كأن يقول المسلم في ضيق شديد، أو تحل به مصيبة كبيرة، ويعلم من نفسه التفريط في جنب الله تبارك وتعالى، فيجب أن يأخذ بسبب قوي إلى الله، فيذهب إلى رجل يعتقد فيه الصلاح والتقوى، أو الفضل والعلم بالكتاب والسنة، فيطلب منه أن يدعوا له ربه، ليفرج عنه كربه، ويزيل عنه همه. فهذا نوع آخر من التوسل المشروع، دلت عليه الشريعة المطهرة، وأرشدت إليه، وقد وردت أمثلة منه في السنة الشريفة، كما وقعت نماذج منه من فعل الصحابة الكرام رضوان الله تعالى عليهم، فمن ذلك ما رواه أنس ابن مالك رضي الله عنه حيث قال: { اصاب الناس سنَة على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، فبينما النبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب ]على المنبر 2/22[ قائماً في يوم الجمعة، قام ]وفي راوية: دخل 2/16[ أعرابي ]من أهل البدو 2/21[ ]من باب كان وجَاه المنبر[ ]نحو دار القضاء ورسول الله قائم، فاستقبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قائماً 2/17[ فقال: يا رسول الله ! هلك المال، وجاع ]وفي رواية: هلك[ العيال ]ومن طريق أخرى: هلك الكُراع، وهلك الشاء[ ]وفي أخرى هلكت المواشي، وانقطعت السبل[ فادعُ الله لنا ]أن يَسْقِيَنا[ ]وفي أخرى: يُغيثنا[ فرفع يديه يدعو ]حتى رأيت بياض إبطه[: ]اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا[، ]ورفع الناس أيديهم معه يدعون، [ ]ولم يذكر أنه حوَّل رداءه، ولا استقبل القبلة 2/18[ و ]لا والله[ ما نرى في السماء ]من سحاب ولا[ قرعة(33/28)
]ولا شيئاً، وما بيننا وبين سَلْع من بيت ولا دار[ ]وفي رواية: قال أنس: وإن السماء لمثل الزجاجة[ ]قال فطلعت من ورائه سحابة مثل الترس، فلما توسطت السماء انتشرت ثم أمطرت[ فوالذي نفسه بيده ما وضعها حتى ثار السحاب أمثال الجبال، ثم لم ينزل عن منبره حتى رأيت المطرَ يتحادر على لحيته - صلى الله عليه وسلم - ]وفي رواية: فهاجت ريح أنشأت سحاباً، ثم اجتمع، ثم أرسلت السماءُ عزاليها ]ونزل عن المنبر فصلى 2/19[ ]فخرجنا نخوض الماس حتى أتينا منازلنا[ ]وفي رواية: حتى ما كاد الرجل يصل إلى منزله 7/154[ فمطرنا يومنا ذلك، ومن الغد وبعد الغد، والذي يليه حتى الجمعة الأخرى ]ما تقلع[ ]حتى سالت مثاعب المدينة[ ]وفي رواية: فلا والله ما رأينا الشمس ستاً[.
وقام ذلك الأعرابي أو غيره ]وفي رواية: ثم دخل رجل من ذلك الباب في الجمعة المقبلة ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - قائم يخطب، فاستقبله قائماً[ فقال: يا رسول الله تهدم البناء ]وفي رواية: تهدمت البيوت، وتقطعت السبل، وهلكت المواشي[ ]وفي طريق: بشَق المسافر، ومُنع الطريق[ وغرق المال، فادع الله ]يحبُسه[ لنا ]فتبسم النبي - صلى الله عليه وسلم - [ فرفع يده، فقال: اللهم حوالينا ولا علينا، ]اللهم على رؤوس الجبال والإكام ]والظراب[ وبطون الأودية ومنابت الشجر[ فما ]جعل[ يشير بيده إلى ناحية من السحاب إلا انفرجت مثل الجوْبَة، ]وفي رواية: فنظرت إلى السحاب تصدع حول المدينة ]يميناً وشمالاً[ كأنه إكليل[ ]وفي أخرى: فانْجابَتْ [عن المدينة انجياب الثوب[ ]يمطر ما حولينا ولا يمطر فيها شيء ]وفي طريق:قطرة[ ]وخرجنا نمشي في الشمس[ يريهم الله كرامة نبيه - صلى الله عليه وسلم - وإجابة دعوته[، وسال الوادي ]وادي[ قناة شهراً، ولم يجىء أحد من ناحية إلا حدث بالجود } .(33/29)
ومن ذلك ما رواه أنس بن مالك رضي الله عنه أيضاً أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان إذا قحطوا استسقى بالعباس ابن عبد المطلب، فقال: اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا - صلى الله عليه وسلم - فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا، قال: فيُسقَون.
ومعنى قول عمر: إنا كنا نتوسل إليك بنبينا - صلى الله عليه وسلم - وإنا نتوسل إليك بعم نبينا، أننا كنا نقصد نبينا - صلى الله عليه وسلم - ونطلب منه أن يدعو لنا، ونتقرب إلى الله بدعائه، والآن وقد انتقل - صلى الله عليه وسلم - إلى الرفيق الأعلى، ولم يعد من الممكن أن يدعو لنا، فإننا نتوجه إلى عم نبينا العباس، ونطلب منه أن يدعوَ لنا، وليس معناه أنهم كانوا يقولون في دعائنهم: (اللهم بجاه نبيك اسقنا)، ثم أصبحوا يقولون بعد وفاته - صلى الله عليه وسلم -: (اللهم بجاه العباس اسقنا)، لأن مثل هذا دعاء مبتدع ليس له أصل في الكتاب ولا في السنة، ولم يفعله أحد من السلف الصالح رضوان الله تعالى عليهم، كما سيأتي الكلام على ذلك بشيء من البسط قريباً إن شاء الله تعالى.
ومن ذلك أيضاً ما رواه الحافظ ابن عساكر رحمه الله تعالى في "تاريخه" (18/151/1) بسند صحيح عن التابعي الجليل سليم ابن عامر الخبَائري: (أن السماء قحطت، فخرج معاوية بن أبي سفيان وأهل دمشق يستسقون، فلما قعد معاوية على المنبر، قال: أين يزيد بن الأسود الجُرَشي؟ فناداه الناس، فأقبل يتخطى الناس، فأمره معاوية فصعد على المنبر، فقعد عند رجليه، فقال معاوية: اللهم إنا نستشفع إليك اليوم بخيرنا وأفضلنا، اللهم إنا نستشفع إليك اليوم بيزيد بن الأسود الجرشي، يا يزيد ارفع يديك إلى الله، فرفع يديه، ورفع الناس أيديهم، فما كان أوشك أن ثارت سحابة في الغرب كأنها ترس، وهبت لها ريح، فسقتنا حتى كاد الناس أن لا يبلغوا منازلهم).(33/30)
وروى ابن عساكر أيضاً بسند صحيح أن الضحاك بن قيس خرج يستسقي بالناس فقال ليزيد بن الأسود أيضاً: قم يا بكاء! زاد في رواية: (فما دعا إلا ثلاثاً حتى أمطروا مطراً كادوا يغرقون منه).
فهذا معاوية رضي الله عنه أيضاً لا يتوسل بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، لما سبق بيانه، وإنما يتوسل بهذا الرجل الصالح: يزيد ين الأسود رحمه الله تعالى، فيطلب منه أن يدعو الله تعالى، ليسقيهم ويغيثهم، ويستجيب الله تبارك وتعالى طلبه. وحدث مثل هذا في ولاية الضحاك بن قيس أيضاً.
بطلان التوسل بما عدا الأنواع الثلاثة السابقة:
فمما سبق تعلم أن التوسل المشروع الذي دلت عليه نصوص الكتاب والسنة، وجرى عليه عمل السلف الصالح، وأجمع عليه المسلمون وهو:
1 – التوسل باسم من أسماء الله تبارك وتعالى أو صفة من صفاته.
2 – التوسل بعمل صالح قام به الداعي.
3 – التوسل بدعاء رجل صالح.
وأما ما عدا هذه الأنواع من التوسلات ففيه خلاف، والذي نعتقده وندين الله تعالى به أنه غير جائز، ولا مشروع، لأنه لم يرد فيه دليل، تقوم به الحجة – وقد أنكره العلماء المحققون في العصور الإسلامية المتعاقبة، مع أنه قد قال ببعضه بعض الأئمة، فأجاز الإمام أحمد التوسل بالرسول - صلى الله عليه وسلم - وحده فقط، وأجاز غيره كالإمام الشوكاني التوسل به وبغيره من الأنبياء والصالحين: ولكنا – كشأننا في جميع الأمور الخلافية – ندور مع الدليل حيث دار ولا نتعصب للرجال، ولا ننحاز لأحد إلا للحق كما نراه ونعتقده، وقد رأينا في قضية التوسل التي نحن بصددها الحق مع الذين حظروا التوسل بمخلوق، ولم نر لمجيزيه دليلاً صحيحاً يعتد به، ونحن نطالبهم بأن يأتونا بنص صحيح صريح من الكتاب أو السنة فيه التوسل بمخلوق، وهيهات أن يجدوا شيئاً يؤيد ما يذهبون إليه، أو يسند ما يدعونه، اللهم إلا شبهاً واحتمالات، سنعرض للرد عليها بعد قليل.(33/31)
فهذه الأدعية الواردة في القرآن الكريم وهي كثيرة، لا نجد في شيء منها التوسل بالجاه أو الحرمة أو الحق أو المكانة لشيء من المخلوقات، وهاك بعض الأدعية الكريمة على سبيل المثال: يقول ربنا جل شأنه معلماً إيانا ما ندعو به ومرشداً: { ربنا لا يؤاخذنا إن نسينا
أو أخطأنا، ربنا ولا تحمل علينا إصراً كما حملته على الذين من قبلنا، ربنا ولا تُحمَّلْنا
ما لا طاقة لنا به، واعْفُ عنا واغفر لنا وارحمنا، أنت مولانا، فانصرنا على القوم الكافرين } ]البقرة: 286[ ويقول: { ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار }
]البقرة: 201[ ويقول: { فقالوا: على الله توكلنا ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين، ونجنا برحمتك من القوم الكافرين } ]يونس:85- 86[ ويقول: { وإذ قال ابراهيم: رب اجعل هذا البلد آمناً واجنبني وبَنيَّ أن نعبد الأصنام } ، { رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي، ربنا وتقبل دعاء، ربنا اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين يوم يقوم الحساب } ]ابراهيم: 35- 41[ ويقول على لسان موسىعليه السلام: { قال: رب اشرح لي صدري، ويسر لي أمري، واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي.. } ]طه: 25- 28[ ويقول سبحانه: { والذين يقولون ربنا اصرف عنا عذاب جهنم إن عذابها كان غراماً.. } ]الفرقان: 65[...إلى آخر ما هنالك من الأدعية القرآنية الكريمة، وبعضها مما يعلمنا الله تعالى أن ندعو به ابتداء، وبعضها مما يحكيه سبحانه عن بعض أنبيائه ورساله، أو بعض عباده وأوليائه، وواضح أنه ليس في شيء منها ذاك التوسل المبتدع الذي يدندن حوله المتعصبون، ويخاصم فيه المخالفون.
وإذا انتقلنا إلى السنة الشريفة لنطلع منها على أدعية النبي - صلى الله عليه وسلم - التي ارتضاها الله تعالى له، وعلمه إياها، وأرشدنا إلى فضلها وحسنها، نراها مطابقة لما في أدعية القرآن السالفة من حيث خلوها من التوسل المبتدع المشار إليه، وهاك بعض تلك الأدعية النبوية المختارة:(33/32)
فمنها دعاء الاستخارة المشهور الذي كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعلمه أصحابه إذا هموا بأمر كما كان يعلمهم القرآن، وهو: (اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب، اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري، وعاجله وآجله، فأقدره لي ويسره لي، ثم بارك لي فيه، وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري، وعاجله وآجله، فاصرفه عني، واصرفني عنه، واقدر لي الخير حيث كان، ثم رضني به).
ومنها: (اللهم أصلح لي ديني، الذي هو عصمة أمري، وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي، وأصلح لي آخرتي التي فيها معادي، واجعل الحياة زيادة لي في كل خير، واجعل الموت راحة لي من كل شر) و: (اللهم بعلمك الغيب، وقدرتك على الخلق أحيني ما علمت الحياة خيراً لي، وتوفني إذا علمت الوفاة خيراً لي...) و: (اللهم إني أسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى) و: (اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معاصيك، ومن طاعتك
ما تبلغنا به جنتك) و: (اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل ومحمد نعوذ بك من النار) ومثل هذه الأدعية في السنة كثير، ولا نجد فيها دعاء واحداً ثابتاً فيه شيء من التوسل المبتدع الذي يستعمله المخالفون.
ومن الغريب حقاً أنك ترى هؤلاء يعرضون عن أنواع التوسل المشروعة السابقة،
فلا يكادون يستعلمون شيئاً منها في دعائهم أو تعليمهم الناس مع ثبوتها في الكتاب والسنة وأجماع الأمة عليها، وتراهم بدلاً من ذلك يعمدون إلى أدعية اخترعوها، وتوسلات ابتدعوها لم يشرعها الله عز وجل، ولم يستعملها رسوله المصطفى - صلى الله عليه وسلم -، ولم ينقل عن سلف هذه الأمة من أصحاب القرون الثلاثة الفاضلة، وأقل ما يقال فيها: إنها مختلف فيها، فما أجدرهم بقوله تبارك وتعالى: { أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير } ]البقرة:61[.(33/33)
وأهل هذه أحد الشواهد العلمية التي تؤكد صدق التابعي الجليل حسان بن عطية المحاربي رحمه حيث قال: (ما ابتدع قوم بدعة في دينهم إلا نزع الله من سننهم مثلها، ثم لا يعيدها إليهم إلى يوم القيامة).
هذا ولم ننفرد نحن بإنكار تلك التوسلات المبتدعة، بل سبقنا إلى إنكارها كبار الأئمة والعلماء، وتقرر ذلك في بعض المذاهب المتبعة، ألا وهو مذهب أبي حنيفة رحمه الله، فقد جاء في "الدر المختار" (2/630) – وهو من أشهر كتب الحنفية – ما نصه:
(عن أبي حنيفة: لا ينبغي لأحد أن يدعو الله إلا به، والدعاء المأذون فيه، المأمور به
ما استفيد من قوله تعالى: { ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها } ).
ونحوه في "الفتاوى الهندية" (5/280). وقال القُدوري في كتابه الكبير في الفقه المسمى
بـ "شرح الكرخي" في (باب الكراهة): (قال بشر بن الوليد حدثنا أبو يوسف قال أبو حنيفة: لا ينبغي لأحد أن يدعو الله إلا به، وأكره أن يقول: بمعاقد العز من عرشك، أو بحق خلقك، وهو قول أبي يوسف، قال أبو يوسف: معقد العز من عرشه هو الله، فلا أكره هذا، وأكره أن يقول: بحق فلان، أو بحق أنبيائك ورسلك، وبحق البيت الحرام والمشعر الحرام، قال القُدوري: المسألة بخلقه لا تجوز لأنه لا حق للخلق على الخالق، فلا تجوز وفاقاً). نقله شيخ الإسلام في "القاعدة الجليلة" وقال الزبيدي في "شرح الإحياء" (2/285): (كره أبو حنيفة وصاحباه أن يقول الرجل: أسألك بحق فلان، أو بحق أنبيائك ورسلك، أو بحق البيت الحرام والمشعر الحرام، ونحو ذلك، إذ ليس لأحد على الله حق، وكذلك كره أبو حنيفة ومحمد أن يقول الداعي: اللهم إني أسألك بمعاقد العز من عرشك، وأجازه أبو يوسف لما بلغه الأثر فيه).(33/34)
أقول: لكن الأثر المشار إليه باطل لا يصح، رواه ابن الجوزي في "الموضوعات" وقال: (هذا حديث موضوع بلا شك)، وأقره الحافظ الزيلعي في "نصب الراية" (273) فلا يحتج به، وإن كان قول القائل: (أسألك بمعاقد العز من عرشك) يعود إلى التوسل بصفة من صفات الله عز وجل، فهو توسل مشروع بأدلة أخرى كما سبق، تغني عن هذا الحديث الموضوع. قال ابن الاثير رحمه الله: (أسألك بمعاقد العز من عرشك، أي بالخصال التي استحق بها العرش العز، أو بمواضع انعقادها منه، وحقيقة معناه: بعز عرشك، وأصحاب أبي حنيفة يكرهون هذا اللفظ من الدعاء).
فعلى الوجه الأول من هذا الشرح، وهو الخصال التي استحق بها العرش العز، يكون توسلاً بصفة من صفات الله تعالى فيكون جائزاً، وأما على الوجه الثاني الذي هو مواضع انعقاد العز من العرش، فهو توسل بمخلوق فيكون غير جائز، وعلى كلٍ فالحديث لا يستحق زيادة في البحث والتأويل لعدم ثبوته، فنكفي بما سبق.
الفصل الرابع:
شبهات والجواب عليها
يورد المخالفون في هذا الموضوع بعض الاعتراضات والشبهات، ليدعوا رأيهم الخاطىء، ويوهموا العامة بصحته، ويلبسوا الأمر عليهم، وأعرض فيما يلي هذه الشبهات واحدة إثر واحدة، وأرد عليها رداً علمياً مقنعاً إن شاء الله، بما يقرر ما بينته في الفصل السابق وينسجم معه، ويقنع كل مخلص منصف، ويدحض كل افتراء علينا بالباطل، وبالله تعالى وحده التوفيق، وهو المستعان.
الشبهة الأولى: حديث استسقاء عمر بالعباس رضي الله عنهما:
يحتجون على جواز التوسل بجاه الأشخاص وحرمتهم وحقهم بحديث انس السابق: (أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان إذا قَحَطوا استسقى بالعباس بن عبد المطلب، فقال: اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا، فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا. قال: فيسقون).(33/35)
فيفهمون من هذا الحديث أن توسل عمر رضي الله عنه إنما كان بجاه العباس رضي الله عنه، ومكانته عند الله سبحانه، وأن توسله كأنه مجرد ذكر منه للعباس في دعائه، وطلب منه لله أن يسقيهم من أجله، وقد أقره الصحابة على ذلك، فأفاد بزعمهم ما يدعون.
وأما سبب عدول عمر رضي الله عنه عن التوسل بالرسول - صلى الله عليه وسلم - - بزعمهم – وتوسله بدلاً منه بالعباس رضي الله عنه، فإنما كان لبيان جواز التوسل بالمفضول مع وجود الفاضل ليس غير.
وفهمهم هذا خاطىء، وتفسيرهم هذا مردود من وجوه كثيرة اهمها:
1 – إن القواعد المهمة في الشريعة الإسلامية أن النصوص الشرعية يفسر بعضها بعضاً، ولا يفهم شيء منها في موضوع ما بمعزل عن بقية النصوص الواردة فيه. وبناء على ذلك فحديث توسل عمر السابق إنما يفهم على ضوء ما ثبت من الروايات والأحاديث الواردة في التوسل بعد جمعها وتحقيقها، ونحن والمخالفون متفقون على أن في كلام عمر: (كنا نتوسل إليك بنبينا.. وإنا نتوسل إليك بعم نبينا) شيئاً محذوفاً، لا بد له من تقدير، وهذا التقدير إما أن يكون: (كنا نتوسل بـ (جاه) نبينا، وإنا نتوسل إليك بـ (جاه) عم نبينا) على رأيهم هم، أو يكون: (كنا نتوسل إليك بـ (دعاء) نبينا، وإنا نتوسل إليك بـ (دعاء) عم نبينا) على رأينا نحن.
ولا بد من الأخذ بواحد من هذين التقديرين ليفهم الكلام بوضوح وجلاء.
ولنعرف أي التقديرين صواب لا بد من اللجوء إلى السنة، لتبين لنا طريقة توسل الصحابة الكرام بالنبي - صلى الله عليه وسلم -.(33/36)
ترى هل كانوا إذا أجدبوا وقحَطوا قبع كل منهم في دراه، أو مكان آخر، أو اجتمعوا دون أن يكون معهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم دعوا ربهم قائلين: (اللهم بنبيك محمد، وحرمته عندك، ومكانته لديك اسقنا الغيث). مثلاً أم كانوا يأتون النبي - صلى الله عليه وسلم - ذاته فعلاً، ويطلبون منه أن يدعو الله تعالى لهم، فيحقق - صلى الله عليه وسلم - طلْبتهم، ويدعو ربه سبحانه، ويتضرع إليه حتى يسقوا؟
أما الأمر الأول فلا وجود له إطلاقاً في السنة النبوية الشريفة، وفي عمل الصحابة رضوان
الله تعالى عليهم، ولا يستطيع أحد من الخلفيين أو الطُّرُقيين ان يأتي بدليل يثبت أن طريقة
توسلهم كانت بأن يذكروا في أدعيتهم اسم النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويطلبوا من الله بحقه وقدره عنده
ما يريدون. بل الذي نجده بكثرة، وتطفح به كتب السنة هو الأمر الثاني، إذ تبين أن طريقة توسل الأصحاب الكرام بالنبي - صلى الله عليه وسلم - إنما كانت إذا رغبوا في قضاء حاجة، أو كشف نازلة أن يذهبوا إليه - صلى الله عليه وسلم -، ويطلبوا منه مباشرة أن يدعو لهم ربه، أي أنهم كانوا يتوسلون إلى الله تعالى بدعاء الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - ليس غير.
ويرشد إلى ذلك قوله تبارك وتعالى: { ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاؤوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله تواباً رحيماً } ]النساء:64[.(33/37)
ومن أمثلة ذلك ما مر معنا في حديث أنس السابق الذي ذكر فيه مجيء الأعرابي إلى المسجد يوم الجمعة حيث كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخطب، وعرضه له ضنك حالهم، وجدب أرضهم، وهلاك ماشيتهم، وطلبه منه أن يدعو الله سبحانه لينقذهم مما هم فيه، فاستجاب له - صلى الله عليه وسلم -، وهو الذي وصفه ربه بقوله: { لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عَنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم } ]التوبة:128[، فدعا - صلى الله عليه وسلم - لهم ربه، واستجاب سبحانه دعاء نبيه، ورحم عباده ونشر رحمته، وأحيا بلدهم الميت.
ومن ذلك أيضاً مجيء الأعرابي السابق نفسه أو غيره إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يخطب الجمعة الثانية، وشكواه له انقطاع الطرقات وتهدم البنيان، وهلاك المواشي، وطلبه منه أن يدعو لهم ربه، ليمسك عنهم الأمطار، وفعل - صلى الله عليه وسلم - فاستجاب له ربه جل شأنه أيضاً.
ومن ذلك ما روته السيدة عائشة رضي الله عنها حيث قالت: شكا الناس إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم - قحوط المطر، فأمر بمنبر فوضع له في المصلى، ووعد الناس يوماً يخرجون فيه. قالت: فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين بدا حاجب الشمس، فقعد على المنبر، فكبر وحمد الله، ثم قال: { إنكم شكوتم جدب دياركم، واستئخار المطر ع إبان زمانه عنكم، وقد أمركم الله أن تدعوه، ووعدكم أن يستجيب لكم... } الحديث، وفيه انه - صلى الله عليه وسلم - دعا الله سبحانه، وصلى بالناس، فأغاثهم الله تعالى حتى سالت السيول، وانطلقوا إلى بيوتهم مسرعين، فضحك الرسول - صلى الله عليه وسلم - حتى بدت نواجذه، وقال: { أشهد أن الله على كل شيء قدير، وأني عبد الله ورسوله } .(33/38)
فهذه الأحاديث وأمثالها مما وقع زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - وزمن أصحابه الكرام رضوان الله عليهم تُبين بما لا يقبل الجدال أو الممارة أن التوسل بالنبي - صلى الله عليه وسلم - أو بالصالحين الذي كان عليه السلف الصالح هو مجيء المتوسل إلى المتوسل به، وعرضه حاله له، وطلبه منه أن يدعو له الله سبحانه، ليحقق طلبه، فيستجيب هذا له، ويستجيب من ثم الله سبحانه وتعالى.
2 – وهذا الذي بيناه من معنى الوسيلة هو المعهود في حياة الناس واستعمالهم، فإنه إذا كانت لإنسان حاجة ما عند مدير أو رئيس أ, موظف مثلاً، فإنه يبحث عمن يعرفه ثم يذهب إليه ويكلمه، ويعرض له حاجته فيفعل، وينقل هذا الوسيط رغبته إلى الشخص المسؤول، فيقضيها له غالباً. فهذا هو التوسل المعروف عند العرب منذ القديم، وما يزال، فإذا قال أحدهم: إني توسلت إلى فلان، فإنما يعني أنه ذهب إلى الثاني وكلمه في حاجته، ليحدث بها الأول، ويطلب منه قضاءها، ولا يفهم أحد من ذلك أنه ذهب إلى الأول وقال له: بحق فلان (الوسيط) عندك، ومنزلته لديك اقض لي حاجتي.
وهكذا فالتوسل إلى الله عز وجل بالرجل الصالح ليس معناه التوسل بذاته وبجاهه وبحقه، بل هو التوسل بدعائه وتضرعه واستغاثته به سبحانه وتعالى، وهذا هو بالتالي معنى قول عمر رضي الله عنه: (اللهم إنا منا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا) أي: كنا إذ قل المطر مثلاً نذهب إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، ونطلب منه ان يدعو لنا الله جل شأنه.
3 – ويؤكد هذا ويوضحه تمام قول عمر رضي الله عنه: (وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا)، أي إننا بعد وفاة نبينا جئنا بالعباس عم النبي - صلى الله عليه وسلم -، وطلبنا منه أن يدعو لنا ربنا سبحانه ليغيثنا.(33/39)
تُرى لماذا عدل عمر رضي الله عنه عن التوسل بالنبي - صلى الله عليه وسلم - إلى التوسل بالعباس رضي الله عنه، مع العلم ان العباس مهما كان شأنه ومقامه فإنه لا يذكر امام شأن النبي - صلى الله عليه وسلم - ومقامه؟
أما الجواب برأينا فهو: لأن التوسل بالنبي - صلى الله عليه وسلم - غير ممكن بعد وفاته، فأنى لهم أن يذهبوا إليه - صلى الله عليه وسلم - ويشرحوا له حالهم، ويطلبوا منه أن يدعو لهم، ويؤمنوا على دعائه، وهو قد انتقل إلى الرفيق الأعلى، وأضحى في حال يختلف عن حال الدنيا وظروفها مما لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى، فأنى لهم أن يحظوا بدعائه - صلى الله عليه وسلم - وشفاعته فيهم، وبينهم وبينه كما قال الله عز شأنه:
{ ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون } ]المؤمنون:100[.
ولذلك لجأ عمر رضي الله عنه، وهو العربي الأصيل الذي صحب النبي - صلى الله عليه وسلم - ولازمه في أكثر أحواله، وعرفه حق المعرفة، وفهم دينه حق الفهم، ووافقه القرآن في مواضع عدة، لجأ إلى توسل ممكن فاختار العباس رضي الله عنه، لقرابته من النبي - صلى الله عليه وسلم - من ناحية، ولصلاحه ودينه وتقواه من ناحية آخرى، وطلب منه أن يدعو لهم بالغيث والسقيا. وما كان لعمر(33/40)
ولا لغير عمر أن يدع التوسل بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، ويلجأ إلى التوسل بالعباس أو غيره لو كان التوسل بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ممكناً، وما كان من المعقول ان يقر الصحابة رضوان الله عليهم عمر على ذلك أبداً، لأن الانصراف عن التوسل بالنبي - صلى الله عليه وسلم - إلى التوسل بغيره ما هو إلا كالانصراف عن الاقتداء بالنبي - صلى الله عليه وسلم - في الصلاة إلى الاقتداء بغيره، سواء بسواء، ذلك أن الصحابة رضوان الله تعالى عليهم كانوا يعرفون قدر نبيهم - صلى الله عليه وسلم - ومكانته وفضله معرفة لا يدانيهم فيها أحد، كما نرى ذلك واضحاً في الحديث الذي رواه سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه: (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذهب إلى بني عمرو بن عوف ليصلح بينهم، فحانت الصلاة، فجاء المؤذن إلى أبي بكر، فقال: أتصلي بالناس، فأقيم؟ قال: فصلى أبو بكر، فجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والناس في الصلاة، فتخلص حتى وقف في الصف، فصفق الناس، وكان أبو بكر لا يلتفت في الصلاة، فلما أكثر الناس التصفيق التفت، فرأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأشار إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن أمكث مكانك، فرفع أبو بكر يديه، فحمد الله عز وجل على ما أمره به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من ذلك، ثم استأخر أبو بكر حتى استوى في الصف، وتقدم النبي - صلى الله عليه وسلم - فصلى ثم انصرف، فقال: { يا أبا بكر:
ما منعك أن تثبت إذ أمرتك؟ } قال أبو بكر: ما كان لان أبي قحافة أن يصلي بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ).
فأنت ترى أن الصحابة رضي الله عنهم لم يستسيغوا الاستمرار على الاقتداء بأبي بكر رضي الله عنه في صلاته عندما حضر الرسول - صلى الله عليه وسلم -، كما أن أبا بكر رضي الله عنه(33/41)
لم تطاوعه نفسه على الثبات في مكانه مع أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - له بذلك، لماذا؟ كل ذلك لتعظيمهم نبيهم - صلى الله عليه وسلم -، وتأدبهم معه، ومعرفتهم حقه وفضله، فإذا كان الصحابة رضوان الله تعالى عليهم
لم يرتضوا الاقتداء بغير النبي - صلى الله عليه وسلم - عندما أمكن ذلك، مع أنهم كانوا بدأوا الصلاة في غيابه - صلى الله عليه وسلم - عنهم، فكيف يتركون التوسل به - صلى الله عليه وسلم - أيضاً بعد وفاته، لو كان ذلك ممكناً، ويلجئون إلى التوسل بغيره؟ وكما لم يقبل ابوبكر أن يؤم المسلمين فمن البديهي أن لا يقبل العباس أيضاً أن يتوسل الناس به، ويدعوا التوسل بالنبي - صلى الله عليه وسلم - لو كان ذلك ممكناً.
(تنبيه): وهذا يدل من ناحية أخرى على سخافة تفكير من يزعم أنه - صلى الله عليه وسلم - في قبره حي كحياتنا، لانه لو كان ذلك كذلك لما كان ثمة وجه مقبول لانصرافهم عن الصلاة وراءه - صلى الله عليه وسلم - إلى الصلاة وراء غيره ممن لا يدانيه أبداً في منزلته وفضله. ولا يعترض احد على ما قررته بأنه قد ورد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: { أنا في قبري حي طري، من سلم علي سلمت عليه } . وأنه يستفاد منه أنه - صلى الله عليه وسلم - حي مثل حياتنا، فإذا توسل به سمعنا واستجاب لنا، فيحصل مقصودنا، وتتحقق رغبتنا، وأنه لا فرق في ذلك بين حاله - صلى الله عليه وسلم - في حياته، وبين حاله بعد وفاته أقول:
لا يعترض أحد بما سبق لأنه مردود من وجهين:
الأول حديثي: وخلاصته أن الحديث المذكور لا أصل له بهذا اللفظ، كما أن لفظة (طري) لا وجود لها في شيء من كتب السنة إطلاقاً، ولكن معناه قد ورد في عدة أحاديث صحيحة، منها قوله - صلى الله عليه وسلم -: { إن أفضل ايامكم يوم الجمعة، فيه خلق آدم، وفيه قبض، وفيه النفخة، وفيه الصعقة، فأكثروا علي الصلاة فيه، فإن صلاتكم معروضة علي } قالوا:(33/42)
يا رسول الله ! وكيف تعرض صلاتنا عليك، وقد أرمتَ (قال: يقولون: بَليتَ)، قال: { إن الله حرم على الأرض أجساد الأنبياء } ومنها قوله - صلى الله عليه وسلم -: { الأنبياء أحياء في قبورهم يصلون } وقوله - صلى الله عليه وسلم -: { مررت ليلة أسري بي على موسى قائماً يصلي في قبره } وقوله: { إن لله ملائكة سياحين يبلغوني عن أمتي السلام } .
الجواب الثاني فقهي: وفحواه أن حياته - صلى الله عليه وسلم - بعد وفاته مخالفة لحياته قبل الوفاة، ذلك أن الحياة البرزخية غيب من الغيوب، ولا يدري كنهها إلا الله سبحانه وتعالى، ولكن من الثابت والمعلوم أنها تختلف عن الحياة الدنيوية، ولا تخضع لقوانينها، فالانسان في الدنيا يأكل ويشرب، ويتنفس ويتزوج، ويتحرك ويتبرز، ويمرض ويتكلم، ولا أحد يستطيع أن يثبت أن أحداً بعد الموت حتى الأنبياء عليه السلام، وفي مقدمتهم نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - تعرض له هذه الأمور بعد موته.(33/43)
ومما يؤكد هذا أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يختلفون في مسائل كثيرة بعد وفاته - صلى الله عليه وسلم -، ولم يخطر في باب أحد منهم الذهاب إليه - صلى الله عليه وسلم - في قبره، ومشاورته في ذلك، وسؤاله عن الصواب فيها، لماذا؟ إن الأمر واضح جداً، وهو أنهم كلهم يعلمون أنه - صلى الله عليه وسلم - انقطع عن الحياة الدنيا، ولم تعد تنطبق عليه أحوالها ونواميسها.فرسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد موته حي، أكمل حياة يحياها إنسان في البرزخ، ولكنها حياة لا تشبه حياة الدنيا، ولعل مما يشير إلى ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: { ما من احد يسلم علي إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام } وعلى كل حال فإن حقيقتها لا يدريها إلا الله سبحانه وتعالى، ولذلك فلا يجوز قياس الحياة البرزخية أو الحياة الأخروية على الحياة الدنيوية، كما لا يجوز أن تعطى واحدة منهما أحكام الأخرى، بل لكل منها شكل خاص وحكم معين، ولا تتشابه إلا في الاسم، أما الحقيقة فلا يعلمها إلا الله تبارك وتعالى.(33/44)
ونعود بعد هذا التنبيه إلى ما كنا فيه من الرد على المخالفين في حديث توسل عمر بالعباس، فنقول: إن تعليلهم لعدول عمر رضي الله عنه عن التوسل بالنبي - صلى الله عليه وسلم - إلى التوسل بالعباس رضي الله عنه بأنه لبيان جواز التوسل بالمفضول مع وجود الفاضل هو تعليل مضحك وعجيب.إذ كيف يمكن أن يخطر في بال عمر رضي الله عنه، أو في بال غيره من الصحابة الكرام رضي الله عنهم تلك الحذلقة الفقهية المتأخرة، وهو يرى الناس في حالة شديدة من الضنك والكرب، والشقاء والبؤس، يكادون يموتون جوعاً وعطشاً لشح الماء وهلاك الماشية، وخلو الأرض من الزرع والخضرة حتى سمي ذاك العام بعام الرمادة، كيف يَرِد في خاطره تلك الفلسفة الفقهية في هذا الظرف العصيب، فيدع الأخذ بالوسيلة الكبرى في دعائه، وهي التوسل بالنبي الأعظم - صلى الله عليه وسلم -، لو كان ذلك جائزاً ويأخذ بالوسيلة الصغرى، التي
لا تقارن بالأولى، وهي التوسل بالعباس، لماذا؟ لا لشيء إلا ليبين للناس أنه يجوز لهم التوسل بالمفضول مع وجود الفاضل !!
إن الشاهد والمعلوم أن الإنسان إذ حلّت به شدة يلجأ إلى أقوى وسيلة عنده في دفعها، ويدَع الوسائل الأخرى لأوقات الرخاء، وهذا كان يفهمه الجاهليون المشركون أنفسهم، إذ كانوا يَدعون أصنامهم في أوقات اليسر، ويتركونها ويدْعون الله تعالى وحده في اوقات العسر،
كما قال تبارك وتعالى: { حتى إذا ركبوا في الفُلْلك دعوا الله مخلصين له الدين، فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون } (1) ]العنكبوت: 265[.(33/45)
فنعلم منهذا أن الإنسان بفطرته يستنجد بالقوة العظمى، والوسيلة الكبرى حين الشدائد والفواقر، وقد يلجأ إلى الوسائل الصغرى حين الأمن واليسر، وقد يخطر في باله حينذاك أن يبين ذلك الحكم الفقهي الذي افترضوه، وهو جواز التوسل بالمفضول مع وجود الفاضل. وأمر آخر نقوله جواباً على شبهة أولئك، وهو: هب أن عمر رضي الله عنه خطر في باله أن يبين ذلك الحكم الفقهي المزعوم، ترى فهل خطر ذلك في بال معاوية والضحاك بن قيس حين توسلا بالتابعي الجليل: يزيد بن الأسود الجُرَشي أيضاً؟ لا شك أن هذا ضرب من التمحل والتكلف لا يحسدون عليه.
4 – إننا نلاحظ في حديث استسقاء عمر بالعباس رضي الله عنهما أمراً جديراً بالانتباه، وهو قوله: (إن عمر بن الخطاب كان إذا قَحطوا، استسقى بالعباس بن عبدالمطلب، ففي هذا إشارة إلى تكرار استسقاء عمر بدعاء العباس رضي الله عنهما، ففيه حجة بالغة على الذين يتأولون فعل عمر ذلك أنه إنما ترك التوسل به - صلى الله عليه وسلم - إلى التوسل بعمه رضي الله عنه، لبيان جواز التوسل بالمفضول مع وجود الفاضل، فإننا نقول: لو كان الأمر كذلك لفعل عمر ذلك مرة واحدة، ولما استمر عليه كلما استسقى، وهذا بيّن لا يخفى إن شاء الله تعالى على أهل العلم والانصاف.
5 – لقد فسرت بعض روايات الحديث الصحيحة كلام عمر المذكور وقصده، إذ نقلت دعاء العباس رضي الله عنه استجابة لطلب عمر رضي الله عنه، فمن ذلك ما نقله الحافظ العسقلاني رحمه الله في "الفتح" (3/150) حيث قال: (قد بين الزبير بن بكار في "الأنساب" صفة ما دعا به العباس في هذه الواقعة، والوقت الذي وقع فيه ذلك، فأخرج بإسناد له أن العباس لما استسقى به عمر قال: (اللهم إنه لم ينزل بلاء إلا بذنب، ولم يكشف إلا بتوبة، وقد توجّه القوم بي إليك لمكاني من نبيك، وهذا أيدينا إليك بالذنوب، ونواصينا إليك بالتوبة، فاسقنا الغيث)، قال: فأرخت السماء مثل الجبال حتى أخصبت الأرض، وعاش الناس).(33/46)
وفي هذا الحديث: أولاً: التوسل بدعاء العباس رضي الله عنه لا بذاته كما بينه الزبير
بن بكار وغيره، وفي هذا رد واضح على الذين يزعمون أن توسل عمر كان بذات العباس
لا بدعائه، إذ لو كان الأمر كذلك لما كان ثمة حاجة ليقوم العباس، فيدعو بعد عمر دعاءً جديداً.
ثانياً: أن عمر صرح بأنهم كانوا يتوسلون بنبينا - صلى الله عليه وسلم - في حياته، وأنه في هذه الحادثة توسل بعمه العباس، ومما لا شك فيه أن التوسليْن من نوع واحد: توسلهم بالرسول - صلى الله عليه وسلم - وتوسلهم بالعباس، وإذ تبين للقارىء – مما يأتي – أن توسلهم به - صلى الله عليه وسلم - إنما كان توسلاً بدعائه - صلى الله عليه وسلم - فتكون النتيجة أن توسلهم بالعباس إنما هو توسل بدعائه أيضاً، بضرورة أن التوسليْن من نوع واحد.
أما أن توسلهم به - صلى الله عليه وسلم - إنما كان توسلاً بدعائه، فالدليل على ذلك صريح رواية الإسماعيلي في مستخرجه على الصحيح لهذا الحديث بلفظ: (كانوا إذ قحطوا على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - استسقوا به، فيستسقي لهم، فيسقون، فلما كان في إمارة عمر...) فذكر الحديث، نقلته من "الفتح" (2/399)، فقوله: (فيستسقي لهم) صريح في أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يطلب لهم السقيا من الله تعالى ففي "النهاية" لابن الأثير: (الاستسقاء، استفعال من طلب السقيا أي إنزال الغيث على البلاد والعباد، يقال: سقى الله عباده الغيث وأسقاهم، والاسم السقيا بالضم، واستقيت فلاناً إذا طلبت منه أن يسقيك).
إذا تبين هذا، فقوله في هذه الرواية (استسقوا به) أي بدعائه، وكذلك قوله في الرواية
الأولى: (كنا نتوسل إليك بنبينا)، أي بدعائه، لا يمكن أن يفهم من مجموع رواية الحديث
إلا هذا. ويؤيده:
ثالثاً: لو كان توسل عمر إنما هو بذات العباس أو جاهه عند الله تعالى، لما ترك التوسل(33/47)
به - صلى الله عليه وسلم - بهذا المعنى، لأن هذا ممكن لو كان مشروعاً، فعدول عمر عن هذه إلى التوسل بدعاء العباس رضي الله عنه أكبر دليل على أن عمر والصحابة الذين كانوا معه كانوا لا يرون التوسل بذاته - صلى الله عليه وسلم -، وعلى هذا جرى عمل السلف من بعدهم، كما رأيت في توسل معاوية بن أبي سفيان والضحاك ابن قيس بيزيد بن الأسود الجرشي، وفيهما بيان دعائه بصراحة وجلاء.
فهل يجوز أن يجمع هؤلاء كلهم على ترك التوسل بذاته - صلى الله عليه وسلم - لو كان جائزاً، سيّما والمخالفون يزعمون أنه أفضل من التوسل بدعاء العباس وغيره؟! اللهم إن ذلك غير جائز ولا معقول، بل إن هذا الإجماع منهم من أكبر الأدلة على أن التوسل المذكور غير مشروع عندهم، فإنهم أسمى من أن يستبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير !
اعتراض ورده :
وأما جواب صاحب "مصباح الزجاجة في فوائد قضاء الحاجة" عن ترك عمر التوسل بذاته - صلى الله عليه وسلم - بقوله (ص25):(إن عمر لم يبلغه حديث توسل الضرير، ولو بلغه لتوسل به).
فهو جواب باطل من وجوه:
الأول: أن حديث الضرير إنما يدل على ما دل عليه توسل عمر هذا من التوسل بالدعاء
لا بالذات، كما سبق ويأتي بيانه.
الثاني: أن توسل عمر لم يكن سراً، بل كان جهراً على رؤوس الأشهاد، وفيهم كبار الصحابة من المهاجرين والأنصار وغيرهم، فإذا جاز أن يخفى الحديث على عمر، فهل يجوز أن يخفى على جميع الموجودين مع عمر من الصحابة ؟!
الثالث: أن عمر – كما سبق – كان يكرر هذا التوسل كلما نزل بأهل المدينة خطر،
أو كلما دعي للاستسقاء كما يدل على ذلك لفظ (كان) في حديث أنس السابق (أن عمر كان إذا قحَطوا استسقى بالعباس) وكذلك روى ابن عباس عن عمر كما ذكره ابن عبد البر في "الاستيعاب" (3/98)، فإذا جاز أن يخفى ذلك عليه أول مرة، أفيجوز أن يستمر على الجهل به كلما استسقى بالعباس، وعنده المهاجرون والأنصار، وهم سكوت لا يقدمون اليه(33/48)
ما عندهم من العلم بحديث الضرير ؟! اللهم إن هذا الجواب ليتضمن رمي الصحابة جميعهم بالجهل بحديث الضرير مطلقاً، أو على الأقل بدلالته على جواز التوسل بالذات، والأول باطل لا يخفى بطلانه، والثاني حق فإن الصحابة لو كانوا يعلمون أن حديث الضرير يدل على التوسل المزعوم لما عدلوا عن التوسل بذاته - صلى الله عليه وسلم - إلى التوسل بدعاء العباس كما سبق.
رابعاً: أن عمر ليس هو وحده الذي عدل عن التوسل بذاته - صلى الله عليه وسلم - إلى التوسل بالدعاء، بل تابعه على ذلك معاوية بن أبي سفيان فإنه أيضاً عدل إلى التوسل بدعاء يزيد بن الأسود،
ولم يتوسل به - صلى الله عليه وسلم - وعنده جماعة من الصحابة وأجلاء التابعين، فهل يقال أيضاً إن معاوية ومن
معه لم يكونوا يعلمون بحديث الضرير؟ وقل نحو ذلك في توسل الضحاك بن قيس بيزيد هذا أيضاً.
ثم أجاب صاحب المصباح بجواب آخر، وتبعه من لم يوفق من المتعصبين المخالفين فقال:
(إن عمر أراد بالتوسل بالعباس الاقتداء بالنبي - صلى الله عليه وسلم - في إكرام العباس وإجلاله، وقد جاء هذا صريحاً عن عمر، فروى الزبير بن بكار في "الأنساب" من طريق داود بن عطاء عن زيد بن أسلم عن ابن عمر قال: (استسقى عمر ابن الخطاب عام الرمادة بالعباس بن عبد المطلب، فخطب عمر فقال: إن رسول - صلى الله عليه وسلم - كان يرى للعباس ما يرى الولد للوالد، فاقتدوا أيها الناس برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، واتخذوه وسيلة إلى الله...) ورواه البلاذري من طريق هشام بن سعد عن زيد بن أسلم عن أبيه به.
والجواب من وجوه أيضاً:(33/49)
الأول: عدم التسليم بصحة هذه الرواية، فإنها من طريق داود ابن عاطاء وهو المدني، وهو ضعيف كما في "التقريب"، ومن طريق الزبير بن بكار عنه رواه الحاكم (3/334) وسكت عنه، وتعقبه الذهبي بقوله: (داود متروك) قلت: والرواي عنه ساعدة بن عبيدالله المزني لم أجد من ترجمه، ثم إن في السند اضطراباً، فقد رواه – كما رأيت – هشام بن سعد عن زيد بن أسلم فقال: (عن أبيه) بدل ابن عمر، لكن هشاماً أوثق من داود، إلا أننا لم نقف على سياقه، لننظر هل فيه مخالفة لسياق داود هذا أم لا ؟ ولا تغتر بقولهم في "المصباح" عقب هذا الإسناد: (به) المفيد أن السياق واحد، فإن عمدته فيما نقله عن البلاذري إنما هو "فتح الباري" وهو لم يقل: (به). انظر "الفتح" (2/399).(33/50)
الثاني: لو صحت هذه الرواية، فهي إنما تدل على السبب الذي من أجله توسل عمر بالعباس دون غيره من الصحابة الحاضرين حينذاك، وأما أن تدل على جواز الرغبة عن التوسل بذاته - صلى الله عليه وسلم - - لو كان جائزاً عندهم – إلى التوسل بالعباس أي بذاته فكلا، ثم كلا، لأننا نعلم بالبداهة والضرورة – كما قال بعضهم – أنه لو أصاب جماعة من الناس قحط شديد، وأرادوا أن يتوسلوا بأحدهم لما أمكن أن يعدلوا عمن دعاؤه أقرب إلى الإجابة، وإلى رحمة الله سبحانه وتعالى، ولو أن إنساناً أصيب بمكروه فادح، وكان أمامه نبي، وآخر غير نبي، وأراد أن يطلب الدعاء من أحدهما لما طلبه إلا من النبي، ولو طلبه من غير النبي، وترك النبي لعد من الآثمين الجاهلين، فكيف يظن بعمر ومن معه من الصحابة أن يعدلوا عن التوسل به - صلى الله عليه وسلم - إلى التوسل بغيره، لو كان التوسل بذاته - صلى الله عليه وسلم - جائزاً، فكيف وهو أفضل عند المخالفين من التوسل بدعاء العباس وغيره من الصالحين؟! لا سيما وقد تكرر ذلك منهم مراراً كما سبق، وهم لا يتوسلون به - صلى الله عليه وسلم - ولا مرة واحدة، واستمر الأمر كذلك، فلم ينقل عن أحد منهم خلاف ما صنع عمر، بل صح عن معاوية ومن معه ما يوافق صنيعه حيث توسلوا بدعاء يزيد بن الأسود، وهو تابعي جليل، فهل يصح أن يقال: إن التوسل به كان اقتداء بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ؟!
الحق أقول: إن جريان عمل الصحابة على ترك التوسل بذاته - صلى الله عليه وسلم - عند نزول الشدائد بهم(33/51)
– بعد أن كانوا لا يتوسلون بغيره - صلى الله عليه وسلم - في حياته – لهو أكبر الأدلة الواضحة على أن التوسل بذاته - صلى الله عليه وسلم - غير مشروع، وإلا لنقل ذلك عنهم من طرق كثيرة في حوادث متعددة، ألا ترى إلى هؤلاء المخالفين كيف ليهجون بالتوسل بذاته - صلى الله عليه وسلم - لأدنى مناسبة لظنهم أنه مشروع، فلو كان الأمر كذلك لنُقِل مثله عن الصحابة، مع العلم أنهم أشد تعظيماً ومحبة له - صلى الله عليه وسلم - من هؤلاء، فكيف ولم يُنقل عنهم ذلك ولا مرة واحدة، بل صح عنهم الرغبة عنه إلى التوسل بدعاء الصالحين ؟!
الشبهة الثانية: حديث الضرير:
بعد أن فرغنا من تحقيق الكلام في حديث توسل عمر بالعباس رضي الله عنه، وبينا أنه ليس حجة للمخالفين بل هو عليهم، نشرع الآن في تحقيق القول في حديث الضرير، والنظر في معناه: هل هو حجة لهم أم عليهم أيضاً؟ فنقول:
أخرج أحمد وغيره بسند صحيح عن عثمان بن حنيف أن رجلاً ضرير البصر أتى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: ادع الله أن يعافيني. قال: { إن شئت دعوت لك، وإن شئت أخّرتُ ذاك، فهو خير } ، (وفي رواية: { وإن شئتَ صبرتَ فهو خير لك } )، فقال: ادعهُ. فأمره أن يتوضأ، فيحسن وضوءه، فيصلي ركعتين، ويدعو بهذا الدعاء: اللهم إني أسألك، وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة، يا محمد إني توجهتُ بك إلى ربي في حاجتي هذه، فتقضى لي، اللهم فشفّعه فيَّ ]وشفّعني فيه[. قال: ففعل الرجل فبرأ.
يرى المخالفون: أن هذا الحديث يدل على جواز التوسل في الدعاء بجاه النبي - صلى الله عليه وسلم - أو غيره من الصالحين، إذ فيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - علم الأعمى أن يتوسل به في دعائه، وقد فعل الأعمى ذلك فعاد بصيراً.(33/52)
وأما نحن فنرى ان هذا الحديث لا حجة لهم فيه على التوسل المختلف فيه، وهو التوسل بالذات، بل هو دليل آخر على النوع الثالث من أنواع التوسل المشروع الذي أسلفناه، لأن توسل الأعمى إنما كان بدعائه. والأدلة على ما نقول من الحديث نفسه كثيرة، وأهمها:
أولاً: أن الأعمى إنما جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ليدعو له، وذلك قوله: (أدعُ الله أن يعافيني) فهو توسل إلى الله تعالى بدعائه - صلى الله عليه وسلم -، لأنه يعلم أن دعاءه - صلى الله عليه وسلم - أرجى للقبول عند الله بخلاف دعاء غيره، ولو كان قصد الأعمى التوسل بذات النبي - صلى الله عليه وسلم - أو جاهه أو حقه لما كان ثمة حاجة به إلى أن يأتي النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويطلب منه الدعاء له، بل كان يقعد في بيته، ويدعو ربه بأن يقول مثلاً:
(اللهم إني أسألك بجاه نبيك ومنزلته عندك أن يشفيني، وتجعلني بصيراً). ولكنه لم يفعل، لماذا؟ لأنه عربي يفهم معنى التوسل في لغة العرب حق الفهم، ويعرف أنه ليس كلمة يقولها صاحب الحاجة، يذكر فيها اسم الموسَّل به، بل لابد أن يشتمل على المجيء إلى من يعتقد فيه الصلاح والعلم بالكتاب والسنة، وطلب الدعاء منه له.
ثانياً: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعده بالدعاء مع نصحه له ببيان ما هو الأفضل له، وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -:
{ إن شئت دعوتُ، وإن شئت صبرت فهو خير لك } . وهذا الأمر الثاني هو ما أشار إليه - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الذي رواه عن ربه تبارك وتعالى أنه قال: { إذا ابتليتُ عبدي بحبيبتيه – أي عينيه – فصبر، عوضته منهما الجنة } .(33/53)
ثالثاً: إصرار الأعمى على الدعاء وهو قوله: (فادع) فهذا يقتضي أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - دعا له، لأنه - صلى الله عليه وسلم - خير من وفى بما وعد، وقد وعده بالدعاء له إن شاء كما سبق، فقد شاء الدعاء وأصر عليه، فإذن لا بد أنه - صلى الله عليه وسلم - دعا له، فثبت المراد، وقد وجه النبي - صلى الله عليه وسلم - الأعمى بدافع من رحمته، وبحرص منه أن يستجيب الله تعالى دعاءه فيه، وجهه إلى النوع الثاني من التوسل المشروع، وهو التوسل بالعمل الصالح، ليجمع له الخير من أطرافه، فأمرهأن يتوضأ ويصلي ركعتين ثم يدعو لنفسه وهذه الأعمال طاعة لله سبحانه وتعالى يقدمها بين يدي دعاء
النبي - صلى الله عليه وسلم - له، وهي تدخل في قوله تعالى: { وابتغوا إليه الوسيلة } كما سبق.
وهكذا فلم يكتف الرسول - صلى الله عليه وسلم - بدعائه للأعمى الذي وعده به، بل شغله بأعمال فيها
طاعة لله سبحانه وتعالى وقربة إليه، ليكون الأمر مكتملاً من جميع نواحيه، وأقرب إلى القبول والرضا من الله سبحانه وتعالى، وعلى هذا، فالحادثة كلها تدور حول الدعاء – كما هو ظاهر – وليس فيها ذكر شيء مما يزعمون.
وقد غفل عن هذا الشيخ الغماري أو تغافل، فقال في "المصباح" (24): ( { وإن شئتَ دعوتُ } . أي وإن شئت علمتك دعاء تدعو به، ولقنتك إياه، وهذا التأويل واجب ليتفق أول الحديث مع آخره).
قلت: هذا التأويل باطل لوجوه كثيرة منها: أن الأعمى إنما طلب منه - صلى الله عليه وسلم - أن يدعو له،
لا أن يعلمه دعاء، فإذا كان قوله - صلى الله عليه وسلم - له: { وإن شئت دعوت } جواباً على طلبه تعين أنه الدعاء له، ولابد، وهذا المعنى هو الذي يتفق مع آخر الحديث، ولذلك رأينا الغماري
لم يتعرض لتفسير قوله في آخره: { اللهم فشفعه في، وشفعني فيه } لأنه صريح في أن التوسل كان بدعائه - صلى الله عليه وسلم - كما بيناه فيما سلف.(33/54)
ثم قال: (ثم لو سلمنا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دعا للضرير فذلك لا يمنع من تعميم الحديث في غيره).
قلت: وهذه مغالطة مكشوفة، لأنه لا أحد ينكر تعميم الحديث في غير الأعمى في حالة دعائه - صلى الله عليه وسلم - لغيره، ولكن لما كان الدعاء منه - صلى الله عليه وسلم - بعد انتقاله إلى الرفيق الأعلى غير معلوم بالنسبة للمتوسلين في شتى الحوائج والرغبات، وكانوا هم أنفسهم لا يتوسلون بدعائه - صلى الله عليه وسلم - بعد وفاته، لذلك اختلف الحكم، وكان هذا التسليم من الغماري حجة عليه.
رابعاً: أن في الدعاء الذي علمه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إياه أن يقول: { اللهم فشفعه في } وهذا
يستحيل حمله على التوسل بذاته - صلى الله عليه وسلم -، أو جاهه، أو حقه، إذ أن المعنى: اللهم اقبل شفاعته - صلى الله عليه وسلم - في، أي اقبل دعائه في أن ترد عليَّ بصري، والشفاعة لغة الدعاء، وهو المراد بالشفاعة الثابتة له - صلى الله عليه وسلم - ولغيره من الأنبياء والصالحين يوم القيامة، وهذا يبين أن الشفاعة أخص من الدعاء، إذ لا تكون إلا إذا كان هناك اثنان يطلبان أمراً، فيكون أحدهما شفيعاً للآخر، بخلاف الطالب الواحد الذي لم يشفع غيره، قال في "لسان العرب": (الشفاعة كلام الشفيع للملك في حاجة يسألها لغيره، والشافع الطالب لغيره، يتشفع به إلى المطلوب، يقال بشفعت بفلان إلى فلان، فشفعني فيه).
فثبت بهذا الوجه أيضاً أن توسل الأعمى إنما كان بدعائه - صلى الله عليه وسلم - لا بذاته.
خامساً: إن مما علم النبي - صلى الله عليه وسلم - الأعمى أن يقوله: { وشفعني فيه } أي اقبل شفاعتي، أي دعائي في أن تقبل شفاعته - صلى الله عليه وسلم -، أي دعاءه في أن ترد علي بصري. هذا الذي لا يمكن أن يفهم من هذه الجملة سواه.(33/55)
ولهذا ترى المخالفين يتجاهلونها ولا يتعرضون لها من قريب أو من بعيد، لأنها تنسف بنيانهم من القواعد، وتجتثه من الجذور، وإذا سمعوها رأيتهم ينظرون إليك نظر المغشي عليه.ذلك أن شفاعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - في الأعمى مفهمومة، ولكن شفاعة الأعمى في الرسول - صلى الله عليه وسلم - كيف تكون؟ لا جواب لذلك عندهم البتة. ومما يدل على شعورهم بأن هذه الجملة تبطل تأويلاتهم أنك لا ترى واحداً منهم يستعملها، فيقول في دعائه مثلاً: اللهم شفع فيَّ نبيك، وشفعني فيه.
سادساً: إن هذا الحديث ذكره العلماء في معجزات النبي - صلى الله عليه وسلم - ودعائه المستجاب،
وما أظهره الله ببركة دعائه من الخوارق والإبراء من العاهات، فإنه بدعائه - صلى الله عليه وسلم - لهذا الأعمى أعاد الله عليه بصره، ولذلك رواه المصنفون في "دلائل النبوة" كالبيهقي وغيره، فهذا يدل على ان السر في شفاء الأعمى إنما هو دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم -. ويؤيده كل من دعا به من العميان مخلصاً إليه تعالى، منيباً إليه قد عوفي، بل على الأقل لعوفي واحد منهم، وهذا ما لم يكن ولعله
لا يكون أبداً.
كما أنه لو كان السر في شفاء الأعمى أنه توسل بجاه النبي - صلى الله عليه وسلم - وقدره وحقه، كما يفهم عامة المتأخرين، لكان من المفروض أن يحصل هذا الشفاء لغيره من العميان الذين يتوسلون بجاهه - صلى الله عليه وسلم -، بل ويضمون إليه أحياناً جاه جميع الأنبياء المرسلين، وكل الأولياء والشهداء والصالحين، وجاه كل من له جاه عند الله من الملائكة، والإنس والجن أجمعين! ولم نعلم
ولا نظن أحداً قد علم حصول مثل هذا خلال القرون الطويلة بعد وفاته - صلى الله عليه وسلم - إلى اليوم.(33/56)
إذا تبين للقارىء الكريم ما أوردناه من الوجوه الدالة على أن حديث الأعمى إنما يدور حول التوسل بدعائه - صلى الله عليه وسلم -، وأنه لا علاقة له بالتوسل بالذات، فحينئذ يتبين له أن قول الأعمى في دعائه: (اللهم إني أسألك، وأتوسل إليك بنبيك محمد - صلى الله عليه وسلم -) إنما المراد به: أتوسل إليك بدعاء نبيك، أي على حذف المضاف، وهذا أمر معروف في اللغة، كقوله تعالى: { واسأل القرية التي كنا فيها، والعير التي اقبلنا فيها } أي أهل القرية وأصحاب العير. ونحن والمخالفون متفقون على ذلك، أي على تقدير مضاف محذوف، وهو مثل ما رأينا في دعاء عمر وتوسله بالعباس، فإما أن يكون التقدير: إني أتوجه إليك بـ (جاه) نبيك، ويا محمد إني توجهت
بـ (ذات) ك أو (مكانت) ك إلى ربي كما يزعمون، وإما أن يكون التقدير: إني أتوجه إليك
بـ (دعاء) نبيك، ويا محمد إني توجهت بـ (دعاء) ك إلى ربي كما هو قولنا. ولا بد لترجيح احد التقديرين من دليل يدل عليه. فأما تقديرهم (بجاهه) فليس لهم عليه دليل لا من هذه الحديث ولا من غيره، إذ ليس في سياق الكلام ولا سباقه تصريح أو إشارة لذكر الجاه أو
ما يدل عليه إطلاقاً، كما أنه ليس عندهم شيء من القرآن أو من السنة أو من فعل الصحابة يدل على التوسل بالجاه، فيبقى تقديرهم من غير مرجح، فسقط من الاعتبار، والحمد لله.
أما تقديرنافيقوم عليه أدلة كثيرة، تقدمت في الوجوه السابقة.
وثمة أمر آخر جدير بالذكر، وهو أنه لو حمل حديث الضرير على ظاهره، وهو التوسل بالذات لكان معطلاً لقوله فيما بعد: (اللهم فشفعه في، وشفعني فيه) وهذا لا يجوز كما
لا يخفى، فوجب التوفيق بين هذه الجملة والتي قبلها. وليس ذلك إلا على ما حملناه من أن التوسل كان بالدعاء، فثبت المراد، وبطل الاستدلال به على التوسل بالذات، والحمد لله.
على أنني أقول: لو صح أن الأعمى إنما توسل بذاته - صلى الله عليه وسلم -، فيكون حكماً خاصاً به - صلى الله عليه وسلم -،(33/57)
لا يشاركه فيه غيره من الأنبياء والصالحين، وإلحاقهم به مما لا يقبله النظر الصحيح، لأنه - صلى الله عليه وسلم - سيدهم وأفضلهم جميعاً، فيمكن أن يكون هذا مما خصه الله به عليهم ككثير مما صح به الخبر، وباب الخصوصيات لا تدخل فيه القياسات، فمن رأى أن توسل الأعمى كان بذاته لله، فعليه أن يقف عنده، ولا يزيد عليه كما نقل عن الإمام أحمد والشيخ العز بن عبد السلام رحمهما الله تعالى. هذا هو الذي يقتضيه البحث العلمي مع الإنصاف، والله الموفق للصواب.
دفع توهم:
هذا ولا بد من بيان ناحية هامة تتعلق بهذا الموضوع، وهي أننا حينما ننفي التوسل بجاه النبي - صلى الله عليه وسلم -، وجاه غيره من الأنبياء والصالحين فليس ذلك لأننا ننكر أن يكون لهم جاه، أو قدر أو مكانة عند الله، كما أنه ليس ذلك لأننا نبغضهم، وننكر قدرهم ومنزلتهم عند الله،
ولا تشعر أفئدتنا بمحبتهم، كما افترى علينا الدكتور البوطي في كتابه "فقه السيرة" (ص354) فقال ما نصه: (فقد ضل أقوام لم تشعر أفئدتهم بمحبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وراحوا يستنكرون التوسل بذاته - صلى الله عليه وسلم - بعد وفاته...) كلا ثم كلا، فنحن ولله الحمد من أشد الناس تقديراً لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأكثرهم حباً له، واعترافاً بفضله - صلى الله عليه وسلم -، وإن دل هذا الكلام على شيء فإنما يدل على الحقد الأعمى الذي يملأ قلوب أعداء الدعوة السلفية على هذه الدعوة وعلى أصحابها، حتى يحملهم على أن يركبوا هذا المركب الخطر الصعب، ويقترفوا هذه الجريمة البشعة النكراء، ويأكلوا لحوم إخوانهم المسلمين، ويكفروهم دونما دليل، اللهم إلا الظن الذي هو أكذب الحديث، كما قال النبي الأكرم - صلى الله عليه وسلم -.
ولا أدري كيف سمح هذا المؤلف الظالم لنفسه أن يصدر مثل هذا الحكم الذي لا يستطيع إصداره إلا الله عز وجل، المطلع وحده على خفايا القلوب ومكنونات الصدور، ولا تخفى عليه خافية.(33/58)
أتراه لا يعلم جزاء من يفعل ذلك، أم إنه يعلم، ولكنه أعماه الحقد الأسود والتحامل الدفين على دعاة السنة؟ أي الأمرين كان فإننا نذكره بهذين الحديثين الشريفين لعله ينزجر عن غيه، ويفيق من غفلته، ويتوب من فعلته.
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: { إيما رجل أكفر رجلاً مسلماً، فإن كان كافراً وإلا كان هو الكافر } وقال عليه أفضل الصلاة والسلام: { إن من أربى الربا الاستطالة في عرض المسلم بغير
حق } .
كما نقول له أخيراً: ترى هل دريت يا هذا بأنك حينما تقول ذاك الكلام فإنك ترد على سلف هذه الأمة الصالح، وتكفر أئمتها المجتهدين ممن لا يجيز التوسل بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وغيره بعد وفاتهم كالإمام أبي حنيفة وأصحابه رحمهم الله تعالى، وقد قال أبو حنيفة: (أكره أن يتوسل إلى الله إلا بالله) كما تقدم.
فإن كنت لا تدري فتلك مصيبة وإن كنت تدري فالمصيبة أعظمُ
ونعود لنقول: إن كل مخلص منصف ليعلم علم اليقين بأننا والحمد لله من أشد الناس حباً لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومن أعرفهم بقدره وحقه وفضله - صلى الله عليه وسلم -، وبأنه أفضل النبيين، وسيد المرسلين، وخاتمهم وخيرهم، وصاحب اللواء المحمود، والحوض المورود، والشفاعة العظمى، والوسيلة والفضيلة، والمعجزات الباهرات، وبأن الله تعالى نسخ بدينه كل دين، وأنزل عليه سبعاً من المثاني والقرآن العظيم، وجعل أمته خير أمة أخرجت للناس. إلى آخر ما هنالك من فضائله - صلى الله عليه وسلم - ومناقبه التي تبين قدره العظيم، وجاهه المنيف صلى الله عليه وآله وسلم تسليماً كثيراً.(33/59)
أقول: إننا – والحمد لله – من أول الناس اعترافاً بذلك كله، ولعل منزلته - صلى الله عليه وسلم - عندنا محفوظة أكثر بكثير مما هي محفوظة لدى الآخرين، الذين يدعون محبته، ويتظاهرون بمعرفة قدره، لأن العبرة في ذلك كله إنما هي في الاتباع له - صلى الله عليه وسلم -، وامتثال أوامره، واجتناب نواهيه، كما قال سبحانه وتعالى: { قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله، ويغفر لكم ذنوبكم } ، ونحن بفضل الله من أحرص الناس على طاعة الله عز وجل، واتباع نبيه - صلى الله عليه وسلم - وهما أصدق الأدلة على المودة والمحبة الخالصة بخلاف الغلو في التعظيم، والإفراط في الوصف اللذين نهى الله تعالى عنهما، فقال سبحانه: { يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم، ولا تقولوا على الله
إلا الحق } كما نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عنهما فقال: { لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، فإنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله } .
ومن الجدير بالذكر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جعل من الغلو في الدين أن يختار الحاج إذا أراد رمي الجمرات بمنى الحصوات الكبيرة وأمر أن تكون مثل حصى الخذف، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غداة العقبة: { هات ألْقِطْ لي } . قال: فلقطت له نحو حصى الخذف، فلما وضعتهن في يده قال: { مثل هؤلاء – ثلاث مرات – وإياكم والغلو في الدين، فإنما هلك من كان قبلكم بالغلو في الدين } ذلك لأنه - صلى الله عليه وسلم - يعد مسألة رمي الجمار مسألة رمزية الغرض منها نبذ الشيطان ومحاربته، وليس حقيقية يراد بها قتله وإماتته، فعلى المسلم تحقيق الأمر، ومنابذة الشيطان عدو الإنسان اللدود بالعداء ليس غير، ومع هذا التحذير الشديد من الغلو في الدين، وقع المسلمون فيه مع الأسف، واتبعوا سنن أهل الكتاب، فقال قائلهم:
دع ما ادعته النصارى في نبيهم واحكم بما شئت مدحاً فيه واحتكم(33/60)
فهذا الشاعر الذي يعظمه كثير من المسلمين، ويترنمون بقصيدته هذه، المشهورة بالبردة، ويتبركون بها، وينشدونها في الموالد وبعض مجالس الوعظ والعلم، ويعدون ذلك قربة إلى الله تبارك وتعالى، ودليلاً على محبتهم نبيهم - صلى الله عليه وسلم -، أقول: هذا الشاعر قد ظن النهي الوارد في الحديث السابق منصباً فقط على الادعاء بأن محمداً - صلى الله عليه وسلم - ابن الله، فنهى عن هذه القولة، ودعا إلى القول بأي شيء آخر مهما كان. وهذا غلط بالغ وضلال مبين، ذلك لأن للاطراء المنهي عنه في الحديث معنيين اثنين أولهما مطلق المدح، وثانيهما المدح المجاوز للحد. وعلى هذا فيمكن أن يكون المراد الحديث النهي عن مدحه - صلى الله عليه وسلم - مطلقاً، من باب سد الذريعة، واكتفاءً باصطفاء الله تعالى له نبياً ورسولاً، وحبيباً وخليلاً، ومما أثنى سبحانه عليه في قوله: { وإنك لعلى خلق عظيم } ، إذ ماذا يمكن للبشر أن يقولوا فيه بعد قول الله تبارك وتعالى هذا؟ وما قيمة أي كلام يقولونه أمام شهادة الله تعالى هذه؟ وإن أعظم مدح له - صلى الله عليه وسلم - أن تقول فيه ما قال ربنا عز وجل: إنه عبد له ورسوله، فتلك أكبر تزكية له - صلى الله عليه وسلم -، وليس فيها إفراط ولا تفريط، ولا غلو ولا تقصير. وقد وصفه ربنا سبحانه وتعالى وهو في أعلى درجاته، وأرفع تكريم من الله تعالى له، وذلك حينما أسرى وعرج به إلى السماوات العلى، حيث أراه من آيات ربه الكبرى، وصفه حينذاك بالعبودية فقال: { سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الاقصى } ]الإسراء:1[.
ويمكن أن يكون المراد: لا تبالغوا في مدحي، فتصفوني بأكثر مما أستحقه، وتصبغوا علي بعض خصائص الله تبارك وتعالى.
ولعل الأرجح في الحديث المعنى الأول لأمرين اثنين: أولهما تمام الحديث، وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -:(33/61)
{ فقولوا عبد الله ورسوله } أي اكتفوا بما وصفني به الله عز وجل من اختياري عبداً له ورسولاً، وثانيهما ما عقد بعض أئمة الحديث له من الترجمة، فأورده الإمام الترمذي مثلاً تحت عنوان: "باب تواضع النبي - صلى الله عليه وسلم -" فحمل الحديث على النهي عن المدح المطلق وهو الذي ينسجم مع معنى التواضع ويأتلف معه.
تنبيه:
واعلم انه وقع في بعض الطرق الأخرى لحديث الضرير السابق زيادتان لا بد من بيان شذوذهما وضعفهما، حتى يكون القارىء على بينة من أمرهما، فلا يغتر بقول من احتج بهما على خلاف الحق والصواب.
الزيادة الأولى:
زيادة حماد بن سلمة قال: حدثنا أبو جعفر الخطمي.. فساق إسناده مثل رواية شعبة، وكذلك المتن إلا أنه اختصره بعض الشيء، وزاد في آخره بعد قوله: وشفع نبيي في رد بصري: { وإن كانت حاجة فافعل مثل ذلك } رواه أبو بكر بن أبي خيثمة في تاريخه، فقال: حدثنا مسلم بن إبراهيم: حدثنا حماد بن سلمه به.
وقد أعلَّ هذه الزيادة شيخ الإسلام ابن تيمية في "القاعدة الجليلة" (ص102) بتفرد حماد بن سلمة بها، ومخالفته لرواية شعبة، وهو أجلّ من روى هذا الحديث وهذا إعلال يتفق مع القواعد الحديثية، ولا يخالفها البتة، وقول الغماري في "المصباح" (ص30) بأن حماداً ثقة من رجال الصحيح، وزيادة الثقة مقبولة، غفلة منه أو تغافل عما تقرر في المصطلح، أن القبول مشروط بما إذا لم يخالف الراوي من هو أوثق منه، قال الحافظ في "نخبة الفكر": (والزيادة مقبولة ما لم تقع منافية لمن هو أوثق، فإن خولف بأرجح، فالراجح المحفوظ، ومقابله الشاذ).
قلت: وهذا الشرط مفقود هنا، فإن حماد بن سلمة، وإن كان من رجال مسلم، فهو
بلا شك دون شعبة في الحفظ، ويتبين لك ذلك بمراجعة ترجمة الرجلين في كتب القوم، فالأول أورده الذهبي في "الميزان" وهو إنما يورد فيه من تُكُلَّم فيه، ووصفه بأنه (ثقة له أوهام) بينما(33/62)
لم يورد فيه شعبة مطلقاً، ويظهر لك الفرق بينهما بالتأمل في ترجمة الحافظ لهما، فقد قال في "التقريب": (حماد بن سلمة ثقة عابد أثبت الناس في ثابت، وتغير حفظه بآخره) ثم قال: (شعبة بن الحجاج ثقة حافظ متقن، كان الثوري يقول: هو أمير المؤمنين في الحديث، وهو أول من فتش بالعراق عن الرجال، وذب عن السنة، وكان عابداً).
قلت: إذا تبين لك هذا عرفت أن مخالفة حماد لشعبة في هذا الحديث وزيادته عليه تلك الزيادة غير مقبولة، لأنها منافية لمن هو أوثق منه فهي زيادة شاذة كما يشير إليه كلام الحافظ السابق في "النخبة" ولعل حماداً روى هذا الحديث حين تغير حفظه، فوقع في الخطأ، وكأن الإمام أحمد أشار إلى شذوذ هذه الزيادة، فإنه أخرج الحديث من طريق مؤمَّل (وهو ابن اسماعيل) عن حماد – عقب رواية شعبة المتقدمة – إلا أنه لم يسق لفظ الحديث، بل أحال به على لفظ حديث شعبة، فقال: (فذكر الحديث) ويحتمل أن الزيادة لم تقع في رواية مؤمل عن حماد، لذلك لم يشر إليها الإمام أحمد كما هي عادة الحفاظ إذا أحالوا في رواية على أخرى بينوا ما في الرواية المحالة من الزيادة على الأولى.
وخلاصة القول: إن الزيادة لا تصح لشذوذها، ولو صحت لم تكن دليلاً على جواز التوسل بذاته - صلى الله عليه وسلم -، لاحتمال أن يكون معنى قوله: { فافعل مثل ذلك } يعني من إتيانه - صلى الله عليه وسلم - في حال حياته، وطلب الدعاء منه والتوسل به، والتوضؤ والصلاة، والدعاء الذي علمه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يدعو به. والله أعلم.
الزيادة الثانية:(33/63)
قصة الرجل مع عثمان بن عفان، وتوسله به - صلى الله عليه وسلم - حتى قضى له حاجته، وأخرجها الطبراني في "المعجم الصغير" (ص103-104) وفي "الكبير" (3/2/1/1-2) من طريق عبد الله بن وهب عن شبيب بن سعيد المكي عن روح بن القاسم عن أبي جعفر الخطمي المدني عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف عن عمه عثمان بن حنيف أن رجلاً كان يختلف إلى عثمان بن عفان رضي الله عنه في حاجة له، فكان عثمان لا يلتفت إليه، ولا ينظر في حاجته فلقي عثمان بن حنيف، فشكا ذلك إليه، فقال له عثمان: إئت الميضأة، فتوضأ، ثم ائت المسجد، فصل فيه ركعتين، ثم قل: اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبينا محمد- صلى الله عليه وسلم - نبي الرحمة، يا محمد إني أتوجه بك إلى ربك عز وجل، فقضي لي حاجتي، وتذكر حاجتك، ورح إليَّ حتى أروح معك، فانطلق الرجل فصنع ما قال، ثم أتى باب عثمان رضي الله عنه فجاء البواب حتى أخذ بيده، فأدخله عليه، فأجلسه معه على الطنفسة، وقال: حاجتك؟ فذكر حاجته، فقضاها له، ثم قال له: ما ذكرت حاجتك حتى كانت هذه الساعة، وقال:(33/64)
ما كانت لك من حاجة ففأتنا، ثم إن الرجل خرج من عنده، فلقي عثمان بن حنيف، فقال له: جزاك الله خيراً، ما كان ينظر في حاجتي، ولا يلتفت إلي حتى كامته في، فقال عثمان بن حنيف: والله ما كلمته، ولكن شهدت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأتاه ضرير، فشكا إليه ذهاب بصره، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: فتصبر، فقال: يا رسول الله إنه ليس لي قائد، وقد شق علي، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: { ائت الميضأة، فتوضأ ثم صلي ركعتين، ثم ادعُ بهذه الدعوات } قال عثمان بن حنيف: فوالله ما تفرقنا، وطال بنا الحديث حتى دخل علينا الرجل كأنه لم يكن به ضر قط. قال الطبراني: (لم يرواه عن روح بن القاسم إلا شبيب بن سعيد أبو سعيد المكي وهو ثقة، وهو الذي يحدث عنه أحمد بن شبيب عن أبيه عن يونس بن يزيد الأيلي، وقد روى هذا الحديث شعبة عن أبي جعفر الخطمي – واسمه عمير بن يزيد – وهو ثقة تفرد به عثمان بن عمر بن فارس عن شعبة، والحديث صحيح).
قلت: لا شك في صحة الحديث، وإنما البحث الآن في هذه القصة التي تفرد بها شبيب بن سعيد كما قال الطبراني، وشبيب هذا متكلم فيه، وخاصة في رواية ابن وهب عنه، لكن تابعه عنه إسماعيل وأحمد ابنا شبيب بن سعيد هذا، أما اسماعيل فلا أعرفه، ولم أجد من ذكره، ولقد أغفلوه حتى لم يذكروه في الرواة عن أبيه، بخلاف أخيه أحمد فإنه صدوق، وأما أبوه شبيب فملخص كلامهم فيه: أنه ثقة في حفظه ضعف، إلا في رواية ابنه أحمد هذا عنه عن يونس خاصة فهو حجة، فقال الذهبي في "الميزان": (صدوق يغرب، ذكره ابن عدي في "كامله" فقال..له نسخة عن يونس بن يزيد مستقيمة، حدث عنه ابن وهب بمناكير، قال ابن المديني: كان يختلف في تجارة إلى مصر، وكتابه صحيح قد كتبته عن ابنه أحمد. قال ابن عدي: كان شبيب لعله يغلط ويهم إذ حدث من حفظه، وأرجو أنه لا يتعمد، فإذا حدث عنه ابنه أحمد بأحاديث يونس فكأنه يونس آخر. يعني يجوَّد).(33/65)
فهذا الكلام يفيد أن شبيباً هذا لا بأس بحديثه بشرطين اثنين: الأول: ان يكون من رواية ابنه أحمد عنه، والثاني: أن يكون من رواية شبيب عن يونس، والسبب في ذلك أنه كان عنده كتب يونس بن يزيد، كما قال ابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل" عن أبيه (2/1/359)، فهو إذا حدث من كتبه هذه أجاد، وإذا حدث من حفظه وهو كما قال ابن عدي، وعلى هذا فقول الحافظ في ترجمته من "التقريب": (لا بأس بحديثه من رواية ابنه أحمد عنه، لا من رواية ابن وهب) فيه نظر، لأنه أوهم أنه لا بأس بحديثه من رواية أحمد مطلقاً، وليس كذلك، بل هذا مقيد بأن يكون من روايته هو عن يونس لما سبق، ويؤيده أن الحافظ نفسه أشار لهذا القيد، فإنه أورد شبيباً هذا في "من طعن فيه من رجال البخاري" من "مقدمة فتح الباري" (ص133) ثم دفع الطعن عنه – بعد أن ذكر من وثقه وقول ابن عدي فيه – بقوله: (قلت: أخرج البخاري من رواية ابنه عنه عن يونس أحاديث، ولم يخرج من روايته عن غير يونس، ولا من رواية ابن وهب عنه شيئاً).
فقد أشار رحمه الله بهذا الكلام إلى أن الطعن قائم في شبيب إذا كانت روايته عن غير يونس، ولو من رواية ابنه أحمد عنه، وهذا هو الصواب كما بينته آنفاً، وعليه يجب أن يحمل كلامه في "التقريب" توفيقاً بين كلاميه، ورفعاً للتعارض بينهما.
إذا تبين هذا يظهر لك ضعف هذه القصة، وعدم صلاحية الاحتجاج بها. ثم ظهر لي فيها علة أخرى وهي الاختلاف على أحمد فيها، فقد أخرج الحديث ابن السني في "عمل اليوم والليلة" (ص202) والحاكم (1/526) من ثلاثة طرق عن أحمد بن شبيب بدون القصة، وكذلك رواه عون بن عمارة البصري ثنا روح ابن القاسم به، أخرجه الحاكم، وعون هذا وإن كان ضعيفاًً، فروايته أولى من رواية شبيب، لموافقتها لرواية شعبة وحماد بن سلمة عن أبي جعفر الخطمي.
وخلاصة القول: إن هذه القصة ضعيفة منكرة، لأمور ثلاثة:(33/66)
ضعف حفظ المتفرد بها، والاختلاف عليه فيها، ومخالفته للثقات الذين لم يذكروها في
الحديث، وأمر واحد من هذه الأمور كاف لإسقاط هذه القصة، فكيف بها مجتمعة؟
ومن عجائب التعصب واتباع الهوى أن الشيخ الغماري أورد روايات هذه القصة في "المصباح" (ص12و17) من طريق البيهقي في "الدلائل" والطبراني، ثم لم يتكلم عليها مطلقاً
لا تصحيحاً ولا تضعيفاً، والسبب واضح، أما التصحيح فغير ممكن صناعة، وأما التضعيف فهو الحق ولكن...
ونحو ذلك فعل من لم يوفق في "الإصابة"، فإنهم أوردوا (ص21-22) الحديث بهذه القصة، ثم قالوا: (وهذا الحديث صححه الطبراني في "الصغير" و"الكبير")!
وفي هذا القول على صغره جهالات:
أولاً: أن الطبراني لم يصحح الحديث في "الكبير" بل في "الصغير" فقط، وأنا نقلت الحديث عنه للقارئين مباشرة، لا بالواسطة كما يفعل أولئك، لقصر باعهم في هذا العلم الشريف (ومن ورد البحر استقل السواقيا).
ثانياً: أن الطبراني إنما صحح الحديث فقط دون القصة، بدليل قوله وقد سبق: (قد روى الحديث شعبة...والحديث صحيح) فهذا نص على أنه أراد حديث شعبة، وشعبة لم يرو هذه القصة، فلم يصححها إذن الطبراني، فلا حجة لهم في كلامه.(33/67)
ثالتاً: أن عثمان بن حنيف لو ثبتت عنه القصة لم يُعَلَّم ذلك الرجل فيها دعاء الضرير بتمامه، فإنه أسقط منه جملة { اللهم شفعه في وشفعني فيه } لانه يفهم بسليقته العربية أن هذا القول يستلزم أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - داعياً لذلك الرجل، كما كان داعياً للأعمى، ولما كان هذا منفياً بالنسبة للرجل، لم يذكر هذه الجملة؟ قال شيخ الإسلام (ص104): (ومعلوم أن الواحد بعد موته - صلى الله عليه وسلم - إذا قال: اللهم فشفعه في وشفعني فيه – مع أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يدعُ له – كان هذا كلاماً باطلاً، مع أن عثمان بن حنيف لم يأمره ان يسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - شيئاً، ولا أن يقول: (فشفعه في)، ولم يأمره بالدعاء المأثور على وجهه، وإنما أمره ببعضه، وليس هناك من
النبي - صلى الله عليه وسلم - شفاعة، ولا ما يظن أنه شفاعة، فلو قال بعد موته: (فشفعه في) لكان كلاماً
لا معنى له، ولهذا لم يأمر به عثمان، والدعاء المأثور عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يأمر به، والذي أمر به ليس مأثوراً عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومثل هذا لا تثبت به شريعة، كسائر ما ينقل عن آحاد الصحابة في حسن العبادات أو الإباحات أو الايجابات أو التحريمات، إذ لم يوافقه غيره من الصحابة عليه، وكان ما يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - يخالفه ولا يوافقه، لم يكن فعله سنة يجب على المسلمين اتباعها، بل غايته ان يكون ذلك مما يسوغ فيه الاجتهاد، ومما تنازعت فيه الأمة، فيجب رده إلى الله والرسول).
ثم ذكر أمثلة كثيرة مما تفرد به بعض الصحابة، ولم يتبع عليه مثل إدخال ابن عمر الماء في عينيه في الوضوء، ونحو ذلك فراجعه.(33/68)
ثم قال: وإذا كان في ذلك كذلك، فمعلوم أنه إذا ثبت عن عثمان بن حنيف أو غيره أنه جعل من المشروع المستحب أن يتوسل بالنبي - صلى الله عليه وسلم - بعد موته من غير أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - داعياً له، ولا شافعاً فيه فقد علمنا أن عمر وأكابر الصحابة لم يروا هذا مشروعاً بعد مماته كما كان يشرع في حياته، بل كانوا في الاستسقاء في حياته - صلى الله عليه وسلم - يتوسلون فلما مات لم يتوسلوا به، بل قال عمر في دعائه الصحيح المشهور الثابت باتفاق أهل العلم بمحضر من المهاجرين والأنصار في عام الرمادة المشهور، لما اشتد بهم الجدب حتى حلف عمر: لا يأكل سميناً حتى يخصب الناس، ثم لما استسقى بالناس قال: اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك بنبينا، فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا. فيسقون. وهذا دعاء أقره عليه جميع الصحابة، ولم ينكره أحد مع شهرته، وهو من أظهر الإجماعات الإقرارية، ودعا بمثله معاوية بن أبي سفيان في خلافته، فلو كان توسلهم بالنبي - صلى الله عليه وسلم - بعد مماته كتوسلهم في حياته لقالوا: كيف نتوسل بمثل العباس ويزيد بن الأسود ونحوهما، ونعدل عن التوسل بالنبي - صلى الله عليه وسلم - الذي هو أفضل الخلائق، وهو أفضل الوسائل وأعظمها عند الله؟ فلما لم يقل ذلك أحد منهم، وقد علم أنهم في حياته إنما توسلوا بدعائه وشفاعته، وبعد مماته توسلوا بدعاء غيره، وشفاعة غيره، علم أن المشروع عندهم التوسل بدعاء المتوسل به، لا بذاته).(33/69)
هذا، وفي القصة جملة إذا تأمل فيها العاقل العارف بفضائل الصحابة وجدها من الأدلة الأخرى على نكارتها وضعفها، وهي أن الخليفة الراشد عثمان رضي الله عنه كان لا ينظر في حاجة ذلك الرجل، ولا يلتفت إليه! فكيف يتفق هذا مع ما صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الملائكة تستحي من عثمان، ومع ما عرف به رضي الله عنه من رفقه بالناس، وبره بهم، ولينه معهم؟ هذا كله يجعلنا نستبعد وقوع ذلك منه، لأنه ظلم يتنافى مع شمائه رضي الله عنه وأرضاه.
(تنبيه): اطلعنا بعد صف هذه الملزمة على كتاب "التوصل إلى حقيقة التوسل" للشيخ محمد نسيب الرفاعي، الذي ذيل اسمه عليه بلقب "مؤسس الدعوة السلفية وخادمها"، وتقتضينا الأمانة العلمية، والنصيحة الدينية وقول كلمة الحق أن نبين حكم الله كما نفهمه، وندين الله تعالى به في هذا اللقب فنقول:
إن من نافلة القول أن نبين ان الدعوة إنما هي دعوة الإسلام الحق كما أنزله الله تعالى على خاتم رسله وأنبيائه محمد - صلى الله عليه وسلم -، فالله وحده سبحانه هو مؤسسها ومشرعها، وليس لأحد من البشر كائناً من كان أن يدعي تأسيسها وتشريعها، وحتى النبي الأكرم محمد صلوات الله وسلامه عليه إنما كان دوره فيها التلقي الواعي الأمين، والتبليغ الكامل الدقيق، ولم يكن مسموحاً له التصرف في شيء من شرع الله تعالى ووحيه، ولهذا فادعاه إنسان مهما علا وسما تأسيس هذه الدعوة الإلهية المباركة إنما هو في الحقيقة خطأ جسيم وجرح بليغ، هذا إن لم يكن شركاً أكبر، والعياذ بالله.
فلا ندري كيف وقع هذا من رجل عاش دهراً طويلاً مع إخوانه في حلب وغيرها من البلاد الشامية في الدعوة السلفية التي هي أخص خصائصها وأهم اهتماماتها محاربة الشركيات والوثنيات اللفظية، فضلاً عن الشركيات الاعتقادية، ثم اعتزلهم جميعاً، هدانا الله تعالى وإياه، وجنبنا الزلل والفتن ومضلات الأهواء.(33/70)
ولعل أحداً يحاول التماس عذر للمؤلف بأنه إنما قصد من ذاك اللقب أنه مجدد الدعوة السلفية، وليس أنه منشئها وصائغ تعاليمها، وقد كان في المسلمين قديماً وحديثاً مجددون، والمؤلف واحد من هؤلاء في ظنه.
ونقول: نعم، إن هناك مجددين لدعوة الإسلام الحق على تتالي الزمان، ولكن شتان بين المؤلف وأولئك المجددين، وحسبه أن يكون تابعاً لأحدهم، ولو وافقناه جدلاً على حشر نفسه معهم لكان من الواجب عليه ان يحدد دائرة لتجديده المزعوم كبلد أو قطر، أما إطلاقه ذاك اللقب الفضفاض فإنه يوحي إلى القراء بأنه المجدد للإسلام في العالم الإسلامي كله في هذا العصر، وأين هو من هذا؟
أضف إلى ذلك أن من الأخلاق الأساسية التي يجب أن يتصف بها الداعية المسلم المتواضع، والبعد عن حب الظهور والتفاخر والادعاء، فإن هذه أدواء قاتلة تجرد الساعي اليها، والحريص عليها من أهلية الدعوة، وتفقده سلاحاً ماضياً للنصرعلى أعدائها، وتجعل عمله هباءً منثوراً، والعياذ بالله، فاللهم عصمتك وهداك.
هذا وقدتصفحنا الكتاب المشار إليه على عجل، فوجدنا فيه بعض الأخطاء، ننبه على بعضها في محله، ومنها أنه قال في (ص237) في صدد الحديث عن إسناد القصة السابقة
ما نصه: (إن في سند هذا الحديث رجلاً اسمه روح بن صلاح، وقد ضعفه الجمهور وابن عدي وقال ابن يونس: يروي أحاديث منكرة). وهذا خطأ محض لا ندري وجهه، وهذا الرجل (أي روح بن صلاح) إنما هو علة الحديث الثالث كما سيأتي.
الشبهة الثالثة: الأحاديث الضعيفة في التوسل:
يحتج مجيزو التوسل المبتدع بأحاديث كثيرة، إذا تأملناها نجدها تندرج تحت نوعين اثنين، الأول ثابت بالنسبة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولكنه لا يدل على مرادهم، ولا يؤيد رأيهم كحديث الضرير، وقد تقدم الكلام على هذا النوع.
والنوع الثاني غير ثابت النسبة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وبعضه يدل على مرادهم، وبعضه(33/71)
لا يدل، وهذه الأحاديث التي لا تصح كثيرة، فأكتفي بذكر ما اشتهر منها، فأقول:
الحديث الأول:
عن أبي سعيد الخدري مرفوعاً: { من خرج من بيته إلى الصلاة، فقال: اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك، وأسألك بحق ممشاي هذا، فإني لم أخرج أشراً ولا بطراً...أقبل الله عليه بوجهه } .
رواه أحمد (3/21) واللفظ له، وابن ماجه، وانظر تخريجه مفصلاً في "سلسلة الأحاديث الضعيفة" (رقم 24). وإسناده ضعيف لأنه من رواية عطية العوفي عن أبي سعيد الخدري، وعطية ضعيف كما قال النووي في "الأذكار" وابن تيمية في "القاعدة الجليلة" والذهبي في "الميزان" بل قال في "الضعفاء" (88/1): (مجمع على ضعفه)، والحافظ الهيثمي في غير موضع من "مجمع الزوائد" منها (5/236) وأورده أبوبكر بن المحب البعلبكي في "الضعفاء والمتروكين"، والبوصيري كما يأتي، وكذا الحافظ ابن حجر بقوله فيه: (صدوق يخطىء كثيراً، كان شيعياً مدلساً، وقد أبان فيه عن سبب ضعفه وهو أمران:
الأول: ضعف حفظه بقوله: (يخطىء كثيراً، وهذا كقوله فيه "طبقات المدلسين": (ضعيف الحفظ) وأصرح منه قوله في "تلخيص الحبير" (ص241 طبع الهند) وقد ذكر حديثاً آخر: (وفيه عطية بن سعيد العوفي وهو ضعيف).
