه وسلم - قد بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة، وترك للناس شريعة واحدة لا تحتاج إلى تتميم برؤيا في المنام، والرؤيا المنامة ليست طريقاً للتشريع ولا مستنداً لحكم شرعي أصلاً لأن النائم لا يضبط لغفلته بمنامه
فكيف يعتمد على رؤياه...الخ).
ثالثاً: أن ما في مرسل عروة هذا من أن إعتاق أبي لهب ثويبة كان قبل إرضاعها النبي - صلى الله عليه وسلم - يخالف ما عند أهل السير من أن إعتاق أبى لهب إياها كان بعد ذلك الإرضاع بدهر طويل كما ذكر الحافظ ابن حجر في " الفتح" (9/48) وأوضحه في " الإصابة في تمييز الصحابة"
(4/250) والحافظ ابن عبدالبر في "الاستيعاب في أسماء الأصحاب" (1/12) والحافظ
ابن الجوزي في "الوفا بأحوال المصطفى" (1/106).(45/23)
رابعاً: أن هذا الخبر مخالف لظاهر القرآن كما أوضحه الحافظ ابن حجر في "الفتح" حيث قال في كلامه عليه (9/49):(وفي الحديث دلالة على أن الكافر قد ينفعه العمل الصالح في الآخرة؛ لكنه مخالف لظاهر القرآن، قال الله تعالى { وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً } ]الفرقان:23[) ثم نقل عن حاشية ابن المنير أن ما في ذلك المرسل من اعتبار طاعة الكافر مع كفره محال لأن شرط الطاعة أن تقع بقصد صحيح وذلك مفقود مع الكافر.
فإعتاق أبى لهب لثويبة ما دام الأمر كذلك لم يكن قربة معتبرة فإن قيل إن قصة إعتاق
أبى لهب ثويبة مخصوصة من ذلك كقصة أبى طالب قلنا: إن تخفيف العذاب عن أبى طالب ثبت بنص صحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم -وأما ما وقع لأبى لهب في ذلك المرسل فمستنده مجرد كلام لأبى لهب في المنام فشتان ما بين الأمرين)(1).
يضاف إلى ذلك ان تخفيف العذاب عن أبي طالب كان بسبب شفاعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - كما قال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: { لعله تنفعه شفاعتي يوم القيامة فيجعل في ضحضاح من النار يبلغ كعبيه يغلي منها دماغه } .
خامساً:(ان الفرح الذي فرحه أبو لهب بمولود لأخيه فرح طبيعي لا تعبدي، إذ كل إنسان يفرح بالمولود يولد له، أو لأحد إخوانه أو أقاربه، والفرح إن لم يكن لله لا يثاب عليه فاعله، وهذا يضعف هذه الرواية و يبطلها)(2).
سادساً:(لم يجيء في هذه الرواية مع ضعفها أنه يخفف عن أبي لهب العذاب كل إثنين
ولا أن أبا لهب أعتق ثويبة من أجل بشارتها إياه بولادة المصطفى - صلى الله عليه وسلم -، فكل هذا من التقول على البخاري)(3).
__________
(1) :"القول الفصل" (ص84- 87) بتصرف.
(2) :"الإنصاف فيما قيل في المولد"(ص60).
(3) :"الرد القوي" (ص56) بتصرف.
(4):المصدر السابق بتصرف.(45/24)
سابعاً:(لم يثبت من طريق صحيح أن أبا لهب فرح بولادة النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا أن ثويبة بشرته بولادته، فكل هذا لم يثبت، ومن ادعى ثبوت شيء من ذلك فعليه إقامة الدليل على
ما ادعاه.ولن يجد إلى الدليل الصحيح سبيلاً)(1).
ثامناً:قول المالكي:(وهذه القصة رواها البخاري في "الصحيح" في كتاب النكاح ونقلها
الحافظ ابن حجر في "الفتح" - إلى ان قال - وهي وان كانت مرسلة الا أنها مقبولة لأجل نقل البخاري لها واعتماد العلماء من الحفاظ لذلك ولكونها في المناقب والخصائص لا في الحلال والحرام وطلاب العلم يعرفون الفرق في الاستدلال بالحديث بين المناقب والأحكام.
وأما انتفاع الكفار بأعمالهم ففيه كلام بين العلماء ليس هذا بسطه والأصل فيه ما جاء في الصحيح من التخفيف عن أبي طالب بطلب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) يثير عندي بعض الأسئلة وهي:
من أين نقل الحافظ ابن حجر هذه القصة في "الفتح"؟!
ولماذا أورد المالكي هذه القصة؟!
إن كتاب الحافظ ابن حجر "فتح الباري" إنما هو شرح للأحاديث والآثار الواردة في "صحيح البخاري"، فما معنى التفريق بين إخراج البخاري لهذه القصة في "صحيحه" وبين نقل ابن حجر لها في "الفتح"؟! أم ان المقصود تكثير المصادر ليوهم السذج؟
ثم إن المالكي إنما أورد هذه القصة ليستدل بها على جواز بل سنية الاحتفال بالمولد كما مر معنا سابقاً، فما معنى قوله عن هذه القصة:(أنها مقبولة لأجل نقل البخاري لها واعتماد العلماء من الحفاظ لذلك ولكونها في المناقب والخصائص لا في الحلال والحرام وطلاب العلم
يعرفون الفرق في الاستدلال بالحديث بين المناقب والأحكام)؟!
هل يقصد انه لا يريد ذكر هذه القصة لبيان حلال أو حرام وإنما لبيان للمناقب
والخصائص؟ فما فائدة ذكرها كدليل على جواز الاحتفال بالمولد؟
وأما بالنسبة إلى تخفيف العذاب عن الكافر فقد مر معنا قول ابن حجر في ذلك واستدلاله(45/25)
بالآية، والأصل في ذلك تلك الآية بالإضافة إلى بعض الأحاديث الصحيحة ومنها ما جاء عن عائشة رضي الله عنها قالت: قلت:(يا رسول الله إن ابن جدعان كان في الجاهلية يصل الرحم ويطعم المسكين، فهل ذلك نافعه؟ قال: { لا ينفعه إنه لم يقل يوماً رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين } .
فهذا هو الأصل، وقد قال محمد بن علوي المالكي نفسه في "شرح منظومة الورقات"
( ص28) في باب النهي:(الكفار داخلون في الخطاب بجميع فروع الشريعة فهم مخاطبون بها مع انتفاء شرطها وهو الإسلام فيعذبون حينئذ على أمرين: على ترك الفروع وعلى ترك الإسلام الذي بدونه فروع الشريعة ممنوعة لا تصح ومع كونهم مخاطبين بالفروع إلا أنها لا تصح منهم إذا فعلوها إلا بالإسلام) اهـ.
أما تخفيف العذاب عن أبي طالب فإنه مستثنى من هذا الأصل وذلك بسبب شفاعة - صلى الله عليه وسلم - كما مر معنا وباعتراف المالكي!.
* * *
الشبهة السابعة: قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - في فضل يوم الجمعة : { إن من أفضل أيامكم يوم الجمعة، فيه خلق آدم، وفيه قبض } رواه أبو داود.
استدل بهذا محمد المالكي في " حول الاحتفال" (ص14)حيث قال:(يؤخذ من قوله - صلى الله عليه وسلم -في فضل يوم الجمعة، وعدّ مزاياه: { وفيه خلق آدم } تشريف الزمان الذي ثبت أنه ميلاد لأي نبي كان من الأنبياء عليهم السلام فكيف باليوم الذي ولد فيه أفضل النبيين وأشرف المرسلين.
ولا يختص هذا التعظيم بذلك اليوم بعينه بل يكون له خصوصاً ولنوعه عموماً مهما تكرر
كما والحال في يوم الجمعة، شكراً للنعمة، وإظهاراً لمزية النبوة وإحياءً للحوادث التاريخية).
الجواب:
أولاً: يفهم الجواب مما سبق (ص11-16).(45/26)
ثانياً:(جاءت النصوص الشرعية الصريحة الثابتة بفضل يوم الجمعة، واعتباره أحد أعياد المسلمين، واختصاصه بخصائص ليست لغيره، فنحن نقف مع النصوص الشرعية حيث وقفت، ونسير معها حيث اتجهت: { وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا }
]الحشر:7[ ولا نبيح لأنفسنا أن نشرع تفضيل يوم بعينه، لم يرد النص بتفضيله، إذ لو كان خيراً لشرع لنا تفضيله، كما شرع لنا تفضيل يوم الجمعة { وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً } ]مريم:64[.
ولو جاءت نصوص شرعية تنص على فضل يوم ذكرى ميلاد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لكنا بتوفيق
الله وهدايته أسرع الناس إلى اعتبار ذلك والأخذ به، امتثالا لقوله تعالى: { وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ } )(1).
ثالثاً:(أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يخص يوم الجمعة بشيء من نوافل الأعمال وقد نهى عن تخصيصه بالصيام وعن تخصيص ليلة الجمعة بالقيام ففي "صحيح مسلم" عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن
النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: { لا تخصوا ليلة الجمعة بقيام من بين الليالي، ولا تخصوا يوم الجمعة بصيام من بين الأيام إلا أن يكون في صوم يصومه أحدكم } .
وإذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يخص يوم الجمعة بشيء من نوافل الأعمال من أجل آدم عليه السلام قد خلق فيه فأي متعلق لابن علوي وغيره في ذكر ذلك الاستدلال به على جواز الاحتفال بالمولد)(2).
رابعاً:(لماذا نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن صيام يوم الجمعة تطوعاً وحده؟
ولماذا لم يقل إثر إخباره أو فيما بعد: فأقيموا لأبيكم وأبي عيد وجود، أو حلقة ذكر بمناسبة الذكرى نتدارس فيها نعم الله على خلقه، ونذكر فيها العامة، وتكون سنة لمن بعدنا؟ كما يقول بما يشبه هذا بعض المتأخرين.
__________
(1) :"حوار مع المالكي" (ص87).
(2) :"الرد القوي"(ص82) بتصرف.(45/27)
وهل يمكن أن يجرؤ الشك على أن يوحى لنا بأن محمداً - صلى الله عليه وسلم - ذا الخلق العظيم محبته لأبيه آدم عليه السلام قاصرة أو معدومة؟)(1).
خامساً: أما بالنسبة لقول المالكي:(ولا يختص هذا التعظيم بذلك اليوم بعينه، بل يكون له خصوصاً ولنوعه عموماً).
فقد أجاب عنه الشيخ عبدالله بن منيع في "حوار مع المالكي"(ص88) بقوله:(إن هذا
القول يقتضي أن نقيس في العبادات، ولا يخفى ما عليه أهل العلم من علماء الأصول و فقهاء الأمة، ممن يقولون بالقياس من أنهم يمنعون القياس في العبادات، لأن القياس مبني على اتحاد المقيس والمقيس عليه في العلة، والعبادات مبناها على التوقيف والتعبد، سواء كانت علة التشريع ظاهرة أو خفية، فلا يجوز أن نقيس على أصل مشروعية الصلاة بتشريع صلاة سادسة بين الفجر والظهر مثلاً، ولا بتشريع صيام آخر بعد رمضان أو قبله، ولا بزيادة ركعة أو أكثر على ركعات صلاة من الصلوات الخمس، بحجة أن التشريع في الصلوات أو في الصيام أو في غيرهما من أنواع العبادة لها خصوصاً ولنوعها عموماً.
إن الله حينما فضل يوم الجمعة على غيره من الأيام الأخرى، وتحدث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بما يدل على ذلك التفضيل و يؤكده قادر على تفضيل غيره من الأيام،كيوم مولد الرسول - صلى الله عليه وسلم -، أو بعثته أو هجرته، ويعطي عباده نصوصاً صريحة من قوله تعالى، أو قول رسوله الأمين - صلى الله عليه وسلم -، في تفضيل ذلك اليوم كما هو الحال في يوم الجمعة، و في ليلة القدر) انتهى كلامه باختصار.
* * *
الشبهة الثامنة: ما أخرجه البيهقي عن انس - رضي الله عنه -: { أن النبي - صلى الله عليه وسلم -عق عن نفسه بعد
النبوة } .
__________
(1) :"العقلية الإسلامية وفكرة المولد" لعلي العيسى (ص64-65) بتصرف.(45/28)
خرج السيوطي في "حسن المقصد في عمل المولد" عمل المولد عليه ولفظه:(قلت قد ظهر لي تخريجه - أي عمل المولد - على أصل آخر وهو ما أخرجه البيهقي عن انس رضي الله عنه: { أن النبي - صلى الله عليه وسلم - عق عن نفسه بعد النبوة } مع أنه قد ورد أن جده عبد المطلب عق عنه في سابع ولادته، والعقيقة لا تعاد مرة ثانية فيحمل ذلك على أن الذي فعله النبي - صلى الله عليه وسلم -
اظهار للشكر على إيجاد الله إياه رحمة للعالمين وتشريع لأمته كما كان يصلي على نفسه لذلك
فيستحب لنا أيضا إظهار الشكر بمولده) إلى آخر كلامه، كما استدل بهذا الحديث محمد المالكي في "البيان والتعريف" (ص11).
الجواب:
أولاً:(ان تخريج السيوطي عمل المولد النبوي على هذا الحديث ساقط لعدم ثبوت ذلك الحديث عند أهل العلم.
فقد قال الحافظ ابن حجر العسقلاني في (كتاب العقيقة) من"تلخيص الحبير" (4/147):
(قوله - أي الرافعي- روى أنه - صلى الله عليه وسلم -عق عن نفسه بعد النبوة البيهقي من حديث قتادة
عن انس وقال: منكر؛ وفيه عبدالله ابن محرر وهو ضعيف جداً، وقال عبد الرزاق إنما تكلموا فيه لأجل هذا الحديث، قال البيهقي وروى من وجه آخر عن قتادة ومن وجه آخر عن انس وليس بشيء.
قلت - القائل ابن حجر العسقلاني - أما الوجه الآخر عن قتادة فلم أره مرفوعاً وإنما ورد
أنه كان يفتي به كما حكاه ابن عبد البر بل جزم البزار وغيره بتفرد عبدالله بن محرر به عن قتادة.
وأما الوجه الآخر عن انس فأخرجه أبو الشيخ في الأضاحي وابن أيمن في مصنفه والخلال من طريق عبدالله بن المثنى عن ثمامة بن عبدالله بن انس عن أبيه وقال النووي في "شرح المهذب" هذا حديث باطل) اهـ.
كما ضعفه في "فتح الباري" (9/509).(45/29)
وقال الإمام النووي - رحمه الله - في "المجموع شرح المهذب" (8/412) في ( باب العقيقة) :(أما الحديث الذي ذكره - أي الشيرازي - في عق النبي - صلى الله عليه وسلم - عن نفسه فرواه البيهقي بإسناده عن عبدالله بن محرر بالحاء المهملة والراء المكررة عن قتادة عن انس { أن النبي - صلى الله عليه وسلم - عق عنه نفسه بعد النبوة } وهذا حديث باطل، قال البيهقي هو حديث منكر، وروى البيهقي بإسناده عن عبد الرزاق قال:(إنما تركوا عبدالله بن محرر بسبب هذا الحديث)، قال البيهقي: وقد روى هذا الحديث من وجه آخر عن قتادة، ومن وجه آخر عن انس وليس بشيء، فهو حديث باطل وعبدالله بن محرر ضعيف متفق على ضعفه قال الحفاظ هو - أي عبدالله بن محرر- متروك) اهـ.
وقال الحافظ الذهبي في ترجمة عبدالله بن محرر من "ميزان الاعتدال في نقد الرجال":
(من بلاياه - أي عبدالله بن محرر- روى عن قتادة عن انس (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - عق عن نفسه بعدما بعث) رواه شيخان عنه) اهـ.
وقال البزار:(تفرد به عبدالله بن المحرر وهو ضعيف جداً إنما يكتب عنه ما لا يوجد عند
غيره) ورد هذا في ( باب قضاء العقيقة) من كتاب "كشف الأستار عن زوائد البزار"
للحافظ الهيثمي.
وقال البيهقي في (باب العقيقة سنة) من" السنن الكبرى" (9/300):(قال عبدالزاق إنما تركوا عبدالله ابن محرر لحال هذا الحديث وقد روى من وجه آخر عن قتادة ومن آخر عن انس وليس بشيء). انتهى كلام البيهقي الذي عزا إليه السيوطي ذلك الحديث الذي ادعى أنه ظهر له تخريج عمل المولد عليه وقد أساء السيوطي التصرف حيث لم يذكر كلام البيهقي في الحديث بل تركه ليوهم من يقرأ تخريجه أنه صالح للاستدلال به.
وقال ابن القيم - رحمه الله - في "تحفة المودود بأحكام المولود" (ص57):(قال أحمد: عبدالله بن المحرر عن قتادة عن أنس: { أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - عقَّ عن نفسه } ، منكر، وضعف عبدالله بن محرر.(45/30)
وفي "مصنف عبدالرزاق" أنبأنا عبدالله بن محرر عن قتادة عن أنس، انَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - عقَّ عن نفسه بعد النبوة، قال عبدالرزاق: إنما تركوا ابن محرر لهذا الحديث) انتهى كلام ابن القيم باختصار.
وقال الزرقاني في "شرح المواهب اللدنية" (1/140) تعليقاً على قول السيوطي السابق:
(تعقبه النجم بأنه حديث منكر كما قاله الحافظ بل قال - أي النووي - في "شرح المهذب"
(إنه حديث باطل) فالتخريج عليه ساقط) انتهى كلام الزرقاني.
كما ضعف هذا الحديث الإمام مالك كما في (كتاب العقيقة) من "المقدمات الممهدات لبيان ما اقتضته رسوم المدونة من الأحكام" لابن رشد (2/15).
كما ضعف راويه عبدالله بن محرر ابن حبان في "كتاب المجروحين" (2/29))(1).
ثانياً:(هل ثبت أن العقيقة كانت مشروعة لأهل الجاهلية وهم يعملون بها حتى نقول إن عبدالمطلب قد عق عن ابن ولده؟
وهل أعمال أهل الجاهلية يعتد بها في الإسلام؟ حتى نقول إذا عق النبي - صلى الله عليه وسلم - عن نفسه شكراً لا قياماً بسنة العقيقة، إذا قد عق عنه؟
سبحان الله ما أعجب هذا الاستدلال وما أغربه، وهل إذا ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ذبح شاة
شكراً لله تعالى على نعمة إيجاده وإمداده يلزم من ذلك اتخاذ يوم ولادته - صلى الله عليه وسلم - عيداً للناس؟
و لما لم يدعُ إلى ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويبين للناس ماذا يجب عليهم فيه من أقوال وأعمال؟
كما بين ذلك في عيدي الفطر والأضحى.
أنسي ذلك أم كتمه، وهو المأمور بالبلاغ؟
سبحانك اللهم إن رسولك - صلى الله عليه وسلم - ما نسي ولا كتم ولكن الإنسان كان أكثر شيء جدلاً)(2).
* * *
__________
(1) :"القول الفصل"(ص80-84) بتصرف.
(2) :"الإنصاف فيما قيل في المولد"(ص61 –62) .(45/31)
الشبهة التاسعة: ان جبريل عليه السلام طلب ليلة الإسراء والمعراج من النبي- صلى الله عليه وسلم -، أن يصلي ركعتين ببيت لحم، ثم قال:(أتدري أين صليت؟ صليت ببيت لحم حيث ولد عيسى عليه السلام).
استدل به محمد علوي المالكي في "حول الاحتفال" (ص14-15).
الجواب:
أولاً: قال العلامة الأنصاري - رحمه الله - في "القول الفصل" (ص138-145):(إن أمر جبريل عليه السلام الرسول - صلى الله عليه وسلم - بذلك ورد من رواية شداد ابن أوس وانس بن مالك وأبي هريرة رضي الله عنهم لقصة الإسراء لكنه مستنكر كما يتبين فيما يلي:
أ- أما رواية شداد بن أوس - رضي الله عنه - فقد قال الإمام الترمذي: حدثنا إسحاق بن
إبراهيم بن العلاء بن الضحاك الزبيدي حدثنا عمرو بن الحارث عن عبدالله بن سالم الأشعري عن محمد بن الوليد بن عامر الزبيدي حدثنا أبو الوليد بن عبد الرحمن عن جبير بن نفير حدثنا شداد بن أوس قال: قلنا: يا رسول الله كيف أسري بك قال:( … (فذكر فيه) ثم بلغنا أرضا بدت لنا قصور فقال (أي جبريل عليه السلام): انزل فنزلت فقال صل. فصليت ثم ركبنا فقال أتدري أين صليت؟ قلت: الله أعلم. قال: صليت ببيت لحم حيث ولد عيسى بن مريم …) الخ.
ومن طريق الترمذي هذا بسنده ومتنه روى البيهقي هذه الرواية كما بينه ابن كثير في تفسيره وهذه الرواية تكلم فيها الحافظان الذهبي وابن كثير متعقبين بكلامهما قول البيهقي في
إسنادها (هذا إسناد صحيح).
فقد قال الحافظ الذهبي في "تاريخ الإسلام" (1/142) بعد إيراد كلام البيهقي هذا في
إسنادها:(قلت: ابن زبريق - أي إسحاق بن إبراهيم بن العلاء الزبيدي - تكلم فيه النسائي) اهـ.
وقال في ترجمته من "ميزان الاعتدال" (1/181) إن النسائي قال ليس بثقة ثم قال
أبو داود ليس بشيء وكذبه محدث حمص محمد ابن عوف الطائي.
تعقب الذهبي بهذا قول أبي حاتم في ابن زبريق:(لا بأس به سمعت ابن معين يثني عليه).(45/32)
وقال الحافظ ابن كثير في تفسيره لسورة الإسراء بعد إيراده حديث شداد بن أوس هذا من طريق الترمذي:(رواه البيهقي من طريقين عن أبي إسماعيل الترمذي به) ثم قال بعد تمامه: (هذا إسناد صحيح قال وقد روى هذا الحديث عن شداد بن أوس بطوله الإمام أبو محمد
عبد الرحمن بن أبي حاتم في تفسيره عن أبيه عن إسحاق بن إبراهيم بن العلاء الزبيدي به)
ذكر ابن كثير هذا كله ثم قال:(ولا شك أن هذا الحديث أعني الحديث المروي عن شداد بن أوس مشتمل على أشياء منها ما هو صحيح كما ذكره البيهقي ومنها ما هو منكر كالصلاة في بيت لحم وسؤال الصديق عن نعت بيت المقدس وغير ذلك والله أعلم) اهـ.
وأما رواية أنس - رضي الله عنه - لهذا الحديث فعند النسائي في كتاب الصلاة تحت عنوان فرض الصلاة في (1/221) من "المجتبى" قال:(اخبرنا عمرو ابن هشام قال حدثنا مخلد هو ابن الحسين عن سعيد بن عبدالعزيز قال حدثنا يزيد ابن أبي مالك قال حدثنا أنس بن مالك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:(ثم ذكر الحديث وفيه):(ثم قال: نزل فصل فنزلت فصليت فقال أتدري أين صليت؟ صليت ببت لحم حيث ولد عيسى عليه السلام …) الخ.
ومن طريق "المجتبى"للنسائي هذا أورد ابن كثير هذه الرواية في "تفسيره" (3/6) ضمن أحاديث الإسراء وقال في (ص5):(فيها غرابة ونكارة جداً).
وقال في "الفصول في اختصار سيرة الرسول" في حديث انس هذا الذي رواه النسائي في "المجتبى":(غريب منكر جداً وإسناده مقارب وفي الأحاديث الصحيحة ما يدل على نكارته والله أعلم) اهـ.(45/33)
وأما رواية أبي هريرة - رضي الله عنه - لهذا الحديث فعند ابن حبان في "المجروحين" (1/187-188) في ترجمة بكر بن زياد الباهلي قال أبو حاتم بن حبان بعد أن ذكر أنه شيخ دجال يضع الحديث على الثقات لا يحل ذكره في الكتب الا على سبيل القدح فيه قال:(روى أي - بكر بن زياد الباهلي - بكر بن زياد عن عبدالله بن المبارك عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن زرارة بن أوفى عن أبي هريرة (ثم ذكر الحديث) وهذا شيء لا يشك عوام أصحاب الحديث أنه موضوع فكيف البُزَّل في هذا الشأن) انتهى كلام ابن حبان.
وقد تلقى كلام ابن حبان في بكر بن زياد الباهلي هذا ابن الجوزي في "الموضوعات"
(1/ 113-114)، والسبكي في "شفاء السقام"(ص133)، والذهبي في "ميزان الاعتدال"
(1/345)، والشوكاني في "الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة" (ص441).
وقال ابن كثير في "الفصول في اختصار سيرة الرسول" (ص122) بعد أن ذكر حديث انس
المتقدم وذكر انه غريب منكر جداً قال:(وكذلك الحديث الذي تفرد به بكر بن زياد الباهلي المتروك عن عبدالله بن المبارك عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن زرارة بن أوفى عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: { ليلة أسري بي قال جبريل هذا قبر أبيك إبراهيم انزل
فصل فيه } لا يثبت أيضا لحال بكر بن زياد المذكور) اهـ.
وقال شيخ الاسلام ابن تيمية في "تفسير سورة الإخلاص" (ص169):(الذي يرويه بعضهم في حديث الإسراء أنه قيل للنبي - صلى الله عليه وسلم - هذه طيبة انزل فصل فنزل فصلى هذا مكان أبيك انزل فصل كذب موضوع؛ لم يصل النبي - صلى الله عليه وسلم - تلك الليلة الا في المسجد الأقصى خاصة كما ثبت ذلك في الصحيح ولا نزل إلا فيه) اهـ.
وقال ابن القيم في"زاد المعاد" :(قد قيل انه - أي النبي - صلى الله عليه وسلم - - نزل ببيت لحم و صلى فيه
ولم يصح ذلك عنه ألبته) اهـ.(45/34)
هذا كلام أولئك العلماء في روايات أمر جبريل عليه السلام النبي - صلى الله عليه وسلم - وبه يتضح بطلان
دعوى الحافظ ابن حجر في "لسان الميزان"(2/50-51):(ان الموضوع من حديث بكر بن زياد هو من قوله ( ثم أتى الصخرة) وأما باقيه فقد جاء في طريق أخرى فيها الصلاة ببيت لحم وردت من حديث شداد بن أوس) اهـ) انتهى كلام العلامة الأنصاري رحمه الله بتصرف.
وقال الشيخ حمود التويجري - رحمه الله - عن رواية انس - رضي الله عنه - لهذا الحديث "الرد القوي" (ص86):(رواه النسائي في سننه عن عمرو بن هشام عن مخلد - وهو ابن يزيد القرشي - عن سعيد بن عبدالعزيز عن يزيد بن أبي مالك عن انس بن مالك رضي الله عنه، وقد قال الحافظ ابن حجر في كل من يزيد ومخلد أنه صدوق له أوهام.
وقال الذهبي في "الميزان" يزيد بن أبي مالك صاحب تدليس وإرسال عمن لم يدرك، وقال يعقوب الفسوي يزيد بن أبي مالك فيه لين، وقال الذهبي أيضا في ترجمة مخلد بن يزيد القرشي صدوق مشهور روى حديثا في الصلاة مرسلا فوصله قال أبو داود مخلد شيخ إنما رواه
الناس مرسلاً وقال الحافظ ابن حجر في ترجمة مخلد بن يزيد القرشي من "تهذيب التهذيب"
قال الأثرم عن أحمد لا بأس به وكان يهم وقال الساجي: كان يهم ثم ذكر ابن حجر من أوهامه حديثاً وصله وهو مرسل.
وهذا مما يدعو إلى التوقف في قبول الحديث لأنه يحتمل أن يكون قد وقع فيه وهم من أحد الرجلين.ولهذا قال الحافظ ابن كثير إن فيه غرابة ونكارة جداً) اهـ.
ثانياً:(روى الإمام أحمد وأبو داود الطيالسي بإسناد صحيح عن حذيفة بن اليمان
رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: { أتيت بالبراق وهو دابة أبيض فوق الحمار ودون البغل فلم نزايل ظهره أنا وجبريل حتى انتهينا إلى بيت المقدس } الحديث وقد رواه الترمذي وقال:(هذا حديث حسن صحيح) وصححه أيضا ابن حبان والحاكم والذهبي.(45/35)
وفي قوله - صلى الله عليه وسلم - : { فلم نزايل ظهره أنا وجبريل حتى انتهينا إلى بيت المقدس } أبلغ رد على ما جاء في حديث انس وشداد بن أوس وأبي هريرة رضي الله عنهم، ولو ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى ليلة الإسراء وهو ذاهب إلى بيت المقدس في بيت لحم لم يكن في ذلك ما يؤيد بدعة المولد ولا غيرها من البدع، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يأمر أمته بتعظيم بيت لحم ولم يأمرهم بالصلاة فيه ولم يكن أحد من الصحابة رضي الله عنهم يعظم بيت لحم ويصلي فيه.
والخير كل الخير في اتباع ما كان عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه رضي الله عنهم، والشر كل
الشر في مخالفتهم والأخذ بالبدع وتعظيمها وتعظيم أهلها وإطراح الأحاديث الصحيحة في ذم
المحدثات والتحذير منها)(1).
الشبهة العاشرة: أن شعراء الصحابة كانوا يقولون قصائد المدح في الرسول - صلى الله عليه وسلم - مثل كعب بن زهير وحسان بن ثابت؛ فكان يرضى عملهم؛ ويكافئهم على ذلك بالصلات والطيبات.
استدل بهذا هاشم الرفاعي في مقاله كما في " الرد القوي" (ص78) للتويجري، واستدل به أيضاً الحميري في "بلوغ المأمول" (ص49-52).
الجواب:
(لم يذكر عن أحد من شعراء الصحابة رضي الله عنهم، أنه كان يتقرب إلى الله بإنشاد القصائد في ليلة المولد وإنما كان إنشادهم في الغالب عند وقوع الفتوح والظفر بالأعداء، وعلى هذا فليس إنشاد كعب بن زهير وحسان بن ثابت وغيرهما من شعراء الصحابة رضي الله عنهم بين يدي النبي - صلى الله عليه وسلم - ما يتعلق به الرفاعي وغيره في تأييد بدعة المولد)(2).
* * *
الشبهة الحادية عشر: أن الموالد اجتماع ذكر وصدقة ومدح وتعظيم للجناب النبوي وهذه أمور مطلوبة شرعاً وممدوحة وجاءت الآثار الصحيحة بها وبالحث عليها.
الجواب:
أولاً: يفهم الجواب مما سبق (ص11-16).
__________
(1) :"الرد القوي" (ص87-88).
(2) :"الرد القوي" (ص79) بتصرف.(45/36)
ثانياً: قال العلامة إسماعيل الأنصاري - رحمه الله - في "القول الفصل":(الجواب عن هذه الشبهة بأمور أحدها: ما أوضحه السيد رشيد رضا في الجزء الخامس من "الفتاوى" وهو أن الإنكار على إقامة المولد وإن كان يحتوي على بعض الأمور المشروعة يرجع إلى ذلك الاجتماع المخصوص بتلك الهيئة المخصوصة في الوقت المخصوص وإلى اعتبار ذلك العمل من شعائر الإسلام التي لا تثبت إلا بنص الشارع بحيث يظن العوام والجاهلون بالسنن أن عمل المولد من أعمال القرب المطلوبة شرعاً.
وعمل المولد بهذه القيود بدعة سيئة وجناية على دين الله وزيادة فيه تعد من شرع
ما لم يأذن به الله ومن الافتراء على الله والقول في دينه بغير علم.
قال العلامة ابن الحاج - رحمه الله - في "المدخل"(2/312):(فإن خلا - أي عمل المولد - منه - أي من السماع - وعمل طعاماً فقط، ونوى به المولد ودعا إليه الاخوان، وسلم من كل ما تقدم ذكره - أي من المفاسد- فهو بدعة بنفس نيته فقط، إذ إن ذلك زيادة في الدين ليس من عمل السلف الماضين، وإتباع السلف أولى بل أوجب من أن يزيد نية مخالفة لما كانوا عليه، لأنهم أشد الناس اتباعاً لسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وتعظيما له ولسنته - صلى الله عليه وسلم -، ولهم قدم السبق في المبادرة إلى ذلك، ولم ينقل عن أحد منهم أنه نوى المولد، ونحن لهم تبع، فيسعنا
ما وسعهم...الخ).
وقال أيضاً فيمن اقتصر في عمل المولد على إطعام الاخوان ليس إلا ونوى بذلك المولد:(45/37)
(هذا - أي قراءة البخاري عوضاً عن تلك الأعمال بنية المولد- وإن كانت قراءة الحديث في نفسها من أكبر القرب والعبادات وفيها البركة العظيمة والخير الكثير لكن إذا فعل ذلك بشرطه اللائق به على الوجه الشرعي كما ينبغي لا بنية المولد ألا ترى أن الصلاة من أعظم القرب إلى الله تعالى ومع ذلك فلو فعلها إنسان في غير الوقت المشروع لها لكان مذموماً مخالفاً فإذا كانت الصلاة بهذه المثابة فما بالك بغيرها)) انتهى النقل عن"القول الفصل" باختصار.
فالأعمال الصالحة لا تقبل إلا بشرطين كما قال أهل العلم: الإخلاص ومتابعة الرسول - صلى الله عليه وسلم -.
* * *
الشبهة الثانية عشر: أن الاحتفال بالمولد النبوي أمر استحسنه العلماء وجرى به العمل في كل صقع فهو مطلوب شرعاً للقاعدة المأخوذة من أثر ابن مسعود رضي الله عنه:(ما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن وما رآه المسلمون قبيحاً فهو عند الله قبيح).
ورد الاستدلال بهذا في رسالة محمد بن علوي المالكي "حول الاحتفال" (ص15).
كما يورد البعض أقوال لبعض أهل العلم صرحوا فيها بجواز الاحتفال بالمولد!
الجواب:
أولاً: أن المقصود بقول ابن مسعود - رضي الله عنه - الصحابة لأنه قال هذا القول استدلالاً على إجماع الصحابة على اختيار أبىبكر الصديق - رضي الله عنه - للخلافة.
ومن توسع في الاستدلال بهذا الأثر قصد به الإجماع، (فقد بوب له جماعةٌ من أهل الحديث في "باب الإجماع" ، كما في "كشف الأستار عن زوائد البزار" (1/81)، و "مجمع الزوائد" (1/177)، وغيرهما.
واستدل به كثير من العلماء على الإجماع:
قال ابن كثير: "وهذا الأثر فيه حكايةُ إجماعٍ عن الصحابة في تقديم الصديق، والأمر كما قاله ابن مسعودٍ".
وقال ابن القيم في "الفروسية" (ص60) بعد إيراده، رداً على المستدلين به: "في هذا الأثر دليل على أن ما أجمع عليه المسلمون ورأوه حسناً؛ فهو عند الله حسن، لا ما رآه بعضهم! فهو حجة عليكم".(45/38)
وقال ابن قدامة في "روضة الناظر"(ص86): " الخبر دليل على أن الإجماع حجة،
ولا خلف فيه".
وقال الشاطبي في "الاعتصام" (2/655):(إن ظاهره يدل على أن ما رآه المسلمون بجملتهم حسناً؛ فهو حسنٌ، والأمة لا تجتمع على باطلٍ، فاجتماعهم على حسن شيءٍ يدل على حسنه شرعاً؛ لأن الإجماع يتضمن دليلاً شرعياً")(1).
وقال الإمام ابن حزم في "الإحكام في أصول الأحكام" (6/197): بعد أن ذكر أثر ابن مسعود رضي الله عنه:( فهذا هو الإجماع الذي لا يجوز خلافه لو تيقن، وليس ما رآه بعض المسلمين أولى بالاتباع مما رآه غيرهم من المسلمين، ولو كان ذلك لكنا مأمورين بالشيء وضده، وبفعل شيء وتركه معاً، وهذا محال لا سبيل إليه) اهـ.
وقال العز بن عبد السلام في"فتاوى العز بن عبد السلام"(ص379): "إن صح الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فالمراد بالمسلمين أهل الإجماع" اهـ.
ثانياً: قال الإمام ابن تيمية في "اقتضاء الصراط المستقيم" (2/613- 614) في كلامه على المواسم المبتدعة من موالد وغيرها:(إذا فعلها قوم ذوو فضل ودين فقد تركها في زمان هؤلاء، معتقداً لكراهتها، وأنكرها قوم إن لم يكونوا أفضل ممن فعلها؛ فليسوا دونهم. ولو كانوا دونهم في الفضل فقد تنازع فيها أولو الأمر، فترد إلى الله والرسول.وكتاب الله وسنة رسوله مع من كرهها، لا مع من رخص فيها.
ثم عامة المتقدمين، الذين هم أفضل من المتأخرين؛ مع هؤلاء) اهـ.
ثالثاً: قال العلامة ابن منيع - حفظه الله - في "حوار مع المالكي" (ص90):(نقول للمالكي وأمثاله من أول من استحسن المولد من العلماء، هل هم أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟
قطعاً: لا..
هل هم التابعون؟
قطعاً: لا..
هل هم تابعو التابعين؟
قطعاً: لا...
هل هم قادة القرامطة والفاطميين والرافضة بمختلف طوائفهم ونحلهم؟
اللهم: نعم..
هل هم أهل الطرق الصوفية؟
__________
(1) :"علم أصول البدع" لعلي الحلبي (ص131-133) بتصرف.(45/39)
اللهم: نعم) انتهى كلامه بتصرف.
(فهل نقبل أمرا أتى به شر من وطأ الحصا، القرامطة والفاطميون وغيرهم، ممن يشهد التاريخ الإسلامي بتدنيسهم محيا الإسلام، ونترك ما عليه أصحاب القرون الثلاثة المفضلة، من صحابة وتابعين وعلماء إجلاء، لهم أقداحهم المعلاة في العلم والتقى، والصلاح والاستقامة وسلامة المعتقد، ودقة النظر وصدق الاتباع والاقتداء بمن أمرنا الله تعالى أن نجعله أسوة لنا وقدوة لمسالكنا وهو رسولنا وحبيبنا ونبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -)(1).
* * *
الشبهة الثالثة عشر: دعوى تلقي الأوامر النبوية بالاحتفال بذلك اليوم في المنام!
فقد ورد في مقدمة مولد محمد عثمان الميرغني المسمى" الأسرار الربانية"(ص7):
(رأيت في تلك الليلة النبي - صلى الله عليه وسلم -رؤية مناميه، ورؤيته حق كما أورد عنه ثقات الرواة بطرق الإحصان، فأمرني أن أصنف مولداً وأجعل إحدى قافيتيه هآءً بهية، والأخرى نوناً كما فعلت لأنها نصف دائرة الأكوان وبشرني أنه يحضر في قراءته إذا قرىء فسطرت ليتشرف به كلما تلي حكاية نوميه وأنه يستجاب الدعاء عند ذكر الولادة وعند الفراغ منه فنسأل الله الغفران) انتهى.
الجواب:
(أن الاعتماد على دعوى تلقي أوامر نبوية في المنام بالاحتفال بالمولد النبوي فلا يعتبر لأن الرؤيا في المنام لا تثبت بها سنة لم تثبت ولا تبطل بها سنة ثبتت كما بينه أهل العلم.
فقد قال الإمام النووي في شرح قول مسلم في "الكشف عن معايب رواة الحديث" من "صحيحه " (1/115):(لا يجوز إثبات حكم شرعي به - أي بالرؤيا المناميه - لأن حالة النوم ليست حالة ضبط وتحقيق لما يسمعه الرائي وقد اتفقوا على أن من شرط من تقبل روايته وشهادته أن يكون متيقظاً لا مغفلاً، ولا سيئ الحفظ ولا كثير الخطأ ولا مختل الضبط والنائم ليس بهذه الصفة فلم تقبل روايته لاختلال ضبطه.
هذا كله في منام يتعلق بإثبات حكم على خلاف مايحكم به الولاة.
__________
(1) :"حوار مع المالكي" (ص57).(45/40)
أما إذا رأى النبي - صلى الله عليه وسلم -يأمره بفعل ما هو مندوب إليه أو ينهاه عن منهي عنه أو يرشده إلى
فعل مصلحة فلا خلاف في استحباب العمل على وفقه لأن ذلك ليس حكماً بمجرد المنام
بل بما تقرر من أصل ذلك الشيء والله أعلم) اهـ.
وقال ابن الحاج في "المدخل" (4/302–304):(ليحذر مما يقع لبعض الناس في هذا الزمان وهو أن من يرى النبي - صلى الله عليه وسلم -في منامه فيأمره بشيء أو ينهاه عن شيء ينتبه من نومه فيقدم على فعله أو تركه بمجرد المنام دون أن يعرضه على كتاب الله وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعلى قواعد السلف رضي الله عنهم قال تعالى في كتابه العزيز: { فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ } ]النساء:59[.
ومعنى قوله: { فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ } أي إلى كتاب الله تعالى، ومعنى قوله: { وَالرَّسُول } أي إلى الرسول في حياته وإلى سنته بعد وفاته على ما قاله العلماء رحمة الله عليهم وإن كانت رؤيا النبي - صلى الله عليه وسلم - حقا لا شك فيها لقوله - صلى الله عليه وسلم -: { ومن رآني في المنام فقد رآني، فإن الشيطان لا يتمثل في صورتي } على اختلاف الروايات، لكن لم يكلف الله تعالى عباده بشيء مما يقع لهم في منامهم؛ قال - صلى الله عليه وسلم -: { رفع القلم عن ثلاثة } وعد منهم { النائم حتى يستيقظ } لأنه إذا كان نائماً فليس من أهل التكليف فلا يعمل بشيء يراه في نومه.
هذا وجه؛ ووجه ثان وهو أن العلم والرواية لا يوخذان إلا من متيقظ حاضر العقل والنائم ليس كذلك.(45/41)
ووجه ثالث: وهو أن العمل بالمنام مخالف لقول صاحب الشريعة صلوات الله عليه وسلامه حيث قال: { تركت فيكم الثقلين لن تضلوا ما تمسكتم بهما كتاب الله و سنتي } فجعل - صلى الله عليه وسلم - النجاة من الضلالة في التمسك بهذين الثقلين فقط لا ثالث لهما.ومن اعتمد على ما يراه في نومه فقد زاد لهما ثالث فعلى هذا من رأى النبي - صلى الله عليه وسلم -في منامه وأمره بشيء أو نهاه عن شيء
فيتعين عليه عرض ذلك على الكتاب والسنة إذ إنه - صلى الله عليه وسلم -إنما كلف أمته باتباعهما وقد قال
- صلى الله عليه وسلم -: { فيبلغ الشاهد الغائب } إلى ان قال:(فإذا عرضها على شريعته - صلى الله عليه وسلم - فإن وافقتها علم أن الرؤيا حق وأن الكلام حق وتبقى الرؤيا تأنيساً له وإن خالفتها علم ان الرؤيا حق وأن الكلام الذي وقع له فيها ألقاه الشيطان له في ذهنه والنفس الأمارة لأنهما يوسوسان له في حال يقظته فكيف في حال نومه … الخ).
وقال الإمام الشاطبي في "الاعتصام" (1/ 209):(الرؤيا من غير الأنبياء لا يحكم بها شرعاً على حال إلا أن تعرض على ما في أيدينا من الأحكام الشرعية فإن سوغتها عمل بمقتضاها وإلا وجب تركها والإعراض عنها وإنما فائدتها البشارة أو النذارة خاصة وأما استفادة الأحكام فلا) اهـ.
وقال الإمام ابن كثير في " البداية والنهاية" (1/94) تعليقاً على ما ذكره الحافظ ابن عساكر في ترجمة أحمد بن كثير أنه رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبابكر وعمر وهابيل واستحلف هابيل أن هذا(45/42)
- أي الدم الموجود بالمكان الذي يقال - بأنه هو الذي قتل فيه قابيل أخاه هابيل المسمى بمغارة الدم بدمشق - دمه - أي هابيل - فحلف له وذكر أنه سأل الله تعالى أن يجعل هذا المكان يستجاب عنده الدعاء فأجابه إلى ذلك وصدقه في ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال إنه وأبا بكر وعمر يزورون هذا المكان في كل يوم خميس) قال ابن كثير تعليقاً على ذلك ما نصه: (هذا منام لو صح عن أحمد بن كثير هذا لم يترتب عليه حكم شرعي) اهـ)(1).
وقد نقلت فيما سبق أثناء الرد على من استدل بقصة تخفيف العذاب عن أبي لهب
الضعيفة كلاماً لعلوي بن عباس المالكي- والد محمد المالكي- في "نفحات الإسلام من البلد الحرام"والذي جمع مواضيعه ورتبه محمد بن علوي المالكي نفسه (ص164-165) حول عدم شرعية أخذ الأحكام من المنامات.
* * *
الشبهة الرابعة عشر: قول السخاوي رحمه الله في "التبر المسبوك" (ص14):(إذا كان أهل الصليب اتخذوا ليلة مولد نبيهم عيداً أكبر فأهل الإسلام أولى بالتكريم وأجدر).
استدل بهذا القول هاشم الرفاعي في مقاله كما في"الرد القوي" للتويجري (ص25).
الجواب:
(لا شك أن الاحتفال بالمولد النبوي واتخاذه عيداً مبني على التشبه بالنصارى في اتخاذهم مولد المسيح عيداً.
وهذا مصداق ما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: { لتتبعن سنن من كان قبلكم شبراً بشبر
وذراعاً بذراع، حتى لو سلكوا جحر ضب لسلكتموه.قلنا: يارسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟ } رواه البخاري ومسلم وأحمد.
وإذا عُلم أن عيد المولد مبني على التشبه بالنصارى فليُعلم أيضاً أن التشبه بالنصارى وغيرهم من المشركين حرام شديد التحريم لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: { من تشبه بقوم فهو منهم } رواه أحمد وأبو داود)(2).
وقد تعقب هذا القول الملا علي القارئ في "المورد الروي في المولد النبوي" ( ص16) بقوله:
__________
(1) :"القول الفصل" (ص)باختصار.
(2) :"الرد القوي" (ص25-26) باختصار.(45/43)
(قلت لكن يرد عليه أنا مأمورون بمخالفة أهل الكتاب).
* * *
الشبهة الخامسة عشر: أن الاحتفال بالمولد يعتبر إحياء لذكرى الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهذا مشروع في الإسلام.
استدل بذلك محمد بن علوي المالكي في "حول الاحتفال بالمولد" (ص20) حيث قال:
(إن الاحتفال بالمولد إحياء لذكرى المصطفى - صلى الله عليه وسلم - وذلك مشروع عندنا في الإسلام، فأنت ترى أن أكثر أعمال الحج إنما هي إحياء لذكريات مشهودة ومواقف محمودة... الخ).
الجواب:
أولاً:(النبي - صلى الله عليه وسلم -قد قال الله في حقه: { وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ } ]الشرح:4[ فذكره مرفوع في الأذان والإقامة والخطب والصلوات وفي التشهد والصلاة عليه وفي قراءة الحديث واتباع
ماجاء به، فهو أجل من أن تكون ذكراه سنوية فقط، ولكن الأمر كما قال السيد رشيد رضا في كتابه "ذكرى المولد النبوي" قال - أي السيد رشيد رضا-:(إن من طباع البشر أن يبالغوا في مظاهر تعظيم أئمة الدين أو الدنيا في طور ضعفهم - أي البشر - في أمر الدين أو الدنيا؛ لأن هذا التعظيم لا مشقة فيه على النفس، فيجعلونه بدلاً مما يجب عليهم من الأعمال الشاقة التي يقوم بها أمر الدين أو الدنيا، و إنما التعظيم الحقيقي بطاعة المعظم، والنصح له، والقيام بالأعمال التي يقوم بها أمره ويعتز دينه إن كان رسولاً، وملكه إن كان ملكاً.
وقد كان السلف الصالح أشد ممن بعدهم تعظيما للنبي - صلى الله عليه وسلم - ثم للخلفاء، وناهيك ببذل أموالهم وأنفسهم في هذا السبيل، ولكنهم دون أهل هذه القرون التي ضاع فيها الدين في مظاهر التعظيم اللساني، ولا شك أن الرسول الأعظم - صلى الله عليه وسلم - أحق الخلق بكل تعظيم، وليس من
التعظيم الحق له أن نبتدع في دينه بزيادة أو نقص أو تبديل أو تغيير لأجل تعظيمه به، وحسن
النية لا يبيح الابتداع في الدين فقد كان جل ما أحدث أهل الملل قبلنا من التغيير في دينهم(45/44)
عن حسن نية، ومازالوا يبتدعون بقصد التعظيم وحسن النية حتى صارت أديانهم غير
ما جاءت به رسلهم، ولو تساهل سلفنا الصالح كما تساهلوا، وكما تساهل الخلف الذين اتبعوا سننهم شبراً بشبر وذراعاً بذراع لضاع أصل ديننا أيضاً، ولكن السلف الصالح
حفظوا لنا الأصل فالواجب علينا أن نرجع إليه، ونعض عليه بالنواجذ) اهـ.
هذا مع أن الاحتفال بالمولد النبوي إذا كان بطريق القياس على الاحتفالات بالرؤساء صار
النبي - صلى الله عليه وسلم - ملحقاً بغيره وهذا ما لا يرضاه عاقل)(1).
ثانياً:(ما زعمه المالكي وغيره من أن الاجتماع في المولد لإحياء ذكرى المصطفى - صلى الله عليه وسلم -، أمر مشروع في الإسلام فهو من التقوّل على الله وعلى رسوله - صلى الله عليه وسلم -، فإن الله تعالى لم يشرع الاجتماع لإحياء ذكرى المصطفى - صلى الله عليه وسلم - لا في يوم المولد ولا في غيره من الأيام، ولم يشرع ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا بقوله ولا بفعله)(2).
ثالثاً:(من أكبر الخطأ أيضاً زعم ابن علوي وغيره أن أعمال الحج هي إحياء لذكريات مشهودة إلى آخر كلامه الذي تقدم ذكره.
وهذا الخطأ مردود بقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: { إنما جعل الطواف بالبيت وبين الصفا والمروة
ورمي الحجار لإقامة ذكر الله } رواه أبو داود و الترمذي و قال الترمذي حديث حسن
صحيح)(3) .
الفصل الخامس:
القيام عند ذكر ولادته - صلى الله عليه وسلم - وزعمهم أنه يخروج إلى الدنيا
أثناء قراءة قصص المولد
(حثت القصص التي تقرأ بمناسبة الاحتفال بالمولد على القيام عند ذكر ولادة النبي - صلى الله عليه وسلم -
وخروجه إلى الدنيا ومما جاء فيها من ذلك ما يلي:
__________
(1) :"حكم الاحتفال بالمولد النبوي والرد على من أجازه" للشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ رحمه الله (ص29-30).
(2) :"الرد القوي" (ص101). (3): المصدر السابق (103).(45/45)
1- قال البرزنجي في "مولده" (ص77):(قد استحسن القيام عند ذكر مولده الشريف أئمة ذوو رِواية و روية فطوبى لمن كان تعظيمه - صلى الله عليه وسلم - غاية مرامه ومرماه).
2 - قال الشيخ محمد بن محمد العزب في "مولده"(ص11):
ولذكر مولده يسن قيامنا أدباً لدى أهل العلوم تأكدا
وقد ذكر في توجيه ذلك عدة أشياء:
أحدها: أنه للترحيب بالنبي - صلى الله عليه وسلم - الذي يعتقد أولئك القائمون أنه يحضر بجسده الشريف
مجلس الاحتفال بالمولد وقد يوضع له البخور والطيب في ذلك المجلس على أساس أنه يتطيب ويتبخر كما يوضع له الماء على أساس أنه يشرب منه.
الثاني: أن القيام الذي يقع هو لحضور روح النبي - صلى الله عليه وسلم - في تلك اللحظة وهذا هو الذي اختاره محمد بن علوي المالكي في "حول الاحتفال بالمولد" بعد جزمه بأن القول بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - يحضر المولد بجسده الشريف باطل فقد قال (ص26):(إننا نعتقد أنه - صلى الله عليه وسلم - حي حياة برزخية كاملة لائقة بمقامه، وبمقتضى تلك الحياة الكاملة العليا تكون روحه جوالة سياحة في ملكوت الله
سبحانه وتعالى ويمكن أن تحضر مجالس الخير ومشاهد النور والعلم وكذلك أرواح خلص
المؤمنين من أتباعه، وقد قال مالك: بلغني أن الروح مرسلة تذهب حيث شاءت، وقال سلمان الفارسي: أرواح المؤمنين في برزخ من الأرض تذهب حيث شاءت كذا في "الروح" لابن القيم (ص144)).
الثالث: أن ذلك القيام لتشخيص ذات النبي - صلى الله عليه وسلم -.
جاء ذلك في نظم "مولد البرزنجي" ونصه:
وقد سن أهل العلم والفضل والتقى قياماً على الأقدام مع حسن إمعان
بتشخيص ذات المصطفى وهو حاضر بأي مقام فيه يذكر بل داني(45/46)
وفي تفسير ذلك التشخيص يقول محمد بن علوي المالكي في"حول الاحتفال بالمولد"(ص30-31):(فالناس يقومون احتراماً وتقديراً لهذا التصور الواقع في نفوسهم عن شخصية ذلك الرسول العظيم مستشعرين جلال الموقف وعظمة المقام هو أمر عادي كما تقدم ويكون استحضار الذاكر ذلك موجباً لزيادة تعظيمه - صلى الله عليه وسلم -).
الرابع: أن ذلك القيام هو لتعظيم النبي - صلى الله عليه وسلم -.
ذكر ذلك بعض الموجهين لذلك القيام من دون بيان، وقد وصل الأمر ببعض القائلين بهذا إلى تكفير تارك القيام كما بينه محمد علي بن حسين المالكي في "تهذيب الفروق والقواعد السنية في الأسرار الفقهية" (4/277) حيث ذكر أن المولى أبا السعود قال:(إنه - أي القيام عند ذكر مولد النبي - صلى الله عليه وسلم - - في تلك القصص قد اشتهر في تعظيمه - صلى الله عليه وسلم - واعتيد في ذلك فعدم
فعله يوجب عدم الاكتراث بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وامتهانه فيكون كفراً مخالفاً لوجوب تعظيمه - صلى الله عليه وسلم -).
ولم يتعقب محمد علي بن حسين المالكي ذلك إلا بقوله:(أي ان لاحظ من لم يفعله تحقيره - صلى الله عليه وسلم -
بذلك وإلا فهو معصية) اهـ.
ومن الواضح أن تعظيم النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما يكون بما شرع تعظيمه به وهذا القيام غير مشروع.
الخامس: أن ذلك القيام مقيس على القيام الذي وقع من الشيخ علي بن عبد الكافي السبكي حينما سمع قول الصرصري في قصيدته التي أولها:
قليل لمدح المصطفى الخط بالذهب.
قوله: وأن ينهض الأشراف عند سماعه.
وقد ذكر قصته ابنه التاج أبو نصر عبد الوهاب في ترجمة والده من كتابه "طبقات الشافعية الكبرى" (6/174) حيث قال:(حضر- أي والده- مرة ختمة بالجامع الأموي! وحضرت القضاة وأعيان البلد بين يديه وهو جالس في محراب الصحابة فأنشد المنشد قصيدة الصرصري التي أولها:قليل لمدح المصطفى الخط بالذهب.(45/47)
فلما قال: وأن ينهض الأشراف عند سماعه.. البيت؛ حصلت للشيخ حالة وقام واقفاً للحال فاحتاج الناس كلهم أن يقوموا فقاموا أجمعون)، وممن ذكر هذا التوجيه أحمد زيني دحلان في "السيرة النبوية والآثار المحمدية" (1/45) وعلي بن برهان الحلبي في "السيرة الحلبية" (1/100).
هذه المسالك التي ذكرها أولئك في توجيه ذلك القيام بعد استعراضها نجيب عن كل مسلك منها فنقول وبالله التوفيق:
أما دعوى حضور النبي - صلى الله عليه وسلم - الاحتفال بجسده الشريف فأساسها دعوى خاطئة لجماعة من المتصوفة تعلقوا بما رواه البخاري ان الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: { من رآني في المنامِ فسيراني في اليقظة ولا يتمثل الشيطان بي } ؛ فزعموا أنهم رأوا النبي - صلى الله عليه وسلم - في المنام ثم رأوه بعد ذلك في اليقظة وسألوه عن أشياء كانوا منها متخوفين فأرشدهم إلى طريق تفريجها فجاء الأمر كذلك، وقد تحمس لهذه الدعوى ابن أبي جمرة وابن الحاج والسيوطي ومحمد عليش، واستنكرها المحققون من أهل العلم الذين نذكرهم وعباراتهم فيما يلي:
1 - القاضي أبو بكر بن العربي قال:(شذ بعض الصالحين فزعم أنها - أي رؤية النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد موته - تقع بعيني الرأس حقيقة) نقل ذلك عنه الحافظ ابن حجر العسقلاني في "فتح الباري"(12/384).
2 - الإمام أبو العباس أحمد بن عمر القرطبي في "المفهم لشرح صحيح مسلم" ذكر هذا القول وتعقبه بقوله:(وهذا يدرك فساده بأوائل العقول ويلزم عليه أن لا يراه أحد إلا على صورته التي مات عليها وأن يراه رائيان في آن واحد في مكانين وأن يحيا الآن ويخرج من قبره ويمشي في الأسواق ويخاطب الناس ويخاطبوه ويلزم من ذلك أن يخلو قبره من جسده ولا يبقى من قبره فيه شيء فيزار مجرد القبر ويسلم على غائب لأنه جائز أن يرى في الليل والنهار مع اتصال الأوقات على حقيقته في غير قبره.(45/48)
وهذه جهالات لا يلتزم بها من له أدنى مسكة من عقل) وإلى كلام القرطبي هذا أشار الحافظ ابن حجر في "الفتح" بذكره اشتداد إنكار القرطبي على من قال:(من رآه في المنام فقد رأى حقيقته ثم يراها كذلك في اليقظة).
3 - شيخ الإسلام ابن تيمية في رسالة "العبادات الشرعية والفرق بينها وبين البدعية":
(منهم من يظن أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خرج من الحجرة وكلمه وجعلوا هذا من كراماته ومنهم من
يعتقد أنه إذا سأل المقبور أجابه.
وبعضهم كان يحكي أن ابن منده كان إذا أشكل عليه حديث جاء إلى الحجرة النبوية ودخل فسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك فأجابه، وآخر من أهل المغرب حصل له مثل ذلك وجعل ذلك من كراماته حتى قال ابن عبد البر لمن ظن ذلك: ويحك أترى هذا أفضل من السابقين الأولين من المهاجرين و الأنصار فهل في هؤلاء من سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد الموت وأجابه وقد تنازع الصحابة في أشياء فهلا سألوا النبي - صلى الله عليه وسلم - فأجابهم، وهذه ابنته فاطمة تنازع في ميراثها فهلا سألته فأجابها؟).
وحكاية ابن منده التي أشار إليها ابن تيمية رحمه الله في هذا الكلام ذكرها الحافظ الذهبي في "سير أعلام النبلاء" (17/37-38) في ترجمة أبى عبد الله محمد بن أبى يعقوب إسحاق بن الحافظ أبى عبد الله محمد بن يحي بن منده وقال الذهبي فيها:(هذه حكاية نكتبها للتعجب).
وقال في إسنادها:(إسنادها منقطع) اهـ.
4 - قال الحافظ الذهبي في ترجمة الربيع بن محمود المارديني في "ميزان الاعتدال في نقد الرجال":(دجال مفتر ادعى الصحبة والتعمير في سنة تسع وتسعين وخمسمائة وكان قد سمع من ابن عساكر عام بضع وستين).
يعني الحافظ الذهبي بالصحبة التي ادعاها الربيع ما جاء عنه أنه رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - في النوم وهو
بالمدينة الشريفة فقال له: أفلحت دنيا وأخرى، فادعى بعد أن استيقظ أنه سمعه وهو يقول ذلك.(45/49)
ذكر ذلك الحافظ ابن حجر العسقلاني في "الإصابة في تمييز الصحابة"(1/513).
5- الحافظ ابن كثير ذكر في ترجمة أحمد بن محمد بن محمد أبى الفتح الطوسي الغزالي في "البداية والنهاية" (12/196) أن ابن الجوزي أورد أشياء منكرة من كلامه منها أنه – أي أبا الفتح الطوسي - كان كلما أشكل عليه شيء رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في اليقظة فسأله عن ذلك فدله على الصواب، وأقر ابن كثير ابن الجوزي على عد هذا من منكرات أبى الفتح الطوسي، وابن الجوزي ذكر هذا في كتابه "القصاص والمذكرين" (ص156).
6- ذكر الحافظ ابن حجر العسقلاني في "فتح الباري" (12/385) أن ابن أبى جمرة نقل عن جماعة من المتصوفة أنهم رأوا النبي - صلى الله عليه وسلم - في المنام ثم رأوه بعد ذلك في اليقظة وسألوه عن أشياء كانوا منها متخوفين فأرشدهم إلى طريق تفريجها فجاء الأمر كذلك ثم تعقب الحافظ ذلك بقوله:(وهذا مشكل جداً ولو حمل على ظاهره لكان هؤلاء صحابة ولأمكن بقاء الصحبة إلى يوم القيامة ويعكر عليه أن جمعاً جماً رأوه في المنام ثم لم يذكر واحد منهم أنه رآه في اليقظة وخبر الصادق لا يتخلف).
7- قال السخاوي في رؤية النبي - صلى الله عليه وسلم - في اليقظة بعد موته:(لم يصل إلينا ذلك - أي ادعاء وقوعها - عن أحد من الصحابة ولا عمن بعدهم وقد اشتد حزن فاطمة عليه - صلى الله عليه وسلم -حتى ماتت كمداً بعده بستة أشهر على الصحيح وبيتها مجاور لضريحه الشريف ولم تنقل عنها
رؤيته في المدة التي تأخرتها عنه) نقل ذلك القسطلاني في "المواهب اللدنية" (5/295) عن السخاوي.
كما جاء عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - على جلالة قدره وعظمة شأنه أنه كان يظهر الحزن
على عدم معرفته ببعض المسائل الفقهية فيقول:( ثلاث وددت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يفارقنا حتى يعهد إلينا عهداً.: الجد، والكلالة، وأبواب من أبواب الرِبا) متفق عليه.(45/50)
فلو كان يظهر لأحد بعد موته لظهر لعمر الفاروق وقال له: لا تحزن حكمها كذا وكذا.
8- وقال ملا علي قاري في "جمع الوسائل شرح الشمائل للترمذي" (2/238):(إنه أي
ما دعاه المتصوفة من رؤية النبي - صلى الله عليه وسلم - في اليقظة بعد موته لو كان له حقيقة لكان يجب العمل
بما سمعوه منه - صلى الله عليه وسلم - من أمر ونهي وإثبات ونفي ومن المعلوم أنه لا يجوز ذلك إجماعاً كما لا يجوز بما يقع حال المنام ولو كان الرائي من أكابر الأنام وقد صرح المازري وغيره بأن من رآه يأمر بقتل من يحرم قتله كان هذا من الصفات المتخيلة لا المرئية) انتهى كلام الملا علي قاري وفيه فائدة أخرى هي حكايته الإجماع على عدم جواز العمل بما يدعى من يزعم أنه رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - في اليقظة أنه سمع منه أمر أو نهي أو إثبات أو نفي، وفي حكايته الإجماع على ذلك الرد على قول الزرقاني في "شرح المواهب اللدنية" (7/29) ما نصه:(لو رآه يقظة - أي بعد موته - صلى الله عليه وسلم -- وأمره بشيء وجب عليه العمل به لنفسه ولا يعد صحابياً وينبغي أن يجب على من صدقه العمل به قاله شيخنا).
9- قال العلامة رشيد رضا في "فتاويه" (6/2385):(صرح بعض العلماء المحققين بأن دعوى رؤية النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد موته في اليقظة والأخذ عنه دعوى باطلة واستدلوا على ذلك بأن
أولى الناس بها لو كانت مما يقع ابنته سيدة النساء وخلفاؤه الراشدون وسائر أصحابه العلماء
وقد وقعوا في مشكلات وخلاف أفضى بعضه إلى المغاضبة وبعضه إلى القتال فلو كان - صلى الله عليه وسلم -
يظهر لأحد ويعلمه ويرشده بعد موته لظهر لبنته فاطمة عليها السلام وأخبرها بصدق خليفته(45/51)
أبى بكر- رضي الله عنه - فيما روى عنه من أن الأنبياء لا يورثون وكذا للأقرب والأحب إليه من آله وأصحابه ثم لمن بعدهم من الأئمة الذين أخذ اكثر أمته دينهم عنهم ولم يدع أحد منهم ذلك وإنما ادعاه بعض غلاة الصوفية بعد خير القرون وغيرهم من العلماء الذين تغلب عليهم تخيلات الصوفية فمن العلماء من جزم بأن من ذلك ما هو كذب مفترى وأن الصادق من أهل هذه الدعوى من خيل إليه في حال غيبة أو ما يسمى"بين النوم واليقظة" أنه رآه - صلى الله عليه وسلم - فخال أنه رآه حقيقة على قول الشاعر: ومثلك من تخيل ثم خالا.
والدليل على صحة القول بأن ما يدعونه كذب أو تخيل ما يروونه عنه - صلى الله عليه وسلم - في هذه الرؤية. وبعض الرؤى المنامية مما تختلف باختلاف معارفهم وأفكارهم ومشاربهم وعقائدهم وكون بعضه مخالفاً لنص كتاب الله وما ثبت من سنته - صلى الله عليه وسلم - ثبوتاً قطعياً ومنه ما هو كفر صريح بإجماع المسلمين نعم إن منهم من يجلهم العارف بما روى من أخبار استقامتهم أن يدعوا هذه الدعوى افتراء وكذبا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولكن غلبة التخيل على المنهمكين في رياضاتهم وخلواتهم لا عصمة منها لأحد وكثيراً ما تقضي إلى جنون) اهـ)(1).
10- قال الشيخ عبد الحي بن محمد اللكنوي - رحمه الله - في "الآثار المرفوعة في الأخبار الموضوعة" (ص46):(ومنها - أي من القصص المختلقة الموضوعة - ما يذكرونه من أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يحضر بنفسه في مجالس وعظ مولده عند ذكر مولده وبنوا عليه القيام عند ذكر
المولد تعظيماً وإكراماً.
وهذا أيضا من الأباطيل لم يثبت ذلك بدليل، ومجرد الاحتمال والإمكان خارج عن حد البيان).
__________
(1) : من بداية الفصل إلى هنا نقلاً من "القول الفصل" (ص302-312) باختصار.(45/52)
11- قال الشيخ عبدالعزيز بن باز- رحمه الله - في "حكم الاحتفال بالمولد النبوي": (بعضهم يظن أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحضر المولد؛ ولهذا يقومون له محيين ومرحبين، وهذا من أعظم الباطل وأقبح الجهل، فإن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لا يخرج من قبره قبل يوم القيامة، ولا يتصل بأحد من الناس، ولا يحضر اجتماعاتهم، بل هو مقيم في قبره إلى يوم القيامة، وروحه في أعلى عليين عند ربه في دار الكرامة، كما قال الله تعالى في سورة المؤمنون: { ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ } ]المؤمنون:15- 16[، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: { أنا أول من تنشق الأرض عنه يوم القيامة ولا فخر. وأنا أول شافع وأول مشفع ولا فخر } عليه من ربه أفضل الصلاة
والسلام.
فهذه الآية الكريمة والحديث الشريف وما جاء في معناهما من الآيات والأحاديث، كلها تدل على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وغيره من الأموات إنما يخرجون من قبورهم يوم القيامة … الخ).
12- قال عبد الفتاح أبو غدة (1) في تعليقه على "المصنوع في معرفة الحديث الموضوع" لعلي قاري - رحمه الله - (ص273):(ومن غريب ما وقفتُ عليه بصَدَدِ (التصحيح الكشفي) و(التضعيف الكشفي): ما أورده الشيخ إسماعيل العجلوني الدمشقي في مقدمة كتابه "كشف الخفاء ومزيل الإلباس"(1/9-10)، على سبيل الإقرار والاعتداد به! قال:(والحكم على الحديث بالوضع والصحة أو غيرهما، إنما بحسب الظاهرِ للمحدثين،
__________
(1) : وابو غدة إنما نقلت كلامه حجة على اتباعه الصوفية وإلا ففي كتبه كثير من الضلال وقد رد عليه العلامة الألباني رحمه الله في "كشف النقاب" و في مقدمة " شرح العقيدة الطحاوية " كما رد عليه العلامة بكر ابو زيد في " براءة أهل السنة من الوقيعة في علماء السنة " وقدم لهذه الرسالة العلامة عبدالعزيز بن باز رحمه الله.(45/53)
باعتبار الإسناد أو غيره، لا باعتبار نفس الأمرِ والقطع، لجواز أن يكون الصحيح مثلاً باعتبار
نظر المحدث: موضوعاً أو ضعيفاً في نفس الأمر، وبالعكس. نعم المتواتر مطلقاً قطعي النسبة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - اتفاقاً.
ومع كون الحديث يحتمل ذلك، فيعمل بمقتضى ما يثبت عند المحدثين، ويترتب عليه الحكم الشرعي المستفاد منه للمستنبطين.
وفي "الفتوحات المكية"! للشيخ الأكبر قدس سره الأنور!!، ما حاصله: فرب حديث يكون صحيحاً من طريق رواته يحصل لهذا المكاشف أنه غير صحيح لسؤاله لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -فيعَلم وضعه، ويترك العمل به وإن عمل به أهل النقل لصحة طريقه.
ورب حديثٍ ترِك العمل به لضعف طريقه، من أجل وضاع في رواته، يكون صحيحاً في نفس الأمر، لسماعِ المكاشف له من الروح حين إلقائه على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) انتهى.
قال عبد الفتاح - أبو غدة -: هذا ما نقله العجلوني وسكت عليه واعتمده!
ولا يكاد ينقضي عجبي من صنيعه هذا!
وهو المحدث الذي شرح "صحيح البخاري"، كيف استساغ قبول هذا الكلام الذي تهدر به علوم المحدثين، وقواعد الحديث والدين؟ و يصبح به أمر التصحيح والتضعيف من علماء الحديث شيئاً لا معنى له بالنسبة إلى من يقول: إنه مكاشَف أو يَرى نفسه أنه مكاشَف! ومتى كان لثبوت السنة المطهرة مصدران: النقل الصحيح من المحدثين والكشف من
المكاشفين؟!
فحذارِ أن تغتر بهذا، والله يتولاك ويرعاك) اهـ.
وللشيخ محمد أحمد لوح - حفظه الله - كلاماً مهماً حول رواية { من رآني في المنام فسيراني في اليقظة } في "تقديس الأشخاص في الفكر الصوفي" (2/39 –52) أنقله فيما يلي:
قال حفظه الله:(أما رواية: { من رآني في المنام فسيراني في اليقظة } لابد من إلقاء ضوء كاشف على الحديث رواية ودراية حتى نعرف قدر هذا اللفظ الذي استدل به أولئك على إمكانية رؤية النبي - صلى الله عليه وسلم - في اليقظة:(45/54)
1- أما الحديث فقد رواه اثنا عشر من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو يزيد، مما يدل على شيوعه واستفاضته.
2- أن ثمانية من أئمة الحديث المصنفين اهتموا بهذا الحديث فأخرجوه في كتبهم مما يؤكد اهتمامهم به وفهمهم لمدلوله. ومع ذلك لم يبوب له أحد منهم بقوله مثلاً: باب في إمكان رؤية النبي - صلى الله عليه وسلم - في اليقظة، ولو فهموا منه ذلك لبوبوا به أو بعضهم على الأقل؛ لأنه أعظم من كل
ما ترجموا به تلك الأبواب.
3- أن المواضع التي أخرجوا فيها هذا الحديث بلغ (44) موضعاً، ومع كثرة هذه المواضع
لم يرد في أي موضع لفظ { فسيراني في اليقظة } بالجزم إلا في إحدى روايات البخاري عن أبي هريرة.
أما بقية الروايات فألفاظها: { فقد رآني } أو { فقد رأى الحق } أو { فكأنما رآني في
اليقظة } أو { فسيراني في اليقظة أو فكأنما رآني في اليقظة } بالشك.
وبالنظر في ألفاظ الحديث ورواياته نجد ملاحظات على لفظ { فسيراني في اليقظة }
لا ريب أنها تقلل من قيمة الاستدلال بها وهذه الملاحظات هي:
أولاً: أن البخاري أخرج الحديث في ستة مواضع من صحيحه: ثلاثة منها من حديث أبي هريرة، وليس فيها لفظ { فسيراني في اليقظة } إلا في موضع واحد.
ثانياً: أن كلا من مسلم (حديث رقم 2266)، وأبي داود (حديث رقم 5023)، و أحمد
(5/306)، أخرجوا الحديث بإسناد البخاري الذي فيه اللفظ المذكور بلفظ { فسيراني في اليقظة. أو لكأنما رآني في اليقظة } وهذا الشك من الراوي يدل على أن المحفوظ إنما هو لفظ { فكأنما رآني } أو { فقد رآني } لأن كلا منهما ورد في روايات كثيرة بالجزم وليس فيها شيء شك فيه الراوي.
وعند الترجيح ينبغي تقديم رواية الجزم على رواية الشك.(45/55)
ثالثاً: إذا علمنا أنه لم يرد عند مسلم ولا عند أبي داود غير رواية الشك أدركنا مدى تدليس السيوطي حين قال في "تنوير الحلك":(وتمسكت بالحديث الصحيح الوارد في ذلك: أخرج البخاري ومسلم وأبو داود عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: { من رآني في المنام فسيراني في اليقظة ولا يتمثل الشيطان بي } ) فأوهم أن مسلماً وأبا داود أخرجا الحديث برواية الجزم، وأغفل جميع روايات البخاري الأخرى التي خلت من هذا اللفظ.
رابعاً: ذكر الحافظ ابن حجر في "الفتح" (12/400) أنه وقع عند الإسماعيلي في الطريق المذكورة { فقد رآني في اليقظة } بدل قوله: { فسيراني } .
وهذه الأمور مجتمعة تفيد شذوذ هذا اللفظ، ولعل الحافظ ابن حجر أشار إلى ذلك ضمناً حين قال:(وشذ بعض الصالحين فزعم أنها تقع - يعني الرؤية- بعيني الرأس حقيقة).
ونقل عن المازري قوله:(إن كان المحفوظ { فكأنما رآني في اليقظة } فمعناه ظاهر).
هذا ما يتعلق بالحديث رواية، وإن تعجب فعجب استدلال هؤلاء بهذا اللفظ الشاذ على تقرير إمكان رؤية النبي - صلى الله عليه وسلم - في اليقظة ووقوعها مع اتفاقهم على: أن حديث الآحاد لا يحتج به في العقيدة.
أما ما يتعلق به دراية فنقول: لو فرضنا أن هذا اللفظ { فسيراني } هو المحفوظ فإن العلماء المحققين لم يحملوه على المعنى الذي حمله عليه الصوفية.
قال النووي في شرحه (15/26):(فيه أقوال: أحدها: أن يراد به أهل عصره، ومعناه: أن من رآه في النوم ولم يكن هاجر يوفقه الله للهجرة ورؤيته - صلى الله عليه وسلم - في اليقظة عياناً.
وثانيها: أنه يرى تصديق تلك الرؤيا في اليقظة في الدار الآخرة؛ لأنه يراه في الآخرة جميع
أمته.
وثالثها: أنه يراه في الآخرة رؤية خاصة في القرب منه وحصول شفاعته ونحو ذلك).
ونقل الحافظ ابن حجر هذه الأقوال بعدما ذكر القول بحمله على الرؤية بالعين المجردة وحكم على القائلين به بالشذوذ.(45/56)
وجملة القول أن إدعاء إمكان رؤيته - صلى الله عليه وسلم - في اليقظة ووقوعها مذهب ضعيف مرجوح وذلك من وجوه:
الوجه الأول: اختلاف القائلين به في المقصود بالرؤية، وهل هي رؤية لذاته - صلى الله عليه وسلم - على
الحقيقة، أورؤية لمثال لها، نقله السيوطي في "نوير الحلك" ضمن "الحاوي للفتاوى" (2/263)
ثم قال:(الذين رأيتهم من أرباب الأحوال يقولون بالثاني، وبه صرح الغزالي فقال: ليس المراد أنه
يرى جسمه وبدنه بل يرى مثالاً له).
ثم نقل عن ابن العربي واستحسن قوله:(رؤية النبي - صلى الله عليه وسلم - بصفته المعلومة إدراك على الحقيقة ورؤيته على غير صفته إدراك للمثال) ثم قال السيوطي:(ولا يمتنع رؤية ذاته الشريفة بجسده وروحه؛ وذلك لأنه - صلى الله عليه وسلم - وسائر الأنبياء أحياء ردت إليهم أرواحهم بعد ما قبضوا وأذن لهم بالخروج من قبورهم والتصرف في الملكوت العلوي والسفلي)!!.
أقول: إذا كان أرباب الأحوال الذين رآهم السيوطي - على كثرتهم - يقولون إن النبي - صلى الله عليه وسلم -
لا يرى بروحه وجسمه بل يرى مثال له فقط، فكيف يدافع السيوطي عنهم ويخالفهم في الوقت نفسه؟
الوجه الثاني: أنهم اختلفوا أيضاً هل هذه الرؤية تكون بالقلب أو بالبصر؟
أشار السيوطي إلى ذلك ثم اضطرب اضطراياً شديداً حين قال في نفس المصدر:(أكثر
ما تقع رؤية النبي - صلى الله عليه وسلم - في اليقظة بالقلب ثم يترقى إلى أن يرى بالبصر) فإلى هنا يبدو أنه قصد الجمع بين القولين، ثم قال:(لكن ليست الرؤية البصرية كالرؤية المتعارفة عند الناس من رؤية بعضهم لبعض، وإنما هي جمعية حالية وحالة برزخية وأمر وجداني …).
الوجه الثالث: أن بعض كبار الصوفية ينفي وقوع رؤية النبي - صلى الله عليه وسلم - في اليقظة.
فيقول أبو القاسم القشيري في "الرسالة القشيرية" (باب رؤيا القوم) (ص368):(وقال(45/57)
بعضهم: في النوم معان ليست في اليقظة، منها: أنه يرى المصطفى - صلى الله عليه وسلم - والصحابة والسلف
الماضين في النوم ولا يراهم في اليقظة) اهـ.
وقد يقول قائل: إن هذا نقله القشيري عن بعضهم ولا ندري هل هم من الصوفية أو من
غيرهم؟
والجواب: أ- أن القشيري نفسه من كبار الصوفية وقد نقل العبارة وأقرها.
ب- أنه لا ينقل في رسالته مثل هذا الكلام إلا عن الصوفية، حيث ذكر في مقدمة كتابه أنه إنما يذكر سير شيوخ التصوف وآدابهم ..وما أشاروا إليه من مواجيدهم، وأكده في الخاتمة.
الوجه الرابع: أن هذه العقيدة مخالفة لإجماع أهل السنة والجماعة وهي خاصة بأهل البدعة، قال ابن حزم في "مراتب الإجماع"(ص176):(واتفقوا أن محمداً عليه السلام وجميع أصحابه لا يرجعون إلى الدنيا إلا حين يبعثون مع جميع الناس).
الوجه الخامس: أنه يلزم من القول بإمكان رؤيته في اليقظة ووقوعها لوازم باطلة قد ذكرتها
أثناء نقل أقوال أهل العلم في هذا الموضوع.
وأخيراً: نقل السيوطي عن بعض أهل العلم احتجاجه على حياة الأنبياء بأن النبي - صلى الله عليه وسلم -
اجتمع بهم ليلة الإسراء في بيت المقدس.
ومقصده أن ما دام هذا ممكناً في حق النبي - صلى الله عليه وسلم - معهم فيمكن أن يكون جائزاً في حق أولياء
أمته معه، فيرونه في اليقظة. والجواب على هذه الشبهة أن يقال:
أولاً: ليس النزاع في حياة الأنبياء في قبورهم ولا في اجتماع النبي - صلى الله عليه وسلم - بهم ليلة الإسراء
ولا صلاته بهم إماماً، فإن ذلك كله ثابت رواية، فيجب على جميع المؤمنين التصديق به.
ثانياً: أن مما يجب أن يعلم أن حياة الأنبياء في قبورهم حياة برزخية لا نعلم كيف هي،
وحكمها كحكم غيرها من المغيبات، نؤمن بها ولا نشتغل بكيفيتها، ولكننا نجزم بأنها مخالفة
لحياتنا الدنيا.(45/58)
ثالثاً: أن الذي أخبرنا بأنه اجتمع بالأنبياء ليلة الإسراء هو الصادق المصدوق الذي يجب على كل مؤمن أن يصدقه في كل ما أخبر به من المغيبات دقيقها وجليلها، ولذا آمنا بما أخبرنا به واعتقدناه عقيدة لا يتطرق إليها شك إن شاء الله تعالى.
أما من جاءنا بخبر وقوع رؤية النبي - صلى الله عليه وسلم - في اليقظة فمجموعة من الدراويش خالفت الكتاب والسنة والإجماع والمعقول، فلم يجز - ولا أقول فلم يجب - أن نصدقهم في دعواهم تلك.
بل وجب على كل موحد ذاب عن حمى التوحيد أن يردها بما استطاع لأنه باب يؤدي فتحه إلى ضلال عظيم وخراب للأديان والعقول ويفتح باب التشريع من جديد، ولا حول ولا قوة
إلا بالله.والله أعلم) انتهى كلام الشيخ محمد أحمد لوح جزاه الله خيراً بتصرف.
ولمزيد من الفائدة انظر كتاب "المصادر العامة للتلقي عند الصوفية عرضاً ونقداً" للشيخ
صادق سليم صادق (ص405-430) وكتاب "تقديس الأشخاص في الفكر الصوفي" للشيخ
محمد أحمد لوح (2/36-52)، وكتاب "خصائص المصطفى بين الغلو والجفاء" تأليف الصادق بن محمد بن إبراهيم، وكتاب "رؤيا الرسول - صلى الله عليه وسلم - يقظة ومناماً ضوابطها وشروطها" للشيخ الأمين الحاج محمد أحمد.
وأما دعوى أن الذي يحضر مجلس المولد هو روحانية النبي - صلى الله عليه وسلم - فالرد عليها يستفاد من
الجواب السابق وهو أن ابنة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وصحابته رضي الله عنهم أجمعين هم أولى الناس
بهذه المزية العظيمة لو حصلت ولم يدعي أحد منهم هذه الدعوى.
وأما قول الإمام مالك: "بلغني أن الروح مرسلة تذهب حيث شاءت" فالجواب عنه
بما يلي:
أولاً: ما صحة نسبة هذا القول إلى الإمام مالك؟
ثانياً: هل قول الإمام مالك حجة، وخصوصاً أن قوله هذا في مسألة متعلقة بالغيب فهي
من مسائل العقيدة؟(45/59)
وكثير ممن يستدل بقول الإمام مالك هذا ومنهم محمد علوي الم(1)لكي يقولون بعدم حجية حديث الآحاد في العقيدة وان كان في "صحيح البخاري" أو "صحيح مسلم"!!.
ثالثاً:(أن قول الإمام مالك هذا ليس المراد به ما ادعاه محمد بن علوي المالكي من أن الأرواح جوالة يمكن أن تحضر مجالس الخير ومشاهد النور بل المراد به بيان سرعة انتقال أرواح المؤمنين الموتى من العرش إلى الثرى ثم انتقالها من الثرى إلى مكانها كما بينه ابن القيم في نفس كتاب "الروح" !!.
وأما ما روي عن سلمان الفارسي أنه قال:(أرواح المؤمنين في برزخ من الأرض تذهب حيث شاءت) فقد فسره ابن القيم في كتابه"الروح" بما نصه:(وأما قول من قال إن أرواح المؤمنين في برزخ من الأرض تذهب حيث شاءت فهذا مروي عن سلمان الفارسي والبرزخ هو الحاجز بين شيئين وكأن سلمان أراد بها في أرض بين الدنيا والآخرة مرسلة هناك تذهب حيث شاءت) قال (وهذا قول قوي فإنها قد فارقت الدنيا ولم تلج الآخرة بل هي في برزخ بينهما فأرواح المؤمنين في برزخ واسع فيه الروح و الريحان والنعيم وأرواح الكفار في برزخ
ضيق فيه الغم والعذاب قال تعالى: { وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ } ]المؤمنون:100[
فالبرزخ هنا ما بين الدنيا والآخرة و أصله الحاجز بين الشيئين) اهـ).
(وقد جاء في سنن ابن ماجة والترمذي عن جابر ابن عبدالله قال: لما قتل عبدالله بن
عمرو بن حرام يوم أحد، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: { ياجابر أَلا أخبرك ما قال الله لإبيك }
قلت: بلَى.
قال: { ما كلم الله أَحداً إلا من وراء حجابٍ، وكلم أَباك كفَاحاً، فَقَال: يا عبد الله تمن علي أعطك. قال: يا رب تحيينِي فأقتل فيك ثانية.
قال: إنه سبق مني أنهم إلَيها لا يرجِعون.
__________
(1) : نقلا من "القول الفصل" (ص315) بتصرف.(45/60)
قال: يا رب فأبلغ من ورائي، فأنزل الله هذه الآية: { وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ } ]آل عمران:169[ الآية كلها } ؛ وحسنه الألباني في "صحيح سنن ابن ماجة" (2/392-393).
وقد أخبر الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن مستقر أرواح الشهداء كما في "صحيح مسلم" عن مسروق
قال:(سألنا عبد الله هو ابن مسعود عن هذه الآية: { وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ } ]آل عمران :169[ قَال: أما إنا قد سألنا عن ذلك.
فقال: { ارواحهم في جوف طير خضر. لها قناديل معلقة بالعرش تسرح من الجنة حيث شاءت } . ثم تأوي إلى تلك القناديل... الخ "
وأخبر - صلى الله عليه وسلم - عن أرواح المؤمنين الصالحين فقال: { إِنما نسمة المسلم طَير يعلَق بشجرِ الجنة
حتى يرجعهُ الله تبارك وتعالى إِلَى جسده يوم يبعثهُ } رواه أحمد والنسائي وابن ماجة
ومالك.
وأما اعتبار ذلك القيام الذي يقع عند ذكر وضع النبي - صلى الله عليه وسلم - وخروجه إلى الدنيا في قصص
المولد من تعظيم الرسول - صلى الله عليه وسلم - فقد جزم الشامي والهيتمي ورشيد رضا بأنه غير صحيح وأنه بدعة لا يعذر من يفعلها من الخواص وصرح الشيخ محمد بن الحسن الحجوي الثعالبي بأنه محرم وفيما يلي نصوصهم:
قال الشيخ محمد الشامي في "سيرته" (1/415):(جرت عادة كثير من المحبين إذا سمعوا بذكر وضعه - صلى الله عليه وسلم - أن يقوموا تعظيما له - صلى الله عليه وسلم - وهذا القيام بدعة لا أصل لها).
وقال ابن حجر الهيتمي في "الفتاوى الحديثية" (ص58) بصدد كلامه عن الوثوب عند(45/61)
قراءة قوله تعالى: { أَتَى أَمْرُ اللَّهِ } ]النحل:1[ واعتباره إياه بدعة بعد زوال سبب الوثوب عند نزوله وهو الفزع الذي زال بنزول { فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ } كما ذكره الواحدي، فلا ينبغي فعله بعد زواله لما فيه من إيهام العامة ندبه؛ قال بعد استنكاره ذلك الوثوب ما نصه:(ونظير ذلك فعل كثير عند ذكر مولده - صلى الله عليه وسلم - ووضع أمه له من القيام وهو أيضا بدعة لم يرد فيه شيء على أن الناس إنما يفعلون ذلك تعظيماً له - صلى الله عليه وسلم - فالعوام معذورون لذلك بخلاف الخواص) اهـ.
وقال رشيد رضا في جوابه عن تلقين العلويين في جاوه الناس أن من لم يقم أثناء حفلات
المولدعند سماعه (مرحبا بالنبي) الخ فهو كافر قال في "فتاويه" (5/2113) ما نصه:
(أما القيام عند ذكر وضع أمه - صلى الله عليه وسلم - وإنشاد بعض الشعراء أو الأغاني في ذلك فهو من جملة
هذه البدع وقد صرح بذلك الفقيه ابن حجر المكي الشافعي الذي يعتمد هؤلاء العلويين على
كتبه في دينهم (ثم نقل كلام ابن حجر الهيتمي السابق)) اهـ.
وقال الشيخ محمد بن الحسن الحجوي الثعالبي الفاسي في كتابه "الفكر السامي في تاريخ
الفقه الإسلامي" (1/93):(ومنه - أي من الاستحسان المحرم - أيضا القيام عند ذكر الولادة
النبوية مع ورود النص بل النصوص الصريحة بالنهي عنه انظر رسالتنا "صفاء المورد في عدم القيام عند سماع المولد" ورسالتنا "الحق المبين في الرد على من رد عليها" وهو صاحب
"حجة المنذرين") اهـ.
وأما قول الصرصري في قصيدته:
وأن ينهض الأشراف عند سماعه قياماً صفوفاً أو جثياً على الركب
فليس بدليل شرعي على صنيع السبكي فضلاً عن قياس القيام أثناء قراءة بعض القصص التي تقرأ في الاحتفال بالمولد النبوي على قيام السبكي وليس الصرصري ممن يؤخذ بقوله في مثل هذا وشعره يقع منه أحياناً ما لا يرضي كما بينه شيخ الإسلام ابن تيمية في "الرد على
البكري") (1).
__________
(1) :نقلاً من"القول الفصل" بتصرف.(45/62)
وحجة من أنكر هذا القيام هو ما جاء عن أنس - رضي الله عنه - أنه قال:(لم يكن شخص أحب إليهم من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: وكانوا إذا رأوه لم يقوموا لما يعلمون من كراهيته لذلك).
* * *
الفصل السادس:
ما ترتب على الاحتفال بذلك اليوم من أمور خطيرة ومفاسد كثيرة
هذا الفصل مختصر من"القول الفصل في حكم الاحتفال بمولد خير الرسل " للشيخ إسماعيل الأنصاري رحمه الله (ص172-183) بتصرف.
(ترتب على الاحتفال باليوم الذي يقال بأنه يوافق يوم المولد النبوي أمور خطيرة ومفاسد كثيرة، ومن هذه الأمور الخطيرة التي ترتبت عليه:
أولاً: اعتبار الاحتفال بالمولد من الأمور المستحبة في الدين بل والواجبة عند البعض!
1 - قال محمد بن علوي المالكي في "حول الاحتفال بالمولد النبوي" (ص15-16):
(أن المولد اشتمل على اجتماع وذكر وصدقة ومدح وتعظيم للجناب النبوي فهو سنة، وهذه أمور مطلوبة شرعاً وممدوحة، وجاءت الآثار الصحيحة بها وبالحث عليها) اهـ.
2 - قال عيسى الحميري في " بلوغ المأمول في حكم الإحتفاء والاحتفال بمولد الرسول"
(ص30) بعد أن قال أن القران عرض لنا قصص لكثير من الأنبياء:(وبذلك يستدل بصحة
استحباب الاحتفال بمولده - صلى الله عليه وسلم -) اهـ.
3 - وقال أيضاً في نفس المصدر (ص55) بعد أن أورد حديث استدل به على جواز الاحتفال بالمولد:(يفهم منه استحباب ذكر النعمة والاحتفاء والاحتفال بأيامها... الخ).
4 - وقال محمد بن أحمد الخزرجي في"القول البديع في الرد على القائلين بالتبديع"(ص29):
(للعلماء في مولد النبي - صلى الله عليه وسلم - كتب وسوف نبين استحباب قراءة المولد لقوله تعالى: { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ } ]الانبياء:107[ ) اهـ.
5 - قال مصطفى عبد القادر عطا في مقدمته لكتاب "حسن المقصد في عمل المولد" للسيوطي طبعة دار الكتب العلمية في بيروت (ص9) نقلاً عن مقدمة الشيخ علي الحلبي(45/63)
لـ "المورد في عمل المولد" للفاكهاني (ص12-13)؛ بعد كلام:(.. كل هذا يوجبُ علينا الاحتفال به – أي بالمولد النبوي - … !!).
تنبيه:
قال محمد بن علوي المالكي في "حول الاحتفال بالمولد النبوي" (ص6):(أننا نقول بجواز الاحتفال بالمولد الشريف والاجتماع لسماع سيرته والصلاة والسلام عليه وسماع المدائح التي تقال في حقه، وإطعام الطعام، وإدخال السرور على قلوب الأمة).
وقال يوسف الرفاعي في "الرد المحكم المنيع" (ص153):(إن احتفالات المسلمين بذكرى المسلمين بذكرى مولده - صلى الله عليه وسلم - والمناسبات المشابهة لا تسمى بدعة قبل كل شيء. لأن أحداً من القائمين على أمرها لا يعتقد أنها جزء من جوهر الدين وأنها داخلة في قوامه وصلبه، بحيث إذا أهملت ارتكب المهملون على ذلك وزراً. وإنما هي نشاطات اجتماعية يتوخى منها تحقيق خير ديني).
وقد أجاب فضيلة الشيخ عبد الله بن منيع - حفظه الله - على هذا القول في "حوار مع المالكي" (ص26–27) بما يلي:
(إن قول محمد المالكي هذا يدل على أنه لا يرى مشروعية الاحتفال بالمولد النبوي، لأن مشروعية الأمر تعني وجوبه أو استحبابه، وبالتالي إثابة فاعله وعقوبة تاركه إن كان واجباً، وإذا كان مستحباً فيثاب عليه فاعله ولا يعاقب تاركه، أما جواز ذلك فمعناه إباحته فلا إثابة
على فعل ولا عقوبة على ترك.
ولكن من خلال ما نقلته من أقواله السابقة وغيرها مما سأذكره فيما بعد إن شاء الله؛ نجده يقول بمشروعية ذلك ويؤكده حيث أشار إلى القول بسنية الاحتفال بالمولد في ليلة غير مخصوصة!!.
فإن قال بإباحة الاحتفال بالمولد من غير أن يكون واجباً أو مسنوناً ألزمناه بالتناقض في قوله على ما سبق إيضاحه، وإن قال بمشروعيتها على سبيل الاستحباب أو الوجوب طالبناه بمستنده على ذلك من كتاب الله تعالى أو من سنة رسوله محمد - صلى الله عليه وسلم - من قول أو فعل أو تقرير، أو من عمل الصحابة الذين هم أولى بالنبي - صلى الله عليه وسلم -.(45/64)
وأما ما ادعاه أن له استنباطات تدل على مشروعية الاحتفال بالمولد مما ذكره في كثير من كتبه فقد ناقشها العلماء وردوا عليه وعلى غيره ممن يستدل بها) انتهى بتصرف.
أما بالنسبة لقول الرفاعي:(إن احتفالات المسلمين بذكرى مولده - صلى الله عليه وسلم - والمناسبات المشابهة، لا تسمى بدعة قبل كل شيء) فمردود بقول المالكي في "حول الاحتفال"(ص19) و" الذخائر" (ص320-321):(فالاحتفال بالمولد و إن لم يكن في عهده - صلى الله عليه وسلم - فهو بدعة، ولكنها حسنة).
أما قوله:(لأن أحداً من القائمين على أمرها لا يعتقد أنها جزء من جوهر الدين وأنها داخلة في قوامه وصلبه، بحيث إذا أهملت ارتكب المهملون على ذلك وزراً) فمردود بأقوال السيوطي والمالكي والحميري وغيرهم السابقة والتي يقولون فيها بإثابة من يقيم الموالد وأنهم يعدونها من الدين.
ثانياً: صدور أوامر من بعض الولاة في العصور المتأخرة بتصيير ذلك اليوم عيداً وورود
تصريحات من بعض أهل العلم المشجعين على الاحتفال بذلك اليوم باعتباره عيداً وعلى
سبيل التمثيل لذلك لا الحصر أورد ما يلي:
1- ما ورد في "الاستقصاء لأخبار دول المغرب الأقصا" (2/43) للشيخ أحمد السلاوي ونصه:(في سنة إحدى وسبعين وستمائة أمر السلطان يوسف بن يعقوب بن عبد الحق بعمل المولد النبوي وتعظيمه والاحتفال به وصيره عيداً من الأعياد في جميع بلاده وذلك في شهر ربيع الأول من السنة المذكورة).
2 - ما جاء في "الإعلام بأعلام بيت الله الحرام" للشيخ قطب الدين الحنفي (ص196):
(كيف لا يفرح المؤمنون بليلة ظهر فيها أشرف الأنبياء والمرسلين - صلى الله عليه وسلم - وكيف لا يجعلونه عيداً من أكبر أعيادهم).
وعلى أساس اعتبار ذلك اليوم عيداً أفتى ابن عباد وابن عاشر بمنع صومه! كما بينه الشيخ محمد بن محمد الطرابلسي المعروف بالحطاب في "مواهب الجليل شرح مختصر خليل "(45/65)
حيث قال:(قال الشيخ زروق في شرح القرطبية صيام يوم المولد كرهه بعض من قرب عصره
ممن صح علمه وورعه! قال: إنه من أعياد المسلمين فينبغي أن لا يصام فيه وكان شيخنا
أبو عبدالله القورى يذكر ذلك كثيراً ويستحسنه. انتهى.
قلت - القائل الحطاب - لعله - أي زروق - يعني ابن عباد فقد قال في رسائله الكبرى
ما نصه (وأما المولد فالذي يظهر لي أنه عيد من أعياد المسلمين وموسم من مواسمهم وكل
ما يفعل فيه مما يقتضيه وجود الفرح والسرور بذلك المولد المبارك من إيقاد الشمع وإمتاع
البصر والسمع والتزين بلبس فاخر الثياب وركوب فاره الدواب أمر مباح لا ينكر على أحد
قياساً على غيره من أوقات الفرح.
والحكم بكون هذه الأشياء بدعة في هذا الوقت الذي ظهر فيه سر الوجود وارتفع فيه علم الشهود وانقشع فيه ظلام الكفر والجحود وادعاء أن هذا الزمان ليس من المواسم الشرعية لأهل الإيمان ومقارنة ذلك بالنيروز والمهرجان أمر مستثقل تشمئز منه القلوب السليمة وتدفعه الآراء المستقيمة.
ولقد كنت فيما خلا من الزمان خرجت في يوم مولد إلى ساحل البحر فاتفق أن وجدت هناك سيدي الحاج ابن عاشر رحمه الله وجماعة من أصحابه وقد أخرج بعضهم طعاماً مختلفا ليأكلوه هناك فلما قدموه لذلك أرادوا مني مشاركتهم في الأكل وكنت إذ ذاك صائماً فقلت لهم: إنني صائم، فنظر الي سيدى الحاج نظرة منكرة، وقال لي ما معناه: إن هذا اليوم يوم فرح و سرور ويستقبح في مثله الصيام بمنزلة العيد فتأملت كلامه فوجدته حقا!
وكأنني كنت نائماً فأيقظني)) اهـ.
وقد اغتر بهذه الفتوى الخاطئة الشيخ محمد بن عرفة الدسوقي حيث قال في "حاشيته على شرح الدردير لمختصر خليل" (1/474) في باب الصيام:(تنبيه: من جملة الصيام المكروه كما قاله بعضهم صوم يوم المولد المحمدي إلحاقاً له بالأعياد) اهـ.(45/66)
ولا شك في أن اعتبار ذلك اليوم عيداً بدعة، كما لا شك في أن منع صوم اليوم الموافق ليوم المولد النبوي لو كان معلوماً مخالف لما خرجه مسلم في "صحيحه" من حديث أبى قتادة الأنصاري - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل عن صيام يوم الاثنين فقال: { ذلك يوم ولدت فيه وأُنْزِلَ علي
فيه } فإن في إجابة النبي - صلى الله عليه وسلم - إشارة إلى استحباب صوم يوم الاثنين لأنه اليوم الذي
ولد فيه - صلى الله عليه وسلم - لا كراهة ذلك كما أفتى به هؤلاء والله المستعان.
ثالثاً: دعوى أن من صادف في ذلك اليوم الساعة التي ظهر فيها نبينا محمد- صلى الله عليه وسلم - يسأل
الله فيها شيئاً أعطاه إياه قياساً على ساعة يوم الجمعة التي صح فيها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه
لا يصادفها عبد مسلم يسأل الله تعالى فيها شيئاً إلا أعطاه إياه!.
فقد قال القسطلاني في "المواهب اللدنية"(1/132):(إذا كان يوم الجمعة الذي خلق فيه آدم عليه السلام خص بساعة لا يصادفها عبد مسلم يسأل الله فيها خيراً إلا أعطاه إياه
فما بالك بالساعة التي ولد فيها سيد المرسلين - صلى الله عليه وسلم -) اهـ.
وعبر عن ذلك المعنى محمد بن علوي المالكي في"حول الاحتفال" (ص14) بقوله:(يؤخذ من قوله - صلى الله عليه وسلم - في فضل يوم الجمعة وعد مزاياه: { فيه خلق آدم عليه السلام } تشريف الزمان الذي ثبت أنه ميلاد لأي نبي كان من الأنبياء عليهم السلام فكيف باليوم الذي ولد فيه أفضل النبيين وأشرف المرسلين.ولا يختص هذا التعظيم بذلك اليوم بعينه بل يكون له خصوصاً ولنوعه عموماً مهما تكرر كما هو الحال في يوم الجمعة شكراً للنعمة وإظهاراً لمزية النبوة).
وقد تعقب الزرقاني في "شرحه للمواهب اللدنية" (1/132- 133) القسطلاني في إيراده
لذلك بقوله:(إن أراد - إي القسطلاني - أن في ذلك اليوم ومثله إلى يوم القيامة ساعة(45/67)
كساعة الجمعة أو أفضل فدليله هذا لا ينتج ذلك وإن أراد عين تلك الساعة فساعة الجمعة
لم تكن موجودة حينئذ وإنما جاء تفضيلها في الأحاديث الصحيحة بعد ذلك بمدة فلم يمكن
اجتماعهما حتى يفاضل بينهما وتلك انقضت وهذه باقية إلى اليوم وقد نص الشارع عليها
ولم يتعرض لساعة مولده ولا لأمثالها فوجب علينا الاقتصار على ما جاءنا عنه ولا نبتدع
شيئاً من عند نفوسنا القاصرة عن إدراكه إلا بتوقيف) انتهى كلام الزرقاني وقد أجاد فيه.
رابعاً: من الأمور الخطيرة التي ترتبت على الاحتفال بالمولد دعوى أن ليلة المولد النبوي أفضل من ليلة القدر!!
وهي دعوى ذكرها القسطلاني في "المواهب اللدنية" (1/135-136) بعد أن تكلم عن
الاختلاف في وقت ولادة النبي - صلى الله عليه وسلم - هل هو في النهار أم في الليل حيث قال:(فإن قلت إذا قلنا بأنه عليه السلام ولد ليلاً فأيهما أفضل ليلة القدر أو ليلة مولده عليه السلام؟
أجيب: بأن ليلة مولده عليه السلام أفضل من ليلة القدر من وجوه ثلاثة!!
أحدها: أن ليلة المولد ليلة ظهوره - صلى الله عليه وسلم - وليلة القدر معطاة له.
وما شرف بظهور ذات المشرف من أجله أشرف مما شرف بسبب ما أعطيه ولا نزاع في ذلك فكانت ليلة المولد أفضل من ليلة القدر.
الثاني: أن ليلة القدر شرفت بنزول الملائكة فيها؛ وليلة المولد شرفت بظهوره - صلى الله عليه وسلم -.
ومن شرفت به ليلة المولد أفضل ممن شرفت بهم ليلة القدر على الأصح المرتضى، فتكون ليلة المولد أفضل.
الثالث: أن ليلة القدر وقع فيها التفضيل على أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - وليلة المولد الشريف وقع التفضيل فيها على سائر الموجودات فهو الذي بعثه الله عز وجل رحمة للعالمين فعمت به النعمة على جميع الخلائق فكانت ليلة المولد أعم نفعاً فكانت أفضل).
وقد نقل كلام القسطلاني هذا مقراً له محمد بن علوي المالكي في "الذخائر المحمدية".(45/68)
وقد تعقب هذه الدعوى الشيخ الزرقاني في "شرح المواهب اللدنية" (1/136) بقوله:
(وهذا الذي ساقه المصنف - يعني القسطلاني - وأقره متعقب، قال الشهاب الهيتمي: فيه إجمال واستدلال بما لا ينتج المدعى!
لأنه إن أريد أن تلك الليلة ومثلها من كل سنة إلى يوم القيامة أفضل من ليلة القدر فهذه الأدلة لا تنتج ذلك كما هو جلي وإن أريد عين تلك الليلة فليلة القدر لم تكن موجودة إذ ذاك وإنما أتى فضلها في الأحاديث الصحيحة على سائر ليالي السنة بعد الولادة بمدة فلم يمكن اجتماعهما حتى يتأتى بينهما تفضيل وتلك انقضت وهذه باقية إلى اليوم وقد نص الشارع على أفضليتها ولم يتعرض لليلة مولده ولا لأمثالها بالتفضيل أصلاً!
فوجب علينا أن نقتصر على ما جاء عنه ولا نبتدع شيئاً من عند نفوسنا القاصرة عن إدراكه إلا بتوقيف منه - صلى الله عليه وسلم - على أنا وإن سلمنا أفضلية ليلة مولده لم يكن له فائدة!
إذ لا فائدة في تفضيل الأزمنة الا بفضل العمل فيها.
وأما تفضيل ذات الزمن لا يكون بكون العمل فيه فليس له كبير فائدة) قال الزرقاني بعد إيراد كلام الهيتمي هذا:(هو وجيه).
وتعقب أيضا الملا علي القارى تلك الدعوى فقال في "المورد الروي" (ص52):(أغرب القسطلاني وقال: ليلة مولده - صلى الله عليه وسلم - أفضل من ليلة القدر من وجوه ثلاثة ذكرها حيث لا يفيد الإطلاق مع أن الأفضلية ليست إلا لكون العبادة فيها أفضل بشهادة النص القرآني: { لَيْلَةُ الْقَدْرِ
خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ } ]القدر:3[ ولا تعرف هذه الأفضلية لليلة مولده - صلى الله عليه وسلم - لا من الكتاب
ولا من السنة ولا عن أحد من علماء هذه الأمة).(45/69)
يؤيد ذلك التعقب ما جاء عن قتادة في تفسير قوله تعالى: { إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ } ]التوبة:36[ فقد جاء عن قتادة في تفسير هذه الآية ما نصه:(إن الظلم في الأشهر الحرم أعظم خطيئة ووزراً من الظلم فيما سواها وإن كان الظلم على كل حال عظيماً ولكن الله يعظم من أمره ما يشاء).
وقال:(إن الله اصطفى صفايا من خلقه؛ اصطفى من الملائكة رسلاً ومن الناس رسلاً، واصطفى من الكلام ذكره، واصطفى من الأرض المساجد، واصطفى من الشهور رمضان والأشهر الحرم، واصطفى من الأيام يوم الجمعة، واصطفى من الليالي ليلة القدر فعظموا ماعظم الله فإنما تعظيم الأمور بما عظمها الله به عند أهل الفهم وأهل العقل) هكذا أورده ابن كثير في تفسير الآية المذكورة و عزاه السيوطي في "الدر المنثور في التفسير بالمأثور" إلى ابن المنذر وابن أبى حاتم وأبى الشيخ.
ثم أن ما أسس عليه القول بتفضيل ليلة المولد النبوي على ليلة القدر وهو تقدير كون ولادة
النبي - صلى الله عليه وسلم - ليلاً غير موافق لما روى مسلم في "صحيحه" عن أبي قتادة الأنصاري في حديث طويل و لفظه: وسئل عن صوم يوم الاثنين؟
قال: { ذلك يوم ولدت فيه وأنزل علي فيه } فإن هذا الحديث يدل أوضح دلالة على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولد نهاراً لقوله: { ذلك يوم ولدت فيه } وقد رجح القسطلاني نفسه هذا!
وليس للقول بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولد ليلاً مستند ثابت.
ومن عدم تأمل محمد بن علوي المالكي ذلك استساغ التعليق على كلام الملا علي قاري في
تعليقه على "المورد الروي" الآنف الذكر بقوله:(أما نفس ليلة مولده التي مضت وانقضت(45/70)
فهي أفضل من ألف ليلة من ليالي القدر لأن ليلة القدر من بركاتها وأما ليلة المولد من كل عام الموافق ليلة المولد التي مضت فصحيح أنها لا تعرف لها هذه الفضيلة)!
فإن تفضيله ليلة المولد التي مضت على ألف ليلة من ليالي القدر يحتاج إلى الدليل كما يحتاج إليه تفضيل الليلة الموافقة لتلك الليلة التي وافق على أنها لا تعرف لها الفضيلة التي ثبتت لليلة القدر ولو تمسك في كل واحدة من الليلتين بقوله تعالى: { لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ } ]القدر:3[ لم يتورط فيما تورط فيه.
* * *
الخاتمة
هذا ما وفقني الله لجمعه من أقوال أهل العلم في الرد على شبهات من أجاز المولد، اسأل الله أن ينفعني ومن يطلع عليه بما فيه.
كما أسأل الله أن يجزي علمائنا خير الجزاء على ما قاموا به من بياناً للحق ورداً للباطل وأن يجعل ذلك في ميزان حسناتهم.
كما أسأله أن يهدي ضال المسلمين إلى اتباع السنة وترك البدعة.
وصلى الله على نبينا وقدوتنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
وسبحانك اللهم وبحمدك، أشهد ألا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.(45/71)
الرد على فيصل مراد علي رضا
فيما كتبه
عن شأن الأموات وأحوالهم
تأليف: الشيخ صالح بن فوزان الفوزان
وتقريظ: الإمام عبد العزيز بن عبد الله بن باز
إصدار دار العاصمة بالرياض
الطبعة الثانية 1419 هـ
تقريظ سماحة مفتي عام المملكة العربية السعودية للرد
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة الأخ المكرم صاحب الفضيلة الشيخ/ صالح بن فوزان الفوزان وفقه الله لما فيه رضاه. آمين.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. أما بعد:
فقد اطلعت على ما كتبه فضيلتكم في الأوراق المرفقة من الرد على المدعو فيصل مراد علي رضا، فألفيته رداً قيماً مباركاً، وأرى أن يطبع.
شكر الله سعيكم وضاعف مثوبتكم، وجعلنا وإياكم من دعاة الهدى وأنصار الحق، إنه سميع قريب.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
المفتي العام للمملكة
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
مقدمة الطبعة الثانية
الحمد لله رب العالمين على فضله وإحسانه، أمر باحترام المسلمين أحياء وأمواتاً، ونهى عن الغلو فيهم؛ لأن ذلك يسبب عبادتهم من دون الله عز وجل، كما حصل لقوم نوح لما غلوا في الصالحين ود وسواع ويغوث ويعوق ونسر.
والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه، ترك أمته على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك.
ومن: ما شرعه لأمته من حق الأموات من زيارتهم، للاعتبار والاتعاظ، والدعاء لأموات المسلمين، ونهى عن دعائهم، والدعاء عند قبورهم، والصلاة عندها، وإسراجها، والبناء عليها، وتجصيصها والكتابة عليها والعكوف عندها، كل ذلك حماية للتوحيد من الشرك ووسائله، ومن البدع والخرافات التي ما أنزل الله بها من سلطان.(46/1)
ومضى على ذلك صحابته الكرام، وأتباعهم من القرون المفضلة، ولما تأخر الزمان وفشا الجهل، وقع في الأمة ما حذر منه النبي - صلى الله عليه وسلم - من الغلو في القبور، حتى آل ذلك إلى عبادتها من دون الله، فاشتد نكير المجددين لدين الله، والمصلحين من العلماء الذين يبعثهم الله على رأس كل قرن، كما أخبر بذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - اشتد نكيرهم على القبوريين، وإعلانهم للسنة المطهرة، ودعوتهم للتوحيد الخالص، ومن هؤلاء الأعلام: شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه العلامة ابن القيم، والشيخ الإمام المجدد شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب، رحم الله الجميع، وجزاهم عن الأمة خير الجزاء.
فها هي كتبهم تنادي بتحقيق التوحيد وتحذر من الشرك ووسائله، إلا أنه قد جاء شخص يدعى فيصل مراد علي رضا فبتر جملاً من كتب الشيخين ابن تيمية في فتاويه وابن القيم في كتابه "الروح" في موضوع التعامل مع الأموات بما يخالف هدي الكتاب والسنة، ولم يرجع إلى كلامهم الآخر الذي دونوه في كتبهم في الإنكار على الغلو بالأموات، والنهي عن التعلق بهم، مثل ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه "الجواب الباهر" و "الرد على ابن البكري"
و"التوسل والوسيلة" و "اقتضاء الصراط المستقيم".وما ذكره ابن القيم في "إغاثة اللهفان".وإلى كلام الشيخ محمد بن عبد الوهاب في "كتاب التوحيد" و "كشف الشبهات" وغيرهما، حتى يعرف موقفهم من هذه المسألة الخطرة، والعالم لابد من استكمال كلامه في الموضوع حتى يعرف رأيه فيه.
أما أن يؤخذ بعض كلامه ويترك البعض الآخر ثم يقال:هذا رأيه في الموضوع !
فتلك خيانة علمية، يلجأ إليها المضللون لخدمة أغراضهم الخاصة، والله حسيبهم.(46/2)
وأما ما نقله الكاتب من الكتاب المنسوب - كذباً وزوراً - إلى شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب في الكتاب المسمى "أحكام تمني الموت" وتبريره تلك النسبة بقيام جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بطباعته، ونسبته خطا إلى الشيخ وجعله ضمن مؤلفاته، فهذا من التلبيس الظاهر الذي تعمده الكاتب، بعد أن أعلنت الجامعة المذكورة - ممثلة بمديرها - إنكار نسبة هذا الكتاب للشيخ، وأن ما وقع من الجامعة خطأ، وكذلك الشيخان اللذان قاما بتحقيقه قد اعترفا بخطأ تلك النسبة، ودونا رأيهما بتوقيعهما على ذلك، وتجد البيانين في مقدمة البحث الذي أعددته في بيان خطأ نسبة الكتاب إلى الشيخ، والذي سيطبع ملحقاً
بهذا الرد، إن شاء الله.
وما الهدف من ذلك إلا تبرئة الأئمة مما يلصق بهم وإيضاح الحق. والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.
صالح الفوزان
مقدمة الطبعة الأولى
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:(46/3)
فقد اطلعت على نبذة كتبها المدعو:(فيصل مراد علي رضا) بعنوان:"العلماء وأقوالهم في شأن الموتى وأحوالهم" نقل فيها جملاً من "فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية"، وكتاب "الروح" لابن القيم، ومن الكتاب المنسوب خطأ للإمام محمد بن عبد الوهاب، بعنوان:"أحكام تمني الموت"(1) ؛ ليستدل بتلك النقولات على أن الموتى يسمعون كلام من خاطبهم، ويعرفون من مر بهم، أو وقف عند قبورهم، وهذا - لا شك - فتح باب لدعاء الأموات والاستغاثة بهم من دون الله، كما يفعل عباد القبور، وديننا جاء بسد الذرائع التي تفضي إلى الشرك، وأحوال الأموات في قبورهم هي من أحوال البرزخ وأمور الغيب التي لا يعلمها إلا الله ن ويتوقف القول فيها على الدليل الصحيح الثابت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي لا ينطق عن الهوى، ويُقصَر الاستدلال بها على ما وردت فيه فقط، ولا تُعمَّم على أحوال لم ترد فيها.
وما فائدة المسلمين من هذا البحث؟
هل سيستفيد منه الأموات أو الأحياء؟!
إن الأموات لا تنفعهم إلا أعمالهم، وما ورد به الدليل من ثواب إعمال غيرهم، من دعاء، وصدقة، وحج أو عمرة، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: { إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له } (2) وما ورد بمعناه، وكذلك ينتفعون بدعاء الزائر لهم، وما عدا ذلك فإنهم لا يستفيدون من أعمال الأحياء شيئاً،
لقوله تعالى: { وَلا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُون } ]يس:54[ وقوله تعالى: { وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا
مَا سَعَى } ]النجم:39[.
__________
(1) :لا ندري ما وجه تخصيص هؤلاء الأئمة الثلاثة ؟ هل هو لمحبتهم أو لغرض آخر! - الله أعلم - وهو محاولة إقناع الناس بما نقله عنهم ، ولو كان النقل في غير محله .
(2) :رواه مسلم في "صحيحه" (3/1255).(46/4)
وأما الأحياء فإنهم لا ييستفيدون من زيارة القبور إلا أجر الزيارة، والعمل بالسنة، والاتعاظ بأحوال الموتى، لا كما يقوله الخرافيون: إنهم يحصلون على مدد من الأموات،
أو بركة من تربتهم ! فإن هذا من اعتقاد الجاهلية، ومن الشرك الذي حرمه الله ورسوله.
وقد بين لنا نبينا - صلى الله عليه وسلم - ما نفعله مع أمواتنا.
قال الإمام ابن القيم في "زاد المعاد" (1/139):(كان هديه - صلى الله عليه وسلم - في الجنائز أكمل الهدي، مخالفاً لهدي سائر الأمم، مشتملاً على الإحسان إلى الميت، ومعاملته بما ينفعه في قبره ويوم معاده، وعلى الإحسان إلى أهله وأقاربه، وعلى إقامة عبودية الحي لله وحده فيما يعامل به الميت.
وكان من هديه - صلى الله عليه وسلم - في الجنائز إقامة العبودية للرب تبارك وتعالى على أكمل الأحوال، والإحسان إلى الميت،وتجهيزه إلى الله على أحسن أحواله وأفضلها، ووقوفه ووقوف أصحابه صفوفاً، يحمدون الله، ويستغفرون له، ويسألون له المغفرة والرحمة والتجاوز عنه، ثم المشي بين يديه إلى أن يُودِعون في حفرته، ثم يقوم هو وأصحابه بين يديه على قبره، سائلين له التثبيت أحوج ما يكون إليه، ثم يتعاهده بالزيارة له في قبره، والسلام عليه، والدعاء له). انتهى.
هذا هديه - صلى الله عليه وسلم - الذي كان يفعله والذي علمنا إياه في أموات المسلمين، والذي يُطلبُ منَّا تطبيقه.
أما البحث عن سماع الأموات، ومعرفتهم بمن يأتيهم، إلى غير ذلك، فهو من الفضول التي
لا فائدة فيها، وهو كما ذكرنا قد يجر إلى ما لا تحمد عقباه، من التعلق بالأموات، ودعائهم
من دون الله.
والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
المؤلف
صالح بن فوزان الفوزان
مناقشة الكاتب في بعض نقولاته
ثم نأتي إلى نقولات كاتب هذه النبذة عن المشايخ الذين سماهم لمناقشته فيها، فنقول:
* أولاً: قال كاتب النبذة:(الفصل الأول: معرفة الميت بمن يغسله ويحمله ويكفنه ويدليه في قبره).(46/5)
ثم كتب تحت هذا العنوان ما يلي:(يقول ابن القيم في كتاب"الروح": (وقد ثبت في الصحيح: أن الميت يستأنس بالمشيعين لجنازته بعد دفنه، فروى مسلم في "صحيحه"
(1/112) من حديث عبد الرحمن بن شماسة المهري، قال:حضرنا عمروا بن العاص وهو في سياق الموت... إلى آخر القصة. والتي ملخصلها: أن يبقوا عند قبره بعد دفنه بمقدار
ما تنحر جزور ويوزع لحمها! ليستأنس بهم عند سؤال الملكين له في قبره) وقال بعدها:(فدل أن الميت يستأنس بالحاضرين عند قبره ويُسرّ بهم) انتهى.
بيان الخطأ في ذلك القول:
ونقول: ما ذُكر في هذه القصة ليس حديثاً عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - وإنما هو من كلام عمرو بن العاص - رضي الله عنه -، والحجة بما ثبت عن الرسول - صلى الله عليه وسلم -.
ثم القصة خاصة بما بعد الدفن، وليست عامة في الحضور عند القبر في أي وقت، ولعل عمراً - رضي الله عنه - يريد من الحاضرين في تلك اللحظة أن يفعلوا ما أمر به النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله:
{ استغفروا لأخيكم، واسألوا له التثبيت، فإنه الآن يسأل } (1).
ثم أين المطابقة بين هذه القصة وبين العنوان الذي وضعه الكاتب، وهو قوله:(معرفة الميت
بمن يغسله ويحمله ويكفنه ويدليه في قبره)؟ إلا ما نقله الكاتب من كتاب "أحكام تمني الموت" المنسوب للإمام محمد بن عبد الوهاب من أن الميت يعرف من يغسله ويحمله ومن يكفنه.. إلخ.
فهذا الكتاب مجهول المؤلف، ونسبته للإمام محمد بن عبد الوهاب خطأ وقع فيه بعض منسوبي جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، حينما قامت الجامعة بحصر مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وسبب هذا الخطأ أنهم وجدوا على ظهر مخطوطة هذا الكتاب:أنه بخط رجل اسمه محمد بن عبد الوهاب. وظنوا أنه للشيخ.
__________
(1) : رواه أبو داود في "سننه" من حديث عثمان بن عفان - رضي الله عنه - "عون المعبود" (9/41) والحاكم
في "مستدركه" (1/370) وصححه ، ووفقه الذهبي .(46/6)
وعند التحقيق: ظهر أن هذا الكتاب ليس للشيخ محمد بن عبد الوهاب؛ لأن ما فيه يتنافى مع طريقة الشيخ، ودعوته القائمة على الكتاب والسنة، والتحذير من الشرك والبدع والخرافات، وغير ذلك مما يشتمل عليه هذا الكتاب من المخالفات الشرعية في حق الأموات.
وقد نشرت الجامعة بعد ذلك رسالة لي، صغيرة بعنوان "إبطال نسبة كتاب أحكام تمني الموت إلى شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب".
ووزعت هذه الرسالة، ثم تكرر طبعها، وهي موجودة الآن في المكتبات، وقد قدم لها مدير الجامعة بمقدمة، جاء فيها:(وقد تلقت الجامعة مجموعة من الملحوظات المتصلة بمؤلفاته رحمه الله، ومن بينها:أن رسالة "أحكام تمني الموت" المنشورة في المجلد الثاني من قسم الفقه، ليست من تأليف الشيخ؛ لتعارضها مع مؤلفاته الأخرى، ورسائله وأجوبته، وأن نسبتها إليه حدثت بطريق الخطأ)، وجاء فيها أيضاً:(وأن ما حدث كان مرده الخطأ، وسببه ما ورد
على ظهر المخطوطة: بأنها كتبت بخط محمد بن عبد الوهاب، فالتبس الأمر على القائمين
على هذا العمل، وجل من لا يخطئ. والله يعفو عن الخطأ والنسيان.
وقد بادرت الجامعة بإصدار هذه الرسالة التي تثبت عدم صحة نسبة كتاب "أحكام تمني الموت" لشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب؛ ليكون فيها البيان الواضح، والجواب الكافي لإزالة أي شك، وليعرف الجميع أن هذا الكتاب ليس من مؤلفات الشيخ، وأن الجامعة
لا تسمح لأحد بطباعته أو توزيعه) انتهى.
ومع هذا البيان الواضح والنفي القاطع يأتي كاتب هذه النبذة فينسب إلى الشيخ محمد بن عبد الوهاب ما هو بريء منه، ويخرجه للناس، وهذا من باب التلبيس والكذب على العلماء. ولا حول ولا قوة إلا بالله (1).
__________
(1) :وما أظنه يخفى عليه هذا الأمر ، فقد وزعت الرسالة التي بينت بطلان نسبة هذا الكتاب إلى الشيخ ، وعممت على المؤسسات العلمية .(46/7)
ويعتبر هذا البيان عن بطلان نسبة هذا الكتاب إلى الإمام محمد بن عبد الوهاب مبطلاً للنقل عنه في هذا الموضع، وفي غيره من مواضع هذا الكتيب الذي نحن بصدد الرد عليه؛ لأن هذا الكتاب صار مجهول المؤلف، فهو كمجهول النسب، فلا يعوّل عليه.
* ثانياً: ثم قال كاتب النبذة:
(الفصل الثاني: معرفة الميت بزيارة الحي له واستبشاره).
ونقل مقتطفات من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" من الجزء الرابع
والعشرين، ومن كلام ابن القيم في كتاب "الروح"، لا تتفق مع العنوان الذي وضعه وهو: معرفة
الميت بزيارة الحي له واستبشاره؛ لأن شيخ الإسلام رحمه الله لما ساق النصوص التي استدل بها، قال: (فهذه النصوص وأمثالها تبين أن الميت يسمع في الجملة كلام الحي، ولا يجب أن يكون يسمع دائماً، بل قد يسمع في حال دون حال). هذا ما قاله الشيخ.
والكاتب أطلق في عنوانه الذي وضعه:أن الميت يعرف الحي الذي يزوره ويستبشر به،
ولم يقيد ذلك بما قيد به شيخ الإسلام.
هذا على أن أحوال الأموات في القبور من أمور الغيب التي لا يعلمها إلا الله، فلا يجوز الكلام فيها إلا في حدود ما تدل عليه النصوص الصحيحة، وما عدا ذلك فيُمسَك عن الكلام فيه.
* ثالثاً: ثم قال كاتب النبذة:
(الفصل الثالث: معرفة الميت بعمل الحي وعرض أعمال الأحياء على الأموات).
ونقل كلاماً لشيخ الإسلام ابن تيمية وللإمام ابن القيم لا يتفق مع العنوان الذي وضعه؛ لأن الذي في كلام الشيخين: أن الأموات يسألون الميت إذا توفي، وقدم عليهم، عن أحوال الأحياء، وأن أعمال الأحياء تعرض عليهم.
وليس في كلامهما: أن الأموات يعلمون بأحوال الأحياء تلقائياً، وإنما يعلمونها بسبب إخبار القادم عليهم، وبسبب عرض الأعمال عليهم.
ثم إن الشيخين رحمهما الله لم يوردا في ذلك أدلة صحيحة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإنما ذكرا آثاراً عن بعض السلف، وأقوالاً لبعض أهل العلم، تحتاج إلى أدلة صحيحة من الكتاب والسنة.(46/8)
* رابعاً: ثم قال كاتب النبذة:
(الفصل الرابع: تلقين الميت عند الدفن).
ونقل كلاماُ لشيخ الإسلام ابن تيمية، حاصله: أن التلقين بعد الدفن من الأمور المختلف
فيها، وأنه لم يكن من عمل المسلمين المشهور بينهم على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وخلفائه، وأن الحديث
الوارد فيه لا يُحكَم بصحته (1).
ولم يكن كثير من الصحابة يفعل ذلك، وأعدل الأقوال عنده أنه مباح.
وأقول: هذه الإشارات من الشيخ رحمه الله تكفي لمنع التلقين بعد الدفن، وأنه ليس مشروعاً.
وأما قوله رحمه الله:(وأعدل الأقوال فيه أنه مباح) فهو قول فيه نظر؛ لأن التلقين حكم شرعي فيحتاج إلى دليل صحيح من الكتاب والسنة، ولم يصح فيه دليل، فهو عمل ممنوع.
وأما فعل بعض السلف له ـ كما ذكر الشيخ رحمه الله ـ فلا يكفي دليلاً، لا سيما وقد خالفهم الأكثر.
وأما ما نقله الكاتب عن ابن القيم أنه قال في كتاب "الروح":(إن التلقين جرى عليه عمل الناس قديماً وإلى الآن، وإن الحديث الوارد فيه - وإن لم يثبت - فاتصال العمل به في سائر الأعصار والأمصار من غير إنكار كاف في العمل به..) إلخ. فهو كلام منه رحمه الله، وفيه مجازفة شديدة، ويرد عليه كلام شيخه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله الذي سبقه، وهو: (أنه لم يكن كثير من الصحابة يفعل ذلك، وأنه ما كان من عمل المسلمين المشهور بينهم على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وخلفائه، وأن الحديث الوارد فيه لا يحكم بصحته).
* خامساً: ثم قال كاتب النبذة:
__________
(1) : حديث التلقين: مروي من حديث أبي أمامة - رضي الله عنه -، ضعفه الحفاظ الناقدون، ومنهم: ابن الصلاح ، والنووي في "المجموع"، وشيخ الإسلام ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" وابن القيم في "زاد المعاد" (1/523)، تحقيق الأرناؤوط، والعراقي، والهيثمي في "مجمع الزوائد"(3/45)، والحافظ ابن حجر حيث قال: حديث غريب، وسند الحديث من الطريقين ضعيف جداً.(46/9)
(الفصل الخامس: قراءة القرآن على القبر ووصول ثواب الأعمال من الأحياء إلى الأموات).
ونقل كلاماً لشيخ الإسلام ابن تيمية في "مجموع الفتاوى"، لا يتطابق مع هذا العنوان، حيث إن العنوان: قراءة القرآن على القبر مطلقاً، والذي في كلام الشيخ رحمه الله هو قوله: (فالقراءة عند القبر مأثورة في الجملة. وأما بعد ذلك فلم ينقل فيه أثر. والله أعلم) انتهى كلامه. وقد أنكر استمرار القراءة عند القبر.
ثم إن الذين أجازوها عند الدفن ليس معهم دليل من كتاب ولا سنة، ومجرد العمل من البعض لا يحتج به.
وأيضاً قول الكاتب في العنوان: (ووصول ثواب الأعمال من الأحياء إلى الأموات) ليس على إطلاقه، فالذي يصل منه هو ما قام الدليل على وصوله، كالصدقة، والدعاء، والصوم عنه، والحج عنه، ويكون ذلك مخصصاً لقوله تعالى: { وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى } ]النجم:39[.
وما لم يقم على وصوله دليل فإنه يدخل فيما نفته الآية الكريمة ن ومن ذلك القراءة.
وأما ما نقله الكاتب من توسع الإمام ابن القيم رحمه الله في وصول جميع الأعمال إلى
الميت، ففيه نظر ظاهر، إذ الأصل عدم انتفاع الميت إلا بعمله، كما في الآية الكريمة: { وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى } ويُخصُّ من عمومها ما دل الدليل على أن الميت ينتفع به، من عمل الحي، كالصدقة، والدعاء، والعلم النافع، وصيام الفرض، والحج والعمرة، ويبقى ما عداه على النفي، ولا عبرة بمن خالف في ذلك، فالصواب يكون مع من معه الدليل.
* سادساً: ثم قال كاتب النبذة:
(الفصل السادس:معرفة الأموات بزوارهم يوم الجمعة).
ولم يجد ما يستدل به إلا رؤيا ذكرها الإمام ابن القيم، وقصة عن محمد بن واسع، ومعلوم
أن الأحلام والقصص لا يستدل بها على إثبات الأحكام الشرعية والمغيبات، وإنما يستدل
على ذلك بالأدلة الصحيحة من الكتاب والسنة.
ثم ختم الكاتب كتيبه بخلاصة الفوائد التي استنتجها مما كتب، فقال:(46/10)
1- (إن الميت لا ينقطع عن عالم الأحياء بموته، بل هو يعرف من يغسله ويحمله ويدليه في قبره ويسمع أقوالهم، كما أنه يراهم)!
ونقول له: هات الدليل على ما ذكرت من كتاب الله أو سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، قال الله تعالى:
{ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } ]البقرة:111[، ولو كان الميت لا ينقطع عن عالم الأحياء فلماذا يدفن ويقسم ماله وتتزوج نساؤه؟
2- قال: (إن الميت يعرف ويسمع ويرى من يزوره، فهو يخاطَب مخاطبة من يرى ويسمع ويعقل).
نقول: هذا من جنس ما قبله، يحتاج إلى دليل.
ولو كان يخاطب مخاطبة من يرى ويسمع - كما قلت- لذهب الصحابة يسألون رسول الله
- صلى الله عليه وسلم - عما أشكل عليهم، ولذهب الناس إلى علمائهم الأموات يتعلمون منهم، ويستفتونهم في مشكلاتهم؛ إذ لا فرق حينئذ بين الأحياء والأموات عندك، والله يقول: { وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلا الْأَمْوَاتُ } ]فاطر:22[.
3- قال: (إن إعمال الأحياء تعرض على الأموات، وإنهم على علم بما يفعله الحي من أقاربهم، ويستبشرون ويفرحون بعمله الصالح، كما أنهم يدعون له إن رأوا غير ذلك).
ونقول: لم يثبت هذا عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإنما الوارد فيه أقوال لبعض العلماء تحتاج إلى دليل.
وقد صح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم القيامة إذا صُرف بعض أمته عن حوضه يقول: { أمتي، أمتي }
فيقال له: { إنك لا تدري ماذا أحدثوا بعدك } (1).
ثم قولك: (إن الميت يدعو للحي)، فيه فتح لباب الشرك، وذلك بطلب الأحياء من الأموات قضاء حاجاتهم والدعاء لهم.
4- قال: (إن التلقين للميت عمل قد عمله عدد من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين، وفيه حديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وإن اختلف في درجة صحته ـ فقد جرى عليه عمل الناس من قديم إلى الآن، كما قال ابن القيم).
ونقول: سبق الجواب عن هذا.
__________
(1) : جاء ذلك في بعض أحاديث الشفاعة في الصحاح وغيرها .(46/11)
وقولك:(قد علمه عدد من الصحابة) نقول لك: والمخالفون لهم من الصحابة أكثر. وعمل الصحابي لا يحتج به إذا خالفه غيره من الصحابة ولو كان واحداً، فكيف والمخالفون هم أكثر الصحابة؟
وقولك عن حديث التلقين:(قد اختلف في صحته).
نقول: ليس في كلام الشيخين اللذين نقلت كلامهما(ابن تيمية وابن القيم) ذكر للاختلاف في صحته، وإنما قلت:(قال الشيخ تقي الدين: لا يحكم بصحته.وقال ابن القيم: ويروى فيه حديث ضعيف).
وسبقت الإجابة عن قول ابن القيم:(عليه عمل الناس).وأن الأمر ليس كذلك، وإنما عليه عمل بعض الناس، وليس ذلك بحجة.
5- قال: (إن إهداء الأموات ثواب الأعمال الصالحة من قراءة القرآن وذكر وصدقة وصيام
ونحوها وانتفاع الميت بذلك، قد أجمع عليه هؤلاء العلماء الثلاثة في حصوله ووصوله، وأنه
ليس للمنكِر على ذلك دليل يستطيع أن يحتج به).
نقول: تقدمت الإجابة عن ذلك، وأنه لا يصل إلى الميت من ثواب عمل الحي إلا ما صح به الدليل من الصدقة، والدعاء، والحج والعمرة، وصيام الفرض عنه.
وما عدا ذلك فلا يصل إليه شيء؛ بدليل قوله تعالى: { وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى }
]النجم:39[ وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: { إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث:" صدقة جارية،
أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له } (1).
ومن العجيب قولك:(وأنه ليس للمنكِر على ذلك دليل يستطيع أن يحتج به)، مع وجود هذه الآية الكريمة والحديث الصحيح، بل الصواب العكس، وهو أن يقال:ليس مع المجيز دليل يحتج به.
وقولك:(وانتفاع الميت بذلك قد أجمع عليه الثلاثة)، تعني شيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم، والشيخ محمد ابن عبد الوهاب، فيما نقلت من كلامهم.
__________
(1) : رواه مسلم في "صحيحه" (3/1255) . (2): رواه مسلم في "صحيحه" (2/671) .(46/12)
نقول لك: إن الشيخ محمد بن عبد الوهاب ليس له في ذلك كلام، والكلام الذي نقلته من الكتاب المنسوب إليه ليس له، ولا يعرف قائله؛ حيث لا يعرف مؤلف الكتاب، كما سبق بيانه.
وقولك: أجمع عليه الثلاثة، تعبير غير صحيح؛ لأن اتفاق عدد من العلماء - لو صح -
لا يسمى إجماعاً. وإنما الإجماع: "اتفاق علماء الأمة في عصر من العصور على حكم شرعي"، وهذا لم يحصل في هذه المسألة.
6- قال:(إن زيارة الأحياء للأموات يوم الجمعة فيه مزية جليلة، وفائدة طيبة لهم؛ وذلك لما في الجمعة من فضيلة يعرفها الناس).
ونقول: تخصيص يوم الجمعة لأفضلية زيارة القبور لا دليل عليه.وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: { زوروا
القبور، فإنها تذكر بالموت } (1)، ولم يخص يوم الجمعة، ومن قال بتخصيص يوم الجمعة بالزيارة فعليه الدليل.
وكون يوم الجمعة يوماً فاضلاً ليس دليلاً لتخصيص الزيارة فيه، وأنها أفضل من الزيارة في غيره.
هذا آخر ما يسره الله من مناقشة هذا الكاتب.وما أردنا بهذا إلا الوصول إلى الحق، وإزالة اللبس.
والله الهادي إلى سواء السبيل.
وننصح المسلمين من الاغترار برسالة هذا الكاتب لما فيها من التضليل والتلبيس.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
وكتبه
صالح بن فوزان بن عبد الله الفوزان(46/13)
الرد على من أجاز الاحتفال بالمولد النبوي
الشيخ حامد بن عبدالله العلي
*** الحمد لله والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وبعد :
*** فقد أرسل إلي سائل ، اعتراضا لبعض المتحمسين لبدعة المولد ، على من يحرم هذه البدعة من العلماء المحققين ، وقد تضمن كلام المعترض ، خلطا في المسائل والدلائل ، وخروجا عن موضع النزاع ، واستدلالا بأمور لا يصح الاستدلال بها ، إما بسبب ضعف طريق الثبوت ، أو خطأ في وجه الدلالة ، مع ما في اعتراضه من الخروج عن حدود الأدب ، وادعاء أمور لم يقلها القائلون بأن المولد بدعة ، وهم عامة علماء أهل السنة.
ـــــــــــــــ
*** كما أوهم المعترض أن القائلين بتحريم المولد ، يتهمون من يفعل هذه البدعة ، بأنهم زنادقة ، لان أول من أحدث هذه البدعة هم زنادقة الباطنية الفاطميين .
*** مع أنه ليس ثمة تلازم بين الأمرين ، فكثير من العادات المنتشرة بين المسلمين اليوم ، أصلها من عادات النصارى ، وقد وقع فيها المسلمون ، كما ورد في الحديث قال صلى الله عليه وسلم ( لتتبعن سنن الذين من قبلكم ) متفق عليه من حديث أبى سعيد الخدري رضي الله عنه ، مع أنه لا يحكم على من قلد النصارى في تلك العادات بأنه صار نصرانيا ، فكذلك لا يحكم على من قلد زنادقة الفاطميين في بدعة المولد بأنه زنديق .
*** كما أنه لاتلازم بين وقوع الشخص في البدعة ، وكونه ضالا آثما ، فقد ذكر العلماء أن الفاضل قد يفعل البدعة ، ويكون مأجورا على نيته ، وحسن قصده ، معذورا بتأويله ، والبحث ليس في حكم من يفعل المولد ، وإنما في حكم فعله في حد ذاته ، هل هو موافق لقواعد الشرع ، متفق مع نصوصه ، أم بدعة وإحداث في الدين ، وأما الحكم على فاعله ، فهذا قد يكون مأجورا ، وقد يكون مأزورا ، وقد يكون معذورا بجهله ، وقد يكون رجلا صالحا أخطأ في اجتهاده ، وقد يكون زنديقا ، فليس البحث في هذا أصلا.(47/1)
*** كما قال شيخ الإسلام ابن تيميه : ( وكذلك ما يحدثه بعض الناس ، إما مضاهاة للنصارى في ميلاد عيسى عليه السلام ، وإما محبة للنبي صلى الله عليه وسلم وتعظيما له ، والله قد يثيبهم على المحبة والاجتهاد ، لا على البدع : من اتخاذ مولد النبي صلى الله عليه وسلم عيدا مع اختلاف الناس في مولده ، فإن هذا لم يفعله السلف مع قيام المقتضي له ، وعدم المانع منه ، ولو كان هذا خيرا محضا ، أو راجحا ، لكان السلف رضي الله عنهم أحق به منا ، فإنهم كانوا أشد محبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتعظيما له منا ) اقتضاء الصراط 295
*** ومن عجائب المعترض أنه زعم أن الإمام ابن كثير أثنى على أحد الملوك لعمله المولد ، ثم جعل ثناء ابن كثير عليه ، مناقضا لقول من قال من العلماء إن أول من أحدث الاحتفال بالمولد النبوي هم الزنادقة الفاطميون العبيديون في المائة الرابعة .
قال المعترض : قال ابن كثير : ("..الملك المظفر أبو سعيد كوكيري، أحد الأجواد والسادات الكبراء والملوك الأمجاد، له آثار حسنة (وانظر إلى قوله آثار حسنة) وكان يعمل المولد الشريف في ربيع الأول ويحتفل به احتفالاً هائلاً، وكان مع ذلك شهما ً شجاعاً فاتكاًعاقلاً عالماً عادلاً، رحمه الله وأحسن مثواه.." إلى ان قال "..وكان يصرف في المولد ثلاثمائة ألف دينار" اهـ.
فانظر رحمك الله إلى هذا المدح والثناء عليه من ابن كثير إذ أنه وصفه بأنه
عالم، عادل، شهم ، شجاع، إلى قوله : رحمه الله وأحسن مثواه، ولم يقل: زنديق، فاجر، فاسق، مرتكب الفواحش والموبقات ) انتهى كلام المعترض .
*** والجواب : أن الإمام ابن كثير في كتابه البداية والنهاية ، ينقل التاريخ ، ولايعني نقله لحدث تاريخي ، أنه يقر ما فيه ، وأما ثناؤه على صفات الملك الحميدة ، فلا يتناقض مع كون المولد بدعة ، فالشخص قد يجمع بين الصواب و الخطأ ، والسنة والبدعة .(47/2)
*** وهذا الملك (كوكبري) كانت لديه بدع أخرى أيضا ، كما قال ابن كثير في المصدر نفسه ( ويعمل للصوفية سماعا من الظهر إلى الفجر يرقص بنفسه معهم ) انتهى ، مع ما له أيضا من الخير والإحسان والبر والجهاد .
*** هذا مع أنه قد يمدح بعض الملوك أو السلاطين لاعمال يقومون بها ، هي مذمومة لو فعلها غيرهم ، والبدعة قد يفعلها جهلة الملوك ، بحسن قصد ، فيثابون على قصدهم الحسن ، وإن كان ما فعلوه بدعة يجب النهي عنها .
*** كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى : ( فتعظيم المولد واتخاذه موسما قد يفعله بعض الناس ، ويكون له فيه أجر عظيم ، لحسن قصده وتعظيمه لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، كما قدمت لك أنه يحسن من بعض الناس ، ما يستقبح من المؤمن المسدد ، ولهذا قيل للإمام أحمد عن بعض الأمراء : إنه أنفق على مصحف ألف دينار ، ونحو ذلك فقال دعه ، فهذا أفضل ما أنفق فيه الذهب ، أو كما قال ، مع أن مذهبه : أن زخرفة المصاحف مكروهة ، وقد تأول بعض الأصحاب أنه انفقها في تجديد الورق والخط ) اقتضاء الصراط ص 297
*** فحتى لو فرض أن الإمام ابن كثير أثنى على الملك الذي احتفل بالمولد ، فلما يتضمنه ذلك من تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم ومحبته ، وهذا قليل في الملوك ، فحسن من هذا الوجه الثناء به على ذلك الملك ، وإن كان قد يستقبح من المؤمن المسدد ، مع أن هذا لايعني إقرار الإمام ابن كثير بدعة المولد ، بل ثناؤه كان على حسن قصد الملك ، لا على بدعة المولد .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
***هذا وقد اتفق السلف الصالح على ذم البدع ، والنهي عنها والتحذير منها ، وأما ما ورد عن بعض الصحابة أو العلماء من استحسان بعض البدع ، فالمقصود الإطلاق اللغوي ، وليس المعنى الشرعي .(47/3)
*** وقال ابن رجب ( فكل من أحدث شيئا ونسبه إلى الدين ، ولم يكن له أصل من الدين يرجع إليه ، فهو ضلالة والدين بريء منه ، وسواء في ذلك مسائل الاعتقادات أو الأعمال والأقوال الظاهرة والباطنة ، وأما ما وقع في كلام السلف من استحسان بعض البدع ، فإنما ذلك في البدع اللغوية لا الشرعية ، فمن ذلك قول عمر ـ رضي الله عنه ـ لما جمع الناس في قيام رمضان على إمام واحد في المسجد وخرج ورآهم يصلون كذلك ، فقال : ( نعمت البدعة هذه ) جامع العلوم والحكم ص 252
*** وقال شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله : ( كل ما لم يشرع من الدين فهو ضلاله ، وما سمي بدعة ، وثبت حسنه ، بأدلة الشرع فأحد الأمرين فيه لازم ، إما أن يقال ليس ببدعة في الدين ، وإن كان يسمى بدعة من حيث اللغة كما قال نعمت البدعة هذه ) مجموع الفتاوى 10/471 ـ 22/
234
*** وقال الشاطبي في معرض رده على المستحسن للبدع بقول عمر رضي الله عنه ، فقال ( إنما سماها بدعة باعتبار ظاهر الحال من حيث تركها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، واتفق أن لم تقع في زمان أبي بكر رضي الله عنه ، لأنها بدعة في المعنى ) الاعتصام 1/195
*** وكذلك قصد الشافعي عندما قال ( المحدثات من الأمور ضربان : ما أحدث يخالف كتابا أو سنة أو أثرا أو إجماعا ، فهذه البدعة ضلالة ، وما أحدث لا خلاف فيه لواحد من هذا ، فهذه محدثة غير مذمومة ـ قد قال عمر رضي الله عنه في قيام رمضان نعمت البدعة هذه ، يعني إنها محدثة لم تكن ، وإن كانت فليس فيها رد لما مضى ) ابن عساكر في تبيين كذب المفتري ص 97
*** يقصد البدعة في اللغة ، وليس الإحداث في الدين ، ويدل على هذا أن الإمام الشافعي نفسه يقول ( وهذا يدل على أنه ليس لاحد دون رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول إلا بالاستدلال إلى أن قال : ولا يقول بما استحسن ، فإن القول بما استحسن شيء يحدثه لا على مثال سبق ) الرسالة 504(47/4)
*** وأما الإمام العز بن عبد السلام رحمه الله ، الذي قسم البدع إلى خمسة أقسام واجبة ومحرمة ومندوبة ومكروهة ومباحة ، فهو إنما نظر إلى العمل من حيث وجه الإحداث فيه ، وكونه أمرا مبتدأ ، سواء كان عبادة أو غيرها ، ولهذا فقد أدخل المصالح المرسلة في هذا التقسيم .
*** وقول النبي صلى الله عليه وسلم ( كل بدعة ضلالة ) قاعدة كلية عامة تستغرق ، جميع جزيئات وأفراد البدع ، لان لفظ كل من الفاظ العموم ، وقد ذكر أهل اللغة أن فائدة لفظ كل هو رفع احتمال التخصيص إذا جاء مضافا إلى نكره ، أو جاء للتأكيد.
*** ولان كل عند أهل اللغة والأصول لاتدخل إلا على ذي جزئيات وأجزاء ، ومدلولها في الموضعين الإحاطة بكل فرد من الجزئيات أو الأجزاء .
***ولأنها إذا أضيفت إلى نكره كما في قوله تعالى : ( كل امرئ بما كسب رهين ) و( كل شيء فعلوه في الزبر ) و( وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ) و( كل نفس ذائقة الموت ) فإنها تدل على العموم المستغرق لسائر الجزئيات وتكون نصا في كل فرد دلت عليه تلك النكرة ، مفردا كان أو تثنية أو جمعا ، ويكون الاستغراق للجزئيات بمعنى أن الحكم ثابت لكل جزء من جزيئات النكرة ، وإذا طبقنا هذا على حديث ( كل بدعة ضلالة ) فإنه يعني أنه لايمكن أن تخرج أي بدعة عن وصف الضلال ، كما لاتخرج أي نفس عن كونها ذائقة الموت ، وكل إنسان عن كونه طائره في عنقه .
ــــــــــــــــــــــــــــ(47/5)
***وأما ما نقله المعترض من أن بعض العلماء قسموا البدع إلى حسنة وسيئة على غير معنى اللغوي بالبدعة ، فلاحجة في قول أحد بعد النبي صلى الله عليه وسلم ، بل الحجة في كلام الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم ، وكذلك احتجاجه بقول من قال بجواز الاحتفال بالمولد ـ مثل الإمام السيوطي وغيره ـ لاحجة فيه ، بل هو مخالف للأدلة ، وما كان عليه الصحابة ، والقرون المفضلة ، ولا يلزم من ذلك الطعن على من أجازه من العلماء ، ورميهم بالبدعة والضلالة ، كما تقدم إيضاح ذلك.
ـــــــــــــــــــ
***والبدع أقسام :
@ منها بدع اعتقادية : كإنكار القدر وتعطيل الصفات أو تأويلها ، وجعل الإيمان مجرد القول والاعتقاد ونحو ذلك .
@ ومنها بدع قلبيه : كالخوف من صاحب القبر الفلاني ، ورجائه أو الخشية منه ونحو ذلك .
@ ومنها بدع قوليه : كالذكر المبتدع عند الصوفية ودعاء الموتى والاستغاثة بالمقبورين ونحو ذلك .
@ ومنها بدع بدنية : كصلاة الرغائب ، والجثو أو السجود للولي الفلاني ، وقصد المشاهد والمقامات المبتدعة ، وإقامة الموالد ونحو ذلك .
@ ومنها بدع مالية : كإخراج الخمس للإمام عند الرافضة والإسماعيلية والإنفاق على بناء الأضرحة وتشييدها ونحو ذلك .
ــــــــــــــــــــــــــــــ
*** ومن عجائب ما ذكره المعترض ، أنه قرر أن كل ما له أصل في الشرع ، فلا يكون بدعة بحال من الأحوال ، وهذا يعود بالأبطال على قول النبي صلى الله عليه وسلم ( كل بدعة ضلالة ) لان غالب أصحاب البدع إنما يستدلون بما له أصل في الشرع ، ولكنهم ينزلون النصوص غير منازلها ، كما قال تعالى ( يتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله ) .
ــــــــــــــــــــــــ(47/6)
*** ومن الأمثلة على هذا ما أحدثته الطرق الصوفية من الأذكار والصلوات التي ما أنزل الله بها من سلطان ، زاعمين أن أصل ذلك موجود في الشرع ، وهو الآيات والأحاديث التي ندبت إلى ذكر الله والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم .
@ فأحدثوا صلاة احمد البدوي : ( اللهم صل على نور الأنوار، وسر الأسرار ، وترياق الاغيار ) أفضل الصلوات ص 84
@ وصلاة الدسوقي : ( اللهم صل على الذات المحمدية ، اللطيفة الاحدية ، شمس سماء الأسرار ، ومظهر الأنوار ، ومركز مدار الجلال ، وقطب فلك الجمال ) المصدر السابق ص 85
@ وصلاة محي الدين بن عربي : ( اللهم أفض صلة صلواتك ، على أول التعينات المفاضة من العماء الرباني ، وآخر التنزلات المضافة إلى النوع الإنساني ، المهاجر من مكة ، كان الله ولم يكن معه شيء ثاني .... ) المصدر السابق 86
@ وصلاة الشاذلي ، وصلاة البكري ، والصلوات الزاهرة ( اللهم صل على الجمال الأنفس ، والنور الأقدس ، والحبيب من حيث الهوية ، والمراد في اللاهوتية .. ) المصدر السابق ص 131
ــــــــــــــــــــــــــــ
*** وهكذا فتحوا الباب لكل بدعة وبلاء ، فابتدعت كل طائفة المحدثات ، وضيعوا سنة النبي صلى الله عليه وسلم ، بين تلك الأهواء .(47/7)
***وابتدعو لهم طرقا صوفية ، اتخذوا فيها دين الله تعالى هزوا ولعبا ، وصار ذكر الله تعالى ، صياح وزعيق كزعيق المجانين ، مثل الطريقة النقشبدنية التي أحدثت أسرع طريقة ذكر للوصول إلى الجذبة ( أي يجذبه الله تعالى إليه ) وخلاصتها : يدير المريد وجهه إلى اليمين حتى يصبح ذقنه فوق كتفه اليمنى ، ويلفظ كلمة ( لا ) ثم يدير وجهه بسرعة إلى الإمام ويضع ذقنه على صدره ، ويلفظ كلمة إله ، ثم يدير وجهه بسرعة أيضا إلى اليسار ، حتى تكون ذقنه فوق كتفه اليسرى ، ويلفظ كلمة إلا ، ثم يدير وجهه بسرعة دائما ، إلى الإمام ويضع ذقنه فوق صدره ، ويلفظ كلمة الله ، ويعيد الكرة ، ويقولون إن القيام بهذه العملية واحدا وعشرين مرة ، يمكن يوصل إلى الجذبة !!
ـــــــــــــــــــــــــ
***ثم زادوا البدع ، فأحدثوا الذكر مع الرقص ، ولهذا فالصوفية تنقسم إلى قسمين :
@الصوفية الجالسة .
@ والصوفية الراقصة .
***والصوفية الجالسة تنقسم إلى قسمين :
@ الجالسة الصامتة .
@ والجالسة الصائته .
*** فالصامتة يقرؤون أورادهم جلوسا صامتين ، كالنقشبندية والخوفية ، وقد يجهرون بعض الاحيان ، وقد يقفون حسب توجيه الشيخ .
*** والصائته ، يقرؤون أصواتهم جلوسا مع الجهر بالصوت ، كالتيجانية والنعمتللاهية ، وقد يقفون ويرقصون حسب توجيهات الشيخ .
*** وأما الصوفية الراقصة ، وعليها أكثر الطرق ، وكلها صائته ، فهم يبدؤون الحضرة في اكثر الاحيان جلوسا ، ثم ينهضون للقفز والرقص ، وقد يصاحب قفزهم الطبول والزمور والدفوف .
*** وأحدثت كل طريقة من الطرق ، أساليب مبتكرة للرقص والذكر ، وانتشر الأمر عليهم ، وكثرة الطرق وتفرعت ، وتحولت إلى ضلالات وظلمات بعضها فوق بعض.
*** وكل هذا من شؤم البدع ، وما جلبته على المسلمين من الضلال المبين .
ــــــــــــــــــــــــــ(47/8)
*** والمقصود أن المعترض زعم أن الصحابة رضي الله عنهم قد زادوا في الدين أمورا ، مستدلا بذلك على أن الزيادة فيه جائزة ، مما يفتح باب كل بدعة وضلالة ، فيزاد في الدين ، وينقص ، ويبدل بغير ضابط ، سوى ظن المبتدع أن فعله راجع إلى أصل شرعي ، وكفى بهذا الصنيع ضلالا مبينا .
*** وقد احتج بأن الصديق رضي الله عنه جمع المصحف ، بأن عثمان رضي الله عنه ، زاد الأذان الثالث يوم الجمعة ، وأن عمر رضي الله عنه أخر مقام إبراهيم ، وأن عليا رضي الله عنه انشأ صلاة على النبي صلى الله عليه وسلم من عند نفسه ، وأن ابن عمر رضي الله عنهما زاد البسملة في التشهد ، وزاد في التلبية ألفاظا ، وأن ابن مسعود رضي الله عنه زاد بعد (ورحمة الله وبركاته) في التشهد ( السلام علينا من ربنا ) .
*** والجواب :
أما جمع الصديق رضي الله عنه للمصحف ، و زيادة عثمان رضي الله عنه لاذان الجمعة وتأخير عمر رضي الله عنه للمقام ، فإن هذه سنة الخلفاء الراشدين المهديين ، الذين أمرنا بالأخذ بسنتهم ، فالأخذ بسنتهم أخذ بسنة النبي صلى الله عليه وسلم ، فهي مكملة لها ، فرع عليها ، كما قال صلى الله عليه وسلم ( عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي ) رواه أحمد والترمذي وأبو داود من حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه .
*** وقد جاء في المدونة ( في قطع شجر الحرم ) كتاب الحج : ( قال مالك : بلغني أن عمر رضي الله عنه لما ولي حج ودخل مكة آخر المقام إلى موضعه ، الذي هو فيه اليوم ، وكان ملتصقا بالبيت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ، وعهد أبي بكر وقبل ذلك ، وكان قدموه في الجاهلية مخافة أن يذهب به السيل ، فلما ولي عمر أخرج أخيوطه كانت في خزانة الكعبة ، قد كانوا قاسوا بها ما بين موضعه وبين البيت ، إذ قدموه مخافة السيل ، فقاسه عمر ، فأخره إلى موضعه اليوم ، فهذا موضعه الذي كان في الجاهلية وعلى عهد إبراهيم عليه السلام ) انتهى(47/9)
*** فعلى هذه الرواية يكون عمر رضي الله عنه قد رد المقام إلى ما كان عليه في زمن إبراهيم عليه السلام ، وقد ذكر العلماء أنه أخره رضي الله عنه لئلا يطأه الناس بأقدامهم ، ولتوسعة المكان للطائفين .
*** وأما ما ورد عن ابن عمر وابن مسعود رضي الله عنهما في صيغ التشهد ، فهذا إن صح إسناده ، فهو في حكم المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، والعلماء متفقون على أن جواز كل التشهدات التي وردت عن الصحابة ، لأنها كلها ـ إن صح الإسناد ـ محمولة على سماعها من النبي صلى الله عليه وسلم ، لان أفعال الصلاة وأقوالها توفيقية ، وما ورد عن الصحابة رضي الله عنهم في ذلك مع صحة إسناده ، فهو داخل في هذه القاعدة ، وليس هو من الإحداث في الدين .
*** ومعلوم أن الصحابة كانوا أشد الناس حرصا على الائتساء بالنبي صلى الله عليه وسلم في كل أقواله وأفعاله ، فكيف بالصلاة التي هي أعظم أركان الدين ، فكانوا لا يفعلون شيئا فيها إلا اقتداء به صلى الله عليه وسلم .
*** والعجب من استدلال المعترض بأن الصحابة زادوا على صيغ التشهد ، على جواز الزيادة في الدين ، فهل هو يجيز لكل من يشتهي إضافة صيغة تشهد ، أن يضيفها إلى كلام النبي صلى الله عليه وسلم ، فتصبح أقوال الصلاة نهبا للأهواء ؟! فهذا مخالف لاجماع العلماء ، ويقتضي بطلان فائدة قول النبي صلى الله عليه وسلم ( صلوا كما رأيتموني أصلي ) رواه البخاري وغيره من حديث مالك بن الحويرث رضي الله عنه .
*** وأما زعمه المعترض أن عليا رضي الله عنه أنشأ صلاة على النبي صلى الله عليه وسلم من عند نفسه ، وعلمها الناس ، فلا يصح ذلك عنه رضي الله عنه ، مع أنه ـ حتى لو صح ـ فإن ما يعلمه الصحابة للتابعين ، في الأمور التي لامدخل للعقل فيها ، هو في حكم الرفع ، أي محمول على سماعه من النبي صلى الله عليه وسلم ، وهذا أمر متقرر لانزاع فيه .
ــــــــــــــــــــــــــــ(47/10)
*** هذا وقد سبق أن أرسل سائل سؤالا قال فيه : لماذا صار الاحتفال بالمولد بدعة لانه لم يكن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ، مع أن تنقيط المصحف أيضا لم يكن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ، ولم يكن بدعة ، أرجو بيان الفرق ؟
*** والجواب :
*** من المعلوم أن السنة في تعريف العلماء هي ما أثر عن النبي صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير أو ترك ، وزاد من زاد من العلماء الصفة الخلقية والخلقيه ، وتفصيل ذلك في كتب الأصول ومصطلح الحديث .
*** وهل الترك من الفعل ، فيه خلاف ، وبعض العلماء يجعل الترك من الفعل ، لان الترك لا يكون سنة إلا إذا كان مقصودا ، وهو الكف عن فعل الشيء ، والكف فعل ، لانه امتناع مع قصد ، ولهذا قيل الأصح أن يقال الكف ، لأنه ترك يتضمن قصدا ، وليس مجرد الغفلة عن فعل الشيء.
*** والكف عن فعل شيء ، لا يتحقق إلا بعد وجود الداعي إلى فعله ، فيكف الإنسان عن فعله ، فيدل على أنه تركه عمدا ، قاصدا لتركه .
*** فإذا كان هذا النوع من التروك من النبي صلى الله عليه وسلم ، كان من سنته ، لان سنته هي فعل ما فعل ، وترك ما تركه قاصدا تركه مع قيام الداعي إلى فعله .
*** لكنه إن كان في أمور العادات ، فلا يستدل بالترك على التحريم ، بل على الإباحة ، أما إن كان في شأن العبادة ، فإن الترك يدل على تحريم الفعل ، لان الأصل في العبادات التوقيف ، فقد دلت النصوص على أن الله تعالى لا يعبد إلا بما شرع ، وسيأتي إيضاح هذه النقطة .
هذا إذا تركه مع وجوده في زمن النبوة ، وتوفر الداعي إلى فعله ، أما إن لم يتوفر الداعي إلى فعله ، أو لم يكن موجودا في زمنه صلى الله عليه وسلم ، فلا يكون مجرد تركه صلى الله عليه وسلم سنة .
*** مثل تركه الطواف في الطابق الثاني في الحج ، ومثل تركه مكبرات الصوت للآذان ، فالأول لم يتوفر الداعي إلى فعله ، والثاني لم يكن موجودا في زمنه ، ولهذا لم يكن فعل هذا ، أو ذاك ، بدعة .(47/11)
ــــــــــــــــــــــ
*** وبهذا يعلم أنه إن كان الفعل الذي تركه صلى الله عليه وسلم ، في شؤون العبادة ، فإن تركه إياه يدل على أنه لم يؤذن له في التعبد لله تعالى به ، وتعبدنا به إذن ، هو البدعة التي قال صلى الله عليه وسلم عنها ( وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة ) رواه أحمد وأبو داود والترمذي من حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه ، وقال ( من أحدث في امرنا هذا ما ليس منه فهو رد ) متفق عليه من حديث عائشة رضي الله عنها .
ـــــــــــــــــــ
*** فالبدعة هي التعبد لله تعالى بما ليس على هدي النبي صلى الله عليه وسلم ، وذلك يكون ـ أعني وقوع التعبد على غير الهدي النبوي ـ بفعل ما تركه النبي قاصدا تركه ، مع قيام الداعي إلى فعله .
*** أوترك ما فعله صلى الله عليه وسلم قاصدا بفعله التقرب إلى الله تعالى وبيان حدود العبادة .
*** فالقسم الأول هو : فعل ما تركه صلى الله عليه وسلم قاصدا مع قيام الداعي إلى فعله في شؤون العبادة .
***والقسم الثاني : ترك ما فعله صلى الله عليه وسلم تقربا إلى الله تعالى مبينا حدود العبادة .
***ومن الأمثلة على الأول إضافة ألفاظ إلى الأذان ، حتى لو كانت أذكارا مستحبة ، كإضافة التسبيح والتحميد ، أو إضافة ( أشهد أن عليا ولي الله ) أ و ( حي على خير العمل ) كما تفعل الرافضة ، أو إضافة الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم جهرا مع قول المؤذن ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم ترك ذلك ، مع وجود الداعي إلى فعله ، ولكنه تركه ، فعلمنا أنه غير متعبد به ، وأن فعله يصدق عليه أنه إحداث في الدين .
***ومن الأمثلة أيضا إحداث أذان لصلاة العيد ، أو لصلاة الكسوف ، ونحو ذلك .
***ومن الأمثلة على الثاني أي ترك ما فعله صلى الله عليه وسلم ، إنقاص الأذان بترك بعض ألفاظه .
***وقد يجتمع في البدعة ، فعل وترك ، وذلك في تغيير هيئة العبادة عما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم .(47/12)
***مثل ترك الخطبة بعد صلاة العيد ، وفعلها قبل صلاة العيد ، كما فعل مروان بن الحكم ، كما روى أبو داود (أخرج مروان المنبر في يوم عيد فبدأ بالخطبة قبل الصلاة فقام رجل فقال يا مروان خالفت السنة أخرجت المنبر في يوم عيد ولم يكن يخرج فيه وبدأت بالخطبة قبل الصلاة فقال أبو سعيد الخدري من هذا قالوا فلان بن فلان فقال أما هذا فقد قضى ما عليه سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من رأى منكرا فاستطاع أن يغيره بيده فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان ) ورواه مسلم ( أول من بدأ بالخطبة يوم العيد قبل الصلاة مروان فقام إليه رجل فقال الصلاة قبل الخطبة فقال قد ترك ما هنالك فقال أبو سعيد أما هذا فقد قضى ما عليه سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان ) وهو في صحيح البخاري بألفاظ أخرى .
***ففي هذه المثال ، فعلت بدعتان ، بدعة ترك ، وبدعة فعل ، بدعة ترك الخطبة بعد صلاة العيد ، وبدعة فعلها قبل صلاة العيد .
***ولهذا قال من قال من العلماء إنه ما من بدعة إلا وتميت سنة ، لأنها تثمر ترك سنة النبي صلى الله عليه وسلم أيضا .
***والحاصل أن ما تركه النبي صلى الله عليه وسلم مع وجود الداعي إلى فعله في زمنه ، في شؤون العبادة ، فإنما تركه لبيان حدود العبادة ، وهو من تمام بيانه الذي ذكره الله تعالى في قوله (وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إلا لتبين لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ) ، وحينئذ فلا يجوز فعله ، وهو من معنى الإحداث في الدين .
***أما ما تركه لانه لم يكن ثمة داع إلى فعله ، أو كان من قبيل الوسائل التي لا تقصد بذاتها ، فلا يكون فعله من باب الإحداث في الدين .(47/13)
***ومثال الأول ترك النبي صلى الله عليه و سلم جمع القرآن مكتوبا في الصحف ، لانه لم يكن ثمة حاجة إليه في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ، فقد كان الحفاظ متوافرين ، والقرآن محفوظ في صدورهم .
***وإنما جاءت الحاجة في زمن الصديق ، كما روى البخاري :
***أن زيد بن ثابت رضي الله عنه أرسل إلي أبو بكر ، مقتل أهل اليمامة ، فإذا عمر بن الخطاب عنده ، قال أبو بكر رضي الله عنه ، إن عمر أتاني فقال إن القتل قد استحر يوم اليمامة بقراء القرآن، وإني أخشى أن يستحر القتل بالقراء بالمواطن فيذهب كثير من القرآن ، وإني أرى أن تأمر بجمع القرآن ، قلت لعمر كيف تفعل شيئا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال عمر هذا والله خير فلم يزل عمر ، يراجعني حتى شرح الله صدري لذلك ، ورأيت في ذلك الذي رأى عمر ، قال زيد قال أبو بكر إنك رجل شاب عاقل ، لا نتهمك وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فتتبع القرآن فاجمعه فوالله لو كلفوني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل علي مما أمرني به من جمع القرآن قلت كيف تفعلون شيئا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال هو والله خير فلم يزل أبو بكر يراجعني حتى شرح الله صدري للذي شرح له صدر أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ، فتتبعت القرآن أجمعه من العسب واللخاف وصدور الرجال حتى وجدت آخر سورة التوبة مع أبي خزيمة الأنصاري ، لم أجدها مع أحد غيره ( لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم ) حتى خاتمة براءة فكانت الصحف عند أبي بكر حتى توفاه الله ثم عند عمر حياته ثم عند حفصة بنت عمر رضي الله عنه .
***وإنما لم يكن جمع القرآن في الصحف بدعة، لان النبي صلى الله عليه وسلم لم يتركه كفا عن فعله قاصدا التعبد لله تعالى بذلك ، وإنما تركه لانه لم يكن ثمة داع لفعله في زمنه صلى الله عليه وسلم ، فلم يكن فعله بعد النبي صلى الله عليه وسلم بدعة إذن .(47/14)
***قال شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله : ( البدعة في الدين هي مالم يشرعه الله ورسوله ، وهو مالم يأمر به أمر إيجاب ولا استحباب ، فأما ما أمر به أمر إيجاب أو استحباب وعلم الأمر بالأدلة الشرعية ، فهو من الدين الذي شرعه الله ـ إلى أن قال ـ سواء كان هذا مفعولا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم أو لم يكن ) مجموع الفتاوى 4/107ـ 108
***وقال أيضا : ( السنة هي ما قام الدليل الشرعي عليه بأنه طاعة لله ورسوله ، سواء فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم أو فعل على زمانه ، أو لم يفعله ولم يفعل على زمانه ، لعدم المقتضي حينئذ لفعله أو وجود المانع منه ، ...... فما سنه الخلفاء الراشدون ليس بدعة شرعية ينهى عنها ، وإن كان يسمى في اللغة بدعة فكونه ابتدئ ) مجموع الفتاوى 21/317ـ 319
***ومثل هذا تنقيط المصحف ، فإن القرآن كان محفوظا في الصدور في زمن النبوة ، وكان يقرؤه العرب الفصحاء بسليقتهم لا يحتاجون إلى تنقيط ، ولم يكن ثمة داع لتنقيطه ، لانه لم يكن مجموعا في صحف أصلا ، وإنما احتيج إلى تنقيط المصحف بعد ذلك ، عندما انتشرت العجمة ، وقل في الناس حفظ القرآن في الصدور ، ولهذا فإن تنقيطه عند قيام الحاجة إلى ذلك ، لا يكون بدعة .
***وأيضا فإنه وسيلة لتصحيح القراءة ، وباب الوسائل غير توقيفي ، فيجوز استعمال الوسائل التي تحقق مقاصد الشريعة ، حتى لو لم تكن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ، مثل مكبرات الصوت للآذان والصلاة ، ومثل نقل العلوم الشريعة بوسائل الاتصال الحديثة ، ومثل استعمال لغة الإشارة لتفهيم الصم تعاليم الإسلام ، ونحو ذلك من الوسائل الكثيرة التي لا تحصى ، والتي لا يقصد بها التعبد بذاتها على أنها عبادة ، وإنما تتخذ وسائل فحسب ، وكلما طرأت وسيلة أفضل منها تركت سابقتها ، مما يدل على أنه لا يقصد التعبد بها لذاتها ، فمثل هذا لا يدخل في باب الابتداع في الدين .
ــــــــــــــــــــــــ(47/15)
***وهذا بخلاف الاحتفال بالمولد ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم تركه مع إمكان فعله في زمنه ، ووجود الداعي إلى ذلك ، فلم يكن أحد يحب النبي صلى الله عليه وسلم كما يحب الصحابة النبي صلى الله عليه وسلم ، ومع ذلك لم يشرع لهم الاحتفال بمولده ، فدل على أنه قصد هذا الترك ، وأن فعله بدعة .
***وقد شرع لهم التعبد لله تعالى بتعظيم عيد الأضحى والفطر ويوم الجمعة ، كما شرع لهم أيضا ترك التعبد بتعظيم يوم الثاني عشر من ربيع الأول ، أو تخصيصه بشيء من العبادات ، فالواجب اتباع هديه في الأمرين ، في الفعل والترك .
***وهذا من تمام الائتساء به ، كما قال تعالى ( ولكم في رسول الله أسوة حسنة ) وقال تعالى ( وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ) .
*** مع أنه تكرر عليه يوم مولده منذ بعثته ، ثلاث وعشرون مرة ، في ثلاث وعشرين سنة ، مدة رسالته صلى الله عليه وسلم ، غير أنه لم يحتفل ولا مرة واحدة بمولده صلى الله عليه وسلم .
***ثم جاء الخلفاء الراشدون ، فتركوا أيضا الاحتفال بمولده صلى الله عليه وسلم ، ومضى على هذا الترك القرون المفضلة ، حتى جاء الفاطميون الباطنيون الرافضة فأحدثوا هذه البدعة ، فهم أول من أحدث بدعة الاحتفال بالمولد النبوي ، فكيف تقاس هذه البدعة ، على مسألة تنقيط المصحف ، وما بينهما كما بين المشرقين .
***وكيف ندع ـ ليت شعري ـ هدي النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين ، وصحابته الكرام ، ونستبدله ببدعة أحدثتها أضل فرقة ، فحق للعقلاء إن فعلنا ذلك ، أن يتمثلوا فينا بقول الشاعر :
نزلوا بمكة في قبائل هاشم *** ونزلت بالبيداء أبعد منزل(47/16)
***والخلاصة : أن بدعة الاحتفال بالمولد النبوي ، محدثة على غير هدي النبي صلى الله عليه وسلم ، وأما تنقيط المصحف فوسيلة لتعليم القراءة الصحيحة ، ولم تفعل في زمنه صلى الله عليه وسلم لعدم الحاجة إليها ، وليس لان النبي صلى الله عليه وسلم قد تركها قاصدا ذلك ، تعبدا لله تعالى بتركها .
***وأخيرا نختم بكلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى ، وقد بين فيه أن دين الإسلام ، قائم على أصلين .
قال :
فَصْلٌ : الْعِبَادَاتُ مَبْنَاهَا عَلَى الشَّرْعِ وَالاتِّبَاعِ لا عَلَى الْهَوَى وَالابْتِدَاعِ
فَإِنَّ الإسلام مَبْنِيٌّ عَلَى أَصْلَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : أَنْ نَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ .
وَالثَّانِي : أَنْ نَعْبُدَهُ بِمَا شَرَعَهُ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا نَعْبُدَهُ بالأهواء وَالْبِدَعِ .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأمر فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُون ، إنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا ...الآية )
وَقَالَ تَعَالَى : { أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّه )
. فَلَيْسَ لاحَدِ أَنْ يَعْبُدَ اللَّهَ إلا بما شَرَعَهُ رَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ وَاجِبٍ وَمُسْتَحَبٍّ لا يَعْبُدُهُ بالأمور الْمُبْتَدَعَةِ كَمَا ثَبَتَ فِي السُّنَنِ مِنْ حَدِيثِ العرباض بْنِ سَارِيَةَ " قَالَ " التِّرْمِذِيُّ " : حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ . وَفِي مُسْلِمٍ " أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي خُطْبَتِهِ : ) خَيْرُ الْكَلامِ كَلامُ اللَّهِ وَخَيْرُ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَشَرُّ الأمور مُحْدَثَاتُهَا وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلالَةٌ (انتهى كلام شيخ الإسلام .(47/17)
والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم(47/18)
الرسائل الشخصية
للشيخ محمد بن عبدالوهاب
القسم الأول
عقيدة الشيخ وبيان حقيقة دعوته
ورد ما ألصق به من التهم
الرسالة الأولى
ص ( 7 )(1)
رسالة الشيخ إلى أهل القصيم لما سألوه عن عقيدته :
بسم الله الرحمن الرحيم
أشهد الله ومن حضرني من الملائكة وأشهدكم أني أعتقد ما اعتقدته الفرقة الناجية أهل السنة والجماعة من الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت، والإيمان بالقدر خيره وشره، ومن الإيمان بالله الإيمان بما وصف به نفسه في كتابه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم من غير تحريف ولا تعطيل، بل أعتقد أن الله سبحانه وتعالى ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، فلا أنفي عنه ما وصف به نفسه ولا أحرف الكلم عن مواضعه، ولا ألحد في أسمائه وآياته، ولا أكيف، ولا أمثل صفاته تعالى بصفات خلقه لأنه تعالى لا سمي له ولا كفؤ له، ولا ندله، ولا يقاس بخلقه فإنه سبحانه أعلم بنفسه وبغيره وأصدق قيلاً وأحسن حديثاً فنزه نفسه عما وصفه به المخالفون من أهل التكييف والتمثيل : وعما نفاه عنه النافون من أهل التحريف والتعطيل فقال : ( سبحان ربك رب العزة عما يصفون. وسلام على المرسلين. والحمد لله رب العالمين!) والفرقة الناجية وسط في باب أفعاله تعالى بين القدرية والجبرية، وهم في باب وعيد الله بين المرجئة والوعيدية ؛ وهم وسط في باب الإيمان والدين بين الحرورية والمعتزلة، وبين المرجئة والجهمية، وهم وسط في باب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الروافض والخوارج. وأعتقد أن القرآن كلام الله منزل غير مخلوق منه بدأ وإليه يعود : وأنه تكلم به حقيقة وأنزله على عبده ورسوله وأمينه على وحيه وسفيره بينه وبين عباده نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ؛ وأومن بأن الله فعال لما يريد، ولا يكون شيء إلا بإرادته، ولا يخرج شيء عن مشيئته، وليس
__________
(1) رقم الصفحة من القسم الخامس من مؤلفات الشيخ محمد بن عبدالوهاب من مطبوعات جامعة الإمام محمد بن سعود(48/1)
شيء في العالم يخرج عن تقديره ولا يصدر إلا عن تدبيره ولا محيد لأحد عن القدر المحدود ولا يتجاوز ما خط له في اللوح المسطور.
وأعتقد الإيمان بكل ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم مما يكون بعد الموت، فأومن بفتنة القبر ونعيمة، وبإعادة الأرواح إلى الأجساد، فيقوم الناس لرب العالمين حفاة عراة غرلا تدنو منهم الشمس، وتنصب الموازين وتوزن بها أعمال العباد فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون، ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم في جهنم خالدون وتنشر الدواوين فآخذ كتابه بيمينه وآخذ كتابه بشماله.