الثاني: تدليسه، لكن كان على الحافظ أن يبين نوع تدليسه، فإن التدليس عند المحدثين على أقسام كثيرة من أشهرها ما يلي:
الأول: أن يروي الرواي عمن لقيه ما لم يسمعه منه، أو عمن عاصره ولم يلقه، موهماً أنه سمعه منه، كأن يقول: عن فلان، أو قال فلان.
الثاني: أن يأتي الرواي باسم شيخه أو لقبه على خلاف المشهور به تعمية لأمره، وقد صرحوا بتحريم هذا النوع إذا كان شيخه غير ثقة، فدلسه لئلا يعرف حاله، أو أوهم أنه رجل آخر من الثقات على وفق اسمه أو كنيته، وهذا يعرف عندهم بتدليس الشيوخ.
قلت: وتدليس عطية من هذا النوع المحرم، كما كنت بينته في كتابي "الأحاديث الضعيفة والموضوعة وأثرها السيء في الأمة" (24).(33/72)
وخلاصة ذلك أن عطية هذا كان يروي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، فلما مات جالس أحد الكذابين المعروفين، بالكذب في الحديث وهو الكلبي، فكان عطية إذا روى عنه كناه أبا سعيد، فيتوهم السامعون منه أنه يريد أبا سعيد الخدري! وهذا وحده عندي يسقط عدالة عطية هذا، فكيف إذا انضم إلى ذلك سوء حفظه! ولهذا كنت أحب للحافظ رحمه الله أن ينبه على أن تدليس عطية من هذا النوع الفاحش، ولو بالإشارة كما فعل في "طبقات المدلسين" إذ قال: (مشهور بالتدليس القبيح) كما سبق.
ثم كأن الحافظ نسي أو وهم – أو غير ذلك من الأسباب التي تعرض للبشر – فقال في تخريجه لهذا الحديث: إن عطية قال في رواية: حدثني أبو سعيد. قال: (فأمن بذلك تدليس عطية) كما نقله ابن علان عنه، وقلده في ذلك بعض المعاصرين.
قلت: والتصريح بالسماع إنما يفيد إذا كان التدليس من النوع الأول، وتدليس عطية من النوع الآخر القبيح، فلا يفيد فيه ذلك، لأنه في هذه الرواية أيضاً قال: (حدثني أبو سعيد) فهذا هو عين التدليس القبيح.
فتبين مما سبق أن عطية ضعيف لسوء حفظه وتدليسه الفاحش، فكان حديثه هذا
ضعيفاً، وأما تحسين الحافظ له الذي اغتر به من لا علم عنده فهو بناء على سهوه السابق، فتنبه ولا تكن من الغافلين. وفي الحديث علل أخر تكلمت عليها في الكتاب المشار إليه سابقاً، فلا حاجة للإعادة، فليرجع إليه من شاء الزيادة.
وأما فهم بعض المعاصرين من عبارة الحافظ ابن حجر السابقة في "التقريب" أنها تفيد توثيق عطية هذا ففهم لا يغبطون عليه، وقد سألت الشيخ أحمد بن الصديق حين التقيت به في ظاهرية دمشق عن هذا الفهم فتعجب منه، فإن من كثر خطؤه في الرواية سقطت الثقة به بخلاف من قال ذلك منه، فالأول ضعيف الحديث، والآخر حسن الحديث، ولذلك جعل الحافظ في "شرح النخبة" من كثر غلطه قرين من ساء حفظه، وجعل حديث كل منهما مردوداً فراجعه مع حاشية الشيخ علي القاري عليه (ص121، 130).(33/73)
وإنما غرّ هؤلاء ما نقلوه عن الحافظ أنه قال في "تخريج الأذكار": (ضعف عطية إنما جاء من قبل تشيعه، وقيل تدليسه، وإلا فهو صدوق).
وهم لقصر باعهم إن لم نقل لجهلهم في هذا العلم لا جرأة لهم على بيان رأيهم الصريح في أوهام العلماء، بل إنهم يسوقون كلماتهم كأنها في مأمن من الخطأ والزلل، لا سيما إذا كانت موافقة لغرضهم كهذه الجملة، وإلا فهي ظاهرة التعارض مع قول الحافظ المنقول عن "التقريب" إذ أنها تعلل ضعف عطية بسببين:
أحدهما: التشيع، وهذا ليس جرحاً مطلقاً على الراجح.
والثاني: التدليس، وهذا جرح قد يزول كما سيأتي، ومع ذلك فإنه أشار إلى تضعيفه لهذا السبب بقوله: (قيل). بينما جزم في "التقريب" بأنه كان مدلساً، كما جزم بأنه كان شيعياً، ولذلك أورده (أعني الحافظ نفسه) في رسالة "طبقات المدلسين" (ص18) فقال: (تابعي معروف، ضعيف الحفظ مشهور بالتدليس القبيح) ذكره في "المرتبة الرابعة" وهي التي يورد فيها (من اتفق على أنه لا يحتج بشيء من حديثهم إلا بما صرحوا فيه بالسماع، لكثرة تدليسهم عن الضعفاء والمجاهيل كبقية بن الوليد) كما ذكره في المقدمة، فهذان النصان من الحافظ نفسه دليل على وهمه في تضعيفه كون عطية مدلساً في الجملة المذكورة آنفاً. فهذا وجه من وجوه التعارض بينها وبين عبارة "التقريب". وثمة وجه آخر وهو أنه في هذه الجملة لم يصفه بما هو جرح عنده – كما سبق عن "شرح النخبة" – وهو قوله في "التقريب": (يخطىء كثيراً) فهذا كله يدلنا على أن الحافظ رحمه الله تعالى لم يكن قد ساعده حفظه حين تخريجه لهذا الحديث، فوقع في هذا القصور الذي يشهد به كلامه المسطور في كتبه الأخرى، وهي أولى بالاعتماد عليها من كتابه "التخريج"، لأنه في تلك ينقل عن الأصول مباشرة، ويلخص منها بخلاف صنيعه في "التخريج".(33/74)
ولما ذكرنا من حال العوفي ضعف الحديث غير واحد من الحفاظ كالمنذري في "الترغيب" والنووي وشيخ الإسلام ابن تيمية في "القاعدة الجليلة" وكذا البوصيري، فقال في "مصباح الزجاجة" (2/52): (هذا إسناد مسلسل بالضعفاء: عطية وفضيل بن مرزوق والفضل بن الموفق كلهم ضعفاء). وقال صديق خان في "نزل الأبرار" (ص71) بعد أن أشار لهذا الحديث وحديث بلال الآتي بعده: (وإسنادهم ضعيف، صرح بذلك النووي في"الأذكار").
الحديث الثاني:
وحديث بلال الذي أشار إليه صديق خان هو ما روي عنه أنه قال: { كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا خرج إلى الصلاة قال: بسم الله، آمنت بالله، توكلت على الله، لا حول ولا قوة إلا بالله. اللهم بحق السائلين عليك، وبحق مخرجي هذا، فإني لم أخرج أشراً ولا بطراً.. } الحديث أخرجه ابن السني في "عمل اليوم والليلة – رقم82" من طريق الوازع بن نافع العقيلي عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن جابر بن عبد الله عنه.
قلت: وهذا سند ضعيف جداً، وآفته الوازع هذا، فإنه لم يكن عنده وازع يمنعه من الكذب، كما بينته في "السلسلة الضعيفة" ولذلك لما قال النووي في "الأذكار": (حديث ضعيف أحد رواته الوازع بن نافع العقيلي وهو متفق على ضعفه، وأنه منكر الحديث) قال الحافظ بعد تخريجه: (هذا حديث واه جداً، أخرجه الدارقطني في "الأفراد" من هذا الوجه وقال: تفرد به الوازع، وهو متفق على ضعفه وأنه منكر الحديث. والقول فيه أشد من ذلك، فقال ابن معين والنسائي: ليس بثقة، وقال أبو حاتم وجماعة، متروك الحديث، وقال الحاكم: يروي أحاديث موضوعة).
قلت: فلا يجوز الاستشهاد به كما فعل الشيخ الكوثري، والشيخ الغماري في "مصباح الزجاجة" (56) وغيرهما من المبتدعة.(33/75)
ومع كون هذين الحديثين ضعيفين فهما لا يدلان على التوسل بالمخلوقين أبداً، وإنما يعودان إلى أحد أنواع التوسل المشروع الذي تقدم الكلام عنه، وهو التوسل إلى الله تعالى بصفة من صفاته عز وجل، لأن فيهما التوسل بحق السائلين على الله وبحق ممشى المصلين. فما هو حق السائلين على الله تعالى؟، لا شك أنه إجابة دعائهم، وإجابة الله دعاء عباده صفة من صفاته عز وجل، وكذلك حق ممشى المسلم إلى المسجد هو أن يغفر الله له، ويدخله الجنة ومغفرة الله تعالى ورحمته، وإدخاله بعض خلقه ممن يطيعه الجنة. كل ذلك صفات له تبارك وتعالى.
وبهذا تعلم أن هذا الحديث الذي يحتج به المبتدعون ينقلب عليهم، ويصبح بعد فهمه فهماً جيداً حجة لنا عليهم، والحمد لله على توفيقه.
الحديث الثالث:
عن أبي أمامة قال: { كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أصبح، وإذا أمسى دعا بهذا الدعاء: اللهم أنت أحق من ذكر، وأحق من عبد.. أسألك بنور وجهك الذي أشرقت له السماوات والأرض، وبكل حق هو لك، وبحق السائلين عليك... } .
قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (10/117): (رواه الطبراني، وفيه فضال بن جبير، وهو ضعيف مجمع على ضعفه).
قلت: بل هو ضعيف جداً، اتهمه ابن حبان فقال: (شيخ يزعم أنه سمع أبا أمامة، يروي عنه ما ليس منه حديثه). وقال أيضاً: (لا يجوز الاحتجاج به بحال، يروي أحاديث لا أصل له).
وقال ابن عدي في "الكامل" (25/13): (أحاديثه كلها غير محفوظة).
قلت: فالحديث شديد الضعف، فلا يجوز الاستشهاد به أيضاً، كما فعل صاحب "المصباح" (ص56).
الحديث الرابع:
عن أنس بن مالك قال: لما ماتت فاطمة بنت أسد بن هاشم أم علي رضي الله عنهما دعا أسامة بن زيد وأبا أيوب الأنصاري وعمر بن الخطاب وغلاماً أسود يحفرون...
فلما فرغ دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فاضطجع فيه فقال: { الله الذي يحيي ويميت، وهو حي(33/76)
لا يموت، اغفر لأمي فاطمة بين أسد، ولقنها حجتها، ووسع مدخلها بحق نبيك، والأنبياء الذين من قبلي، فإنك أرحم الراحمين... } .
قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (9/257): (رواه الطبراني في الكبير والأوسط وفيه روح بن صلاح، وثقة ابن حبان والحاكم وفيه ضعف، وبقية رجاله رجال الصحيح).
قلت: ومن طريق الطبراني رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء" (3/121) وإسناده عندهما ضعيف، لأن روح بن صلاح الذي في إسناده قد تفرد به، كما قال أبو نعيم نفسه، وروح ضعفه ابن عدي، وقال ابن يونس: رويت عنه مناكير، وقال الدارقطني (ضعيف في الحديث) وقال ابن ماكولا: (ضعفوه) وقال ابن عدي بعد أن أخرج له حديثين: (له أحاديث كثيرة، في بعضها نكرة) فقد اتفقوا على تضعيفه فكان حديثه منكراً لتفرده به.
وقد ذهب بعضهم إلى تقوية هذا الحديث لتوثيق ابن حبان والحاكم لروح هذا، ولكن ذلك لا ينفعهم، لما عرفا به من التساهل في التوثيق، فقولهما عند التعارض لا يقام له وزن حتى
لو كان الجرح مبهماً، فكيف مع بيانه كما هي الحال هنا، وقد فصلت الكلام على ضعف هذا الحديث في "السلسلة الضعيفة" (23) فلا نعيد الكلام عليه في هذه العجالة، ولكن المشار إليهم جاؤوا بما يضحك فقالوا: (حكم عليه الشيخ ناصر بالضعف، فنطالبه بمن
ضعف هذا الحديث من المحدثين).
قلت: قد ذكرنا من ضعف رواية روح بن صلاح الذي تفرد به، وهذا يستلزم ضعف حديثه كما لا يخفى إلا عند المتابعة وقد نفاها أبو نعيم، أو عند مجيئه من طريق آخر وهيهات!
ثم قالوا: (ولو فرض تضعيفه، فضعفه خفيف فلا يمنع جواز العمل، لأنه من باب ما جوزه المحدثون والفقهاء من العمل بالضعيف الذي ليس ضعفه بشديد في الترغيب والترهيب).(33/77)
قلت: ليس في هذا الحديث شيء من الترغيب، ولا هو يبين فضل عمل ثابت في الشرع، إنما هو ينقل أمراً دائراً بين أن يكون جائزاً أو غير جائز، فهو إذن يقرر حكماً شرعياً لو صح، وأنتم إنما توردونه من الأدلة على جواز هذا التوسل المختلف فيه، فإذا سلمتم بضعفه لم يجز لكم الاستدلال به، وما أتصور عاقلا يوافقكم على إدخال هذا الحديث في باب الترغيب والترهيب، وهذا شأن من يفر من الخضوع للحق، يقول ما لا يقوله جميع العقلاء.
الحديث الخامس:
عن أمية بن عبد الله بن خالد بن أسيد قال: { كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستفتح بصعاليك المهاجرين } .
فيرى المخالفون أن هذا الحديث يفيد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يطلب من الله تعالى أن ينصره، ويفتح عليه بالضعفاء المساكين من المهاجرين، وهذا – بزعمهم – هو التوسل المختلف فيه نفسه.
والجواب من وجهين:
الأول: ضعف الحديث، فقد أخرجه الطبراني في "المعجم الكبير" (1/81/2): حدثنا محمد بن إسحاق بن راهويه حدثنا أبي حدثنا عيسى بن يونس حدثني أبي عن أبيه عن أميه به.
وحدثنا عبد الله بن محمد بن عبد العزيز البغوي بن عبيد الله بن عمر القواريري حدثنا يحيى بن سعيد عن سفيان عن أبي إسحاق عن أمية بن خالد به. ثم رواه من طريق قيس بن الربيع عن أبي إسحاق عن المهلب بن أبي صفرة عن أمية بن خالد مرفوعاً بلفظ:
{ ... يستفتح ويستنصر بصعاليك المسلمين } .
قلت: مداره على أمية هذا، ولم تثبت صحبته، فالحديث مرسل ضعيف، وقال
ابن عبد البر في "الاستيعاب" (1/38): (لا تصح عندي صحبته، والحديث مرسل)
وقال الحافظ في "الإصابة" (1/133): (ليست له صحبة ولا رواية).
قلت: وفيه علة أخرى، وهي اختلاط أبي اسحاق وعنعنته، فإنه كان مدلساً، إلا أن سفيان سمع منه قبل الاختلاط، فبقيت العلة الأخرى وهي العنعنة.
فثبت بذلك ضعف الحديث وأنه لا تقوم به حجة. وهذا هو الجواب الأول.(33/78)
الثاني: أن الحديث لو صح فلا يدل إلا على مثل ما دل عليه حديث عمر، وحديث الأعمى من التوسل بدعاء الصالحين.قال المناوي في "فيض القدير": { كان يستفتح } أي يفتتح القتال، من قوله تعالى: { إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح } ذكره الزمخشري.
{ ويستنصر } أي يطلب النصرة { بصعاليك المسلمين } أي بدعاء فقرائهم الذين
لا مال لهم.
قلت: وقد جاء هذا التفسير من حديثه، اخرجه النسائي (2/15) بلفظ: { إنما ينصر الله هذه الأمة بضعيفها، بدعوتهم، وصلاتهم وإخلاصهم } وسنده صحيح، وأصله في "صحيح البخاري" (6/67)، فقد بين الحديث أن الاستنصار إنما يكون بدعاء الصالحين،
لا بذواتهم وجاههم.
ومما يؤكد ذلك أن الحديث ورد في رواية قيس بن الربيع المتقدمة بلفظ: { كان يستفتح ويستنصر... } فقد علمنا بهذا أن الاستنصار بالصالحين يكون بدعائهم وصلاتهم وإخلاصهم، وهكذا الاستفتاح، وبهذا يكون هذا الحديث – إن صح – دليلاً على التوسل المشروع، وحجة على التوسل المبتدع، والحمد لله.
الحديث السادس:
عن عمر بن الخطاب مرفوعاً: { لما اقترف آدم الخطيئة قال: يا رب أسألك بحق محمد لما غفرت لي، فقال: يا آدم ! وكيف عرفت محمداً ولم أخلقه؟ قال: يا رب لما خلقتني بيدك، ونفخت في من روحك رفعت رأسي، فرأيت على قوائم العرش مكتوباً: لا إله إلا الله محمد رسول الله، فعلمت أنك لم تضِف إلى اسمك إلا أحب الخلق إليك، فقال: غفرت لك، ولولا محمد ما خلقتُك } .
أخرجه الحاكم في "المستدرك" (2/615) من طريق أبي الحارث عبد الله بن مسلم الفهري: حدثنا إسماعيل بن مسلمة: أنبأ عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه عن جده عن عمر. وقال: (صحيح الإسناد وهو أول حديث ذكرته لعبد الرحمن بن زيد بن أسلم في هذا الكتاب).
فتعقبه الذهبي فقال: (قلت: بل موضوع، وعبد الرحمن واهٍ، وعبد الله بن أسلم الفهري(33/79)
لا أدري من ذا) قلت: ومن تناقض الحاكم في "المستدرك" نفسه أنه أورد فيه (3/332) حديثاً آخر لعبد الرحمن هذا ولم يصححه، بل قال: (والشيخان لم يحتجا بعبد الرحمن بن زيد!).
قلت: والفهري هذا أورده الذهبي في "الميزان" وساق له هذا الحديث وقال: (خبر
باطل)، وكذا قال الحافظ ابن حجر في "اللسان" (3/360) وزاد عليه قوله في الفهري هذا: (لا أستبعد أن يكون هو الذي قبله فإنه من طبقته) قلت: والذي قبله هو عبد الله بن مسلم بن رُشيد، قال الحافظ: ذكره ابن حبان، منهم بوضع الحديث، يضع على ليث ومالك وابن لهيعة، لا يحل كتب حديثه، وهو الذي روى عن ابن هدية نسخة كأنها معمولة).
قلت: والحديث رواه الطبراني في "المعجم الصغير" (ص207): ثنا محمد بن داود بن أسلم الصدفي المصري: ثنا أحمد ابن سعيد المدني الفهري: ثنا عبد الله بن إسماعيل المدني عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم به. وهذا سند مظلم فإن كل من دون عبد الرحمن لا يعرفون، وقد أشار إلى ذلك الحافظ الهيثمي حيث قال في "مجمع الزوائد" (8/253): (رواه الطبراني في الأوسط والصغير وفيه من لم أعرفهم).
قلت: وهذا إعلال قاصر، يوهم من لا علم عنده أن ليس فيهم من هو معروف بالطعن فيه، وليس كذلك فإن مداره على عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وقال البيهقي: (إنه تفرد به) وهو متهم بالوضع، رماه بذلك الحاكم نفسه، ولذلك أنكر العلماء عليه تصحيحه لحديثه، ونسبوه إلى الخطأ والتناقض، فقال (وراث علم الصحابة والتابعين والأئمة المتبوعين
شيخ الإسلام ابن تيمية)(1) رحمه الله في "القاعدة الجليلة" (ص89): (ورواية الحاكم لهذا الحديث مما أنكر عليه، فإنه نفسه قد قال في كتاب "المدخل إلى معرفة الصحيح من السقيم":
__________
(1) : من كلام العلامة الشيخ محب الدين الخطيب في مقدمته للقاعدة الجليلة.(33/80)
(عبد الرحمن بن زيد بن أسلم روى عن أبيه أحاديث موضوعة، لا تخفى على من تأملها من أهل الصنعة أن الحمل فيها عليه)(1). قلت: وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ضعيف باتفاقهم يغلط كثيراً (2)، ضعفه أحمد بن حنبل وأبو زرعة وأبو حاتم والنسائي والدارقطني، وغيرهم. وقال ابن حبان: (كان يقلب الأخبار وهو لا يعلم حتى كثر ذلك من روايته من رفع المراسيل، وإسناد الموقوف، فاستحق الترك).
وأما تصحيح الحاكم لمثل هذا الحديث وأمثاله فهذا مما أنكره عليه أئمة العلم بالحديث، وقالوا: إن الحاكم يصحح أحاديث موضوعة مكذوبة عند أهل المعرفة بالحديث. ولهذا كان أهل العلم بالحديث لا يعتمدون على مجرد تصحيح الحاكم).
قلت: وقد أورد الحاكم نفسه عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في كتابه "الضعفاء" كما سماه
العلامة ابن عبد الهادي، وقال في آخره: (فهؤلاء الذين قدمت ذكرهم قد ظهر عندي
جرحهم، لأن الجرح لا يثبت إلا ببينة، فهم الذين أبين جرحهم لمن طالبني به، فإن الجرح
لا أستحله تقليداً، والذي أختاره لطالب هذا الشأن أن لا يكتب حديث واحد من هؤلاء
الذين سميتهم، فالراوي لحديثهم داخل في قوله - صلى الله عليه وسلم -: { من حدث بحديث وهو يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبَيْن } (3).
قلت: فمن تأمل في كلام الحاكم هذا والذي قبله يتبن له بوضوح أن حديث عبد الرحمن بن زيد هذا موضوع عند الحاكم نفسه، وأن من يرويه بعد العلم بحاله فهو أحد الكاذبَيْن.
__________
(1) : نقل هذا الكلام عن الحاكم وابن حبان أيضاً الحافظ ابن عبد الهادي في "الصارم المنكي" (ص29) والحافظ ابن حجر في "التهذيب".
(2) : هذا نص من شيخ الإسلام على أن كلمة "يغلط كثيراً" صيغة جرح لا تعديل، ولا يخفى أنه لا فرق بينها وبين كلمة "يخطىء كثيراً" التي وصف الحافظ بها عطية العوفي كما سبق.
(3) : أخرجه مسلم (1/7) وابن حبان في "صحيحه" (1/27) من حديث سمرة بن جندب، ومسلم من حديث المغيرة بن شعبة، وقال: (هو حديث مشهور).(33/81)
وقد اتفق عند التحقيق كلام الحفاظ ابن تيمية والذهبي والعسقلاني على بطلان هذا الحديث، وتبعهم على ذلك غير واحد من المحققين كالحافظ ابن عبد الهادي كما سيأتي،
فلا يجوز لمن كان يؤمن بالله واليوم الآخر أن يصحح الحديث بعد اتفاق هؤلاء على وضعه تقليداً للحاكم في أحد قوليه، مع اختياره في قوله الآخر لطالب العلم أن لا يكتب حديث
عبد الرحمن هذا، وأنه إن فعل كان أحد الكاذبين كما سبق.
(تنبيه): إذا عرفت هذا فقول بعض المشايخ: (إن حكم الشيخ ناصر على الحديث بأنه "كذب وموضوع" باطل لأن مستنده قول الذهبي إنه موضوع) باطل حقاً لأن الذهبي قد وافقه من ذكرنا من الحفاظ الأعلام، ثم قالوا: (ومستند الذهبي ما في إسناد الحاكم من رجل قيل فيه إنه متهم). قلت: (هذا باطل أيضاً، لأن الرجل المشار إليه وهو عبد الله بن مسلم الفهري جهله الذهبي ولم يتهمه كما تقدم نقله عنه، وما أظن هذا يخفى عليهم ولكنهم تجاهلوه لغرض في أنفسهم، وهو أن يتسنى لهم أن يقولوا عقب ذلك: (لكن للحديث إسناد آخر عند الطبراني ليس فيه هذا المتهم، وغاية ما فيه أن فيه من هو غير معروف)، قلت: بل فيه ثلاثة لا يعرفون، وإذا كانوا لا يعلمون ذلك فلماذا عدلوا عن تقليد الهيثمي في قوله: (وفيه من
لم أعرفهم) كما سبق، وهو هلكى وراء التقليد، إلى قولهم: (فيه من هو غير معروف)؟! السبب في ذلك أن قول الهيثمي نص على أن (من هو غير معروف) جماعة، وأما قولهم فليس نصاً على ذلك، بل هذا يقال إذا كان في السند شخص لا يعرف أو أكثر، فهو في الحقيقة من تلبيساتهم على القراء. نعوذ بالله من الخذلان. ثم قالوا عطفاً على ما سبق: (وإن فيه
عبد الرحمن بن زيد وهو على الراجح عند الحافظ ابن حجر ممن يقال فيه ضعيف، وهذه الكلمة من أخف مراتب التضعيف) أقول: لكن الراجح عند غير الحافظ أنه أشد ضعفاً من ذلك، فقد قال فيه أبو نعيم: (روى عن أبيه أحاديث موضوعة). وكذا قال الحاكم نفسه(33/82)
كما سبق، وهو وكذا أبو نعيم من المعروفين بتساهلهم في التوثيق، فإذا جرحا فإنما ذلك بعد ان ظهر لهما ان عبد الرحمن مجروح حقاً، ولذلك اتفقوا على تضعيفه كما نص في كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، بل ضعّفه جداً علي بن المديني وابن سعد وغيرهما، وقال الطحاوي: (حديثه عند أهل العلم بالحديث في النهاية من الضعف) فهو معروف بالضعف الشديد منذ القديم، فما الذي حمل المخالفين على الإعراض عن هذه الأقوال المتضافرة على أن عبد الرحمن هذا ضعيف جداً – إن لم يكن كذاباً – إلى التمسك بقول الحافظ فيه (ضعيف) ؟! أقول هذا مع احتمال أن يكون سقط من قلم الحافظ أو قلم بعض النساخ عقب قوله (ضعيف) لفظة (جداً) وعلى كل حال فإن تقليدهم للحافظ في هذه الكلمة
لا يفيدهم شيئاً، بعد أن حكم هو على الحديث بأنه (خبر باطل) كما سبق نقله عن "لسانه"! فهذا من الأدلة الكثيرة على أن هؤلاء أتباع هوى، وليسوا طلاب حق، وإلا لأخذوا بقول الحافظ هذ الموافق لقول الذهبي وغيره من المحققين، ولم يعرجوا على تضعيفه فقط
لعبد الرحمن، ليعارضوا به الذهبي، ويدلسوا على الناس أمر الحديث، ويظهروه بمظهر الأحاديث التي اختلف فيها العلماء حتى يتسنى لهم ابتداع رأي جديد حول الحديث يتلاءم مع قول أحد الحفاظ في احد رواته ! فانظر اليهم كيف قالوا عقب ما سبق: (فما كان حاله هكذا عند المحدثين فليس من الموضوع، ولا من الضعيف الشديد، بل هو من القسم الذي يعمل به في الفضائل) !(33/83)
أقول: وهذا كلام ساقط من وجهين: الأول: أنه مبني على أن عبد الرحمن ضعيف فقط وليس كذلك بل هو ضعيف جداً كما سبق، وسيأتي التصريح بذلك عن أحد الحفاظ النقاد. الثاني: أنه معارض لحكم الحافظ بل الحفاظ على الحديث بالبطلان كما سبق، فكيف جاز لهم مخالفتهم لا سيما قد صرح أحدهم في "التعقيب الحثيث" (21) (أنه ليس له صفة التصحيح والتضعيف)! فلعله قال ذلك تواضعاً ! وإلا فأنت تراه هنا قد أعطى لنفسه منزلة تسوغ له الاستقلال في البحث ولو أدى إلى مخالفة كل أولئك الحفاظ والنقاد ! ويؤيد هذا الذي نقوله فيه انه قال عطفاً على ما سبق: (فنحن في هذا الحديث مع من لم ير به ذلك (يعني الوضع) كالحاكم والحافظ السبكي، فليس علينا فيه افتيات على الحافظ الذهبي، لكن رأينا ما عليه الحافظان المذكوران أقرب إلى الصواب).(33/84)
أقول: ولا يخفى ما في هذا الكلام من التلبيس والتدليس فإن الحاكم إنما ذهب في "المستدرك" إلى تصحيح الحديث كما سبق، والسبكي قلده في ذلك كما بينه الحافظ ابن عبدالهادي فقال في رده عليه في "الصارم المنكي" (ص32): (وإني لاتعجب منه كيف قلد الحاكم في تصحيحه مع أنه حديث غير صحيح ولا ثابت، بل هو حديث ضعيف الإسناد جداً، وقد حكم عليه بعض الأئمة بالوضع، وليس إسناده من الحاكم إلى عبد الرحمن بن زيد بصحيح بل مفتعل على عبد الرحمن كما سنبينه، ولو كان صحيحاً إلى عبد الرحمن لكان ضعيفاً غير محتج به، لأن عبد الرحمن في طريقه، وقد أخطأ الحاكم وتناقض تناقضاً فاحشاً كما عرف له ذلك في مواضيع، فإنه قال في كتاب "الضعفاء"، بعد أن ذكر عبد الرحمن منهم) وذكر ما نقلته عنه فيما سبق (ص86-87): (فانظر إلى ما وقع للحاكم في هذا الموضع من الخطأ العظيم والتناقض الفاحش، ثم إن هذا المعترض المخذول عمد إلى هذا الذي اخطأ فيه الحاكم وتناقض، فقلده فيه، واعتمد عليه، فقال " ونحن قد اعتمدنا في تصحيحه على الحاكم"، وذكر قبل ذلك بقليل أنه مما تبين له صحته. فانظر يرحمك الله إلى هذا الخذلان البين والخطأ الفاحش ! كيف جاء هذا المعترض إلى حديث غير صحيح ولا ثابت، بل هو حديث موضوع، فصححه واعتمد عليه، وقلد في ذلك الحاكم مع ظهور خطئه وتناقضه، مع معرفة هذا المعترض بضعف راويه وجرحه واطلاعه على الكلام المشهور فيه).(33/85)
أقول: هذا شأن السبكي رحمه الله تعالى في هذا الحديث، وتقليد الحاكم في تصحيحه، وهذا مع كونه خطأ في نفسه كما سبق بيانه فهو خلاف رأي المشار إليه سابقاً الذي صرح بأن الحديث ضعيف لا صحيح ولا موضوع، فقد خالف – هو ومن قلده وناصره – الحاكم والسبكي كما خالفوا من سبق ذكرهم من العلماء الفحول الذين قالوا بوضع الحديث أو بطلانه، فليس افتئاتهم على الذهبي فقط، بل وعلى من وافقه وخالفه جميعاً ! فليتأمل العاقل ما يفعل الهوى بصاحبه ! لقد أرادوا أن ينزهوا أنفسهم عن الافتئات على الذهبي، وإذا بهم يقولون بما هو أدهى وأمر من الافتئات على من ذكرنا من العلماء !
ومن مغالطاتهم المكشوفة عند أهل العلم قولهم في أثناء كلامهم السابق بعد أن أشاروا إلى طريق الطبراني الذي سبق الكلام عليه: (فالذهبي لم يطلع على هذا الطريق، وإلا لو اطلع عليه لم يقل ذلك).
أقول: وهذا كلام باطل، إذ أن الذهبي حكم على الحديث بالوضع والبطلان من طريق الحاكم، وفيه عبد الرحمن بن زيد ورجل آخر لا يعرفه، كما سبق بيانه في أول هذا التنبيه، وطريق الطبراني فيه علاوة على عبد الرحمن هذا ثلاث رجال آخرون لا يعرفون كما سبق أيضاً، فكيف يصح أن يقال حينئذ: (إن الذهبي لو اطلع على هذا الطريق لم يقل بذلك)؟!
اللهم إن هذه مغالطة ومكابرة مكشوفة أو جهل مركب، فرحمتك اللهم وهداك !
لقد تبين للقراء الكرام مما سلف أن للحديث علتين:
الأولى: عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وأنه ضعيف جداً.
الثانية: جهالة الإسناد إلى عبد الرحمن.
وللحديث عندي علة أخرى. وهي اضطراب عبد الرحمن أو من دونه في إسناده، فتارة كان يرفعه كما مضى، وتارة كان يرويه موقوفاً على عمر، لا يرفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، كما رواه
أبو بكر الآجري في كتاب "الشريعة" (ص427) من طريق عبد الله ابن اسماعيل بن أبي مريم
عن عبد الرحمن بن زيد به، وعبد الله هذا لم أعرفه أيضاً، فلا يصح عن عمر مرفوعاً(33/86)
ولا موقوفاً، ثم رواه الآجري من طريق آخر عن عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه أنه قال: من الكلمات التي تاب الله بها على آدم قال: اللهم أسألك بحق محمد عليك.. الحديث نحوه مختصراً، وهذا مع إرساله ووقفه، فإن إسناده إلى ابن أبي الزناد ضعيف جداً، وفيه عثمان بن خالد والد أبي مروان العثماني، قال النسائي: (ليس بثقة).
وعلى هذا فلا يبعد أن يكون أصل هذا الحديث من الإسرائليات التي تسربت إلى المسلمين من بعض مسلمة أهل الكتاب أو غير مسلمتهم. أو عن كتبهم التي لا يوثق بها، لما طرأ عليها من التحريف والتبديل كما بينه شيخ الإسلام في كتبه، ثم رفعه بعض هؤلاء الضعفاء إلى
النبي - صلى الله عليه وسلم - خطأ أو عمداً.
مخالفة هذا الحديث للقرآن:
ومما يؤيد ما ذهب إليه العلماء من وضع هذا الحديث وبطلانه أنه يخالف القرآن الكريم في موضعين منه:
الأول: أنه تضمن أن الله تعالى غفر لآدم بسبب توسله به - صلى الله عليه وسلم -، والله عز وجل يقول:
{ فتلقى آدم من ربه كلمات، فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم } . وقد جاء تفسير هذه الكلمات عن ترجمان القرآن ابن عباس رضي الله عنهما مما يخالف هذا الحديث، فأخرج الحاكم (3/545) عنه: { فتلقى آدم من ربه كلمات } قال: أي رب ! ألم تخلقني بيدك؟
قال: بلى. قال: ألم تنفخ فيَّ من روحك؟ قال:بلى. قال: أي رب ! ألم تسكنّي جنتك؟ قال: بلى. قال: ألم تسبق رحمتك غضبك؟ قال: بلى. قالت: أرأيت إن تبتُ وأصلحت، أراجعي أنت إلى الجنة؟ قال: بلى. قال: فهو قوله: { فتلقى آدم من ربه كلمات } وقال الحاكم: (صحيح الإسناد) ووافقه الذهبي، وهو كما قالا.
قلت: وقول ابن عباس هذا في حكم المرفوع من وجهين:
الأول: أنه أمر غيبي لا يقال من مجرد الرأي.
الثاني: أنه ورد في تفسير الآية، وما كان كذلك فهو في حكم المرفوع كما تقرر في محله،(33/87)
ولا سيما إذا كان من قول إمام المفسرين عبد الله بن عباس رضي الله عنهما الذي دعا له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقوله: { اللهم فقهه في الدين، وعلمه التأويل } .
وقد قيل في تفسير هذه الكلمات: إنها ما في الآية الاخرى { قالا: ربنا ظلمنا أنفسنا، وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين } .وبهذا جزم السيد رشيد رضا في "تفسيره"
(1/279). لكن أشار ابن كثير (1/81) إلى تضعيفه، ولا منافاة عندي بين القولين،
بل أحدهم يتمم الآخر، فحديث ابن عباس لم يتعرض لبيان ما قاله آدم عليه السلام بعد أن تلقى من ربه تلك الكلمات وهذا القول يبين ذلك، فلا منافاة والحمد لله، وثبت مخالفة الحديث للقرآن، فكان باطلاً.
الموضع الثاني: قوله في آخره: { ولولا محمد ما خلقتك } فإن هذا أمر عظيم يتعلق بالعقائد التي لا تثبت إلا بنص متواتر اتفاقاً، أو صحيح عند آخرين، ولو كان ذلك صحيحاً لورد في الكتاب والسنة الصحيحة، وافتراض صحته في الواقع مع ضياع النص الذي تقوم به الحجة ينافي قوله تبارك وتعالى: { إنا نحن نزلنا الذكر، وإنا له لحافظون } . والذكر هنا يشمل الشريعة كلها قرآناً وسنة، كما قرره ابن حزم في "الإحكام" وأيضاً فإن الله تبارك وتعالى قد أخبرنا عن الحكمة التي من أجلها خلق آدم وذريته، فقال عز وجل: { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } ، فكل ما خالف هذه الحكمة أو زاد عليها لا يقبل إلا بنص صحيح عن المعصوم - صلى الله عليه وسلم - كمخالفة هذا الحديث الباطل. ومثله ما اشتهر على ألسنة الناس: { لولاك لولاك ما خلقت الأفلاك } فإنه موضوع كما قاله الصنعاني ووافقه الشوكاني في "الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة" (ص116). ومن الطرائف أن المتنبي ميرزا غلام أحمد القادياني سرق هذا الحديث الموضوع فادعى أن الله خاطبه بقوله: (لولاك لما خلقت(33/88)
الافلاك) !! وهذا شيء يعترف به أتباعه القاديانيون هنا في دمشق وغيرها، لوروده في كتاب متنبئهم "حقيقة الوحي" (ص99).
ثم على افتراض أن هذا الحديث ضعيف فقط كما يزعم بعض المخالفين خلافاً لمن سبق ذكرهم من العلماء والحفاظ، فلا يجوز الاستدلال به على مشروعية التوسل المختلف فيه، لأن – على قولهم – عبادة مشروعة، وأقل أحوال العبادة أن تكون مستحبة، والاستحباب حكم شرعي من الأحكام الخمسة التي لا تثبت إلا بنص صحيح تقوم به الحجة، فإذا الحديث عنده ضعيف، فلا حجة فيه البتة، وهذا بين لا يخفى إن شاء الله تعالى.
الحديث السابع { توسلوا بجاهي فإن جاهي عند الله عظيم } :
وبعضهم يرويه بلفظ: { إذا سألتم الله فاسألوه بجاهي، فإن جاهي عند الله عظيم } .
هذا باطل لا أصل له في شيء من كتب الحديث البتة، وإنما يرويه بعض الجهال بالسنة
كما نبَّه على ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في "القاعدة الجليلة" (ص132، 150) قال: (مع أن جاهه - صلى الله عليه وسلم - عند الله أعظم من جاه جميع الأنبياء والمرسلين، ولكن جاه المخلوق عند الخالق ليس كجاه المخلوق عند المخلوق فإنه لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه، والمخلوق يشفع عند المخلوق بغير إذنه، فهو شريك له في حصول المطلوب، والله تعالى لا شريك له
كما قال سبحانه: { قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض، وما لهم فيهما من شرك، وما له منهم من ظهير، ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له } ]سورة سبأ: 22-23[.(33/89)
فلا يلزم إذن من كون جاهه - صلى الله عليه وسلم - عند ربه عظيماً، أن نتوسل به إلى الله تعالى لعدم ثبوت الأمر به عنه - صلى الله عليه وسلم -، ويوضح ذلك أن الركوع والسجود من مظاهر التعظيم فيما اصطلح عليه الناس، فقد كانوا وما يزال بعضهم يقومون ويركعون ويسجدون لمليكهم ورئيسهم والمعظم لديهم، ومن المتفق عليه بين المسلمين أن محمداً - صلى الله عليه وسلم - هو أعظم الناس لديهم، وأرفعهم عندهم. ترى فهل يجوز لهم أن يقوموا ويركعوا ويسجدوا له في حياته وبعد مماته؟
الجواب: إنه لا بد لمن يجوز ذلك، من أن يثبت وروده في الشرع، وقد نظرنا فوجدنا أن السجود والركوع لا يجوزان إلا له سبحانه وتعالى، وقد نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يسجد أو يركع أحد لأحد، كما أننا رأينا في السنة كراهية النبي - صلى الله عليه وسلم - للقيام، فدل ذلك على عدم مشروعيته.
ترى فهل يستطيع أحد أن يقول عنا حين نمنع السجود لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إننا ننكر جاهه - صلى الله عليه وسلم - وقدره؟ كلا ثم كلا.
فظهر من هذا بجلاء إن شاء الله تعالى أنه لا تلازم بين ثبوت جاه النبي - صلى الله عليه وسلم - وبين تعظيمه بالتوسل بجاهه ما دام أنه لم يرد في الشرع.
هذا، وإن من جاهه - صلى الله عليه وسلم - أنه يجب علينا اتباعه وإطاعته كما يجب إطاعة ربه، وقد ثبت
عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: { ما تركت شيئاً يقربكم إلى الله إلا أمرتكم به } فإذا لم يأمرنا بهذا التوسل ولو أمرَ استحباب فليس عبادة، فيجب علينا اتباعه في ذلك وأن ندع العواطف جانباً، ولا نفسح لها المجال حتى ندخل في دين الله ما ليس منه بدعوى حبه - صلى الله عليه وسلم -، فالحب الصادق إنما هو بالاتبْاع، وليس بابتداع كما قال عز وجل: { قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله } ومنه قول الشاعر:
تعصى الإله وأنت تظهر حبه هذا لعمرك في القياس بديع(33/90)
لو كان حبك صادقاً لأطعته إن المحب لمن يحب مطيع
أثران ضعيفان:
1 – أثر الاستسقاء بالرسول - صلى الله عليه وسلم - بعد وفاته:
وبعد أن فرغنا من إيراد الأحاديث الضعيفة في التوسل، وتحقيق القول فيها يحسن بنا أن نورد أثراً، كثيراً ما يورده المجيزون لهذا التوسل المبتدع، لنبين حاله من صحة او ضعف، وهل له علاقة بما نحن فيه أم لا؟
فأقول: قال الحافظ في "الفتح" (2/397) ما نصه: (وروى ابن أبي شيبة بإسناد صحيح من رواية أبي صالح السمان عن مالك الدار – وكان خازن عمر – قال: أصاب الناس قحط في زمن عمر، فجاء رجل إلى قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله ! استسق لأمتك، فإنهم
قد هلكوا، فأتي الرجلُ في المنام، فقيل له: ائت عمر.. الحديث. وقد روى سيف في "الفتوح" أن الذي رأى المنام المذكور هو بلال بن الحارث المزني أحد الصحابة).
قلت: والجواب من وجوه:
الأول: عدم التسليم بصحة هذه القصة، لأن مالك الدار غير معروف العدالة والضبط، وهذان شرطان أساسيان في كل سند صحيح كما تقرر في علم المصطلح، وقد أورده
ابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل" (4/213) ولم يذكر راوياً عنه غير أبي صالح هذا، ففيه إشعار بأنه مجهول، ويؤيده أن ابن أبي حاتم نفسه – مع سعة حفظه واطلاعه – لم يحك فيه توثيقاً فبقي على الجهالة، ولا ينافي هذا قول الحافظ: (...بإسناد صحيح من رواية أبي صالح السمان...) لأننا نقول: إنه ليس نصاً في تصحيح جميع السند بل إلى أبي صالح فقط، ولولا ذلك لما ابتدأ هو الإسنادَ من عند أبي صالح، ولقال رأساً: (عن مالك الدار... وإسناده صحيح) ولكنه تعمد ذلك، ليلفت النظر إلى أن ها هنا شيئاً ينبغي النظر فيه، والعلماء إنما يفعلون ذلك لأسباب منها: أنهم قد لا يحضرهم ترجمة بعض الرواة، فلا يستجيزون لأنفسهم حذف السند كله، لما فيه من إيهام صحته لاسيما عند الاستدلال به،(33/91)
بل يوردون منه ما فيه موضع للنظر فيه، وهذا هو الذي صنعه الحافظ رحمه الله هنا، وكأنه يشير إلى تفرد أبي صالح السمان عن مالك الدار كما سبق نقله عن ابن أبي حاتم، وهو يحيل بذلك إلى وجوب التثبت من حال مالك هذا أو يشير إلى جهالته. والله أعلم.
وهذا علم دقيق لا يعرفه إلا من مارس هذه الصناعة، ويؤيد ما ذهبت اليه أن الحافظ المنذري أورد في "الترغيب" (2/41-42) قصة أخرى من رواية مالك الدار عن عمر ثم قال: (رواه الطبراني في "الكبير"، ورواته إلى مالك الدار ثقات مشهورون، ومالك الدار
لا أعرفه). وكذا قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (3/125).
وقد غفل عن هذا التحقيق صاحب كتاب "التوصل" (ص241) فاغتر بظاهر كلام الحافظ، وصرح بأن الحديث صحيح، وتخلص منه بقوله: (فليس فيه سوى: جاء رجل..) واعتمد على أن الرواية التي فيها تسمية الرجل ببلال بن الحارث فيها سيف، وقد عرفت حاله.
وهذا لا فائدة كبرى فيه، بل الأثر ضعيف من أصله لجهالة مالك الدار كما بيناه.
الثاني: أنها مخالفة لما ثبت في الشرع من استحباب إقامة صلاة الاستسقاء لاستنزال الغيث من السماء، كما ورد ذلك في أحاديث كثيرة، وأخذ به جماهير الأئمة، بل هي مخالفة لما أفادته الآية من الدعاء والاستغفار، وهي قوله تعالى في سورة نوح: { فقلت: استغفروا ربكم إنه كان غفاراً، يرسل السماء عليكم مدراراً.. } وهذا ما فعله عمر بن الخطاب حين استسقى وتوسل بدعاء العباس كما سبق بيانه، وهكذا كانت عادة السلف الصالح كلما أصابهم القحط أن يصلوا ويدعوا، ولم ينقل عن أحد منهم مطلقاً أنه التجأ إلى قبر النبي - صلى الله عليه وسلم -، وطلب منه الدعاء للسقيا، ولو كان ذلك مشروعاً لفعلوه ولو مرة واحدة، فإذا لم يفعلوه دل ذلك على عدم مشروعية ما جاء في القصة.(33/92)
الثالث: هب أن القصة صحيحة، فلا حجة فيها، لأن مدارها على رجل لم يسم، فهو مجهول أيضاً، وتسميته بلالاً في رواية سيف لا يساوي شيئاً، لأن سيفاً هذا – وهوابن عمر التميمي – متفق على ضعفه عند المحدثين، بل قال ابن حبان فيه: (يروي الموضوعات عن الأثبات، وقالوا: إنه كان يضع الحديث). فمن كان هذا شأنه لا تقبل روايته ولا كرامة،
لا سيما عند المخالفة.
(تنبيه): سيف هذا يرد ذكره كثيراً في تاريخ ابن جرير وابن كثير وغيرهما، فينبغي على المشتغلين بعلم التاريخ أن لا يغفلوا عن حقيقة أمره حتى لا يعطوا الروايات ما لا تستحق من المنزلة.
ومثله لوط بن يحيى أو مخنف قال الذهبي في "الميزان" (أخباري تالف لا يوثق به، تركه
أبو حاتم وغيره. وقال الدارقطني: ضعيف، وقال يحيى بن معين: ليس بثقة، وقال ابن عدي: شيعي محترق صاحب أخبارهم).
ومثله محمد بن عمر المعروف بالواقدي – شيخ ابن سعد صاحب "الطبقات" الذي يكثر الرواية عنه – وقد اغتر به الدكتور البوطي، فروى أخباراً كثيرة في "فقه السيرة" من طريقه مع أنه تعهد بأن ينقل عن الصحاح، وما صح من السيرة! والواقدي هذا متروك الحديث أيضاً كما قال علماء الحديث، فتأمل.
الفرق بين التوسل بذات النبي - صلى الله عليه وسلم - وبين طلب الدعاء منه:(33/93)
الوجه الرابع: أن هذا الأثر ليس فيه التوسل بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، بل فيه طلب الدعاء منه بأن يستسقي الله تعالى أمته، وهذه مسألة أخرى لا تشملها الأحاديث المتقدمة، ولم يقل بجوازها أحد من علماء السلف الصالح رضي الله عنهم، أعني الطلب منه - صلى الله عليه وسلم - بعد وفاته، قال شيخ الإسلام ابن تيمية في "القاعدة الجليلة" (ص19-20): (لم يكن النبي - صلى الله عليه وسلم - بل ولا أحد من الأنبياء قبله شرعوا للناس أن يدعوا الملائكة والأنبياء والصالحين، ويستشفعوا بهم، لا بعد مماتهم، ولا في مغيبهم، فلا يقول أحد: (يا ملائكة الله اشفعوا لي عند الله، سلو الله لنا أن ينصرنا أو يرزقنا أو يهدينا، وكذلك لا يقول لمن مات من الأنبياء والصالحين: يا نبي الله يا ولي الله (الأصل: رسول الله) ادع الله لي، سل الله لي، سل الله أن يغفر لي...ولا يقول: أشكو إليك ذنوبي أو نقص رزقي أو تسلط العدو علي، أو أشكو إليك فلاناً الذي ظلمني،
ولا يقول: أنا نزيلك، أنا ضيفك، أنا جارك، أو أنت تجير من يستجيرك.
ولا يكتب أحد ورقة ويعلقها عند القبور، ولا يكتب احد محضراً أنه استجار بفلان، ويذهب بالمحضر إلى من يعمل بذلك المحضر ونحو ذلك مما يفعله أهل البدع من أهل الكتاب والمسلمين، كما يفعله النصارى في كنائسهم، وكما يفعله المبتدعون من المسلمين عند قبور الأنبياء والصالحين أو في مغيبهم، فهذا مما علم بالإضطرار من دين الإسلام، وبالنقل المتواتر وبإجماع المسلمين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يشرع هذا لأمته، وكذلك الأنبياء قبله لم يشرعوا شيئاً من ذلك، ولا فعل هذا احد من أصحابه - صلى الله عليه وسلم - والتابعين لهم بإحسان، ولا استحب ذلك أحد(33/94)
من أئمة المسلمين، لا الأئمة الأربعة ولا غيرهم، ولا ذكر أحد من الأئمة لا في مناسك الحج ولا غيرها أنه يستحب لأحد أن يسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عند قبره أن يشفع له أو يدعو لأمته، أو يشكو إليه ما نزل بأمته من مصائب الدنيا والدين، وكان أصحابه يبتلون بأنواع البلاء بعد موته، فتارة بالجدب، وتارة بنقص الرزق، وتارة بالخوف وقوة العدو، وتارة بالذنوب والمعاصي، ولم يكن أحد منهم يأتي إلى قبر الرسول ولا قبر الخليل ولا قبر أحد من الأنبياء فيقول: نشكوا إليك جدب الزمان أو قوة العدو، أ, كثرة الذنوب ولا يقول: سل الله لنا أو لأمتك أن يرزقهم أو ينصرهم أو يغفر لهم، بل هذا وما يشبهه من البدع المحدثة التي لم يستحبها أحد من أئمة المسلمين، فليست واجبة ولا مستحبة باتفاق أئمة المسلمين، وكل بدعة ليست واجبة ولا مستحبة فهي بدعة سيئة وضلالة باتفاق المسلمين(1).
ومن قال في بعض البدع: إنها بدعة حسنة فإنما ذلك إذا قام دليل شرعي على أنها مستحبة، فأما ما ليس بمستحب ولا واجب فلا يقول أحد من المسلمين: إنها من الحسنات التي يتقرب بها إلى الله، ومن تقرب إلى الله بما ليس من الحسنات المأمور بها أمر إيجاب
__________
(1) : يحمل كلام شيخ الإسلام هنا على أحد وجهين: اولهما: ان يكون خاطب المخالفين بما يعتقدون من انقسام البدعة بحسب الاحكام الخمسة، ومنها الوجوب والاستحباب. وثانيهما: ان يكون اراد بالبدعة اللغوية منها، وهي ما حدث بعد النبي - صلى الله عليه وسلم -، ودل عليها الدليل الشرعي. وإنما قلنا هذا لما هو معروف عنه رحمه الله انه يعد البدعة الشرعية كلها ضلالة، وتمام كلامه هنا يدل عليه.(33/95)
ولا استحباب فهو ضال متبع للشيطان، وسبيله من سبيل الشيطان، كما قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: خط لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطاً، وخط خطوطاً عن يمينه وشماله، ثم قال { هذا سبيل الله، وهذه سبل، على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه } ثم قرأ { وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه، ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله } ]الانعام: 53[.
قلت: إنما وقع بعض المتأخرين في هذا الخطأ المبين بسبب قياسهم حياة الأنبياء في البرزخ على حياتهم في الدنيا، وهذا قياس باطل مخالف للكتاب والسنة والواقع، وحسبنا الآن مثالاً على ذلك أن أحداً من المسلمين لا يجيز الصلاة وراء قبورهم، ولا يستطيع أحد مكالمتهم، ولا التحدث اليهم، وغير ذلك من الفوارق التي لا تخفى على عاقل.
الاستغاثة بغير الله تعالى:
ونتج من هذا القياس الفاسد والرأي الكاسد تلك الضلالة الكبرى، والمصيبة العظمى التي وقع فيها كثير من عامة المسلمين وبعض خاصتهم، ألا وهي الاستغاثة بالأنبياء الصالحين من دون الله تعالى في الشدائد والمصائب حتى إنك لتسمع جماعات متعددة عند بعض القبور يستغيثون بأصحابها في أمور مختلفة، كأن هؤلاء الأموات يسمعون ما يقال لهم، ويطلب منهم من الحاجات المختلفة بلغات متباينة، فهم عند المستغيثين بهم يعلمون مختلف لغات الدنيا، ويميزون كل لغة عن الأخرى، ولو كان الكلام بها في آن واحد! وهذا هو الشرك في صفات الله تعالى الذي جهله كثير من الناس، فوقعوا بسببه في هذه الضلالة الكبرى.
ويبطل هذا يرد عليه آيات كثيرة. منها قوله تعالى: { قل ادعوا الذين زعمتم من دونه،
فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلاً } ]سورة الإسراء: الآية 56[. والآيات في هذا(33/96)
الصدد كثيرة، بل قد ألف في بيان ذلك كتب ورسائل عديدة(1). فمن كان في شك من ذلك
فليرجع إليها يظهر له الحق إن شاء الله، ولكني وقفت على نقول لبعض علماء الحنفية رأيت من المفيد إيرادها هنا حتى لا يظن ظان أن ما قلناه لم يذهب إليه أحد من أصحاب المذاهب المعروفة.
قال الشيخ أبو الطيب شمس الحق العظيم آبادي في "التعليق المغني على سنن الدارقطني" (ص520-521): (ومن أقبح المنكرات وأكبر البدعات وأعظم المحدثات ما اعتاده أهل البدع من ذكر الشيخ عبد القادر الجيلاني رحمه الله بقولهم: يا شيخ عبد القادر الجيلاني شيئاً لله، والصلوات المنكوسة إلى بغداد، وغير ذلك مما لا يعد، هؤلاء عبدة غير الله
ما قدروا الله حق قدره، ولم يعلم هؤلاء السفهاء أن الشيخ رحمه الله لا يقدر على جلب نفع لأحد ولا دفع ضر عنه مقدار ذرة، فلم يستغيثون به ولم يطلبون الحوائج منه ؟! أليس الله بكاف عبده ؟!! اللهم إنا نعوذ بك من أن نشرك بك أو نعظم أحداً من خلقك كعظمتك، قال في "البزازية" وغيرها من كتب الفتاوى:"من قال: إن أرواح المشايخ حاضرة تعلم يكفر"(2) وقال الشيخ فخر الدين أبو سعد عثمان الجياني بن سليمان الحنفي في رسالته: "ومن ظن أن الميت يتصرف في الأمور دون الله، واعتقد بذلك كفر. كذا في "البحر الرائق"، وقال القاضي حميد الدين ناكوري الهندي في "التوشيح":"منهم الذين يدعون الأنبياء والأولياء عند الحوائج والمصائب باعتقاد أن أرواحهم حاضرة تسمع النداء وتعلم الحوائج، وذلك شرك قبيح وجهل صريح، قال الله تعالى: { ومن أضل ممن يدعوا من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة، وهم عن دعائهم غافلون } ]سورة الأحقاف: الآية5[، وفي "البحر"(3): لو تزوج بشهادة الله
__________
(1) : منها"قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة" و"الرد على البكري" لشيخ الإسلام ابن تيمية، ومن أجمعها "مجموعة التوحيد النجدية" فعليك بمطالعتها.
(2) : "البحر" (5/134).
(3) : (ج3/ص94).(33/97)
ورسوله لا ينعقد النكاح، ويكفر لاعتقاده أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يعلم الغيب(1)، وهكذا في فتاوى
قاضي خان والعيني والدر المختار والعالمكيرية وغيرها من كتب العلماء الحنفية، وأما في
الآيات الكريمة والسنة المطهرة في إبطال أساس الشرك، والتوبيخ لفاعله فأكثر من أن تحصى، - ولشيخنا العلامة السيد محمد نذير حسين الدهلوي في رد تلك البدعة المنكرة رسالة شافية".
2 – أثر فتح الكوى فوق قبر الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى السماء:
روى الدارمي في "سننه" (1/43): حدثنا أبو النعمان ثنا سعيد ابن زيد ثنا عمرو بن مالك النكري حدثنا أبو الجوزاء أوس بن عبد الله قال: قحَط أهل المدينة قحطاً شديداً، فشكوا إلى عائشة، فقالت: انظروا قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - فاجعلوا منه كوى إلى السماء حتى لا يكون بينه وبين السماء سقف، قال: ففعلوا، فمطرنا مطراً حتى نبت العشب، وسمنت الإبل حتى تفتقت من الشحم، فسمي عام الفتق.
قلت: وهذا سند ضعيف لا تقوم به حجة لأمور ثلاثة:
أولها: أن سعيد بن زيد وهو أخو حماد بن زيد فيه ضعف. قال فيه الحافظ في "التقريب": صدوق له أوهام. وقال الذهبي في "الميزان": (قال يحيى بن سعيد: ضعيف، وقال السعدي: ليس بحجة، يضعفون حديثه، وقال النسائي وغيره: ليس بالقوي، وقال أحمد: ليس به بأس، كان يحيى بن سعيد لا يستمرئه).
وثانيهما: أنه موقوف على عائشة وليس بمرفوع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولو صح لم تكن فيه حجة، لأنه يحتمل أن يكون من قبيل الآراء الاجتهادية لبعض الصحابة، مما يخطئون فيه ويصيبون، ولسنا ملزمين بالعمل بها.
__________
(1) : ومن هذا القبيل ما اعتاده كثير من الناس من الإجابة بقولهم: "الله ورسوله اعلم" ! وما ورد من قول بعض الصحابة ذلك فإنما كان في حال حياته - صلى الله عليه وسلم -، أما في حال وفاته فلا يجوز هذا بحال.(33/98)
وثالثها: أن أبا النعمان هذا هو محمد بن الفضل، يعرف بعارم، وهو وإن كان ثقة فقد اختلط في آخر عمره. وقد أورده الحافظ برهان الدين الحلبي حيث أورده في "المختلطين" من كتابه "المقدمة" وقال (ص391): (والحكم فيهم أنه يقبل حديث من أخذ عنهم قبل الاختلاط ولا يقبل حديث من أخذ عنه قبل الاختلاط أو بعده).
قلت: وهذا الأثر لا يدرى هل سمعه الدارمي منه قبل الاختلاط أو بعده، فهو إذن غير مقبول، فلا يحتج به(1)، وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية في"الرد على البكري"(ص68-74): (وما روي عن عائشة رضي الله عنها من فتح الكوة من قبره إلى السماء، لينزل المطر فليس بصحيح، ولا يثبت إسناده، ومما يبين كذب هذا أنه في مدة حياة عائشة لم يكن للبيت كوة، بل كان باقياً كما كان على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، بعضه مسقوف وبعضه مكشوف، وكانت الشمس تنزل فيه، كما ثبت في "الصحيحين" عن عائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي العصر والشمس في حجرتها، لم يظهر الفيء بعد، ولم تزل الحجرة النبوية كذلك في مسجد الرسول - صلى الله عليه وسلم -.. ومن حينئذ دخلت الحجرة النبوية في المسجد، ثم إنه يُبنى حول حجرة عائشة التي فيها القبر جدار عال، وبعد ذلك جعلت الكوة لينزل منها من ينزل إذا احتيج إلى ذلك لأجل كنس أو تنظيف.وأما وجود الكوة في حياة عائشة فكذب بين لو صح ذلك لكان حجة ودليلاً على أن القوم لم يكونوا يقسمون على الله بمخلوق ولا يتوسلون في دعائهم بميت، ولا يسألون الله به، وإنما فتحوا على القبر لتنزل الرحمة عليه، ولم يكن هناك دعاء يقسمون به عليه، فأين هذا من هذا، والمخلوق إنما ينفع المخلوق بدعائه أو بعمله، فإن الله تعالى يحب أن نتوسل اليه بالإيمان والعمل والصلاة والسلام على نبيه - صلى الله عليه وسلم - ومحبته
__________
(1) : وتغافل عن هذه العلة الشيخ الغماري في "المصباح" (43) كما تغافل عنها من لم يوفق للاصابة، ليوهموا الناس صحة هذا الأثر.(33/99)
وطاعته وموالاته، فهذه هي الأمور التي يحب الله أن نتوسل بها إليه، وإن أريد أن نتوسل إليه بما تُحَبُ ذاته، وإن لم يكن هناك ما يحب الله أن نتوسل به من الإيمان والعمل الصالح، فهذا باطل عقلاً وشرعاً، أما عقلاً فلأنه ليس في كون الشخص المعين محبوباً له ما يوجب كون حاجتي تقضى بالتوسل بذاته إذا لم يكن مني ولا منه سبب تقضى به حاجتي، فإن كان منه دعاء لي أو كان مني إيمان به وطاعة له فلا ريب أن هذه وسيلة، وأما نفس ذاته المحبوبة فأي وسيلة لي منها إذا لم يحصل لي السبب الذي أمرت به فيها.
وأما الشرع فيقال: العبادات كلها مبناها على الاتباع لا على الابتداع، فليس لأحد أن يشرع من الدين ما لم يأذن به الله، فليس لأحد أن يصلي إلى قبره ويقول هو أحق بالصلاة
إليه من الكعبة، وقد ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - في الصحيح أنه قال: { لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا(33/100)
إليها } مع أن طائفة من غلاة العباد يصلون إلى قبور شيوخهم، بل يستدبرون القبلة، ويصلون إلى قبر الشيخ ويقولون: هذه قبلة الخاصة، والكعبة قبلة العامة ! وطائفة أخرى يرون الصلاة عند قبور شيوخهم أفضل من الصلاة في المساجد حتى المسجد الحرام ]والنبوي[ والأقصى. وكثير من الناس يرى أن الدعاء عند قبور الأنبياء والصالحين أفضل منه في المساجد، وهذا كله مما قد علم جميع أهل العلم بديانة الإسلام أنه مناف لشريعة الإسلام. ومن لم يعتصم في هذا الباب وغيره بالكتاب والسنة فقد ضَل وأضل، ووقع في مهواة من التلف. فعلى العبد أن يسلم للشريعة المحمدية الكاملة البيضاء الواضحة، ويسلم أنها جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها، وإذا رأى من العبادات والتقشفات وغيرها التي يظنها حسنة ونافعة ما ليس بمشروع علم أن ضررها راجح على نفعها، ومفسدتها راجحة على مصلحتها، إذ الشارع الحكيم لا يهمل المصالح) ثم قال: (والدعاء من أجل العبادات، فينبغي للإنسان أن يلزم الأدعية المشروعة فإنها معصومة كما يتحرى في سائر عبادته الصور المشروعة، فإن هذا هو الصراط المستقيم.والله تعالى يوفقنا وسائر إخواننا المؤمنين).
"تنبيه": أعلم أن كتاب الدارمي هذا هو على طريقة السنن الأربعة في ترتيب الكتب والأبواب، ولذلك فالصواب إطلاق اسم "السنن" عليه كما فعل فضيلة الشيخ دهمان في طبعته إياه.(33/101)
وقد اشتهر قديماً بـ"مسند الدارمي"، وهذا وهم لا وجه له مطلقاً عند أهل العلم، ومثله تسميته بـ"الصحيح" وهذا أبعد ما يكون عن الصواب، لأن فيه أحاديث مرفوعة كثيرة ضعيفة الأسانيد، وبعضها مرسلات ومعضلات، وفيه آثار موقوفة، وكثير منها ضعيفة كهذا الأثر، فأنَّى له الصحة !! ومثل هذا الخطأ إطلاق لفظ "الصحاح" على السنن الأربعة أيضاً، كما يفعل بعض الدكاترة ! فإن هذا مع منافاته لأسمائها الحقيقية "السنن" فإنها منافية أيضاً لواقع الأمر، فإن فيها أحاديث ضعيفة كثيرة أيضاً، ومنافية أيضاً لصنيع مؤلفيها، فإنهم ينبهون أحياناً على بعض الأحاديث الضعيفة التي وقعت فيها، وبخاصة منهم الإمام الترمذي فإنه واسع الباع في بيان الضعيف الذي في كتابه، كما يعرف ذلك أهل العلم بهذه "السنن". وفي "سنن ابن ماجه" غير ما حديث موضوع فضلاً عن الضعيف، فلا يطلق على هذه "السنن" اسم "الصحاح" إلا جاهل أو مغرض.
الوجه الرابع:
الشبهة الرابعة: قياس الخالق على المخلوقين:(33/102)
يقول المخالفون، إن التوسل بذوات الصالحين وأقدارهم أمر مطلوب وجائز، لأنه مبني على منطق الواقع ومتطلباته، ذلك أن أحدنا إذا كانت له حاجة عند ملك أو وزير أو مسؤول كبير فهو لا يذهب إليه مباشرة، لأنه يشعر أنه ربما لا يلتفت إليه، هذا إذا لم يرده أصلاً، ولذلك كان من الطبيعي إذا أردنا حاجة من كبير فإننا نبحث عمن يعرفه، ويكون مقرباً إليه أثيراً عنده، ونجعله واسطة بيننا وبينه، فإذا فعلنا ذلك استجاب لنا، وقضيت حاجتنا، وهكذا الأمر نفسه في علاقتنا بالله سبحانه – بزعمهم – فالله عز وجل عظيم العظماء، وكبير الكبراء، ونحن مذنبون عصاة، وبعيدون لذلك عن جناب الله، ليس من اللائق بنا أن ندعوه مباشرة، لأننا إن فعلنا ذلك خفنا أن يردنا على أعقابنا خائبين، أو لا يلتفت إلينا فنرجع بخفي حنين، وهناك ناس صالحون كالأنبياء والرسل والشهداء قريبون إليه سبحانه، يستجيب لهم إذا دعوه، ويقبل شفاعتهم إذا شفعوا لديه، أفلا يكون الأولى بنا والأخرى ان نتوسل إليه بجاههم، ونقدم بين يدي دعائنا ذكرهم، عسى ان ينظر الله تعالى إلينا إكراماً لهم، ويجيب دعاءنا مراعاة لخاطرهم، فلماذا تمنعون هذا النوع من التوسل، والبشر يستعملونه فيما بينهم، فلم لا يستعملونه مع ربهم ومعبودهم؟
ونقول جواباً على هذه الشبهة: إنكم يا هؤلاء إذن تقيسون الخالق على المخلوق، وتشبهون قيوم السماوات والأرض، أحكم الحاكمين، وأعدل العادلين، الرؤوف الرحيم بأولئك الحكام الظالمين، والمتسلطين المتجبرين الذين لا يأبهون لمصالح الرعية، ويجعلون بينهم وبين الرعية حجباً وأستاراً، فلا يمكنها أن تصل إليهم إلا بوسائط ووسائل، ترضي هذه الوسائط بالرشاوي والهبات، وتخضع لها وتتذلل، وتترضاها ووتقرب إليها، فهل خطر ببالكم أيها المساكين أنكم حين تفعلون ذلك تذمون ربكم، وتطعنون به، وتؤذونه، وتصفونه بما يمقته
وما يكرهه؟(33/103)
هل خطر ببالكم انكم تصفون الله تعالى بأبشع الصفات حين تقيسونه على الحكام الظلمة، والمتسلطين الفجرة، فكيف يسَّوغ هذا لكم دينكم، وكيف يتفق هذا مع ما يجب عليكم من تعظيمكم لربكم، وتمجيدكم لخالقكم؟
ترى لو كان يمكن لأحد الناس أن يخاطب الحاكم وجهاً لوجه، ويكلمه دون واسطة أو حجاب أيكون ذلك أكمل وأمدح له، أم حين لا يتمكن من مخاطبته إلا من خلال وسائط قد تطول وقد تقصر؟
يا هؤلاء إنكم تفخرون في أحاديثكم بعمر بن الخطاب رضي الله عنه وتمجدونه وتشيدون به وتبينون للناس أنه كان متواضعاً لا يتكبر ولا يتجبر، وكان قريباً من الناس، يتمكن أضعفهم من لقائه ومخاطبته، وأنه كان يأتيه الأعرابي الجاهل الفظ من البادية، فيكلمه دون واسطة
أو حجاب، فينظر في حاجته ويقضيها له إن كانت حقاً. ترى هل هذا النوع من الحكام خير وأفضل، أم ذاك النوع الذي تضربون لربكم به الأمثال؟
فما لكم كيف تحكمون؟ وما لعقولكم أين ذهبت، وما لتفكيركم أين غاب، وكيف ساغ لكم تشبيه الله تعالى بالملك الظالم، أم كيف غطى عنكم الشيطان بشاعة قياس الله سبحانه على الأمير الغاشم؟
يا هؤلاء إنكم لو شبهتم الله تعالى بأعدل الناس وأتقى الناس، وأصلح الناس لكفرتم، فكيف وقد شبهتموه بأظلم الناس، وأفجر الناس، وأخبث الناس؟
يا هؤلاء إنكم لو قستم ربكم الجليل على عمر بن الخطاب التقي العادل لوقعتم في الشرك، فكيف تردى بكم الشيطان، فلم ترضوا بذلك حتى أوقعكم في قياس ربكم على أهل الجور والفساد من الملوك والأمراء والوزراء؟(33/104)
إن تشبيه الله تعالى بخلقه كفر كله حذر منه سبحانه حيث قال: { ويعبدون من دون الله ما لا يملك لهم رزقاً من السماوات والأرض شيئاً ولا يستطيعون. فلا تضربوا لله الأمثال. إن الله يعلم وأنتم لا تعلمون } ]سورة النحل: الآية 74[ (1) كما نفى سبحانه أي مشابهة بينه وبين أي خلق من مخلوقاته فقال: { ليس كمثله شيء وهو السميع البصير } ]سورة الشورى: الآية 11[. ولكن شر تشبيه أن يشبهه المرء بالأشرار والفجار والفساق من الولاة، وهو يظن أنه يحسن صنعاً ! إن هذا هو الذي يحمل بعض العلماء والمحققين على المبالغة في إنكار التوسل بذوات الأنبياء، واعتباره شركاً، وإن كان هو نفسه ليس شركاً عندنا، بل يخشى ان يؤدي إلى الشرك، وقد ادى فعلاً بأؤلئك الذين يعتذرون لتوسلهم بذلك التشبيه السابق الذي هو الكفر بعينه لو كانوا يعلمون.
__________
(1) : قال الحافظ ابن كثير: (أي لا تجعلوا لله أنداداً وأشباهاً وأمثالاً).(33/105)
ومن هنا يتبين أن قول بعض الدعاة الإسلاميين اليوم في الأصل الخامس عشر من أصوله العشرين: (والدعاء إذا قُرن بالتوسل إلى الله بأحد من خلقه خلاف فرعي في كيفية الدعاء، وليس من مسائل العقيدة) ليس صحيحاً على إطلاقه لما علمت أن في الواقع ما يشهد بأنه خلاف جوهري، إذ فيه شرك صريح كما سبق. ولعل مثل هذا القول الذي يهوّن من أمر هذا الانحراف هو أحد الأسباب التي تدفع الكثيرين إلى عدم البحث فيه، وتحقيق الصواب في أمره، مما يؤدي في نهاية المطاف إلى استمرار المبتدعين في بدعهم، واستفحال خطرها بينهم، ولذلك قال الإمام العز بن عبد السلام في رسالة "الواسطة" (ص5): (ومن أثبت الأنبياء وسواهم من مشايخ العلم والدين وسائط بين الله وبين خلقه كالحجّاب الذين بين الملك ورعيته، بحيث يكونون هم يرفعون إلى الله تعالى حوائج خلقه، وأن الله تعالى إنما يهدي عباده ويرزقهم وينصرهم بتوسطهم، بمعنى أن الخلق يسألونهم، وهم يسألون الله كما أن الوسائط عند الملوك يسألون الملك حوائج الناس لقربهم منهم، والناس يسألونهم أدباً منهم أن يباشروا سؤال الملك، ولأن طلبهم من الوسائط أنفع لهم من طلبهم من الملك، لكونهم أقرب إلى الملك من الطلب، فمن أثبتهم وسائط على هذه الوجه فهو كافر مشرك يجب أن يستتاب، فإن تاب وإلا قتل، وهؤلاء مشبَّهون لله، شبهوا الخالق بالمخلوق، وجعلوا لله أنداداً...).
الشبهة الخامسة: هل هناك مانع من التوسل المبتدع على وجه الإباحة لا استحباب؟
قد يقول القائل: صحيح أنه لم يثبت في السنة ما يدل على استحباب التوسل بذوات الأنبياء والصالحين، ولكن ما المانع منه إذا فعلناه على طريق الإباحة، لأنه لم يأتِ نهي عنه؟(33/106)
فأقول: هذه شبهة طالما سمعناها ممن يريد أن يتخذ موقفاً وسطاً بين الفريقين لكي يرضي كلاً منهما، وينجو من حملاتهما عليه! والجواب: يجب أن لا ننسى في هذا المقام معنى الوسيلة إذ هي التي يتوصل بها إلى تحصيل المقصود كما تقدم بيانه.
ولا يخفى أن الذي يراد التوصل إليه إما أن يكون دينياً، أو دنيوياً، وعلى الأول لا يمكن
معرفة الوسيلة التي توصل إلى الأمر الديني إلا من طريق شرعي، فلو ادعى رجل ان توسله إلى الله تعالى بآية من آياته الكونية العظيمة كالليل والنهار مثلاً سبب لاستجابة الدعاء لرد عليه ذلك إلا أن يأتي بدليل، ولا يمكن أن يقال حينئذ بإباحة هذا التوسل، لأنه كلام ينقض بعضه بعضاً، إ أنك تسميه توسلاً، وهذا لم يثبت شرعاً، وليس له طريق آخر في إثباته، وهذا بخلاف القسم الثاني من القسمين المذكورين وهو الدنيوي، فإن أسبابه يمكن أن تعرف بالعقل أو بالعلم أو بالتجربة ونحو ذلك، مثل الرجل يتاجر ببيع الخمر، فهذا سبب معروف للحصول على المال، فهو وسيلة لتحقيق المقصود وهو المال، ولكن هذه الوسيلة نهى الله عنها، فلا يجوز اتباعها بخلاف ما لو تاجر بسبب لم يحرمه الله عز وجل، فهو مباح، أما السبب المدعى أن يقرب إلى الله وأنه أرجى في قبوله الدعاء، فهذا سبب لا يعرف إلا بطريق الشرع، فحين يقال: بأن الشرع لم يرد بذلك، لم يجز تسميته وسيلة حتى يمكن أن يقال إنه مباح التوسل به، وقد تقدم الكلام في هذا النوع مفصلاً في الفصل الثاني من هذه الرسالة.
وشيء ثان: وهو أن التوسل الذي سلمنا بعدم وروده قد جاء في الشرع ما يغني عنه، وهو التوسلات الثلاثة التي سبق ذكرها في أول البحث، فما الذي يحمل المسلم على اختيار هذا التوسل الذي يم يرد، والإعراض عن التوسل الذي ورد؟ وقد اتفق العلماء على أن البدعة إذا صادمت سنة فهي بدعة ضلالة اتفاقاً، وهذا التوسل من هذا القبيل، فلم يجز التوسل به، ولو على طريق الإباحة دون الاستحباب!.(33/107)
وأمر ثالت: وهو أن هذا التوسل بالذوات يشبه توسل الناس ببعض المقربين إلى الملوك
والحكام، والله تبارك وتعالى ليس كثله شيء باعتراف المتوسلين بذلك، فإذا توسل المسلم إليه
تعالى بالأشخاص فقد شبهه عملاً بأولئك الملوك والحكام كما سبق بيانه، وهذا غير جائز.
الشبهة السادسة: قياس التوسل بالذات على التوسل بالعمل الصالح
هذه شبهة أخرى يثيرها بعض أولئك المبتدعين(1) زينها لهم الشيطان، ولقنهم إياها حيث يقولون: قد قدمتم أن من التوسل المشروع اتفاقاً التوسل إلى الله تعالى بالعمل الصالح، فإذا كان التوسل بهذا جائزاً فالتوسل بالرجل الصالح الذي صدر منه هذا العمل أولى بالجواز، وأحرى بالمشروعية، فلا ينبغي إنكاره.
والجواب من وجهين:
الوجه الأول: أن هذا قياس، والقياس في العبادات باطل كما تقدم (ص130)، وما مثل من يقول هذا القول إلا كمثل من يقول: إذا جاز توسل المتوسل بعمله الصالح – وهو بلا شك دون عمل الولي والنبي – جاز أن يتوسل بعمل النبي والولي، وهذا وما لزم منه باطل فهو باطل.
الوجه الثاني: أن هذه مغالطة مكشوفة، لأننا لم نقل – كما لم يقل أحد من السلف قبلنا – أنه يجوز للمسلم أن يتوسل بعمل غيره الصالح، وإنما التوسل المشار إليه إنما هو التوسل بعمل المتوسل الصالح نفسه، فإذا تبين هذا قلبنا عليهم كلامهم السابق فقلنا: إذا كان لا يجوز التوسل بالعمل الصالح الذي صدر من غير الداعي فأولى ثم أولى ألا يجوز التوسل بذاته، وهذا بين لا يخفى والحمد لله.
الشبهة السابعة: قياس التوسل بذات النبي - صلى الله عليه وسلم - على التبرك بآثاره:
__________
(1) : منهم صاحب كتاب "التاج".(33/108)
وهذه شبهة أخرى لم تكن معروفة فيما مضى من القرون، ابتدعها ورَوّجها الدكتور البوطي ذاته، إذ قرر في كتابه "فقه السيرة" (ص344-455) خلال حديثه عن الدروس المستفادة من غزوة الحديبية مشروعية التبرك بآثاره النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم قاس على ذلك التوسل بذاته بعد وفاته، وأتى نتيجة لذلك برأي غريب وعجيب لم يقل به أحد من المشتغلين بالعلم، حتى من المغرقين في التقليد والجمود والتعصب والابتداع في الدين.
ولكي لا يظن أحد أننا نتقول عليه أو نظلمه ننقل نص كلامه بتمامه، ونعتذر إلى القراء لطوله، قال: ( وإذا علمت أن التبرك بالشيء إنما هو طلب الخير بواسطته ووسيلته علمت أن التوسل بآثار النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر مندوب إليه ومشروع، فضلاً عن التوسل بذاته الشريفة، وليس ثمة فرق بين أن يكون ذلك في حياته - صلى الله عليه وسلم - أو بعد وفاته، فآثار النبي - صلى الله عليه وسلم - وفضلاته لا تتصف بالحياة مطلقاً، سواء تعلق التبرك والتوسل بها في حياته أ, بعد وفاته، ولقد توسل الصحابة بشعراته من بعد وفاته كما ثبت ذلك في صحيح البخاري في باب شيب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.(33/109)
ومع ذلك فقد ضل أقوام لم تشعر أفئدتهم بمحبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وراحوا يستنكرون التوسل بذاته - صلى الله عليه وسلم - بعد وفاته، بحجة أن تأثير النبي - صلى الله عليه وسلم - قد انقطع بوفاته، فالتوسل به إنما هو توسل بشيء تأثير له البتة. وهذه حجة تدل على جهل عجيب جداً، فهل ثبت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - تأثير ذاتي في الأشياء في حال حياته حتى نبحث عن مصير هذا التأثير بعد وفاته؟ إن أحداً من المسلمين لا يستطيع أن ينسب أي تأثير ذاتي في الأشياء لغير الواحد الأحد، ومن اعتقد خلاف ذلك يكفر بإجماع المسلمين كلهم... فمناط التبرك والتوسل به أو بآثاره - صلى الله عليه وسلم - ليس هو إسناد أي تأثير إليه، وإنما المناط كونه أفضل الخلائق عند الله على الإطلاق، وكونه رحمة من الله للعباد، فهو التوسل بقربه - صلى الله عليه وسلم - إلى ربه وبرحمته الكبرى للخلق، وبهذا المعنى توسل الأعمى به - صلى الله عليه وسلم - في أن يرد عليه بصره، فرده الله عليه، وبهذا المعنى كان الصحابة يتوسلون بآثاره وفضلاته دون أن يجدوا منه أي إنكار. وقد مر بيان استحباب الاستشفاع بأهل الصلاح والتقوى وأهل بيت النبوة في الاستسقاء وغيره، وأن ذلك مما أجمع عليه جمهور الأئمة والفقهاء بما فيهم الشوكاني وابن قدامة والصنعاني وغيرهم.
والفرق بعد هذا بين حياته وموته - صلى الله عليه وسلم - خلط عجيب وغريب في البحث لا مسوغ له).
ولنا على هذا الكلام مؤاخذات كثيرة نورد أهمها فيما يلي:
1 – لقد أشرنا (ص77-78) إلى تعريض البوطي بالسلفيين، واتهامه إياهم بأن أفئدتهم
لا تشعر بمحبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والاستدلال على ذلك بإنكارهم التوسل به - صلى الله عليه وسلم - بعد وفاته.
وهذه فرية باطلة، وبهتان ظالم لا شك أن الله تعالى سيحاسبه عليه أشد الحساب ما لم يتبْ(33/110)
إليه التوبة النصوح. ذلك لأن فيها تكفيراً لآلاف المسلمين دونما دليل أو برهان إلا الظن والوهم
اللذين لا يغنيان من الحق شيئاً.
2 – إنه قد خلط في كلامه السابق بين الحق والباطل خلطاً عجيباً، فاستدل بحقه على باطله، فوصل من جرّاء ذلك إلى رأي لم يسبقه إليه أحد من العالمين.
وإذا أردنا أن نميز بين نوعي كلامه فإننا نقول:
إن الحق الذي تضمنه هو:
أ – أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قريب إلى الله تبارك وتعالى، وأنه كان رحمة من الله تعالى للخلق.
ب – أنه لا تأثير لأحد حتى للنبي - صلى الله عليه وسلم - تأثيراً ذاتياً في الأشياء، وإنما التأثير كله لله الواحد الأحد.
ج – أنه يشرع التبرك بآثار النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأن الصحابة فعلوا ذلك في حياته - صلى الله عليه وسلم - وبإقرار منه.
هذه النقاط الثلاثة صحيحة لا خلاف فيها، ولو وقف الكاتب عندها لما كان ثمة حاجة للتعليق عليه.
وأما الباطل الذي تضمنه كلامه وفيه الخلاف العريض فهو:
أ – أن التوسل بآثار النبي - صلى الله عليه وسلم - جائز، وأن الصحابة كانوا يتوسلون بآثاره - صلى الله عليه وسلم - وفضلاته.
ب – تسويته بين التبرك والتوسل.
ج – أن التوسل بذاته - صلى الله عليه وسلم - جائز كجواز التبرك بفضلاته.
د – أن مناط التوسل به - صلى الله عليه وسلم - هو كونه أفضل الخلائق عند الله على الإطلاق.
هـ - جهله بمعنى كلمة الاستشفاع مما حمله على الاستدلال بها على التوسل المبتدع.
و – افتراؤه على السلفيين بأنهم يرون أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان له تأثير ذاتي في الأشياء خلال حياته، وقد انقطع ذاك التأثير بوفاته، وأن هذا هو سبب إنكارهم التوسل به - صلى الله عليه وسلم - بعد وفاته !
ز – ادعاؤه أن الأعمى توسل بقربه - صلى الله عليه وسلم - من ربه.
ح – ادعاؤه أن محمداً - صلى الله عليه وسلم - أفضل الخلائق على الإطلاق.
وننتقل بعد هذا الإجمال إلى الشرح والتفصيل فنقول:(33/111)
1 – تخليط البوطي في التسوية بين التبرك والتوسل:
لقد قال الدكتور البوطي: (ان التوسل بآثار النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر مندوب إليه ومشروع فضلاً عن التوسل بذاته الشريفة) . وظاهر كلامه أن يقيس التوسل بذاته - صلى الله عليه وسلم - قياساً أولوياً على التبرك بآثاره، ويسمى هذا التبرك توسلاً، ويؤكد ما ذكرناه قوله في (ص196) من كتابه المذكور حيث ذكر بعض الروايات التي فيها تبرك بعض الصحابة بآثاره - صلى الله عليه وسلم -، ثم قال: (فإذا كان هذا شأن التوسل بآثاره المادية، فكيف بالتوسل بمنزلته عند الله جل جلاله؟ وكيف بالتوسل بكونه رحمة للعالمين؟).
ولكنه سرعان ما تراجع عن كل ذلك زاعماً أن التبرك والتوسل معناهما واحد، منكراً أنه يقيس التوسل على التبرك، وأن المسألة لا تعدو أن تكون استدلالاً بالقياس، فإن التوسل والتبرك كلمتان تدلان على معنى واحد، وهو التماس الخير والبركة عن طريق المتوسل به، وكل من التوسل بجاهه - صلى الله عليه وسلم - عند الله والتوسل بآثاره أو فضلاته أو ثيابه أفراداً وجزئيات داخلة تحت نوع شامل هو مطلق التوسل الذي ثبت حكمه بالأحاديث الصحيحة، وكل الصور الجزئية له يدخل تحت عموم النص بواسطة ما يسمى بتنقيح المناط عند علماء
الأصول).
والحقيقة أن ظاهر كلام الدكتور الأول كان أهون بكثير من كلامه الأخير هذا، لأن التوسل يختلف اختلافاً بيناً عن التبرك، ومن يسوي بينهما فإنه يكون قد ارتكب خطأ شنيعاً، ووقع في جهل فظيع بالحقائق الشرعية، مما لا يجوز أن يقع في طالب علم يحترم نفسه.
إن التبرك هو التماس من حاز أثراً من آثار النبي - صلى الله عليه وسلم - حصول خير به خصوصية له - صلى الله عليه وسلم -، وأما التوسل فهو إرفاق دعاء الله تعالى بشيء من الوسائل التي شرعها الله تعالى لعباده، كأن يقول: اللهم إني أسألك بحبي لنبيك - صلى الله عليه وسلم - أن تغفر لي، ونحو ذلك. ويتبدى هذا الفرق في أمرين:(33/112)
أولهما: أن التبرك يرجى به شيء من الخير الدنيوي فحسب، بخلاف التوسل الذي يرجى به أي شيء من الخير الدنيوي والأخروي.
ثانيهما: أن التبرك هو التماس الخير العاجل كما سبق بيانه، بخلاف التوسل الذي هو مصاحب للدعاء ولا يستعمل إلا معه.
وبياناً لذلك نقول: يشرع للمسلم أن يتوسل في دعائه باسم من أسماء الله تبارك وتعالى الحسنى مثلاً، ويطلب بها تحقيق ما شاء من قضاء حاجة دنيوية كالتوسعة في الرزق، أو أخروية كالنجاة من النار، فيقول مثلاً: اللهم إني أسألك وأتوسل إليك بأنك أنت الله الأحد، الصمد، أن تشفيني أو تدخلني الجنة...، ولا أحد يستطيع أن ينكر عليه شيئاً من ذلك، بينما لا يجوز لهذا المسلم أن يفعل ذلك حينما يتبرك بأثر من آثاره - صلى الله عليه وسلم -، فهو لا يستطيع
ولا يجوز له أن يقول مثلاً: ( اللهم إني أسألك وأتوسل إليك بثوب نبيك أو بصاقه أو بوله أن تغفر لي وترحمني.. ومن يفعل ذلك فإنه يعرّض نفسه من غير ريب ليشك الناس في عقله وفهمه فضلاً عن عقيدته ودينه. وظاهر كلام الدكتور أنه يجيز هذا التوسل العجيب، ويعده هو والتبرك بأثر من آثار النبي - صلى الله عليه وسلم - شيئاً واحداً، وهو بهذا يخلط خلطاً قبيحاً، ومع ذلك
لا يخجل من اتهام السلفيين بأنهم يخلطون خلطاً عجيباً لا مسوغ له، فقد علم القراء من الذين يخلط ويخبط خبط عشواء.
إن هذا ليذكرنا حقاً بالمثل العربي القائل: رمتني بدائها وانسلّت. وصدق النبي الكريم - صلى الله عليه وسلم - حيث يقول: { إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تسنح فاصنع ما شئت } (1).
__________
(1) : رواه أحمد والبخاري وغيرهما وهو مخرج في " الصحيحة" برقم (684).(33/113)
وثمة ملاحظة هامة وخطيرة في كلام الدكتور السابق، وهي أنه يدعي ثبوت مطلق التوسل بالأحاديث الصحيحة، وهذا باطل، لأنه ليس أكثر من افتراض ودعوى مجردة لا حقيقة لها إلا في ذهنه، إذ لم يثبت من التوسل المتعلق بالنبي - صلى الله عليه وسلم - إلا دعاؤه - صلى الله عليه وسلم - كما تقدم في ثنايا هذه الرسالة، واما التوسل بجاهه - صلى الله عليه وسلم - أو آثاره فلم يثبت منه شيء البتة في كتاب أو سنة، ونحن نطالب الدكتور أن يدلنا على حديث واحد ثابت، فيه هذه الدعوى، ونحن على يقين أنه لن يجد شيئاً من ذلك، فقد عوّدنا على تقرير أحكام ضخمة دونما دليل (خبط لزق)! وادعاء دعاوى عريضة لا تقوم على أساس إلا أنها بدت له هكذا، وحسب القارىء له أن يؤمن بما يقول ويسلم له تسليماً، وإياه ثم إياه أن يسأله عن الدليل، لأن ذلك من قلة الأدب، ورقة الدين، وطريقة السلفيين، والعياذ بالله. فتأمل!
2 – بطلان التوسل بآثار النبي - صلى الله عليه وسلم - :
وبعد إثبات الفرق بين التوسل والتبرك نعلم أن آثار النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يتوسل بها إلى الله تعالى وإنما يتبرك بها فحسب، أي يرجى بحيازتها حصول بعض الخير الدنيوي كما سبق بيانه.(33/114)
إننا نرى أن التوسل بآثار النبي - صلى الله عليه وسلم - غير مشروع البتة، وأن من الافتراء على الصحابة رضوان الله عليهم الادعاء بأنهم كانوا يتوسلون بتلك الآثار، ومن ادعى خلاف رأينا فعليه الدليل، بأن يثبت أن الصحابة كانوا يقولون في دعائهم مثلاً: اللهم ببصاق نبيك اشفِ مرضانا، أو: اللهم ببول نبيك أو غائطه اجرنا من النار!! إن أحداً من العقلاء لا يستسيغ رواية ذلك مجرد رواية فكيف باستعماله، وإذا كان الدكتور البوطي ما يزال في شك من ذلك، وإذا كان يرى جواز ذلك فعليه أن يثبته عملياً بأن يدعو من على منبره بمثل الدعوات السابقة، وإن لم يفعل – ولن يفعل إن شاء الله ما بقي فيه عقل، وفي قلبه ذرة من إيمان – فذلك دليل على أنه يقول بلسانه ما لا يعتقد في قلبه.(33/115)
هذا ولابد من الإشارة إلى أننا نؤمن بجواز التبرك بآثاره - صلى الله عليه وسلم -، ولا ننكره خلافاً لما يوهمه صنيع خصومنا، ولكن لهذا التبرك شروطاً منها الإيمان الشرعي المقبول عند الله، فمن لم يكن مسلماً صادق الإسلام فلن يحقق الله له أي خير بتبركه هذا، كما يشترط للراغب في التبرك أن يكون حاصلاً على أثر من آثاره - صلى الله عليه وسلم - ويستعمله، ونحن نعلم أن آثاره - صلى الله عليه وسلم - من ثياب أو شعر أو فضلات قد فقدت، وليس بإمكان أحد إثبات وجود شيء منها على وجه القطع واليقين، وإذا كان الأمر كذلك فإن التبرك بهذه الآثار يصبح أمراً غير ذي موضوع في زماننا هذا(1)
__________
(1) : لقد حاول الدكتور في هامش (ص197) من كتابه المذكور الرد على ما كنت بينته في رسالتي "نقد نصوص حديثية" للكتاني، ونقل أنني قلت فيها: (أنه لا فائدة ترجى من أحاديث التبرك بآثاره - صلى الله عليه وسلم - في هذا العصر..) ومن المؤسف أن الدكتور قد ارتكب في هذا النقل الصغير خيانة علمية مكشوفة، وحرف كلامي تحريفاً سيئاً، والذي قلته حقاً هو: (لا يتعلق كبير فائدة في تقرير مشروعية التبرك بآثاره - صلى الله عليه وسلم - في زماننا الحاضر) فانظر رحمك الله كيف غير الدكتور كلامي وحروفه، وما أرى له بذلك من غرض إلا أن يتاح له المجال للطعن في وإثارة العامة علي، فهل يتفق هذا الصنيع – أخي القارىء – مع تقوى الله عز وجل، والإخلاص في الوصول إلى الحق؟ وقد فصلت القول في الرد على هذه الفرية في أحدى مقالاتي التي تنشر في مجلة التمدن الإسلامي بعنوان "تعليق على أحاديث فقه السيرة"،وقد نشرت قريباً في رسالة خاصة تحت عنوان "دفاع عن ==
== الحديث النبوي والسيرة في الرد على جهالات الدكتور البوطي في كتاب فقه السيرة".(33/116)
، ويكون أمراً نظرياً محضاً، فلا ينبغي إطالة القول فيه، ولكن ثمة أمر يجب تبيانه، وهو أن النبي- صلى الله عليه وسلم - وإن أقر الصحابة في غزوة الحديبية وغيرها على التبرك بآثاره والتمسح بها، وذلك لغرض مهم وخاصة في تلك المناسبة، وذلك الغرض هو إرهاب كفار قريش وإظهار مدى تعلق المسلمين بنبيهم، وحبهم له، وتفانيهم في خدمته وتعظيم شأنه، إلا أن الذي لا يجوز التغافل عنه ولا كتمانه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد تلك الغزوة رغّب المسلمين بأسلوب حكيم وطريقة لطيفة عن هذا التبرك، وصرفهم عنه، وأرشدهم إلى أعمال صالحة خير لهم منه عند الله عز وجل، وأجدى، وهذا ما يدل عليه الحديث الآتي:
عن عبد الرحمن بن أبي قراد رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - توضأ بوماً، فجعل أصحابه يتمسحون بوضوئه، فقال لهم النبي - صلى الله عليه وسلم -: { ما يحملكم على هذا؟ } قالوا: حب الله ورسوله. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: { من سره أن يحب الله ورسوله، أو يحبه الله ورسوله فليصدق
حديثه إذا حدث، وليؤد أمانته إذا اؤتمن، وليحسن جوار من جاوره } (1).
3 – افتراء عريض:
والظاهر أن الدكتور لا يطيب له عيش، ولا يهنأ له بال إلا إذا افترى على السلفيين، وكذب عليهم، كذباً مكشوفاً حيناً ومغطى حيناً آخر. وها هو هنا يفتري علينا حين يزعم أننا نحتج على منع التوسل بالنبي - صلى الله عليه وسلم - بعد وفاته بالقول بأن تأثيره - صلى الله عليه وسلم - في الحوادث قد انقطع بعد وفاته، ويتطوع بأن يثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سواء في حياته أو بعد وفاته ليس له تأثير ذاتي في الأشياء في كل ظرف وفي كل حين، وأن المؤثر الوحيد فيها هو الله وحده سبحانه.
__________
(1) : قلت: وهو حديث ثابت، له طرق وشواهد في معجمي الطبراني وغيرهما وقد أشار المنذري في "الترغيب"
(3/26) الى تحسينه، وقد خرجته في "الصحيحة" برقم (2998).(33/117)
وواضح من هذا بجلاء أنه يتهم السلفيين بأنهم يعتقدون أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان له تأثير ذاتي في الأشياء حال حياته. وهذا كذب صراح، وافتراء مكشوف، لم يقل به سلفي قط، بل ولا خطر في بال أحد من السلفيين البتة، وكيف يقولونه وهم دعاة التوحيد الخالص، والدين الصحيح، والذين جعلوا أكبر همهم دعوة الناس إلى إخلاص عبوديتهم لله تعالى وحده، وتخليص عقائدهم من كل شائبة من شوائب الشرك، والتنديد بكل ما يخدش جناب التوحيد، ولو كان ذلك خطأ لفظياً. وقد تحملوا في سبيل ذلك الأذى من الناس والتشهير بهم والافتراء عليهم واتهامهم بأقبح التهم، وما نقم الناس – وفيهم الدكتور البوطي – عليهم إلا لدعوتهم الحقة هذه، ومع ذلك فلا يخجل من أن يرميهم بهذه التهمة الباطلة التي يعلم هو
– فيما نرجح – قبل غيره أنها باطلة مفتراة، وإلا فليبين لنا – إن استطاع – مصدر هذا القول المزعوم، ومن قاله من السلفيين، وفي أي كتاب ورد من كتبهم أو نشراتهم، فإن لم يفعل
– وهيهات أن يفعل – فإنه يكون قد ظهر لكل أحد كذبه وافتراؤه.
وشيء آخر نذكره هنا، وهو أن كلام البوطي السابق (ومن ادعى شيئاً من ذلك يكفر بإجماع المسلمين) يفيد لمن تأمله تكفير السلفيين عموماً، وهذا كذب آخر واتهام ظالم، لا شك أن الله تعالى سيحاسبه عليه، لأن السلفيين هم مسلمون، بل هم أحق الناس بصفة الإسلام، وهم يعلمون حق العلم أن نسبة التأثير الذاتي للنبي - صلى الله عليه وسلم - أو لغيره هو من الشرك في الربوبية المخرج من الملة، وهم من أشد الناس تنبهاً له وتحذيراً منه، بينما البوطي وأمثاله يلتمسون
للواقعين فيه مختلف الأعذار والتبريرات.
ولا يفوتنا هنا أن نذكره وأمثاله بما بيناه في ثنايا هذه الرسالة من أن السبب الذي يدعونا إلى منع التوسل بذوات الصالحين ومكانتهم وجاههم إنما هو كونه لم يرد في الشريعة الغراء،(33/118)
ولم يستعمله النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا أصحابه، فهو لذلك محدَث مبتدع، وما ورد من النصوص التي يحتج بها المخالفون بعضها ثابت ولكنه لا يدل على ما يدعون، وبعضها الآخر غير ثابت، وقد مضى تفصيل ذلك.
إن هذا هو السبب الذي يحملنا على إنكار ذلك التوسل، وتقول بصراحة: إنه لو ورد في الشرع لقلنا به، ولم يمنعنا منه مانع، لأننا أسرى في يد الشريعة، فما أجازته أجزناه، وما منعته منعناه، والغريب أن الدكتور تغافل عن هذا السبب الأساسي، واختلق من عنده سبباً تخيله كما شاء له هواه قاصداً بذلك أن يتمكن من الطعن فينا والتشهير بنا، وإثارة الغوغاء علينا،
فانظر – رحمك الله – إلى هذا الأسلوب الغريب المنافي للدين والعلم، واشتكِ معنا إلى الله عز وجل من غربة الحق وأهله في هذا الزمان.
4 - خطؤه في ادعائه أن مناط التوسل بالنبي - صلى الله عليه وسلم - كونه أفضل الخلائق:
وهذا خطأ آخر وقع فيه الدكتور نتيجة لتهوره وعدم تفكيره فيما يكتب، حيث ادعى أن مناط التوسل بالنبي - صلى الله عليه وسلم - هو كونه أفضل الخلائق عند الله على الإطلاق، وكونه رحمة من الله للعباد كما تقدم من كلامه.
ونقول له: ان معنى ذلك عندك أن من لم يكن كذلك ( أي أفضل الخلائق عند الله ..)
فلا يجوز التوسل به، لأنه لم يتحقق فيه المناط المزعوم، ذلك لأن المناط أصلاً هو علة الحكم
التي يوجد بوجودها، وينعدم بعدمها، وعلى هذا فمعنى عبارة الدكتور – لو كان يعقل
ما يقول – إنه لا يجوز التوسل بأحد مطلقاً إلا بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، ونحن نعلم علم اليقين أنه يعتقد خلاف ذلك، ويرى جواز التوسل بكل نبي أو ولي أو صالح، وبهذا يكون هو نفسه قد قال
ما لا يعتقد، وناقض نفسه بنفسه، والسبب في ذلك أحد أمرين، فإما أن يكون غير فاهم لاصطلاح المناط عند العلماء، وإما أن يكون غير متأمل فيما ينتج عنه من كلامه، وهذا هو الأقرب، والله أعلم.(33/119)
وأمر آخر نذكره في هذه المناسبة وهو أن من المقرر لدى علماء الأصول أنه لابد لاعتبار المناط في حكم ما من أن يكون قد ورد تعيينه في نص من كتاب أو سنة، ولا يكفي فيه الاعتماد على الظن والاستنباط.
وإذا عدنا إلى ما ذكره الدكتور وجدنا أنه قد ادعى مناطاً ليس عليه شبة دليل من الكتاب والسنة، وإنما عمدته في ذلك مجرد الظن والوهم، فهل هكذا يكون العلم وإثبات الحقائق الشرعية عند الدكتور الذين يُعَنْون لبعض كتبه بأنها (أبحاث في القمة)؟
وأمر ثالث وأخير وهو أن الدكتور قد ادعى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أفضل الخلائق عند الله على الإطلاق. وهذه عقيدة، وهي لا تثبت عنده(1)، إلا بنص قطعي الثبوت قطعي الدلالة(2)، أي بآية قطعية الدلالة، أو حديث متواتر قطعي الدلالة، فأين هذا النص الذي يثبت كونه - صلى الله عليه وسلم - أفضل الخلائق عند الله على الإطلاق؟
ومن المعلوم أن هذه القضية مختلف فيها بين العلماء، وقد توقف فيها الإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى، ومن شاء التفصيل فعليه بشرح عقيدة الإمام أبي جعفر الطحاوي الحنفي رحمه الله، (ص337-348، طبعة المكتب الإسلامي بتحقيقي).
ولعل مستند الدكتور في تقرير تلك العقيدة ما ورد في قصة المعراج المنسوبة كذباً وعدواناً
إلى الصحابي الجليل عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، مع أنه هو نفسه يقول(3) عن هذه
القصة: (إنه كتاب ملفق من مجموعة أحاديث باطلة لا أصل لها ولا سند)!
والحقيقة أن كلامه هذا بهذا الإطلاق هو الباطل، إذ يوجد في الكتاب المذكور كثير من
الأحاديث الصحيحة، وبعضها مما رواه الشيخان، ولكن المؤلف خلطها بأحاديث أخرى
__________
(1) : كما قرر ذلك في أكثر من كتاب من كتبه مثل "كبرى اليقينات الكونية" ط2 (ص26) و "اللامذهبية".
(2) : أنظر بيان خطأ هذا الرأي في رسالتنا "وجوب الأخذ بحديث الآحاد في العقيدة".
(3) : في كتابه "فقه السيرة" (ص155).(33/120)
بعضها موضوع وبعضها لا أصل له، وبعضها ضعيف، وقد بينت ذلك في ردي على الدكتور البوطي الذي نشر في مجلة التمدن الإسلامي أولاً، ثم في كتاب مستقل، كما سبق بيانه قريباً (ص121) .
5 – جهلة بالمعنى اللغوي لكلمة الاستشفاع:
وهذه غلطة شنيعة أخرى وقع فيها الدكتور – اصحله الله وهداه – إذ استدل بالاستشفاع الوارد في أحاديث الاستسقاء على التوسل المبتدع، فقال: (وقد مر بيان استحباب الاستشفاع بأهل الصلاح والتقوى، وأهل بيت النبوة الوارد في الاستسقاء وغيره، وأن ذلك مما أجمع عليه جمهور الأئمة والفقهاء بما فيهم الشوكاني وابن قدامة والصنعاني وغيرهم) وما كان للدكتور أن يقع في هذا الخطأ لو كان يفقه معنى الاستشفاع في اللغة، ورغبة في تنوير القراء وإفادتهم نورد بعض ما ذكرته كتب اللغة في بيان معنى الشفاعة والاستشفاع.
قال صاحب "القاموس المحيط" : (الشَفْع خلاف الوتر وهو الزوج، والشفعة هي أن تشفع فيما تطلب، فتضمه إلى ما عندك فتشفعه أي تزيده، وشاة شافع: في بطنها ولد يتبعها آخر، سميت شافعاً لأن ولدها شفعها أو شفعته، واستشفعه إلينا: سأله أن يشفع).
وفي "المعجم الوسيط" الذي أصدره مجمع اللغة العربية في مصر: (شفع الشيء شفعاً: ضم
مثله إليه وجعله زوجاً، والبصرُ الأشباحً: رآها شيئين، واستشفع: طلب الناصر والشفيع، والشفائع: المزدوجات، والشفاعة: كلام الشفيع، والشفيع: ما شفع غيره، وجعله زوجاً).
وفي "النهاية" لابن الأثير: (الشُفْعة مشتقة من الزيادة، لأن الشفيع يضم المبيع إلى ملكه،
فيشفعه به، كأنه كان واحداً وتراً، فصار زوجاً شفعاً، والشافع هو الجاعل الوتر شفعاً..).(33/121)
فمن هذه النقول وأمثالها يظهر معنى الاستشفاع بوضوح، وهو أن يطلب إنسان من آخر أن يشاركه في الطلب، فيزيد به ويكونا شفعاً أي زوجاً، وقد أخذ من هذا الأصل اللغوي المعنى الشرعي للاستشفاع حيث أريد به الطلب من أهل الخير والعلم والصلاح أن يشاركوا المسلمين في الدعاء إلى الله في الملمات، فيشفعوهم بذلك ويزيدوا الداعين، فيكون ذلك أرجى لقبول الدعاء.
وبهذا يمكننا فهم الشفاعة العظمى للنبي - صلى الله عليه وسلم - يوم القيامة، فهي باتفاق العلماء دعاء النبي- صلى الله عليه وسلم - للناس بعد مجيئهم إليه، وطلبهم منه أن يدعو الله تعالى ليعجّل لهم الحساب، ولم يفهم أحد من أهل العلم من ذلك أن يقول الناس مثلاً: اللهم بمنزلة محمد - صلى الله عليه وسلم - عندك عجّل لنا الحساب.
ومن الغريب حقاً أن يتجرأ الدكتور البوطي فيدعي إجماع الأئمة والفقهاء بما فيهم الشوكاني وابن قدامة والصنعاني على فهمه الشاذ المبني على جهل فظيع بمعاني الألفاظ المستعملة في اللغة والشرع.
ونكتفي للرد عليه بنقل كلام أحد الأئمة الذين نص على أسمائهم، وادعى مشاركتهم إياه في
فهمه لمعنى الاستشفاع، ونعني الإمام ابن قدامة المقدسي صاحب أكبر كتاب في الفقه الحنبلي
وهو "المغني" إذ قال فيه (2/295) ما نصه:(33/122)
(ويستحب بأن يستسقي بمن ظهر صلاحه، لأنه أقرب إلى إجابة الدعاء، فإن عمر استسقى بالعباس عم النبي - صلى الله عليه وسلم -. قال ابن عمر: استسقى عمر عام الرمادة بالعباس، فقال: اللهم إن هذا عم نبيك نتوجه إليك به، فاسقنا، فما برحوا حتى سقاهم الله، وروي أن معاوية خرج يستسقي، فلما جلس على المنبر قال: أين يزيد بن الأسود الجُرَشي؟ فقام يزيد، فدعاه معاوية فأجلسه عند رجليه، ثم قال: اللهم إنا نستشفع إليك بخيرنا وأفضلنا يزيد بن الأسود، يا يزيد ارفع يديك، فرفع يديه ودعا الله تعالى، فثارت في الغرب سحابة مثل الترس، وهبَّ لها ريح، فسقوا حتى كادوا لا يبلغون منازلهم، واستسقى به الضحاك مرة أخرى).
وواضح من كلام ابن قدامة هذا أنه يعني بالاستشفاع الوارد في الاستسقاء أن يطلب إمام المسلمين من بعض أهل العلم والصلاح أن يشترك مع المسلمين في التوجه إلى الله ودعائه سبحانه لكشف الشدة عن عبادة المؤمنين. ولم يقصد الإمام ابن قدامة بل ونجزم بأنه لم يخطر في باله ذاك المعنى الخاطىء الذي يحمله عليه البوطي وأمثاله من المبتدعين، ويريدون حمل الألفاظ الشرعية عليه.
ترى كيف يدعي البوطي مثل هذا الإجماع المزيف ويستشهد بابن قدامة وغيره، وها هو كلام ابن قدامة ينسف فهمه من الجذور؟ أم أنه لا يفهم ما في كتب القوم، أم لعله يدعي
ما يروق له من الدعاوى الساقطة دون أن يراجع الكتب، أو يقرأ كلام العلماء اعتماداً منه
على أن قارئيه مقلدون تقليداً أعمى وليسوا ممن يراجع أو يقرأ أو يتثبت مما يقال؟
إنه لأمر مؤسف والله، وبلية من أعظم البلايا التي نشهدها في واقع المسلمين، وهي من غير شك من الأسباب الكبرى في تأخر المسلمين وضعفهم وانحطاطهم، ومحال أن تتغير هذه الحال إلا إذا غيروا ما بأنفسهم من الجمود والتصوف والفقه المذهبي وعلم الكلام، وعادوا إلى هدي الله الحق المتمثل في الكتاب والسنة، والذي توضحه الدعوة السلفية الغراء.(33/123)
6 – خطؤه في ادعائه أن توسل الأعمى كان بمنزلة النبي - صلى الله عليه وسلم - عند الله:
ونختم الرد على الدكتور البوطي بالإشارة إلى خطئه في ادعائه أن توسل الأعمى إنما كان بمنزلة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وبكونه أفضل الخلائق عند الله، لأن ذلك مجرد دعوى لا برهان عليها، ولم
يستطع الدكتور أن يأتي بشبه دليل على ذلك، وقد تقدم في هذه الرسالة إثبات أن توسل الأعمى إنما كان بدعاء النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد فندنا كل الشبهات فيما علمنا التي يوردها المخالفون، ويحتجون بها على رأيهم الخاطىء، كما بيَّنا (ص65) ضعف الزيادة التي أشار الدكتور إليها، وسكت عنها جهلاً أو تجاهلاً، وهي قوله: (فإن كان لك حاجة فافعل مثل ذلك). ورغبة في عدم الإطالة لا نعيد ذلك.
ومما سبق كله، يتبين لكل منصف مريد للحق بطلان تلك الشبهة البوطية وسقوطها،
وصدق الله تبارك وتعالى إذ يقول: { بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه، فإذا هو زاهق،
ولكم الويل مما تصفون } ويقول: { ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا } .
والحمد لله أولاً وآخراً على توفيقه وهداه، وهو وحده المستعان، لا إله غيره، ولا رب سواه.
وسبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.
الفهرس
مقدمة 2
التوسل: أنواعه وأحكامه 4
الفصل الأول: التوسل في اللغة والقرآن 6
معنى التوسل في لغة العرب 6
معنى الوسيلة في القرآن 7
الأعمال الصالحة وحدها هي الوسائل المقربة إلى الله حتى يكون العمل صالحاً 9
الفصل الثاني: الوسائل الكونية والشرعية 12
كيف تعرف صحة الوسائل ومشروعيتها 16
الفصل الثالث: التوسل المشروع وأنواعه 23
1 – التوسل بأسماء الله وصفاته 24
2 – التوسل بعمل صالح قام به الداعي 26
3 – التوسل بدعاء الرجل الصالح 31
بطلان التوسل بما عدا الأنواع الثلاثة السابقة 34
الفصل الرابع: شبهات والجواب عليها 40
الشبهة الأولى: حديث استسقاء عمر بالعباس 40(33/124)
تنبيه حول حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - في البرزخ 46
اعتراض ورده 51
الشبهة الثانية: حديث الضرير 55
دفع توهم وبيان خطر الغلو في الصالحين 61
تنبيه على ضعف زيادتين في حديث الضرير 65
تنبيه آخر حول كتاب "التوصل إلى حقيقة التوسل" 72
الشبهة الثالثة: الأحاديث الضعيفة في التوسل 74
الحديث الأول: اللهم بحق السائلين عليك 75
الحديث الثاني: كان إذا خرج إلى الصلاة 79
الحديث الثالث: كان إذا أصبح وإذا أمسى 80
الحديث الرابع: عن فاطمة بنت أسد 81
الحديث الخامس: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستفتح بصعاليك المهاجرين 82
الحديث السادس: توسل آدم بمحمد - صلى الله عليه وسلم - 84
الرد على من حاول تصحيحه وبيان مخالفته للقرآن 92
الحديث السابع: توسلوا بجاهي .. 95
أثران ضعيفان: 1 – أثر الاستسقاء به - صلى الله عليه وسلم - بعد وفاته 96
الفرق بين التوسل بذات النبي وبين طلب الدعاء منه 100
الاستغاثة بغير الله تعالى 102
2 – أثر فتح الكوى فوق قبر الرسول - صلى الله عليه وسلم - عام الفتق! 104
الشبهة الرابعة: قياس الخالق على المخلوقين 108
الشبهة الخامسة: القول بإباحة التوسل بالذوات 112
الشبهة السادسة: قياس التوسل بالذات على التوسل بالعمل الصالح 113
الشبهة السابعة: قياس التوسل بذات النبي - صلى الله عليه وسلم - على التبرك بآثاره 114
1 – تخليط البوطي في التسوية بين التبرك والتوسل 117
2 – بطلان التوسل بآثار النبي - صلى الله عليه وسلم - 119
3 – افتراء عريض 121
4 – خطؤه في ادعائه أن مناط التوسل بالنبي - صلى الله عليه وسلم - كونه أفضل الخلائق 123
5 – جهله بالمعنى اللغوي لكلمة الاستشفاع 125
6 – خطؤه في ادعائه أن توسل الأعمى كان بمنزلة النبي - صلى الله عليه وسلم - 128(33/125)
التوسل
حقائق وشبهات
جمعه وأعده
أبو حميد عبد الله بن حميد الفلاسي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ، وارض اللهم عنا معهم يا رب العالمين وبعد :
الدعاء من أعظم القربات التي تصل العبد بخالقه ، فقد صح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " الدعاء هو العبادة " رواه أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي في الكبرى وابن ماجه. وذلك لما يجتمع في الداعي من صفات الذل والخضوع والالتجاء إلى من بيده مقاليد الأمور .
ولما كان الدعاء بهذه المرتبة ، أمر الله عز وجل عباده أن يدعوه في كل أحوالهم فقال تعالى: ?ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ? [لأعراف:55] ، وبين لهم سبحانه أن من الوسائل التي يكون معها الدعاء أرجى للقبول ، الدعاء بأسمائه وصفاته ، قال تعالى : ? وَلِلَّهِ الأسماء الحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا ? [ الأعراف:180] .
فيشرع للداعي أن يبدأ دعائه متوسلاً بذكر أسماء الله عز وجل وصفاته التي تتعلق بذلك الدعاء ، فإذا أراد المسلم الرحمة والمغفرة ، دعا الله باسم الرحمن ، الرحيم ، الغفور ، الكريم ، وإذا أراد الرزق دعا ربه باسم الرزاق ، المعطي ، الجواد ، وهكذا يقدِّمُ الداعي بين يدي دعائه ما يناسبه من أسماء الله ، وصفاته ، فإن ذلك من أسباب قبول الدعاء .(34/1)
والتوسل بالدعاء على أنواعٍ ، فمنه التوسل المشروع ومنه التوسل الممنوع فمن أنواع التوسل المشروع : التوسل إلى الله عز وجل بصالح الأعمال التي عملها العبد ، قال تعالى : ? رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي للإيمان أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبرار ? [آل عمران:193] فتأمل كيف توسل هؤلاء بإيمانهم بربهم جلا وعلا . وقص رسول الله صلى الله عليه وسلم علينا - فيما رواه البخاري ومسلم - قصة ثلاثة نفر كانوا يمشون فنزل المطر الغزير ، فلجئوا إلى غار في جبل يحتمون به ، فسقطت على باب الغار صخرة منعتهم الخروج ، فحاولوا إزاحتها فلم يقدروا، فاجتمع رأيهم على أن يدعوا الله عز وجل بأرجى أعمالهم الصالحة التي عملوها . فتوسل أحدهم ببره لوالديه ، وتوسل الآخر بحسن رعايته واستثماره لمال أجيره ، وتوسل الآخر بتركه الزنى بعد تمكنه منه ، وكلما دعا أحدهم انفرجت الصخرة عن باب الغار قليلا ، إلا أنهم لم يستطيعوا الخروج ، حتى أكمل ثالثهم دعاءه فانفرجت الصخرة عن باب الغار فخرجوا يتماشون . فيُشرع للمسلم إذا أراد أن يدعوا الله عز وجل أن يتوسل بأحب الأعمال الصالحة التي يرجو أن تكون خالصة لله .
ومن أنواع التوسل المشروع : طلب الدعاء من الأحياء الصالحين ، وذلك أن العباد يتفاوتون في الصلاح وفي قربهم ومنزلتهم عند الله ، لذلك كان الصحابة يحرصون على سؤال النبي - صلى الله عليه وسلم - الدعاء لهم رجاء القبول والإجابة ، فعن أبي هريرة - رضي الله عنه -قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : "يدخل الجنة من أمتي زمرة هي سبعون ألفا تضيء وجوههم إضاءة القمر . فقام عكّاشة بن محصن ... قال : ادع الله لي يا رسول الله أن يجعلني منهم ، فقال : اللهم اجعله منهم .. " رواه البخاري و مسلم .(34/2)
ومن أنواع التوسل المشروع التوسل بذكر حال السائل وما هو عليه من الضعف والحاجة ، كأن يقول : اللهم إني الفقير إليك ، الأسير بين يديك ، الراجي عفوك ، المتطلع إلى عطائك ، هبني منك رحمة من عندك . والدليل على هذا النوع من التوسل دعاء زكريا عليه السلام ، قال تعالى : ? قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيّاً * وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً ? [ مريم: 4-5 ] . ومنه قول موسى : ? رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ ? [القصص: 24 ].
فهذه بعض أنواع التوسل المشروع ، التي ينبغي أن يحرص عليها المسلم ، ويستفتح بها دعائه ، طالباً من الله قضاء حاجته .
وهناك أنواع من التوسل يفعلها الناس - منها ما يبلغ حدّ البدعة ومنها ما يبلغ حد الشرك - ظناً منهم أنهم يتقربون إلى الله سبحانه بها ، وما علموا أن التقرب إليه إنما يكون بما شرع لا بالأهواء والبدع .
فمن أنواع التوسل البدعي : طلب الدعاء من الميت ، كمن يأتي إلى ميت مقبور لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً ويطلب منه أن يدعو الله له بأمر كشفاء مريضه أو كشف كربته . والدليل على بدعية هذا التوسل انتفاء الدليل على جوازه ، والعبادة إنما تكون بالاتباع لا بالابتداع ، ويدل أيضا على بدعية هذا النوع من التوسل : أن الصحابة وهم الأكثر علما والأشد اقتداء بسيد الخلق لم يفعلوا ذلك ولو كان خيراً لسبقونا إليه ، حتى أن عمر رضي الله عنه عندما حصل قحط بالمدينة قدَّم العباس عمّ النبي - صلى الله عليه وسلم - ليدعو الله بالسقيا ، ولم يطلب الدعاء من النبي - صلى الله عليه وسلم - في قبره ، لِمَا يعلم من عدم جواز ذلك .(34/3)
ومن أنواع التوسل التي ابتدعها الناس وهي شرك بالله عز وجل طلب كشف الكربات وقضاء الحاجات من الأموات ، أياً كان ذلك الميت رجلاً صالحاً أو نبياً مرسلاً ، ذلك أن الدعاء هو العبادة ، والعبادة لا تصرف إلا للخالق الرازق سبحانه ، فدعاء غير الله شرك ومذلة . قال تعالى: ? وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ ? [غافر:60] فطلب سبحانه أن يكون الدعاء له ، ورتب الإجابة على ذلك. وقال أيضاً : ? لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إلا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إلا فِي ضَلالٍ ? [ الرعد : 14] . وقال أيضاً : ?وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ ? [يونس:106] .
ومن أنواع التوسل البدعي: التوسل بالجاه والذوات، كالتوسل بجاه النبي - صلى الله عليه وسلم - أو غيره من الخلق.
ومن أنواع التوسل البدعي أيضاً: الإقسام على الله بفلان من الصالحين أو الأولياء.
فهذه أنواع التوسل في الدعاء وأحكامه ، فينبغي للمسلم أن يحرص على المشروع منه ، وأن يجتهد في دعاء الله في أحواله كافة ، حتى يعلم الله منه صدق افتقاره إليه فيجيبه ويغيثه، وعلى المسلم أيضاً أن يجتنب التوسل البدعي ، وأن يبتعد كل البعد عن التوسل الشركي، فإنه الأخطر على دين المسلم وعقيدته .
شبهات حول التوسل
والجواب عليها(34/4)
يورد المخالفون في هذا الموضوع (1) بعض الاعتراضات والشبهات، ليدعموا رأيهم الخاطىء، ويوهموا العامة بصحته، ويلبسوا الأمر عليهم، وأعرض فيما يلي هذه الشبهات واحدة إثر واحدة، وأرد عليها رداً علمياً مقنعاً إن شاء الله، بما يقرر ما بينته مسابقا وينسجم معه، ويقنع كل مخلص منصف، ويدحض كل افتراء علينا بالباطل، وبالله تعالى وحده التوفيق، وهو المستعان.
الشبهة الأولى: حديث استسقاء عمر بالعباس رضي الله عنهما:
يحتجون على جواز التوسل بجاه الأشخاص وحرمتهم وحقهم بحديث انس : (أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - كان إذا قَحَطوا استسقى بالعباس بن عبد المطلب، فقال: اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا، فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا. قال: فيسقون).
فيفهمون من هذا الحديث أن توسل عمر - رضي الله عنه - إنما كان بجاه العباس - رضي الله عنه -، ومكانته عند الله سبحانه، وأن توسله كان مجرد ذكر منه للعباس في دعائه، وطلب منه لله أن يسقيهم من أجله، وقد أقره الصحابة على ذلك، فأفاد بزعمهم ما يدعون.
وأما سبب عدول عمر - رضي الله عنه - عن التوسل بالرسول - صلى الله عليه وسلم - - بزعمهم – وتوسله بدلاً منه بالعباس - رضي الله عنه -، فإنما كان لبيان جواز التوسل بالمفضول مع وجود الفاضل ليس غير.
وفهمهم هذا خاطىء، وتفسيرهم هذا مردود من وجوه كثيرة اهمها:
__________
(1) . أي موضوع التوسل.(34/5)
1 – إن القواعد المهمة في الشريعة الإسلامية أن النصوص الشرعية يفسر بعضها بعضاً، ولا يفهم شيء منها في موضوع ما بمعزل عن بقية النصوص الواردة فيه. وبناء على ذلك فحديث توسل عمر السابق إنما يفهم على ضوء ما ثبت من الروايات والأحاديث الواردة في التوسل بعد جمعها وتحقيقها، ونحن والمخالفون متفقون على أن في كلام عمر: (كنا نتوسل إليك بنبينا.. وإنا نتوسل إليك بعم نبينا) شيئاً محذوفاً، لا بد له من تقدير، وهذا التقدير إما أن يكون: (كنا نتوسل بـ (جاه) نبينا، وإنا نتوسل إليك بـ (جاه) عم نبينا) على رأيهم هم، أو يكون: (كنا نتوسل إليك بـ (دعاء) نبينا، وإنا نتوسل إليك بـ (دعاء) عم نبينا) على رأينا نحن.
ولا بد من الأخذ بواحد من هذين التقديرين ليفهم الكلام بوضوح وجلاء.
ولنعرف أي التقديرين صواب لا بد من اللجوء إلى السنة، لتبين لنا طريقة توسل الصحابة الكرام بالنبي - صلى الله عليه وسلم -.
ترى هل كانوا إذا أجدبوا وقحَطوا قبع كل منهم في دراه، أو مكان آخر، أو اجتمعوا دون أن يكون معهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم دعوا ربهم قائلين: (اللهم بنبيك محمد، وحرمته عندك، ومكانته لديك اسقنا الغيث). مثلاً أم كانوا يأتون النبي - صلى الله عليه وسلم - ذاته فعلاً، ويطلبون منه أن يدعو الله تعالى لهم، فيحقق - صلى الله عليه وسلم - طلْبتهم، ويدعو ربه سبحانه، ويتضرع إليه حتى يسقوا؟(34/6)
أما الأمر الأول فلا وجود له إطلاقاً في السنة النبوية الشريفة، وفي عمل الصحابة رضوان الله تعالى عليهم، ولا يستطيع أحد من الخلفيين أو الطُّرُقيين أن يأتي بدليل يثبت أن طريقة توسلهم كانت بأن يذكروا في أدعيتهم اسم النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويطلبوا من الله بحقه وقدره عنده ما يريدون. بل الذي نجده بكثرة، وتطفح به كتب السنة هو الأمر الثاني، إذ تبين أن طريقة توسل الأصحاب الكرام بالنبي - صلى الله عليه وسلم - إنما كانت إذا رغبوا في قضاء حاجة، أو كشف نازلة أن يذهبوا إليه - صلى الله عليه وسلم -، ويطلبوا منه مباشرة أن يدعو لهم ربه، أي أنهم كانوا يتوسلون إلى الله تعالى بدعاء الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - ليس غير.
ويرشد إلى ذلك قوله تبارك وتعالى: ?وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللّهَ تَوَّاباً رَّحِيماً ? ]النساء:64[.
2 – وهذا الذي بيناه من معنى الوسيلة هو المعهود في حياة الناس واستعمالهم، فإنه إذا كانت لإنسان حاجة ما عند مدير أو رئيس , موظف مثلاً، فإنه يبحث عمن يعرفه ثم يذهب إليه ويكلمه، ويعرض له حاجته فيفعل، وينقل هذا الوسيط رغبته إلى الشخص المسؤول، فيقضيها له غالباً. فهذا هو التوسل المعروف عند العرب منذ القديم، وما يزال، فإذا قال أحدهم: إني توسلت إلى فلان، فإنما يعني أنه ذهب إلى الثاني وكلمه في حاجته، ليحدث بها الأول، ويطلب منه قضاءها، ولا يفهم أحد من ذلك أنه ذهب إلى الأول وقال له: بحق فلان (الوسيط) عندك، ومنزلته لديك اقض لي حاجتي.(34/7)
وهكذا فالتوسل إلى الله عز وجل بالرجل الصالح ليس معناه التوسل بذاته وبجاهه وبحقه، بل هو التوسل بدعائه وتضرعه واستغاثته به سبحانه وتعالى، وهذا هو بالتالي معنى قول عمر - رضي الله عنه -: (اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا) أي: كنا إذ قل المطر مثلاً نذهب إلى - صلى الله عليه وسلم -، ونطلب منه ان يدعو لنا الله جل شأنه.
3 – ويؤكد هذا ويوضحه تمام قول عمر - رضي الله عنه -: (وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا)، أي إننا بعد وفاة نبينا جئنا بالعباس عم النبي - صلى الله عليه وسلم -، وطلبنا منه أن يدعو لنا ربنا سبحانه ليغيثنا.
تُرى لماذا عدل عمر - رضي الله عنه - عن التوسل بالنبي - صلى الله عليه وسلم - إلى التوسل بالعباس - رضي الله عنه -، مع العلم ان العباس مهما كان شأنه ومقامه فإنه لا يذكر أمام شأن النبي - صلى الله عليه وسلم - ومقامه؟
أما الجواب فهو: لأن التوسل بالنبي - صلى الله عليه وسلم - غير ممكن بعد وفاته، فأنى لهم أن يذهبوا إليه - صلى الله عليه وسلم - ويشرحوا له حالهم، ويطلبوا منه أن يدعو لهم، ويؤمنوا على دعائه، وهو قد انتقل إلى الرفيق الأعلى، وأضحى في حال يختلف عن حال الدنيا وظروفها مما لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى، فأنى لهم أن يحظوا بدعائه - صلى الله عليه وسلم - وشفاعته فيهم، وبينهم وبينه كما قال الله عز شأنه: { وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ } ]المؤمنون:100[.(34/8)
ولذلك لجأ عمر - رضي الله عنه -، وهو العربي الأصيل الذي صحب النبي - صلى الله عليه وسلم - ولازمه في أكثر أحواله، وعرفه حق المعرفة، وفهم دينه حق الفهم، ووافقه القرآن في مواضع عدة، لجأ إلى توسل ممكن فاختار العباس - رضي الله عنه -، لقرابته من النبي - صلى الله عليه وسلم - من ناحية، ولصلاحه ودينه وتقواه من ناحية آخرى، وطلب منه أن يدعو لهم بالغيث والسقيا. وما كان لعمر ولا لغير عمر أن يدع التوسل بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، ويلجأ إلى التوسل بالعباس أو غيره لو كان التوسل بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ممكناً، وما كان من المعقول ان يقر الصحابة رضوان الله عليهم عمر على ذلك أبداً، لأن الانصراف عن التوسل بالنبي - صلى الله عليه وسلم - إلى التوسل بغيره ما هو إلا كالانصراف عن الاقتداء بالنبي - صلى الله عليه وسلم - في الصلاة إلى الاقتداء بغيره، سواء بسواء، ذلك أن الصحابة رضوان الله تعالى عليهم كانوا يعرفون قدر نبيهم - صلى الله عليه وسلم - ومكانته وفضله معرفة لا يدانيهم فيها أحد.
فتعلم من هذا أن الإنسان بفطرته يستنجد بالقوة العظمى، والوسيلة الكبرى حين الشدائد والفواقر، وقد يلجأ إلى الوسائل الصغرى حين الأمن واليسر، وقد يخطر في باله حينذاك أن يبين ذلك الحكم الفقهي الذي افترضوه، وهو جواز التوسل بالمفضول مع وجود الفاضل. وأمر آخر نقوله جواباً على شبهة أولئك، وهو: هب أن عمر - رضي الله عنه - خطر في باله أن يبين ذلك الحكم الفقهي المزعوم، ترى فهل خطر ذلك في بال معاوية والضحاك بن قيس حين توسلا بالتابعي الجليل: يزيد بن الأسود الجُرَشي أيضاً؟ لا شك أن هذا ضرب من التمحل والتكلف لا يحسدون عليه.(34/9)
4 – إننا نلاحظ في حديث استسقاء عمر بالعباس رضي الله عنهما أمراً جديراً بالانتباه، وهو قوله: (إن عمر بن الخطاب كان إذا قَحطوا، استسقى بالعباس بن عبدالمطلب)، ففي هذا إشارة إلى تكرار استسقاء عمر بدعاء العباس رضي الله عنهما، ففيه حجة بالغة على الذين يتأولون فعل عمر ذلك أنه إنما ترك التوسل به - صلى الله عليه وسلم - إلى التوسل بعمه - رضي الله عنه -، لبيان جواز التوسل بالمفضول مع وجود الفاضل، فإننا نقول: لو كان الأمر كذلك لفعل عمر ذلك مرة واحدة، ولما استمر عليه كلما استسقى، وهذا بيّن لا يخفى إن شاء الله تعالى على أهل العلم والانصاف.
5 – لقد فسرت بعض روايات الحديث الصحيحة كلام عمر المذكور وقصده، إذ نقلت دعاء العباس - رضي الله عنه - استجابة لطلب عمر - رضي الله عنه -، فمن ذلك ما نقله الحافظ العسقلاني رحمه الله في "الفتح" (3/150) حيث قال: (قد بين الزبير بن بكار في "الأنساب" صفة ما دعا به العباس في هذه الواقعة، والوقت الذي وقع فيه ذلك، فأخرج بإسناد له أن العباس لما استسقى به عمر قال: (اللهم إنه لم ينزل بلاء إلا بذنب، ولم يكشف إلا بتوبة، وقد توجّه القوم بي إليك لمكاني من نبيك، وهذه أيدينا إليك بالذنوب، ونواصينا إليك بالتوبة، فاسقنا الغيث)، قال: فأرخت السماء مثل الجبال حتى أخصبت الأرض، وعاش الناس).
وفي هذا الحديث:
أولاً: التوسل بدعاء العباس - رضي الله عنه - لا بذاته كما بينه الزبير بن بكار وغيره، وفي هذا رد واضح على الذين يزعمون أن توسل عمر كان بذات العباس لا بدعائه، إذ لو كان الأمر كذلك لما كان ثمة حاجة ليقوم العباس، فيدعو بعد عمر دعاءً جديداً.(34/10)
ثانياً: أن عمر صرح بأنهم كانوا يتوسلون بنبينا - صلى الله عليه وسلم - في حياته، وأنه في هذه الحادثة توسل بعمه العباس، ومما لا شك فيه أن التوسليْن من نوع واحد: توسلهم بالرسول - صلى الله عليه وسلم - وتوسلهم بالعباس، وإذ تبين للقارىء – مما يأتي – أن توسلهم به - صلى الله عليه وسلم - إنما كان توسلاً بدعائه - صلى الله عليه وسلم - فتكون النتيجة أن توسلهم بالعباس إنما هو توسل بدعائه أيضاً، بضرورة أن التوسليْن من نوع واحد.
أما أن توسلهم به - صلى الله عليه وسلم - إنما كان توسلاً بدعائه، فالدليل على ذلك صريح رواية الإسماعيلي في مستخرجه على الصحيح لهذا الحديث بلفظ: (كانوا إذ قحطوا على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - استسقوا به، فيستسقي لهم، فيسقون، فلما كان في إمارة عمر...) فذكر الحديث، نقلته من "الفتح" (2/399)، فقوله: (فيستسقي لهم) صريح في أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يطلب لهم السقيا من الله تعالى، ففي "النهاية" لابن الأثير (2/381): (الاستسقاء، استفعال من طلب السقيا أي إنزال الغيث على البلاد والعباد، يقال: سقى الله عباده الغيث وأسقاهم، والاسم السقيا بالضم، واستقيت فلاناً إذا طلبت منه أن يسقيك).
إذا تبين هذا، فقوله في هذه الرواية (استسقوا به) أي بدعائه، وكذلك قوله في الرواية الأولى: (كنا نتوسل إليك بنبينا)، أي بدعائه، لا يمكن أن يفهم من مجموع رواية الحديث إلا هذا. ويؤيده:(34/11)
ثالثاً: لو كان توسل عمر إنما هو بذات العباس أو جاهه عند الله تعالى، لما ترك التوسل به - صلى الله عليه وسلم - بهذا المعنى، لأن هذا ممكن لو كان مشروعاً، فعدول عمر عن هذه إلى التوسل بدعاء العباس - رضي الله عنه - أكبر دليل على أن عمر والصحابة الذين كانوا معه كانوا لا يرون التوسل بذاته - صلى الله عليه وسلم -، وعلى هذا جرى عمل السلف من بعدهم، كما رأيت في توسل معاوية بن أبي سفيان والضحاك بن قيس بيزيد بن الأسود الجرشي، وفيهما بيان دعائه بصراحة وجلاء.
فهل يجوز أن يجمع هؤلاء كلهم على ترك التوسل بذاته - صلى الله عليه وسلم - لو كان جائزاً، سيّما والمخالفون يزعمون أنه أفضل من التوسل بدعاء العباس وغيره؟! اللهم إن ذلك غير جائز ولا معقول، بل إن هذا الإجماع منهم من أكبر الأدلة على أن التوسل المذكور غير مشروع عندهم، فإنهم أسمى من أن يستبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير !
الشبهة الثانية: حديث الضرير:
بعد أن فرغنا من تحقيق الكلام في حديث توسل عمر بالعباس رضي الله عنهما، وبينا أنه ليس حجة للمخالفين بل هو عليهم، نشرع الآن في تحقيق القول في حديث الضرير، والنظر في معناه: هل هو حجة لهم أم عليهم أيضاً؟ فنقول:(34/12)
أخرج أحمد وغيره بسند صحيح عن عثمان بن حنيف أن رجلاً ضرير البصر أتى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: ادع الله أن يعافيني. قال: " إن شئت دعوت لك، وإن شئت أخّرتُ ذاك، فهو خير "، وفي رواية: " وإن شئتَ صبرتَ فهو خير لك " ، فقال: ادعهُ. فأمره أن يتوضأ، فيحسن وضوءه، فيصلي ركعتين، ويدعو بهذا الدعاء: "اللهم إني أسألك، وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة، يا محمد إني توجهتُ بك إلى ربي في حاجتي هذه، فتقضى لي، اللهم فشفّعه فيَّ ]وشفّعني فيه[". قال: ففعل الرجل فبرأ (1).
__________
(1) . أخرجه في المسند [4/138]، ورواه الترمذي [4/281-282 بشرح التحفة] وابن ماجة [1/418] والطبراني في الكبير [3/2/2]، والحاكم [1/313] كلهم من طريق عثمان بن عمر (شيخ أحمد فيه): أنا شعبة عن أبي جعفر المدني قال: سمعت عمرة بن خزيمة يحدث عن عثمان به، وقال الترمذي: "حسن صحيح غريب" وفي ابن ماجة " قال أبو إسحاق: حديث صحيح " ثم رواه أحمد: ثنا شعبة به وفيه الرواية الأخرى، وتابعه محمد بن جعفر ثنا شعبة به. رواه الحاكم [1/519] وقال: " صحيح الإسناد " ووافقه الذهبي، وقد أعله بعضهم كصاحب " صيانة الإنسان " وصاحب " تطهير الجنان ص40" وغيرهما بأن في اسناده أبا جعفر، قال الترمذي: " لا نعرفه إلا من هذا الوجه من حديث أبي جعفر، وليس الخطمي " فقالوا: هو إذا الرازي، وهو صدوق ولكنه سيء الحفظ.
قلت: ولكن هذا مدفوع بأن الصواب أنه الخطمي نفسه. وهكذا نسبه أحمد في رواية له [4/138]. وسماه في أخرى: " أبا جعفر المدني " وكذلك سماه الحاكم. والخطمي هذا لا الرازي هو المدني. وقد ورد هكذا في " المعجم الصغير " للطبراني، وفي طبعة بولاق من سنن الترمذي أيضاً. ويؤكد ذلك بشكل قاطع أن الخطمي هذا هو الذي يروي عن عمارة بن خزيمة ويروي عنه شعبة كما في إسناده هنا، وهو صدوق، وعلى هذا فالإسناد جيد لا شبهة فيه.(34/13)
يرى المخالفون: أن هذا الحديث يدل على جواز التوسل في الدعاء بجاه النبي - صلى الله عليه وسلم - أو غيره من الصالحين، إذ فيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - علم الأعمى أن يتوسل به في دعائه، وقد فعل الأعمى ذلك فعاد بصيراً.
وأما نحن فنرى أن هذا الحديث لا حجة لهم فيه على التوسل المختلف فيه، وهو التوسل بالذات، بل هو دليل آخر على النوع الثالث من أنواع التوسل المشروع الذي أسلفناه، لأن توسل الأعمى إنما كان بدعائه. والأدلة على ما نقول من الحديث نفسه كثيرة، وأهمها:
أولاً: أن الأعمى إنما جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ليدعو له، وذلك قوله: (أدعُ الله أن يعافيني) فهو توسل إلى الله تعالى بدعائه - صلى الله عليه وسلم -، لأنه يعلم أن دعاءه - صلى الله عليه وسلم - أرجى للقبول عند الله بخلاف دعاء غيره، ولو كان قصد الأعمى التوسل بذات النبي - صلى الله عليه وسلم - أو جاهه أو حقه لما كان ثمة حاجة به إلى أن يأتي النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ويطلب منه الدعاء له، بل كان يقعد في بيته، ويدعو ربه بأن يقول مثلاً:
(اللهم إني أسألك بجاه نبيك ومنزلته عندك أن يشفيني، وتجعلني بصيراً). ولكنه لم يفعل، لماذا؟ لأنه عربي يفهم معنى التوسل في لغة العرب حق الفهم، ويعرف أنه ليس كلمة يقولها صاحب الحاجة، يذكر فيها اسم الموسَّل به، بل لابد أن يشتمل على المجيء إلى من يعتقد فيه الصلاح والعلم بالكتاب والسنة، وطلب الدعاء منه له.
ثانياً: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعده بالدعاء مع نصحه له ببيان ما هو الأفضل له، وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إن شئت دعوتُ، وإن شئت صبرت فهو خير لك ". وهذا الأمر الثاني هو ما أشار إليه - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الذي رواه عن ربه تبارك وتعالى أنه قال: "إذا ابتليتُ عبدي بحبيبتيه – أي عينيه – فصبر، عوضته منهما الجنة " (1).
__________
(1) . رواه البخاري عن أنس، وهو مخرج في " الصحيحة " [2010].(34/14)
ثالثاً: إصرار الأعمى على الدعاء وهو قوله: (فادع) فهذا يقتضي أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - دعا له، لأنه - صلى الله عليه وسلم - خير من وفى بما وعد، وقد وعده بالدعاء له إن شاء كما سبق، فقد شاء الدعاء وأصر عليه، فإذن لا بد أنه - صلى الله عليه وسلم - دعا له، فثبت المراد، وقد وجه النبي - صلى الله عليه وسلم - الأعمى بدافع من رحمته، وبحرص منه أن يستجيب الله تعالى دعاءه فيه، وجهه إلى النوع الثاني من التوسل المشروع، وهو التوسل بالعمل الصالح، ليجمع له الخير من أطرافه، فأمره أن يتوضأ ويصلي ركعتين ثم يدعو لنفسه وهذه الأعمال طاعة لله سبحانه وتعالى يقدمها بين يدي دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - له، وهي تدخل في قوله تعالى: ?وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ ? كما سبق.
وهكذا فلم يكتف الرسول - صلى الله عليه وسلم - بدعائه للأعمى الذي وعده به، بل شغله بأعمال فيها طاعة لله سبحانه وتعالى وقربة إليه، ليكون الأمر مكتملاً من جميع نواحيه، وأقرب إلى القبول والرضا من الله سبحانه وتعالى، وعلى هذا، فالحادثة كلها تدور حول الدعاء – كما هو ظاهر – وليس فيها ذكر شيء مما يزعمون.(34/15)
رابعاً: أن في الدعاء الذي علمه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إياه أن يقول: ( اللهم فشفعه في (1) وهذا يستحيل حمله على التوسل بذاته - صلى الله عليه وسلم -، أو جاهه، أو حقه، إذ أن المعنى: اللهم اقبل شفاعته - صلى الله عليه وسلم - في، أي اقبل دعاءه في أن ترد عليَّ بصري، والشفاعة لغة الدعاء، وهو المراد بالشفاعة الثابتة له - صلى الله عليه وسلم - ولغيره من الأنبياء والصالحين يوم القيامة، وهذا يبين أن الشفاعة أخص من الدعاء، إذ لا تكون إلا إذا كان هناك اثنان يطلبان أمراً، فيكون أحدهما شفيعاً للآخر، بخلاف الطالب الواحد الذي لم يشفع غيره، قال في "لسان العرب" (8/184): (الشفاعة كلام الشفيع للملك في حاجة يسألها لغيره، والشافع الطالب لغيره، يتشفع به إلى المطلوب، يقال بشفعت بفلان إلى فلان، فشفعني فيه).
فثبت بهذا الوجه أيضاً أن توسل الأعمى إنما كان بدعائه - صلى الله عليه وسلم - لا بذاته.
خامساً: إن مما علم النبي - صلى الله عليه وسلم - الأعمى أن يقوله: ( وشفعني فيه (2) أي اقبل شفاعتي، أي دعائي في أن تقبل شفاعته - صلى الله عليه وسلم -، أي دعاءه في أن ترد علي بصري. هذا المعنى الذي لا يمكن أن يفهم من هذه الجملة سواه.
__________
(1) . هذه الجملة هي عند أحمد والحاكم وغيرهما، وإسنادها صحيح.
(2) . هذه الجملة صحت في الحديث، أخرجها أحمد والحاكم وصححه ووافقه الذهبي، وهي وحدها قاطعة على أن حمل الحديث على التوسل بالذات باطل، كما ذهب إليه بعض المؤلفين حديثاً، والظاهر أنهم علموا ذلك، ولهذا لم يوردوا هذه الجملة مطلقاً، الأمر الذي يدل على مبلغ أمانتهم في النقل. وقريب من هذا أنهم أوردا الجملة التي قبلها " اللهم فشفعه في " من الأدلة على التوسل بالذات، وأما توضيح دلالتها على ذلك فمما لم يتفضلوا به على القراء. ذلك لأن فاقد الشئ لا يعطيه !.(34/16)
ولهذا ترى المخالفين يتجاهلونها ولا يتعرضون لها من قريب أو من بعيد، لأنها تنسف بنيانهم من القواعد، وتجتثه من الجذور، وإذا سمعوها رأيتهم ينظرون إليك نظر المغشي عليه. ذلك أن شفاعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - في الأعمى مفهمومة، ولكن شفاعة الأعمى في الرسول - صلى الله عليه وسلم - كيف تكون؟ لا جواب لذلك عندهم البتة. ومما يدل على شعورهم بأن هذه الجملة تبطل تأويلاتهم أنك لا ترى واحداً منهم يستعملها، فيقول في دعائه مثلاً: اللهم شفع فيَّ نبيك، وشفعني فيه.
سادساً: إن هذا الحديث ذكره العلماء في معجزات النبي - صلى الله عليه وسلم - ودعائه المستجاب، وما أظهره الله ببركة دعائه من الخوارق والإبراء من العاهات، فإنه بدعائه - صلى الله عليه وسلم - لهذا الأعمى أعاد الله عليه بصره، ولذلك رواه المصنفون في "دلائل النبوة" كالبيهقي وغيره، فهذا يدل على أن السر في شفاء الأعمى إنما هو دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم -. ويؤيده كل من دعا به من العميان مخلصاً إليه تعالى، منيباً إليه قد عوفي، بل على الأقل لعوفي واحد منهم، وهذا ما لم يكن ولعله لا يكون أبداً.
كما أنه لو كان السر في شفاء الأعمى أنه توسل بجاه النبي - صلى الله عليه وسلم - وقدره وحقه، كما يفهم عامة المتأخرين، لكان من المفروض أن يحصل هذا الشفاء لغيره من العميان الذين يتوسلون بجاهه - صلى الله عليه وسلم -، بل ويضمون إليه أحياناً جاه جميع الأنبياء المرسلين، وكل الأولياء والشهداء والصالحين، وجاه كل من له جاه عند الله من الملائكة، والإنس والجن أجمعين! ولم نعلم ولا نظن أحداً قد علم حصول مثل هذا خلال القرون الطويلة بعد وفاته - صلى الله عليه وسلم - إلى اليوم.(34/17)
إذا تبين للقارىء الكريم ما أوردناه من الوجوه الدالة على أن حديث الأعمى إنما يدور حول التوسل بدعائه - صلى الله عليه وسلم -، وأنه لا علاقة له بالتوسل بالذات، فحينئذ يتبين له أن قول الأعمى في دعائه: (اللهم إني أسألك، وأتوسل إليك بنبيك محمد - صلى الله عليه وسلم -) إنما المراد به: أتوسل إليك بدعاء نبيك، أي على حذف المضاف، وهذا أمر معروف في اللغة، كقوله تعالى: ?وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيْرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ ? [يوسف:82] أي أهل القرية وأصحاب العير. ونحن والمخالفون متفقون على ذلك، أي على تقدير مضاف محذوف، وهو مثل ما رأينا في دعاء عمر وتوسله بالعباس، فإما أن يكون التقدير: إني أتوجه إليك بـ (جاه) نبيك، ويا محمد إني توجهت بـ (ذات) ـك أو (مكانت) ـك إلى ربي كما يزعمون، وإما أن يكون التقدير: إني أتوجه إليك بـ (دعاء) نبيك، ويا محمد إني توجهت بـ (دعاء) ـك إلى ربي كما هو قولنا. ولا بد لترجيح احد التقديرين من دليل يدل عليه. فأما تقديرهم (بجاهه) فليس لهم عليه دليل لا من هذا الحديث ولا من غيره، إذ ليس في سياق الكلام ولا سباقه تصريح أو إشارة لذكر الجاه أو ما يدل عليه إطلاقاً، كما أنه ليس عندهم شيء من القرآن أو من السنة أو من فعل الصحابة يدل على التوسل بالجاه، فيبقى تقديرهم من غير مرجح، فسقط من الاعتبار، والحمد لله.
أما تقديرنا فيقوم عليه أدلة كثيرة، تقدمت في الوجوه السابقة.
وثمة أمر آخر جدير بالذكر، وهو أنه لو حمل حديث الضرير على ظاهره، وهو التوسل بالذات لكان معطلاً لقوله فيما بعد: (اللهم فشفعه في، وشفعني فيه) وهذا لا يجوز كما لا يخفى، فوجب التوفيق بين هذه الجملة والتي قبلها. وليس ذلك إلا على ما حملناه من أن التوسل كان بالدعاء، فثبت المراد، وبطل الاستدلال به على التوسل بالذات، والحمد لله.(34/18)
على أنني أقول: لو صح أن الأعمى إنما توسل بذاته - صلى الله عليه وسلم -، فيكون حكماً خاصاً به - صلى الله عليه وسلم -، لا يشاركه فيه غيره من الأنبياء والصالحين، وإلحاقهم به مما لا يقبله النظر الصحيح، لأنه - صلى الله عليه وسلم - سيدهم وأفضلهم جميعاً، فيمكن أن يكون هذا مما خصه الله به عليهم ككثير مما صح به الخبر، وباب الخصوصيات لا تدخل فيه القياسات، فمن رأى أن توسل الأعمى كان بذاته لله، فعليه أن يقف عنده، ولا يزيد عليه كما نقل عن الإمام أحمد والشيخ العز بن عبد السلام رحمهما الله تعالى. هذا هو الذي يقتضيه البحث العلمي مع الإنصاف، والله الموفق للصواب.
الشبهة الثالثة: قياس الخالق على المخلوقين:(34/19)
يقول المخالفون، إن التوسل بذوات الصالحين وأقدارهم أمر مطلوب وجائز، لأنه مبني على منطق الواقع ومتطلباته، ذلك أن أحدنا إذا كانت له حاجة عند ملك أو وزير أو مسؤول كبير فهو لا يذهب إليه مباشرة، لأنه يشعر أنه ربما لا يلتفت إليه، هذا إذا لم يرده أصلاً، ولذلك كان من الطبيعي إذا أردنا حاجة من كبير فإننا نبحث عمن يعرفه، ويكون مقرباً إليه أثيراً عنده، ونجعله واسطة بيننا وبينه، فإذا فعلنا ذلك استجاب لنا، وقضيت حاجتنا، وهكذا الأمر نفسه في علاقتنا بالله سبحانه – بزعمهم – فالله عز وجل عظيم العظماء، وكبير الكبراء، ونحن مذنبون عصاة، وبعيدون لذلك عن جناب الله، ليس من اللائق بنا أن ندعوه مباشرة، لأننا إن فعلنا ذلك خفنا أن يردنا على أعقابنا خائبين، أو لا يلتفت إلينا فنرجع بخفي حنين، وهناك ناس صالحون كالأنبياء والرسل والشهداء قريبون إليه سبحانه، يستجيب لهم إذا دعوه، ويقبل شفاعتهم إذا شفعوا لديه، أفلا يكون الأولى بنا والأحرى ان نتوسل إليه بجاههم، ونقدم بين يدي دعائنا ذكرهم، عسى أن ينظر الله تعالى إلينا إكراماً لهم، ويجيب دعاءنا مراعاة لخاطرهم، فلماذا تمنعون هذا النوع من التوسل، والبشر يستعملونه فيما بينهم، فلم لا يستعملونه مع ربهم ومعبودهم؟
ونقول جواباً على هذه الشبهة: إنكم يا هؤلاء إذن تقيسون الخالق على المخلوق، وتشبهون قيوم السماوات والأرض، أحكم الحاكمين، وأعدل العادلين، الرؤوف الرحيم بأولئك الحكام الظالمين، والمتسلطين المتجبرين الذين لا يأبهون لمصالح الرعية، ويجعلون بينهم وبين الرعية حجباً وأستاراً، فلا يمكنها أن تصل إليهم إلا بوسائط ووسائل، ترضي هذه الوسائط بالرشاوي والهبات، وتخضع لها وتتذلل، ووتترضاها وتقرب إليها، فهل خطر ببالكم أيها المساكين أنكم حين تفعلون ذلك تذمون ربكم، وتطعنون به، وتؤذونه، وتصفونه بما يمقته وما يكرهه؟(34/20)
هل خطر ببالكم أنكم تصفون الله تعالى بأبشع الصفات حين تقيسونه على الحكام الظلمة، والمتسلطين الفجرة، فكيف يسَّوغ هذا لكم دينكم، وكيف يتفق هذا مع ما يجب عليكم من تعظيمكم لربكم، وتمجيدكم لخالقكم؟
ترى لو كان يمكن لأحد الناس أن يخاطب الحاكم وجهاً لوجه، ويكلمه دون واسطة أو حجاب أيكون ذلك أكمل وأمدح له، أم حين لا يتمكن من مخاطبته إلا من خلال وسائط قد تطول وقد تقصر؟
يا هؤلاء إنكم تفخرون في أحاديثكم بعمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وتمجدونه وتشيدون به وتبينون للناس أنه كان متواضعاً لا يتكبر ولا يتجبر، وكان قريباً من الناس، يتمكن أضعفهم من لقائه ومخاطبته، وأنه كان يأتيه الأعرابي الجاهل الفظ من البادية، فيكلمه دون واسطة أو حجاب، فينظر في حاجته ويقضيها له إن كانت حقاً. ترى هل هذا النوع من الحكام خير وأفضل، أم ذاك النوع الذي تضربون لربكم به الأمثال؟
فما لكم كيف تحكمون؟ وما لعقولكم أين ذهبت، وما لتفكيركم أين غاب، وكيف ساغ لكم تشبيه الله تعالى بالملك الظالم، أم كيف غطى عنكم الشيطان بشاعة قياس الله سبحانه على الأمير الغاشم؟
يا هؤلاء إنكم لو شبهتم الله تعالى بأعدل الناس وأتقى الناس، وأصلح الناس لكفرتم، فكيف وقد شبهتموه بأظلم الناس، وأفجر الناس، وأخبث الناس؟
يا هؤلاء إنكم لو قستم ربكم الجليل على عمر بن الخطاب التقي العادل لوقعتم في الشرك، فكيف تردى بكم الشيطان، فلم ترضوا بذلك حتى أوقعكم في قياس ربكم على أهل الجور والفساد من الملوك والأمراء والوزراء؟(34/21)
إن تشبيه الله تعالى بخلقه كفر كله حذر منه سبحانه حيث قال: ?وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِّنَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ شَيْئاً وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ * فَلاَ تَضْرِبُواْ لِلّهِ الأَمْثَالَ إِنَّ اللّهَ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ ? ]سورة النحل: الآية73 -74[ (1) كما نفى سبحانه أي مشابهة بينه وبين أي خلق من مخلوقاته فقال: ?لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ ? ]سورة الشورى: الآية 11[. ولكن شر تشبيه أن يشبهه المرء بالأشرار والفجار والفساق من الولاة، وهو يظن أنه يحسن صنعاً ! إن هذا هو الذي يحمل بعض العلماء والمحققين على المبالغة في إنكار التوسل بذوات الأنبياء، واعتباره شركاً، وإن كان هو نفسه ليس شركاً عندنا، بل يخشى ان يؤدي إلى الشرك، وقد أدى فعلاً بأولئك الذين يعتذرون لتوسلهم بذلك التشبيه السابق الذي هو الكفر بعينه لو كانوا يعلمون.
__________
(1) . قال الحافظ ابن كثير: " أي لا تجعلوا لله أنداداً وأشباهاً وأمثالاً ".(34/22)
ومن هنا يتبين أن قول بعض الدعاة الإسلاميين اليوم في الأصل الخامس عشر من أصوله العشرين: (والدعاء إذا قُرن بالتوسل إلى الله بأحد من خلقه خلاف فرعي في كيفية الدعاء، وليس من مسائل العقيدة) ليس صحيحاً على إطلاقه لما علمت أن في الواقع ما يشهد بأنه خلاف جوهري، إذ فيه شرك صريح كما سبق. ولعل مثل هذا القول الذي يهوّن من أمر هذا الانحراف هو أحد الأسباب التي تدفع الكثيرين إلى عدم البحث فيه، وتحقيق الصواب في أمره، مما يؤدي في نهاية المطاف إلى استمرار المبتدعين في بدعهم، واستفحال خطرها بينهم، ولذلك قال الإمام العز بن عبد السلام في رسالة "الواسطة" (ص5): (ومن أثبت الأنبياء وسواهم من مشايخ العلم والدين وسائط بين الله وبين خلقه كالحجّاب الذين بين الملك ورعيته، بحيث يكونون هم يرفعون إلى الله تعالى حوائج خلقه، وأن الله تعالى إنما يهدي عباده ويرزقهم وينصرهم بتوسطهم، بمعنى أن الخلق يسألونهم، وهم يسألون الله كما أن الوسائط عند الملوك يسألون الملك حوائج الناس لقربهم منهم، والناس يسألونهم أدباً منهم أن يباشروا سؤال الملك، ولأن طلبهم من الوسائط أنفع لهم من طلبهم من الملك، لكونهم أقرب إلى الملك من الطلب، فمن أثبتهم وسائط على هذه الوجه فهو كافر مشرك يجب أن يستتاب، فإن تاب وإلا قتل، وهؤلاء مشبَّهون لله، شبهوا الخالق بالمخلوق، وجعلوا لله أنداداً...).
الشبهة الرابعة
هل هناك مانع من التوسل المبتدع على وجه الإباحة لا الاستحباب؟
قد يقول القائل: صحيح أنه لم يثبت في السنة ما يدل على استحباب التوسل بذوات الأنبياء والصالحين، ولكن ما المانع منه إذا فعلناه على طريق الإباحة، لأنه لم يأتِ نهي عنه؟
فأقول: هذه شبهة طالما سمعناها ممن يريد أن يتخذ موقفاً وسطاً بين الفريقين لكي يرضي كلاً منهما، وينجو من حملاتهما عليه!(34/23)
والجواب: يجب أن لا ننسى في هذا المقام معنى الوسيلة إذ هي التي يتوصل بها إلى تحصيل المقصود كما تقدم بيانه.
ولا يخفى أن الذي يراد التوصل إليه إما أن يكون دينياً، أو دنيوياً، وعلى الأول لا يمكن معرفة الوسيلة التي توصل إلى الأمر الديني إلا من طريق شرعي، فلو ادعى رجل أن توسله إلى الله تعالى بآية من آياته الكونية العظيمة كالليل والنهار مثلاً سبب لاستجابة الدعاء لرد عليه ذلك إلا أن يأتي بدليل، ولا يمكن أن يقال حينئذ بإباحة هذا التوسل، لأنه كلام ينقض بعضه بعضاً، إذ أنك تسميه توسلاً، وهذا لم يثبت شرعاً، وليس له طريق آخر في إثباته، وهذا بخلاف القسم الثاني من القسمين المذكورين وهو الدنيوي، فإن أسبابه يمكن أن تعرف بالعقل أو بالعلم أو بالتجربة ونحو ذلك، مثل الرجل يتاجر ببيع الخمر، فهذا سبب معروف للحصول على المال، فهو وسيلة لتحقيق المقصود وهو المال، ولكن هذه الوسيلة نهى الله عنها، فلا يجوز اتباعها بخلاف ما لو تاجر بسبب لم يحرمه الله عز وجل، فهو مباح، أما السبب المدعى أنه يقرب إلى الله وأنه أرجى في قبوله الدعاء، فهذا سبب لا يعرف إلا بطريق الشرع، فحين يقال: بأن الشرع لم يرد بذلك، لم يجز تسميته وسيلة حتى يمكن أن يقال إنه مباح التوسل به.
وشيء ثان: وهو أن التوسل الذي سلمنا بعدم وروده قد جاء في الشرع ما يغني عنه، وهو التوسلات الثلاثة التي سبق ذكرها في أول البحث، فما الذي يحمل المسلم على اختيار هذا التوسل الذي لم يرد، والإعراض عن التوسل الذي ورد؟ وقد اتفق العلماء على أن البدعة إذا صادمت سنة فهي بدعة ضلالة اتفاقاً، وهذا التوسل من هذا القبيل، فلم يجز التوسل به، ولو على طريق الإباحة دون الاستحباب!.(34/24)
وأمر ثالث: وهو أن هذا التوسل بالذوات يشبه توسل الناس ببعض المقربين إلى الملوك والحكام، والله تبارك وتعالى ليس كمثله شيء باعتراف المتوسلين بذلك، فإذا توسل المسلم إليه تعالى بالأشخاص فقد شبهه عملاً بأولئك الملوك والحكام كما سبق بيانه، وهذا غير جائز.
الشبهة الخامسة
قياس التوسل بالذات على التوسل بالعمل الصالح
هذه شبهة أخرى يثيرها بعض أولئك المبتدعين(1) زينها لهم الشيطان، ولقنهم إياها حيث يقولون: قد قدمتم أن من التوسل المشروع اتفاقاً التوسل إلى الله تعالى بالعمل الصالح، فإذا كان التوسل بهذا جائزاً فالتوسل بالرجل الصالح الذي صدر منه هذا العمل أولى بالجواز، وأحرى بالمشروعية، فلا ينبغي إنكاره.
والجواب من وجهين:
الوجه الأول: أن هذا قياس، والقياس في العبادات باطل كما تقدم (2)، وما مثل من يقول هذا القول إلا كمثل من يقول: إذا جاز توسل المتوسل بعمله الصالح – وهو بلا شك دون عمل الولي والنبي – جاز أن يتوسل بعمل النبي والولي، وهذا باطل، وما لزم منه باطل فهو باطل.
الوجه الثاني: أن هذه مغالطة مكشوفة، لأننا لم نقل – كما لم يقل أحد من السلف قبلنا – أنه يجوز للمسلم أن يتوسل بعمل غيره الصالح، وإنما التوسل المشار إليه إنما هو التوسل بعمل المتوسل الصالح نفسه، فإذا تبين هذا قلبنا عليهم كلامهم السابق فقلنا: إذا كان لا يجوز التوسل بالعمل الصالح الذي صدر من غير الداعي فأولى ثم أولى ألا يجوز التوسل بذاته، وهذا بين لا يخفى والحمد لله.
أحاديث وآثار وقصص ضعيفة وموضوعة
في التوسل
أولاً: الأحاديث الضعيفة والموضوعة
الحديث الأول:
" توسلوا بجاهي، فإن جاهي عند الله عظيم ". أو: " إذا سألتم الله، فاسألوه بجاهي، فإن جاهي عند الله عظيم ".
__________
(1) . منهم صاحب كتاب (التاج).
(2) . انظر صفحة 145 من كتاب التوسل للألباني.(34/25)
قال شيخ الإسلام ابن تيميه (1): هذا الحديث كذب ليس في شئ من كتب المسلمين التي يعتمد عليها أهل الحديث، ولا ذكره أحد من أهل العلم بالحديث، مع أن جاهه عند الله تعالى أعظم من جاه جميع الأنبياء والمرسلين. أ.هـ
وقال العلامة المحدث الألباني (2): هذا باطل لا أصل له في شئ من كتب الحديث البتة، وإنما يرويه بعض الجهال بالسنة . أ.هـ
الحديث الثاني:
" إذا أعيتكم الأمور فعليكم بأهل القبور ". أو: " فاستغيثوا بأهل القبور ".
قال شيخ الإسلام ابن تيمية (3): فهذا الحديث كذب مفترى على النبي - صلى الله عليه وسلم - بإجماع العارفين بحديثه، لم يروه أحد من العلماء بذلك، ولا يوجد في شئ من كتب الحديث المعتمدة. أ.هـ
قال الإمام ابن القيم (4): وهو يعدد الأمور التي أوقعت عباد القبور للافتتان بها: " ومنها أحاديث مكذوبة مختلقة، وضعها أشباه عباد الأصنام: من المقابرية على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تناقض دينه وما جاء به، كحديث: " إذا أعيتكم الأمور، فعليكم بأصحاب القبور ". وحديث: " لو أحسن أحدكم ظنه بحجر نفعه ". وأمثال هذه الأحاديث التي هي مناقضة لدين الإسلام، وضعها المشركون، وراجت على أشباههم من الجهال والضلال " أ.هـ.
الحديث الثالث:
__________
(1) . قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة لشيخ الإسلام ابن تيميه: ص 168. وانظر اقتضاء الصراط المستقيم له أيضاً [2/783].
(2) . التوسل أنواعه وأحكامة للعلامة الألباني ص127.
(3) . مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيميه [11/293].
(4) . إغاثة اللهفان لابن القيم: [1/243].(34/26)
عن أنس بن مالك: لما ماتت فاطمة بنت أسد بن هاشم أم علي رضي الله عنها دعا أسامة ابن زيد وأبا أيوب الأنصاري وعمر بن الخطاب وغلاماً أسود يحفرون، فلما فرغ دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فاضطجع فيه فقال: " الله الذي يحيي ويميت، وهو حي لا يموت، اغفر لأمي فاطمة بنت أسد، ولقنها حجتها، ووسع عليها مدخلها بحق نبيك والأنبياء الذي من قبلي، فإنك أرحم الراحمين " .
قال العلامة المحدث الألباني (1): ليس في هذا الحديث شيء من الترغيب، ولا هو يبين فضل عمل ثابت في الشرع، إنما هو ينقل أمراً دائراً بين أن يكون جائزاً أو غير جائز، فهو إذن يقرر حكماً شرعياً لو صح، وأنتم إنما توردونه من الأدلة على جواز هذا التوسل المختلف فيه، فإذا سلمتم بضعفه لم يجز لكم الاستدلال به، وما أتصور عاقلاً يوافقكم على إدخال هذا الحديث في باب الترغيب والترهيب، وهذا شأن من يفر من الخضوع للحق، يقول ما لا يقوله جميع العقلاء. أ.هـ
الحديث الرابع:
عن أبي سعيد الخدري مرفوعاً: " من خرج من بيته إلى الصلاة، فقال: اللهم إني أسألك، بحق السائلين عليك، وأسألك؛ بحق ممشاي هذا. فإني لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا رياءً ولا سمعة. وخرجت اتقاء سخطك وابتغاء مرضاتك. فأسألك أن تعيذني من النار وأن تغفر لي ذنوبي. إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، أقبل الله عليه بوجهه واستغفر له سبعون ألف ملك " (2).
__________
(1) . أنظر: التوسل أنواعه وأحكامه للعلامة الألباني ص110 وسلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة له [1/32] حديث رقم (23) فقد بين الشيخ ناصر رحمه الله ضعف هذا الحديث وقد فصل القول في ذلك فليرجع إليه هناك.
(2) . أخرجه ابن ماجه برقم (778). والإمام أحمد [3/21]. وقد ضعفه العلامة الألباني في السلسلة الضعيفة [1/34] وفي التوسل له ص99. قال فؤاد عبد الباقي: في الزوائد: هذا إسناد مسلسل بالضعفاء. عطية هو العوفي، وفضيل بن مرزق، والفضل بن الموفق كلهم ضعفاء.(34/27)
قال شيخ الإسلام ابن تيميه (1): أما قول القائل أسألك بحق السائلين عليك: فإنه روي في حديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - رواه ابن ماجه؛ لكن لا يقوم بإسناده حجة، وإن هذا الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان معناه: أن حق السائلين على الله أن يجيبهم، وحق العابدين له أن يثيبهم، وهو كتب ذلك على نفسه، كما قال: ? وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ? [ البقرة:186]. فهذا سؤال الله بما أوجبه على نفسه كقول القائلين: ? رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ ? [آل عمران:194] وكدعاء الثلاثة: الذين آووا إلى الغار لما سألوه بأعمالهم الصالحة، التي وعدهم أن يثيبهم عليها. أ.هـ
قال العلامة الألباني (2): وجملة القول أن هذا الحديث ضعيف من طريقيه وأحدهما أشد ضعفاً من الآخر، وقد ضعفه البوصيري والمنذري وغيرهما من الأئمة، ومن حسنه فقد وهم أو تساهل . أ.هـ
الحديث الخامس:
عن عمر بن الخطاب مرفوعاً: " لما اقترف آدم الخطيئة، قال: يا رب أسألك بحق محمد لما غفرت لي، فقال: يا آدم ! وكيف عرفت محمداً ولم أخلقه؟ قال: يا رب لما خلقتني بيدك ونفخت في من روحك رفعت رأسي؛ فرأيت على قوائم العرش مكتوباً: لا إله إلا الله محمد رسول الله، فعلمت أنك لم تضف إلى اسمك، إلا أحب الخلق إليك، فقال: غفرت لك، ولولا محمد ما خلقتك " (3)
__________
(1) . مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيميه [1/369].
(2) . سلسلة الأحاديث الضعيفة للعلامة الألباني [1/38] رقم (24).
(3) . أخرجه الحاكم في المستدرك [2/615]. وعنه ابن عساكر [2/3 ، 32/2] وكذا البيهقي. قال الحاكم: صحيح الإسناد ولكن تعقبه الذهبي بقوله: قلت: بل موضوع، وعبد الرحمن واه، وعبد الله بن أسلم الفهري لا أدري من ذا.
قال العلامة الألباني: موضوع. وانظر: سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوع [1/38] حديث رقم (25) والتوسل أنواعه وأحكامه ص113. وقد فصل الألباني القول في هذا الحديث فليرجع إليه ففيه فوائد عظيمة.(34/28)
.
قال شيخ الإسلام ابن تيميه (1): ورواية الحاكم لهذا الحديث مما أنكر عليه، فإنه نفسه قد قال في كتاب: (المدخل إلى معرفة الصحيح من السقيم): عبد الرحمن بن زيد بن أسلم روى عن أبيه أحاديث موضوعة لا يخفى على من تأملها من أهل الصنعة أن الحمل فيها عليه، قلت: وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ضعيف باتفاقهم يغلط كثيراً. أ.هـ
وقال العلامة الألباني (2): وجملة القول أن الحديث لا أصل له عنه - صلى الله عليه وسلم - فلا جرم أن حكم عليه بالبطلان الحافظان الجليلان الذهبي والعسقلاني كما تقدم النقل عنهما. أ.هـ
الحديث السادس:
عن أمية بن عبد الله بن خالد بن أسيد قال: كان رسول الله يستفتح بصعاليك المهاجرين (3).
قال العلامة الألباني (4): " فثبت بذلك ضعف الحديث وأنه لا تقوم به حجة ". ثم قال: " إن الحديث لو صح فلا يدل إلا على مثل ما دل عليه حديث عمر (5) وحديث الأعمى (6) من التوسل بدعاء الصالحين .
__________
(1) . قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة لشيخ الإسلام ابن تميمة ص69.
(2) . سلسلة الأحاديث الضعيفة للعلامة الألباني [1/40].
(3) . أخرجه الطبراني في الكبير [1/269] وذكره التبريزي في مشكاة المصابيح (5247) والقرطبي في تفسيره [2/26].
قال ابن عبد البر في الاستيعاب [1/38]: " لا تصح عندي صحبته –أي أمية- والحديث مرسل ". وقال الحافظ في الإصابة [1/133]: " ليست له صحبة ولا رواية ". وقال العلامة الألباني في التوسل ص111: " مداره على أمية هذا ولم تثبت صحبته فالحديث مرسل ضعيف ".
(4) . التوسل أنواعه وأحكامه للعلامة الألباني ص112.
(5) . حديث عمر هو حديث طلب السقيا من العباس عم النبي - صلى الله عليه وسلم -.
(6) . حديث الأعمى هو حديث الرجل الأعمى الذي طلب من النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يدعو الله له أن يكشف بصره.(34/29)
قال المناوي في (فيض القدير) (1): " كان يستفتح " أي يفتتح القتال، من قوله تعالى: ? إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَاءكُمُ الْفَتْحُ ? [الأنفال:19]. ذكره الزمخشري. " ويستنصر " أي يطلب النصرة " بصعاليك المسلمين " أي: بدعاء فقرائهم الذين لا مال لهم . أ.هـ
الحديث السابع:
عن عبد الله بن مسعود عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " حياتي خير لكم، تحدثون ويحدث لكم، ووفاتي خير لكم، تعرض علي أعمالكم، فإن رأيت خيراً حمدت الله عليه، وإن رأيت شراً استغفرت الله لكم " (2).
قال العلامة الألباني (3): بعد أن ساق كلام العلماء في الحديث جرحاً وتعديلاً قال: وجملة القول أن الحديث ضعيف بجميع طرقه، وخيرها حديث بكر بن عبد المطلب المزني وهو مرسل، وهو من أقسام الحديث الضعيف عند المحدثين، ثم حديث ابن مسعود وهو خطأ، وشرها حديث أنس بطريقيه . أ.هـ
ثانياً: الآثار والقصص الضعيفة والموضوعة:
الأثر الأول:
عن مالك الدار – وكان خازن عمر – قال : " أصاب الناس قحط في زمن عمر، فجاء رجل إلى قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا رسول الله استسق لأمتك فإنهم قد هلكوا، فأتى الرجل في المنام، فقيل له: ائت عمر .. الأثر " (4).
__________
(1) . فيض القدير [5/219].
(2) . أخرجه النسائي [1/189] والطبراني في المعجم الكبير [3/81/2] وأبو نعيم في أخبار أصبهان [2/205] وابن عساكر [9/189/2] وضعفه الألباني في سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة [2/404]
(3) . سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة للعلامة الألباني [2/404-406].
(4) . ذكره الحافظ ابن حجر في فتح الباري [2/397]. قال العلامة الألباني في التوسل ص131: الأثر ضعيف لجهالة مالك الدار.(34/30)
قال شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله (1): لم يكن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا أحد من الأنبياء قبله شرعوا للناس أن يدعوا الملائكة والأنبياء والصالحين، ويستشفعوا بهم، لا بعد مماتهم، ولا في مغيبهم، فلا يقول أحد: ( يا ملائكة الله اشعفوا لي عند الله، سلوا الله لنا أن ينصرنا أو يرزقنا أو يهدينا ) وكذلك لا يقول لمن مات من الأنبياء والصالحين: يا نبي الله يا ولي الله ادع الله لي، سل الله لي، سل الله أن يغفر لي ... ولا يقول: ( أشكوا إليك ذنوبي أو نقص رزقي أو تسلط العدو علي، أو أشكوا إليك فلاناً الذي ظلمني ). ولا يقول: ( أنا نزيلك، أنا ضيفك، أنا جارك، أو أنت تجير من يستجيرك، ولا يكتب أحد ورقة ويعلقها عند القبور، ولا يكتب أحد محضراً أنه استجار بفلان، ويذهب بالمحضر إلى من يعمل بذلك المحضر ونحو ذلك مما يفعله أهل البدع من أهل الكتاب والمسلمين، كما يفعله النصارى في كنائسهم، وكما يفعله المبتدعون من المسلمين عند قبور الأنبياء والصالحين أو في مغيبهم. فهذا مما علم بالاضطرار من دين الإسلام، وبالنقل المتواتر وبإجماع المسلمين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يشرع هذا لأمته، وكذلك الأنبياء قبله لم يشرعوا شيئاً من ذلك، ولا فعل هذا أحد من أصحابه - صلى الله عليه وسلم - والتابعين لهم بإحسان، ولا استحب ذلك أحد من أئمة المسلمين، ولا الأئمة الأربعة ولا غيرهم، ولا ذكر أحد من الأئمة لا في مناسك الحج ولا غيرها أنه يستحب لأحد أن يسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عند قبره أن يشفع له أو يدعو لأمته، أو يشكو إليه ما نزل بأمته من مصائب الدنيا والدين.
__________
(1) . قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة لشيخ الإسلام ابن تيميه ص19-20.(34/31)
وكان أصحابه يبتلون بأنواع البلاء بعد موته، فتارة بالجدب، وتارة بنقص الرزق وتارة بالخوف وقوة العدو، وتارة بالذنوب والمعاصي، ولم يكن أحد منهم يأتي إلى قبر الرسول ولا قبر الخليل ولا قبر أحد من الأنبياء فيقول: نشكو إليك جدب الزمان أو قوة العدو، أن ينصرهم أو يغفر لهم، بل هذا وما يشبهه من البدع المحدثة التي لم يستحبها أحد من أئمة المسلمين، فليست واجبة ولا مستحبة باتفاق أئمة المسلمين ... الخ ما قال رحمه الله تعالى.
الأثر الثاني:
عن أبي الجوزاء أوس بن عبد الله، قال: قحط أهل المدينة قحطاً شديداً، فشكو إلى عائشة، فقالت: انظروا إلى قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم فاجعلوا منه كواً إلى السماء، حتى لا يكون بينه وبين السماء سقف، قالوا: ففعلوا، فمطرنا مطراً حتى نبت العشب، وسمنت الإبل، حتى تفتقت من الشحم، فسمي عام الفتق (1).
__________
(1) . أخرجه الدارمي [1/56] برقم (92). قال العلامة الألباني في التوسل ص139: وهذا سند ضعيف لا تقوم به حجة لأمور ثلاثة ... ثم ذكره هذه الأمور فلتراجع هناك.(34/32)
قال شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله (1): وما روي عن عائشة - رضي الله عنه - من فتح الكوة من قبره إلى السماء لينزل المطر فليس بصحيح، ولا يثبت إسناده، ومما يبين كذب هذا أنه في مدة عائشة لم يكن للبيت كوة، بل كان باقياً كما كان على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، بعضه مسقوف وبعضه مكشوف، وكانت الشمس تنزل فيه، كما ثبت في الصحيحين عن عائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي العصر والشمس في حجرتها، لم يظهر الفيء بعد (2)، ولم تزل الحجرة كذلك حتى زاد الوليد بن عبد الملك في المسجد في إمارته لما زاد الحجر في مسجد الرسول - صلى الله عليه وسلم - . ومن حينئذ دخلت الحجرة النبوية في المسجد، ثم إنه بني حول حجرة عائشة التي فيها القبر جدار عال، وبعد ذلك جعلت الكوة لينزل منها من ينزل إذا احتيج إلى ذلك لأجل كنس أو تنظيف. وأما وجود الكوة في حياة عائشة فكذب بين، ولو صح ذلك لكان حجة ودليلاً على أن القوم لم يكونوا يقسمون على الله بمخلوق، ولا يتوسلون في دعائهم بميت، ولا يسألون الله به، وإنما فتحوا القبر لتنزل الرحمة عليه، ولم يكن هناك دعاء يقسمون به عليه.
فأين هذا من هذا ؟ والمخلوق إنما ينفع المخلوق بدعائه أو بعمله، فإن الله تعالى يحب أن يتوسل إليه بالإيمان والعمل والصلاة والسلام على نبيه - صلى الله عليه وسلم - ومحبته وطاعته وموالاته، فهذه هي الأمور التي يحب الله أن نتوسل بها إليه ... الخ ما قاله رحمه الله . أ.هـ
الأثر الثالث:
__________
(1) . انظر: الرد على البكري لشيخ الإسلام ابن تيميه ص (74:68).
(2) . أخرجه البخاري برقم (521) ومسلم برقم (611).(34/33)
عن علي بن ميمون، قال: سمعت الشافعي يقول: إني لأتبرك بأبي حنيفة، وأجيء إلى قبره في كل يوم -يعني زائراً– فإذا عرضت لي حاجة صليت ركعتين، وجئت إلى قبره، وسألت الله تعالى الحاجة عنده، فما تبعد عني، حتى تقضى (1).
قال ابن القيم (2): " والحكاية المنقولة عن الشافعي أنه كان يقصد الدعاء عند قبر أبي حنيفة من الكذب الظاهر " أ.هـ
وقال العلامة المحدث الألباني (3): فهذه رواية ضعيفة، بل باطلة، فإن عمر بن إسحاق بن إبراهيم غير معروف، وليس له ذكر في شيء من كتب الرجال، ويحتمل أن يكون هو عمرو – بفتح العين – ابن إسحاق بن إبراهيم بن حميد السكن أبو محمد التونسي، وقد ترجمه الخطيب [12/226] وذكر أنه بخاري قدم بغداد حاجاً سنة 341هـ، ولم يذكر فيه جرحاً ولا تعديلاً، فهو مجهول الحال، ويبعد أن يكون هو هذا، إذا أن وفاة شيخه علي بن ميمون سنة 247هـ على أكثر الأقوال، فبين وفاتهما نحو مائة سنة، فيبعد أن يكون قد أدركه، وعلى كل حال فهي رواية ضعيفة ولا يقوم على صحتها دليل " أ.هـ
وختاما أخي المسلم:
وبعد أن عرفت جملة من الأحاديث والآثار والقصص الضعيفة والموضوعة والمكذوبة في التوسل البدعي الذي يتمسك به أهل البدع والضلال.
فإياك يا ابن الإسلام أن تغتر بمثل هذه الترهات !
وتوكل على الحي الذي لا يموت فإنه قال: ? وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ? [الطلاق:3].
ولا تناد ولا تلجأ إلا إلى الله.
ولا تستنجد ولا تستغيث إلا بالله.
ولا تدع مع الله أحداً.
__________
(1) . أخرج هذه الحكاية الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد [1/123] من طريق عمر بن إسحاق بن إبراهيم قال: نبأنا علي بن ميمون قال: سمعت الشافعي به. قال العلامة الألباني في سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوع [1/31]: فهذه رواية ضعيفة بل باطلة.
(2) .إغاثة اللهفان لابن القيم [1/246].
(3) . سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة للعلامة الألباني [1/31] حديث رقم (22).(34/34)
أخي: إذا سألت فاسأل الله.
وإذا استعنت فاستعن بالله.
واعلم أن الأمة لو اجتمعت على ضرك أو نفعك لا يضرونك ولا ينفعونك إلا بما كتبه الله لك أو عليك.
أسأل الله أن يوفقك ويشرح لك صدرك وأن تكون ممن يتوسل إلى الله توسلاً شرعياً لا بدعياً، وأسأله تعالى أن يغفر لك ذنبك وأن ينجيك من عذاب النار وبئس القرار.
والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.
جمع وإعداد: أبو حميد عبد الله بن حميد الفلاسي
عفا الله عنه وغفر له ولوالديه ولجميع المسلمين والمسلمات
المراجع:
التوسل أنواعه وأحكامه للشيخ المحدث محمد ناصر الدين الألباني رحمه الله - باختصار.
التوسل حكمه وأقسامه جمع وإعداد أبو أنس علي بن حسين أبو لوز - باختصار.
المقدمة مأخوذة من مقال منشور في شبكة الإنترنت.(34/35)
الجَوَاب ُالبَاِهر
في زُوَّارِ المَقَابِر
لشيخ الإسلام ابن تيمية
رحمه الله تعالى
بسم الله الرحمن الرحيم
وحسبنا الله ونعم الوكيل
الحمد لله نستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له . ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ونشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليما .
أما بعد : يقول أحمد ابن تيمية : إنني لما علمت مقصود ولي الأمر السلطان - أيده الله وسدده فيما رسم به - كتبت إذ ذاك كلاما مختصرا لأن الحاضر استعجل بالجواب وهذا فيه شرح الحال أيضا مختصرا وإن رسم ولي الأمر أيده الله وسدده أحضرت له كتبا كثيرة من كتب المسلمين - قديما وحديثا - مما فيه كلام النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين وكلام أئمة المسلمين الأربعة وغير الأربعة وأتباع الأربعة مما يوافق ما كتبته في الفتيا ؛ فإن الفتيا مختصرة لا تحتمل البسط . ولا يقدر أحد أن يذكر خلاف ذلك ؛ لا عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن الصحابة ولا عن التابعين ولا عن أئمة المسلمين : لا الأربعة ولا غيرهم .