وأومن بحوض نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بعرصة القيامة، ماؤه أشد بياضاً من اللبن وأحلى من العسل آنيته عدد نجوم السماء من شرب منه شربة لم يظمأ بعدها أبداً، وأومن بأن الصراط منصوب على شفير جهنم يمر به الناس على قدر أعمالهم.. وأومن بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم وأنه أول شافع وأول مشفع، ولا ينكر شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم إلا أهل البدع والضلال، ولكنها لا تكون إلا من بعد الإذن والرضى كما قال تعال :(ولا يشفعون إلا لمن ارتضى )، وقال تعالى : (من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه)، وقال تعالى : (وكم من ملك في السموات لا تغني شفاعتهم شيئاً إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى) وهو لا يرضى إلا التوحيد ؛ ولا يأذن إلا لأهله. وأما المشركون فليس لهم من الشفاعة نصيب ؛ كما قال تعالى : (فما تنفعهم شفاعة الشافعين ).
وأومن بأن الجنة والنار مخلوقتان، وأنهما اليوم موجودتان، وأنهما لا يفنيان ؛ وأن المؤمنين يرون ربهم بأبصارهم يوم القيامة كما يرون القمر ليلة البدر لا يضامون في رؤيته.(48/2)
وأومن بأن نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين والمرسلين، ولا يصح إيمان عبد حتى يؤمن برسالته ويشهد بنبوته ؛ وأن أفضل أمته أبو بكر الصديق ؛ ثم عمر الفاروق، ثم عثمان ذو النورين، ثم علي المرتضي، ثم بقية العشرة، ثم أهل بدر، ثم أهل الشجرة أهل بيعة الرضوان، ثم سائر الصحابة رضي الله عنهم. وأتولى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأذكر محاسنهم وأترضى عنهم وأستغفر لهم وأكف عن مساويهم وأسكت عما شجر بينهم، وأعتقد فضلهم عملا بقوله تعالى : (والذين جاؤوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤف رحيم ) وأترض عن أمهات المؤمنين المطهرات من كل سوء وأقر بكرامات الأولياء ومالهم من المكاشفات إلا أنهم لا يستحقون من حق الله تعالى شيئاً ولا يطلب منهم ما لا يقدر عليه إلا الله، ولا أشهد لأحد من المسلمين بجنة ولا نار إلا من شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكني أرجو للمحسن وأخاف على المسيء، ولا أكفر أحداً من المسلمين بذنب، ولا أخرجه من دائرة الإسلام، وأرى الجهاد ماضيا مع كل إمام براً كان أو فاجراً وصلاة الجماعة خلفهم جائزة، والجهاد ماض منذ بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم إلى أن يقاتل آخر هذه الأمة الدجال لا يبطله جور جائر ولا عدل عادل، وأرى وجوب السمع والطاعة لأئمة المسلمين برهم وفاجرهم ما لم يأمروا بمعصية الله، ومن ولي الخلافة واجتمع عليه الناس ورضوا به وغلبهم بسيفه حتى صار خليفة وجبت طاعته ؛ وحرم الخروج عليه، وأرى هجر أهل البدع ومباينتهم حتى يتوبوا، وأحكم عليهم بالظاهر وأكل سرائرهم إلى الله، وأعتقد أن كل محدثة في الدين بدعة.(48/3)
وأعتقد أن الإيمان قول باللسان وعمل بالأركان واعتقاد بالجنان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية هو بضع وسبعون شعبة أعلاها شهادة أن لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن طريق، وأرى وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على ما توجبه الشريعة المحمدية الطاهرة.
فهذه عقيدة وجيزة حررنها وأنا مشتغل البال لتطلعوا على ما عندي والله على ما نقول وكيل.
ثم لا يخفى عليكم أنه بلغني أن رسالة سليمان بن سحيم قد وصلت إليكم وأنه قبلها وصدقها بعض المنتمين للعلم في جهتكم والله يعلم أن الرجل افترى علي أموراً لم أقلها ولم يأت أكثرها على بالي. ( فمنها ) قوله : إني مبطل كتب المذاهب الأربعة، وإني أقول إن الناس من ستمائة سنة ليسوا على شيء وإني أدعي الاجتهاد، وإني خارج عن التقليد وإني أقول إن اختلاف العلماء نقمة، وإني أكفر من توسل بالصالحين، وإني أكفر البوصيري لقوله يا أكرم الخلق، وإني أقول لو أقدر على هدم قبة رسول الله صلى الله عليه وسلم لهدمتها، ولو أقدر على الكعبة لأخدت ميزابها وجعلت لها ميزاباً من خشب وإني أحرم زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم وإني أنكر زيارة قبر الوالدين وغيرهما، وإني أكفر من حلف بغير الله، وإني أكفر ابن الفارض وابن عربي، وإني أحرق دلائل الخيرات وروض الرياحين وأسمية روض الشياطين. جوابي عن هذه المسائل أن أقول سبحانك هذا بهتان عظيم. وقبله من بهت محمداً صلى الله عليه وسلم أنه يسب عيسى بن مريم ويسب الصالحين فتشابهت قلوبهم بافتراء الكذب وقول الزور. قال تعالى : (إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله) بهتوه صلى الله عليه وسلم بأنه يقول إن الملائكة وعيسى وعزيراً قي النار. فأنزل الله في ذلك : ( إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون ).(48/4)
وأما المسائل الأخر وهي أنى أقول لا يتم إسلام الإنسان حتى يعرف معنى لا إله إلا الله وأني أعرف من يأتيني بمعناها وأني أكفر الناذر إذا أراد بنذره التقرب لغير الله وأخذ النذر لأجل ذلك، وأن الذبح لغير الله كفر والذبيحة حرام. فهذه المسائل حق وأنا قائل بها. ولي عليها من كلام الله وكلام رسوله، ومن أقوال العلماء المتبعين كالأئمة الأربعة وإذا سهل الله تعالى بسطت الجواب عليها في رسالة مستقلة إن شاء الله تعالى.
ثم اعلموا وتدبروا قوله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوماً بجهالة )
الرسالة الثانية
ص ( 15 )
ومنها رسالة إلى محمد بن عباد مطوع ثرمداء وكان قد أرسل إليه كتاباً فيه كلام حسن في تقرير التوحيد وغيره وطلب من الشيخ رحمه الله أن يبين له إن كان فيه شيء يخفاه فكتب له رحمه الله :
بسم الله الرحمن الرحيم
من محمد بن عبد الوهاب إلى الأخ محمد بن عباد وفقه الله لما يحبه ويرضاه سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
وصلنا أوراق في التوحيد بها كلام من أحسن الكلام وفقك الله للصواب، وتذكر فيه أن ودك نبين لك إن كان فيها شيء غاترك فاعلم أرشدك الله أن فيها مسائل غلط.
الأولى : قولك أول واجب على كل ذكر وأنثى النظر قي الوجود ثم معرفة العقيدة ثم علم التوحيد، وهذا خطأ وهو من علم الكلام الذي أجمع السلف على ذمه، وإنما الذي أتت به الرسل أول واجب هو التوحيد ليس النظر في الوجود ولا معرفة العقيدة كما ذكرته أنت في الأوراق أن كل نبي يقول لقومه : اعبدوا الله ما لكم من إله غيره.
الثانية : قولك في الإيمان بالله وملائكته إلى آخره والإيمان هو التصديق الجازم بما أتى به الرسول فليس كذلك، وأبو طالب عمه جازم بصدقه والذين يعرفونه كما يعرفون أبناءهم، والذين يقولون الإيمان هو التصديق الجازم هم الجهمية، وقد اشتد نكير السلف عليهم في هذه المسألة.(48/5)
الثالثة : قولك إذا قيل للعامي ونحوه ما الدليل على أن الله ربك، ثم ذكرت ما الدليل على اختصاص العبادة بالله، وذكرت الدليل على توحيد الألوهية.
فاعلم أن الربوبية والألوهية يجتمعان ويفترقان كما في قوله : ( قل أعوذ برب الناس ملك الناس إله الناس ) وكما يقال رب العالمين وإله المرسلين وعند الإفراد يجتمعان كما في قول القائل من ربك، مثاله الفقير والمسكين نوعان في قوله : ( إنما الصدقات للفقراء والمساكين ) ونوع واحد في قوله : (افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد إلى فقرائهم ) إذا ثبت هذا فقول الملكين للرجل في القبر : من ربك ؟ معناه من إلهك لأن الربوبيية التي أقر بها المشركون ما يمتحن أحد بها، وكذلك قوله : (الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله) وقوله: (قل أغير الله أبغي ربا) وقوله : (إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا) فالربوبية في هذا هي الألوهية ليست قسيمة لها كما تكون قسيمة لها عند الاقتران فينبغي التقطن لهذه المسألة.
الرابعة : قولك في الدليل على إثبات نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ودليله الكتاب والسنة ثم ذكرت الآيات، كلام من لم يفهم المسألة لأن المنكر للنبوة أو الشاك فيها إذا استدللت عليه بالكتاب والسنة يقول كيف تستدل علي بشيء ما أتى به إلا هو، والصواب في المسألة أن تستدل عليه بالتحدي بأقصر سورة من القرآن أو شهادة علماء أهل الكتاب كما في قوله : ( أو لم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل ) أو لكونهم يعرفونه قبل أن يخرج كما في قوله تعالى : (وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا ) الآية إلى غير ذلك من الآيات التي تفيد الحصر وتقطع الخصم.(48/6)
الخامسة : قولك اعلم يا أخي لا علمت مكروها فأعلم أن هذه كلمة تضاد التوحيد وذلك أن التوحيد لا يعرفه إلا من عرف الجاهلية والجاهلية هي المكروه فمن لم يعلم المكروه لم يعلم الحق فمعنى هذه الكلمة أعلم لا علمت خيراً، ومن لم يعلم المكروه ليجتنبه لم يعلم المحبوب.
وبالجملة فهي كلمة عامية جاهلية، ولا ينبغي لأهل العلم أن يقتدوا بالجهال.
السادسة : جزمك بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (اطلبوا العلم ولو من الصين ) فلا ينبغي أن يجزم الإنسان على رسول الله صلى الله عليه وسلم بما لا يعلم صحته، وهو من القول بلا علم، فلو أنك قلت وروى، أو ذكر فلان، أو ذكر في الكتاب الفلاني لكان هذا مناسباً، وأما الجزم بالأحاديث التي لم تصح فلا يجوز فتفطن لهذه المسألة فما أكثر من يقع فيها.
السابعة : قولك في سؤال الملكين : والكعبة قبلتي وكذا وكذا، فالذي علمناه عن رسول الله عليه وسلم أنهما يسألان عن ثلاث. عن التوحيد، وعن الدين، وعن محمد صلى الله عليه وسلم. فإن كان في هذا عندكم رابعة فأفيدونا، ولا يجوز الزيادة على ما قال الله ورسوله.
الثامنة : قولك في الإيمان بالقدر إنه الإيمان بأن لا يكون صغير ولا كبير إلا بمشية الله وإرادته، وأن يفعل المأمورات ويترك المنهيات وهذا غلط لأن الله سبحانه له الخلق والأمر والمشيئة والإرادة وله الشرع والدين. إذا ثبت هذا ففعل المأمورات وترك المنهيات هو الإيمان بالأمر وهو الإيمان بالشرع والدين، ولا يذكر في حد الإيمان بالقدر.
التاسعة : قولك الآيات التي قي الاحتجاج بالقدر كقوله تعالى ( وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء ) الآية ثم قلت : فإياك والاقتداء بالمشركين في الاحتجاج على الله وحسبك من القدر الإيمان به. فالذي ذكرنا في تفسير هذه الآيات غير المعنى الذي أردت فراجعه وتأمله بقلبك فإن اتضح لك وإلا فراجعني فيه لأنه كلام طويل.(48/7)
العاشرة : وأخرناها لشدة الحاجة إليها قولك : إن المشركين الذين قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أقروا بتوحيد الربوبية، ثم أوردت الأدلة الواضحة على ذلك، وإنما قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عند توحيد الألوهية، ولم يدخل الرجل في الإسلام بتوحيد الربوبية إلا إذا انضم إليه توحيد الألوهية فهذا كلام من أحسن الكلام وأبينه تفصيلا، ولكن العام لما وجهنا إليه إبراهيم كتبوا له علماء سدير مكاتبة وبعثها لنا وهى عندنا الآن ولم يذكروا فيها إلا توحيد الربوبية، فإذا كنت تعرف هذا فلأي شيء ما أخبرت إبراهيم ونصحته. إن هؤلاء ما عرفوا التوحيد، وإنهم منكرون دين الإسلام، وكذلك أحمد بن يحيى راعي رغبه عداوته لتوحيد الألوهية والاستهزاء بأهل العارض لما عرفوه، وإن كان يقربه أحياناً عداوة ظاهرة لا يمكن أنها لا تبلغك، وكذلك ابن إسماعيل إنه نقض ما أبرمت في التوحيد وتعرف أن عنده الكتاب الذي صنفه رجل من أهل البصرة كله من أوله إلى آخره في إنكار توحيد الألوهية وأتاكم به ولد محمد بن سليمان راعي وثيثيه وقرأه عندكم وجادل به جماعتنا، وهذا الكتاب مشهور عند المويس وأتباعه مثل ابن سحيم وابن عبيد يحتجون به علينا ويدعون الناس إليه، ويقولون هذا كلام العلماء. فإذا كنت تعرف أن النبي صلى الله عليه وسلم ما قاتل الناس إلا عند توحيد الألوهية، وتعلم أن هؤلاء قاموا وقعدوا ودخلوا وخرجوا وجاهدوا ليلا ونهاراً في صد الناس عن التوحيد يقرءون عليهم مصنفات أهل الشرك لأي شيء لم تظهر عداوتهم وأنهم كفار مرتدون ؟ فإن كان باين لك أن أحداً من العلماء لا يكفر من أنكر التوحيد أو أنه يشك في كفره فاذكره لنا وأفدنا، وإن كنت تزعم أن هؤلاء فرحوا بهذا الدين وأحبوه ودعوا الناس إليه، ولما أتاهم تصنيف أهل البصرة في إنكار التوحيد كفروه وكفروا من عمل به، وكذلك لما أتاهم كتاب ابن عفالق الذي أرسله المويس لابن إسماعيل وقدم به عليكم العام وقرأه على(48/8)
جماعتكم يزعم فيه أن التوحيد دين ابن تيمية وأنه لما أفتى به كفره العلماء وقامت عليه القيامة.
إن كنت تقول ما جرى من هذا شيء فهذا مكابرة، وإن كنت تعرف أن هذا هو الكفر الصراح والردة الواضحة، ولكن تقول أخشى الناس فالله أحق أن تخشاه. ولا تظن أن كلامي هذا معاتبة وكلام عليك، فوالله الذي لا إله إلا هو إنه نصيحة لأن كثيراً ممن واجهناه وقرأ علينا يتعلم هذا ويعرفه بلسانه.
فإذا وقعت المسألة لم يعرفها بل إذا قال له بعض المشركين نحن نعرف أن رسول الله لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً وأن النافع الضار هو الله يقول جزاك الله خيراً. ويظن أن هذا هو التوحيد ونحن نعلمه أكثر من سنة أن هذا هو توحيد الربوبية الذي أقر به المشركون. فالله الله في التفطن لهذه المسألة فإنها الفارقة بين الكفر والإسلام، ولو أن رجلا قال : شروط الصلاة تسعة ثم سردها كلها فإذا رأى رجلا يصلي عرياناً بلا حاجة أو على غير وضوء أو لغير القبلة لم يدر أن صلاته فاسدة لم يكن قد عرف الشروط ولو سردها بلسانه، ولو قال الأركان أربعة عشر ثم سردها كلها ثم رأى من لا يقرأ الفاتحة ومن لا يركع ومن لا يجلس للتشهد ولم يفطن أن صلاته باطلة لم يكن قد عرف الأركان ولو سردها فالله الله في التفطن لهذه المسألة، ولكن أشير عليك بعزيمة أنك تواصلنا ونتذاكر معك، وكذلك أيضاً من جهة البدع قيل لي إنك تقول فيها شيء ما يقوله الذي هو عارف مسألة البدع، وصلى الله على محمد وآله وسلم.
الرسالة الثالثة
ص (23 )
ومنها رسالة أرسلها إلى بن عيد من مطاوعة ثرمدا قال فيها :
بسم الله الرحمن الرحيم
من محمد بن عبد الوهاب إلى محمد بن عيد وفقنا الله وإياه. لما يحبه ويرضاه وبعد :(48/9)
وصل الكراس وتذكرون أن الحق إن بان لكم اتبعتم، وفيه كلام غير هذا يسر الخاطر من طرفك خاصة بسبب أن لك عقلا. والثانية أن لك عرضاً تشح به.والثالثة : أن الظن فيك إن بان لك الحق أنك ما تبيعه بالزهايد، فأما تقريركم أول الكلام أن الإسلام خمس كأعضاء الوضوء وأنكم تعرفون كلام الله وكلام رسوله وإجماع العلماء أن له نواقض كنواقض الوضوء الثمانية : اعتقاد القلب وإن لم يعمل أو يتكلم يعني إذا اعتقد خلاف ما عمله الرسول أمته بعد ما تبين له، ومنها كلام باللسان وإن لم يعمل ولم يعتقد، ومنها عمل بالجوارح وإن لم يعتقد ويتكلم ولكن من أظهر الإسلام وظننا أنه أتى بناقض لا نكفره بالظن لأن اليقين لا يعرفه الظن، وكذلك لا نكفر من لا نعرف منه الكفر بسبب ناقض ذكر عنه ونحن لم نتحققه وما قررتم هو الصواب الذي يجب على كل مسلم اعتقاده والتزامه، ولكن قبل الكلام اعلم أني عرفت بأربع مسائل :
الأولى : بيان التوحيد مع أنه لم يطرق آذان أكثر الناس.
الثانية : بيان الشرك ولو كان في كلام من ينتسب إلى العلم أو عبادة من دعوة غير الله، أو قصده بشيء من العبادة، ولو زعم أنهم يريدون أنهم شفعاء عند الله مع أن أكثر الناس يظن أن هذا من أفضل القربات كما ذكرتم عن العلماء أنهم يذكرون أنه قد وقع في زمانهم.
الثالثة : تكفير من بان له أن التوحيد هو دين الله ورسوله ثم أبغضه ونفر الناس عنه. وجاهد من صدق الرسول فيه ومن عرف الشرك وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث بإنكاره وأقر بذلك ليلا ونهاراً ثم مدحه وحسنه للناس وزعم أن أهله لا يخطئون لأنهم السواد الأعظم، وأما ما ذكر الأعداء عني أني أكفر بالظن وبالموالاة أو أكفر الجاهل الذي لم تقم عليه الحجة فهذا بهتان عظيم يريدون به تنفير الناس عن الله ورسوله.(48/10)
الرابعة : الأمر بقتال هؤلاء خاصة حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله الله فلما اشتهر عني هؤلاء الأربع صدقني من يدعي أنه من العلماء في جميع البلدان في التوحيد وفي نفي الشرك وردوا على التكفير والقتال. إذا تحققت ما ذكرت لك انبنى الجواب على ما ذكرتم في أول الأوراق من إقراركم بمعرفة نواقض الإسلام بإجماع العلماء بشرط أنكم لا تكفرون بالظن ولا من لا تعرفون فنقول: من المعلوم عند الخاص والعام ما عليه البوادي أو أكثرهم فإن كابر معاند لم يقدر على إن عنزة وآل ظفير وأمثالهم كلهم مشاهير هم والأتباع إنهم مقرون بالبعث ولا يشكون فيه، ولا يقدر أن يقول إنهم يقولون إن كتاب الله عند الحضر وأنهم عانقوه ومتبعون ما أحدث آباؤهم مما يسمونه الحق ويفضلونه على شريعة الله فإن كان للوضوء ثمانية نواقض ففيهم من نواقض الإسلام أكثر من المائة ناقض فلما بينت ما صرحت به آيات التنزيل وعلمه الرسول أمته، وأجمع عليه العلماء من أنكر البعث أو شك فيه، أو سب الأذان إذا سمعه، أو فضل فراضة الطاغوت على حكم الله، أو سب من زعم أن المرأة ترث أو أن الإنسان لا يؤخذ في القتل بجريرة أبيه وابنه إنه كافر مرتد قال علماؤكم معلوم أن هذا حال البوادي لا ننكره ولكن يقولون : لا إله إلا الله وهي تحميهم من الكفر ولو فعلوا كل ذلك، ومعلوم أن هؤلاء أولى وأظهر من يدخل في تقريركم فلما أظهرت تصديق الرسول فيما جاء به سبوني غاية المسبة، وزعموا أني أكفر أهل الإسلام وأستحل أموالهم، وصرحوا أنه لا يوجد في جزيرتنا رجل واحد كافر، وأن البوادي يفعلون من النواقص مع علمهم أن دين الرسول عند الحضر، وجحدوا كفرهم وأنتم تذكرون أن من رد شياً مما جاء به الرسول بعد معرفته أنه كافر.(48/11)
فإذا كان المويس وابن إسماعيل والعديلى وابن عباد وجميع أتباعهم كلهم على هذا فقد صرحتم غاية التصريح أنهم كفار مرتدون، وإن ادعى مدع أنهم يكفرونهم أو ادعى أن جميع البادية لم يتحقق من أحد منهم من النواقض شيئاً أو ادعى أنهم لا يعرفون أن دين الرسول خلاف ما هم عليه فهذا كمن ادعى أن ابن سليمان وسويد وابن دواس وأمثالهم عباد زهاد فقراء ما شاخوا في بلد قط ومن ادعى هذا فأسقط الكلام معه.
ونقول ثانياً : إذا كانوا أكثر من عشرين سنة يقرون ليلا ونهاراً سراً وجهاراً أن التوحيد الذي أظهر هذا الرجل هو دين الله ورسوله لكن الناس لا يطيعوننا، وأن الذي أنكره هو الشرك وهو صادق في إنكاره، ولكن لو يسلم من التكفير والقتال كان حق. هذا كلامهم على رؤوس الأشهاد ثم مع هذا يعادون التوحيد ومن مال إليه العداوة التي تعرف ولو لم يكفر ويقاتل، وينصرون الشرك نصره الذي تعرف مع إقرارهم بأنه شرك مثل كون المويس وخواص أصحابه ركبوا وتركوا أهليهم وأموالهم إلى أهل قبة الكواز وقبة رجب سنة يقولون إنه قد خرج من ينكر قبتكم وما أنتم عليه، وقد أحل دماءهم وأموالهم وكذلك ابن إسماعيل وابن ربيعة والمويس أيضاً بعدهم بسنة رحلوا إلى أهل قبة أبي طالب وأغروهم بمن صدق النبي صلى الله وسلم وأحلوا دماءنا وأموالنا حتى جرى على الناس ما تعرف مع أن كثيراً منهم لم يكفر ولم يقاتل وقررتم أن من خالف الرسول في عشر معشار هذا ولو بكلمة أو عقيدة قلب أو فعل فهو كافر فكيف بمن جاهد بنفسه وماله وأهله ومن أطاعه في عداوة التوحيد وتقرير الشرك مع إقراره بمعرفة ما جاء به الرسول فإن لم تكفروا هؤلاء ومن اتبعهم ممن عرف أن التوحيد حق وأن ضده الشرك فأنتم كمن أفتى بانتقاض وضوء من بزغ منه مثل رأس الإبرة من البول وزعم أن من يتغوط ليلا ونهاراً وأفتى للناس أن ذلك لا ينقض وتبعوه على ذلك حتى يموت أنه لا ينقض وضوءه، وتذكرون أني أكفرهم بالموالاة وحاشا وكلا، ولكن أقطع أن كفر(48/12)
من عبد قبة أبي طالب لا يبلغ عشر كفر المويس وأمثاله كما قال تعالى : (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم ) الآيتين، وأنا أمثل لك مثالا لعل الله أن ينفعك به لعلمي أن الفتنة كبيرة وأنهم يحتجون بما تعرفون : منها في الأوراق أنهم لم يقصدوا بحربكم رد التوحيد وإحياء الشرك وإنما قصدوا دفع الشر عن أنفسهم خوف البغي عليهم. فتقول لو نقدر أن السلطان ظلم أهل المغرب ظلماً عظيماً في أموالهم وبلادهم ومع هذا خافوا استيلاءهم على بلادهم ظلماً وعدواناً ورأوا أنهم لا يدفعونهم إلا باستنجاد الفرنج وعلموا أن الفرنج لا يوافقونهم إلا أن يقولوا نحن معكم على دينكم ودنياكم ودينكم هو الحق ودين السلطان هو الباطل وتظاهروا بذلك ليلا ونهاراً مع أنهم لم يدخلوا في دين الفرنج ولم يتركوا الإسلام بالفعل، لكن لما تظاهروا بما ذكرنا ومرادهم دفع الظلم عنهم هل يشك أحد أنهم مرتدون في أكبر ما يكون من الكفر والردة إذا صرحوا أن دين السلطان هو الباطل مع علمهم أنه حق وصرحوا أن دين الفرنج هو الصواب، وأنه لا يتصور أنهم لا يتيهون لأنهم أكثر من المسلمين ولأن الله أعطاهم من الدنيا شيئاً كثيراً ولأنهم أهل الزهد والرهبانية فتأمل هذا تأملا جيداً وتأمل ما صدرتم به الأوراق من موافقتكم به الإسلام ومعرفتكم بالناقض إذا تحققتموه وأنه يكون بكلمة ولو لم تعتقد ويكون بفعل ولو لم يتكلم ويكون في القلب من الحب والبغض ولو لم يتكلم ولم يعمل تبين لك الأمر اللهم إلا إن كنتم ذاكرين في أول الأوراق وأنتم تعقدون خلافه فذلك أمر آخر.
وأما ما ذكرتم من كلام العلماء فعلى الرأس والعين، ولكن عنه جوابان :(48/13)
أحدهما : أنكم لو لم تنقلوا كلام ابن عقيل ( في الفنون ) وكلام الشيخ في ( اقتضاء الصراط المستقيم ) وكلام ابن القيم لقلت لعلهم مخطئون قائلون بمبلغ علمهم هذا كله عندنا في هذه الكتب كما هو عندكم وابن عقيل ذكر أنهم كفار بهذا الفعل أعني دعوة صاحب التربة ودس الرقاع وأنتم تعلمون ذلك، وأصرح منه كلام الشيخ في قوله ومن ذلك ما يفعله الجاهلون بمكة يا سبحان الله كيف تركتم صريحه في العبارة بعينها إن هذا من فعله كان مرتداً، و إن المسلم إذا ذبح للزهرة والجن ولغير الله فهو مما أهل لغير الله به وهي أيضاً ذبيحة مرتد لكن يجتمع في الذبيحة مانعان فصرح أن هذا الرجل إذا ذبح للجن مرة واحدة صار كافراً مرتداً وجميع ما يذبحه للأكل بعد ذلك لا يحل لأنه ذبيحة مرتد، وصرح في مواضع من الكتاب كثيرة بكفر من فعل شيئاً من الذبح والدعوة حتى ذكر ثابت بن قرة وأبا معشر البلخي وذكر أنهم كفار مرتدون وأمثالهم مع كونهم من أهل التصانيف، وأصرح من الجميع كلام ابن القيم في كثير من كتبه فلما نقلتم بعض العبارة وتركتم بعضها علمت أنه ليس بجهالة، ولكن الشرهة عليك لو أنك فاعل كما فعل بعض أهل الحسا لما صنف بعضهم كتاباً في الرد علينا يريد أن يبعثه تكلم رجل منهم وقال أحب ما إلى ابن عبد الوهاب وصول هذا إليه أنتم ما تستحيون فتركوا الرسالة.(48/14)
الجواب الثاني : أنه على سبيل التنزل أن الشرك لا يكفر من فعله أو أنه شرك أصغر أو أنه معصية غير الكفر مع أن جميع ما ذكرتم لا يدل على ذلك فإن أردت بينت لك في غير هذه المرة معاني هذه العبارات من الأدلة من كلام كل رجل كما بينته لك من كلام الشيخ. لكن أنتم مسلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أنكره ونهى عنه، فلو أن رجلا أقر بذلك مع كونه لم يفعله لكنه زينه للناس ورغبهم فيه أليس هذا كافراً مرتداً ولو قدرنا أن الأمر الذي كرهه وصد الناس عنه ما أمر به الرسول إلا أمر استحباب كركعتي الفجر، أو أن الذي نهى عنه ما نهى عنه إلا نهي تنزيه كأكل بالشمال والنوم للجنب من غير وضوء ولو أن رجلاً عرف نهي الرسوم وزعم لأجل غرض من الأغراض أن الأكل بالشمال هو الأحب المرضى عند الله وأن الأكل باليمين يضر عند الله وأن الوضوء للجنب إذا أراد النوم يضر عند الله وأن النوم من غير وضوء أحب إلى الله مع علمه بما قال الرسول صلى الله عليه وسلم، أليس هذا كلام كافر مرتد فكيف بمن سب دين الله الذي بعث به جميع الأنبياء مع إقراره ومعرفته به، ومدح دين المشركين الذي بعث الله الأنبياء بإنكاره ودعا الناس إليه مع معرفته، ولكن أرى لك أن تقوم في السحر وتدعو بقلب حاضر بالأدعية المأثورة وتطرح نفسك بين يدي الله أن يهديك لدينه ودين نبيه عليه السلام وصلى الله على محمد وآله وسلم.
الرسالة الرابعة
ص ( 31)
ومنها رسالة أرسلها إلى فاضل آل مزيد رئيس بادية الشام قال فيها :
بسم الله الرحمن الرحيم
من محمد بن عبد الوهاب إلى الشيخ فاضل آل مزيد زاده الله من الإيمان وأعاذه من نزغات الشيطان. أما بعد :(48/15)
فالسبب في المكاتبة أن راشد بن عربان ذكر لنا عنك كلاماً حسناً سر الخاطر، وذكر عنك أنك طالب مني المكاتبة بسبب ما يجيك عنا من كلام العدوان من الكذب والبهتان وهذا هو الواجب من مثلك أنه لا يقبل كلاماً إلا إذا تحققه، وأنا أذكر لك أمرين قبل أن أذكر لك صفة الدين.
الأمر الأول : أني أذكر لمن خالفني أن الواجب على الناس اتباع ما وصى به النبي صلى اله عليه وسلم أمته، وأقول لهم الكتب عندكم انظروا فيها ولا تأخذوا من كلامي شيئاً لكن إذا عرفتم كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي في كتبكم فاتبعوه ولو خالفه أكثر الناس.
والأمر الثاني : أن هذا الذي أنكروا علي وأبغضوني من أجله إذا سألوا عنه كل عالم في الشام واليمن أو غيرهم يقول هذا هو الحق وهو دين الله ورسوله ولكن ما أقدر أن أظهره في مكاني لأجل أن الدولة ما يرضون وابن عبد الوهاب أظهره لأن الحاكم في بلده ما أنكره، بل لما عرف الحق اتبعه هذا كلام العلماء وأظن أنه وصلك كلامهم فأنت تفكر في الأمر الأول وهو قولي لا تطيعوني ولا تطيعوا إلا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي في كتبكم وتفكر في الأمر الثاني أن كل عاقل به لكن ما يقدر أن يظهره.(48/16)
فقدم لنفسك ما ينجيك عند الله. واعلم أنه لا ينجيك إلا اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم، والدنيا زائلة والجنة والنار ما ينبغي للعاقل أن ينساهما. وصورة الأمر الصحيح أني أقول ما يدعى إلا الله وحده لا شريك له كما قال تعالى في كتابه : ( فلا تدعوا مع الله أحداً ) وقال في حق النبي صلى الله عليه وسلم : ( قل إني لا أملك لكم ضراً ولا رشداً ) فهذا كلام الله والذي ذكره لنا رسول الله ووصانا به، ونهى الناس أن لا يدعوه فلما ذكرت لهم أن هذه المقامات التي في الشام والحرمين وغيرهم أنها على خلاف أمر الله ورسوله، وأن دعوة الصالحين والتعلق بهم هو الشرك بالله الذي قال الله فيه : (إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار ) فلما أظهرت هذا أنكروه وكبر عليهم، وقالوا أجعلتنا مشركين وهذا ليس إشراكاً. هذا كلامهم وهذا كلامي أسنده عن الله ورسوله، وهذا هو الذي بيني وبينكم فإن ذكر عني شيء غير هذا فهو كذب وبهتان، والذي يصدق كلامي هذا أن العالم ما يقدر أن يظهره حتى من علماء الشام من يقول هذا هو الحق ولكن لا يظهره إلا من يحارب الدولة، وأنت ولله الحمد ما تخاف إلا الله نسأل الله أن يهدينا وإياكم إلى دين الله ورسوله والله أعلم ).
الرسالة الخامسة
ص (35 )
ومنها رسالة أرسلها إلى السويدي عالم من أهل العراق وكان قد أرسل له كتاباً وسأله عما يقول الناس فيه فأجابه بهذه الرسالة وهي :
بسم الله الرحمن الرحيم
من محمد بن عبد الوهاب إلى عبد الرحمن بن عبد الله سلام عليكم ورحمة الله وبركاته أما بعد :(48/17)
فقد وصل كتابك وسر الخاطر جعلك الله من أئمة المتقين ومن الدعاة إلى دين سيد المرسلين وأخبرك أني ولله الحمد متبع ولست بمبتدع عقيدتي وديني الذي أدين الله به مذهب أهل السنة والجماعة الذي عليه أئمة المسلمين مثل الأئمة الأربعة وأتباعهم إلى يوم القيامة لكني بينت للناس إخلاص الدين لله، ونهيتهم عن دعوة الأحياء والأموات من الصالحين، وغيرهم، وعن إشراكهم فيما يعبد الله به من الذبح والنذر والتوكل والسجود وغير ذلك مما هو حق الله الذي لا يشركه فيه ملك مقرب ولا نبي مرسل، وهو الذي دعت إليه الرسل من أولهم إلى آخرهم، وهو الذي عليه أهل السنة والجماعة، وبينت لهم أن أول من أدخل الشرك في هذه الأمة هم الرافضة الملعونة الذين يدعون علياً وغيره ويطلبون منهم قضاء الحاجات وتفريج الكربات، وأنا صاحب منصب في قريتي مسموع الكلمة فأنكر هذا بعض الرؤساء لأنه خالف عادة نشأوا عليها وأيضاً ألزمت من تحت يدي بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وغير ذلك من فرائض الله، ونهيتم عن الربا وشرب المسكر، وأنواع من المنكرات فلم يمكن الرؤساء القدح في هذا وعيبه لكونه مستحسناً عند العوام فجعلوا قدحهم وعداوتهم فيما آمر به من التوحيد وأنهى عنه من الشرك، ولبسوا على العوام أن هذا خلاف ما عليه أكثر الناس وكبرت الفتنة جداً، وأجلبوا علينا بخيل الشيطان ورجله، منها إشاعة البهتان بما يستحي العاقل أن يحكيه فضلا عن أن يفتريه، ومنها ما ذكرتم أني أكفر جميع الناس إلا من اتبعني، وأزعم أن أنكحتهم غير صحيحة. ويا عجباً كيف يدخل هذا في عقل عاقل هل يقول هذا مسلم أو كافر أو عارف أو مجنون، وكذلك قولهم إنه يقول لو أقدر أهدم قبة النبي صلى الله عليه وسلم لهدمتها.(48/18)
وأما ( دلائل الخيرات ) فله سبب وذلك أني أشرت على من قبل نصيحتي من إخواني أن لا يصير في قلبه أجل من كتاب الله ويظن أن القراءة فيه أجل من قراءة القرآن، وأما إحراقه والنهي عن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بأي لفظ كان فهذا من البهتان.
والحاصل أن ما ذكر عنا من الأسباب غير دعوة الناس إلى التوحيد والنهي عن الشرك فكله من البهتان، وهذا لو خفي على غيركم فلا يخفى على حضرتكم، ولو أن رجلا من أهل بلدكم ولو كان أحب الخلق إلى الناس قام يلزم الناس بالإخلاص ويمنعهم من أهل القبور وله أعداء وحساد أشد منه رياسة وأكثر أتباعاً وقاموا يرمونه بما تسمع ويوهمون الناس أن هذا تنقص بالصالحين وأن دعوتهم من إجلالهم واحترامهم تعلمون كيف يجري عليه ومع هذا وأضعافه فلا بد من الإيمان بما جاء به الرسول ونصرته كما أخذ الله على الأنبياء قبله وأنهم في قوله تعالى : (وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه )، فلما فرض الله الإيمان لم يجز ترك ذلك وأنا أرجو أن يكرمك الله بنصر دينه ونبيه وذلك بمقتضى الاستطاعة ولو بالقلب والدعاء وقد قال صلى الله عليه وسلم : (إذا أُمرتم بأمر فأتوا منه ما استطعتم ) فإن رأيت عرض كلامي على من ظننت أنه يقبل من إخواننا فإن الله لا يضيع أجر من أحسن عملا، ومن أعجب ما أجرى من الرؤساء المخالفين أني لما بينت لهم كلام الله وما ذكر أهل التفسير في قوله ( أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ) وقوله : (ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله ) وقوله : ( ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى ) وما ذكر الله من إقرار الكفار في قوله : ( قل من يرزقكم من السماء والأرض) الآية وغير ذلك، قالوا القرآن لا يجوز العمل به لنا ولأمثالنا ولا بكلام الرسول ولا بكلام المتقدمين، ولا نطيع إلا ما ذكره المتأخرون، قلت لهم أنا أخاصم الحنفي بكلام المتأخرين(48/19)
من الحنفية والمالكي والشافعي والحنبلي كل أخاصمه بكتب المتأخرين من علمائهم الذين يعتمدون عليهم، فلما أبو ذلك نقلت لهم كلام العلماء من كل مذهب وذكرت ما قالوا بعد ما حدثت الدعوة عند القبور والنذر لها فصرفوا ذلك وتحققوه ولم يزدهم إلا نفوراً. وأما التكفير فأنا أكفر من عرف دين الرسول ثم بعد ما عرفه سبه ونهى الناس عنه وعادى من فعله فهذا هو الذي أكفره وأكثر الأمة ولله الحمد ليسوا كذلك. وأما القتال فلم نقاتل أحداً إلى اليوم إلا دون النفس والحرمة وهم الذين أتونا في ديارنا ولا أبقوا ممكنا ولكن قد نقاتل بعضهم على سبيل المقابلة ( وجزاء سيئة سيئة مثلها ) وكذلك من جاهر بسب دين الرسول بعد ما عرفه والسلام.
الرسالة السادسة
ص (39 )
بسم الله الرحمن الرحيم
من محمد بن عبد الوهاب إلى العلماء الأعلام في بلد الله الحرام نصر الله بهم سيد الأنام وتابعي الأئمة الأعلام، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد :(48/20)
جرى علينا من الفتنة ما بلغكم وبلغ غيركم وسببه هدم بنيان في أرضنا على قبور الصالحين فلما كبر هذا على العامة لظنهم أنه تنقيص للصالحين ومع هذا نهيناهم عن دعواهم وأمرناهم بإخلاص الدعاء لله فلما أظهرنا هذه المسئلة مع ما ذكرنا من هدم البنيان على القبور كبر على العامة جداً وعاضدهم بعض من يدعى العلم لأسباب أخر التي لا تخفى على مثلكم أعظمها اتباع هوى العوام مع أسباب أخر فأشاعوا عنا أنا نسب الصالحين وأنا على غير جادة العلماء، ورفعوا الأمر إلى المشرق والمغرب وذكروا عنا أشياء يستحي العاقل من ذكرها وأنا أخبركم بما نحن عليه ( خبراً لا أستطيع أن أكذب ) بسبب أن مثلكم لا يروج عليه الكذب على أناس متظاهرون بمذهبهم عند الخاص والعام فنحن ولله الحمد متبعين غير مبتدعين على مذهب الإمام أحمد بن حنبل وحتى من البهتان الذي أشاع الأعداء إني ادعي الاجتهاد ولا أتبع الأئمة فإن بان لكم أن هدم البنا على القبور والأمر بترك دعوة الصالحين لما أظهرناه وتعلمون أعزكم الله أن المطاع في كثير من البلدان لو تبين بالعمل بهاتين المسئلتين أنها تكبر على العامة الذين درجوهم وإياهم على ضد ذلك فإن كان كان الأمر كذلك فهذه كتب الحنابلة عندكم بمكة شرفها الله مثل (الإقناع ) (وغاية المنتهى) (والإنصاف) اللاتي عليه اعتماد المتأخرين وهو عند الحنابلة ( كالتحفة ) (والنهاية) عند الشافعية وهم ذكروا في باب الجنايز هدم البنا على القبور واستدلوا عليه بما في صحيح مسلم عن علي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه بهدم القبور المشرفة وأنه هدمها، واستدلوا على وجوب إخلاص الدعوة لله والنهى عما اشتهر في زمنهم من دعاء الأموات بأدلة كثيرة، وبعضهم يحكى الإجماع على ذلك فإن كانت المسئلة إجماعاً فلا كلام، وإن كانت مسألة اجتهاد فمعلومكم أنه لا إنكار في مسائل الاجتهاد فمن عمل بمذهبه في محل ولايته لا ينكر عليه، وما أشاعوا عنا من التكفير وأني(48/21)
أفتيت بكفر البوادي الذي ينكرون البعث والجنة والنار، وينكرون ميراث النساء مع علمهم أن كتاب الله عند الحضر، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث بالذي أنكروا، فلما أفتيت بكفرهم مع أنهم أكثر الناس في أرضنا استنكر العوام ذلك وخاصتهم الأعداء ممن يدعي العلم، وقالوا من قال لا إله إلا الله لا يكفر ولو أنكروا البعث وأنكروا الشرائع كلها، ولما وقع ذلك من بعض القرى مع علمهم اليقين بكفر من آمن ببعض الكتاب وكفر ببعض حتى أنهم يقولون من أنكر فرعاً مجمعاً عليه كفر، فقلت لهم إذا كان هذا عندكم فيمن أنكر فرعاً مجمعاً عليه فكيف بمن أنكر الإيمان باليوم الآخر ؟ وسب الحضر وسفه أحلامهم إذا صدقوا بالبعث. فلما أفتيت بكفر من تبر البوادي من أهل القرى مع علمه بما أنزل الله وبما أجمع عليه العلماء كثرت الفتنة وصدق الناس بما قيل فينا من الأكاذيب والبهتان. وبالجملة هذا ما نحن عليه وأنتم تعلمون أن من هو أجل منا لو تبين في هذه المسائل قامت عليه القيامة وأنا أشهد الله وملائكته وأشهدكم على دين الله ورسوله أني متبع لأهل العلم وما غاب عني من الحق وأخطأت فيه فبينوا لي، وأنا أشهد الله أني أقبل على الرأس والعين، والرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل.
الرسالة السابعة
ص ( 43 )
وله أيضاً رحمه الله تعالى لعالم من أهل المدينة :
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين ؛ إله الأولين والآخرين، وقيوم السموات والأرضين، وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله وهو الحكيم العليم، ثم ينتهى إلى جناب...... لا زال محروس الجناب، بعين الملك الوهاب وبعد :(48/22)
الخط وصل أوصلك الله إلى رضوانه وسر الخاطر حيث أخبر بطيبكم فإن سألت عنا فالحمد لله الذي بحمده تتم الصالحات، وإن سألت عن سبب الاختلاف الذي هو بيننا وبين الناس فما اختلفنا في شئ من شرائع الإسلام من صلاة وزكاة وصوم وحج وغير ذلك، ولا في شئ من المحرمات، الشيء الذي عندنا زين هو عند الناس زين، والذي عندهم شين هو عندنا شين إلا إذا نعمل بالزين ونغصب الذي يدنا عليه وننهي عن الشين ونؤدب الناس عليه، والذي قلب الناس علينا الذي قلبهم على سيد ولد آدم صلى الله عليه وسلم، وقلبهم على الرسل من قبله (( كلما جاء أمة رسولها كذبوه)) ومثل ما قال ورقة للنبي صلى الله عليه وسلم والله ما جاء أحد بمثل ما جئت به إلا عودي. فرأس الأمر عندنا وأساسه إخلاص الدين لله نقول : ما يدعى إلا الله ولا ينذر إلا لله ولا يذبح القربان إلا لله ولا يخاف خوف الله إلا من الله، فمن جعل من هذا شيئاً لغير الله فنقول هذا الشرك بالله الذي قال الله فيه (( إن الله لا يغفر أن يشرك به )) الآية، والكفار الذين قاتلهم النبي صلى الله عليه وسلم واستحل دماءهم يقرون أن الله هو الخالق وحده لا شريك له النافع الضار المدبر لجميع الأمور، واقرأ قوله تعالى : لنبيه صلى الله عليه وسلم : (( قل من يرزقكم من السماء والأرض أمن يملك السمع والأبصار )) الآية (( قل من بيده ملكوت كل شئ وهو يجير ولا يجار عليه إن كنتم تعلمون سيقولون لله))، وأخبر الله عن الكفار أنهم يخلصون لله الدين أوقات الشدائد واذكر قوله سبحانه : (( فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين )) والآية الأخرى (( وإذا غشيهم موج كالظل دعوا الله مخلصين له الدين )) وبين غاية الكفار ومطلبهم أنهم يطلبون الشفع واقرأ أول سورة الزمر تراه سبحانه بين دين الإسلام وبين دين الكفار ومطلبهم والآيات في هذا من القرآن ما تحصي ولا تعد.(48/23)
وأما الأحاديث الثابتة عنه صلى الله عليه وسلم فلما قال بعض الصحابة ما شاء الله وشئت قال : (( أجعلتني لله نداً، قل ما شاء الله وحده )). وفي الحديث الثاني قال بعض الصحابة : قوموا بنا نستغيث برسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا المنافق قال : (( إنه لا يستغاث بي وإنما يستغاث بالله وحده )) وفى الحديث الثالث أن أم سلمة رضي الله عنها ذكرت له كنيسة رأتها بأرض الحبشة وما فيها من الصور قال : (( أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح ـ أو العبد الصالح ـ بنوا على قبره مسجداً وصورا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة )) والحديث الرابع لما بعث معاذاً إلى اليمن قال له : (( إنك تأتي قوماً من أهل الكتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله، فإن أجابوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أجابوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم ))، والحديث الخامس عن معاذ قال كنت رديف النبي صلى الله عليه وسلم على حمار فقال لي : (( يا معاذ أتدرى ما حق الله على العباد وما حق العباد على الله ؟ )) قلت : الله ورسوله أعلم قال : (( حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً وحق العباد على الله أن لا يعذب من لا يشرك به شيئاً )) الحديث، والأحاديث في هذا ما تحصى وأما تنويهه صلى الله عليه وسلم بأن دينه يتغير بعده فقال صلى الله عليه وسلم : (( عليكم بسني وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضوا عليها بالتواجد وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة )) وفى الحديث عنه صلى الله عليه وسلم : (( من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد ))، وفى الحديث قال : (( افترقت الأمم قبلكم، افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، والنصارى افترقت على اثنتين وسبعين فرقة، وتفرقت أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة. قالوا من(48/24)
الواحدة يا رسول الله ؟ قال : (( من كان مثل ما أنا عليه وأصحابي )) وفي الحديث قال صلى الله عليه وسلم : (( لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه )) قالوا : اليهود والنصارى ؟ قال : (( فمن ؟ )).
ويكون عندك معلوماً أن أساس الأمر ورأسه ودعوة الرسل من أولهم إلى آخرهم الأمر بعبادة الله وحده لا شريك له والنهي عن عبادة من سواه قال تعالى : (( وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون )) وقال تعالى ( ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله )) وقال تعالى : (( يا أيها المدثر )) الآيتين ويكون عندك معلوماً أن لله تعالى أفعالا وللعبيد أفعالا، فأفعال الله الخلق والرزق والنفع والضر والتدبير وهذا أمر ما ينازع فيه لا كافر ولا مسلم، وأفعال العبد العبادة كونه ما يدعو إلا الله ولا ينذر إلا لله ولا يذبح إلا له ولا يخاف خوف السر إلا منه ولا يتوكل إلا عليه، فالمسلم من وحد الله بأفعاله سبحانه وأفعاله بنفسه، والمشرك الذي يوحد الله بأفعاله سبحانه ويشرك بأفعاله بنفسه، وفى الحديث لما نزل الله عليه ((قم فأنذر)) صعد الصفا صلى الله عليه وسلم فنادى : (( واصباحاه )) فلما اجتمع إليه قريش قال لهم : ما قال فقال عمه تبا لك، ما جمعتنا إلا لهذا وأنزل الله فيه : (( تبت يدا أبي لهب وتب )) وقال صلى الله عليه وسلم : (( يا عباس عم رسول الله، ويا صفية عمة رسول الله اشتروا أنفسكم لا أغني عنكم من الله شيئاً، ويا فاطمة بنت محمد سليني من مالي ما شئت لا أغني عنك من الله شيئا )) أين هذا من قول صاحب البردة :
يا أكرم الخلق مالي من ألوذ به سواك عند حلول الحادث العمم
وقوله :
ولن يضيق رسول الله جاهك بي إذا الكريم تجلى باسم منتقم(48/25)
وذكر صاحب السيرة أنه صلوات الله وسلامه عليه قام يقنت على قريش ويخصص أناساً منهم في مقتل حمزة وأصحابه فأنزل الله عليه : (( ليس لك من الأمر شيء )) الآية ولكن مثل ما قال صلى الله عليه وسلم : (( بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ)).
فإن قال قائلهم إنهم يكفرون بالعموم فنقول : سبحانك هذا بهتان عظيم الذي نكفر الذي يشهد أن التوحيد دين الله ودين رسوله، وأن دعوة غير الله باطلة ثم بعد هذا يكفر أهل التوحيد، ويسميهم الخوارج ويتبين مع أهل القبب على أهل التوحيد، ولكن نسأل الله الكريم رب العرش العظيم أن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه وأن يرينا الباطل باطلا ويرزقنا اجتنابه ولا يجعله ملتبساً علينا فنضل (( قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني )) الآية ويكون عندك معلوماً أن أعظم المراتب وأجلها عند الله الدعوة إليه التي قال الله : (( ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله )) الآية وفي الحديث (( والله لأن يهدي الله بك رجلا واحداً خير لك من حمر النعم )). ثم بعد هذا يذكر لنا عدوان الإسلام الذين ينفرون الناس عنه يزعمون أننا ننكر شفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم فنقول سبحانك هذا بهتان عظيم، بل نشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم الشافع المشفع صاحب المقام المحمود نسأل الله الكريم رب العرش العظيم أن يشفعه فينا وأن يحشرنا تحت لوائه ـ هذا اعتقادنا وهذا الذي مشى عليه السلف الصالح من المهاجرين والأنصار والتابعين وتابع التابعين والأئمة الأربعة رضي الله عنهم أجمعين، وهم أحب الناس لنبيهم وأعظمهم في اتباعه وشرعه ؛ فإن كانوا يأتون عند قبره يطلبونه الشفاعة فإن اجتماعهم حجة. والقائل إنه يطلب الشفاعة بعد موته يورد علينا الدليل من كتاب الله، أو من سنة رسول الله أو من إجماع الأمة ؛ والحق أحق أن يتبع.
الرسالة الثامنة
ص (51 )
وله قدس الله روحه :
بسم الله الرحمن الرحيم(48/26)
الذي يعلم من وقف عليه من الإخوان المتبعين محمداً صلى الله عليه وسلم أن ابن صياح سألني عما ينسب إلي فطلب مني أن اكتب الجواب فكتبته :
الحمد لله رب العالمين أما بعد :
فما ذكره المشركون على أني أنهي عن الصلاة على النبي، أو أني أقول لو أن لي أمراً هدمت قبة النبي صلى الله عليه وسلم، أو أني أتكلم في الصالحين، أو أنهي عن محبتهم فكل هذا كذب وبهتان افتراه على الشياطين الذين يريدون أن يأكلوا أموال الناس بالباطل مثل أولاد شمسان، وأولا إدريس الذين يأمرون الناس ينذرون لهم وينخونهم ويندبونهم، وكذلك فقراء الشيطان الذين ينتسبون إلى الشيخ عبد القادر رحمه الله وهو منهم بري كبراءة علي بن أبي طالب من الرافضة، فلما رأوني آمر الناس بما أمرهم به نبيهم صلى الله عليه وسلم أن لا يعبدوا إلا الله، وأن من دعا عبد القادر فهو كافر وعبد القادر منه بريء ، وكذلك من نخا الصالحين أو الأنبياء أو ندبهم أو سجد لهم أو نذر لهم أو قصدهم بشيء من أنواع العبادة التي هي حق الله على العبيد، وكل إنسان يعرف أمر الله ورسوله لا ينكر هذا الأمر بل يقربه ويعرفه، وأما الذي ينكره فهو بين أمرين : إن قال إن دعوة الصالحين واستغاثتهم والنذر لهم وصيرورة الإنسان فقيراً لهم أمر حسن ولو ذكر الله ورسوله أنه كفر فهو مصر بتكذيب الله ورسوله، ولا خفاء في كفره فليس لنا معه كلام، وإنما كلامنا مع رجل يؤمن بالله واليوم الآخر، ويحب ما أحب الله ورسوله، ويبغض ما أبغض الله ورسوله لكنه جاهل قد لبست عليه الشياطين دينه، ويظن أن الاعتقاد في الصالحين حق ولو يدرى أنه كفر يدخل صاحبه في النار ما فعله، ونحن نبين لهذا ما يوضح له الأمر فنقول : الذي يجب على المسلم أن يتبع أمر الله ورسوله، ويسأل عنه والله سبحانه أنزل القرآن وذكر فيه ما يحبه ويبغضه، وبين لنا فيه ديننا، وكذلك محمد صلى الله عليه وسلم أفضل الأنبياء فليس على وجه الأرض أحد أحب إلى أصحابه منه، وهم(48/27)
يحبونهم على أنفسهم وأولادهم، ويعرفون قدره ويعرفون أيضاً الشرك والإيمان فإن كان أحد من المسلمين في زمن النبي صلى الله عليه وسلم قد دعاه أو نذر له أو ندبه أو أحد من أصحابه جاء عند قبره بعد موته يسأله أو يندبه أو يدخل عليه للالتجاء له عند القبر فاعرف أن هذا الأمر صحيح حسن ولا تطعني ولا غيري، وإن كان إذا سألت إذا أنه صلى الله عليه وسلم تبرأ ممن اعتقد في الأنبياء والصالحين، وقتلهم وسباهم وأولادهم، وأخذ أموالهم، وحكم بكفرهم فاعرف أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يقول إلا الحق والواجب على كل مؤمن اتباعه فيما جاء به، وبالجملة فالذي أنكره الاعتقاد في غير الله مما لا يجوز لغيره، فإن كنت قلته من عندي فارم به، أو من كتاب لقيته ليس عليه عمل فارم به كذلك، أو نقلته عن أهل مذهبي فارم به، وإن كنت قلته عن أمر الله ورسوله، وعما أجمع عليه العلماء في كل مذهب فلا ينبغي لرجل يؤمن بالله واليوم الآخر أن يعرض عنه لأجل أهل زمانه أو أهل بلده، وأن أكثر الناس في زمانه أعرضوا عنه.(48/28)
واعلم أن الأدلة على هذا من كلام الله وكلام رسوله كثيرة لكن أنا أمثل لك بدليل واحد ينبهك على غيره قال الله تعالى (( قل ادعو الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب )) الآية. ذكر المفسرون في تفسيرها أن جماعة كانوا يعتقدون في عيسى عليه السلام وعزير فقال تعالى : هؤلاء عبيدي كما أنتم عبيدي، ويرجون رحمتي كما ترجون رحمتي ويخافون عذابي كما تخافون عذابي. فيا عباد الله تفكروا في كلام ربكم تبارك وتعالى إذا كان ذكر عن الكفار الذين قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن دينهم الذي كفرهم به هو الاعتقاد في الصالحين، وإلا فالكفار يخافون الله ويرجونه ويحجون ويتصدقون ولكنهم كفروا بالاعتقاد في الصالحين، وهم يقولون إنما اعتقدنا فيهم ليقربونا إلى الله زلفى ويشفعوا لنا كما قال تعالى : (والذين اتخذوا من دونهم أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى ) وقال تعالى : ((ويعبدون من دون الله مالا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله )) فيا عباد الله إذا كان الله ذكر في كتابه أن دين الكفار هو الاعتقاد في الصالحين، وذكر أنهم اعتقدوا فيهم ودعوهم وندبوهم لأجل أنهم يقربوهم إلى الله زلفى هل بعد هذا البيان بيان ؟ فإذا كان اعتقد في عيسى ابن مريم مع أنه نبي من الأنبياء وندبه ونخاه فقد كفر فكيف بمن يعتقدون في الشياطين كالكلب أبي حديدة، وعثمان الذي في الوادي، والكلاب الأخر في الخرج وغيرهم في سائر البلدان الذين يأكلون أموال الناس بالباطل، ويصدون عن سبيل الله وأنت يا من هداه الله لا تظن أن هؤلاء يحبون الصالحين بل هؤلاء أعداء الصالحين وأنت والله الذي تحب الصالحين لأن من أحب قوماً أطاعهم، فمن أحب الصالحين وأطاعهم لم يعتقد إلا في الله، وأما من عصاهم ودعاهم يزعم أنه يحبهم فهو مثل النصارى الذين يدعون عيسى ويزعمون محبته وهو بريء منهم، ومثل(48/29)
الرافضة الذين يدعون على بن أبى طالب وهو بريء منهم، ونختم هذا الكتاب بكلمة واحدة وهى أن أقول : يا عباد الله لا تطيعوني ولا تفكروا واسألوا أهل العلم من كل مذهب عما قال الله ورسوله وأنا أنصحكم لا تظنوا أن الاعتقاد في الصالحين مثل الزنا والسرقة بل هو عبادة للأصنام من فعله كفر وتبرأ منه رسول الله صلى الله عليه وسلم يا عباد الله تفكروا وتذكروا والسلام
الرسالة التاسعة
ص (57 )
وله أيضاً رحمه الله :
بسم الله الرحمن الرحيم
من محمد بن عبد الوهاب إلى من يصل إليه من المسلمين سلام عليكم ورحمة الله وبركاته ؛ وبعد :
ما ذكر لكم عني أني أكفر بالعموم فهذا من بهتان الأعداء، وكذلك قولهم إني أقول من تبع دين الله ورسوله وهو ساكن في بلده أنه ما يكفيه حتى يجييء عندي فهذا أيضا من البهتان ؛ إنما المراد اتباع دين الله ورسوله في أي أرض كانت ؛ ولكن نكفر من أقر بدين الله ورسوله ثم عاداه وصد الناس عنه ؛ وكذلك من عبد الأوثان بعد ما عرف أنها دين للمشركين وزينة للناس ؛ فهذا الذي أكفره وكل عالم على وجه الأرض يكفر هؤلاء إلا رجلاً معانداً أو جاهلاً والله أعلم والسلام.
الرسالة العاشرة
ص ( 59 )
بسم الله الرحمن الرحيم
من محمد بن عبد الوهاب إلى الأخ حمد التويجري ألهمه الله رشده، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد :(48/30)
وصل الخط أوصلك الله ما يرضيه، وأشرفنا على الرسالة المذكورة، وصاحبها ينتسب إلى مذهب الإمام أحمد رحمه الله، وما تضمنته رسالته من الكلام في الصفات مخالف لعقيدة الإمام أحمد، وما تضمنته من الشبه الباطلة في تهوين أمر الشرك بل في إباحته فمن أبين الأمور بطلانه لمن سلم من الهوى والتعصب ؛ وكذلك تمويهه على الطغام بأن ابن عبد الوهاب يقول : الذي ما يدخل تحت طاعتي كافر ؛ ونقول : سبحانك هذا بهتان عظيم، بل نشهد الله على ما يعلمه من قلوبنا بأن من عمل بالتوحيد، وتبرأ من الشرك وأهله فهو المسلم في أي زمان وأي مكان وإنما نكفر من أشرك بالله في إلهتيه بعد ما نبين له الحجة على بطلان الشرك وكذلك نكفر من حسنه للناس، أو أقام الشبه الباطلة على إباحته، وكذلك من قام بسيفه دون هذه المشاهد التي يشرك بالله عندها، وقاتل من أنكرها وسعى في إزالتها والله المستعان والسلام.
الرسالة الحادية عشرة
ص (61 )
بسم الله الرحمن الرحيم
ومنها رسالة أرسلها جواباً لعبد الله بن سحيم مطوع أهل المجمعة حين سأله عن الكتاب الذي أرسله عدو الله سليمان بن محمد بن سحيم مطوع أهل الرياض، وكانت رسالة أرسلها إلى أهل البصرة والحسا يشنع فيها على الشيخ بالكذب والبهتان والزور والباطل الذي ما جرى، وما كان قصده بذلك الاستنصار بكلامهم على إبطال ما أظهره الشيخ من بيان التوحيد وإخلاص الدعوة لله، وهدم أركان الشرك، وإبطال مناهج الضلال والإفك ورام هذا أن يرتقي إلى ذلك بأسباب، ويستدعى من كل معاند مكابر الجواب، فإن الله تعالى بفضله قد أزال اللبس والحجاب، وكشف عن القلوب ظلمات الرين والاحتجاب وهذا نص الرسالة
بسم الله الرحمن الرحيم
من محمد بن عبد الوهاب إلى عبد الله بن سحيم وبعد :(48/31)
ألفينا مكتوبك وما ذكرت فيه من ذكرك وما بلغك، ولا يخفاك أن المسائل التي ذكرت أنها بلغتكم في كتاب من العارض جملتها أربعة وعشرون مسألة بعضها حق بهتان وكذب، وقبل الكلام فيها لا بد من تقديم أصل وذلك أن أهل العلم إذا اختلفوا، والجهال إذا تنازعوا ومثلى ومثلكم إذا اختلفنا في مسألة هل الواجب اتباع أمر الله ورسوله وأهل العلم ؟ أو الواجب اتباع عادة الزمان التي أدركنا الناس عليها، ولو خالفت ما ذكره العلماء في جميع كتبهم، وإنما ذكرت هذا ولو كان واضحاً لأن بعض المسائل التي ذكرت أنا قلتها لكن هي موافقة لما ذكره العلماء في كتبهم. الحنابلة وغيرهم، ولكن هي مخالفة لعادة الناس التي نشأوا عليها فأنكرها علي لأجل مخالفة العادة وإلا فقد رأوا تلك في كتبهم عياناً، وأقروا بها وشهدوا أن كلامي هو الحق لكن أصابهم ما أصاب الذين قال الله فيهم (( فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين )) الآية وهذا هو ما نحن فيه بعينه، فإن الذي راسلكم هو عدو الله ابن سحيم، وقد بينت ذلك له فأقر به، وعندنا كتب يده في رسائل متعددة أن هذا هو الحق، وأقام على ذلك سنين، لكن أنكر آخر الأمر لأسباب أعظمها البغي أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده، وذلك أن العامة قالوا له ولأمثاله إذا كان هذا هو الحق فلأي شيء لم تنهونا عن عبادة شمسان وأمثاله، فتعذروا أنكم ما سألتمونا، قالوا : وإن لم نسألكم كيف نشرك بالله عندكم ولا تنصحونا، وظنوا أن يأتيهم في هذا غضاضة وأن فيه شرفاً لغيره، وأيضاً لما أنكرنا عليهم أكل السحت والرشا إلى غير ذلك من الأمور، فقام يدخل عندكم وعند غيركم بالبهتان والله ناصر دينه ولو كره المشركون، وأنت لا تستهون مخالفة العادة على العلماء فضلا عن العوام، وأنا أضرب لك مثلا بمسألة واحدة وهي مسئلة الاستجمار ثلاثاً فصاعدا غير عظم ولا روث، وهو كاف مع وجود الماء عند الأئمة الأربعة وغيرهم وهو إجماع الأمة لا خلاف في(48/32)
ذلك، ومع هذا لو يفعله أحد لصار هذا عند الناس أمراً عظيماً ولنهوا عن الصلاة خلفه، وبدعوه مع إقرارهم بذلك ولكن لأجل العادة. إذا تبين هذا فالمسائل التي شنع بها منها : ماهو من البهتان الظاهر وهي قوله : إني مبطل كتب المذاهب، وقوله : إني أقول إن الناس من ستمائة سنة ليسوا على شيء وقوله إني أدعى الاجتهاد، وقوله : إني خارج عن التقليد، وقوله إني أقول : إن اختلاف العلماء نقمة، وقوله إني أكفر من توسل بالصالحين، وقوله : إني أكفر البوصيري لقوله يا أكرم الخلق، وقوله إني أقول لو أقدر على هدم حجرة الرسول لهدمتها ولو أقدر على الكعبة لأخذت ميزابها وجعلت لها ميزاباً من خشب، وقوله إني أنكر زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم، وقوله إني أنكر زيارة قبر الوالدين وغيرهم وإني أكفر من يحلف بغير الله فهذه اثنتا عشرة مسألة جوابي فيها أن أقول : ((سبحانك هذا بهتان عظيم )) ولكن قبله من بهت النبي محمداً صلى الله عليه وسلم أنه يسب عيسى ابن مريم ويسب الصالحين ((تشابهت قلوبهم )) وبهتوه بأنه يزعم أن الملائكة، وعيسى، وعزيراً في النار فأنزل الله في ذلك ( إن الذين سبقت لهم الحسنى أولئك عنها مبعدون) الآية، وأما المسائل الأخر وهي أني أقول لا يتم إسلام الإنسان حتى يعرف معنى لا إله إلا الله، ومنها أني أعرف من يأتيني بمعناها، ومنها أني أقول الإله هو الذي فيه السر، ومنه تكفير الناذر إذا أراد به التقرب لغير الله وأخذ النذر كذلك، ومنها أن الذبح للجن كفر، والذبيحة حرام ولو سمى الله عليها إذا ذبحها للجن فهذه خمس مسائل كلها حق وأنا قائلها. ونبدأ بالكلام عليها لأنها أم المسائل وقبل ذلك أذكر معنى لا إله إلا الله فنقول : التوحيد نوعان توحيد الربوبية وهو : أن الله سبحانه متفرد بالخلق والتدبير عن الملائكة والأنبياء وغيرهم، وهذا حق لابد منه، لكن لا يدخل الرجل في الإسلام لأن أكثر الناس مقرون به قال الله تعالى : ((قل من يرزقكم من(48/33)
السماء والأرض أم من يملك السمع والأبصار)) إلى قوله ((أفلا تتقون)) وأن الذي يدخل الرجل في الإسلام هو توحيد الألوهية، وهو : أن لا يعبد إلا الله لا ملكاً مقرباً ولا نبياً مرسلا، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث وأهل الجاهلية يعبدون أشياء مع الله، فمنهم من يدعو الأصنام، ومنهم من يدعو عيسى، ومنهم من يدعو الملائكة فنهاهم عن هذا، وأخبرهم أن الله أرسله ليوحد ولا يدعي أحد من دونه لا الملائكة ولا الأنبياء، فمن تبعه ووحد الله فهو الذي شهد أن لا إله إلا الله، ومن عصاه ودعا عيسى والملائكة واستنصرهم، والتجأ إليهم فهو الذي جحد لا إله إلا الله مع إقراره أنه لا يخلق ولا يرزق إلا الله، وهذه جملة لها بسط طويل، لكن الحاصل أن هذا مجمع عليه بين العلماء، ولما جرى في هذه الأمة ما أخبر به نبيها صلى الله عليه وسلم حيث قال: (( لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه )) وكان من قلبهم كما ذكر الله عنهم : ((اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله )) فصار ناس من الضالين يدعون أناساً من الصالحين في الشدة والرخاء مثل عبد القادر الجيلاني، وأحمد البدوي وعدي بن مسافر، وأمثالهم من أهل العبادة والصلاح، فأنكر عليهم أهل العلم غاية الإنكار، وزجروهم عن ذلك، وحذروهم غاية التحذير والإنذار من جميع المذاهب في سائر الأقطار والأمصار فلم يحصل منهم انزجار بل استمروا على ذلك غاية الاستمرار. وأما الصالحون الذين يكرهون ذلك فحاشاهم من ذلك، وبين أهل العلم أن أمثال هذا هو الشرك الأكبر، وأنت ذكرت في كتابك تقول : يا أخي مالنا والله دليل إلا من كلام أهل العلم وأنا أقول كلام أهل العلم رضي، وأنا أنقله لك وأنبهك عليه فتفكر فيه وقم لله ساعة ناظراً ومناظراً مع نفسك ومع غيرك، فإن عرفت أن الصواب معي، وأن دين الإسلام اليوم من أغرب الأشياء أعني دين الإسلام الصرف الذي لا يمزج بالشرك والبدع وأما الإسلام(48/34)
الذي ضده الكفر فلا شك أن أمة محمد صلى الله عليه وسلم آخر الأمم وعليها تقوم الساعة فإن فهمت أن كلامي هو الحق فاعمل لنفسك واعلم أن الأمر عظيم والخطب جسيم، فإن أشكل عليك شيء فسفرك إلى المغرب في طلبه غير كثير، واعتبر لنفسك حيث قلت لي فيما مضى إن هذا هو الحق الذي لا شك فيه لكن لا نقدر على تغيره، وتكلمت بكلام حسن، فلما غربلك الله بولد المويس ولبس عليك، وكتب لأهل الوشم يستهزئ بالتوحيد، ويزعم أنه بدعة، وأنه خرج من خراسان ويسب دين الله ورسوله لم تفطن لجهله وعظم ذنبه وظننت أن كلامي فيه من باب الانتصار للنفس، وكلامي هذا لا يغيرك فإن مرادي أن تفهم أن الخطب جسيم وأن أكابر أهل العلم يتعلمون هذا ويغلطون فيه فضلا عنا وعن أمثالنا فلعله إن أشكل عليك تواجهني، هذا إن عرفت أنه حق وإن كنت إذا نقلت لك عبارات العلماء عرفت أني لم أفهم معناها وأن الذي نقلت لك كلامهم أخطئوا، وأنهم خالفهم أحد من أهل العلم فنبهي على الحق وأرجع إليه إن شاء الله تعالى.
فنقول : قال الشيخ نقي الدين وقد غلط في مسمى التوحيد طوائف من أهل النظر، ومن أهل العبادة حتى قلبوا حقيقته، فطائفة ظنت أن التوحيد هو نفي الصفات، وطائفة ظنوا أنه الإقرار بتوحيد الربوبية ومنهم من أطال في تقرير هذا الموضع وظن أنه بذلك قرر الوحدانية وأن الألوهية هي القدرة على الاختراع ونحو ذلك، ولم يعلم أن مشركي العرب كانوا مقرين بهذا التوحيد قال الله تعالى : (( قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون )) الآيات، وهذا حق لكن لا يخلص به عن الإشراك بالله الذي لا يغفره الله، بل لا بد أن يخلص الدين لله فلا يعبد إلا الله فيكون دينه لله والإله هو المألوه الذي تألهه القلوب، وأطال رحمه الله الكلام.(48/35)
وقال أيضاً في ( الرسالة السنية ) التي أرسلها إلى طائفة من أهل العبادة ينتسبون إلى بعض الصالحين، ويغلون فيه، فذكر حديث الخوارج ثم قال : فإذا كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وخلفائه الراشدين ممن ينتسب إلى الإسلام من مرق منه مع عبادته العظيمة فليعلم أن المنتسب إلى الإسلام قد يمرق من الدين وذلك بأمور : منها : الغلو الذي ذمه الله مثل الغلو في عدي بن مسافر أو غيره بل الغلو في علي بن أبي طالب، بل الغلو في المسيح ونحوه فكل من غلا في نبي أو صحابي أو رجل صالح، وجعل فيه نوعاً من الإلهية مثل أن يقول يا سيدي فلان أغثني أو أنا في حسبك ونحو هذا فهذا كافر يستتاب، فإن تاب وإلاقتل فإن الله سبحانه إنما أرسل الرسل، وأنزل الكتب ليعبد ولا يدعى معه إله آخر والذين يدعون مع الله آلهة أخرى مثل الشمس والقمر والصالحين والتماثيل المصورة على صورهم لم يكونوا يعتقدون أنها تنزل المطر، وتنبت النبات وإنما كانوا يعبدون الملائكة والصالحين ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله فبعث الله الرسل، وأنزل الكتب تنهى أن يدعى أحد من دونه لادعاء عبادة ولا دعاء استغاثة. وأطال الكلام رحمه الله، فتأمل كلامه في أهل عصره من أهل النظر الذين يدعون العلم، ومن أهل العبادة الذين يدعون الصلاح. وقال في ( الإقناع ) في باب حكم المرتد في أوله : فمن أشرك بالله أو جحد ربوبيته أو وحدانيته إلى أن قال أو استهزأ بالله أو رسله قال الشيخ، أو كان مبغضاً لرسوله أو لما جاء به اتفاقاً، أو جعل بينه وبين الله وسائط يدعوهم ويتوكل عليهم ويسألهم كفر إجماعاً. إلى أن قال : أو أنكر الشهادتين أو إحداهما، فتأمل هذا الكلام بشراشر قلبك، وتأمل هل قالوا هذا في أشياء وجدت في زمانهم، واشتد نكيرهم على أهلها أو قالوا ولم تقع، وتأمل الفرق بين جحد الربوبية والوحدانية والبغض لما جاء به الرسول.(48/36)
وقال أيضاً في أثناء الباب : ومن اعتقد أن لأحد طريقاً إلى الله غير متابعة محمد صلى الله عليه وسلم، أولا يجب عليه اتباعه، أو أن لغيره خروجاً عن اتباعه، أو قال أنا محتاج إليه في علم الظاهر دون علم الباطن، أو في علم الشريعة دون علم الحقيقة أو قال إن من العلماء من يسعه الخروج عن شريعته كما وسع الخضر الخروج عن شريعة موسى كفر في هذا كله، ولو تعرف من قال هذا الكلام فيه وجزم بكفرهم وعلمت ما هم عليه من الزهد والعبادة وأنهم عند أكثر أهل زماننا من أعظم الأولياء لقضيت العجب.
وقال أيضاً في الباب : ومن سب الصحابة واقترن بسبه دعوى أن علياً إله أو نبي أو أن جبريل غلط فلا شك في كفر هذا، بل لا شك في كفر من توقف في تكفيره فتأمل، هذا إذا كان كلامه هذا في علي فكيف بمن ادعى أن ابن عربي أو عبد القادر إله ؟ وتأمل كلام الشيخ في معنى الإله الذي تألهه القلوب، واعلم أن المشركين في زماننا قد زادوا على الكفار في زمن النبي صلى الله عليه وسلم بأنهم يدعون الأولياء والصالحين في الرخاء والشدة، ويطلبون منهم تفريج الكربات وقضاء الحاجات مع كونهم يدعون الملائكة والصالحين، ويريدون شفاعتهم والتقرب بهم، وإلا فهم مقرون بأن الأمر لله فهم لا يدعونهم إلا في الرخاء فإذا جاءتهم الشدائد أخلصوا لله قال الله تعالى : " وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه فلما نجاكم إلى البر أعرضتم " الآية.(48/37)
وقال أيضاً في ( الإقناع ) في الباب : ويحرم تعلم السحر وتعليمه وفعله، وهو عقد ورقى وكلام يتكلم به، أو يكتبه، أو يعمل شيئاً يؤثر في بدن المسحور أو قلبه أو عقله، ومنه ما يقتل، ومنه ما يمرض، ومنه ما يأخذ الرجل عن امرأته فيمنعه وطأها ومنه ما يبعض أحدهما للآخر ويحبب بين اثنين، ويكفر بتعلمه وفعله سواء اعتقد تحريمه أو إباحته، فتأمل هذا الكلام، ثم تأمل ما جرى في الناس خصوصاً الصرف والعطف تعرف أن الكفر ليس ببعيد، وعليك بتأمل هذا الباب في الإقناع وشرحه تأملا جيداً وقف عند المواضع المشكلة، وذاكر فيها كما تفعل في باب الوقف والإجازة يتبين لك إن شاء الله أمر عظيم.(48/38)
وأما الحنفية فقال الشيخ قاسم في شرح (درر البحار ) : النذر الذي يقع من أكثر العوام، وهو أن يأتي إلى قبر بعض الصلحاء قائلا: يا سيدي فلان إن رد غائبي، أو عوفي مريضي، أو قضيت حاجتي فلك كذا وكذا باطل اجماعأً لوجوه : منها : أن النذر للمخلوق لا يجوز، ومنها ظن أن الميت يتصرف في الأمر واعتقاد هذا كفر، إلى أن قال إذا عرف هذا فما يؤخذ من الدراهم والشمع والزيت ونحوها وينقل إلى ضرائح الأولياء فحرام بإجماع المسلمين، وقد ابتلى الناس بهذا لا سيما في مولد أحمد البدوي، فتأمل قول صاحب النهر مع أنه بمصر ومقر العلماء كيف شاع بين أهل مصر مالا قدرة للعلماء على دفعه، فتأمل قوله من أكثر العوام أتظن أن الزمان صلح بعده ؟ أما المالكية، فقال الطرطوشي في كتاب (الحوادث والبدع ) روى البخاري عن أبي واقد الليثي قال : ((خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلي حنين ونحن حديثو عهد بكفر وللمشركين سدرة يعكفون حولها وينوطون بها أسلحتهم يقال ذات أنواط فمررنا بسدرة فقلنا. يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنوط فقال الله أكبر هذا كما قال بنو إسرائيل لموسى : اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة، لتركبن سنن من كان قبلكم ) فانظروا رحمكم الله أينما وجدتم سدرة يقصدها الناس، وينوطون بها الخرق فهي ذات أنواط فاقطعوها، وقال صلى عليه وسلم (( بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ فطوبي للغرباء الذين يصلحون إذا فسد الناس )) ومعنى هذا أن الله لما جاء بالإسلام فكان الرجل إذا أسلم في قبيلته غريباً مستخفياً بإسلامه قد جفاه العشيرة فهو بينهم ذليل خائف، ثم يعود غريباً لكثرة الأهواء المضلة والمذاهب المختلفة حتى يبقى أهل الحق غرباء في الناس لقلتهم وخوفهم على أنفسهم.(48/39)
وروى البخاري عن أم الدرداء عن أبي الدرداء قال : ( والله ما أعرف فيهم من أمر محمد إلا أنهم يصلون جميعاً)، وذلك أنه أنكر أكثر أفعال أهل عصره. وقال الزهري : دخلت على أنس بن مالك بدمشق وهو يبكي فقلت : ما يبكيك ؟ فقال : ما أعرف فيهم شيئاً مما أدركت إلا هذه الصلاة وهذه الصلاة قد ضيعت انتهى كلام الطرطوشي.
فليتأمل اللبيب هذه الأحاديث، وفي أي زمان قيلت وفي أي مكان وهل أنكرها أحد من أهل العلم، والفوائد فيها كثيرة، ولكن مرادي منها ما وقع من الصحابة وقول الصادق المصدوق إنه مثل كلام الذين اختارهم الله على العالمين لنبيهم اجعل لنا إلهاً، يا عجباً إذا جرى هذا من أولئك السادة كيف ينكر علينا أن رجلا من المتأخرين غلط في قوله يا أكرم الخلق، كيف تعجبون من كلامي فيه وتظنون به خيراً وأعلم منهم ؟ ولكن هذه الأمور لا علم لكم بها، وتظنون أن من وصف شركاً أو كفراً أنه الكفر الأكبر المخرج عن الملة ، ولكن أين كلامك هذا من كتابك الذي أرسلت إلي قبل أن يغربلك الله بصاحب الشام، وتذكر وتشهد أن هذا هو الحق وتعتذر أنك لا تقدر على الإنكار، ومرادي أن أبين لك كلام الطرطوشي وما وقع في زمانه من الشرك بالشجر مع كونه في زمن القاضي أبي يعلي أتظن الزمان صلح بعده ؟(48/40)
وأما كلام الشافعية فقال الإمام محدث الشام أبو شامة في كتاب ( الباعث على إنكار البدع والحوادث ) وهو في زمن الشارح وابن حمدان، وقد وقع من جماعة من النابذين لشريعة الإسلام المنتمين إلى الفقر الذي حقيقته الافتقار من الإيمان من اعتقادهم في مشايخ لهم ضالين مضلين فهم داخلون تحت قوله: (( أم لهم شركاء شرعوا لهم من الذين ما لم يأذن به الله )) وبهذه الطرق وأمثالها كان مبادئ ظهور الكفر من عبادة الأصنام وغيرها، ومن هذا القسم ما قد عم الابتلاء به من تزيين الشيطان للعامة تخليق الحيطان والعمد، وإسراج مواضع في كل بلد يحكي لهم حاك أنه رأى في منامه أحداً ممن شهر بالصلاح فيفعلون ذلك، ويظنون أنهم يتقربون إلى الله، ثم يجاوزون ذلك إلى أن يعظم وقع تلك الأماكن في قلوبهم، ويرجون الشفاء لمرضاهم وقضاء حوائجهم بالنذر لهم، وهي بين عيون وشجر وحائط وحجر، وفي دمشق صانها الله من ذلك مواضع متعددة كعوينة الحمى، والشجرة الملعونة خارج باب النصر سهل الله قطعها فما أشبهها بذات أنواط، ثم ذكر كلاماً طويلا إلى أن قال : أسال الله الكريم معافاته من كل ما يخالف رضاه ولا يجعلنا ممن أضله فاتخذ إلهه هواه، فتأمل ذكره في النوع أنه نبذ لشريعة الإسلام وأنه خروج على الإيمان، ثم ذكر أنه عم الابتلاء في الشام فأنت قل لصاحبكم هؤلاء العلماء من الأئمة الأربعة ذكروا أن الشرك عم الابتلاء به وغيره، وصاحوا بأهله من أقطار الأرض، وذكروا أن الدين عاد غريباً، فهو بين اثنتين : إما أن يقول كل هؤلاء العلماء جاهلون ضالون مضلون خارجون، وإما أن يدعي أن زمانه وزمان مشايخه صلح بعد ذلك، ولا يخفاك أني عثرت على أوراق عند ابن عزاز فيها إجازات له من عند مشايخه، وشيخ مشايخه رجل يقال له عبد الغني، ويثنون عليه أوراقهم، ويسمونه العارف بالله، وهذا اشتهر عنه أنه على دين ابن عربي الذي ذكر العلماء أنه أكفر من فرعون، حتى قال ابن المقري الشافعي من شك في كفر(48/41)
طائفة ابن عربي فهو كافر، فإذا كان إمام دين ابن عربي والداعي إليه هو شيخهم ويثنون عليه أنه العارف بالله فكيف يكون الأمر ؟ ولكن أعظم من هذا كله ما تقدم عن أبي الدرداء وأنس وهما بالشام ذلك الكلام العظيم. واحتج به أهل العلم على أن زمانهم أعظم فكيف بزماننا ؟ وقال ابن القيم رحمه الله في (الهدي النبوي ) في الكلام على حديث وفد الطائف لما أسلموا وسألوا النبي صلى الله عليه وسلم أن يترك لهم اللات لا يهدمها سنة، ولما تقدم ابن القيم على المسائل المأخوذة من القصة قال : ومنها أنه لا يجوز إبقاء مواضع الشرك والطواغيت بعد القدرة على هدمها وإبطالها يوماً واحداً، فإنها شعائر الشرك والكفر، وهي أعظم المنكرات فلا يجوز الإقرار عليها مع القدرة البتة، وهذا حكم المشاهد التي بنيت على القبور التي اتخذت أوثاناً تعبد من دون الله، ولأحجار التي تقصد للتبرك والنذر والتقبيل لا يجوز إبقاء شيء منها على وجه الأرض مع القدرة على إزالته، وكثير منها بمنزلة اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى بل أعظم شركا عندها وبها والله المستعان ولم يكن أحد من أرباب هذه الطواغيت يعتقد أنها تخلق وترزق، وإنما كانوا يفعلون عندها وبها ما يفعله إخوانهم من المشركين اليوم عند طواغيتهم، فاتبع هؤلاء سنن من قبلهم وسلكوا سبيلهم شبراً بشبر وذراعاً بذراع، وسلكوا سبيلهم حذو القذة بالقذة، وغلب الشرك على أكثر النفوس لغلبة الجهل وخفاء العلم، وصار المعروف منكراً والمنكر معروفاً، والسنة بدعة والبدعة سنة، ونشاً في ذلك الصغير، وهرم عليه الكبير، وطمست الأعلام واشتدت غربة الإسلام وقل العلماء، وغلب السفهاء وتفاهم الأمر، واشتد البأس، وظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي انتهى كلامه.(48/42)
وقال أيضاً : في الكلام على هذه القصة لما ذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ مال اللات وصرفه في المصالح، ومنها جواز صرف الإمام الأموال التي تصير إلى هذه الطواغيت في الجهاد ومصالح المسلمين فيجب عليه أن يأخذ أموال هذه الطواغيت التي تساق إليها، ويصرفها على الجند والمقاتلة، ومصالح الإسلام كما أخذ النبي صلى الله عليه وسلم أموال اللات، وكذا الحكم في وقفها، والوقف عليها باطل، وهو مال ضائع فيصرف في مصالح المسلمين، فإن الوقف لا يصح إلا في قربة وطاعة الله ورسوله فلا يصح على مشهد ولا قبر يسرج عليه ويعظم وينذر له ويعبد من دون الله، وهذا مما لا يخالف فيه أحد من أئمة الدين، ومن اتبع سبيلهم انتهى كلامه.(48/43)
فتأمل كلام هذا الرجل هو من أهل العلم، وهو أيضاً من أهل الشام كيف صرح أنه ظهر في زمانه فيمن يدعي الإسلام في الشام وغيره عبادة القبور والمشاهد والأشجار والأحجار التي هي أعظم من عبادة اللات والعزى أو مثله، وأن ذلك ظهر ظهوراً عظيماً حتى غلب الشرك على أكثر النفوس، وحتى صار الإسلام غريباً بل اشتدت غربته أين هذا ؟ من قول صاحبكم لأهل الوشم في كتابه لما ذكروا له أن في بلدانكم شيئاً من الشرك يأبى الله أن يكون ذلك في المسلمين، وكلام هؤلاء الأئمة من أهل المذاهب الأربعة أعظم وأعظم وأطم مما قال ابن عيدان وصاحبه في أهل زمانهما افترى هؤلاء العلماء أتوا فرية عظيمة ومقالة جسيمة ؟فهذا ما يسر الله نقله من كلام أهل العلم على سبيل العجلة فأنت تأمله تأملاً جيداً، واجعل تأملك لله مستعيذاً بالله من اتباع الهوى، ولا تفعل فعلك أولا، لما ذكرت لك أنك تتأمل كلامي وكلامه، فإن كان كلامي صحيحاً لا مجازفة فيه، وأن شاميكم لا يعرف معنى لا إله إلا الله، ولا يعرف عقيدة الإمام أحمد، وعقيدة الذين ضربوه فاعرف قدره فهو بغيره أجهل، واعرف أن الأمر أمر جليل، فإن كان كلامي باطلا ونسبت رجلا من أهل العلم إلى هذه الأمور العظيمة بالكذب والبهتان فالأمر أيضاً عظيم فأعرضت عن ذلك كله وكتبت لي كتاباً في شيء آخر، فإن كان مرادك اتباع الهوى أعاذنا الله منه، وأنك مع ولد المويس كيف كان فاترك الجواب، فإن بعض الناس يذكرون عنك أنك صائر معه لأجل شيء من أمور الدنيا، وإن كنت مع الحق فلا أعذرك من تأمل كلامي هذا وكلامي الأول وتعرضهما على كلام أهل العلم وتحررهما تحريراً جيداً ثم تتكلم بالحق.(48/44)
إذا تقرر هذا فخمس المسائل التي قدمت جوابها في كلام العلماء وأضيف إليها مسألة سادسة وهى : إفتائي بكفر شمسان وأولاده ومن شابههم وسميتهم طواغيت، وذلك أنهم يدعون الناس إلى عبادتهم من دون الله عبادة أعظم من عبادة اللات والعزى بأضعاف، وليس في كلامي مجازفة بل هو الحق لأن عباد اللات والعزى يعبدونها في الرخاء، ويخلصون لله في الشدة وعبادة هؤلاء أعظم من عبادتهم إياهم في شدائد البر والبحر، فإن كان الله أوقع في قلبك معرفة الحق والانقياد له والكفر بالطاغوت والتبري ممن خالف هذه الأصول ولو كان أباك أو أخاك فاكتب لي وبشرني لأن هذا ليس مثل الخطأ في الفروع، بل ليس الجهل بهذا فضلا عن إنكاره مثل الزنا والسرقة بل والله ثم والله ثم والله إن الأمر أعظم، وإن وقع في قلبك إشكال فاضرع إلى مقلب القلوب أن يهديك لدينه ودين نبيه.(48/45)
وأما بقيه المسائل فالجواب عنها ممكن إذا خلصنا من شهادة أن لا إله إلا الله وبيننا وبينكم كلام أهل العلم لكن العجب من قولك أنا هادم قبور الصحابة، وعبارة الإقناع في الجنائز يجب هدم القباب التي على القبور لأنها أسست على معصية الرسول والنبي صلى الله عليه وسلم صح عنه أنه بعث علياً لهدم القبور ومثل صاحب كتابكم لو كتب لكم أن ابن عبد الوهاب ابتدع لأنه أنكر على رجل تزوج أخته فالعجب كيف راج عليكم كلامه فيه ؛ وأما قولي : إن الإله الذي فيه السر فمعلوم أن اللغات تختلف فالمعبود عند العرب وإلإله الذي يسمونه عوامنا السيد، والشيخ، والذي فيه السر، والعرب الأولون يسمون الألوهية ما يسميها عوامنا السر لأن السر عندهم هو القدرة على النفع والضر، وكونه يصلح أن يدعى ويرجى ويخاف ويتوكل عليه فإذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب )) وسئل بعض العامة ما فاتحة الكتاب ما فسرت له إلا بلغة بلده، فتارة تقول هي فاتحة الكتاب وتارة تقول هي أم القرآن، وتارة تقول هي الحمد، وأشباه هذه العبارات التي معناها واحد، ولكن إن كان السر في لغة عوامنا ليس هذا وأن هذا ليس هو الإله في كلام أهل العلم فهذا وجه الإنكار فبينوا لنا. والحمد لله رب العالمين.