وإنما خالف ذلك من يتكلم بلا علم وليس معه بما يقوله نقل لا عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن الصحابة ولا عن التابعين ولا عن أئمة المسلمين ولا يمكنه أن يحضر كتابا من الكتب المعتمدة عن أئمة المسلمين بما يقوله ؛ ولا يعرف كيف كان الصحابة والتابعون يفعلون في زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم وغيره .(35/1)
وأنا خطي موجود بما أفتيت به وعندي مثل هذا كثير كتبته بخطي ويعرض على جميع من ينسب إلى العلم شرقا وغربا فمن قال إن عنده علما يناقض ذلك فليكتب خطه بجواب مبسوط يعرف فيه من قال هذا القول قبله وما حجتهم في ذلك ؟ وبعد ذلك فولي الأمر السلطان أيده الله إذا رأى ما كتبته وما كتبه غيري فأنا أعلم أن الحق ظاهر مثل الشمس : يعرفه أقل غلمان السلطان الذي ما رئي في هذه الأزمان سلطان مثله زاده الله علما وتسديدا وتأييدا .(35/2)
فالحق يعرفه كل أحد فإن الحق الذي بعث الله به الرسل لا يشتبه بغيره على العارف كما لا يشتبه الذهب الخالص بالمغشوش على الناقد . والله تعالى أوضح الحجة وأبان المحجة بمحمد خاتم المرسلين . وأفضل النبيين وخير خلق الله أجمعين . فالعلماء ورثة الأنبياء عليهم بيان ما جاء به الرسول ورد ما يخالفه . فيجب أن يعرف " أولا " ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم فإن الأحاديث المكذوبة كثيرة وبعض المنتسبين إلى العلم قد صنف في هذه المسألة وما يشبهها مصنفا ذكر فيه من الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى الصحابة ألوانا يغتر بها الجاهلون . وهو لم يتعمد الكذب ؛ بل هو محب للرسول صلى الله عليه وسلم معظم له لكن لا خبرة له بالتمييز بين الصدق والكذب فإذا وجد بعض المصنفين في فضائل البقاع وغيرها قد نسب حديثا إلى النبي صلى الله عليه وسلم أو إلى الصحابة اعتقده صحيحا وبنى عليه ويكون ذلك الحديث ضعيفا بل كذبا عند أهل المعرفة بسنته صلى الله عليه وسلم . ثم إذا ميز العالم بين ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم وما لم يقله فإنه يحتاج أن يفهم مراده ويفقه ما قاله ويجمع بين الأحاديث ويضم كل شكل إلى شكله فيجمع بين ما جمع الله بينه ورسوله ويفرق بين ما فرق الله بينه ورسوله . فهذا هو العلم الذي ينتفع به المسلمون ويجب تلقيه وقبوله وبه ساد أئمة المسلمين كالأربعة وغيرهم رضي الله عنهم أجمعين . وولي الأمر سلطان المسلمين أيده الله وسدده هو أحق الناس بنصر دين الإسلام وما جاء به الرسول عليه السلام وزجر من يخالف ذلك ويتكلم في الدين بلا علم ويأمر بما نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن يسعى في إطفاء دينه إما جهلا وإما هوى . وقد نزه الله رسوله صلى الله عليه وسلم عن هذين الوصفين فقال تعالى : { والنجم إذا هوى } { ما ضل صاحبكم وما غوى } { وما ينطق عن الهوى } { إن هو إلا وحي يوحى } وقال تعالى عن الذين يخالفونه : { إن يتبعون إلا(35/3)
الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى } ويخالفون شريعته وما كان عليه الصحابة والتابعون وأئمة المسلمين الذين يعرفون سنته ومقاصده ويتحرون متابعته صلى الله عليه وسلم بحسب جهدهم رضي الله عنهم أجمعين . فولي الأمر السلطان أعزه الله إذا تبين له الأمر فهو صاحب السيف الذي هو أولى الناس بوجوب الجهاد في سبيل الله باليد لتكون كلمة الله هي العليا ويكون الدين كله لله ويبين تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وتظهر حقيقة التوحيد ورسالة الرسول الذي جعله الله أفضل الرسل وخاتمهم ويظهر الهدى ودين الحق الذي بعث به والنور الذي أوحى إليه ويصان ذلك عن ما يخلطه به أهل الجهل والكذب الذين يكذبون على الله ورسوله ويجهلون دينه ويحدثون في دينه من البدع ما يضاهي بدع المشركين وينتقصون شريعته وسنته وما بعث به من التوحيد ففي تنقيص دينه وسنته وشريعته من التنقص له والطعن عليه ما يستحق فاعله عقوبة مثله . فولاة أمور المسلمين أحق بنصر الله ورسوله والجهاد في سبيله وإعلاء دين الله وإظهار شريعة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي هي أفضل الشرائع التي بعث الله بها خاتم المرسلين وأفضل النبيين وما تضمنته من توحيد الله وعبادته لا شريك له وأن يعبد بما أمر وشرع لا يعبد بالأهواء والبدع . وما من الله به على ولاة الأمر وما أنعم الله به عليهم في الدنيا وما يرجونه من نعمة الله في الآخرة إنما هو باتباعهم للرسول صلى الله عليه وسلم ونصر ما جاء به من الحق .(35/4)
وقد طلب ولي الأمر أيده الله وسدده المقصود بما كتبته . والمقصود طاعة الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم وأن نعبد الله وحده لا نشرك به شيئا . ولا تكون العبادة إلا بشريعة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ما أوجبه الله تعالى كالصلوات الخمس وصيام شهر رمضان وحج البيت ؛ أو ندب إليه كقيام الليل والسفر إلى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسجد الأقصى للصلاة فيهما والقراءة والذكر والاعتكاف وغير ذلك مع ما في ذلك من الصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم عند دخول المسجد والخروج منه وفي الصلاة والاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم فيما كان يفعل في المساجد وفي زيارة القبور وغير ذلك . فإن الدين هو طاعته فيما أمر والاقتداء به فيما سنه لأمته . فلا تتجاوز سنته فيما فعله في عبادته : مثل الذهاب إلى مسجد قباء والصلاة فيه وزيارة شهداء أحد وقبور أهل البقيع .(35/5)
فأما ما لا يحبه الله ورسوله ولا هو مستحب فهذا ليس من العبادات والطاعات التي يتقرب بها إلى الله عز وجل : كعبادات أهل البدع من المشركين وأهل الكتاب ومن ضاهاهم ؛ فإن لهم عبادات ما أنزل الله بها كتابا ولا بعث بها رسولا ؛ مثل عبادات المخلوقين كعبادات الكواكب أو الملائكة أو الأنبياء أو عبادة التماثيل التي صورت على صورهم كما تفعله النصارى في كنائسهم يقولون إنهم يستشفعون بهم . وفي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في خطبته : { خير الكلام كلام الله وخير الهدي هدي محمد وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة } أي ما كان بدعة في الشرع وقد يكون مشروعا لكنه إذا فعل بعده سمي بدعة كقول عمر رضي الله عنه في قيام رمضان لما جمعهم على قارئ واحد فقال : نعمت البدعة هذه والتي ينامون عنها أفضل . وقيام رمضان قد سنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : { إن الله قد فرض عليكم صيام رمضان وسننت لكم قيامه } . وكانوا على عهده صلى الله عليه وسلم يصلون أوزاعا متفرقين يصلي الرجل وحده ويصلي الرجل ومعه جماعة جماعة . وقد صلى بهم النبي صلى الله عليه وسلم جماعة مرة بعد مرة . وقال : { إن الرجل إذا صلى مع الإمام حتى ينصرف كتب له قيام ليلة } . لكن لم يداوم على الجماعة كالصلوات الخمس خشية أن يفرض عليهم فلما مات أمنوا زيادة الفرض فجمعهم عمر على أبي بن كعب . والنبي صلى الله عليه وسلم يجب علينا أن نحبه حتى يكون أحب إلينا من أنفسنا وآبائنا وأبنائنا وأهلنا وأموالنا ونعظمه ونوقره ونطيعه باطنا وظاهرا ونوالي من يواليه ونعادي من يعاديه . ونعلم أنه لا طريق إلى الله إلا بمتابعته صلى الله عليه وسلم . ولا يكون وليا لله بل ولا مؤمنا ولا سعيدا ناجيا من العذاب إلا من آمن به واتبعه باطنا وظاهرا . ولا وسيلة يتوسل إلى الله عز وجل بها إلا الإيمان به وطاعته . وهو أفضل الأولين والآخرين وخاتم النبيين والمخصوص يوم القيامة بالشفاعة(35/6)
العظمى التي ميزه الله بها على سائر النبيين صاحب المقام المحمود واللواء المعقود لواء الحمد آدم فمن دونه تحت لوائه . وهو أول من يستفتح باب الجنة { فيقول الخازن : من أنت ؟ فيقول : أنا محمد . فيقول بك أمرت أن لا أفتح لأحد قبلك } .
وقد فرض على أمته فرائض وسن لهم سننا مستحبة فالحج إلى بيت الله فرض والسفر إلى مسجده والمسجد الأقصى للصلاة فيهما والقراءة والذكر والدعاء والاعتكاف مستحب باتفاق المسلمين . وإذا أتي مسجده فإنه يسلم عليه ويصلى عليه . ويسلم عليه في الصلاة ويصلى عليه فيها فإن الله يقول : { إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما } ومن صلى عليه مرة صلى الله عليه عشرا ومن سلم عليه سلم الله عليه عشرا . وطلب الوسيلة له كما ثبت في الصحيح أنه قال : { إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول ثم صلوا علي فإنه من صلى علي مرة صلى الله عليه بها عشرا ثم سلوا الله لي الوسيلة فإنها درجة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله وأرجو أن أكون أنا ذلك العبد فمن سأل الله لي الوسيلة حلت عليه شفاعتي يوم القيامة } رواه مسلم . وروى البخاري عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : { من قال حين يسمع النداء : اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمدا الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاما محمودا الذي وعدته إنك لا تخلف الميعاد : حلت له شفاعتي يوم القيامة } . وهذا مأمور به . والسلام عليه عند قبره المكرم جائز لما في السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { ما من أحد يسلم علي إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام } . وحيث صلى الرجل وسلم عليه من مشارق الأرض ومغاربها فإن الله يوصل صلاته وسلامه إليه لما في السنن عن أوس بن أوس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { أكثروا علي من الصلاة يوم الجمعة وليلة الجمعة فإن صلاتكم معروضة علي . قالوا : كيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت ؟ - أي(35/7)
صرت رميما - قال : إن الله حرم على الأرض أن تأكل لحوم الأنبياء } . ولهذا قال صلى الله عليه وسلم { لا تتخذوا قبري عيدا وصلوا علي حيثما كنتم فإن صلاتكم تبلغني } . رواه أبو داود وغيره . فالصلاة تصل إليه من البعيد كما تصل إليه من القريب . وفي النسائي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : { إن لله ملائكة سياحين يبلغوني عن أمتي السلام } . وقد أمرنا الله أن نصلي عليه وشرع ذلك لنا في كل صلاة أن نثني على الله بالتحيات ثم نقول : { السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته } . وهذا السلام يصل إليه من مشارق الأرض ومغاربها . وكذلك إذا صلينا عليه فقلنا : { اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد . وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد } . وكان المسلمون على عهده وعهد أبي بكر وعمر وعثمان وعلي يصلون في مسجده ويسلمون عليه في الصلاة وكذلك يسلمون عليه إذا دخلوا المسجد وإذا خرجوا منه ولا يحتاجون أن يذهبوا إلى القبر المكرم ولا أن يتوجهوا نحو القبر ويرفعوا أصواتهم بالسلام كما يفعله بعض الحجاج - بل هذا بدعة لم يستحبها أحد من العلماء بل كرهوا رفع الصوت في مسجده وقد رأى عمر بن الخطاب رضي الله عنه رجلين يرفعان أصواتهما في مسجده ورآهما غريبين فقال : أما علمتما أن الأصوات لا ترفع في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ لو أنكما من أهل البلد لأوجعتكما ضربا . وعذرهما بالجهل فلم يعاقبهما . وكان النبي صلى الله عليه وسلم لما مات دفن في حجرة عائشة رضي الله عنها وكانت هي وحجر نسائه في شرقي المسجد وقبليه لم يكن شيء من ذلك داخلا في المسجد واستمر الأمر على ذلك إلى أن انقرض عصر الصحابة بالمدينة . ثم بعد ذلك في خلافة الوليد بن عبد الملك بن مروان بنحو من سنة من بيعته وسع المسجد وأدخلت فيه الحجرة للضرورة : فإن الوليد كتب إلى نائبه عمر بن عبد العزيز أن يشتري الحجر(35/8)
من ملاكها ورثة أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فإنهن كن قد توفين كلهن رضي الله عنهن فأمره أن يشتري الحجر ويزيدها في المسجد . فهدمها وأدخلها في المسجد وبقيت حجرة عائشة على حالها وكانت مغلقة لا يمكن أحد من الدخول إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم لا لصلاة عنده ولا لدعاء ولا غير ذلك إلى حين كانت عائشة في الحياة وهي توفيت قبل إدخال الحجرة بأكثر من عشرين أو ثلاثين سنة فإنها توفيت في خلافة معاوية ثم ولي ابنه يزيد ثم ابن الزبير في الفتنة ثم عبد الملك بن مروان ثم ابنه الوليد وكانت ولايته بعد ثمانين من الهجرة وقد مات عامة الصحابة قيل إنه لم يبق بالمدينة إلا جابر بن عبد الله رضي الله عنهما فإنه آخر من مات بها في سنة ثمان وسبعين قبل إدخال الحجرة بعشر سنين . ففي حياة عائشة - رضي الله عنها - كان الناس يدخلون عليها لسماع الحديث ولاستفتائها وزيارتها من غير أن يكون إذا دخل أحد يذهب إلى القبر المكرم لا لصلاة ولا لدعاء ولا غير ذلك - بل ربما طلب بعض الناس منها أن تريه القبور فتريه إياهن وهي قبور لا لاطئة ولا مشرفة مبطوحة ببطحاء العرصة . وقد اختلف هل كانت مسنمة أو مسطحة والذي في البخاري أنها مسنمة . قال سفيان التمار إنه رأى قبر النبي صلى الله عليه وسلم مسنما - ولكن كان الداخل يسلم على النبي صلى الله عليه وسلم لقوله : { ما من أحد يسلم علي إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام } وهذا السلام مشروع لمن كان يدخل الحجرة . وهذا السلام هو القريب الذي يرد النبي صلى الله عليه وسلم على صاحبه . وأما السلام المطلق الذي يفعل خارج الحجرة وفي كل مكان فهو مثل السلام عليه في الصلاة وذلك مثل الصلاة عليه . والله هو الذي يصلي على من يصلي عليه مرة عشرا ويسلم على من يسلم عليه مرة عشرا . فهذا هو الذي أمر به المسلمون خصوصا للنبي صلى الله عليه وسلم بخلاف السلام عليه عند قبره فإن هذا قدر مشترك بينه وبين جميع المؤمنين(35/9)
فإن كل مؤمن يسلم عليه عند قبره كما يسلم عليه في الحياة عند اللقاء . وأما الصلاة والسلام في كل مكان والصلاة على التعيين فهذا إنما أمر به في حق النبي صلى الله عليه وسلم فهو الذي أمر العباد أن يصلوا عليه ويسلموا تسليما . صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليما . فحجر نسائه كانت خارجة عن المسجد شرقيه وقبليه ولهذا قال صلى الله عليه وسلم { ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة } هذا لفظ الصحيحين ولفظ " قبري " ليس في الصحيح فإنه حينئذ لم يكن قبر . ومسجده إنما فضل به صلى الله عليه وسلم لأنه هو الذي بناه وأسسه على التقوى . وقد ثبت في الصحيحين . عنه أنه قال : { صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام } . وجمهور العلماء على أن المسجد الحرام أفضل المساجد والصلاة فيه بمائة ألف صلاة هكذا روى أحمد والنسائي وغيرهما بإسناد جيد . والمسجد الحرام هو فضل به وبإبراهيم الخليل فإن إبراهيم الخليل بنى البيت ودعا الناس إلى حجه بأمره تعالى ولم يوجبه على الناس ولهذا لم يكن الحج فرضا في أول الإسلام وإنما فرض في آخر الأمر . والصحيح أنه إنما فرض سنة نزلت آل عمران لما وفد أهل نجران سنة تسع أو عشر . ومن قال : في سنة ست فإنما استدل بقوله تعالى : { وأتموا الحج والعمرة لله } فإن هذه نزلت عام الحديبية باتفاق الناس لكن هذه الآية فيها الأمر بإتمامه بعد الشروع فيه ليس فيها إيجاب ابتداء به فالبيت الحرام كان له فضيلة بناء إبراهيم الخليل ودعاء الناس إلى حجه وصارت له فضيلة ثانية فإن محمدا صلى الله عليه وسلم هو الذي أنقذه من أيدي المشركين ومنعه منهم . وهو الذي أوجب حجه على كل مستطيع . وقد حجه الناس من مشارق الأرض ومغاربها فعبد الله فيه بسبب محمد صلى الله عليه وسلم أضعاف ما كان يعبد الله فيه قبل ذلك وأعظم مما كان يعبد فإن محمدا صلى الله عليه وسلم سيد ولد آدم . ولما مات دفن في حجرة عائشة ؛(35/10)
قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرض موته : { لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد } يحذر ما فعلوا . قالت عائشة رضي الله عنها ولولا ذلك لأبرز قبره ولكن كره أن يتخذ مسجدا . وفي صحيح مسلم أنه قال قبل أن يموت بخمس : { إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك } . وفي صحيح مسلم أيضا أنه قال : { لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها } . فنهى صلى الله عليه وسلم عن اتخاذ القبور مساجد وعن الصلاة إليها ولعن اليهود والنصارى لكونهم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد لأن هذا كان هو أول أسباب الشرك في قوم نوح قال الله تعالى عنهم : { وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا وقد أضلوا كثيرا } قال ابن عباس وغيره من السلف : هؤلاء كانوا قوما صالحين في قوم نوح فلما ماتوا عكفوا على قبورهم ثم صوروا تماثيلهم ثم عبدوهم . فهو صلى الله عليه وسلم لكمال نصحه لأمته حذرهم أن يقعوا فيما وقع فيه المشركون وأهل الكتاب فنهاهم عن اتخاذ القبور مساجد وعن الصلاة إليها لئلا يتشبهوا بالكفار كما نهاهم عن الصلاة وقت طلوع الشمس ووقت غروبها لئلا يتشبهوا بالكفار . ولهذا لما أدخلت الحجرة في مسجده المفضل في خلافة الوليد بن عبد الملك - كما تقدم - بنوا عليها حائطا وسنموه وحرفوه لئلا يصلي أحد إلى قبره الكريم صلى الله عليه وسلم . وفي موطأ مالك عنه أنه قال : { اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد } وقد استجاب الله دعوته فلم يتخذ ولله الحمد وثنا كما اتخذ قبر غيره بل ولا يتمكن أحد من الدخول إلى حجرته بعد أن بنيت الحجرة . وقبل ذلك ما كانوا يمكنون أحدا من أن يدخل إليه ليدعو عنده ولا يصلي عنده ولا غير ذلك مما يفعل عند قبر غيره . لكن من الجهال من يصلي إلى حجرته أو يرفع صوته أو يتكلم بكلام منهي عنه وهذا(35/11)
إنما يفعل خارجا عند حجرته لا عند قبره . وإلا فهو ولله الحمد استجاب الله دعوته فلم يمكن أحد قط أن يدخل إلى قبره فيصلي عنده أو يدعو أو يشرك به كما فعل بغيره اتخذ قبره وثنا فإنه في حياة عائشة رضي الله عنها ما كان أحد يدخل إلا لأجلها ولم تكن تمكن أحدا أن يفعل عند قبره شيئا مما نهى عنه وبعدها كانت مغلقة إلى أن أدخلت في المسجد فسد بابها وبني عليها حائط آخر . كل ذلك صيانة له صلى الله عليه وسلم أن يتخذ بيته عيدا وقبره وثنا وإلا فمعلوم أن أهل المدينة كلهم مسلمون ولا يأتي إلى هناك إلا مسلم وكلهم معظمون للرسول صلى الله عليه وسلم وقبور آحاد أمته في البلاد معظمة . فما فعلوا ذلك ليستهان بالقبر المكرم بل فعلوه لئلا يتخذ وثنا يعبد ولا يتخذ بيته عيدا . ولئلا يفعل به كما فعل أهل الكتاب بقبور أنبيائهم . والقبر المكرم في الحجرة إنما عليه بطحاء - وهو الرمل الغليظ - ليس عليه حجارة ولا خشب ولا هو مطين كما فعل بقبور غيره . وهو صلى الله عليه وسلم إنما نهى عن ذلك سدا للذريعة كما نهى عن الصلاة وقت طلوع الشمس ووقت غروبها لئلا يفضي ذلك إلى الشرك . ودعا الله عز وجل أن لا يتخذ قبره وثنا يعبد ؛ فاستجاب الله دعاءه صلى الله عليه وسلم فلم يكن مثل الذين اتخذت قبورهم مساجد فإن أحدا لا يدخل عند قبره ألبتة فإن من كان قبله من الأنبياء إذا ابتدع أممهم بدعة بعث الله نبيا ينهى عنها . وهو صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء لا نبي بعده فعصم الله أمته أن تجتمع على ضلالة وعصم قبره المكرم أن يتخذ وثنا فإن ذلك والعياذ بالله لو فعل لم يكن بعده نبي ينهى عن ذلك وكان الذين يفعلون ذلك قد غلبوا الأمة وهو صلى الله عليه وسلم قد أخبر أنه لا تزال طائفة من أمته ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم إلى يوم القيامة فلم يكن لأهل البدع سبيل أن يفعلوا بقبره المكرم كما فعل بقبور غيره صلى الله عليه وسلم .(35/12)
فصل قد ذكرت فيما كتبته من المناسك أن السفر إلى مسجده وزيارة قبره - كما يذكره أئمة المسلمين في مناسك الحج - عمل صالح مستحب . وقد ذكرت في عدة " مناسك الحج " السنة في ذلك وكيف يسلم عليه وهل يستقبل الحجرة أم القبلة ؟ على قولين فالأكثرون يقولون : يستقبل الحجرة كمالك والشافعي وأحمد . وأبو حنيفة يقول : يستقبل القبلة ويجعل الحجرة عن يساره في قول وخلفه في قول لأن الحجرة المكرمة لما كانت خارجة عن المسجد وكان الصحابة يسلمون عليه لم يكن يمكن أحدا أن يستقبل وجهه صلى الله عليه وسلم ويستدبر القبلة كما صار ذلك ممكنا بعد دخولها في المسجد . بل كان إن استقبل القبلة صارت عن يساره وحينئذ فإن كانوا يستقبلونه ويستدبرون الغرب فقول الأكثرين أرجح وإن كانوا يستقبلون القبلة حينئذ ويجعلون الحجرة عن يسارهم فقول أبي حنيفة أرجح . والصلاة تقصر في هذا السفر المستحب باتفاق أئمة المسلمين لم يقل أحد من أئمة المسلمين إن هذا السفر لا تقصر فيه الصلاة . ولا نهى أحد عن السفر إلى مسجده وإن كان المسافر إلى مسجده يزور قبره صلى الله عليه وسلم بل هذا من أفضل الأعمال الصالحة ولا في شيء من كلامي وكلام غيري نهي عن ذلك ولا نهي عن المشروع في زيارة قبور الأنبياء والصالحين ولا عن المشروع في زيارة سائر القبور ؛ بل قد ذكرت في غير موضع استحباب زيارة القبور كما { كان النبي صلى الله عليه وسلم يزور أهل البقيع وشهداء أحد ويعلم أصحابه إذا زاروا القبور أن يقول قائلهم : السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون ويرحم الله المستقدمين منا ومنكم والمستأخرين نسأل الله لنا ولكم العافية . اللهم لا تحرمنا أجرهم ولا تفتنا بعدهم واغفر لنا ولهم } . وإذا كانت زيارة قبور عموم المؤمنين مشروعة فزيارة قبور الأنبياء والصالحين أولى ؛ لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم له خاصية ليست لغيره من الأنبياء والصالحين وهو أنا أمرنا(35/13)
أن نصلي عليه وأن نسلم عليه في كل صلاة ويتأكد ذلك في الصلاة وعند الأذان وسائر الأدعية وأن نصلي ونسلم عليه عند دخول المسجد - مسجده وغير مسجده - وعند الخروج منه فكل من دخل مسجده فلا بد أن يصلي فيه ويسلم عليه في الصلاة . والسفر إلى مسجده مشروع لكن العلماء فرقوا بينه وبين غيره حتى كره مالك رحمه الله أن يقال : زرت قبر النبي صلى الله عليه وسلم ؛ لأن المقصود الشرعي بزيارة القبور السلام عليهم والدعاء لهم وذلك السلام والدعاء قد حصل على أكمل الوجوه في الصلاة في مسجده وغير مسجده وعند سماع الأذان . وعند كل دعاء . فتشرع الصلاة عليه عند كل دعاء فإنه { أولى بالمؤمنين من أنفسهم } . ولهذا يسلم المصلي عليه في الصلاة قبل أن يسلم على نفسه وعلى سائر عباد الله الصالحين فيقول : { السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين } . ويصلي عليه فيدعو له قبل أن يدعو لنفسه . وأما غيره فليس عنده مسجد يستحب السفر إليه كما يستحب السفر إلى مسجده وإنما يشرع أن يزار قبره كما شرعت زيارة القبور . وأما هو صلى الله عليه وسلم فشرع السفر إلى مسجده ونهى عما يوهم أنه سفر إلى غير المساجد الثلاثة . ويجب الفرق بين الزيارة الشرعية التي سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين الزيارة البدعية التي لم يشرعها بل نهى عنها مثل اتخاذ قبور الأنبياء والصالحين مساجد والصلاة إلى القبر واتخاذه وثنا . وقد ثبت عنه في الصحيحين أنه قال : { لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد : المسجد الحرام ومسجدي هذا والمسجد الأقصى } . حتى إن أبا هريرة سافر إلى الطور الذي كلم الله عليه موسى بن عمران عليه السلام فقال له بصرة بن أبي بصرة الغفاري : لو أدركتك قبل أن تخرج لما خرجت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : { لا تعمل المطي إلا إلى ثلاثة مساجد : المسجد الحرام ومسجدي هذا ومسجد بيت المقدس } . فهذه المساجد شرع السفر(35/14)
إليها لعبادة الله فيها بالصلاة والقراءة والذكر والدعاء والاعتكاف ؛ والمسجد الحرام مختص بالطواف لا يطاف بغيره . وما سواه من المساجد إذا أتاها الإنسان وصلى فيها من غير سفر كان ذلك من أفضل الأعمال كما ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { من تطهر في بيته ثم خرج إلى المسجد كانت خطواته إحداهما تحط خطيئة والأخرى ترفع درجة ؛ والعبد في صلاة ما دام ينتظر الصلاة ؛ والملائكة تصلي على أحدكم ما دام في مصلاه الذي صلى فيه : اللهم اغفر له اللهم ارحمه . ما لم يحدث } . ولو سافر من بلد إلى بلد مثل أن سافر إلى دمشق من مصر لأجل مسجدها أو بالعكس أو سافر إلى مسجد قباء من بلد بعيد لم يكن هذا مشروعا باتفاق الأئمة الأربعة وغيرهم . ولو نذر ذلك لم يف بنذره باتفاق الأئمة الأربعة وغيرهم ؛ إلا خلاف شاذ عن الليث بن سعد في المساجد وقاله ابن مسلمة من أصحاب مالك في مسجد قباء خاصة . ولكن إذا أتى المدينة استحب له أن يأتي مسجد قباء ويصلي فيه لأن ذلك ليس بسفر ولا بشد رحل لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأتي مسجد قباء راكبا وماشيا كل سبت ويصلي فيه ركعتين وقال { من تطهر في بيته ثم أتى مسجد قباء كان له كعمرة } رواه الترمذي وابن أبي شيبة وقال سعد بن أبي وقاص وابن عمر : صلاة فيه كعمرة .(35/15)
ولو نذر المشي إلى مكة للحج والعمرة لزمه باتفاق المسلمين . ولو نذر أن يذهب إلى مسجد المدينة أو بيت المقدس ففيه قولان : أحدهما : ليس عليه الوفاء وهو قول أبي حنيفة وأحد قولي الشافعي لأنه ليس من جنسه ما يجب بالشرع . والثاني : عليه الوفاء وهو مذهب مالك وأحمد بن حنبل والشافعي في قوله الآخر ؛ لأن هذا طاعة لله . وقد ثبت في صحيح البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه } . ولو نذر السفر إلى غير المساجد أو السفر إلى مجرد قبر نبي أو صالح لم يلزمه الوفاء بنذره باتفاقهم فإن هذا السفر لم يأمر به النبي صلى الله عليه وسلم . بل قد قال : { لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد : المسجد الحرام ومسجدي هذا والمسجد الأقصى } . وإنما يجب بالنذر ما كان طاعة وقد صرح مالك وغيره بأن من نذر السفر إلى المدينة النبوية إن كان مقصوده الصلاة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وفى بنذره وإن كان مقصوده مجرد زيارة القبر من غير صلاة في المسجد لم يف بنذره . لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { لا تعمل المطي إلا إلى ثلاثة مساجد } . والمسألة ذكرها القاضي إسماعيل بن إسحاق في " المبسوط " ومعناها في " المدونة " و " الخلاف " وغيرهما من كتب أصحاب مالك . يقول : إن من نذر إتيان مسجد النبي صلى الله عليه وسلم لزمه الوفاء بنذره لأن المسجد لا يؤتى إلا للصلاة ومن نذر إتيان المدينة النبوية فإن كان قصده الصلاة في المسجد وفى بنذره وإن قصد شيئا آخر مثل زيارة من بالبقيع أو شهداء أحد لم يف بنذره لأن السفر إنما يشرع إلى المساجد الثلاثة . وهذا الذي قاله مالك وغيره ما علمت أحدا من أئمة المسلمين قال بخلافه بل كلامهم يدل على موافقته . وقد ذكر أصحاب الشافعي وأحمد في السفر لزيارة القبور قولين : التحريم والإباحة . وقدماؤهم وأئمتهم قالوا : إنه محرم . وكذلك أصحاب مالك وغيرهم .(35/16)
وإنما وقع النزاع بين المتأخرين لأن قوله صلى الله عليه وسلم { لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد } . صيغة خبر ومعناه النهي فيكون حراما . وقال بعضهم : ليس بنهي وإنما معناه أنه لا يشرع وليس بواجب ولا مستحب بل مباح كالسفر في التجارة وغيرها . فيقال له : تلك الأسفار لا يقصد بها العبادة بل يقصد بها مصلحة دنيوية مباحة والسفر إلى القبور إنما يقصد به العبادة والعبادة إنما تكون بواجب أو مستحب فإذا حصل الاتفاق على أن السفر إلى القبور ليس بواجب ولا مستحب كان من فعله على وجه التعبد مبتدعا مخالفا للإجماع والتعبد بالبدعة ليس بمباح لكن من لم يعلم أن ذلك بدعة فإنه قد يعذر فإذا بينت له السنة لم يجز له مخالفة النبي صلى الله عليه وسلم ولا التعبد بما نهى عنه كما لا تجوز الصلاة عند طلوع الشمس ولا عند غروبها وكما لا يجوز صوم يوم العيدين وإن كانت الصلاة والصيام من أفضل العبادات ؛ ولو فعل ذلك إنسان قبل العلم بالسنة لم يكن عليه إثم . فالطوائف متفقة على أنه ليس مستحبا وما علمت أحدا من أئمة المسلمين قال إن السفر إليها مستحب وإن كان قاله بعض الأتباع فهو ممكن وأما الأئمة المجتهدون فما منهم من قال هذا . وإذا قيل هذا كان قولا ثالثا في المسألة وحينئذ فيبين لصاحبه أن هذا القول خطأ مخالف للسنة ولإجماع الصحابة فإن الصحابة - رضوان الله عليهم أجمعين في خلافة أبي بكر الصديق وعمر وعثمان وعلي ومن بعدهم إلى انقراض عصرهم - لم يسافر أحد منهم إلى قبر نبي ولا رجل صالح . و " قبر الخليل عليه السلام " بالشام لم يسافر إليه أحد من الصحابة . وكانوا يأتون البيت المقدس فيصلون فيه ولا يذهبون إلى قبر الخليل عليه السلام ولم يكن ظاهرا بل كان في البناء الذي بناه سليمان بن داود عليهما السلام ولا كان : " قبر يوسف الصديق " يعرف ولكن أظهر ذلك بعد أكثر من ثلاثمائة سنة من الهجرة ولهذا وقع فيه نزاع فكثير من أهل العلم ينكره ونقل ذلك عن مالك(35/17)
وغيره لأن الصحابة لم يكونوا يزورونه فيعرف . ولما استولى النصارى على الشام نقبوا البناء الذي كان على الخليل عليه السلام واتخذوا المكان كنيسة . ثم لما فتح المسلمون البلد بقي مفتوحا . وأما على عهد الصحابة فكان قبر الخليل مثل قبر نبينا صلى الله عليه وسلم ولم يكن أحد من الصحابة يسافر إلى المدينة لأجل قبر النبي صلى الله عليه وسلم بل كانوا يأتون فيصلون في مسجده ويسلمون عليه في الصلاة ويسلم من يسلم عند دخول المسجد والخروج منه وهو صلى الله عليه وسلم مدفون في حجرة عائشة رضي الله عنها فلا يدخلون الحجرة ولا يقفون خارجا عنها في المسجد عند السور . وكان يقدم في خلافه أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب أمداد اليمن الذين فتحوا الشام والعراق وهم الذين قال الله فيهم : { فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه } ويصلون في مسجده كما ذكرنا ولم يكن أحد يذهب إلى القبر ولا يدخل الحجرة ولا يقوم خارجها في المسجد بل السلام عليه من خارج الحجرة . وعمدة مالك وغيره فيه على فعل ابن عمر رضي الله عنهما . وبكل حال فهذا القول لو قاله نصف المسلمين لكان له حكم أمثاله من الأقوال في مسائل النزاع . فإما أن يجعل هو الدين الحق وتستحل عقوبة من خالفه أو يقال بكفره فهذا خلاف إجماع المسلمين . وخلاف ما جاء به الكتاب والسنة . فإن كان المخالف للرسول في هذه المسألة يكفر فالذي خالف سنته وإجماع الصحابة وعلماء أمته فهو الكافر . ونحن لا نكفر أحدا من المسلمين بالخطأ لا في هذه المسائل ولا في غيرها . ولكن إن قدر تكفير المخطئ فمن خالف الكتاب والسنة والإجماع - إجماع الصحابة والعلماء - أولى بالكفر ممن وافق الكتاب والسنة والصحابة وسلف الأمة وأئمتها فأئمة المسلمين فرقوا بين ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم وبين ما نهى عنه في هذا وغيره فما أمر به هو عبادة وطاعة وقربة وما نهى عنه بخلاف ذلك بل قد يكون شركا كما يفعله أهل الضلال من المشركين وأهل(35/18)
الكتاب ومن ضاهاهم حيث يتخذون المساجد على قبور الأنبياء والصالحين ويصلون إليها وينذرون لها ويحجون إليها . بل قد يجعلون الحج إلى بيت المخلوق أفضل من الحج إلى بيت الله الحرام . ويسمون ذلك " الحج الأكبر " وصنف لهم شيوخهم في ذلك مصنفات كما صنف المفيد بن النعمان كتابا في مناسك المشاهد سماه " مناسك حج المشاهد " وشبه بيت المخلوق ببيت الخالق . وأصل دين الإسلام أن نعبد الله وحده ولا نجعل له من خلقه ندا ولا كفوا ولا سميا . قال تعالى : { فاعبده واصطبر لعبادته هل تعلم له سميا } وقال تعالى : { ولم يكن له كفوا أحد } وقال تعالى : { ليس كمثله شيء وهو السميع البصير } وقال تعالى : { فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون } وفي الصحيحين عن ابن مسعود قال : { قلت يا رسول الله : أي الذنب أعظم ؟ قال : أن تجعل لله ندا وهو خلقك . قلت ثم أي ؟ قال : أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك . قلت ثم أي ؟ قال : أن تزاني بحليلة جارك } فأنزل الله تصديق رسوله { والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما } الآية وقال تعالى : { ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله } . فمن سوى بين الخالق والمخلوق في الحب له أو الخوف منه والرجاء له فهو مشرك . والنبي صلى الله عليه وسلم نهى أمته عن دقيق الشرك وجليله حتى قال صلى الله عليه وسلم { من حلف بغير الله فقد أشرك } رواه . أبو داود وغيره . { وقال له رجل : ما شاء الله وشئت ؛ فقال : أجعلتني لله ندا ؟ بل ما شاء الله وحده } وقال : { لا تقولوا ما شاء الله وشاء محمد ؛ ولكن قولوا ما شاء الله ثم شاء محمد } و { جاء معاذ بن جبل مرة فسجد له فقال : ما هذا يا معاذ ؟ فقال : يا رسول الله رأيتهم في الشام يسجدون لأساقفتهم . فقال : يا معاذ ؟ إنه لا يصلح السجود إلا لله ولو كنت آمرا أحدا أن يسجد لأحد(35/19)
لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها من عظم حقه عليها } . فلهذا فرق النبي صلى الله عليه وسلم بين زيارة أهل التوحيد وبين زيارة أهل الشرك فزيارة أهل التوحيد لقبور المسلمين تتضمن السلام عليهم والدعاء لهم وهي مثل الصلاة على جنائزهم ؛ وزيارة أهل الشرك تتضمن أنهم يشبهون المخلوق بالخالق ينذرون له ويسجدون له ويدعونه ويحبونه مثل ما يحبون الخالق فيكونون قد جعلوه لله ندا وسووه برب العالمين . وقد نهى الله أن يشرك به الملائكة والأنبياء وغيرهم فقال تعالى : { ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا } { أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون } وقال تعالى : { قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا } { أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذورا } قال طائفة من السلف : كان أقوام يدعون الأنبياء كالمسيح وعزير ويدعون الملائكة فأخبرهم تعالى أن هؤلاء عبيده يرجون رحمته ويخافون عذابه ويتقربون إليه بالأعمال . ونهى سبحانه أن يضرب له مثل بالمخلوق فلا يشبه بالمخلوق الذي يحتاج إلى الأعوان والحجاب ونحو ذلك . قال تعالى . { وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون } وقال تعالى : { قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير } { ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له } . ومحمد صلى الله عليه وسلم سيد الشفعاء لديه وشفاعته أعظم الشفاعات وجاهه عند الله أعظم الجاهات ويوم القيامة إذا طلب الخلق الشفاعة من آدم ثم من نوح ثم من إبراهيم ثم من موسى ثم من عيسى كل واحد يحيلهم(35/20)
على الآخر فإذا جاءوا إلى المسيح يقول : اذهبوا إلى محمد عبد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ؛ قال : { فأذهب فإذا رأيت ربي خررت له ساجدا وأحمد ربي بمحامد يفتحها علي لا أحسنها الآن فيقال : أي محمد ارفع رأسك وقل يسمع وسل تعطه واشفع تشفع . قال : فيحد لي حدا فأدخلهم الجنة } الحديث . فمن أنكر شفاعة نبينا صلى الله عليه وسلم في أهل الكبائر فهو مبتدع ضال كما ينكرها الخوارج والمعتزلة . ومن قال : إن مخلوقا يشفع عند الله بغير إذنه فقد خالف إجماع المسلمين ونصوص القرآن ؛ قال تعالى : { من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه } وقال تعالى : { ولا يشفعون إلا لمن ارتضى } وقال تعالى : { وكم من ملك في السماوات لا تغني شفاعتهم شيئا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى } وقال تعالى : { وخشعت الأصوات للرحمن فلا تسمع إلا همسا } { يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولا } وقال تعالى : { ما من شفيع إلا من بعد إذنه } وقال تعالى : { ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع } ومثل هذا في القرآن كثير . فالدين هو متابعة النبي صلى الله عليه وسلم بأن يؤمر بما أمر به وينهى عما نهى عنه ويحب ما أحبه الله ورسوله من الأعمال والأشخاص ويبغض ما أبغضه الله ورسوله من الأعمال والأشخاص . والله سبحانه وتعالى قد بعث رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم بالفرقان ففرق بين هذا وهذا ؛ فليس لأحد أن يجمع بين ما فرق الله بينه .(35/21)
فمن سافر إلى المسجد الحرام أو المسجد الأقصى أو مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم فصلى في مسجده ؛ وصلى في مسجد قباء وزار القبور كما مضت به سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فهذا هو الذي عمل العمل الصالح . ومن أنكر هذا السفر فهو كافر يستتاب فإن تاب وإلا قتل . وأما من قصد السفر لمجرد زيارة القبر ولم يقصد الصلاة في مسجده وسافر إلى مدينته فلم يصل في مسجده صلى الله عليه وسلم ولا سلم عليه في الصلاة بل أتى القبر ثم رجع فهذا مبتدع ضال مخالف لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولإجماع أصحابه ولعلماء أمته . وهو الذي ذكر فيه القولان : أحدهما أنه محرم والثاني أنه لا شيء عليه ولا أجر له . والذي يفعله علماء المسلمين هو الزيارة الشرعية : يصلون في مسجده صلى الله عليه وسلم ويسلمون عليه في الدخول للمسجد وفي الصلاة وهذا مشروع باتفاق المسلمين . وقد ذكرت هذا في المناسك وفي الفتيا وذكرت أنه يسلم على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى صاحبيه . وهذا هو الذي لم أذكر فيه نزاعا في الفتيا مع أن فيه نزاعا ؛ إذ من العلماء من لا يستحب زيارة القبور مطلقا ومنهم من يكرهها مطلقا كما نقل ذلك عن إبراهيم النخعي والشعبي ومحمد بن سيرين وهؤلاء من أجلة التابعين . ونقل ذلك عن مالك . وعنه أنها مباحة ليست مستحبة . وهو أحد القولين في مذهب أحمد ؛ لكن ظاهر مذهبه ومذهب الجمهور : أن الزيارة الشرعية مستحبة . وهو أن يزور قبور المؤمنين للدعاء لهم فيسلم عليهم ويدعو لهم . وتزار قبور الكفار ؛ لأن ذلك يذكر الآخرة . وأما النبي صلى الله عليه وسلم فله خاصة لا يماثله فيها أحد من الخلق وهو أن المقصود عند قبر غيره من الدعاء له هو مأمور [ به ] في حق الرسول في الصلوات الخمس وعند دخول المساجد والخروج منها وعند الأذان وعند كل دعاء . وهو قد نهى عن اتخاذ القبور مساجد ونهى أن يتخذ قبره عيدا وسأل الله أن لا يجعله وثنا يعبد . فمنع أحد أن يدخل إلى قبره(35/22)
فيزوره كما يدخل إلى قبر غيره . وكل ما يفعل في مسجده وغير مسجده من الصلاة والسلام عليه أمر خصه الله وفضله به على غيره وأغناه بذلك عما يفعل عند قبر غيره - وإن كان جائزا . وأما " اتخاذ القبور مساجد " فهذا ينهى عنه عند كل قبر وإن كان المصلي إنما يصلي لله ولا يدعو إلا الله . فكيف إذا كان يدعو المخلوق أو يسجد له وينذر له ونحو ذلك مما يفعله أهل الشرك والبدع والضلالة وأما إذا قدر أن من أتى المسجد فلم يصل فيه ؛ ولكن أتى القبر ثم رجع فهذا هو الذي أنكره الأئمة كمالك وغيره وليس هذا مستحبا عند أحد من العلماء وهو محل النزاع هل هو حرام أو مباح ؟ وما علمنا أحدا من علماء المسلمين استحب مثل هذا بل أنكروا إذا كان مقصوده بالسفر مجرد القبر من غير أن يقصد الصلاة في المسجد وجعلوا هذا من السفر المنهي عنه . ولا كان أحد من السلف يفعل هذا بل كان الصحابة إذا سافروا إلى مسجده صلوا فيه واجتمعوا بخلفائه مثل أبي بكر وعمر وعثمان وعلي يسلمون عليه ويصلون عليه في الصلاة ويفعل ذلك من يفعله منهم عند دخول المسجد والخروج منه . ولم يكونوا يذهبون إلى القبر . وهذا متواتر عنهم لا يقدر أحد أن ينقل عنهم أو عن واحد منهم أنه كان إذا صلى خلف الخلفاء الراشدين يذهب في ذلك الوقت أو غيره يقف عند الحجرة خارجا منها . وأما دخول الحجرة فلم يكن يمكنهم . فإذا كانوا بعد السفر إلى مسجده يفعلون ما سنه لهم في الصلاة والسلام عليه ولا يذهبون إلى قبره فكيف يقصدون أن يسافروا إليه ؟ أو يقصدون بالسفر إليه دون الصلاة في المسجد ؟ ومن قال : إن هذا مستحب فلينقل ذلك عن إمام من أئمة المسلمين ثم إذا نقله يكون قائله قد خالف أقوال العلماء كما خالف فاعله فعل الأمة وخالف سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإجماع أصحابه وعلماء أمته . قال تعالى : { ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا } . و {(35/23)
إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى . } . وعلماء المسلمين قد ذكروا في مناسكهم استحباب السفر إلى مسجده وذكروا زيارة قبره المكرم وما علمت أحدا من المسلمين قال إنه من لم يقصد إلا زيارة القبر يكون سفره مستحبا . ولو قالوا ذلك في قبر غيره . لكن هذا لم يقصده بعض الناس ممن لا يكون عارفا بالشريعة وبما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم ونهى عنه وغايته أن يعذر بجهله ويعفو الله عنه . وأما من يعرف ما أمر الله به ورسوله وما نهى الله عنه ورسوله فهؤلاء كلهم ليس فيهم من أمر بالسفر لمجرد زيارة قبر لا نبي ولا غير نبي بل صرح أكابرهم بتحريم مثل هذا السفر من أصحاب مالك والشافعي وأحمد بن حنبل وغيرهم . وإنما قال إنه مباح غير محرم طائفة من متأخري أصحاب الشافعي وأحمد .(35/24)
وتنازعوا حينئذ فيمن سافر لمجرد زيارة قبور الأنبياء والصالحين هل يقصر الصلاة ؟ على قولين كما ذكر في جواب الفتيا . وبعضهم فرق بين قبور الأنبياء وغيرهم وقال : إن السفر لمجرد زيارة القبور محرم كما هو مذهب مالك وأصحابه وقول المتقدمين من أصحاب الشافعي وأحمد . فهؤلاء عندهم أن العاصي بسفره لا يقصر الصلاة . فعلى قولهم لا تقصر الصلاة ؛ لكن الذين يسافرون لا يعلمون أن هذا محرم ومن علم أنه محرم لم يفعله فإنه لا غرض لمسلم أن يتقرب إلى الله بالمحرم . وحينئذ فسفرهم الذي لم يعلموا أنه محرم إذا قصروا فيه الصلاة كان ذلك جائزا ولا إعادة عليهم كما لو سافر الرجل لطلب العلم أو سماع الحديث من شخص فوجده كذابا أو جاهلا فإن قصر الصلاة في مثل هذا السفر جائز . وقد ذكر أصحاب أحمد في السفر إلى زيارة قبور الأنبياء والصالحين هل تقصر فيها الصلاة ؟ أربعة أقوال : قيل : لا يقصر مطلقا . وقيل : يقصر مطلقا وقيل : لا يقصر إلا إلى قبر نبينا صلى الله عليه وسلم . وقيل : لا يقصر إلا إلى قبره المكرم وقبور الأنبياء ؛ دون قبور الصالحين والذين استثنوا قبر نبينا صلى الله عليه وسلم لقولهم وجهان : أحدهما : - وهو الصحيح - أن السفر المشروع إليه هو السفر إلى مسجده وهذا السفر تقصر فيه الصلاة بإجماع المسلمين . وهؤلاء رأوا مطلق السفر ولم يفصلوا بين قصد وقصد ؛ إذ كان عامة المسلمين لا بد أن يصلوا في مسجده فكل من سافر إلى قبره المكرم فقد سافر إلى مسجده المفضل . وكذلك قال بعض أصحاب الشافعي : فمن نذر زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه يوفي بنذره وإن نذر قبر غيره فوجهان . وكذلك كثير من العلماء يطلق السفر إلى قبره المكرم . وعندهم أن هذا يتضمن السفر إلى مسجده ؛ إذ كان كل مسلم لا بد إذا أتى الحجرة المكرمة أن يصلي في مسجده ؛ فهما عندهم متلازمان . ثم من هؤلاء من يقول : المسلم لا بد أن يقصد في ابتداء السفر الصلاة في مسجده فالسفر المأمور(35/25)
به لازم وهؤلاء لم يسافروا لمجرد القبر . ومنهم من قال : بل السفر لمجرد قصد القبر جائز وظن هؤلاء أن الاستثناء ليس لخصوصه بل لكونه نبيا فقال : تقصر الصلاة في السفر إلى قبور الأنبياء دون غيرهم . وحقيقة الأمر : أن فعل الصلاة في مسجده من لوازم هذا السفر فكل من سافر إلى قبره المكرم لا بد أن تحصل له طاعة وقربة يثاب عليها بالصلاة في مسجده . وأما نفس القصد فأهل العلم بالحديث يقصدون السفر إلى مسجده وإن قصد منهم من قصد السفر إلى القبر أيضا - إذا لم يعلم أنه منهي عنه . وأما من لم يعرف هذا فقد لا يقصد إلا السفر إلى القبر ثم إنه لا بد أن يصلي في مسجده فيثاب على ذلك . وما فعله وهو منهي عنه ولم يعلم أنه منهي عنه لا يعاقب عليه فيحصل له أجر ولا يكون عليه وزر ؛ بخلاف السفر إلى قبر غيره فإنه ليس عنده شيء يشرع السفر إليه ؛ لكن قد يفعل هذا طاعة يثاب عليها ويغفر له ما جهل أنه محرم . والصلاة في المساجد المبنية على القبور منهي عنها مطلقا ؛ بخلاف مسجده فإن الصلاة فيه بألف صلاة فإنه أسس على التقوى وكان حرمته في حياته صلى الله عليه وسلم وحياة خلفائه الراشدين قبل دخول الحجرة فيه حين كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي فيه والمهاجرون والأنصار والعبادة فيه إذ ذاك أفضل وأعظم مما بقي بعد إدخال الحجرة فيه فإنها إنما أدخلت بعد انقراض عصر الصحابة في إمارة الوليد بن عبد الملك وهو تولى سنة بضع وثمانين من الهجرة النبوية كما تقدم . وظن بعضهم أن الاستثناء كونه نبيا فعدى ذلك فقالوا : يسافر إلى سائر قبور الأنبياء كذلك .(35/26)
ولهذا تنازع الناس هل يحلف . بالنبي صلى الله عليه وسلم ؟ مع اتفاقهم بأنه لا يحلف بشيء من المخلوقات المعظمة كالعرش والكرسي والكعبة والملائكة . فذهب جمهور العلماء كمالك والشافعي وأبي حنيفة وأحمد في أحد قوليه إلى أنه لا يحلف بالنبي ولا تنعقد اليمين كما لا يحلف بشيء من المخلوقات ولا تجب الكفارة على من حلف بشيء من ذلك وحنث . فإنه صلى الله عليه وسلم قد ثبت عنه في الصحيح أنه قال : { لا تحلفوا إلا بالله } . وقال : { من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت } . وفي السنن : { من حلف بغير الله فقد أشرك } . وعن أحمد بن حنبل رواية أنه يحلف بالنبي صلى الله عليه وسلم خاصة ؛ لأنه يجب الإيمان به خصوصا ويجب ذكره في الشهادتين والأذان . فللإيمان به اختصاص لا يشركه فيه غيره . وقال ابن عقيل : بل هذا لكونه نبيا . وطرد ذلك في سائر الأنبياء مع أن الصواب الذي عليه عامة علماء المسلمين سلفهم وخلفهم أنه لا يحلف بمخلوق لا نبي ولا غير نبي ولا ملك من الملائكة ولا ملك من الملوك ولا شيخ من الشيوخ . والنهي عن ذلك نهي تحريم عند أكثرهم كمذهب أبي حنيفة وغيره وهو أحد القولين في مذهب أحمد كما تقدم حتى أن ابن مسعود وابن عباس وغيرهما يقول أحدهم : لأن أحلف بالله كاذبا أحب إلي من أن أحلف بغير الله صادقا . وفي لفظ : لأن أحلف بالله كاذبا أحب إلي من أن أضاهي . فالحلف بغير الله شرك والشرك أعظم من الكذب . وغاية الكذب أن يشبه بالشرك . كما في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { عدلت شهادة الزور بالإشراك بالله } قالها مرتين أو ثلاثا . وقرأ قوله تعالى { واجتنبوا قول الزور } { حنفاء لله غير مشركين به ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق } وهذا المنهي عنه بل المحرم - الذي هو أعظم من اليمين الفاجرة عند الصحابة رضوان الله عليهم - قد ظن طائفة من أهل العلم أنه مشروع غير منهي عنه(35/27)
. ولهذا نظائر كثيرة ؛ لكن قال الله تعالى { أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا } وما أمر الله ورسوله به فهو الحق . وهو صلى الله عليه وسلم نهى عن الحلف بغير الله وعن الصلاة عند طلوع الشمس وغروبها وعن اتخاذ القبور مساجد واتخاذ قبره عيدا . ونهى عن السفر إلى غير المساجد الثلاثة وأمثال ذلك لتحقيق إخلاص الدين لله . وعبادة الله وحده لا شريك له . فهذا كله محافظة على توحيد الله عز وجل وأن يكون الدين كله لله فلا يعبد غيره ولا يتوكل إلا عليه ولا يدعى إلا هو ولا يتقى إلا هو ولا يصلى ولا يصام إلا له ولا ينذر إلا له ولا يحلف إلا به ولا يحج إلا إلى بيته . فالحج الواجب ليس إلا إلى أفضل بيوته وأقدمها وهو المسجد الحرام . والسفر المستحب ليس إلا إلى مسجدين لكونهما بناهما نبيان . فالمسجد النبوي مسجد المدينة أسسه على التقوى خاتم المرسلين ومسجد إيليا قد كان مسجدا قبل سليمان . ففي الصحيحين عن أبي ذر رضي الله عنه { قلت : يا رسول الله أي مسجد وضع أولا ؟ قال : المسجد الحرام . قال قلت : ثم أي ؟ قال المسجد الأقصى . قلت : كم بينهما ؟ قال : أربعون سنة ثم حيث ما أدركتك الصلاة فصل فإنه لك مسجد } . وفي لفظ البخاري : { فإن فيه الفضل } وهذه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي حيث أدركته الصلاة . فالمسجد الأقصى كان من عهد إبراهيم عليه السلام لكن سليمان عليه السلام بناه بناء عظيما . فكل من المساجد الثلاثة بناه نبي كريم ليصلي فيه هو والناس . فلما كانت الأنبياء - عليهم السلام - تقصد الصلاة في هذين المسجدين شرع السفر إليهما للصلاة فيهما والعبادة اقتداء بالأنبياء عليهم السلام وتأسيا بهم . كما أن إبراهيم الخليل - عليه السلام - لما بنى البيت وأمره الله تعالى أن يؤذن في الناس بحجه فكانوا يسافرون إليه من زمن(35/28)
إبراهيم عليه السلام ولم يكن ذلك فرضا على الناس في أصح القولين . كما لم يكن ذلك مفروضا في أول الإسلام وإنما فرضه الله على محمد صلى الله عليه وسلم في آخر الأمر لما نزلت " سورة آل عمران " . وفي البقرة أمر بإتمام الحج والعمرة لمن شرع فيهما ؛ ولهذا كان التطوع بهما يوجب إتمامهما عند عامة العلماء . وقيل إن الأمر بالإتمام إيجاب لهما ابتداء والأول هو الصحيح . فكذلك المسجد الأقصى ومسجد النبي صلى الله عليه وسلم بنى كلا منهما رسول كريم ودعا الناس إلى السفر إليهما للعبادة فيهما . ولم يبن أحد من الأنبياء عليهم السلام مسجدا ودعا الناس إلى السفر للعبادة فيه إلا هذه المساجد الثلاثة . ولكن كان لهم مساجد يصلون فيها ولم يدعوا الناس إلى السفر إليها كما كان إبراهيم عليه السلام يصلي في موضعه وإنما دعا الناس إلى حج البيت . ولا دعا نبي من الأنبياء إلى السفر إلى قبره ولا بيته ولا مقامه ولا غير ذلك من آثاره بل هم دعوا إلى عبادة الله وحده لا شريك له قال تعالى لما ذكرهم { ذلك هدى الله يهدي به من يشاء من عباده ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون } { أولئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم والنبوة فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين } { أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده } . ولهذا لا يجوز تغيير واحد من هذه المساجد الثلاثة عن موضعه . وأما سائر المساجد ففضيلتها من أنها مسجد لله وبيت يصلى فيه وهذا قدر مشترك بين المساجد ؛ وإن كان بعضها تكثر العبادة فيه أو لكونه أعتق من غيره ونحو ذلك فهذه المزية موجودة في عامة المساجد بعضها أكثر عبادة من بعض وبعضها أعتق من بعض . فلو شرع السفر لذلك لسوفر إلى عامة المساجد .(35/29)
والسفر إلى البقاع المعظمة هو من جنس الحج ولكل أمة حج فالمشركون من العرب كانوا يحجون إلى اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى وغير ذلك من الأوثان ولهذا لما { قال الحبر الذي بشر بالنبي صلى الله عليه وسلم لأمية بن أبي الصلت : إنه قد أظل زمان نبي يبعث وهو من بيت يحجه العرب . فقال أمية : نحن معشر ثقيف فينا بيت يحجه العرب ؛ فقال الحبر : إنه ليس منكم إنه من إخوانكم من قريش } . فأخبر أمية أن العرب كانت تحج إلى اللات . وقد ذكر طائفة من السلف أن هذا كان رجلا يلت السويق للحاج ويطعمهم إياه فلما مات عكفوا على قبره وصار وثنا يحج إليه ويصلى له ويدعى من دون الله وقرأ جماعة من السلف : { أفرأيتم اللات } بتشديد التاء وكانت اللات لأهل الطائف والعزى لأهل مكة ومناة لأهل المدينة . ولهذا { قال أبو سفيان يوم أحد لما جعل يرتجز فقال : اعل هبل فقال النبي صلى الله عليه وسلم ألا تجيبوه ؟ قالوا : وما نقول ؟ قال : قولوا : الله أعلى وأجل . فقال أبو سفيان : إن لنا العزى ولا عزى لكم . فقال النبي صلى الله عليه وسلم ألا تجيبوه ؟ قالوا : وما نقول ؟ قال قولوا : الله مولانا ولا مولى لكم } . فالسفر إلى البقاع المعظمة من جنس الحج والمشركون من أجناس الأمم يحجون إلى آلهتهم كما كانت العرب تحج إلى اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى . وهم مع ذلك يحجون إلى البيت ويطوفون به ويقفون بعرفات ؛ ولهذا كانوا تارة يعبدون الله وتارة يعبدون غيره . وكانوا يقولون في تلبيتهم : لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك . ولهذا قال تعالى : { ضرب لكم مثلا من أنفسكم هل لكم من ما ملكت أيمانكم من شركاء في ما رزقناكم فأنتم فيه سواء تخافونهم كخيفتكم أنفسكم } يقول تعالى : إذا كان أحدكم لا يرضى أن يكون مملوكه شريكا له مثل نفسه فكيف تجعلون مملوكي شريكا لي ؟ وكل ما سوى الله من الملائكة والنبيين والصالحين وسائر المخلوقات هو مملوك له وهو سبحانه لا(35/30)
إله إلا هو له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير . ولهذا جعل الشرك بالملائكة والأنبياء كفرا فقال تعالى : { ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون } . وذم النصارى على شركهم فقال تعالى : { اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون } . والمشركون في هذه الأزمان من الهند وغيرهم يحجون إلى آلهتهم كما يحجون إلى سمناة وغيره من آلهتهم . وكذلك النصارى يحجون إلى قمامة وبيت لحم ويحجون إلى القونة التي بصيدنايا والقونة الصورة وغير ذلك من كنائسهم التي بها الصور التي يعظمونها ويدعونها ويستشفعون بها . وقد ذكر العلماء من أهل التفسير والسير وغيرهم أن أبرهة ملك الحبشة الذي ساق الفيل إلى مكة ليهدمها حين استولت الحبشة على اليمن وقهروا العرب . ثم بعد هذا وفد سيف بن ذي يزن فاستنجد كسرى ملك الفرس فأنجده بجيش حتى أخرج الحبشة عنها - وهو ممن بشر بالنبي صلى الله عليه وسلم . وكانت آية الفيل التي أظهر الله تعالى بها حرمة الكعبة لما أرسل عليهم الطير الأبابيل ترميهم بحجارة من سجيل أي جماعات متفرقة والحجارة من سجيل طين قد استحجر وكان عام مولد النبي صلى الله عليه وسلم . وهو من دلائل نبوته وأعلام رسالته ودلائل شريعته . والبيت الذي لا يحج ولا يصلي إليه إلا هو وأمته . قالوا : كان أبرهة قد بنى كنيسة بأرض اليمن وأراد أن يصرف حج العرب إليها فدخل رجل من العرب فأحدث في الكنيسة فغضب لذلك أبرهة وسافر إلى الكعبة ليهدمها حتى جرى ما جرى . قال تعالى : { ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل } { ألم يجعل كيدهم في تضليل } { وأرسل عليهم طيرا أبابيل } { ترميهم بحجارة من سجيل } { فجعلهم كعصف مأكول } وهذا معروف عند عامة العلماء من أهل التفسير والسير وغيرهم أنه بنى كنيسة أراد أن يصرف حج العرب إليها . ومعلوم أنه(35/31)
إنما أراد أن يفعل فيها ما يفعله في كنائس النصارى . فدل على أن السفر إلى الكنائس عندهم هو من جنس الحج عند المسلمين وأنه يسمى حجا ويضاهى به البيت الحرام وأن من قصد أن يجعل بقعة للعبادة فيها كما يسافر إلى المسجد الحرام فإنه قصد ما هو عبادة من جنس الحج . والنبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يحج أحد أو يسافر إلى غير المساجد الثلاثة والحج الواجب الذي يسمى عند الإطلاق حجا إنما هو إلى المسجد الحرام خاصة . والسفر إلى بقعة للعبادة فيها هو إلى المسجدين وما سوى ذلك من الأسفار إلى مكان معظم هو من جنس الحج إليه وذلك منهي عنه . وكذلك في حديث { أبي سفيان لما اجتمع بأمية بن أبي الصلت الثقفي وذكر عن عالم من علماء النصارى أنه أخبره بقرب نبي يبعث من العرب قال أمية : قلت نحن من العرب . قال : إنه من أهل بيت يحجه العرب قال فقلت : نحن معشر ثقيف فينا بيت يحجه العرب قال : إنه ليس منكم إنه من إخوانكم قريش } . كما تقدم . وثقيف كان فيهم اللات المذكورة في القرآن في قوله تعالى { أفرأيتم اللات والعزى } { ومناة الثالثة الأخرى } { ألكم الذكر وله الأنثى } وقد ذكروا أنها مكان رجل كان يلت السويق ويسقيه للحجاج فلما مات عكفوا على قبره وصار ذلك وثنا عظيما يعبد والسفر إليه كانوا يسمونه حجا كما تقدم فدل ذلك على أن السفر إلى المشاهد حج إليها كما يقول من يقول من العامة : وحق النبي الذي تحج المطايا إليه . قال عبد بن حميد في تفسيره : حدثنا قبيصة عن سفيان عن منصور عن مجاهد : { أفرأيتم اللات والعزى } قال : كان رجل يلت السويق فمات فاتخذ قبره مصلى . وقال : حدثنا سليمان بن داود عن أبي الأشهب عن أبي الجوزاء عن ابن عباس قال : " اللات " رجل يلت السويق للحجاج . وكذلك رواه ابن أبي حاتم عن أبي الجوزاء عن ابن عباس قال : كان يلت السويق على الحجر فلا يشرب منه أحد إلا سمن فعبدوه . وروي عن الأعمش قال : كان مجاهد يقرأ " اللات " مثقلة(35/32)
ويقول : كان رجل يلت السويق على صخرة في طريق الطائف ويطعمه الناس فمات فقبر فعكفوا على قبره . وقال سليمان بن حرب : حدثنا حماد بن زيد عن عمرو بن مالك عن أبي الجوزاء قال : " اللات " حجر كان يلت السويق عليه فسمي " اللات " . وقال : حدثنا عبيد الله بن موسى عن إسرائيل عن السدي عن أبي صالح قال : " اللات " الذي كان يقوم على آلهتهم وكان يلت لهم السويق " والعزى " نخلة كانوا يعلقون عليها الستور والعهن " ومناة " حجر بقديد . وقد قرأ طائفة من السلف اللات بتشديد التاء . وقيل إنها اسم معدول عن عن اسم الله . قال الخطابي : المشركون يتعاطون الله اسما لبعض أصنامهم فصرفه الله إلى اللات صيانة لهذا الاسم وذبا عنه . قلت : ولا منافاة بين القولين والقراءتين فإنه كان رجل يلت السويق على حجر وعكفوا على قبره وسموه بهذا الاسم وخففوه وقصدوا أن يقولوا هو الإله كما كانوا يسمون الأصنام آلهة فاجتمع في الاسم هذا وهذا . وكانت " اللات " لأهل الطائف وكانوا يسمونها " الربة " " والعزى " لأهل مكة . ولهذا { قال أبو سفيان يوم أحد : إن لنا العزى ولا عزى لكم . فقال النبي صلى الله عليه وسلم ألا تجيبوه ؟ فقالوا : ما نقول ؟ قال قولوا : الله مولانا ولا مولى لكم } الحديث وقد تقدم . وكانت مناة لأهل المدينة . فكل مدينة من مدائن أهل الحجاز كان لها طاغوت تحج إليه وتتخذه شفيعا وتعبده . وما ذكره بعض المفسرين من أن " العزى " كانت لغطفان فذلك لأن غطفان كانت تعبدها وهي في جهتها . وأهل مكة يحجون إليها فإن العزى كانت ببطن نخلة من ناحية عرفات . ومعلوم بالنقول الصحيحة أن أهل مكة كانوا يعبدون العزى . كما علم بالتواتر أن أهل الطائف كان لهم اللات ومناة كانت حذو قديد كان أهل المدينة يهلون لها كما ثبت ذلك في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها . وأما ما ذكره معمر بن المثنى من أن هذه الثلاثة كانت أصناما في جوف الكعبة من حجارة فهو باطل باتفاق أهل(35/33)
العلم بهذا الشأن وإنما كان في الكعبة " هبل " الذي ارتجز له { أبو سفيان يوم أحد وقال : اعل هبل اعل هبل . فقال النبي صلى الله عليه وسلم ألا تجيبوه ؟ قالوا : وما نقول ؟ قال قولوا : الله أعلى وأجل } . كما تقدم ذكره . هذا وكان إساف ونائلة على الصفا والمروة وكان حول الكعبة ثلاثمائة وستون صنما . وهذه الأسماء الثلاثة مؤنثة : اللات والعزى ومناة . وبكل حال فقد قال أمية بن أبي الصلت : فينا بيت يحجه العرب وأبو سفيان يوافقه على ذلك . فدل ذلك على أن البقاع التي يسافر إليها فالسفر إليها حج والحج نسك وهو حج إلى غير بيت الله ونسك لغير الله كما أن الدعاء لها صلاة لغير الله . وقد قال تعالى : { قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين } { قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين } { لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين } فالله تعالى أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن تكون صلاته ونسكه لله .(35/34)
فمن سافر إلى بقعة غير بيوت الله التي يشرع السفر إليها ودعا غير الله فقد جعل نسكه وصلاته لغير الله عز وجل والنبي صلى الله عليه وسلم نهى عن السفر إلى مسجد غير المساجد الثلاثة وإن كان بيتا من بيوت الله ؛ إذ لم تكن له خاصية تستحق السفر إليه ولا شرع هو صلى الله عليه وسلم ومن قبله من الأنبياء السفر إليه بخلاف الثلاثة فإن كل مسجد منها بناه نبي من الأنبياء ودعا الناس إلى السفر إليه فلها خصائص ليست لغيرها . فإذا كان السفر إلى بيوت الله غير الثلاثة ليس بمشروع باتفاق الأئمة الأربعة ؛ بل قد نهى عنه الرسول صلى الله عليه وسلم فكيف بالسفر إلى بيوت المخلوقين الذين تتخذ قبورهم مساجد وأوثانا وأعيادا ويشرك بها وتدعى من دون الله حتى إن كثيرا من معظميها يفضل الحج إليها على الحج إلى بيت الله فيجعل الشرك وعبادة الأوثان أفضل من التوحيد وعبادة الرحمن كما يفعل ذلك من يفعله من المشركين وقال تعالى : { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالا بعيدا } { إن يدعون من دونه إلا إناثا وإن يدعون إلا شيطانا مريدا } { لعنه الله } وكانت لها شياطين تكلمهم وتتراءى لهم . قال ابن عباس : في كل صنم شيطان يتراءى للسدنة ويكلمهم . وقال أبي بن كعب : مع كل صنم جنية . وقد قيل : الإناث هي الموات . وعن الحسن : كل شيء لا روح فيه كالخشب والحجر فهو إناث . قال الزجاج : والموات كلها يخبر عنها كما يخبر من المؤنث . فتقول في ذلك : الأحجار تعجبني والدراهم تنفعك . وليس ذلك مختصا بالموات بل كل ما سوى الله . تعالى يجمع بلفظ التأنيث فيقال : الملائكة ويقال لما يعبد من دون الله : آلهة . قال تعالى : { قل أي شيء أكبر شهادة قل الله شهيد بيني وبينكم وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ أئنكم لتشهدون أن مع الله آلهة أخرى قل لا أشهد قل إنما هو إله واحد وإنني بريء مما تشركون } وقال تعالى : { وجاوزنا ببني(35/35)
إسرائيل البحر فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم قالوا يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون } { إن هؤلاء متبر ما هم فيه وباطل ما كانوا يعملون } { قال أغير الله أبغيكم إلها وهو فضلكم على العالمين } هي أوثان وهي مؤنثة قال تعالى : { أفرأيتم ما تدعون من دون الله إن أرادني الله بضر هل هن كاشفات ضره أو أرادني برحمة هل هن ممسكات رحمته قل حسبي الله عليه يتوكل المتوكلون . } فالآلهة المعبودة من دون الله كلها بهذه المثابة وهي الأوثان التي تتخذ من دون الله قال تعالى : { ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون } وقال يوسف الصديق : { يا صاحبي السجن أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار } { ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان } وكل من عبد شيئا من دون الله فإنما يعبد أسماء ما أنزل الله بها من سلطان . وأيضا فالذين يعبدون الملائكة أو الأنبياء لا يرونهم وإنما يعبدون تماثيل صوروها على مثال صورهم وهي من تراب وحجر وخشب فهم يعبدون الموات . وفي الصحيح - صحيح مسلم - عن أبي الهياج الأسدي قال : قال لي علي بن أبي طالب رضي الله عنه ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم { بعثني أن لا أدع تمثالا إلا طمسته ولا قبرا مشرفا إلا سويته } . وقال تعالى : { أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون } { وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الله لغفور رحيم } { والله يعلم ما تسرون وما تعلنون } { والذين يدعون من دون الله لا يخلقون شيئا وهم يخلقون } { أموات غير أحياء وما يشعرون أيان يبعثون } وجميع الأموات لا يشعرون أيان يبعثون . فلا يعلم بقيام الساعة إلا الله عز وجل . وفي الصحيح { أنه لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب الناس أبو بكر الصديق فقال : من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات ومن كان يعبد الله فإن(35/36)
الله حي لا يموت . وقرأ قوله تعالى { وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين } وكأن الناس ما سمعوها حتى تلاها أبو بكر } فلا يوجد أحد من الناس إلا وهو يتلوها . والناس تغيب عنهم معاني القرآن عند الحوادث فإذا ذكروا بها عرفوها . وقال تعالى : { إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون } { وإخوانهم يمدونهم في الغي ثم لا يقصرون } . وأما قوله تعالى { ألكم الذكر وله الأنثى } { تلك إذا قسمة ضيزى } أي قسمة جائرة عوجاء إذ تجعلون لكم ما تحبون وهم الذكور وتجعلون لي الإناث وهذا من قولهم : الملائكة بنات الله حيث جعلوا له أولادا إناثا وهم يكرهون أن يكون ولد أحدهم أنثى . كالنصارى الذين يجعلون لله ولدا ويجلون الراهب الكبير أن يكون له ولد . وأما اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى فلما قال تعالى : { ألكم الذكر وله الأنثى } فسرها طائفة منهم الكلبي بأنهم كانوا يقولون : هذه الأصنام بنات الله . وهذا هو الذي ذكره طائفة من المتأخرين . وليس كذلك ؛ فإنهم لم يكونوا يقولون عن هذه الأصنام إنها بنات الله وإنما قالوا ذلك عن الملائكة كما ذكر الله عنهم في قوله تعالى . بعد هذا : { إن الذين لا يؤمنون بالآخرة ليسمون الملائكة تسمية الأنثى } وقال : { وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا أشهدوا خلقهم } وقال تعالى : { وإذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمن مثلا ظل وجهه مسودا وهو كظيم } فإن الولد يماثل أباه وكذلك الشريك يماثل شريكه فهم ضربوا الإناث مثلا وهم جعلوا هذه شركاء لله سبحانه فكانوا يجعلونها أندادا لله والشريك كالأخ فجعلوا له أولادا إناثا وشركاء إناثا فجعلوا له بنات وأخوات وهم لا يحبون أن تكون لأحدهم أنثى لا بنت ولا أخت ؛ بل إذا كان الأب يكره أن تكون له بنت فالأخت أشد كراهة له منها . ولم يكونوا(35/37)
يورثون البنات والأخوات . فتبين فرط جهلهم وظلمهم إذ جعلوا لله ما لا يرضونه لأنفسهم فكانت أنفسهم عندهم أعظم من الله سبحانه . وهذا كما ضرب لهم مثلا فقال تعالى : { ويجعلون لما لا يعلمون نصيبا مما رزقناهم تالله لتسألن عما كنتم تفترون } { ويجعلون لله البنات سبحانه ولهم ما يشتهون } إلى قوله : { للذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوء ولله المثل الأعلى وهو العزيز الحكيم } وقال تعالى { ضرب لكم مثلا من أنفسكم هل لكم من ما ملكت أيمانكم من شركاء في ما رزقناكم فأنتم فيه سواء تخافونهم كخيفتكم أنفسكم كذلك نفصل الآيات لقوم يعقلون } . فهم لا يرضون أن يكون مملوك أحدهم شريكه وقد جعلوا مملوكي الرب شركاء له فجعلوا لله ما لا يرضونه لأنفسهم من الشركاء ومن الأولاد : لا يرضون مملوكيهم أن يكونوا شركاء وقد جعلوهم لله شركاء ولا يرضون من الأولاد بالإناث فلا يرضونها ولدا ولا نظيرا وهم جعلوا الإناث لله أولادا ونظراء . والنكتة أن الله أجل وأعظم وأعلى وأكبر من كل شيء وهم قد جعلوا لله ما لا يرضونه لأنفسهم . وهذا يتناول كل من وصف الله بصفة ينزه عنها المخلوق كالذين قالوا : إنه فقير وإنه بخيل . والذين قالوا : إنه لا يوصف إلا بالسلوب أو لا يوصف لا بسلب ولا إثبات . والذين جعلوا بعض المخلوقات مماثلة له في شيء من الأشياء في عبادة له أو دعاء له أو توكل عليه أو حبها مثل حبه والذين قالوا : يفعل لا لحكمة ؛ بل عبثا . والذين قالوا : إنه يجوز أن يضع الأشياء في غير مواضعها فيعاقب خيار الناس ويكرم شرارهم . والذين قالوا : لا يقدر أن يتكلم بمشيئته . والذين قالوا : إنه لا يسمع ولا يبصر . والذين قالوا : إنه يجوز أن يحب غيره كما يحب هو ويدعى ويسأل فجعلوا مملوكه ندا له . ونظائر ذلك كثيرة . والقرآن ملآن من توحيد الله تعالى وأنه ليس كمثله شيء . فلا يمثل به شيء من المخلوقات في شيء من الأشياء إذ ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا(35/38)
في أفعاله ولا فيما يستحقه من العبادة والمحبة والتوكل والطاعة والدعاء وسائر حقوقه . قال تعالى : { رب السماوات والأرض وما بينهما فاعبده واصطبر لعبادته هل تعلم له سميا } فلا أحد يساميه . ولا يستحق أن يسمى بما يختص به من الأسماء ولا يساويه في معنى شيء من الأسماء لا في معنى الحي ولا العليم ولا القدير ولا غير ذلك من الأسماء ولا في معنى الذات والموجود ونحو ذلك من الأسماء العامة ولا يكون إلها ولا ربا ولا خالقا . فقال تعالى : { قل هو الله أحد } { الله الصمد } { لم يلد ولم يولد } { ولم يكن له كفوا أحد } فلم يكن أحد يكافيه في شيء من الأشياء : فلا يساويه شيء ولا يماثله شيء ولا يعادله شيء . قال تعالى : { الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون } وقال تعالى : { فكبكبوا فيها هم والغاوون } { وجنود إبليس أجمعون } { قالوا وهم فيها يختصمون } { تالله إن كنا لفي ضلال مبين } { إذ نسويكم برب العالمين } وقال تعالى : { ويعبدون من دون الله ما لا يملك لهم رزقا من السماوات والأرض شيئا ولا يستطيعون } { فلا تضربوا لله الأمثال إن الله يعلم وأنتم لا تعلمون } . وهذا الذي ذكرنا من أن السفر إلى الأماكن المعظمة - القبور وغيرها - عند أصحابه كالحج عند المسلمين هو أمر معروف عند المتقدمين والمتأخرين لفظا ومعنى فإنهم يقصدون من دعاء المخلوق والخضوع له والتضرع إليه نظير ما يقصده المسلمون من دعاء الله تعالى والخضوع له والتضرع إليه ؛ لكن كما قال تعالى : { ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله } وهم يسمون ذلك حجا إليها وهذا معروف عند متقدميهم ومتأخريهم . وكذلك أهل البدع والضلال من المسلمين كالرافضة وغيرهم يحجون إلى المشاهد وقبور شيوخهم وأئمتهم ويسمون ذلك حجا . ويقول داعيتهم : السفر إلى الحج الأكبر ويظهرون علما للحج إليه ومعه مناد ينادي(35/39)
إليه كما يرفع المسلمون علما للحج لكن داعي أهل البدع ينادي : السفر إلى الحج الأكبر علانية في مثل بغداد يعني السفر إلى مشهد من المشاهد فيجعلون السفر إلى قبر بعض المخلوقين هو الحج الأكبر والحج إلى بيت الله عندهم الأصغر . وقد ذكر ذلك أئمتهم في مصنفاتهم . ومن جهال الناس من يقول : وحق النبي الذي تحج المطايا إليه . فلما كان المشركون يصلون ويدعون المخلوق ويحجون إلى قبره قال تعالى : { قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين } { قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين } { لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين } وقال تعالى : { ولا تدع مع الله إلها آخر } . وقوله تعالى { ونسكي } قد ذكروا في تفسيره : الذبح لله والحج إلى بيت الله . وذكروا أن لفظ النسك يتناول العبادة مطلقا . والله سبحانه قد بين في القرآن أن الذبح والحج كلاهما منسك : قال تعالى : { ولكل أمة جعلنا منسكا ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام } وقال النبي صلى الله عليه وسلم { من ذبح بعد الصلاة فقد أصاب النسك ومن ذبح قبل الصلاة فإنما هو شاة لحم عجلها لأهله ليس من النسك في شيء } . وقال تعالى عن إبراهيم وإسماعيل : { ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم } { ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم } فأرى الله إبراهيم وابنه إسماعيل المواضع التي تقصد في الحج والأفعال التي تفعل هناك : كالطواف والسعي والوقوف والرمي كما ذكر ذلك غير واحد من السلف . والصلاة تتناول الدعاء الذي هو بمعنى العبادة والذي هو بمعنى السؤال . فالصلاة تجمع هذا وهذا قال تعالى : { وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين } فقد فسر دعاؤه بسؤاله فالنبي صلى الله عليه وسلم أمره الله أن يقول : { قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي(35/40)
لله رب العالمين } فأمره تعالى أن يكون الدعاء لله والصلاة لله ولا تبنى المساجد إلا لله ؛ لا تبنى على قبر مخلوق ولا من أجله ولا يسافر إلى بيوت المخلوقين . وقد نهى أن يحج ويسافر إلى بيوت الله التي ليست لها تلك الخصائص . وهذا ونحوه يعرف من كلام النبي صلى الله عليه وسلم وسنته وسنة خلفائه الراشدين وما كان عليه الصحابة من بعده والتابعون لهم بإحسان وما ذكره أئمة المسلمين الأربعة وغيرهم . ولهذا لا يقدر أحد أن ينقل عن إمام من أئمة المسلمين أنه يستحب السفر إلى زيارة قبر نبي أو رجل صالح . ومن نقل ذلك فليخرج نقله . وإذا كان الأمر كذلك وليس في الفتيا إلا ما ذكره أئمة المسلمين وعلماؤهم فالمخالف لذلك مخالف لدين المسلمين وشرعهم ولسنة نبيهم ؛ وسنة خلفائه الراشدين ولما بعث الله به رسله وأنزل به كتبه من توحيده وعبادته وحده لا شريك له وأنه إنما يعبد بما شرعه من واجب ومستحب لا يعبد بما نهى عنه ولم يشرعه . والله سبحانه بعث محمدا بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا . فبعثه بدين الإسلام الذي بعث به جميع الأنبياء فإن الدين عند الله الإسلام { ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه } لا من الأولين ولا من الآخرين . وجميع الأنبياء كانوا على دين الإسلام كما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { إنا معاشر الأنبياء ديننا واحد الأنبياء إخوة لعلات } . وقد أخبر تعالى في القرآن عن نوح وإبراهيم وإسرائيل وأتباع موسى والمسيح وغيرهم أنهم كانوا مسلمين متفقين على عبادة الله وحده لا شريك له وأن يعبد بما أمر هو سبحانه وتعالى فلا يعبد غيره ولا يعبد هو بدين لم يشرعه . فلما أمر أن يصلي في أول الإسلام إلى بيت المقدس كان ذلك من دين الإسلام . ثم لما نسخ ذلك وأمر باستقبال البيت الحرام كان هذا من دين الإسلام . وذلك المنسوخ ليس من دين الإسلام . وقد قال تعالى : { لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا }(35/41)
فللتوراة شرعة وللإنجيل شرعة وللقرآن شرعة . فمن كان متبعا لشرع التوراة أو الإنجيل الذي لم يبدل ولم ينسخ فهو على دين الإسلام كالذين كانوا على شريعة التوراة بلا تبديل قبل مبعث المسيح عليه السلام والذين كانوا على شريعة الإنجيل بلا تبديل قبل مبعث محمد صلى الله عليه وسلم .
وأما من اتبع دينا مبدلا ما شرعه الله أو دينا منسوخا فهذا قد خرج عن دين الإسلام كاليهود الذين بدلوا التوراة كذبوا المسيح عليه السلام ثم كذبوا محمدا صلى الله عليه وسلم . والنصارى الذين بدلوا الإنجيل وكذبوا محمدا صلى الله عليه وسلم . فهؤلاء ليسوا على دين الإسلام الذي كان عليه الأنبياء بل هم مخالفون لهم فيما كذبوا به من الحق وابتدعوه من الباطل . وكذلك كل مبتدع خالف سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذب ببعض ما جاء به من الحق وابتدع من الباطل ما لم تشرعه الرسل . فالرسول بريء مما ابتدعه وخالفه فيه . قال تعالى : { فإن عصوك فقل إني بريء مما تعملون } وقال تعالى : { إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء } فالحلال ما حلله الله ورسوله والحرام ما حرمه الله ورسوله والدين ما شرعه الله ورسوله . وقد ذم الله المشركين على أنهم حللوا وحرموا وشرعوا دينا لم يأذن به الله فقال تعالى : { أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله } والسور المكية أنزلها الله تبارك وتعالى في الدين العام الذي بعث به جميع الرسل كالإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر . ومحمد صلى الله عليه وسلم خاتم المرسلين لا نبي بعده . وأمته خير أمة أخرجت للناس . وقد بعثه الله بأفضل الكتب وأفضل الشرائع . وأكمل له ولأمته الدين . وأتم عليه النعمة . ورضي لهم الإسلام دينا . وهو قد دعا إلى الصراط المستقيم كما قال تعالى : { وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم } { صراط الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض ألا إلى الله تصير الأمور } وقد أمرنا الله أن نتبع(35/42)
هذا الصراط المستقيم ولا نعدل عنه إلى السبل المبتدعة . فقال تعالى : { وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون } { وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه خط لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطا وخط خطوطا عن يمينه وشماله ثم قال : هذا سبيل الله وهذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه . ثم قرأ : { وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله } } ولهذا أمرنا الله أن نقول في صلاتنا : { اهدنا الصراط المستقيم } { صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين } . وقال النبي صلى الله عليه وسلم { اليهود مغضوب عليهم والنصارى ضالون } . وهو صلى الله عليه وسلم لم يمت حتى بين الدين وأوضح السبيل وقال : { تركتكم على البيضاء النقية ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك } . وقال صلى الله عليه وسلم { ما تركت من شيء يقربكم من الجنة إلا وقد حدثتكم به ولا من شيء يبعدكم عن النار إلا وقد حدثتكم به } . وقال { إنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافا كثيرا فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة } . قال الترمذي : حديث صحيح . ولهذا كان أئمة المسلمين لا يتكلمون في الدين بأن هذا واجب أو مستحب أو حرام أو مباح إلا بدليل شرعي من الكتاب أو السنة . وما دلا عليه . وما اتفق عليه المسلمون فهو حق جاء به الرسول ؛ فإن أمته ولله الحمد لا تجتمع على ضلالة كما أخبر هو صلى الله عليه وسلم فقال : { إن الله أجاركم على لسان نبيكم أن تجتمعوا على ضلالة } . وما تنازعوا فيه ردوه إلى الكتاب والسنة كما قال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك(35/43)
خير وأحسن تأويلا } كما كان السلف يفعلون فقد يكون عند هذا حديث سمعه أو معنى فهمه خفي على الآخر والآخر مأجور على اجتهاده أيضا . ولا إثم عليه فيما خفي عليه بعد اجتهاده . كما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر } . ولو صلى أربعة أنفس إلى أربع جهات إذا أغيمت السماء كل باجتهاده فكلهم مطيع لله عز وجل وتبرأ ذمته لكن الذي أصاب جهة الكعبة واحد وله أجران . وقد قال تعالى : { وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين } { ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما } فأثنى تعالى على النبيين جميعا مع أنه خص أحدهما بفهم تلك الحكومة . والدين كله مأخوذ عن الرسول صلى الله عليه وسلم ليس لأحد بعده أن يغير من دينه شيئا . هذا دين المسلمين . بخلاف النصارى فإنهم يجوزون لعلمائهم وعبادهم أن يشرعوا شرعا يخالف شرع الله قال تعالى : { اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون } قال النبي صلى الله عليه وسلم { إنهم أحلوا لهم الحرام فأطاعوهم وحرموا عليهم الحلال فأطاعوهم فكانت تلك عبادتهم إياهم } . ولهذا كان أئمة المسلمين لا يتكلمون في شيء أنه عبادة وطاعة وقربة إلا بدليل شرعي واتباع لمن قبلهم لا يتكلمون في الدين بلا علم فإن الله حرم ذلك بقوله تعالى : { قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون } . وقد اتفق أئمة الدين على أنه يشرع السفر إلى المساجد الثلاثة : المسجد الحرام ومسجد الرسول صلى الله عليه وسلم والمسجد الأقصى . بخلاف غير هذه الثلاثة ؛ لأن في الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : { لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد :(35/44)
المسجد الحرام ومسجدي هذا والمسجد الأقصى } .
وتنازع المسلمون في زيارة القبور فقال طائفة من السلف إن ذلك كله منهي عنه لم ينسخ فإن أحاديث النسخ لم يروها البخاري ولم تشتهر . ولما ذكر البخاري زيارة القبور . احتج بحديث المرأة التي بكت عند القبر . ونقل ابن بطال عن الشعبي أنه قال : لولا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن زيارة القبور لزرت قبر ابني . وقال النخعي : كانوا يكرهون زيارة القبور وعن ابن سيرين مثله . قال ابن بطال : وقد سئل مالك عن زيارة القبور فقال ؛ قد كان نهى عنها عليه السلام ثم أذن فيها فلو فعل ذلك إنسان ولم يقل إلا خيرا لم أر بذلك بأسا وليس من عمل الناس . وروي عنه أنه كان يضعف زيارتها . وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد نهى أولا عن زيارة القبور باتفاق العلماء . فقيل : لأن ذلك يفضي إلى الشرك . وقيل لأجل النياحة عندها . وقيل لأنهم كانوا يتفاخرون بها . وقد ذكر طائفة من العلماء في قوله تعالى { ألهاكم التكاثر } { حتى زرتم المقابر } أنهم كانوا يتكاثرون بقبور الموتى . وممن ذكره ابن عطية في تفسيره قال : وهذا تأنيب على الإكثار من زيارة القبور أي حتى جعلتم أشغالكم القاطعة لكم عن العبادة والعلم زيارة القبور تكثرا بمن سلف وإشادة بذكره . ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم { كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها ولا تقولوا هجرا } فكان نهيه في معنى الآية . ثم أباح الزيارة بعد لمعنى الاتعاظ لا لمعنى المباهاة والتفاخر وتسنيمها بالحجارة الرخام وتلوينها سرفا وبنيان النواويس عليها هذا لفظ ابن عطية . والمقصود أن العلماء متفقون على أنه كان نهى عن زيارة القبور . ونهى عن الانتباذ في الدباء والحنتم والمزفت والمقير . واختلفوا هل نسخ ذلك ؟ فقالت طائفة : لم ينسخ ذلك ؛ لأن أحاديث النسخ ليست مشهورة . ولهذا لم يخرج أبو عبد الله البخاري ما فيه نسخ عام . وقال الآخرون : بل نسخ ذلك . ثم قالت طائفة منهم :(35/45)
إنما نسخ إلى الإباحة فزيارة القبور مباحة لا مستحبة . وهذا قول في مذهب مالك وأحمد . قالوا : لأن صيغة افعل بعد الحظر إنما تفيد الإباحة . كما قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح : { كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها وكنت نهيتكم عن الانتباذ في الأوعية فانتبذوا ولا تشربوا مسكرا } وروي { فزوروها ولا تقولوا هجرا } . وهذا يدل على أن النهي كان لما كان يقال عندها من الأقوال المنكرة سدا للذريعة كالنهي عن الانتباذ في الأوعية أولا لأن الشدة المطربة تدب فيها ولا يدرى بذلك فيشرب الشارب الخمر وهو لا يدري . وقال الأكثرون : زيارة قبور المؤمنين مستحبة للدعاء للموتى مع السلام عليهم { كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يخرج إلى البقيع فيدعو لهم } . وكما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في الصحيحين { أنه خرج إلى شهداء أحد فصلى عليهم صلاته على الموتى كالمودع للأحياء والأموات } . وثبت عنه صلى الله عليه وسلم في الصحيح { أنه كان يعلم أصحابه إذا زاروا القبور أن يقولوا : السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون يرحم الله المستقدمين منا ومنكم والمستأخرين نسأل الله لنا ولكم العافية . اللهم لا تحرمنا أجرهم ولا تفتنا بعدهم واغفر لنا ولهم } . وهذا في زيارة قبور المؤمنين . وأما زيارة قبر الكافر فرخص فيها لأجل تذكار الآخرة ولا يجوز الاستغفار لهم . وقد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه { زار قبر أمه فبكى وأبكى من حوله . وقال : استأذنت ربي في أن أزور قبرها فأذن لي واستأذنته في أن أستغفر لها فلم يأذن لي فزوروا القبور فإنها تذكركم الآخرة } . والعلماء المتنازعون كل منهم يحتج بدليل شرعي ويكون عند بعضهم من العلم ما ليس عند الآخر - فإن العلماء ورثة الأنبياء - وقال تعالى : { وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين } { ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما(35/46)
وعلما } . والأقوال الثلاثة صحيحة باعتبار ؛ فإن الزيارة إذا تضمنت أمرا محرما : من شرك أو كذب أو ندب أو نياحة وقول هجر : فهي محرمة بالإجماع كزيارة المشركين بالله والساخطين لحكم الله فإن هؤلاء زيارتهم محرمة . فإنه لا يقبل دين إلا دين الإسلام . وهو الاستسلام لخلقه وأمره . فيسلم لما قدره وقضاه ويسلم لما يأمر به ويحبه . وهذا نفعله وندعو إليه وذاك نسلمه ونتوكل فيه عليه . فنرضى بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد نبيا . ونقول في صلاتنا : { إياك نعبد وإياك نستعين } مثل قوله تعالى { فاعبده وتوكل عليه } وقوله تعالى : { استعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين } وقوله تعالى { وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين } { واصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين } . والنوع الثاني : زيارة القبور لمجرد الحزن على الميت لقرابته أو صداقته فهذه مباحة كما يباح البكاء على الميت بلا ندب ولا نياحة . كما { زار النبي صلى الله عليه وسلم قبر أمه فبكى وأبكى من حوله وقال : زوروا القبور فإنها تذكركم الآخرة } . فهذه الزيارة كان نهى عنها لما كانوا يفعلون من المنكر فلما عرفوا الإسلام أذن فيها لأن فيها مصلحة وهو تذكر الموت . فكثير من الناس إذا رأى قريبه وهو مقبور ذكر الموت واستعد للآخرة وقد يحصل منه جزع فيتعارض الأمران . ونفس الحزن مباح إن قصد به طاعة كان طاعة وإن عمل معصية كان معصية . وأما النوع الثالث : فهو زيارتها للدعاء لها كالصلاة على الجنازة . فهذا هو المستحب الذي دلت السنة على استحبابه ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم فعله وكان يعلم أصحابه ما يقولون إذا زاروا القبور . وأما زيارة قباء فيستحب لمن أتى المدينة أن يأتي قباء فيصلي في مسجدها . وكذلك يستحب له عند الجمهور أن يأتي البقيع وشهداء أحد كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل فزيارة القبور للدعاء للميت من جنس الصلاة(35/47)
على الجنائز يقصد فيها الدعاء لهم لا يقصد فيها أن يدعو مخلوقا من دون الله ولا يجوز أن تتخذ مساجد ولا تقصد لكون الدعاء عندها أو بها أفضل من الدعاء في المساجد والبيوت . والصلاة على الجنائز أفضل باتفاق المسلمين من الدعاء للموتى عند قبورهم . وهذا مشروع بل فرض على الكفاية متواتر متفق عليه بين المسلمين . ولو جاء إنسان إلى سرير الميت يدعوه من دون الله ويستغيث به كان هذا شركا محرما بإجماع المسلمين . ولو ندبه وناح لكان أيضا محرما وهو دون الأول . فمن احتج بزيارة النبي صلى الله عليه وسلم لأهل البقيع ولأهل أحد على الزيارة التي يفعلها أهل الشرك وأهل النياحة فهو أعظم ضلالا ممن يحتج بصلاته على الجنازة على أنه يجوز أن يشرك بالميت ويدعى من دون الله ويندب ويناح عليه كما يفعل ذلك بعض الناس يستدل بهذا الذي فعله الرسول صلى الله عليه وسلم - وهو عبادة لله وطاعة له يثاب عليه الفاعل وينتفع به المدعو له ويرضى به الرب عز وجل - على أنه يجوز أن يفعل ما هو شرك بالله وإيذاء للميت وظلم من العبد لنفسه كزيارة المشركين وأهل الجزع الذين لا يخلصون لله الدين ولا يسلمون لما حكم به سبحانه وتعالى . فكل زيارة تتضمن فعل ما نهى عنه وترك ما أمر به - كالتي تتضمن الجزع وقول الهجر وترك الصبر أو تتضمن الشرك ودعاء غير الله وترك إخلاص الدين لله - فهي منهي عنها . وهذه الثانية أعظم إثما من الأولى . ولا يجوز أن يصلى إليها بل ولا عندها بل ذلك مما نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم فقال : { لا تصلوا إلى القبور ولا تجلسوا عليها } رواه مسلم في صحيحه . فزيارة القبور على وجهين : وجه نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم واتفق العلماء على أنه غير مشروع وهو أن نتخذها مساجد ونتخذها وثنا ونتخذها عيدا فلا يجوز أن تقصد للصلاة الشرعية ولا أن تعبد كما تعبد الأوثان ولا أن تتخذ عيدا يجتمع إليها في وقت معين كما يجتمع المسلمون في عرفة ومنى . وأما(35/48)
" الزيارة الشرعية " فهي مستحبة عند الأكثرين . وقيل : مباحة . وقيل : كلها منهي عنها كما تقدم . والذي تدل عليه الأدلة الشرعية أن نحمل المطلق من كلام العلماء على المقيد ونفصل الزيارة إلى ثلاثة أنواع : منهي عنه ومباح ومستحب وهو الصواب . قال مالك وغيره : لا نأتي إلا هذه الآثار : مسجد النبي صلى الله عليه وسلم ومسجد قباء وأهل البقيع وأحد . فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يقصد إلا هذين المسجدين وهاتين المقبرتين كان يصلي يوم الجمعة في مسجده ويوم السبت يذهب إلى قباء كما في الصحيحين عن ابن عمر - رضي الله عنهما - { أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأتي قباء كل سبت راكبا وماشيا فيصلي فيه ركعتين } . وأما أحاديث النهي فكثيرة مشهورة في الصحيحين وغيرهما كقوله صلى الله عليه وسلم { لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد . قالت عائشة رضي الله عنها ولولا ذلك لأبرز قبره ولكن خشي أن يتخذ مسجدا } . رواه البخاري ومسلم . وفي صحيح مسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال قبل أن يموت بخمس : { إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك } . وفي الصحيحين عن عائشة وابن عباس رضي الله عنهم قالوا : { لما نزل برسول الله صلى الله عليه وسلم طفق يطرح خميصة له على وجهه فإذا اغتم كشفها فقال وهو كذلك : لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد } يحذر ما صنعوا . وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { قاتل الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد } . وفي لفظ : { لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد } . وفي الصحيحين عن عائشة { أن أم حبيبة وأم سلمة ذكرتا كنيسة رأينها بأرض الحبشة فيها تصاوير فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجدا وصوروا(35/49)
فيه تلك التصاوير أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة } . وعائشة رضي الله عنها أم المؤمنين صاحبة الحجرة النبوية قد روت أحاديث هذا الباب مع مشاركة غيرها من الصحابة كابن عباس وأبي هريرة وجندب وابن مسعود وغيرهم . وقد قال صلى الله عليه وسلم فيما رواه ابن مسعود : { إن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء والذين يتخذون القبور مساجد } . رواه أبو حاتم في صحيحه والإمام أحمد في مسنده . وفي سنن أبي داود عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : { لا تتخذوا قبري عيدا وصلوا علي حيثما كنتم فإن صلاتكم تبلغني } . وفي موطأ مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد } . وفي سنن سعيد بن منصور أن عبد الله بن حسن بن حسين بن علي بن أبي طالب - أحد الأشراف الحسنيين بل أجلهم قدرا في عصر تابعي التابعين في خلافة المنصور وغيره - رأى رجلا يكثر الاختلاف إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا هذا إن رسول الله صلى الله عليه وسلم { قال : لا تتخذوا قبري عيدا وصلوا علي حيث ما كنتم فإن صلاتكم تبلغني } . فما أنت ورجل بالأندلس إلا سواء . فلما أراد الأئمة اتباع سنته في زيارة قبره المكرم والسلام عليه طلبوا ما يعتمدون عليه من سنته . فاعتمد الإمام أحمد على الحديث الذي في السنن عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { ما من أحد يسلم علي إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام } . وعن أحمد أخذ ذلك أبو داود فلم يذكر في زيارة قبره المكرم غير هذا الحديث وترجم عليه " باب زيارة القبر " مع أن دلالة الحديث على المقصود فيها نزاع وتفصيل فإنه لا يدل على كل ما تسميه الناس " زيارة " باتفاق المسلمين . ويبقى الكلام المذكور فيه : هل هو السلام عند القبر كما كان من دخل على عائشة رضي الله عنها يسلم عليه ؟ أو يتناول هذا والسلام(35/50)
عليه من خارج الحجرة . فالذين استدلوا به جعلوه متناولا لهذا وهذا وهو غاية ما كان عندهم في هذا الباب عنه صلى الله عليه وسلم وهو صلى الله عليه وسلم يسمع السلام من القريب وتبلغه الملائكة الصلاة والسلام عليه من البعيد كما في النسائي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : { إن لله ملائكة سياحين يبلغوني عن أمتي السلام } . وفي السنن عن أوس بن أوس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { أكثروا علي من الصلاة يوم الجمعة وليلة الجمعة فإن صلاتكم معروضة علي . قالوا : وكيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت ؟ فقال : إن الله حرم على الأرض أن تأكل لحوم الأنبياء } . صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليما . وذكر مالك في موطئه أن عبد الله بن عمر كان يأتي فيقول : السلام عليك يا رسول الله السلام عليك يا أبا بكر السلام عليك يا أبت ثم ينصرف . وفي رواية : كان إذا قدم من سفر . رواه معمر عن نافع عنه . وعلى هذا اعتمد مالك رحمه الله فيما يفعل عند الحجرة ؛ إذ لم يكن عنده إلا أثر ابن عمر رضي الله عنهما . وأما ما زاد على ذلك مثل الوقوف للدعاء للنبي صلى الله عليه وسلم مع كثرة الصلاة والسلام عليه فقد كرهه مالك وقال : هو بدعة لم يفعلها السلف . ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها . وأما السفر إلى قبور الأنبياء والصالحين فهذا لم يكن موجودا في الإسلام في زمن مالك وإنما حدث هذا بعد القرون الثلاثة . قرن الصحابة والتابعين وتابعيهم . فأما هذه القرون التي أثنى عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يكن هذا ظاهرا فيها ولكن بعدها ظهر الإفك والشرك . ولهذا لما سأل سائل لمالك عن رجل نذر أن يأتي قبر النبي صلى الله عليه وسلم . فقال : إن كان أراد المسجد فليأته وليصل فيه وإن كان أراد القبر فلا يفعل للحديث الذي جاء { لا تعمل المطي إلا إلى ثلاثة مساجد } . وكذلك من يزور قبور الأنبياء والصالحين ليدعوهم أو يطلب منهم الدعاء أو يقصد(35/51)
الدعاء عندهم لكونه أقرب إجابة في ظنه فهذا لم يكن يعرف على عهد مالك لا عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم ولا غيره . وإذا كان مالك رحمه الله يكره أن يطيل الرجل الوقوف عنده صلى الله عليه وسلم للدعاء فكيف بمن لا يقصد لا السلام عليه ولا الدعاء له وإنما يقصد دعاءه وطلب حوائجه منه ويرفع صوته عنده فيؤذي الرسول ويشرك بالله ويظلم نفسه ولم يعتمد الأئمة ؛ لا الأربعة ولا غير الأربعة على شيء من الأحاديث التي يرويها بعض الناس في ذلك . مثل ما يروون أنه قال : { من زارني في مماتي فكأنما زارني في حياتي } ومن قوله : { من زارني وزار أبي في عام واحد ضمنت له على الله الجنة } ونحو ذلك . فإن هذا لم يروه أحد من أئمة المسلمين ولم يعتمد عليها . ولم يروها لا أهل الصحاح ولا أهل السنن التي يعتمد عليها كأبي داود والنسائي . لأنها ضعيفة بل موضوعة كما قد بين العلماء الكلام عليها . ومن زاره في حياته صلى الله عليه وسلم كان من المهاجرين إليه والواحد بعدهم لو أنفق مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه . وهو إذا أتى بالفرائض لا يكون مثل الصحابة فكيف يكون مثلهم بالنوافل أو بما ليس بقربة أو بما هو منهي عنه . وكره مالك رضي الله عنه أن يقول القائل : زرت قبر النبي صلى الله عليه وسلم كره هذا اللفظ . لأن السنة لم تأت به في قبره . وقد ذكروا في تعليل ذلك وجوها . ورخص غيره في هذا اللفظ للأحاديث العامة في زيارة القبور . ومالك يستحب ما يستحبه سائر العلماء من السفر إلى المدينة والصلاة في مسجده وكذلك السلام عليه وعلى صاحبيه عند قبورهم اتباعا لابن عمر . ومالك من أعلم الناس بهذا لأنه قد رأى التابعين الذين رأوا الصحابة بالمدينة . ولهذا كان يستحب اتباع السلف في ذلك . ويكره أن يبتدع أحد هناك بدعة . فكره أن يطيل الرجل القيام والدعاء عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم لأن الصحابة رضوان الله عليهم ما كانوا يفعلون ذلك : وكره مالك لأهل(35/52)
المدينة كلما دخل إنسان المسجد أن يأتي قبر النبي صلى الله عليه وسلم لأن السلف لم يكونوا يفعلون ذلك . قال مالك رحمة الله عليه : ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها . بل كانوا يأتون إلى مسجده فيصلون فيه خلف أبي بكر الصديق وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم أجمعين فإن هؤلاء الأربعة صلوا أئمة في مسجده والمسلمون يصلون خلفهم كما كانوا يصلون خلفه وهم يقولون في الصلاة : السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته . كما كانوا يقولون ذلك في حياته . ثم إذا قضوا الصلاة قعدوا أو خرجوا . ولم يكونوا يأتون القبر للسلام لعلمهم بأن الصلاة والسلام عليه في الصلاة أكمل وأفضل وهي المشروعة . وأما دخولهم عند قبره للصلاة والسلام عليه هناك أو الصلاة والدعاء فإنه لم يشرعه لهم بل نهاهم وقال : { لا تتخذوا قبري عيدا وصلوا علي حيث ما كنتم ؛ فإن صلاتكم تبلغني } فبين أن الصلاة تصل إليه من البعيد وكذلك السلام . ومن صلى عليه مرة صلى الله عليه بها عشرا . ومن سلم عليه مرة سلم الله عليه عشرا . كما قد جاء في بعض الأحاديث . وتخصيص الحجرة بالصلاة والسلام جعل لها عيدا وهو قد نهاهم عن ذلك ونهاهم أن يتخذوا قبره أو قبر غيره مسجدا . ولعن من فعل ذلك ليحذروا أن يصيبهم مثل ما أصاب غيرهم من اللعنة . وكان أصحابه خير القرون وهم أعلم الأمة بسنته وأطوع الأمة لأمره . وكانوا إذا دخلوا إلى مسجده لا يذهب أحد منهم إلى قبره لا من داخل الحجرة ولا من خارجها . وكانت الحجرة في زمانهم يدخل إليها من الباب إذ كانت عائشة رضي الله عنها فيها . وبعد ذلك إلى أن بني الحائط الآخر . وهم مع ذلك التمكن من الوصول إلى قبره لا يدخلون إليه ؛ لا لسلام ولا لصلاة عليه ولا لدعاء لأنفسهم ولا لسؤال عن حديث أو علم ولا كان الشيطان يطمع فيهم حتى يسمعهم كلاما أو سلاما فيظنون أنه هو كلمهم وأفتاهم وبين لهم الأحاديث أو أنه قد رد عليهم السلام بصوت يسمع من خارج كما طمع(35/53)
الشيطان في غيرهم فأضلهم عند قبره وقبر غيره : حتى ظنوا أن صاحب القبر يحدثهم ويفتيهم ويأمرهم وينهاهم في الظاهر وأنه يخرج من القبر ويرونه خارجا من القبر ويظنون أن نفس أبدان الموتى خرجت من القبر تكلمهم وأن روح الميت تجسدت لهم فرأوها كما رآهم النبي صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج يقظة لا مناما . فإن الصحابة رضوان الله عليهم خير قرون هذه الأمة التي هي خير أمة أخرجت للناس . وهم تلقوا الدين عن النبي صلى الله عليه وسلم بلا واسطة . ففهموا من مقاصده صلى الله عليه وسلم وعاينوا من أفعاله وسمعوا منه شفاها ما لم يحصل لمن بعدهم . وكذلك كان يستفيد بعضهم من بعض ما لم يحصل لمن بعدهم وهم قد فارقوا جميع أهل الأرض وعادوهم وهجروا جميع الطوائف وأديانهم وجاهدوهم بأنفسهم وأموالهم قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح : { لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه } . وهذا قاله لخالد بن الوليد لما تشاجر هو وعبد الرحمن بن عوف لأن عبد الرحمن بن عوف كان من السابقين الأولين وهم الذين أنفقوا من قبل الفتح وقاتلوا وهو فتح الحديبية وخالد هو وعمرو بن العاص وعثمان بن طلحة أسلموا في مدة الهدنة بعد الحديبية وقبل فتح مكة فكانوا من المهاجرين التابعين لا من المهاجرين الأولين . وأما الذين أسلموا عام فتح مكة فليسوا بمهاجرين فإنه لا هجرة بعد الفتح بل كان الذين أسلموا من أهل مكة يقال لهم الطلقاء لأن النبي صلى الله عليه وسلم أطلقهم بعد الاستيلاء عليهم عنوة كما يطلق الأسير . والذين بايعوه تحت الشجرة هم ومن كان من مهاجرة الحبشة هم السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار وفي الصحيح { عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال : قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية : أنتم خير أهل الأرض } . وكنا ألفا وأربعمائة . ولهذا لم يطمع الشيطان أن ينال منهم من الإضلال والإغواء ما(35/54)
ناله ممن بعدهم فلم يكن فيهم من يتعمد الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم وإن كان له أعمال غير ذلك قد تنكر عليه . ولم يكن فيهم أحد من أهل البدع المشهورة : كالخوارج والروافض والقدرية والمرجئة والجهمية . بل كل هؤلاء إنما حدثوا فيمن بعدهم . ولم يكن فيهم من طمع الشيطان أن يتراءى له في صورة بشر ويقول : أنا الخضر أو أنا إبراهيم أو موسى أو عيسى أو المسيح أو أن يكلمه عند قبر حتى يظن أن صاحب القبر كلمه ؛ بل هذا إنما ناله فيمن بعدهم . وناله أيضا من النصارى حيث أتاهم بعد الصلب وقال : أنا هو المسيح وهذه مواضع المسامير - ولا يقول : أنا شيطان فإن الشيطان لا يكون جسدا - أو كما قال . وهذا هو الذي اعتمد عليه النصارى في أنه صلب ؛ لا في مشاهدته ؛ فإن أحدا منهم لم يشاهد الصلب وإنما حضره بعض اليهود وعلموا المصلوب وهم يعتقدون أنه المسيح . ولهذا جعله الله من ذنوبهم وإن لم يكونوا صلبوه . لكنهم قصدوا هذا الفعل وفرحوا به قال تعالى : { وبكفرهم وقولهم على مريم بهتانا عظيما } { وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن وما قتلوه يقينا } { بل رفعه الله إليه } . وبسط هذا له موضع آخر . والمقصود أن الصحابة رضوان الله عليهم لم يطمع الشيطان أن يضلهم كما أضل غيرهم من أهل البدع الذين تأولوا القرآن على غير تأويله أو جهلوا السنة أو رأوا وسمعوا أمورا من الخوارق فظنوها من جنس آيات الأنبياء والصالحين وكانت من أفعال الشياطين . كما أضل النصارى وأهل البدع بمثل ذلك . فهم يتبعون المتشابه ويدعون المحكم . وكذلك يتمسكون بالمتشابه من الحجج العقلية والحسية فيسمع ويرى أمورا فيظن أنه رحماني وإنما هو شيطاني ويدعون البين الحق الذي لا إجمال فيه . وكذلك لم يطمع الشيطان أن يتمثل في صورته ويغيث من استغاث به . أو أن يحمل إليهم صوتا(35/55)
يشبه صوته . لأن الذين رأوه علموا أن هذا شرك لا يحل . ولهذا أيضا لم يطمع فيهم أن يقول أحد منهم لأصحابه : إذا كانت لكم حاجة فتعالوا إلى قبري واستغيثوا بي لا في محياه ولا في مماته كما جرى مثل هذا لكثير من المتأخرين . ولا طمع الشيطان أن يأتي أحدهم ويقول : أنا من رجال الغيب أو من الأوتاد الأربعة أو السبعة أو الأربعين . أو يقول له : أنت منهم . إذ كان هذا عندهم من الباطل الذي لا حقيقة له . ولا طمع الشيطان أن يأتي أحدهم فيقول : أنا رسول الله أو يخاطبه عند القبر كما وقع لكثير ممن بعدهم عند قبره وقبر غيره وعند غير القبور . كما يقع كثير من ذلك للمشركين وأهل الكتاب يرون بعد الموت من يعظمونه من شيوخهم . فأهل الهند يرون من يعظمونه من شيوخهم الكفار وغيرهم . والنصارى يرون من يعظمونه من الأنبياء والحواريين وغيرهم . والضلال من أهل القبلة يرون من يعظمونه : إما النبي صلى الله عليه وسلم وإما غيره من الأنبياء يقظة ويخاطبهم ويخاطبونه . وقد يستفتونه ويسألونه عن أحاديث فيجيبهم . ومنهم من يخيل إليه أن الحجرة قد انشقت وخرج منها النبي صلى الله عليه وسلم وعانقه هو وصاحباه . ومنهم من يخيل إليه أنه رفع صوته بالسلام حتى وصل مسيرة أيام وإلى مكان بعيد . وهذا وأمثاله أعرف ممن وقع له هذا وأشباهه عددا كثيرا . وقد حدثني بما وقع له في ذلك وبما أخبر به غيره من الصادقين من يطول هذا الموضع بذكرهم . وهذا موجود عند خلق كثير كما هو موجود عند النصارى والمشركين لكن كثير من الناس يكذب بهذا وكثير منهم إذا صدق به يظن أنه من الآيات الإلهية وأن الذي رأى ذلك رآه لصلاحه ودينه . ولم يعلم أنه من الشيطان وأنه بحسب قلة علم الرجل يضله الشيطان . ومن كان أقل علما قال له ما يعلم أنه مخالف للشريعة خلافا ظاهرا . ومن عنده علم منها لا يقول له ما يعلم أنه مخالف للشريعة ولا مفيدا فائدة في دينه ؛ بل يضله عن بعض ما كان يعرفه فإن هذا فعل(35/56)
الشياطين وهو وإن ظن أنه قد استفاد شيئا فالذي خسره من دينه أكثر . ولهذا لم يقل قط أحد من الصحابة : إن الخضر أتاه ولا موسى ولا عيسى ولا أنه سمع رد النبي صلى الله عليه وسلم عليه . وابن عمر كان يسلم إذا قدم من سفر ولم يقل قط إنه يسمع الرد . وكذلك التابعون وتابعوهم . وإنما حدث هذا من بعض المتأخرين . وكذلك لم يكن أحد من الصحابة - رضوان الله عليهم - يأتيه فيسأله عند القبر عن بعض ما تنازعوا فيه وأشكل عليهم من العلم لا خلفاؤه الأربعة ولا غيرهم . مع أنهم أخص الناس به صلى الله عليه وسلم حتى ابنته فاطمة - رضي الله عنها - لم يطمع الشيطان أن يقول لها : اذهبي إلى قبره فسليه هل يورث أم لا يورث . كما أنهم أيضا لم يطمع الشيطان فيهم فيقول لهم : اطلبوا منه أن يدعو لكم بالمطر لما أجدبوا . ولا قال : اطلبوا منه أن يستنصر لكم . ولا أن يستغفر كما كانوا في حياته يطلبون منه أن يستسقي لهم وأن يستنصر لهم فلم يطمع الشيطان فيهم بعد موته صلى الله عليه وسلم أن يطلبوا منه ذلك . ولا طمع بذلك في القرون الثلاثة . وإنما ظهرت هذه الضلالات ممن قل علمه بالتوحيد والسنة فأضله الشيطان كما أضل النصارى في أمور لقلة علمهم بما جاء به المسيح ومن قبله من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم . وكذلك لم يطمع الشيطان أن يطير بأحدهم في الهواء ولا أن يقطع به الأرض البعيدة في مدة قريبة . كما يقع مثل هذا لكثير من المتأخرين ؛ لأن الأسفار التي كانوا يسافرونها كانت طاعات كسفر الحج والعمرة والجهاد وهذه يثابون على كل خطوة يخطونها فيه وكلما بعدت المسافة كان الأجر أعظم : كالذي يخرج من بيته إلى المسجد فخطواته إحداها ترفع درجة والأخرى تحط خطيئة . فلم يمكن الشيطان أن يفوتهم ذلك الأجر بأن يحملهم في الهواء أو يؤزهم في الأرض أزا حتى يقطعوا المسافة البعيدة بسرعة . وقد علموا أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أسرى به الله عز وجل من المسجد الحرام إلى(35/57)
المسجد الأقصى ليريه من آياته الكبرى . وكان هذا من خصائصه . فليس لمن بعده مثل هذا المعراج ولكن الشيطان يخيل إليه معاريج شيطانية كما خيلها لجماعة من المتأخرين . وأما قطع النهر الكبير بالسير على الماء فهذا قد يحتاج إليه المؤمنون أحيانا مثل أن لا يمكنهم العبور إلى العدو وتكميل الجهاد إلا بذلك . فلهذا كان الله يكرم من احتاج إلى ذلك من الصحابة والتابعين بمثل ذلك كما أكرم به العلاء بن الحضرمي وأصحابه وأبا مسلم الخولاني وأصحابه وبسط هذا له موضع آخر غير هذا الكتاب . لكن المقصود أن يعرف أن الصحابة خير القرون وأفضل الخلق بعد الأنبياء . فما ظهر فيمن بعدهم مما يظن أنها فضيلة للمتأخرين ولم تكن فيهم فإنها من الشيطان وهي نقيصة لا فضيلة سواء كانت من جنس العلوم أو من جنس العبادات أو من جنس الخوارق والآيات أو من جنس السياسة والملك . بل خير الناس بعدهم أتبعهم لهم . قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه من كان منكم مستنا فليستن بمن قد مات فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة أولئك أصحاب محمد أبر هذه الأمة قلوبا وأعمقها علما وأقلها تكلفا . قوم اختارهم الله لصحبة نبيه وإقامة دينه فاعرفوا لهم حقهم وتمسكوا بهديهم فإنهم كانوا على الهدي المستقيم . وبسط هذا له موضع آخر . والمقصود هنا : أن الصحابة رضوان الله عليهم تركوا البدع المتعلقة بالقبور كقبره المكرم وقبر غيره لنهيه صلى الله عليه وسلم لهم عن ذلك ولئلا يتشبهوا بأهل الكتاب الذين اتخذوا قبور الأنبياء أوثانا . وإن كان بعضهم يأتي من خارج فيسلم عليه إذا قدم من سفر كما كان ابن عمر يفعل . بل كانوا في حياته يسلمون عليه ثم يخرجون من المسجد لا يأتون إليه عند كل صلاة . وإذا جاء أحدهم يسلم عليه رد عليه النبي صلى الله عليه وسلم السلام . وكذلك من يسلم عليه عند قبره رد عليه السلام وكانوا يدخلون على عائشة فكانوا يسلمون عليه كما كانوا يسلمون عليه في حياته ويقول أحدهم :(35/58)
السلام على النبي ورحمة الله وبركاته . وقد جاء هذا عاما في جميع قبور المؤمنين فما من رجل يمر بقبر الرجل كان يعرفه في الدنيا فيسلم عليه إلا رد الله روحه عليه حتى يرد عليه السلام . فإذا كان رد السلام موجودا في عموم المؤمنين فهو في أفضل الخلق أولى . وإذا سلم المسلم عليه في صلاته فإنه وإن لم يرد عليه لكن الله يسلم عليه عشرا كما جاء في الحديث { من سلم علي مرة سلم الله عليه عشرا } . فالله يجزيه على هذا السلام أفضل مما يحصل بالرد كما أنه من صلى عليه مرة صلى الله عليه بها عشرا . وكان ابن عمر يسلم عليه ثم ينصرف . لا يقف لا لدعاء له ولا لنفسه . ولهذا كره مالك ما زاد على فعل ابن عمر من وقوف له أو لنفسه لأن ذلك لم ينقل عن أحد من الصحابة فكان بدعة محضة . قال مالك : لن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها . مع أن فعل ابن عمر إذا لم يفعل مثله سائر الصحابة إنما يصلح للتسويغ كأمثال ذلك فيما فعله بعض الصحابة رضوان الله عليهم . وأما القول بأن هذا الفعل مستحب أو منهي عنه أو مباح فلا يثبت إلا بدليل شرعي فالوجوب والندب والإباحة والاستحباب والكراهة والتحريم لا يثبت شيء منها إلا بالأدلة الشرعية والأدلة الشرعية مرجعها كلها إليه صلوات الله وسلامه عليه . فالقرآن هو الذي بلغه . والسنة هو الذي علمها . والإجماع بقوله عرف أنه معصوم . والقياس إنما يكون حجة إذا علمنا أن الفرع مثل الأصل وأن علة الأصل في الفرع . وقد علمنا أنه صلى الله عليه وسلم لا يتناقض فلا يحكم في المتماثلين بحكمين متناقضين ولا يحكم بالحكم لعلة تارة ويمنعه أخرى مع وجود العلة إلا لاختصاص إحدى الصورتين بما يوجب التخصيص . فشرعه هو ما شرعه هو صلى الله عليه وسلم وسنته ما سنها هو لا يضاف إليه قول غيره وفعله - وإن كان من أفضل الناس - إذا وردت سنته . بل ولا يضاف إليه إلا بدليل يدل على الإضافة . ولهذا كان الصحابة كأبي بكر وعمر وابن مسعود يقولون(35/59)
باجتهادهم ويكونون مصيبين موافقين لسنته لكن يقول أحدهم : أقول في هذا برأيي فإن يكن صوابا فمن الله وإن كان خطأ فمني ومن الشيطان والله ورسوله بريئان منه . فإن كل ما خالف سنته فهو شرع منسوخ أو مبدل لكن المجتهدون وإن قالوا بآرائهم وأخطئوا فلهم أجر وخطؤهم مغفور لهم . وكان الصحابة إذا أراد أحدهم أن يدعو لنفسه استقبل القبلة ودعا في مسجده كما كانوا يفعلون في حياته . لا يقصدون الدعاء عند الحجرة ولا يدخل أحدهم إلى القبر . والسلام عليه قد شرع للمسلمين في كل صلاة وشرع للمسلمين إذا دخل أحدهم المسجد أي مسجد كان . فالنوع الأول كل صلاة يقول المصلي : السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته ثم يقول : السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين . قال النبي صلى الله عليه وسلم { فإذا قلتم ذلك أصابت كل عبد صالح لله في السماء والأرض } . وقد شرع للمسلمين في كل صلاة أن يسلموا على النبي صلى الله عليه وسلم خصوصا وعلى عباد الله الصالحين من الملائكة والإنس والجن عموما . وفي الصحيحين { عن ابن مسعود أنه قال : كنا نقول خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلاة : السلام على فلان وفلان . فقال النبي صلى الله عليه وسلم إن الله هو السلام فإذا قعد أحدكم في الصلاة فليقل : التحيات لله والصلوات والطيبات السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله } وقد روي عنه التشهد بألفاظ أخر كما رواه مسلم من حديث ابن عباس وكما كان ابن عمر يعلم الناس التشهد . ورواه مسلم من حديث أبي موسى لكن هو تشهد ابن مسعود . ولكن لم يخرج البخاري إلا تشهد ابن مسعود وكل ذلك جائز فإن القرآن أنزل على سبعة أحرف فالتشهد أولى . والمقصود أنه صلى الله عليه وسلم ذكر أن المصلي إذا قال : السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين أصابت كل عبد صالح لله في السماء والأرض . وهذا(35/60)
يتناول الملائكة وصالحي الإنس والجن كما قال تعالى عنهم : { وأنا منا الصالحون ومنا دون ذلك كنا طرائق قددا } . والنوع الثاني : السلام عليه عند دخول المسجد كما في المسند والسنن عن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم و رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { إذا دخل أحدكم المسجد فليقل : بسم الله والسلام على رسول الله . اللهم اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب رحمتك . وإذا خرج قال : بسم الله والسلام على رسول الله . اللهم اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب فضلك } . وقد روى مسلم في صحيحه الدعاء عند دخول المسجد بأن يفتح له أبواب رحمته وعند خروجه يسأل الله من فضله . وهذا الدعاء مؤكد في دخول مسجد النبي صلى الله عليه وسلم ولهذا ذكره العلماء فيما صنفوه من المناسك لمن أتى إلى مسجده صلى الله عليه وسلم أن يقول ذلك . فكان السلام عليه مشروعا عند دخول المسجد والخروج منه وفي نفس كل صلاة . وهذا أفضل وأنفع من السلام عليه عند قبره وأدوم . وهذا مصلحة محضة لا مفسدة فيها تخشى فبها يرضى الله ويوصل نفع ذلك إلى رسوله وإلى المؤمنين . وهذا مشروع في كل صلاة وعند دخول المسجد والخروج منه ؛ بخلاف السلام عند القبر . مع أن قبره من حين دفن لم يمكن أحد من الدخول إليه لا لزيارة ولا لصلاة ولا لدعاء ولا غير ذلك . ولكن كانت عائشة فيه لأنه بيتها . وكانت ناحية عن القبور ؛ لأن القبور في مقدم الحجرة وكانت هي في مؤخر الحجرة . ولم يكن الصحابة يدخلون إلى هناك . وكانت الحجرة على عهد الصحابة خارجة عن المسجد متصلة به وإنما أدخلت فيه في خلافة الوليد بن عبد الملك بن مروان بعد موت العبادلة : ابن عمر وابن عباس وابن الزبير وابن عمرو بل بعد موت جميع الصحابة الذين كانوا بالمدينة فإن آخر من مات بها جابر بن عبد الله في بضع وسبعين سنة . ووسع المسجد في بضع وثمانين سنة . ولم يكن الصحابة يدخلون إلى عند القبر ولا يقفون عنده خارجا مع أنهم(35/61)
يدخلون إلى مسجده ليلا ونهارا . وقد قال صلى الله عليه وسلم { صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام } . وقال صلى الله عليه وسلم { لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد : المسجد الحرام ومسجدي هذا والمسجد الأقصى } وكانوا يقدمون من الأسفار للاجتماع بالخلفاء الراشدين وغير ذلك فيصلون في مسجده ويسلمون عليه في الصلاة وعند دخول المسجد والخروج منه . ولا يأتون القبر إذ كان هذا عندهم مما لم يأمرهم به ولم يسنه لهم . وإنما أمرهم وسن لهم الصلاة والسلام عليه في الصلاة وعند دخولهم المساجد وغير ذلك . ولكن ابن عمر كان يأتيه فيسلم عليه وعلى صاحبيه عند قدومه من السفر . وقد يكون فعله غير ابن عمر أيضا . فلهذا رأى من رأى من العلماء هذا جائزا اقتداء بالصحابة رضوان الله عليهم . وابن عمر كان يسلم ثم ينصرف ولا يقف يقول : السلام عليك يا رسول الله السلام عليك يا أبا بكر السلام عليك يا أبت ثم ينصرف . ولم يكن جمهور الصحابة يفعلون كما فعل ابن عمر بل كان الخلفاء وغيرهم يسافرون للحج وغيره ويرجعون ولا يفعلون ذلك إذ لم يكن هذا عندهم سنة سنها لهم . وكذلك أزواجه كن على عهد الخلفاء وبعدهم يسافرون إلى الحج ثم ترجع كل واحدة إلى بيتها كما وصاهن بذلك . وكانت أمداد اليمن الذين قال الله تعالى فيهم : { فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه } على عهد أبي بكر الصديق وعمر يأتون أفواجا من اليمن للجهاد في سبيل الله ويصلون خلف أبي بكر وعمر في مسجده ولا يدخل أحد منهم إلى داخل الحجرة ولا يقف في المسجد خارجا لا لدعاء ولا لصلاة ولا سلام ولا غير ذلك . وكانوا عالمين بسنته كما علمتهم الصحابة والتابعون وأن حقوقه لازمة لحقوق الله عز وجل وأن جميع ما أمر الله به وأحبه من حقوقه وحقوق رسوله فإن صاحبها يؤمر بها في جميع المواضع والبقاع . فليست الصلاة والسلام عند قبره المكرم بأوكد من ذلك في غير ذلك المكان . بل(35/62)
صاحبها مأمور بها حيث كان : إما مطلقا وإما عند الأسباب المؤكدة لها كالصلاة والدعاء والأذان . ولم يكن شيء من حقوقه ولا شيء من العبادات هو عند قبره أفضل منه في غير تلك البقعة . بل نفس مسجده له فضيلة لكونه مسجده . ومن اعتقد أنه قبل القبر لم تكن له فضيلة إذ كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي فيه والمهاجرون والأنصار وإنما حدثت له الفضيلة في خلافة الوليد بن عبد الملك لما أدخل الحجرة في مسجده فهذا لا يقوله إلا جاهل مفرط في الجهل أو كافر فهو مكذب لما جاء به مستحق للقتل . وكان الصحابة يدعون في مسجده كما كانوا يدعون في حياته . لم تحدث لهم شريعة غير الشريعة التي علمهم إياها في حياته . وهو لم يأمرهم إذا كان لأحدهم حاجة أن يذهب إلى قبر نبي أو صالح فيصلي عنده ويدعوه أو يدعو بلا صلاة أو يسأل حوائجه أو يسأله أن يسأل ربه . فقد علم الصحابة - رضوان الله عليهم - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يأمرهم بشيء من ذلك ولا أمرهم أن يخصوا قبره أو حجرته لا بصلاة ولا دعاء لا له ولا لأنفسهم . بل قد نهاهم أن يتخذوا بيته عيدا . فلم يقل لهم كما يقول بعض الشيوخ الجهال لأصحابه : إذا كان لكم حاجة فتعالوا إلى قبري بل نهاهم عما هو أبلغ من ذلك أن يتخذوا قبره أو قبر غيره مسجدا يصلون فيه لله عز وجل ليسد ذريعة الشرك . فصلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليما وجزاه أفضل ما جزى نبيا عن أمته قد بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة وجاهد في الله حق جهاده وعبد الله حتى أتاه اليقين من ربه . وكان إنعام الله به أفضل نعمة أنعم بها على العباد .(35/63)
وقد دلهم صلى الله عليه وسلم على أفضل العبادات وأفضل البقاع كما في الصحيحين عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال : { قلت يا رسول الله أي العمل أفضل ؟ قال : الصلاة على مواقيتها . قلت : ثم أي ؟ قال بر الوالدين . قلت : ثم أي ؟ قال : الجهاد في سبيل الله . قاله سألته عنهن ولو استزدته لزادني } . وفي المسند وسنن ابن ماجه عن ثوبان عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { استقيموا ولن تحصوا واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن } . والصلاة قد شرع للأمة أن تتخذ لها مساجد وهي أحب البقاع إلى الله كما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم وغيره أنه قال : { أحب البقاع إلى الله المساجد وأبغض البقاع إلى الله الأسواق } . ومع هذا فقد لعن من يتخذ قبور الأنبياء والصالحين مساجد وهو في مرض موته نصيحة للأمة وحرصا منه على هداها . كما نعته الله بقوله : { لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم } ففي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : { قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي لم يقم منه : لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد . قالت عائشة : ولولا ذلك لأبرز قبره ولكن كره أن يتخذ مسجدا } وفي رواية : { ولكن خشي أن يتخذ مسجدا } . وفي رواية للبخاري { غير أني أخشى أن يتخذ مسجدا } . وعن عائشة وابن عباس قالا : { لما نزل برسول الله صلى الله عليه وسلم طفق يطرح خميصة له على وجهه فإذا اغتم كشفها عن وجهه فقال وهو كذلك : لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد } يحذر ما صنعوا . ومن حكمة الله أن عائشة أم المؤمنين صاحبة الحجرة التي دفن فيها صلى الله عليه وسلم تروي هذه الأحاديث وقد سمعتها منه وإن كان غيرها من الصحابة أيضا يرويها : كابن عباس وأبي هريرة وجندب بن عبد الله وابن مسعود - رضي الله تعالى عنهم . وفي الصحيحين(35/64)
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { قاتل الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد } . وفي الصحيحين عن عائشة { أن أم حبيبة وأم سلمة ذكرتا كنيسة رأينها بالحبشة فيها تصاوير لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجدا وصوروا فيه تلك الصور أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة } . وفي صحيح مسلم عن { جندب بن عبد الله رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمس وهو يقول : إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل فإن الله قد اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا ولو كنت متخذا من أمتي خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا . ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك } . وفي صحيح مسلم عن أبي مرثد الغنوي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها } . وفي المسند وصحيح أبي حاتم أنه صلى الله عليه وسلم قال : { إن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء والذين يتخذون القبور مساجد } . وقد تقدم نهيه أن يتخذوا قبره عيدا . فلما علم الصحابة أنه قد نهاهم عن أن يتخذوه مصلى للفرائض التي يتقرب بها إلى الله عز وجل لئلا يتشبهوا بالمشركين الذين يدعونها ويصلون لها وينذرون لها : كان نهيهم عن دعائها أعظم وأعظم . كما أنه لما نهاهم عن الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها لئلا يتشبهوا بمن يسجد للشمس : كان نهيهم عن السجود للشمس أولى وأحرى . فكان الصحابة رضوان الله عليهم يقصدون الصلاة والدعاء والذكر في المساجد التي بنيت لله دون قبور الأنبياء والصالحين التي نهوا أن يتخذوها مساجد وإنما هي بيوت المخلوقين . وكانوا يفعلون بعد موته ما كانوا يفعلون في حياته صلى الله عليه وآله وسلم تسليما . ومما يدل على ما ذكره مالك(35/65)
وغيره من علماء المسلمين من الكراهة لأهل المدينة قصدهم القبر إذا دخلوا أو خرجوا منه ونحو ذلك وإن كان قصدهم مجرد السلام عليه والصلاة : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأتي قباء راكبا وماشيا كل سبت كما ثبت ذلك في الصحيحين من حديث ابن عمر قال : { كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتي قباء كل سبت راكبا وماشيا } وكان ابن عمر يفعله . زاد نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم { فيصلي فيه ركعتين } . وهذا الحديث الصحيح يدل على أنه كان يصلي في مسجده يوم الجمعة ويذهب إلى مسجد قباء فيصلي فيه يوم السبت وكلاهما أسس على التقوى وقد قال تعالى : { لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين } وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير وجه أنه سأل أهل قباء عن هذا الطهور الذي أثنى الله عليهم فذكروا أنهم يستنجون بالماء . وفي سنن أبي داود وغيره قال { نزلت هذه الآية في مسجد أهل قباء { فيه رجال يحبون أن يتطهروا } قال : كانوا يستنجون بالماء . فنزلت فيهم هذه الآية } . وقد ثبت في الصحيح عن { سعد أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن المسجد الذي أسس على التقوى وهو في بيت بعض نسائه فأخذ كفا من حصى فضرب به الأرض ثم قال : هو مسجدكم هذا لمسجد المدينة } . فتبين أن كلا المسجدين أسس على التقوى لكن مسجد المدينة أكمل في هذا النعت فهو أحق بهذا الاسم . ومسجد قباء كان سبب نزول الآية لأنه مجاور لمسجد الضرار الذي نهي عن القيام فيه . والمقصود أن إتيان قباء كل أسبوع للصلاة فيه كان ابن عمر يفعله اتباعا للنبي صلى الله عليه وسلم ولم يكن ابن عمر ولا غيره إذا كانوا مقيمين بالمدينة يأتون قبر النبي صلى الله عليه وسلم لا في الأسبوع ولا في غير الأسبوع . وإنما كان ابن عمر يأتي القبر إذا قدم من سفر . وكثير من الصحابة أو أكثرهم كانوا يقدمون من الأسفار ولا يأتون القبر لا لسلام(35/66)
ولا لدعاء ولا غير ذلك . فلم يكونوا يقفون عنده خارج الحجرة في المسجد كما كان ابن عمر يفعل . ولم يكن أحد منهم يدخل الحجرة لذلك ؛ بل ولا يدخلونها إلا لأجل عائشة رضي الله عنها لما كانت مقيمة فيها . وحينئذ فكان من يدخل إليها يسلم على النبي صلى الله عليه وسلم كما كانوا يسلمون عليه إذا حضروا عنده . وأما السلام الذي لا يسمعه فذلك سلام الله عليهم به عشرا كالسلام عليه في الصلاة وعند دخول المسجد والخروج منه . وهذا السلام مأمور به في كل مكان وزمان . وهو أفضل من السلام المختص بقبره . فإن هذا المختص بقبره من جنس تحية سائر المؤمنين أحياء وأمواتا .
وأما السلام المطلق العام فالأمر به من خصائصه كما أن الأمر بالصلاة من خصائصه . وإن كان في الصلاة والسلام على غيره عموما وفي الصلاة على غيره خصوصا نزاع . وقد عدى بعضهم ذلك إلى السلام فجعله مختصا به كما اختص بالصلاة . وحكي هذا عن أبي محمد الجويني ؛ لكن جمهور العلماء على أن السلام لا يختص به . وأما الصلاة ففيها نزاع مشهور . وذلك أن الله تعالى أمر في كتابه بالصلاة والسلام عليه مخصوصا بذلك فقال تعالى : { إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما } فهنا أخبر وأمر . وأما في حق عموم المؤمنين فأخبر ولم يأمر فقال تعالى : { هو الذي يصلي عليكم وملائكته } . ولهذا إذا ذكر الخطباء ذلك قالوا : إن الله أمركم بأمر بدأ فيه بنفسه وثنى بملائكته وأيه بالمؤمنين من بريته أي قال { يا أيها الذين آمنوا } . فإن صلاته تعالى على المؤمنين بدأ فيها بنفسه وثنى بملائكته لكن لم يؤيه فيها بالمؤمنين من بريته . وقد جاء في الحديث : { إن الله وملائكته يصلون على معلم الناس الخير } .(35/67)
وقد اتفق المسلمون على أنه تشرع الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم في الصلاة قبل الدعاء وفي غير الصلاة . وإنما تنازعوا في وجوب الصلاة عليه في الصلاة المكتوبة . وفي الخطب فأوجب ذلك الشافعي ولم يوجبه أبو حنيفة ومالك . وعن الإمام أحمد روايتان . وإذا قيل بوجوبها فهل هي ركن أو تسقط بالسهو ؟ على روايتين . وأظهر الأقوال أن الصلاة واجبة مع الدعاء فلا ندعو حتى نبدأ به صلى الله عليه وسلم والسلام عليه مأمور به في الصلاة وهو في التشهد الذي هو ركن في الصلاة عند الشافعي وأحمد في المشهور عنه فتبطل الصلاة بتركه عمدا أو سهوا . والتشهد الأخير عند مالك وأبي حنيفة وعند مالك وأحمد في المشهور عنه : إذا ترك التشهد الأول عمدا بطلت صلاته وإن تركه سهوا فعليه سجود السهو . وهذا يسميه الإمام أحمد واجبا ويسميه أصحاب مالك سنة واجبة . ويقولون : سنة واجبة . وليس في ذلك نزاع معنوي مع القول بأن من تعمد تركه يعيد ومن تركه سهوا فعليه سجود السهو . ومالك وأحمد عندهما الأفعال في الصلاة أنواع كأفعال الحج . وأبو حنيفة يجعلها ثلاثة أنواع ؛ لكن عنده أن النوع الواجب يكون مسيئا بتركه ولا إعادة عليه سواء تركه عمدا أو سهوا . وأما الشافعي فعنده الواجب فيها هو الركن بخلاف الحج فإنه باتفاقهم فيه واجب يجبر بالدم غير الركن وغير المستحب .
ولا نزاع أنه هو صلى الله عليه وسلم يصلي على غيره كما قال تعالى . { وصل عليهم } وكما ثبت في الصحيح أنه قال : { اللهم صل على آل أبي أوفى } . وكما روي أنه { قال لامرأة : صلى الله عليك وعلى زوجك } وكانت قد طلبت منه أن يصلي عليها وعلى زوجها . وأيضا لا نزاع أنه يصلى على آله تبعا كما علم أمته أن يقولوا : { اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم إنك حميد مجيد وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد } .(35/68)
وأما صلاة غيره على غيره منفردا مثل أن يقال : صلى الله على أبي بكر أو عمر أو عثمان أو علي . ففيها قولان . أحدهما : أن ذلك جائز وهو منصوص أحمد في غير موضع واستدل على ذلك بأن عليا قال لعمر : صلى الله عليك . وعليه جمهور أصحابه كالقاضي أبي يعلى وابن عقيل والشيخ عبد القادر ولم يذكروا في ذلك نزاعا . والثاني : المنع من ذلك كما ذكر ذلك طائفة من أصحاب مالك والشافعي ونقل ذلك عنهما وهو الذي ذكره جدنا أبو البركات في كتابه الكبير لم يذكر غيره واحتج بما رواه جماعة عن ابن عباس قال : لا أعلم الصلاة تنبغي من أحد على أحد إلا على رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقال من منع : أما صلاته على غيره فإن الصلاة له فله أن يعطيها لغيره وأما الصلاة على غيره تبعا فقد يجوز تبعا ما لا يجوز قصدا . ومن جوز ذلك يحتج بالخليفتين الراشدين عمر وعلي وبأنه ليس في الكتاب والسنة نهي عن ذلك ؛ لكن لا يجب ذلك في حق أحد كما يجب في حق النبي صلى الله عليه وسلم . فتخصيصه كان بالأمر والإيجاب لا بالجواز والاستحباب . قالوا : وقد ثبت أن الملائكة تصلي على المؤمنين كما في الصحيح : { إن الملائكة تصلي على أحدكم ما دام في مصلاه } . فإذا كان الله وملائكته يصلون على المؤمن فلماذا لا يجوز أن يصلي عليه المؤمنون ؟ . وأما قول ابن عباس فهذا ذكره لما صار أهل البدع يخصون بالصلاة عليا أو غيره ولا يصلون على غيرهم . فهذا بدعة بالاتفاق . وهم لا يصلون على كل أحد من بني هاشم من العباسيين ولا على كل أحد من ولد الحسن والحسين ولا على أزواجه مع أنه قد ثبت في الصحيح { اللهم صل على محمد وعلى أزواجه وذريته } . فحينئذ لا حجة لمن خص بالصلاة [ بعض ] أهل البيت دون سائر أهل البيت ودون سائر المؤمنين . ولما كان الله تعالى أمر بالصلاة والسلام عليه ثم قال من قال إن الصلاة على غيره ممنوع منها طرد ذلك طائفة منهم أبو محمد الجويني فقالوا : لا يسلم على غيره . وهذا لم(35/69)
يعرف عن أحد من المتقدمين وأكثر المتأخرين أنكروه . فإن السلام على الغير مشروع سلام التحية يسلم عليه إذا لقيه وهو إما واجب أو مستحب مؤكد فإن في ذلك قولين للعلماء وهما قولان في مذهب أحمد والرد واجب بالإجماع إما على الأعيان وإما على الكفاية . والمصلي إذا خرج من الصلاة يقول : السلام عليكم السلام عليكم . وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم أصحابه إذا زاروا القبور أن يسلموا عليهم فيقولوا : { السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين } . فالذين جعلوا السلام من خصائصه لا يمنعون من السلام على الحاضر لكن يقولون : لا يسلم على الغائب . فجعلوا السلام عليه مع الغيبة من خصائصه . وهذا حق . لكن الأمر بذلك وإيجابه هو من خصائصه كما في التشهد . فليس فيه سلام على معين إلا عليه . وكذلك عند دخول المسجد والخروج منه وهذا يؤيد أن السلام كالصلاة كلاهما واجب له في الصلاة وغيرها . وغيره فليس واجبا إلا سلام التحية عند اللقاء فإنه مؤكد بالاتفاق . وهل يجب أو يستحب ؟ على قولين معروفين في مذهب أحمد وغيره . والذي تدل عليه النصوص أنه واجب . وقد روى مسلم في صحيحه عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : { خمس تجب للمسلم على المسلم : يسلم عليه إذا لقيه ويعوده إذا مرض ويشيعه إذا مات ويجيبه إذا دعاه وروي ويشمته إذا عطس } . وقد أوجب أكثر الفقهاء إجابة الدعوة . والصلاة على الميت فرض على الكفاية بإجماعهم والسلام عند اللقاء أوكد من إجابة الدعوة . وكذلك عيادة المريض والشر الذي يحصل إذا لم يسلم عليه عند اللقاء ولم يعده إذا مرض أعظم مما يحصل إذا لم يجب دعوته . والسلام أسهل من إجابة الدعوة ومن العيادة . وهذه المسائل لبسطها مواضع أخر . والمقصود هنا : أن سلام التحية عند اللقاء في المحيا وفي الممات إذا زار قبر المسلم مشروع في حق كل مسلم لكل من لقيه حيا أو زار قبره أن يسلم عليه . فالصحابة رضوان الله عليهم كانوا يعرفون أن هذا(35/70)
السلام عليه عند قبره الذي قال فيه : { ما من أحد يسلم علي إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام } ليس من خصائصه ولا فيه فضيلة له على غيره . بل هو مشروع في حق كل مسلم " حي وميت . وكل مؤمن يرد السلام على من سلم عليه . وهذا ليس مقصودا بنفسه بل إذا لقيه سلم عليه . وهكذا إذا زار القبر يسلم على الميت . لا أنه يتكلف قطع المسافة واللقاء لمجرد ذلك . والسلام عليه في الصلاة وعند دخول المسجد والخروج منه فهو من خصائصه هو من السلام الذي أمر الله به في القرآن أن يسلم عليه ومن سلم يسلم الله عليه عشرا كما يصلي عليه إذا صلى عليه عشرا . فهو المشروع المأمور به الأفضل الأنفع الأكمل الذي لا مفسدة فيه . وذاك جهد لا يختص به ولا يؤمر بقطع المسافة لمجرده ؛ بل قصد نية الصلاة والسلام والدعاء هو اتخاذ له عيدا وقد قال صلى الله عليه وسلم { لا تتخذوا بيتي عيدا } . فلهذا كان العمل الشائع في الصحابة - الخلفاء الراشدين والسابقين الأولين من المهاجرين والأنصار - أنهم يدخلون مسجده ويصلون عليه في الصلاة ويسلمون عليه كما أمرهم الله ورسوله ويدعون لأنفسهم في الصلاة مما اختاروا من الدعاء المشروع كما في الصحيح من حديث ابن مسعود لما علمه التشهد قال : { ثم ليتخير بعد ذلك من الدعاء أعجبه إليه } . ولم يكونوا يذهبون إلى القبر لا من داخل الحجرة ولا من خارجها ؛ لا لدعاء ولا صلاة ولا سلام ولا غير ذلك من حقوقه المأمور بها في كل مكان فضلا عن أن يقصدوها لحوائجهم كما يفعله أهل الشرك والبدع فإن هذا لم يكن يعرف في القرون الثلاثة لا عند قبره ولا قبر غيره لا في زمن الصحابة ولا التابعين ولا تابعيهم . فهذه الأمور إذا تصورها ذو الإيمان والعلم عرف دين الإسلام في هذه الأمور . وفرق بين من يعرف التوحيد والسنة والإيمان ومن يجهل ذلك وقد تبين أن الخلفاء الراشدين وجمهور الصحابة كانوا يدخلون المسجد ويصلون فيه على النبي صلى الله عليه وسلم ولا(35/71)
يسلمون عليه عند الخروج من المدينة وعند القدوم من السفر بل يدخلون المسجد فيصلون فيه ويسلمون على النبي صلى الله عليه وسلم ولا يأتون القبر ومقصود بعضهم التحية .
وأيضا فقد استحب لكل من دخل المسجد أن يسلم على النبي صلى الله عليه وسلم فيقول : بسم الله والسلام على رسول الله . اللهم اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب رحمتك . وكذلك إذا خرج يقول : بسم الله والسلام على رسول الله اللهم اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب فضلك . فهذا السلام عند دخول المسجد كلما يدخل يغني عن السلام عليه عند القبر . وهو من خصائصه ولا مفسدة فيه وهو يفعل ذلك في الصلاة فيصلون ويسلمون عليه في الصلاة ويصلون عليه إذا سمعوا الأذان ويطلبون له الوسيلة لما رواه مسلم في صحيحه عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول ثم صلوا علي فإنه من صلى علي مرة صلى الله عليه عشرا ثم سلوا الله لي الوسيلة ؛ فإنها درجة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله وأرجو أن أكون أنا هو فمن سأل لي الوسيلة حلت عليه شفاعتي يوم القيامة . } وقد علموا أن الذي يستحب عند قبره المكرم من السلام عليه هو سلام التحية عند اللقاء كما يستحب ذلك عند قبر كل مسلم وعند لقائه فيشاركه فيه غيره كما قال : { ما من رجل يسلم علي إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام } وقال : { ما من رجل يمر بقبر أخيه المؤمن كان يعرفه فيسلم عليه إلا عرفه ورد عليه السلام } . وكان إذا أتى المقابر قال : { السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون . أنتم لنا فرط ونحن لكم تبع . أسأل الله العافية لنا ولكم } وكان يعلم أصحابه إذا زاروا القبور أن يقولوا { السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين } . والسلام عليه في الصلاة أفضل من السلام عليه عند القبر وهو من خصائصه وهو مأمور به . والله يسلم على صاحبه(35/72)
كما يصلي على من صلى عليه فإنه من صلى عليه واحدة صلى الله عليه بها عشرا ومن سلم عليه واحدة سلم الله عليه عشرا . وقد حصل مقصودهم ومقصوده من السلام عليه والصلاة عليه في مسجده وغير مسجده فلم يبق في إتيان القبر فائدة لهم ولا له بخلاف إتيان مسجد قباء فإنهم كانوا يأتونه كل سبت فيصلون فيه اتباعا له صلى الله عليه وسلم . فإن الصلاة فيه كعمرة . ويجمعون بين هذا وبين الصلاة في مسجده يوم الجمعة إذ كان أحد هذين لا يغني عن الآخر بل يحصل بهذا أجر زائد . وكذلك إذا خرج الرجل إلى البقيع وأهل أحد كما كان يخرج إليهم النبي صلى الله عليه وسلم يدعو لهم كان حسنا لأن هذا مصلحة لا مفسدة فيها وهم لا يدعون لهم في كل صلاة حتى يقال : هذا يغني عن هذا . ومع هذا فقد نقل عن مالك كراهة اتخاذ ذلك سنة . ولم يأخذ في هذا بفعل ابن عمر كما لم يأخذ بفعله في التمسح بمقعده على المنبر ولا باستحباب قصد الأماكن التي صلى فيها لكون الصلاة أدركته فيها فكان ابن عمر يستحب قصدها للصلاة فيها وكان جمهور الصحابة لا يستحبون ذلك ؛ بل يستحبون ما كان صلى الله عليه وسلم يستحبه وهو أن يصلي حيث أدركته الصلاة وكان أبوه عمر بن الخطاب ينهى من يقصدها للصلاة فيها ويقول : إنما هلك من كان قبلكم بهذا فإنهم اتخذوا آثار أنبيائهم مساجد من أدركته الصلاة فيه فليصل وإلا فليذهب . فأمرهم عمر بن الخطاب بما سنه لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه من الخلفاء الراشدين الذين أمرنا باتباع سنتهم وله خصوص الأمر بالاقتداء به وبأبي بكر حيث قال : { اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر } . فالأمر بالاقتداء أرفع من الأمر بالسنة كما قد بسط في مواضع . وكذلك نقل عن مالك كراهة المجيء إلى بيت المقدس خشية أن يتخذ السفر إليه سنة فإنه كره ذلك لما جعل لهذا وقت معين كوقت الحج الذي يذهب إليه جماعة فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعل هذا لا في(35/73)
قباء ولا في قبور الشهداء وأهل البقيع ولا غيرهم كما فعل مثل ذلك في الحج وفي الجمع والأعياد . فيجب الفرق بين هذا وبين هذا . مع أنه صلى التطوع في جماعة مرات في قيام الليل ووقت الضحى وغيره ولكن لم يجعل الاجتماع مثل تطوع في وقت معين سنة كالصلوات الخمس وكصلاة الكسوف والعيدين والجمعة . وأما إتيان القبر للسلام عليه فقد استغنوا عنه بالسلام عليه في الصلاة وعند دخول المسجد والخروج منه وفي إتيانه بعد الصلاة مرة بعد مرة ذريعة إلى أن يتخذ عيدا ووثنا وقد نهوا عن ذلك . وهو صلى الله عليه وسلم مدفون في حجرة عائشة وكانت حجرة عائشة وسائر حجر أزواجه من جهة شرقي المسجد وقبلته لم تكن داخلة في مسجده بل كان يخرج من الحجرة إلى المسجد ولكن في خلافة الوليد وسع المسجد وكان يحب عمارة المساجد وعمر المسجد الحرام ومسجد دمشق وغيرهما فأمر نائبه عمر بن عبد العزيز أن يشتري الحجر من أصحابها الذين ورثوا أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ويزيدها في المسجد . فمن حينئذ دخلت الحجر في المسجد وذلك بعد موت الصحابة : بعد موت ابن عمر وابن عباس وأبي سعيد الخدري وبعد موت عائشة ؛ بل بعد موت عامة الصحابة ولم يكن بقي في المدينة منهم أحد . وقد روي أن سعيد بن المسيب كره ذلك . وقد كره كثير من الصحابة والتابعين ما فعله عثمان رضي الله عنه من بناء المسجد بالحجارة والقصة والساج وهؤلاء لما فعله الوليد أكره . وأما عمر رضي الله عنه فإنه وسعه لكن بناه على ما كان من بنائه من اللبن وعمده جذوع النخل وسقفه الجريد . ولم ينقل أن أحدا كره ما فعل عمر ؛ وإنما وقع النزاع فيما فعله عثمان والوليد . وكان من أراد السلام عليه على عهد الصحابة رضوان الله عليهم يأتيه صلى الله عليه وسلم من غربي الحجرة فيسلم عليه إما مستقبل الحجرة وإما مستقبل القبلة . والآن يمكنه أن يأتي من جهة القبلة . فلهذا كان أكثر العلماء يستحبون أن يستقبل الحجرة ويسلم عليه ومنهم من يقول(35/74)
: بل يستقبل القبلة ويسلم عليه كقول أبي حنيفة . فإن الوليد بن عبد الملك تولى بعد موت أبيه عبد الملك سنة بضع وثمانين من الهجرة وكان قد مات هؤلاء الصحابة كلهم وتوفي عامة الصحابة في جميع الأمصار . ولم يكن بقي بالأمصار إلا قليل جدا : مثل أنس بن مالك بالبصرة فإنه توفي في خلافة الوليد سنة بضع وتسعين وجابر بن عبد الله مات سنة ثمان وسبعين بالمدينة وهو آخر من مات بها . والوليد أدخل الحجرة بعد ذلك بمدة طويلة نحو عشر سنين . وبناء المسجد كان بعد موت جابر فلم يكن قد بقي بالمدينة أحد . وأما عثمان بن عفان رضي الله عنه فزاد في المسجد والصحابة كثيرون ولم يدخل فيه شيئا من الحجرة بل ترك الحجرة النبوية على ما كانت عليه خارجة عن المسجد متصلة به من شرقيه كما كانت على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وكانت عائشة رضي الله عنها فيها . ولم تزل عائشة فيها إلى أواخر خلافة معاوية وتوفيت بعد موت الحسن بن علي . وكان الحسن قد استأذنها في أن يدفن في الحجرة فأذنت له لكن كره ذلك ناس آخرون ورأوا أن عثمان رضي الله عنه لما لم يدفن فيها فلا يدفن غيره . وكادت تقوم فتنة . ولما احتضرت عائشة رضي الله عنها أوصت أن تدفن مع صواحباتها بالبقيع ولا تدفن هناك . فعلت هذا تواضعا أن تزكى به صلى الله عليه وسلم . فلهذا لم يتكلم فيما فعله الوليد هل هو جائز أو مكروه إلا التابعون كسعيد بن المسيب وأمثاله . وكان سعيد إذ ذاك من أجل التابعين قيل لأحمد بن حنبل : أي التابعين أفضل ؟ قال : سعيد بن المسيب . فقيل له : فعلقمة والأسود ؟ فقال : سعيد بن المسيب . وعلقمة والأسود هذان كانا قد ماتا قبل ذلك بمدة . ومن ذلك الوقت دخلت في المسجد . وكان المسجد قبل دخول الحجر فيه فاضلا وكانت فضيلة المسجد بأن النبي صلى الله عليه وسلم بناه لنفسه وللمؤمنين يصلي فيه هو والمؤمنون إلى يوم القيامة ففضل ببنائه له . قلت قال مالك : بلغني أن جبريل هو الذي(35/75)
أقام قبلته للنبي صلى الله عليه وسلم . وبأنه كان هو الذي يقصد فيه الجمعة والجماعة إلى أن مات وما صلى جمعة بغيره قط لا في سفره ولا في مقامه . وأما الجماعة فكان يصليها حيث أدركته .
ونحن مأمورون باتباعه صلى الله عليه وسلم وذلك بأن نصدقه في كل ما أخبر به ونطيعه في كل ما أوجبه وأمر به لا يتم الإيمان به إلا بهذا وهذا . ومن ذلك أن نقتدي به في أفعاله التي يشرع لنا أن نقتدي به فما فعله على وجه الوجوب أو الاستحباب أو الإباحة نفعله على وجه الوجوب أو الاستحباب أو الإباحة وهو مذهب جماهير العلماء إلا ما ثبت اختصاصه به . فإذا قصد عبادة في مكان شرع لنا أن نقصد تلك العبادة في ذلك المكان . فلما قصد السفر إلى مكة وقصد العبادة بالمسجد الحرام والصلاة فيه والطواف به وبين الصفا والمروة والصعود على الصفا والمروة والوقوف بعرفة وبالمشعر الحرام ورمي الجمار والوقوف للدعاء عند الجمرتين الأوليين دون الثالثة التي هي جمرة العقبة كان ذلك كله مشروعا لنا إما واجبا وإما مستحبا . ولم يذهب بمكة إلى غير المسجد الحرام ولا سافر إلى الغار الذي مكث فيه لما سافر سفر الهجرة ولا صعد إلى غار حراء الذي كان يتحنث فيه قبل أن يأتيه الوحي وكان ذلك عبادة لأهل مكة قيل إنه سنها لهم عبد المطلب وصلى عقب الطواف ركعتين ولم يصل عقب الطواف بالصفا والمروة شيئا . وحين دخل المسجد الحرام طاف بالبيت وكان الطواف تحية المسجد لم يصل قبله تحية كما تصلى في سائر المساجد كما أنه افتتح برمي جمرة العقبة حين أتى منى وتلك هي العبادة وبعدها نحر هديه ثم حلق رأسه ثم طاف بالبيت . ولهذا صارت السنة أن أهل منى يرمون ثم يذبحون والرمي لهم بمنزلة صلاة العيد لغيرهم وليس بمنى صلاة عيد ولا جمعة لا بها ولا بعرفة فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل بهما صلاة عيد ولا صلى يوم عرفة جمعة ولا كان في أسفاره يصلي جمعة ولا عيدا . ولهذا كان عامة العلماء على أن الجمعة لا(35/76)
تصلى في السفر وليس في ذلك إلا نزاع شاذ . وجمهور العلماء على أن العيد أيضا لا يكون إلا حيث تكون الجمعة ؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم . لم يصل عيدا في السفر ولا كان يصلي في المدينة على عهده إلا عيدا واحدا . ولم يكن أحد يصلي العيد منفردا . وهذا قول جمهور العلماء وفيه نزاع مشهور . ولهذا صار المسلمون بمنى يرمون ثم يذبحون النسك اتباعا لسنته . صلى الله عليه وسلم فما فعله على وجه التقرب كان عبادة تفعل على وجه التقرب وما أعرض عنه ولم يفعله مع قيام السبب المقتضي لم يكن عبادة ولا مستحبا . وما فعله على وجه الإباحة من غير قصد التعبد به كان مباحا . ومن العلماء من يستحب مشابهته في هذا في الصورة كما كان ابن عمر يفعل وأكثرهم يقول : إنما تكون المتابعة إذا قصدنا ما قصد وأما المشابهة في الصورة من غير مشاركة في القصد والنية فلا تكون متابعة . فما فعله على غير العبادة فلا يستحب أن يفعل على وجه العبادة فإن ذلك ليس بمتابعة ؛ بل مخالفة . وقد ثبت في الصحيح أنه كان يصلي حيث أدركته الصلاة . وثبت في الصحيح أنه { قال لأبي ذر حين سأله : أي مسجد وضع في الأرض أول ؟ فقال : المسجد الحرام ثم المسجد الأقصى ثم حيث ما أدركتك الصلاة فصل فإنه مسجد } . وروي في الصحيح : { فإن فيه الفضل } . فمن أدركته الصلاة هو وأصحابه بمكان فتركوا الصلاة فيه وذهبوا إلى مكان آخر لكونه فيه أثر لبعض الأنبياء فقد خالفوا السنة . وقد رأى عمر بن الخطاب رضي الله عنه قوما ينتابون مكانا صلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ما هذا ؟ قالوا : هذا مكان صلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم . فقال : ومكان صلى فيه رسول الله أتريدون أن تتخذوا آثار أنبيائكم مساجد ؟ إنما هلك بنو إسرائيل بمثل هذا فمن أدركته الصلاة فيه فليصل فيه وإلا فليذهب . فمسجده المفضل لما كان يفضل الصلاة فيه كان مستحبا فكيف وقد قال : { صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما(35/77)
سواه إلا المسجد الحرام } وقال : { لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد : المسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجدي هذا } وهذه الفضيلة ثابتة له قبل أن تدخل فيه الحجرة : بل كان حينئذ الذين يصلون فيه أفضل ممن صلى فيه إلى يوم القيامة . ولا يجوز أن يظن أنه بعد دخول الحجرة فيه صار أفضل مما كان في حياته وحياة خلفائه الراشدين . بل الفضيلة إن اختلفت الأزمنة والرجال فزمنه وزمن الخلفاء الراشدين أفضل ورجاله أفضل . فالمسجد حينئذ قبل دخول الحجرة فيه كان أفضل إن اختلفت الأمور وإن لم تختلف فلا فرق . وبكل حال فلا يجوز أن يظن أنه صار بدخول الحجرة فيه أفضل مما كان . وهم لم يقصدوا دخول الحجرة فيه وإنما قصدوا توسيعه بإدخال حجر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فدخلت فيه الحجرة ضرورة مع كراهة من كره ذلك من السلف . والمقصود أن ما بني لله من المساجد فضيلتها بعبادة الله فيها وحده لا شريك له وبمن عبد الله فيها من الأنبياء والصالحين وببنائها لذلك . كما قال تعالى : { لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين } { أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير أم من أسس بنيانه على شفا جرف هار فانهار به في نار جهنم والله لا يهدي القوم الظالمين } . والأعمال تفضل بنيات أصحابها وطاعتهم لله تعالى وما في قلوبهم من الإيمان بطاعتهم لله كما ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم وإنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم } . وبذلك يثابون وعلى ترك ما فرضه الله يعاقبون وبذلك يندفع عنهم بلاء الدنيا والآخرة . وما أصابهم من المصائب فبذنوبهم . قال تعالى : { إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها } وقال تعالى : { ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك } قال العلماء : أي ما أصابك من نصر ورزق وعافية فهو من نعم الله عليك وما أصابك من(35/78)
المصائب فبذنوبك . كما قال تعالى : { وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير } كما أنهم متفقون كلهم على أنه لا تكون العبادة إلا لله وحده ولا يكون التوكل إلا عليه وحده ولا تكون الخشية والتقوى إلا لله وحده . والرسول صلى الله عليه وسلم له حق لا يشركه فيه أحد من الأمة مثل وجوب طاعته في كل ما يوجب ويأمر . قال تعالى : { من يطع الرسول فقد أطاع الله } وقال تعالى : { وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله } . ولهذا كانت مبايعته مبايعة لله . كما قال تعالى : { إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله } فإنهم عاقدوه على أن يطيعوه في الجهاد ولا يفروا وإن ماتوا . وهذه الطاعة له هي طاعة لله . وعلينا أن يكون الرسول أحب إلينا من أنفسنا وآبائنا وأبنائنا وأهلنا وأموالنا كما في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين } رواه البخاري ومسلم وفي لفظ لمسلم : { وأهله وماله } . وفي البخاري عن عبد الله بن هشام أنه قال : { كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم وهو آخذ بيد عمر بن الخطاب فقال له عمر : يا رسول الله لأنت أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي . فقال النبي صلى الله عليه وسلم لا والذي نفسي بيده حتى أكون أحب إليك من نفسك . فقال له عمر : فإنك الآن والله لأنت أحب إلي من نفسي . فقال النبي صلى الله عليه وسلم الآن يا عمر } . وقد قال تعالى : { قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين } وقد قال تعالى : { النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم } وفي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال { : أنا أولى بكل مؤمن من نفسه } . وذلك أنه لا نجاة لأحد من عذاب الله ولا وصول له(35/79)
إلى رحمة الله إلا بواسطة الرسول : بالإيمان به ومحبته وموالاته واتباعه . وهو الذي ينجيه الله به من عذاب الدنيا والآخرة . وهو الذي يوصله إلى خير الدنيا والآخرة . فأعظم النعم وأنفعها نعمة الإيمان ولا تحصل إلا به صلى الله عليه وسلم . وهو أنصح وأنفع لكل أحد من نفسه وماله . فإنه الذي يخرج الله به من الظلمات إلى النور لا طريق له إلا هو . وأما نفسه وأهله فلا يغنون عنه من الله شيئا . وهو دعا الخلق إلى الله بإذن الله . قال تعالى : { إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا } والمخالف له يدعو إلى غير الله بغير إذن الله . ومن اتبع الرسول صلى الله عليه وسلم فإنه إنما يدعو إلى الله ورسوله . وقوله تعالى { بإذنه } أي بأمره وما أنزله من العلم كما قال تعالى : { قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني } فمن اتبع الرسول دعا إلى الله على بصيرة أي على بينة وعلم يدعو إليه بمنزل من الله بخلاف الذي يأمر بما لا يعلم أو بما لم ينزل به وحيا . كما قال تعالى { ويعبدون من دون الله ما لم ينزل به سلطانا وما ليس لهم به علم وما للظالمين من نصير } . وكل ما أمر الله به أو ندب إليه من حقوقه صلى الله عليه وسلم فإنه لا يختص بحجرته لا من داخل ولا من خارج . بل يفعل في جميع الأمكنة التي شرع فيها . فليس فعل شيء من حقوقه صلى الله عليه وسلم كالإيمان به ومحبته وموالاته وتبليغ العلم عنه والجهاد على ما جاء به وموالاة أوليائه ومعاداة أعدائه والصلاة والسلام عليه وكل ما يحبه الله ويتقرب إليه ليس شيء من ذلك عند حجرته أفضل منه فيما بعد عن الحجرة لا الصلاة والسلام عليه ولا غير ذلك من حقوقه ؛ بل قد نهى هو صلى الله عليه وسلم أن يجعل بيته عيدا . فنهى أن يقصد بيته بتخصيص شيء من ذلك . فمن قصد أو اعتقد أن فعل ذلك عند الحجرة أفضل فهو مخالف له صلى الله عليه وسلم . وهذا مما كان مشروعا كالإيمان به .(35/80)
والشهادة له بأنه رسول الله والصلاة والسلام عليه . وأما ما لم يشرعه الله ولم ينزل به سلطانا إليه بل نهى عنه صلى الله عليه وسلم كدعاء غير الله وعبادتهم من جميع المخلوقات الملائكة والأنبياء وغيرهم والحج إلى المخلوقين وإلى قبورهم : فهذه إنما يأمر بها من ليس معهم بذلك علم ولا وحي منزل من الله فهم يضاهون الذين يعبدون من دون الله ما لم ينزل به سلطانا وما ليس لهم به علم أو هم نوع منهم .
وقد ميز الله بين حقه وحق الرسول في مثل قوله : { ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقه } فالطاعة لله والرسول والخشية لله وحده والتقوى لله وحده لا يخشى مخلوق ولا يتقى مخلوق لا ملك ولا نبي ولا غيرهما . قال تعالى : { وقال الله لا تتخذوا إلهين اثنين إنما هو إله واحد فإياي فارهبون } { وله ما في السماوات والأرض وله الدين واصبا أفغير الله تتقون } وقال تعالى : { إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين } . وقال تعالى : { فلا تخشوا الناس واخشون ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا } . وكذلك ميز بين النوعين في قوله تعالى { ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله إنا إلى الله راغبون } ففي الإيتاء قال : { آتاهم الله ورسوله } لأن الرسول هو الواسطة بيننا وبين الله في تبليغ أمره ونهيه وتحليله وتحريمه ووعده ووعيده . فالحلال ما حلله الله ورسوله والحرام ما حرمه الله ورسوله والدين ما شرعه الله ورسوله . قال تعالى : { وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا } فلهذا قال تعالى : { ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله وقالوا حسبنا الله } ولم يقل هنا : " ورسوله " ؛ لأن الله وحده حسب جميع عباده المؤمنين كما قال تعالى : { يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين } أي هو حسبك وحسب من اتبعك من المؤمنين . وقال(35/81)
تعالى : { إن وليي الله الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين } ذكر هذا بعد قوله : { إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم } - إلى قوله - { قل ادعوا شركاءكم ثم كيدون فلا تنظرون } { إن وليي الله الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين } . عن ابن عباس قال : هم الذين لا يعدلون بالله فيتولاهم وينصرهم ولا تضرهم عداوة من عاداهم . كما قال تعالى : { إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد } . ثم قال تعالى مما يأمرهم : { سيؤتينا الله من فضله ورسوله إنا إلى الله راغبون } فأمرهم أن يجعلوا الرغبة لله وحده كما قال تعالى : { فإذا فرغت فانصب } { وإلى ربك فارغب } وهذا لأن المخلوق لا يملك للمخلوق نفعا ولا ضرا . وهذا عام في أهل السموات وأهل الأرض قال تعالى : { قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا } { أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذورا } . قال طائفة من السلف ابن عباس وغيره : هذه الآية في الذين عبدوا الملائكة والأنبياء كالمسيح وعزير . وقال عبد الله بن مسعود : كان قوم من الإنس يعبدون قوما من الجن فأسلم الجن وبقي أولئك على عبادتهم . فالآية تتناول كل من دعا من دون الله من هو صالح عند الله من الملائكة والإنس والجن قال تعالى : هؤلاء الذين دعوتموهم { فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا } { أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذورا } قال أبو محمد عبد الحق بن عطية في تفسيره : أخبر الله تعالى أن هؤلاء المعبودين يطلبون التقرب إليه والتزلف إليه وأن هذه حقيقة حالهم . والضمير في ( ربهم للمبتغين أو للجميع . و ( الوسيلة هي القربة وسبب الوصول إلى البغية وتوسل الرجل إذا طلب الدنو والنيل لأمر ما ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم { من سأل(35/82)
الله لي الوسيلة } الحديث . وهذا الذي ذكره ذكر سائر المفسرين [ نحوه إلا أنه ] برز به على غيره فقال : و { أيهم } ابتداء وخبره { أقرب } و { أولئك } يراد بهم المعبودون وهو ابتداء وخبره { يبتغون } . والضمير في { يدعون } للكفار وفي { يبتغون } للمعبودين . والتقدير نظرهم وذكرهم { أيهم أقرب } . وهذا كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه في حديث الراية بخيبر : فبات الناس يدوكون ليلتهم أيهم يعطاها أي يتبارون في طلب القرب . قال رحمه الله وطفف الزجاج في هذا الموضع فتأمله . ولقد صدق في ذلك فإن الزجاج ذكر في قوله : { أيهم أقرب } وجهين كلاهما في غاية الفساد . وقد ذكر ذلك عنه ابن الجوزي وغيره وتابعه المهدوي والبغوي وغيرهما . ولكن ابن عطية كان أقعد بالعربية والمعاني من هؤلاء وأخبر بمذهب سيبويه والبصريين فعرف تطفيف الزجاج مع علمه رحمه الله بالعربية وسبقه ومعرفته بما يعرفه من المعاني والبيان . وأولئك لهم براعة وفضيلة في أمور يبرزون فيها على ابن عطية . لكن دلالة الألفاظ من جهة العربية هو بها أخبر وإن كانوا هم أخبر بشيء آخر من المنقولات أو غيرها . وقد بين سبحانه وتعالى أن المسيح وإن كان رسولا كريما فإنه عبد الله فمن عبده فقد عبد ما لا ينفعه ولا يضره قال تعالى : { لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم وقال المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار } { لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة وما من إله إلا إله واحد وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم } { أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه والله غفور رحيم } { ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام انظر كيف نبين لهم الآيات ثم انظر أنى يؤفكون } { قل أتعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضرا ولا نفعا والله هو(35/83)
السميع العليم } . وقد أمر تعالى أفضل الخلق أن يقول إنه لا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا ولا يملك لغيره ضرا ولا رشدا فقال تعالى : { قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله } وقال : { قل إني لا أملك لكم ضرا ولا رشدا } { قل إني لن يجيرني من الله أحد ولن أجد من دونه ملتحدا } { إلا بلاغا من الله ورسالاته } يقول : لن يجيرني من الله أحد إن عصيته كما قال تعالى : { قل إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم } { ولن أجد من دونه ملتحدا } أي ملجأ ألجأ إليه . { إلا بلاغا من الله ورسالاته } أي لا يجيرني منه أحد إلا طاعته أن أبلغ ما أرسلت به إليكم فبذلك تحصل الإجارة والأمن . وقيل أيضا : { لا أملك لكم ضرا ولا رشدا } لا أملك إلا تبليغ ما أرسلت به منه . ومثل هذا في القرآن كثير . فتبين أن الأمن من عذاب الله وحصول السعادة إنما هو بطاعته تعالى لقوله : { ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم } وقال تعالى : { قل ما يعبأ بكم ربي لولا دعاؤكم } أي لو لم تدعوه كما أمر فتطيعوه فتعبدوه وتطيعوا رسله فإنه لا يعبأ بكم شيئا . وهذه الوسيلة التي أمر الله أن تبتغى إليه فقال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة } قال عامة المفسرين كابن عباس ومجاهد وعطاء والفراء : الوسيلة القربة . قال قتادة : تقربوا إلى الله بما يرضيه . قال أبو عبيدة : توسلت إليه أي تقربت . وقال عبد الرحمن بن زيد : تحببوا إلى الله . والتحبب والتقرب إليه إنما هو بطاعة رسوله . فالإيمان بالرسول وطاعته هو وسيلة الخلق إلى الله ليس لهم وسيلة يتوسلون بها ألبتة إلا الإيمان برسوله وطاعته . وليس لأحد من الخلق وسيلة إلى الله تبارك وتعالى إلا بوسيلة الإيمان بهذا الرسول الكريم وطاعته . وهذه يؤمر بها الإنسان حيث كان من الأمكنة وفي كل وقت . وما خص من العبادات بمكان كالحج أو زمان كالصوم والجمعة فكل في مكانه وزمانه . وليس لنفس الحجرة من داخل(35/84)
- فضلا عن جدارها من خارج - اختصاص بشيء في شرع العبادات ولا فعل شيء منها . فالقرب من الله أفضل منه بالبعد منه باتفاق المسلمين . والمسجد خص بالفضيلة في حياته صلى الله عليه وسلم قبل وجود القبر فلم تكن فضيلة مسجده لذلك ولا استحب هو صلى الله عليه وسلم ولا أحد من أصحابه ولا علماء أمته أن يجاور أحد عند قبر ولا يعكف عليه لا قبره المكرم ولا قبر غيره ولا أن يقصد السكنى قريبا من قبر أي قبر كان . وسكنى المدينة النبوية هو أفضل في حق من تتكرر طاعته لله ورسوله فيها أكثر . كما كان الأمر لما كان الناس مأمورين بالهجرة إليها . فكانت الهجرة إليها والمقام بها أفضل من جميع البقاع مكة وغيرها . بل كان ذلك واجبا من أعظم الواجبات . فلما فتحت مكة قال النبي صلى الله عليه وسلم { لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية } وكان من أتى من أهل مكة وغيرهم ليهاجر ويسكن المدينة يأمره أن يرجع إلى مدينته ولا يأمره بسكناها . كما كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يأمر الناس عقب الحج أن يذهبوا إلى بلادهم لئلا يضيقوا على أهل مكة . وكان يأمر كثيرا من أصحابه وقت الهجرة أن يخرجوا إلى أماكن أخر لولاية مكان وغيره وكانت طاعة الرسول بالسفر إلى غير المدينة أفضل من المقام عنده بالمدينة حين كانت دار الهجرة فكيف بها بعد ذلك ؟ إذ كان الذي ينفع الناس طاعة الله ورسوله . وأما ما سوى ذلك فإنه لا ينفعهم لا قرابة ولا مجاورة ولا غير ذلك كما ثبت عنه في الحديث الصحيح أنه قال : { يا فاطمة بنت محمد لا أغني عنك من الله شيئا . يا صفية عمة رسول الله لا أغني عنك من الله شيئا يا عباس عم رسول الله لا أغني عنك من الله شيئا } . قال صلى الله عليه وسلم { إن آل أبي فلان ليسوا لي بأولياء إنما وليي الله وصالح المؤمنين } . وقال : { إن أوليائي المتقون حيث كانوا ومن كانوا } . وقد قال تعالى : { إن الله يدافع عن الذين آمنوا } فهو تبارك وتعالى يدافع عن المؤمنين حيث(35/85)
كانوا . فالله هو الدافع والسبب هو الإيمان . وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في خطبته : { من يطع الله ورسوله فقد رشد ومن يعصهما فإنه لا يضر إلا نفسه ولن يضر الله شيئا } قال تعالى : { ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا } . وأما ما يظنه بعض الناس من أن البلاء يندفع عن أهل بلد أو إقليم بمن هو مدفون عندهم من الأنبياء والصالحين كما يظن بعض الناس أنه يندفع عن أهل بغداد البلاء لقبور ثلاثة : أحمد بن حنبل وبشر الحافي ومنصور بن عمار ويظن بعضهم أنه يندفع البلاء عن أهل الشام بمن عندهم من قبور الأنبياء الخليل وغيره عليهم السلام . وبعضهم يظن أنه يندفع البلاء عن أهل مصر بنفيسة أو غيرها . أو يندفع عن أهل الحجاز بقبر النبي صلى الله عليه وسلم وأهل البقيع أو غيرهم . فكل هذا غلو مخالف لدين الإسلام مخالف للكتاب والسنة والإجماع . فالبيت المقدس كان عنده من قبور الأنبياء والصالحين ما شاء الله فلما عصوا الأنبياء وخالفوا ما أمر الله به ورسله سلط عليهم من انتقم منهم . والرسل الموتى ما عليهم إلا البلاغ المبين وقد بلغوا رسالة ربهم . وكذلك نبينا صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى في حقه : { إن عليك إلا البلاغ } وقال تعالى : { وما على الرسول إلا البلاغ المبين } . وقد ضمن الله لكل من أطاع الرسول أن يهديه وينصره . فمن خالف أمر الرسول استحق العذاب ولم يغن عنه أحد من الله شيئا . كما { قال النبي صلى الله عليه وسلم يا عباس عم رسول الله لا أغني عنك من الله شيئا . يا صفية عمة رسول الله لا أغني عنك من الله شيئا يا فاطمة بنت رسول الله لا أغني عنك من الله شيئا } . وقال صلى الله عليه وسلم لمن ولاه من أصحابه : { لا ألفين أحدكم يأتي يوم القيامة على رقبته بعير له رغاء يقول : يا رسول الله أغثني . فأقول : لا أملك لك من الله شيئا قد بلغتك } وكان(35/86)
أهل المدينة في خلافة أبي بكر وعمر وصدر من خلافة عثمان على أفضل أمور الدنيا والآخرة لتمسكهم بطاعة الرسول . ثم تغيروا بعض التغير بقتل عثمان رضي الله عنه وخرجت الخلافة النبوية من عندهم وصاروا رعية لغيرهم . ثم تغيروا بعض التغير فجرى عليهم عام الحرة من القتل والنهب وغير ذلك من المصائب ما لم يجر عليهم قبل ذلك . والذي فعل بهم ذلك وإن كان ظالما معتديا فليس هو أظلم ممن فعل بالنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ما فعل وقد قال الله تعالى : { أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم } وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم والسابقون الأولون مدفونين بالمدينة . وكذلك الشام كانوا في أول الإسلام في سعادة الدنيا والدين ثم جرت فتن وخرج الملك من أيديهم ثم سلط عليهم المنافقون الملاحدة والنصارى بذنوبهم واستولوا على بيت المقدس وقبر الخليل وفتحوا البناء الذي كان عليه وجعلوه كنيسة . ثم صلح دينهم فأعزهم الله ونصرهم على عدوهم لما أطاعوا الله ورسوله واتبعوا ما أنزل إليهم من ربهم . فطاعة الله ورسوله قطب السعادة وعليها تدور { ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا } وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في خطبته : { من يطع الله ورسوله فقد رشد ومن يعصهما فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئا } . ومكة نفسها لا يدفع البلاء عن أهلها ويجلب لهم الرزق إلا بطاعتهم لله ورسوله . كما قال الخليل عليه السلام { ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون } . وكانوا في الجاهلية يعظمون حرمة الحرم ويحجون ويطوفون بالبيت وكانوا خيرا من غيرهم من المشركين . والله لا يظلم مثقال ذرة . وكانوا يكرمون ما لا يكرم غيرهم ويؤتون ما لا يؤتاه غيرهم لكونهم(35/87)
كانوا متمسكين بدين إبراهيم بأعظم مما تمسك به غيرهم . وهم في الإسلام إن كانوا أفضل من غيرهم كان جزاؤهم بحسب فضلهم وإن كانوا أسوأ عملا من غيرهم كان جزاؤهم بحسب سيئاتهم . فالمساجد والمشاعر إنما ينفع فضلها لمن عمل فيها بطاعة الله عز وجل . وإلا فمجرد البقاع لا يحصل بها ثواب ولا عقاب وإنما الثواب والعقاب على الأعمال المأمور بها والمنهي عنها . وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد آخى بين سلمان الفارسي وأبي الدرداء وكان أبو الدرداء بدمشق وسلمان الفارسي بالعراق فكتب أبو الدرداء إلى سلمان : هلم إلى الأرض المقدسة . فكتب إليه سلمان : إن الأرض لا تقدس أحدا وإنما يقدس الرجل عمله . والمقام بالثغور للجهاد أفضل من سكنى الحرمان باتفاق العلماء . ولهذا كان سكنى الصحابة بالمدينة أفضل للهجرة والجهاد . والله تعالى : هو الذي خلق الخلق . وهو الذي يهديهم ويرزقهم وينصرهم . وكل من سواه لا يملك شيئا من ذلك كما قال تعالى : { قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير } { ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له } وقد فسروها بأنه يؤذن للشافع والمشفوع له جميعا فإن سيد الشفعاء يوم القيامة محمدا صلى الله عليه وسلم إذا أراد الشفاعة قال : { فإذا رأيت ربي خررت له ساجدا وأحمده بمحامد يفتحها علي لا أحسنها الآن فيقال لي : ارفع رأسك وقل تسمع وسل تعطه واشفع تشفع . قال فيحد لي حدا فأدخلهم الجنة } . وكذلك ذكر في المرة الثانية والثالثة . ولهذا قال تعالى : { ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة إلا من شهد بالحق وهم يعلمون } فأخبر أنه لا يملكها أحد دون الله . وقوله : " إلا من شهد بالحق وهم يعلمون " استثناء منقطع أي من شهد بالحق وهم يعلمون هم أصحاب الشفاعة منهم الشافع ومنهم المشفوع له . وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم { أنه سأله أبو هريرة(35/88)
فقال : من أسعد الناس بشفاعتك يا رسول الله ؟ فقال : يا أبا هريرة لقد ظننت أن لا يسألني عن هذا الحديث أحد أول منك لما رأيت من حرصك على الحديث . أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال لا إله إلا الله خالصا من قلبه } . رواه البخاري فجعل أسعد الناس بشفاعته أكملهم إخلاصا . وقال في الحديث الصحيح : { إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول ثم صلوا علي فإنه من صلى علي مرة صلى الله عليه بها عشرا ثم سلوا الله لي الوسيلة فإنها درجة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله وأرجو أن أكون ذلك العبد فمن سأل الله لي الوسيلة حلت عليه شفاعتي يوم القيامة } . فالجزاء من جنس العمل فقد أخبر صلى الله عليه وسلم أنه من صلى عليه مرة صلى الله عليه بها عشرا . ومن سأل الله له الوسيلة حلت عليه شفاعته يوم القيامة " . ولم يقل كان أسعد الناس بشفاعتي بل قال : { أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال لا إله إلا الله خالصا من قلبه } . فعلم أن ما يحصل للعبد بالتوحيد والإخلاص من شفاعة الرسول وغيرها لا يحصل بغيره من الأعمال وإن كان صالحا كسؤاله الوسيلة للرسول فكيف بما لم يأمر به من الأعمال بل نهى عنه ؟ فذاك لا ينال به خيرا لا في الدنيا ولا في الآخرة مثل غلو النصارى في المسيح عليه السلام فإنه يضرهم ولا ينفعهم . ونظير هذا ما في الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : { إن لكل نبي دعوة مستجابة وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة فهي نائلة إن شاء الله من مات لا يشرك بالله شيئا } . وكذلك في أحاديث الشفاعة كلها إنما يشفع في أهل التوحيد فبحسب توحيد العبد لله وإخلاصه دينه لله يستحق كرامة الشفاعة وغيرها . وهو سبحانه علق الوعد والوعيد والثواب والعقاب والحمد والذم بالإيمان به وتوحيده وطاعته فمن كان أكمل في ذلك كان أحق بتولي الله له بخير الدنيا والآخرة . ثم جميع عباده مسلمهم وكافرهم هو الذي يرزقهم وهو الذي يدفع عنهم(35/89)
المكاره وهو الذي يقصدونه في النوائب . قال تعالى : { وما بكم من نعمة فمن الله ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون } وقال تعالى : { قل من يكلؤكم بالليل والنهار من الرحمن } أي بدلا عن الرحمن . هذا أصح القولين كقوله تعالى : { ولو نشاء لجعلنا منكم ملائكة في الأرض يخلفون } أي لجعلنا بدلا منكم كما قاله عامة المفسرين ومنه قول الشاعر : فليت لنا من ماء زمزم شربة مبردة باتت على الطهيان أي بدلا من ماء زمزم . فلا يكلأ الخلق بالليل والنهار فيحفظهم ويدفع عنهم المكاره إلا الله . قال تعالى : { أمن هذا الذي هو جند لكم ينصركم من دون الرحمن إن الكافرون إلا في غرور } { أمن هذا الذي يرزقكم إن أمسك رزقه بل لجوا في عتو ونفور } . ومن ظن أن أرضا معينة تدفع عن أهلها البلاء مطلقا لخصوصها أو لكونها فيها قبور الأنبياء والصالحين فهو غالط . فأفضل البقاع مكة وقد عذب الله أهلها عذابا عظيما فقال تعالى : { وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون } { ولقد جاءهم رسول منهم فكذبوه فأخذهم العذاب وهم ظالمون } .(35/90)
فصل وولاة الأمر أحق الناس بنصر دين الرسول صلى الله عليه وسلم وما جاء به من الهدى ودين الحق و [ بإنكار ] ما نهى عنه وما نسب إليه بالباطل من الكذب والبدع . إما جهلا من ناقله وإما عمدا فإن أصل الدين هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر . ورأس المعروف هو التوحيد ورأس المنكر هو الشرك . وقد بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق . به فرق الله بين التوحيد والشرك وبين الحق والباطل وبين الهدى والضلال وبين الرشاد والغي وبين المعروف والمنكر . فمن أراد أن يأمر بما نهى عنه وينهى عما أمر به ويغير شريعته ودينه إما جهلا وقلة علم وإما لغرض وهوى كان السلطان أحق بمنعه بما أمر الله به ورسوله . وكان هو أحق بإظهار ما جاء به الرسول من الهدى ودين الحق . فإن الله سبحانه لا بد أن ينصر رسوله والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد . فمن كان النصر على يديه كان له سعادة الدنيا والآخرة وإلا جعل الله النصر على يد غيره وجازى كل قوم بعملهم وما ربك بظلام للعبيد . والله سبحانه قد وعد أنه لا يزال [ هذا الدين ظاهرا ولا يظهر ] إلا بالحق وأنه من نكل عن القيام بالحق استبدل من يقوم بالحق فقال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل } { إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما ويستبدل قوما غيركم ولا تضروه شيئا والله على كل شيء قدير } وقال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم } وقد أرى الله الناس في أنفسهم والآفاق ما علموا به تصديق ما أخبر به تحقيقا لقوله تعالى { سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق(35/91)
أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد } والله أعلم والحمد لله رب العالمين .(35/92)
بسم الله الرحمن الرحيم
للاعتبار والذكرى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله . أما بعد :
* فقد قال تعالى { واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاويين، ولو شئنا لرفعناه بها، ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه: فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث. ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا } "الأعراف 176".