الرسالة الثانية عشرة
ص (77 )
بسم الله الرحمن الرحيم(48/46)
هذه كلمات جواب عن الشبهة التي احتج بها من أجاز وقف الجنف والإثم، ونحن نذكر قبل ذلك صورة المسألة ثم نتكلم على الأدلة. وذلك أن السلف اختلفوا في الوقف الذي يراد به وجه الله على غير من يرثه مثل الوقف على الأيتام، وصوام رمضان، أو المساكين، أو أبناء البسبيل. فقال شريح القاضي، وأهل الكوفة لا يصح ذلك الوقف حكاه عنهم الإمام أحمد، وقال جمهور أهل العلم : هذا وقف صحيح واحتجوا بحجج صحيحه صريحة ترد قول أهل الكوفة، فهذه الحجج التي ذكرها أهل العلم يحتجون بها على علماء أهل الكوفة مثل قوله ((صدقة جارية )) ومثل وقف عمر أوقاف أهل المقدرة من الصحابة على جهات البر التي أمر الله بها ورسوله ليس فيها تغيير لحدود الله.(48/47)
وأما مسألتنا فهي إذا أراد الإنسان أن يقسم ماله على هواه، وفر من قسمة الله وتمرد عن دين الله. مثل : أن يريد أن امرأته لا ترث من هذا النخل، ولا تأكل منه إلا حياة عينها، أو يريد أن يزيد بعض أولاده على بعض فراراً من وصية الله بالعدل، أو يريد أن يحرم نسل البنات، أو يريد أن يحرم على ورثته بيع هذا العقار لئلا يفتقروا بعده، ويفتي له بعض المفتين أن هذه البدعة الملعونة صدقة بر تقرب إلى الله، ويوقف على هذا الوجه قاصداً وجه الله فهذه مسألتنا فتأمل هذا بشراشر قلبك، ثم تأمل ما نذكره من الأدلة فنقول : من أعظم المنكرات وأكبر الكبائر تغيير شرع الله ودينه والتحيل على ذلك بالتقرب إليه وذلك مثل أوقافنا هذه إذا أراد أن يحرم من أعطاه الله من امرأة أو امرأة ابن أو نسل بنات أو غير ذلك، أو يعطى من حرمه الله، أو يزيد أحداً عما فرض الله، أو ينقصه من ذلك، ويريد التقرب إلى الله بذلك مع كونه مبعداً عن الله فالأدلة على بطلان هذا الوقف، وعوده طائعاً، وقسمه على قسم الله ورسوله أكثر من أن تحصر، ولكن من أوضحها دليل واحد وهو أن يقال لمدعى الصحة. إذا كانت تدعى أن هذا مما يحبه الله ورسوله، وفعله أفضل من تركه، وهو داخل فيما حض عليه النبي صلى الله عليه وسلم من الصدقة الجارية وغير ذلك، فمعلوم أن الإنسان مجبول على حبه لولده وإيثاره على غيره حتى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى ( إنما أموالكم وأولادكم فتنة ) فإذا شرع الله لهم أن يوقفوا أموالهم على أولادهم، ويزيدوا من شاءوا، أو يحرموا النساء والعصبة ونسل البنات فلأي شيء لم يفعله التابعون، ولأي شيء لم يفعله الأئمة الأربعة وغيرهم ؟ أتراهم راغبوا عن الأعمال الصالحة ولم يحبوا أولادهم، وآثروا البعيد عليهم، وعلى العمل الصالح، ورغب في ذلك أهل القرن الثاني عشر، أم تراهم خفي عليهم حكم هذه المسألة، ولم يعلموها حتى ظهر هؤلاء فعلموها ؟ سبحان الله ما أعظم شأنه(48/48)
وأعز سلطانه، فإن ادعى أحد أن الصحابة فعلوا هذا الوقف فهذا عين الكذب والبهتان والدليل على أن هذا أن هذا الذي تتبع الكتب، وحرص على الأدلة لم يجد إلا ما ذكره ونحن نتكلم على ما ذكره. فأما حديث أبى هريرة الذي فيه (( صدقة جارية )) فهذا حق وأهل العلم استدلوا به على من أنكر الوقف على اليتيم وابن السبيل والمساجد، ونحن أنكرنا على من غير حدود الله وتقرب بما لم يشرعه ولو فهم الصحابة وأهل العلم هذا الوقف من هذا الحديث لبادروا إليه، وأما حديث عمر أنه تصدق بالأرض على الفقراء والرقاب والضيف وذوي القربى وأبناء السبيل فهذا بعينه من أبين الأدلة على مسألتنا، وذلك أن من احتج على الوقف على الأولاد ليس له حجة إلا هذا الحديث لأن عمر قال : لا جناح على من وليه أن يأكل بالمعروف، وإن حفصة وليته، ثم وليه عبد الله بن عمرو فاحتجوا بأكل حفصة وأخيها دون بقية الورثة، وهذه الحجة من أبطل الحجج، وقد بينه الشيخ الموفق رحمه الله والشارح، وذكروا أن أكل الولي ليس زيادة على غيره وإنما ذلك أجرة عمله كما كان في زماننا هذا يقول صاحب الضحية لوليها الجلد والأكارع ففي هذا دليل من جهتين :
الأولى : أن من وقف من الصحابة مثل عمر وغيره لم يوقفوا على ورثتهم ولو كان خيراً لبادروا إليه، وهذا المصحح لم يصحح بقوله : (( ثم أدناك أدناك )) فإذا كان وقف عمر أولاده أفضل من الفقراء، وأبناء السبيل فما باله لم يوقف عليهم أتظنه اختار المفضول وترك الفاضل أم تظن أنه هو ورسوله الله صلى الله عليه وسلم الذي أمره لم يفهما حكم الله ؟(48/49)
الثانية : أن من احتج على صحة الوقف على الأولاد وتفضيل البعض لم يحتج إلا بقوله تليه حفصة، ثم ذو الرأي، وإنه يأكل بالمعروف، وقد بينا معنى ذلك وأنه لم يبر أحداً، وإنما جعل ذلك للولي عن تعبه في ذلك فإذا كان المستدل لم يجد عن الصحة إلا هذا تبين لك أن قولهم تصدق أبو بكر بداره على ولده وتصدق فلان وفلان، وأن الزبير خص بعض بناته، ليس معناه كما فهموا، وإنما معناه أنهم تصدقوا بما ذكر صدقة عامة على المحتاجين، فكان أولاده إذا قدموا البلد نزلوا تلك الدار لأنهم من أبناء السبيل كما يوقف الإنسان مسقاة ويتوضأ منها وينتفع بها هو وأولاده مع الناس، وكما يوقف مسجداً ويصلى فيه. وعباده البخاري في صحيحه : وتصدق أنس بدار فكان إذا قدم نزلها وتصدق الزبير بدوره، واشترط للمردودة من بناته أن تسكنها. فتأمل عبارة البخاري يتبين لك أن ما ذكر عن الصحابة مثل من وقف نخلا عن المفطرين من الفقراء في هذا المسجد ويقول : إن افتقر أحد من ذريتي فليفطر معهم فأين هذا من وقف الجنف والإثم ؟ على أن هذه العبارة كلام الحميدي والحميدي في زمن القاضي أبي يعلي، وأجمع أهل العلم على أن مراسيل المتأخرين لا يجوز الاحتجاج بها فمن احتج بها فقد خالف الإجماع هذا لو فرضنا أنه يدل على ذلك فكيف وقد بينا معناه ولله الحمد ؟(48/50)
إذا تبين لك أن من أجاز الوقف على الأولاد والتفصيل لم يجد إلا حديث عمر، وقوله ليس على من وليه جناح وأن الموفق وغيره ردوا على من احتج به تبين لك أن حديث عمر من أبين الأدلة على بطلان وقف الجنف والإثم، وأما قوله لم يكن من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ذو مقدرة إلا وقف فهل هذا يدل على صحة وقف الجنف والإثم، وما مثله إلا كمن رأى رجلا يصلي في أوقات النهي فأنكر عليه فقال : ( أرأيت الذي ينهى عبداً إذا صلى )، ويقول إن أصحاب رسول الله عليه وسلم يصلون أو يذكر فضل الصلوات، وكذلك مسألتنا إذا قلنا : ( يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين ) – ( ولهن الربع مما تركتم ) وغير ذلك، أو قلنا إن الله أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث أو قلنا إن النبي صلى الله عليه وسلم غلظ القول فيمن تصدق بماله كله، أو قلنا : (( اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم )) وادعو علينا أنم الصحابة وقفوا أهل أنكرنا الوقف كأهل الكوفة حتى يحتج علينا بذلك ؟(48/51)
وأما قول أحمد من رد الوقف فكأنما رد السنة فهذا حق ومراده وقف الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه كما ذكره أحمد في كلامه. وأما وقف الإثم والجنف فمن رده فقد عمل بالسنة ورد البدعة، واتبع القرآن، وأما قوله إن في صدقة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأكل بالمعروف، وإن زيداً وعمراً سكنا داريهما التى وقفا، فيا سبحان الله من أنكر هذا ؟ وهذا كمن وقف مسجداً وصلى فيه وذريته، أو وقف مسقاة واستسقى منها وذريته، وقول الخرقي والظاهر أنه عن شرط فكذلك وهذا شرط صحيح وعمل صحيح كمن وقف داره على المسجد، أو أبناء السبيل، أو استثنى سكناها مدة حياته، وكل هذا يردون به على أهل الكوفة فإن هذا ليس من وقف الجنف والإثم. وأما قوله : (( ابدأ بنفسك ثم بمن تعول )) وقوله : (( صدقتك على رحمك صدقة وصلة )) وقوله : (( ثم أدناك أدناك )) وأشباه ذلك فكل هذا صحيح لا إشكال فيه لكن لا يدل على تغيير حدود الله. فإذا قال : ( يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين ) ووقف الإنسان على أولاده ثم أخرج نسل الإناث محتجاً بقوله : (ثم أدناك أدناك ) أو صلة الرحم فمثلة كمثل رجل أراد أن يتزوج خالة أو عمة فقيرة فتزوجها يريد الصلة واحتج بتلك الأحاديث، فإن قال إن الله حرم نكاح الخالات والعمات، قلنا وحرم تعدي حدود الله التي حد في سورة النساء قال تعالى : (( ومن يعص الله ورسوله ويتعدّ حدوده يدخله ناراً خالداً فيها )) فإذا قال الوقف ليس من هذا، قلنا : هذا مثل قوله من تزوج خالته إذا تزوجها لفقرها ليس من هذا، فإذا كان عندكم بين المسألتين فرق فبينوه. وأما قول عمر : إن حدث بي حادث فإن ثمغى صدقة هذا يستدلون به على تعليق الوقف بالشرط وبعض العلماء يبطله، فاستدلوا به على صحته، وأما القول بأن عمر وقفه على الورثة فيا سبحان الله كيف يكابرون النصوص، ووقف عمر وشرطه ومصارفه ثمغي وغيرها معروفة مشهورة، وأما قول عمر إلا سهمي الذي بخيبر أردت أن أتصدق به(48/52)
فهذا دليل على أهل الكوفة كما قدمناه، فأين في هذا دليل على صحة هذا الوقف الملعون ؟ الذي بطلانه أظهر من بطلان أصحاب بكثير.
وأما وقف حفصة الحلي على آل الخطاب فيا سبحان الله ؟ هل وقفت على ورثتها أو حرمت أحداً أعطاه الله، أو أعطت أحداً حرمه الله، أو استثنت غلته مدة حياتها، فإذا وقف محمد بن مسعود نخلا على الضعيف من آل مقرن أو مثل ذلك هل أنكرنا هذا، وهذا وقف حفصة فأين هذا مما نحن فيه ؟. وأما قولهم إن عمر وقف على ورثته، فإن كان المراد ولاية الوقف فهو صحيح وليس مما نحن فيه، فإن كان مراد ولاية الوقف صحيح وليس مما نحن فيه، فإن كان مراد القائل إنه ظن أنه وقف يدل على صحة ما نحن فيه، فهذا كذب ظاهر ترده النقول الصحيحة في صفة وقف عمر.(48/53)
وأما كون صفية وقفت على أخ لها يهودي فهو لا يرثها ولا ننكر ذلك، وأما كلام الحميدي فتقدم الكلام عنه. وسر المسألة أنك تفهم أن أهل الكوفة يبطلون الوقف على المساجد، وعلى الفقراء والقرابات الذين لا يرثونهم، فرد عليهم أهل العلم بتلك الأدلة الصحيحة، ومسألتنا هي إبطال هذا الوقف الذي يغير حدود الله، وإيتاء حكم الجاهلية وكل هذا ظاهر لا خفاء فيه، ولكن إذا كان الذي كتبه يفهم معناه وأراد به التلبيس على الجهال كما فعل غيره فالتلبيس يضمحل، وإن كان هذا قدر فهمه وأنه ما فهم هذا الذي تعرفه العوام فالخلف والخليفة على الله، وأما ختمه الكلام بقوله : (( ما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا )) فيا لها من كلمة ما أجمعها و والله إن مسألتنا هذه من إنكارها، وقد أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم يلزم حدود الله والعدل بين الأولاد، ونهانا عن تغيير حدود الله، والتحيل على محارم الله، وإذا قدرنا أن مراد صاحب هذا الوقف وجه الله لأجل من أفتاه بذلك فقد نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البدع في دين الله ولو صحت نية فاعلها فقال : : (( من أحدث قي أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد )) وفي لفظ : ((ومن عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد )) هذا نص الذي قال الله فيه : ((وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا )) وقال ((وإن تطيعوه تهتدوا )) وقال : ((قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله )) فمن قبل ما آتاه الرسول، وانتهى عما نهى وأطاعه ليهتدي، واتبعه ليكون محبوباً عند الله فليوقف كما أوقف رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكما وقف عمر رضي الله عنه، وكما وقفت حفصة وغيرهم من الصحابة وأهل العلم، وأما هذا الوقف المحدث الملعون المغير لحدود الله فهذا الذي قال الله فيه بعد ما حد المواريث والحقوق للأولاد والزوجات وغيرهم : ((تلك حدود الله ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحته الأنهار خالدين فيها وذلك الفوز العظيم.(48/54)
ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله ناراً خالداً فيها وله عذاب مهين )) وقد علمتم ما قال الرسول فيمن أعتق ستة من العبيد، وما رد وأبطل من ذلك فهو شبيه بمن أوقف ماله كله خالصاً لوجه الله على مسجد أو صوام أو غير ذلك، فكيف بما هو أعظم وأطم من هذه الأوقاف ؟
وأما قوله : (( يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم وافعلوا الخير لعلكم تفلحون )) فوالله الذي لا إله إلا هو إن فعل الخير اتباع ما شرع الله، وإبطال من غير حدود الله، والإنكار على من ابتدع في دين الله، هذا هو فعل الخير المعلق به الفلاح خصوصاً مع قوله صلى الله عليه وسلم : (( وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة )) وقوله : (( لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل )) وقوله : (( لعن الله اليهود، حرمت عليهم الشحوم فجملوها فباعوها وأكلوا ثمنها )) فليتأمل اللبيب الخالي عن التعصب والهوى الذي يعرف أن وراءه جنة وناراً الذي يعلم أن الله يطع خفيات الضمير هذه النصوص ويفهمها فهماً جيداً، ثم ينزلها على مسئلة وقف الجنف والإثم فيتبين له الحق إن شاء الله، صلى الله على محمد وآله وسلم. هذا آخر ما ذكره الشيخ رحمة الله في الرد على من أجاز وقف الجنف وبيان الوقف الصحيح الموافق لما أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الرسالة الثالثة عشرة
ص (87 )
وله أيضاً حشره الله في زمرة النبيين والصديقين
بسم الله الرحمن الرحيم
يعلم من يقف عليه أني وقفت على أوراق بخط ولد ابن سحيم صنفها يربد أن يصد بها الناس عن دين الإسلام، وشهادة أن لا إله إلا الله فأردت أن أنبه على ما فيها من الكفر الصريح وسب دين الإسلام، وما فيها من الجهالة التي يعرفها العامة، فأما تناقض كلامه فمن وجوه :(48/55)
الأول : أنه صنف الأوراق يسبنا ويرد علينا في تكفير كل من قال لا إله إلا الله، وهذا عمدة ما يشبه به على الجهال وعقولها، فصار في أوراقه يقول : أما من قال لا إله إلا الله لا يكفر، ومن ؟أم القبلة لا يكفر، فإذا ذكرنا لهم الآيات التي فيها كفره، وكفر أبيه، وكفر الطواغيت يقول نزلت في النصارى نزلت في الفلاني ثم رجع في أوراقه يكذب نفسه ويوافقنا ويقول : من قال إن النبي صلى الله عليه وسلم أملس الكف كفر ومن قال كذا كفر تارة يقول ما يوجد الكفر فينا، وتارة يقرر الكفر أعجب لبانيه يخربه.
الثاني : أنه ذكر في أوراقه أنه لا يجوز الخروج عن كلام العلماء وصادق في ذلك.
ثم ذكر فيها كفر القدرية، والعلماء لا يكفرونه فكفر ناساً لم يكفروا وأنكر علينا تكفير أهل الشرك.
الثالث : أنه ذكر معنى التوحيد أن تصرف جميع العبادات من الأقوال والأفعال لله وحده لا يجعل فيها شيء لا لملك مقرب ولا نبي مرسل، وهذا حق، ثم يرجع يكذب نفسه ويقول : إن دعاء شمسان وأمثاله في الشدائد والنذر لهم ليبرئوا المريض، ويفرجوا عن المكروب الذي لم يصل إليه عبدة الأوثان بل يخلصون في الشدائد لله، ويجعل هذا ليس من الشرك، ويستدل على كفره الباطل بالحديث الذي فيه أن الشيطان يئس أن يعبد في جزيرة العرب.
الرابع : أنه قسم التوحيد إلى نوعين توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية ويقول إن الشيخ بين ذلك، ثم يرجع يرد علينا في تكفير طالب الحمضي وأمثاله الذين يشركون بالله في توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية، ويزعمون أن حسيناً وإدريس ينفعون ويضرون، وهذه الربوبية، ويزعم أنهم ينخون ويندبون وهذا توحيد الألوهية.(48/56)
الخامس : أنه ذكر في (( قل هو الله أحد )) أنها كافية في التوحيد فوحد نفسه الأفعال فلا خالق فلا خالق إلا الله، وفي الألوهية فلا يعبد إلا إياه، وبالأمر والنهي فلا حكم إلا لله، فيقرر هذه الأنواع الثلاثة، ثم يكفر بها كلها ويرد علينا ؛ فإذا كفرنا من قال إن عبد القادر والأولياء ينفعون ويضرون قال : كفرتم أهل الإسلام، وإذا كفرنا من يدعو شمسان وتاجا وحطاباً قال كفرتم أهل الإسلام، والعجب أنه يقول إن من التوحيد توحيد الله بالأمر والنهي فلا حكم إلا لله، ثم يرد علينا إذا عملنا بحكم الله ويقول من عمل بالقرآن كفر والقرآن ما يفسر.
السادس : أنه ينهي عن تفسير القرآن ويقول ما يعرف، ثم يرجع يفسره في تصنيفه، ويقول قل هو الله أحد فيها كفاية، فلما فسرها كفر بها.
السابع : أنه ذكر أن التوحيد له تعلق بالصفات وتعلق بالذات، وقبل ذلك قد كتب إلينا أن التوحيد في ثلاث كلمات أن الله ليس على شيء وليس في ولا من شيء، فتارة يذكر أن التوحيد إثبات الصفات، وتارة ينكر ذلك ويقول التوحيد نفي الصفات.
الثامن : أنه ذكر آيات في الأمر بالتوحيد، وآيات في الأمر بالتوحيد، وآيات في النهي عن الشرك ثم قال المراد بهذا الشرك في هذه الآيات والأحاديث الشرك الجلي كشرك عباد الشمس لا على العموم كما يتوهمه بعض الجهال فصرح بأن مراد الله، ومراد النبي صلى الله عليه وسلم لا يدخل فيه إلا عبادة الأوثان وأن الشرك الأصغر لا يدخل فيه، ويسمى الذين أدخلوه فيه الجهال ثم في آخر الصفح بعينه قال : وقد يطلق الشرك بعبارات أخر وكل ذلك في قوله : (( وما أنا من المشركين )) فرد علينا في أول الصفح وكذب على الله ورسوله في أن معنى ذلك بعض الشرك، ثم رجع يقرر ما أنكره ويقول إن الشرك الأكبر والأصغر داخل في قوله : (( وما أنا من المشركين ))(48/57)
التاسع : أنه ذكر أن الشرك أربعة أنواع : شرك الألوهية، وشرك الربوبية وشرك العبادة، وشرك الملك، وهذا كلام من لا يفهم ما يقول فإن شرك العبادة هو شرك الالهية وشرك الربوبية هو شرك الملك.
العاشر : أنه قال في مسألة الذبح والنذر، ومن قال إن النذر والذبح عبادة فهو منه دليل على الجهل لأن العبادة ما أمر به شرعاً من غير اطراد عرفي ولا اقتضاء عقلي لكن البهيم لا يفهم معنى العبادة فاستدل على النقي بدليل الإثبات.
الحادي عشر : بعد أربعة أسطر كذب نفسه في كلامه هذا فقال من ذبح لمخلوق يقصد به التقرب، أو لرجاء نفع، أو دفع ضر من دون الله فهذا كفر، فتارة يرد علينا إذا قلنا إنه عبادة وتارة يكفر من فعله.
الثاني عشر : أنه قرر أن من ذبح لمخلوق لدفع ضر أنه يكفر، ثم قرر أن الذبح للجن ليس بكفر.
الثالث عشر : أنه رد علينا في الاستدلال بقوله : (( فصل لربك وانحر )) ثم رجع يقرر ما قلنا بكلام البغوي كان ناس يذبحون لغير الله فنزلت فيهم الآية فيا سبحان الله ما من عقول تفهم أنم هذا الرجل من البقر التي لا تميز بين التين والعنب والحمد لله رب العالمين.
الرسالة الرابعة عشرة
ص (93 )
وله رسالة إلى البكبلي صاحب اليمن.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي نزل الحق في الكتاب، وجعله تذكره لأولي الألباب، ووفق من من عليه من عباده للصواب، لعنوان الجواب وصلى الله وسلم وبارك على نبيه ورسوله وخيرته من خلفه محمد وعلى آله وشيعته وجميع الأصحاب، ما طلع نجم وغاب، وانهل وابل من سحاب.
من عبد العزيز بن محمد بن سعود ومحمد بن عبد الوهاب. إلى الأخ في الله أحمد بن محمد العديلي البكبلي سلمه الله من جميع الآفات واستعمله بالباقيات الصالحات، وحفظه من جميع البليات، وضاعف له الحسنات، ومحا عنه السيئات.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أما بعد :(48/58)
لفانا كتابكم وسر الخاطر بما ذكرتم فيه من، سؤالكم وما بلغنا على البعد من أخباركم وسؤالكم عما نحن عليه وما دعونا الناس إليه فأردنا أن نكشف عنكم الشبهة بالتفصيل ونوضح لكم القول الراجح بالدليل، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يسلك بنا ربكم أحسن منهج وسبيل.
أما ما نحن عليه من الدين فعلى دين الإسلام الذي قال الله فيه : (( ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين )) وأما ما دعونا الناس إليه فندعوهم إلى التوحيد الذي قال الله فيه خطاباً لنبيه صلى الله عليه وسلم : (( قل هذه سبيلي أدعو إلى على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين ))وقوله تعالى : (( وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحداً )) وأما ما نهينا الناس عنه فنهيناهم عن الشرك الذي قال الله فيه : (( ومن يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار ))، وقوله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم على سبيل التغليط وإلا فهو منزه هو وإخوانه عن الشرك : (( ولقد أوحي إليك وإلى الذين من فبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين بل الله فاعبد وكن من الشاكرين )) وغير ذلك من الآيات ونقاتلهم عليه كما قال تعالى : (( وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة )) أي شرك (( ويكون الدين كله لله )) وقوله تعالى : فاقتلوا المشركين حيث وجد تموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم )) وقوله صلى الله عليه وسلم : (( أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله عز وجل )) وقولة تعالى (( فاعلم أنه لا إله إ لا الله )) وسماها سبحانه بالعروة الوثقى وكلمة التقوى وسموها الطواغيت كلمة الفجور، من قال لا إله إلا الله عصم دمه وماله ولو هدم أركان الإسلام الخمسة، وكفر(48/59)
بأصول الإيمان الستة.
وحقيقة اعتقادنا أنها تصديق بالقلب، وإقرار باللسان، وعمل بالجوارح وإلا فالمنافقون في الدرك الأسفل من النار أنهم يقولون لا إله إلا الله، بل ويقيمون الصلاة، ويؤتون الزكاة، بل ويصومون، ويحجون، ويجاهدون وهم مع ذلك تحت آل فرعون في الدرك الأسفل من النار، وكذلك ما نصه الله سبحانه عن بلعام وضرب له مثلا بالكلب ما معه من العلم فضلا عن الاسم الأعظم :
وعالم بعلمه لم يعملن معذب من قبل عباد الوثن
وأما ما ذكرتم من حقيقة الاجتهاد فنحن مقلدون الكتاب والسنة وصالح سلف الأمة، وما عليه الاعتماد من أقوال الأئمة الأربعة أبي حنيفة النعمان بن ثابت ومالك بن أنس، ومحمد بن إدريس، وأحمد بن حنبل رحمهم الله تعالى.
وأما ما سألتم عنه من حقيقة الإيمان فهو التصديق وأنه يزيد بالأعمال الصالحة، وينقص بضدها قال الله تعالى : (( ويزداد الذين آمنوا إيماناً )) وقوله (( فأما الدين آمنوا فزادتهم إيماناً وهم يستبشرون )) وقوله تعالى : (( إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً )) وغير ذلك من الآيات. قال الشيباني رحمه الله :
وإيماننا قول وفعل ونية ويزداد بالتقوى وينقص بالردى(48/60)
وقوله صلى الله وعليم وسلم : (( الإيمان بضع وسبعون شعبة أعلاها قول : لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن طريق )) وقوله صلى الله عليه وسلم : ((فإن لم يستطيع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان )) وقوله تعالى : (( ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم )) (( وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت أن لا تشرك بي شيئاً وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود )) فقال الطواغيث الذي قال الله فيهم : (( اتخذوا أخبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله )) : إن فساق مكة حشو الجنة مع أن السيئات تضاعف فيها كما تضاعف الحسنات فانقلبت القضية بالعكس حتى آل الأمر إلى الهتيميات المعروفات بالزنا والمصريات يأتون وفوداً يوم الحج الأكبر كل من الأشراف معروفة بغيته منهن جهاراً وأن أهل اللواط وأهل الشرك والرافضة وجميع الطوائف من أعداء الله ورسوله آمنين فيها، وأن من دعا أبا طالب آمن، ومن وحد الله وعظمه ممنوع من دخولها ولو استجار بالكعبة ما أجارته، وأبو طالب والهتيميات بجيرون من استجار بهم سبحانك هذا بهتان عظيم ( وما كانوا أولياءه إن أولياؤه إلا المتقون ولكن أكثرهم لا يعلمون).
وما جئنا بشيء يخالف النقل ولا ينكره العقل ولكنهم يقولون ما لا يفعلون ونحن نقول ونفعل ( كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون ) نقاتل عباد الأوثان كما قاتلهم صلى الله عليه وسلم ونقاتلهم على ترك الصلاة وعلى منع الزكاة كما قاتل مانعها صديق هذه الأمة أبو بكر الصديق رضي الله عنه ولكن ما هو إلا كما قال ورقة بن نوفل ما أتى أحد بمثل ما أتيت به إلا عودي وأوذي وأخرج وما قل وكفى خير مما كثر وألهي.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الرسالة الخامسة عشرة
ص ( 99 )
وأرسل إليه صاحب اليمن.
بسم الله الرحمن الرحيم
من إسماعيل الجراعي إلى من وقفه الله محمد بن عبد الوهاب.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته..... أم بعد(48/61)
بلغني على ألسن الناس عنك ممن أصدق علمه وما لا أصدق والناس اقتسموا فيكم بين قادح ومادح فالذي سرني عنك الإقامة على الشريعة في آخر هذا الزمان وفي غربة الإسلام أنك تدعو به وتقوم أركانه فوالله الذي لا إله غيره مع ما نحن فيه عند قومنا ما نقدر على ما تقدر عليه من بيان الحق والإعلان بالدعوة.
وأما قول من لا أصدق أنك تكفر بالعموم ولا تبغي الصالحين ولا تعمل بكتب المتأخرين فأنت أخبرني واصدقني بما أنت عليه وما تدعو الناس إليه ليستقر عندنا خبرك ومحبتك.
بسم الله الرحمن الرحيم
من محمد بن عبد الوهاب إلى إسماعيل الجراعي :
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.... أما بعد
فما تسأل عنه فنحمد الله الذي لا إله غيره ولا رب لنا سواه فلنا أسوة وهم الرسل عليهم الصلاة والسلام أجمعين، وأما ما جرى لهم مع قومهم وما جرى لقومهم معهم فهم قدرة وأسوة لمن اتبعهم.
فما تسأل عنه من الاستقامة على الإسلام فالفضل لله وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( بدأ الإسلام غربياً وسيعود غريباً كما بدأ )).
وأما القول إنا نكفر بالعموم فذلك من بهتان الأعداء الذين يصدون به عن هذا الدين ونقول سبحانك هذا بهتان عظيم.
وأما الصالحون فهم على صلاحهم رضي الله عنهم ولكن نقول ليس لهم شيء من الدعوة قال الله : (( وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحداً ))
وأما المتأخرون رحمهم الله فكتبهم عندنا فنعمل بما وافق النص منها وما لا يوافق النص لا نعمل به.(48/62)
فاعلم رحمك الله أن الذي ندين به وندعو الناس إليه إفراد الله بالدعوة وهي دين الرسل قال الله (( وإذا أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله )) فانظر رحمك الله ما أحدث الناس من عبادة غير الله فتجده في الكتب جعلني الله وإياك ممن يدعو إلى الله على بصيرة كما قال الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : (( قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين )) وصلى الله على محمد.
الرسالة السادسة عشرة
ص (103 )
بسم الله الرحمن الرحيم(48/63)
الحمد لله والصلاة والسلام التام على سيدنا محمد الأنام وعل آله وأصحابه البررة الكرام إلى عبد الله بن عبد الله الصنعاني وفقه الله وهداه وجنبه الإشراك والبدعة وحماه. وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته أما بعد. فوصل الخط وتضمن السؤال فيه عما نحن عليه من الدين ( فنقول ) وبالله التوفيق الذي ندين به عبادة الله وحده لا شريك له، والكفر بعبادة غيره ومتابعة الرسول النبي الأمي حبيب الله وصفيه من خلقه محمد صلى الله عليه وسلم فأما عبادة الله فقال : (( وما خلقت الجن والأنس إلا ليعبدون )) وقال تعالى: (( ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت ))، فمن أنواع العبادة الدعاء وهو الطلب بياء النداء لأنه ينادي به القريب والبعيد، وقد يستعمل في الاستغاثة أو بأحد أخواتها من حروف النداء، فإن العبادة اسم جنس، فأمر تعالى عباده أن يدعوه ولا يدعوا معه غيره فقال تعالى : (( وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين )) وقال في النهي : (( وإن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحداً )) وأحداً كلمة تصدق على كل ما دعي مع الله تعالى، وقد روى الترمذي عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال الدعاء مخ العبادة، وعن النعمان بن بشير قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( الدعاء هو العبادة )) ثم قرأ : (( وقال ربكم ادعوني أستجب لكم )) رواه أحمد وأبو داود والترمذي قال العلقمي في شرح الجامع الصغير حديث الدعاء مخ العبادة قال شيخنا : قال في النهاية مخ الشيء خالصه وإنما كان مخها لأمرين :
أحدهما : انه امتثال لأمر الله تعالى حيث قال : (( ادعوني استجب لكم )) فهو مخ العبادة وهو خالصها.(48/64)
الثاني : أنه إذا رأى نجاح الأمور من الله قطع أمله عما سواه ودعاه لحاجته وحده، ولأن الغرض من العبادة هو الثواب عليها وهو المطلوب بالدعاء وقوله : الدعاء هو العبادة قال شيخنا قال الطيبي أتى بالخبر المعرف باللام ليدل على الحصر وأن العبادة ليست غير الدعاء انتهى كلام العلقمي.
إذا تقرر هذا فنحن نعلم بالضرورة أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يشرع لأمته أن يدعوا أحداً من الأموات لا الأنبياء ولا الصالحين ولا غيرهم بل نعلم أنه نهى عن هذه الأمور كلها وأن ذلك من الشرك الأكبر الذي حرمه الله ورسوله قال تعالى : (( ومن أضل ممن يدعوا من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة وهم عن دعائهم غافلون. وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء وكانوا بعبادتهم كافرين )) وقال تعالى : (( فلا تدع مع الله إلهاً آخر فتكون من المعذبين )) وقال (( ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك )) الآيات، وهذا من مغنى لا إله إلا الله فإن ( لا ) هذه النافية للجنس فنفى جميع الآلهة و ( إلا ) حرف استثناء يفيد حصر جميع العبادة على الله عز وجل، ( والإله ) اسم صفة لكل معبود بحق أو باطل ثم غلب على المعبود بحق وهو الله تعالى وهو الذي بخلق ويرزق ويدبر الأمور (( والتأله )) التعبد قال الله تعالى : (( وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم )) ثم ذكر الدليل فقال : (( إن في خلق السموات والأرض إلى قوله : (( ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً ) ). الآية.(48/65)
وأما متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم فواجب على أمته متابعته في الاعتقادات والأقوال والأفعال قال الله تعال : (( قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله )) وقال صلى الله عليه وسلم من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد )) رواه البخاري ومسلم (( وفي رواية لمسلم : (( من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد )) فتوزن الأقوال والأفعال بأقواله وأفعاله فما وافق منها قبل وما خالف رد على فاعله كائنا من كان، فإن شهادة أن محمداً رسول الله تتضمن تصديقه فيما أخبر به وطاعته ومتابعته في كل ما أمر به وقد روى البخاري من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى. قيل : ومن يأبى قال : من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى.
فتأمل رحمك الله ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه بعده والتابعون لهم بإحسان إلى يوم الدين وما عليه الأئمة المقتدى بهم من أهل الحديث والفقهاء كأبي حنفية ومالك والشافعي وأحمد بن حنبل رضي الله عنهم أجمعين لكي نتبع آثارها.
وأما مذهبنا فمذهب الإمام أحمد بن حنبل إمام أهل السنة، ولا ننكر على أهل المذاهب الأربعة إذا لم يخالف نص الكتاب والسنة وإجماع الأمة وقول جمهورها.
والمقصود بيان ما نحن عليه من الدين وأنه عبادة الله وحده لا شريك له فيها بخلع جميع الشرك، ومتابعة الرسول فيها نخلع جميع البدع إلا بدعة لها أصل في الشرع كجمع المصحف في كتاب واحد وجمع عمر رضي الله عنه الصحابة على التراويح جماعة وجمع ابن مسعود أصحابه عل القصص كل خميس ونحو ذلك خميس ونحو ذلك فهذا حسن والله أعلم.
الرسالة السابعة عشرة
ص ( 109 )
وله أيضاً قدس الله روحه ونور ضريحه رسالة إلى أهل المغرب هذا نصها :
بسم الله الرحمن الرحيم(48/66)
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله من يطع الله ورسوله فقد رشد ومن يعص الله ورسوله فقد غوى، ولن يضر إلا نفسه ولن يضر الله شيئاً وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً أما بعد. فقد قال الله تعالى : ((قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين )) وقال تعالى: (( قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم )) وقال تعالى : (( وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) وقال تعالى : (( اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً )) فأخبر سبحانه أنه أكمل الدين وأتمه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم وأمرنا بلزوم ما أنزل إلينا من ربنا، وترك البدع والتفرق والاختلاف فقال تعالى: (( اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء ؛ قليلاً ما تذكرن )) وقال تعالى : (( وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون )) والرسول صلى الله عليه وسلم قد أخبر بأن أمته تأخذ مأخذ القرن قبلها شبراً بشبر وذراعاً بذراع وثبت في الصحيحين وغيرهما عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : (( لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه )) قالوا يا رسول الله اليهود والنصارى ؟ قال : فمن ؟ وأخبر في الحديث الآخر أن أمته ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة قالوا : من هي يا رسول الله ؟
قال : من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي.(48/67)
إذا عرف هذا فمعلوم ما قد عمت به البلوى من حوادث الأمور التي أعظمها الإشراك بالله والتوجه إلى الموتى وسؤالهم النصر على الأعداء وقضاء الحاجات وتفريج الكربات التي لا يقدر عليها إلا رب الأرض والسموات وكذلك التقرب إليهم بالنذر وذبح القربان، والاستغاثة بهم في كشف الشدائد وجلب الفوائد إلى غير ذلك من أنواع العبادة التي لا تصلح إلا لله. وصرف شيء من أنواع العبادة لغير الله كصرف جميعها لأنه سبحانه أغنى الشركاء عن الشرك ولا يقبل من العمل إلا ما كان خالصاً كما قال تعالى: " فاعبد الله مخلصاً له الدين ألا لله الدين الخالص والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى إن الله يحكم بينهم فيما هم فيه يختلفون إن الله لا يهدى من هو كاذب كفار فأخبر سبحانه أنه لا يرضى من الدين إلا ما كان خالصاً لوجهه وأخبر أن المشركين يدعون الملائكة والأنبياء والصالحين ليقربوهم إلى الله زلفى ويشفعوا لهم عنده، وأخبر أنه لا يهدي من هو كاذب كفار فكذبهم في هذه الدعوى وكفرهم فقال : (( إن الله لا يهدي من هو كاذب كفار )) وقال تعالى : ((ويعبدون من دون الله مالا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السموات ولا في الأرض سبحانه وتعالى عما يشركون )) فاخبر أن من جعل بينه وبين الله وسائط يسألهم الشفاعة فقد عبدهم وأشرك بهم وذلك أن الشفاعة كلها لله كما قال تعالى : (( قل لله الشفاعة جميعاً )).(48/68)
فلا يشفع عنده أحد إلا كما قال تعالى : (( من ذا الذي يشفع عنده إلا بأذنه )) وقال تعالى : (( يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولا )) وهو سبحانه لا يرض إلا التوحيد كما قال تعالى : (( ولا يشفعون إلا لمن ارتض ) ) وقال تعالى : (( قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض ومالهم فيها من شرك وما له منهم من ظهير ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له )) فالشفاعة حق ولا تطلب في دار الدنيا إلا من الله تعالى كما قال تعالى : (( وأن المساجد لله فلا تدعو مع الله أحداً )) وقال : (( ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك فإن فعلت فإنك إذا من الظالمين )) فإذا كان الرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو سيد الشفعاء، وصاحب المقام المحمود، وآدم فمن دونه تحت لوائه لا يشفع إلا بإذن الله لا يشفع إبتداء بل : (( يأتي فيخر ساجداً فيحمده بمحامد يعلمه إياها ثم يقال ارفع رأسك، وقل يسمع، وسل تعط، واشفع تشفع ثم يحد له حداً فيدخلهم الجنة )) فكيف بغيره من الأنبياء والأولياء ؟
وهذا الذي ذكرناه لا يخالف فيه أحد من علماء المسلمين بل قد أجمع عليه السلف الصالح من الصحابة والتابعين والأئمة الأربعة وغيرهم ممن سلك سبيلهم ودرج على منهجهم.
وأما ما صدر من سؤال الأنبياء والأولياء الشفاعة بعد موتهم وتعظيم قبورهم ببناء القباب عليها والسرج والصلاة عندها واتخاذها أعياداً وجعل السدنة والنذور لها فكل ذلك من حوادث الأمور التي أخبر بوقوعها(48/69)
النبي صلى الله عليه وسلم وحذر منها كما في الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : (( لا تقوم الساعة حتى يلحق حي من أمتي بالمشركين وحتى تعبد فئام من أمتي الأوثان )) وهو صلى الله عليه وسلم حمى جناب التوحيد أعظم حماية وسد كل طريق يوصل إلى الشرك فنهى أن يجصص القبر، وأن يبنى عليه كما ثبت في صحيح مسلم من حديث جابر، وثبت فيه أيضاً أنه بعث علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأمره أن لا يدع فبراً مشرفاً إلا سواه ولا تمثال إلا طمسه ولهذا قال غير واحد من العلماء يجب هدم القبب المبنية على القبور لأنها أسست على معصية الرسول صلى الله عليه وسلم.
فهذا هو الذي أوجب الاختلاف بيننا وبين الناس حتى آل بهم الأمر إلى أن كفرونا وقاتلونا واستحلوا دماءنا وأموالنا حتى نصرنا الله عليهم وظفرنا بهم، وهو الذي ندعو الناس إليه ونقاتلهم عليه بعد ما نقيم عليهم الحجة من كتاب الله وسنة رسوله وإجماع السلف الصالح من الأئمة ممتثلين لقوله سبحانه وتعالى : (( وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله )) فمن لم يجب الدعوة بالحجة والبيان قاتلناه بالسيف والسنان كما قال تعالى : (( لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلهم الله من ينصره ورسله بالغيب إن الله قوي عزيز ))، وندعو الناس إلى إقام الصلاة في الجماعات على الوجه المشروع وإيتاء الزكاة وصيام شهر رمضان وحج بيت الله الحرام ونأمر بالمعروف وننهى عن المنكر كما قال تعالى : (( الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور )).
فهذا هو الذي نعتقد وندين الله به فمن عمل بذلك فهو أخونا المسلم له ما لنا وعليه ما علينا.(48/70)
ونعتقد أيضاً أن أمة محمد صلى الله عليه وسلم المتبعين لسنته لا تجتمع على ضلالة وأنه لا تزال طائفة من أمته على الحق منصورة لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك، وصلى الله على محمد.
القسم الثاني
بيان أنواع التوحيد
ص ( 117 )
الرسالة الثامنة عشرة
ص ( 119 )
بسم الله الرحمن الرحيم
وسئل الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى.
قال السائل : ما يقول الشيخ شرح الله صدره، ويسر له أمره، في مسائل أشكلت علي فيما يجب علينا من معرفة الله، إذا كان موجب الإلهية الربوبية وأراك قليل التعريج عليها عند تقرير الإلهية ؟ ويشكل علي أيضاً كون مشركي العرب أقروا به، هل يكون من غير معرفة لوضوحه أم توغلوا في التقليد ولم يلتفتوا للحقيقة الموجبة للعبادة، أم زعمهم إن هذا شيء يرضاه الرب أم كيف الحال ؟ أيضاً كلمة التوحيد كونها محتوية على جميع الدين من إنزال الكتب وإرسال الرسل، وأنها نافية جميع المقصودات المسمات بالآلهة الباطلة إذ حدها القصد فتسمى بذلك من غير استحقاق لأنها مخلوقة مربوبة مقهورة، والواحد في القصد هو الواحد في الخلق وإن تكلم الناس في معناها وعملها، وأن ألفاظها مجردة من غير معرفة لا يفيد شيئاً، لكن نظرت في حديث الشفاعة الكبرى عند قوله سبحانه : (( عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً )) وإخراجه العصاة من أمته بإذن ربه حتى قال : (( إنذن لي فيمن قال : لا إله إلا الله )) هذا مشكل علي جداً وقاصر فهمي عن معرفته إذا كان كلمة التوحيد هي الغاية وتقييدها بالمعرفة مع العمل، وإخراجه صلى الله عليه وسلم من كان في قلبه أدنى مثقال حبة خردل من إيمان فأنت جزاك الله خيراً بين لي معنى هذا الكلام لا أضل ولا أضل، وأخبرك أني غافل الفهم في الربوبية ما فهمي بجيد في الإلهية فحين بان لي شيء من معرفتها واتضح لي بعض المعرفة في الإلهية بضرب المثل : أن فيصل ما استعبد لعريعر إلا لأجل كبر ملك عريعر مع أنه(48/71)
قبيل له، وأظن غالب الناس كذلك وفيهم من لا يرى الربوبية ولا يعتبرها أو يتهاون بها وهذا تسمعه من بعضهم فجزاك الله خيراً صرح بالجواب فأجاب.
بسم الله الرحمن الرحيم
إلى الأخ حسن، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته ( وبعد ) سرني ما ذكرت من الإشكال وانصرافك إلى الفكرة في توحيد الربوبية، ولا يخفاك أن التفصيل يحتاج إلى أطوال، ولكن ما لا يدرك كله لا يترك كله؛ فأما توحيد الربوبية فهو الأصل ولا يغلط في الإلهية إلا من لم يعطه حقه، كما قال تعالى، فيمن أقر بمسئلة منه : (( ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله فأنى يؤفكون )) ومما يوضح لك الأمر أن التوكل من نتائجه والتوكل من أعلى مقامات الدين ودرجات المؤمنين وقد تصدر الإنابة والتوكل من عابد الوثن بسبب معرقته بالربوبية، كما قال تعالى : (( وإذا مس الإنسان ضر دعا ربه منيباً إليه )) الآية، وأما عبادته سبحانه بالإخلاص دائماً في الشدة والرخاء فلا يعرفونها وهي نتيجة الإلهية، وكذلك الإيمان بالله واليوم الآخر، والإيمان بالكتب ؛ والرسل وغير ذلك، وأما الصبر والرضا، والتسليم والتوكل، والإنابة، والتفويض والمحبة، والخوف، والرجاء، فمن نتائج توحيد الربوبية، وهذا وأمثاله لا يعرف إلا بالتفكر لا بالمطالعة، وفهم العبارة، وأما الفرق بينهما فإن أفراد أحدهما مثل قوله : (( إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا )) فهو توحيد الإلهية ؛ وكذلك إذا أفرد توحيد الإلهية مثل قوله : (( فاعلم أنه لا إله إلا الله )) وأمثال ذلك ؛ فإن قرن بينهما فسرت كل لفظة بأشهر معانيها كالفقير والمسكين.
وأما ما ذكرت من أهل الجاهلية كيف لم يعرفوا الإلهية إذا أقروا بالربوبية هل هو كذا أو كذا أو غير ذلك فهو لمجموع ما ذكرت وغيره ؟(48/72)
وأعجب من ذلك ما رأيت وسمعت ممن يدعى أنه أعلم الناس، ويفسر القرآن ويشرح الحديث بمجلدات ثم يشرح ( البردة ) ويستحسنها ويذكر في تفسيره وشرحه للحديث أنه شرك، ويموت ما عرف ما خرج من رأسه، هذا هو العجب العجاب، أعجب بكثير من ناس لا كتاب لهم ولا يعرفون جنة ولا ناراً، ولا رسولا ولا إلهاً، وأما كون لا إله إلا الله تجمع الدين كله، وإخراج من قالها من النار إذا كان في قلبه أدنى مثقال ذرة، فلا إشكال في ذلك : وسر المسألة أن الإيمان يتجزأ، ولا يلزم إذا ذهب بعضه أن يذهب كله، بل هذا مذهب الخوارج، فالذي يقول الأعمال كلها من ( لا إله إلا الله ) فقوله الحق، والذي يقول يخرج من النار من قالها وفي قلبه من الإيمان مثقال ذرة فقوله الحق، السبب مما ذكرت لك من التجزي، وبسبب الغفلة عن التجزي غلط أبو حنيفة وأصحابه في زعمهم، أن الأعمال ليست من الإيمان والسلام.
الرسالة التاسعة عشرة
ص ( 123 )
بسم الله الرحمن الرحيم
من محمد بن عبد الوهاب إلى من يصل إليه هذا الكتاب من المسلمين، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته خصوصاً محمد بن عبيد وعبد القادر العديلي وابنه وعبد الله بن سحيم وعبد الله بن عضيب وحميدان بن تركي وعلي بن زامل ومحمد أبا الخيل وصالح بن عبد الله، أما بعد.(48/73)
فإن الله تبارك وتعالى أرسل محمداً صلى الله عليه وسلم إلينا على حين فترة من الرسل فهدى الله به إلى الدين الكامل والشرع التام وأعظم ذلك وأكبره، وزبدته هو إخلاص الدين لله بعبادته وحده لا شريك له والنهي عن الشرك وهو أن لا يدعى أحداً من أحد من دونه من الملائكة والنبين فضلاً عن غيرهم، فمن ذلك أنه لا يسجد إلا لله ولا يركع إلا له ولا يدعى لكشف الضر إلا هو ولا لجلب الخير إلا هو ولا ينذر إلا له ولا يحلف إلا به ولا يذبح إلا له وجميع العبادات لا تصلح له وحده لا شريك له، وهذا معني قول لا إله إلا الله فإن المألوه هو المقصود المعتمد عليه وهذا أمر هين عند من لا يعرفه كبير عظيم عند من عرفه، فمن عرف هذه المسألة عرف أن أكثر الخلق قد لعب بهم الشيطان وزين لهم الشرك بالله وأخرجه في قالب حب الصالحين وتعظيمهم.
والكلام في هذا ينبني على قاعدتين عظيمتين :
( القاعدة الأولى ) : أن تعرف أن الكفار الذين قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرفون الله ويعظمونه ويحجون ويعتمرون ويزعمون أنهم على دين إبراهيم الخليل، وأنهم يشهدون أنه لا يخلق ولا يرزق ولا يدبر الأمر إلا الله وحده لا شريك له كما قال تعالى : " قل من يرزقكم من السماء والأرض الآية فإذا عرفت أن الكفار يشهدون بهذا كله فاعرف :(48/74)
( القاعدة الثانية ) : وهي أنهم يدعون الصالحين مثل الملائكة وعيسى وعزيز وغيرهم وكل من ينتسب إلى شيء من هؤلاء سماه إلهاً ولا يعنى بذلك أن يخلق أو يرزق بل يدعون الملائكة وعيسى ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله، ويقولون ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى والإله في لغتهم هو الذي يسمى في لغتنا الذي فيه سر والذين يسمونه الفقراء شيخهم يعنون بذلك أنه يدعى وينفع ويضر إلا أنهم مقرون لله بالتفرد بالخلق والرزق وليس ذلك معنى الإله به الإله المقصود المدعو المرجو لكن المشركون في زماننا أضل من الكفار في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم من وجهين :
أحدهما : أن الكفار إنما يدعون الأنبياء والملائكة في الرخاء، وأما في الشدائد فيخلصون لله الدين كما قال تعالى : (( وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه))الآية.(48/75)
والثاني أن مشركي زماننا يدعون أناساً لا يوازنون عيسى والملائكة. إذ عرفتم هذا فلا يخفى عليكم ما ملأ الأرض من الشرك الأكبر عبادة الأصنام هذا يأتى إلى قبر نبي، وهذا إلى قبر صحابي كالزبير وطلحة، وهذا إلى قبر رجل صالح، وهذا يدعوه في الضراء وفي غيبته، وهذا ينذر له وهذا يذبح للجن، وهذا يدخل عليه من مضرة الدنيا والآخرة، وهذا يسأله خير الدنيا والآخرة فإن كنتم تعرفون أن هذا من الشرك كعبادة الأصنام الذي يخرج الرجل من الإسلام، وقد ملأ البر والبحر وشاع وذاع حتى إن كثيراً ممن يفعله يقوم الليل ويصوم النهار وينتسب إلى الصلاح والعبادة فما بالكم لم تفشوه في الناس وتبينوا لهم أن هذا كفر بالله مخرج عن الإسلام أرأيتم لو أن بعض الناس أو أهل بلدة تزوجوا أخواتهم أو عماتهم جهلا منهم أفيحل لمن يؤمن بالله واليوم الآخر أن يتركهم لا يعلمهم أن الله حرم الأخوات والعمات، فإن كنتم تعتذرون أن نكاحهم أعظم مما يفعله الناس اليوم عند قبور الأولياء والصحابة، وفي غيبتهم عنها فاعلموا أنكم لم تعرفوا دين الإسلام ولا شهادة أن لا إله إلا الله ودليل هذا مما تقدم من الآيات التي بينها الله في كتابه، وإن عرفتم ذلك فكيف يحل لكم كتمان ذلك والإعراض عنه، وقد أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه فإن كان الاستدلال بالقرآن عندكم هزؤاً وجهلا كما هي عادتكم ولا تقبلونه فانظروا في ( الإقناع ) في باب حكم المرتد، وما ذكر فيه من الأمور الهائلة التي ذكر أن الإنسان إذا فعلها فقد ارتد وحل دمه مثل الاعتقاد في الأنبياء والصالحين، وجعلهم وسائط بينه وبين الله، ومثل الطيران في الهواء، والمشي في الماء فإذا كان من فعل هذه الأمور منكم مثل السائح الأعرج ونحوه تعتقدون صلاحه وولايته، وقد صرح في ( الإقناع ) بكفره، فاعلموا أنكم لم تعرفوا معنى شهادة أن لا إله إلا الله، فإن بان لكم في كلامي هذا شيء من الغلو من أن هذه الأفاعيل لو(48/76)
كانت حراماً فلا تخرج من الإسلام وإن فعل أهل زماننا في الشدائد في البر والبحر وعند قبور الأنبياء والصالحين ليست من هذه بينوا لنا الصواب وأرشدونا إليه ؛ وإن تبين لكم أن هذا هو الحق الذي لا ريب فيه وأن الواجب إشاعته في الناس وتعليمه النساء والرجتا فرحم الله من أدى الواجب عليه وتاب إلى الله وأقر على نفسه فإن التائب منم الذنب كمن لا ذنب له وعسى الله أن يهدينا وإياكم وإخواننا لما يحب ويرضى والسلام.
الرسالة العشرون
( ص 129 )
ومنها رسالة أرسلها إلى عبد الله بن سحيم مطوع المجمعة قال فيها :
بسم الله الرحمن الرحيم
من محمد بن عبد الوهاب إلى عبد الله بن سحيم حفظه الله تعالى، سلام عليكم ورحمه الله وبركاته، أما بعد، فقد وصل كتابك تطلب شيئاً من معنى كتاب المويس الذي أرسل لأهل الوشم وأنا أجيبك عن الكتاب جملة فإن كان الصواب فيه فنبهني وأرجع إلى الحق، وإن كان الأمر كما ذكرت لك من غير مجازفة بل أنا مقتصر فالواجب على المؤمن أن يدور مع الحق حيث دار وذلك أن كتابة مشتمل على الكلام في ثلاثة أنواع من العلوم :
الأول : علم الأسماء والصفات الذي يسمى علم أصول الدين ويسمى أيضاً العقائد.
والثاني : الكلام على التوحيد والشرك.
والثالث : الاقتداء بأهل العلم واتباع الأدلة، وترك ذلك.
أما الأول : فإنه أنكر على أهل الوشم إنكارهم على من قال ليس بجوهر ولا جسم ولا عرض، وهذا الإنكار جمع فيه بين اثنتين :
إحداهما : أنه لم يفهم كلام ابن عيدان وصاحبه.
الثانية : أنه لم يفهم صورة المسألة ؛ وذلك أن مذهب الإمام أحمد وغيره من السلف أنهم لا يتكلمون في هذا النوع إلا بما يتكلم الله به ورسوله فما أثبته الله لنفسه أو أثبته رسوله أثبتوه مثل الفوقية والاستواء والكلام والمجيء وغير ذلك وما نفاه الله عن نفسه ونفاه عنه رسوله نفوه مثل المثل والند والسمي وغير ذلك.(48/77)
وأما ما لا يوجد عن الله ورسوله إثباته ونفيه مثل الجوهر والجسم والعرض والجهة وغير ذلك لا يثبتونه ولا ينفونه فمن نفاه مثل صاحب الخطبة التي أنكرها ابن عيدان وصاحبه فهو عند أحمد والسلف مبتدع، ومن أثبته مثل هشام ابن الحكم وغيرهم فهو عندهم مبتدع، والواجب عندهم السكوت عن هذا النوع اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، هذا معنى كلام الإمام أحمد الذي في رسالة المويس أنه قال : لا أرى الكلام إلا ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم فمن العجب استدلاله بكلام الإمام أحمد على ضده، ومثاله في ذلك كمثل حنفي يقول الماء الكثير ولو بلغ قلتين ينجس بمجرد الملاقاة من غير تغير فإذا سئل عن الدليل قال قوله صلى الله عليه وسلم : (( الماء طهور لا ينجسه شيء)) فيستدل بدليل خصمه فهل يقول هذا من يفهم ما يقول ؟
وأنا أذكر لك كلام الحنابلة في هذه المسألة قال الشيخ تقي الدين بعد كلام له على من قال إنه ليس بجوهر ولا عرض ككلام صاحب الخطبة قال رحمه الله : فهذه الألفاظ لا يطلق إثباتها ولا نفيها كلفظ الجوهر والجسم والتحيز والجهة ونحو ذلك من الألفاظ ولهذا لما سئل ابن سريج عن التوحيد فذكر توحيد المسلمين قال : وأما توحيد أهل الباطل فهو الخوض في الجواهر والأعراض وإنما بعث النبي صلى الله عليه وسلم بإنكار ذلك، وكلام السلف والأئمة في ذم الكلام وأهله مبسوط في غير هذا الموضع، والمقصود أن الأئمة كأحمد وغيره لما ذكر لهم أهل البدع الألفاظ المجملة كلفظ الجسم والجوهر والحيز لم يوافقوهم لا على إطلاق الإثبات ولا على إطلاق النفي انتهى كلام الشيخ تقي الدين.(48/78)
إذا تدبرت هذا عرفت أن إنكار ابن عيدان وصاحبه على الخطيب الكلام في هذا عين الصواب، وقد اتبعا في ذلك إمامها أحمد بن حنبل وغيره في إنكارهم ذلك على المبتدعة ففهم صاحبكم أنهما يريدان إثبات ضد ذلك وأن الله جسم وكذا ولا كذا، تعالى الله عن ذلك، وظن أيضاً أن عقيدة أهل السنة هي نفي أنه لا جسم ولا جوهر ولا كذا، وقد تبين لكم الصواب أن عقيدة أهل السنة هي السكوت من أثبت بدعوه ومن نفى بدعوه، فالذي يقول ليس بجسم ولا.. ولا.. هم الجهمية والمعتزلة، والذين يثبتون ذلك هو هشام وأصحابه. والسلف بريئون من الجميع من أثبت بدعوه ومن نفى بدعوه فالمويس لم يفهم كلام الأحياء ولا كلام الأموات وجعل النفي الذي هو مذهب الجهمية والمعتزلة مذهب السلف، وظن أن من أنكر النفي أنه يريد الإثبات كهشام وأتباعه، ولكن أعجب من ذلك استدلاله على ما فهم بكلام أحمد المتقدم ومن كلام أبو الوفا ابن عقيل قال أنا أقطع أن أبا بكر وعمر ماتا عرفا الجوهر والعرض فإن رأيت أن طريقة أبي علي الجبائي وأبي هاشم خير لك من طريقة أبي بكر وعمر فبئس ما رأيت انتهى، وصاحبكم يدعي أن الرجل لا يكون من أهل السنة حتى يتبع أبا علي وأبا هاشم بنفي الجوهر والعرض، فإن أنكر الكلام فيهما مثل أبي بكر وعمر فهو عنده على مذهب هشام الرافضي.(48/79)
فظهر بما قررناه أن الخطيب الذي يتكلم بنفي العرض والجوهر أخذه من مذهب الجهمية والمعتزلة، وأن ابن عيدان وصاحب أنكرا ذلك مثل ما أنكره أحمد والعلماء كلهم على أهل البدع، وقوله في الكتاب ومذهب أهل السنة إثبات من غير تعطيل ولا تجسيم ولا كيف ولا أين إلى آخره وهذا من أبين الأدلة على أنه لم يفهم عقيدة الحنابلة ولم يميز بينها وبين عقيدة المبتدعة وذلك أن إنكار الأين من عقائد أهل الباطل وأهل السنة يثبتونه اتباعاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح أنه قال للجارية أين الله ؟ فزعم هذا الرجل أن إثباتها مذهب المبتدعة وأن إنكارها مذهب أهل السنة كما قيل وعكسه بعكسه / وأما الجسم فتقدم الكلام أن أهل الحق لا يثبتونه ولا ينفونه فغلظ عليهم في إثباته، وأما التعطيل والكيف فصدق في ذلك فجمع لكم أربعة ألفاظ نصفها حق من عقيدة الحق ونصفها باطل من عقيدة الباطل وساقها مساقاً واحداً وزعم أنه مذهب أهل السنة فجهل وتناقض. وقوله أيضاً ويثبتون ما أثبته الرسول صلى الله عليه وسلم من السمع والبصر والحياة والقدرة والإرادة والعلم والكلام إلى آخره، وهذا أيضاً من أعجب جهله وذلك أن هذا مذهب طائفه من المبتدعة يثبتون الصفات السبع وينفون ما عداها ولو كان في كتاب الله ويؤولونه. وأما أهل السنة فكل ما جاء عن الله ورسوله أثبتوه وذلك صفات كثيرة لكن أظنه نقل هذا من كلام المبتدعة وهو لا يميز بين كلام أهل الحق من كلام أهل الباطل إذا تقرر هذا فقد ثبت خطؤه من وجوه :
الأول : أنه لم يفهم الرسالة التي بعثت إليه.
الثاني : أنه بهت أهلها بإثبات الجسم وغيره.
الثالث : أنه نسبهم إلى الرافضة، ومعلوم أن الرافضة من أبعد الناس عن هذا المذهب وأهله.
الرابع : أنه نسب من أنكر هذه الألفاظ إلى الرفض والتجسيم، وقد تبين أن الإمام أحمد وجميع السلف ينكرونه فلازم كلامه أن مذهب الإمام أحمد وجميع السلف مجسمة على مذهب الرفض.(48/80)
الخامس : أنه نسب كلامهما إلى الفرية الجسمية فجعل عقيدة إمامه وأهل السنة فرية جسمية.
السادس : أنه زعم أن البدع اشتعلت في عصر الإمام أحمد ثم ماتت حتى أحياها أهل الوشم فمفهوم كلامه بل صريحه أن عصر الإمام أحمد وأمثاله عصر البدع والضلال وعصر ابن إسماعيل عصر السنة والحق.
السابع : أنه نسبها إلى التعطيل، والتعطيل إنما هو جحد الصفات.
الثامن : بهتهما أنهما نسبا من قبلهما من العلماء إلى التعطيل لكونهما أنكرا على خطيب المبتدعة وهذا من البهتان الظاهر.
التاسع : أنه نسبهما إلى وراثة هشام الرافضي.
العاشر : أن المسلم أخو المسلم فإذا أخطأ أخوه نصحه سراً وبين له الصواب فإذا عاند أمكنه المجاهرة بالعداوة وهذا لما راسلاه صنف عليهما ما علمت وأرسله إلى البلدان اعرفوني.. اعرفوني تراى جاي من الشام.(48/81)
وأما التناقص وكون كلامه يكذب بعضه بعضاً فمن وجوه : منها نسبهما تارة إلى التجسيم وتارة إلى التعطيل، ومعلوم أن التعطيل ضد التجسيم، وأهل هذا أعداء لأهل هذا والحق وسط بينهما، ومنها أن نسبهما إلى الجهمية وإلى المجسمة والجهمية والمجسمة بينهما من التناقض والتباعد كما بين السواد والبياض وأهل السنة وسط بينهما، ومنها : أنه يقول مذهب أهل الحق إثبات الصفات ثم يقول ولا أين ولا ولا وهذا تناقض، ومنها أنه يقول ما أثبته الله ورسوله أثبت ثم يخص ذلك بالصفات السبع فهذا عين التناقض. فعقيدته التي نسب لأهل السنة جمعها من نحو أربع فرق من المبتدعة يناقض بعضهم بعضاً ويسب بعضهم بعضا ولو فهمت حقيقة هذه العقيدة لجعلتها ضحكة، ومنها : أنه يذكر عن أحمد أن الكلام في هذه الأشياء مذموم إلا ما نقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وتابعيهم ثم ينقل لكم إثبات كلام المبتدعة ونفيهم ويتكلم بهذه العقيدة المعكوسة ويزعم أنها عقيدة أهل الحق. هذا ما تيسر كتابته عجلا على السراج والمأمول فيك أنك تنظر فيها بعين البصيرة، وتتأمل هذا الأمر، واعرض هذا عليه واطلب منه الجواب عن كل كلمة من هذا فإن أجابك بشيء فاكتبه وإن عرفته باطلا وإلا فراجعني فيه أبينه لك ولا تستحقر هذا الأمر فإن حرصت عليه جداً عرفك عقيدة الإمام أحمد وأهل السنة وعقيدة المبتدعة وصارت هذه الواقعة أنفع لك من القراءة في علم العقائد شهرين أو ثلاثة بسبب الخطأ والاختلاف مما يوضح الحق ويبين لخبائه.
وأما النوع الثاني : فهو كلام في الشرك والتوحيد وهو المصيبة العظمى والداهية الصما والكلام على هذا النوع والرد على هذا الجاهل يحتمل مجلداً وكلامه فيه كما قال ابن القيم إذا قرأ المؤمن تارة يبكي وتارة يضحك ولكن أنبهك منه على كلمتين :
الأولى : قوله إنهما نسبا من قبلهما إلى الخروج من الإسلام والشرك الأكبر أفيظن أن قوم موسى لما قالوا اجعل لنا إلهاً خرجوا من الإسلام ؟(48/82)
أفيظن أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قالوا اجعل لنا ذات أنواط فحلف لهم أن هذا مثل قول قوم موسى اجعل لنا إلهاً أنهم خرجوا من الإسلام ؟ أيظن أن النبي صلى الله عليه وسلم لما سمعهم يحلفون بآبائهم فنهاهم وقال : (( من حلف بغير الله فقد أشرك )) أنهم خرجوا من الإسلام ؟ إلى غير ذلك من الأدلة التي لا تحصر فلم يفرق بين الشرك المخرج عن الملة من غيره ولم يفرق بين الجاهل والمعاند.
والكلمة الثانية : قوله إن المشرك لا يقول لا إله إلا الله، فياعجباً من رجل يدعى العلم وجاي من الشام يحمل كتب فلم تكلم ؟ إذ أنه لا يعرف الإسلام من الكفر ولا يعرف الفرق بين أبي بكر الصديق وبين مسيلمة الكذاب، أما علم أن مسيلمة يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويصلي ويصوم، أما علم أن غلاة الرافضة الذين حرقهم علي يقولونها وكذلك الذين يقذفون عائشة ويكذبون القرآن، وكذلك الذين يزعمون أن جبريل غلط وغير هؤلاء ممن أجمع أهل العلم على كفرهم منهم من ينتسب إلى الإسلام، ومنهم من لا ينتسب إليه كاليهود وكلهم يقولون لا إله إلا الله وهذا بين عند من له أقل معرفة بالإسلام من أن يحتاج إلى تبيان. وإذا كان المشركون لا يقولونها فما معنى باب حكم المرتد الذي ذكر الفقهاء من كل مذهب ؟ هل الذين ذكروهم الفقهاء وجعلوهم مرتدين لا يقولونها هذا الذي ذكر أهل العلم أنهم أكفر من اليهود والنصارى، وقال بعضهم من شك في كفر أتباعه فهو كافر وذكرهم في ( الإقناع ) في باب حكم المرتد وإمامهم ابن عربي أيظنهم لا يقولون لا إله إلا الله لكن هو آت من الشام وهم يعبدون ابن عربي جاعلين على قبره صنماً يعبدونه ولست أعني أهل الشام كلهم حاشا وكلا بل لا تزال طائفة على الحق وإن قلت واغتربت لكن العجب العجاب استدلاله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا الناس إلى قول لا إله إلا الله، ولم يطالبهم بمعناها وكذلك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فتحوا(48/83)
بلاد الأعاجم وقنعوا منهم بلفظ إلى آخر كلامه فهل يقول هذا من يتصور ما يقول فنقول أولا هو الذي نقض كلامه وكذبه بقوله دعاهم إلى ترك عبادة الأوثان فإذا كان لم يقنع منهم إلا بترك عبادة الأوثان تبين أن النطق بها لا ينفع إلا بالعمل بمقتضاها وهو ترك الشرك وهذا هو المطلوب ونحن إذا نهينا عن الأوثان المجعولة على قبر الزبير وطلحة وغيرهما في الشام أو في غيره فإن قلتم ليس هذا من الأوثان وإن دعاء أهل القبور والاستغاثة بهم في الشدائد ليست من الشرك مع كون المشركين الذين في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يخلصون لله في الشدائد ولا يدعون أوثانهم فهذا كفر، وبيننا وبينكم كلام العلماء من الأولين والآخرين الحنابلة وغيرهم وإن أقررتم أن ذلك كفر وشرك وتبين أن قول لا إله إلا الله لا ينفع إلا مع ترك الشرك، وهذا هو المطلوب وهو الذي نقول وهو الذي أكثرتم النكير فيه وزعمتم أنه لا يخرج إلا من خراسان وهذا القول كما في أمثال العامة لا وجه سميح ولا بنت رجال، لا أقول صواباً إلا خطأً ظاهراً وسباً لدين الله ولا هو أيضاً قول باطل يصدق بعضه بعضا بل مع كونه خطأً فهو متناقض يكذب بعضه بعضاً لا يصدر إلا ممن هو أجهل الناس وأما دعواه أن الصحابة لم يطلبوا من الأعاجم إلا مجرد هذه الكلمة ولم يعرفوهم بمعناها فهذا قول من لا يفرق بين دين المرسلين ودين المنافقين الذين في الدرك الأسفل من النار فإن المؤمنين يقولونها والمنافقين يقولونها لكن المؤمنين يقولونها مع معرفة قلوبهم بمعناها، وعمل جوارحهم بمقتضاها والمنافقون يقولونها من غير فهم لمعناها ولا عمل بمقتضاها فمن أعظم المصائب وأكبر الجهل من لا يعرف الفرق بين الصحابة والمنافقين لكن هذا لا يعرف النفاق ولا يظنه في أهل زماننا بل يظنه في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وأما زمانه فصلح بعد ذلك وإذا كان زمانه وبلدانه ينزهون عن البدع ومخرجها من خراسان فكيف بالشرك والنفاق ؟(48/84)
ويا ويح هذا القائل ما أجرأه على الله وما أجهله بقدر الصحابة وعلمهم حيث ظن أنهم لا يعلمون الناس لا إله إلا الله. أما علم هذا الجاهل أنهم يستدلون بها على مسائل الفقه فضلا عن مسائل الشرك، ففي الصحيحين أن عمر رضي الله عنه لما أشكل عليه قتال ما نعي الزكاة لأجل قوله صلى الله عليه وسلم (( أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا : لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها )) قال أبو بكر فإن الزكاة من حقها فإذا كان منع الزكاة من منع حق لا إله إلا الله فكيف بعبادة القبور والذبح للجن ودعاء الأولياء وغيرهم مما هو دين المشركين. وصرح الشيخ تقي الدين في ( اقتضاء الصراط المستقيم ) بأن من ذبح للجن فالذبيحة حرام من جهتين :
من جهة أنها مما أهل لغير الله به.
ومن جهة أنها ذبيحة مرتد.
فهي كخنزير مات من غير ذكاة، ويقول ولو سمى الله عند ذبحها إذا كانت نيته ذبحها للجن ورد على من قال إنه إن ذكر اسم الله حل الأكل منها مع التحريم ـ وأما ما سألت عنه من قوله اللهم صلى على محمد إلى آخره فهذه المحامل التي ذكر غير بعيدة ولو كان الإنكار على الرجل الميت الذي صنفها والإنكار إنما هو على الخطباء والعامة الذين يسمعون، فإن كان يزعم أن عامة أهل هذه القرى كل رجل منهم يفهم هذا التأويل فهذا مكابرة، وإن كان يعرف أنهم ما قصدوا إلا المعاني التي لا تصلح إلا لله لم يمنع من الإنكار عليهم وتبين أنه شرك كون الذي قالها أولا قصد معنى صحيحاً كما لو أن رجلا من أهل العلم كتب إلى عامة أن نكاح الأخوات حلال ففهموا منه ظاهرة وجعلوا يتزوجون أخواتهم خاصتهم وعامتهم لم يمنع من الإنكار عليهم وتبين أن الله حرم نكاح الأخوات كون القائل أراد الأخوات في الدين كما قال إبراهيم عليه السلام لسارة هي أختي وهذا واضح بحمد الله ولكن من انفتح له تحريف الكلم عن مواضعه نفتح له باب طويل عريض.(48/85)
وأما النوع الثالث وهو الكلام على التقليد والاستدلال فكلامه فيه من أبطل الباطل وأظهر الكذب وهو أيضاً كلام جاهل ينقض بعضه بعضاً ونحن ما أردنا المعنى الذي ذكر والكلام على هذا طويل ولكن أنا كتبت له كلاماً في هذا مع رسالة طويلة فاطلبه وراجعه وتأمله وتكلم لله في سبيل الله بما يرضي الله ورسوله واحذر من فتنة (( إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون)) فمن نجا منها فقد نجا من شر كثير ولا تغفل عن قوله في خطية ( شرح الإقناع ) من عثر على شيء مما طغى به القلم إلى آخره، وقوله في آخرها اعلم رحمك الله أن الترجيح إذا اختلف بين الأصحاب إلى آخره، وإن طمعت بالزيارة والمذاكرة من الرأس لعلك أيضاً تحقق علم العقائد وتميز بين حقه من باطله، وتعرف أيضاً علوم الإيمان بالله وحده والكفر بالطاغوت فتراى أشير وألزم فإن رأيت أمر الله ورسوله فهو المطلوب وإلا فقد وهبك الله من الفهم ما تميز به بين الحق والباطل إن شاء الله تعالى.
وهذا الكتاب لا تكتمه عن صاحب الكتاب بل اعرضه عليه فإن تاب وأقر ورجع إلى الله فعسى إن زعم أن له حجة ولو في كلمة واحدة أو أن في كلامي مجازفة فاطلب الدليل فإن أشكل شيء عليك فراجعني فيه حتى تعرف كلامي وكلامه، نسأل الله أن يهدينا وإياك والمسلمين إلى ما يحبه ويرضاه، وأنت لا تلمني على هذا الكلام تراني استدعيته أولا بالملاطفة وصبرت منه على أشياء عظيمة، والآن أشرفت منه على أمور ما ظننتها لا في عقله ولا في دينه : منها أنه كاتب إلى أهل الحساء يعاونهم على سب دين الله ورسوله
الرسالة الحادية والعشرون
( ص 143 )
بسم الله الرحمن الرحيم
من محمد بن عبد الوهاب سلام عليكم ورحمة الله وبركاته إلى محمد بن سلطان سلمه الله تعالى بعد.(48/86)
لا يخفاك أنه ذكر لنا عنك كلام حسن ويذكر أيضاً كلام ما هو بزين، وننتظر قدومك إلينا ونبين لك عسى الله أن يهدينا وإياك الصراط المستقيم، وجاءنا عنك أنك تقول أبغيكم تكتبون لي الدليل من قول الله وقول رسوله، وكلام العلماء على كفر الذين ينصبون أنفسهم للنذور والنخي في الشدائد، ويرضون بذلك، وينكرون على من زعم أنه شرك، ويذكرون عنك أنك تقول أبغي أعرضه على العلماء في الخرج وفي الأحساء ولكم على أني ما أقبل منهم الطفايس والكلام الفاسد فإن بينوا حجة صحيحة من الله ورسوله أو عن العلماء تفسد كلامكم وإلا اتبعت أمر الله ورسوله، واعتقدت كفر الطاغوت ومن عبدهم وتبرأت منهم فإن كنت قلت هذا فهو كلام حسن وفقك الله لطاعته ولا يخفاك أني أعرض هذا من سنين على أهل الأحساء وغيرهم وأقول كل إنسان أجادله بمذهبه إن كان شافعياً فبكلام الشافعية، وإن كان مالكياً فبكلام المالكية، أو حنبلياً أو حنفياً فكذلك فإذا أرسلت إليهم ذلك عدلوا عن الجواب لأنهم يعرفون أني على الحق وعم على الباطل وإنما يمنعهم من الانقياد التكبر والعناد على أهل نجد كما قال تعالى : (( الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه )) وأنا أذكر لك الدليل على هذا الأمر وأوصيك بالبحث عنه والحرص عليه وأحذرك عن الهوى والتعصب بل أقصد وجه الله واطلب منه وتضرع إليه أن يهديك للحق وكن على حذر من أهل الأحساء أن يلبسوا عليك بأشياء لا ترد على المسألة أو يشبهوا عليك بكلام باطل كما قال تعالى ((إن منهم لفريقاً يلوون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب وما هو من الكتاب ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون، وأنا أشهد الله وملائكته إن أتاني منهم حق لأقبلنه على الرأس والعين ولكن هيهات أن يقدر أحد أن يدفع حجج الله وبيناته.(48/87)
واعلم أرشدك الله أن الله سبحانه بعث الرسل وأنزل الكتب لمسألة واحدة هي توحيد الله وحده والكفر بالطاغوت كما قال تعالى : (( ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت ))، والطاغوت هو الذي يسمى السيد الذي ينخى وينذر له ويطلب منه تفريج الكربات غير الله تعالى وهذا يتبين بأمرين عظيمين :
الأول : توحيد الربوبية وهو الشهادة بأنه لا يخلق ولا يرزق ولا يحيي ولا يميت ولا يدبر الأمور إلا هو وهذا حق، ولكن أعظم الكفار كفراً الذين قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يشهدون به ولم يدخلهم في الإسلام كما قال تعالى : (( قل من يرزقكم من السماء والأرض أمن يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ومن يدبر الأمر فسيقولون الله فقل أفلا تتقون )) فإذا تدبرت هذا الأمر العظيم وعرفت أن الكفار يقرون بهذا كله لله وحده لا شريك له، وأنهم إنما اعتقدوا في آلهتهم لطلب الشفاعة والتقرب إلى الله كما قال تعالى : (( ويعبدون من دون الله مالا يضرهم ولا ينفهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله" وفي الآية الأخرى : (( والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى )) فإذا تبين لك هذا وعرفته معرفة جيدة بقي للمشركين حجة أخرى وهي أنهم يقولون هذا حق ولكن الكفار يعتقدون في الأصنام فالجواب القاطع أن يقال لهم إن الكفار في زمانه صلى الله عليه وسلم منهم من يعتقد في الأصنام، ومنهم من يعتقد في قبر رجل صالح مثل اللات، ومنهم من يعتقد في الأصنام، ومنهم من يعتقد في الصالحين وهم الذين ذكر الله في قوله عز وجل : (( أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه )) يقول تعالى هؤلاء الذين يدعونهم الكفار ويدعون محبتهم قوم صالحون يفعلون طاعة الله ومع هذا راجون خائفون، فإذا تحققت أن العلي الأعلى تبارك وتعالى ذكر في كتابه أنهم يعتقدون في الصالحين وأنهم لم(48/88)
يريدوا إلا الشفاعة عند الله والتقرب إليه بالاعتقاد في الصالحين وعرفت أن محمداً صلى الله عليه وسلم لم يفرق بين من اعتقد في الأصنام ومن اعتقد في الصالحين بل قاتلهم كلهم وحكم بكفرهم تبين لك حقيقة دين الإسلام وعرفت.
الأمر الثاني : وهو توحيد الآلهية وهو أنه لا يسجد إلا لله ولا يركع إلا له ولا يدعي في الرخاء والشدايد إلا هو، ولا يذبح إلا له، ولا يعبد بجميع العبادات إلا الله وحده لا شريك له وأن من فعل ذلك في نبي من الأنبياء أو ولي من الأولياء فقد أشرك بالله وذلك النبي أو الرجل الصالح بريء ممن أشرك به كتبرء عيسى من النصارى، وموسى من اليهود، وعلى من الرافضة وعبد القادر من الفقراء، وعرفت أن الألوهية هي التي تسمى في زماننا السيد لقوله تعالى : (( وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم قالوا يا موسى اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون )). فتأمل قول نبي إسرائيل مع كونهم إذ ذاك أفضل العالمين لنبيهم اجعل لنا إلهاً يتبين لك معنى الإله، ويزيدك بصيرة قوله تعالى : (( وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه )) فيا سبحان الله إذا كان الله يذكر عن أولئك الكفار أنهم يخلصون لله في الشدائد لا يدعون نبياً ولا ولياً وأنت تعلم ما في زمانك أن أكثر ما بهم الكفر والشرك ودعاء غير الله عند الشدائد فهل بعد هذا البيان بيان، وأما كلام أهل العلم فقد ذكر في (الإقناع ) في باب حكم المرتد إجماع المذاهب كلهم على أن من جعل بينه وبين الله وسائط يدعوهم أنه كافر مرتد حلال المال والدم وذكر فيه أن الرافضي إذا شتم الصحابة فقد توقف الإمام في تكفيره فإن ادعى أن علياً يدعى في الشدائد والرخاء فلا شك في كفره هذا معنى كلامه في الاقناع وهذا علي بن أبي طالب رضي الله عنه لما اعتقد فيه النفع والضر أناس في زمانه حرقهم بالنار مع عبادتهم فكذلك الذين يدعون شمسان وأمثاله وأجناسه لاشك في كفرهم.(48/89)
واعلم أن هذه المسألة مسألة عظيمة جداً وهي التي خلق الله الجن والإنس لأجلها ولكن أكثر الناس لا يعلمون فأنت اعرض هذا الكلام على كل من يدعي العلم وأنا أعيذك بالله وجميع المسلمين من التكبر والعناد الذي يرد صاحبه الحق بعد ما تبين، واعلم أن أكثر القرآن في هذه المسألة وتقريرها وضرب الأمثال لها والله أعلم.
الرسالة الثانية والعشرون
( ص 149 )
بسم الله الرحمن الرحيم
من محمد بن عبد الوهاب إلى من يصل إليه من المسلمين.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته ( وبعد ).
أخبركم أني – ولله الحمد – عقيدتي وديني الذي أدين الله به مذهب أهل السنة والجماعة الذي عليه أئمة المسلمين مثل الأئمة الأربعة وأتباعهم إلى يوم القيامة لكني بينت للناس إخلاص الدين لله ونهيتهم عن دعوة الأنبياء والأموات من الصالحين وغيرهم. وعن إشراكهم فيما يعبد الله به من الذبح والنذر والتوكل والسجود وغير ذلك مما هو حق الله الذي لا يشركه فيه ملك مقرب ولا نبي مرسل، وهو الذي دعت إليه الرسل من أولهم إلى آخرهم، وهو الذي عليه أهل السنة والجماعة. وأنا صاحب منصب في قريتي مسموع الكلمة فأنكر هذا بعض الرؤساء لكونه خالف عادة نشأوا عليها، وأيضاً ألزمت من تحت يدي بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وغير ذلك من فرائض الله، ونهيتهم عن الربا وشرب المسكر وأنواع من المنكرات فلم يمكن الرؤساء القدح في هذا وعيبه لكونه مستحسناً عند العوام فجعلوا قدحهم وعداتهم فيما آمر به من التوحيد وما نهيتهم عنه من الشرك، ولبسوا على العوام أن هذا خلاف ما عليه الناس، وكبرت الفتنة جداً، وأجلبوا علينا بخيل الشيطان ورجله.(48/90)
فنقول : التوحيد نوعان، توحيد الربوبية وهو أن الله سبحانه متفرد بالخلق والتدبير عن الملائكة والأنبياء وغيرهم وهذا حق لابد منه لكن لا يدخل الرجل في الإسلام بل أكثر الناس مقرون به قال الله تعالى : (( قل من يرزقكم من السماء والأرض أمن يملك السمع والأبصار ؛ ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي، ومن يدبر الأمر فسيقولون الله فقل أفلا تتقون )) وأن الذي يدخل الرجل في الإسلام هو توحيد الإلهية وهو ألا يعبد إلا الله لا ملكاً مقرباً ولا نبياً مرسلا وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث والجاهلية يعبدون أشياء مع الله فمنهم من يعبد الأصنام، ومنهم من يدعو عيسى، ومنهم من يدعو الملائكة فنهاهم عن هذا وأخبرهم أن الله أرسله ليوحد ولا يدعي أحد لا الملائكة ولا الأنبياء فمن تبعه ووحد الله فهو الذي يشهد أن لا إله إلا الله ومن عصاه ودعا عيسى والملائكة واستنصرهم والتجأ إليهم فهو الذي جحد لا إله إلا الله مع إقراره أنه لا يخلق ولا يرزق إلا الله وهذه جملة لها بسط طويل ولكن الحاصل أن هذا مجمع عليه بين العلماء.
فلما جرى في هذه الأمة ما أخبر به نبيها صلى الله عليه وسلم حيث قال : (( لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذوة بالقذة حتى لو دخلوا حجر ضب لدخلتموه )) وكان من قبلهم كما ذكر الله عنهم : (( اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله )) وصار ناس من الضالين يدعون أناساً من الصالحين في الشدة والرخاء مثل عبد القادر الجيلاني، وأحمد البدوي، وعدي بن مسافر وأمثالهم من أهل العبادة والصلاح صاح عليهم أهل العلم من جميع الطوائف أعني – على الداعي – وأما الصالحون الذين يكرهون(48/91)
ذلك فحاشاهم، وبين أهل العلم أن هذا هو الشرك الأكبر عبادة الأصنام فإن الله سبحانه إنما أرسل الرسل، وأنزل الكتب ليعبد وحده ولا يدعى معه إله آخر والذين يدعون مع الله آلهة أخرى مثل الشمس والقمر والصالحين والتماثيل المصورة على صورهم لم يكونوا يعتقدون أنها تنزل المطر أو تنبت النبات وإنما كانوا يعبدون الملائكة والصالحين ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله فبعث الله الرسل وأنزل الكتب تنهى عن أن يدعى أحد من دونه لا دعاء عبادة ولا دعاء الاستغاثة.(48/92)
واعلم أن المشركين في زماننا قد زادوا على الكفار في زمن النبي صلى الله عليه وسلم بأنهم يدعون الملائكة والأولياء والصالحين، ويريدون شفاعتهم والتقرب إليهم وإلا فهم مقرون بأن الأمر لله فهم لا يدعونها إلا في الرخاء فإذا جاءت الشدائد أخلصوا لله قال الله تعالى : (( وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه فلما نجاكم إلى البر أعرضتم )) الآية واعلم أن التوحيد : هو إفراد الله سبحانه بالعبادة وهو دين الرسل الذي أرسلهم الله به إلى عباده فأولهم نوح عليه السلام أرسله الله إلى قومه لما غلوا في الصالحين ود وسواع ويغوث ويعوق ونسر وآخر الرسل محمد صلى الله عليه وسلم وهو الذي كسر صور الصالحين أرسله الله إلى أناس يتعبدون ويحجون ويتصدقون ويذكرون الله كثيراً ولكنهم يجعلون بعض المخلوقات وسائط بينهم وبين الله تعالى يقولون نريد منهم التقرب إلى الله تعالى ونريد شفاعتهم عنده مثل الملائكة وعيسى ومريم وأناس غيرهم من الصالحين. فبعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم يجدد لهم دين إبراهيم ويخبرهم أن هذا التقرب والاعتقاد محض حق الله تعالى لا يصلح منه شيء لا لملك مقرب ولا نبي مرسل فضلا عن غيرهما وإلا فهؤلاء المشركون يشهدون أن الله هو الخالق وحده لا شريك له وأنه لا يخلق ولا يرزق إلا هو، ولا يحيي ولا يميت إلا هو، ولا يدبر الأمر إلا هو وأن جميع السموات السبع ومن فيهن والأرضين السبع ومن فيهن كلهم عبيده وتحت تصرفه وقهره، فإذا أدرت الدليل على أن هؤلاء المشركين الذين قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يشهدون بهذا فاقرأ قوله تعالى : (( قل من يرزقكم من السماء والأرض أمن يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ومن يدبر الأمر فسيقولون الله فقل أفلا تتقون )) وقوله تعالى : (( قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون سيقولون لله قل أفلا تذكرون. قل من رب السموات السبع ورب العرش العظيم سيقولون لله قل(48/93)
أفلا تتقون. قل من بيده ملكوت كل شىء وهو يجبر ولا يجار عليه إن كنتم تعلمون، سيقولون لله قل فأنى تسحرون )) وغير ذلك من الآيات الدالات على تحقق أنهم يقولون بهذا كله لم يدخلهم في التوحيد الذي دعاهم إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعرفت أن التوحيد الذي جحدوه هو توحيد العبادة الذي يسميه المشركون في زماننا الاعتقاد كما كانوا يدعون الله سبحانه وتعالى ليلا ونهاراً خوفاً وطمعاً، ثم من يدعو الملائكة لأجل صلاحهم وقربهم من الله عز وجل ليشفعوا لهم ويدعو رجلا صالحاً مثل اللات أو نبيا مثل عيسى وعرفت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاتلهم على ذلك ودعاهم على إخلاص العبادة لله وحده كما قال تعالى : (( وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحداً )) وقال تعالى : (( له دعوة الحق والذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشيء إلا كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه وما هو ببالغه وما دعاء الكافرين إلا في ضلال )) وعرفت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاتلهم ليكون الدين كله لله والذبح كله لله والنذر كله لله ؛ والاستغاثة كلها لله، وجميع أنواع العبادة كلها لله وعرفت أن إقرارهم بتوحيد الربوبية لم يدخلهم في الإسلام وأن قصدهم الملائكة والأنبياء والأولياء يريدون شفاعتهم والتقرب إلى الله تعالى بهم هو الذي أحل دماءهم وأموالهم ؛ عرفت حينئذ التوحيد الذي دعت إليه الرسل وأبى عن الإقرار به المشركون، وهذا التوحيد هو معنى قولك لا إله إلا الله، فإن الإله عندهم هو الذي يقصد لأجل هذه الأمور سواء كان ملكاً أو نبياً أو ولياً هو معنى قولك لا إله إلا الله، فإن الإله عندهم هو الذي يقصد لأجل هذه الأمور سواء كان ملكاً أو نبياً أو ولياً أو شجرة أو قبراً أو جنياً لم يريدوا أن الإله هو الخالق الرازق المدبر فإنهم يقرون أن ذلك لله وحده كما قدمت لك وإنما يعنون بالإله ما يعني المشركون في زماننا بلفظ السيد فأتاهم النبي صلى الله عليه وسلم(48/94)
يدعوهم إلى كلمة التوحيد وهي لا إله إلا الله والمراد من هذه الكلمة معناها لا مجرد لفظها والكفار والجهال يعلمون أن مراد النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الكلمة هو إفراد الله بالتعلق والكفر بما يعبد من دونه، والبراءة منه فإنه لما قال لهم قولوا لا إله إلا الله قالوا أجعل الآلهة إلهاً واحداً إن هذا لشيء عجاب.
فإذا عرفت أن جهال الكفار يعرفون ذلك فالعجب ممن يدعي الإسلام وهو لا يعرف من تفسير هذه الكلمة ما عرفه جهال الكفار، بل يظن أن ذلك هو التلفظ بحروفها من غير اعتقاد القلب بشيء من المعاني والحاذق منهم يظن أن معناها لا يخلق ولا يرزق ولا يحيي ولا يميت ولا يدبر الأمر إلا الله فلا خير في رجل جهال الكفار أعلم منه بمعنى لا إله إلا الله.
فإذا عرفت ما قلت لك معرفة قلب وعرفت الشرك بالله الذي قال الله فيه : (( إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء )) الآية وعرفت دين الله الذي بعث به الرسل من أولهم إلى آخرهم الذي لا يقبل الله من أحد ديناً سواه وعرفت ما أصبح غالب الناس فيه من الجهل بهذا أفادك فائدتين :
الأولى : الفرح بفضل الله وبرحمته قال الله تعالى : (( قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون )) وأفادك أيضاً الخوف العظيم فإنك إذا عرفت أن الإنسان يكفر بكلمة يخرجها من لسانه وقد يقولها وهو جاهل فلا يعذر بالجهل وقد يقولها وهو يظن أنها تقربه إلى الله خصوصاً إن ألهمك الله ما قص عن قوم موسى مع صلاحهم وعلمهم أنهم أتوه قائلين : (( اجعل لنا إلها كما لهم آلهة )) فحينئذ يعظم خوفك وحرصك على ما يخلصك من هذا وأمثاله.(48/95)
واعلم أن الله سبحانه من حكمته لم يبعث نبياً بهذا التوحيد إلا جعل له أعداء كما قال تعالى : (( وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً )) وقد يكون لأعداء التوحيد علوم كثيرة وكتب وحجج كما قال تعالى : (( فلما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم )) فإذا عرفت ذلك عرفت أن الطريق إلى الله لابد له من أعداء قاعدين عليه أهل فصاحة وعلم وحجج كما قال تعالى : (( ولا تقعدوا بكل صراط توعدون وتصدون عن سبيل الله )) الآية فالواجب عليك أن تعلم من دين الله ما يصير لك سلاحاً تقاتل به هؤلاء الشياطين الذين قال إمامهم ومقدمهم لربك عز وجل: (( لأقعدن لهم صراطك المستقيم ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين)). ولكن إذا أقبلت على الله وأصغيت إلى حجج الله وبيناته فلا تخف ولا تحزن إن كيد الشيطان كان ضعيفاً، والعامي من الموحدين يغلب ألفاً من علماء هؤلاء المشركين كما قال تعالى (( إن جندنا لهم الغالبون )) فجند الله هم الغالبون بالحجة واللسان، كما أنهم الغالبون بالسيف والسنان وإنما الخوف على الموحد الذي يسلك الطريق وليس معه سلاح، وقد من الله علينا بكتابة الذي جعله تبياناً لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين، فلا يأتي صاحب باطل بحجة إلا وفي القرآن ما ينقضها ويبين بطلانها كما قال تعالى : (( ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيراً )) قال بعض المفسرين : هذه الآية عامة في كل حجة يأتي بها أهل الباطل إلى يوم القيامة.
والحاصل أن كل ما ذكر عنا من الأشياء غير دعوة الناس إلى التوحيد والنهي عن الشرك فكله من البهتان.(48/96)
ومن أعجب ما جرى من الرؤساء المخالفين أني لما بينت لهم كلام الله وما ذكر أهل التفسير في قوله تعالى : (( أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب )) الآية وقوله : (( ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله )) وقوله : (( ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى )) وما ذكر الله من إقرار الكفار في قوله (( قل من يرزقكم من السماء والأرض أمن يملك السمع والأبصار )) وغير ذلك. قالوا : القرآن لا يجوز العمل به لنا ولأمثالنا ولا بكلام الرسول، ولا بكلام المتقدمين، ولا نطيع إلا ما ذكره المتأخرون قلت لهم أنا أخاصم الحنفي بكلام المتأخرين من الحنفية والمالكي والشافعي والحنبلي كل أخاصمه بكتب المتأخرين من علمائهم الذين يعتمدون عليهم فلما أبو ذلك نقلت كلام العلماء من كل مذهب لأهله وذكرت كل ما قالوا بعد ما صرحت الدعوة عند القبور والنذر لها فعرفوا ذلك وتحققوه فلم يزدهم إلا نفوراً وأما التفكير فأنا أكفر من عرف دين الرسول ثم بعد ما عرفه سبه ونهى الناس عنه، وعادى من فعله فهذا هو الذي أكفر، وأكثر الأمة ولله الحمد ليسوا كذلك، وأما القتال فلم نقاتل أحداً إلى اليوم إلا دون النفس والحرمة وهم الذين أتونا في ديارنا ولا أبقوا ممكنا ولكن قد نقاتل بعضهم على سبيل المقابلة وجزاء سيئة مثلها وكذلك من جاهز بسب دين الرسول بعد ما عرف فإنا نبين لكم أن هذا الحق الذي لا ريب فيه وأن الواجب إشاعته في الناس وتعليمه النساء والرجال.
فرحم الله من أدى الواجب عليه وتاب إلى الله وأقر على نفسه فإن التائب من الذنب كمن لا ذنب له ونسأل الله أن يهدينا وإياكم لما يحبه ويرضاه.
القسم الثالث
بيان معنى لا إله إلا الله
وما يناقضها من الشرك في العبادة
الرسالة الثالثة والعشرون
( ص 161 )
بسم الله الرحمن الرحيم
من محمد بن عبد الوهاب إلي ثنيان بن سعود سلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد :(48/97)
سألتم عن معني قوله تعالي لنبيه صلي الله عليه وسلم : ( فاعلم أنه لا إله إلا الله ) وكونها نزلت بعد الهجرة فهذا مصداق كلامي لكم مراراً عديدة أن الفهم الذي يقع في القلب غير فهم اللسان وذلك أن هذه المسألة من أكثر ما يكون تكرارً عليكم وهي التي بوب لها الباب الثاني في كتاب التوحيد وذلك أن العلم لا يسمي علماً إلا إذا أثمر وإن لم يثمر فهو جهل كما قال تعالي : ( إنما يخشى الله من عباده العلماء ) وكما قال عن يعقوب ( وإنه لذو علم لما علمناه ) والكلام في تقرير هذا ظاهر، والعلم هو الذي يستلزم العمل ومعلوم تفاضل الناس في الأعمال تفاضلا لا ينضبط وكل ذلك بسبب تفاضلهم في العلم فيكفيك في هذا استدلال الصديق على عمر في قصة أبي جندل مع كونها من أشكل المسائل التي وقعت في الأولين والآخرين شهادة أن محمداً رسول الله، وسر المسألة العلم بلا إله إلا الله، ومن هذا قوله تعالى لنبيه صلي الله عليه وسلم ( ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير. ألم تعلم أن الله له ملك السموات والأرض ) فإن العلم بهذه الأصول الكبار يتفاضل فيه الأنبياء فضلا عن غيرهم، ولما نهى نوح بنيه عن الشرك أمرهم بلا إله إلا الله فليس هذا تكراراً ؛ بل هذان أصلان مستقلان كبيران وإن كانا متلازمين فالنهي عن الشرك يستلزم الكفر بالطاغوت، ولا إله إلا الله الإيمان بالله، وهذا وإن كان متلازماً فيوضحه لكم الواقع وهو أن كثيراً من الناس يقول لا أعبد إلا الله وأنا أشهد بكذا وأقر بكذا ويكثر الكلام فإذا قيل له ما تقول في فلان وفلان إذا عبدا أو عبدا من دون الله قال ما علي من الناس الله أعلم بحالهم، ويظن بباطنه أن ذلك لا يجب عليه فمن أحسن الاقتران أن الله قرن بين الإيمان به والكفر بالطاغوت فبدأ بالكفر به على الإيمان بالله وقرن الأنبياء بين الأمر بالتوحيد النهى عن الشرك مع أن في الوصية بلا إله إلا الله ملازمة الذكر بهذه اللفظة والإكثار منها ويتبين عظم قدرها كما(48/98)
بين صلى الله عليه وسلم فضل سورة ( قل هو الله أحد ) على غيرها من السور ذكر أنها تعدل ثلث القرآن مع قصرها، وكذلك حديث موسى عليه السلام فإن في ذكره ما يقتضي كثرة الذكر بهذه الكلمة كما في الحديث ( أفضل الذكر لا إله إلا الله ) والسلام
الرسالة الرابعة والعشرون
ومنها رسالة أرسلها إلى عبد الرحمن بن ربيعة مطوع أهل ثادق وهي هذه :
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم : من محمد بن عبد الوهاب إلى عبد الرحمن بن ربيعة سلمه الله تعالى وبعد.(48/99)
فقد وصل كتابك تسأل عن مسائل كثيرة وتذكرة أن مرادك اتباع الحق، منها مسألة التوحيد، ولا يخفاك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بعث معاذاً إلى اليمن له : ( إن أول ما تدعوهم إليه أن يوحدوا الله فإن هم أجابوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات ) إلى آخره. فإذا كان الرجل لا يدعي إلى الصلوات الخمس إلا بعد ما يعرف التوحيد وينقاد له فكيف بمسائل جزئية اختلف فيها العلماء. فاعلم أن التوحيد الذي دعت إليه الرسل من أولهم إلي آخرهم إفراد الله بالعبادة كلها ليس فيها حق لملك مقرب ولا نبي مرسل فضلا عن غيرهم فمن ذلك لا يدعي إلا إياه كما قال تعالى : ( وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحداً) فمن عبد الله ليلا ونهاراً ثم دعا نبياً أو ولياً عند قبره فقد اتخذ إلهين اثنين ولم يشهد أن لا إله إلا الله لأن الإله هو المدعو كما يفعل المشركون اليوم عند قبر الزبير أو عبد القادر غيرهم وكما يفعل قبل هذا عند قبر زيد وغيره ومن ذبح لله ألف ضحية ثم ذبح لنبي أو غيره فقد جعل إلهين اثنين كما قال تعالى ( قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين ) والنسك هو الذبح وعلى هذا فقس. فمن أخلص العبادات لله ولم يشرك فيها غيره فهو المشرك الجاحد لقول لا إله إلا الله وهذا الشرك الذي أذكره اليوم قد طبق مشارق الأرض ومغاربها إلا الغرباء المذكورين في الحديث وقليل ما هم، وهذه المسألة لا خلاف فيها بين أهل العلم من كل المذاهب. فإذا أردت مصداق هذا فتأمل باب حكم المرتد في كل كتاب وفي كل مذهب وتأمل ما ذكروه في الأمور التي تجعل المسلم مرتداً يحل دمه وماله منها : من جعل بينه وبين الله وسائط يدعوهم كيف حكى الإجماع في ( الإقناع ) على ردته ثم تأمل ما ذكروه في سائر الكتب، فإن عرفت أن في المسألة خلافاً ولو في بعض المذاهب فنبهي، وإن صح عندك الإجماع على تكفير من فعل هذا أو رضيه أو جادل فيه فهذه خطوط المويس وابن اسماعيل وأحمد بن(48/100)
يحيى عندنا في إنكار هذا الدين والبراءة منه وهم الآن مجتهدون في صد الناس عنه فإن استقمت على التوحيد وتبينت فيه ودعوت الناس إليه وجاهرت بعداوة هؤلاء خصوصاً ابن يحيى لأنه من أنجسهم وأعظمهم كفراً وصبرت على الأذى في ذلك فأنت أخونا وحبيبنا وذلك محل المذاكرة في المسائل التي ذكرت، فإن بان الصواب معك وجب علينا الرجوع إليك، وإن لم تستقم على التوحيد علماً وعملا ومجاهدة فليس هذا محل المراجعة في المسائل والله أعلم.
الرسالة الخامسة والعشرون
( ص169)
(رسالة جوابية للشيخ عن كتاب لم نقف عليه ويستغنى عنه بجوابه ).
بسم الله الرحمن الرحيم
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته وبعد :
قال الله سبحانه وتعالى : ( إن الدين عند الله الإسلام ) وقال تعالى : ( ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه ) وقال تعالى : ( اليوم أكملت لكم دينكم وأتمت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً ).
قيل إنها آخر آية نزلت، وفسر نبي الله صلى الله عليه وسلم الإسلام لجبريل عليه السلام وبناه أيضاً على خمسة أركان، وتضمن كل ركن علماً وعملاً فرضاً على كل ذكر وأنثى لقوله : ( لا ينبغي لأحد يقدم على شيء حتى يعلم حكم الله فيه ).
فاعلم أن أهمها وأولاها الشهادتان وما تضمنا من النفي والإثبات من حق الله على عبيده، ومن حق الرسالة على الأمة، فإن بان لك شيء من ذلك ما ارتعت وعرفت ما الناس فيه من الجهل والغفلة والإعراض عما خلقوا له، وعرفت ما هم عليه من دين الجاهلية وما معهم من الدين النبوي ؛ وعرفت أنهم بنوا دينهم على ألفاظ وأفعال أدركوا عليها أسلافهم نشأ عليها الصغير وهرم عليها الكبير، ويؤيد ذلك أن الولد إذا بلغ عشر سنين غسلوا له أهله وعلموه ألفاظ الصلاة وحيي على ذلك ومات عليه.(48/101)
أتظن من كانت هذه حاله هل شم لدين الإسلام الموروث عن الرسول رائحة ؟ فما ظنك به إذا وضع في قبره وأتاه الملكان وسألاه، عما عاش عليه من الدين بماذا يجيب ؟ : ( هاه هاه، لا أدري سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته )، وما ظنك إذا وقف بين يدي الله سبحانه وسأله : ماذا كنتم تعبدون وبماذا أجبتم المرسلين، بماذا يجيب ؟ رزقنا الله وإياك علماً نبوياً وعملاً خالصاً في الدنيا ويوم نلقاه آمين. فانظر يا رجل حالك وحال أهل هذا الزمان أخذوا دينهم عن آبائهم ودانوا بالعرف والعادة، وما جاز عند أهل الزمان والمكان دانوا يه وما لا فلا، فأنت وذاك، وإن كانت نفسك عليك عزيزة ولا ترضى لها بالهلاك فالتفت لما تضمنت أركان الإسلام من العلم والعمل خصوصا الشهادتين من النفي والإثبات، وذلك ثابت من كلام الله وكلام رسوله.
قيل إن أول آية نزلت قوله سبحانه بعد اقرأ : ( يا أيها المدثر، قم فأنذر ) قف عندها ثم قف ثم قف ترى العجب العجيب، ويتبين لك ما أضاع الناس من أصل الأصول، وكذلك قوله تعالى : ( ولقد بعثنا في كل أمة رسولا ) وكذلك قوله تعالى : أفرأيت من اتخذ إلهه هواه )(48/102)
الآية، وكذلك قوله تعالى : ( اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله ) وغير ذلك من النصوص الدالة على حقيقة التوحيد الذي هو مضمون ما ذكرت في رسالتك أن الشيخ محمداً قرر لكم ثلاثة أصول : توحيد الربوبية، وتوحيد الإلهية والولاء والبراء، وهذا هو حقيقة دين الإسلام ولكن قف عند هذه الألفاظ واطلب ما تضمنت من العلم والعمل ولا يمكن في العلم إلا أنك تقف على كل مسمى منهما مثل الطاغوت أكاد سليمان والمويس وعريعر وأبا ذراع والشيطان رءوسهم كذلك قف عند الأرباب منهم أكادهم العلماء والعباد كائناً من كان أفنوك بمخالفة الدين ولو جهلا منهم فأطعتهم، كذلك قوله تعالى : ( ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداد يحبونهم كحب الله ) يفسرها قوله تعالى : ( قل إن كان آباؤكم وإخوانكم ) كذلك قوله تعالى ( أفرأيت من اتخذ إلهه هواه ) وهذه أعم مما قبلها وأضرها وأكثرها وقوعاً، ولكن أظنك وكثير من أهل الزمان ما يعرف من الآلهة المعبودة إلا هبل ويغوث ويعوق ونسرا واللات والعزى ومناة، فإن جاد فهمه عرف أن المقامات المعبودة اليوم من البشر والشجر والحجر ونحوها مثل شمسان وإدريس وأبو حديدة ونحوهم منها. هذا ما أثمر به الجهل والغفلة والأعراض عن تعلم دين الله ورسوله، ومع هذا يقول لكم شيطانكم المويس أن بنيات حرمة وعيالهم يعرفون التوحيد فضلا عن رجالهم، وأيضاً تعلم معنى لا إله إلا الله بدعة استغربت ذلك مني فاحضر عندك جماعة واسألهم عما يسئلون عنه في القبر هل تراهم يعبرون عنه لفظاً وتعبيراً ؟ فكيف إذا طولبوا بالعلم والعلم ؟(48/103)
هذا ما أقول لك فإن بان لك شيء من ذلك ارتعت روعة صدق على ما فاتك من العلم والعمل في دين الإسلام أكبر من روعتك التي ذكرت في رسالتك من تجهيلنا جماعتك، ولكن هذا حق من أعرض عما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من دين الإسلام فكيف بمن له قريب من أربعين سنة يسب دين الله ورسوله ويبغضه ويصد عنه مهما أمكن ؟ فلما عجز عن التمرد في دينه الباطل، وقيل له أجب عن دينك وجادل دونه وانقطعت حجته أقر أن هذا الذي عليه ابن عبد الوهاب أنه هو دين الله ورسوله، قيل له : فالذي عليه أهل حرمة قال : هو دين الله ورسوله، كيف يجتمع هذا وهذا في قلب رجل واحد ؟ فكيف بجماعات عديدة بين الطائعتين من الاختلاف سنين عديدة ما هو معروف ؟ حتى أن كلا منهم شهر السيف دون دينه واستمر الحرب مدة طويلة وكل منهم يدعي صحة دينه ويطعن في دين الآخر نعوذ بالله من سوء الفهم وموت القلوب أهل دينين مختلفين وطائفتان يقتتلون كل منهم على صحة دينه، ومع هذا يتصور أن الكل دين صحيح يدخل من دان به الجنة (سبحانك هذا بهتان عظيم ) فكيف والناقد بصير، فيا رجل ألق سمعك لما فرض الله عليك خصوصا الشهادتين وما تضمنتاه من النفي والإثبات، ولا تغير باللفظ والفطرة وما كان عليه أهل الزمان والمكان فتهلك.
فاعلم أن أهم ما فرض على العباد معرفة أن العباد معرفة أن الله رب كل شيء وملكيه ومدبره بإرادته، فإذا عرفت هذا فانظر ما حق من هذه صفاته عليك بالعبودية بالمحبة والإجلال والتعظيم والخوف والرجاء والتأله المتضمن للذل والخضوع لأمره ونهيه، وذلك قبل فرض الصلاة والزكاة ولذلك يعرف عباده بتقرير ربوبيته ليرتقوا بها إلي معرفة إلهيته التي هي مجموع عبادته على مراده نفياً وإثباتاً علماً وعملاً جملة وتفصيلاً.
( هذا آخر الرسالة والحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم ).
الرسالة السادسة والعشرون
بسم الله الرحمن الرحيم(48/104)
من محمد بن عبد الوهاب إلي من يصل إليه من علماء الإسلام، أنس الله بهم غربة الدين، وأحيى بهم سنة إمام المتقين، ورسول رب العالمين، سلام عليكم معشر الإخوان ورحمة الله وبركاته أما بعد :
فإنه قد جرى عندنا فتنة عظيمة، بسبب أشياء نهيت عنها بعض العوام من العادات التي نشؤوا عليها، وأخذها الصغير عن الكبير، مثل عبادة غير الله وتوابع ذلك من تعظيم المشاهد، وبناء القباب على القبور وعبادتها واتخاذها مساجد، وغير ذلك مما بينه الله ورسوله غاية البيان، وأقام الحجة وقطع العذرة، ولكن الأمر كما قال صلى الله عليه وسلم :
( بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدا ) فلما عظم العوام قطع عاداتهم وساعدهم على إنكار دين الله بعض من يدعي العلم وهو من أبعد الناس عنه- إذ العالم من يخشى الله –فأرضى الناس بسخط الله ؛ وفتح للعوام باب الشرك بالله، وزين لهم وصدهم عن إخلاص الدين لله ؛ وأوهمهم أنه من تنقيص الأنبياء الصالحين، وهذا بعينيه هو الذي جرى على رسول الله صلى الله عليه وسلم لما ذكر أن عيسى عليه السلام عبد مربوب، ليس له من الأمر شيء، قالت النصارى : إنه سب المسيح وأمه، وهكذا قالت الرافضة لمن عرف حقوق أصحاب رسول الله صلي الله عليه وسلم وأحبهم، ولم يغل فيهم، رموه ببغض أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهكذا هؤلاء، لما ذكرت لهم ما ذكره الله ورسوله، وما ذكره أهل العلم من جميع الطوائف، من الأمر بإخلاص الدين لله، والنهي عن مشابهة أهل الكتاب من قبلنا في اتخاذ الأحبار والرهبان أربابآ من دون الله، قالوا لنا تنصم الأنبياء والصالحين والأولياء، والله تعالى ناصر لدينه ولو كره المشركون، وها أنا أذكر مستندي في ذلك، من كلام أهل العلم من جميع الطوائف فرحم الله من تدبرها بعين البصيرة، ثم نصر الله ورسوله وكتابه ودينه، ولم تأخذه في ذلك لومة لائم.(48/105)
فأما كلام الحنابلة فقال الشيخ تقي الدين رحمة الله لما ذكر حديث الخوارج : فإذا كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه ممن قد انتسب إلى الإسلام من مرق منه مع عبادته العظيمة، فيعلم أن المنتسب إلى الإسلام والسنة قد يمرق أيضاً ؛ وذلك بأمور منها : الغلو الذي ذمه الله تعالى كالغلو في بعض المشائخ كالشيخ عدي بل الغلو في علي بن أبي طالب بل الغلو في المسيح ونحوه، فكل من غلا في نبي أو رجل صالح، وجعل فيه نوعاً من الإلهية، مثل أن يدعوه من دون الله بأن يقول : يا سيدي فلان أغثني أو أجرني، أو أنت حسبي، أو أنا في حسبك ؛ فكل هذا شرك وضلال، يستتاب صاحبه فإن تاب وإلا قتل فإن الله أرسل الرسل ليعبده وحده لا يجعل معه إله آخر، والذين يجعلون مع الله آلهة أخرى مثل الملائكة أو المسيح أو العزيز أو الصالحين أو غيرهم، لم يكونوا يعتقدون أنها تخلق وترزق، وإنما كانوا يدعونهم يقولون : ( هؤلاء شفعاؤنا عند الله ) فبعث الله الرسل تنهى أن يدعى أحد من دون الله، لا دعاء عبادة ولا دعاء استغاثة انتهى، وقال في ( الإقناع ) في أول باب حكم المرتد : أن من جعل بينه وبين الله وسائط يدعوهم فهو كافر إجماعاً.(48/106)
وأما كلام الحنفية فقال الشيخ قاسم : في شرح ( درر البحار ) النذر الذي يقع من أكثر العوام بأن يأتي إلى قبر بعض الصلحاء قائلا: يا سيدي إن رد غائبي، أو عوفي مريضي، أو قضيت حاجتي فلك من الذهب أو الطعام الشمع كذا وكذا باطل إجماعاً، بوجوه منها : أن النذر للمخلوق لا يجوز ومنها : أنه ظن الميت يتصرف في الأمر، واعتقاد هذا كفر إلى أن قال : وقد ابتلى الناس بذلك ولا سيما في مولد الشيخ أحمد البدوي، وقال الإمام البزازي في ( فتاويه ) : إذا رأى رفض صوفية زماننا هذا في المساجد مختلطاً بهم جهال العوام الذين لا يعرفون القرآن والحلال والحرام، بل لا يعرفون الإسلام والإيمان، لهم نهيق يشبه نهيق الحمير يقول : هؤلاء لا محالة اتخذوا دينهم لهواً ولعباً، فويل للقضاة والحكام حيث لا يغيرون هذا مع قدرتهم.(48/107)
وأما كلام الشافعية فقال الإمام محدث الشام أبو شامة : وهو في زمن الشارح وابن حمدان في كتاب ( الباعث على إنكار البدع والحوادث ) : لكن نبين من هذا ما وقع فيه جماعة من جهال العوام، النابذين لشريعة الإسلام، وهو ما يفعله الطوائف من المنتسبين إلى الفقر الذي حقيقته الافتقار من الإيمان من الإيمان من مؤاخات النساء الأجانب،، واعتقادهم في مشائخ لهم، وأطال رحمه الله الكلام – إلى أن قال :-وبهذه الطرق وأمثالها كان مبادئ ظهور الكفر من عبادة الأصنام وغيرها، ومن هذا ما قد عم الابتلاء به من تزين الشيطان للعامة تخليق الحيطان والعمد وسرج مواضع مخصوصة في كل بلد يحكى لهم حاك أنه رأى في منامه بها أحداً ممن شهر بالصلاح ثم يعظم وقع تلك الأماكن في قلوبهم، ويرجون الشفاء لمرضاهم وقضاء حوائجهم بالنذر لها وهي ما بين عيون وشجر وحائط، وفي مدينة دمشق صانها الله من ذلك مواضع متعددة، ثم ذكر رحمه الله الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قال له بعض من معه اجعل لنا ذات أنواط قال : ( الله أكبر قلتم والذي نفس محمد بيده كما قال قوم موسى اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة ) انتهى كلامه رحمة الله، وقال : في ( اقتضاء الصراط المستقيم ) إذا كان هذا كلامه صلى الله عليه وسلم في مجرد قصد شجرة لتعليق الأسلحة والعكوف عندها فكيف بما هو أعظم منها الشرك بعينه بالقبور ونحوها ؟(48/108)
وأما كلام المالكية فقال أبو بكر ( الطرطوشي ) في كتاب ( الحوادث والبدع ) لما ذكر حديث الشجرة ذات أنواط فانظروا رحمكم الله أين ما وجدتم سدرة أو شجرة، يقصدها الناس ويعظمون من شأنها، ويرجون البرء والشفاء لمرضاهم من قبلها، فهي ذات أنواط فاقطعوها، وذكر حديث العرباض بن سارية الصحيح وفيه قوله صلى الله عليه وسلم : ( فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهدين عضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة ) قال في البخاري : عن أبي الدرداء أنه قال : والله ما أعرف من أمر محمد شيئاً إلا أنهم يصلون جميعاً، وروى مالك في الموطأ عن بعض الصحابة أنه قال : ما أعرف شيئاً مما أدركت عليه الناس إلا النداء بالصلاة، قال الزهري : دخلت على أنس بدمشق وهو يبكي... فقال : ما أعرف شيئاً مما أدركت إلا هذه الصلاة وهذه الصلاة قد ضيعت، قال الطرطوشي رحمه الله : فانظروا رحمكم الله إذا كان في ذلك الزمن طمس الحق، وظهر الباطل، حتى ما بعرف من الأمر القديم إلا القبلة، فما ظنك بزمنك هذا والله المستعان.
وليعلم الواقف على هذا الكلام من أهل العلم أعزهم الله أن الكلام في مسألتين :
( الأولى ) : أن الله سبحانه بعث محمداً صلى الله عليه وسلم لإخلاص الدين لله لا يجعل معه أحد في العبادة والتأله، لا ملك ولا نبي ولا قبر ولا حجر ولا شجر ولا غير ذلك، وأن من عظم الصالحين بالشرك بالله فهو يشبه النصارى وعيسي عليه السلام برئ منهم.
( والثانية ) : وجوب اتباع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وترك البدع، وإن اشتهرت بين أكثر العوام، وليعلم أن العوام محتاجون إلى كلام أهل العلم من تحقيق هذه المسائل، ونقل كلام العلماء، فرحم الله من نصر الله ورسوله ودينه ولم تأخذه في الله لومة لائم، والله أعلم، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
الرسالة السابعة والعشرون
بسم الله الرحمن الرحيم(48/109)
إلى من يصل إليه من المسلمين هدانا الله وإياهم لدينه القويم وسلوك صراطه المستقيم ورزقنا وإياهم ملة الخليلين محمد وإبراهيم.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته أما بعد :
قال الله تعالى : ( وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله ) وقال تعالى : ( واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا ) وقال تعالى : ( شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً ) إلى قوله: ( أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه) فيجب على كل إنسان يخاف الله والنار، أن يتأمل كلام ربه الذي خلقه هل يحصل لأحد من الناس أن يدين الله بغير دين النبي صلى الله عليه وسلم لقوله تعالى : ( ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدي ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ) ودين النبي صلى الله عليه وسلم التوحيد وهو معرفة لا إله إلا الله، محمد رسول الله والعمل بمقتضاهما.
فإن قيل : كل الناس يقولونها، قيل منهم من يقولها، ويحسب معناها أنه لا يخلق إلا الله ولا يرزق إلا الله وأشباه ذلك ومنهم من لا يفهم معناها، ومنهم لا من لا يعمل بمقتضاها، ومنهم من لا يعقل حقيقتها، وأعجب من ذلك من عرفها من وجه، وعاداها وأهلها من وجه، وأعجب منه من أحبها وانتسب إلى أهلها، ولم يفرق بين أوليائها وأعدائها، يا سبحان الله العظيم أتكون طائفتان مختلفتين في دين واحد وكلهم على الحق كلا والله ! فماذا بعد الحق إلا الضلال فإذا قيل : التوحيد زين والدين حق إلا التكفير والقتال، قيل اعملوا بالتوحيد ودين الرسول، ويرتفع حكم التكفير والقتال، فإن كان حق التوحيد الإقرار به والإعراض عن أحكامه فضلا عن بغضه ومعاداته، فهذا والله عين الكفر وصريحة، فمن أشكل عليه من ذلك شيء فليطالع سيرة محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه، والسلام عائد عليكم كما بدا ورحمة الله وبركاته.
الرسالة الثامنة والعشرون(48/110)
ومنها رسالة أرسلها إلى أهل الرياض ومنفوحة وهو إذ ذاك مقيم في بلد العيينة، وكتب إلى عبد الله بن عيسى قاضي الدرعية يسجل تحتها بما رآه من الكلام ليكون ذلك سبباً لقولها، وهذا نص الرسالة :
بسم الله الرحمن الرحيم
من محمد بن عبد الوهاب إلى من يصل إليه هذا الكتاب من المسلمين سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد :
فقد قال الله تعالى : ( والذين يحاجون في الله من بعد ما استجيب له حجتهم داحضة عند ربهم وعليهم غضب ولهم عذاب شديد ) وذلك أن الله أرسل محمداً صلى الله عليه وسلم ليبين للناس الحق من الباطل، فبين صلى الله عليه وسلم للناس جميع ما يحتاجون إليه في أمر دينهم بياناً تاماً وما مات صلى الله عليه وسلم حتى ترك الناس على المحجبة البيضاء ليلها كنهارها، فإذا عرفت ذلك فهؤلاء الشياطين من مردة الإنسن يحاجون في الله من بعد ما استجيب له إذا رأوا من يعلم الناس ما أمرهم به محمد صلى الله عليه وسلم من شهادة أن لا إله إلا الله وما نهاهم عنه مثل الاعتقاد في المخلوقين الصالحين وغيرهم قاموا يجادلون ويلبسون على الناس ويقولون كيف تكفرون المسلمين كيف تسبون الأموات آل فلان أهل ضيف آل فلان أهل كذا وكذا ومرادهم بهذا لئلا يتبين معنى لا إله إلا الله، ويتبين أن الاعتقاد في الصالحين النفع والضر ودعاءهم كفر ينقل عن الملة فيقولون الناس لهم إنكم قبل ذلك جهال لأي شيء لم تأمرونا بهذا. وأنا أخبركم عن نفسي والله الذي لا إله إلا هو لقد طلبت العلم واعتقد من عرفني أن لي معرفة وأنا ذلك الوقت لا أعرف معنى لا إله إلا الله، ولا أعرف دين الإسلام قبل هذا الخير الذي من الله به. وكذلك مشايخي ما منهم رجل عرف ذلك، فمن زعم من علماء العارض أنه عرف معنى لا إله إلا الله أو عرف معنى الإسلام قبل هذا الوقت أو زعم عن مشايخه أن أحداً عرف ذلك فقد كذب وافترى ولبس على الناس ومدح نفسه بما ليس فيه. وشاهد هذا أن عبد الله بن عيسى ما نعرف في علماء(48/111)
نجد ولا علماء العارض ولا غيره أجل منه، وهذا كلامه واصل إليكم إن شاء الله فاتقوا الله عباد الله ولا تكبروا على ربكم ولا نبيكم، واحمدوه سبحانه الذي من عليكم ويسر لكم من يعرفكم بدين نبيكم صلى الله عليه وسلم ولا تكونوا من الذين بدلوا نعمه الله كفراً وأحلوا قومهم دار البوار جهنم يصلونها وبئس القرار، إذا عرفتم ذلك فاعلموا أن قول الرجل : لا إله إلا الله نفى وإثبات، إثبات الألوهية كلها لله وحده ونفيها عن الأنبياء والصالحين وغيرهم، وليس معنى الألوهية أنه لا يخلق ولا ولا يرزق ولا يدبر ولا يحيى ولا يميت إلا الله فإن الكفار الذين قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرون بهذا كما قال تعالى : ( قل من يرزقكم من السماء والأرض أمن يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ومن يدبر الأمر فسيقولون الله فقل أفلا تتقون فتفكروا عباد الله فيما ذكر الله عن الكفار أنهم مقرون بهذا كله لله وحده لا شريك له، وإنما كان شركهم أنهم يدعون الأنبياء والصالحين ويندبونهم وينذرون لهم ويتوكلون عليهم يريدون منهم أنهم يقربونهم إلي الله كما ذكر الله عنهم ذلك في قوله تعالى : ( والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى إذا عرفتم ذلك فهؤلاء الطواغيت الذين يعتقد الناس فيهم من أهل الخرج وغيرهم مشهورون عند الخاص والعام بذلك، وأنهم يترشحون له ويأمرون به الناس ؛ كلهم كفار مرتدون عن الإسلام ومن جادل عنهم أو أنكر على من كفرهم أو زعم أن فعلهم هذا لو كان باطلا فلا يخرجهم إلى الكفر فأقل أحوال هذا المجادل أنه فاسق لا يقبل خطه ولا شهادته ولا يصلي خلفه بل لا يصح دين الإسلام إلا بالبراءة من هؤلاء وتكفيرهم كما قال تعالى : ( فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى ) ومصداق هذا أنكم إذا رأيتم من يخالف هذا الكلام وينكره فلا يخلو : إما أن يدعى أنه عارف فقولوا له هذا الأمر(48/112)
العظيم لا يغفل عنه فبين لنا ما يصدقك من كلام العلماء إذا لم تعرف كلام الله ورسوله، فإن زعم أن عنده دليلا فقولوا له يكتبه حتى نعرضه على أهل المعرفة، ويتبين لنا أنك على الصواب، ونتبعك فإن نبينا صلى الله عليه وسلم قد بين لنا الحق من الباطل، وإن كان المجادل يقر بالجهل ولا يدعي المعرفة فيا عباد الله كيف ترضون بالأفعال والأقوال التي تغضب الله ورسوله، وتخرجكم عن الإسلام إتباعاً لرجل يقول : إني عارف فإذا طالبتموه بالدليل عرفتم أنه لا علم عنده أو اتباعاً لرجل جاهل، وتعرضون عن طاعة ربكم وما بينه نبيكم صلى الله عليه وسلم وأهل العلم بعده، ما قص الله عليكم في كتابه لعلكم تعتبرون فقال : ( ولقد أرسلنا إلى ثمود أخاهم صالحاً أن اعبدوا الله فإذا هم فريقان يختصمون ) وهؤلاء أهلكم الله بالصيحة وأنتم الآن إذا جاءكم من يخبركم بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أنكم فريقان تختصمون أفلا تخافون أن يصيبكم من العذاب ما أصابهم.(48/113)
والحاصل أن مسائل التوحيد ليست من المسائل التي هي من فن المطاوعة خاصة، بل البحث عنها أو تعلمها فرض لازم على العالم والجاهل والمحرم والمحل والذكر والأنثى، وأنا لا أقول لكم : أطيعوني ولكن الذي أقول لكم إذا عرفتم أن الله أنعم عليكم وتفضل عليكم بمحمد صلى الله عليه وسلم والعلماء بعده، فلا ينبغي لكم معاندة محمداً صلى الله عليه وسلم، وقولكم أننا نكفر المسلمين كيف تفعلون كذا كيف تفعلون كذا، فإنا لم نكفر المسلمين بل ما كفرنا إلا المشركين وكذلك أيضآ من أعظم الناس ضلال متصوفة في معكال وغيره مثل ولد موسى بن جوعان وسلامة بن مانع وغيرهما يتبعون مذهب ابن عربي وابن الفارض، وقد ذكر أهل العلم أن ابن عربي من أئمة أهل مذهب الاتحادية وهم أغلظ كفراً من اليهود والنصارى فكل من لم يدخل في دين محمد صلى الله عليه وسلم ويتبرأ من دين الاتحادية فهو كافر برئ من الإسلام ولا تصح الصلاة خلفه، ولا تقبل شهادته، والعجب كل العجب أن الذي يدعي المعرفة يزعم أنه لا يعرف كلام الله، ولا كلام رسوله بل يدعى أني أعرف كلام المتأخرين مثل ( الأقناع ) وغيره وصاحب الإقناع قد ذكر أن من شك في كفر هؤلاء السادة والمشائخ فهو كافر، سبحان الله، كيف يفعلون أشياء في كتابهم أن من فعلها كفر ومع هذا يقولون نحن أهل المعرفة وأهل الصواب وغيرنا صبيان جهال، والصبيان يقولون أظهروا لنا كتابكم ويأبون عن إظهاره أما في هذا ما يدل على جهالتهم وضلالتهم، وكذلك أيضاً من جهالة هؤلاء وضلالتهم إذا رأوا من يعلم الشيوخ وصبيانهم أو البدو شهادة أن لا إله إلا الله قالوا : قولوا لهم يتركون الحرام وهذا من عظيم جهلهم فإنهم لا يعرفون إلا ظلم الأموال ؛ وأما ظلم الشرك فلا يعرفون وقد قال الله تعالى : ( إن الشرك لظلم عظيم ) وأين الظلم الذي إذا تكلم الإنسان بكلمة منه أو مدح الطواغيت أو جادل عنهم خرج من الإسلام ولو كان صائما قائماً من الظلم الذي لا يخرج من الإسلام بل(48/114)
إما أن يؤدي إلى صاحبه بالقصاص وإما أن يغفره الله فبين الموضعين فرق عظيم.
وبالجملة رحمكم الله إذا عرفتم ما تقدم أن نبيكم صلى الله عليه وسلم قد بين، الدين، كله فاعلموا أن هؤلاء الشياطين قد أحلوا كثيراً من الحرام في الربا والبيع وغير ذلك، وغير ذلك، وحرموا عليكم كثيراً من الحلال وضيقوا ما وسعه الله فإذا رأيتم الاختلاف فاسألوا عما أمر الله به ورسوله ولا تطيعوني ولا غيري، وسلام عليكم ورحمة الله.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي هدانا لإسلام ومن علينا باتباع محمد عليه أفضل الصلاة والسلام، وبعد :
فبقول العبد الفقير إلى الله تعالى عبد الله بن عيسى بن عبد الرحمن : إن أول واجب على كل ذكر وأنثى معرفة شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الذي أرسل الله بها جميع رسله، وأنزل لأجلها جميع كتبه، وجعلها أعظم حقه على عباده كما ذكرنا الله لنا في كتابه وعلى لسان رسوله في مواضع لا تحصى، منها قوله تعالى (وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون) وقال تعالى : (ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده أن أنذروا أنه لا إله إلا أنا فاتقون) وقال (فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة) وقد أمر الله عباده بالاستجابة لهذه الكلمة فقال : (استجيبوا لربكم من قبل أن يأتي يوم لا مرد له من الله مالكم من ملجأ يومئذ وما لكم من نكير) وتوعد سبحانه أفضل الخلق وأكرمهم سيد ولد آدم والنبين قبله على مخالفتها فقال :(48/115)
(ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين) فكيف بغيرهم من سائر الخلق، وقال تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا قو أنفسكم وأهليكم ناراً وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصمون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ) فمن نصح نفسه وأهله وعياله، وأراد النجاة من النار، فليعرف شهادة أن لا إله إلا الله، فإنها العروة الوثقى وكلمة التقوى، لا يقبل الله من أحد عملا إلا بها : لا صلاة، ولا صوماً، ولا حجاً ولا صدقة، ولا جميع الأعمال الصالحة ـ إلا بمعرفتها والعمل بها، وهي كلمة التوحيد، وحق الله على العبيد، فمن أشرك مخلوقاً فيها من ملك مقرب، أو نبي مرسل، أو ولي، أو صحابي وغيره، أو صاحب قبر أو جني، او غيره، أو استغاث به، أو استعان به فيما لا يطلب إلا من الله أو نر له أو ذبح له، أو توكل عليه أو رجاه أو دعاه دعاء استغاثة أو استعانة، أو جعله واسطة بينه وبين الله لقضاء حاجته، أو لجلب نفع أو كشف ضر، فقد كفر كفر عباد الأصنام القائلين ( ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى زلفى ) القائلين ( هؤلاء شفعاؤنا عند الله ) كما ذكر الله عنهم في كتابه، وهم مخلدون في النار ـ وإن صاموا وصلوا وعملوا بطاعة الله الليل والنهار كما قال تعالى : ( إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين ) وغيرها من الآيات، وكذلك من ترشح بشيء من ذلك أو أحب من ترشح له، أو ذب عنه، أو جادل عنه ـ فقد أشرك شركاً لا يغفر، ولا يقبل ولا تصح منه الأعمال الصالحة : الصوم والحج وغيرها : (إن الله لا يغفر أن يشرك به ) ولا يقبل عمل المشركين، وقد نهى الله نبيه وعباده عن المجادلة عمن فعل مادون الشرك من الذنوب بقوله : ( ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم ) فكيف بمن جادل عن المشركين وصد عن رب العالمين ؟ فالله الله عباد لا تغتروا بمن لا يعرف شهادة أن لا إله إلا الله وتلطخ بالشرك وهو لا يشعر ؛ فقد مضى أكثر حياتي ولم أعرف من(48/116)
أنواعه ما أعرفه اليوم، فلله الحمد على ما علمنا من دينه ولا يهولنكم اليوم أن هذا الأمر غريب فإن نبيكم صلى الله عليه وسلم قال ( بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ ) واعتبروا بدعاء أبينا إبراهيم عليه السلام بقوله في دعائه : (واجبني وبني أن نعبد الأصنام. رب إنهن أضللن كثيراً من الناس) ولولا ضيق هذه الكراسة وأن الشيخ محمداً أجاد وأفاد بما أسلفه من الكلام فيها لأطلنا الكلام. وأما الاتحادي ابن عربي صاحب النصوص المخالف للنصوص، وابن الفارض الذي لدين الله محارب وبالباطل للحق معارض، فمن تمذهب بمذهبهما فقد اتخذ مع غير الرسول سبيلا، وانتحل طريق المغضوب عليهم والضالين المخالفين لشريعة سيد المرسلين، فإن ابن عربي، وابن الفارض ينتحلان نحلا تكفرهما وقد كفرهم كثير من العلماء العاملين فهؤلاء يقولون كلاماً أخشى المقت من الله في ذكره فضلا عمن انتحله، فإن لم يتب إلى الله من انتحل مذهبهما وجب هجره وعزله عن الولاية إن كان ذا ولاية من إمامة أو غيرها فإن صلاته غير صحيحة لا لنفسه ولا لغيره، فإن قال جاهل أرى عبد الله توه يتكلم في هذا الأمر، فيعلم أنه إنما تبين لي الآن وجوب الجهاد في ذلك علي وعلى غيري لقوله تعالى: ( وجاهدوا في الله حق جهاده ) إلى أن قال : ( ملة أبيكم إبراهيم ) وصلى الله على محمد وآله وسلم.
الرسالة التاسعة والعشرون
ومنها الرسالة التي أرسلها إلي بعض البلدان قال فيها :
بسم الله الرحمن الرحيم
من محمد بن عبد الوهاب إلى من يصل إليه هذا الكتاب من المسلمين(48/117)
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد : فاعلموا رحمكم الله أن الله بعث محمداً صلى الله عليه وسلم إلى الناس بشيراً ونذيراً مبشراً لمن اتبعه بالجنة ومنذراً لمن لا يتبعه بالنار، وقد علمتم إقرار كل من له معرفة أن التوحيد الذي بينا للناس هو الذي أرسل الله به رسله، حتى كل مطوع معاند يشهد بذلك وأن الذي عليه غالب الناس من الاعتقادات في الصالحين وفي غيرهم هو الشرك الذي قال الله فيه : ( إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار ) فإذا تحققتم هذا، وعرفتم أنهم يقولون لو يترك أهل العارض التكفير والقتال كانوا على دين الله ورسوله، ونحن ما جئناكم في التكفير والقتال لكن ننصحكم بهذا الذي قطعتم أنه دين الله ورسوله إن كنتم تعلمونه وتعملون به إن كنتم من أمة محمد باطناً وظاهراً وأنا أبين لكن هذه بمسألة القبلة أن النبي صلى الله عليه وسلم وأمته يصلون والنصارى يصلون ولكن قبلته صلى الله عليه وسلم وأمته بيت الله وقبلة النصارى مطلع الشمس فالكل منا ومنهم يصلي ولكن اختلفنا في القبلة، ولو أن رجلاً من أمة محمد صلى الله عليه وسلم يقر بهذا، ولكن يكره من يستقبل القبلة ويحب من يستقبل الشمس أتظنون أن هذا مسلم، وهذا ما نحن فيه فالنبي صلى الله عليه وسلم بعثه الله بالتوحيد، وأن لا يدعى مع الله أحد لا نبي ولا غيره والنصارى يدعون عيسى رسول الله، ويدعون الصالحين يقولون ليشفعوا لنا عند الله فإذا كان كل مطوع مقراً بالتوحيد فاجعلوا التوحيد مثل القبلة واجعلوا الشرك مثل استقبال المشرق مع أن هذا أعظم من القبلة، وأنا أنصحكم لله وأنخاكم لا تضيعوا حظكم من الله، وتحبون دين النصارى على دين نبيكم فما ظنكم بمن واجه الله وهو يعلم من قلبه أنه عرف أن التوحيد دينه ودين رسوله وهو يبغضه ويبغض من اتبعه، ويعرف أن دعوة غيره هو الشرك، ويحبه ويحب من اتبعه أتظنون أن الله يغفر لهذا ؟ والنصيحة لمن خاف عذاب الآخرة، وأما القلب(48/118)
الخالي من ذلك فلا والسلام.
الرسالة الثلاثون
بسم الله الرحمن الرحيم
إلى الأخ فايز سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد :
مسألة الشرك بالله بينها الله سبحانه، وأكثر الكلام فيها، وضرب لها الأمثال ؛ ومن أعظم ما ذكر فيها قوله : ( ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين ) مع أن الذين طلبوا منه ليس شرك القلب، وأما كونك تعرفه مثل معرفة الفواحش، وتكرهه كما تكرهها فهذا له سببان أحدهما : اللجوء إلى الله، وكثرة الدعاء بالهداية إلى الصراط المستقيم بحضور قلب، الثاني: الفكرة في المثل الذي ضربه الله في سورة الروم بقوله : ( ضرب لكم مثلا من أنفسكم ) فإذا أمعنت النظر وتأملت لو أن رجلا يشرك بين رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبين مسيلمة في الرسالة أنها أكبر قبحاً من الفواحش فكيف لو يشرك بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين امرأة زانية، وأنت تعرف أن أهل بلد لو يصلون على شيخهم أو إمامهم كما يصلون على النبي صلى الله عليه وسلم أعد هذا من أعظم الفواحش بكثير، فإذا وازنت بين هذا وبين ما يفعله أكثر الناس اليوم من دعوة الله ودعوة أبي طالب أو الكواز، أو أخس الناس، أو شجرة أو حجر أو غير ذلك تبين لك أن الأمر أعظم مما ذكرنا بكثير، لكن الذي غير القلوب أن هذا تعودته وألفته، وتلك الأنواع لم تعودها القلوب فلذلك تكرهها لأن القلوب على الفطرة إلا أن تتغير إذا كبرت بالعادات والسلام.
القسم الرابع
بيان الأشياء التي يكفر مرتكبها ويجب قتاله
والفرق بين فهم الحجة وبيان قيام الحجة
ص 203
الرسالة الحادية والثلاثون
ومنها رسالة كتبها إلى أحمد بن إبراهيم مطوع مرات من بلدان الوشم وكان قد أرسل إليه رسالة فأجابه الشيخ بهذه.
بسم الله الرحمن الرحيم
من محمد بن عبد الوهاب إلى أحمد بن إبراهيم هدانا الله وإياه وبعد :(48/119)
ما ذكرت من مسألة التكفير، وقولك أبسط الكلام فيها فلو بيننا اختلاف أمكنني أن أبسط الكلام أو أمتنع، وأما إذا اتفقنا على الحكم الشرعي لا أنت بمنكر الكلام الذي كتبت إليك، ولا أنا بمنكر العبارات التي كتبت إلي، وصار الخلاف في أناس معينين إقرار أن التوحيد الذي ندعو إليه دين الله ورسوله، وأن الذي ننهي عنه في الحرمين والبصرة والحسا هو الشرك بالله، ولكن هؤلاء المعينون هل تركوا التوحيد بعد معرفته وصدوا الناس عنه ؟ أم فرحوا به وأحبوه ودانوا به وتبرأوا من الشرك أهله ؟ فهذه ليس مرجعها إلى طالب العلم بل مرجعها إلى علم الخاص والعام.مثال ذلك إذا صح أن أهل الحسا والبصرة يشهدون أن التوحيد الذي نقول دين الله ورسوله، وأن هذا المفعول عندهم في الأحياء والأموات هو الشرك بالله، ولكن أنكروا علينا التكفير والقتال خاصة. والمرجع في المسألة إلى الحضر والبدو والنساء، والرجال هل أهل قبة الزبير وقبة الكواز تابو من دينهم وتبعوا ما أقروا به من التوحيد؟ أو هم على دينهم، ولو يتكلم الإنسان بالتوحيد فسلامته على أخذ ماله، فإن كنت تزعم أن الكواوزة، وأهل الزبير تابوا من دينهم وعادوا من لم يتب فتبعوا ما أقروا به، وعادوا من خالفه هذا مكابرة، وإن أقررتم أنهم بعد الإقرار أشد عداوة ومسبة للمؤمنين والمؤمنات كما يعرفه الخاص والعام، وصار الكلام في أتباع المويس، وصالح بن عبد الله هل هم مع أهل التوحيد؟ أم هم مع الأوثان ؟ بل أهل الأوثان معهم وهم حزبة العدو وحاملوا الراية، فالكلام في هذا نحيله على الخاص والعام فودى أنك تسرع بالنفور فتتوجه إلى الله وتنظر نظر من يؤمن بالجنة والخلود فيها ويؤمن بالنار والخلود فيها، وتسأله بقلب حاضر أن يهديك الصراط المستقيم هذا مع أنك تعلم ما جرى من ابن إسماعيل، وولد ابن ربيعة سنة الحبس لما شكونا عند أهل قبة أبي طالب يوم يكسيه صاية، وجميع من معك من خاص وعام معهم إلى الآن، وتعرف روحة المويس وأتباعه(48/120)
لأهل قبة الكواز، وسية طالب يوم يكسيه صاية، ويقول لهم طالع الناس ينكرون قببكم، وقد كفروا وحل دمهم ومالهم وصار هذا عندك وعند أهل الوشم، وعند أهل سدير والقصيم من فضائل المويس ومناقبه، وهم على دينه إلى الآن مع أن المكاتيب التي أرسلها علماء الحرمين مع المزيودي سنة الحبس عندنا إلى الآن تتناك، وقد صرحوا فيها أن من أقر بالتوحيد كفر وحل ماله ودمه وقتل في الحل والحرم ويذكرون دلائل على دعاء الأولياء في قبورهم، منها قوله تعالى ( لهم ما يشاءون عند ربهم ) فإن كانت ليست عندك، ولا صبرت إلى أن تجيء فأرسل إلى ولد محمد بن سليمان في وشيقر ولسيف العتيقي يرسلونها إليك ويجيبون عن قوله : (أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة ) أنهم يدعون على أنهم المعطون المانعون بالأصالة، وأما دعوتهم على أنهم شفعاء فهو الدين الصحيح، ومن أنكره قتل في الحل والحرم، وأيضاً جاءنا بعض المجلد الذي صنفه القباني، واستكتبوه أهل الحسا، وأهل نجد وفيه نقل الإجماع على تحسين قبة الكواز وأمثالها، وعبادتها وعبادة سية طالب ويقول في تصنيفه إنه لم يخالف في تصنيفه إلا ابن تيمية وابن القيم، وعشرة أنا عاشرهم فالجميع اثنا عشر، فإذا كان يوم القيامة اعتزلوا وحدهم عن جميع الأمة وأنتم إلى الآن على ما تعلم مع شهادتكم أن التوحيد دين الله ورسوله وأن الشرك باطل وأيضاً مكاتيب أهل الحسا موجودة، فأما ابن عبد اللطيف وابن عفالق وابن مطلق فحشوا بالزبيل أعني : سبابة التوحيد واستحلال دم من صدق به أو أنكر الشرك، ولكن تعرف ابن فيروز أنه أقربهم إلى الإسلام وهو رجل من الحنابلة، وينتحل كلام الشيخ وابن القيم خاصة ومع هذا صنف مصنفاً أرسله إلينا قرر فيه هذا الذي يفعل عند قبر يوسف وأمثاله هو الدين الصحيح واستدل في تصنيفه بقول النابغة :
أيا قبر النبي وصاحبيه ووا مصيبتنا لو تعلمونا
وفي مصنف ابن مطلق الاستدلال بقول الشاعر :(48/121)
وكن لي شفيعاً يوم لا ذو شفاعة سواك بمغن عن سواد بن قارب
ولكن الكلام الأول أبلغ من هذا كله وهو شهادة البدو والحضر والنساء والرجال أن هؤلاء الذين يقولون التوحيد دين الله ورسوله، ويبغضونه أكثر من بغض اليهود والنصارى، ويسبونه، ويصدون الناس عنه، ويجاهدون في زواله وتثبيت الشرك بالنفس والمال خلاف ما عليه الرسل وأتباعهم، فإنهم يجاهدون حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله. وأما قولك أبغي أشارو إبراهيم فلا ودي تصير ثالثاً لابن عباد وابن عيد، أما ابن عباد فبقول أي شيء أفعل بالعناقر، وإلا فالحق واضح ونصحتهم وبينت لهم. وابن عيد أنت خابره حاول إبراهيم في الدخول في الدين، وتعذر من الناس أن إبراهيم ممتنع يا سبحان الله ! إذا كان أهل الوشم أهل سدير وغيرهم يقطعون أن كل مطوع في قرية لو ينقاد شيخها ما منهم أحد يتوقف كيف يكون قدر الدين عندكم ؟ كيف قدر رضا الله والجنة ؟ كيف قدر النار وغضب الله ؟ ولكن ودي تفكر فيما تعلم لما اختلف الناس بعد مقتل عثمان، وبإجماع أهل العلم أنهم لا يقال فيهم إلا الحسنى مع أنهم عثو في دمائهم، ومعلوم أن كلا من الطائفتين : أهل العراق، وأهل الشام معتقدة أنها على الحق والأخرى ظالمة، ونبغ من أصحاب علي من أشرك بعلي وأجمع الصحابة على كفرهم وردتهم وقتلهم، لكن حرقهم علي، وابن عباس يرى قتلهم بالسيف أترى أهل الشام لو حملهم مخالفة علي على الاجتماع بهم، والاعتذار عنهم والمقاتلة معهم لو امتنعوا أترى أحداً من الصحابة يشك في كفر من التجأ إليهم ؟ ولو أظهر البراءة من اعتقادهم، وإنما التجأ إليهم وزين مذهبهم لأجل الاقتصاص من قتلة عثمان، فتفكر في هذه القضية فإنها لا تبقى شبهة إلا على من أراد الله فتنته، وغير ذلك قولك أريد أماناً على كذا وكذا فأنت مخالف والخاص والعام يفرحون بجيتك مثل ما فرحوا بجية ابن غنام، والمنقور، وابن عضيب مع أن ابن عضيب أكثر الناس سباً لهذا الدين الآن وراحوا موقرين(48/122)
محشومين كيف لو تجيء أنت كيف تظن أن بجيئك ما تكره، فإن أردت تجديد الأمان على مابغيت فاكتب لي، ولكن تعرف حرصي على الكتب، فإن عزمت على الراضة وعجلتها على قبلك فتراها على بنو الخير، وإن ما جاز عندك كلها فبعضها ولو مجموع ابن رجب ترى ماجاءنا فهو عارية مؤداة وإن لم تأتنا.
قال ابن القيم في النونيه :
يا فرقة جهلت نصوص نبيها ... وقصوده وحقائق الإيمان
فسطوا على أتباعه وجنوده ... بالبغي والتكفير والطغيان
لله حق لا يكون لغيره ... ولعبده حق هما حقان
لا تجعلوا الحقين حقاً واحداً ... من غير تمييز ولا فرقان
المراد تعريفك لما صدقتك وأن لك نظراً في الحق أن في ذلك الزمان من يكفر العلماء إذا ذكروا التوحيد، ويظنونه تنقيصاً للنبي صلى الله عليه وسلم فما ظنك بزمانك هذا ؟ وإذا كان المكفرون ممن يعدون من علمائهم فما ظنك بولد المويس وفاسد وأمثالهما يوضحه تسجيلهم على جواب علماء مكة ونشره وقراءته على جماعتهم ودعوتهم إليه. ذكر ابن عبد الهادي في مناقب الشيخ لما ذكر المحنة التي نالته بسبب الجواب في شد الرحل فالجواب الذي كفروه بسببه ذكر أن كلامه في هذا الكتاب أبلغ منه، فالعجب إذا كان هذا الكتاب عندك والعلماء في زمن الشيخ كفروه بكلام دونه فكيف بالمويس وأمثاله لا يكفروننا بمحض التوحيد ؟ وذكر ابن القيم في النونية ما يصدق هذا الكلام لما قالوا له إنك مثل الخوارج رد عليهم بقوله :
من لي بمثل خوارج قد كفروا ... بالذنب تأويلا بلا إحسان(48/123)
ثم ذكر في البيت الثاني أن هؤلاء لا يكفروننا بمحض الإيمان والخوارج يكفرون بالذنوب، وكلامي هذا تنبيه أن إنكار التوحيد متقدم، وكذلك التفكير لمن اتبعه، وأنت لا تعتقد أن الزمان صلح بعدهم، ولا تعتقد أن المويس وأمثاله أجل وأورع من أولئك الذين كفروا الشيخ وأتباعه، وعد ابن عبد الهادي من كتبه كتاب ( الاستغاثة ) مجلد ولفانا من الشام مع مربد. وسببه أن رجلا من فقهاء الشافعية يقال له ابن البكري عثر على جواب للشيخ في الاستغاثة بالموتى، فأنكر ذلك، وصنف مصنفاً في جواز الاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وسلم في كل ما يستغاث الله فيه، وصرح بتكفير الشيخ في ذلك الكتاب وجعله مستنقصاً للأنبياء وأورد فيه آيات وأحاديث. فصنف الشيخ كتاب ( الاستغاثة ) رداً على ابن البكري وقرر فيه مذهب الرسل وأتباعهم، وذكر أن الكفار لم يبلغ شركهم هذا بل ذكر الله عنهم أنهم إذا مسهم الضر أخلصوا ونسوا ما يشركون، والمقصود أن في زمن الشيخ ممن يدعي العلم والتصنيف من أنكر التوحيد، وجعله سباً للأنبياء والأولياء، وكفر من ذهب إليه، فكيف تزعم أن عبدة قبة الكواز وأمثالها ما أنكروه ؟ بل تزعم أنهم قبلوه ودانوا به وتبرءوا من الشرك، ولا أنكروا إلا تكفير من لا يكفر، وأعظم وأطم أنكم تعرفون أن البادية كفروا بالكتاب كله، وتبرءوا من الدين كله واستهزءوا بالحضر الذين يصدقون بالبعث، وفضلوا حكم الطاغوت على شريعة الله واسهزءوا بها مع إقرارهم بأن محمداً رسول الله وأن كتاب الله عند الحضر لكن كذبوا وكفروا واستهزءوا عناداً، ومع هذا تنكرون علينا كفرهم وتصرحون بأن من قال لا إله إلا الله لا يكفر، ثم تذكر في كتابك أنك تشهد بكفر العالم العابد الذي ينكر التوحيد، ولا يكفر المشركين، ويقول هؤلاء السواد الأعظم ما يتيهون، فإن قلم إن الأولين وإن كانوا علماء فلم يقصدوا مخالفة الرسول بل جهلوا، وأنتم وأمثالكم تشهدون ليلاً ونهاراً أن هذا الذي أخرجنا للناس من التوحيد(48/124)
وإنكار الشرك أنه دين الله ورسوله، وأن الخلاف منا والتكفير والقتال، ولو قدرنا أن غيركم يعذر بالجهل فأنتم مصرحون بالعلم والله أعلم.
الرسالة الثانية والثلاثون
بسم الله الرحمن الرحيم
من محمد بن عبد الوهاب إلى محمد بن فارس، سلام عليكم، وبعد :
الواصل إليكم مسألة التكفير من كلام العلماء، وذكر في ( الإقناع ) إجماع المذاهب كلها على ذلك، فإن كان عند أحد كلمة تخالف ما ذكروه في مذهب من المذاهب فيذكرها وجزاه الله خيراً، وإن كان يبغي يعاند كلام الله وكلام رسوله، وكلام العلماء، ولا يصغي لهذا أبداً فاعرفوا أن هذا الرجل معاند ما هو بطلاب حق، وقد قال الله تعالى : (( ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون)) والذي يدلكم على هذا أن هؤلاء يعتذرون بالتكفير إذا تأملتهم إذا أن الموحدين أعداؤهم يبغضونهم ويستثقلونهم، والمشركون والمنافقون هم ربعهم الذين يستأنسون إليهم، ولكن هذه قد جرت من رجال عندنا في الدرعية وفي العيينة الذين ارتدوا وأبغضوا الدين.
وقال أيضاً رحمه الله تعالى.
اعلم أن من أعظم نواقض الإسلام عشرة :
الأول : الشرك في عبادة الله وحده لا شريك له، والدليل قوله تعالى : (( إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء )) ومنه الذبح لغير الله كمن يذبح للجن أو القباب.
الثاني : من جعل بينه وبين الله وسائط يدعوهم ويسألهم الشفاعة كفر إجماعاً.
الثالث : من لم يكفر المشركين، أو شك في كفرهم، أو صحح مذهبهم كفر إجماعاً.
الرابع : من اعتقد أن غير هدى النبي صلى الله عليه وسلم أكمل من هديه، أو أن حكم غيره أحسن من حكمه كالذين يفضلون حكم الطاغوت على حكمه فهو كافر.
الخامس : من أبغض شيئاَ مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ولو عمل به كفر إجماعاً، والدليل قوله تعالى : (( ذلك بأنهم كرهوا ما أنزل الله فأحبط أعمالهم ))(48/125)
السادس : من استهزأ بشيء من دين الله أو ثوابه أو عقابه كفر والدليل قوله تعالى : (( قل أبا لله وآياته ورسوله تستهزؤن، لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم ))
السابع : السحر ومنه الصرف والعطف، فمن فعله أو رضى به كفر والدليل قوله تعالى : (( وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر ))
الثامن : مظاهرة المشركين ومعاونتهم على المسلمين والدليل قوله تعالى : (( ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدى القوم الظالمين ))
التاسع :من اعتقد أن بعض الناس لا يجب عليه اتباعه صلى الله عليه وسلم وأنه يسعه الخروج من شريعته كما وسع الخضر الخروج من شريعة موسى عليهما السلام فهو كافر.
العاشر : الأعراض عن دين الله لا يتعلمه ولا يعمل به، والدليل قوله تعالى :(( ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه ثم أعرض عنها إنا من المجرمين منتقمون )) ولا فرق في جميع هذه النواقض بين الهازل والجاد والخائف إلا المكره، وكلها من أعظم ما يكون خطراً، ومن أكثر ما يكون وقوعاً فينبغي للمسلم أن يحذرها ويخاف منها على نفسه نعوذ بالله من موجبات غضبه وأليم عقابه وصلى الله على محمد.
الرسالة الثالثة والثلاثون
(ص215)
ومنها رسالة أرسلها جواباً لرجل من أهل الحسا يقال له أحمد بن عبد الكريم وكان قد عرف التوحيد وكفر المشركين، ثم إنه حصل له شبهة في ذلك، بسبب عبارات رآها في كلام الشيخ تقي الدين ففهم منها غير مراد الشيخ رحمه الله قال فيها :
بسم الله الرحمن الرحيم
من محمد بن عبد الوهاب إلي أحمد بن عبد الكريم، سلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.(48/126)
أما بعد، فقد وصل مكتوبك تقرر المسألة التي ذكرت وتذكر أن عليك إشكالا تطلب إزالته، ثم ورد منك مراسلة تذكر أنك عثرت على كلام الشيخ أزال عنك الإشكال فنسأل الله أن يهديك لدين الإسلام وعلى أي شيء يدل كلامه على أن من عبد الأوثان عبادة أكبر من عبادة اللات والعزى وسب دين الرسول بعد ما شهد به مثل سب أبي جهل أنه لا يكفر بعينه، بل العبارة صريحة واضحة في تكفير مثل ابن فيروز وصالح ابن عبد الله وأمثالهما كفراً ظاهراً ينقل عن الملة فضلا عن غيرهما، هذا صريح واضح في كلام ابن القيم الذي ذكرت وفي كلام الشيخ الذي أزال عنك الإشكال في كفر من عبد الوثن الذي على قبر يوسف وأمثاله، ودعاهم في الشدائد والرخاء، وسب دين الرسل بعد ما أقر به ودان بعبادة الأوثان بعد ما أقر بها، وليس في كلامي هذا مجازفة بل أنت تشهد به عليهم ولكن إذا أعمى الله القلب فلا حيلة فيه. وأنا أخاف عليك من قوله تعالى : ((ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا فطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون)) والشبهة التي دخلت عليك هذه البضيعة التي في يديك تخاف تغذى أنت وعيالك إذا تركت بلد المشركين وشاك في رزق الله، وأيضاً قرناء السوء أضلوك كما هي عادتهم، وأنت والعياذ بالله تنزل درجة درجة أول مرة في الشك، وبلد الشرك وموالاتهم والصلاة خلفهم، وبراءتك من المسلمين مداهنة لهم، ثم بعد ذلك طحت على ابن غنام وغيره، وتبرأت من ملة إبراهيم، وأشهدتهم على نفسك باتباع المشركين من غير إكراه لكن خوف ومداراة، وغاب عنك قوله تعالى في عمار بن ياسر وأشباهه : (( من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان)) إلى قوله : (( ذلك بأنهم استحبوا الحياة الدنيا على طمأنينة قلبه. والإكراه لا يكون على العقيدة بل على القول والفعل فقد صرح بأن من قال المكفر أو فعله فقد كفر إلا المكره بالشرط المذكور، وذلك أن ذلك بسبب العقيدة فتفكر في نفسك هل أكرهوك وعرضوك على السيف مثل عمار أم لا ؟ وتفكر(48/127)
هل هذا بسبب أن ته عقيد تغيرت أم بسبب إيثار الدنيا ؟ ولم يبق عليك إلا رتبة واحدة وهي : أنك تصرح مثل ابن رفيع تصريحاً بمسبة دين الأنبياء، وترجع إلى عبادة العيدروس وأبي حديدة وأمثالهما، ولكن المر بيد القلوب فأول ما أنصحك به أنك تفكر هل هذا الشرك الذي عندكم هو الشرك الذي ظهر نبيك صلى الله عليه وسلم ينهي عنه أهل مكة، أم شرك أهل مكة نوع آخر أغلظ منه ؟ أم هذا أغلظ فإذا أحكمت المسألة، وعرفت أن غالب من عندكم سمع الآيات وسمع كلام أهل العلم من المتقدمين والمتأخرين، وأقر به وقال أشهد أن هذا هو الحق ونعرفه قبل ابن عبد الوهاب، ثم بعد ذلك يصرح بمسبة ما شهد أنه الحق، ويصرح بحسن الشرك وأتباعه وعدم البراءة من أهله فتفكر هل هذه مسألة أو مسألة الردة الصريحة التي ذكرها أهل العلم في الردة ؟ ولكن العجب من دلائلك التي ذكرت كأنها أتت ممن لا يسمع ولا يبصر. أما استدلالك بترك النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعده تكفير المنافقين وقتلهم فقد عرفه الخاص والعام ببديهة العقل أنهم لو يظهرون كلمة واحدة أو فعلا واحداً من عبادة الأوثان أو مسبة التوحيد الذي جاء الرسول صلى الله عليه وسلم أنهم يقتلون أشر قتله فإن كنت تزعم أن الذين عندكم أظهروا اتباع الدين الذي تشهد أنه دين الرسول صلى الله عليه وسلم، وتبرؤا من أشرك بالقول والفعل، ولم يبق إلا أشياء خفية تظهر على صفحات الوجه أو فلتة لسان في السر، وقد تابوا من دينهم الأول وقتلوا الطواغيت وهدموا البيوت المعبودة فقل لي، وإن كنت تزعم أن الشرك الذي خرج عليه رسول الله عليه وسلم أكبر من هذا فقل لي وإن كنت تزعم أن الإنسان إذا أظهر الإسلام لا يكفر إذا أظهر عبادة الأوثان، وزعم أنها الدين، وأظهر سب دين الأنبياء وسماه دين أهل العارض وأفتى بقتل من أخلص لله الدين وإحراقه وحل ماله فهذه مسألتك، وقد قررتها وذكرت أن من زمن النبي صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا لم يقتلوا أحداً ولم(48/128)
يكفروه من أهل الملة، أما ذكرت قول الله تعالى: (( لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض )) إلى قوله: (( ملعونين أينما ثقفوا أخذوا وقتلوا تقتيلا )) واذكر قوله : (( ستجدون آخرين يريدون أن يأمنوكم ويأمنوا قومهم كلما ردوا إلى الفتنة أركسوا فيها )) إلى قوله : (( فخذوهم واقتلوهم )) واذكر قوله في الاعتقاد في الأنبياء : (( أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون )) واذكر ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أشخص رجلاً معه الراية إلى من تزوج امرأة أبيه ليقتله ويأخذ ماله فأي هذين أعظم ؟ تزوج امرأة الأب أو سب دين الأنبياء بعد معرفته، واذكر أنه قد هم بغزو بني المصطلق لما قيل إنهم منعوا الزكاة حتى كذب الله من نقل ذلك، واذكر قوله في أعبد هذه الأمة وأشدهم اجتهاداً : (( لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد أينما لقيتموهم فاقتلوهم فإن في قتلهم أجراً لمن قتلهم يوم القيامة )) واذكر قتال الصديق وأصحابه ما نعي الزكاة وسبي ذراريهم وغنيمة أموالهم ؛ واذكر إجماع الصحابة على قتل أهل مسجد الكوفة، وكفرهم، وردتهم لما قالوا كلمة في تقرير بنوه مسيلمة، ولكن الصحابة اختلفوا في قبول توبتهم لما تابوا، والمسألة في صحيح البخاري وشرحه في الكفالة، واذكر إجماع الصحابة لما استفتاهم عمر على أن من زعم أن الخمر تحل للخواص مستدلا بقوله تعالى : (( ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طمعوا )) مع كونه من أهل بدر، وأجمع الصحابة على كفر من اعتقد في على مثل اعتقاد هؤلاء في عبد القادر، وردتهم، وقتلهم، فأحرقهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه وهم أحياء فخالفه ابن عباس في الإحراق وقال : يقتلون بالسيف، مع كونهم من أهل القرن الأول أخذوا العلم عن الصحابة، واذكر إجماع أهل العلم من التابعين وغيرهم على قتل الجعد بن درهم. قال ابن القيم :
شكر الضحية كل سنة لله درك من أخي قربان(48/129)
ولو ذهبنا نعدد من كفره العلماء مع ادعائه الإسلام وأفتوا بردته وقتله لطال الكلام لكن من آخر ما جرى قصة بني عبيد ملوك مصر، وطائفتهم وهم يدعون أنهم من أهل البيت، ويصلون الجمعة والجماعة، ونصبوا القضاة والمفتين أجمع العلماء على كفرهم وردتهم وقتالهم وأن بلادهم بلاد حرب يجب قتالهم ولو كانوا مكرهين مبغضين لهم، واذكر كلامه في ( الإقناع ) و(شرحه) في الردة كيف ذكروا أنواعاً كثيرة موجودة عندكم، ثم قال منصور : وقد عمت البلوى بهذه الفرق وأفسدوا كثيراً من عقائد أهل التوحيد نسأل الله العفو والعافية. هذا لفظه بحروفه، ثم ذكر قتل الواحد منهم وحكم ماله هل قال واحد من هؤلاء من الصحابة من أصحابه إلى زمن منصور إن هؤلاء يكفر أنواعهم لا أعيانهم. وأما عبارة الشيخ التي لبسوا بها عليك فهي أغلظ من هذا كله ولو نقول بها لكفرنا كثيراً من المشاهير بأعيانهم فإنه صرح فيها بأن المعين لا يكفر إلا إذا قامت عليه الحجة، فإذا كان المعين، يكفر إذا قامت عليه الحجة، فمن المعلوم أن قيامها ليس معناه أن يفهم كلام الله ورسوله مثل فهم أبي بكر رضي الله عنه، بل إذا بلغه كلام الله ورسوله وخلا من شيء يعذر به فهو كافر كما كان الكفار كلهم تقوم عليهم الحجة بالقرآن مع قول الله : (( وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه )) وقوله (( إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون)) وإذا كان كلام الشيخ ليس في الشرك والردة بل في المسائل الجزئيات سواء كانت من الأصول أو الفروع، ومعلوم أنهم يذكرون في كتبهم في مسائل الصفات أو مسألة القرآن أو مسألة الاستواء أو غير ذلك مذهب السلف، ويذكرون أنه الذي أمر الله به ورسوله والذي درج عليه هو وأصحابه، ثم يذكرون مذهب الأشعري أو غيره، ويرجحونه ويسبون من خالفه. فلو قدرنا أنها لم تقم الحجة على غالبهم قامت على هذا المعين الذي يحكي مذهب الأشعري ومن معه فكلام الشيخ في هذا النوع يقول : إن السلف كفروا النوع،(48/130)
وأما المعين فإن عرف الحق وخالف كفر بعينه وإلا لم يكفروا. وأنا أذكر لك من كلامه ما يصدق هذا لعلك تنتفع إن هداك الله وتقوم عليك الحجة قياماً بعد قيام، وإلا فقد قامت عليك وعلى غيرك قبل هذا. وقال رحمه الله في ( اقتضاء الصراط المستقيم ) في الكلام على قوله (( وما أهل لغير الله به )) ظاهره أنه ما ذبح لغير الله حرم سواء لفظ به أو لم يلفظ وهذا أظهر من تحريم ما ذبح للحم وقال فيه باسم المسيح ونحوه، فإن عبادة الله والنسك له أعظم من الاستعانة باسمه في فواتح الأمور، فكذلك الشرك بالنسك لغيره أعظم من الاستعانة باسمه، وعلى هذا لو ذبح لغير الله متقرباً إليه وإن قال فيه بسم الله كما قد يفعله طائفة من منافقي هذه الأمة، وإن كان هؤلاء مرتدين لا تباح ذبيحتهم بحال لكن يجتمع في الذبيحة مانعان، ومن هذا الباب ما قد يفعله الجاهلون بمكة وغيرها من الذبح للجن انتهى كلامه بحروفه، فانظر كلامه لمن ذبح لغير الله وسمى الله عليه عند الذبح أنه مرتد تحرم ذبيحته ولو ذبحها للأكل، لكن هذه الذبيحة تحرم من جهتين : من جهة أنها مما أهل به لغير الله، وتحرم أيضا لأنها ذبيحة مرتد يوضح ذلك ما ذكرته أن المنافقين إذا أظهروا نفاقهم صاروا مرتدين فأين هذا من نسبتك عنه أنه لا يكفر أحد بعينه، وقال أيضا في أثناء كلامه على المتكلمين ومن شاكلهم لما ذكر عن أئمتهم شيئا من أنواع الردة والكفر.(48/131)
وقال رحمة الله وهذا إذا كان في المقالات الخفية فقد يقال إنه فيها مخطئ ضال لم تقم عليه الحجة التي يكفر صاحبها لكن ذلك يقع في طوائف منهم في الأمور الظاهرة التي يعلم المشركون واليهود والنصارى أن محمداً صلى الله عليه وسلم بعث بها وكفر من خالفها مثل أمره بعبادة الله وحده لا شريك له، ونهيه عن عبادة أحد سواه من النبيين والملائكة وغيرهم، فإن هذا أظهر شرائع الإسلام ثم تجد كثيرا من رؤوسهم وقعوا في هذه الأنواع فكانوا مرتدين، وكثير منهم تارة يرتد عن الإسلام ردة صريحة وتارة يعود إليه مع مرض في قلبه ونفاق والحكاية عنهم في ذلك مشهورة.(48/132)
وقد ذكر ابن قتيبة من ذلك طرفا في أول ( مختلف الحديث )، وأبلغ من ذلك أن منهم من صنف في الردة كما صنف الفخر الرازي في عبادة الكواكب، وهذه ردة عن الإسلام باتفاق المسلمين هذا لفظه بحروفه. فانظر كلامه في التفرقة بين المقالات الخفية، وبين ما نحن فيه في كفر المعين وتأمل تكفيره رؤوسهم فلانا وفلانا بأعيانهم وردتهم ردة صريحة، وتأمل تصريحه بحكاية الإجماع على ردة الفخر الرازي عن الإسلام مع كونه عند علمائكم من الأئمة الأربعة هل يناسب هذا لما فهمت من كلامه أن المعين لا يكفر ؟ ولو دعا عبد القادر في الرخاء والشدة ولو أحب عبد الله بن عون وزعم أن دينه حسن مع عبادته أبي حديدة ولو أبغضك واستنجسك مع أنك أقرب الناس إليه لما رآك ملتفتا بعض الالتفات إلى التوحيد، مع كونك توافقهم على شيء من شركهم وكفرهم. وقال الشيخ أيضا : في رده على بعض المتكلمين وأشباههم : والقوم وإن كان لهم ذكاء وفطنة وفيهم زهد وأخلاق فهذا لا يوجب السعادة إلا بالإيمان بالله وحده وإنما قوة الذكاء بمنزلة قوة البدن، وأهل الرأي والعلم بمنزلة الملك والإمارة فكل منهم لا ينفعه ذلك إلا أن يعبد الله وحده لا شريك له، ويتخذه إلها دون ما سواه وهو معنى قول لا إله إلا الله، وهذا ليس في حكمتهم ليس فيها إلا أمر بعبادة الله وحده، والنهي عن عبادة المخلوقات، بل كل شرك في العالم إنما حدث بزي جنسهم فهم الآمرون بالشرك الفاعلون له، ومن لم يأمر منهم بالشرك فلم ينه عنه بل يقر هؤلاء وهؤلاء ـ وإن رجح الموحدين ترجيحا ما فقد يرجح غيره المشركين وقد يعرض عن الأمرين جميعا، فتدبر هذا فإنه نافع جدا، وكذلك الذين كانوا في ملة الإسلام لا ينهون عن الشرك ويوجبون التوحيد فإنما توحيدهم بالقول لا بالعبادة والعمل، والتوحيد الذي جاءت به الرسل لابد فيه من التوحيد بإخلاص الدين كله لله وعبادته وحده لا شريك له وهذا شيء لا يعرفونه، والتوحيد الذي يدعونه إنما هو تعطيل حقائق(48/133)
الأسماء والصفات فلو كانوا موحدين بالكلام وهو أن يصفوا الله بما وصفته به رسله لكان معهم التوحيد دون العمل وذلك لا يكفيء في النجاة، بل لابد أن يعبد الله وحده ويتخذه إلها دون ما سواه، وهو معنى قوله : لا إله إلا الله فكيف وهم في القول معطلون جاحدون ولا مخلصون انتهى. فتأمل كلامه واعرضه على ماغرك به الشيطان من الفهم الفاسد الذي كذبت به الله ورسوله، وإجماع الأمة، وتحيزت به إلى عبادة الطواغيت فإن فهمت هذا وإلا أشير عليك أنك تكثر من التضرع والدعاء إلى من الهداية بيده فإن الخطر عظيم فإن الخلود في النار جزاء الردة الصريحة ما يسوى بضيعة تربح تومانا أو نصف تومان وعندنا ناس يجيئون بعيالهم بلا مال ولا جاعوا ولا شحذوا وقد قال الله في هذه المسألة : (( يا عبادي الذين آمنوا إن أرضي واسعة فإياي فاعبدون، وكأين من دابة لا تحمل رزقها الله يرزقها وإياكم وهو السميع العليم والله أعلم.
الرسالة الرابعة والثلاثون
(ص225)
ومنها رسالة كتبها الشيخ رحمه الله إلى سليمان بن سحيم صاحب تلك الرسالة التي شنع بها على الشيخ المتقدمة قبل ذلك وجوابها، وكان الشيخ رحمه الله قد أرسل له وتلطف له قبل ذلك فلما تبين للشيخ أنه معاند للحق والإيمان ومن أعوان أهل الشرك والطغيان كتب له هذه الرسالة وهذا نص الرسالة :
بسم الله الرحمن الرحيم(48/134)
الذي يعلم به سليمان بن سحيم أنك زعجت قرطاسة فيها عجائب، فإن كان هذا قدر فهمك فهذا من أفسد الأفهام، وإن كنت تلبس به على الجهال فما أنت برابح وقبل الجواب نذكر لك أنك أنت وأباك مصرحون بالكفر والشرك والنفاق، ولكن صائر لكم عند جماعة في معكال قصاصيب وأشباههم يعتقدون أنكم علماء، ونداريكم ودنا أن الله يهديكم ويهديهم وأنت إلى الآن أنت وأبوك لا تفهمون شهادة أن لا إله إلا الله أنا أشهد بهذا شهادة يسألني الله عنها يوم القيامة أنك لا تعرفها إلى الآن ولا أبوك، ونكشف لك هذا كشفا بينا لعلك تتوب إلى الله وتدخل في دين الإسلام إن هداك الله، وإلا تبين لكل من يؤمن بالله واليوم الآخر حالكما، والصلاة وراءكما وقبول شهادتكما وخطكما، ووجوب عداوتكما كما قال تعالى ( لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله وأكشف عن ذلك بوجوه :
الأول : أنكم تقرون أن الذي يأتيكم من عندنا هو الحق وأنت تشهد به ليلا ونهارا، وإن جحدت هذا شهد عليك الرجال والنساء ثم مع هذه الشهادة أن هذا دين الله وأنت وأبوك مجتهدان في عداوة هذا الدين ليلا ونهارا ومن أطاعكما، وتبهتون وترمون المؤمنين بالبهتان العظيم، وتصورون على الناس الأكاذيب الكبار فكيف تشهد أن هذا دين الله ثم تتبين في عداوة من تبعه ؟
( الوجه الثاني) : أنك تقول إني أعرف التوحيد وتقر أن من جعل الصالحين وسائط فهو كافر والناس يشهدون عليك أنك تروح للمولد وتقرأه لهم وتحضرهم وهم ينخون ويندبون مشايخهم ويطلبون منهم الغوث والمدد وتأكل اللقم من الطعام المعد لذلك، فإذا كنت تعرف أن هذا كفر فكيف تروح لهم وتعاونهم عليه وتحضر كفرهم ؟(48/135)
( الوجه الثالث ) : أن تعليقهم التمائم من الشرك بنص رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد ذكر تعليق التمائم صاحب (الإقناع) في أول الجنائز وأنت تكتب الحجب وتأخذ عليها شرطاً حتى إنك كتبت لامرأة حجابا لعلها تحبل وشرطت لك أحمرين وطالبتها تريد الأحمرين فكيف تقول إني أعرف التوحيد وأنت تفعل هذه الأفاعيل ؟ وإن أنكرت فالناس يشهدون عليك بهذا.
(الوجه الرابع) : أنك تكتب في حجبك طلاسم، وقد ذكر (في الإقناع) أنها من السحر، والسحر يكفر صاحبه فكيف تفهم التوحيد وأنت تكتب الطلاسم ؟ وإن جحدت فهذا خط يدك موجود.
(الوجه الخامس) : أن الناس فيما مضى عبدوا الطواغيت عبادة ملأت الأرض بهذا الذي تقر أنه من الشرك ينخونهم ويندبونهم ويجعلونها وسائط وأنت وأبوك تقولان نعرف هذا لكن ما سألونا فإذا كنتم تعرفونه كيف يحل لكم أن تتركا الناس يكفرون ما تنصحانهم ولو لم يسألوكم ؟
(الوجه السادس) : أنا لما أنكرنا عبادة غير الله بالغتم في عداوة هذا الأمر وإنكاره، وزعمتم أنه مذهب خامس وأنه باطل وإن أنكرتما فالناس يشهدون بذلك وأنتم مجاهرون به فكيف تقولون هذا كفر ؟ ولكن ما سألونا عنه، فإذا قام من يبين للناس التوحيد قلتم إنه غير الدين وآت بمذهب خامس، فإذا كنت تعرف التوحيد وتقر أن كلامي هذا حق فكيف تجعله تغييراً لدين الله وتشكونا عند أهل الحرمين، والأمور التي تدل على أنك أنت وأباك لا تعرفان شهادة أن لا إله إلا الله لا تحصر، لكن ذكرنا الأمور التي لا تقدر تنكرها وليتك تفعل المنافقين الذين قال الله فيهم : (( إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار)) لأنهم يخفون نفاقهم وأنت وأبوك تظهران للخاص والعام.