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ( إن أخوف ما أخاف على أمتي الأئمة المضللون ) [رواه أحمد 5/145 بسند صحيح] وقال ( إن أخوف ما أخاف على أمتي كل منافق عليم اللسان ) [رواه أحمد 1/22 بإسناد صحيح] .
وقال - صلى الله عليه وسلم - ( يكون في آخر الزمان دجالون كذابون، يأتونكم من الأحاديث بما لم تسمعوا أنتم ولا آبائكم، فإياكم وإياهم لا يضلونكم ولا يفتنونكم ) [مسلم في المقدمة].
وقال [ذكره المنذري في الترغيب 1/48 بسند صحيح] ( أيما داع إلى ضلالة فاتبع فإن عليه مثل أوزار من اتبعه، ولا ينقص من أوزارهم شيئاً، وأيما داع إلى هدى فاتبع فإن له مثل أجور من اتبعه، ولا ينقص من أجورهم شيئاً ) .
قال الدارمي رحمه الله ( إن الذي يريد الشذوذ عن الحق يتبع الشاذ من قول العلماء، ويتعلق بزلاتهم، والذي يؤم الحق في نفسه يتبع المشهور من قول جماعتهم وينقلب مع جمهورهم، فهما آيتان بينتان يستدل بهما على اتباع الرجل أو ابتداعه ) [الرد على الجهمية للدارمي 78]
ابحث عن الفرقة الناجية
عن عوف بن مالك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال ( افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، فإحدى وسبعين في النار وواحدة في الجنة، والذي نفسي بيده لتفترقن أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، فواحدة في الجنة واثنتان وسبعين في النار ) [رواه ابن ماجة بإسناد جيد]. فإن كنت حريصاً على سلامة آخرتك فابحث عن الفرقة الناجية.
ما هي علامات الفرقة الناجية(36/1)
أنها لا تتأول أسماء الله تعلى وصفاته كما فعلت أضل فرقتين في تاريخ الإسلام وهما الجهمية والمعتزلة .
أنها تسد على الناس أبواب الشرك ووسائله وذرائعه وتحثهم على دعاء الله وحده. خلافاً لمن ضلوا عن دعاء الله وحده وانحرفوا إلى دعاء المسيح ومريم وعلي والحسين والجيلاني والرفاعي وجعلوهم لله نداً .
أنها تحثهم على تحكيم شرعه: كتابه وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم -. وتنهاهم عن التحاكم إلى الطاغوت حتى لا يكونوا كمن قال تعالى فيهم { ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل اليك وما انزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به } .
أنها لا تخوض مع الهالكين في الطعن بأصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى لا تكون في صف الرافضة في خندق واحد ضد أفضل أبناء هذه الأمة .
أنها تحث الناس على اقتفاء السنن وترك البدع. وتنهاهم عن بدع الرقص والتواشيح (( الدينية )) والتقرب إلى الله بالطبول والدفوف. لأن الدين اتباع لا ابتداع. كما قال ابن مسعود رضي الله عنه (( اتبعوا ولا تبتدعوا: فقد كفيتم )) .وقول بن عمر (( كل بدعة ضلالة وإن رآها الناس حسنة )).
أنها لا تتولى أعداء المسلمين وتتغذى بهم لتتمكن من التشفي من طائفة أهل السنة وكيل الضربات واللكمات إلى الدعاة إلى الله .
وكل من يدعوك إلى خلاف ذلك فإنه داعية إلى الفرق الهالكة .
((( بيان مهم )))
راعينا في هذه الطبعة من كتابنا ( الحبشي: شذوذه وأخطائه ) الإحالة إلى أرقام الصفحات حسب الطبعة الجديدة من كتابي الحبشي: بغية الطالب وصريح البيان وذلك لسببين :(36/2)
الأول: أنه بلغنا أن الأحباش يظهرون للناس الطبعة الجديدة من كتاب شيخهم " بغية الطالب " المختلفة في أرقام صفحاتها عن الطبعة القديمة التي كنت أحيل إلى أرقامها تمويهاً للناس وخداعاً لهم، ليظنوا أننا نفتري على شيخهم ونختلق له فتاوى مكذوبة، ونحيل إلى أرقام مزورة مختلفة. ولهذا أشرت عند الإحالة إلى رقم صفحة الكتابين حسب الطبعتين: القديمة والجديدة لتفويت الفرصة على المحتالين حتى لا يبرزوا للناس الطبعة الجديدة ويقولوا لهم: انظروا إلى الصفحة التي أحالوا إليها: لا يوجد فيها شيء مما يقول. ونحن لا نمنعهم من زيادة وحذف ما يشاؤون من كتب شيخهم ولكن نمنعهم من الحيلة التي أجازوها على الله .
ولقد قال شيخهم " وهذه حيلة يراد بها التخلص من الحرام " ( بغية الطالب 257 ط: جديدة 330 ) فالحيلة جائزة عندهم على الله فما المانع من الاحتيال على الناس ؟.
الثاني: لنبين أن الطبعات الجديدة من كتب شيخهم تتضمن إضافات وحذوفات، فمثلاً حذفوا في الطبعة الجديدة من صريح البيان فتواه بإباحة اليانصيب وبيع وشراء الصبي، ومن كتاب "بغية الطالب " جواز نظر الرجل إلى شيء من بدن المرأة الأجنبية التي لا تحل له وقد كانت في الطبعة القديمة ( ص 288 ) وكذلك جواز النظر إلى محارمه من النساء مطلقاً ماعدا ما بين السرة و الركبة اذا كان بغير شهوة وكانت في الطبعة القديمة ( ص 290 ) .
عبد الله الحبشي: من هو ؟(36/3)
قدم عبد الله الهرري الحبشي إلى لبنان واغتر به الناس وجهلوا أنه أتى من بلد يبغضه أهلها حتى صاروا يلقبونه " بشيخ الفتنة " حسب شهادة بعض أقارب الحبشي وذلك لملامسته في فتنة ( كلب ) في بلاد هرار بإيعاز من أهل أديس أبابا حيث تعاون مع أعداء المسلمين وبالتحديد حاكم ( أندارجي ) صهر ( هيلاسيلاسي ) ضد الجمعيات الإسلامية وتسبب في إغلاق مدارس الجمعية الوطنية لتحفيظ القرآن الكريم بمدينة هرر سنة 1367هـ 1940م، وصدر الحكم على مدير المدرسة ( ابراهيم حسن ) ثلاثاً وعشرين سنة مع النفي، وبالفعل تم نفيه إلى مقاطعة ( جوري ) طريداً سجيناً وحيداً حتى قضى نحبه بعد سنوات قليلة. ثم انتهى الأمر بتسليم الدعاة والمشايخ إلى هيلاسيلاسي وإذلالهم، ومنهم من فر إلى مصر والسعودية واستقر بها .
وسبب هذا التعاون بين الحبشي وبين السلطة ضد القائمين على مدارس تحفيظ القرآن اتهامه لهم أنهم ينتمون إلى العقيدة الوهابية .
ولا يزال التاريخ يذكر له فتنة ( كلب ) التي كان من نتيجتها إغلاق مدارس تحفيظ القرآن ونفي الدعاة والمشايخ وسجنهم، و بسببها أطلق الناس هناك على الحبشي صفة ( الفتان ) أو ( شيخ الفتنة ) .
لقد كان الحبشي يستغل بساطة الناس وحبهم للدين فيملأ قلوبهم غيظاً على خصومه من المشايخ ويزور كلامهم ويسلط العامة والغوغاء عليهم وذلك على النحو الذي يفعله اليوم في لبنان.
ثم هو منذ قدم لبنان لم يزل يعمل على بث الاحقاد ونشر الفتن: تماماً كما فعل في بلاده. وما أن خلا له الجو حتى بدأ يعاود الفتنة نفسها :
فنشر عقيدته الفاسدة من شرك وترويج لمذهب الجهمية في تأويل صفات الله وإرجاء وجبر وتصوف وباطنية ورفض وسب للصحابة، فسب معاوية ووبخ الذين توقفوا عن القتال بين الفئتين المسلمتين. واتهم عائشة بعصيان أمر الله تعالى.(36/4)
وأتباعه اليوم ينكرون ماضيه الخائن، ولكن أنظروا أليس قد فعل ذلك نفسه اليوم؟ ألستم تلاحظون توطئهم مع أعداء المسلمين جهراً وليس سراً، أليس هذا دليلاً على صدقنا فيما اتهمناه فيه؟ أليست خيانة اليوم دليلاً على خيانة الامس.
وهو رجل شديد الخصومة كما هو معروف عنه، وإذا حشره خصمه في المناقشة فإما أن يظهر إنفعالات مصطنعة أمام أتباعه وهي إشارة لهم إما بضربه أو طرده، وإما أن ينسحب بهدوء إلى غرفته ويترك خصمه لأتباعه يجادلهم ويجادلونه، وإذا سأل الخصم عن سبب انسحاب الحبشي قالوا إن الشيخ متعب ويريد أن يستريح. ولقد حدث هذا لي معه شخصياً ومع بعض الإخوة .
لقد نجح الحبشي مؤخراً في تخريج مجموعات كبيرة من المتبجحين والمتعصبين الذين لا يرون مسلماً إلا من أعلن الإذعان والخضوع لعقيدة شيخهم مع ما تتضمنه من أرجاء في الإيمان وجبر في أفعال الله وجهمية واعتزال في صفات الله. ومسارعة إلى مسايرة الطواغيت وتحايل على الله في مسائل الفقهيات فيما يسمونه بـ ( الحيل الشرعية ). وله من طرائف الفتاوى وعجائبها والاحتيال الديني ما يثير الضحك .
ثم بدأ بتسليط لسانه اللاذع على خصومه فكفر الألباني وابن باز ( رحمهما الله ) ورمى ابن تيمية بالكفر والردة والزندقة وأمر بإحراق كتبه ووصف الامام الذهبي بأنه خبيث والشيخ سيد سابق بأنه مجوسي ولعن سيد قطب وأثنى هو وأتباعه على الشيخ عبدالناصر لأنه شنقه، مع أنه يمتنع عن الإجابة عن حكم الباطنيين والروافض بل على العكس فانه يتولاهم ويأمر أتباعه بموالاتهم واستخدامهم درعاً واقياً وغطاء منيعاً ليستكمن هو وأتباعه بهم من ضرب المسلمين والدعاة إلى الله ولو في المساجد، وإذا قيل لهم كيف توالون غير المسلمين وتثنون عليهم: قالوا : هذا " ذكاء " وليس موالاة للكفار. ولكن سيعلمون عاقبة هذا الذكاء حين يحشرون معهم يوم القيامة إن لم يتوبوا من ذلك.(36/5)
ولم يكد ينجوا داعية أو مسلم من ضربهم وايذائهم، وصار اقتحام المساجد عند اتباعه ( فتحاً مبيناً ) وحكم على ذلك من يسميهم بالوهابيون بالكفر والردة: ثم ما المانع بعد ذلك من إهراق دمهم والمرتد مهدور الدم!!.
ولقد بلغ تهوره أن منع المقيمين من أتباعه في السعودية من الدخول إلى مساجد ( الوهابيين ) ورخص لهم أكل الثوم والبصل قبيل إقامة صلاة ركعتي الجمعة كي يصيروا معذورين – بل منهيين – عن دخول المساجد.
ولكم أن تسألوا أئمة المساجد في لبنان من شماله إلى جنوبه: أي مسجد سلم من فتنهم وصيحاتهم وضربهم واطلاق نيرانهم. اسألوا عدنان ياسين: كم مرة حاولوا قتله، اسألوا الداعية حسن قاطرجي: ماذا فعل لهم حتى يلاحقوه دائماً وينهالوا عليه بالضرب والأذى؟ إسألوا جمال الذهبي وعبد الحميد شانوحا وغيرهم: لماذا تركوا لبنان أليس بسبب تعرضهم للضرب والأذى فآثروا الرحيل ؟
ولكم أن تستمعوا إذاعتهم التي " أعينوا " على تأسيسها حيث يستعملونها منبراً للتطاول على الآخرين فوصفوا الشيخ محمد علي الجوزو بأقذع النعوت وجعلوه رجلاً داعراً، ولو كان ثمة حكم إسلامي لأقام على هؤلاء حكم القذف .
فأين ( الانفتاح الديني ) الذي يدعونه؟ هل هو إلا الانفتاح على ( المتواطئين ) الذين يستخدمونهم في شق عصا المسلمين وشيوع البغضاء والكراهية بين المسلمين ! .
أما الباطنيون فلم يتكلم هو ولا اتباعه فيهم بكلمة واحدة، وليس من كتاب للحبشي إلا وقد اطلعت عليه يتكتم عليهم. وأتباعه ينشرون الإعلانات في مدحهم والثناء عليهم، فهل يعقل أن يكون هؤلاء أهدى سبيلاً من سيد والمولوي والألباني وابن تيمية وابن باز.(36/6)
بل قد بدأت حقيقة الحبشي تنكشف في آخر محاضرة له في طرابلس حيث أخذ يحث على الإستغاثة بأئمة أهل البيت وأنه لا حرج أن يقول يا علي يا حسين على النحو الذي تفعله الشيعة. وتنكشف الآن حقائق عن تنسيق وتعاون بينه وبين الباطنيين لا سيما حين أسهم الباطنية في مصادرة كتاب ( إطلاق الأعنة عن مخالفات الحبشي للكتاب والسنة ) الذي رد مؤلفه على الحبشي وكشف طعنه بالسيدة عائشة واتهمها بعصيان ربها وتطاول على بعض الصحابة ليتقرب بهم إلى الباطنيين .
وأضرب لذلك مثلاً: هل يجرؤ الحبشي أن يكتب فتوى بخط يده في تكفير الخميني لقوله " إن لأمتنا مقاماً عظيماً لا يبلغه ملك مقرب ولا نبي مرسل" [الحكومة الإسلامية 52 للخميني] ؟ هل يجرؤ إن كان من صفاته حقاً الرد على أهل البدع والضلالة؟ لا أظنه يجرؤ على ذلك وإلا لكان في ذلك قطع الرزق!!.
وصارت تسمع له بعض الفتاوى الشاذه. فحكم بجواز سرقة الجيران إذا كانوا نصارى. وبجواز أن يرى النبي - صلى الله عليه وسلم - في اليقظة بين الناس. وأجاز أكل الربا وصد عن دفع الزكاة، وأجاز لعب القمار والمراهنة [حتى إن النائب عن الأحباش في البرلمان ( عدنان الطرابلسي ) أعطى صوته لمشروع " تنظيم القمار " متابعة منه لفتوى شيخه ثم لما استنكر الناس منه تصديقه على هذا المشروع زعم أنه وقع عليه من غير أن يتنبه لذلك ]، وزعم أن الصحابة مقلدون، والنسبة إلى التقليد نسبة إلى الجهل كما نص عليه السيوطي وكثيرون. وزعم أنه لولا أن الله أعان الكافر على الكفر ما استطاع الكافر أن يكفر، وأن من زعم أن الله يتكلم حقيقة: يكفر. وأخذ يتفنن في إصدار فتاويه في التحايل على الله في الفقه. كما ستراه بتفصيله .
هل هو يهودي ؟!(36/7)
إنني أستبعد أن يكون الحبشي يهودياً كما أشيع عنه، وليس هناك دليلاً مباشراً لذلك إلا أنني لا أتردد بالقول بأن الخصال التي تربى عليها أتباعه – من التبجح والحقد على الآخرين وتحريضهم على كراهية المسلمين من الصحابة والعلماء وإيذاء المصلين وأئمتهم في المساجد وتعليمهم التحايل على الله – إن هذه الخصال خصال يهودية لا يحتاج المرء معها أن يكلف نفسه عناء البحث عن أصل الحبشي هل هو يهودي أم لا، فإن النتيجة أننا نراه يعلم الناس خصال اليهود .
لقد كان تبجحهم وكراهيتهم ورعونتهم علامة واضحة لعوام الناس على ضلالتهم حتى صار عامة الناس يصفون كل منتطع في الدين أو منحرف بأنه ( حبشي ) أو ( متحبش ). أو أنه ذو نزعة حبشية .
فتوى سماحة الشيخ بن باز في الحبشي
وإنني أذكر بأن سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز قد اطلع على أحوال الحبشي وفرقته ثم صدرت عنه فتوى رقم 2392/1 بتاريخ 30/10/1406هـ جاء فيها ما يلي :
" إن طائفة الأحباش طائفة ضالة، ورئيسهم المدعوا عبدالله الحبشي معروف بإنحرافه وضلاله، فالواجب مقاطعتهم وإنكار عقيدتهم الباطلة وتحذير الناس منهم ومن الإستماع لهم أو قبول ما يقولون".
مخالفون للشافعي في الاعتقاد
أما مذهبه وأتباعه في العقيدة فليس على مذهب الشافعي لما يلي :
أنهم يؤولون صفات الله بلا ضابط شرعي وبمقتضى الهوى: فأين ما دل على ذلك من عقيدة الشافعي؟ أين فسر الشافعي قوله تعالى { الرحمن على العرش استوى } بمعنى الاستيلاء على عرشه؟ وهل خاض الشافعي في شيء من التأويل الذي يجعله هؤلاء ضرورياً، ويتهمون المخالف فيه بأنه يجعل لله نداً وشبيهاً!(36/8)
أن شيخهم الحبشي زعم أن جبريل هو الذي أنشأ ألفاظ القرآن وليس الله، فالقرآن ليس عنده كلام الله أي أن جبريل عبر عما يجري في نفس الله وصاغه بألفاظ من عنده، وقد احتج لذلك بقوله تعالى { إنه لقول رسول كريم } . ( إظهار العقيدة السنية 59 ). وقد قال به علماء السوء من قبله وهو شر ما انتهت إليه وساوسهم. وتجد أتباعه يكررون هذه الكلمة ( عبارة عن كلام الله ) وتطالبهم بتفسيرها فيتحيرون ولا يستطيعون تفهيمها فضلاً عن أن يقول بأن القرآن عبارة عن كلام الله، وليس كلام الله .
أنه زعم أن الله على غالب الأشياء قدر ( إظهار العقيدة 40 ) وأثار بين الناس مسألة: هل الله قادر على نفسه أم لا؟! فهل خاض الشافعي بمثل هذه الوساوس والهرطقات؟
أنه يحث على التوجه إلى قبور الأموات والاستغاثة بهم وطلب قضاء الحوائج منهم، بل إنه أجاز التعوذ بغير الله كأن يقول المستعيذ
" أعوذ بفلان " (الدليل القويم 173 بغية الطالب 8 صريح البيان 57 و 62 ) وأن الأولياء يخرجون من قبورهم ليقضوا حوائج من يستغيث بهم ومن ثم يعودون إليها ( شريط خالد كنعان /ب/70 ) وسئل عن السجود للتمثال الذي لم يعبد هل هو كفر فقال هو كبيرة فقط ليس شركاً ( شريط الحبشي 3/640 ) ويدعوا إلى التبرك بالأحجار ( صريح البيان 58 إظهار العقيدة 244 ) فهذا الشرك يدخلونه ضمن عقائد توحيدهم: فهل يتفق هذا الشرك مع عقيدة الشافعي ؟ انظر كيف يدس هذه الشركيات باسم التوحيد .
أنه جبري منحرف في مفهوم القدر، يزعم أن الله هو الذي أعان الكافر على كفره وأنه لولا الله ما استطاع الكافر أن يكفر ( النهج السليم 67 ) وهذا قول باضطرار العبد في فعله على النحو الذي قالته الجهمية، ونرى آثار عقيدتهم في الحبشي بدليل أنه أثنى على الرازي لقوله بأن العبد " مجبور في صورة مختار " ( إظهار العقيدة السنية 196 )..(36/9)
أنه في مسألة الإيمان من المرجئة الجهمية أيضاً : الذين يؤخرون العمل عن الإيمان ( الدليل القوم 7 بغية الطالب 51 ). ويبقى هذا الرجل عنده مؤمناً وإن ترك الصلاة وغيرها من جميع الأركان. وهذا مخالف لعقيدة الشافعي الذي شدد على أن الإيمان والعمل والاعتقاد شيء واحد .
أنه يقلل من شأن التحاكم إلى الأحكام الوضعية المناقضة لكم الله، وقد وصف من لا يريدون إقامة دولة تحكم بالإسلام – وانما يريدون إقامة دولة علمانية – بأنهم ناس مسلمون ومؤمنون، بل إن مساعدتهم تجوز ( شريط 1/318 الوجه الأول ) وأن المسلم الذي لا يحكم بشرع الله وانما يتحاكم إلى الأحكام الوضعية التي تعارفها الناس فيما بينهم لكونها موافقة لأهواء الناس متداولة بين الدول أنه لا يجوز تكفيره ( بغية الطالب 305 ) وأن " من لم يحكم شرع الله في نفسه فلا يؤدي شيئاً من فرائض الله ولا يتجنب شيئاً من المحرمات، ولكنه قال ولو مرة في العمر : لا إله إلا الله : فهذا مسلم مؤمن. ويقال له أيضاً مؤمن مذنب ( الدليل القويم 9 – 10 بغية الطالب 51 ) .
أهذه كلمات تخرج من فم رجل ناصح مصلح يريد صلاح دين الناس؟ يدافع عن المتحاكمين بغير ما أنزل الله؟ لعل هذا أحد أسباب الدعم المقدم اليوم لهذه الطائفة التي صارت تنصب نفسها للدفاع عن العلمانيين الذين صاروا عندهم أقرب أقرب إلى الله من معاوية وابن تيميه والألباني وسيد قطب وسيد سابق .(36/10)
إن الإقتصار في الإيمان على مجرد النطق بالشهادتين من غير عمل هو خلاف صريح مذهب الشافعي الذي كان يشدد على أن الإيمان: قول باللسان واعتقاد بالجنان وعمل بالأركان. وأنه لا يجوز الفصل بين هذه الثلاث. كما أن التحاكم إلى الأحكام الوضعية شرك كما قال تعالى { ولا يشرك في حكمه أحداً } . غير أن الحبشي يرى أن التحاكم إلى غير شريعة الله ليس كفراً ولا شركاً، وأن الآية { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون } خاصة باليهود ( النهج السوي 16 ) أما المسلم فلا يكفر إلا إذا جحد حكم الله .
وقد حكم بتكفير سيد قطب لأنه حرم على القضاة أن يقضوا بين الناس بموجب الأحكام الوضعية المناهضة لأحكام الشريعة .
8) أنه يرجح الأحاديث الضعيفة والموضوعة ويسكت عن عللها لمجرد كونها تؤيد مذهبه بينما يحكم بضعف الكثير من الأحاديث الصحيحة من أخبار الآحاد التي لا تتناسب مع طريقة أهل الجدل والكلام. وهذا شأن أهل البدع الذين لا يتجردون للسنة. كما يظهر في كتابه المولد النبوي الذي أتى فيه بالروايات المكذوبة، وكتاب صريح البيان الذي حاز فيه على رضا الشيعة لكثرة ما تعرض فيه بالطعن لبعض الصحابة وأولهم معاوية .
9 ) أنه يغازل الروافض بتركيزه على أمور الفتن التي جرت بين الصحابة ويكثر من التحذير من تكفير ساب الصحابة والشيخين على وجه الخصوص ، وأن مذهب أهل الحق أنه لا يكفر وأنه لا يلتفت الى من خالف هذا الرأي . وهذه مسألة حدث خلاف حولها، ولكن لماذا إيراد هذا الآن وفي وقت بدأ الآخرون يجهرون بسب أبي بكر وعمر وغيرهما من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - .(36/11)
10) أنه يكثر من سب معاوية ويجعله من أهل النار، محتجاً بقوله - صلى الله عليه وسلم - ( يدعوهم { عمار } الى الجنة ويدعونه الى النار ) ويأتي بالمظلم من الروايات الطاعنة في معاوية مثل أنه أوصى ابنه يزيد وهو على فراش الموت أن يقطع عبدالله بن الزبير إرباً إرباً إذا ظفر به. وأنه كان يتاجر ببيع الأصنام الى بلاد الهند، إن موافق مثل هذه تروق للشيعة وتكسبه رضاهم .
11) أنه يعتقد أن الله خلق الكون لا لحكمه وأرسل الرسل لا لحكمه. وأن من ربط فعلا من أفعال الله بالحكمه مثل أن يقول : إن الله خلقنا لحكمة : أنه ينسب إلى الله التعليل، والتعليل نقص على الله في المذهب الأشعري لا يجوز وصفه به. و؟أن من زعم أن النار سبب الحرق والسكين سبب الذبح فهو مشرك يجعل مع الله فاعلاً آخر .
12) أنه يبيح الربا، وهو مخالف لصريح مذهب الشافعي الذي شنع على من أفتى بذلك كما في كتابه ( الأم 8/358 ).
13) وأجاز للمصلي أن يصلي بالنجاسة ولو كان من بول أو غائط الكلب ( بغية الطالب 99/100 ) معولا في ذلك على فتوى الزيات .
14) وأجاز لعب القمار مع الكفار وسلب أموال جيرانه من الكفار ( صريح البيان 133 طبعة جديدة 265 ) .
وبما أن هذه الطائفة بالتكفير ولم يسلم من أحكام الكفر عندهم إلا القليل من المسلمين خاصة من انضم اليهم فصار الحكم أقرب الى تعميم جواز مقامرة المسلمين عموماً وليس على اليهود والنصارى فحسب .(36/12)
15) أنه يخوض في علم الكلام [وهو علم يصفه الشيخ محمد الغزالي بأنه (( علم نظري بحت ينظم المقدمات ويستخلص النتائج كما تصنع ذلك الآلات الحاسبة في عصرنا هذا أو الموازين التي تضبط أثقال الأجسام ثم تسجل الرقم وتقذف به للطالبين ))] الذي شنع الشافعي على المشتغلين به وبالتحديد على حفص الفرد إمام علم الكلام آنذاك والذي كان معاصراً له، فالحبشي في خوضه بموروثات الفلاسفة أقرب الى حفص الفرد الذي كان معاصراً للشافعي والذي حط عليه الشافعي ورماه بالزندقة وحذر منه لأنه كان يتعاطى علم الكلام وتأويل الصفات .
وهؤلاء يتعاطون علم الكلام ويتأولون علم الصفات، يكملون بذلك مسيرة حفص الفرد تحت غطاء مذهب الشافعي، بينما حكمهم عند الشافعي كحكم حفص الفرد عنده .
ولقد شهد الرفاعي على مؤولة الصفات الالهية بأنهم ( معطلة ) إذ قال للربيع " لا تشتغل بالكلام فإني أطلعت من أهل الكلام على التعطيل " ( سير أعلام النبلاء 10/28 ) وقال " حكمي في أهل الكلام أن يضربوا بالجريد ويحملوا على الإبل ويطاف بهم في العشائر والقبائل وينادى عليهم : هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة وأقبل على الكلام " ( سير أعلام النبلاء 10/29 صون المنطق 65 الحلية 9/116 مناقب الشافعي 1/462 ) وتواتر عنه ذمه لأهل الجدل والكلام. بل قد وصفهم أبو حنيفة بما لا يليق بهم، وهو أنهم " قاسية قلوبهم غليظة أفئدتهم لا يبالون مخافة الكتاب والسنة، وليس عندهم ورع ولا تقوى " ( سير أعلام النبلاء 6/399 مفتاح دار السعادة 2/136 ) .
ومن علامات انعدام التقوى عندهم: أننا نجد شيخهم يستعمل ألفاظاً نابية عن حق الله، زعم أن غرضه من ذلك تحذير الناس منها كقوله " ومن الكفر أن يقول الرجل : يا (ز… ) الله، وحياة شوارب الله، أخت ربك، حل عني أنت وربك" ( النهج السليم 57 الدليل القويم 145 بغية الطالب 41 ) .(36/13)
وبما أن أول الواجب عند المتكلمين ( النظر ) فقد غفلوا دور الفطرة والبداهة وأن هذا النفي التفصيلي معروف لدى بدائه العقول وليس من اللائق التحذير منه. ثم جعلوا للعقل قدسية تبرر عندهم تقديمه على نصوص الكتاب والسنة. فتجدهم يقولون : الأدلة العقلية … ثم الأدلة النقلية .
وهو يسمي علم الكلام ( علم الكلام السني ) زعم أنه شيء آخر غير علم الكلام الذي ذمه الشافعي وأحمد وأبو حنيفة ومالك. خداعاً للناس واستدراجاً لهم ليقبلوا علم الكلام من جديد بعد أن حذر منه الأئمة غاية التحذير وعابوا المشتغلين به. وهو إنما يفعل ذلك ليقول للناس : لا تظنوا أن الأئمة حذروا من هذا الجدل الذي أتيتكم به والذي هو جدل (( سني )) وإنما أرادوا شيئاً آخر. غير أن علم الكلام والجدل اليوناني لا علاقة له بالسنة لا من قريب ولا من بعيد. وقد ذمه الأمة حتى إن أبا حامد الغزالي كتب قبل موته بأسبوعين رسالة في التحذير منه بعنوان " إلجام العوام عن علم الكلام " ولقد أثاره السلبية على المسلمين في لبنان، فانقلبت السنة بدعة والبدعة سنة، وتفرق أمر المسلمين .
موقف الحبشي من الأئمة والعلماء
الحبشي يطعن ويلعن عدداً من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لاسيما معاوية الذي يلعنه أتباعه من على منابرهم ( اظهار العقيدة السنية 182 ) تجملاً الى الباطنية وتقرباً الى الروافض الذين بني مذهبهم على سب الصحابة .
وهذا مخالف لمذهب الشافعي الذي كان اذا سئل عما جرى بين الصحابة قال " تلك فتنة قد طهر الله منها أيدينا، أفلا نطهر منها ألسنتنا " (مناقب الشافعي للرازي 1/449 ) .
بل هو مخالف لمذهب الأشعري الذي روى الحافظ ابن عساكر عنه أنه كان يرتضى عن معاوية وسائر الصحابة ( تبيين كذب المفتري 151 ).(36/14)
وكان الغزالي يعظم معاوية ويرتضى عنه ويذكر أنه اجتهد فأخطأ ( إحياء علوم الدين 1/115 ) ولم يقل فسق وارتكب كبيرة من الكبائر كما زعم الحبشي المتشيع ( صريح اليان 96 ) ؟
فهو لم يوافق الشافعي ولا أبا الحسين الأشعري ولا الغزالي في موفقهم من معاوية مع أنه يتستر بالانتماء الى مذهب الشافعي والأشعري. كما زعم أتباعه .
وهو لا يتورع عن تلفيق الأكاذيب في حق المخالفين والافتراء عليهم كقوله عن ابن تيمية أنه يعتقد :
أنه لا مانع أن يكون نوع الخلق غير مخلوق لله .
وانه يقول بقدم العالم، ويحرف القرآن ( شريط13/أ/94 ) .
وأنه يكفر المتوسلين بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ولعله يقصد لا متوسلين : المستغيثين بالنبي - صلى الله عليه وسلم - من دون الله. وهناك فرق بين التوسل وبين الاستغاثة بغير الله لكن المغرضين يخلطون بين الأمرين تلبيساً على عامة الناس ليستدرجوهم بخطوة التوسل الى الإستغاثة بغير الله .
وزعم أن ابن تيمية حكم بكفر المخالفين له في مسألة الطلاق ( المقالات السنية 57 و 62 و 75 ). وهذا ما قال ابن تيمية بعكسه حيث ذكر أن المخالفين له في أمر الطلاق مجتهدون معذورون مأجورون عند الله ( مجموع الفتاوى 33 / 149 ) .
وزعم أنه يعتقد أن الله شبيه بخلقه ( المقالات السنية 24 و 26 و 15 ) مع أن ابن تيمية يحكم بكفر من يشبه الله بخلقه ( مجموع الفتاوى ( 11 / 482 ) .
وزعم أن ابن تيمية يعتقد أن الله ترك مكاناً من عرشه ليجلس عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - ( اضهار العقيدة السنية 151 ). فهذه أكاذيب نطالبه بالدليل عليها من كتب شيخ الإسلام .(36/15)
وليس من مجلس يجلسه الا ويجعل لأبن تيمية فيه نصيباً من التكفير والتشنيع والتحذير لا سيما من كتبه، حتى إنه يجعل تكفيره من أول الواجبات على المكلف، ولعلك تتسائل: لمصلحة من يجري ملاحقة ابن تيمية وتكفيره : الأمر مكشوف، ومن وراء ذلك التحذير: جهات لا تريد لفكر ابن تيمية الاصلاحي السلفي أن ينتشر، هذا الفكر الذي يحرر الناس من العبودية الفكرية والتقليد الأعمى والبدع والشركيات التي ينشرها الحبشي باسم التوحيد ويبقيهم عبيداً لحفنة من المتسلطين الذين يسلطون على عوام الناس مشايخ السوء لتخديرهم ومدح العلمانيين أمامهم .
وكما يطعن في ابن تيمية فإنه يطعن في غيره من أئمة الحديث: فلا مانع عنده أن يوصف الامام المحدث الذهبي بأنه خبيث. قال " وإذا قيل عنه خبيث فهو في محله ". ومحمد بن عبدالوهاب مجرم قاتل وكافر ( مجلة منار الهدى عدد 3 ص 34 ) وزعم انه كان يعرض بالنبوة ويقتل كل من يصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم -. وأن سيد سابق مجوسي كافر وإن زعم أنه مسلم ( شريط 1 / أ / 181 )، وسيد قطب من كبار الخوارج الكفرة وكان صحفياً ماركسياً ( النهج السوي في الرد على سيد قطب وتابعه فيصل مولولي ص3 ).
بينما يدافع عن ابن عربي الذي شهدت كتبه بكفر لم يقل بمثله اليهود ولا النصارى. والذي شهد الحافظ ابن حجر وابن عبد السلام وابو حيان النحوي ( لسان الميزان 2 / 384 تفسير البحر المحيط 3 / 449 ) بضلالة وزندقة وتصريحه بوحدة الوجود والذي مسخ نصوص الكتاب والسنة بتأويلاته الفلسفية الباطنية القرمطية .(36/16)
ويدافع عن القاضي النيهاني الذي كان يقضي بين الناس بأحكام القانون الفرنسي ومع ذلك كان يتظاهر بمحبة النبي - صلى الله عليه وسلم - ويتغنى بذكر الأولياء والكرامات، والذي صنف كتاباً اسمه ( جامع كرامات الأولياء ) وإن من تخريفاته ما نراه في كتابه المذكور ( 2/208 ) من انحرافات لا توجد عند النصارى: مثل قصة الشيخ علي العمري الذي من كراماته أنه يخرج ذكره بيديه بحيث يضعه على كتفه ويضرب به الناس ، ويثني الحبشي على عبد الغني النابلسي المتحمس لعقيدة ابن عربي وابن الفارض في وحدة الوجود والذي كان يصرح بأن هناك عدة عوالم في كل منها محمد مثل محمدكم وإبراهيم مثل إبراهيمكم وعيسى مثل عيسكم (أسرار الشريعة 82-83).
وتقابل هذه الشدة على أهل السنة ثناء على الباطنين ودفاع مستميت عن الذي يحكمون بغير ما أنزل الله، وتجسس على المسمين لصالح أعدائهم، يتجسسون عليهم وهم في المساجد، كما صار ذلك ثابتاً عنهم بالتواتر. بل صاروا يجهرون به، فلذلك استحقوا هذا الوصف الجامع اللائق بهم أنهم "أذلة على الكافرين، أعزة على المؤمنين".
طائفة منافقة تتزلف للطواغيت، وتتطاول بهم على المؤمنين. تماماً كما فعلت المعتزلة أيام المأمون حين تقرّبوا منه ونالوا به من العلماء وسلطوه عليهم قتلاً وإيذاءً حتى انقلب السحر على الساحر فجأة، فانقلب عزهم ذلاً حين تغيّر الحاكم، وإننا لنرجو أن ينقلب سحر هذه الطائفة عليها بإذن الله، نرجو أن يأتي اليوم الذي يسقطون فيه كما سقط المعتزلة من قبلهم حين تولوا الظلمة واستخدموهم لغير صالح المسلمين. وتماماً كما كان موقف الرفاعية المخزي من التتار حين تولوهم. أفاده الذهبي وابن كثير وبدر الدين العيني (عقد الجمان 4/473 والعبر للذهبي 3/75 البداية والنهاية لابن كثير 14/38).
يعود بنا إلى مذهب المعتزلة
ونعود لنؤكد ثانية أن مذهب الشافعي لم يكن يجيز إعمال التأويلات في صفات الله.(36/17)
ومع أننا نتفق والحبشي على ضلالة فرقة المعتزلة التي تزعمت التأويل في صفات الله وصارت قدوة المتأولين ولها الفضل عليهم، إذ لولا المعتزلة لما عرف الأشاعرة هذه التأويلات، إلا أن الحبشي يتناقض حين نراه يقتبس من مذهبهم بعض الضلالات ويدسها بين المسلمين تحت شعار أهل السنة. وإليكم نموذجاً من ذلك:
فقد تأول الحبشي قوله تعالى {الرحمن على العرش استوى} وزعم أن الاستواء معناه الاستيلاء (إظهار العقيدة السنية 131) وهو تأويل اعتزالي محض. يؤكده قول الأشعري نفسه "وقالت المعتزلة يعني استولى ( مقالات الإسلاميين 157 و211 تبيين كذب المفتري لابن عساكر 150 رسائل العدل والتوحيد لمجموعة من المعتزلة 1/216 شرح الأصول الخمسة 226 متشابه القرآن 72 للقاضي عبد الجبار).
وقال الأشعري في رسالته إلى أهل الثغر "وليس استواء الله استيلاءً كما قال أهل القدر" ص 233 – 234 تحقيق الجنيدي). وأهل القدر هم المعتزلة.
وقال أبو منصور البغدادي "زعمت المعتزلة أن استوى بمعنى استولى" مستدلين بقول الشاعر:
قد استوى بشر على العراق من غير سيف ولا دم مهراق
قال "وهذا تأويل باطل" (أصول الدين 112) وروى الحافظ عن ابن بطال قوله "فأما قول المعتزلة فهو قول فاسد" (فتح الباري 13/405-406). فلم يزل الحبشي يصرّ على أن تأويل صفات الله هو مذهب أهل السنة وإنما هو مخلفات الجهمية والمعتزلة.
فكيف يزعم الحبشي بعد هذا أن المعتزلة وافقت أهل السنة في تأويل الاستواء بالاستيلاء [إظهار العقيدة السنية 131] هل هذا إلا التدليس والتضليل !!
الأشعري يتخلى عن مذهب التأويل
وكان أبو الحسن الأشعري رحمه الله من المعتزلة الذين تميز مذهبهم بتأويل الصفات، غير أنه رجع عن ذلك إلى إثبات جميع ما وصف الله به نفسه، وأعلن أن مذهب أهل السنة والجماعة:(36/18)
عدم التأويل وأنهم "يثبتون لله اليدين والعينين" [وقوله: والعينين يؤكد أنه لا يتأول هذه الصفة لأن الذي يتأولها لا يثنيها وإنما يجعلها كناية عن الرؤية] والوجه والاستواء ولا يتأولون ذلك" [مقالات الإسلاميين 291]. إلى أن قال:
"وبكل ما ذكرنا من قولهم نقول وإليه نذهب" [مقالات الإسلاميين 291]. ويؤمنون أن الله نورٌ كما قال تعالى {الله نور السماوات والأرض} [مقالات الإسلاميين 211]. ونقل الحافظ ابن عساكر عنه هذا القول [تبيين كذب المفتري 150].
وقد سرد الذهبي عقيدة الأشعري الموافقة لأهل السنة وخروجه عن التأويل الذي كان عليه المعتزلة [سير أعلام النبلاء 18: 284].
مذهب أبي حنيفة من التأويل
وقال أبو حنيفة "ولا يقال إن يد الله قدرته أو نعمته لأن هذا إبطال للصفة، ولكن يقال يده صفته بلا كيف" [الدليل القويم 49 الإرشاد 161 مشكل الحديث 472 الغنية 78 شرح النسفية 70 الباجوري على الجوهرة 93].
وقول أبي حنيفة (ولا يقال يده قدرته لأن هذا إبطال للصفة). حجة ودليل على أنه لا يصح تأويل الصفات ويقاس عليه غيره، فلا يقال 0رجله) أي رجل من جراد، ولا يقال (نزوله) نزول أمره ولا يقال (استوى) أي استولى لأن هذا إبطال للصفة. وقوله حجة يصح بها وصف مؤولة الصفات بأنهم "نفاة الصفات".
مذهب الشافعي من التأويل
أما الشافعي فكان يعتبر التأويل تعطيلاً، وكان مذهبه ترك التأويل وإثبات صفات الله إذ قال: "إني قد اطّلعتُ من أهل الكلام على التعطيل" [سير أعلام النبلاء 10/28].(36/19)
وقال [كما في سير أعلام النبلاء 10/80] "لله أسماءٌ وصفاتٌ جاء بها كتابُه، وأخبر بها نبيه - صلى الله عليه وسلم - أمّته لا يسع أحداً ردّها. فمن خالف في ذلك بعد ثبوت الحجة عليه فهو كافر، فأما قبل ثبوت الحجة فمعذورٌ بالجهل، لأن عِلْمَ ذلك لا يُدرَك بالعقل، ونثبت هذه الصفات وننفي عنها التشبيه، كما نفاه عن نفسه فقال {ليس كمثله شيء} وقال "السنّة التي أنا عليها ورأيت أصحابنا أهل الحديث الذين رأيتهم عليها فأحلف عنهم مثل سفيان ومالك وغيرهما: الإقرار بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وأن الله على عرشه في سمائه، يقرب من خلقه كيف يشاء، وأن الله ينزل إلى سماء الدنيا كيف يشاء [عون المعبود 13/41 و47 وساقه ابن أبي يعلى في طبقات الحنابلة بإسناده المتصل إلى الشافعي 1/283].
مذهب عبد القادر الجيلاني في الصفات
مثاله قول الشيخ عبد القادر أن لله "يقبض ويبسط ويفرح ويحب ويكره ويبغض ويرضى ويغضب ويسخط وله يدان وكلتا يديه يمين ون قلوب العباد بين أصبعين من أصابعه، وأنه بجهة العلو مستو، على العرش محتو، وأن النبي شهد بإسلام الجارية لما سألها: أي الله؟ فأشارت إلى السماء، وأن عرش الرحمن فوق الماء، والله تعالى على العرش ودونه سبعون ألف حجاب من نور وظلمة، وأن للعرض حد يعلمه الله.
وأنه ينبغي إطلاق صفة الاستواء من غير تأويل وأنه استواء الذات على العرش لا على معنى القعود والمماسة كما قالت المجسمة والكرامية ولا على معنى العلو والرفعة كما قالت الأشعرية ولا على معنى الاستيلاء كما قالت المعتزلة [وهو قول الأشعرية اليوم] وأنه ينزل في كل ليلة إلى السماء الدنيا كيف شاء لا بمعنى نزول الرحمة وثوابه على ما ادعت المعتزلة والأشعرية" [الغنيمة 54 و 56 و 57].
الشافعي بريء من فتاوى الحبشي(36/20)
الحبشي يجيز التحايل في الدين وهو تحايل على صاحب الدين، وفتاويه في ذلك كثيرة وهي بين أيدينا مثل فتواه بتحريم شراء الكتب المخالفة للشرع غير أنه أباح امتلاكها بطريق الحيلة كأن يعطي المشتري صاحب الكتاب هدية مالية فيمنحه صاحب الكتاب الكتاب هدية أيضاً (الدر المفيد 136) وكذلك مسألة (السبيرتو) (بغية الطالب 257) وفتواه في (الثوم والبصل) وفي تحويل الأموال المسروقة لتصير بالحيلة إلى مال حلال سائغ. فأين هذا من مذهب الشافعي؟ متى كان الشافعي يجيز إعمال الحيل على الله؟
يزعم أن النظرة الأولى للمرأة لا تحرم وإن دامت وطالت لا شيء فيها (بغية الطالب 224 و287) وأنه يجوز للمرأة أن تخرج من بيتها متى شاءت بغير رضا زوجها إذا كان لتعلم الدين قائلاً "تخرج بغير رضاه" (بغية الطالب 202) ويجيز لها أن تخرج متعطرة وتتزين للناظرين (صريح البيان 186 طبعة جديدة رقم 350)) إن كانت تفعل ذلك لمجرد الفرح بنفسها "بشبابها"! (بغية الطالب 351).
وأجاز الاختلاط بها (صريح البيان 178 ط: جديدة 329) وأن يكلمها الرجل الغريب ولو من غير حاجة إلى شيء (صريح البيان 191 ط: جديدة 356).
فما هو الكلام الذي يكلمها إياه ولو من غير حاجة؟! وأن يصافحها إن كان بحائل (144).(36/21)
أثار في أمريكا وكندا وأوروبا فتنة تغيري اتجاه القبلة حتى صارت لهم مساجدهم الخاصة حيث حرّفوا جهة القبلة 90 درجة وصاروا يتوجهون في صلاتهم إلى عكس الجهة التي يصلي إليها المصلون في أوروبا وأمريكا وكندا، ولم يقتنعوا أولاً بأن الأرض كروية بل أصروا على أنها مسطحة (مثلما ظنها بابا الكنيسة من قبل) ثم اعتبروها نصف كروية على شكل نصف برتقالة، وفي لبنان يضايقون المصلين بانحرافهم إلى جهة الشمال قليلاً أثناء صلوات الجماعة. لأن اتجاه القبلة منحرف حتى في لبنان، فلكثرة تعصبهم لشيخهم صار في نظرهم هو الفلكي الأوحد. إنهم لا يرضون مناقشة أقواله، وهم وإن لم يصرحوا بعصمته بلسان مقالهم: فإن لسان حالهم يؤكد أنهم يرون عصمته من كل خطأ وزلل. ويصرون على ضرورة أن يُسمعوا أنفسهم القراءة في الصلاة لكنهم يُسمعونها غيرهم حتى إن الشيطان ليستعملهم في إشغال المصلين في الصلاة.
الأحباش يتعاطون السحر، وقد اشتكى رجل من زوجته (الحبشية) التي تنتابها وساوس شتى حتى صارت لا تستطيع الدخول بسهولة في الصلاة، واعترفت لزوجها بأن الأحباش أعطوها حبوباً يسمونها "حبوب العهد" ويكفي تناول شيء من هذه الحبوب أو تناول "فنجان قهوة ملغوم" ليصير شاربه موسوساً فيهم، مهووساً بشيخهم. ويوزعون بعض أوراق السحر وعندي أنموذجاً منها.
وزعم شيخهم أنه يمتلك خاتم النبي - صلى الله عليه وسلم - . وهو يظهره للعامة فينكبون عليه لتقبيله.(36/22)
ولقد هددني أحد أتباعه بأن سيصيبني مكروه قريباً إن مضيت في التصدي لطريقتهم لأنهم أهل كرامات، وأنا لا أزال أقرأ أذكاري وأورادي وأسأل الله تعالى أن يكفنيهم بما شاء {وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ} وهذه الآية ردّ على قول أسامة السيد "لو كنا نتعاطى السحر لكان المُنكِر علينا أول المتأثرين بسحرنا" ولكن كم من سحر أبطله الله الذي يصيب به من يشاء ويصرفه عمن يشاء. فمناعة الدعاة (إلى السنة) من سحركم كرامة لهم لأنهم يحاربون البدع وأهل الخرافة الذين يفعلون ما يفعله الهندوس والبوذية من ضرب الشيش والدخول في النيران. كما ترون في الصفحة المقابلة، فإن فيه صوراً للبوذيين وهم يفعلون ما يفعله الرفاعيون من ضرب الشيش وإدخال أسياخ الحديد في الفم. فإما أن يكون البوذيون أولياء مثل الرفاعية وإما أن يكونوا في الدجل والتعاون مع الشياطين سواء بسواء "وهو الصحيح".
الأحباش يحيون البدع ويميتون السنن، يغنون ويرقصون لله في مجالس مختلطة: تكون النساء فيها كاسيات عاريات، ومع ذلك يزعمون أن الله آتاهم الكرامة فيدخلون في النار ويضربون أنفسهم بالرصاص ولا يؤثر ذلك فيهم {وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى}. ولكن كيف يؤتي الله الكرامة من كل هذا حاله من البدع والاحتيال على الرب وموالاة الكافرين !!.
ولست أدري إن كانوا أصحاب كرامات فلماذا لا يواجهون بها اليهود، إذا كان الرصاص لا يؤثر فيهم فلينزلوا إلى ساحات الجهاد، ما فائدة كراماتهم إن لم يوظّفوها للدفاع عن ا لدين؟! وهل عند اليهود إلا النار والرصاص؟!(36/23)
الأحباش لا يصلون وراء الأئمة في المساجد وينتظرون فراغ صلاة الجماعة حتى يقيموا جماعة أخرى. ومعلوم أنه لا يجوز صلاة النافلة إذا أقيمت صلاة الفريضة، وقد وجد النبي - صلى الله عليه وسلم - رجلين جالسين في المسجد فسألهما عن سبب عدم انضمامهما مع الجماعة في الصلاة فأخبراه أنهما قد صلياها، ومع ذلك أمرهما أن يشاركا الصلاة مع المسلمين فتكون لهما نافلة. وذلك حتى لا يحدث أن انشقاق في المسجد وهؤلاء ينشقون عن جماعة المصلين ويشوشون على الخطباء ويقاطعونهم حتى أثناء خطب الجمعة كما فعلوا ذلك مع المفتي حسن خالد نفسه وكفّروه وهو يخطب الجمعة على المنبر.
بل يضربون أئمة المساجد ويتطاولون عليهم. ويرغمونهم قسراً على أن يسمحوا لهم بإلقاء الدروس في المسجد وإذا رفضوا يطردونهم منه، وإذا أعطى درساً تتعالى أصواتهم عمداً حتى لا يتمكن من إعطاء الدرس. لقد أطلقوا النار في المساجد وسبوا وشتموا الناس وآذوا عباد حتى نفّروا الناس من المجيء لأداء صلوات الجماعة.
وهذا ما جعل مجلة الشراع اللبنانية تسلط الضوء على هذا الموضوع وتكتب في عددها رقم (574) تقريراً بعنوان ((الصراع على المساجد في لبنان)) تذكر فيه عدة حوادث قام بها الأحباش في المساجد استخدموا فيها الضرب باليد والطعن بالسكاكين بل وإطلاق النار في بعض الأحيان. مما أدى إلى إرهاب المصلين بل وإلى إغلاق بعض المساجد.
فأخبرونا أيها المتسترون بمذهب الشافعي: أكان هذا المسلك طريقة الشافعي؟ ونتساءل عن سبب السكوت المتعمد عن هذه المخالفات والشغب الذي يتكرر يومياً في طول البلاد وعرضها وإلى متى يستمر هذا السكوت والتستر عليهم والتحيز لهم من قبل سلطات الأمن؟!(36/24)
الأحباش يستخدمون عصا غير المسلمين ويلوّحون بها على المسلمين، وهي خيانة عظيمة يتحاشي الكثيرون التحدث عنها. لقد صاروا بهذا أعزة على المؤمنين أذلة على الكافرين، ولعلنا لا ننسى أنهم رفاعيو الطريقة وقد كتب التاريخ خيانة أسلافهم من الرفاعيين حين كانوا يترددون على سلاطين التتار ويوالونهم. ويأخذون منهم الأعطيات والهدايا كما نص على ذلك الحافظ ابن كثير وحكاه الذهبي وابن تيمية. والتاريخ اليوم يكرر نفسه.
للأحباش فرقة كبيرة يرأسها المايسترو (شماعة) على نسق المايسترو James Last يتقربون إلى الله بالدف والرقص الذي يجتمع عليه المتبرجات من النساء المختلطات بالرجال. يصفقن للإيقاعات الموسيقية "الإسلامية" وهذا مسجل لهم في أشرطة الفيديو، ولكن ثمة أمر آخر؛ وهو أنه صارت هذه الفرقة وسيلة للتقرب من الحكّام أيضاً وليس إلى الله، إنهم يغنّون وينشدون لهم، فهل أنشئت هذه الفرقة الموسيقية للتقرب إلى الله أم للتقرب من الحاكمين بغير ما أنزل الله؟! ومتى كان هذا مذهب الشافعي؟ إننا لم نستفد شيئاً من هذه الحركات المخالفة لهدى السلف سوى أن صرنا بطبولنا ودفوفنا ورقصاتنا أضحوكة لأعداء المسلمين.
الحبشي يدعو إلى تصرف يقسّم مصادر المسلمين إلى حقيقة وشريعة وظاهر وباطن ويدّعي أخذ العلوم عن الله بما يسمونه "العلم اللدني" والاجتماع بالخضر وبأرواح المشايخ وأخذ البيعة والعهد عنهم وهم في قبورهم، واعتقاد أنهم متصرفون في الأكوان بحسب مراتبهم منهم القطب والوتد والنجب والبدل الذين يمسكون الأرض أن تزول أن تقع، وأنهم يعلمون الغيوب والأسرار ويكاشفون الناس بما يفعلون سراً وعلانية. فمتى كان الشافعي يوافق هذه الانحرافات الخطيرة التي أودت بنا إلى غضب الله وإلى تسليط الكفار علينا. وهو وأتباعه يعملون على نشر الطريقة الرفاعية وما فيها من طقوس شيعية شركية بدعية وتقديس للرفاعي.(36/25)
ولا ننسى أن الرفاعيين يؤمنون بإمامة الإثني عشر إماماً على النحو الذي تعتقده الشيعة. ويعتقدون أن الإمام صاحب الرقم (12) هو المهدي محمد بن الحسن العسكري المختبئ في السرداب بمدينة سامراء، وأن الأئمة الإثني عشر ازدادوا بشيخهم الرفاعي واحداً حتى صاروا (13) (القواعد المرعية 97 بوارق الحقائق 212 جامع كرامات الأولياء 1/237) ويؤمنون بكتاب الجفر الشيعي كما صرح به الرواس الرفاعي في بوارق الحقائق 78و177).
ويعتقدون أن شيخهم يبيع عقارات وقصور في الجنة (قلادة الجواهر 70 روض الرياحين 440 جامع كرامات الأولياء 1/296 الكواكب الدرية 214).
وأنه يحيي العظام وهي رميم (قلادة الجواهر 73 و145 طبقات الأولياء لابن الملقن 99). وأن السماوات والأرضين كالخلخال في رجله (طبقات الشعراني 1/142 الفجر المنير 19). وأنه يحمي أتباعه إلى يوم القيامة في حياتهم وبعد مماتهم ويُدخلهم الجنة أمامه (قلادة الجواره 233). وأنه يطّلع على المقدور والمكتوب فيغير الشقي سعيداً (قلادة الجواهر 103 و193 طبقات الأولياء 98).
وأنه غوث الخلائق كلهم، تستغيث به حتى النعجة التي يفترسها الذئب وتنادي بلسان فصيح "يا سيدي أحمد".
ولكثرة رواج الخرافات بين الصوفية بشكل عام قال الشافعي "لو أن رجلاً تصوف أول النهار، لا يأتي الظهر حتى يصير أحمق، وما لزم أحد الصوفية أربعين يوماً فعاد إليه عقله أبداً" (تلبيس إبليس لابن الجوزي 371) وهذه الحماقة المخالفة لما كان عليه السلف من أعظم مظاهر التشويه أمام عيون غير المسلمين. فأين هؤلاء من الشافعي؟(36/26)
متى وافق الشافعي هذه الطرق الصوفية كالرفاعية والنقشبندية الخائضة في وحدة الوجود، التي جعلت من مشايخ الطريقة آلهة يُعبّدون! يحيون الموتى وينقلون المرض من شخص لآخر ويستقطعون الأراضي في الجنة، إنها السُبُل التي تصبها أولياء الشيطان لخطفوا بها الناس عن الصراط المستقيم ولقد قال تعالى {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ}.
وصدرت للحبشي كتب عديدة منها:
المقالات السنية في كشف ضلالات ابن تيمية. حكم فيه بكفره وزيغه وخبث عقيدته. وتعمد الكذب عليه وزعم أنه كان يسب علي بن أبي طالب وأنه كان يقول بأن نبينا - صلى الله عليه وسلم - ليس له جاء وأن زيارة قبره معصية. وأن نار جهنم تفنى وأن الله بنفس حجم عرشه لا أكبر ولا أصغر. ثم ذكر في خاتمة كتابه بأن أحد الصالحين كشف عن قبر ابن تيمية فوجد ثعباناً جاثماً على صدره.
التعقب الحثيث: رد فيه على الألباني وكفره لمجرد فتوى هذا الأخير ببدعة التسبيح بالمسبحة.
النهج السوي في الرد سيد قطب وتابعه فيصل مولوي. يحكم فيه بكفر سيد قطب لقوله بأن من احتكم إلى غير شريعة الله بأنه كافر. وفيه يحكم بكفر المولوي ويرد على فتواه في النهج عن اقتناء التلفزيون وعن الاختلاط بالنساء وعن السفر إلى بلاد المشركين من غير ضرورة وعن النظر إلى المرأة الأجنبية، ثم قال الحبشي "انظروا كيف يحرّف هذا الرجل دين الله".
الدليل القويم على الصراط المستقيم جرى فيه على طريقة الجهمية والمعتزلة مع زعمه أنهم أعداؤه. ويزعم فيه أن من قال أن العرش بالرحمن أمثل ممن يقول أن الرحمن على العرش استوى. وفيه تكفير ابن تيمية. واتهامه زوراً بأنه يقول أنه لا مانع أن يكون نوع العالم مخلوقاً لغير الله. وجواز الاستغاثة بغير الله من الأموات بل جواز أن يستعيذ الإنسان بغير الله. كأن يقول القائل: أعوذ بسيدي عبد القادر.(36/27)
بغية الطالب في معرفة العلم الديني الواجب. كتبوا على غلاف الكتاب أنه من تأليف شيخهم واعترف تلميذه نبيل الشريف بأنه من تأليف عبد الله بن عيسى الحضرمي. وهذا الكتاب يشتمل على عجائب وشواذ: فيه منع الزكاة إلا من الذهب والفضة وأن من بيدهم الملايين لا زكاة عليهم. وفيه تعليم الحيل على الله في الدين وجواز أن يصلي الرجل وهو متضمخ بالغائط والبول تحت ذريعة التيسير على العباد. وتجويز خروج المرأة متعطرة متزينة ولو بغير غذن زوجها.
إظهار العقيدة السنية شرح الطحاوية. وصرح فيه بما لم يصرح به من قبل كقوله بأن القرآن عبارة جبريل لقوله تعالى {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} (إظهار العقيدة 59) وأن قوله تعالى {إِنَّ اللَّه عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} تعني أن الله على غالب الأشياء قدير (إظهار العقيدة 40) وأنه على كل شيء قدير مجازاً وليس حقيقة. وصرح بكفر من يقول بأن الله يتكلم بصوت، مع علمه بالحديث الذي في البخاري "إن الله يتكلم بصوت". وتصريح أحمد بذلك كما نقله الحافظ ابن حجر عنه. (فتح الباري 13/460).
كتاب المولد النبوي: وفيه يروي أساطير وخرافات لا يصدقها عاقل ويزعم فيه أن الملائكة ضجت واعترضت على الله لأنه أمات أبوي النبي - صلى الله عليه وسلم - وبقي يتيماً فقال الله لهم اسكتوا أيها الملائكة. وسأنقل نصوصاً من هذا الكتاب.
صريح البيان: وهو كتاب مليء بشواز الأقوال وفيه استباحة الربا من الكفار الحربيين، وفيه سب معاوية وطعن بغيره من الصحابة واحتج بأكذب الروايات عن لوط بن أبي مخنف وسعيد الضبي وغيرهم من الشيعة الكذابين الغلاة الذي حشا الطبر – عفا الله عنه- كتابه من رواياتهم.(36/28)
وحكم في معاوية ومن معه بأنهم مرتكبون للكبائر وأنه كان يتاجر بالأصنام ويبعها إلى الهند. وأورد الأدلة على جواز خروج المرأة متزينة بالحلي والمساحيق وما يحلو لها وأنه يجوز للرجل أن ينظر إليها ويختلط بها ويصافحها ويجالسها. وينهى عن تسمية مفاخذة المرأة (زنى) وما ورد بأن العين تزني فإنه إطلاق مجازي ليس على حقيقته.
أما مصنفات أتباعه فهي كالآتي:
الرسائل السبكية في الرد على ابن تيمية (طبع في عالم الكتب) جمعه ولفقه كمال الحوت باسم كال أبو المنى حين كان يعمل في عالم الكتب، وطُرِد منها بسبب تصرفه في نصوص بعض المؤلفين بشهادة الشيخ عبد الفتاح أبو غدة.
التوفيق الرباني في الرد على ابن تيمية الحراني. وهو نفس الرسائل السبكية لكنه عدل في مقدمته قليلاً.
بهجة النظر. وهو أسئلة وأجوبة فقهية.
الكتب التي ردت عليه وعلى أتباعه
وقد صدرت كتب في الرد عليه منها:
الرد على الشيخ الحبشي للشيخ عثمان الصافي؛ انتصر فيه لعقيدة السلف.
الحبشي: شذوذه وأخطاؤه: عقائده شذوذه لعبد الرحمن دمشقية.
استواء الله على العرش: أسامة القصاص رحمه الله.
الاستواء بين التنزيه والتشويه للأستاذ عوض منصور. كان له مع الأحباش مناقشات عديدة في أمريكا في مسائل العقائد.
إطلاق الأعنة في الكشف عن مخالفات الحبشي للكتاب والسنة: رسالة منسوبة إلى الشيخ الهاشمي.
رسالة في الرد على الحبشي عن موضوع إعانته لكافرين على الكفر. لعدنان ياسين النقشبندي. رد فيها على رسالة الحبشي "إعانة الكافرين على كفرهم"ز
الرد على عبد الله الحبشي لعبد الرحمن دمشقية.
بين أهل الفتنة وأهل الفتنة. لعبد الرحمن دمشقية.
شبهات أهل الفتنة وأجوبة أهل السنة. وهو صياغة جديدة وموسعة للكتاب الذي قبله.(36/29)
والذي يظهر لي أن قدوم الحبشي أمر مدبر، إنه رجل فتان ذو سوابق وخبرة في إثارة الفتن. وقد بلغني من مصادر مقربة منه أن لديه عدة جوازات سفر مما ييسر له معاودة الدخول إلى البلدة التي تمنعه من دخولها.
ولقد أثر في الناس تأثيراً بالغاً وعمل الذين (غلبوا على أمرهم) على حماية هذه الفرقة الجديدة وتقوية نفوذها وضرب كل من يتصدر لها إن بلغ تصديه الحدود المرسومة لذلك. وسرعان ما تكاثر نشاط ونفوذ أتباعه بشكل لا يصدق، فهاهم الآن يمتلكون أكبر أجهزة أبحاث ومركز للمخطوطات منها المؤسسة الثقافية للخدمات ومركز الأبحاث والخدمات وجمعية المشاريع الإسلامية للخدمات، يقوم عيه كل من كمال الحوت وعماد الدين حيدر وعبد الله البارودي، وبدأوا يحققون كتب التراث تحقيقاً جهمياً أشعرياً على نسق الكوثري تماماً. ويحيلون إلى اسم غريب لا يعرفه حتى طلبة العلم فيقولون مثلاً (قال الحافظ العبدري في دليله) يدلسون على الناس فيظنون أن هذا الحافظ من مشاهير علماء المسلمين وكبارهم كالحافظ ابن حجر العسقلاني أو النووي وإنما هو في الحقيقة شيخهم ينقلون مقاطع من كتابه الدليل القويم ويلصقونها في كتب التراث بما يؤيد مذهبهم. وكأنه صار شيخاً مسلماً لأقواله. ولعلك إذا ألقيت نظرة على كتابي (شبهات أهل الفتنة وأجوبة أهل السنة) في التعقيب على مواقفه من الحديث يؤكد لك أنه متطفل على علم الحديث مستغرق في علم الكلام وأنى لأهل الكلام أن يخدموا الحديث النبوي وقد نسفوه –بعد نصوص القرآن – بتأويلاتهم وتحريفاتهم.(36/30)
ومن بين هذه الكتب التي حققها أتباعه تحقيقاً كوثرياً جهمياً: كتاب الاعتقاد وكتاب الأسماء والصفات للبيهقي، وكذلك حققوا كتب الجويني والباقلاني وغيرها. فليحذر المسئولون من دور النشر هذه، وعليهم أن يقوموا بشيء ما قبل أن يستحوذ هؤلاء على دور النشر في لبنان ويمسخوا كتب السلف ويحرفوها كما فعل كمال الحوت حيث بلغنا أن صاحب دار عالم الكتب طرده لثبوت التحريف عليه في كتاب للشيخ عبد الفتاح أبي غدة.
ولقد انتشرت مدارسهم في بقاع لبنان وينفقون الأموال الطائلة على ذلك حتى صارت باصاتهم تملأ المدن وأبنية مدارسهم تفوق سعة المدارس الحكومية. وينفقون لذلك إنفاق من لا يخشى الفقر. وينشّئون الأطفال أول ما ينشّئونهم على (احذروا المكان والحيز لله): احذروا رجلاً كافراً اسمه ابني تيمية. وغير ذلك.
وبالجمة فإني أرى من وراء هذه الطائفة هدافاً سياسياً مدبراً. وقد تحقق أكثر ذلك: فقد كثر المتخرجون على عقيدة هذا الرجل فبرز منهم أناس جدليون على نسق أهل الكلام الأوائل أشبه ما يكونون ببشر المريسي وحفص الفرد والعلاف والقاضي عبد الجبار من المعتزلة.
وهم متهورون شديدون على أهل السنة جداً إلى حد أنهم يستفزونهم أينما ذهبوا ويهددونهم بالقتل ليل نهار.
ولا يسمحون لأحد حتى أن يحتفظ بعقيدته المخالفة لهم وإنما يعمدون إلا ملاحقته واستجوابه.
وهم يطرقون بيوت الناس ويلحقون عليهم تعلم العقيدة الحبشية ويوزعون عليهم كتب شيخهم بالمجان، ولديهم تفريغ وتخصيص مكافآت للألوف من دعاتهم بما يثير قلق المراقبين لمسيرتهم الخطيرة على الإسلام ليس على صعيد لبنان فحسب بل على صعيد العالم فقد انتشر أتباعه في العالم وأثاروا القلاقل في أوربا وأمريكا وأستراليا والسويد والدانمارك. ويتساءل الناس عن الممول الذي يغمرهم بالمال بغير حساب، وبدأوا يستميلون الناس في مدارسهم لمن ينضم إليهم ويعمل معهم.
يريدون دار الفتوى(36/31)
ويزيد الأمر خطورة أنهم يعدون أنفسهم لمنصف دار الفتوى ويهيئون له شيخهم نزار حلبي الذي أخذوا يطلقون عليه مسبقاً لقب (سماحة الشيخ) وذلك قبل أن يحظى بالمنصب الموعود. وكانوا يكتبون على جدران الطرق (لا للمفتي حسن خالد الكافر، نعم للمفتي نزار الحلبي).
فالأمر ليس مبالغة وإنما دعوة إلى تدارك شأن هؤلاء وإلا فسيتسببون في مآسي دامية لأن الشيخ طبع فيهم التهور والتعصب.
إن المسئولين بيدهم الحل لهذه المشكلة المتفاقمة، إنهم مطالبون باستقطاب أكبر عدد ممكن من الشباب اللبنانيين من أهل السنة – وأعرف منهم الكثير – ومنحهم الفرصة لطلب العلم في الجامعات الإسلامية. وأطالب المسئولين عن هذه الجامعات أن يفتحوا أبوابهم للدعاة وطلبة العلم وإلا فات الأوان وندمنا غداً فهذه الطائفة في تَنَامٍ مذهل.
وإننا نحذر أيضاً من قدوم الحبشي إلى الجزيرة العربية لأنه رجل فتان ذو سوابق وخبرة في إثارة الفتن. وقد بلغني من مصادر مقربة منه أن لديه عدة جوازات سفر مما ييسر له معاودة الدخول إلى البلدة التي تمنعه من دخولها.
أما عن دعمهم المادي فكان نزار حلبي (خليفة الحبشي) يرتاب من الشيخ محمد رجب ويذكر أن وراءه جهات تموله بدليل امتلاكه سيارة فخمة، فماذا يقول اليوم عن نفسه وقد امتلك السيارة نفسها؟ هل يجوز أن يوسّع على نفسه من الـ28 كيلو من الذهب التي تبرعت بها نساؤهم؟ (زعم)! أم أنها هدية من تلك الجهات حيث توحد مصدر الرزق لدى كلا الرجلين؟! ومن أين ورث هذه التوسعة التي هبطت عليه فجأت وقد علمنا حاله من قبل؟
تصريحات نزار الحلبي وغيره
وإليكم نموذجاً من خطاب نزار الحلبي في مهرجان الملعب البلدي ببيروت.(36/32)
أيها اللبنانيون: ما أحوج لبناننا اليوم بأزاهير هذه المناسبة الجلية: فكم عبثت بوطننا أيدي العابثين، وتوالت عليه ضربات الغاصبين والطامعين، فقطعوا أوصاله، وغيروا أحواله، وأججوا بنيران الحقد أحواله، وغرسوا بالفساد رسومه وأطلاله، وهكذا ترنح لبنان بين كيد ويد إلى أن تداركته اليد العربية الأبية الكريمة الندية يد السيد الرئيس حافظ الأسد من سوريا الشماء بعون الله رب العالمين. وبتنا بعد المخاض العسير بتنا نشهد ولادة لبنان العربي على أيدي الشرفاء من هذا الوطن.
كلمة النائب البرلماني عن الأحباش عدنان الطرابلسي
ومما قاله النائب البرلماني الحبشي الجديد "نريد أن نقول للمتوجسين والخائفين والمشككين إننا ندعو للانفتاح والتفاهم والأخلاق الفاضلة.
نحن في جمعية المشاريع الخيرية الإسلامية نخالف حزب الإخوان الهدَّام، فلسنا أصوليين بالمعنى السلبي إننا لسنا مع الأصولية السلبية هذه الأصولية المزعومة المراد منها الكرسي والزعامة والتخريب لا لهذه الأصولية التي تكفّر حكام العرب المسلمين لمجرد أنهم حكموا بالقانون من غير أن يعتقدوا أن القانون خير من القرآن".
وسقط القناع
فها هو كما تراه يردد شعارات الغربيين ضد الإسلام ويصف الإسلاميين بما يصفهم به اليهود والنصارى "الأصوليين" وذلك كما وصفهم به إسحاق رابين.
إن الأحباش يكفلون للمتحاكمين بالطاغوت غطاء دينياً بحجة أنهم بالرغم من تحاكمهم إلى الطاغوت يعتقدون أن القرآن خير منه. إن هذه موالاة صريحة ومكشوفة أظهرهم الله بها على حقيقتهم، وستكون إن شاء الله أحد أهم أسباب تخلي الناس عنهم بعد أن كانوا مخدوعين فيهم.(36/33)
إن الحكم بالطاغوت مع اعتقاد أفضلية القرآن عليه أمر لا يعلمه إلا الله، أما نحن فلا نقدر على التحقق منه لأنه أمر قلبي، وقد يحتال المتحاكمون بالطاغوت علينا بهذه الذريعة، ويخدروننا بإعلانهم أنهم مع تحاكمهم إلى الطاغوت يفضلون القرآن عليه وبالتالي يرتضي المسلمون البقاء تحت حكم الطاغوت بعد أن يخدرهم الحكام بالأفيون الحبشي. فهذا التفريق حكم أخروي إلهي وإنما هو عندنا الكفر.
ولئن كانوا يعتقدون أن الحاكم بغير ما أنزل الله لا يكفر وإنما يفسق ما دام يتقد أن ا لقرآن أفضل منه، فإننا نطالب الأحباش على الأقل أن يعلنوا على منابرهم بفسق المتحاكمين بغير ما أنزل الله. تماماً كما فعلوا في معاوية حين حكموا بفسقه من فوق منابرهم من غير اعتبار منه لشرق الصحبة، وإلا فهل يرتضي منصف أن يقال إن المتحاكمين بالقوانين الوضعية أقرب إلى الله وأحب إليه من معاوية؟!
غير أن الذي نراه هذه الأيام هو العكس فإن الأحباش لا يفسّقون الحاكمين بغير ما أنزل الله، بل يتولّونهم ويثنون عليهم، ويدافعون عنهم، ويتحصنون بحصونهم ويثنون عليهم، ويدافعون عنهم، ويتحصنون بحصونهم المنيعة. ويرشقون من خلالها المسلمين، مما يؤكد أنهم يرون المتحاكمين إلى الطاغوت خيراً من معاوية.
وبما أنهم لم يصدروا بياناً بفسقهم، ولم يكرهوا ذلك منهم، بل أثنوا عليهم: كان الحكم فيهم أنهم طائفة منافقة توالي أعداء المسلمين، قال تعالى {وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} والمرء يُحشر يوم القيامة مع من أحب. وهذا يؤكد ما قلته من أن السمة الواضحة في هذه الفرقة أنهم "أذلة على الكافرين: أعزة على المؤمنين".(36/34)
ولقد بلغني أن مرشحهم الآخر "طه ناجي" كان يتنقل بين مدن شمال لبنان النصرانية: إهدن وبشري وزغرتا، وكان يعد إخوانه الذين كفروا ن أهل الكتاب (النصارى) بالقضاء على الأصولية الإسلامية ويحثهم على إعطائه أصواتهم ومنحه ثقتهم حتى كسب بهم ما يزيد على 17000 صوتاً لكنه مع ذلك لم يُكتب له النجاح. وهذا يؤكد ما قلته من أن السمة الواضحة في هذه الفرقة أنهم "أذلة على الكافرين: أعزة على المؤمنين".
فتنة اليوم دليل على فتنة كُلُب الأمس
فهذا الود والتقارب – مع ما سنطلعك عليه من تكريم للكفار وكثرة دعواتهم – وهذا التنسيق الغير عادي بين جمعية إسلامية التوجه وبين النصارى وغيرهم من الملل إلى درجة تبادل الأصوات بينهم مع عدم تسامح هذه ا لجمعية أو تنازلها أو تقاربها مع كثير من المسلمين لأعظم دليل على صدق ما تحدثنا عنه حول "فتنة كُلُب" هذا الماضي الخياني لشيخهم الذي كان يتآمر مع الكفار ضد الجمعيات الإسلامية. هذا الماضي الخياني العريق الذي عرف أعداء المسلمين كيف يستغلونه غاية الاستغلال.
لا مجال للتنصل من فتنة بالأمس نراها تتكرر اليوم.
نماذج من تكريم الكفار
ونذكر مجموعة من الاحتفالات التي أقامتها هذه الجمعية باعتراف مجلتهم:
أقامت جمعية المشاريع [منار الهدى (!) عدد 4 السنة 1993 ص 37-38]حفلة في قصر فرساي حضره أغوب جوخارديان ووزير الثقافة ميشال ادة الذي ألقى كلمة قال فيها "إن بث الخير بين الناس والعمل بتقوى الله، وأداء الواجب وتجنب المحرمات هي قيم ترسخها جمعية المشاريع" وأضاف إده "دور جمعية المشاريع ليس في بناء الإنسان فحسب، بل في إبراز الدور الطليعي للثقافة العربية ماضياً وحاضراً ومستقبلاً".(36/35)
وقال ميشال اده "والله أنا أعرف جمعية المشاريع جيداً وأتابعكم منذ زمان ورغم أن هناك جمعيات كثيرة لكن أنتم نشيطون جداً وأنا أسمع عن سماحة الشيخ نزار حلبي وهو رجل محترم جداً والله يوفقه" [منار الهدى (!) عدد 5 ص33]. وقال خاتشيك بابيكيان "إذا كانت الجمعية حققت ما حققت فيكون الفضل دائماً للرئيس، فهنيئاً للشيخ نزار حلبي بما عمل وما يبذل في سبيل لبنان وشعبه" [منار الهدى (!) عدد 5 ص33]. وقال النائب بيار حلو "إن الدور الذي تضطلع به جمعية المشاريع الخيرية الإسلامية هو دور أساسي" [منار الهدى (!) عدد 5 ص33].
وأنا أسأل ما هو الدور الأساسي الذي تضطلع به هذه الجمعية في نظر نصراني لا يمت إلى الإسلام بصلة! وما سبب إعجابه بهذا النشاط؟!
لا شك أن الأحباش لن تجمعهم بالنصارى وحدة الدين وإنما تجمعهم راية العروبة ولبنان العربي وهو ما يريد العلمانيون به أن يكون بديلاً عن الإسلام. لأن النصارى والمسلمين لن يجتمعوا وين يلتقوا على شعار الدين وإنما سيتفرقون بسببه. فلا حل إلا بشعارات العروبة العلمانية. وشعار ((وحدة المصير العربي)) ولذا فلا وصف أصدق في جمعية المشاريع إلا هذا الوصف ((جمعية أنصار العلمانية)).
وفي السنة 1994 أقامت الجمعية احتفالاً مماثلاً [منار الهدى (!) عدد 17 ص 41] دُعي فيه عدد من الشخصيات السياسية النصرانية برعاية ميشال إده وزير الثقافة اللبناني وألقى كلمة في الحفل قال فيها "تطيب لي مشاركتكم في هذا الاحتفال الذي تقيمه جمعية المشاريع الإسلامية . . . وأتمنى لها المزيد من التقدم على طريق تعزيز الحوار والتفاعل مع كل شبابنا اللبناني".(36/36)
وقام مندوب جمعية المشاريع في البقاع أسامة السيد بزيارة إلى إيلي فرزلي نائب مجلس النواب بهدف تمتين الجبهة الداخلية وتوحيد الجهود [منار الهدى (!) عدد 13 ص 56]. ولعلك تسأل ما هي الجبهة الداخلية التي يجتمع لتمتينها مع سياسي نصراني؟ وكذلك زار الطربلسي والحلبي نبيه بري للهدف نفسه [مجلة منار الهدى (!) عدد(10) ص6].
وفي مقابلة مع نائب الأحباش عدنان الطرابلسي اعترف بأن الأحباش قد أعطوا أصواتهم للمسيحيين أثناء انتخابات لبنان كما أن المسيحييين بادلوهم هذه المودة فأعطو 16000 صوتاً من أصواتهم لطه ناجي مرشح الأحباش في الشمال لكنه فشل في الانتخابات [مجلة الأفكار عدد 531 صفحة 13].
وبمناسبة افتتاح مدرسة الثقافة الحبشية استضافت الجمعية: جان عبيد، سليم حبيب اسطفان الدويهي نائلة معوض (زوجة زينيه معوض) وغيرهم من النصارى [منار الهدى (!) عدد 6 ص 58] ليباركوا لها عملها (الإسلامي)!.
وفي 15 حزيران 1993 أقامت جمعية المشاريع حفلة في فندق كارلتون بمناسبة مرور 132 سنة على تأسيس الشرطة برعاية وزير الداخلية بشارة مرهج (نصراني) حضرها كثير من شخصيات النصارى منهم: يوسف المعلوف نسيب لحود هاغوب جوخدريان حبيب حكيم.
وفي مناسبة افتتاح معرض جمعية المشاريع للأشغال [منار الهدى (!) عدد 6 ص 59] كانت زوجة نبيه بري (رئيس مجلس النواب – شيعي) راعية المعرض التي أشادت بجهود جمعية المشاريع. واستضيفت نساء وزوجات شخصيات نصرانية منهن: عقيلات كل من جان عبيد فايز غصن نايلة معوض.(36/37)
كما افتتحت جمعية المشاريع معرضاً آخر، وكان هذه المرة برعاية عقيلة وزير الثقافة ميشال سماحة (السيدة) غلاديميس سماحة. وكان حفلاً كبيراً قالت فيه "إني أرى بعيني ما سمعته عن أعمالكم المزدهرة في خدمة متمعنا ووطننا، أطلب من الله أن يشد أزركم ويكثر من أمثالكم في لبناننا الحبيب [منار الهدى (!) عدد 16 ص 37 وأدعو القراء إلى البحث عن هذا العدد والاطلاع على ما فيه من تزلف أهل الكفر والتودد إليهم].
وبمناسبة مرور خمسين عاماً على عيد الاستقلال أقامت الجمعية حفلاً برعاية سليمان فرنجية وزوجته ماريان فرنجية وتخلل الحفل النائب اسطفان الدويهي ومجموعة من الشخصيات النصرانية [منار الهدى (!) عدد 15 ص 35].
وحتى الإفطارات الرمضانية يستضيفون فيها النصارى وقساوستهم وكأن النصارى يصومون رمضان ففي منتجع الناعورة أقامت جمعيتهم حفل إفطار حضره المطران بندلي والمقدم سركيس تادروس ونايلة معوض. وتخلل هذا الحفل (كالعادة) تعريض وطعن بالجماعات الأخرى التي يسميها الإحباش (إرهابية متطرفة).
وفي 12 آذار 1993 أقامت الجمعية حفل إفطار أخر حضره النواب: إيلي فرزلي، نقولا فتوش جورج قصرحي جوزيف سمعان روبير غانم خليل الهراوي إيلي سكاف [منار الهدى (!) عدد 7 ص 67]. وبالطبع لم يكونوا صائمين.
وفي أقليم الخروب أقاموا حفلاً بمناسبة المولد استضافوا فيه المطران حلو والنائب انطوان كسرجيان [منار الهدى (!) عدد 12 ص 35-39].
وتعرض سمير القاضي لحادث إطلاق النار فسارع المطران الياس نجمة وجان عبيد وسليمان فرنجية ونائلة معوض وإيلي فرزلي وخليل هراوي لزيارته والاطمئنان على صحته [منار الهدى (!) عدد 2 ص59 ويلاحظ تواجد أصحاب هذه الأسماء الدائم النصرانية عند الأحباش لكل مناسبة].(36/38)
وقام نائب الأحباش مع وفد من جمعية المشاريع بزيارة وليد جنبلاط، وأبدى هذا الأخير تقديره لنشاطات جمعية المشاريع، وأثنى على جهودها ثم تبرع تبرعاً عينياً بمبلغ 35000 ألف دولار لإقامة مدرسة تابعة للأحباش [منار الهدى (!) عدد 16 ص8].
وأرسلت جمعية المشاريع وفداً تابعاً لها في مدينة استراليا إلى المطار لاستقبال رئيس مجلس النواب اللبناني نبيه بري (شيعي) ثم أعدت له حفلاً تكريمياً كبيراً في مركزها في مدينة سيدني غير أنه اعتذر عن حضور الحفل الذي أقاموه تكريماً له [منار الهدى (!) عدد 13 ص 58-59].
وأحيل إلى بعض مواقفهم المخزية في مجلتهم.
العدد (1) 31 ، 32 ، 33 ، 34 .
العدد (2) 16، 32، 33، 34، 65، 66 .
العدد (9) 7، 14، 20 ، 21 45، 46 .
العدد (11) 6 .
العدد (13) 11، 56 .
العدد (14) 6، 12، 14، 15، 35، 36، 37، 38، 39، 48.
العدد (16) 31، 36، 37، 38، 39، 40، 41، 42، 43، 44، 45.
العدد (17) 16، 17، 58 .
العدد (18) 6، 20 – 25، 36 – 42، 50 – 52، 63 .
ولكن . . . كيف صدق النصارى وغيرهم أن هذه الجماعة تتسم بالاعتدال والمرونة وقد أفتى شيخهم بجواز سرقة جاره إن كان نصرانياً أو يهودياً. فقد سئل الحبشي عن ما يلي [شريط 3 وجه ب (709)]. "يا شيخنا: السرقة في الإسلام حرام. هل يجوز لنا أن نسرق أموال الكفار. فقال الحبشي الكفار أقسام منه الحربيون ومنهم الذميون ومنهم المعاهدون. فقال السائل: مهما كان: جار بلد. قرية كفار بجانب قرية مسلمين: يذهب بعض شباب المسلمين فيسرقون من أموالهم من بقر وغيره وزرع: حلال أو حرام؟ فقال الحبشي "إن كان ذلك يسبب فتنة فلا يجوز".
أهل اعتزال لا اعتدال
ولا يزالون يصفون أنفسهم بأنهم (أهل الاعتدال) حتى زعم رئيس تحرير مجلتهم أن السر في الأحباش أنهم معتدلون حتى الموت" [مجلة منار الهدى (!) عدد 12 ص4] والمسلمون لم يروا منهم إلا التحيز والإساءة والبطش حتى الموت.(36/39)
وهكذا كان (أهل الاعتزال) يصفون أنفسهم بـ (أهل العدل) ويجعلون من (العدل) أحد أصولهم الخمسة، تلبيساً على الخلق. لكن ذلك لم يغن عنهم شيئاً، كما لم يغن عنهم لعبهم على حبل السلاطين شيئاً، مكروا فمكر الله بهم وإذا بالسلطان يتغير ثم كانت نهايتهم.
والأحباش اليوم على شبههم:
فإنهم شبيهون بهم في موقفهم من أسماء الله وصفاته كما أوضحت ذلك بالدليل. شبيهون بهم في موقفهم من علماء السنة وأهل الحديث.
شبيهون بهم في مواقفهم من السلاطين، واستغلال عصا السلطان في نشر عقائدهم الفاسدة وإيذاء المخالفين وإجبارهم على اعتناقها.
تجملوا اليوم لهم ما شئتم وأقيموا لهم موائد الإفطار كما شئتم فإن رضاهم عنكم لن يغني شيئاً، كما أنكم لا تريدون بذلك وجه الله بل في ذلك سخطه عليكم لأنكم تتزلفون إلى غير المسلمين. ولقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "من أرضى الناس بسخط الله سخط الله عليه وأسخط عليه الناس. ومن أسخط الناس برضا الله رضي الله عليه وأرضى عنه الناس". لكن العصا ستنقلب يوماً عليهم، وسينقلب السحر على الساحر إن شاء الله. قال تعالى {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ}.
دعاة إلى الإسلام أم إلى العروبة!!!
وإننا في الوقت الذين نعلم فيه سلبية هذه الفرقة الجديدة على المسيرة الإسلامية ((السنية)) في لبنان يلاحظ المراقب لهم أنهم في تصريحاتهم ومقابلاته يركزون على مادة "العروبة" والأمة العربية ولبنان العربي.
قال عدنان الطرابلسي النائب عن الأحباش في البرلمان (مجلة الشراع 7/9/1992) "لا مانع من أن يكون هناك صلح مع إسرائيل ولكن المطلوب أن يكون لنا "كشعب عربي" حقوق نطالب فيها ضمن "الإجماع العربي" وأنا بدون تحفظ مع هذا الإجماع، وأنا مع الكتلة العربية كاملة: يهمنا المصلحة العربية العامة الشاملة" (مجلة الأفكار 62/9/1992).(36/40)
وقال حسام قراقير نائب رئيس جمعية المشاريع في مقابلة أجرتها معه جريدة السفير (19/10/1992) "نحن مع الإجماع العربي" فإذا ما حصل "إجماع عربي" على إنهاء الحرب مع اليهود فنحن مع هذا الإجماع".
وقال نزار الحلبي "وصل مرشحنا الدكتور عدنان طرابلسي بالرعاية والعناية الإلهية ليرفع في البرلمان مع الأخوة الوطنيين الطيبين هوية لبنان العربي".
*فماذا وراء الدعوة إلى العروبة ومن وراءها؟ ولماذا تكلف جمعية إسلامية نفسها حمل هذه الشعارات وتمثيل أبنائها في البرلمان؟ ومن هم الإخوة الوطنيون الشرفاء من أبناء الوطن؟!
إننا لسنا ضد العروبة فنحن عرب وكتاب ربنا نزل باللغة العربية ونبيا - صلى الله عليه وسلم - عربي، غير أننا نرفض هذه الشعارات الاستهلاكية الكاذبة يرفعها حتى النصارى وغيرهم من غير المسلمين والتي ما أغنت عنا شيئاً، وإنما رُفِعَت لتكون بديلاً عن الهوية الإسلامية وشعار الإسلام. والتي يروج له ويدندن حولها أناس زعموا أن منطلقاتهم إسلامية.
فالشعب العربي مئة مليون بينهم 15 مليون نصراني، أما الأمة الإسلامية فإنها تقارب المليارين، يشكل العرب نسبة 5% منهم فقط. إنها شعارات كاذبة أشغلت المغفلين عن الاهتمام برقع شعار لا إله إلا الله. إنها حق يراد به باطل. إنهم يريدون من المسلم أن يفتخر بأي شيء، أن يتبنى أي شعار: إلا شعار الإسلام.
إنه شعار طُرح ليكون بديلاً عن شعار الإسلام. إنه شعار يجرح إخواننا المسلمين من غير العرب الذين يربطنا بهم رباط الأخوة في الدين قبل كل شيء.(36/41)
ثم لماذا هذا الحرص على ترداد شعارات الصلح مع اليهود؟ لماذا لا يحرصون على رفع شعار الحرص مع الحركات الإسلامية التي يسمونها "أصوليين"؟! أليسوا أولى بالصلح ولين الجانب من "الأصوليين" اليهود الذين شيدوا بناء دولتهم على مبادئ التوراة والتلمود، والتي عزلوا عنها العلمانيي، وهاهم اليوم يسعون لطرد وزيرة في الحكومة لاكتشافهم توجهاتها العلمانية. أيليق بنا بعد هذا الموقف اليهودي من العلمانية أن ندافع نحن عنهم؟!
إن وراء هذه الفرقة جهات تمدها بالدعم وتدفعها نحو عالم السياسة لما رأت فيها من تيار يعادي المسلمين باسم الإسلام ويتربص بالدعاة ويتعرض لهم بالأذى بدعوى محاربة الأصولية ويعلن الاستعداد للصلح مع اليهود. وما زالوا يتهيأون للقيام بدور ما أعظم مما فعلوه حتى الآن.
هذا ما أردت بيانه عن هذه الطائفة. ومن أراد التفصيل والتوسع فليرجع إلى كتابي (بين أهل السنة وأهل الفتنة) وكتابي (شبهات أهل الفتنة وأجوبة أهل السنة) وكتابي (الرد على عبد الله الحبشي) وكتاب (الرفاعية) فقد كشفت في هذه الكتب بالتفصيل عن حقيقة الدور الذي يلعبه الحبشي في فتنة المسلمين عن السنة ومعاداتهم لأهلها وركوبهم البدع في الدين وإيقاعهم في شتى أنواع الانحرافات. وإنني أدعو من يملك معلومات ووثائق عن هذه الفرقة المراسلة على صندوق البريد 20360 – الرياض 1145 – المملكة العربية السعودية .