وأما الدليل على أنك رجل معاند ضال على علم مختار الكفر على الإسلام فمن وجوه :(48/136)
(الأول) : أني كتبت ورقة لابن صالح من سنتين فيها تكفير الطواغيت شمسان وأمثاله، وذكرت فيها كلام الله ورسوله وبينت الأدلة فلما جاءتك نسختها بيدك لموسى بن سليم ثم سجلت عليها وقلت ما ينكر هذا إلا أعمى القلب، وقرأها موسى في البلدان وفي منفوحة وفي الدرعية وعندنا، ثم راح بها للقبلة فإذا كنت من أول موافقا لنا على كفرهم وتقول ما ينكر هذا إلا من أعمى الله بصيرته فالعلم الذي جاءك بعد هذا يبين لك أنهم ليسوا بكفار بينه لنا.
(الوجه الثاني) : أني أرسلت لك رسالة الشيخ تقي الدين التي يذكر فيها أن من دعا نبيا أو صحابيا أو وليا مثل : أن يقول يا سيدي فلان أنصرني وأغثني أنه كافر بالإجماع فلما أتتك استحسنتها وشهدت أنها حق وأنت تشهد به الآن فما الموجب لهذه العداوة.
(الوجه الثالث) : أنه إذا أتاك أحد من أهل المعرفة أقررت أن هذا دين الله وأنه الحق وقلته على رؤوس الأشهاد، وإذا خلوت مع شياطينك وقصاصيبك فلك كلام آخر.
(الوجه الرابع) : أن عبد الرحمن الشنيفي ومن معه لما أتوك وذاكروك أقررت بحضرة شياطينك أن هذا هو الحق وشهدت أن الطواغيت كفار وتبرأت من طالب الحمضي، وعبد الكريم، وموسى بن نوح فأي شيء بان لك بأن هذا باطل وأن الذي تبرأت منهم وعاديتهم أنهم على حق ؟
(الوجه الخامس): أنك لما خرجت من عند الشيوخ وأتيت عند الشنيقي جحدت الكلام الذي قلت في المجلس، فإن كان الكلام حقا فلأي شيء تجحده وأنت وأبوك مقران أنكما لا تعرفان كلام الله ورسوله لكن تقولان نعرف كلام صاحب (الإقناع) وأمثاله؟ وأنا أذكر لك كلام صاحب (الإقناع) أنه مكفرك ومكفر أباك في غير موضع من كتابه:
الأول : أنه ذكر في أول سطر من أحكام المرتد أن الهازل بالدين
يكفر وهذا مشهور عنك، وعن ابن أحمد بن نوح الاستهزاء بكلام الله ورسوله وهذا كتابكم كفركم.(48/137)
الثاني : أنه ذكر في أوله أن المبغض لما جاء به الرسول كافر بالإجماع ولو عمل به، وأنت مقر أن هذا الذي أقول في التوحيد أمر الله ورسوله، والنساء والرجال يشهدون عليكم أنكم مبغضون لهذا الدين مجتهدون في تنفير الناس عنه، والكذب والبهتان على أهله فهذا كتابكم كفركم.
الثالث : أنه ذكر من أنواع الردة إسقاط حرمة القرآن، وأنتم كذلك تستهزئون بمن يعمل به وتزعمون أنهم جهال وأنكم علماء.
الرابع : أنه ذكر أن من ادعى في علي بن أبي طالب ألوهية أنه كافر، ومن شك في كفره فهو كافر وهذه مسألتك التي جادلت بها في مجلس الشيوخ وقد صرح في (الإقناع) بأن من شك في كفرهم فهو كافر فكيف بمن جادل عنهم وادعى أنهم مسلمون، وجعلنا كفارا لما أنكرنا عليهم ؟
الخامس أنه ذكر أن السحر يكفر بتعلمه وتعليمه والطلاسم من جملة السحر، فهذه ستة مواضع في (الإقناع) في باب واحد أن من فعلها فقد كفر، وهي دينك ودين أبيك، فإما أن تبرؤوا من دينكم هذا، وإلا فأجيبوا عن كلام صاحب الإقناع وكلامنا هذا لغيرك الذين عليهم الشرهة مثل الشيوخ أو من يصلي وراءك كادوا أن الله يهديهم ويعزلونك أنت وأبوك عن الصلاة بالناس لئلا تفسد عليهم دينهم وإلا فأنا أظنك لا تقبل ولا يزيدك هذا الكلام إلا جهالة وكفراً. وأما الكلام الذي لبست به على الناس فأنا أبينه إن شاء الله كلمة وذلك أن جملة المسائل التي ذكرت أربعا :
الأولى : النذر لغير الله تقول إنه حرام ليس بشرك.
الثانية : أن من جعل بينه وبين الله وسائط كفر. أما الوسائط بأنفسهم فلا يكفرون
الثالثة : عبارة العلماء أن المسلم لا يجوز تكفيره بالذنوب
الرابعة : التذكير ليلة الجمعة لا ينبغي الأمر بتركه هذه المسائل التي ذكرت(48/138)
فأما المسألة الأولى : فدليلك قولهم إن النذر لغير الله حرام بالإجماع فاستدللت بقولهم حرام على أنه ليس بشرك، فإن كان هذا قدر عقلك فكيف تدعي المعرفة ؟ ياويلك ما تصنع بقول الله تعالى : ( قل تعالوا أتل ماحرم ربكم عليكم أن لا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا ) فهذا يدل على أن الشرك حرام ليس بكفر ياهذا الجاهل الجهل المركب ما تصنع بقول الله تعالى : ( قل إنما حرم ربى الفواحش ما ظهر منها وما بطن )إلى قوله : (وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا ) هل يدل هذا التحريم على أنه لا يكفر صاحبه ؟ يا ويلك في أي كتاب وجدته إذا قيل لك هذا حرام إنه ليس بكفر، فقولك إن ظاهر كلامهم أنه ليس بكفر كذب وافتراء على أهل العلم بل يقال ذكر أنه حرام، وأما كونه كفر فيحتاج إلى دليل آخر والدليل عليه أنه صرح في (الإقناع) أن النذر عبادة ومعلوم أن لا إله إلا الله معناها لا يعبد إلا الله. فإذا كان النذر عبادة وجعلتها لغيره كيف لا يكون شركا ؟
وأيضا مسألة الوسائط تدل على ذلك والناس يشهدون أن هؤلاء الناذرين يجعلونهم وسائط وهم مقرون بذلك.
وأما استدلالك بقوله : من قال أنذروا لي وأنه إذا رضي وسكت لا يكفر فبأي دليل ؟ غاية ما يقال إنه سكت عن الآخذ الراضي وعلم من دليل آخر، والدليل الآخر أن الرضى بالكفر كفر صرح به العلماء وموالاة الكفار كفر، وغير ذلك هذا إذا قدر أنهم لا يقولونه فكيف وأنت وغيرك تشهد عليهم أنهم يقولون ويبالغون فيه ؟ ويقصون على الناس الحكايات التي ترسخ الشرك في قلوبهم، ويبغض إليهم التوحيد ويكفرون أهل العارض لما قالوا لا يعبد إلا الله. وأما قولك ما رأينا للترشيح معنى في كلام العلماء فمن أنت حتى تعرف كلام العلماء ؟.(48/139)
وأما الثانية : وهي أن الذي يجعل الوسائط هو الكافر، وأما المجعول فلا يكفر فهذا كلام تلبيس وجهالة، ومن قال إن عيسى وعزيراً وعلي بن أبي طالب وزيد بن الخطاب وغيرهم من الصالحين يلحقهم نقص بجعل المشركين إياهم وسائط حاشا وكلا (( ولاتزر وازرة وزر أخرى )) وإنما كفرنا هؤلاء الطواغيت أهل الخرج وغيرهم بالأمور التي يفعلونها هم منها أنهم يجعلون آباءهم وأجدادهم وسائط، ومنها أنهم يدعون الناس إلى الكفر، ومنها أنهم يبغضون عند الناس دين محمد صلى الله عليه وسلم، ويزعمون أن أهل العارض كفروا لما قالوا لا يعبد إلا الله وغير ذلك من أنواع الكفر وهذا أمر أوضح من الشمس لا يحتاج إلى تقرير، ولكن أنت رجل جاهل مشرك مبغض لدين الله، وتلبس على الجهال الذين يكرهون دين الإسلام ويحبون الشرك ودين آباؤهم، وإلا فهؤلاء الجهال لو أن مرادهم اتباع الحق عرفوا أن كلامك من أفسد ما يكون.
وأما المسألة الثالثة : وهي من أكبر تلبيسك الذي تلبس به على العوام أن أهل العلم قالوا : لا يجوز تكفير المسلم بالذنب وهذا حق ولكن ليس هذا ما نحن فيه، وذلك أن الخوارج يكفرون من زنى أو سرق أو سفك الدم بل كل كبيرة إذا فعلها المسلم كفر.(48/140)
وأما أهل السنة فمذهبهم : أن المسلم لا يكفر إلا بالشرك، ونحن ما كفرنا الطواغيت وأتباعهم إلا بالشرك وأنت رجل من أجهل الناس تظن أن من صلى وادعى أنه مسلم لا يكفر، فإذا كنت تعتقد ذلك فما تقول في المنافقين الذين يصلون ويصومون ويجاهدون قال الله تعالى فيهم ( إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار) وما تقول في الخوارج الذين قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد أينما لقيتموهم فاقتلوهم ) أتظنهم ليسوا من أهل القبلة ؟ ما تقول في الذين اعتقدوا في علي بن أبي طالب رضي الله عنه مثل اعتقاد كثير من الناس في عبد القادر وغيره فأضرم لهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه مثل نارا فأحرقهم بها وأجمعت الصحابة على قتلهم، لكن ابن عباس أنكر تحريقهم بالنار، وقال يقتلون بالسيف أتظن هؤلاء ليسوا من أهل القبلة ؟ أم أنت تفهم الشرع وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يفهمونه ؟ أرأيت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قاتلوا من منع الزكاة، فلما أرادوا التوبة قال أبو بكر لا نقبل توبتكم حتى تشهدوا أن قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار أتظن أن أبا بكر وأصحابه لا يفهمون ؟ وأنت وأبوك الذين تفهمون يا ويلك أيها الجاهل الجهل المركب إذا كنت تعتقد هذا، وأن من أم القبلة لا يكفر فما معنى هذه المسائل العظيمة الكثيرة التي ذكرها العلماء في باب حكم المرتد التي كثير منها في أناس أهل زهد وعبادة عظيمة، ومنها طوائف ذكر العلماء أن من شك في كفرهم فهو كافر، ولو كان الأمر على زعمك لبطل كلام العلماء في حكم المرتد إلا مسألة واحدة وهي الذي يصرح بتكذيب الرسول وينتقل يهوديا أو نصرانيا أو مجوسيا ونحوهم هذا هو الكفر عندك يا ويلك ما تصنع بقوله صلى الله عليه وسلم : (( لا تقوم الساعة حتى تعبد فئام من أمتي الأوثان )) وكيف تقول هذا وأنت تقر أن من جعل الوسائط كفر ؟ فإذا كان أهل العلم في زمانهم حكموا على كثير من(48/141)
أهل زمانهم بالكفر والشرك أتظن أنكم صلحتم بعدهم يا ويلك ؟ وأما مسألة التذكير فكلامك فيها من أعجب العجاب أنت تقول بدعة حسنة والنبي صلى الله عليه وسلم يقول : (( كل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار )) ولم يستثن شيئا تشير علينا به فنصدقك أنت وأبوك لأنكم علماء ونكذب رسول الله، والعجب من نقلك الإجماع فتجمع مع الجهالة المركبة الكذب الصريح والبهتان فإذا كان في (الإقناع) في باب الأذان قد ذكر كراهيته في مواضع متعددة أتظن أنك أعلم من صاحب (الإقناع) أم تظنه مخالفاً للإجتماع ؟ وأيضا لما جاءك عبد الرحمن الشنيفي أقررت لهم أن التذكير بدعة مكروهة فمتى هذا العلم جاءك ؟ وأما قولك أمر الله بالصلاة على نبيه على الإطلاق فأيضا أمر الله بالسجود على الإطلاق في قوله (( اركعوا واسجدوا )) فيدل هذا على السجود للأصنام أو يدل على الصلاة في أوقات النهي فإن قلت ذاك قد نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم قلنا وكذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن البدع وذكر أن كل بدعة ضلالة ومعلوم أن هذا حادث من زمن طويل وأنكره أهل العلم منهم صاحب (الإقناع) وقد ذكر السيوطي في كتاب (الأوائل) أن أول ما حدث التذكير يوم الجمعة لتهيؤ الناس لصلاتها بعد السبعمائة في زمن الناصر بن قلاوون فأرنا كلام واحد من العلماء أرخص فيه وجعله بدعة حسنة فليس عندك إلا الجهل المركب والبهتان والكذب. وأما استدلالك بالأحاديث التي فيها إجماع الأمة والسواد الأعظم وقوله : (( من شذ شذ في النار)) و (( يد الله على الجماعة)) وأمثال هذا فهذا أيضا من أعظم ما تلبس به على الجهال، وليس هذا معنى الأحاديث بإجماع أهل العلم كلهم فإن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن الإسلام سيعود غريباً فكيف يأمرنا باتباع غالب الناس ؟ وكذلك الأحاديث الكثيرة منها قوله : (( ويأتي على الناس زمان لا يبقى من الإسلام إلا اسمه، ولا من القرآن إلا رسمه )) و أحاديث عظيمة كثيرة يبين صلى الله عليه وسلم(48/142)
أن الباطل يصير أكثر من الحق وأن الدين يصير غريباً، ولو لم يكن في ذلك إلا قوله صلى الله عليه وسلم : (( ستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة )) هل بعد هذا البيان بيان يا ويلك، كيف تأمر بعد هذا باتباع أكثر الناس ؟ ومعلوم أن أهل أرضنا وأرض الحجاز الذي ينكر البعث منهم أكثر ممن يقرّ به، وأن الذي يعرف الدين أقل ممن لا يعرفه، والذي يضيع الصلوات أكثر من الذي يحافظ عليها، والذي يمنع الزكاة أكثر ممن يؤديها، فإن كان الصواب عندكَ اتباع هؤلاء فبين لنا، وإن كان عنزة وآل ظفير وأشباههم من البوادي هو السواد الأعظم ولقيت في علمك وعلم أبيك أن اتباعهم حسن فاذكر لنا ونحن نذكر كلام أهل العلم في معنى تلك الأحاديث ليتبين للجهال الذين موهت عليهم.
قال ابن القيم رحمه الله في ( أعلام الموقعين ) : واعلم أن الإجماع والحجة والسواد الأعظم هو العالم صاحب الحق وإن كان وحده وإن خالفه أهل الأرض. وقال عمرو بن ميمون سمعت ابن مسعود يقول : (( سيلي عليكم ولاة يؤخرون الصلاة عن وقتها فصل الصلاة وحدك) وهي الفريضة ((ثم صل معهم لك نافلة )). قلت : يا أصحاب محمد، ما أدري ما تحدثون، قال : وما ذاك ؟ قلت : تأمرني بالجماعة ثم تقول صلّ الصلاة وحدك !. قال : يا عمرو بن ميمون، لقد كنت أظنك من أفقه أهل هذه القرية، أتدري ما الجماعة ؟ قلت : لا، قال : جمهور الجماعة هم الذين فارقوا الجماعة والجماعة ما وافق الحق وإن كنت وحدك.(48/143)
وقال نعيم بن حماد : إذا فسدت الجماعة فعليك بما كان عليه الجماعة قبل أن تفسد الجماعة، وإن كنت وحدك فإنك أنت الجماعة حينئذ، وقال بعض الأئمة وقد ذكر له السواد الأعظم أتدري ما السواد الأعظم هو محمد بن أسلم الطوسي وأصحابه الذين جعلوا السواد الأعظم والحجة والجمهور والجماعة فجعلوهم عياراً على السنة وجعلوا السنة بدعة، وجعلوا المعروف منكراً لقلة أهله وتفردهم في الأعصار والأمصار وقالوا : (( من شذ شذ في النار )) وعرف المتخلفون أن الشاذ ما خالف الحق وإن كان عليه الناس كلهم إلا واحداً فهم الشاذون، وقد شذ الناس كلهم في زمن أحمد بن حنبل إلا نفراً يسيراً فكانوا هم الجماعة، وكانت القضاة يومئذ والمفتون والخليفة وأتباعهم كلهم هم الشاذون، وكان الإمام أحمد وحده هو الجماعة، ولما لم تحمل ذلك عقول الناس قالوا للخليفة يا أمير المؤمنين أتكون أنت وقضاتك وولاتك والفقهاء والمفتون على الباطل، وأحمد وحده على الحق فلم يتسع علمه لذلك فأخذه بالسياط والعقوبة بعد الحبس الطويل فلا إله إلا الله ما أشبه الليلة بالبارحة انتهى كلام ابن القيم يا سلامه ولد أم سلامة. هذا كلام الصحابة في تفسير السواد الأعظم، وكلام التابعين، وكلام السلف وكلام المتأخرين حتى ابن مسعود ذكر في زمانه أن أكثر الناس فارقوا الجماعة، وأبلغ من هذه الأحاديث المذكورة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من غربة الإسلام وتفرق هذه الأمة أكثر من سبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة فإن كنت وجدت في علمك وعلم أبيك ما يرد على رسول الله صلى الله عليه وسلم والعلماء، وإن عنزة وآل ظفير والبوادي يجب علينا اتباعهم فأخبرونا. كتبه محمد بن عبد الوهاب وصلى الله على محمد وآله وسلم )).
الرسالة الخامسة والثلاثون
(ص 239 )
ومنها رسالة أرسلها إلى مطاوعة أهل الدرعية وهو إذ ذاك في بلد العيينة قال فيها :
بسم الله الرحمن الرحيم(48/144)
من محمد بن عبد الوهاب إلى عبد الله بن عيسى وابنه عبد الوهاب وعبد الله بن عبد الرحمن حفظهم الله تعالى، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد : فقد ذكر لي أحمد أنه مشكل عليكم الفتيا بكفر هؤلاء الطواغيت، مثل أولاد شمسان وأولاد إدريس والذين يعبدونهم مثل طالب وأمثاله. فيقال : أولا دين الله تعالى ليس لي دونكم فإذا أفتيت أو عملت بشئ وعلمتم أني مخطئ وجب عليكم تبين الحق لأخيكم المسلم، وإن لم تعلموا وكانت المسألة من الواجبات مثل التوحيد فالواجب عليكم أن تطلبوا وتحرصوا حتى تفهموا حكم الله ورسوله في تلك المسألة، وما ذكر أهل العلم قبلكم فإذا تبين حكم الله ورسوله بياناً كالشمس فلا ينبغي لرجل يؤمن بالله واليوم الآخر أن يرده لكونه مخالفاً لهواه أو لما عليه أهل وقته ومشايخه فإن الكفر كما قال ابن القيم في نونيته :
فالكفر ليس سوى العناد ورد ما جاء الرسول به لقول فلان
فانظر لعلك هكذا دون التي قد قالها فتبوء بالخسران(48/145)
ومتى لم تتبين لكم المسألة لم يحل لكم الإنكار على من أفتى أو عمل حتى يتبين لكم خطؤه بل الواجب السكوت والتوقف، فإذا تحققتم الخطأ بينتموه ولم تهدروا جميع المحاسن لأجل مسألة أو مائة أو مائتين أخطأت فيهن فإني لا أدعي العصمة وأنتم تقرون أن الكلام الذي بينته في معنى لا إله إلا الله هو الحق الذي لا ريب فيه، سبحان الله إذا كنتم تقرون بهذا فرجل بين الله به دين الإسلام، وأنتم ومشايخكم ومشايخهم لم يفهموه ولم يميزوا بين دين محمد صلى الله عليه وسلم ودين عمرو بن لحى الذي وضعه للعرب بل دين عمرو عندهم دين صحيح ويسمونه رقة القلب والاعتقاد في الأولياء، ومن لم يفعل فهو متوقف لا يدري ما هذا ولا يفرق بينه وبين دين محمد صلى الله عليه وسلم، فالرجل الذي هداكم الله به لهذا إن كنتم صادقين لو يكون أحب إليكم من أموالكم وأولادكم لم يكن كثيراً فكيف يقال أفتى في مسألة الوقف ؟ أفتى في كذا أفتي في كذا كلها ولله الحمد على الحق إلا أنها مخالفة لعادة الزمان ودين الآباء، وأنا إلى الآن أطلب الدليل من كل من خالفني فإذا قيل له استدل أو اكتب أو اذكر حاد عن ذلك وتبين عجزه لكن يجتهدون الليل والنهار في صد الجهال عن سبيل الله ويبغونها عوجا اللهم إلا إن كنتم تعتقدون أن كلامي باطل وبدعة مثل ما قال غيركم، وأن الاعتقاد في الزاهد وشمسان والمطيوية والاعتماد عليهم هو الدين الصحيح وكل ما خالفه بدعة وضلالة فتلك مسألة أخرى ـ إذا ثبت هذا فتكفير هؤلاء المرتدين انظروا في كتاب الله من أوله إلى آخره والمرجع في ذلك إلى ما قاله المفسرون والأئمة، فإن جادل منافق بكون الآية نزلت في الكفار فقولوا له هل قال أحد من أهل العلم أولهم وآخرهم إن هذه الآيات لا تعم من عمل بها من المسلمين من قال هذا قبلك ؟ وأيضاً فقولوا له هذا رد على إجماع الأمة فإن استدلالهم بالآيات النازلة في الكفار على من عمل بها ممن انتسب إلى الإسلام أكثر من أن تذكر، وهذا أيضاً(48/146)
كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم فيمن فعل مثل هذه الأفاعيل مثل الخوارج العباد الزهاد الذين يحقر الإنسان الصحابة عندهم وهم بالإجماع لم يفعلوا ما فعلوا إلا باجتهاد وتقرب إلى الله وهذه سيرة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيمن خالف الدين ممن له عبادة واجتهاد مثل تحريق علي رضي الله عنه من اعتقد فيه بالنار، وأجمع الصحابة على قتلهم وتحريقهم إلا ابن عباس رضي الله عنهما خالفهم في التحريق فقال : يقتلون بالسيف، وهؤلاء الفقهاء من أولهم إلى آخرهم عقدوا باب حكم المرتد للمسلم إذا فعل كذا وكذا، ومصداق ذلك في هذه الكتب الذي يقول المخالف جمعوا فيها الثمر وهم أعلم منا.... وهم..... انظروا افي متن (الإقناع) في باب حكم المرتد هل صرح أن من جعل بينه وبين الله وسائط يدعوهم أنه كافر بإجماع الأمة، وذكر فيمن اعتقد في علي بن أبي طالب دون ما يعتقد طالب في حسين وإدريس أنه لا شك في كفره بل لا يشك في كفر من شك في كفره، وأنا ألزم عليكم أنكم تحققون النظر في عبارات (الإقناع) وتقرءونها قراءة تفهم وتعرفون ما ذكر في هذا، وما ذكر في التشنيع علي من الأصدقاء عرفتم شيئاً من مذاهب الآباء وفتنة الأهواء ـ إذا تحققتم ذلك وطالعتم الشروح والحواشي، فإذا إني لم أفهمه وله معنى آخر فأرشدوني وعسى الله أن يهدينا وإياكم إخواننا لما يحب ويرضى ولا يدخل خواطركم غلظة هذا الكلام، فالله سبحانه يعلم قصدي به والسلام )).
الرسالة السادسة والثلاثون
(ص 243 )
وله أيضاً أسكنه الله الفردوس الأعلى.
بسم الله الرحمن الرحيم
إلى الأخوان سلام عليكم ورحمة الله وبركاته ؛ وبعد :(48/147)
ما ذكرتم من قول الشيخ كل من جحد كذا وكذا وقامت عليه الحجة وأنكم شاكون في هؤلاء الطواغيت وأتباعهم هل قامت عليهم الحجة فهذا من العجب كيف تشكون في هذا وقد أوضحته لكم مراراً، فإن الذي لم تقم عليه الحجة هو الذي حديث عهد بالإسلام والذي نشأ ببادية بعيدة، أو يكون ذلك في مسألة خفية مثل الصرف والعطف فلا يكفر حتى يعرف ؛ وأما أصول الدين التي أوضحها الله وأحكمها في كتابه فإن حجة الله هو القرآن فمن بلغه القرآن فقد بلغته الحجة، ولكن أصل الإشكال أنكم لم تفرقوا بين قيام الحجة وبين فهم الحجة فإن أكثر الكفار والمنافقين من المسلمين لم يفهموا حجة الله مع قيامها عليهم كما قال تعالى : (( أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا)) وقيام الحجة نوع، وبلغوها نوع وقد قامت عليهم وفهمهم إياها نوع آخر وكفرهم ببلوغها إياهم وإن لم يفهموها. إن أشكل عليكم ذلك فانظروا قوله : صلى الله عليه وسلم في الخوارج (( أينما لقيتموهم فاقتلوهم )) وقوله : (( شر قتلى تحت أديم السماء )) مع كونهم في عصر الصحابة ويحقر الإنسان عمل الصحابة معهم ومع إجماع الناس أن الذي أخرجهم من الدين هو التشدد والغلو والاجتهاد وهم يظنون أنهم يطيعون الله وقد بلغتهم الحجة ولكن لم يفهموها، وكذلك قتل علي رضي الله عنه الذين اعتقدوا فيه وتحريقهم بالنار، مع كونهم تلاميذ الصحابة مع مبادئهم وصلاتهم وصيامهم وهم يظنون أنهم على حق، وكذلك إجماع السلف على تكفير غلاة القدرية وغيرهم مع علمهم وشدة عبادتهم وكونهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً ولم يتوقف أحد من السلف في تكفيرهم لأجل كونهم لم يفهموا. إذا علمتم ذلك فإن هذا الذي أنتم فيه كفر، الناس يعبدون الطواغيت ويعادون دين الإسلام فيزعمون أنه ليس ردة لعلهم ما فهموا الحجة، كل هذا بين، وأظهر مما تقدم الذين حرقهم علي فإنه يشابه هذا، وأما إرسال كلام الشافعية وغيرهم فلا يتصور يأتيكم أكثر مما(48/148)
أتاكم فإن كان معكم بعض الإشكال فارغبوا إلى الله تعالى أن يزيله عنكم والسلام....
القسم الخامس
توجيهات عامة للمسلمين في الاعتقاد
والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر
الرسالة السابعة والثلاثون
(ص249)
بسم الله الرحمن الرحيم
من محمد بن عبد الوهاب إلى عبد الله بن محمد بن عبد اللطيف حفظه الله تعالى سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أما بعد :
فقد وصل إلينا من ناحيتكم مكاتيب فيها إنكار وتغليظ علي ولما قيل إنك كتبت معهم وقع في الخاطر بعض الشيء لأن الله سبحانه نشر لك من الذكر الجميل وأنزل في قلوب عباده لك من المحبة ما لم يؤته كثيرا من الناس لما يذكر عنك من مخالفة من قبلك من حكام السوء، وأيضا لما أعلم منك من محبة الله ورسوله وحسن الفهم واتباع الحق ولو خالفك فيه كبار أئمتكم لأني اجتمعت بك من نحو عشرين وتذاكرت أنا وإياك في شيء من التفسير والحديث وأخرجت لي كراريس من البخاري كتبتها ونقلت على هوامشها من الشروح وقلت في مسألة الإيمان التي ذكر البخاري في أول الصحيح، هذا هو الحق الذي أدين الله به فأعجبني هذا الكلام لأنه خلاف مذهب أئمتكم المتكلمين وذاكرتني أيضا في بعض المسائل فكنت أحكي لمن يتعلم مني ما منّ الله به عليك من حسن الفهم ومحبة الله والدار الآخرة فلأجل هذا لم أظن فيك المسارعة في هذا الأمر لأن الذين قاموا فيه مخطئون على كل تقدير، لأن الحق إن كان مع خصمهم فواضح وإن كان معهم فينبغي للداعي إلى الله أن يدعو بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم، وقد أمر الله رسوليه موسى وهارون أن يقولا لفرعون قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى وينبغي للقاضي أعزه الله بطاعته لما ابتلاه الله بهذا المنصب أن يتأدب بالآداب التي ذكرها الله في كتابه الذي أنزل ليبين للناس ما اختلفوا فيه وهدى ورحمة لقوم يوقنون فمن ذلك لا يستخفنه الذين لا يوقنون، ويثبت عند سعايات الفساق والمنافقين ولا يعجل، وقد وصف الله المنافقين في كتابه بأوصافهم،(48/149)
وذكر شعب النفاق لتجتنب ويجتنب أهلها أيضا. فوصفهم بالفصاحة والبيان وحسن اللسان بل وحسن الصورة في قوله : (( وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم ))، ووصفهم بالمكر والكذب والاستهزاء بالمؤمنين في أول البقرة، ووصفهم بكلام ذي الوجهين ووصفهم بالدخول في المخاصمات بين الناس بما لا يحب الله ورسوله في قوله : (( يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر ))، ووصفهم باستحقار المؤمنين والرضا بأفعالهم، ووصفهم بغير هذا في البقرة وبراءة وسورة القتال وغير ذلك. كل ذلك نصيحة لعباده ليجتنبوا الأوصاف ومن تلبس بها، ونهى الله نبيه عن طاعتهم في غير موضع فكيف يجوز من مثلك أن يقبل مثل هؤلاء ؟ وأعظم من ذلك أن تعتقد أنهم من أهل العلم وتزورهم في بيوتهم وتعظمهم، وأنا لا أقول هذا في واحد بعينه، ولكن نصيحة وتعريف بما في كتاب الله من سياسة الدين والدنيا لأن أكثر الناس قد نبذه وراء ظهره. وأما ما ذكر لكم عني فإني لم آته بجهالة بل أقول ولله الحمد والمنة وبه القوة إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم دينا قيما ملة إبراهيم حنيفاً مسلماً وما كان من المشركين، ولست ولله الحمد أدعو إلى مذهب صوفي أو فقيه أو متكلم أو إمام من الأئمة الذين أعظمهم مثل ابن القيم والذهبي وابن كثير وغيرهم، بل أدعو إلى الله وحده لا شريك له وأدعو إلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي أوصى بها أول أمته وآخرهم وأرجو أني لا أرد الحق إذا أتاني، بل أشهد الله وملائكته وجميع خلقه إن أتانا منكم كلمة من الحق لأقبلنها على الرأس والعين، ولأضربن الجدار بكل ما خالفها من أقوال أئمتي حاشا رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه لا يقول إلا الحق وصفة الأمر غير خاف عليكم ما درج عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتابعون وأتباعهم والأئمة كالشافعي وأحمد وأمثالهما ممن أجمع أهل الحق على هدايتهم، وكذلك ما درج عليه من سبقت له من الله الحسنى من(48/150)
أتباعهم، وغير خاف عليكم ما أحدث الناس في دينهم من الحوادث، وما خالفوا فيه طريق سلفهم، ووجدت المتأخرين أكثرهم قد غير وبدل، وسادتهم وأئمتهم وأعلمهم وأعبدهم وأزهدهم مثل ابن القيم والحافظ الذهبي والحافظ العماد ابن كثير والحافظ ابن رجب قد اشتد نكيرهم على أهل عصرهم الذين هم خير من ابن حجر، وصاحب الإقناع بالإجماع، فإذا استدل عليهم زمانهم بكثرتهم وإطباق الناس على طريقتهم قالوا هذا من أكبر الأدلة على أنه باطل لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أخبر أن أمته تسلك مسالك اليهود والنصارى حذو القذة حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه، وقد ذكر الله في كتابه أنهم فرقوا دينهم وكانوا شيعاً وأنهم كتبوا الكتاب بأيديهم وقالوا هذا من عند الله وأنهم تركوا كتاب الله والعمل به، وأقبلوا على ما أحدثه أسلافهم من الكتب وأخبر أنه وصاهم بالإجتماع، وأنهم لم يختلفوا لخفاء الدين بل اختلفوا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم (( فتقطعوا أمرهم بينهم زبرا كل حزب بما لديهم فرحون )) والزبر الكتب، فإذا فهم المؤمن قول الصادق المصدوق (( لتبعن سنن من كان قبلكم )) وجعله قبلة تبين له أن هذه الآيات وأشباهها ليست على ما ظن الجاهلون أنها كانت في قوم كانوا فبانوا، بل يفهم ما ورد عن عمر رضى الله عنه أنه قال في هذه الآيات مضى القوم وما يعني به غيركم، وقد فرض الله على عباده في كل صلاة أن يسألوه الهداية إلى صراط المستقيم صراط الذين أنعم عليهم الذين هم غير المغضوب عليهم ولا الضالين. فمن عرف دين الإسلام وما وقع الناس فيه من التغيير له عرف مقدار هذا الدعاء وحكمة الله فيه.(48/151)
والحاصل أن صورة المسألة هل الواجب على كل مسلم أن يطلب علم ما أنزل الله على رسوله ولا يعذر أحد في تركه البتى ؟ أم يجب عليه أن يتبع (التحفة) مثلا. فأعلم المتأخرين وسادتهم منهم ابن القيم قد أنكروا هذا غاية الإنكار، وأنه تغيير لدين الله واستدلوا على ذلك بما يطول وصفه من كتاب الله الواضح، ومن كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم البين لمن نور الله قلبه، والذين يجيزون ذلك أو يوجبونه يدلون بشبه واهية لكن أكبر شبههم على الإطلاق أنا لسنا من أهل ذلك، ولا نقدر عليه ولا يقدر عليه إلا المجتهد، وإنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون، ولأهل العلم في إبطال هذه الشبهة ما يحتمل مجلدا ومن أوضحه قول الله تعالى : (( اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله )) وقد فسرها رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث عدى بهذا الذي أنتم عليه اليوم في الأصول والفروع لا أعلمهم يزيدون عليكم مثقال حبة خردل بل يبين مصداق قوله (( حذو القذة بالقذة )) إلى آخره، وكذلك فسرها المفسرون لا أعلم بينهم اختلافا، ومن أحسنه ما قاله أبو العالية : أما إنهم لم يعبدوهم ولو أمروهم بذلك ما أطاعوهم ؛ ولكنهم وجدوا كتاب الله فقالوا لا نسبق علماءنا بشيء، ما أمرونا به ائتمرنا وما نهونا عنه انتهينا، وهذه رسالة لا تحتمل إقامة الدليل ولا جواباً عما يدلي به المخالف لكن أعرض عليه من نفسي الإنصاف والانقياد للحق فإذن أردتم على الرد بعلم وعدل فعندكم كتاب (أعلام الموقعين) لابن القيم عند ابن فيروز في مشرفه فقد بسط الكلام فيه على هذا الأصل بسطا كثيرا، وسرد من شبه أئمتكم ما لا تعرفون أنتم ولا آباؤكم، وأجاب عنها واستدل لها بالدلائل الواضحة القاطعة، منها أمر الله ورسوله عن أمركم هذا بعينه وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وصفوة من قبل أن يقع وحذروا الناس منه، وأخبروا أنه لا يصير على الدين إلا الواحد بعد الواحد، وأن الإسلام يصير(48/152)
غريبا كما بدأ، وقد علمتم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سأله عمرو بن عبسة في أول الإسلام : من معك على هذا ؟ قال حر وعبد يعني أبا بكر وبلالا، فإذا كان الإسلام يعود كما بدأ فما أجهل من استدل بكثرة الناس وإطباقهم أشباه هذه الشبهة التي هي عظيمة عند أهلها حقيرة عند الله وعند أولي العلم من خلقه كما قال تعالى : (( بل قالوا مثل ما قال الأولون )) فلا أعلم لكم حجة تحتجون بها إلا وقد ذكر الله في كتابه أن الكفار استدلوا بها على تكذيب الرسل مثل إطباق الناس، وطاعة الكبراء وغير ذلك. فمن من الله عليه بمعرفة دين الإسلام الذي دعا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم عرف قدر هذه الآيات والحجج وحاجة الناس إليها، فإن زعمتم أن ذكر هؤلاء الأئمة لمن كان من أهله، فقد صرحوا بوجوبه على الأسود والأحمر والذكر والأنثى، وأن ما بعد الحق إلا الضلال، وأن قول من قال ذلك صعب مكيدة من الشيطان كاد بها الناس عن سلوك الصراط المستقيم الحنيفية ملة إبراهيم، وإن بان لكم أنهم مخطئون فبينوا لي الحق حتى أرجع إليه، وإنما كتبت لكم هذا معذرة من الله ودعوة إلى الله لأحصل ثواب الداعين إلى الله وإلا أنا أظن أنكم لا تقبلونه وأنه عندكم من أنكر المنكرات من أن الذي يعيب هذا عندكم مثل من يعيب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، لكن أنت من سبب ما أظن فيك من طاعة الله لا أبعد أن يهديك الله إلى الصراط المستقيم ويشرح قلبك للإسلام فإذا قرأته فإن أنكره قلبك فلا عجب فإن العجب ممن نجا كيف نجا فإن أصغى إليه قلبك بعض الشيء فعليك بكثرة التضرع إلى الله والإنطراح بين يديه خصوصا أوقات الإجابة كآخر الليل وأدبار الصلوات، وبعد الأذان وكذلك بالأدعية المأثورة خصوصا الذي ورد في الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول : (( اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون اهدني لما(48/153)
اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم )) فعليك بالإلحاح بهذا الدعاء بين يدي من يجيب المضطر إذا دعاه، وبالذي هدى إبراهيم لمخالفة الماس كلهم وقل يا معلم إبراهيم علمتني، وإن صعب عليك مخالفة الناس ففكر في قول الله تعالى : (( ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها، ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون إنهم لن يغنوا عنك من الله شيئا (( وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله )) وتأمل قوله في الصحيح (( بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ )) وقوله صلى الله عليه وسلم : (( إن الله لا يقبض العلم )) إلى آخره، وقوله : (( عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي )) وقوله : (( وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة )) والآيات والأحاديث في ذلك كثيرة أفردت بالتصنيف فإني أحبك، وقد دعوت لك في صلاتي وأتمنى من قبل هذه المكاتيب أن يهديك الله لدينه القيم، ولا يمنعني من مكاتبتك إلا ظني أنك لا تقبل وتسلك مسلك الأكثر، ولكن لا مانع لما أعطى الله والله لا يتعاظم شيئا أعطاه وما أحسنك تكون في آخر هذا الزمان فاروقا لدين الله كعمر رضي الله عنه في أوله فإنك لو تكون معنا لانتصفنا ممن أغلظ علينا. وأما هذا الخيال الشيطاني الذي اصطاد به الناس أن من سلك هذا المسلك فقد نسب نفسه للاجتهاد وترك الإقتداء بأهل العلم وزخرفه بأنواع الزخارف فليس هذا بكثير من الشيطان وزخارفه كما قال تعالى : (( يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا )) فإن الذي أنا عليه وأدعوكم إليه هو في الحقيقة الاقتداء بأهل العلم فإنهم قد وصوا الناس بذلك، ومن أشهرهم كلاما في ذلك إمامكم الشافعي قال : لابد أن تجدوا عني ما يخالف الحديث فكل ما خالفه فأشهدكم أني قد رجعت عنه، وأيضا أنا في مخالفتي هذا العالم لم أخالفه وحدي فإذا اختلفت أنا وشافعي مثلا في أبوال مأكول اللحم وقلت القول بنجاسته يخالف حديث العرنيين ويخالف حديث أنس أن(48/154)
النبي صلى الله عليه وسلم صلى في مرابض الغنم فقال هذا الجاهل الظالم أنت أعلم بالحديث من الشافعي ؟ قلت أنا لم أخالف الشافعي من غير إمام اتبعته بل اتبعت من هو مثل الشافعي أو أعلم منه قد خالفه واستدل بالأحاديث فإذا قال أنت أعلم من الشافعي قل أنت أعلم من مالك وأحمد فقد عارضته بمثل ما عارضني به وسلم الدليل من المعارض، واتبعت قول الله تعالى : (( فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول )) واتبعت من اتبع الدليل في هذه المسألة من أهل العلم لم أستدل بالقرآن أو الحديث وحدي حتى يتوجه علي ما قيل وهذا على التنزل وإلا فمعلوم أن اتباعكم لابن حجر في الحقيقة ولا تعبئون بمن خالفه من رسول أو صاحب أو تابع حتى الشافعي نفسه ولا تعبئون بكلامه إذا خالف نص ابن حجر وكذلك غيركم إنما اتباعهم لبعض المتأخرين لا للأئمة فهؤلاء الحنابلة من أقل الناس بدعة، وأكثر (الإقناع) و(المنتهى) مخالف لمذهب أحمد ونصه يعرف ذلك من عرفه، ولا خلاف بيني وبينكم أن أهل العلم إذا أجمعوا وجب اتباعهم، وإنما الشأن إذا اختلفوا هل يجب علي أن أقبل الحق ممن جاء به وأرد المسألة إلى الله والرسول مقتديا بأهل العلم، أو انتحل بعضهم من غير حجة وأزعم أن الصواب في قوله فأنتم على هذا الثاني وهو الذي ذمة الله وسماه شركا، وهو اتخاذ العلماء أربابا وأنا على الأول أدعو إليه وأناظر عليه، فإن كان عندكم حق رجعنا إليه وقبلناه منكم وإن أردت النظر في (أعلام الموقعين) فعليك بمناظرة في أثنائه عقدها بين مقلد وصاحب حجة، وإن ألقى في ذهنك أن ابن القيم مبتدع وأن الآيات التي استدل بها ليس هذا معناها فأضرع إلى الله وأسأله أن يهديك لما اختلفوا فيه من الحق وتجرد إلى ناظر أو مناظر، واطلب كلام أهل العلم في زمانه مثل الحافظ الذهبي وابن كثير وابن رجب وغيرهم، ومما ينسب للذهبي رحمة الله :
العلم قال الله قال رسوله قال الصحابة ليس خلف فيه(48/155)
ما العلم نصبك للخلاف سفاهة بين الرسول وبين رأي فقيه
فإن لم تتبع هؤلاء فانظر كلام الأئمة قبلهم كالحافظ البيهقي في كتاب (المدخل) والحافظ ابن عبد البر والخطابي وأمثالهم ومن قبلهم كالشافعي وابن جرير وابن قتيبة وأبي عبيد فهؤلاء إليهم المرجع في كلام الله وكلام رسوله وكلام السلف، وإياك وتفاسير المحرفين للكلم عن مواضعه وشروحهم فإنها القاطعة عن الله وعن دينه، وتأمل ما في كتاب (الاعتصام) للبخاري وما قال أهل العلم في شرحه، وهل يتصور شيء أصرح مما صح عنه صلى الله عليه وسلم أن أمته ستفترق على أكثر من سبعين فرقة أخبر كلهم في النار إلا واحدة، ثم وصف تلك الواحدة أنها التي على ما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وأنتم مقرون أنكم على غير طريقتهم وتقولون ما نقدر عليها ولا يقدر عليها إلا المجتهد فجزمتم أنه لا ينتفع بكلام الله وكلام رسوله إلا المجتهد، وتقولون يحرم على غيره أن يطلب الهدى من كلام الله وكلام رسوله وكلام أصحابه فجزمتم وشهدتم أنكم على غير طريقتهم معترفين بالعجز عن ذلك، وإذا كنتم مقرين أن الواجب على الأولين اتباع كتاب الله وسنة رسوله لا يجوز العدول عن ذلك وأن هذه الكتب والتي خير منها لو تحدث في زمن عمر بن الخطاب لفعل بها وبأهلها أشد الفعل ولو تحدث في زمن الشافعي وأحمد لاشتد نكيرهم لذلك، فليت شعري متى حرم الله هذا الواجب وأوجب هذا المحرم، ولما حدث قليل من هذا لا يشبه ما أنتم عليه في زمن الإمام اشتد إنكاره لذلك ولما بلغه عن بعض أصحابه أنه يروى عنه مسائل بخراسان قال أشهدكم أني قد رجعت عن ذلك، ولما رأى بعضهم يكتب كلامه أنكر عليه وقال تكتب رأيا لعلي أرجع عنه غدا أطلب العلم مثلما طلبناه، ولما سئل عن كتاب أبي ثور قال كل كتاب ابتدع فهو بدعة ومعلوم أن أبا ثور من كبار أهل العلم وكان أحمد يثني عليه وكان ينهي الناس عن النظر في كتب أهل العلم الذين يثنى عليهم ويعظمهم ولما أخذ بعض أئمة(48/156)
الحديث كتب أبي حنيفة هجره أحمد وكتب إليه إن تركت كتب أبي حنيفة أتيناك تسمعنا كتب ابن المبارك، ولما ذكر له بعض أصحابه أن هذه الكتب فيها فائدة لمن لا يعرف الكتاب والسنة قال إن عرفت الحديث لم تحتج إليها، وإن لم تعرفه لم يحل لك النظر فيها وقال عجبت لقوم عرفوا الإسناد وصحته يذهبون إلى رأي سفيان والله يقول : (( فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم )) قال : أتدري ما الفتنة ؟ الفتنة الشرك، ومعلوم أن الثوري عنده غاية وكان يسميه أمير المؤمنين. فإذا كان هذا كلام أحمد في كتب نتمنى الآن أن نراها فكيف بكتب قد أقر أهلها على أنفسهم أنهم ليسوا من أهل العلم وشهد عليهم بذلك ولعل بعضهم مات وهو لا يعرف مادين الإسلام الذي بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم وشبهتكم التي ألقيت في قلوبكم أنكم لا تقدرون على فهم كلام الله ورسوله والسلف الصالح، وقد قدمنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة )) إلى آخره، فتأمل هذه الشبهة أعني قولكم لا نقدر على ذلك وتأمل ما حكى الله عن اليهود في قوله : (( وقالوا قلوبنا غلف بل لعنهم الله بكفرهم )) وقوله : (( ولقد أنزلنا إليك آيات بينات وما يكفر بها إلا الفاسقون )) وقوله (( إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون )) وقوله (( ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر )) واطلب تفاسير هذه الآيات من كتب أهل العلم واعرف من نزلت فيه واعرف الأقوال والأفعال التي كانت سببا لنزول هذه الآيات، ثم اعرضها على قولهم لا نقدر على فهم القرآن والسنة تجد مصداق قوله (( لتتبعن سنن من كان قبلكم )) وما في معناه من الأحاديث الكثيرة فلتكن قصة إسلام سلمان الفارسي منكم على بال ففيها أنه لم يكن على دين الرسل إلا الواحد بعد الواحد حتى إن آخرهم قال عند موته : لا أعلم على وجه الأرض أحدا على ما نحن فيه ولكن قد أظل زمان نبي، واذكر مع هذا قول(48/157)
الله تعالى : (( فلولا كان من القرون من قبلكم أولوا بقية ينهون عن الفساد في الأرض إلا قليلا ممن أنجينا منهم)) فحقيق لمن نصح نفسه وخاف عذاب الآخرة أن يتأمل ما وصف الله به اليهود في كتابه خصوصا ما وصف به علماءهم ورهبانهم من كتمان الحق ولبس الحق بالباطل والصد عن سبيل الله، وما وصفهم الله أي علماءهم من الشرك والإيمان بالجبت والطاغوت وقولهم للذين كفروا : (( هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا )) لأنه عرف أن كل ما فعلوا لا بد أن تفعله هذه الأمة وقد فعلت، وإن صعب عليك مخالفة الكبرا ولم يقبل ذهنك هذا الكلام فأحضر بقلبك أن كتاب الله أحسن الكتب وأعظمها بيانا وأشفى لداء الجهل وأعظمها فرقا بين الحق والباطل والله سبحانه قد عرف تفرق عباده واختلافهم قبل أن يخلقهم، وقد ذكر في كتابه : (( وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه وهدى ورحمة )) وأحضر قلبك هذه الأصول وما يشابهما في ذهنك، واعرضها على قلبك فإنه إن شاء الله يؤمن بها على سبيل الإجمال فتأمل قوله : (( وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا )) وتكرير هذا الأصل في مواضع كثيرة وكذلك قوله : (( أتجادلونني في أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما نزل الله بها من سطان )) فكل حجة تحتجون بها تجدها مبسوطة في القرآن وبعضها في مواضع كثيرة، فأحضر بقلبك أن الحكيم الذي أنزل كتابه شفاء من الجهل فارقا بين الحق والباطل لا يليق منه أن يقرر هذه الحجج ويكررها مع عدم حاجة المسلمين إليها ويترك الحجج التي يحتاجون إليها ويعلم أن عباده يفترقون حاشا أحكم الحاكمين من ذلك ومما يهون عليك مخالفة من خالف الحق وإن كان من أعلم الناس وأذكاهم وأعظمهم جهلا ولو اتبعه أكثر الناس ما وقع في هذه الأمة من افتراقهم في أصول الدين وصفات الله تعالى وغالب من يدعي المعرفة، وما عليه المتكلمون وتسميتهم طريقة رسول الله صلى الله عليه وسلم حشوا وتشبيها(48/158)
وتجسيما مع أنك إذا طالعت في كتاب من كتب الكلام مع كونه يزعم أن هذا واجب على كل أحد وهو أصل الدين تجد الكتاب من أوله إلى آخره لا يستدل على مسألة منه بآية من كتاب الله ولا حديث عن رسول الله اللهم إلا أن يذكره ليحرفه عن مواضعه، وهم معترفون أنهم لم يأخذوا أصولهم من الوحي بل من عقولهم، ومعترفون أنهم مخالفون للسلف في ذلك مثل ما ذكر في فتح الباري في مسألة الإيمان على قول البخاري، وهو قول وعمل ويزيد وينقص فذكر إجماع السلف على ذلك، وذكر عن الشافعي أنه نقل الإجماع على ذلك، وكذلك ذكر أن البخاري نقله ثم بعد ذلك حكى كلام المتأخرين ولم يرده فإن نظرت في كتاب التوحيد في آخر الصحيح ـ فتأمل تلك التراجم ـ وقرأت في كتب أهل العلم من السلف ومن أتلاعهم من الخلف ونقلهم الإجماع على وجوب الإيمان بصفات الله تعالى وتلقيها بالقبول وأن من جحد شيئاً منها أو تأول شيئاً من النصوص فقد افترى على الله وخالف إجماع أهل العلم أن علم الكلام بدعة وضلالة حتى قال أبو عمر ابن عبد البر أجمع أهل العلم في جميع الأعصار والأمصار أن أهل الكلام أهل بدع وضلالات لا يعدون عند الجميع من طبقات العلماء والكلام في هذا يطول. والحاصل أنهم عمدوا إلى شيء أجمع المسلمون كلهم بل وأجمع عليه أجهل الخلق بالله عبدة الأوثان الذين بعث بهم النبي صلى الله عليه وسلم فابتدع هؤلاء كلاماً من عند أنفسهم كابروا به العقول أيضا حتى إنكم لا تقدرون أن تغيروا عوامكم عن قطرتهم التي فطرهم الله عليها ثم مع هذا كله تابعهم جمهور من يتكلم في علم هذا الأمر إلا من سبقت لهم من الله الحسنى وهم كالشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود يبغضونهم الناس ويرمونهم بالتجسيم. هذا، وأهل الكلام وأتباعهم من أحذق الناس وأفطنهم حتى إن لهم من الذكاء والحفظ والفهم ما يحير اللبيب وهم وأتباعهم مقرون أنهم مخالفون للسلف حتى إن أئمة المتكلمين لما ردوا على الفلاسفة في تأويلهم في آيات الأمر(48/159)
والنهي مثل قولهم المراد بالصيام كتمان أسرارنا والمراد بالحج زيارة مشايخنا، والمراد بجبريل العقل الفعال وغير ذلك من إفكهم رد عليهم الجواب بأن هذا التفسير خلاف المعروف بالضرورة من دين الإسلام فقال لهم الفلاسفة أنتم جحدتم علو الله على خلقه واستواءه على عرشه مع أنه مذكور في الكتب على ألسنة الرسل، وقد أجمع عليه المسلمون كلهم وغيرهم من أهل الملل فكيف يكون تأويلنا تحريفا وتأويلكم صحيحا ؟ فلم يقدر أحد من المتكلمين أن يجيب عن هذا الإيراد، والمراد أن مذهبهم مع كونه فاسداً في نفسه مخالفاً للعقول، وهو أيضا مخالف لدين الإسلام والكتاب والرسول وللسلف كلهم، ويذكرون في كتبهم أنهم مخالفون للسلف ثم مع هذا راجت بدعتهم على العالم والجاهل حتى طبقت مشارق الأرض ومغاربها وأنا أدعوك إلى التفكر في هذه المسألة وذلك أن السلف قد كثر كلامهم وتصانيفهم في أصول الدين وإبطال كلام المتكلمين وتفكيرهم وممن ذكر هذا من متأخري الشافعية البيهقي والبغوي وإسماعيل التيمي ومن بعدهم كالحافظ الذهبي، وأما متقدموهم كابن سريج والدار قطني وغيرهما فكلهم على هذا الأمر ففتش في كتب هؤلاء فإن أتيتني بكلمة واحدة أن منهم رجلاً واحداً لم ينكر على المتكلمين ولم يكفرهم فلا تقبل مني شيئاً أبداً ومع هذا كله وظهوره غاية الظهور راج عليكم حتى ادعيتم أن أهل السنة هم المتكلمون والله المستعان. ومن العجب أنه يوجد في بلدكم من يفتي الرجل بقول إمام والثاني بقول آخر والثالث بخلاف القولين ويعد فضيلة وعلماً وذكاء ويقال هذا يفتي في مذهبين أو أكثر، ومعلوم عند الناس أن مراده في هذا العلو والرياء وأكل أموال الناس بالباطل فإذا خالفت قول عالم لمن هو أعلم منه أو مثله إذا كان معه الدليل ولم آت بشيء من عند نفسي تكلمتم بهذا الكلام الشديد فإن سمعتم أني أفتيت بشيء خرجت فيه من إجماع أهل العلم توجه على القول وقد بلغني أنكم في هذا الأمر قمتم وقعدتم، فإن كنتم(48/160)
تزعمون أن هذا إنكار للمنكر فيا ليت قيامكم كان في عظائم في بلدكم تضاد أصلى الإسلام شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله منها وهو أعظمها عبادة الأصنام عندكم من بشر وحجر هذا يذبح له، وهذا ينذر له وهذا يطلب إجابة الدعوات وإغاثة اللهفات، وهذا يدعوه المضطر في البر والبحر، وهذا يزعمون أن من التجأ إليه ينفعه في الدنيا والآخرة ولو عصى الله، فإن كنتم تزعمون أن هذا ليس هو عبادة الأصنام والأوثان المذكورة في القرآن فهذا من العجب فإني لا أعلم أحدا من أهل العلم يختلف في ذلك اللهم إلا أن يكون أحد وقع فيما وقع فيه اليهود من إيمانهم بالجبت والطاغوت وإن ادعيتم أنكم لا تقدرون على ذلك، فإن لم تقدروا على الكل قدرتم على البعض كيف وبعض الذين أنكروا علي هذا الأمر وادعوا أنهم من أهل العلم ملتبسون بالشرك الأكبر ويدعون إليه ولو يسمعون إنساناً يجرد التوحيد ألزموه بالكفر والفسوق ؟ ولكن نعوذ بالله من رضاء الناس بسخط الله ؛ ومنها ما يفعله كثير من أتباع إبليس وأتباع المنجمين والسحرة والكهان ممن ينتسب إلى الفقر وكثير ممن ينتسب إلى العلم من هذه الخوارق التي يوهمون بها الناس ويشبهونها بمعجزات الأنبياء وكرامات الأولياء، ومرادهم أكل أموال الناس بالباطل والصد عن سبيل الله حتى إن بعض أنواعها يعتقد فيه من يدعي العلم أنه من العلم الموروث عن الأنبياء من علم الأسماء وهو من الجبت والطاغوت، ولكن هذا مصداق قوله صلى الله عليه وسلم : (( لتتبعن سنن من كان قبلكم ))، ومنها هذه الحيلة الربوية التي مثل حيلة أصحاب السبت أو أشد وأنا أدعو من خالفني إلى أحد أربع : إما إلى كتاب الله، وإما إلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإما إلى إجماع أهل العلم، فإن عاند دعوته إلى المباهلة كما دعا إليها ابن عباس في بعض مسائل الفرائض، وكما دعا إليها سفيان والأوزاعي في مسألة رفع اليدين وغيرهما من أهل العلم والحمد لله رب العالمين وصلى(48/161)
الله على محمد وآله وسلم.
يا من تعز عليهم أرواحهم ... ويرون غبنا بيعها بهوان
ويرون أن أمامهم يوم اللقا ... لله مسألتان شاملتان
ماذا عبدتم ثم ماذا قد أجبتم ... من أتى بالحق والبرهان
هيئوا جوابا للسؤال وهيئوا ... أيضا صوابا للجواب يدان
وتيقنوا أن ليس ينجيكم سوى ... تجريدكم لحقائق الإيمان
تجريدكم توحيده سبحانه ... عن شركة الشيطان والأوثان
وكذاك تجريد اتباع رسوله ... عن هذه الآراء والهذيان
فالوحي كاف للذي يعنى به ... شاف لداء جهالة الإنسان
هذا آخر ما ذكره الشيخ رحمة الله في هذه الرسالة النافعة.
وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً
الرسالة الثامنة والثلاثون
(ص269)
وله أيضا قدس الله روحه ونور ضريحه
بسم الله الرحمن الرحيم(48/162)
من محمد بن عبد الوهاب إلى من يصل إليه من الإخوان، المؤمنين بآيات الله المصدقين لرسول الله التابعين للسواد الأعظم من أصحاب رسول الله والتابعين لهم بإحسان، وأهل العلم والإيمان المتمسكين بالدين القيم عند فساد الزمان، الصابرين على الغربة والامتحان سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أما بعد فإن الله سبحانه بعث نبيكم صلى الله عليه وسلم على حين فترة من الرسل وأهل الأرض من المشرق إلى المغرب قد خرجوا عن ملة إبراهيم وأقبلوا على الشرك بالله إلا بقايا من أهل الكتاب فلما دعا إلى الله ارتاع أهل الأرض من دعوته وعادوه كلهم جهالهم وأهل الكتاب عبادهم وفساقهم، ولم يتبعه على دينه إلا أبو بكر الصديق وبلال وأهل بيته صلى الله عليه وسلم خديجة وأولادها ومولاه زيد بن حارثة وعلي رضي الله عنه قال عمرو بن عبسة لما أتيت النبي صلى الله عليه وسلم بمكة قلت ما أنت قال : ((نبي)) قلت : وما نبي (( قال : أرسلني الله )) قلت : بأي شيء أرسلك ؟ قال: ((بصلة الأرحام وكسر الأوثان وأن يعبد الله لا يشرك به شيئاً)) قلت من معك على هذا قال : ((حر وعبد )) ومعه يومئذ أبو بكر وبلال، فهذا صيغة بدو الإسلام وعداوة الخاص والعام له وكونه في غاية الغربة ؛ ثم قد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : (( بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ)) فمن تأمل هذا وفهمه زالت عنه شبهات شياطين الإنس الذين يجلبون على من آمن برسول الله صلى الله عليه وسلم بخيل الشيطان ورجله، فاصبروا يا اخواني واحمدوا الله على ما أعطاكم من معرفة الله سبحانه ومعرفة حقه على عباده ومعرفة ملة أبيكم إبراهيم في هذا الزمان التي أكثر الناس منكر لها ؛ واضرعوا إلى الله أن يزيدكم إيمانا ويقينا وعلما وأن يثبت قلوبكم على دينه، وقولوا كما قال الصالحون الذين أثنى الله عليهم في كتابه : (( ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب )).(48/163)
واعلموا أن الله قد جعل للهداية والثبات أسباباً كما جعل للضلال والزيغ أسبابا فمن ذلك أن الله سبحانه أنزل الكتاب وأرسل الرسول ليبين للناس ما اختلفوا فيه كما قال تعالى : (( وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه وهدى ورحمة لقوم يؤمنون )) فبإنزال الكتب وإرسال الرسول قطع العذر وأقام الحجة كما قال تعالى : (( لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل )) فلا تغفلوا عن طلب التوحيد وتعلمه واستعمال كتاب الله وإجالة الفكر فيه، وقد سمعتم من كتاب الله ما فيه عبرة، مثل قولهم نحن موحدون نعلم أن الله هو النافع الضار، وأن الأنبياء وغيرهم لا يملكون نفعا ولا ضرا لكن نريد الشفاعة، وسمعتم ما بين الله في كتابه في جواب هذا وما ذكر أهل التفسير وأهل العلم، وسمعتم قول المشركين الشرك عبادة الأصنام، وأما الصالحون فلا، وسمعتم قولهم لا نريد إلا من الله لكن نريد بجاههم وسمعتم ما ذكر الله في جواب هذا كله، وقد من الله عليكم بإقرار علماء المشركين بهذا كله سمعتم اقرارهم أن هذا الذي يفعل في الحرمين والبصرة والعراق واليمن أن هذا شرك بالله فأقروا لكم أن هذا الدين الذي ينصرون أهله ويزعمون أنهم السواد الأعظم أقروا لكم أن دينهم هو الشرك ؛ وأقروا لكم أيضا أن التوحيد الذي يسعون في إطفائه وفي قتل أهله وحبسهم أنه دين الله ورسوله، وهذا الإقرار منهم على أنفسهم من أعظم آيات الله ومن أعظم نعم الله عليكم، ولا يبقى شبهة مع هذا إلا للقلب الميت الذي طبع الله عليه وذلك لا حيلة فيه.(48/164)
ولكنهم بجادلونكم اليوم بشبهة واحدة فاصغوا لجوابها، وذلك أنهم يقولون كل هذا حق نشهد أنه دين الله ورسوله إلا التكفير والقتال، والعجب ممن يخفى عليه جواب هذا إذا أقروا أن هذا دين الله ورسوله كيف لا يكفر من أنكره وقتل من أمر به وحسبهم؟ كيف لا يكفر من أمر بحبسهم ؟ كيف لا يكفر من جاء إلى أهل الشرك يحثهم على لزوم دينهم وتزيينه لهم ويحثهم على قتل الموحدين وأخذ مالهم ؟ كيف لا يكفر وهو يشهد أن الذي يحث عليه أن الرسول صلى الله عليه وسلم أنكره ؟ ونهى عنه وسماه الشرك بالله ويشهد أن الذي يبغضه ويبغض أهله ويأمر المشركين بقتلهم هو دين الله ورسوله.
واعلموا أن الأدلة على تكفير المسلم الصالح إذا أشرك بالله، أو صار مع المشركين على الموحدين ولو لم يشرك أكثر من أن تحصر من كلام الله وكلام رسوله وكلام أهل العلم كلهم.(48/165)
وأنا أذكر لكم آية من كتاب أجمع أهل العلم على تفسيرها وأنها في المسلمين وأن من فعل ذلك فهو كافر في أي زمان، قال تعالى: (( من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان )) إلى آخر الآية وفيها : (( ذلك بأنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة )) فإذا كان العلماء ذكروا أنها نزلت في الصحابة لما فتنهم أهل مكة وذكروا أن الصحابي إذا تكلم بكلام الشرك بلسانه مع بغضه لذلك وعداوة أهله لكن خوفاً منهم أنه كافر بعد إيمانه فكيف بالموحد في زماننا ؟ إذا تكلم في البصرة أو الأحساء أو مكة أو غير ذلك خوفا منهم لكن قبل الإكراه، وإذا كان هذا يكفر فكيف بمن صار معهم وسكن معهم وصار من جملتهم ؟ فكيف بمن أعانهم على شركهم وزينه لهم ؟ فكيف بمن أمر بقتل الموحدين وحثهم على لزوم دينهم ؟ فأنتم وفقكم الله تأملوا هذه الآية، وتأملوا من نزلت فيه، وتأملوا إجماع العلماء على تفسيرها، وتأملوا ما جرى بيننا وبين أعداء الله نطلبهم دائما الرجوع إلى كتبهم التي بأيديهم في مسألة التكفير والقتال فلا يجيبوننا إلا بالشكوى عند الشيوخ، وأمثالهم والله أسأل أن يوفقكم لدينه ويرزقكم الثبات عليه والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الرسالة التاسعة والثلاثون
(ص275)
ومنها رسالة أرسلها إلى عبد الوهاب بن عبد الله بن عيسى قال فيها :
بسم الله الرحمن الرحيم
من محمد بن عبد الوهاب إلى عبد الوهاب بن عبد الله بن عيسى، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد :(48/166)
إن تفضلتم بالسؤال فنحمد الله إليكم الذي لا إله إلا هو ونحن بخير وعافية ـ جعلكم الله كذلك وأحسن من ذلك ـ وأبلغوا لنا الوالد السلام سلمه الله من خزي الدنيا وعذاب الآخرة، وغير ذلك في نفسي عليه بعض الشيء من جهة المكاتيب لما حبسها عنا هجسنا فيه الظن الجميل ثم بعد ذلك سمعنا بعض الناس يذكر أنه معطيها بعض السفهاء يقرءونها على الناس، وأنا أعتقد فيه المحبة، وأعتقد أيضا أن له غاية وعقلا، وهو صاحب إحسان علينا وعلى أهلنا فلا ودى يعقبه بالأذى ويكدر هذه المحبة بلا منفعة في العاجل والآجل، وأنا إلى الآن ما تحققت ذلك وهوجس فيه بالهاجوس الجيد، وذكر أيضا عنه بعض الناس الكلام الذي يشوش الخاطر، فإن كان يرى أن هذا ديانة ويعتقده من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فأنا ولله الحمد لم آت الذي أتيت بجهالة وأشهد الله وملائكته أنه إن أتاني منه أو ممن دونه في هذا الأمر كلمة من الحق لأقبلها على الرأس والعين وأترك قول كل إمام اقتديت به حاشا رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه لا يفارق الحق، فإن كانت مكاتيب أولياء الشيطان وزخرفة كلامهم الذي أوحي إليهم ليجادل في دين الله لما رأى أن الله يريد أن يظهر دينه غرته وأصغت إليه أفئدتكم فاذكروا لي حجة مما فيها أو كلها أو في غيرها من الكتب مما تقدرون عليه أنتم ومن وافقكم، فإن لم أجاوبه عنها بجواب فاصل بين يعلم كل من هداه الله أنه الحق وأن تلك هي الباطل فأنكروا علي، وكذلك عندي من الحجج الكثيرة الواضحة مالا تقدرون أنتم ولا هم أن تجيبوا عن حجة واحدة منها، وكيف لكم بملاقاة جند الله ورسوله ؟ وإن كنتم تزعمون أن أهل العلم على خلاف ما أنا عليه فهذه كتبهم موجودة ومن أشهرهم وأغلظهم كلام الإمام أحمد كلهم على هذا الأمر لم يشذ منهم رجل واحد ولله الحمد، ولم يأت عنهم كلمة واحدة أنهم أرخصوا لمن يعرف الكتاب والسنة في أمركم هذا فضلا عن أن يوجبوه، وإن زعمتم أن المتأخرين معكم فهؤلاء(48/167)
سادات المتأخرين وقادتهم ابن تيمية وابن القيم، وابن رجب عندنا له مصنف مستقل في هذا، ومن الشافعية الذهبيى وابن كثير وغيرهم وكلامهم في إنكار هذا أكثر من أن يحصر، وبعض كلام الإمام أحمد ذكره ابن القيم في (الطرق الحكمية ) فراجعه، ومن أدلة شيخ الإسلام : (( اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله )) فقد فسرها رسول الله صلى الله عليه وسلم والأئمة بعده بهذا الذي تسمونه الفقه وهو الذي سماه الله شركاً واتخاذهم أرباباً لا أعلم بين المفسرين في ذلك اختلافاً. والحاصل أن من رزقه الله العلم يعرف أن هذه المكاتيب التي أتتكم وفرحتم بها وقرأتموها على العامة من عند هؤلاء الذين تظنون أنهم علماء كما قال تعالى : (( وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً )) إلى قوله : (( ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة )) لكن هذه الآيات ونحوها عندكم من العلوم المهجورة، بل أعجب من هذا أنكم لا تفهمون شهادة أن لا إله إلا الله ولا تنكرون هذه الأوثان التي تعبد في الخرج وغيره التي هي الشرك الأكبر بإجماع أهل العلم، وأنا لا أقول هذا )).
الرسالة الأربعون
(ص279)
ومنها رسالة كتبها إلى عبد الوهاب بن عبد الله بن عيسى قال فيها :
بسم الله الرحمن الرحيم
من محمد بن عبد الوهاب إلى عبد الوهاب بن عبد الله، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد :(48/168)
فقد وصل كتابك وما ذكرت فيه من الظن والتجسس وقبول خبر الفاسق فكل هذا حق وأريد به باطل، والعجب منك إذا كنت من خمس سنين تجاهد جهاداً كبيراً في رد دين الإسلام فإذا جاءك مساعد أو ابن راجح وإلا صالح بن سليم وأشباه هؤلاء الذين نلقنهم شهادة أن لا إله إلا الله وأن عبادة المخلوقات كفر وأن الكفر بالطاغوت فرض قمت تجاهد وتبالغ في نقض ذلك والاستهزاء به، وليس الذي يذكر هذا عنك بعشرة ولا عشرين ولا ثلاثين ولا أنت بمتخف في ذلك ثم تظن في خاطرك أن هذا يخفى علي وأنا أصدقك إذا قلت ما قلت ولو أن الذي جرى عشر أو عشرون أو ثلاثون مرة أمكن تعداد ذلك، وأحسن ما ذكرت أنك تقول (( ربنا ظلمنا أنفسنا )) وتقر بالذنب وتجاهد في إطفاء الشرك وإظهار الإسلام كما جاهدت في ضده ويصير ما تقدم كأن لم يكن، فإن كنت تريد الرفعة في الدنيا والجاه حصل لك بذلك ما لا يحصل بغيره من الأمور بأضعاف مضاعفة، وإن أردت به الله والدار الآخرة فهي التجارة الرابحة وأتتك الدنيا تبعاً، وإن كنت تظن في خاطرك أنا نبغي أن نداهنك في دين الله ولو كنت أجل عندنا مما كنت فأنت مخالف فإن كنت تتهمي بشئ من أمور الدنيا فلك الشرهة، فإن كان إني أدعو لك في سجودي وأنت وأبوك أجل الناس إلى وأحبهم عندي، وأمرك هذا أشق علي من أمر أهل الحسا خصوصاً بعد ما استركبت أباك وخربته فعسى الله أن يهدينا وإياك لدينه القيم ويطرد عنا الشيطان ويعيذنا من طريق المغضوب عليهم والضالين.
الرسالة الحادية والأربعون
(ص283)
ومنها رسالة كتبها إلى أحمد بن محمد بن سويلم، وثنيان بن مسعود قال فيها :
بسم الله الرحمن الرحيم
من محمد بن عبد الوهاب إلى الأخوين أحمد بن محمد وثنيان.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد :(48/169)
فقد ذكر لي عنكم أن بعض الإخوان تكلم في عبد المحسن الشريف يقول : إن أهل الحسا يحبون على يدك وأنك لابس عمامة خضراء والإنسان لا يجوز له الإنكار إلا بعد المعرفة، فأول درجات الإنكار معرفتك أن هذا مخالف لأمر الله، وأما تقبيل اليد فلا يجوز إنكار مثله وهي مسألة فيها اختلاف بين أهل العلم، وقد قبل زيد بن ثابت يد ابن عباس وقال : هكذا أمرنا أن نفعل بأهل بيت نبينا، وعلى كل حال فلا يجوز لهم إنكار كل مسألة لا يعرفون حكم الله فيها، وأما لبس الأخضر فإنها أحدثت قديماً تمييزاً لأهل البيت لئلا يظلمهم أحد أو يقصر في حقهم من لا يعرفهم، وقد أوجب الله لأهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم على الناس حقوقاً فلا يجوز لمسلم أن يسقط حقهم ويظن أنه من التوحيد بل هو من الغلو ونحن ما أنكرنا إلا إكرامهم لأجل ادعاء الألوهية فيهم أو إكرام المدعى لذلك، وقيل عنه أنه اعتذر عن بعض الطواغيت، وهذه مسئلة جليلة ينبغي التفطن لها وهي قوله تعالى : ((يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا))
فالواجب عليهم إذا ذكر لهم عن أحد منكراً عدم العجلة فإذا تحققوه أتوا صاحبه ونصحوه فإن تاب ورجع وإلا أنكر عليه وتكلم فيه، فعلى كل حال نبهوهم على مسئلتين :
الأولى : عدم العجلة ولا يتكلمون إلا مع التحقق فإن التزوير كثير.
الثانية :أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعرف منافقين بأعيانهم ويقبل علانيتهم ويكل سرائرهم إلى الله،
فإذا ظهر منهم وتحقق ما يوجب جهادهم جاهدهم، وغير ذلك عبد الرحمن بن عقيل رجع إلى الحق ولله الحمد، ولكن ودى أن أقرأ عليه رسالة ابن شلهوب وغيرها، وأنت يا أحمد على كل حال أرسل المجموع مع أول من يقبل وأرسلها فيه، خذه من سليمان لا تغفل تراك خالفت خلافاً كبيراً في هذا المجموع والسلام
الرسالة الثانية والأربعون
(ص287)
ومنها رسالة أرسلها إلى عبد الله بن سويلم حين غضب على ابن عمه أحمد في شدته على المنافقين قال فيها :(48/170)
بسم الله الرحمن الرحيم
من محمد بن عبد الوهاب إلى عبد الله بن عبد سويلم
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد، فقد ذكر لي ابن زيدان أنك يا عبد الله زعل على أحمد بعض الزعل لما تكلم في بعض المنافقين، ولا يخفاك أن بعض الأمور كما قال تعالى : (( وتحسبونه هيناً وهو عند الله عظيم )) وذلك أني لا أعرف شيئاً يتقرب به إلى الله أفضل من لزوم طريقة رسول الله صلى عليه وسلم في حال الغربة، فإن إنصاف إلى ذلك الجهاد عليها للكفار والمنافقين كان ذلك تمام الإيمان، فإذا أراد أحد من المؤمنين أن يجاهد فأتاه بعض إخوانه فذكر له أن أمرك للدنيا أخاف أن يكون هذا من جنس الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات، فأنتم تأملوا تفسير الآية ثم نزلوه على هذه الواقعة، وأيضاً في صحيح مسلم : ((أن أبا سفيان مر على بلال وسلمان وأجناسهما فقالوا : ما أخذت سيوف الله من عنق عدو الله مأخذها، فقال أبو بكر : أتقولون هذا لشيخ قريش وسيدها ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر له ذلك فقال : يا أبا بكر لئن كنت أغضبتهم لقد أغضبت ربك )) ومن أفضل الجهاد جهاد المنافقين في زمن الغربة، فإذا خاف أحد منكم من بعض إخوانه قصداً سيئاً فلينصحه برفق وإخلاص لدين لله وترك الرياء والقصد الفاسد ولا يفل عزمه عن الجهاد ولا يتكلم فيه بالظن السيء وينسبه إلى ما لا يليق ولا يدخل خاطرك شئ من النصيحة. فلو أدري أنه يدخل خاطرك ما ذكرته وأنا أجد في نفسي أن ودي من ينصحني كلما غلطت والسلام.
الرسالة الثالثة والأربعون
(ص 291 )
رسالة منه إلى جماعة أهل شقرا سلمهم الله تعالى :
بسم الله الرحمن الرحيم
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد(48/171)
فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : (( إن الله يرضي لكم ثلاثاً )) وواجب علينا لكم النصيحة وعلى الله التوفيق فيا اخواني لا تغفلوا عن أنفسكم ترى الباطل زمالة لحاية عند الحاجة ولا تظنوا أن الضيق مع دين الإسلام، لا والله بل الضيق والحاجة وسكنة الريح وضعفه البخت مع الباطل والإعراض عن دين الإسلام، مع أن مصداق قولي فيما ترونه فيمن ارتد من البلدان أولهن (ضرما) وآخرهن (حريملا) هم حصلوا سعة فيما يزعمون أو ما زادوا إلا ضيقاً وخوفاً على ما هم قبل أن يرتدوا. وأنتم كذلك المعروف منكم إنكم ما تدينون للعناقر وهم على عنفوان القوة في الجاهلية فيوم رزقكم الله دين الإسلام الصرف وكنتم على بصيرة في دينكم وضعف من عدوكم اذعنتوا له حتى أنه يبي منكم الخسر ما يشابه لجزية اليهود والنصارى حاشاكم والله من ذلك، والله العظيم إن النساء في بيوتهن يأنفن لكم فضلا عن صماصيم بني زيد. يا الله العجب تحاربون إبراهيم بن سليمان فيما مضى عند كلمة تكلم بها على جاركم أو حمار يأخذه ما يسوى عشر محمديات وتنفذون على هذا ما لكم ورجالكم، ومع هذا يثلب بعضكم بعضا على التصلب في الحرب ولو عضكم، فيوم رزقكم الله دين الأنبياء الذي هو ثمن الجنة والنجاة من النار إلى أنكم تضعفون عن التصلب وها الأمر خالفه صار كلمة أو حمار أنفق عندكم وأعز من دين الإسلام، يا الله العجب نعوذ بالله من الخذلان والحرمان ما أعجب حالكم وأتيه رأيكم إذ تؤثرون الفاني على الباقي وتبيعون الدر بالبعر والخير بالشر كما قيل.
فيا درة بين المزايل ألقيت وجوهرة بيعت بأبخس قيمة
فتوكلوا على الله وشمروا عن ساق الجد في دينكم، وحاربوا عدوكم وتمسكوا بدين نبيكم وملة أبيكم إبراهيم، وعضوا عليها بالنواجذ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
الرسالة الرابعة والأربعون
(ص 295 )(48/172)
ومنها رسالة أرسلها إلى إخوانه من أهل سدير بسبب أمر جرى بين أهل الحوطة من بلدان سدير قال فيها:
بسم الله الرحمن الرحيم
من محمد بن عبد الوهاب إلى من يصل إليه هذا الكتاب من الإخوان، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد فيجري عندكم أمور تجري عندنا من سابق وننصح إخواننا إذا جرى منها شئ حتى فهموها، وسببها أن بعض أهل الدين ينكر منكراً وهو مصيب لكن يخطئ في تغليظ الأمر إلى شئ يوجب الفرقة بين الإخوان، وقد قال الله تعالى : (( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون. واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا )) الآية، وقال صلى الله عليه وسلم : (( إن الله يرضى لكم ثلاثاً : أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً وأن تعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم )) وأهل العلم يقولون الذي يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر يحتاج إلى ثلاث أن يعرف ما يأمر به وينهى عنه، ويكون رفيقاً فيما يأمر به وينهى عنه صابراً على ما جاء من الأذى، وأنتم محتاجون للحرص على فهم هذا والعمل به فإن الخلل إنما يدخل على صاحب الدين من قلة العمل بهذا أو قلة فهمه، وأيضاً يذكر العلماء أن إنكار المنكر إذا صار يحصل بسببه افتراق لم يجز إنكاره، فالله الله في العمل بما ذكرت لكم والتفقه فيه فإنكم إن لم تفعلوا صار إنكاركم مضرة على الدين، والمسلم ما يسعى إلا في صلاح دينه ودنياه ؛ وسبب هذه المقالة التي وقعت بين أهل الحوطة لو صار أهل الدين واجباً عليهم إنكار المنكر فلما غلظوا الكلام صار فيه اختلاف بين أهل الدين فصار فيه مضرة على الدين والدنيا، وهذا الكلام وإن كان قصيراً فمعناه طويل فلازم تأملوه وتفقهوا فيه واعملوا به فإن عملتم به صار نصراً للدين واستقام الأمر إن شاء الله، والجامع لهذا كله أنه إذا صدر المنكر من أمير أو غيره أن ينصح برفق خفية ما يشترف أحد، فإن وافق وإلا استحلق عليه رجلا يقبل منه يخفيه،(48/173)
فإن لم يفعل فيمكن الإنكار ظاهراً إلا أن كان على أمير ونصحه ولا وافق واستلحق عليه ولا وافق فيرفع الأمر يمنا خفية، وهذا الكتاب كل أهل بلد ينسخون منه نسخة ويجعلونها عندهم ثم يرسلونه لحرمة والمجمعة ثم للغاط والزلفي والله أعلم.
الرسالة الخامسة والأربعون
(ص299)
ومنها رسالة أرسلها إلى أحمد بن يحيى مطوع من أهل رغبة قال فيها :
بسم الله الرحمن الرحيم
من محمد بن عبد الوهاب إلى أحمد بن يحيى سلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد :
ما ذكرت من طرف مراسلة سليمان فلا ينبغي أنها تزعلك :
الأولى : أنه لو خالف فمثلك يحلم ولا يأتي بغايته هذا ولا أكثر منه.(48/174)
وثانياً : إنك إذا عرفت أن كلامه ماله فيه قصد إلا الجهدة في الدين ولو صار مخطئاً فالأعمال بالنيات والذي هذا مقصده يغتفر له ولو جهل عليك، ونحن ملزمون عليك لزمة جيدة، وربك ونبيك ودينك لزمتهم لزمة تتلاشى فيها كل لزمة وهذه الفتنة الواقعة ليست في مسائل الفروع التي مازال أهل العلم يختلفون فيها من غير نكير ولكن هذه في شهادة أن لا إله إلا الله والكفر بالطاغوت، ولا يخفاك أن الذي عادانا في هذا الأمر هم الخاصة الذين ليسوا بالعامة، هذا ابن إسماعيل والمويس وابن عبيد جاءتنا خطوطهم في إنكار دين الإسلام الذي حكى في (الإقناع) في باب حكم المرتد الإجماع من كل المذاهب أن من لم يدن به فهو كافر وكاتبناهم ونقلنا لهم العبارات وخاطبناهم بالتي هي أحسن ما زادهم ذلك إلا نفورا، وزعموا أن أهل العارض ارتدوا لما عرفوا شيئاً من التوحيد وأنت تفهم أن هذا لا يسعك التكفي عنه، فالواجب عليك نصر أخيك ظالماً ومظلوماً وإن تفضل الله عليك بفهم ومعرفة فلا تعذر لا عند الله ولا عند خلقه من الدخول في هذا الأمر، فإن كان الصواب معنا فالواجب عليك الدعوة إلى الله وعداوة من صرح بسبب دين الله ورسوله، وإن كان الصواب معهم أو معنا شئ من الحق وشئ من الباطل أو معنا غلو في بعض الأمور فالواجب منك مذاكرتنا ونصيحتنا وتورينا عبارات أهل العلم لعل الله أن يردنا بك إلى الحق، وإن كان إذا حررت المسألة إذ أنها من مسائل الاختلاف، وأن فيها خلافاً عند الحنفية أو الشافعية أو المالكية فتلك مسألة أخرى.
وبالجملة فالأمر عظيم ولا نعذرك من تأمل كلامنا وكلامهم ثم نعرضه على كلام أهل العلم ثم تبين في الدعوة إلى الحق وعداوة من حاد الله ورسوله منا أو من غيرنا والسلام.
الرسالة السادسة والأربعون
(ص 303 )
ومنها رسالة أرسلها إلى عبد الله بن عيسى مطوع الدرعية قال فيها :
بسم الله الرحمن الرحيم
من محمد بن عبد الوهاب إلى عبد الله بن عيسى.(48/175)
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. أما بعد :
فقد قال ابن القيم في أعلام الموقعين (( فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم )) فقسم الأمر إلى أمرين لا ثالث لهما : إما الاستجابة للرسول، وإما اتباع الهوى وذكر كلاماً في تقرير ذلك إلى أن قال : ثم أخبر سبحانه أن من تحاكم أو حاكم إلى غير ما جاء به الرسول فقد حكم الطاغوت وتحاكم إليه يعني الآيات في النساء (( ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكمون إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ) قال : والطاغوت كل ما تجاوز به العبد حده من معبود أو متبوع أو مطاع فطاغوت كل قوم من يتحاكمون إليه غير الله ورسوله أو يتبعونه على غير بصيرة من الله أو يطيعونه فيما لا يعلمون أنه طاعة لله فهذه طواغيت العالم إذا تأملتها وتأملت أحوال الناس معها رأيت أكثرهم ممن أعرض عن طاعة الله ومتابعة رسوله إلى طاعة الطاغوت ومتابعته، وهؤلاء لم يسلكوا طريق الناجين من هذه الأمة وهم الصحابة ومن تبعهم قال الله : (( فتقطعوا أمرهم بينهم زبراً كل حزب بما لديهم فرحون )) والزبر الكتب أي كل فرقة صنفوا كتبا أخذوا بها وعملوا بها دون كتب الآخرين كما هو الواقع سواء وقال : (( يوم تبيض وجوه وتسود وجوه )) قال ابن عباس تبيض وجوه أهل السنة والائتلاف، وتسود وجوه أهل الفرقة والاختلاف. هذا كله كلام ابن القيم. وقال الشيخ تقي الدين في كتاب (الإيمان) قال الله تعالى : (( اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله ) الآية وفي حديث عدى بن حاتم أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم : (( إنا لسنا نعبدهم، قال أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه ويحلون ما حرم الله فتحلونه ؟ قلت : بلى قال : فتلك عبادتهم )) رواه الإمام أحمد والترمذي وغيره وقال أبو العالية إنهم وجدوا في كتاب الله ما أمروا به وما نهوا عنه فقالوا لن نسبق أحبارنا بشئ فما أمرونا به ائتمرنا وما نهونا عنه(48/176)
انتهينا لقولهم ونبذوا كتاب الله وراء ظهورهم انتهى كلام ابن تيمية، فتأمل هذا الكلام بشراشر قلبك ثم نزله على أحوال الناس وحالك وتفكر في نفسك وحاسبها بأي شئ تدفع هذا الكلام وبأي حجة تحتج يوم القيامة على ما أنت عليه فإن كان عندك شبهة فاذكرها فأنا أبينها إن شاء الله تعالى، والمسألة مثل الشمس ولكن من يهدى الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادى له، وإن لم يتسع عقلك لهذا فتضرع إلى الله بقلب حاضر خصوصاً في الأسحار أن يهديك للحق ويريك الباطل باطلا، وفر بدينك فإن الجنة والنار قدامك والله المستعان، ولا تستهجن هذا الكلام فو الله ما أردت به إلا الخير، وصلى الله على محمد وآله وسلم.
الرسالة السابعة والأربعون
(ص 307 )
وله أيضاً رحمة الله تعالى
بسم الله الرحمن الرحيم
من محمد بن عبد الوهاب إلى نغيمش وجميع الإخوان.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد :(48/177)
إن سألتم عنا فنحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو، ونخبركم أنا بخير وعافية، أتمها الله علينا وعليكم في الدنيا والآخرة، وسرنا والحمد لله ما بلغنا عنكم من الأخبار من الاجتماع على الحق، والإتباع لدين محمد صلى الله عليه وسلم وهذا هو أعظم النعم المجموع لصاحبه بين خيري الدنيا والآخرة، عسى الله أن يوفقنا وإياكم لذلك، ويرزقنا الثبات عليه، ولكن يا إخواني لا تنسوا قول الله تعالى : ((وجعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون وكان ربك بصيراً )) وقوله : (( أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون، ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين )) فإذا تحققهم أن من اتبع هذا الدين لابد له من الفتنة، فاصبروا قليلا، ثم ابشروا عن قليل بخير الدنيا والآخرة ؛ واذكروا قول الله تعالى : (( إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد )) وقوله : (( ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين، إنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون )) وقوله تعالى : (( إن الذين يحادون الله ورسوله أولئك في الأذلين. كتب الله لأغلبن أنا ورسلي إن الله قوي عزيز )) فإن رزقكم الله الصبر على هذا، وصرتم من الغرباء الذين تمسكوا بدين الله مع ترك الناس إياه، فطوبى ثم طوبى إن كنتم ممن قال فيه نبيكم صلى الله عليه وسلم : (( بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ، فطوبى للغرباء، قيل : يا رسول الله من الغرباء ؟ قال : (( الذين يصلحون إذا افسد الناس )) فيالها من نعمة ؟ ويا لها من عظيمة ؟ جعلنا الله وإياكم من أتباع الرسول، وحشرنا تحت لوائه، وأوردنا حوضه الذي يرده من تمسك بدينه في الدنيا، ثم أنتم في أمان الله وحفظه والسلام.
الرسالة الثامنة والأربعون
(ص 311 )(48/178)
وفى سنة 1184هـ أرسل الشيخ محمد بن عبد الوهاب والإمام عبد العزيز بن محمد بن سعود إلى والي مكة الشيخ عبد العزيز الحصين وكتبا إلى الوالي المذكور رسالة هذا نصها :
بسم الله الرحمن الرحيم
المعروض لديك، أدام الله أفضل نعمه عليك، حضره الشريف أحمد بن الشريف سعيد أعزه الله في الدارين والأعز به دين جده سيد الثقلين.
إن الكتاب لما وصل إلى الخادم ونأمل ما فيه الكلام الحسن رفع يديه بالدعاء إلى الله بتأييد الشريف لما كان قصده نصر الشريعة المحمدية ومن تبعها وعداوة من خرج عنها، وهذا هو الواجب على ولاة الأمور ولما طلبتم من ناحيتنا طالب علم امتثلنا الأمر وهو واصل إليكم، ويجلس في مجلس الشريف أعزه الله هو وعلماء مكة، فإن اجتمعوا فالحمد لله على ذلك، وإن اختلفوا أحضر الشريف كتبهم وكتب الحنابلة والواجب على الكل منا ومنكم أنه يقصد بعلمه وجه الله ونصر رسوله كما قال تعالى : ( وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمن به ولتنصرنه )) فإذا كان سبحانه قد أخذ الميثاق على الأنبياء إن أدركوا محمداً صلى الله عليه وسلم على الإيمان به ونصرته فكيف بنا يا أمته ؟ فلا بد من الإيمان به ولابد من نصرته لا يكفي أحدهما عن الآخر، وأحق الناس بذلك وأولادهم به أهل البيت الذي بعثه الله منهم وشرفهم على أهل الأرض، وأحق أهل البيت بذلك من كان من ذريته صلى الله عليه وسلم والسلام.
الرسالة التاسعة والأربعون
(ص 313)
ومنها رسالة أرسلها أيضاً إلى بن عيسى وابنه عبد الوهاب قال فيها :
بسم الله الرحمن الرحيم
من محمد بن عبد الوهاب إلى عبد الله بن عيسى وعبد الوهاب.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد :(48/179)
فقد ذكر لي أنكم زعلانين علي في هذه الأيام بعض الزعل ولا يخفاكم أني زعلان زعلاً كبيراً وناقد عليكم نقوداً أكبر من الزعل، ولكن وابطناه واظهراه، ومعي في هذه الأيام بعض تنغص المعيشة والكدر مما يبلغني عنكم والله سبحانه إذا أراد أمراً فلا راد له وإلا ما خطر على البال أنكم ترضون لأنفسكم بهذا، ثم من العجب كفكم عن نفع المسلمين في المسائل الصحيحة وتقولون لا يتعين علينا الفتيا ثم تبالغون في مثل هذه الأمور مثل التذكير الذي صرحت الأدلة والإجماع وكلام الإقناع بإنكاره ولاودي أنكم بعد ما أنزلكم الله هذه المنزلة وأنعم عليكم بما تعلمون وما لا تعلمون وجعلكم من أكبر أسباب قبول الناس لدين ربكم وسنة نبيكم وجهادكم في ذلك وصبركم على مخالفة دين الآباء ـ أنكم ترتدون على أعقابكم، وسبب هذا أنه ذكر لي عنكم أنكم ظننتم أني أعنيكم ببعض الكلام الذي أجبت به من اعتقد حل الرشوة وأنه مزعلكم فيا سبحان الله كيف أعنيكم به وأنا كاتب لكم تسجلون عليه وتكونون معي أنصاراً لدين الله ؟ وقيل لي إنكم ناقدون علي بعض الغلظة فيه على ملفاه والأمر أغلظ مما ذكرنا ولولا أن الناس إلى الآن ما عرفوا دين الرسول وأنهم يستنكرون الأمر الذي لم يألفوه ـ لكان شأن آخر، بل والله الذي لا إله إلا هو لو يعرف الناس الأمر على وجهه لأفتيت بحل دم ابن سحيم وأمثاله ووجوب قتلهم كما أجمع على ذلك أهل العلم كلهم لا أجد في نفسي حرجاً من ذلك، ولكن إن أراد الله أن يتم هذا الأمر تبين أشياء لم تخطر لكم على بال، وإن كانت من المسائل التي إذا طلبتم الدليل بيننا أنها من إجماع أهل العلم، وبالحاظر لا يخفاكم أن معي غيظ عظيم ومضايقة من زعلكم وأنتم تعلمون أن رضا الله ألزم والدين لا محاباة فيه وأنتم من قديم لا تشكون في والآن غايتكم قريبة وداخلتكم الريبة وأخاف أن يطول الكلام فيجري فيه شئ يزعلكم وأنا في بعض الحدة فأنا أشير عليكم وألزم أن عبد الوهاب يزورنا سواء كان(48/180)
يومين وإلا ثلاثة، وإن كان أكثر يصير قطعاً لهذه الفتنة ويخاطبني وأخاطبه من الرأس، وإن كان كبر عليه الأمر فيوصي لي وأعني له فإن الأمر الذي يزيل زعلكم ويؤلف الكلمة ويهديكم الله بسببه نحرص عليه ولو هو أشق من هذا اللهم إلا أن تكونوا ناظرين شيئا من أمر الله فالواجب عليكم اتباعه، والواجب علينا طاعتكم والإنقياد لكم وإن أبينا كان الله معكم وخلقه، ولا يخفاكم أنه وصلني أمس رسالة في صفة مذاكرتكم في التذكير وتطلبون مني جواباً عن أدلتكم وأنتم ضحكتم علي ابن فيروز وتسافهتموه وتساخفتم عقله في جوابه وانحرفتم تعدلون عدالة لكن ما أنا بكاتب لهم جواباً لأن الأمر معروف أنه منكم وأخاف أن أكتب لهم جواباً فينشرونه فيزعلكم وأشوف غايتكم قريبة وتحملون الأمر على غير محمله والسلام.
الرسالة الخمسون
(ص 317 )
بسم الله الرحمن الرحيم
من محمد بن عبد الوهاب إلى عبد الله بن عيد وبعد :
أبلغ السلام أحمد والحمولة وعيالكم، وما ذكرت أن الحمولة(48/181)
(1) فلا نحو (2) الكتاب قرأه سليمان ورحت أنا وإياه لابن عقيل ليسأله عن هذا، وتقدمت إلى بيته، ولحقني هو وابن ماهر قبل أن أواجه أحمد، وقال ابن ماهر إني كاتب ها الكلمة من عندي ما دري بها أحد فلا تشرفوه ولا شرفناه، فهذا بابها أني ما دريت بها لا أنا، ولا ابن عقيل والعجب أنهم يزعلون علي وينقدون، ويقولون إنه يصدق الأكاذيب وتغيره علينا، وهم ما انقدوا على أنفسهم أنهم يزعلون ويتغيرون بلا خبر صدق ولا كذب ـ إلا ظن سوء ظانينه فإن كان كل كلمة قيلت عندنا يحملونها على فتراهم يلقون كلاماً كباراً فيهم وفي غيرهم في الدين والدنيا خصوصاً في هذه القضية، يحكى عندنا كلاماً ما يتجاسر العاقل ينطق به، فإن كان مذكور لكم أني قائل شيئاً أو قائل أحد يحضرني كلام سوء ولا رديت عليه ـ فاذكروا لي ترى التنبيه حسن ولا يدخل خاطري إلا ربما أني أعرف أنه محبة وصفو، والذي يكدر الخاطر زعلكم، وإظهار كم للناس الزعل والتغير بسبب ظن سوء وإلا ما من قبلكم كذب ولا صدق. وأما من باب السؤالات وأنكم بلغكم أني ظان أنها من عبد الله فهذا عجب كيف تظنون أني ما أعرف خط ابن صالح ؟ وأيضاً أفهم أن عبد الله لا يسأل عن هذا، وأيضاً أنا ما أنقد عليه ولا عليكم إلا قلة الحرص والسؤال عن هذا الأمر لما فتح الله عليكم منه بعض الشئ، وودى ما يجي جماميل إلا ومعهم من عندكم سؤالات عن هذا وأمثاله فكيف أزعل منه ؟ بل هذا هو الذي يرضيني لكن هذه أنتم معذورون فيها إذا كانت عن ابن عمر، وهو متوهم ما حاكاني في بيان هذا الأمر لما وقع، ولا يدري عن الذي في خاطري لكنه يسمع من أهل الجنوبية وغيرهم، ونعرف حال الكلام من بعيد.(48/182)
فهذا صفة الأمر فإن كان أنتم المخالفون المتغيرون فالحق عليكم، فإن كان جارياً مني شئ تنقده فتراني أحب أن تنبهني عليه لا تترك بيان شئ في خاطرك من قبلي، وإن كنتم متجرفين على التغير أوجتكم الفتنة وودكم ببرد الأرض فهذا شئ آخر. وأما قولكم : إن الأمور ليست على الذي أعهده، وتشيرون علي بترك الكلام فلا أدري إيش مرادكم ؟ هو مرادك أني مثلكم في أحد لا ينبغي الكلام فيه ممن لا يظهر إلا الإيمان ولو ظنياً فيه النفاق فهذا كلام مقبول، وإن كان بلغك عني شيئاً فنبهني جزاك الله خيراً وإن كان مرادك أني أسكت عمن أظهر الكفر والنفاق، وسل سيف البغض على دين الله وكتابه ورسوله مثل ولد ابن سحيم، ومن أظهر العداوة لله ورسوله من أهل العيينة والدرعية أو غيرهم، فهذا لا ينبغي منك، ولا يطاع أحد في معصية الله، فإن وافقتونا على الجهاد في سبيل الله وإعلاء كلمة الله فلكم الحظ الأوفر، وإلا لم تضروا الله شيئا، وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم: أن الطائفة المنصورة لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفم (( وسيعلم الكفار لمن عقبي الدار )) وقد ذم الله الذي لا يثبت على دينه إلا عند ما يهواه فقال : (( ومن الناس من يعبد الله على حرف )) الآية (1) وينبغي لكم إذا عجزتم أوجبتم أنكم ما ما تلوموننا، ونحمد الله الذي يسر لنا هذا، وجعلنا من أهله، وقد أخبر أنه عند وجود المرتدين فلا بد من وجود المحبين المحبوبين فقال تعالى : (( يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأت الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين)) الآية(2) جعلنا الله وإياكم من الذين لا تأخذهم في هذا لومة لائم، وقيل لي إن ولد ابن سحيم كاتب لكم جواب الذي جاه فاذكر لي، وأبلغ السلام عيالكم ومن أردتم من الإخوان، وسليمان وثنيان يبلغون الجميع السلام والسلام.
الرسالة الحادية والخمسون
(ص 321 )
بسم الله الرحمن الرحيم(48/183)
من محمد بن عبد الوهاب إلى الإخوان (1) عبد الله بن على ومحمد بن جماز
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد :
لا تحركون إلى أن ننبكم تراكم ما تجوزون إلا براضة هلحين. وفرج وعرفج الذين وراهم يبون يتبينون في الدين ولا يبغون شيئاً فأنت يا عبد الله أخبرهم بالمبغي منهم ترى الأمر يدور على ما قال الله تعالى : (( فإن تأبوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة )) الآية فأمرهم بي يفهمونه ولكن الآمر لهم يأمرهم بالتوبة من الشرك والدخول في الإسلام، وأهل القصيم غارهم إن ما عندهم قبب ولا سادات، ولكن أخبرهم أن الحب والبغض والموالاة والمعاداة لا يصير للرجل دين إلا بها ماداموا ما يغيضون أهل الزلفي وأمثالهم فلا ينفعهم ترك الشرك ولا ينفعهم قول : (( لا إله إلا الله )) فأهم ما تفطنهم له كون التوحيد من أخل به مثل من أخل بصوم رمضان ولو ما أبغضه. وكذلك الشرك إن كان ما أبغض أهله مثل بغض من تزوج بعض محارمه فلا ينفعه ترك الشرك، وتفطنهم للآيات التي ذكر الله في الموالاة والمعاداة مثل قوله : (( ومن يتولهم منكم فإنه منهم )) وقوله في المعاداة : (( قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه )) إلى قوله : (( حتى تؤمنوا بالله وحده )) الآية، واذكر لهم أنه واجب على الرجل يعلم عياله وأهل بيته ذلك أعظم من وجوب تعليم الوضوء والصلاة. والله أعلم وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
هذا آخر ما تيسر جمعه من الرسائل الشخصية للشيخ محمد بن عبد الوهاب، نسأل الله أن ينفع بها وأن يجعل العمل خالصاً لوجهه الكريم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
الفهرس
رقم الرسالة ... الموضوع
1 ... رسالة الشيخ إلى أهل القصيم
2 ... رسالته إلى محمد بن عباد مطوع ثرمداء
3 ... رسالته إلى محمد بن عيد
4 ... رسالته إلى فاضل آل مزيد رئيس بادية الشام
5 ... رسالته إلى السويدي عالم من العراق
6 ... رسالته إلى العلماء الأعلام في بلد الله الحرام(48/184)
7 ... رسالته إلى عالم من أهل المدينة
8 ... رسالته إلى ابن صياح
9 ... رسالته إلى عامة المسلمين
10 ... رسالته إلى حمد التويجري
11 ... رسالته إلى عبد الله بن سحيم
12 ... جواب الشيخ عن الشبهة التي احتج بها من أجاز وقف الجنف والأثم
13 ... رد الشيخ على سليمان بن سحيم
14 ... رسالته إلى البكبلي صاحب اليمن
15 ... رسالته إلى إسماعيل الجراعي
16 ... رسالته إلى عبد الله بن عبد الله الصنعاني
17 ... رسالته إلى أهل المغرب
18 ... رسالة الشيخ إلى الأخ حسن
19 ... رسالته إلى محمد بن عيد وعبد القادر العديلي وجماعة معهم
20 ... رسالته إلى عبد الله بن سحيم
21 ... رسالته إلى محمد بن سلطان
22 ... رسالته إلى عامة المسلمين
23 ... رسالة الشيخ إلى ثنيان بن سعود
24 ... رسالته إلى عبد الرحمن بن ربيعة
25 ... جواب الشيخ عن كتاب وصله
26 ... رسالته إلى علماء الإسلام
27 ... رسالته إلى عامة المسلمين
28 ... رسالته إلى أهل الرياض ومفتوحة
29 ... رسالته إلى عامة المسلمين
30 ... رسالته إلى الأخ فايز
31 ... رسالة الشيخ إلى أحمد بن إبراهيم مطوع مرات
32 ... رسالته إلى محمد بن فارس
33 ... رسالته إلى أحمد بن عبد الكريم
34 ... رسالته إلى سليمان بن سحيم
35 ... رسالته إلى عبد الله بن عيس وابنه وعبد الله بن عبد الرحمن
36 ... رسالته إلى الأخوان
37 ... رسالة الشيخ إلى محمد بن عبد اللطيف
38 ... رسالته إلى الإخوان المؤمنين
39 ... رسالته إلى عبدالوهاب بن عبد الله بن عيسى
40 ... رسالته إلى عبدالوهاب بن عبد الله بن عيسى
41 ... رسالته إلى الأخوين أحمد بن محمد بن سويلم وثنيان بم سعود
42 ... رسالته إلى عبد الله بن عبد سويلم
43 ... رسالته إلى جماعة أهل شقراء
44 ... رسالته إلى الإخوان من أهل سدير
45 ... رسالته إلى أحمد بن يحي
46 ... رسالته إلى عبد الله بن عيسى مطوع الدرعية
47 ... رسالته إلى نغيمش وجميع الإخوان(48/185)
48 ... رسالته إلى والي مكة
49 ... رسالته إلى عبد الله بن عيسى وابنه عبدالوهاب
50 ... رسالته إلى عبد الله بن عيد
51 ... رسالته إلى الإخوان عبد الله بن علي ومحمد بن جماز(48/186)
الزَّهْرُ النَّضِرُ فِيْ أَخْبَارِ الْخَضِرِ
تَأْلِيْفٌ
الحافظ شهاب الدين،أبي الفضل أحمد بن على بن حجر العسقلاني
(773-852هـ)
نبذة عن الكتاب :
كتاب في العقيدة، يبحث فيه الإمام ابن حجر العسقلاني بمسألة نبوة الخضر، ونسبه وما ورد في تعميره وهل هو متوفى أم لا، وقد أفاد ابن حجر من الكتب التي سبقته عن هذا الموضوع ككتاب " ابن المنادى " وقد اطلع عليها ابن حجر ونقلها إلى كتابه بعد أن أضاف إلى مادتها أشياء كثيرة ظفر بها بعد طول التتبع، مفصلا القول فيما كان قد أجمله عند الحديث عن الخضر في كتابه " الإصابة في تمييز الصحابة "
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيْمِ
(بطاقة الكتاب: الزهر النضر في أخبار الخضر – تأليف: شهاب الدين أبو الفضل أحمد بن علي بن محمد بن محمد بن علي بن محمود بن حجر،الكناني ،العسقلاني (المولود:773هـ والمتوفى:852هـ)تحقيق:صلاح مقبول أحمد
الناشر:مجمع البحوث الإسلامية،جوغا بائي، نيو دلهي.الطبعة الأولى:1408هـ)
ص5
ذكر قصة الخضر في القرآن والحديث
الخضر في القرآن الكريم
سورة الكهف 60-82
ص:6
باب حديث الخضر مع موسى عليهما السلام
1- حدثنا عمرو بن محمد حدثنا يعقوب بن إبراهيم قال: حدثني أبي عن صالح عن أبي شهاب أن عبيد الله بن عبد الله أخبره عن ابن عباس أنه تمارى هو والحر بن قيس الفزاري في صاحب موسى
ص:7(49/1)
قال ابن عباس: هو خضر فمر بهما أبي بن كعب فدعاه ابن عباس فقال: إني تماريت أنا وصاحبي هذا في صاحب موسى الذي سأل السبيل إلي لقيته هل سمعت رسول الله يذكر شأنه؟ قال: نعم سمعت رسول الله يقول بينما موسى في ملإ من بني اسرائيل جاءه رجل فقال: هل تعلم أحدا أعلم منك؟ قال: لا فأوحى الله إلى موسى: بلى عبدنا الخضر" فسأل موسى السبيل إليه فجعل له الحوت آية وقيل له: إذا فقدت الحوت فارجع فإنك ستلقاه فكان يتبع الحوت في البحر فقال لموسى فتاه:{ أرأيت إذ أوينا إلي الصخرة فإني نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره} فقال موسى:{ ذلك ما كنا نبغ فارتدا على آثارهما قصصا فوجدا} خضرا فكان من شأنهما الذي قص الله في كتابه
2- حدثنا علي بن عبد الله حدثنا سفيان حدثنا عمرو بن دينار قال: أخبرني سعيد بن جبير قال: قلت لابن عباس: أن نوفا البكالي يزعم أن موسى صاحب الخضر ليس هو موسى بني اسرائيل إنما هو موسى آخر فقال: كذب عدو الله حدثنا أبي بن كعب عن النبي أن موسى قام خطيبا في بني اسرائيل فسئل أي الناس أعلم فقال: أنا. فعتب الله عليه إذ لم يرد العلم اليه فقال له: بلى لي عبد بمجمع البحرين هو أعلم منك قال: أي رب ومن لي به - وربما قال سفيان أي رب وكيف لي به - قال تأخذ حوتا فتجعله في مكتل حيثما فقدت الحوت فهو ثم - وربما
ص:0ح(49/2)
قال فهو ثمه - وأخذ حوتا فجعله في مكتل ثم انطلق هو وفتاه يوشع بن نون حتى إذا أتيا الصخرة وضعا رءوسهما فرقد موسى واضطرب الحوت فخرج فسقط في البحر فاتخذ سبيله في البحر سربا فأمسك الله عن الحوت جرية الماء فصار مثل الطاق - فقال هكذا مثل الطاق - فانطلقا يمشيان بقية ليلتهما ويومهما حتى إذا كان من الغد قال لفتاه آتنا غدائنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا ولم يجد موسى النصب حتى جاوز حيث أمره الله قال له فتاه أرأيت إذ أوينا إلي الصخرة فإني نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره واتخذ سبيله في البحر عجبا فكان للحوت سربا ولهما عجبا قال له موسى ذلك ما كنا نبغي فارتدا على آثارهما قصصا - رجعا يقصان آثارهما - حتى انتهيا إلى الصخر فإذا رجل مسجى بثوب فسلم موسى فرد عليه فقال وأنى بأرضك السلام قال أنا موسى قال موسى بني اسرائيل قال نعم أتيتك لتعلمني مما علمت رشدا قال يا موسى إني على علم من علم الله علمنيه الله لا تعلمه وأنت على علم من علم الله علمكه الله لا أعلمه قال هل أتبعك قال إنك لن تستطيع معي صبرا وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرا - إلى قوله- إمرا فانطلقا يمشيان على ساحل البحر فمرت بهما سفينة كلموهم أن يحملوهم فعرفوا الخضر فحملوه بغير نول فلما ركبا في السفينة جاء عصفور فوقع على حرف السفينة فنقر في البحر نقرة أو نقرتين قال له الخضر يا موسى ما نقص علمي وعلمك من علم الله إلا مثل ما
ص:0ط(49/3)
نقص هذا العصفور بمنقاره من البحر إذ أخذ الفأس فنزع لوحا قال فلم يفجأ موسى إلا وقد قلع لوحا بالقدوم فقال له موسى ما صنعت قوم حملونا بغير نول عمدت إلى سفينتهم فخرقتها لتغرق أهلها لقد جئت شيئا إمرا قال ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبرا قال لا تؤاخذني بما نسيت ولا ترهقني من أمري عسرا فكانت الأولى من موسى نسيانا فلما خرجا من البحر مروا بغلام يلعب مع الصبيان فأخذ الخضر برأسه فقلعه بيده هكذا - وأومأ سفيان بأطراف أصابعه كأنه يقطف شيئا - فقال له موسى أقتلت نفسا زكية بغير نفس لقد جئت شيئا نكرا قال ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبرا قال إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني قد بلغت من لدني عذرا فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض مائلا- أومأ بيده هكذا وأشار سفيان كأنه يمسح شيئا إلي فوق فلم أسمع سفيان يذكر مائلا إلا مرة - قال قوم أتيناهم فلم يطعمونا ولم يضيفونا عمدت إلى حائطهم لو شئت لأتخذت عليه أجرا قال هذا فراق بيني وبينك سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا قال النبي وددنا لو أن موسى كان صبر فقص الله علينا من خبرهما قال سفيان قال النبي يرحم الله موسى لو كان صبر يقص علينا من أمرهما وقرأ ابن عباس:{ أمامهم ملك يأخذ كل سفينة صالحة غصبا وأما الغلام فكان كافرا وكان أبواه مؤمنين} ثم قال لي سفيان سمعته
ص:0ي
منه مرتين وحفظته منه قيل لسفيان حفظته قبل أن تسمعه من عمرو أو تحفظته من إنسان فقال ممن أتحفظه ورواه أحد عن عمرو غيري سمعته منه مرتين أو ثلاثا وحفظته منه.
3- حدثنا محمد بن سعيد الأصبهاني أخبرنا ابن المبارك عن معمر عن همام بن منبه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي قال: إنما سمي الخضر لأنه جلس على فروة بيضاء فإذا هي تهتز من خلفه خضراء. قال الحموي: قال محمد بن يوسف بن مطر الفربري: حدثنا علي بن خشرم عن سفيان" بطوله صحيح البخاري
ص:1(49/4)
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيْمِ
بين يدي الكتاب
…إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله
يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون آل عمران 102 يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا النساء 1
يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما الأحزاب 70-71
أما بعد!
فإن أصدق الحديث كتاب الله وأحسن الهدى هدي محمد وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
وبعد!
فإن الإسلام رسالة إلهية واضحة وعقيدة ربانية صافية من أدران الشرك والإلحاد والعادات والتقاليد والخرافات والأوهام
ولكن - وللأسف الشديد - كلما ابتعد المسلمون من الاغتراف من المنهل الصافي الشفاف للكتاب والسنة الصحيحة بدت مواطن الضعف والوهن في عقيدتهم وتسربت إليها كثير من الخرافات والأوهام التي ما أنزل الله بها من سلطان وليست عليها أي مسحة من العقيدة والدين وزد إلى ذلك أنها سببت لتفريق كلمة المسلمين وتشتيت وحدة الأمة الإسلامية في كل عصر ومصر
ص:2
ومن الخرافات التي تطرقت إلى الأوساط الإسلامية من جهة بعض المدعين المتهوسين للزهد الفارغ والورع الأجوف وتروجت عبر التاريخ الإسلامي وآمن بها ضعفاء العقيدة والدين خرافة استمرار حياة الخضر - عليه السلام-(49/5)
ولا شك أن العلماء - منذ القديم - اختلفوا في هذا الأمر ولكن عندنا ميزانا دقيقا لنقد مثل هذه القضايا المختلف فيها هو كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:{يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا}
…فنرد هذه القضية إلى كتاب الله وسنة رسول الله فإن وافقا عليها نعتقد بأن الخضر- عليه السلام- حي يرزق من يوم ولادته حتى الآن ولا يزال إلى ما شاء الله وهذا من أعظم الآيات لربوبية الله عز وجل :{وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم }
وإن لم نجد في الكتاب والسنة الصحيحة ما يدل على استمرار حياته نرفضه ولا كرامة مهما ادعى الصوفية والصالحون بلقائهم إياه في القفارى والفلوات ومواطن الخير ومواضع الشرف
وذلك لأن الكتاب والسنة الصحيحة هما الوسيلة الوحيدة للاطلاع على مثل هذه الأمور الغيبية والإيمان باستمرار حياة أحد من الناس إلى ما دامت السماوات والأرض يحتاج إلى دليل نقلي صريح لأنه يمس جانب العقيدة التي لا تثبت إلا بذلك
ص:3
أما ادعاء مبني على الظن والتخمين بأن الخضر - عليه السلام - حي ولا يزال إلى قيام الساعة فليس فيه دليل ولا برهان بل هو مجرد و،عارٍ من الأصالة والتحقيق وخرافة ليست من الدين في شيء:{ إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس وقد جاء من ربهم الهدى}
هذا الكتاب يحتوي على النصوص الموافقة والمخالفة المهمة والأدلة القوية الصريحة في الموضوع لما لمؤلفه شخصية موسوعية وعلم غزير واطلاع واسع على كتب العلماء القدامى والمحدثين وستنكشف حقيقة استمرار حياة الخضر - عليه السلام - تتبخر ادعاءات المدعين بذلك خلال دراسة هذا الكتاب إن شاء الله(49/6)
الكتب المستقلة في أخبار الخضر
…لما كان موضوع بقاء الخضر- عليه السلام - وعدمه مختلفا فيه لدى العلماء فاسترعى انتباههم لكشف الستار عن وجهه فألفوا كتبا مستقلة كثيرة قد عثرت على أسماء بعضها خلال مراجعة المصادر والمراجع في الموضوع ومنها:
1 جزء في أخبار الخضر لأبي الحسين أحمد بن جعفر بن المنادي البغدادي - 336هـ
2 جزء في أخبار الخضر لعبد المغيث بن زهير الحربي الحنبلي البغدادي -583 هـ 3 عجالة المنتظر في شرح حال الخضر لعبد الرحمن بن علي بن
ص:4
الجوزي ـ 597 هـ وهذا في نقض ما كتبه عبد المغيث الحربي 4 مجلد في موت الخضر له أيضا
5 مختصره له أيضا
6 إرشاد أهل الإخلاص لحياة الخضر وإلياس لمحمد بن أبي الخير أحمد القزويني ـ620 هـ
7 رسالة في الخضر هل مات أم هو حي لعبد الحليم أحمد بن تيمية الحراني ـ728 هـ
8 جزء في وفاة الخضر لمحمد بن علي بن عبد الواحد الدكالي المعروف بابن النقاش ـ 763هـ
9 جزء في حياة الخضر لعبد الله بن أسعد اليافعي ـ 768هـ
10 الروض النضر في أنباء الخضر لأبي الفضل العراقي ـ 806هـ
11 جزء في الخضر للقاضي عليم الدين البساطي ـ 842هـ
12 الزهر النضر في حال الخضر لأحمد بن علي بن حجر العسقلاني
ص:5
ـ 852هـ
13 القول المنتصر على المقالات الفارغة بدعوى حياة الخضر للحسين بن عبد الرحمن الأهدل ـ 855هـ
14 رسالة في الخضر لجلال الدين السيوطي ـ 911هـ
15 كشف الخدر عن أمر الخضر لملا علي القاري الهروي ـ 1014هـ
16 القول المقبول في الخضر هل نبي أم ملك أم رسول لأحمد بن محمد بن علي المعروف بالغنيمي ـ 1034هـ
17 القول الدال على حياة الخضر ووجود الأبدال لنوح بن مصطفى الحنفي ـ1070 هـ
…هذا وما كتبه ابن تيمية في فتاواه في مواضع متفرقة وابن القيم في المنار المنيف وابن كثير في البداية والنهاية وابن حجر في الإصابة يعتبر أيضا رسائل مستقلة
كتابنا هذا(49/7)
إن الحافظ - رحمه الله - كتب ترجمة موسعة للخضر- عليه السلام - في الإصابة في تمييز الصحابة لما اشترط أنه يذكر فيه كل من قيل فيه إنه صحابي وإن لم يرد في خبر ثابت أنه من جملة الصحابة ثم أفرده في كتاب مستقل بشيء من الحذف والزيادة وفي هذا الكتاب ناقش
ص:6
المؤلف - رحمه الله - مسألة موته وبقائه حيا إلى زمن النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خلال دراسة الروايات الواردة في ذلك مناقشة طيبة باستقصاء فريد وقراءات مستوعبة يطمئن إليها القلب وذكر أخبار كثير ممن ينتمي إلى الصلاح بأنهم يرونه وأنه حي إلى أن قال: والذي تميل إليه النفس من حيث الأدلة القوية خلاف ما يعتقده العوام من استمرار حياته.
تحقيق اسم هذا الكتاب:
…لم يذكر الحافظ - رحمه الله - اسم هذا الكتاب في مقدمته له واكتفى بقوله: وقد أفردته الآن ليقف كل سائل عنه على كل ما كنت قرأته وسمعته وجعلته أبوابا".
…وقد طبعه العلامة محمد منير الدمشقي - رحمه الله - ضمن مجموعة الرسائل المنيرية بعنوان( الزهر النضر في نبأ الخضر)
قال السخاوي تلميذ المؤلف - وهو يذكر المؤلفات في أخبار الخضر _ وأحسن مصنف في ذلك كلام صاحب الترجمة يعني ابن حجر الذي أفرده من كتابه الإصابة وسماه : الزهر النضر في حال الخضر"
…وقد أثبت ما ذكره السخاوي عنوانا للكتاب لما له صلة علمية قوية بشخصية شيخه المؤلف ودور كبير في جمع شتات تراثه بعد وفاته وقد لازمه أشد ملازمة وحمل عنه مالم يشاركه فيه غيره. والله أعلم.
ص:7
قصتي مع هذا الكتاب:(49/8)
…نظم قسم النشاط الثقافي بإدارة الإشراف والتوجيه الاجتماعي بالجامعة الإسلامية بالمدينة الطيبة مسابقة صيفية عامة لعام 1398 - 1399هـ وأعلن القسم المذكور المسابقة - وكنا نمر بزمن اختبار النقل من السنة الثانية إلى الثالثة بكلية الحديث الشريف والدراسات الإسلامية - وكان من بين المواضيع الكثيرة المطروحة لها موضوع الأحاديث الواردة في الخضر وحياته جمع ودراسة وتخريج
وقد أعجبني هذا الموضوع وجمعت - بفضل الله ومنه - ما تيسر لي جمعه من الأحاديث والأخبار والحكايات في بحث مستقل بنحو تسعين صحيفة فل اسكاب وقدمته إلى القسم وفاز بالمرتبة الأولى بتصحيح واختبار أستاذنا الدكتور سعدي صالح الهاشمي العراقي أستاذ مادة التخريج ودراسة الأسانيد بكلية الحديث ولله الحمد.
وكان أكبر اعتمادي في إعداد هذا البحث على هذا الكتاب وكم كنت أتمنى منذ ذلك الوقت أن أحقق هذا الكتاب ولكن تأخر العمل إلى ما شاء الله وكانت أمنيتي لتحقيقه تراود نفسي حينا لآخر وها أنا قد أنجزت ذلك الآن بفضل من الله وتوفيقه.
عملي في هذا الكتاب
1 كتبت مقدمة التحقيق
… أ- ترجمة المؤلف
ب-خلاصة المباحث في أخبار الخضر
2 عزوت الآيات القرآنية إلى مواضعها من سورها
3 خرجت الأحاديث والاثار والأخبار والحكايات وعزوتها إلى مصادرها التي نقل الحافظ عنها ما دمات تحت متناول يدي وإلا فعزوتها إلى مراجع ثانوية وذلك لضعف حيلتي وقلة اطلاعي
4 قارنت النصوص وصححت الأخطاء الواردة فيها وإن زدت عليها شيئا فهو ما بين المعكوفين
5 رقمت الفقرات لتسهيل الرجوع إلى المطلوب
6 وضعت ثمانية فهارس متنوعة في آخر الكتاب
شكر وتقدير
…أشكر الله عز وجل على ما أنعمني من الوقت والصحة حتى تمكنت من إكمال هذا العمل المتواضع ثم أشكر الإخوة الأفاضل الذين راجعوا الكتاب وشجعوني على إخراجه في أسرع وقت ممكن.(49/9)
ولا يفوتني أن أسجل شكري لفضيلة أستاذنا الشيخ عبد الحميد عبد الجبار الرحماني - حفظه الله وتولاه - الرئيس العام لمركز التوعية الإسلامية والأمين العام لمعهد التعليم الإسلامي بدهلي الجديدة - الذي قام بنشر هذا الكتاب وحاول أن يخرج في حلة قشيبة فجزاه الله خير ما يجازي به عباده الصالحين.
…وأدعوا الله عز وجل أن يوفقني لخدمة كتابه وسنة رسوله ويجعل عملي هذا خالصا لوجهه الكريم يوم لا ينفع مال ولا بنون وهو ولي ذلك والقادر عليه وبنعمته تتم الصالحات.
وصلى الله تعالى على نبينا وآله وصحبه أجمعين
ص:9
ترجمة المؤلف
نسبه
هو شهاب الدين أبو الفضل أحمد بن علي بن محمد بن محمد بن علي بن محمود بن حجر الكناني العسقلاني الشافعي المصري المولد والمنشأ والوفاة القاهري
وقال السخاوي هذا هو المعتمد في نسبه
مولده
ولد في شعبان سنة ثلاث وسبعين وسبعمائة على شاطئ النيل بمصر القديمة
واختلف مترجموه في تحديد تأريخ ولادته ما بين الثاني عشر والثالث عشر والثاني
وعشرين والثاني من الشهر المذكور
نشأته
نشأ ابن حجر يتيما كما عبر هو عن نفسه إذ مات أبوه في رجب سنة سبع وسبعين وسبعمائة ذلك وهو وماتت أمه قبل طفل صغير
…وقد أوصى أبوه قبل وفاته باثنين من الذين كانت بينه وبينهم مودة أحدهما زكي الدين أبو بكر بن نور الدين علي الخروبي ـ787هـ ولم يال جهدا في رعايته والعناية بتعليمه وكان يستصحبه معه عند مجاورته في مكة
ص:11
والثاني شمس الدين محمد بن القطان المصري ـ813هـ لازمه الحافط بعد وفاة وصيه الأول زكي الدين وحضر دروسه في الفقه و العربية والحساب
دخل الكتاب وهو ابن خمس سنين وأكمل حفظ القرآن وهو في التاسعة من عمره وصلى بالناس التراويح في الحرم المكي سنة 785هـ وكان حينئذ مع وصيه الزكي الخروبي في مكة المكرمة
…ويمكن تصور بوادر نبوغه وشجاعته فبقدر ما كانت مفخرة له كصبي يتقدم إماما فإنها كانت لحظة حاسمة وحرجة اجتازها بثبات وحسن أداء(49/10)
وصلى بعد ذلك بالقدس أيضا
مهمته العلمية
بلغ به الحرص على تحصيل العلم مبلغا جعله يستأجر أحيانا بعض الكتب وفي سنة 790 هـ أكمل السابعة عشرة من عمره حفظ فيها القرآن وكتب من مختصرات العلوم وسمع صحيح البخاري على بعض المشايخ كما سمع من علماء عصره البارزين واهتم بالأدب والتاريخ
وهذه حصيلة ثقافية لا يستهان بها بالنسبة لعمره
ولما بلغ في التاسعة عشرة من عمره فاق أقرانه في فنون الأدب وقال الشعر الرائق والنثر الفائق ونظم المدائح النبوية والمقاطيع
ص:12
نقطة تحول في حياته
لما بلغ الحافظ الغاية القصوى في الفنون والأدب شاء الله عز وجل أن يصرفه عنها وحبب إليه علم الحديث النبوي فأقبل عليه سنة 793هـ غير أنه لم يكثر إلا من سنة -796هـ وعلت له الشهرة واشتغل به حتى صار حافظ عصره وشيخ الإسلام
رحلاته في طلب العلم
كانت الرحلة في طلب العلم في كل عصر من التاريخ الإسلامي سمة بارزة ومظهرا مهما لتلقي العلوم على أيدي الشيوخ الذين كانوا في أنحاء بعيدة وبلاد نائية من بلد الطالب وكان يلجأ إلى الرحلة إليها بعد استكمال ثقافته المحلية
وما كان الحافظ ان يقتنع بثقافة بلده بل رحل إلى بلاد عديدة خارج مصر من أهمها اليمن والحجاز والشام وأخذ علم الحديث عن مشاهير علماء هذه البلاد
شيوخه المعروفون
…بلغ عدد شيوخه بالسماع وبالإجازة وبالإفادة على ما بين بخطه نحو أربعمائة وخمسين نفسا ومن أهمهم في الحديث والفقه
عفيف الدين عبد الله بن محمد النيسابوري المعروف بالنشاوري ـ790هـ مسند الحجاز هو أول شيخ سمع عليه الحديث المسند فيما اتصل بعلمه سمع عليه شيئا من صحيح البخاري سنة 785هـ
ص:13
محمد بن عبد الله ظهيرة جمال الدين المكي ـ817 هـ قرأ عليه بحثا في علوم الأحكام وهو من علماء الحجاز
نجم الدين أبو محمد عبد الرحيم بن رزين بن غالب المسند سمع منه صحيح
البخاري بقراءة الجمال المذكور سنة676هـ وقال الحافظ وكان أول من سمعت(49/11)
بقراءته الحديث وذلك سنة 786هـ بمصر
علي بن أبي بكر أبو الحسن الهيثمي 735-807هـ وكان يود الحافظ كثيرا وشهد له بالتقدم في الفن وقرأ عليه قرينا لشيخه العراقي ومنفردا
عمر بن علي بن أحمد الملقن 723-804هـ كان أكثر أهل عصره تصنيفا
أبو حفص عمر بن رسلان البلقيني سراج الدين 724-805 هـ وهو أستاذه في الفقه ولازمه مدة وهو أول من أذن له بالتدريس والإفتاء وتبعه غيره وشهد له بالحفظ في المجلس العام
أبو الفضل عبد الرحيم بن الحسين العراقي 725 - 806 هـ الحافظ الكبير لازمه الحافظ ابن حجر عشر سنوات وتخرج به وهو أول من أذن له بالتدريس في علوم المصطلح سنة 797هـ ولقبه بالحافظ وعظمه ونوه بذكره وشهد له بأنه أعلم أصحابه بالحديث
أثنى الحافظ ابن حجر على هؤلاء الثلاثة الأواخر بصفة خاصة وقال إنهم أعجوبة هذا العصر على رأس القرن أي التاسع الهجري
الأول ابن الملقن في كثرة التصانيف
والثاني البلقيني في التوسع في معرفة مذهب الشافعي
والثالث العراقي في معرفة الحديث
وقدر أن كل واحد من الثلاثة ولد قبل الاخر بسنة ومات قبله بسنة كما هو ظاهر من تأريخ مواليدهم ووفياتهم
ص:14
والهيثمي أيضا مات بعد الأخير أي العراقي بسنة وإن كانت ولادته قبله بعشر سنوات
ولا شك أن الحافظ - كما قال البقاعي- تقدم على مشايخه في حياتهم ووصفوه بالحفظ والاتقان والنقد والعرفان مع ذلك كان احترام الحافظ وتقديره لشيوخه أعظم وأجل
تلامذته
استقطبت دروسه العلماء والتلاميذ سواء بسواء وأخذ الناس عنه طبقة بعد طبقة وألحق الأبناء بالآباء والأحفاد بل أبناءهم بالأجداد وأكب الناس على التردد إليه حتى اصبحوا لا يحصون كثرة وانتشروا في أرجاء الأقطار فكان رؤساء العلماء من كل مذهب وفي كل قطر من تلاميذه
سرد ابن خليل الدمشقي ثلاثمائة وخمسين نفسا من تلاميذه والآخذين عنه وأوصل عددهم السخاوي إلى خمسمائة شخص وكلاهما على حروف المعجم
ومن أبرز هؤلاء التلاميذ(49/12)
إبراهيم بن عمر بن حسن البقاعي ـ885هـ صاحب عنوان الزمان
زكريا بن محمد الأنصاري ـ926هـ صاحب شرح ألفية العراقي
ص:15
ابن تغري بردي ـ874هـ صاحب النجوم الزاهرة
ابن فهد المكي ـ 871هـ صاحب لحظ الألحاظ
وابن قاضي شهبة الدمشقي ـ874هـ صاحب الطبقات
اسماعيل بن محمد بن أبي بكر المقريء اليمني ـ 837هـ صاحب عنوان الشرف الوافي
يوسف بن شاهين أبو المحاسن الكركي ـ899هـ سبط ابن حجر صاحب رونق الألفاظ
محمد بن عبد الرحمن السخاوي ـ902هـ صاحب الضوء اللامع والمصنفات الكثيرة
وقد لازمه السخاوي أشد ملازمة وحمل عنه مالم يشاركه فيه غيره وتوفي بعد وفاة شيخه وجمع شتات تراثه وكتب في ترجمة شيخه مجلدا ضخما مستقلا باسم الجواهر والدرر في ترجمة شيخ الإسلام ابن حجر
تصانيفه
بدأ الحافظ ابن حجر- رحمه الله- التصنيف في سنة 796هـ واستمر حتى قبيل وفاته وهو يعتبر من المكثرين في هذا الباب حتى صار من الصعب حصر جميع آثاره
ولذلك اكتفى بعض مترجميه بقولهم عن مصنفاته أنها تزيد على مائة وخمسين مصنفا
وقال السخاوي يزيد على 270 مصنفا
ص:16
وقد ذكر الدكتور شاكر محمود عبد المنعم 282 كتابا ما بين صغير وكبير مطبوع ومخطوط وموجود ومفقود
وكذلك ذكر تحت عنوان الكتب المنسوبة إليه 38 كتابا وهي الكتب التي لم يذكرها إلا مصدر معاصر واحد ولا تعضده في ذلك المصادر الأخرى و نسبه إليه مصدر غير معاصر له أو وجد الكتاب منسوبا إلى غيره أيضا
وقد ذكرها الدكتور شاكر تحت هذا العنوان احتياطا حتى لا ينسب مصنف إلى مؤلف لم يعمله وقال إن ذلك لا يعني نفي نسبة مصنف ما إلى الحافظ ابن حجر فهو موسوعي ولا نستبعد منه المزيد
ومن أهم كتبه المطبوعة
الإصابة في تمييز الصحابة
فتح الباري بشرح صحيح البخاري
تهذيب التهذيب
تقريب التهذيب
الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة
لسان الميزان
التلخيص الحبير
تعجيل المنفعة
بلوغ المرام
نزهة النظر في توضيح نخبة الفكر(49/13)
القول المسدد في الذب عن مسند الإمام أحمد
الإمتاع في الأربعين المتباينة بشرط السماع تحت الطبع
ص:17
أشغاله العلمية المتنوعة
التدريس والإملاء
درس في مدارس كثيرة وتفوق على خمس عشرة مدرسة وقام بالإملاء الذي درس بعد ابن الصلاح ـ643هـ إلى أواخر أيام الحافظ العراقي فافتتحه سنة 796 هـ واستمر حتى وفاته سنة 806 هـ وشرع ابن حجر بالإملاء في سنة 808هـ واستمر إلى أن مات فأملى ما يزيد على ألف مجلس
القضاء
لقد امتنع باديء ذي بدء عن تولي منصب القضاء ثم رضى به نيابة عن البلقيني بعد وفاته بطلب القاضي ولي الدين العراقي ثم ما لبث أن تولاه استقلالا في السابع والعشرين من محرم سنة 827هـ وزادت مدة قضائه على إحدى عشرة سنة وزهد فيه زهدا تاما لكثرة ما توالى عليه من التأزم والحرج بسببه
وصرح بأنه لم يبق في بدنه شعرة تقبل اسمه
الخطابة والإفتاء
تولى الخطابة في الجامع الأزهر وجامع عمرو بن العاص ووصف السخاوي خطبته فقال
ص:18
أما خطبته فكان لها صدع في القلوب وتزداد - وهو على المنبر- في المهابة والنور ما لا أستطيع وصفه بحيث كنت إذا نظرت إليه وهو على المنبر يغلبني البكاء
وكذلك نهض بمهمة الفتيا بدار العمل سنة 815 هـ وامتازت فتاويه بالإيجاز مع حصول الغرض منها وبز علماء عصره فيها واعتنى بإخراجها محررة مستندة إلى الأدلة ذات الاعتبار وهو فقيه النص
وبلغ معدل ما كان يكتبه في بعض الأوقات 30 فتيا في اليوم
خزن الكتب
ولقد قام بمهمة خزن الكتب بالمكتبة المحمودية وعمل لها فهرسين أحدهما على الأبواب والثاني على الحروف
وكان مثالا للحرص على كتبها ويفتديها بكتبه فكان يقول: لا يؤخذ من كتب الخزانة إلإ ما ليس في كتبي
هذا وكان يقوم بدور عام في الإصلاح والإرشاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ودفع الظلم والحيف عن الناس
ويظهر ذلك من انتقائه لمادة أماليه - خاصة المطلقة منها - لأمور ذات مساس بالحياة الاجتماعية(49/14)
هذه هي الصفات العلمية والخلقية التي جعلته مصداقا للقب شيخ الإسلام وحافظ العصر وخاتمة المحدثين وأمير المؤمنين في الحديث
ص:19
لقد شرب ماء زمزم ليصل إلى مرتبة الذهبي في الحفظ ثم حج بعد مدة تقرب عشرين سنة. فسأل الله تعالى المزيد ورجا أن ينال ذلك فحقق الله رجاءه وشهد له بذلك التعبر غير واحد.
مذهبه في الأسماء والصفات
…لا يخفى على من يقرأ كتاب الحافظ ابن حجر - رحمه الله - بأنه يرى رأى المؤولين في أسماء الله وصفاته وهو خلاف معتقد السلف الصالح وقد عمت هذه البلوى فما عصم منها إلا من رحم ربه.
وإليكم مثالا من فتح الباري حيث يشرح حديث أحب الدين اليه أي الله أي ما دام عليه صاحبه فيقول:
قوله أحب قال القاضي أبو بكر بن العربي معنى المحبة من الله تعلق الإرادة بالثواب أي أكثر الأعمال ثوابا وأدومها
وهذا من التأويل الباطل والحق الذي عليه أهل السنة أن معنى المحبة غير معنى الإرادة والله سبحانه موصوف بها على الوجه الذي يليق بجلاله ومحبته لا تشابه محبة خلقه كما أن إرادته لا تشابه إرادة خلقه وهكذا سائر صفاته كما قال تعالى ليس كمثله شيء وهو السميع البصير
وليس هذا موضع التفصيل في هذا الموضوع إلا أن علامة الجزيرة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز - حفظه الله - قد علق على تأويله في الأسماء والصفات بحوالى ستة مواضع في الجزء الأول من الفتح فقط
ص:20
مذهبه الفقهي
كان الحافظ - رحمه الله - شافعيا باتفاق المصادر إلا أن الكتاني ذكر نقلا عن ما في ثبت الشهاب أحمد بن القاسم البوني إن الحافظ انتقل في آخر عمره لمذهب مالك وقال أي البوني: رأيت ذلك بخطه في مكة المكرمة.
وقال الكتاني ولعل رجوعه في مسألة أو مسألتين والله أعلم
…ولا شك أن أدوات الاجتهاد قد اجتمعت لديه وهو يقتدي بالأئمة ولا يقلدهم وشتان ما بين الاثنين فهو يوازن بين الأدلة ويأخذ بأرجحها حتى وإن لم توافق السادة الشافعية(49/15)
وفاته قدم الحافظ ابن حجر - رحمه الله - خدمات جليلة للحديث النبوي وعلومه أكثر من نصف قرن وصار أعجوبة الدنيا ولقب بالحافظ وشيخ الإسلام لعلمه الغزير وكفاءته في كل ميدان من ميادين الدين والعلم
في آخر حياته أصيب بالإمساك وقد دام أكثر من شهر حيث أصيب بإسهال ورمي دم ديسانتري غير أن السخاوي يقول:
ولا استبعد أنه أكرم بالشهادة فقد كان الطاعون قد ظهر
ووافاه الأجل ولحق بالرفيق الأعلى في أواخر شهر ذي الحجة من سنة اثنتين وخمسين وثمان مائة.
ص:21
واختلف مترجموه في تحديد تأريخ وفاته ما بين الثامن والعشرين والتاسع عشر والثامن عشر من ذي الحجة
وكان يوم موته عظيما على المسلمين وحتى على أهل الذمة؛ شيعته القاهرة إلى مدفنه وقدر أحد الأذكياء أنه اشترك فيه نحو خمسين ألفا تزاحم الأمراء والأكابر على حمل نعشه ومشى إلى تربته من لم يمش نصف مسافتها قط.
وصلى عليه بمصلاة بكتمر المؤمنى حيث أمر السلطان الظاهر جقمق بأن يحضر إلى هناك ليصلى عليه وتقدم في الصلاة عليه الخليفة بإذن من السلطان
ودفن - رحمه الله - تجاه تربة الديلمي بتربة بني الخروبي بين مقام الشافعي ومقام سيدي مسلم السلمي وتقع تربته على بعد 1500 م من مقام الإمام الشافعي
اللهم اغفر له وارحمه واعفه واعف عنه وأكرم نزله ووسع مدخله
ص:22
خلاصة الأخبار في الخضر
اسمه ونسبه اختلف العلماء المؤرخون في اسم الخضر - عليه السلام - ونسبه على أكثر من عشرة أقوال
وأشهر أسمائه بليابن ملكان
وكنيته أبو العباس
وهو معروف بلقبه الخضر
سبب تسميته بالخضر
يوجد في مصادر التفسير والحديث والتأريخ سببان لتسميته بالخضر 1 ما رواه البخاري وأحمد والترمذي وغيرهم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه عن النبي - قال
إنما سمي الخضر لأنه جلس على فروة بيضاء فإذا هي تهتز من خلفه خضراء 2 قال الخطابي إنما سمي الخضر خضرا لحسنه وإشراقه(49/16)
قال ابن كثير هذا لا ينافى ما ثبت في الصحيح فإن كان ولا بد من التعليل بأحدهما فما ثبت في الصحيح أولى وأقوى بل لا يلتفت إلى ما عداه
ص:23
الخضر المعروف هو صاحب موسى بن عمران عليهما السلام
وقد ورد بعض الخلاف في الخضر هل صاحبه موسى بن عمران - عليه السلام - أم غيره
ومنشأ هذا الخلاف بين المؤرخين هو بعض الروايات الإسرائيلية والتأريخية التي ورد فيها أن موسى بن ميشا بن يوسف بن يعقوب نبي قبل موسى بن عمران وأنه هو الذي طلب الخضر بن ملكان.
وهو قول ساقط مرجوح سندا وتأريخا
والصحيح الراجح في ضوء النصوص الحديثية والتأريخية الصحيحة أن موسى بن عمران - عليه السلام - الذي أنزلت عليه التوراة هو صاحب الخضر المعروف الوارد قصته مع موسى عليهما السلام - في سورة الكهف.
وقد روى الشيخان - البخاري ومسلم - في صحيحيهما من طريق سعيد بن جبير قال قلت لابن عباس أن نوفا البكالي يزعم أن الخضر ليس بصاحب موسى فقال كذب عدو الله
ولم يقل ذلك ابن عباس - رضي الله عنهما - فيه إلا على وجه
ص:24
الإغلاظ لمخالفته قول رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الثابت بأن الخضر هو صاحب موسى بن عمران - عليهما السلام-
وقد غضب ابن عباس على قوله هذا وقال: كذب عدو الله لشدة إنكاره عليه وفي حال الغضب تطلق الألفاظ ولا تراد بها حقائقها
الخضر ملك أو ولي أو نبي ؟
اختلف المفسرون والمؤرخون في الخضر - عليه السلام - بهذا الصدد على ثلاثة أقوال مشهورة:
القول الأول: إنه ملك من الملائكة يتصور في صور الآدميين مغيرا ذاتا
قال النووي هذا غريب باطل
وقال ابن كثير هذا غريب جدا
القول الثاني: أنه ولي ذهب إليه جماعة من الصوفية وغيرهم وقال به أبو علي بن أبي موسى من الحنابلة وأبو بكر الأنباري وأبو القاسم القشيري
ص:25(49/17)
ويلاحظ أن كثيرا منهم يفضلون الولي - في زعمهم -إما مطلقا وإما من بعض الوجوه على النبي زاعمين أن في قصة الخضر مع موسى -عليه السلام- الواردة في سورة الكهف حجة لهم
وممن يفضل بعض الأولياء أمثال الخضر عليه السلام على الأنبياء الحكيم الترمذي في كتاب ختم الأولياء ؛قال: يكون في آخر الأولياء من هو أفضل من الصحابة وربما لوح بشيء من ذكرالأنبياء فقام عليه المسلمون وأنكروا ذلك عليه ونفوه من البلد بسبب ذلك.
ومنهم سعد الدين بن حمويه
وابن عربي صاحب الفصوص والفتوحات المكية القائل
مقام النبوة في برزخ……فويق الرسول ودون الولي
الرد على تفضيل الولاية على النبوة والرسالة
وقد رد شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -على خزعبلات الصوفية في تفضيل الولي على النبي ردا جميلا وحلل النواحي المتعلقة بذلك تحليلا دقيقا حيث قال قد أجمع المسلمون على أن موسى أفضل من الخضر فمن قال إن الخضر أفضل فقد كفر وسواء قيل إن الخضر نبي أو ولي والجمهور على أنه ليس بنبي
بل أنبياء بني إسرائيل الذين اتبعوا التوراة وذكرهم الله تعالى كداود وسليمان أفضل من الخضر
بل على قول الجمهور إنه ليس بنبي فأبو بكر وعمر - رضي الله عنهما- أفضل منه
ص:26
وكونه يعلم مسائل لا يعلمها موسى لا يوجب أن يكون أفضل منه مطلقا كما أن الهدهد قال لسليمان:{أحطت بما لم تحط به}لم يكن أفضل من سليمان
وكما أن الذين كانوا يلقحون النخل لما كانوا أعلم بتلقيحه من النَّبِيَّ صَلَّ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يجب من ذلك أن يكونوا أفضل منه. وقد قال لهم: وأنتم أعلم بأمر دنياكم وأما ما كان من أمر دينكم فإلي.
وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي- رضي الله عنهم - كانوا يتعلمون ممن هم دونهم علم الدين الذي هو عندهم .
وقد قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لم يبق بعدي من النبوة إلا الرؤيا الصالحة" ومعلوم أن ذريتهم في العلم أفضل ممن حصلت له الرؤيا الصالحة .(49/18)
وغاية الخضر أن يكون عنده من الكشف ما هو جزء من أجزاء النبوة فكيف يكون أفضل من نبي فكيف بالرسول فكيف بأولى العزم وقال - رحمه الله -: قول القائل إنه نقيب الأولياء فيقال له من ولاه النقابة وأفضل الأولياء أصحاب محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وليس فيهم الخضر
وقال: ومن
ص:27
قال: إنه نقيب الأولياء أو إنه يعلمهم كلهم فقد قال الباطل.
وقال بعد ذكر كلام الصوفية في تفضيل الولاية على النبوة: وكل هذه المقالات في أعظم الجهالات والضلالات بل من أعظم أنواع النفاق والإلحاد والكفر.
وقال: وقد يحتج بعضهم بقصة موسى والخضر ويظنون أن الخضر خرج عن الشريعة وهم في هذا ضالون من وجهين:
أحدهما: أن الخضر لم يخرج عن الشريعة بل الذي فعله كان جائزا في شريعة موسى ولهذا لما بين له الأسباب أقره على ذلك
ولو لم يكن جائزا لما أقره ولكن لم يكن موسى يعلم الأسباب التي بها أبيحت تلك فظن أن الخضر كالملك الظالم فذكر ذلك له الخضر
والثاني: أن الخضر لم يكن من أمة موسى ولا كان يجب عليه متابعته بل قال له إني على علم من علم الله علمنيه الله لا تعلمه وأنت على علم من علم الله علمكه الله لا أعلمه وذلك أن دعوة موسى لم تكن عامة فإن النبي كان يبعث إلى قومه خاصة ومحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعث إلى الناس كافة بل بعث إلى الإنس والجن باطنا وظاهرا فليس لأحد أن يخرج عن طاعته ومتابعته لا في الباطن ولا في الظاهر لا من الخواص ولا من العوام .
كلام نفيس لشارح العقيدة الطحاوية:
قال - رحمه الله - : وأما من يتعلق بقصة موسى مع الخضر - عليهما السلام- في تجويز الاستغناء عن الوحي بالعلم اللدني الذي يدعيه بعض من عدم التوفيق فهو ملحد زنديق فإن موسى- عليه
ص:28
السلام- لم يكن مبعوثا إلى الخضر ولم يكن الخضر مأمورا بمتابعته ولهذا قال له: أنت موسى بني إسرائيل؟ قال: نعم .(49/19)
ومحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مبعوث إلى جميع الثقلين ولو كانا موسى وعيسى حيين لكانا من أتباعه وإذا نزل عيسى - عليه السلام -إلى الأرض إنما يحكم بشريعة محمد
فمن ادعى أنه مع محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كالخضر مع موسى أو جوز ذلك لأحد من الأمة فليجدد إسلامه وليشهد شهادة الحق فإنه مفارق لدين الإسلام بالكلية فضلا عن أن يكون من أولياء الله وإنما هو من أولياء الشيطان.
وهذا الموضع مفرق بين زنادقة القوم وأهل الاستقامة
القول الثالث: أنه نبي قاله جمهور العلماء المحققين
قال الثعلبي: هو نبي في جميع الأقوال
وقال القرطبي: الخضر نبي عند الجمهور
وقال الحبري المفسر وأبو عمر: هو نبي.
وذكر الآلوسي نبوته عند الجمهور
وقد رجح الحافظ ابن حجر - رحمه الله -أيضا في هذه الرسالة أنه نبي. وقال:
ص:29
وكان بعض أكابر العلماء يقول: أول عقدة تحل من الزندقة اعتقاد كون الخضر نبيا لأن الزنادقة يتذرعون بكونه غير نبي إلى أن الولي أفضل من النبي كما قال قائلهم:
مقام النبوة في برزخ ……فويق الرسول ودون الولي
الأدلة على نبوة الخضر - عليه السلام-
إذا تأمل القاري في أمر الخضر لوجد أدلة عديدة من الكتاب والسنة على نبوته
من الكتاب:
يدل سياق قصة الخضر مع موسى - عليهما السلام- الواردة في سورة الكهف من القرآن الكريم على نبوته من وجوه:
1 ـ قوله تعالى:{فوجدا عبدا من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علما}
ذكر الآلوسي في تفسير:{رحمة من عندنا} ثلاثة أقوال أشار إلى تضعيفها كلها ثم قال: والجمهور على أنها الوحي والنبوة وقد أطلقت على ذلك في مواضع من القرآن.
وأخرج ذلك ابن أبي حاتم عن ابن عباس.
والمنصور ما عليه الجمهور وشواهده من الآيات والأخبار كثيرة بمجموعها يكاد يحصل اليقين
ص:30(49/20)
2 ـ قول موسى له:{ هل أتبعك على أن تعلمني مما علمت رشدا قال إنك لن تستطيع معي صبرا وكيف تصبر على مالم تحط به خبرا قال ستجدني إن شاء الله صابرا ولا أعصي لك أمرا قال فإن اتبعتني فلا تسالني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكرا }
فلو كان وليا وليس بنبي لم يخاطبه موسى بهذه المخاطبة ولم يرد على موسى هذا الرد بل موسى إنما سأل صحبته لينال ما عنده من العلم الذي اختصه الله به دونه فلو كان غير نبي لم يكن معصوما ولم تكن لموسى وهو نبي عظيم ورسول كريم واجب العصمة كبير رغبة ولا عظيم طلبة في علم ولي غير واجب العصمة
3 ـ إن الخضر أقدم على قتل ذلك الغلام وما ذلك إلا للوحي إليه من الله عز وجل وهذا دليل مستقل على نبوته وبرهان ظاهر على عصمته لأن الولي لا يجوز له الإقدام على قتل النفوس بمجرد ما يلقي في خلده لأن خاطره ليس بواجب العصمة إذ يجوز عليه الخطأ بالاتفاق
4 ـ لما فسر الخضر تأويل تلك الأفاعيل لموسى ووضح له عن حقيقة أمره قال بعد ذلك كله:{ رحمة من ربك وما فعلته عن أمري}
يعني ما فعلته من تلقاء نفسي بل أمرت به وأوحي الي فيه
5 ـ قال الله عز وجل:{ عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من
ص:31
ارتضى من رسول }
وقد دلت قصة الخضر مع موسى أنه كان مظهرا على الغيب وليس ذلك لأحد من الأولياء .
من السنة
1- قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وددت أن موسى صبر حتى يقص علينا من أمرهما "
في تمني النَّبِيَّ صَلَّ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هذا للاطلاع على ما يقع بينهما دليل على أن الخضر كان موحى إليه ولو لم يكن كذلك لما جاز هذا التمني بأن ينتظر النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمرا غير موحى من إنسان غير موحى إليه(49/21)
2- تأويل الخضر - عليه السلام -في قتل الغلام كما جاء في الحديث وأما الغلام فطبع يوم طبع كافرا وكان أبواه قد عطفا عليه فلو أنه أدرك أرهقهما طغيانا وكفرا{ فأردنا أن يبدلهما ربهما خيرا منه زكاة وأقرب رحما }
وزاد في رواية: ووقع أبوه على أمه فحملت فولدت منه خيرا منه زكاة وأقرب رحما.
إخباره - عليه السلام- أن الغلام طبع كافرا وأن أباه وقع على أمه فحملت وولدت خيرا منه لهو من الأمور الغيبية المحضة التي لا مجال للاطلاع عليها إلا من طريق النبوة والوحي فذلك من أقوى الأدلة على أنه كان نبيا
ص:32
إن لم يكن رسولا
3- ومن ذلك قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما لقى موسى الخضر عليهما السلام جاء طير فألقى منقاره في الماء فقال الخضر لموسى: تدري ما يقول هذا الطير؟ قال: وما يقول؟ قال: يقول: ما علمك وعلم موسى في علم الله إلا كما أخذ منقاري من الماء".
فهذا صريح في أن الخضر قد علم منطق الطير وهو من الغيب الذي لا يعلمه البشر فهو في هذا على نحو النبي سليمان - عليه السلام -الذي حكى الله عنه في القرآن:{ يا أيها الناس علمنا منطق الطير}
4- حديث أبي بن كعب الذي ورد فيه بينما موسى في ملأ من بني اسرائيل إذ جاءه رجل فقال: هل تعلم أحدا أعلم منك.
قال موسى: لا فأوحى الله إلى موسى: بلى عبدنا خضر.
إن دل تخصيص الله عز وجل بتلك الأمور الغيبية بالخضر دون موسى - عليهما السلام- مع أنه من أولي العزم من الرسل فإنما يدل على نبوة الخضر ويؤيده سياق هذا الحديث حيث قال الله عز وجل: بلى عبدنا خضر. والله تعالى أعلم.
ص:33
سبب استمرار حياته لدى من يرى ذلك
ذكر المؤرخون سببين لتعميره واستمرار حياته
أحدهما: أنه دفن آدم بعد خروجهم من الطوفان فنالته دعوة أبيه آدم بطول الحياة
قال ابن الجوزي إنه لو كان قبل نوح لركب معه في السفينة ولم ينقل هذا أحد(49/22)
وكذلك اتفق العلماء أنه لم يبق غير نسل نوح بعد نزوله من السفينة والدليل عليه قوله تعالى:{ وجعلنا ذريته هم الباقين} فأين كان الخضر ؟
والثاني: أنه بلغ مع ذي القرنين نهر الحياة فشرب من مائه وهو لا يعلم ولا يعلم ذو القرنين ومن معه فخلد فهو حي عندهم إلى الآن.
قال ابن الجوزي: قد روى عن أهل الكتاب أنه شرب من ماء الحياة ولا يوثق بقولهم.
آراء القائلين باستمرار حياته
قد وردت طائفة كبيرة من الأخبار والحكايات تحتوي على لقاءات الصالحين معه وزياراتهم إياه في الفلوات والبراري والأودية والصحارى
ص:34
وعلى رحلاته وتنقلاته من بلد إلى بلد وأحاديثه مع الناس وبذله النصح لهم وتعليمه الأدعية إياهم وما شاكل ذلك كما سيأتي في هذا الكتاب بالتفصيل مع الرد عليه.
قال النووي: اختلفوا في حياة الخضر نبوته قال الأكثرون من العلماء: هو حي موجود بين أظهرنا وذلك متفق عليه عند الصوفية و أهل الصلاح والمعرفة وحكاياتهم في رؤيته والاجتماع به والأخذ منه وسؤاله وجوابه ووجوده المواضع الشريفة ومواطن الخير أكثر من أن تحصى وأشهر من أن تذكر .
وقال الشيخ أبو عمرو بن الصلاح هو حي عند جماهير العلماء الصالحين والعامة منهم وإنما شذ بإنكاره بعض المحدثين .
وأنشد السيوطي في جواب مسألة عن الخضر
للناس خلف شاع في الخضر وهل……أودى قديما أوحى ببقاء
ولكل قول حجة مشهورة……تسمو على الجوزاء في العلياء
والمرتضى قول الحياة فكم له ……حجج تجل الدهر عن إحصاء
خضر وإلياس بأرض مثل ما ……عيسى وإدريس بقوا بسماء
هذا جواب ابن السيوطي الذي……يرجو من الرحمن خير جزاء
وروي عن ابن عباس - رضي الله عنهما- نُسِّئَ للخضر في أجله حتى يكذب الدجال
ص:35
هذا حديث باطل لا يجوز الاحتجاج به.
وقال الثعلبي: يقال: إن الخضر لا يموت إلا في آخر الزمان عند رفع القرآن
قلت: ليس عليه أي دليل من الكتاب والسنة.
المناقشة في استمرار حياته(49/23)
…لا يخفى على طالب الحديث الذي له أدنى إلمام بقواعد نقد الحديث أن الأحاديث المرفوعة والموقوفة في استمرار حياة الخضر وكذلك الأخبار والحكايات الواردة بهذا الصدد واهية الصدور والإعجاز لا تقوم بمثلها حجة كما هو مقرر في قواعد النقد والتمحيص والبحث والدراسة وسيتضح على القاريء الكريم من مطالعة هذا الكتاب زيف هذه الروايات في ضوء دراسة أسانيدها وفحص متونها إن شاء الله .
قال ابن الجوزي - رحمه الله -: اعلم - وفقك الله -أن البلية في مثل هذه الأشياء تقع من ثلاث جهات:
أحدها: الجهل بالمنقولات فترى خلقا كثيرا يروون الشيء مسندا فيبنون عليه ولا يعرفون صحته من سقمه
وهذه علة قد عمت جمهور العلماء - اليوم -في كل فن من العلوم فإذا قيل لأحدهم قال: هو سماعي وعندي بإسناد
وكم قد أدخل في حديث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما ليس منه فكيف بمثل هذا
والثانية: سلامة الصدور وكثرة الغفلة عند قوم من الأخيار فيرى أحدهم شخصا فيغيب عنه أو يرى منه ما يشبه الكرامة - وقد سمع أقواما يقولون:
ص:36
الخضر حي- فيقولون: رأينا الخضر
وربما رأى أحدهم شخصا اسمه الخضر فيتوهمه خضر موسى
وربما لقيه شيطان من الإنس أو من الجن فقال له: أنا الخضر يريه أنك رجل صالح.
والثالثة: حب الصيت والذكر وهو يختص بالملتمسين فيقول قائلهم: لقيت الخضر يجعل له جاها بين العوام وهؤلاء قد اختصروا على دنى الثياب ليروا بعين الزهد واستعملوا خشوع الأبدان ليقال عنهم: أهل تقوى ولم يتعبوا جوارحهم في التعبد وأن التعبد نصب صعب وادعاء زهد نصيب سهل وقد حذرت منه في كتابي المسمى بـ"تلبيس ابليس"
لا شك أن ابن الجوزي - رحمه الله -حلل النصوص الواردة في حياة الخضر - عليه السلام - تحليل ناقد بصير وقد كتب كتابا مستقلا في حياته ثم لخصه في رسالة مختصرة
تعبير صيغ الأقوال في بقائه ولقائه(49/24)
…ويصدق تحليله على هذا ما أحصيته من أنواع الادعاءات المتنوعة بلقاء الخضر التي لا يوجد فيها الجزم بأن الشخص الذي لقيه المدعي كان الخضر في الحقيقة
ويمكن تلخيص هذه الادعاءات في النقاط التالية:
1- الخضر بنفسه يقول لمن رآه أنا الخضر
2- رؤوا شخصا مجهولا فغاب فكانوا يرون أنه الخضر
3- رأى الرجل المدعى للقاء الخضر رجلا فظنه أو خيل إليه أو وقع في نفسه أنه الخضر
4- رؤوا رجلا فقالوا هذا الخضر أو إلياس أو ما أشبه أن يكون هذا الخضر أو إلياس أو بعض هؤلاء الأبدال
5- الرجل الثالث يخبر من لقى أحدا من المجهولين أو سمع صوت أحد على صفة خاصة بقوله هل تدرون من هذا هذا الخضر أو أنك لقيت الخضر
6- الرجل بنفسه يخبر الآخرين بأني رأيت الخضر أو لقيت الخضر أو حدثني الخضر أو علمني الخضر
7- رؤوا رجلا مجهولا يعمل عملا مجيدا فقالوا ماهو إلا الخضر
8- خاف الشخص من قول رجل فقال له الخائف ما علمك هذا القول إلا الخضر
…هذه هي الملامح الرئيسية في الروايات الواردة في وجود الخضر واستمرار حياته حتى اليوم.
وبمجرد أدنى تفكير في سياقها ينكشف زيفها وضعف أساليبها وعدم دلالتها على المعنى المقصود وهو استمرار حياته وبالتالي تتبخر ادعاءات لقائهم وزياراتهم له في الأودية والصحارى و المواضع الشريفة
ص:38
ومواطن الخير وما إلى ذلك ولذلك بعد دراسة هذه الروايات قال ابن تيمية - رحمه الله- وعامة ما يحكى في هذا الباب من الحكايات بعضها كذب وبعضها بنى على ظن رجل مثل شخص رأى رجلا ظن أنه الخضر وقال: إنه الخضر كما أن الرافضة ترى شخصا تظن أنه الإمام المنتظر المعصوم أو تدعي ذلك.
وقال ابن الجوزي - رحمه الله -: فوا عجبا ألهم فيه علامة يعرفون بها وهل يجوز لعاقل أن يلقى شخصا فيقول له الشخص أنا الخضر فيصدقه
وقفة مع الصوفية في حياة الخضر(49/25)
…ربما يحتج القائلون بحياته بكلام الصوفية وإنما يحتج بهذا من ليس له معرفة باصطلاحات الصوفية وإشاراتهم وذلك أن لهم اصطلاحات مخصوصة قد ألفوا لها كتبا يعرف منها وكشف النقاب عن هذه المسئلة على مصطلحهم أنهم يشيرون إلى مقام الأنس والصفاء والانشراح بالخضر وإلى مقام اليأس والقبض بإلياس
ومثل هذا ما يحكى عن الإسكندر أنه دخل الظلمات وكان الخضر وزيره فأخذ يبحث عن عين الحياة فظفر بها الخضر فشرب منها فحيى حياة الأبد ولم يظفر بها إلاسكندر
وهذا - على اصطلاحهم - بظاهره باطل وحقيقته أن الأقدمين ضربوه مثالا للروح وسموها الخضر وللجسم وسموها الإسكندر فكل من الجسم والروح حريص على البقاء في دار الدنيا إلا أن الروح نالت أمنيتها
ص:39
فلا تفني والجسد لم ينل أمنيته فهو الفاني
وقد صرح بذلك كثير منهم كابن عربي الطائي في رسالة كشف بها اصطلاحه في الفتوحات
وقد ذكر ابن عربي رأس الطائفة الصوفية في تفسير :{ وإذ قال موسى لفتاه لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين أو أمضي حقبا}
ظاهره على ما ذكر في القصص ولا سبيل إلى إنكار المعجزات
أما باطنه فإن يقال وإذ قال موسى القلب لفتى النفس وقت التعلق بالبدن لا أبرح أي لا أنفك عن السير والمسافرة أو لا أزال أسير حتى أبلغ مجمع البحرين أي ملتقى العالمين عالم الروح وعالم الجسم وهما العذاب والأجاج في صورة إلانسانية ومقام القلب(49/26)
وقال في تفسير:{ ذلك ما كنا نبغ فارتدا على آثارهما قصصا} أي تملص الحوت واتخاذه سبيله الذي كان عليه في جبلته ما كنا نطلبه لأن هناك مجمع البحرين الذي وعد موسى عنده بوجود من هو أعلم منه إذ الترقى إلى الكمال بمتابعة العقل القدسي لا يكون يلاقى هذا المقام فارتدا على آثارهما في الترقي إلى مقام الفطرة الأولى كما كانا أولا يقصان أي يتبعان آثارهما عند الهبوط في الترقي إلى الكمال {فوجدا عبدا من عبادنا} حتى وجدا العقل القدسي وهو عبد من عباد الله مخصوص بمزية عناية ورحمة آتيناه رحمة من عندنا أي كمالا معنويا بالتجرد عن المواد والتقدس عن الجهات والتورية المحضة التي هي آثار القرب والعندية علمناه من لدنا علما من المعارف القدسية والحقائق الكلية اللدنية بلا واسطة تعليم بشري
هذا تفسيره للآيات التي تتعلق بموسى وفتاه والخضر - عليهم
ص:40
السلام -ولا نجد ذكرهم في تفسيره كما ثبت بالأحاديث الصحيحة بل موسى عندهم القلب وفتاه النفس والخضر هو العقل القدسي
هكذا هم يقولون بحياة الخضر ولقائهم وزيارتهم له فمن لا يعرف اصطلاحهم يعتقد الكلام على ظاهره وفي الحقيقة هم يريدون به خلاف الظاهر
آراء المنكرين لاستمرار حياته
…رجع المحققون من أصحاب الحديث والعلماء الآخرين أن الخضر مات كما مات غيره من الأنبياء والصالحين منهم الإمام البخاري وإبراهيم الحربي وأبو الحسين بن المنادي وشرف الدين أبو عبد الله المرسي وأبو طاهر العبادي وأبو يعلي الحنبلي وأبو الفضل بن ناصر وأبو بكر بن العربي وأبو بكر بن النقاش وغيرهم رحمهم الله تعالى
قال ابن قيم الجوزية لم يصح في حياته حديث واحد وستظهر صحة ما قاله ابن القيم من مطالعة هذا الكتاب إن شاء الله
وقفة مع شيخ الإسلام ابن تيمية في حياة الخضر(49/27)
سئل ابن تيمية - رحمه الله -عن الخضر وإلياس هل هما معمران قال إنهما ليسا في الأحياء ولا معمران وقد سأل إبراهيم الحربي أحمد بن حنبل عن تعمير الخضر وإلياس يرويان ويروي عنهما فقال الإمام
ص:41
أحمد: من أحال على غائب لم ينصف منه وما ألقى هذا إلا شيطان
وقال في فتاواه: وسئل البخاري عن الخضر وإلياس هل هما في الأحياء؟
فقال: كيف يكون هذا وقد قال النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يبقى على رأس مائة سنة ممن هو اليوم على ظهر الأرض أحد
وقال في فتاواه: والصواب الذي عليه المحققون وأنه لم يدرك الإسلام ولو كان موجودا في زمن النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لوجب عليه أن يؤمن به ويجاهد معه كما أوجب الله ذلك عليه وعلى غيره ولكان يكون في مكة والمدينة .
وقد نقل عنه تلميذه ابن القيم فقال: سئل عنه شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله –فقال: لو كان الخضر حيا لوجب عليه أن يأتي النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ويجاهد بين يديه ويتعلم منه وقد قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يوم بدر اللهم ان تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض." وكانوا ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا معروفين بأسمائهم وأسماء آبائهم وقبائلهم فأين كان الخضر حينئذ
تحقيق فتوى من فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية
مع هذه الأقوال والآراء المثبوتة التي ذكرناها في إنكار حياة الخضر
ص:42
من فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية نجد فتوى من فتاواه ما نصها سئل الشيخ رحمه الله هل كان الخضر - عليه السلام - نبيا أو وليا وهل هو حي إلى الآن
وإن كان حيا فما تقولون فيما روى عن النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال لو كان حيا لزارني هل هذا الحديث صحيح أم لا
فأجاب: أما نبوته فمن بعد مبعث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يوح إليه ولا إلى غيره من الناس(49/28)
وأما قبل مبعث النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقد اختلف في نبوته ومن قال إنه نبي لم يقل إنه سلب النبوة بل يقول هو كإلياس نبي ولكنه لم يوح إليه في هذه الأوقات وترك الوحي إليه في مدة معينة ليس نفيا لحقيقة النبوة كما لو فتر الوحي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أثناء مدة رسالته
وأكثرالعلماء على أنه لم يكن نبيا مع أن نبوة من قبلنا يقرب كثير منها من الكرامة والكمال في الأمة وإن كان كل واحد من النبيين أفضل من كل واحد من الصديقين كما رتبه القرآن وكما روى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال ما طلعت الشمس ولا غربت على أحد بعد النبيين والمرسلين أفضل
ص:43
من أبي بكر الصديق وروى عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال إن كان الرجل ليسمع الصوت فيكون نبيا
وفي هذه الأمة من يسمعه ويرى الضوء وليس بنبي لأن ما يراه ويسمعه يجب أن يعرضه على ما جاء به محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإن وافقه فهو حق وان خالفه تيقن أن الذي جاء من عند الله يقين لا يخالطه ريب ولا يحوجه أن يشهد عليه بموافقة غيره
وأما حياته فهو حي والحديث المذكور لا أصل له ولا يعرف له إسناد بل المروي في مسند الشافعي وغيره
ص:44
أنه اجتمع بالنَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومن قال إنه لم يجتمع بالنَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقد قال ما لا علم له به فانه من العلم الذي لا يحاط به
ومن احتج على وفاته بقول النَّبِيَّ صَلَّ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أرأيتكم ليلتكم هذه فانه على رأس مائة سنة لا يبقى على وجه الأرض ممن هو عليها اليوم أحد"
فلا حجة فيه فإنه يمكن أن لا يكون الخضر اذ ذاك على وجه الأرض
ص:45
ولأن الدجال - وكذلك الجساسة -الصحيح أنه كان حيا موجودا على عهد النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو باق إلى اليوم لم يخرج وكان في جزيرة من جزائر البحر
ص:0(49/29)
فما كان الجواب عنه كان هو الجواب عن الخضر
وهو أن يكون لفظ الأرض لم يدخل في هذا الخبر أو يكون اراد النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الآدميين المعروفين
وأما من خرج عن العادة فلم يدخل في العموم كما لم تدخل الجن وإن كان لفظا ينتظم الجن والإنس
وتخصيص مثل هذا من مثل هذا العموم كثير معتاد والله اعلم
ص:46
نقد الجزء الأخير من هذه الفتوى
كل من له إلمام بكتابات ابن تيمية - رحمه الله -التي ترد على استمرار حياة الخضر يفاجأ بالجزء الأخير من هذه الفتوى الذي يثبت حياته ولا يوجد له مثنى في جميع آرائه وكتاباته ويجد نفسه أمام عدة تساؤلات من أهمها:
لماذا استدل ابن تيمية - رحمه الله -ههنا بالحديث على اجتماع الخضر بالنَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقد رد على بقائه في أكثر من موضع وقال والصواب الذي عليه المحققون أنه لم يدرك الإسلام فكيف اجتمع بالنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
ولماذا أول - ههنا- الحديث الصحيح: أرأيتكم ليلتكم هذه" بأنه يمكن أن لا يكون الخضر اذ ذاك على وجه الأرض وقد نقل - رحمه الله -استدلال البخاري - رحمه الله - بالحديث نفسه على عدم بقائه في فتاواه وسكت - هناك- ولم يرد عليه حسب عادته ولا على غيره أيضا ممن نقل - رحمه الله -عنهم عدم بقاء الخضر كالإمام أحمد وغيره.
ولماذا استدل بحديث النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الوارد في غزوة بدر اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض على عدم بقائه بحيث لو كان موجودا لوجب عليه أن يجاهد مع النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومع أصحابه - رضوان الله عليهم أجمعين- في هذه الفترة العصيبة من التاريخ الإسلامي التي مرت بالمسلمين حتى قال النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قوله السابق
ص:48(49/30)
والمجاهدون في هذه الغزوة الفاصلة بين الحق والباطل كانوا ثلاثة عشر وثلاثمائة رجل معروفين بأسمائهم وأسماء آبائهم وقبائلهم فأين كان الخضر حينئذ
ولماذا ترك تلميذه الملازم البار شمس الدين بن القيم رأى أستاذه في استمرار حياة الخضر ونقل عنه رأيه في عدم بقائه فقط ورد إلى ذلك أنه ذكر في كتابه أسماء مؤلفات ابن تيمية رسالة في الخضر هل مات أم هو حي ورسالة بعنوان" التحرير في مسالة الخضر" مجلد
لا بد أن تنشأ هذه التساؤلات وغيرها في ذهن القاريء وتتطلب منه الإجابة عنها
ولا يمكن الإجابة عنها إلا أن تعرف بأن هذه الفتوى لا تخلو من إحدى ثلاث أحوال
1. إما أن يقال بأن قول ابن تيمية بحياة الخضر قوله الأخير الراجح ولكنه مدفوع بأن استدلاله على إنكار حياته أقوى وادل منه على بقائه وكذلك اراؤه في إنكار حياته كثيرة وفي أكثر من موضع وقوله في بقائه لا يوجد إلا في موضع واحد
وهذا خلاف منهج ابن تيمية المعروف وذلك لأنه لما يرى شيئا يذكره في مواضع متعددة وبادنى المناسبات
2. وإما أن يقال بأن القول بحياته قوله المتقدم والقول المتأخر الراجح هو إنكار حياته ولذلك يوجد الرأي الأخير في أكثر من موضع
وهذا أقرب إلى الصحة والتحقيق نظرا إلى صلابة ابن تيمية في الأمور
ص:48
العقائدية وتمسكه بالكتاب والسنة الصحيحة
وأيضا بدليل أن ابن القيم نقل عنه إنكار حياته فلو كان مرجوحا أو رأيا متقدما لما نقل عنه وقد مضى أنه ذكر في كتابه أسماء مؤلفات ابن تيمية كتابين له في الخضر
3 .وأما أن يقال بأنه لم تثبت صحة نسبة القول بحياة الخضر إلى ابن تيمية بتاتا فيعتبر مدسوسا عليه .
مهما يكن من الأمر توجد عدة أسباب تقوى أحد الرأيين الأخيرين ومن أهمها تعليق الشيخ عبد الرحمن بن محمد بن قاسم العاصمي النجدي الحنبلي جامع فتاوى شيخ الإسلام على هذه الفتوى بقوله هكذا وجدت هذه الرسالة(49/31)
ومن عادة جامع الفتاوى بأنه لا يعلق مثل هذه التعليقات ولكنه - في نظري -اضطر إلى هذا التعليق في هذا المكان لما راى فيه من رأي شاذ حول حياة الخضر يخالف جميع اراء شيخ الإسلام فنبه عليه
وهذا التعليق من مرتب الفتاوى الذي له اطلاع واسع ودقيق على جميع كتابات ابن تيمية الموجودة مثير للشك ولا ريب أنه تعليق دقيق ووجيه في محله ولا بد منه.
…هذا وقد وجدت فتوى مختصرة من فتاوى الشيخ أبي عمرو بن الصلاح ـ643هـ تثبت حياة الخضر وتشبهها فتوى شيخ الإسلام هذه في المعنى والمبني - أيضا -إلى حد ما كما يلي:
مسألة والخضر - عليه السلام هل ورد أنه حي إلى الوقت المعلوم وهل هو ولي أو نبي أم لا ؟
أجاب:
وأما
ص:49
الخضر -عليه السلام- فهو من الأحياء عند جماهير الخاصة من العلماء والصالحين والعامة معهم في ذلك وإنما شذ بإنكار ذلك بعض أهل الحديث
وهو صلى الله عليه وعلى نبينا والنبيين وآل كل وسلم نبي
واختلفوا في كونه مرسلا والله اعلم
لا يفوتني أن اقول مكررا إن الجزء الأخير من هذه الفتوى التي نحن بصدد البحث عنها لا يتفق صلابة عقيدة ابن تيمية وتمسكه الشديد بالكتاب والسنة وتبحره في علومها ولا يمكن - عندي -أن يعتقد في الخضر ما يخالف صريح المعقول والمنقول .
…فبالنظر إلى ذلك لما وجدت هذا الرأي الشاذ في هذا السفر الديني العظيم وهذه الموسوعة الفقهية الكبيرة وهذه الخزانة العلمية الهادفة مجموع فتاوى شيخ الإسلام قمت بتحقيقه وتخريجه ونقده - بفضل الله عز وجل - ليكون القاريء على بينة من الأمر ويتبين لديه الخطأ من الصواب.
فإن أصبت في ذلك فمن الله عز وجل وإن أخطأت فمن الشيطان ونعوذ بالله من ذلك
إنكار ابن الجوزي على استمرار حياة الخضر
…ذكر ابن القيم - رحمه الله - رد ابن الجوزي على حياة الخضر فقال:
قال أبو الفرج بن الجوزي: والدليل على أن الخضر ليس بباق
ص:50
في الدنيا أربعة أشياء: القرآن والسنة وإجماع المحققين من العلماء والمعقول(49/32)
أما القرآن فقوله تعالى:{وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد افإن مت فهم الخالدون} فلو دام الخضر كان خالدا
وأما السنة فذكر حديث: أريتكم ليلتكم هذه فإن على رأس مائة
ص:51
سنة منها لا يبقى على ظهر الأرض ممن هو اليوم عليها أحد" متفق عليه
وفي صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله - رضي الله - عنهما قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قبل موته بقليل: ما من نفس منفوسة يأتي عليها مائة سنة وهي يومئذ حية
وأما إجماع المحققين من العلماء فقد ذكر عن البخاري وعلى بن موسى الرضا أن الخضر مات .
…وأن البخاري سئل عن حياته فقال:
وكيف يكون ذلك وقد قال النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أرأيتكم ليلتكم هذه فإن على رأس مائة سنة منها لا يبقى ممن على ظهر الأرض ممن هو علىهاأحد"
قال: وممن قال إن الخضر مات: إبراهيم بن إسحاق الحربي وأبو الحسين بن المنادي وهما إمامان وكان ابن المنادي يقبح قول من يقول إنه حي
وحكى القاضي أبو يعلي موته عن بعض أصحاب أحمد وذكر عن بعض أهل العلم أنه احتج بأنه لو كان حيا لوجب عليه أن يأتي إلى النَّبِيَّ صَلَّ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وقال: حدثنا أحمد حدثنا شريح بن النعمان حدثنا هشيم أخبرنا مجالد عن
الشعبي عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما -أن رسول الله صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: والذي نفسي بيده لو أن موسى كان حيا ما وسعه
ص:52
إلا أن يتبعني فكيف يكون حيا ولا يصلي مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الجمعة والجماعة ويجاهد معه
…ألا ترى أن عيسى عليه السلام - إذا نزل إلى الأرض يصلي خلف إمام هذه الأمة ولا يتقدم لئلا يكون ذلك خدشا في نبوة نبينا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قال أبو الفرج: وما أبعد فهم من يثبت وجود الخضر وينسى ما في طي إثباته من الإعراض عن هذه الشريعة
وأما الدليل من المعقول فمن عشرة وجوه:(49/33)
أحدها: أن الذي أثبت حياته يقول إنه ولد آدم لصلبه وهذا فاسد لوجهين:
أحدهما: أن يكون عمره الآن ستة الاف سنة فيما ذكر في كتاب يوحنا المؤرخ ومثل هذا بعيد في العادات أن يقع في حق البشر .