والحمد لله رب العالمين.
فتاوى الحبشي
القرآن ليس كلام الله عند الحبشي
يرى الحبشي أن القرآن ليس من كلام الله لأن الله منزه عن الكلام. وأن المنشئ الحقيقي لألفاظ القرآن هو جبريل وليس الله. واستدل على ذلك بقوله تعالى {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} أي قول جبريل، وكذلك قوله تعالى {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ}" [إظهار العقيدة السنية 58-59]. والمعنى اقرأ يا محمد قرآن جبريل.
الله عند الحبشي ليس على كل شيء قدير!(36/42)
وقال في قوله تعالى {إِنَّ اللَّه عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} بأن هذه الآية "لا تعني أن الله على كل شيء قدير، لأن (كل) لا تفيد التعميم هنا، فيصير قادراً على نفسه، وإنما المعنى أن الله قادر على أكثر الأشياء وليس على كل شيء قدير. ولأن الله غير قادر على الظلم، لأن الظلم ممتنع على الله" (إظهار العقيدة السنية 40 بشرح العقيدة الطحاوية).
وقد صرح أحد أتباعه (جميل حليم) بأن الله غير قادر على الظلم، فلو أراد أن يظلم ما استطاع. وأن من قال إنه قادر على الظلم ولكنه لا يفعل: هو قول المعتزلة، قال "فإن القدرة على الظلم إنما تتصور من المخلوق" "وقد أجمعت الأمة الإسلامية على تكفير من نسب القدرة على الظلم إلى الله واتفقوا على كفر من يقول: الله يقدر على الظلم ولكن لا يفعل" (مجلة منار "الهدى" 23/29).
وهذا يتعارض مع قوله تعالى "يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي" فتحريم الظلم على نفسه دليل قدرته عليه، ولو كان غير قادر عليه لما كان للتحريم معنى
الحبشي يصف الأئمة بأنهم لا عقول لهم
تواتر طعن علماء الأمة بمخلفات العلوم اليونانية القديمة واسمه (علم الكلام) وذموا من اشتغل به وعدون من المبتدعة كما يأتيك تفصيله (ص 97).
يؤكد ذلك فتوى السيوطي التي أجاب فيها بقول المزني حين سأله رجل عن علم الكلام فقال: أكره هذا بل أنهى عنه كما نهى عنه الشافعي، فلقد سمعته يقول: سئل مالك عن الكلام والتوحيد فقال "محال أن نظن بالنبي - صلى الله عليه وسلم - أنه علّم أمته الاستنجاء ولم يعلمهم التوحيد، والتوحيد ما قاله النبي - صلى الله عليه وسلم - "أُمِرتُ أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله. فما عصم به الدم والمال هو حقيقة التوحيد". قال السيوطي "هذا جواب مالك عن هذا السؤال وبه أجبت" [الحاوي للفتاوي 2/129 سير أعلام النبلاء 10/16-26 حلية الأولياء 9/111].(36/43)
غير أن الحبشي ذمهم ووصفهم بأنهم لا عقول لهم [إظهار العقيدة السنية 22]، فقال :
عاب الكلام أناسٌ لا عقول لهم وما عليه إذا عابوه من ضرر
تعليم الشرك باسم التوحيد
الحبشي يعلم الناس الاستغاثة والاستعاذة بالأموات ويزعم أنهم يخرجون من قبورهم لكشف كرب الداعي. قال "وليس مجرد الاستغاثة بغير الله ولا الاستعاذة بغير الله يعتبر شركاً كما زعم بعض الناس [بغية الطالب 8 صريح البيان 57و58]" فلا الاستغاثة بغير الله ولا الاستعاذة بغير الله تعتبر عنده شركاً!.
بل حتى السجود للصنم لا يعتبر عنده شركاً وإنما كبيرة من الكبائر فقط. وهذا مسجل عليه بصوته (شريط الحبشي 3/640).
وسئل عمن يستغيث بالأموات ويدعوهم قائلاً: يا سيدي بدوي أغثني يا دسوقي المدد قال "يجوز أن يقول: أغثني يا بدوي ساعدني يا بدوي" قيل له: لماذا يقول يا عبد القادر يا سيدي بدوي ولا يقول يا محمد؟ قال "ولو" أي ومع ذلك فهو جائز. لكن تركُهُ أفضل [شريط خالد كنعان وجه 2 عداد (70].
قيل له: أن الأرواح تكون في برزخ فكيف يستغاث بهم وهم بعيدون؟ أجاب "الله تعالى يكرمهم بأن يسمعهم كلاماً بعيداً وهم في قبورهم فيدعو لهذا الإنسان وينقذه، أحياناً يخرجون من قبورهم فيقضون حوائج المستغيثين بهم ثم يعودون إلى قبورهم. ثم أخذ يدافع عن ذلك بشتى الأحاديث الضعيفة والموضوعة.
الاستغاثة بغير الله من سنن النصارى والشيعة
إن الدفاع عن الاستغاثة بغير الله إنما هو دفاع بالدرجة الأولى عن الشيعة الذين يستغيثون بالحسين ويقولون (يا حسين) وعن النصارى القائلين (يا مسيح يا عذراء). إنه لتناقض صارخ أن يستنكر المسلم قول النصراني (يا مسيح) وقول الشيعي (يا حسين يا مهدي). ويرتضي لنفسه أن يقول يا رفاعي يا بدوي يا جيلاني. وقد قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ}.(36/44)
وقال - صلى الله عليه وسلم - "ادعُ إلى الله وحده الذي إن مسّك ضرٌّ فدعوته كشف عنك. والذي إن ضلَلْتَ بأرضٍ قفرٍ ردّ عليك، والذي إن أصابتكَ سنة [أي قحط وجفاف] فَدَعَوتَه أنْبَتَ عليك" [رواه أحمد 5: 64 بسند صحيح] وعلّمنا - صلى الله عليه وسلم - أن نزور القبور وندعو لأصحابها لا أن نطلب الدعاء منهم، قال الطحاوي "وفي دعاء الأحياء منفعة للأموات" [العقيدة الطحاوية 256] وقد انقلب الأمر اليوم فصار دعاء الأموات منفعة للأحياء وصار الحي يذهب إلى الميت يطلب منه الدعاء! [هذا هو التوحيد الذي يتلقاه الناس عن الحبشي: استغاثة واستعاذة بغير الله!].
هل ينفعونكم أو يضرون
وصرّح الحبشي أن الله جعل الأولياء أسباباً لنا لندعوهم ونستغيث بهم، وأن ذلك يجوز من الموحِّد ما دام يعتقد أن الضرّ والنفع بيد الله. قال:(36/45)
"وليس مجرد الاستعاذة بغير الله تعتبر شركاً، أما إن كان يعتقد أن غير الله ينفع أو يضر من دون الله فقد وقع في الشرك". واحتج بحديث الحارث بن حسان البكري "أعوذ بالله ورسوله أن أكون كوافد عاد" [الدليل القويم 173 صريح البيان 62 المقالات السنية 46]. وهو حديث ضعيف يتعارض مع قول الله {وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ} ويتعارض مع قوله {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الْإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا}. وهذا باطل فإذا كان الموحّدُ يعلم أن الضرّ والنفع بيد الله فلماذا يدعو من لا يملك هذا النفع والضر؟ وقد قال تعالى {وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِّنَ الظَّالِمِينَ} أي المشركين [يونس 106]. ويعارضه ما ذكره الحبشي عن علي رضي الله عنه أنه قال" لقنني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هؤلاء الكلمات، وأمرني إذا أصابني كرب أو شدة أن أقولهن: لا إله إلا الله الحليم الكريم، سبحانه وتبارك الله رب العرش العظيم" [الدليل القويم 229] فلم يأمره أن يستغيث بالقبور وإنما علمه اللجوء إلى الله وحده.
أهل الكلام هم المشبهة
لقد غلا أهل الكلام في (التنزيه) حتى عطّلوا الصفات خوفاً من التشبيه (زعموا)، وكفاهم تشبيهاً أن يجعلوا للأولياء ما يختص بالرب من الاستغاثة والاستعاذة، يحثونهم على الاستغاثة بهم من دون الله. وكأني بهم يقولون يوم القيامة {تَاللَّهِ إِن كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ 97 إِذْ نُسَوِّيكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ 98 وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ}.
الحبشي داعية إلى سنن النصارى
كيف جاز عند الحبشي دعاء غير الله ولم يَجُز عنده الصلاة لغير الله مع أن الصلاة معناها الدعاء أيضاً؟ هذا تناقض. فليجوّزوا الصلاة لغيره حينئذ؟ أو أن لا يفرّقوا بين دعاء ودعاء.(36/46)
أن كل الآيات التي أنكرت على المشركين دعاءهم لغير الله اعتبرتها عبادة مصروفة لغير الله وإن كانت بلا ركوع ولا سجود. دليل ذل: قول إبراهيم لقومه {وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ} ثم عقّب الله بحكمه على ذلك فقال {فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ}.
{وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَن لَّا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَومِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ} وهذه صفات مشتركة بين الأصنام والقبور. وقال عن أصحاب القبور {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ}.
وهكذا صرف الله قلوب منكري علوّه في السماء إلى أسفل سافلين فتوجهوا بالدعاء إلى أعماق الأرض إلى الحُفَر حيث الموتى. وصارت آمالهم معلقة بالأرض هناك بعدما انتكست فِطَرُهُم عن التوجه إلى الله في السماء، وهكذا صرفهم الله {صَرَفَ اللّهُ قُلُوبَهُم بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُون}.
وهو داعية إلى سنن النصارى يدعو إلى التبرك بالأحجار [صريح البيان 58 إظهار العقيدة السنية 244] وقد شهد الغزالي أن مسّ القبور والجدران للتبرّك بها من سنن النصارى، قال "ولا يمس قبراً ولا حجراً فإن ذلك من عادة النصارى" [الإحياء 1: 259 و 4: 491 البيجوري على ابن قاسم 1: 277] وقال "ولا يمس قبراً ولا حجراً فإن ذلك من عادة النصارى" [الزواجر عن اقتراف الكبائر 1/244] وقال ابن حجر الهيتمي (الكبيرة الثالثة والتسعون) اتخاذ القبور مساجد وإيقاد السُرُج عليها واتخاذها أوثاناً والطواف بها واستلامها" [الزواجر عن اقتراف الكبائر 1/244].
الحبشي في الإيمان من المرجئة(36/47)
يرى الحبشي أن الإيمان هو مجرد اعتقاد في القلب وأنه لا يُشترط لصحة إسلام المسلم النطق بل يكفي الاعتقاد [الدليل القويم 7] أما الداخل في الدين فيشترط له النطق ولو مرة في العمر". وقد تجاهل عقيدة الشافعي وأهل السنة حيث أجمعوا على أن "الإيمان قولٌ وعملٌ يزيد وينقص" [سير أعلام النبلاء 10/32] احتجاجاً بالآية {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} ثم قال "ليس على المرجئة أحجّ من هذه الآية" [فتح الباري 1: 47].
قال الحبشي "فمن لا يؤدّي شيئاً من فرائض الله، ولا يجتنب شيئاً من المحرمات، لكنه قال ولو مرة في العمر: لا إله إلا الله فهذا مسلم مؤمن. ويقال له أيضاً مؤمن مذنب، وأن "استحضار بقية الإسلام كالصلاة والصيام ليس بشرط في تحقق الإيمان" [الدليل القويم 9 و10 بغية الطالب 51 شريط 6/15] وهو يحاكي بذلك مذهب المرجئة.
قال الحافظ "المرجئة قالوا: إن الإيمان هو قولٌ واعتقاد فقط. والكراميّة قالوا هو نطقٌ فقط. والسلف قالوا: هو اعتقاد بالقلب ونطقٌ باللسان، وعملٌ بالأركان. وقال البخاري رحمه الله: لقِيتُ أكثر من ألف رجل من العلماء فما رأيت أحداً منهم يختلف في أن الإيمان قولٌ وعملٌ ويزيد وينقص [فتح الباري 1: 46 و47] وأوصى الشافعي البويطي أن لا يصلي وراء ثلاثة، منهم: المرجئ الذي يقول الإيمان قول فقط، وقال البغدادي "وإنما سُمُّوا "مرجئة" لأنهم أخَّروا العلم عن الإيمان" [سير أعلام النبلاء 10 /31 الفرق بين الفرق 202]. فكيف يزعمون أن الحبشي المرجئي متمسك بمذهب الشافعي في حين ينهى الشافعي عن الصلاة وراء المرجئة!(36/48)
وهل يريد هذا الرجل من الناس أن يكونوا مسلمين بلا إسلام. لا يضرهم في دينهم أن يتحاكموا إلى الطاغوت بمعزل عن كتاب الله وسنة نبيه ويفعلوا المحارم ويتركوا الفرائض ومع هذا فلا مانع من أن يُمنحوا صفة الإسلام والإيمان! هل أنزل الله الكتب وأرسل الرسل إلا ليعمل الناس بها ويتحاكموا إليها؟
الحبشي ومذهب الجبرية
يرى الحبشي:
أنه "لا دخل لمشيئة العبد إلا في الكسب" [الدليل القويم 94]. يعني مشيئته أن ينال الفعل فقط!.
وأن جميع أفعاله من خلق الله لا تأثير لقدرة العبد.
وأنه يجب على المكلف أن يرضى عن الله في تقدير الخير والشر فالمعاصي من جملة مقدورات الله ومقتضياته" [بغية الطالب 270 الدليل القويم 85].
وأن الله قد اضطر الكافر على الكفر. وأنه لولا الله ما استطاع الكافر أن يكفر [النهج السليم شرح الصراط المستقيم 67 بخط تلميذه عبد الرزاق الحسيني. صريح البيان 43] وهذا مذهب الجهمية.
وأثنى على الرازي حين قال بأن الإنسان مجبور في صورة مختار [معالم أصول الدين]. واعتبره من أفضل الأقوال وأكثرها إنصافاً [إظهار العقيدة السنية].
الحكم بغير ما أنزل الله
قال الحبشي بأن من لا يريدون إقامة دولة تحكُم بالإسلام – وإنما يريدون إقامة دولة علمانية – بأنهم أناس مسلمون ومؤمنون، ومساعدتهم تجوز [شريط (1) عداد (318) الوجه الأول] وأن المسلم الذي لا يحكم بشرع الله وإنما بالإحكام العرفية التي تعارفها الناس فيما بينهم لكونها موافقة لأهواء الناس متداولة بين الدول أنه لا يجوز تكفيره" [بغية الطالب 305] ويقول "فمن لم يحكم شرع الله في نفسه فلا يؤدي شيئاً من فرائض الله ولا يجتنب شيئاً من المحرمات، لكنه قال ولو مرة في العمر: لا إله إلا الله: فهذا مسلم مؤمن. ويقال له أيضاً مؤمن مذنب [الدليل القويم 9 – 10 بغية الطالب 51].(36/49)
ما أسعد العلمانيين بهذا الكلام وكم يحتاجون إلى مثل هذه الفتاوى التي لا تفيد إلا تعزيز حكم العلمانية بدل القرآن! وتُمكّنهم من رقاب المسلمين.
وسقط القناع
نعم؛ لقد بدأ يظهر السبب الذي أنشئت هذه ا لطائفة من أجله، لقد قال نائبهم بالبرلمان في احتفال الملعب البلدي "لا لهذه الأصولية التي تكفّر حكّام العرب المسلمين لمجرد أنهم حكموا بالقانون من غير أن يعتقدوا أن القانون خير من القرآن".
هاهم يرددون شعارات الغرب ضد الإسلام يوصفون المسلمين بـ "الأصوليين" يكفلون للمتحاكمين بالطاغوت بذلك غطاء دينياً بحجة أنهم بالرغم من تحاكمهم بالطاغوت يعتقدون أن القرآن خير منه.
إن هذه موالاة صريحة ومكشوفة أظهرهم الله بها على حقيقتهم. ولعلها تكون إن شاء الله أحد أهم أسباب تخلي الناس عنهم بعد أن كانوا مخدوعين بهم.
ولو سلمنا أن الحاكم بغير ما أنزل الله لا يكفر وإنما يفسق ما دام يعتقد أن القرآن أفضل منه، فإننا نطالب الأحباش على الأقل أن يصرحوا بفسق المتحاكمين بغير ما أنزل الله. تماماً مثلما فعلوا في معاوية حين حكموا بفسقه من فوق منابرهم. من غير اعتبار منهم لشرف الصحبة.
لكن الذي نراه هذه الأيام هو العكس فإن الأحباش يتولّونهم ويثنون عليهم، ويتحصنون بحصونهم المنيعة. ويرشقون من خلالها المسلمين، مما يؤكد أنهم يرون المتحاكمين بالطاغوت خيراً من معاوية.
فإن لم يصدروا بياناً بفسقهم، بل أثنوا عليهم: كان الحكم فيهم أنهم طائفة منافقة توالي أعداء المسلمين، قال تعالى {وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} والمرء يُحشر يوم القيامة مع من أحب.
فتواه حول حكم شرب الخمر(36/50)
وسئل عن حكم شرب الخمر فقال "عند بعض الفقهاء لا يجوز التداوي بالخمر في حل من الأحوال. يجوز عند بعضهم إعطاء المريض جرعة من الخمر لإساغة اللقمة بالنسبة لمن أصيب بالغصة، يجوز أن يسيغ اللقمة بالخمر، وقال بعضهم يجوز التداوي بالخمر إن لم يوجد دواء غيره" [شريط رقم 7 عداد 400].
فهذه فتوى ينشره هكذا أمام عوام الناس الذين لا يخفى ميلهم إلى الرخصة والتسهيل والاتكال على فتوى شيخ.
لا يمكن لرجل أوتي الحكمة أن يخاطب العوام بما يفتح لهم ذرائع الشر وأبوابه. ودليل ذلك أن هذا الرجل لم يذكرهم بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - "ما جعل الله دواءكم من حرام". ولكنه أحالهم على شواذ الفتوى.
اعتبر الأحباش ابن تيمية قائلاً بفناء النار لمجرد حكايته قولين للعلماء مع أنه صرح في عديد من كتبه أن القول بفناء النار بدعة الجهمية مخالفة للسلف. فماذا يقول الحبشي لو ألزمناه بأنه يتبنى القول بجواز شرب الخمر لإساغة اللقمة وماذا لو تكررت الغصة فشرب مع كل غصة كأساً؟
فتواه في كراهية الاستنجاء بالماء
يكره الحبشي أن يستعمل الرجل يده عند الاستنجاء ويرى ذلك أمراً قبيحاً لا يعجبه [شريط خالد كنعان (470) وجه أ] وكذلك استعمال الماء عند الاستنجاء يقول "وما يفعله بعض الناس عند الاستنجاء من الغائط من أن يأخذوا بالكف اليسرى ماء ثم يدلكوا به المخرج فذلك قبيح" [بغية الطالب 68 (طبعة جديدة 96)] وزعم أنه إذا أصاب بولُ الطفل يد أمه أثناء وضع الرقعة له (الحفايض) ترتكب بذلك كبيرة من الكبائر [شريط خالد كنعان 429/أ] مما أدى بتلميذاته إلى الإفتاء بوجوب لبس القفازات (الكفوف) أثناء عملية التغيير.
فتواه في جواز الصلاة بالنجاسة(36/51)
غير أنه في المقابل يتساهل فيجيز الصلاة بالنجاسة [بغية الطالب 99-100 (طبعة جديدة 131-132)] ولو من بول الكلب أو عذرته، سواء كانت النجاسة على ثوب المصلي أو بدنه. فمن صلى بالنجاسة صحت صلاته لا فرق عند المالكية بين النجاسة المغلظة والمخففة وهذا الراجح من المذهب. فيجوز للمصلي الصلاة بما مسه ريق الكلب من ثيابه وبدنه وبوله وعذرته لأن دين الله يسر لا عسر". علّق الحبشي على هذه الفتوى قائلاً "انتهى الجواب بحروفه وهو نفيس جداً".
قال: ويسن تقديم الاستنجاء على الوضوء، فإن أخّر الاستنجاء إلى ما بعد الوضوء صح (بغية الطالب 134).
وبينما نراه يبيح الصلاة بالنجاسة يتناقض فيفتي بأن قشرة البرغوث أو القملة أو البقة نجسة نجاسة غير معفو عنها، قال: فلو صلى المصلي بشيء من ذلك فصلاته باطلة: علم بذلك أو لم يعلم" [بغية الطالب 87 (طبعة ثانية 119)].
جواز مقامرة الكافر لسلب ماله
وأجاز للمسلم سلب أموال الكفار ولو بطريق القمار، وذلك تقليداً منه لابن عابدين. قال "وكذلك لو باعهم ميتة أو قامرهم وأخذ منهم مالاً بالقمار فذلك المال طيب عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله". واستدل بمراهنة أبي بكر للمشركين يوم نزلت {1 غُلِبَتِ الرُّومُ 2 فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ} [صريح البيان 133-134]. وتجاهل قول الصحابي الراوي "وذلك قبل أن يُحرَّم الرهان" [البغوي 6/260 زاد المسير 6:70 الطبري 14/20].
فتواه في جواز مراهنته
وأفتى بجواز المراهنة، وإن حرّمه في الابتداء. وأن جواز ذلك يكون من المسلم في حق الكفار مستدلاً بمراهنة النبي - صلى الله عليه وسلم - لركانة على غنم [صريح البيان 134 (الطبعة الجديدة 265 زعموا أنها الطبعة الأولى)] والرسول قبل بمراهنة ركانة ثم ردّ عليه السلام على ركانة غنمه.
فتواه في جواز سرقته(36/52)
وسئل عن قوم عندهم مزرعة وجيرانهم غير مسلمين: هل يجوز سرقة زروعهم وبقرهم؟ فأباح ذلك للسائل بشرط أن لا تؤدي سرقته إلى فتنة [شريط 2 وجه ب (709)].
فتواه في جواز أخذ الربا
وأفتى بجواز أخذ الربا من الكفار. فقد سئل الحبشي عن حكم أخذ الربا في لبنان فقال "هذه دار حرب عند الإمام محمد بن الحسن الشيباني، عنده يكفي لكون الدار دار حرب: إظهار أحكام الكفر على وجه الاشتهار.
قيل له: إذن. أخذ الربا جائز؟ أجاب: عند محمد بن الحسن يجوز في لبنان وغيره من كل بلد يظهر فيها أحكام الكفر على الاشتهار [شريط خالد كنعان وجه أ 169].
سئل: هل يجوز لنا أن نعتمد على فتوى محمد بن الحسن؟ أجاب: يجوز لأنه إمام مجتهد.
سئل: البنوك الفرنسية في لبنان ليس فيها أجانب وإنما القائمون عليها مسلمون فهل يشترط أن يكون الموظف كافراً؟ أجاب ليكن الموظف كافراً.
سئل: هذا يصعب فإن موظفي البنك الفرنسي مسلمون أجاب: يوجد يوجد اطلبوهم يوجد مدير للبنك كافر ببيروت.
ثم زاد الأمر تسهيلاً أمام المكثرين من الأسئلة الذين يستدرجونه من أجل مزيد من الترخيص لهم فقال ((ووجود موظفين مسلمين لا يؤثر. إنما الشرط أن يكون مقاولك الذي تتفق معه كافراً. المهم أن تجري عقدك مع كافر)).
سئل: وهل يجوز أن يوكل رجل موظفاً مسلماً موظفاً في البنك فيقول وكلتك في فتح حساب مع موظف نصرني؟ أجاب: يجوز.(36/53)
ثم قال تلميذه: فإن لم تجد في صيدا موظفاً نصرانياً: فإنك توكل الموظف المسلم أن يفتح لك حساباً في بيروت مع موظف نصراني. فوافق الحبشي قوله. وزاد: فإن وضعته فتكون وافقت مذهب هذين الإمامين الجليلين ما عليك حرج. والأحسن ألا تضع أموالك. فتتوكل على الله وتضعه في البيت فإن كتب الله عليه الضياع فلا بد من ذلك وإن حفظه الله يُحفظ. ولكن إن لم يكن عندك قوة على هذا التوكل فضعه في بنك ليس له مساهم مسلم بل يكون كل المؤسسين كفاراً، ضعه هناك وخذ عليه فائدة، هذا إن أردت أن تستفيد فإن تحققت الاستفادة فإنه يجوز" [شريط (3) ابتداء من الوجه الأول].
أخلاق اليهود
وهذا ليس من خُلُق الإسلام ولا من هدي نبينا - صلى الله عليه وسلم - بل هو من أخلاق اليهود الذي يقولون "لا تقرض أخاك بربا: للأجنبي تُقرِض بربا ولكن لأخيك لا تُقرِض بربا لكي يباركك الرب إلهك في كل ما تمتد إليه يدك في الأرض التي أنت داخل إليها لتمتلكها [التثنية 23: 19 وانظر أيضاً سفر التثنية 15: 1]. فأين هذا من أخلاق نبينا - صلى الله عليه وسلم - وهل كان يعامل أعداءه بالربا؟
تحايله على الله
ثم نبه الحبشي السائل فيما لو قيل له: هذا المال الذي تعطيه للكافر: أليس هو يستفيد منه ويأخذ به الربا من مسلمين آخرين؟ فعلمه التحايل بأن يقول "أنا من عندي علم يقين بأن البنك سيأخذ مالي ويعطيه دينا للناس. بل يجوز أن يكون هذا البنك يأخذ مالي للتجارة أو يشتري به بضاعة، ليس عندي علم يقين، أنا أعرف أني وضعت مالي عنده وآخذ منه المبلغ الذي شرط لي كل شهر أو ثلاثة أشهر أو كل سنة". انتهى كلامه بحروفه وهو مسجل بصوته.
ولقد قام أحد أتباعه المقربين إليه (نزار حلبي) يحذر في إحدى خطبه من مشايخ السوء وأئمة الضلال، الذين يفتون بغير علم، ويحلون ما حرم الله ويحرمون ما أحل الله منتهزين فرصة الفوضى في لبنان فقال: قال ابن سيرين "إن هذا العلم دين، فانظروا عمن تأخذون دينكم".(36/54)
قال: فلا يجوز لك إن سمعت فتوى خاطئة أن تقبلها وتقول هذه فتواه ولا علاقة لي.
قال الله تعالى {وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [شريط (3) 310 الوجه الأول].
ولكن: ماذا يقول في شيخه الذي استحل الربا وجعله كالبيع؟ هل يدفعه تعظيم هذه الآيات إلى تحذير الناس منه ومن فتاويه أم أنه سوف يلتمس له التأويلات؟؟
فتواه في حكم إتيان الخنثى في رمضان
أفتى الحبشي أن إتيان البهيمة مفسد للصوم غير أنه أفتى بأن مجامعة الخنثى الذي لم يتبين كونه ذكراً أو أنثى في نهار رمضان لا يفطر لوجود آلتين فيه لم يتبين أيتهما الأصل فيه، أما الخنثى الذي اتضحت ذكورته أو أنوثته فإن الجماع في أحد قبليه مفطر (بغية الطالب 192 طلبعة جديدة 243) لكنه استدرك على نفسه قائلاً: إن جومع الخنثى الواضح بآلته الزائدة لا يفطر. بمعنى آخر: عليه أن يفحصه قبل إتيانه خوفاً من أن يفسد صيامه.
وهذا يلزم منه أن اللواط غير مفسد للصوم لأن مؤخرة الخنثى تعتبر عنده وعند من يجامعه آلة زائدة لا أصلية. ثم كيف تكون مجامعة البهيمة في فرجها مفطر عند الحبشي في حين مجامعة الخنثى لا تفسد الصوم؟!
فتواه في الزكاة
يرى الحبشي أن العملة الورقية المستعملة في هذا العصر كالدولار وغيره لا زكاة عليها لأنها ليست داخلة في قوله تعالى {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} (بغية الطالب 160 – طبعة جديدة 207).
ووافق القول بعدم الزكاة عليها قائلاً "لا زكاة في الأثمان غير الذهب والفضة، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يذكر غيرها". انتهى [بغية الطالب 169].
فتواه في حكم أوراق اليانصيب(36/55)
في بادئ الأمر يحرم الحبشي اليانصيب على المكتفي الغني. وتبدأ مرحلة الاستدراج بالسماح للمحتاج أخذ ما يحتاجه مما ربحه اليانصيب ويوزع الباقي على المستحقين، فهذا المال بمنزلة المال الضائع ويجوز إنفاق المال الضائع على المرافق العامة للمسلمين [صريح البيان 136 وقد حذفوا الموضوع بكامله في الطبعة الجديدة وكذل موضوع بيع الصبي وشرائه].
فتاوى مجملة
زعم أن الماء الخارج من فم النائم نجس، وأنه يجب غسل اللحم لإزالة الدم (بغية الطالب 121-122 طبعة جديدة).
وزعم أنه يحب استقبال القبلة بكل البدن، فلا يجزئ ببعض بدنه (بغية الطالب 134 طبعة جديدة).
ذكر أنه يسن تقديم الاستنجاء على الوضوء، فإن أخّر الاستنجاء إلى ما بعد الوضوء صح (بغية الطالب 68 طبعة جديدة 96).
وأنه لا يجوز أن يقال لغير المميز "صلّ" (بغية الطالب 136 طبعة جديدة).
وأنه يجوز دخول الحمام ولو كان فيه كشف للعورات، ولا يلزم الإنكار إلا في السوأتين" أي لا يُنكَر على من يصلي بالكلسون فقط وجسده كله مكشوف إلا من السوأتين فقط (بغية الطالب 139).
رؤية النبي - صلى الله عليه وسلم - يقظة:
وسئل عن رجل رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المنام ما حكم ذلك؟ فقال: بُشراه بأنه لابد أن يرى النبي حقيقة ولو عند الموت [شريط (3) 744 وجه 2].
وقد نقل الحافظ عن القرطبي أن هذا يلزم منه:
1 ) أن يكون من رآه صحابياً.
2 ) أن لا تنقطع الصحبة.
3 ) أن يسلم على القبر وليس فيه أحد [فتح الباري 12/385].
فتواه في حكم الكحول(36/56)
فبينما يرى تحريم مادة الكحول - الاسبيرتو - لمن يقصدها للسُّكْرِ أو للوقود والتداوي: يفتي لمن يحتاجه للتداوي في الجروح والوقود ونحوها: أن يستعمل حيلة كأن يقول للبائع: بعن هذه الفنينة بكذا: ليس الاسبيرتو الذي فيها، فإني آخذه من غير مقابلة بهذا المبلغ، وإنما هو ثمن القنينة" قال "وهذه حيلة يراد بها التخلص من الحرام" [بغية الطالب 257 (طبعة ثانية 330)] لكنه لم يتكرّم علينا ببيان من الذي استُعملتْ في حقه هذه الحيلة. وهل كانت لتخفى عليه؟
ومن صور هذا التحايل: ما يفعله الأحباش ويفتون به وهو أنه يجوز النظر إلى المرأة غير مباشرة في المرآة أو من وراء الشاشة ولو بشهوة لأنه لا ينظر في حقيقة الأمر إلى زجاج وليس إلى المرأة. وممن أفتى به أيضاً الشيخ عبد وهو أنه يجوز النظر إلى المرأة غير مباشرة في المرآة أو من وراء الشاشة ولو بشهوة لأنه لا ينظر في حقيقة الأمر إلى زجاج وليس إلى المرأة. وممن أفتى به أيضاً الشيخ عبد الغني حمادة من مشايخ إدلب [كتاب (تعاليم الإسلام ص90 و321)].
ومن صور التحايل (التجحيش) ويتم بقصد إرجاع المرأة التي طلقها زوجها عن طريق زواج صوري شكلي يرضى أحد الوسطاء لنفسه أن يكون تيساً مستعاراً ويفتي بعض مشايخ السوء بجواز استعارته منهم الباجوري في حاشيته [حاشية الباجوري على ابن قاسم 1/154].
فتوى تعليق الصلبان لمجرد الخوف
غير أن للحبشي في هذه المسألة فتوى شنيعة أباح فيها لمن ذهب إلى بلاد الكفار أن يعلق صليباً إذا هو خاف على نفسه من أذاهم [الدليل القويم 155]. فالترخيص يحصل عنده بلبس الصليب لمجرد مظنة الأذى وليس عند حصول الأذى لإجباره على لبسه، وفرقٌ بين حصول الإكراه وبين مجرد توقعه.
فتاوى يستنكرها الحبشي
وقد ضاق الحبشي صدراً بفتوى الشيخ فيصل مولوي بتحريم اقتناء التلفزيون في هذه الأيام. وأبدى انزعاجه من ذلك قائلاً "فعلى هذا ما سَلِمَ بيتٌ من بيوت المسلمين تقريباً من الحُرمة والمعصية".(36/57)
وكذلك أزعجه فتوى المولوي بأنه لا يجوز التكلم مع البنات من أجل الدعوة إلى الإسلام لأن حجة تبليغ الدعوة للنساء مدخل كبير من مداخل الشيطان. ثم عقب الحبشي قائلاً "وهذا الكلام مخالف لدين الله" ثم أخذ يسرد النقول لإثبات جواز الاختلاط. ثم قال "وهذا يبطل قول فيصل مولوي أن المرأة إذا تعلمت قيادة السيارة من رجل أجنبي مع وجود مَحرَمٍ لها أو رفيقة لا تَسلم من الإثم لكن أقل ذنباً بكثير من عدم وجود محرم. ويبطل ادعاء (مولوي) أن على المرأة أن تتعلم في مدارس خاصة بالنساء [النهج السوي 24 و42].
واستنكر فتوى المولوي أنه يُنهى عن السفر إلى بلاد المشركين إلا لضرورة ماسة كطلب علم ونحوه. قال الحبشي معقباً "أيُّ آية أو حديث شرعي فيه ما ادعاه مولوي من هذا الحكم؟ فانظروا إلى هذا الرجل (فيصل مولوي) كيف حرّف دين الله" [النهج السوي 27].
واستنكر من المولوي فتواه بحرمة النظر إلى المرأة الأجنبية سواء بشهوة أو بدون شهوة لعموم قوله تعالى {قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} قال الحبشي "فالعجب من رجل تزيّا بزي أهل العلم وتصدّر بمنصب قاضٍ للناس فإننا نطالبه أن يُظهر دليلاً [النهج السوي].
ونحن نسأل: أين الخلق الإسلامي أين السماحة النبوية؟ لنفرض أن المولوي أخطأ أهكذا يكون التعامل مع المخطئين؟
إن ردود الحبشي على المولوي في هذه المسائل لدليل على زيغه وجوره في الحكم وميله مع الهوى وعدم تفهمه لموضوع سد الذرائع وإغلاق وسائل الشر.
فتاوى وآراء الحبشي في المرأة(36/58)
قال الحبشي "الرسول قال لعلي "إن لك النظرة الأولى وليست لك النظرة الآخرة" ومعنى النظرة الأولى أن الشخص إذا وقع نظره من دون نية التلذذ إلى وجه امرأة: ما عليه ذنب لو استدام هذا النظر، لو ثبت عليه ليس حراماً" [بغية الطالب 224 (طبعة جديدة 280)] وليس في الحديث تعرض لتحريم النظر لو استمر واستدام بلا شهوة" [بغية الطالب 287 (طبعة جديدة 366)].
ثم حكم بخطأ النووي في ترجيحه تحريم النظر إلى الوجه على الإطلاق" [بغية الطالب 288 (طبعة جديدة 367)].
ويجوز عنده كشف شيء من (بدن) المرأة بحضرة من يحرم نظره إليها.
ويجوز أن ينظر الرجل إلى شيء من بدن المرأة الأجنبية التي لا تحل له بلا شهوة [بغية الطالب 288 (طبعة جديدة 367)].
ويجوز له النظر إلى محارمه من النساء مطلقاً ما عدا ما بين السرة والركبة إذا كان بغير شهوة. وأما من ذهب إلى أن العورة تزيد على ذلك أي فوق السرة وتحت الركبة فقوله ضعيف [بغية الطالب 290 حذفت هذه العبارة من الطبعة الجديدة].
"ويحلّ النظر إلى الصبي أو الصبية اللذين دون سن التمييز إلى ما عدا فرج الأنثى فيحرم النظر إلى فرج الأنثى لغير الأم. وأجاز بعضهم ذلك لغير الأم أيضاً" [بغية الطالب 290 (طبعة جديدة 369)].
وأفتى أن الحجاب يكون بستر لون الجلد والشعر (بغية الطالب 104 طبعة جديدة 137)، وبناء على هذا أفتى نزار حلبي بجواز لبس الجينز وهو السروال الضيق والسروال المعروف بال (فيزون) فقال "نعم! فتياتنا يتعطرن ويرتدين الجينز لأننا نجمع بين السترة والموضة" (جريدة المسلمون عدد 407 سنة 1992). ولهذا نرى نساء الأحباش يخرجن بزينتهن وروائح عطرهن إلى الشارع ويلبسن السراويل الضيقة (الجينز أو الفيزون).
فتواه بجواز خروجها رغماً عن إرادة زوجها(36/59)
وأباح لها الخروج على طاعة زوجها إذا لم يأذن لها بالذهاب لطلب العلم. بل أجاز لها السفر ولو بغير إذنه لاستفتاء المشايخ في أي وقت. قال "تخرج بدون رضاه" [انظر بغية الطالب 202 و268 و 340 طبعة جديدة 342] وهذه دعوة إلى النشوز والتطاول على الزوج. وجعل كلمة الشيخ هي العليا ولو في داخل البيت.
جواز خروجها متعطرة متزينة
قال الحبشي "اعلم أن خروج المرأة متزينة أو متعطرة مع ستر العورة مكروه تنزيهاً دون الحرام، ويكون حراماً إذا قصدت المرأة بذلك التعرض للرجال لتستميلهم إلى المعصية. وأما إذا خرجت متعطرة أو متزينة ساترة ما يجب عليها ستره من بدنها ولم يكن قصدها ذلك فليس في ذلك أكثر من الكراهة التنزيهية، أي أنها لا تعصي" [بغية الطالب 351 (طبعة جديدة 446)]. وكل من يفهم من الحديث تحريم التطيب للمرأة فلا يكون إلا واهماً [بغية الطالب 216-217 (طبعة جديدة 269)]. أما إن قصدت أن يشم الرجال ريحها فهي "شبه" زانية [بغية الطالب 351]. وهو تعديلٌ طفيفٌ على كلام المعصوم.
وقد عدّ ابن حجر الهيتمي خروج المرأة متعطرة متزينة من كبائر الذنوب، قال في الزواجر ما نصه: من جملة الكبائر "خروج المرأة من بيتها متعطرة متزينة ولو بإذن زوجها" [الزواجر عن اقتراف الكبائر (الكبيرة رقم 279)].
وقد احتج الحبشي بما يلي:(36/60)
احتج بقول القرطبي أنه يجوز أن تخرج المرأة متزينة إذا لم تقصد التعرض للرجال، وإنما أرادت الفرح بنفسها [صريح البيان 182 حذفوا هذه الفقرة في الطبعة الثانية]. وقال في كتاب مواهب الجيل (3/405) "وللمرأة أن تتزين للناظرين (أي للخطبة)، ولو قيل إنه يجوز لها التعرض لمن يخطبها إذا سلمت نيتها في قصد النكاح لم يبعد" وقال البهوتي في كشف القناع [كشاف القناع عن متن الإقناع 1/82] "ولها تحسين وجهها وتحميره ونحوه من كل ما فيه تزيين" [صريح البيان 186]. فتحريم خروج المرأة متعطرة على الإطلاق هو تشريع. قال الأصوليون: التشريع كفر أو كبيرة" [صريح البيان 186 (الطبعة الجديدة 350)].
وزعم أن الأمر قد التبس على بعض الناس فظنوا أن الآية {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ} يراد بها تحريم الزينة على النساء في غير حضرة الزوج والمحارم للنساء، متوهمين أن الزينة هي الزينة الظاهرة باللباس والحلي فوضعوا الآية في غير موضعها. والأمر الصحيح المراد بالآية كشف الزينة الباطنة من الجسد وهو ما سوى الوجه والكفين والقدمين عند بعض الأئمة بخلاف الزينة المستثناة في آية {إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} فإن الله تعالى أباح كشف الوجه للحرة وغيرها لحجة الخلق إلى ذلك [صريح البيان 186 (الطبعة الجديدة 351)].
تشبيه أحد الجنسين بالآخر
وشدد على تحريم تشبه الرجال بالنساء والعكس، وأجاد في إيراد الأدلة من نصوص الكتاب والسنة: ولكن؛ ماذا عن اللباس الذي تلبسه تلميذاته من السروال الضيق مع الحجاب في نفس الوقت. أليس لبس السروال الضيق فيه تشبه بالرجال. قال نزار الحلبي "إنما هذا توفيق بين الموضة وبين اللباس الشرعي" وكأن الموضة تشريع آخر!!.(36/61)
ملاحظة: قال الحبشي "وكذلك عورة الرجل مع الرجل" اعتبرها الحبشي عورة أي أنه اعتبر الفخذ عورة ، أثبت ذلك في الطبعة الجديدة (بغية الطالب 369) دون القديمة، بينما صرح في كتابه (صريح البيان 156 ط: جديدة 291) أن الفخذ ليس بعورة.
عدم تغطية الرجلين
وتلميذاته يخرجن كاشفات عن سيقانهن، ويزدرين بالمرأة التي تطيل ثيابها إلى أسفل القدمين، ويعتبرن ذلك من التطرف والتنطع، وإذا سُئِلنَ عن ذلك أجَبْنَ بأن الشيخ رخّص لهن. وصِرنَ يظهَرْنَ بمظهر مثير للفتنة وبكامل الزينة مع الحجاب، ولم تتوقف فتواه على حد النظر. بل أدت إلى التهاون في أمور تؤول إلى الفاحشة مثل مفاخذة المرأة بحجة أنها من صغائر الذنوب وأنه لا يجوز أن توصف بأنها زنى، ونحن لا نبدل كلام نبينا - صلى الله عليه وسلم - الذي وصف ما هو أدنى من المفاخذة بأنه زنى فقال "العين تزني وزناها النظر، والفم يزني وزناه القُبل [رواه البخاري (6612) و(6643)]. فوصف ما دون المفاخذة بأنه زنى مع أنه ليس فيه حدّ الزنا. ونحن لسنا بأدق وصفاً وأكثر ورعاً وأفصح بياناً من النبي - صلى الله عليه وسلم - . فالسارق الذي يسرق أقل من ربع الدينار لا يُقامُ عليه الحد ومع ذلك يوصف بأنه سارق.
وعلى افتراض عدم إقامة الحد عليها فإن فيها "تعزير" وهو حد يحدده الإمام أو القاضي وقد أقام علي رضي الله عنه الحد على رجل وامرأة وجدهما في لحاف واحد. وحين يجد أتباعه أن شيخهم ينكر أن توصف المفاخذة بأنها زنى: فماذا يمنعهم بعد ذلك من أن يمارسوا "ما ليس بزنى"!!!
وقد اعتمد صاحب (ناجي بيتش) لفتح ناديه على فتوى شيخه الذي أفتاه أن التعري على الشواطئ من الصغائر. وحدثني أخوة في الدانمارك أن أتباعه يزنون بالنساء الكافرات "نكايةً في دينهنّ" {الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ}.
فتواه إباحة المصافحة بين الجنسين(36/62)
وقد أباح للرجل وضع يده بيد امرأة لا تحل له واشترط أن يكون ذلك بحائل [صريح البيان 144] وهذا استدرج إلى إباحة المصافحة بعد التحريم. إذ يصح فيمن تشابكت يده بيد امرأة ولو من حائل أن يقال إنه صافحها.
وردّ قول عائشة "لا والله ما مست يد النبي يد امرأة قط" [البخاري (4891)] وردَّ حديث أميمة "إني لا أصافح النساء وإنما قولي لمئة امرأة كقولي لامرأة واحدة" [رواه الترمذي (1597) بسند صحيح].
وهذا الالتواء لا يصدر من مؤمن مخلص يريد الخير والنصيحة للمسلمين ويسد أمامهم ذرائع الفاسد ووسائل الشر وأبوابه، لا سيما وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - الوعيد الشديد في ذلك، فعن معقل بن يسار مرفوعاً "لأن يُطعن في راس رجُلٍ بمخيطٍ خيرٌ من أن يمس امرأة لا تحِلّ له" [سلسلة الصحيحة 226].
إباحة الاختلاط
قال "وجاء في الموطأ [على الموطأ وليس فيه] هامش التاج والإكليل لمحمد بن يوسف العبدري (1: 499) أنه سئل مالك هل يجوز أن يأكل الرجل وزوجته مع رجل آخر؟ فقال مالك لا بأس بذلك إذا كان ذلك على ما يعرف من أمر الناس [صريح البيان 178] ليخلص إلى القول بأنه من أحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكلام العلماء يتبين لنا أن اختلاط الرجل بالنساء ليس حراماً [صريح البيان 179].
وهو يأتي بالأدلة على مشروعية تزين المرأة لخاطبها ويطرحها فيظنها أدلة على جواز التزين خارج البيت.(36/63)
قال "وقال القرطبي ما نصه: يجوز خروج المرأة متزينة إذا لم تقصد التعرض للرجال، بل أرادت الفرح بنفسها، وهذه المسألة في الحقيقة إجماع لأن العروس لما تزف تكون في زينة". "وقال إمام المالكية عبد الله المغربي المعروف بالحطاب في كتابه مواهب الجليل (3: 405) ولها أن تتزين للناظرين بل لو قيل بأنه مندوب ما كان بعيداً. ولو قيل أنه يجوز لها التعرض لمن يخطبها إذا سلمت نيتها في قصد النكاح لم يبعد" [صريح البيان 186]. وقال البهوتي في كشف القناع (1: 82) "ولها حلق الوجه وحفصه نصاً والمحرم إنما هو نتف شعر وجهها".
ولها تحسينه وتحميره ونحوه من كل ما فيه تزيين له" [صريح البيان 186].
وقال القفال الشاشي في الحلية (2: 45) ويحرم على المرأة أن تصل شعرها بشعر نجس، فأما إن وصلته بشعر طاهر أو حمرت وجهها أو سودت شعرها أو طفرت أناملها ولها زوج لم يكره.
جواز محادثة المرأة من غير حاجة
ولا بأس بأن يتكلم مع النساء بما لا يحتاج إليه وليس هذا من الخوض فيما لا يعنيه [صريح البيان 191]. ونحن نسأل: ما هو الشيء الذي يجعله يكلمها ولو من غير حاجة! ألعله يسألها عن حال الطقس!
سب الصحابة
وقد حكم الحبي على معاوية بأن كان يأمر بأكل أموال الناس بالباطل والقتل [إظهار العقيدة السنية 182]، وبالرغم من ادعائه الالتزام لطريقة الرفاعي والجيلاني إلا أننا نلحظ مخالفته لهما في موقفهما من معاوية:
فالشيخ عبد القادر الجيلاني يقول "اتفق أهل السنة على وجوب الكفّ عما شجر بين أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والإمساك عن مساؤئهم، وإظهار فضائلهم ومحاسنهم، وتسليم أمرهم إلى الله عز وجل على ما جرى من اختلاف علي وطلحة والزبير وعائشة ومعاوية رضي الله عنهم" [الغنية لطالبي الحق 79].
وكان أبو حامد الغزالي يثني على معاوية خيراً ويقول إنه اجتهد وأخطأ في اجتهاده [إحياء علوم الدين 1/115].(36/64)
وكان الشيخ أحمد الرفاعي رحمه الله يأمر بالكف عما شجر بين أمير المؤمنين علي ومعاوية ويقول: معاوية اجتهد وأخطأ وله ثواب اجتهاده، والحق مع علي وله ثوابان، وعلي أكبر من أن يختصم في الآخرة مع معاوية على الدنيا، ولا ريب بمسامحته له، وكلهم على الهدى" [روضة الناظرين 56].
ويذكر الحبشي عن إسحاق بن إبراهيم الحنظلي أنه لم يصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - شيء في فضل معاوية شيء [الموضوعات 2/24. فتح الباري 7/104]. مع أنه ثبت دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - لمعاوية وفيه "اللهم اجعله هادياً مهدياً، واهده واهد به" أخرجه البخاري في التاريخ 4/1/327 وابن عساكر في تاريخه 2/133/1) ورجاله كلهم ثقات: رجال مسلم وهذا شأن الحبشي فإنه يأتي بالضعيف والموضوع ليتجمل إلى الشيعة لأن هذا الوقت موسم للتجمل كما لا يخفاك!
وقد حشا في كتابه (صريح البيان) جملة من أحاديث الشيعة ورواياتهم لا سيما روايات الاختلاف بين علي ومعاوية من غير تحقق ولا تثبت، ويأتي بروايات المسعودي صاحب مروج الذهب [صريح البيان 93] وهو شيعي جلد، قال عنه الحافظ ابن حجر "كتبه طافحة بأنه كان شيعياً معتزلياً [لسان الميزان سير أعلام النبلاء 15/569].
ويعتمد روايات الواقدي وسيف بن عمر الضبي وهشام الكلبي ولوط بن يحيى الكوفي (أبو مخنف) الشيعي الكذاب [صريح البيان 96 و 97 و99 و100 و103 و105 وفي الطبعة الجديدة 223 وانظر 211 إلى 222]، مثل أن معاوية كان يرسل الأصنام يبيعها للوثنييين في الهند، وأنه أوصى ولده أنه إذا أمسك بابن الزبير أن يقطعه إرباً إرباً وأنه ذاق حلاوة الدنيا وأراد الملك والعلو في الأرض فتباكى على دم عثمان ولم ين له سابقة في الإسلام يستحق بها طاعة الناس وليس في قلبه خشية لله ولا تقوى وأنه ملك جبار خدع أتباعه بقوله إمامنا قُتِل مظلوماً. . الخ".(36/65)
وهذه رواية لوط بن يحيى قال ابن عدي "شيعي محترق له من الأخبار ما لا أستحب ذكره" وقال ابن حجر "إخباريٌ تالف لا يوثق به" وقال الرازي "ليس بثقة متروك الحديث" [الكامل في الضعفاء 6/93 لسان الميزان 4/584 الجرح والتعديل 7/182 سير أعلام النبلاء 7/301].
لكن الحبشي لم يتركه بل تعلق بأكاذيبه لحقد وتشيع عنده، فكيف يكون أميناً على عقائد الناس؟ ولا يزال أتباعه ينادون في الناس "انظروا عمن تأخذون دينكم" وهُمْ والله أولى بالنصيحة من غيرهم، لا ينظرون عمن أخذوا دينهم ولا يفحصون ما يورده لهم الحبشي من أكاذيب الشيعة ومخلفات المعتزلة والجهمية أسأل الله أن ينوّر قلوبهم للحق وأن يهدينا وإياهم سواء السبيل.
من أنكر صحبة عمر والصحابة لا يكفر!
قال الحبشي "من أنكر صحبة أبي بالقلب أي اعتقد أن أبا بكر ليس صاحباً لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقد كفر، أما من أنكر صحبة عمر أو صحبة عثمان أو صحبة علي فلا يُكفّر، وذلك لأن الله ما نص في القرآن على صحبة عمر أو علي أو عثمان، أما أبو بكر فقد نص الله على صحبته في القرآن فقال تعالى {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا} فقد أجمع المسلمون على أن المراد بالصاب هنا هو أبو بكر (بغية الطالب 32 طبعة جديدة 47). وإذا كان الحبشي يكفر منكر صحبة أبي بكر بديل الإجماع أليس صحبة عمر وعثمان مما أجمع عليه أئمة المسلمين أيضاً؟
الصحابة مقلدون!!
ذكر الحبشي أن أغلب أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - كانوا مقلدين. وذكر بأن المجتهدين من الصحابة ستة فقط. وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يعلم أن أكثرهم لا يستطيعون استخراج الأحكام من القرآن والسنة [شريط (3) 744 وجه (1)].
وهذا استخفاف بالصحابة الكرام بناء على ما اتفق عليه من أن المقلد جاهل وأنه ليس من أهل العلم. قال السيوطي "إن المقلد لا يسمى عالماً" [نقله السندي في حاشية ابن ماجة 1/7 وأقره].(36/66)
والحق أن من تأمل سيرة الصحابة رضي الله عنهم رأى أنهم كانوا إذا ظهرت لهم السنة لم يكونوا يدعونها لقول أحد كائناً من كان. وكانوا أحرص الناس عملاً بهذه الآية {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [النساء 59].
إبطال دعواهم أنهم على منهج الشافعي
وقد زعم أحد الأحباش أنهم على مذهب الشافعي عقيدة وفقهاً [عن مجلة الشراع العدد 558]. قلت: أما هذه فلا!
فمتى كان الشافعي يبيح الربا وقد خالف شيخكم صريح مذهبه في ذلك وأخذ بمذهب أبي حنيفة في جواز أخذ الربا من الكافر الحربي.
ومتى كان مذهب الشافعي الطعن في أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟
ومتى كان مذهب الشافعي إعمال الحِيَل على الله؟ كما فعل شيخكم في مسألة (الكحول). ومسألة أكل الثوم والبصل لمن رغب عن دخول المسجد. ومسألة شراء الكتب الفاسدة المخالفة!
وهل كان مذهب الشافعي تأويل الصفات وانتهاج علم الكلام وهو القائل للربيع "لا تشتغل بالكلام فإني اطعلتُ من أهل الكلام على التعطيل" [سير أعلام النبلاء 10/28] وقال "حكمي في أهل الكلام أن يُضربوا بالجريد ويحملوا على الإبل ويطاف بهم في العشائر والقبائل ويُنادى عليهم: هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة وأقبل على الكلام" [سير أعلام النبلاء 10/29 صون المنطق 65 الحلية 9/116 مناقب الشافعي 1/462]. وتواتر عنه ذمه لأهل الجدل والكلام مهما حاول الحبشي تأويله والتماس الأعذار له؟
وصدق أبو حنيفة حين حكم على المتكلمين أنهم: "قاسية قلوبهم غليظة أفئدتهم لا يبالون مخالفة الكتاب والسنة، وليس عندهم ورع ولا تقوى" [سير أعلام النبلاء 6/399 مفتاح دار السعادة 2/136].(36/67)
ومتى كان الشافعي يوافق أناشيدكم ورقصاتكم المصحوبة بالآلات الموسيقية التي يصفق لها النساء قبل الرجال، قد أضحكتم علينا أعداء المسلمين حين رأوكم حتى قالوا إن دين هؤلاء طبلٌ ورقص، ورأوا قائدكم الموسيقي (المايسترو الإسلامي) النجم الفنان جمال شماعة! على غرار الفِرَق الموسيقية الغربية !! قد أضحكتم الناس عليكم بهذه الظاهرة الغريبة الشاذة!.
ومتى كان الشافعي يوافق هذه الطرق الصوفية كالرفاعية والنقشبندية الخائضة في وحدة الوجود، التي جعلت من مشايخ الطريقة آلهة يُعبَدون! يحيون الموتى وينقلون المرض من شخص لآخر ويستقطعون الأراضي في الجنة، ولذا قال الشافعي "لو أن رجلاً تصوف أول النهار، لا يأتي الظهر حتى يصير أحمق، وما لزم أحد الصوفية أربعين يوماً فعاد إليه عقله أبداً" [تلبيس إبليس لابن الجوزي 371] وهذه الحماقة المخالفة لما كان عليه السلف من أعظم مظاهر التشويه في أعينُ غير المسلمين.
أكذوبة علم الكلام السني
ولما رأى الحبشي تواتر الروايات عن الشافعي وغيره في ذم علم الكلام وأهله بما لا يمكن دفعه لجأ إلى حيلة أخرى: فجعل علم الكلام ينقسم إلى نوعين:
…1 ) علم كلام (سني) مطلوب.
2 ) وعلم كلام (مذموم). تمويهاً على الناس. والجواب:
أولاً: أنه ثبت رجوع الجويني والرازي والباقلاني عن علم الكلام كما نص عليه الحافظ بن حجر والذهبي والسبكي وغيرهم، وكانوا قبل توبتهم على المذهب الأشعري ولم يكونوا آنذاك معتزلة.(36/68)
ثانياً وذكر حافظ المغرب وفقيهها ابن عبد البر بسنده عن فقيه المالكية أبي بكر بن خويزمنداد عند شرح كلام مالك بن أنس "لا تجوز شهادة أهل الأهواء بالبدع" قال "أهل الأهواء عند مالك وسائر أصحابنا هم أهل الكلام، فكل متكلم فهو من أهل الأهواء والبدع أشعرياً كان أو غير أشعري ولا تُقبل له شهادة في الإسلام أبداً ويُهجَر ويؤدّب على بدعته" [جامع بيان العلم 2: 96 وقد حذف طاش كبري زادة من النص ما يتعلق بالأشاعرة (مفتاح السعادة 2: 137)].
ثالثاً: أن هناك قاسماً مشتركاً بين الأشعرية والمعتزلة وهو علم الكلام. فمع وجود الاختلاف في بعض المسائل بينهم إلا أنهم متفقون على تنصيب علم الكلام في مسائل العقيدة. فما موقف الحبشي من هذه الحقيقة الفاضحة؟
خادم علم الكلام وليس علم الحديث
الحبشي لا يرعى لأسماء الله وصفاته حرمة فإنه لا يزال يعبث فيها على غير علم ولا هدى. حتى صار يفتي بان الله ليس على كل شيء قدير وأن القرآن الكريم ليس كلام الله. وزعم أنه يستخدم التأويل في صفات من أجل تنزيه الله عن التشبيه. وهذه الذريعة كانت من قبل ذريعة الجهمية والمعتزلة، الذي توصلوا بهذه الذريعة إلى تعطيل ما وصف الله به نفسه.
ونحن نتفق معه في أن تشبيه الله بخلقه كفر، لكننا نخالفه في اعتقاده أن إثبات ما وصف الله به نفسه مقروناً بالتنزيه يكون تشبيهاً. لأنه معلوم بالاتفاق أن السلف لم يؤولوا الصفات بل أثبتوها ونفوا عنها التشبيه. وهذه الطريقة الوسط التي لا تؤدي إلى تشبيه المشبّهة ولا تعطيل المعطلة.
مذهب عبد القادر الجيلاني في الصفات(36/69)
مثاله قول الشيخ عبد القادر أن الله "يقبض ويبسط ويفرح ويحب ويكره ويبغض ويرضى ويغضب ويسخط وله يدان وكلتا يديه يمين وأن قلوب العباد بين أصبعين من أصابعه، وأنه بجهة العلو مستو، على العرش محتو، وأن النبي شهد بإسلام الجارية لما سألها: أي الله؟ فأشارت إلى السماء، وأن عرش الرحمن فوق الماء، والله تعالى على العرش ودونه سبعون ألف حجاب من نور وظلمة، وأن للعرش حد يعلمه الله.
وأنه ينبغي إطلاق صفة الاستواء من غير تأويل وأنه استواء الذات على العرش لا على معنى القعود والمماسة كما قالت المجسمة والكرامية ولا على معنى العلو والرفعة كما قالت الأشعرية ولا على معنى الاستيلاء كما قالت المعتزلة [وهو قول الأشعرية اليوم] وأنه ينزل في كل ليلة إلى السماء الدنيا كيف شاء لا بمعنى نزول الرحمة وثوابه على ما ادعت المعتزلة والأشعرية" [الغنية 54 و56 و57].
ضرورة تأدب الحبشي وأتباعه مع الله
وطريقته في النهي عن إساءة الأدب مع الله لا تخلو من إساءة للأدب. فإنك لو قلت للسلطان: لست بزبّال ولا سبّاك ولا إسكافي لبادر إلى تأديبك على هذا التنقيص. وليس أدلّ على هذا التنقيص مما نراه في كلامه من الألفاظ الشنيعة في حق الله، فقد أخذ يحذر الناس من الألفاظ السيئة في حق الله لكنه أخذ ويفصل ما ليس من الأدب تفصيله كقوله "ومن قال أخت ربك" "خلصني من ربك" "حل عني أنت وربك" "وحياة شوارب الله" يا .؟. الله" "دخيل رجلين ربك" "أكون قواداً إن صليت" [النهج السليم 57 الدليل القويم 145 بغية الطالب 41] إن أكثر الناس فسقاً لا يخفى عليهم أن هذه الألفاظ من ألفاظ الكفر. ولكن أهل الكلام لفساد منهجهم: لا يعون دور الفطرة ويفصلون ما لا وجه لتفصيله لأنه مركوز في الفطرة. إنهم يضعون أمامك مقدمات طويلة ليثبتوا لك في النهاية أن الله قديم وما سواه حادث وأنه موجود وهو أمر تعرفه الفطرة بالضرورة.
اصطلاحات وألفاظ فقهية عقيمة(36/70)
وله ألفاظ مستقبحة في الفقه كقوله "خروج المني أي ظهوره إلى ظاهر الحشفة ووصوله إلى ظاهر فرج البكر، أو وصوله إلى ما يظهر من فرج الثيب عند قعودها على قدميها. وعلامة المني التي يعرف بها التدفق أي الانصباب بشدة أو التلذذ بخروجه أو ريح طلع النخل أو العجين في حال الرطوبة، وريح بياض البيض بعد الجفاف.
والجماع: إيلاج الحشفة أو قدرها من فاقدها في فرج ولو دبراً أو فرج بهيمة أو ميتة فلا يجب غسل الميتة من ذلك. النفاس وهو الدم الخارج بعد الولد ولو مجة أي قدر بزقة واحدة [بغية الطالب 70].
التوسل بدعاء المومسات
ومن المضحكات ما حكاه هذا "الواعظ" قال "وكان الشيخ بدر الدين الحسنى يذهب إلى سوق الزانيات ويسألهن الدعاء له. وكان يرسل إليهن رجلاً يبعث معه مبالغ من المال ليعطيها إليهن، فأتى رئيسة بنات الخطأ وأمرها أن تجمع له كل الزانيات بعد أن يغتسلن جميعهن. وبعد اجتماعهن سأل المومسات الدعاء للشيخ بظهر الغيب، فدعون له وصرن يبكين ثم أعلنت جميعهن توبتهن [شريط 11 وجه (أ) 285-300].
مقتضيات خدمة علم الحديث
هل الحبشي حقاً محدِّث عصره، وأنه خادم علم الحديث؟ دعونا نلق نظرة على طريقته في رواية الأحديث. فإن من مقتضى خدمة الحديث نقد الرواية والتأكد من صحتها قبل الاحتجاج بها وتعليمها للعوام، وعدم جمعها جمع حاطب ليل.
لقد اتهم الحبشي الذهبي بأنه متساهل في رواية الحديث وأنه يأتي بأحاديث غير ثابتة من غير تبيين لدرجتها من حيث الصحة [إظهار العقيدة السنية 97].(36/71)
والصحيح أنه هو المتساهل في تبيين درجة الأحاديث، وقد رصدتُ له روايات كثيرة بين موضوع وضعيف يتمسك بها لمجرد موافقتها لمذهبه. لا سيما روايات الفتن بين الصحابة والتي اختلقها لوط بن يحيى وسعيد الضبي وغيرهما من الشيعة، والتي جعلته ينتقص أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - كمعاوية وخالد بن الوليد وعمرو بن العاص [انظر كتابه صريح البيان ص 110]، وقد فصلت ذلك في كتابي شبهات أهل الفتنة وأجوبة أهل السنة ففيه تفاصيل الرد عليه وإبطال رواياته المردودة التي نقدها كبار الحفاظ والنقاد من أهل العلم.
نموذج من تساهله في الرواية
وهذه رواية من كتابه (المولد النبوي) وفيها من الأساطير ما يؤكد أن الحبشي يميل مع الموضوع والمكذوب الذي يرمي به الذهبي. يقول:
لما حملت آمنة برسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانت ترى الطيور عاكفة عليها إجلالاً للذي في بطنها وكانت إذا جاءت تستقي من بئر يصعد الماء إليها إلى رأس البئر إجلالاً لرسول الله. قالت وكنت أسمع تسبيح الملائكة حولي ثم أتاني ملك فقال إنك قد حملت بسيد المرسلين.
ولما مات عبد الله ضجت الملائكة إلى باريها وقالت: إلهنا يبقى نبيّك وحبيبك يتيماً؟ قال الله تعالى: اسكتوا يا ملائكتي [هل يجوز أن يقال (قال الله) بسند كاذب وهل حقاً قال الله ذلك لملائكته؟]!.
قالت آمنة: لما كان أول شهر من شهوري، إذ دخل علي رجل حسن الوجه طيب الرائحة: وهو يشير بيده إلى فؤادي ويقول: مرحباً مرحباً بك يا محمد.
فلما كان في الشهر الثاني دخل علي رجل جليل القدر، وهو يشير بيده إلى فؤادي ويقول: السلام عليك يا رسول الله. قلت له سيدي من أنت. قال: أنا شيث. قلت وما تريد يا شيث قال: أبشري يا آمنة. فقد حملتِ بالنبي الكريم والسيد العظيم. الضبُّ له يكلِّم. والحجر له يسلّم. ثم انصرف.(36/72)
فلما كان في الشهر الثالث دخل عليَّ رجلٌ له سكينة ووقار وهو يشير بيده إلى فؤادي ويقول: السلام عليك يا مزمِّل. قلت له: سيدي من أنت؟ قال أنا النبي إدريس. فقلت: وما تريد يا إدريس؟ قال: أبشري يا آمنة، فقد حملت بالنبي الرئيس [ص 8 و9].
فلما كان في الشهر الرابع دخل عليّ رجلٌ أسمر مليحُ المنظر وهو يشير بيده إلى فؤادي ويقول: السلام عليك يا صادق. السلام عليك يا صفوة الكريم الخالق. فقلت له سيدي من أنت؟ قال أنا نوح. فقلت وما تريد يا نوح؟ قال: أبشري يا آمنة: فقد حملتِ بالنبي الممنوح الذي ذكاؤه في الآفاق يفوح.
فلما كان في الشهر الخامس دخل علي رجل حسنه مُكمَّل، ووجهه مُجمَّل، وهو يشير بيده إلى فؤادي ويقول: السلام عليك يا زين المرسلين. السلام عليك يا إمام المتقين. قلت له سيدي من أنت؟ قال أنا نبي الله هود. قلت وما تريد يا هود. قال: أبشري يا آمنة فقد حلت بالنبي المسعود.
فلما كان في الشهر السادس دخل علي رجل جليل المقدار كثير الأنوار وهو يشير بيده إلى فؤادي ويقول: السلام عليك يا بغية المطلوب. فقلت له سيدي من أنت؟ قال أنا إبراهيم قلت: ما تريد يا إبراهيم: فقد حملت بالنبي الجليل والرسول الفضيل. ثم انصرف.
فلما كان في الشهر السابع دخل رجل أملح ووجهه من البدر أصبح وهو يشير إلى فؤادي ويقول: السلام عليك يا صفوة الإله، السلام عليك يا عظيم الجاه، فقلت له: سيدي من أنت؟ قال: أنا أبوه إسماعيل الذبيح. فقلت له سيدي وما تريد؟ قال أبشري يا آمنة فقد حملت بالنبي المليح. صاحب النسب الصحيح واللسان الفصيح. ثم انصرف.(36/73)
فلما كان في الشهر الثامن دخل رجل طويل القامة مليح الهامة وهو يشير إلى فؤادي ويقول: السلام عليك يا إمام الأبرار، السلام عليك يا حبيب الملك الجبار، فقلت له: سيدي من أنت؟ قال: أنا موسى بن عمران. قلت وما تريد يا موسى؟ قال: أبشري يا آمنة. فقد حملت بنزل عليه القرآن. ويكلمه الرحمن. ثم انصرف [المولد النبوي 10-11].
فلما كان في الشهر التاسع دخل علي رجل لابس الصوف، وهو بالبادة موصوف. فأشار بيده إلى فؤادي ويقول: السلام عليك يا زين الخلائق. فقلت له: سيدي من أنت؟ قال: أنا عيسى بن مريم. فقلت وما تريد يا عيسى؟ قال أبشري يا آمنة: فقد حملت بالنبي الأكرم. وفي هذا الشهر تضعين محمداً - صلى الله عليه وسلم - .
قالت آمنة: وبقيت في المنزل وحيدة، إذ سمعتُ حركةً بين السماء والأرض. ورأيت ملكاً عظيماً بيده ثلاثة أعلام. فنشر الأول على مشرق الأرض. والثاني على مغربها. والثالث على البيت الحرام. فنظرت إلى ركن المنزل وقد ظهر منه أربع نساء، طوال كأنهن الأقمار. متزرات. فقلت لهن من أنتن: فقالت الأولى: أنا مريم بنت عمران. والتي على يسارك سارة. والتي تناديك من خلفك هاجر أم إسماعيل الذبيح [كأني بهذه الرواية دسيسة يهودية جعلت هاجر من الخلف لأنهم يزدرونها ويصفونها بأم إسماعيل الوحشي] والتي أماك آسيا بنت مزاحم امرأة فرعون. فتقدمت الأولى وقالت: أبشري يا آمنة، من مثلك وقد حملت بسيد أهل الأرض والسماء. ثم جلست بين يدي وقالت: ألق بنفسك علي وميلي بكليتك إلي [ص 12-13].(36/74)
قالت آمنة: وفي تلك الساعة رأيت الشهب تتطاير يميناً وشمالاً، ورأيت المنزل قد اعتكر عليّ بأصوات مشتبهات، ولغات مختلفات، فأوحى الله تعالى إلى رضوان: يا رضوان زيِّن الجِنان، واهتز العرش طرباً، ومال الكرسي عجباً، وتجلى الملك الديان من غير حركة ولا انتقال [أيعقل أن تنزه آمنة ربها عن الحركة كأنها كانت خبيرة بمذهب آرسطو؟ ثم يتحدث ابنها - صلى الله عليه وسلم - عن علو الله ونزوله ومجيئه من غير أن ينزهه عن الحركة والانتقال؟].
ثم إن الله تعالى أوحى إلى جبريل أن صُفَّ أقداح راح الشراب [انظر كيف يفترون على الله الكذب. لمن يُوزع الشراب أعلى الملائكة الذي لا يأكلون ولا يشربون أم على أهل الأرض؟] وانشر نوافح المسك الذكية، وعطِّرِ الكونَ بالروائح الطيبة الزكية، وافرش سجادة القرب، وقيل يا مالك أغلق أبواب النيران، وصفِّدِ الشياطين.
قالت آمنة: ولم يأخذني ما يأخذ النساء من الطلق، إلا أني أعرق عرقاً شديداً، كالمسك الأذفر لم أعهده قبل ذلك من نفسي، فشكوتُ العطش، فإذا يملك ناولني شربة من الفضة البيضاء، فيها شراب أحلى من العسل، فشربتها، فأضاء علي منها نور عظيم. فبينما أنا كذلك، إذا أنا بطائر عظيم أبيض قد دخل علي وأمرَّ بجانبه جناحيه على بطني، وقال: انزل يا نبي الله - صلى الله عليه وسلم - . فأعانني عالم الغيب والشهادة على تسهيل الولادة، فوضعت الحبيب محمداً [المولد النبوي ص 16-17]. فلما خرج مني خرج معه نور أضاء له المشرق والمغرب. وولد - صلى الله عليه وسلم - مكحولاً مدهوناً مسروراً مختوناً.
وحين وُلِدَ سارَعتْ إلى طلعته المباركة ثلاثة من الملائكة. مع أحدهم طسط من الذهب، ومع الثاني إبريق من الذهب، ومع الثالث منديل من السندس الأخضر.(36/75)
قالت آمنة بنت وهب: فلما وضعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأيته رافعاً رأسه إلى السماء، مشيراً بأصبعه، فاحتمله جبريل وطارت به الملائكة. ولفَّه ميكائيلُ في ثوب أبيض من الجنة وأعطاه إلى رضوان [الملك] يزُقُّهُ كما يزقُّ الطيرُ فرخَه. فقال له رضوان: يكفيك يا حبيب الله فما بقي لنبي علم وحلم إلا أوتيتَه. وإذا منادٍ ينادي: طوفوا به مشارق الأرض ومغاربها. وأعرضوه على موارد الأنبياء. وأعطوه صفوة آدم [ذكر قبل ذلك أنه أعطي صفوة الله. وها هو يذكر الآن أنهم أعطوه صفوة آدم].
فقالت الطير نحن نكفله، وقالت الملائكة: نحن أحق به. وقالت الوحوش: نحن نرضعه. قال الله: أنا أولى بحبيبي ونبيي محمد - صلى الله عليه وسلم - . فإني قد كتبت أن لا ترضعه إلا أمتي حليمة [ص 20] فأدارته إلى ثديها الأيسر فامتنع إلهاماً من الله تعالى وتحريكاً كأنه قد علم أن له في ذلك شريكاً [المولد النبوي 19-22].
ثم قال بعد هذه الأكاذيب "ليعلم المطالعون لهذا المولد أن أغلب الأحاديث المتعلقة بالمولد ليست صحيحة الأسانيد إذ لم يصح منها إلا القليل. وهناك كُتبٌ ألِّفَتْ في المولد فيها الكذب الصريح".
قلت: ومنها هذا الكتاب.
إن هذه الطريقة التي ينتهجها الحبشي وأهل الكلام إن هي إلا مصداق قوله - صلى الله عليه وسلم - :
"يكون في آخر الزمان دجالون كذابون يأتونكم من الأحاديث بما لم تسمعوا أنتم ولا آباؤكم فإياكم وإياهم لا يضلّونكم ولا يفتنونكم" [رواه مسلم في مقدمته (7)].(36/76)
فانظر فكيف يتهم الحبشي غيره بالتساهل في الرواية في حين يروي هو صريح المكذوب والموضوع دفاعاً عن عقيدته. ورغبة وميلاً إلا خرافاته [لعله اقتبس هذه الرواية الخرافية من كتاب عنوان الشريف لمؤلفه أبي الحسن نور الدين علي بن ناصر المكي. وهو رجل حلولي يزعم أن الله أودع نوره اللاهوتي في الشبح الناسوتي، نقله من مستودع أمين إلى قرار مكين (عنوان الشريف 46) ويعني بذلك اتحاد نور الله في جسد النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو من جملة ضلالات الصوفية الحلولية].
مسخ النصوص واعتسافها
وله مخالفات لصريح قول النبي - صلى الله عليه وسلم - :
ففي قول - صلى الله عليه وسلم - "لأن يجلس أحدكم على جمرة فتحرق ثيابه وتخلص إلى جلده خير له من أن يجلس على قبر" قال الحبشي "المراد بالجلوس الجلوس للبول أو الغائط، فلا يحرم الجلوس على القبر لغير ذلك" [بغية الطالب 325].
وهذا باطل أبطله النووي حيث قال "المراد بالجلوس القعود عند الجمهور. وأبطله مالك بقوله "هو تأويل ضعيف أو باطل" نقله الحافظ [فتح الباري 3: 224] وقال "ويؤيد مذهب الجمهور ما أخرجه أحمد من حديث عمرو بن حزم الأنصاري مرفوعاً "لا تقعدوا على القبور" وفي رواية له عنه "رآني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا متكئٌ على قبر فقال: لا تؤذ صاحب القبر" وإسناده صحيح، وهو دال على أن لمراد بالجلوس القعود على حقيقته. قال واستدل ابن حزم بما ورد في قوله - صلى الله عليه وسلم - "لأن يجلس أحدُكم على جمرة فتحرِقَ ثيابه فتخلُصَ إلى جلده" قال ابن حزم" وما عهدنا أحداً يقعد على ثيابه للغائط، فدل على أن المراد القعود على حقيقته. وقال ابن بطال "التأويل المذكور بعيد، لأن الحدث على القبر أقبح من أن يُكرَه وإنما يُكره الجلوسُ المتعارف" [فتح الباري 3: 224].(36/77)
وفي حديث "إن العبد ليتكلم بالكلمة لا يرى بها بأساً يهوي بها في النار سبعين خريفاً". قال الحبشي "وذلك محل الكفار لا يصله عصاة المسلمين" [بغية الطالب 26]. وبناء عليه يصير الوعيد في الحديث موجهاً إلى الكفار لا إلى المسلمين وهو باطل، وإلا فكيف يهدد الكافر باجتناب سيء الكلام وهو لم يقر بالشهادتين بعد؟!
الدعوة إلى البطالة
قال الحبشي "فلو ترك الشخص العمل وهو قادر عليه غير معتمد على السؤال من شخص معين أو على الشحاذة، بل كان غير متعرض لذلك، واثقاً بربه أنه يسوق إليه رزقه فلا إثم عليه" [بغية الطالب 264].
وبمثل هذه الفتوى نامت الأمة وصارت وراء الأمم بفضل فتاوى الصوفية الذين جعلوا الجلوس في الزوايا وترك العمل من التوكل وصدق أبو بكر الطرطوشي حيث وصف التصوف بأنه مذهب البطالة.
لا تأخذوا عنه دينكم
بعد هذا أذكّر بما قاله الحبشي "لا يجوز استفتاء من ليس له كفاءة في علم الدين لقول ابن سيرين: أن هذا العلم دين، فانظروا عمن تأخذون دينكم" [بغية الطالب 264]. وذلك لأؤكد بالدليل من كلامه أنه ليس كفؤا في علم الدين وأنه ممن لا يجوز استفتاؤهم. وأتوجه إلى المغترين به فأقول " انظروا عمن تأخذون دينكم واحذروا ممن أرسله أعداؤك ليضلكم عن دينكم" ولا تغتروا بتلك المقولة التي يرددها أتباعه على العامة "من لم يكن له شيخ فشيخه الشيطان" يريدون بها إلحاقهم به وتبعيتهم له، فإن هذه الأمة قد أتاحت للمشايخ الشياطين أن يستحوذوا على العوام ويتطفلون على أموالهم ويستمتعون بنسائهم، فالمشكلة حين يكون الشيخ شياطاناً من شياطين الإنس وإماماً من أئمة الضلال.(36/78)
وقد حذرنا الرسول - صلى الله عليه وسلم - من أئمة الضلال فقال "إن أخوف ما أخافه عليكم من بعدي الأئمة المضلون" [رواه أحمد في المسند 5: 145 و 6: 441 والدارمي 1/70 بإسناد صحيح]. ووصفهم بأنهم "دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها" وأنهم "يهدون الناس بغير هديه - صلى الله عليه وسلم - " [رواه البخاري (7074).]
والحبشي يهدي الناس بغير هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - من توجيه الناس بدعائهم إلى الموتى وحثهم على الاستغاثة بهم، وصرفهم عن الزكاة، وإباحة الربا لهم، وتأجيج نار الفتنة والحقد بين المسلمين، فمثل هذا الفتّان يهدم الدين، وقد قال عمر رضي الله عنه لرجل "هل تعرف ما يهدم الدين؟ يهدمه زلة العالم وجدال المنافق بالكتاب وحكم الأئمة المضلين" [رواه الدارمي 1/71].
والكيس الفطن يعلم أن الجهات التي وراء هذا الرجل والتي تؤيده وتحيطه بكامل الدعم ليست حريصة على نشر السنة الصحيحة بين المسلمين، وكان ينبغي أن تكون هذه من أعظم القرائن على فساد العقيدة التي أتى بها هذا الرجل. ولكن . . .
فتواه في مخارج الحروف
وكذلك أفتى بوجوب تشديد مخارج السين والصاد لأنهما من الأحرف المستقبحة. ثم علّمهم التلفظ بهما بطريقة مستقبحة، ولقد سئم الناس من هذا السلوك الشاذ والوسوسة في التلفظ حتى قالوا: إذا أردت سماع تغريد البلابل والعصافير فعليك بالصلاة في مسجد أبي حيدر.
وقد شدد عليهم في ألفاظ النية، حتى صار تشديدها عندهم في الصلاة هو الشغل الشاغل وشق عليهم أداء تكبيرة الإحرام عند الدخول إلى الصلاة، فقال: (والتشديدات) وهي أربعة عشر شدة فمن ترك واحدة لم تصح صلاته".
فأين هذا من سيرة سيد المرسلين وأصحابه هل كانوا على هذا النحو من التكلف؟(36/79)
قال: "وأولى الحروف عناية بإخراجها وهي الصاد (الموالاة). وذلك بأن لا يفصل بين شيء منها وما بعده فصلاً طويلاً أو قصيراً بنية قطع القراءة. (والترتيب) أي الإتيان بها على نظمها المعروف، وأولى الحروف عناية وهي الصاد . ." [صريح البيان 123].
وهكذا شغلهم بالوسوسة عن تدبر التلاوة واستحضار الخشوع. حتى شكا غير واحد من أتباعه من كثرة الوسوسة عند الشروع في الصلاة. واضطر بعضهم إلى إعادة تكبيرة الإحرام مرات عديدة من أجل أن توافق ألفاظُ النية تكبيرة الإحرام.
وقد روى الشعراني عن الشيخ الفتوحي الحنبلي أنه قال "قد أتعب الموسوسون أنفسهم في ألفاظ النية التي أحدثوها، واشتغلوا بمخارج حروفها، ولم يصح عنه - صلى الله عليه وسلم - في ذلك شيء، إنما كان ينوي بقلبه فقط، وكذلك أصحابه. فاستحوذ الشيطان على طائفة، وأشغلهم بمخارج حروف النية ليصرف قلوبهم عن الحضور مع الله تعلى الذي هو روح الصلاة".
أضاف الشعراني "وكان الشيخ شمس الدين اللقاني المالكي يقول: لو أدرك النبي - صلى الله عليه وسلم - هؤلاء لمقتهم. ولو أدركهم عمر رضي الله عنه لضربهم. ولو أدركهم أحد من الصحابة والتابعين لبدّعهم وكرههم [لطائف المنن والأخلاق للشعراني 561]. انتهى.
ومع أن الحبشي نهى عن التنطع في أمور الطهارة والصلاة وعدَّ ذلك من الوسوسة قائلاً "والتعمق والتنطع معناهما واحد وهو التشديد في الطهارة والصلاة ونحوهما من أنواع العبادات. وقد قالوا: إن للموسوسين شيطاناً يضحك عليهم ويستهزئ بهم [بغية الطالب 100].
غير أنه لم يتنبه إلى أن تعاليمه أدت إلى ضحك الشيطان وتمكنه من وسوستهم لأن التلاوة والصلاة من أنواع العبادات أيضاً، ويحصل لأتباعه من مثل هذه الوسوسة في التلاوة الشيء الكثير. وتجد بعضهم يكرر تكبيرة الإحرام مراراً ولا يتمكن من اجتياز هذه المرحلة إلا بشق الأنفس. فلماذا لا نقول بأن الشيطان يضحك من هؤلاء أيضاً؟
فوضى التكفير المتهور(36/80)
التكفير حق لله لا يجوز لأحد إخراج أحد من دين الله إلا ببيِّنة ودليل يعذر بها يوم القيامة عند الله. فإن المسلم قد يخرُج من الدين بإخراجه من الدين من ليس خارجاً عند الله لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "من قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما" وفي رواية "أيما امرئ قال لأخيه كافر: فقد باء بها أحدهما، إن كان كما قال: وإلا رجعَتْ عليه" [البخاري (6103) ومسلم (80)]. فلا يجوز خروج هذه الكلمة (كَفَرَ) من فم امرئ يتقي الله ويحتاط لدينه إلا بعد حذرٍ شديد.
ولو يعلم هذا المسكين ما على تكفيره اللامسؤول من التبعة عند الله وأن تكفير من لا يستحق التكفير يعتبر مكافأة له حين يأخذ من خصمه (المكفِّر) حسناته. وأنها قد تتسبب في خروجه هو من الإيمان. لتمنى لو سكت طيلة حياته.
وليس خلق الله وصايا على دينه حتى يُخرجوا منه من يشاؤون، ثم يسكتون ويتغاضون عمن يشاؤون ممن يستحقه.
[] ولا يبدو أن عند الحبشي ولا عند أتباعه مراعاة ضوابط التكفير ولا وجود مسامحة في التعامل مع المخالف، بل يلاحظ فيه جانب الفظاظة والقسوة والشدة وهذا حاصل وثمرة علم الكلام وأهله كما وصفهم أبو حنيفة بأنهم قساة قلوب: ليس عندهم ورعٌ ولا تقوى.
[] ومن شاء الوقوف على سلوكيات هذا الرجل فليستمع ولو إلى شريط واحد من أشرطته ليرى فيها الطعن واللعن بالعلماء المخالفين له في المذهب. وإليكم مثالاً على تهوره في التكفير:
فقد حكم بانسلاخ أحد مخالفيه من الدين (خالد كنعان) فقال له "ولعلك منذ أربعين سنة انحرف قلبك أم منذ كم؟ فعارٌ عليك أن تدّعي الإسلام بعد هذا الكفر الذي كفرته، ثم لما جاءك المسخ القلبي انسلخت منه كما انسلخت عن حكم تكفير سابّ النبي؟ وهذا تسجيلٌ آخر على نفسك بأنك منسلخ عن السلف والخلف" [صريح البيان 23 و29].
ثمرة العقيدة الصحيحة والسيئة(36/81)
إن العقيدة لها أثرها في العمل والسلوك. فإن كانت صحيحة كان أثرها طيباً، وإن كانت فاسدة كان أثرها خبيثاً.
والمتابع لدروس الرجل يلاحظ أنها كانت لا تخلو – بمناسبة وبغير مناسبة – من التعرض للآخرين من علماء وشخصيات إسلامية بالسب والشتم واللعن والطرد من رحمة الله. فيأمر أتباعه بالتضييق على فلان وبلعن فلان ويسب ويشتم ويتهكم ويستهزئ ويرمي خصومه بالتهم الكاذبة وينسب إليهم ما لم يقولوه. وهذا يتعارض وأخلاق الإسلام، قال - صلى الله عليه وسلم - "ليس المؤمن بالطّعان ولا باللعّان ولا بالفاحش البذي" [رواه أحمد 1/404 والحاكم 1/12 بإسناد صحيح]. وقال "إذا خرجت اللعنة في فيّ صاحبها نَظَرَتْ: فإن وَجَدَتْ مسلكاً في الذي وُجِّهَتْ إليه، وإلا عادت إلى الذي خرجت منه" [رواه أحمد 1/408 بإسناد صحيح].
وقال الشيخ عبد الوهاب الشعراني ((إذا أردت أن تعرف مقام شيخ لم تره فانظر إلى أصحابه فإنهم يدلّونك عليه)) [لطائف المنن والأخلاق 327].
وليس من قبيل المصادفة أن يتفق هذا الخلق في عامة أتباعه من غير أن يكون الشيخ هو الذي ينفث فيهم ذلك.
وكان سلوكه هذا سبباً في كراهية الناس له في بلده (هرار) بجانب تسببه في فتنة (كُلُب) التي أغلقت على إثرها جمعيات ومدارس إسلامية. ووصفوه هناك "بشيخ الفتنة".
تحامله على أهل العلم
ويتحامل شيخهم على الآخرين تحاملاً ذميماً لا يستثني منهم إلا القليل. ومن ذلك تحامله على من يسميهم بـ "الوهابيين" أو "المشوشين" يزعم أنهم يعتقدون أن الذي يجهر بالصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - عقب الأذان مثل الذي يزني بأمه [شريط (4) وجه أ (441) إظهار العقيدة السنية 240].
وزعم أن محمد بن عبد الوهاب قاتل العلماء وكان يعرض بالنبوة ويأمر بقتل من يصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم - .(36/82)
ولقد تعرض كثير من العلماء لأذى الحبشي ولسانه، حتى إنه يصف مخالفيه بأنهم "بهائم" ونذكر بعضهم على سبيل المثال لا الحصر، فمن ذلك:
موقفه من الإمام الذهبي وغيره
قال "وإذا قيل عن الذهبي خبيث فهو في محله [شريط خالد كنعان وجه أ 143].
أما الشيخ الألباني فلا يتوقع له الحبشي أن يموت على الإسلام فقال عنه "هذا إن مات مسلماً" [التعقب الحثيث للحبشي 89].
أما سيد قطب فإنه "لم يسبق له أن جثى بين يدي العلماء للتعلم ولا قرأ عليهم، ولا شم رائحة العلم. كان في أول أمره صحفياً ماركسياً" [النهج السوي 3-4].
وكذلك تعرض للشيخ سيد سابق واصفاً إياه بأنه "مجوسي وإن ادعى أنه من أمة محمد" [شريط رقم (1) الوجه الأول (181)]. لقوله بأنه يجوز قول كلمة الكفر عند الإكراه عليها، غير أن للحبشي في هذه المسألة فتوى شنيعة أباح فيها لمن ذهب إلى بلاد الكفار أن يعلق صليباً إذا خاف على نفسه من أذاهم [الدليل القويم 155]. فالترخيص بلبس الصليب لمجرد مظنة الأذى وليس عند حصول الأذى لإجباره على لبسه، وفرقٌ بين حصول الإكراه وبين مجرد توقعه.
فما الغاية من هذا التلبيس والتعدي على الآخرين بتكفيرهم وتحريف كلامهم؟
وزعم أحد أتباعه (أحمد الرفاعي) أن رجلاً من هؤلاء (في نجد) كان يلوح له بعصاً في يده ويقول له: أترى هذه العصا؟ هذه أفضل من محمد. ذكر ذلك في مسجد علي بن أبي طالب في بيروت. {سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ}.(36/83)
وأفتى شيخهم بجواز قتل أربعين منهم في لبنان لعدم اعتبارهم من المسلمين وينهى عن الصلاة خلفهم بل والسفر إلى بلادهم. وهو لا يسمح لتلاميذه المقيمين في بلاد مخالفة له في الاعتقاد (كالسعودية) بحضر الجمعة والجماعات في مساجدهم ويرخص لهم أكل الثوم والبصل قبيل صلاة الجمعة حتى يصيروا معذورين عند الله من حضور الجمعة. يخادعون الله وما يخدعون إلا أنفسهم. وإذا ألحَّ البعض عليهم بحضور صلاة الجمعة سألوه: هل يستشهد خطيب المسجد بابن تيمية؟ فإن قال لا: ذهبوا معه، وإن قال له: نعم أكلوا الثوم والبصل!
ولسان شيخهم لا يخلو من سباب وشتم، فقد شكا إليه أحد تلاميذه أن بعض المخالفين نقدوا تأويل شيخه (الاستواء بالاستيلاء) قائلين إذا كان معنى (استوى على العرش) أي استولى عليه فقد كان العرش قبل الاستيلاء عليه خارجاً عن ملكه. فثارت ثائرة الحبشي وقال "ما قرأ القرآن هذا الخبيث المنحوس؟ هذا الخبيث المنحوس ما قرأ القرآن؟ بهائم، قولوا لهم أنتم عيال على منشورات حزبكم [شريط (1) الوجه الثاني (15)].
التثبيط والخمول
وذكر حديث "يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة على قصعتها" ثم قال: وواقعنا اليوم مصداقٌ للحديث فإن ما عندنا من السلاح اليوم لا يبلغ عُشر عُشر ما عندهم، ففي هذه الحال ليس فرضاً علينا أن نجاهد بالسلاح [شريط 9 ب 180-210].
أعزة على المؤمنين أذلة على الكافرين(36/84)
لقد صرفهم عن جهاد العدو ووجَّه طاقاتهم نحو المسلمين، وسلَّط ألسنتهم وأيديهم عليهم. وصار الجهاد ضدهم بما أنه معطلٌ ضد اليهود والنصارى. يدخلون المساجد ويُحدثون فيها التشويش وقلة الأدب وسب المخالفين وتهديدهم بالسلاح بل وبإطلاق النار عليهم في بعض المرات. لقد صاروا جنوداً يقاتلون الدعاة إلى الله في بعض المرات. لقد صاروا جنوداً يقاتلون الدعاة إلى الله ليس في ساحات القتال وإنما في بيوت الله. وهناك كثير من المساجد افتعلوا فيها المشاكل ورفعوا السلاح وأطلقوا النار على المصلين مثل مسجد حمد وصيدا وزقاق البلاط.
ونشير على وجه الخصوص إلى الجرائم التي اقترفوها في مسجد "الجامعة العربية" حيث دخلوا المسجد وطعنوا ما يزيد على ثلاثة عشر مصلياً، وكان أحدهم يستصرخ أصحابه عند باب المسجد قائلاً "حي على الجهاد" وأغلق المسجد من حينه إلى هذا اليوم لأن أعداء المسلمين لم يرق لهم أن يروا جامعة علمانية اشتراكية بقيت من قبل منبراً شيوعياً يتردد جامعيون إسلاميون على جامع بجوارها، فاستعانوا بهؤلاء الجهال لاختلاق المبررات لإغلاقه. فهؤلاء يستعينون بأعداء المسلمين للتشفي من أعداء شيخهم، وأعداء المسلمين يستخدمونهم وسيلة لتحقيق غاياتهم.