والثاني: أنه لو كان ولده لصلبه أو الرابع من ولد ولده - كما زعموا- وأنه كان وزير ذي القرنين فإن تلك الخلقة ليست على خلقتنا بل مفرط في الطول والعرض
وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه -عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال خلق الله آدم طوله ستون ذراعا فلم يزل الخلق ينقص بعد
ص:53
الوجه الثالث: أنه لوكان الخضر قبل نوح لركب معه في السفينة ولم ينقل هذا أحد
الوجه الرابع: أنه قد اتفق العلماء أن نوحا لما نزل من السفينة مات من كان معه ثم مات نسلهم ولم يبق غير نسل نوح والدليل على هذا قوله تعالى وجعلنا ذريته هم الباقين
وهذا يبطل قول من قال إنه كان قبل نوح
الوجه الخامس: أن هذا لو كان صحيحا أن بشرا من بني آدم يعيش من حين يولد إلى آخر الدهر ومولده قبل نوح لكان هذا من أعظم الآيات والعجائب وكان خبره في القرآن مذكورا في غير موضع لأنه من أعظم آيات الربوبية
وقد ذكر الله سبحانه وتعالى من أحياه ألف سنة إلا خمسين عاما وجعله آية فكيف بمن أحياه إلى اخر الدهر
ولهذا قال بعض أهل العلم ما ألقى هذا بين الناس إلا شيطان
والوجه السادس: إن القول بحياة الخضر قول على الله بلا علم وذلك حرام بنص القرآن
أما المقدمة الثانية فظاهرة
وأما الأولى فإن حياته لو كانت ثابته لدل عليهما القرآن أو السنة أو إجماع الأمة
فهذا كتاب الله تعالى فأين فيه حياة الخضر
ص:54
وهذه سنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأين فيها ما يدل على ذلك بوجه
وهؤلاء علماء الأمة هل أجمعوا على حياته
الوجه السابع: أن غاية ما يتمسك به من ذهب إلى حياته حكايات منقولة يخبر الرجل بها أنه رأى الخضر(49/34)
فيالله العجب هل للخضر علامة يعرفه بها من راه وكثير من هؤلاء يغتر بقوله أنا الخضر ومعلوم أنه لا يجوز تصديق قائل ذلك بلا برهان من الله
فأين للرأي أن المخبر له صادق لا يكذب
الوجه الثامن: أن الخضر فارق موسى بن عمران كليم الرحمن ولم يصاحبه وقال له هذا فراق بيني وبينك
فكيف يرضى لنفسه بمفارقته لمثل موسى ثم يجتمع بجهله العباد الخارجين عن الشريعة الذين لا يحضرون جمعة ولا جماعة ولا مجلس علم ولا يعرفون من الشريعة شيئا
وكل منهم يقول قال الخضر وجاءني الخضر وأوصاني الخضر فيا عجبا له يفارق كليم الله تعالى ويدور على صحبة الجهال ومن لا يعرف كيف يتوضأ ولا كيف يصلي
الوجه التاسع: أن الأمة مجمعة على أن الذي يقول أنا الخضر لو قال سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول كذا وكذا لم يلتفت إلى قوله ولم يحتج به في الدين
إلا أن يقال إنه لم يات إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا بايعه أو
ص:55
يقول هذا الجاهل أنه لم يرسل إليه وفي هذا من الكفر ما فيه
الوجه العاشر: أنه لوكان حيا لكان جهاده الكفار ورباطه في سبيل الله ومقامه في الصف ساعة وحضوره الجمعة والجماعة وتعليمه العلم أفضل له بكثير من سياحته بين الوحوش في القفار والفلوات
وهل هذا إلا من أعظم الطعن عليه والعيب له
هذا وتكفينا النصوص الكثيرة المدعمة بالدلائل العقلية والنقلية للرد على استمرار حياة الخضر وسيقف القاريء الكريم على مجموعة كبيرة منها أثناء دراسة هذا الكتاب أيضا
ولا يفوتني أن أقول بأن الأحاديث المرفوعة الواردة في حياة الخضر ما بين ضعاف وموضوعات والأخبار والحكايات بهذا الصدد واهية الصدور والإعجاز أو تصح أسانيدها إلى من ليس بمعصوم يجب قبوله
والميزان الصحيح الوحيد عندنا لنقد أمثال هذه الأمور هو الكتاب والسنة فإن وافقتهما فعلى الرأس والعين وإن خالفتهما نرفضها ولا كرامة.
صلاح الدين مقبول
وإليك نص الكتاب(49/35)
(نص الكتاب لابن حجر)
ص:56
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيْمِ
…الحمد لله المنفرد بالبقاء والدوام وعلى من خصه بمزيد التفضيل والسيادة مزيد الصلاة والسلام وأنزل عليه في الكتاب المكنون:{ وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفإن مت فهم الخالدون}وعلى آله وصحبه الذين كانوا يأمرون بالخير ويأتمرون صلاة وسلاما دائمين إلى يوم يبعثون .
أما بعد!
فقد تكرر السوال - قديما وحديثا- عن الخضر -صاحب موسى- هل هو نبي أو ولي
ص:57
وهل عمر إلى أن أدرك بعثة النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعاش بعده أو مات قبل ذلك
أو هو حي باق وعن كثير من أخباره
وكنت جمعت في ذلك مما صنف فيه بخصوصه من القدماء أبو الحسين بن المنادي
ومن المتأخرين أبو الفرج بن الجوزي
وأضفت إليهما أشياء ظفرت بها بطول التتبع
ثم لما التزمت في كتابي "الإصابة في تمييز الصحابة" أن أذكر كل ما جاء في خبر من الأخبار أنه لقي النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لزم ذكرى للخضر - عليه السلام- لأنه من شرط الإصابة وإن لم يرد في خبر ثابت أنه من جملة الصحابة
ص:58
وقد أفردته الآن ليقف كل سائل عنه على كل ما كنت قرأته وسمعته وجعلته أبوابا
والله أسأل النفع به إنه قريب مجيب.
باب نسبه
1 قيل هو ابن آدم من صلبه وهذا قول رواه الدار قطني في الافراد من طريق رواد بن الجراح عن مقاتل بن سليمان عن الضحاك عن ابن عباس -رضي الله عنهما-
ورواد ضعيف ومقاتل مترك
ص:59
والضحاك لم يسمع من ابن عباس -رضي الله عنهما-
2- القول الثاني إنه ابن قابيل بن آدم ذكره أبو حاتم السجستاني في كتاب المعمرين قال حدثنا مشيختنا منهم أبو عبيدة فذكره وهذا معضل وحكى صاحب هذه المقالة أن اسمه خضرون وهو الخضر
3- القول الثالث جاء عن وهب بن منبه أنه بليا بن ملكان بن فالغ
ص:60
بن شالخ بن عامر بن أرفخشذ بن سام بن نوح
وبهذا قال ابن قتيبة وحكاه النووي وزاد وقيل كلمان بدل ملكان(49/36)
4 القول الرابع جاء عن اسماعيل بن أبي أويس إنه المعمر بن مالك بن عبد الله بن نصر بن الأزد
وقيل اسمه عامر حكاه أبو الخطاب بن دحية عن ابن حبيب البغدادي
ص:61
5 القول الخامس هو ابن عمائيل بن النور بن العيص بن إسحاق حكاه ابن قتيبة أيضا وكذا سمى أباه عمائيل مقاتل
6 القول السادس أنه من سبط هارون أخي موسى روى عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس -رضي الله عنهما- وهو بعيد
وأعجب منه قول ابن إسحاق أنه أرميا بن خلقيا وقد رد
ص:62
ذلك أبو جعفر بن جرير
7 القول السابع إنه ابن بنت فرعون حكاه محمد بن أيوب عن ابن لهيعة وقيل ابن فرعون لصلبه حكاه النقاش
8 القول الثامن إنه اليسع حكى عن مقاتل أيضا وهو بعيد أيضا
9 القول التاسع أنه من ولد فارس جاء ذلك عن ابن شوذب أخرجه الطبري بسند جيد من رواية ضمرة بن ربيعة عن ابن شوذب
ص:63
10 القول العاشر إنه من ولد بعض من كان آمن بإبراهيم وهاجر معه من أرض بابل حكاه ابن جرير في تأريخه وقيل كان أبوه فارسيا وأمه رومية
11- وثبت في الصحيحين أن سبب تسميته الخضر أنه جلس على فروة بيضاء فإذا هي تهتز تحته خضراء
هذا لفظ أحمد من رواية ابن المبارك عن معمر عن همام عن أبي هريرة - رضي الله - عنه و الفروة الأرض
ص:64
اليابسة
12 وقال أحمد حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن همام عن أبي هريرة -رضي الله عنه- رفعه إنما سمي الخضر خضرا لأنه جلس على فروة فاهتزت تحته خضراء
والفروة الحشيش الأبيض وما يشبهه
قال عبد الله بن أحمد أظنه تفسير عبد الرزاق
13 وفي الباب عن ابن عباس -رضي الله عنهما-
ص:65
من طريق قتادة عن عبد الله بن الحارث عنه
ومن طريق منصور عن مجاهد
14- قال النووي كنيته أبو العباس وهذا متفق عليه
ص:66
باب ما ورد في كونه نبيا
15 قال الله تعالى في خبره عن موسى حكاية عنه وما فعلته عن أمري
وهذا ظاهر أنه بأمر من الله والأصل عدم الواسطة ويحتمل أن يكون بواسطة نبي آخر لم يذكره وهو بعيد(49/37)
ولا سبيل إلى القول بأنه إلهام لأن ذلك لا يكون من غير النبي وحيا حتى يعمل به ما عمل من قتل النفس وتعريض الأنفس للغرق
فإن قلنا إنه نبي فلا إنكار في ذلك
وأيضا كيف يكون غير النبي أعلم من النبي وقد أخبر النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديث الصحيح أن الله تعالى قال لموسى بلى عبدنا خضر
وأيضا كيف يكون النبي تابعا لغير النبي
16 وقال الثعلبي هو نبي في جميع الأقول
ص:67
17 وكان بعض أكابر العلماء يقول أول عقدة تحل من الزندقة اعتقاد كون الخضر نبيا لأن الزنادقة يتذرعون بكونه غير نبي إلى أن الولي أفضل من النبي كما قال قائلهم
مقام النبوة في برزخ……فويق الرسول ودون الولي
18 قال أبو جعفر بن جرير في تاريخه كان الخضرممن كان في أيام افريدون الملك بن أثفيان في قول عامة أهل الكتاب الأول وقيل موسى بن عمران -
وقيل إنه كان على مقدمة ذي القرنين الأكبر الذي كان أيام إبراهيم خليل الرحمن - وهو الذي قضى له بئر السبع -وهي بئر كان إبراهيم احتفرها لماشيته في صحراء الأردن- وإن قوما من أهل الأردن ادعوا الأرض التي احتفر بها إبراهيم بئره فحاكمهم إبراهيم إلى ذي القرنين الذي ذكر أن الخضر كان على مقدمته أيام سيره في البلاد وأنه بلغ مع ذي القرنين - الذي ذكر أن الخضر كان ملتزمه - نهر الحياة فشرب من مائه - وهو لا يعلم ولا يعلم به ذو القرنين ومن معه - فخلد فهو حي عندهم إلى الآن
19- قال ابن جرير وذكر ابن إسحاق أن الله تعالى استخلف على بني اسرائيل رجلا منهم يقال له ناشية بن أموص وبعث الخضر معه نبيا
ص:68
20 وقال ابن جرير بين هذا الوقت وبين أفريدون أزيد من ألف عام
وقال وقول من قال إنه كان في أيام أفريدون أشبه بالحق إلا أن يحمل على أنه لم يبعث نبيا إلا في زمن ذلك الملك
21 قلت بل يحتمل أن يكون قوله وبعث الخضر معه نبيا أي أيده لا أن ذلك الوقت كان وقت إنشاء نبوته فلا يمتنع أن يكون نبيا قبل ذلك(49/38)
وإنما قلت ذلك لأن غالب أخباره مع موسى هي الدالة على تصحيح قول من قال إنه كان نبيا
22 ثم اختلف من قال إنه كان نبيا هل كان مرسلا فجاء عن ابن عباس ووهب بن منبه أنه كان نبيا غير مرسل
وجاء عن إسماعيل بن أبي زياد ومحمد بن إسحاق وبعض أهل الكتاب أنه ارسل إلى قومه فاستجابوا له
ونصر هذا القول أبو الحسن الرماني ثم ابن الجوزي
وقال الثعلبي هو نبي على جميع الأقوال معمر محجوب عن الأبصار
وقال أبو حيان في تفسيره والجمهور على أنه نبي وكان علمه معرفة بواطن أوحيت إليه وعلم موسى الحكم بالظاهر
ص:69
23 وذهب إلى أنه كان وليا جماعة من الصوفية وقال به أبو علي بن أبي موسى من الحنابلة وأبو بكر بن الأنباري في كتابه الزاهر بعد أن حكى عن العلماء قولين هل كان نبيا أو وليا
وقال أبو القاسم القشيري في رسالته لم يكن الخضر نبيا وإنما كان وليا
24 وحكى الماوردي قولا ثالثا أنه ملك من الملائكة يتصور في صور الآدميين مغيرا ذاتا
25 وقال أبو الخطاب بن دحية لا ندري هو ملك أو نبي أو عبد صالح
26 وجاء من طريق أبي صالح - كاتب الليث- عن يحيى بن
ص:70
أيوب عن خالد بن يزيد أن كعب الأحبار قال إن الخضر بن عاميل ركب في نفر من أصحابه حتى بلغ بحر الترك وهو بحر الصين فقال لأصحابه دلوني فدلوه في البحر أياما وليالي ثم صعد فقالوا له يا خضر ما رأيت فلقد أكرمك الله وحفظ لك نفسك في لجة هذا البحر قال استقبلني ملك من الملائكة فقال لي كيف وقد أهوى رجل من زمان داود النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولم يبلغ ثلث قعره حتى الساعة وذلك منذ ثلاث مائة سنة أخرجه أبو نعيم في ترجمة كعب من الحلية.
باب ما ورد في تعميره والسبب في ذلك
27- روى الدار قطني بالإسناد الماضي عن ابن عباس - رضي الله
ص:71
عنهما- قال نسى للخضر في أجله حتى يكذب الدجال(49/39)
28 وذكر ابن إسحاق في المبتدأ فقال حدثنا اصحابنا أن آدم لما حضره الموت جمع بنيه وقال إن الله تعالى منزل على أهل الأرض عذابا فليكن جسدي معكم في المغارة حتى تدفنوني بأرض الشام فلما وقع الطوفان قال نوح لبنيه إن آدم دعا الله أن يطيل عمر الذي يدفنه إلى يوم القيامة فلم يزل جسد آدم حتى كان الخضر هو الذي تولى دفنه وأنجز الله له ما وعده فهو يحيا ما شاء الله أن يحيا
29 وروى ابن عساكر في ترجمة ذي القرنين من طريق خيثمة بن سليمان حدثنا أبو عبيدة بن أخي هناد حدثنا سفيان بن وكيع حدثنا أبي حدثنا معتمر بن سليمان عن أبي جعفر عن أبيه
ص:72
أنه سئل عن ذي القرنين فقال كان عبدا من عباد الله صالحا وكان من الله بمنزل ضخم وكان قد ملك ما بين المشرق والمغرب وكان له خليل من الملائكة يقال له رفائيل وكان يزوره فبينما هما يتحدثان اذ قال له حدثني كيف عبادتكم في السماء فبكى وقال وما عبادتنا عند عبادتنا إن في السماء لملائكة قياما لا يجلسون أبدا وسجودا لا يرفعون ابدا وركعا لا يقومون ابدا ويقولون ربنا ما عبدناك حق عبادتك فبكى ذو القرنين ثم قال يا رفائيل إني أحب أن أعمر حتى أبلغ عبادة ربي حق طاعته قال وتحب ذلك
قال نعم قال فإن لله عينا تسمى عين الحياة من شرب منها شربة لم يمت ابدا حتى يكون هو الذي يسأل ربه الموت
قال ذو القرنين فهل تعلم موضعها قال لا غير أنا نتحدث في السماء أن لله ظلمة في الأرض لم يطأها إنس ولا جان فنحن نظن أن تلك العين في تلك الظلمة(49/40)
فجمع ذو القرنين علماء الأرض فسألهم عن عين الحياة فقالوا لا نعرفها قال فهل وجدتم في علمكم أن لله ظلمة فقال عالم منهم لم تسأل عن هذا فأخبره فقال إني قرأت في وصية آدم ذكر هذه الظلمة وانها عند قرن الشمس فتجهز ذو القرنين وسار اثنتي عشرة سنة إلى أن بلغ طرف الظلمة فإذا هي ليست بليل وهي تفور مثل الدخان فجمع العساكر وقال إني أريد أن أسلكها فمنعوه فسأله العلماء الذين معه أن يكف عن ذلك لئلا يسخط الله عليهم فأبى فانتخب من عساكره ستة الاف رجل على ستة الاف فرس أنثى بكر وعقد للخضر على مقدمته في
ص:73
ألفي رجل فسار الخضر بين يديه وقد عرف ما يطلب وكان ذو القرنين يكتمه ذلك فبينما هو يسير إذ عارضه واد فظن أن العين في ذلك الوادي فلما أتى شفير الوادي استوقف أصحابه وتوجه فإذا هو على حافة عين من ماء ونزع ثيابه فإذا ماء أشد بياضا من اللبن وأحلى من الشهد فشرب منه وتوضأ واغتسل ثم خرج ولبس ثيابه وتوجه ومر ذو القرنين فأخطأ الظلمة وذكر بقية الحديث
ص:74
30 ويروى عن سليمان الأشج - صاحب كعب الأحبار -عن كعب الأحبار أن الخضر كان وزير ذي القرنين وإنه وقف معه على جبل الهند فرأى ورقة فيها بسم الله الرحمن الرحيم من آدم أبي البشر إلى ذريته أوصيكم بتقوى الله واحذركم كيد عدوي وعدوكم إبليس فإنه أنزلني هنا
قال فنزل ذو القرنين فمسح جلوس آدم فكانت مائة وثلاثين ميلا
31- ويروي عن الحسن البصري قال وكل إلياس بالفيافي ووكل الخضر بالبحور وقد أعطيا الخلد في الدنيا إلى الصيحة الأولى وإنهما يجتمعان في موسم كل عام
ص:75(49/41)
32 وقال الحارث بن أبي أسامة في مسنده حدثنا عبد الرحيم بن واقد حدثني محمد بن بهرام أخبرنا أبان عن أنس قال قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إن الخضر في البحر واليسع في البر يجتمعان كل ليلة عند الردم الذي بناه ذو القرنين بين الناس وبين يأجوج ومأجوج ويحجان ويعتمران كل عام ويشربان من زمزمكم شربة تكفيهما إلى قابل
قلت وعبد الرحيم وأبان متروكان
ص:76
33 وقال عبد الله بن المغيرة عن ثور عن خالد بن معدان عن كعب قال الخضر على منبر من نور بين البحرالأعلى والبحر الأسفل وقد أمرت دواب البحر أن تسمع له وتطيع وتعرض عليه الأرواح غدوة وعشية
ذكره العقيلي وقال عبد الله بن المغيرة يحدث بما لا أصل له
وقال ابن يونس إنه منكر الحديث
34 روي ابن شاهين بسند ضعيف إلى خصيف قال أربعة من الأنبياء أحياء اثنان في السماء عيسى وإدريس واثنان في الأرض الخضر وإلياس فأما الخضر فإنه في البحر وأما صاحبه فإنه في البر
وسيأتي في الباب الأخير أشياء من هذا الجنس كثيرة
ص:77
35 وقال الثعلبي يقال إن الخضر لا يموت إلا في آخر الزمان عند رفع القرآن
36 وقال النووي في تهذيبه قال الأكثرون من العلماء هو حي موجود بين أظهرنا وذلك متفق عليه عند الصوفية وأهل الصلاح والمعرفة وحكاياتهم في رؤيته والاجتماع به والأخذ عنه وسؤاله وجوابه ووجوده في الموضع الشريفة ومواطن الخير أكثر من أن تحصر وأشهر من أن تذكر
قال الشيخ أبو عمرو بن الصلاح في فتاواه هو حي عند جماهير العلماء والصالحين والعامة منهم قال وإنما شذ بإنكاره بعض المحدثين
37 وقال السهيلي في كتاب التعريف والاعلام اسم الخضر مختلف فيه -فذكر بعض ما تقدم- وذكر في
ص:78(49/42)
قول من قال إنه ابن عاميل بن سماطين بن أرما بن خلفا بن عيصو بن إسحاق وأن اباه كان ملكا وأمه كانت فارسية اسمها ألهاء وأنها ولدته في مغارة وأنه وجد هناك شاة ترضعه في كل يوم من غنم رجل من القرية فأخذه الرجل ورباه فلما شب طلب الملك كاتبا يكتب الصحف التي أنزلت على إبراهيم فجمع أهل المعرفة والنبالة فكان فيمن أقدم عليه ابنه الخضر- وهو لا يعرفه- فلما استحسن خطه ومعرفته بحث عن جلية أمره حتى عرف أنه ابنه فضمه إلى نفسه وولاه أمر الناس ثم ان الخضر فر من الملك لأسباب يطول ذكرها إلى أن وجد عين الحياة فشرب منها فهو حي إلى أن يخرج الدجال فهو الرجل الذي يقتله الدجال ثم يحيه
قال وقيل إنه لم يدرك زمن النَّبِيَّ صَلَّ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَوهذ لا يصح
قال وقال البخاري وطائفة من أهل الحديث مات الخضر قبل انقضاء مائة سنة من الهجرة
ص:79
قال ونصر شيخنا أبو بكر بن العربي هذا لقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على رأس مائة سنة لا يبقى على الأرض ممن هو عليها أحد يريد ممن كان حيا حين هذه المقالة
قال وأما اجتماعه مع النَّبِيَّ صَلَّ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَوتعزيته لأهل بيته - وهم مجتمعون بغسله - عليه الصلاة والسلام- فروى من طرق صحاح منها ما ذكره ابن عبد البر في التمهيد - وكان إمام أهل الحديث في وقته- فذكرالحديث في تعزية الصحابة بالنَّبِيَّ صَلَّ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَيسمعون القول ولا يرون القائل فقال لهم علي- رضي الله عنه- هو الخضر
قال وقد ذكر ابن أبي الدنيا من طريق مكحول عن
ص:80
أنس - رضي الله عنه - اجتماع إلياس بالنَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وإذا جاز بقاء إلياس إلى العهد النبوي جاز بقاء الخضر انتهى ملخصا
38 تعقبه عليه أبو الخطاب بن دحية بأن الطرق التي اشار إليها لم يصح منها شيء ولا ثبت اجتماع الخضر مع أحد من الأنبياء إلا مع موسى كما قص الله تعالى من خبرهما(49/43)
39 قال وجميع ما ورد في حياته لا يصح منها شيء باتفاق أهل النقل وإنما يذكر ذلك من يروي الخبر ولا يذكر علته إما لكونه لا يعرفها وإما لوضوحها عند أهل الحديث
40 قال وأما ما جاء عن المشايخ فهو مما يتعجب منه كيف يجوز لعاقل أن يلقى شخصا لا يعرفه فيقول له أنا فلان فيصدقه
41 قال وأما حديث التعزية الذي ذكره أبو عمر فهو موضوع رواه
ص:81
عبد الله بن المحرر عن يزيد بن الأصم عن علي رضي الله عنه
وابن محرر متروك وهو الذي قال ابن المبارك في حقه كما أخرجه مسلم في مقدمة صحيحه فلما رأيته كانت بعرة أحب إلي منه ففضل رؤية النجاسة على رؤيته
42 قلت فقد جاء ذكر التعزية المذكورة من غير رواية عبد الله بن محرر كما سأذكره بعد
43 قال وأما حديث مكحول عن أنس - رضي الله عنه- فهو موضوع
ثم نقل تكذيبه عن أحمد ويحيى وإسحاق وأبي زرعة
قال وسياق المتن ظاهر النكارة وإنه من الخرافات انتهى كلامه ملخصا
44 وسأذكر حديث أنس - رضي الله عنه- بطوله وأن له طريقا غير التي أشار اليها السهيلي
ص:82
45 وتمسك من قال بتعميره بقصة عين الحياة واستندوا إلى ما وقع من ذكرها في صحيح البخاري وجامع الترمذي ولكن لم يثبت ذلك مرفوعا فيتحرر ذكر شيء من أخبار الخضر قبل بعثة النبي
46- قد قص الله تعالى في كتابه ما جرى لموسى - عليه السلام -وأخرجه الشيخان من طرق عن أبي بن كعب
وفي سياق القصة زيادات في غير الصحيح قد نبهت عليها في فتح
ص:83
الباري بشرح البخاري
47 وثبت في الصحيحين أن النَّبِيَّ صَلَّ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَقال وددت أن موسى صبر حتى يقص علينا من أمرهما
48 وهذا مما يستدل به من زعم أنه لم يكن حالة هذه المقالة موجودا إذ لو كان موجودا لأمكن أن يصحبه بعض أكابر الصحابة - رضي الله عنهم- فيرى منه نحوا مما رأى موسى
وقد أجاب عن هذا من ادعى بقاءه بأن التمني إنما كان لما يقع بينه وبين موسى - عليه السلام- وغير موسى لا يقوم مقامه ومن أخباره مع غير موسى(49/44)
49 ما أخرجه الطبراني في المعجم الكبير من وجهين
ص:84
عن بقية بن الوليد عن محمد بن زياد الألهاني عن أبي أمامة الباهلي - رضي الله عنه - أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لأصحابه ألا أخبركم عن الخضر قالوا بلى يا رسول الله
قال بينما هو ذات يوم يمشي في سوق بني اسرائيل أبصره رجل مكاتب فقال له تصدق علي - بارك الله فيك- فقال الخضر آمنت بالله ما شاء الله بأمر يكون ما عندي من شيء أعطيك
فقال المسكين أسألك بوجه الله لما تصدقت علي فإني نظرت السماحة في وجهك ورجوت البركة عندك
فقال الخضر آمنت بالله ما عندي شيء أعطيك إلا أن تأخذني وتبيعني فقال المسكين وهل يستقيم هذا
قال نعم والحق أقول لقد سألتني بأمر عظيم أما أني لا أخيبك بوجه ربي بعني
قال فقدمه إلى السوق فباعه باربعمائة درهم فمكث عند المشتري زمانا لا يستعمله في شيء
قال له إنك إنما اشتريتني التماس خير عندي فأوصني بعمل قال أكره أن أشق عليك إنك شيخ كبير ضعيف
قال ليس يشق علي
قال فقم فانقل هذه الحجارة وكان لا ينقلها دون ستة نفر في يوم -فخرج الرجل لبعض حاجته ثم انصرف وقد نقل الحجارة في ساعة
فقال أحسنت وأطقت ما لم أرك تطيقه
ص:85
قال ثم عرض للرجل سفر فقال إني أحسبك أمينا فاخلفني في أهلي خلافة حسنة
قال نعم وأوصني بعمل قال إني أكره أن أشق عليك
قال ليس يشق علي
قال فاضرب اللبن لبيتي حتى أقدم عليك
قال ومر الرجل لسفره ثم رجع وقد شيد بناءه
فقال أسألك بوجه الله ما سبيلك وما أمرك
قال سألتني بوجه الله ووجه الله أوقعني في العبودية
فقال الخضر سأخبرك أنا الخضر الذي سمعت به سألني مسكين صدقة فلم يكن عندي ما أعطيه فسألني بوجه الله ومن سئل بوجه الله فرد سائله وهو يقدر وقف يوم القيامة وليس على وجهه جلد ولا لحم إلا عظم يتقعقع
فقال الرجل آمنت بالله شققت عليك يا نبي الله ولم أعلم
قال لا بأس أحسنت وأيقنت(49/45)
فقال الرجل بأبي أنت وأمي يا نبي الله أحكم في أهلي ومالي بما شئت أو اختر فأخلي سبيلك
قال أحب أن تخلي سبيلي فاعبد ربي قال فخلي سبيله
فقال الخضر الحمد لله الذي أوقعني في العبودية ثم نجاني منها
ص:86
50 قلت وسند هذا الحديث حسن لولا عنعنة بقية ولو ثبت لكان نصا أن الخضر نبي لحكاية النَّبِيَّ صَلَّ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَقول الرجل يا نبي الله وتقريره على ذلك ذكر من ذهب إلى أن الخضر مات
51 نقل أبو بكر النقاش في تفسيره عن علي بن موسى الرضا وعن محمد بن اسماعيل البخاري أن الخضر مات
وأن البخاري سئل عن حياة الخضر فأنكر ذلك واستدل
ص:87
بالحديث إن على رأس مائة سنة لا يبقى على وجه الأرض ممن هو عليها أحد
وهذا أخرجه هو في الصحيح عن ابن عمر وهو عمدة من تمسك بأنه مات وأنكر أن يكون باقيا
52- وقال أبو حيان في تفسيره الجمهور على أنه مات ونقل عن ابن أبي الفضل المرسي أن الخضر صاحب موسى مات لأنه لو كان حيا لزمه المجيء إلى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والإيمان به واتباعه
قد روى عن النَّبِيَّ صَلَّ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَقال لو كان موسى حيا ما وسعه إلا اتباعي وأشار إلى أن الخضر هو غير صاحب موسى
وقال غيره لكل زمان خضر وهي دعوى لا دليل عليها
53- ونقل أبو الحسين بن المنادي في كتابه الذي جمعه في ترجمة
ص:88
الخضر عن إبراهيم الحربي أن الخضر مات
وبذلك جزم ابن المنادي المذكور
54 أـ ونقل أيضا عن علي بن موسى الرضا عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه قال صلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذات ليلة صلاة العشاء في آخر حياته فلما سلم قال أرأيتكم ليلتكم هذه قال على رأس مائة سنة لا يبقى على وجه الأرض أحد
ب ـ وأخرجه مسلم من حديث جابر قال قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قبل موته بشهر تسألوني عن الساعة وإنما علمها عند الله وأقسم بالله ما على الأرض نفس منفوسة تأتي عليها مائة سنة(49/46)
هذه رواية أبي الزبير عنه
ج ـ وفي رواية أبي نضرة عنه
ص:89
قال قبل موته بقليل أو بشهر ما من نفس وزاد في آخره وهي يومئذ حية
د ـ وأخرجه الترمذي من طريق أبي سفيان عن جابر نحو رواية أبي الزبير
55 وذكر ابن الجوزي في جزئه الذي جمعه في ذلك عن أبي يعلي بن الفراء الحنبلي قال سئل بعض أصحابنا عن الخضر هل مات
فقال نعم
قال وبلغني مثل هذا عن أبي طاهر بن العبادي وكان يحتج بأنه لو كان حيا لجاء إلى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قلت ومنهم أبو الفضل بن ناصر والقاضي أبو بكر بن العربي وأبو بكر بن محمد بن الحسين النقاش
56 واستدل ابن الجوزي بأنه لو كان حيا مع ما ثبت أنه كان في زمن موسى وقبل ذلك لكان قدر جسده مناسبا لأجساد أولئك
ص:90
ثم ساق بسند له إلى أبي عمران الجوني قال كان أنف دانيال ذراعا ولما كشف عنه في زمن أبي موسى قام رجل إلى جنبه فكانت ركبة دانيال محاذية لرأسه
والذين يدعون رؤية الخضر ليس في سائر أخبارهم ما يدل على أن جسده نظير أجسادهم
57- ثم استدل بما أخرجه أحمد من طريق مجالد عن الشعبي عن جابر - رضي الله عنه - ان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال والذي نفسي بيده لو أن موسى كان حيا ما وسعه إلا أن يتبعني
قال فإذا كان هذا في حق موسى فكيف لم يتبعه الخضر لو كان
90
ص:91
حيا فيصلي معه الجمعة والجماعة ويجاهد تحت رايته
كيف ثبت أن عيسى يصلي خلف إمام هذه الأمة
58- واستدل أيضا بقوله تعالى وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة الآية
قال ابن عباس ما بعث الله نبيا إلا اخذ عليه الميثاق لإن بعث محمد - وهو حي - ليؤمنن به ولينصرنه
ص:92
فلو كان الخضر موجودا في عهد النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لجاء اليه ونصره بيده ولسانه وقاتل تحت رايته وكان من أعظم الأسباب في إيمان معظم أهل الكتاب الذين يعرفون قصته مع موسى(49/47)
59- وقال أبو الحسين بن المنادي بحثت عن تعمير الخضر وهل هو باق أم لا فإذا أكثر المغفلين مفترون بأنه باق من اجل ما روي في ذلك قال والأحاديث المرفوعة في ذلك واهية والسند إلى أهل الكتاب ساقط لعدم ثقتهم وخبر مسلمة بن مصلقة كالخرافة
وخبر رياح كالريح
60- وقال وما عدا ذلك كله من الأخبار كلها واهية الصدور والإعجاز لا يخلو حالها من أحد أمرين أما أن أدخلت على الثفات استغفالا أو يكون بعضهم تعمد ذلك
وقد قال الله تعالى وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد
ص:93
61- قال وأهل الحديث متفقون على أن حديث أنس منكر السند سقيم المتن وان الخضر لم يراسل نبينا ولم يلقه
62- قال ولو كان الخضر حيا لما وسعه التخلف عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والهجرة إليه
63- قال وقد أخبرني بعض أصحابنا أن إبراهيم الحربي سئل عن تعمير الخضر فأنكر ذلك وقال هو متقادم الموت
64- قال وروجع غيره في تعميره فقال من أحال على غائب حي أو مفقود ميت لم ينتصف منه وما ألقى هذا بين الناس إلا الشيطان
انتهى
65- وقد ذكرت الأخبار التي أشار إليها وأضفت إليها أشياء كثيرة من جنسها وغالبها لا يخلو طريقه من علة والله المستعان
66- وفي تفسير الأصبهاني روي عن الحسن أنه كان يذهب إلى أن الخضر مات
67- وروي عن البخاري أنه سئل عن الخضر وإلياس هل هما في الأحياء
فقال كيف يكون ذلك وقد قال النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في آخر عمره أرأيتكم ليلتكم هذه فان على رأس مائة سنة منها لا يبقى على وجه
ص:94
الأرض ممن هو اليوم عليها أحد
68- واحتج ابن الجوزي أيضا بما ثبت في صحيح البخاري ان النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال يوم بدر اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض
ولم يكن الخضر فيهم ولو كان يومئذ حيا لورد على هذا العموم فإنه كان ممن يعبد الله قطعا
69- واستدل غيره بقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا نبي بعدي
ص:95(49/48)
70- ونسب إلى ابن دحية القول في ذلك وهو معترض بعيسى بن مريم فانه نبي قطعا وثبت انه ينزل إلى الأرض في آخر الزمان ويحكم بشريعة النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
71- فوجب حمل النفي على إنشاء النبوة لأحد من الناس لا على نفي وجود نبي كان قد نبئ قبل ذلك ذكر الأخبار التي وردت أن الخضر كان في زمن النَّبِيَّ صَلَّ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَثم بعده إلى الآن
72- روى ابن عدي في الكامل من طريق عبد الله بن نافع عن كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف عن أبيه عن جده أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان في المسجد فسمع كلاما من ورائه فإذا هو بقائل يقول اللهم أعني على ما ينجيني مما خوفتني
فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين سمع ذلك ألا تضم إليها أختها
فقال الرجل اللهم ارزقني شوق الصالحين إلى ما شوقتهم إليه
ص:96
فقال النَّبِيَّ صَلَّ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَلأنس بن مالك وكان معه اذهب يا أنس فقل له يقول لك رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ استغفر لي
فجاءه أنس فبلغه فقال الرجل يا أنس أنت رسول رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الي فرجع فاستثبته فقال له النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قل له نعم
فقال له اذهب فقل له إن الله فضلك على الأنبياء مثل ما فضل به رمضان على الشهور وفضل أمتك على الأمم مثل ما فضل يوم الجمعة على سائر الأيام
فذهبوا ينظرون فإذا هو الخضر عليه السلام
73- كثير بن عبد الله ضعفه الأئمة ولكن جاء من غير روايته
ص:97(49/49)
74- قال أبو الحسين بن المنادي 3- أخبرني أبو جعفر أحمد بن النضر العسكري أن محمد بن سلام المنبجي حدثهم ب - وأخرج ابن عساكر من طريق محمد بن الفضل بن جابر عن محمد بن سلام المنبجي حدثنا وضاح بن عباد الكوفي حدثنا عاصم بن سليمان الأحول حدثني أنس بن مالك - رضي الله عنه- قال خرجت ليلة من الليالي -أحمل مع النَّبِيَّ صَلَّ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَالطهور- فسمع مناديا ينادي فقال لي يا أنس صه قال فسكت فاستمع فإذا هو يقول اللهم أعني على ما ينجيني مما خوفتني منه
قال فقال النَّبِيَّ صَلَّ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
ص:98
لو قال أختها معها
فكأن الرجل لقن ما أراد النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال وارزقني شوق الصالحين إلى ما شوقتهم إليه
فقال النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لي يا أنس ضع لي الطهور وائت هذا المنادي فقل له ادع الله تعالى لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يعينه الله على ما ابتعثه به وادع لأمته أن يأخذوا ما أتاهم به نبيهم بالحق
فأتيته فقلت رحمك الله ادع الله لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يعينه الله على ما ابتعث به وادع لأمته أن يأخذوا ما آتاهم به نبيهم بالحق(49/50)
فقال لي ومن أرسلك فكرهت أن اخبره - ولم أستأمر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقلت له رحمك الله ما يضرك من أرسلني ادع بما قلت لك فقال لا أو تخبرني بمن أرسلك قال فرجعت إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقلت له يا رسول الله أبى أن يدعو لك بما قلت حتى أخبره بمن أرسلني فقال ارجع إليه فقل له أنا رسول رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فرجعت إليه فقلت له فقال لي مرحبا برسول رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنا كنت أحق أن آتيه اقرأ على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مني السلام وقل له يا رسول الله الخضر يقرأ عليك السلام ورحمة الله ويقول لك يا رسول الله إن الله فضلك على الأنبياء كما فضل شهر رمضان على سائر الشهور وفضل أمتك على الأمم كما فضل يوم الجمعة على سائر الأيام
قال فلما وليت سمعته يقول اللهم اجعلني من هذه الأمة المرشدة المرحومة المتوب عليها
ص:99
75- وأخرجه الطبراني في الأوسط
عن بشر بن علي بن بشر العمي عن محمد بن سلام وقال لم يروه عن أنس إلا عاصم ولا عنه إلا وضاح تفرد به محمد بن سلام
76- قلت وقد جاء من وجهين آخرين عن أنس - رضي الله عنه- وقال أبو الحسين بن المنادي هذا حديث واه بالوضاح وغيره وهومنكر الحديث وسقيم المتن ولم يراسل الخضر نبينا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولم يلقه
واستبعده ابن الجوزي من جهة إمكان لقياه النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ واجتماعه معه ثم لا يجئ اليه
77- وأخرج ابن عساكر من طريق أبي خالد - مؤذن مسجد مسلبة-
ص:100
حدثنا أبو داود عن أنس فذكر نحوه(49/51)
78- وقال ابن شاهين حدثنا موسى بن انس بن خالد بن عبد الله بن طلحة بن موسى بن انس بن مالك حدثنا أبي حدثنا محمد بن عبد الله الأنصاري حدثنا حاتم بن أبي رواد عن معاذ بن عبد الله بن أبي بكر عن أبيه عن أنس - رضي الله عنه- قال خرج رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذات ليلة لحاجة فخرجت خلفه فسمعنا قائلا يقول اللهم اني أسألك شوق الصالحين إلى ما شوقتهم إليه فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لو أضاف اختها اليه فسمعنا القائل وهو يقول اللهم تعينني بما ينجيني مما خوفتني منه
ص:101
فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وجبت ورب الكعبة يا انس ائت الرجل فاسأله أن يدعو لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يرزقه القبول من أمته والعون على ما جاء به من الحق والتصديق
قال أنس - رضي الله عنه - فأتيت الرجل فقلت يا أبا عبد الله ادع لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال لي ومن أنت فكرهت أن أخبره ولم أستأذن وأبى أن يدعو حتى اخبره فرجعت إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأخبرته فقال أخبره فرجعت فقلت له أنا رسول رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اليك فقال مرحبا برسول رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فدعا له وقال أقرأه مني السلام وقل له أنا أخوك الخضر وأنا كنت أحق أن آتيك
قال فلما وليت سمعته يقول اللهم اجعلني من هذه الأمة المرحومة المتاب عليها
79- قال الدار قطني في الافراد حدثنا أحمد بن العباس البغوي حدثنا أنس بن خالد حدثني محمد بن عبد الله به نحوه
80- ومحمد بن عبد الله هذا هو أبو سلمة الأنصاري وهو واهي الحديث جدا
ص:102
وليس هو شيخ البخاري قاضي البصرة ذاك ثقة وهو أقدم من أبي سلمة(49/52)
81- وروينا في فوائد أبي إسحاق إبراهيم بن محمد المزني تخريج الدار قطني حدثنا محمد بن إسحاق بن خزيمة حدثنا محمد بن أحمد بن زبد حدثنا عمرو بن عاصم حدثنا الحسن بن رزين عن ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس - لا أعلمه إلا مرفوعا إلى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال يلتقي الخضر وإلياس في كل عام في الموسم فيحلق كل واحد منهما رأس صاحبه ويتفرقان عن هؤلاء الكلمات بسم الله ما شاء الله لا يسوق الخير إلا الله بسم الله ما شاء الله لا حول ولا قوة إلا بالله
قال الدار قطني في الإفراد لم يحدث به عن ابن جريح غير الحسن بن رزين وقال أبو جعفر العقيلي لم يتابع عليه وهو مجهول وحديثه غير محفوظ وقال أبو الحسين بن المنادي
ص:103
هو حديث واه بالحسن المذكور انتهى
82- وقد جاء من غير طريقه - لكن من وجه واه جدا - أخرجه ابن الجوزي من طريق أحمد بن عمار حدثنا محمد بن مهدي حدثنا مهدي بن هلال حدثني ابن جريج فذكر بلفظ يجتمع البري والبحري إلياس والخضر كل عام بمكة
قال ابن عباس بلغنا أنه يحلق أحدهما رأس صاحبه ويقول أحدهما للآخر قل بسم الله الخ
وزاد قال ابن عباس قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما من عبد قالها كل يوم إلا أمن من الحرق والغرق والسرق وكل شيء يكرهه حتى يمسي وكذلك حتى يصبح
ص:104
قال ابن الجوزي أحمد بن عمار متروك عند الدار قطني
ومهدي بن هلال مثله قال ابن حبان مهدي بن هلال يروي الموضوعات
83- ومن طريق عبيد بن إسحاق العطار حدثنا محمد بن ميسر عن عبد الله بن الحسن عن أبيه عن جده عن علي قال يجتمع في كل يوم عرفة جبريل وميكائيل وإسرافيل والخضر فيقول جبريل ما شاء الله لا قوة إلا بالله فيرد عليه ميكائيل ما شاء الله كل نعمة فمن الله فيرد عليهما إسرافيل ما شاء الله الخير كله بيد الله فيرد عليهم الخضر فيقول ما شاء الله لا يدفع السوء إلا الله(49/53)
ثم يتفرقون فلا يجتمعون إلا إلى قابل في مثل هذا اليوم وعبيد
ص:105
بن إسحاق متروك الحديث
84- وأخرج عبد الله بن أحمد في زوائد كتاب الزهد لأبيه عن الحسن بن عبد العزيز عن السري بن يحيى عن عبد العزيز بن رواد قال يجتمع الخضر وإلياس ببيت المقدس في شهر رمضان من أوله إلى
ص:106
آخره ويفطران على الكرفس وإقبال الموسم كل عام - وهذا معضل
85- روينا في فوائد أبي علي أحمد بن محمد بن علي الباشاني حدثنا عبد الرحيم بن حبيب الفريابي حدثنا صالح عن أسد بن سعيد عن جعفر بن محمد عن ابائه عن علي قال كنت عند النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فذكره عنده الأدهان فقال فضل دهن البنفسج على سائر الأدهان كفضلنا أهل البيت على سائر الخلق
قال وكان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يدهن به ويستعط فذكر حديثا طويلا فيه الكراث والبازروج والجرجير والهندباء والكمأة والكرفس واللحم والحيتان - وفيه الكمأة من الجنة ماؤها شفاء للعين وفيها شفاء من السم وهي طعام إلياس واليسع يجتمعان كل عام بالموسم يشربان شربة ماء زمزم فيكتفيان بها إلى قابل فيرد الله شبابهما في كل مائة عام مرة وطعامهما الكمأة والكرفس
قال ابن الجوزي لا شك في أن هذا الحديث موضوع والمتهم به عبد الرحيم بن حبيب فقد قال ابن حيان إنه كان يضع الحديث
ص:107
وقد تقدم عن مقاتل ان اليسع هو الخضر
86- قال ابن شاهين حدثنا محمد بن أحمد بن عبد العزيز الحراني حدثنا أبو طاهر خير بن عرفة حدثنا هاني بن المتوكل حدثنا بقية عن الأوزاعي عن مكحول سمعت واثلة بن الأسقع قال غزونا مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غزوة تبوك حتى إذا كنا بأرض جذام وقد كان أصابنا عطش فإذا بين أيدينا آثار غيث فسرنا ميلا فإذا بغدير حتى إذا ذهب ثلث الليل إذا نحن بمناد ينادي بصوت حزين
ص:108
اللهم اجعلني من أمة محمد المرحومة المغفور لها المستجاب لها والمبارك عليها(49/54)
فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يا حذيفة ويا أنس ادخلا إلى هذا الشعب فانظرا ما هذا الصوت
قال فدخلنا فإذا نحن برجل عليه ثياب بيض أشد بياضا من الثلج وإذا وجهه ولحيته كذلك وإذا هو أعلى جسما منا بذراعين أو ثلاثة فسلمنا عليه فرد علينا السلام ثم قال مرحبا أنتما رسولا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقلنا نعم من أنت - يرحمك الله - قال أنا إلياس النبي خرجت أريد مكة فرأيت عسكركم فقال لي جند من الملائكة - وعلى مقدمتهم جبريل وعلى ساقتهم ميكائيل هذا أخوك رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فسلم عليه والقه ارجعا إليه فاقرئاه مني السلام وقولا له لم يمنعني من الدخول إلى عسكركم إلا أني تخوفت أن تذعر الإبل ويفزع المسلمون من طولى فإن خلقي ليس كخلقكم قولا له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يأتيني
قال حذيفة وأنس فصافحناه
فقال لأنس يا خادم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من هذا قال هذا حذيفة صاحب سر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فرحب به ثم قال أنه لفي السماء اشهر منه في الأرض يسميه أهل السماء صاحب سر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قال حذيفة هل تلقى الملائكة
ص:109(49/55)
قال ما من يوم إلا وأنا القاهم يسلمون علي وأسلم عليهم فأتينا النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فخرج معنا حتى أتينا الشعب فإذا ضوء وجه إلياس وثيابه كالشمس فقال النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على رسلكم فتقدمنا قدر خمسين ذراعا فعانقه مليا ثم قعدا فرأينا شيئا يشبه الطير العظام وقد أحدقت بهما وهي بيض قد نشرت أجنحتها فحالت بيننا وبينهما ثم صرخ بنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال يا حذيفة يا أنس فقدمنا فإذا بين أيديهما مائدة خضراء لم أر شيئا قط أحسن منها قد غلبت خضرتها بياضنا فصارت وجوهنا خضراء وإذا عليها جبن وتمر ورمان وموز وعنب ورطب وبقل ما خلا الكراث فقال النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كلوا بسم الله فقلنا يا رسول الله أمن طعام الدنيا هذا قال لا قال لنا هذا رزقي ولي في كل أربعين يوما وليلة أكلة يأتيني بها الملائكة فكان هذا تمام الأربعين وهو شيء يقول الله له كن فيكون فقلنا من أين وجهك قال من خلف رومية كنت في جيش من الملائكة مع جيش من مسلمي الجن غزونا أمة من الكفار فقلنا كم مسافة ذلك الموضع الذي كنت فيه قال أربعة أشهر وفارقته أنا منذ عشرة أيام وأنا أريد مكة أشرب منها في كل سنة شربة وهي ريي وعصمتي إلى تمام الموسم من قابل
قلنا وأي المواطن أكثر مثواك قال الشام وبيت المقدس والمغرب واليمن وليس من مسجد من مساجد محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا وأنا أدخله كبيرا أو صغيرا فقلنا متى عهدك بالخضر قال منذ سنة كنت
ص:110
قد التقيت أنا وهو بالموسم وأنا ألقاه بالموسم وقد كان قال لي إنك ستلقى محمدا قبلي فاقراه مني السلام وعانقه وبكى وعانقنا وبكى وبكينا فنظرنا اليه حين هوى في السماء كأنه حمل حملا فقلنا يا رسول الله لقد رأينا عجبا إذ هوى في السماء قال يكون بين جناحي ملك حتى ينتهي به حيث أراد(49/56)
87- قال ابن الجوزي لعل بقية سمع هذا من كذاب فدلسه عن الأوزاعي قال وخير بن عرفة لا يدري من هو
قلت هو محدث مصري مشهور واسم جده عبد الله بن كامل يكنى أبا الطاهر روي عنه أبو طالب الحافظ شيخ الدار قطني وغيره ومات سنة 283 هـ
88- وقد رواه غير بقية عن الأوزاعي على صفة اخرى قال ابن أبي الدنيا
ص:111
حدثني إبراهيم بن سعيد الجوهري حدثنا يزيد بن يزيد الموصلي التيمي مولى لهم حدثنا أبو إسحاق الجرشي عن الأوزاعي عن مكحول عن انس - رضي الله عنه - قال غزونا مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى إذا كنا بفج الناقة بهذا الحجر إذا نحن بصوت يقول اللهم اجعلني من أمة محمد المرحومة المغفور لها المتاب عليها المستجاب منها
فقال لي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يا أنس انظر ما هذا الصوت
قال فدخلت الجبل فإذا رجل أبيض الرأس واللحية وعليه ثياب بيض طوله أكثر من ثلاث مائة ذراع فلما نظر إلي قال أنت رسول رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قلت نعم قال ارجع اليه فاقرأ عليه مني السلام وقل له هذا أخوك إلياس يريد يلقاك فجاء النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأنا معه حتى إذا كنت قريبا منه تقدم وتأخرت فتحدثا طويلا فنزل عليهما شيء من السماء شبيه السفرة فدعواني فأكلت معهما فإذا فيهما كمأة ورمان وكرفس فلما أكلت قمت فتنحيت وجاءت سحابة فاحتملته انظر إلى بياض ثيابه فيها تهوى به قبل الشام
فقلت للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأبي أنت وأمي هذا الطعام الذي أكلنا من السماء نزل عليك قال سألته عنه فقال أتاني به جبريل ولي كل أربعين يوما أكلة وفي كل حول شربة من ماء زمزم وربما رأيته على الجب يمسك بالدلو فيشرب وربما سقاني
ص:112
قال ابن الجوزي يزيد وأبو إسحاق لا يعرفان وقد خالف هذا الذي قبله في طول إلياس(49/57)
89- وأخرج ابن عساكر من طريق علي بن الحسين بن ثابت الدوري عن هشام بن خالد عن الحسن بن يحيى الخشني عن ابن أبي رواد قال الخضر وإلياس يصومان ببيت المقدس ويحجان في كل سنة ويشربان من زمزم شربة تكفيهما إلى مثلها من قابل
90- ثم وجدت في زيادات الزهد لعبد الله بن أحمد بن حنبل قال وجدت في كتاب أبي بخطه حدثنا مهدي بن جعفر حدثني
ص:113
ضمرة عن السري بن يحيى عن ابن أبي رواد قال إلياس والخضر يصومان شهر رمضان ببيت المقدس ويوافيان الموسم في كل عام
قال عبد الله وحدثني الحسن هو ابن رافع عن ضمرة عن السري عن عبد العزيز بن أبي رواد مثله
91- وقال ابن جرير في تأريخه حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن الحكم المصري حدثنا محمد بن المتوكل حدثنا ضمرة بن ربيعة عن عبد الله بن شوذب قال الخضر من ولد فارس وإلياس من بني إسرائيل يلتقيان في كل عام بالموسم
ص:114
92- قال الفاكهي في كتاب مكة حدثنا الزبير بن بكار حدثني حمزة بن عتبة حدثني محمد بن عمران عن جعفر بن محمد بن علي قال كنت مع أبي بمكة في ليالي العشر وأبي قائم يصلي في الحجر فدخل عليه رجل أبيض الرأس واللحية من الأعراب فجلس إلى جنب أبي فخفف فقال إني جئت - يرحمك الله - تخبرني عن أول خلق هذا البيت قال ومن أنت قال أنا رجل من أهل المغرب قال إن أول خلق هذا البيت أن الله لما رد عليه الملائكة حيث قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها غضب فطافوا بعرشه فاعتذروا فرضى عنهم وقال اجعلوا لي في الأرض بيتا يطوف به من عبادي من أغضب عليه فأرضى عنه كما رضيت عنكم
ص:115
فقال له الرجل أي - يرحمك الله - ما بقي من أهل زمانك أعلم منك ثم ولي فقال لي أبي أدرك الرجل فرده علي فخرجت - وأنا أنظر إليه - فلما بلغ باب الصفا مثل فكأنه لم يكن شيئا فأخبرت أبي فقال تدري من هذا قال قلت لا قال هذا الخضر
باب ما جاء في بقاء الخضر بعد النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومن نقل عنه أنه رآه وكلمه(49/58)
93- قال ابن أبي حاتم في التفسير حدثنا أبي حدثنا عبد العزيز الأويسي حدثنا علي بن أبي علي الهاشمي عن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين عن أبيه أن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه- قال لما توفي النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وجاءت التعزية فجاءهم آت يسمعون حسه ولا يرون شخصه فقال السلام عليكم أهل البيت ورحمة الله وبركاته كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة أن في الله عزاء من كل مصيبة وخلفا من كل هالك ودركا من كل ما فات فبالله فثقوا وإياه فارجوا فإن المصاب من حرم الثواب
قال جعفر أخبرني أبي أن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه- قال تدرون من هذا هذا الخضر
ص:116
94- ورواه محمد بن منصور الجواز عن محمد بن جعفر وعبد الله بن ميمون القداح جميعا عن جعفر بن محمد عن أبيه عن علي بن الحسين سمعت أبي يقول لما قبض رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جاءت التعزية يسمعون حسه ولا يرون شخصه -السلام عليكم ورحمة الله أهل البيت إن في الله عزاء من كل مصيبة وخلفا من كل هالك ودركا من كل ما فات فبالله فثقوا وإياه فارجوا فإن المحروم من حرم الثواب
فقال علي - رضي الله عنه - تدرون من هذا هذا الخضر
95- قال ابن الجوزي تابعه محمد بن صالح عن محمد بن جعفر ومحمد بن صالح ضعيف قلت ورواه الواقدي وهو كذاب
ص:117
96- قال ورواه محمد بن أبي عمر عن محمد بن جعفر وابن أبي عمر مجهول قلت هذا إطلاق ضعيف فابن أبي عمر أشهر من أن يقال فيه هذا هو شيخ مسلم وغيره من الأئمة وهو ثقة حافظ صاحب مسند مشهور به مروى وهذا الحديث فيه(49/59)
97- أخبرنا به شيخنا حافظ العصر أبو الفضل بن الحسين - رحمه الله - قال أخبرني أبو محمد بن القيم أنا أبو الحسن بن البخاري عن محمد بن معمر أنا سعيد بن أبي الرجاء أنا أحمد بن محمد بن النعمان أنا أبو بكر بن المقري أنا إسحاق بن الخزاعي حدثنا محمد بن يحيى بن أبي عمر العدني حدثنا محمد بن جعفر قال كان أبي - وهو جعفر بن محمد الصادق - يذكر عن أبيه عن جده عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه-
ص:118
أنه دخل عليه نفر من قريش فقال ألا أحدثكم عن أبي القاسم قالوا بلى فذكر الحديث بطوله في وفاة النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وفي آخره فقال جبريل يا أحمد عليكم السلام هذا آخر وطني في الأرض إنما كنت أنت حاجتي عن الدنيا فلما قبض رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وجاءت التعزية جاء آت يسمعون حسه ولا يرون شخصه فقال السلام عليكم أهل البيت ورحمة الله إن في الله عزاء من كل مصيبة وخلفا من كل هالك ودركا من كل فائت فبالله فثقوا وإياه فارجوا فان المحروم من حرم الثواب وإن المصاب من حرم الثواب والسلام عليكم
فقال علي هل تدرون من هذا هذا الخضر انتهى
98- ومحمد بن جعفر هو أخو موسى الكاظم حدث عن أبيه وغيره
وروى عنه إبراهيم بن المنذر وغيره وكان قد دعى لنفسه بالمدينة ومكة وحج بالناس سنة مائتين وبايعوه بالخلافة فحج المعتصم فظفر به فحمله إلى أخيه المأمون بخراسان فمات بجرجان سنة ثلاث ومائتين
99- وذكر الخطيب في ترجمته أنه لما ظفر به صعد المنبر فقال أيها الناس اني كنت قد حدثتكم
ص:119
بأحاديث زورتها فشق الناس الكتب التي سمعوها منه وعاش سبعين سنة
قال البخاري أخوه إسحاق أوثق منه
100- أخرج له الحاكم حديثا - قال الذهبي إنه ظاهر النكارة في ذكر سليمان بن داود عليه السلام(49/60)
101- وقال سيف بن عمرو التميمي في كتاب الردة له عن سعيد بن عبد الله عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال لما توفي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جاء أبو بكر حتى دخل عليه فلما رآه مسجى قال إنا لله وإنا إليه راجعون وصلى عليه فرفع أهل البيت عجيجا سمعه أهل المصلى فلما سكن ما بهم سمعوا تسليم رجل على
ص:120
الباب صيت جلد يقول السلام عليكم يا أهل البيت كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة إلا وأن في الله خلفا من كل أحد ونجاة من كل مخافة والله فارجوا وبه فثقوا فإن المصاب من حرم الثواب
فاستمعوا له وقطعوا البكاء ثم طلعوا فلم يروا أحدا فعادوا لبكائهم فناداهم آخر يا أهل البيت اذكروا الله تعالى واحمدوه على كل حال تكونوا من المخلصين إن في الله عزاء من كل مصيبة وعوضا من كل هلكة فبالله فثقوا وإياه فأطيعوا فإن المصاب من حرم الثواب
فقال أبو بكر -رضي الله عنه - هذا الخضر وإلياس قد حضرا وفاة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وسيف فيه مقال وشيخه لايعرف
102- قال ابن أبي الدنيا حدثنا كامل بن طلحة أخبرنا عباد بن عبد الصمد عن أنس بن مالك - رضي الله عنه- قال لما قبض رسول الله - اجتمع أصحابه حوله يبكون فدخل عليهم رجل طويل أشعر المنكبين في إزار ورداء يتخطى أصحاب
ص:121
رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى أخذ بعضادتي باب البيت فبكى ثم أقبل على الصحابة فقال إن في الله عزاء من كل مصيبة وعوضا من كل ما فات وخلفا من كل هالك فإلى الله فأنيبوا وبنظره إليكم في البلاء فانظروا فإنما المصاب من لم يجز الثواب ثم ذهب الرجل فقال أبو بكر علي بالرجل فنظروا يمينا وشمالا فلم يروا أحدا
فقال أبو بكر - رضي الله عنه - لعل هذا الخضر أخو نبينا جاء يعزينا عليه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وعباد ضعفه البخاري والعقيلي
103- وقد أخرجه الطبراني في الأوسط عن موسى بن هارون عن كامل(49/61)
وقال تفرد به عباد عن أنس - رضي الله عنه_
104- قال ابن شاهين في كتاب الجنائز له حدثنا ابن أبي داود ثنا أحمد بن عمرو بن السراج حدثنا ابن
ص:122
وهب عمن حدثه عن محمد بن عجلان عن محمد بن المكندر قال بينما عمر بن الخطاب يصلي على جنازة إذا هاتف يهتف من خلفه ألا لا تسبقنا بالصلاة - يرحمك الله - فاتنظره حتى لحق بالصف فكبر فقال إن تعذبه فقد عصاك وإن تغفر له فإنه فقير إلى رحمتك
فنظر عمر وأصحابه إلى الرجل فلما دفن الميت سوى الرجل عليه من تراب القبر ثم قال طوبى لك يا صاحب القبر إن لم تكن عريفا أو جابيا أو خازنا أو كاتبا أو شرطيا
فقال عمر - رضي الله عنه- خذوا لي هذا الرجل نسأله عن صلاته وعن كلامه فتولى الرجل عنهم فإذا أثر قدمه ذراع فقال عمر- رضي الله عنه - هذا - والله - الخضر الذي حدثنا عنه النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قال ابن الجوزي فيه مجهول وانقطاع بين ابن المنكدر وعمر
105- وقال ابن أبي الدنيا
ص:123
حدثنا أبي حدثنا علي بن شقيق ثنا ابن المبارك أنبأنا عمر بن محمد بن المنكدر قال بينما رجل يمشي يبيع شيئا ويحلف قام عليه شيخ فقال بع ولا تحلف فعاد فحلف فقال بع ولا تحلف قال أقبل على ما يعنيك قال هذا ما يعنيني ثم قال آثر الصدق على ما يضرك على الكذب فيما ينفعك وتكلم فإذا انقطع علمك فاسكت واتهم الكاذب فيما يحدثك به غيرك
قال اكتب لي هذا الكلام فقال إن يقدر شئ يكن ثم لم يره
فكانوا يرون أنه الخضر
قال ابن الجوزي كان هذا أصل الحديث
106- وقد رواه أبو عمر بن السماك في فوائده عن يحيى بن أبي طالب عن علي بن عاصم عن عبد الله بن عبيد الله قال كان ابن عمر قاعدا ورجل قد أقام سلعته يريد بيعها فجعل يكرر الأيمان إذ مر به رجل
فقال اتق الله ولا تحلف به كاذبا عليك بالصدق فيما يضرك وإياك والكذب فيما ينفعك ولا تزيدن في حديث غيرك(49/62)
فقال ابن عمر لرجل اتبعه فقل له اكتب هذه الكلمات فتبعه فقال ما يقضى من شئ يكن ثم فقده فرجع فأخبر ابن عمر فقال
ص:124
ابن عمر - رضي الله عنه- ذاك الخضر
قال ابن الجوزي علي بن عاصم ضعيف سيء الحفظ ولعله أراد أن يقول عمر بن محمد بن المنكدر فقال ابن عمر
107- قال وقد رواه أحمد بن محمد بن مصعب - أحد الوضاعين- عن جماعة مجاهيل عن عطاء عن ابن عمر - رضي الله عنهما-
108- قلت وجدت له طريقا جيدة غير هذا عن ابن عمر - رضي الله عنه - قال البيهقي في دلائل النبوة أنا أبو زكريا بن أبي إسحاق ثنا أحمد بن سليمان الفقيه حدثنا الحسن بن مكرم حدثنا عبد الله بن بكر - وهو السهمي- حدثنا الحجاج بن فرافصة
ص:125
أن رجلين كان يتبايعان عند عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما -فكان أحدهما يكثر الحلف فبينما هو كذلك إذ مر بهما رجل فقام عليهما فقال للذي يكثر الحلف يا عبد الله اتق الله ولا تكثر الحلف فإنه لايزيد في رزقك إن حلفت ولا ينقص من رزقك إن لم تحلف
قال امض لما يعنيك قال إن هذا مما يعنيني قالها ثلاث مرات ورد عليه قوله فلما أراد أن ينصرف عنهما قال اعلم أن من الإيمان أن تؤثر الصدق حيث يضرك على الكذب حيث ينفعك ولا يكن في قولك فضل على فعلك ثم انصرف
فقال عبد الله بن عمر الحقه فاستكتبه هؤلاء الكلمات فقال يا عبد الله اكتبني هذه الكلمات - يرحمك الله - فقال الرجل ما يقدر الله يكن وأعادها عليه حتى حفظهن ثم مشى حتى وضع إحدى رجليه في المسجد فما أدرى أرض تحته أم سماء قال فكانوا يرون أنه الخضر أو إلياس
109- وقال ابن أبي الدنيا ثنا يعقوب بن يوسف ثنا مالك بن إسماعيل ثنا صالح بن أبي الأسود عن محفوظ بن عبد الله عن شيخ من حضرموت عن محمد بن عبد يحيى قال قال علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - بينما أنا أطوف بالبيت إذا أنا برجل معلق بالأستار وهو يقول يا من لا يشغله شيء عن سمع يا من لا يغلطه السائلون يا من لا يتبرم بإلحاح
ص:126(49/63)
الملحين أذقني برد عفوك وحلاوة رحمتك قال قلت دعاؤك هذا - عافاك الله -أعده وقال قد سمعته قلت نعم قال فادع به في كل دبر صلاة فوالذي نفس الخضر بيده لو أن عليك من الذنوب عدد نجوم السماء وحصى الأرض لغفر الله لك أسرع من طرفة عين
وأخرجه الدينوري في المجالسة من هذا الوجه
110- وقد روى أحمد بن حرب النيسابوري عن محمد بن معاذ الهروي عن سفيان الثوري عن عبد الله بن محرر عن يزيد بن الأصم عن علي بن أبي طالب فذكر نحوه
ولكن قال فقلت يا عبد الله أعد الكلام قال وسمعته قلت نعم قال والذي نفس الخضر بيده - وكان الخضر يقولهن عند دبر الصلاة المكتوبة -لا يقولها أحد دبر الصلاة المكتوبة إلا غفرت ذنوبه وإن كانت
ص:127
مثل رمل عالج وعدد القطر وورق الشجر
111- ورواه محمد بن معاذ الهروي عن أبي عبيد المخزومي عن عبد الله بن الوليد عن محمد بن حميد عن سفيان الثوري نحوه
112- وأخرج البيهقي في الدلائل قال ثنا أبو عبد الله الحافظ ثنا أبو جعفر البغدادي ثنا عبد الله بن عبد الرحمن الصنعاني ثنا أبو الوليد المخزومي ثنا أنس بن عياض عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر بن عبد الله قال لما توفي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عزتهم الملائكة يسمعون الحس ولا يرون الشخص فقال السلام عليكم أهل البيت ورحمة الله وبركاته إن في الله عزاء من كل مصيبة وخلفا من كل فائت فبالله فثقوا وإياه فارجوا فإنما المحروم من حرم الثواب والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
ص:128(49/64)
113- وقال البيهقي أيضا أنا أبو شعبة أحمد بن محمد بن عمرو الأحمسي حدثنا الحسن بن حميد الربيع اللخمي ثنا عبد الله بن أبي زياد ثنا شيبان بن حاتم ثنا عبد الواحد بن سليمان الحارثي ثنا الحسن بن علي عن محمد بن علي - هو ابن الحسين بن علي- قال لما كان قبل وفاة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هبط إليه جبرائيل - فذكر قصة الوفاة مطولة - وفيه فأتاهم آت يسمعون حسه ولا يرون شخصه فقال السلام عليكم ورحمة الله وبركاته فذكر مثله في التعزية
114- روى سيف في الفتوح إن جماعة كانوا مع سعد بن أبي وقاص فرأوا أبا محجن - وهو يقاتل- فذكر قصة أبي مجحن بطولها وإنهم قالوا وهم لا يعرفونه ما هو إلا الخضر
وهذا يقتضي أنهم كانوا جازمين بوجود الخضر في ذلك الوقت
115- وقال أبو عبد الله بن بطة العكبري الحنبلي
ص:129
ثنا شعيب بن أحمد بن أبي العوام ثنا أبي ثنا إبراهيم بن عبد الحميد الواسطي ثنا أبين بن سفيان عن غالب بن عبد الله العقيلي عن الحسن البصري قال اختلف رجل من أهل السنة وغيلان القدر في شيء من القدري فتراضيا بينهما على أول رجل يطلع عليهما من ناحية ذكراها فطلع عليهما أعرابي قد طوى عباءة فجعلها على كتفه فقالا له رضيناك حكما فيما بيننا فطوى كساءه ثم جلس عليه ثم قال اجلسا فجلسنا بين يديه
فحكم على غيلان
قال الحسن ذاك الخضر
وفي إسناده أبين بن سفيان وهو متروك
116- وروى حماد بن عمر النصيبي - أحد المتروكين - ثنا السري بن خالد عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جده علي بن الحسين أن مولى لهم ركب في البحر فكسر به فبما هو يسير على ساحله إذ نظر إلى رجل إلى شاطئ البحر ونظر إلى مائدة نزلت من
ص:130
من السماء فوضعت بين يديه فأكل منها ثم رفعت فقال له بالذي وفقك بما أرى أي عباد الله أنت قال الخضر الذي تسمع به قال بماذا جاءك هذا الطعام والشراب قال بأسماء الله العظام(49/65)
117- وأخرج أحمد في كتاب الزهد له عن حماد بن أسامة ثنا مسعر عن معن بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود عن عون بن عبد الله بن عتبة بن مسعود قال بينما رجل في بستان بمصر في فتنة ابن الزبير مهموما مكبا ينكت في الأرض بشيء إذ رفع رأسه فإذا بفتى صاحب مسحاة قد سنح له قائما بين يديه فرفع رأسه فكأنه ازدراه فقال له مالي أراك مهموما قال لا شيء قال أما الدنيا فإن الدنيا عرض حاضر يأكل منه البر والفاجر وإن الآخرة أجل صادق يحكم فيه ملك قادر حتى ذكر أن لها مفصلا كمفاصل اللحم من أخطأ شيئا منها أخطأ الحق
قال فلما سمع ذلك منه أعجبه فقال اهتمامي بما فيه المسلمون
قال فإن الله سينجيك بشفقتك على المسلمين وسل من ذا الذي سأل الله فلم يعطه أو دعاه فلم يجبه أو توكل عليه فلم يكفه أو وثق به فلم ينجه
قال فطفقت أقول اللهم سلمني وسلم مني قال فتجلت ولم يصب فيها بشيء
قال مسعر
ص:131
يرون أنه الخضر
118- وأخرجه أبو نعيم في الحلية في ترجمة عون بن عبد الله من طريق أبي أسامة وهو حماد بن أسامة
وقال بعده ورواه ابن عيينة عن مسعر
119- وقال إبراهيم بن محمد بن سفيان الراوي عن مسلم عقب روايته عن مسلم لحديث أبي سعيد في قصته الذي يقتله الدجال يقال إن هذا الرجل هو الخضر عليه السلام
120- وقال عبد الرزاق أنا معمر عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن أبي سعيد في قصة الذي يقتله الدجال وفي آخره قال معمر بلغني أنه يجعل على حلقه صفيحة من نحاس وبلغني أنه الخضر وهذا عزاه النووي لمسند معمر فأوهم أن له فيه سندا وإنما هو قول معمر
ص:132
121- وقال أبو نعيم في الحلية ثنا عبد الله بن محمد - هو أبو الشيخ- ثنا محمد بن يحيى - هو ابن منده- ثنا أحمد بن منصور المروزي حدثنا أحمد بن جميل قال قال سفيان بن عيينة بينما أنا أطوف بالبيت إذ أنا برجل مشرف على الناس حسن الشبه فقلنا بعضنا لبعض ما أشبه هذا الرجل أن يكون من أهل العلم(49/66)
قال فاتبعناه حتى قضى طوافه فسار إلى المقام فصلى ركعتين فلما سلم أقبل على القبلة فدعا بدعوات ثم التفت إلينا فقال هل تدرون ماذا قال ربكم قلنا وماذا قال ربنا قال قال ربكم أنا الملك أدعوكم إلى أن تكونوا ملوكا
ثم أقبل على القبلة فدعا بدعوات ثم التفت إلينا فقال هل تدرون ماذا قال ربكم قلنا له وماذا قال ربنا -حدثنا- يرحمك الله -
قال قال ربكم أنا الحي الذي لا يموت أدعوكم إلى أن تكونوا أحياء
ص:133
لا تموتون
ثم أقبل على القبلة فدعا بدعوات ثم التفت إلينا فقال هل تدرون ماذا قال ربكم قلنا ماذا قال ربنا حدثنا - يرحمك الله-
قال قال ربكم أنا الذي إذا أردت شيئا كان أدعوكم إلى أن تكونوا بحال إذا أردتم شيئا كان لكم
قال ابن عيينة ثم ذهب فلم نره قال فلقيت سفيان الثوري فأخبرته بذلك فقال ما أشبه أن يكون هذا الخضر أو بعض هؤلاء يعني الأبدال
122- تابعه محرز بن أبي جدعة عن سفيان
123- ورواها زياد بن أبي الأصبع عن سفيان أيضا
124- وروى محمد بن الحسن بن الأزهر عن العباس بن يزيد عن
ص:134
سفيان نحوها
125- وأخرج أبو سعيد في شرف المصطفى من طريق أحمد بن أبي بزه ثنا محمد بن الفرات عن ميسرة بن سعيد بن أبي عروبة عن أبيه بينما الحسن في مجلسه - والناس حوله- إذ أقبل رجل مخضرة عيناه فقال له الحسن أهكذا ولدتك أمك أم هي بلية قال أو ما تعرفني يا أبا سعيد قال من أنت قال فرات فانتسب له فلم يبق في المجلس أحد إلا عرفه فقال يا هذا ما قصتك فقال يا أبا سعيد عمدت إلى جميع مالي وألقيته في مركب فخرجت أريد الصين فعصفت علينا
ص:135
ريح فغرقت فخرجت إلى بعض السواحل على لوح فأقمت أتردد نحوا من أربعة أشهر آكل ما أصيب من الشجر والعشب وأشرب من ماء العيون ثم قلت لأمضين على وجهي(49/67)
فإما أن أهلك وإما ان أنجو فسرت فرفع لي قصر كأن سناءه فضة فرفعت مصراعه فإذا داخله أروقة في كل طاق منها صندوق من لؤلؤ وعليها أقفال مفاتيحها رأي العين ففتحت بعضها فخرجت من جوفه رائحة طيبة وإذا فيه رجال مدرجون في ألوان الحرير فحركت بعضهم فإذا هو ميت في صفة حي فأطبقت الصندوق وخرجت وأغلقت باب القصر ومضيت فإذا أنا بفارسين لم أر مثلهما جمالا على فرسين أغرين محجلين فسألاني عن قصتي فأخبرتهما فقالا تقدم أمامك فإنك تصل إلى شجرة تحتها روضة هناك شيخ حسن الهيئة على دكان يصلى فأخبره خبرك فإنه يرشدك إلى الطريق فمضيت فإذا أنا بالشيخ فسلمت فرد علي وسألني عن قصتي فأخبرته بخبري كله ففزع لما أخبرته بخبر القصر ثم قال ما صنعت قلت أطبقت الصناديق وأغلقت الأبواب فسكن وقال اجلس فمرت به سحابة فقالت السلام عليك يا ولي الله فقال أين تريدين قالت أريد بلد كذا وكذا فلم تزل تمر به سحابة بعد سحابة حتى أقبلت سحابة فقال أين تريدين
قالت البصرة قال انزلي فنزلت فصارت بين يديه فقال احملي هذا حتى تؤديه إلى منزله سالما فلما صرت على متن السحابة قلت أسألك بالذي أكرمك ألا أخبرتني عن القصر عن الفارسيين وعنك
قال أما القصر فقد أكرم الله به شهداء البحر ووكل بهم ملائكة يلقطونهم من البحر فيصيرونهم في تلك الصناديق مدرجين في أكفان
ص:136
الحرير والفارسان ملكان يغدوان ويروحان عليهم بالسلام من أمر الله
وأما أنا فالخضر وقد سألت ربي أن يحشرني مع أمة نبيكم
قال الرجل فلما صرت على السحابة أصابني من الفزع هول عظيم حتى صرت إلى ما ترى
فقال الحسن لقد عاينت عظيما
126- روى الطبراني في كتاب الدعاء له قال ثنا يحيى بن محمد الحنائي ثنا المعلى بن حرمى عن محمد بن المهاجر البصري حدثني أبو عبد الله بن التوأم الرقاشي
ص:137(49/68)
إن سليمان بن عبد الملك أخاف رجلا وطلبه ليقتله فهرب الرجل فجعلت رسله تختلف إلى منزل ذلك الرجل يطلبونه فلم يظفر به فجعل الرجل لا يأتي بلدة إلا قيل له قد كنت تطلب ههنا فلما طال عليه الأمر عزم على أن يأتي بلدة لا حكم لسليمان عليها فذكر قصة طويلة فيها بينما هو في الصحراء ليس فيها شجر ولا ماء إذا هو برجل يصلي قال فخفته ثم رجعت إلى نفسي فقلت والله ما معي راحلة ولا دابة قال فقصدت نحوه فركع وسجد ثم التفت إلي فقال لعل هذا الطاغي أخافك قلت أجل قال فما يمنعك من السبع قلت يرحمك الله - وما السبع قال قل سبحان الواحد الذي ليس غيره إله سبحان القديم الذي لا باريء له سبحان الدائم الذي لا نفاذ له سبحان الذي هو كل يوم في شأن سبحان الذي يحيي ويميت سبحان الذي خلق ما يرى وما لا يرى سبحان الذي علم كل شيء بغير تعليم
ثم قال قلها فقلتها وحفظتها والتفت فلم أر الرجل قال وألقى الله في قلبي الأمن ورجعت راجعا من طريقي أريد أهلي فقلت لآتين باب سليمان بن عبد الملك فأتيت بابه فإذا هو يوم إذنه- وهو يإذن للناس- فدخلت وإنه لعلي فراشه فما غدا أن رآني فاستوى على فراشه ثم
ص:138
أومأ إلي فما زال يدنيني حتى قعدت معه على الفراش ثم قال سحرتني أو ساحر أنت مع ما بلغني عنك فقلت يا أمير المؤمنين ما أنا بساحر ولا أعرف السحر ولا سحرتك قال فكيف فما ظننت أنه يتم ملكي إلا بقتلك فلما رأيتك لم أستقر حتى دعوتك فأقعدتك معي على فراشي ثم قال أصدقني أمرك فأخبرته
قال يقول سليمان الخضر - والله الذي لا إله إلا هو- علمكها اكتبوا له أمانا وأحسنوا جائزته واحملوه إلى أهله
127- أخرج أبو نعيم في الحلية في ترجمة رجاء بن حيوة من تأريخ السراج ثم من رواية محمد بن ذكوان عن رجاء بن حيوة قال إني لواقف مع سليمان بن عبد الملك وكانت لي منه منزله إذ جاء رجل - ذكر رجاء- من حسن هيئته قال فسلم فقال يا رجاء إنك قد ابتليت بهذا الرجل وفي قربه
ص:139(49/69)
الزيغ يا رجاء عليك بالمعروف وعون الضعيف واعلم يا رجاء أنه من كانت له منزلة من السلطان فرفع حاجة إنسان ضعيف لا يستطيع رفعها لقى الله يوم القيامة وقد ثبت قدميه للحساب
واعلم يا رجاء من كان في حاجة أخيه المسلم كان الله في حاجته
واعلم يا رجاء أن من أحب الأعمال إلى الله فرجا أدخلته على مسلم ثم فقده وكان يرى أنه الخضر- عليه السلام-
128- ذكر الزبير بن بكار في الموفقيات قال أخبرني السري بن الحارث الأنصاري - من ولد الحارث بن الصمة -عن مصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير - وكان يصلي في اليوم والليلة ألف ركعة ويصوم الدهر - قال
ص:140
بت ليلة في المسجد فلما خرج الناس إذا رجل قد جاء إلى بيت النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فسلم ثم أسند ظهره إلى الجدار ثم قال اللهم إنك تعلم أني كنت أمس صائما ثم أمسيت فلم أفطر على شيء اشتهي الثريد فأطعمنيها من عندك
قال فنظرت إلى وصيف داخل من خوخة المنارة ليس في خلقة الناس معه قصعة فأهوى بها إلى الرجل فوضعها بين يديه وجلس الرجل يأكل وحصبني فقال هلم فجئت وظننت أنها من الجنة فأحببت أن آكل منها فأكلت منها لقمة فإذا طعام لا يشبه طعام الدنيا ثم احتشمت فقمت فرجعت إلى مكاني فلما فرغ من أكله أخذ الوصيف القصعة ثم أهوى راجعا من حيث جاء ثم قام الرجل منصرفا فاتبعته لأعرفه فمثل فلا أدري أين سلك فظننته الخضر
129- وأخرج ابن عساكر من طريق إبراهيم بن عبد الله بن المغيرة عن عبد الله حدثني أبي أن قوام المسجد قالوا للوليد بن عبد الملك إن الخضر يصلي كل
ص:141
ليلة في المسجد
130- قال إسحاق بن إبراهيم الختلي في كتاب الرماح له ثنا عثمان بن سعيد الأنماط ثنا علي بن العشم المصيصي عن عبد الحميد بن بحر عن سلام الطويل عن داود بن يحيى مولى عون
ص:142(49/70)
الطفاوي عن رجل كان مرابطا في بيت المقدس وبعسقلان قال بينما أنا أسير في وادي الأردن إذا أنا برجل في ناحية الوادي قائم يصلي فإذا بسحابة تظله من الشمس فوقع في قلبي أنه إلياس النبي فأتيته فسلمت عليه فأنفلت من صلاته فرد السلام فقلت له من أنت - يرحمك الله - فلم يرد علي شيئا فأعدت عليه القول مرتين فقال أنا إلياس النبي فأخذتني رعدة شديدة خشيت على عقلي أن يذهب فقلت له إن رأيت - رحمك الله -أن تدعو لي أن يذهب الله عني ما أجد حتى أفهم حديثك قال فدعا لي ثماني دعوات فقال يا بر يا رحيم يا حي يا قيوم يا حنان منان يا هيا شراهيا فذهب عني ما كنت أجد فقلت إلى من بعثت قال إلى أهل بعلبك فقلت هل يوحى إليك اليوم فقال أما من بعث محمد خاتم النبيين فلا
ص:143
قلت فكم من الأنبياء في الحياة قال اربعة أنا والخضر في الأرض وإدريس وعيسى في السماء قلت فهل تلتقي أنت والخضر قال نعم في كل عام بعرفات قلت فما حديثكما قال يأخذ من شعري وآخذ من شعره قلت فكم الأبدال قال هم ستون رجلا خمسون ما بين عريش مصر إلى شاطيء الفرات ورجلان بالمصيصة ورجل بأنطاكية وسبعة في سائر الأمصار بهم يسقون الغيث وبهم ينصرون على العدو وبهم يقيم الله أمر الدنيا حتى إذا أراد أن يهلك الدنيا أماتهم جميعا
في إسناده جهالة ومتركون
131- قال أبو الحسين بن المنادي في الجزء المذكور
ص:144
ثنى أحمد بن ملاعب ثنا يحيى بن سعيد السعيدي أخبرني أبو جعفر الكوفي ثنى أبو عمر النصيبي قال خرجت أطلب مسلمة بن مصقلة بالشام وكان يقال إنه من الأبدال فلقيته بوادي الأردن فقال لي ألا أخبرك بشيء رأيته اليوم في هذا الوادي قال قلت بلى
قال دخلت اليوم هذا الوادي فإذا أنا بشيخ يصلي إلى شجرة فألقى في روعي أنه إلياس النبي فدنوت منه فسلمت عليه فركع فلما جلس سلم عن يمينه وعن شماله ثم أقبل علي فقال وعليك السلام فقلت من أنت - يرحمك الله-(49/71)
قال أنا إلياس النبي قال فأخذتني رعدة شديدة حتى خرزت على قفاي قال فدنا مني فوضع يده بين ثديي فوجدت بردها بين كتفي فقلت يا نبي الله ادع الله أن يذهب عني ما أجد حتى أفهم كلامك عنك فدعا لي بثمانية أسماء خمسة منها بالعربية وثلاثة بالسريانية فقال
ص:145
يا واحد يا أحد يا صمد يا فرد يا وتر ودعا بالثلاثة الأسماء الأخر فلم أعرفها
ثم أخذ بيدي فأجلسني فذهب عني ما كنت أجد فقلت يا نبي الله ألم تر هذا الرجل ما يصنع - أعني مروان بن محمد - وهو يومئذ يحاصر أهل حمص فقال لي مالك وماله جبار عات على الله فقلت يا نبي الله أما أني قد مررت به فأعرض عني فقلت يا نبي الله أما أني وإن كنت قد مررت بهم فإني لم أهو أحدا من الفريقين وأنا أستغفر الله وأتوب إليه قال فأقبل علي بوجهه ثم قال لي قد أحسنت هكذا فقل ثم لا تعد
قلت يا نبي الله هل في الأرض اليوم من الأبدال أحد قال نعم هم ستون رجلا منهم خمسون فيما بين العريش إلى الفرات ومنهم ثلاثة بالمصيصة وواحد بأنطاكية وسائر العشرة في سائر أمصار العرب
قلت يا نبي الله هل تلتقي أنت والخضر قال نعم نلتقي في كل موسم بمنى
قلت فما يكون من حديثكما قال يأخذ من شعري وآخذ من شعره قلت يا نبي الله إني رجل خلو ليست لي زوجة ولا ولد فإن رأيت أن تأذن لي فأصحبك وأكون معك
قال إنك لن تستطيع ذلك أو إنك لا تقدر على ذلك
ص:146
قال فبينما هو يحدثني إذ رأيت مائدة قد خرجت من أصل الشجرة فوضعت بين يديه ولم أر من وضعها وعليها ثلاثة أرغفة فمد يده ليأكل وقال لي كل وسم وكل مما يليك فمددت يدي فأكلت أنا وهو رغيفا ونصفا ثم إن المائدة رفعت ولم أر أحدا رفعها وأتي بأناء فيه شراب فوضع في يده فلم أر أحدا وضعه فشرب ثم ناولني فقال اشرب فشربت أحلى من العسل وأشد بياضا من اللبن ثم وضعت الإناء فرفع الإناء فلم أر أحدا رفعه(49/72)
ثم نظر إلى أسفل الوادي فإذا دابة قد أقبلت فوق الحمار ودون البغل وعليه رحالة فلما انتهى إليه نزل فقام ليركب ودرت به لآخذ بغرز الدابة فركب ثم سار ومشيت على جنبه وأنا أقول يا نبي الله إن رأيت أن تأذن لي فأصحبك وأكون معك فقال ألم أقل إنك لن تستطيع ذلك
فقلت فكيف لي بلقائك قال إنك إذا رأيتك رأيتني قلت على ذلك قال لعلك تلقاني في رمضان معتكفا ببيت المقدس واستقبلته شجرة فأخذ من ناحية ودرت من الجانب الآخر أستقبله فلم أر شيئا
قال ابن الجوزي مسلمة والراوي عنه وأبو جعفر الكوفي لا يعرفون
ص:147
132- روى داود بن مهران ثنى شيخ عن حبيب أبي محمد أنه رأى رجلا فقال له من أنت قال أنا الخضر
133- وعن محمد بن عمران عن جعفر الصادق أنه كان مع أبيه فجاءه رجل فسأله عن مسائل قال فأمرني أن أرد الرجل فلم أجده فقال ذاك الخضر
134- وعن أبي جعفر المنصور أنه سمع رجلا يقول في الطواف أشكو إليك ظهور البغي والفساد فدعاه فوعظه وبالغ ثم خرج فقال اطلبوه فلم يجدوه فقال ذاك الخضر
135- وأخرج ابن عساكر
ص:148
من طريق عمر بن فروخ عن عبد الرحمن بن حبيب عن سعيد بن سعيد عن أبي طيبة عن كرز بن وبرة قال أتاني أخ لي من الشام فأهدى إلي هدية فقلت من أهداها إليك قال إبراهيم التيمي
قلت من أهداها إلى إبراهيم التيمي قال قال كنت جالسا في فناء الكعبة فأتاني رجل فقال أنا الخضر وذكر لي تسبيحات ودعوات
ص:149
136- وذكر أبو الحسين بن المنادي من طريق مسلمة بن عبد الملك عن عمر بن عبد العزيز أنه لقي الخضر
137- وفي المجالسة لأبي بكر الدينوري من طريق إبراهيم بن خالد عن عمر بن عبد العزيز قال رأيت الخضر وهو يمشي مشيا سريعا وهو يقول صبرا يا نفس صبرا لأيام تفقد لتلك أيام الأبد وصبرا لأيام قصار لتك الأيام الطوال
138- وقال يعقوب بن سفيان في تأريخه ثنا محمد بن عبد العزيز الرملي قال ثنا ضمرة -هو
ص:150(49/73)