وقد أثبتت التقارير مؤخراً أن بعض المنتسبين لهذه الفرقة أرادوا توريط الجماعة الإسلامية (الإخوان المسلمين) إلى حرب مع السلطة عندما قاموا بتدبير إشاعة قُدّمَت إلى السلطة مفادها أن الجماعة الإسلامية قد فخخوا ملالة عسكرية وملؤوها بالمتفجرات لاغتيال رئيس الجمهورية ورئيس وزارئه. وأكدت نتائج التحقيق الحقيقة التي سطرتها مجلة الشراع وغيرها إلى أن أحد المنتسبين للحبشي قد دبر هذه الشائعة لتوريط الجماعة الذين يرى الحبشي العلمانيين أهدى منهم سبيلاً.(36/85)
وكم من مكيدة دبروها في كثير من الدعاة أدت إلى توريطهم فمهم من سُجن ومنهم من هاجر أو نُفي ومنهم من قُتل. وهذا من خصال اليهود، وهو يؤكد على أن أصحاب هذه الفرقة ليسوا دعاة إخاء ومودة ووحدة وتضامن وإنما هم دعاة حقد وتكفير وجريمة. وتعرض الأخ الفاضل حسن قاطرجي لأذاهم فضربوه عدة مرات، وما زالوا يلاحقونه ويتربصون به وبأتباعه وهو ما زال صابراً. وكذلك شأن الأخ الذهبي وشانوحا والأخ غزاوي وكثير ممن لا يمكن حصرهم.
كم من مسلم أسلموه إلى العدو، وكم أثاروا الخصومات وهددوا وتوعدوا المصلين وانتهكوا الحرمات في المساجد. وتطاولوا على أئمتها وامتنعوا من الصلاة وراءهم ولو من غير سبب، حتى انصرف كثير من المسلمين عن أداء الجماعة في المساجد بسبب أذى هؤلاء.
ولقد كان مما أوصى به نبينا - صلى الله عليه وسلم - أمته "أن لا يمشوا ببريء إلى ذي سلطان" [رواه الحاكم 1/9 وقال الذهبي صحيح لا نعرف له علة]. وأوصى أن "المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده" [متفق عليه]. وهم لم يسلم من ألسنتهم ومن أيديهم إلا القلة. فلم يحفظوا وصية نبيهم - صلى الله عليه وسلم - بل كانوا أقسى قلوباً على إخوانهم من المسلمين منهم على أعداء المسلمين.
وهم إذا لم يستطيعوا منع إمام المسجد من إمامة المصلين تظاهروا بالانشغال بصلاة نفل، فإذا انتهى الناس من الصلاة أقاموا جماعة أخرى.
وقد صدق أبو حنيفة حين وصف أهل الجدل والكلام بأنهم "قاسية قلوبهم، غليظة أفئدتهم. لا يبالون مخالفة الكتاب. وليس عندهم ورع ولا تقوى" [سير أعلام النبلاء 6/399] والفضل لشيخهم الذي لم يزل يثير فيهم مشاعر الحقد والبغضاء وقد أفلح في خرق الصف وشق عصا المسلمين وإثارة الخصومات. فالأخبار تردني عنهم بكثرة وتشتكي أذاهم في كثير من الجاليات الإسلامية في أستراليا حيث ولد الحبشي هناك، يؤدي دور أبيه، ووردت الشكاوى منهم في الدانمارك وألمانيا وكندا وأمريكا.
فتنة تحويل القبلة(36/86)
وقد أثار وأتباعه مسألة تحديد القبلة وأن الناس في أمريكا وكندا يتجهون إلى غير جهة الكعبة وصدر في أمريكا كتاب في الرد عليهم اسمه:
THE HABASHIS AND THE ISSUE OF QIBLAH
وذكر صاحب الكتاب المذكور (ص3) أنه تم طرد أتباع الحبشي من مونتريال ومن ولاية أوكلاهوما وتامبا وفلوريدا عندما حاولوا تغيير اتجاه القبلة من الجهة الشمالية الشرقية إلى الجهة الجنوبية الشرقية.
قال صاحب الكتاب "ولما لاحظ الأحباش أن حجتهم في المسألة ناشئ عن اعتقادهم بأن الأرض مسطحة حجة واهية لجأوا إلى حجة أوهى منها أن الشرق قبلة للذين في الغرب وأن الغرب قبلة للذين في جهة الشرق، وحجتهم حديث "ما بين المشرق والمغرب قبلة".
غير أن فهم العلماء السابقين للحديث يخالف فهم الأحباش له فقد قال البيهقي وغيره "المراد به والله أعلم: أهل المدينة من كان قبلته على سمت أهل المدينة فيما بين المشرق والمغرب". قلت: وفي فيض القدير "غير أن أهل اليمن يجعلون المشرق عن يمينهم والمغرب عن يسارهم" [سنن البيهقي 2/9 فيض القدير 5/432].
ونحن لا نتهم أحداً من الفريقين على صدقه في تحري الجهة الصحيحة للقبلة ولكن الطريقة التي عالج بها الأحباش هذه القضية اتسمت بإثارة الفتنة وعدم التسامح واختلاق الفوضى في المساجد الأمر الذي جعلهم عرضة للطرد في أي مكان حلوا فيه مع أن مؤلف الكتاب أكد أن رجلين من أئمة الأحباش نزلوا في كندا تحت كفالة الكنيسة المتحدة [The HABASHIS p.13].
وهذا لو ثبت فإنه مثير للتساؤل حول تحديد الجهات التي تقف وراء هذه الطائفة وتدعمها لتستعملها أداة في التشويش على المسلمين وإحداث فوضى العقيدة بينهم.
ومن العلماء المتعرضين لطعنه (( ابن تيمية ))
ولعلك تراجع عمل وسيرة العلماء الذين ينتقيهم الحبشي ليشوه سمعتهم ويحذر الناس من الاطلاع على أعمالهم وكتبهم فستجد أنهم كان لهم الأثر في صحوة الناس والتمسك بالدين.(36/87)
فسيد قطب كان له الأثر البالغ في تحذير الناس من الأنظمة الاشتراكية والعلمانية والرأسمالية. وأن الحاكمية للقرآن لا للعلمنة.
وابن تيمية كان مجاهد سيف وقلم كشف الله به أباطيل أهل التأويل الباطني وهتك أستارهم ودعا الناس إلى السنة ونبذ التصوف والبدع.
وابن عبد الوهاب أعاد الجزيرة إلى التوحيد بعد أن انتشرت فيها الجاهلية والانحطاط الديني والشرك واتخذوا قبر زيد بن الخطاب حول الرياض آنذاك مسجداً. وعاد التعلق بالشجر والحجر، حتى نجح ابن عبد الوهاب في اقتلاع هذه البدع، وعاد بجزيرة العرب إلى السنة والتوحيد ولو كره المشركون الذين ليس عندهم ضده إلا الشائعات.
وإليكم مجموعة من الافتراءات التي اختلقها الحبشي على ابن تيمية والتي لم يُحِلْ فيها إلى رقم ولا صفحة لأنه يعلم أنه افتراها ونحن ننتظر منه أن يأتي بدليل عليها.
زعم أن ابن تيمية قال: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ليس له جاه [المقالات السنية في كشف ضلالات ابن تيمية 16 و76].
وأنه "لا مانع أن يكون نوع العالم غير مخلوق لله" [الدليل القويم 160].
ووصفه بأنه كذاب أفاك في دعواه أن السلف قالوا "إن الله ينزل ولا يخلو منه العرش" [المقالات السنية 24].
زعم أنه قال "إن الله مركب مفتقر إلى ذاته افتقار الكل إلى الجزء [المقالات السنية 76].
زعم أن ابن تيمية قال "إن الله بقدر العرش: لا أكبر منه ولا أصغر منه.
زعم أن ابن تيمية وأتباعه [المقالات السنية 26] يكفّرون المتوسلين برسول الله - صلى الله عليه وسلم - [يتعمد الخلط بين التوسل والاستغاثة مع أن ابن تيمية يفرّق بين التوسل والاستغاثة].
زعم أنه يقول أن زيارة الأنبياء والصالحين بدعة، بل وأنها معصية بالإجماع مقطوعٌ بها [المقالات السنية 73].
قال الحبشي "وابن تيمية هذا طعن في علي بن أبي طالب وقال إن حروبه أضرت بالمسلمين". ثم انتهى إلى أن ابن تيمية يحرف القرآن" [شريط 13 الوجه الأول 94].(36/88)
وزعم أنه نقض إجماع المسلمين فقال إن نار جهنم تفنى [المقالات السنية 57 و76].
وزعم أنه حكم بكفر من خالفه في مسألة الطلاق [المقالات السنية 57 و62 و75]. وأنه "كان يُخفي بعض كتبه عن عامة أتباعه لئلا ينقلبوا عليه.
وأن أحد أتباعه اطلع على كتاب له يقول فيه أن الله تعالى قاعد على الكرسي وترك موضعاً لمحمد ليُجلسه عليه في الآخرة وأن تلميذه ذهب بهذا الكتاب إلى أبي حيان فلما اطلع عليه ما زال يلعنه حتى مات" [إظهار العقيدة السنية 151].
ونال ابن تيمية منه ومن أتباعه السباب والشتم والتكفير وانهالوا عليه بشتى أنواع التهم، فزعموا أنه مشبه لله بخلقه واحتجوا بما ذكره ابن بطوطة أنه دخل دمشق وشهد ابن تيمية على المنبر وهو يقول "إن الله ينزل إلى السماء الدنيا كنزولي هذا، ونزل درجة من المنبر" [رحلة ابن بطوطة 110 تحقيق علي المنتصر الكتاني].
ومن المثير للعجب أن يُنسَب إلى ابن تيمية مثل هذا الكلام بينما يحكم ابن تيمية نفسُه بكفر من يقول بمثله، فقد قال "فمن قال إن علم الله كعلمي، أو قدرته كقدرتي.. أو استواؤه على العرش كاستوائي أو نزوله كنزولي أو إتيانه كإتياني: فهذا قد شبه الله بخلقه، تعالى الله عما يقولون، وهو ضال خبيث مبطل بل كافر" [الفتاوى 11/482 الرسالة التدمرية 20].
وإنني إذ أنقل بإيجاز أهم مفتريات هذا الرجل على ابن تيمية فإنني أود تذكير القارئ بضرورة العودة إلى كتابي:
(( شبهات أهل الفتنة وأجوبة أهل السنة ))
فقد أجبت فيه عن جميع هذه المفتريات بشكل مفصل من كلام شيخ الإسلام.
دليل التعصب وعلامته(36/89)
إن الحبشي وجماعته يكفّرون من لا يستحق التفكير (كابن تيمية) ويدافعون عمن ثبت تكفيره من قِبَل معاصريه كابن عربي الذي حكم معاصره العز بن عبد السلام (سلطان العلماء) بالزندقة والانحلال، وسأله عنه ابن دقيق العيد فقال له (ابن عربي) شيخ سوء كذّاب، يقول بقدم العالم ولا يحرّم فرجاً" [سير أعلام النبلاء 23/48 – 49]. واتهمه الحافظ ابن حجر بالقول بوحدة الوجود المطلقة والتعصب للحلاج [لسان الميزان 2/384]. لكن هذه الفرقة تأبى الإقرار بما قاله ابن عبد السلام وابن حجر وتصرّ على تقواه وورعه وسلامة دينه بلا دليل بل الدليل من كل كتبه يثبت ما قاله ابن حجر وابن عبد السلام، ولكن: قاتل الله التعصب.
((( التوحيد الهش )))
وهكذا نلخّص عقيدة الحبشي على النحو التالي:
نقض التوحيد من أغلب جوانبه. اللهم إلا توحيد الربوبية. وهو ما كان عليه مشركو قريش: غير أنه:
نقض توحيد الألوهية حين دعا إلى الاستغاثة بالأموات من دون الله ومخاطبتهم.
نقض توحيد الأسماء والصفات حين دعا إلى تأويلها والعبث فيها واستخراج معانٍ أخرى لها مصدرها الظنون والاحتمالات. حتى أدت به وسوسته إلى إنكار أن يكون القرآن كلام الله وأن يكون على كل شيء قدير.
نقض توحيد الله في حكمه دافع عمن يتحاكمون إلى شريعة الطاغوت، وقد نفى الله الإيمان عمن يحتكمون إلى غير حكم الله ورسوله.
نقض توحيد الله في جانب الولاء والبراء حين تولى وأتباعُه أعداءَ الله وعادوا أولياءه واستنصروا بالطواغيت ضد المسلمين واعتمدوا على مؤازرتهم لهم ليضربوا المسلمين في المساجد، لا فرق بين أئمة ومأمومين وتعدوا على من سولت له نفسه الاعتراض عليهم. وصار همهم احتلال المساجد ووضعها تحت سيطرتهم وإبقاء الدروس فيها متى شاءوا، فحُقّ أن يوصفوا بضد ما يتصف به المؤمنون: "أعزة على المؤمنين أذلة على الكافرين".(36/90)
ولم يبق عندهم إلا توحيد واحد وهو توحيد الربوبية يفخرون به على الناس ويجعلونه أسمى مراتب التوحيد، وقد كان أبو جهل وأصحابه يؤمنون به وهو توحيد الله في الخلق والإيجاد والاختراع {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ}.
وهو في الحقيقة لا قيمة له إذا لم يكن معه توحيد الألوهية الذي يشترط عليك أن لا تستغيث ولا تستعيذ إلا بالله ولا تدعو أحداً معه، ولا تذبح ولا تنذر إلا له.
خاتمة البحث
تصور أيها الأخ الكريم لو أننا دعونا نصرانياً إلى الإسلام، ثم سألنا عن تفاصيل عقيدتنا فقلنا له: عقيدتنا على النحو الآتي:
يكفي من المؤمن الإيمان بالله الاعتقاد في قلبه فقط بأن الله خالق واحد وأنه قديم وأن ما سواه مخلوق.
وأن الإيمان في القلب ولا يضر إيمان المؤمن أن يترك كل الأعمال الصالحة من صلاة وزكاة وصوم وحج، ولا يضر إيمانه أن يتحاكم إلى غير كتاب الله.
وأنه يجوز الاستغاثة والاستعاذة بغير الله، والتبرك بقبور الأولياء والتمرغ على أعتابهم. واعتقاد أنهم يتصرفون في الكون وهم في قبورهم، ولهم مراتب منها الوتد والنجب والغوث: بهم تقوم الأرض ومن دونهم تهلك بمن فيها.
وأنه لا يُشترط الاقتصار على الكتاب والسنة بل يجوز الزيادة عليهما بما يراه الواحد منا حسناً. نسميها بدعة حسنة نتقرّب بها إلى الله. منها ما يجوز ابتداعه بل منها ما يجب ابتداعه!
وأن هذا القرآن الذي بين أيدينا ليس كلام الله وإنما هو لفظ جبريل أو محمد مفهومٌ من كلام الله النفسي القديم.
وأن الله ليس على كل شيء قدير وإنما هو على غالب الأشياء قدير.
وأن أحاديث الآحاد التي في صحيح البخاري ومسلم لا تفيد العلم. فهي صحيحة لكنها ضعيفة في نفس الوقت.
وأن إرادة العبد مجازية وفعله ليس منه إنما هو فعل الله على الحقيقة.
وأن الله يعين الكافر على كفره. وأنه لولا الله ما استطاع الكافر أن يكفر.(36/91)
وأنه لا يجوز أن يقال إن الله يخلق أو يفعل لحكمة لأن في ذلك انتقاص من قدرة الله. ولأن الله لا يفعل لحكمة وإنما لمجرد أنه يشاء.
وأنه يجوز أن يعذب الله الأنبياء وسائر الطائعين ويُلقي بهم في جهنم وأنْ يُدخل الكفار والجبارين الجنة، ولا يكون هذا ظلماً منه لأنه مالك لهم: والمالك متصرف في ملكه كيف يشاء.
وأنه يكفُر من يقول إن النار أحرقتِ البيتَ أو أن السكين قطعت اللحم.
وأنك إن أسلمْتَ فيجب أن لا تثبت لله من الصفات ما وصف الله به نفسه وإلا كنت مشبهاً ضالاً. فيده قدرته ومجيئه أمره. ومحبته ورضاه وغضبه يعني إرادته.
وإياك أن ترفع يديك إلى السماء اعتقاداً منك أنك ترفعهما إلى ربك لأن هذا كفرٌ وضلالة. فتكون بذلك شراً مما كنتَ عليه حين كنتَ نصرانياً.
وإن أسلمتَ فيجب أن تكون إما ماتريدياً أو أشعرياً لتكون من أهل السنة وإلا فخروجك عن هذين المذهبين خروج عن العقيدة الصحيحة وعودة إلى الضلال.
وإن أسلَمْتَ فيجوز لك أن تختار لنفسك سبيلاً من السُّبل فتكون تيجانياً أو رفاعياً أو قادرياً أو نقشبندياً أو شاذلياً أو بكداشياً أو مولوياً أو يشرطياً أو دسوقياً فتمل بخصرك يميناً ويساراً أو تنحني وترتفع [على النحو الذي يفعله اليهود في صلواتهم ولا يدري الصوفية أن حركتهم هذه تشبه حركة اليهود] وتتقرّب إلى الله تذكره بحلقات الرقص والدفوف والتواضيح الدينية.
وأنه يجوز لك أن تعتقد أنه لولا محمد - صلى الله عليه وسلم - ما خلق الله الأكوان وأن تحتفل بعيد ميلاده وتترك الاحتفال بعيد ميلاد المسيح لأن هذا من عادات النصارى. فـ "المولد" جائز لك دون "الميلاد"!!!
وتشارك هؤلاء في التغني بحبه وقص ما جرى في مولده من الخيالات والإضافات. وتحتفل بيوم إسرائه ومعراجه وما فيها من الإضافات والخيالات.
أتُراك بهذا تقدّم له الإسلام الحقيقي كما قدمه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المشركين واليهود والنصارى! أم أنك تقدمه له مشوّهاً؟(36/92)
أتُراك بهذه العقيدة الهشة تغريه بالإسلام؟ – أم أنك تخاف أن تصرح له بهذه التفاصيل لأن في نفسك منها شيئاً وتعلم أنها لا تزيده من الإسلام إلا بُعداً ونفوراً، ولأنها لا تمثل الإسلام في شيء، ولا تتفق مع ما جاءنا به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأن فيها من صنوف العقائد والسلوك ما يشبه ما عنده في النصرانية!!
فالنصراني يعلم أن كتابه ليس من كلام الله ولا يريد أن يسمع من المسلم أن القرآن من إنشاء محمد أو جبريل.
وهو قد أصابه الملل من قول القسيس: يكفيك أن تؤمن بصلب المسيح فهذا يضمن لك الجنة من غير عمل ولو لم تصل ولو لم تعمل وفق الأناجيل.
وأصابه الملل مما يراه من زيارتهم للأديرة ودعوة مريم والقديسين أن يقضوا لهم حوائجهم. وطلب الشفاعة منهم عند الله.
وأصابه الملل من عجائب وغرائب المعجزات التي تُنسب إليهم من تحريك الجبال والتصرف في الأكوان.
وأصابه الملل من البدع التي هي في اطراد وزيادة كل يوم في الكنائس. ولا يريد أن يسمع من المسلم أن دينه يبيح الابتداع في الدين وأن منه البدعة الفرض والبدعة الواجب.
فإن كنتَ تخشى من تقديم هذا الإسلام المهلهل أمام غير المسلمين خوفاً من تشويهه أمامهم فكيف تقدمها إلى المسلمين وتدافع عنها دفاع المستميت؟ وكيف تَقْدُم على الله يوم القيامة بعقيدة كهذه؟
((( عقيدة مهترئة )))
تصور أيها الأخ لو عُرِضَتْ عليك هذه العقيدة لتعتنقها:
يجوز دعاء غير الله والاستغاثة بهم.
يجوز تأويل آيات وأحاديث الصفات.
أحاديث مسلم والبخاري أكثرها ظني لا يجوز الاستشهاد به في مسائل الاعتقاد. هي صحيحة لكنها ضعيفة ظنية!
يجوز الابتداع في دين الله.
القرآن الذي في أيدينا أنشأ ألفاظه إما محمد وإما جبريل وأما الله فلا يتكلم ولا ينزل إلى السماء ولا يستوي على العرش.(36/93)
إنه ما من شك في أن ما أصاب العالم الإسلامي في وقتنا الحاضر من ضروب التخلف إنما هو بسبب سوء فهم المسلمين لقضايا مهمة في الاعتقاد كقضية الإرجاء والقضاء والقدر. ولا أزال أرى ضرورة التفات الدعاة إلى المنهج العلمي من أجل إزاحة ركام كبير من مخلفات العقائد القديمة البالية التي خلفتها الشروح على الحواشي والحواشي على الشروح وحواشي الحواشي وغيرها مما يكثر فيه الاستشهاد بالشراح وأصحاب الحواشي ويقل فيه الاستدلال بكتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - .
وإذا كانت هذه هي عقيدة الرجل كما سطرها في كتبه:
فليس نهجه سوياً ولا سليماً
وليس دليله قويماً
وليس صراطه مستقيماً
وليست مقالاته سليمة
وليست عقيدته سنية
وبالتالي لا يكون توفيقاً ربانياً
وليس بغية للطالبين
والحمد لله رب العالمين(36/94)
الخزنوية
خداع و تضليل
بقلم
عبدالله بن عبد الرحمن الجزيري
مقدمة الطبعة الثانية
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده
لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله و صحابته أجمعين وبعد:
كان للخزنوية الأثر الكبير في قلبي وفكري ومسار حياتي، فعقدٌ من الزمن كفيلٌ بهدم وبناء كيان الإنسان، لاسيما إذا تعاور عليه جيش من البشر، كائناً من كانوا... فيلقاً من الغوغاء أو كتيبة من الحكماء .
عقد من الزمن رضعنا فيه لبان الخرافة و الجهل، وأترعت النفس بمزيج الوهم والخيال ولا عجب فتعليم الجهل سياسة أتقنها وأجادها الصوفية، شربنا السم صغاراً، وأثره لا يزال قائماً، فلا زلت أعاني من جهل بالكتاب والسنة، وكل يوم يمر علي، أسقط من ذاكرتي حديثاً مكذوباً، أو قاعدة كنت أظنها علمية، أو معلومة بالية نطق بها مخبول كنت أحسبه من أهل الحكمة والكشف .
بل يوم ودعت تلك السنين البائدة، قمت بهدم وبناء لعقلي وقلبي، وكان بحمد الله تاريخاً جديداً لحياتي، فلم يعد عبد الله ذاك الصوفي الموسوس، الذي يركض بشغف وراء شيخه الجاهل لينال عطفه ونظره، أو الذي يقف مكتوف اليدين خافض الرأس مشدوه العقل أمام أتربة وأخشاب وعظام نخرة، ما عاد عبد الله ذاك الداعية المحبوب الذي كان يتنبأ له شيخه المأفون بمستقبل أفضل لطريقته ونهجه .
لقد مات منذ سنين، وأهيل على ماضيه ثرى النسيان .
ولد عبد الله الجديد، وخرج رغم صلابة الصخور وقسوة المناخ .
فقد طال رقاده بين الموتى، وانخراطه في سلك الخائرين ومكوثه بين المكدين(1)، وملّ تقليد العميان وقد فتح الله بصيرته .
فيا تاريخ الانقياد والتبعية اذهب إلى الجحيم .
__________
(1) المتسولين.(37/1)
اليوم محوت آخر سطر من ذاك التاريخ، وأطبقت فماً طالما مجّد الظلمة والضالين وألجمت قلماً طالما سوّد صحائف ما أحوجها إلى النور من الظلمة، وعدّلت ظهراً قوّسه الانحناء، وألقيت أصناماً كانت القمامة أولى بها وأجدر .
إنك أيها اليوم... حقاً يوم ولادتي.
ولم لا يفرح من ولد خائفاً، وترعرع تابعاً ذليلاً، ويفع بوقاً للآخرين، وبين هذا وتلك عاش متصيداً للأوهام والترّهات .
عاد إنساناً تساوى البشر في نظره بأنهم عبيد لله، لايملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاً . إنساناً لا يقوده إلا الكتاب والسنة، ولا ينحني إلا في صلاته.
بقيت بذور هذا الكتاب وريقات أخفيها عن الأنظار، أطلعها على بعض المحبين لاسيما أساتذتي الكرام، وما كان يمنعني من جمعها في كتاب غير سطوة الخزنوية وإرهابهم لكل معارض، إما بالدسّ والتهم وإما بتسليط الغوغاء عليه، حتى مَنّ الباري عليّ بالسفر خارج البلد فكانت فرصة ذهبية للكتابة والنشر، فكان أول أعمالي إخراج الكتاب وطباعته، وتمتاز هذه الطبعة باستدراك الأخطاء اللغوية والإملائية ما أمكن وتصحيح التخريج لبعض الأحاديث، وإضافة بعض الأفكار، فما كان من صواب فمن الله، وما كان من خطأ فمن نفسي، وصلى الله على نبينا محمد بن عبدالله وآله وصحبه أجمعين .
عبدالله بن عبد الرحمن الجزيري
غرة محرم -1426(37/2)
أبا فايز: يا صفحة ما قرئت جيداً لكثرة أخطائها، ويا وثناً من الظلم والشرك ما نالت منه معاول التوحيد0 ها أنت قد شخت، وضعفت أنحائك، ولم تشخ نزواتك. ها أنت قد خلّفت ورائك تاريخاً أسوداً، لن يغسل عاره تتابع الحدثان وكيف يغسل عار الخيانة ؟ أم كيف تضيع همهمة التوبة الخادعة أنين المفجوعين بأعراضهم وكرامتهم؟ ها هي أيامك آذنت بانصرام، ولازالت تلك الكأس في يدك تنضح بالجريمة والفساد، وليدك العابثة قصة لا تجيد أقلام البلغاء وصفها تلك اليد الآثمة التي تبايع الرجال بالنهار على التوبة والطاعة، وتبايع النساء في دجى الليل، على عبادة الشيطان والنزوات .
أبا فايز: يا تاريخ العصيان، ويا بؤرة الشر السفلي، أعلم تمام العلم أن مشاعرك ماتت، وبقايا العقيدة اندرست تحت سنابك الخنا، وأثر النور حاصرته ظلمة الفواحش والآثام، مما جعلك أكثر إيغالاً في هتك أعراض الناس واللعب بعقائد البسطاء .
أبا فايز : كونك عاصياً زانياً فهذا شأنك، وشأن الكثير الكثير من البسطاء والنبلاء أما أن يكون فناً تحبه وهواية تمارسها في نومك ويقظتك، ويتحول إلى ورد وصلاة، أما أن تكون مبدعاً في فن الغواية والضلال، وأن تحول أجيالاً من النساء إلى مومسات... أن تعلّم الرجال الفناء في الله كما تزعم، وتعلّم النساء الفناء فيك ... أن تكون كاذباً أحياناً على ولدك على زوجتك، فهذا شأنك وشأن الكثير من المتمشيخين الذين ابتلينا بهم، ولكن أن يتحول الكذب إلى صنعة ودين تتعبد به الشيطان ، فهذا ما لا يحتمل ولا يمكن السكوت عليه .
عرفناك أيها القطب الكبير تسرق عرق الكادحين من أتباعك، لا أن تسرق شرفهم وكرامتهم. عرفناك تذل النفوس العزيزة بدجلك وكذبك، لا أن تهدر شرفهم وكرامتهم بهذا الأسلوب الرخيص، إلا أني لا أنكر على من خسر عزة نفسه، أن يهون لديه كل شيء... فما وجد من فقد عزة نفسه... وما فقد من أعتز بنفسه.
بين يدي الكتاب(37/3)
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين محمد بن عبد الله وعلى أله وصحبه وبعد:
فما أحببت المشاكل يوماً ولا إثارة الفتن، ولكن ما أصنع والفتنة مستيقظة، تفتك في عباد الله وتعيث في الأرض فساداً، ونحن صامتون واجمون... حرّم علينا حتى الأنين، وإن حاول أحد -ثارت في نفسه بقية من حميّة- أن يصيح بالناس، قُمع شر قمع، والعامة في سبات عميق، همهم العظيم وشغلهم الشاغل شهوة بطن ونزوة فرج.
وأثلج صدور الأعداء تحولنا إلى المساجد للصلاة والدعاء المقنن، وأقرّ أعينهم قراءة القرآن في المأتم والمقابر، ليذكّرنا بالموت فقط كما هلّلوا لضياع شباب الأمة، المقبل على زيفهم وبهرجهم، وقد رحبوا بكل ما يغيّب عقولهم وقلوبهم، وحالوا دون وعيهم، وقرّبوا المسيء وأبعدوا المحسن .
رحبوا بالسكر وأهل السكر، رحبوا بالخنا وأهله بالربا وجمعه، رحبوا بالصوفية والدراويش، بأهل الرقص والسماع بأقطاب الأرض وأوتادها، تلك الأوتاد التي تحمي الأرض أن تهتزّ تحت أقدام الجبابرة الطغاة، هؤلاء الأقطاب هم الذين خدّروا العامة ومسخوهم -بولايتهم المزعومة، بل المدعومة من الشيطان- قططاً تقم الجيف، وسحالي تلتصق بالتراب ... لهؤلاء(1) وهؤلاء ألفت هذا الكتاب.
إلى الصوفية عامة وإن كان يخصّ النقشبندية الخزنوية، لأن ما جاءت به الصوفية على اختلاف مشاربها خرج من مشكاة واحدة لهدف واحد، وهو ضرب الإسلام ومعالمه ومصادره. لشلّ حركة المجتمع الإسلامي برمته... للنيل من الوحي السماوي الذي غدا قشوراً ورسماً عندهم ... للنيل من سنة المصطفى التي غدت شريعة العامة والقاصرين.
__________
(1) "هؤلاء ": الذين لم استطع الكتابة عنهم.(37/4)
ثم إني لا أدعي في هذا الكتاب الكمال، ولا أقول وحي ملك، ولا أزعم أني أمتلك الحقيقة المطلقة، بيد أني نثرت فيه أدلة شرعية من كتاب الله وسنة نبيه، وكفى بها أدلة. نقلت من أفواه المخالفين وكتبهم وقد عزوت النقل لمضانّه وأسندت القول لصاحبه، أسأل الله العظيم أن يجعل هذا العمل خالصاً لوجهه الكريم،
وأخر دعوانا إن الحمد لله رب العالمين.
عبد الله بن عبد الرحمن الجزيري
الخزنوية في سطور
في الشمال الشرقي من سوريا على الحدود التركية، ولد أحمد بن مراد في نهاية القرن التاسع عشر، من أبوين كرديّين في قرية من قرى الأكراد، وما إن ناهز سن الرشد حتى بدء بطلب العلم وأخذ ينتقل -كما هي العادة - من ملا(1) إلى آخر حتى انتهى إلى قرية نورشين على الحدود التركية الروسية، وكان يقطنها شيخ الطريقة النقشبندية، الشيخ محمد ضياء الدين الملقب "بحضرة "، تلقى أحمد بن مراد في مدرسته علوم النحو والصرف وفقه الشافعية، وأمضى في الطريقة النقشبندية سنين عددا حتى أخذ الخلافة في الطريقة وعاد لبلده.
سكن قرية خزنة ولهذا لقّب بالخزنوي، وأخذ ينشر الطريقة ويعلم الناس بعض أحكام الشريعة على المذهب الشافعي مما ضاعف عدد أتباعه.
وكان كل تابع يحمل إليه زكاة ماله ويخدمه بماله ونفسه، وكان أتباعه يحيون له موات الأرض ويتملكها هو بينما ينهاهم عن الدنيا(2) وملذاتها وجمع حطامها.
لم تمض سنين كثيرة على هذا الحال حتى أصبح أحمد الخزنوي إقطاعي كبير، ولكن ما يميزه عن البقية أن الناس تخدمه بالمجان، بحجة أنه يطعم الناس ويعلّمهم، فغدا هذا الرغيف الطلسم الذي فتح به الخزنوي كنوز قارون.
__________
(1) لقب عند الأكراد والفرس أي الشيخ.
(2) بل إن خواص الخزنوي في تلك الأيام، كانوا ينشروا إشاعة أن الشيخ هو المهدي المنتظر، وأن القيامة ستقوم، فلما تجمعون المال.(37/5)
كان له الأثر الواضح مع شيوخ العشائر في تخدير مشاعر الناس اتجاه المحتلّين الفرنسيين، فما أثر عنه ولو حرف نحو الفرنسيين لا بالسلب ولا بالإيجاب.
أنجب من زوجته الأولى ثلاثة من الذكور وأنثى، ومن الزوجة الثانية ولداً واحداً، وعندما توفي أوصى بالخلافة لابنه الأكبر محمد معصوم ومن بعده لأخيه علاء الدين، ومن بعده لأخيه عز الدين، ثم للولد الصغير عبد الغني، وكان ما أوصى به إلا أن عزالدين خالف أمر والده ومنح الخلافة لولده محمد الخزنوي، ولا ننسى أنهم يدّعوا أنها لا تعطى إلا لمن هو أهل لها، ولا دخل للوراثة بذلك، وهذه دعوى غير صحيحة ، كذّبتها الأيام .
لا يزال الخزنوية يعيشون على عمل أتباعهم، رغم حصولهم على المليارات .
نشروا في الجزيرة الخرافات والشركيات وتقديس الموتى، وعملوا على إفقار أتباعهم، كما يشتهر الخزنوية بالحقد والضغينة لاسيما على أرحامهم، والشراهة الغريبة في جمع المال، ويتصفوا بالكبر والعجب، ولذلك يرفضون تزويج نسائهم للعرب لما يرون ما لسلالتهم "المجهولة " من قداسة.
يمتلكوا أكثر من عشرين مركز لبيع الوقود" كازية"، وعدد من المطاحن والمخابز إضافة إلى تجارتهم المتنوعة، وتهريب السلاح والوقود، إلى جمع أموال التجار الكبار لاسيما تجار تركيا بحجة توزيعها على الفقراء .
كما يمتاز الخزنوية بالتعصب المذهبي الأعمى، فهم مقلدون للشافعية إلا في بعض المسائل من مثل قراءة القرآن على الموتى والمقابر، وكفارة الصلاة عن الميت .
والتعصب المذهبي سمة النقشبنديين في تلك المنطقة، مثل آل حقي و آل الديرشوي وتشترك هذه العوائل الثلاث ببث الفرقة بين المسلمين، فلكل عائلة منطقة محرمة على أتباع الطريقة الأخرى كما تنتشر الكراهية والحقد والحسد بينهم، مع أن دعواهم واحدة، وهي طهارة القلب والمحبة ولو قالوا نجاسة القلب والحقد الأسود، لكان الكلام مستقيماً وصادقاً.(37/6)
وكلهم يدعي عبادة الله لا طمعاً في الجنة ولا خوفاً من النار، وقد يظن المسلم في عصرنا الحاضر أن هذه العقيدة عقيدة سامية، ولكنها عقيدة غير صحيحة إذ هي مخالفة لعقيدة الكتاب والسنة. فقد وصف الله حال الأنبياء في عبادتهم وتقربهم ودعائهم بأنهم كانوا {ويدعوننا رغباً ورهباً وكانوا لنا خاشعين }(1) والرغب هو الطمع في فضل الله وجنته، والرهب هو الخوف من عقابه، والأنبياء هم أكمل الناس عقيدة وإيماناً وحالاً.
وكذلك وصف تبارك وتعالى أكمل المؤمنين إيماناً بقوله تعالى: {إنما يؤمن بآياتنا الذين إذا ذكّروا بها خروا سجداً وسبّحوا بحمد ربهم وهم لا يستكبرون* تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفاً وطمعاً وممّا رزقناهم ينفقون* فلا تعلم نفسٌ مّا أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون }(2) فهؤلاء الذين ادخر الله لهم ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر لا شك أنهم أكمل الناس إيماناً، ومع ذلك فهم يدعون ربهم خوفاً وطمعاً، خوفاً من عذابه وطمعاً في جنته. وآيات القرآن في هذا المعنى لا تحصى كثرة. وأما السنة فلا حصر للأحاديث في ذلك، ومن أبلغها في الدّلالة على هذا الأمر قول أحد الأعراب للنبي - صلى الله عليه وسلم -: والله إني لا أحسن دندنتك ولا دندنة معاذ، وإنما أقول: اللهم إني أسألك الجنة، وأعوذ بك من النار؛ فقال - صلى الله عليه وسلم -: [حولها ندندن](3)، فإذا كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يدندن بدعائه حول الجنة، فهل يتصور عقلاً وجود رجل أو امرأة أكمل منه - صلى الله عليه وسلم - فيدعو الله ويعبده لا طمعاً في جنته ولا خوفاً من نار؟.
__________
(1) الأنبياء:90
(2) السجدة:15-17
(3) رواه أبو داود (792 و793) وابن ماجة (910) وأحمد (3/474 و5/74) وابن خزيمة، وصحح إسناده الألباني في (صفة الصلاة-202)(37/7)
وهذه الحالة التي سعى المتصوفة إلى تحقيقها، وهي عبادة الله مجردة عن الطمع والخوف، جرّت على قدمائهم البلايا، فقد سعوا إلى غاية أخرى بالعبادة، وهي القول بالفناء في الرب وجرّهم هذا إلى الجذب، ثم جرّهم هذا إلى الحلول، ثم جرّهم هذا في النهاية إلى وحدة الوجود(1). وأما المحدثين أمثال الخزنوية فقد جرّهم إلى استحلال الفروج وهتك الأعراض، لاسيما ما وصل إليه محمد الخزنوي.
* * * *
الباب الأول
أركان الطريقة
الفصل الأول
دعاوى كاذبة
__________
(1) الفكر الصوفي في ضوء الكتاب والسنة لعبد الرحمن عبد الخالق(37/8)
يدّعي النقشبنديون التزام الشريعة، بل إن طريقتهم هي الإسلام بلا زيادة ولا نقصان، وهذا كذب صريح، لأنه إذا كانت الطريقة النقشبندية، كما يزعم الخزنوية(1) عين الشريعة، أو الشريعة على الوجه الأكمل، وآدابها هي آداب الصحابة، فهذا يلزم أن هناك خيانة حصلت من النبي - صلى الله عليه وسلم - وتواطأ عليها صحابته وتابعيهم، حتى جاء من جاء من فرس وهنود في القرن الثامن فأظهروها للناس وهذا كفر محض، وإلا فهذه الطريقة باسمها الغريب على اللغة العربية، وبتعاليمها البعيدة كل البعد عن الشريعة السمحة، ما ذكرت بنص قطعي ولا ظني في القرآن أو السنة، ولا أثرت عن صحابي ولا تابعي نعم ذكر التنديد بهذه التعاليم المنكرة و المخترعة، فقصة الشيخ التي يرويها أولئك الحمقى(2) عن ذلك العابد الجاهل، الذي قبّل زوجته بشهوة فنزل عن مقامه... ما هي إلا دليل صارخ على تبعية الصوفية لبوذا لا لمحمد - صلى الله عليه وسلم -، فبوذا من أمر بهذا ومحمد نهى ففي الصحيحين (أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر وأصلي، وأرقد، وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني) وسماها شهوة ورتّب عليها أجر وثواب، رغم أنف العابد البوذي، ففي صحيح مسلم (وفي بضع أحدكم صدقة، قالوا: يا رسول الله أيأتي أحدنا شهوته
__________
(1) مجلة الذكرى الثانية ص38و الثامنة ص59 كلمة الشيخ عن آداب الخزنوي.
(2) فصل في مجاهدته لنفسه: وكان قدس سره يروي هذه الحكاية:كان فيما مضى رجل صالح فرأى شخص هذا العابد في منامه مرة على رأس الجبل ومرة ثانية بعد سنة في أسفل الجبل وثالثة بعد سنة أعلى الجبل وفي كل مرة يسأل الرجل الصالح فيقول له رؤيا خير فقال الرجل ما تفسير هذه الرؤى فقال :لما رأيتني في أعلى الجبل كنت على حال حسنة مع الله وفي الثانية نزلت عن ذلك المقام العالي بسبب أنني قبلت زوجتي مرة بشهوة فعاقبني الله .فتبت وبكيت سنة كاملة حتى ردني للمقام العلي) مجلة الذكرى الثانية ص75(37/9)
ويكون له فيها أجر؟ ) .الحديث
و كيف تكون عين الشريعة، وهي مبنية كما ذكروا(1) على أصلين أصيلين من أعطيهما أعطي كل شيء: كمال اتباع النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومحبة الشيخ الكامل.
فأما اتباع النبي - صلى الله عليه وسلم - فلا نسلم لهم به، وهو يناقض الطريقة برمتها، وأما الأصل الثاني: فما هو دليله؟ ولما أخفي من القرآن والسنة التي لا يعرف المسلمون شريعة غيرها. أما إن قصدوا بذلك محبة المؤمن، فهي لا تحصر في فرد واحد، والمحبة في الله عامّة في كل من سار على النهج السوي أما أن تحصر في شخص معين ويعطى من الخصائص ما لا يعطى للأنبياء فلا، ولا أدري كيف تكون أقرب على المريد إلى درجات التوحيد ؟ ومبناها على التصّرف وإلقاء الجذبة المقدمة على السلوك من المرشد، ومقصدهم من التصرّف تصرّف الشيخ في قلب المريد وهذا مختص بالله وحده قال تعالى {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} فلم يعطي التصرّف لأحد حتى لأكرم الرسل، ثم ما هذه الجذبة الملحقة مع التصرّف من المرشد اللهم إلا أن تكون شريعة بوذا وسنن زردشت.
ولم يكتفوا بهذا التخريف، بل نسبوه إلى أفضل الصحابة، واستندوا إلى حديث موضوع وهو(ما صبّ الله في صدري شيئاً إلا وصببته في صدر أبي بكر) بينما ينسى الخزنوية أن كتب النقشبندية، تنسب الطريقة إلى أكثر من صحابي، ففي كتاب الحدائق الوردية، وهو من كتب الطريقة المعتبرة، أن للطريقة أكثر من سلسلة، فهناك سلسلة عن عمر وعن عثمان، وعن علي وهي سلسلة الذهب كما يسمونها وهي التي يذكر فيها أئمة أهل البيت، وهذه اخترعوها للتقرب من الشيعة. ثم يكرّروا التخريف مرة أخرى(2) ولكن بطريقة أبشع، حيث يصّوروا هذه التعاليم سرّية يخفيها الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن صحابته ويخصّ بها أبا بكر.
__________
(1) مجلة الذكرى الثانية ص38
(2) مجلة الذكرى السابعة ص24(37/10)
وأيّ مسلم عاقل لا يعي تناقض هذا الكلام مع الآية {يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} وحديث السيدة عائشة رضي الله عنها الذي رواه مسلم ( ثَلَاثٌ مَنْ تَكَلَّمَ بِوَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ فَقَدْ أَعْظَمَ عَلَى اللَّهِ الْفِرْيَةَ –ومنها- وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَتَمَ شَيْئًا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ فَقَدْ أَعْظَمَ عَلَى اللَّهِ الْفِرْيَةَ وَاللَّهُ يَقُولُ يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ ) فهذه شهادة ابنة من ينسبون الطريقة إليه فيهم، وكفى بها شهادة. ومن يرجع إلى كتبهم يجد التناقض التام والخلط والتلفيق(1) فمرة يقولون :الطريقة هي ما يجول في صدره - صلى الله عليه وسلم - في الغار قبل نزول الوحي ومرة ما ينزل عليه، ومرة هي شيء ينبثق من صدره، ومرة هي تعني البحث عن الحقيقة؟
ومرة الطريقة هي: الإسلام على الوجه الأكمل، ومرة هي خادمة لشريعة سيدنا محمد، ولا أدري كيف يستقيم الكلام ؟! فكيف تكون الإسلام على الوجه الأكمل وفي الوقت ذاته هي خادمة؟ وحتى يؤصّلوا لطريقتهم البدعية -بل ليوجبوها على الناس- يرجعون إلى لوازم الطريقة بزعمهم، ويستندون في ذلك إلى القاعدة المعروفة عند الأصوليين [ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب ] فالله يقول في كتابه {وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ. يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ، إِلَا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ }(2) وقوله: {وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ، إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ}(3).
__________
(1) مجلة الذكرى السابعة ص24و25
(2) الشعراء-87-88-89
(3) الصافات-83-84(37/11)
فسلامة القلب مطلب شرعي بل واجب، ولا يمكن للقلب أن يسلم إلا بالطريقة وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، فالطريقة واجبة، وهذا فحوى قول الشيخ الخزنوي(1): كل الناس بحاجة إلى الطريقة، إلا صاحب القلب السليم، ومن هو هذا؟ إنه الذي لا يهمّ بالمعصية أي لا تحدثه نفسه بالمعصية فإذا همّ بالمعصية ولم يفعلها، فليس بصاحب قلب سليم، لأنه حين هم بالمعصية حام الشيطان على قلبه، وسلامة القلب أن لا يحوم الشيطان على قلبه ؟!!
ولا أعلم من أين أتى الشيخ بهذا التفسير الغريب؟ الذي لم أجد له أثراَ في كل كتب التفسير فهذا شيخ المفسرين ابن جرير الطبري، يقول في تفسير الآية :
والذي عني به من سلامة القلب في هذا الموضع، هو سلامة القلب من الشك في توحيد الله والبعث بعد الممات... ثم يسرد الروايات في ذلك ، فيذكر بسنده عن عون قال : قلت لمحمد "ابن سيرين": ما القلب السليم؟ قال: أن يعلم أن الله حق وأن الساعة قائمة، وأن الله يبعث من في القبور، وعن مجاهد(إلا من أتى الله بقلب سليم) قال: لا شك فيه، وعن قتادة في قوله: بقلب سليم قال: سليم من الشرك، وعن ابن زيد قال: سليم من الشرك، فأما الذنوب فليس يسلم منها أحد، وعن الضحاك في قول الله :( إلا من أتى الله بقلب سليم ) قال: هو الخالص(2) وقال ابن عباس: إلا من أتى الله بقلب سليم، أن يشهد أن لا إله إلا الله وقال مجاهد والحسن وغيرهما (بقلب سليم ): يعني من الشرك، وقال سعيد بن المسيب: القلب السليم هو القلب الصحيح وهو قلب المؤمن، لأن قلب الكافر والمنافق مريض قال تعالى : {في قلوبهم مرض}. قال أبوعثمان النيسابوري: هو القلب السالم من البدعة المطمئن إلى السنة. وأكثر المفسرين يفسرون القلب السليم: الخالي من الشك، والشرك، فأما الذنوب فليس يسلم منها أحد كما بينه القرطبي في تفسيره.
__________
(1) الذكرى الثانية ص37
(2) تفسير الطبري الآية 84 سورة الصافات و سورة الشعراء الآية89(37/12)
ثم إن سلّمنا جدلاً بصحة تفسير الشيخ، فلن يدخل الجنة أحد، ومن ذا الذي لا يحوم الشيطان على قلبه؟ ففي الصحيحين(1) )إن الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم( وما رواه مسلم(2) عن عائشة ( أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج من عندها ليلاً، قالت: فغرت عليه فجاء، فرأى ما أصنع، فقال: مالك يا عائشة أغرت؟، فقلت: وما لي لا يغار مثلي على مثلك، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أقد جاءك شيطانك؟، قالت: يا رسول الله أو معي شيطان؟، قال: نعم، قلت: ومع كل إنسان، قال: نعم، قلت: ومعك يا رسول الله، قال: نعم ولكن ربي أعانني عليه حتى أسلم ( فقلب عائشة غير سليم على تفسير الشيخ، ولم يقل لها النبي - صلى الله عليه وسلم -: اتخذي طريقة وشيخاً لأن قلبك غير سليم وإلا يكون قد أخفى شيئاً وحاشاه من الكتمان.
وإذا كانت الطريقة النقشبندية، عين الشريعة كما زعموا، فمن أين جاءت هذه الأركان والواجبات الطريقية والإلزام الذي ما أنزل الله به من سلطان ؟! ولا ننسى أن مؤسس النقشبندية تلقى تعاليمه من الخضر أو كما يزعم مخرفيهم: أنه تلقاها من روحانية شيخ ميت، وهذا دليل على أنها على غير الشريعة المطهرة. ثم إنه كما أن هناك إسلام وإيمان وإحسان، كذلك هناك في الطريقة تقسيمات ولكن اضطربت التسميات، فمثلاً يعدّون أصول الطريقة ثلاثة، وهي التسليم والإخلاص والمحبة، وكلها للشيخ حصراً، وأحياناً إتباع النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومحبة الشيخ الكامل أما الأركان فخلف أيضاً.
الفصل الثاني
أركان الطريقة
__________
(1) صحيح البخاري رقم 1897-1898 -3039 -6636، صحيح مسلم رقم4040-4041
(2) صحيح مسلم رقم-5035(37/13)
أول هذه الأركان: البيعة أو العهد أو التوبة على يد الشيخ وهي: أن يمسك المريد يد الشيخ ويردد قوله(1): يا رب تبت ورجعت عن جميع الذنوب التي عملتها، يا ليتني ما عملتها، ما بقى أعمل، قبلت الشيخ شيخاً لي، بهذه التوبة يدخل المريد الطريقة، ثم يرسله الشيخ إلى أحد أتباعه ليعلّمه متطلبات التو به وهي :
1-غسل التوبة(2)، 2-ركعتين سنة التوبة، 3- رابطة الشيخ.
4-قراءة الفاتحة سبع مرات وإهدائها إلى مشايخ الطريقة .
5-تذكر الموت بأن يتخيل أن ملك الموت قبض روحه ثم غسل وكفن وقبر.
__________
(1) ألا تشبه هذه التوبة ما عند النصارى من اعترافهم للقساوسة بذنوبهم وغفرانها لهم
(2) أن من سنتهم التي ينفردون بها وينتسبون إليها ، صلاة ركعتين بعد لبس المرقعة والتوبة واحتج عليه بحديث تمامة بن أثال ، أن النبي أمره حين أسلم أن يغتسل ، قلت: وما أقبح بالجاهل إذا تعاطى ما ليس من شغله ، فإن ثمامة كان كافرا فاسلم ، وإذا أسلم الكافر وجب عليه الغسل ، في مذهب جماعة من الفقهاء منهم أحمد بن حنبل ، وأما صلاة ركعتين فما أمر بها أحد من العلماء لمن أسلم ، وليس في حديث ثمامة ذكر صلاة فيقاس عليه، وهل هذا إلا ابتداع في الواقع سموه سنة تلبيس إبليس ( فصل تلبيسه على الصوفية في الصلاة).(37/14)
6-إخبار المريد الجديد بأنه فرض عليه بدخوله فروضاً غير التوبة، فهناك الرابطة والختمة والورد وقراءة جزء من القرآن، ولو لاحظت أيها القارئ الكريم مدى التشابه بين الداخل في الإسلام والداخل في الطريقة، فكما أن الداخل في الإسلام يعلّم بعد الشهادتين ما عليه من فروض فرضها الله، كذلك في الطريقة بعد التوبة عند الشيخ يعلّم ما فرضه شاه نقشبند عليه، وبهذا الدخول يكون قد انسلخ هذا المريد عن مجتمعه وجماعته وقرابته، وانضم إلى جماعة الخزنوي التي لا تجتمع في المساجد، وإنما في الزوايا وما يسمى عندهم "ببيت الصحبة " وهذا يعتبر المسجد الخاص للخزنوي فلا يذكر في هذا البيت أو الغرفة إلا هو، بل ذكر أي إنسان مهما كان يعتبر شركاً مع الشيخ، وعند البعض سوء أدب ، يؤدي إلى طرد النسبة التي تأتي مع ذكر الشيخ !
* * * *
الرابطة
تعتبر الرابطة الركن الأساس بعد الدخول في الطريقة، وهي تغميض العينين وتخيل الشيخ المرشد وقد سلّط نوره على قلب المرابط، تطول وتقصر بحسب القرب والبعد المعنوي من الشيخ وهي أنواع متعددة أهمها: وتعتبر الركن المعلن من أركان النقشبندية، وهي جلوس المريد بعد صلاة المغرب، عكس التورك في الصلاة، مستقبلاً القبلة، وإن كان المريد مخلصاً، استقبل المكان الذي يوجد فيه الشيخ، ثم يغمض عينيه ويستغفر خمس وعشرين مرة، ويستحضر صورة الشيخ كما ذكرنا سابقاً، ويبقى هكذا فترة، ثم بعد ذلك يستغفر كالبداية.(37/15)
أما أقسام الرابطة، فإليك ما كتبوه "شلّت أيديهم"(1): الرابطة الصورية والرابطة الخيالية والرابطة المعنوية. قال الشيخ عز الدين الخزنوي: والرابطة كما تلقينا من آدابه-أي آداب والده أحمد الخزنوي- على أنواع منها: تصور صورة الشيخ في أوقات لا ذكر بعدها(2) -أي وقت المغرب- وهذه الرابطة الصورية، ومنها: تصور روحانية الشيخ قبل " البدء بالذكر"، ويستمد المريد من روحانية شيخه أن ترجو الله أن يكون قلبه خاشعاً لذكر الله في هذا المجلس، وهذا ما يسمونه بالرابطة الإستمدادية، وهناك الرابطة الخيالية، والرابطة المعنوية، ويذكر الكاتب قول مولاهم خالد: بأن الرابطة أصل أصيل في الطريقة، بل هي "أعظم " أسباب الوصول، بعد التمسك بالكتاب وسنة رسوله غليه الصلاة والسلام، ومن جملة سادتنا، من كان يقتصر في السلوك والتسليك عليها، لأنها مقدمة الفناء في الله ومنهم من أثبتها بنص: { وكونوا مع الصادقين }(3) وفسر هذه الآية خواجة أحرار: هي الكون معهم صورة ومعنى ... إلى أن يقول: إذ هي في الطريق عبارة عن استمداد المريد، من روحانية شيخه الكامل الفاني في الله، وكثرة رعاية "صورته " ليتأدب ويستفيض منه في الغيبة كالحضور، ويتم له باستحضارها الحضور والنور، وينزجر عن سفا سف الأمور وهو أمر لا يتصور جحوده، إلا من كتب الله في جبهته الخسران، واتسم والعياذ بالله بالمقت والحرمان.
__________
(1) من مجلة الذكرى السنوية الثالثة بحث الرابطة.
(2) تمنع شريعة نقشبند الذكر ما بين المغرب والعشاء لأنه وقت مخصص للرابطة.
(3) 119)التوبة.(37/16)
قلت: المصيبة كل المصيبة، أنهم بعد كل طامة من منكراتهم ومخترعا تهم يستطردوا بالكتاب والسنة، فيجعلوا الرابطة من أعظم أسباب الوصول إلى الله بعد الكتاب والسنة، وما سببه إلا التضليل على الناس بهذه الدعوى الكاذبة، وإلا فالكتاب والسنة منزه عن هذه الترّهات البوذية والسفسطة الفارغة، فما معنى تصور روحانية الشيخ؟ و كيف نتخيل شيئاً مجهولاً لم ترتقي لمعرفته الحواس، نعم هي أقرب الطرق وأفضلها لعبادة الشيخ وحده، فالذي يعيش دائماً في ضمير الفرد تفكيراً وتصوراً والتجاءً وخشية، ودعاء واستغاثة، لا يسمى إلا عبادة(1) والعبادة حينما تعرّف لا تعرّف إلا بهذه المفردات، التي حيزت بأجمعها للشيخ، ثم إن كان النقشبنديون يقصدون المحبة فقد أبعدوا النجعة.
أمّا تفسير ذاك الخواجة للآية الكريمة، فتفسير مرفوض وقول مردود، فما كل من رفع عقيرته بالقول في كتاب الله نقبل قوله، لاسيما أعاجم هذه الطريقة، الذين لا نرى لهم سلف في ذلك اللهم إلا الباطنية والقرامطة، الذين جعلوا للقرآن ظهراً وبطناً، فهذه كتب التفسير والآثار، ما وجدنا فيها ما يدل ولو بالإشارة على هذا التفسير الزائف، وهو الكون معهم صورة ومعنى حتى المفسر الصوفي الآلوسي الذي ملأ كتابه بإشارات الصوفية وترّهاتهم، ما ذكر هذا المعنى.
ألا يدخل هذا الخواجة وأمثاله، تحت قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار)(2) وفي رواية ( من قال في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ ) وهنا يسجّل للنقشبنديين، اجترائهم على كتاب الله وافترائهم التفسير الباطل.
__________
(1) إذا استثنينا التصور والتفكير لأن الله لا تحيط به الفكرة.
(2) رواه الترمذي رقم - 2950 - وقال حسن صحيح.(37/17)
ثم أنهم يناقضون أنفسهم حينما يقولوا: إذ هي-أي الرابطة- في الطريق عبارة عن استمداد المريد من روحانية شيخه الكامل الفاني في الله، وكثرة رعاية "صورته " ليتأدب، ويستفيض منه في الغيبة كالحضور، ويتم له باستحضارها الحضور والنور وينزجر عن سفا سف الأمور، فهذا تعرّيف مغاير لما أسلفوا من القول، فقد تجاوزوا التصّور والتخيل إلى استمداد واستغاثة، ثم ما هي العلاقة بين صورة الشيخ والأدب؟ وما معنى باستحضار صورته يتم الحضور والنور؟ إلا إذا اعتقدنا بوحدة الوجود، لأن المقصود الحضور مع الله ، والعبارة الأخيرة تدل دلالة مباشرة على استبدال النقشبندية لأحكام الإسلام بأحكام مخترعة، تؤدي نفس الغرض، فكل مسلم يعلم أن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، وقد أغنانا الله عن هذه الرابطة البدعية بالصلاة لأنها الصلة بين العبد وربه، وفيها يستمد المسلم من ربه، وبه يستعين بحكم {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} وإليه يخشع وبه يستغيث ومنه يخاف ويطلب الهداية بقوله:{ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} وبها الراحة وقرة العين لقوله - صلى الله عليه وسلم - ( وجعل قرة عيني في الصلاة )(1)
__________
(1) سنن النسائي –2950-وقال حسن صحيح.(37/18)
ويتابع الكاتب(1) وقال في الحديقة الندية: الطريقة الثانية "الرابطة"، وهي طريق مستقل للوصول، عبارة عن ربط القلب بالشيخ الواصل إلى مقام المشاهدة المتحقق بالصفات الذاتية وحفظ صورته في الخيال، ولو بغيبته فرؤيته بمقتضى( الذين إذا رؤوا ذكر الله ) تحصل بها الفائدة كما تحصل الفائدة من الذكر، بموجب(هم جلساء الله تعالى ) ولا يخفى ما ورد من الأحاديث في الحثّ على الجليس الصالح والشيخ كالميزاب، ينزل الفيض من بحره المحيط إلى قلب المريد المرابط، وإن وجد الفتور في الرابطة، يحفظ صورة شيخه في خياله بموجب (المرء مع من أحب ) فبحفظ الصورة ، يتحقق ويتصف المريد بأوصاف الشيخ وأحواله التي له، وقيل: [ الفناء في الشيخ مقدمة الفناء في الله ] قلت: أما المشاهدة(2) فهي رؤية الله كما يزعم الصوفية، وهي مخالفة واضحة للنصوص القرآنية وللسنة المطهرة .
__________
(1) مجلة الذكرى السنوية ص71.
(2) ذكر ابن القيم في كتابه مدارج السالكين : أنه لا يصح لأحد في الدنيا مقام المشاهدة أبدا، وأن هذا من أوهام القوم، وترهاتهم ،وإنما غاية ما يصل إليه العبد الشواهد، ولا سبيل لأحد قط في الدنيا، إلى مشاهدة الحق سبحانه ، وإنما وصوله إلى شواهد الحق ..(37/19)
أما الصفات الذاتية كما عرّفها أهل العلم(1) هي: ما يوصف الله بها، ولا يوصف بضدها نحو القدرة والعزة والعظمة، وقول الكاتب: المتحقق بالصفات الذاتية يعني: أن الشيخ تحقق بصفات الله، أي: أنه اتصف بصفات الله على الحقيقة لا المجاز، ثم استدل بحديث ( الذين إذا رؤوا ذكر الله )وهذا الحديث ما هو بالحديث الصحيح، ولو افترضنا جدلاّ صحته، فلا يوجد فيه ما يدل على وجوب تخيل صورة الشيخ، فضلاً عن طلب المدد منه، فهذا المناوي يشرح الحديث بقوله: خيار أمتي الذين إذا رؤوا، أي إذا نظر إليهم الناس، ذكر الله برؤيتهم، يعني رؤيتهم مذكرة بالله تعالى، وبذكره لما يعلوهم من البهاء والإشراق، وحسن الهيئة وحسن السمت .
ثم من الذي جعل رؤية المشايخ وذكر الله سواء بالفائدة ؟ أما إيجابه بحديث (هم جلساء الله ) فهذا حديث موضوع(2) وحديث الجليس الصالح، لا دلالة فيه أيضاً على الرابطة، بل يدل على الجلوس مع الرجل الصالح وصحبته، لأنه سماه الجليس، لا المتخيل والمتوهم من أشباح المشايخ الأحياء والموتى، ولولا ذلك لسماه المرابط.
والذي يطالع التاريخ القديم والحديث، لا يجد أصدق صحبة ومحبة، من صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فما قال لهم: اجعلوا صورتي في أخيلتكم بالغيبة والحضور، واستمدوني أمددكم، وانزل عليكم من بحري المحيط فيوضات وبركات آلا ساء ما يزعمون.
__________
(1) التعريفات للجر جاني .
(2) ذكره الذهبي في الميزان وابن حجر في لسان الميزان في ترجمة أحمد بن داود بأن من أكاذيبه هذا الحديث ، وذكر في كتاب المجروحين هو شيخ كان بالفسطاط يضع الحديث لا يحل ذكره في الكتب إلا على سبيل الإبانة عن أمره ليتنكب حديثه(37/20)
ثم لاحظ كيف يستدلوا بالحديث، ليوافق هواهم ونزعاتهم، فالحديث كما رواه البخاري (جاء رجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: يا رسول الله كيف تقول في رجل أحب قوماً ولم يلحق بهم ؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: المرء مع من أحب) فالحديث يشير إلى رفقة المحب مع من أحب في الجنة حتى لو قل عمله، لا رفقته قلبياً وروحياً أما العبارة الشنيعة التي حسنّها هذا الكاتب بعض الشيء وهي: الفناء في الشيخ مقدمة الفناء في الله، والعبارة الأصليّة الغير محرّفة، هي التي نقلها شيخه بأمانة وفضح بها الخزنوية شر فضيحة، حيث ألقاها في درس عام وهي ( إن الفناء في الشيخ(1)، مقدم على الفناء في الله ) وهذا الشيخ توفي ولم تصل كلمته مدة حياته إلا إلى محبيه من رعاء وسوقه وخواصه الجهلة ولكن شاء الله أن تصل هذه الكلمة على شريط مسجل، إلى علماء الشام فأنكروها أشد الإنكار .
لاسيما الدكتور البوطي الذي فنّد هذا الزعم ، وأبطل حجة ذاك الشيخ ووصفه(2) بالدجل، واتهم مشايخ النقشبندية بالسعي لاستعباد الناس وإذلالهم ونوّه بهذا الشيخ حينما جاء إلى أبيه ملا رمضان البوطي، وكيف أن هذا الشيخ تأدب مع والده بأدب غريب، حيث ظل قائماً حتى قال له ملا رمضان: لماذا لا تجلس؟ وأنبّ الشيخ على هذا الأدب المنهي عنه، وأن هذه الطريقة التي يعاملونه بها مريدوه طريقة غير مشروعة، ثم إنه أكد على بدعية الرابطة وأنها لم تكن عند قدماء النقشبندية تعني غير المحبة .
__________
(1) ذكر الكردي في تنوير القلوب ص548 : اتفق الأولياء على الرابطة بل قالوا إنها أشد تأثيراً من الذكر في حصول الجذبة الإلهية .
(2) كتاب (هذا والدي –103-للدكتور البوطي ).(37/21)
وثارت ثائرة الخزنوية على الدكتور البوطي، ولكن لعجزهم وجهلهم وقلة بضاعتهم، لم يستطيعوا رداً ولا جواباً، نعم ردوا بطرق مضحكة ومخزية حقاً فقد كان من مقررات منهاج المعهد، كتاب فقه السيرة للبوطي، فألغوه نكايةً بالمؤلف، حتى أن بعض الطلبة مزّق الكتاب والبعض أحرقه، وبعضهم وضعه في بيت الخلاء، و لا يجهل هؤلاء أن فيه قرآن وحديث، ولكن كل هذا غير مقدّس عندهم، إنما المقدّس عندهم هو الشيخ وما يتصل به وما يلحق به، وما يضاف إليه على وجه الملك أو الاختصاص، كما أن ما عادى الشيخ أو أنف منه فهو المهان والمبعد، فالشيخ وبقراته(1) وأنجاله وكلابه، وصحونه وقططه قصوره ومشاريعه كل هذا مقدّس، وغير ذلك من بشر ودين ففي تقدّيسه نظر !!
* * * *
الفصل الثالث
الذكر القلبي
وما يسمى بالوقوف العددي والقلبي
الوقوف العددي(2) هو: المحافظة على عدد الوتر في النفي والإثبات ثلاثاً، أو خمساً وهكذا إلى إحدى وعشرين مرة -يحبس النفس فلا يطلقه إلا عند عدد الوتر –أما الوقوف القلبي: كون الذاكر واقفاً على قلبه وقت الذكر .
__________
(1) يخدم بقرات الشيخ أحد الكذّابين الكبار يلقب –جعيبان – هذا الرجل يعتبر عند أتباع الخزنوي من الأولياء ، وهو من أكثر الأتباع كذباً ، وهذا الرجل كثيراً ما يرّوج لنظرية تقدّيس حيوانات الشيخ بل لما يخرج منها .
(2) تنوير القلوب ص538.(37/22)
يقول الذاكر بقلبه: الله الله هكذا، ويبدأ بخمسة آلاف مرة حتى واحد وعشرين ألف، عندها تبدأ مرحلة جديدة، وهي مرحلة اللطائف وسنذكرها في حينها وللذكر آداب وتعاليم منها: أن يجلس بعكس التورك ، ويغطي رأسه بثوب(1) ويقرأ الفاتحة سبع مرّات ويهديها إلى المشايخ، وأن يحمل مسبحة، ويضع يده تحت صدره بحذاء القلب، ويلصق لسانه بسقف الحلق ويقول بقلبه الله الله هكذا حتى المائة، ثم يقول عند كل مائة: اللهم أنت مقصودي ورضاك مطلوبي، ولا ننسى أنه يرافق الذكر صورة الشيخ ورابطته .
قلت: أما ذكر الاسم مفرداً فهذه طريقة قديمة عرفت في أوائل الصوفية ،ولم يخترعها النقشبنديون.
فهذا ابن الجوزي يروي في كتابه عن الغزالي: ولا يزال يقول الله الله الله إلى أن ينتهي إلى حال يترك تحريك اللسان ثم يمحى عن القلب صورة اللفظ (2).
وهذا دليل على أن هذا الذكر موجود من قبل ، كما أنه سئل الإمام ابن تيمية رحمه الله عن إفراد اسم الله في الذكر فأجاب بقوله(3) :
__________
(1) "الخلوة لا تكون إلا في بيت مظلم فإن لم يكن له مكان مظلم فليلق رأسه بجيبه، أو يتدثر بكساء أو إبراز ففي مثل هذه الحالة يسمع نداء الحق ويشاهد جلال - الحضرة الربوبية) (إحياء علوم الدين ج2 ص66).
(2) تلبيس إبليس.
(3) الأعراف-55.(37/23)
وأما ذكر الاسم المفرد، فبدعة لم يشرع، وليس هو بكلام يعقل، ولا فيه إيمان ولهذا صار بعض من يأمر به من المتأخرين، يبين انه ليس قصدنا ذكر الله تعالى ولكن جمع القلب على شيء معين، حتى تستعد النفس لما يرد عليها، فكان يأمر مريده بأن يقول هذا الاسم مرات فإذا اجتمع قلبه ألقى عليه حالاً شيطانياً فيلبسه الشيطان، ويخيل إليه انه قد صار في الملأ الأعلى وانه أعطى ما لم يعطه محمد ليلة المعراج، ولا موسى عليه السلام يوم الطور، وهذا وأشباهه وقع لبعض من كان في زماننا.. إلى قوله : وأما أبو حامد وأمثاله، ممن أمروا بهذه الطريقة، فلم يكونوا يظنون أنها تفضي إلى الكفر، لكن ينبغي أن يعرف أن البدع بريد الكفر، ولكن أمروا المريد أن يفرغ قلبه من كل شيء حتى قد يأمرون أن يقعد في مكان مظلم ويغطي رأسه ويقول: الله الله ، وهم يعتقدون انه إذا فرغ قلبه استعد بذلك فينزل على قلبه من المعرفة.
فهذه البدعة سبق إليها من قبل ، ولم تكن كما يزعم النقشبندييون طريقة انفردوا بها عن سائر الصوفية ، بلة تلقوها عن الخضر ،كما يروون في كتبهم وهي رواية ظاهرة الاختلاق، وإليك نصها :كان الشيخ عبد الخالق الغجدواني يقرأ القرآن عند الشيخ صدر الدين فوصل إلى قوله تعالى {ادعوا ربكم تضرعا وخيفة إنه لا يحب المعتدين }(37/24)
قال للشيخ: ما حقيقة الذكر الخفي وكيف طريقته؟ فإن العبد إذا ذكر بالجهر وبتحريك الأعضاء يطلع عليه الناس ،وإن ذكر بالقلب فالشيطان يطلع عليه لقوله عليه الصلاة والسلام : (إن الشيطان ليجري من ابن آدم مجرى الدم في العروق) فقال الشيخ: إن هذا علم "لدني "وإن شاء الله تعالى يجمعك الله على أحد من أوليائه فيلقنك الذكر الخفي . فكان ينتظر وقوع هذه البشارة حتى جاء الخضر عليه السلام إليه ، ولقنه الوقوف العددي والذكر الخفي ، وهو أن ينغمس في الماء ، ويذكر بقلبه "لا إله إلا الله " محمد رسول الله ، فحصل له الفتح العظيم والجذبة الفيومية.(1)
ثم إن موضوع إيجاب الذكر الخفي، وتحريم الذكر الجهري على المريد لا ينسجم مع تعاليم النبي - صلى الله عليه وسلم -، فهذا الحديث الذي يرويه الترمذي وأحمد وابن ماجة بسند حسن ( إن رجلاً قال: يا رسول الله إن شرائع الإسلام قد كثرت عليّ، فأخبرني بشيء أتشبث به قال لا يزال لسانك رطباً من ذكر الله ) والحديث الذي رواه البخاري(2) ( عن أَبُو هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : أَنَا مَعَ عَبْدِي حَيْثُمَا ذَكَرَنِي وَتَحَرَّكَتْ بِي شَفَتَاهُ ) ينقضان ما بناه النقشبنديون ، وما نسبوه زوراً إلى الخضر والأموات(3) .
أما احتجاجهم عليه بقوله تعالى [ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ](4) فلا يعني تعطيل التلفظ بالدعاء، وقصره على القلب دون اللسان لأنه ليس معنى "الخفية "هنا منع اللسان من الذكر، وإنما نزلت هذه الآية لمنع الصياح ورفع الصوت في الدعاء، فالغالب على رفع الصوت والجهر بالدعاء الرياء .
__________
(1) المواهب السرمدية ص77-الأنوار القدسية 111-112 .
(2) البخاري كتاب التوحيد 8-208.
(3) يروي صاحب كتاب الأنوار القدسية ص7أن نقشبند تلقى الذكر الخفي من روحانية الغجدواني.
(4) الأعراف-55-(37/25)
روى ابن جرير الطبري عقب هذه الآية عن أبي موسى: قوله [ادعوا ربكم تضرعاً وخفية ] قال :( كان النبي - صلى الله عليه وسلم - في غزاة ، فأشرفوا على وادٍ يكبرون ويهللون ويرفعون أصواتهم، فقال : أيها الناس أربعوا على أنفسكم، إنكم لا تدعون أصم ولا غائباً إنكم تدعون سميعاً قريباً وهو معكم ).
وقد أورد مسلم هذا الحديث في باب: استحباب خفض الصوت بالذكر، ولم يقل باب تفضيل ذكر القلب على اللسان، وإنما المراد خفض الصوت بالدعاء، ولذلك قال تعالى في آية أخرى [وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنْ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنْ الْغَافِلِينَ](1)
وقال أيضاً[ولا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلا](2) وهذا هو المراد، وهو أن يكون الدعاء " دون الجهر من القول " فإنه ادعى إلى حصول الخشوع والسكينة والطمأنينة. قال الطبري: "ودون الجهر من القول" :ودعاء باللسان لله في خفاء لا جهاراً. وقال النسفي ودون الجهر من القول ومتكلماً كلاماً دون الجهر، لأن الإخفاء أدخل في الإخلاص، وأقرب إلى حسن التفكير. فلم يفهم من ذلك أبداً، إسكات لسان الفم، وإطلاق ما يزعمونه بلسان القلب وإنما فهم من تلك الآية خفض الصوت، وقوله تعالى "ودون الجهر من القول "لم يمنع القول ، وإنما منع الجهر به.(3)
* * * *
اللطائف
__________
(1) الأعراف(205)
(2) الإسراء (110).
(3) تهذيب النقشبندية - عبد الرحمن دمشقية 18-19(37/26)
وهذه اللطائف وكيفية أداءها، لهي الدليل الصارخ على تبعية النقشبندية لبوذا لا لمحمد - صلى الله عليه وسلم -، وإليك ما كتبه شيخ من عظماء النقشبندية وهو محمد أمين الكردي في كتابه تنوير القلوب(1): أول تلك اللطائف (القلب) وهو تحت الثدي الأيسر بقدر إصبعين مائلاً إلى الجنب على شكل الصنوبر، وهو تحت قدم آدم عليه السلام، ونوره أصفر فإذا خرج نور تلك اللطيفة من حذاء كتفه وعلا، أو حصل فيه اختلاج أو حركة قوية فيلقن بلطيفة (الروح) وهي تحت الثدي الأيمن بإصبعين مائلاً إلى الصدر، وهي تحت قدم نوح، وإبراهيم عليهما السلام ونورها أحمر فالذكر في الروح والوقوف في القلب فإذا وقعت الحركة فيها واشتعلت فيلقن بلطيفة (السر) وهي فوق الثدي الأيسر بإصبعين مائلاً إلى الصدر، وهي تحت قدم موسى عليه السلام، ونورها أبيض ويكون الذكر فيها والوقوف في القلب فإذا اشتعلت أيضاً فليلقن بلطيفة( الخفي ) وهي تحت الثدي الأيمن بإصبعين مائلاً إلى الصدر، وهي تحت قدم عيسى عليه السلام ونورها أسود فإذا اشتعلت أيضاً فليلقن بلطيفة (الأخفى) وهي في وسط الصدر وهي تحت قدم نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -، ونورها أخضر، فليشتغل بها كما تقدم والمراد بالقدم السنة والطريقة فمن حصل له الترقي في إحدى هذه اللطائف ، وظهرت له الكيفية والحال المتقدم كان على مشرب النبي الذي كانت هذه اللطيفة تحت قدمه ثم يلقن بالنفي ولإثبات، وهي لا إله إلا الله، وكيفيته أن يلصق الذاكر اللسان بسقف الحلق ثم يحبس النفس بعد أخذه في الجوف ويبتدئ بأخذ كلمة،لا ، بالتخيل من تحت السرة، ويمدها في وسط اللطائف على الأخفى، حتى ينتهي إلى لطيفة النفس الناطقة، وهي في البطن الأول من الدماغ ، ويقال لها : رئيس .
__________
(1) تنوير القلوب في معاملة علام الغيوب ص544-545(37/27)
ويبتدئ بعدها بأخذ همزة إله من الدماغ بالتخيل، وينزل بها حتى ينتهي إلى الكتف الأيمن ويجرها إلى الروح، ويبتدئ بعدها بأخذ همزة إلا الله بالتخيل من الكتف ويمدها بالتنزل على حافة وسط الصدر، حتى ينتهي بها إلى القلب فيضرب بالتخيل بلفظ الجلالة، بقوة النفس المحبوس على سويداء القلب، حتى يظهر أثرها وحرارتها في سائر الجسد، بحيث يحرق جميع الأجزاء الفاسدة في البدن بتلك الحرارة، فيتنور ما فيه من الأجزاء الصالحة بنور الجلالة ويلاحظ الذاكر معنى لا إله إلا الله، أي لا معبود ولا مقصود ولا موجود إلا الله.
فبالله عليكم هل هذه اللطائف المزعومة من هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا يمكن الانتفاع بهذا الذكر إلا برابطة الشيخ، وهذه الرابطة لا تكفي إلا إذا ضم إليها معاني أخرى ، قال الكردي في كتابه(1):
إن لم تظهر فائدة الذكر من الجذبة الإلهية وغيرها، فإنما هو من القصور في الشروط
وتلك الشروط : 1- صدق الإرادة .
2- الرابطة للشيخ.
3- المتابعة لأمره .
4- التسليم إليه في جميع الأمور .
5-سلب الاختيار عند اختياره .
6- طلب رضاه في كل حال .
فبرعاية هذه الشروط، يتوارد الفيض الإلهي، من باطن الشيخ إلى باطن المريد لأن الشيخ طريق الفيض والإمداد .
* * * *
الفصل الرابع
الختمة أو ختم الخواحكان
__________
(1) تنوير القلوب ، عند الحديث عن الذكر -ص546(37/28)
من أركان الطريقة الأساسية للنقشبندية ختم الخواجكان، وهذا الختم من بدع الأذكار، التي اخترعها الأعاجم، بدلاً عن الأذكار النبوية ، ينقسم الختم إلى قسمين: ختم صغير وختم كبير فالصغير إن كان عدد الحضور أقل من أحد عشر رجلاً، والكبير ما كان أكثر من ذلك. يختلف الختم الصغير عن الكبير ببعض الأذكار، ففي الأول يكتفي الذاكرين بـ(يا باقي أنت الباقي)أما الثاني فتقرأ الفاتحة سبع مرات عن يمين القائم بالختمة في البداية، وسبع مرات في النهاية عن شماله وسورة الإخلاص بعدد الحصى البالغ مائة حصاة ، ينوّه بذكرها عشر مرات إمام الختمة والقائم عليها، وتشترك الختمتان بقراءة السلسلة المباركة ، وهي الزبدة وبيت القصيد .
محظورات الختمة: يحضر عمل الختمة بوجود غرباء عن النقشبندية، كما يحظر على الذاكرين فتح عيونهم أثناء الختمة كي لا يصابوا بالعمى ؟
آدابها : الجلسة الشهيرة للنقشبندية ، وهي عكس التورك في الصلاة ، واستحضار صورة الشيخ وقد سلّط نوره على قلب الذاكر، كما يستحضر صورة كل شيخ يذكر في السلسلة المباركة مع طلب المدد من كل شيخ .تبدأ الختمة بقول القائم عليها استغفر الله، وتنتهي بالسلسلة المباركة ، وإليك نصها: الحمد لله رب العالمين الحمد لله حق حمده والصلاة والسلام على خير خلقه محمد وعلى أله وصحبه أجمعين اللهم أوصل ثواب هذه الختمة الشريفة بعد القبول منا بالفضل والكرم هدية إلى روضة منبع الصدق والصفا أشرف الورى سيدنا محمد المصطفى - صلى الله عليه وسلم - كل من آله وأولاده وأصحابه وذرياته أجمعين .كل من السادات سلسلة الطريقة العلية النقشبندية والقادرية والسهر وردية والكبروية والجشتية .(37/29)
شيخنا وملاذنا وقدوتنا وإمام الطريقة ذي الفيض الجاري ، والنور الساري ، الشيخ بهاء الحق والحقيقة والدين(1)، الشيخ محمد الأويسي البخاري المعروف بشاه نقشبند.
منبع المعارف سيد السادات(2)، السيد أمير كلال. المقبل عليك ولما سواك الناسي حضرة محمد بابا السماسي. الواله في محبة مولاه الغني حضرة عزيزان خواجة علي الراميتني . المعرض عن المراد الدنيوي والأخروي(3)، الشيخ محمود الأنجير الفغنوي. المتسلخ عن الحجاب البشري(4)،حضرة الشيخ عارف الريوكري قطب الأولياء وبرهان الأصفياء، قامع البدعة محيي السنة(5) شيخ المشايخ الشيخ عبد الخالق الغجدواني. القطب الحقاني والغوث الصمداني، الشيخ أحمد الفار وقي السر هندي، المعروف بالإمام الرباني المجدد للألف الثاني. قطب دائرة الإرشاد غوث الثقلين على السداد، السائر في الله الراكع الساجد، ذي الجناحين مولانا الشيخ خالد. منبع الحلم ونور الظلام، الهادي بين العشائر والأقوام، الذي ظهر من خلف سيد الأنام مولانا سراج الدين حضرة السيد عبد الله. شيخنا الغيور الذي به نتباهى، مولانا الوقور قطب الإرشاد والمدار، شهاب الدين حضرة الشيخ السيد طه. سلطان الكبراء المتقدمين(6)، وقدوة الكبراء المتأخرين، غوث(7)
__________
(1) انظر أيها المسلم الغيور هذه الأوصاف فمن هو الملاذ للمسلم غير الله ، ولا أدري بما يفسّر بهاء الحق والحقيقة والدين .
(2) هذا يعني أنه أفضل من الرسل بل سيدهم فهم سادة أيضاً.
(3) المقصود بالمراد الأخروي الجنة ، فهذا الشيخ معرض عن ما يطلبه الأنبياء.
(4) لا أدري كيف يستطيع الإنسان أن يتسلخ عن الحجاب البشري.
(5) الأصح قامع السنة ومحيي البدعة ، فقد ثبت أنه تعلم من الخضر كما يزعمون ، لا من محمد - صلى الله عليه وسلم -.
(6) فاق هذا الشيخ الرسل ، والصحابة ، والتابعين ، وإلا فمن هم الكبراء المتقدمين.
(7) لاحظ كلمة الغوث تتردد كثيراً الغوث الصمداني، غوث الثقلين ، غوث العامة والخائفين ، مغيث المستغيثين ومن يستحق هذا غير الله ، وقد أفردنا لهذا فصل مستقل.(37/30)
العامة والخائفين، قطب الأئمة والسالكين، "مغيث المستغيثين " مؤنس العاشقين، مولانا الكامل المكمل الأويسي حضرة الشيخ السيد صبغة الله الأرفاسي سلطان العارفين(1) قطب الأقطاب الواصلين، المتشرف بالفناء المطلق، مربي السالكين إلى ربهم على الوجه الأحق، ناصر الشريعة الغراء، مجدد أثار السلف والتابعين، وممهد بنيان طريقة الخلف واللاحقين، المتصًرف على الإطلاق(2) الذي لم يرى له نظير بعد التفحص في الآفاق، قاطع النسبة(3) عن المبتدع الطاغي، مولانا حضرة الشيخ عبد الرحمن التاغي. شيخ الشريعة وشهباز الطريقة وبرهان الحقيقة، الفاني في الله والباقي بالله، والمعتصم بحبل الله مولانا الشيخ فتح الله. جامع كمالات المتقدمين، ومجمع الآداب وفيوضات المتأخرين، سراج الملة والدين، موصل المريدين والسالكين، "نور السموات والأراضين" مولانا الكامل المكمل حضرة الشيخ محمد ضياء الدين. وارث مقامات الأولياء والعارفين إمام المؤمنين عمدة العابدين والسالكين، مظهر الشريعة الغراء، محيي آداب الطريقة النقشبندية البيضاء، المتسلخ عن الحجاب البشري، الخازن للسر المعنوي مولانا حضرة الشيخ أحمد الخزنوي. الناهج منهج أهل الحق والسداد، الناصب أعلام العلم والطريقة بين العباد، الظافر بدولة الأخلاق المحمدية، القائم بأعباء الخلافة الأحمدية، المربي الهمام "الفائق الصمداني"، مولانا الكامل المكمل حضرة الشيخ محمد
__________
(1) لا يستحق لقب سلطان العارفين إلا النبي عليه الصلاة والسلام ، ثم إن هذا اللقب نعرفه للمدعو ابن الفارض فكيف ينتحل لهذا الشيخ المجهول.
(2) ما أقل حياء هؤلاء الذين يزعمون إتباع الكتاب ، والسنة ، فمن الذي يتصرّف في الوجود غير الله ، وهل يستطيع الشيخ تحريك أنملته بغير قدرته تعالى فضلاً عن التصرف في غيره آلا ساء ما يدعون.
(3) النسبة كما يدعي الخزنوية هي عبارة عن لطائف تظهر بشكل رائحة عطرة يشمها خواص المحبين أو المدجلين إن صح التعبير.(37/31)
معصوم الثاني.
حامل لواء الشريعة الغراء ، حامي آداب الطريقة النقشبندية البيضاء ، ناشر العلم والطريقة معدن العرفان والحقيقة ، مرجع العلماء العاملين ، مسند أهل الحق والتمكين ، الشارب من منبع العرفان واليقين ، الفاضل الألمعي المحتاج إلى ربه المعين مولانا الكامل المكمل ، حضرة الشيخ علاء الدين . حامي العتبة العلية الخزنوية ناصر الشريعة المطهرة النبوية، جامع كمالات أولي الحقيقة والدين، المقتفي أثار السلف والتابعين، المدقق في أسرار الشريعة والطريقة على اليقين والمتضلع من شراب قطب العارفين ، المتمسك بحبل الله المتين، الساعي في ترويج الدين الذكي اللوذعي مولانا الكامل المكمل حضرة مولانا الشيخ عز الدين.(1)
__________
(1) من كذب النقشبنديين الصريح أنهم يتظاهرون بالتواضع ، وأنهم لا يرون أنفسهم حتى على الكافر والكلب والقط بينما تدون هذه المناقب ، والأوصاف الكبيرة بإشرافهم وبأمرهم فكل مريد يعلم أن الشيخ الجديد ، يجب وضع أوصاف له ومزايا ، حتى يذكر في سلسلة المشايخ ، فيكتب كل مريد للشيخ أوصافاً ومناقب ، وتعطى للشيخ فينتقي منها ما يعجبه وما يليق بمقامه ، فهذه المناقب تكتب في بداية مشيخة الشيخ للطريقة ، فأنعم بها من بداية ولو لاحظت معي كيف خفضّ الخزنوية من أوصافهم ومزاياهم ، خلافاً لمن سبقهم وسببه انتشار الوعي بين الناس ، حتى أن عز الدين الخزنوي ألغى وصف شيخ أبيه "وهو نور السموات وألا رضين " تجنباً للاعتراض عليهم ، لا لأن الشيخ لا يستحق هذا الوصف.(37/32)
وقد جعلوا لهذا السلسلة التي حوت ما ترى من الشرك والبدع والمخالفة، من الفوائد الروحية والمادية، ما تفرّق في جميع العبادات الشرعية، من قرأن ودعاء وصدقة، بل حتى تصلح للتمائم والأحجبة، فهذا محمد أمين الكردي يذكر في كتابه الذي يعتبر عند النقشبندية بمنزلة الكتاب والسنة، يقول فائدة في قراءة السلسلة وفضلها ، قال أبو سعيد محمد الخادمي: من قرأ سلسلة المشايخ بعد ختم الخواجكان، عند تلقين الذكر، وعند الشروع في ذكره وتمام ورده، تحصل له الترقيات والمكاشفات، ويقرؤها صاحب الورد والذكر خصوصاً حين تغلب عليه الروحانية، ويقرؤها لتفريج الكروب والهموم والغموم ، وتيسير المراد وقضاء الحوائج ولشفاء المريض وتكتب أيضاً .
* * * *
التوجه
وهذا من مزايا الطريقة النقشبندية على سائر الطرق، وهو اجتماع المريدين في غرفة أو مسجد على شكل دائرة، ثم يغمضوا أعينهم، ويجلسوا بعكس التورك، ولا يسندوا ظهورهم لحائط وينتظروا مجيء الشيخ، ويدخل الشيخ المسجد وقد لبس جبة أبيه المهترئة، ويجلس في منتصف الحلقة، ثم يأخذ بالاستغاثة بغير الله، وطلب المدد من الأموات (مدد يا شاه نقشبند مدد يا غوث جيلا ني ) ( المدد شاه خزنة المدد ، المدد علاء الدين المدد معصوم ثاني ) وهكذا يستمر بالشرك، وأتباعه بين نباح وعويل، وبكاء وأنين، ثم يأتي على كل مريد، ينفخ في فمه أو يبصق فيه، يدخل النور بهذه النفخة إلى قلب المريد ويخاطبه ببيت من الشعر، يخبره بما في قلبه على حد زعم الخزنوية .
ولا يخجل الخزنوية من ادعاء الشرعية لهذا المنكر،ويستندوا لحادثة الوحي(1) وكيف أخذ جبريل النبي، وضمه إلى صدره ثلاث مرات، وهو يقول: أقرأ
__________
(1) أما النقشبندي نوري الدير شوي فيستند إلى حادثة شق الصدر وإلى تحنيك الرسول عليه الصلاة والسلام للأطفال -ردود على شبهات السلفية –ص30(37/33)
ولا يسأل هؤلاء الجهلة أنفسهم لماذا لم يفعله الرسول - صلى الله عليه وسلم - لصحابته ما دام مشروعاً؟ أم أن الرسول يحتاجه كما نحتاجه ولا يحتاجه الصحابة والتابعين!!
وما قصة تلك الجبة المهترئة التي يلبسها الشيخ(1) ؟ وما هو وجه الانتفاع بلبسها حين التوجه؟ اللهم إلا إذا اعتقدنا بوجود نوراً سارياً فيها، أو أنها تجلب الفتوحات الإلهية.
إن قالوا: هي للتبرك ، قلنا : لماذا لا يلبسها في كل أحيانه ؟
ثم كيف يستغيث الشيخ بغير الله ؟ أليس هو الغوث أو القطب الكبير على حد زعم الكذّابين من أتباعه، ذاك الغوث الذي يمد حتى الحوت في البحر بمدده. لماذا يقف عاجزاً فيحتاج إلى أن يلبس جبة مهترئة، ويستغيث بأموات؟
* * * *
الباب الثاني
شيخ الطريقة
الفصل الأول
شيخ الطريقة
من هو ؟... صفاته... واجباته... خصوصياته...
الشيخ : هو من سلك الطريق، وتربى على يد شيخ كامل، حتى وصل إلى مرتبة تؤهله تربية غيره .
__________
(1) وهذه أيضاً مما يدافع عنها الدير شوي ، ولا يعلم أنه فضح نفسه ، حين يتحدث عنها وعن الإسناد الصوفي ، الذي يشترط اللقاء الروحي ، لا المعاصرة والمشاهدة عند المحدثين من يدري لعله يعتقد أن القراء كلهم من أتباعه الجهلة- ردود على شبهات السلفية ص27-(37/34)
وحتى يخلف في إعطاء الطريقة لغيره، لابد له من السلوك المضني على يد شيخه من تنفيذ أوامر يفرضها عليه بخصوصه دون سواه، قد تكون غير لائقة بأمثاله، فقد ورد لدينا في أثار النقشبندية في مناقب مولاهم خالد، أن شيخه أمره بتنظيف بيوت الخلاء، وهو على حد زعم الرواة ختم العلوم العقلية والنقلية، أو أن يأمره بما يصعب عليه تركه ، كأن يكون طالب علم مجد، يهيم في طلب المعارف ، فيأمره ببيع كتبه ، أو حرقها أو إلقائها في النهر هكذا، ولا يعلم الشيخ أو يعلم أن هذه الكتب، قد قضى على كتابتها وتحصيل محتوياتها عمراً طويلاً، ولكن الشيخ يفهم مريده أنها لا تنفع، بل قد تكون حجر عثرة في طريق النور، وقد يكون السالك غنياً منعماً فيأمره بالتصدق بأمواله كلها، أو صاحب منصب، فيأمره بالاعتزال بل يأمر الشيخ السالك بالتجرد عن كل المعلومات، التي تختزن في ذاكرته، تلك المعلومات التي أكتسبها في حياته بحجة أنها عقبات في الطريق، فكثيراً ما سمعنا تلك المقولة:( خل علمك وتعال ) إلى أن يصل المريد إلى مرحلة، يتجرد فيها حتى من الميل النفسي للأشياء -على حد زعمهم - فلا يحب ولا يكره إلا ما يأمره شيخه بحبه وكراهيته، بل يجب أن يستحوذ الشيخ على قلبه، فلا ينبغي أن يجتمع في خياله أحد غير الشيخ، سواء كان المتخيل مشروعاً أو غير مشروع، بل يجب ألا يفكر في نفسه، حتى يصل إلى مرحلة حرة ومنعطف خطير، يصل الشيخ مريده بالله، ثم يخرج من البين، وبتعبير أوضح يصل إلى مرحلة النيرفانا البوذية .
من صفاته: أن يتمتع بشخصية قوية إن أمكن، وذهن وقّاد وخيال خصب وإجادة أعمال الطريقة بنشاط منقطع النضير .
ومن شروطه: الولاء المطلق لشيخه حتى بعد موته ولمبادئه، والذود عن نهجه وإن خالف المعقول والمنقول، ومن الشروط أن يعرض عن الدنيا وحب الجاه.
* * * *
واجباته(37/35)
بعد تسلم مقاليد الخلافة، يعاهد الأتباع على التتبع الحثيث لنهج سلفه ويطلب منهم المؤازرة والمعونة على هذا الحمل الثقيل، وهذه المقولة طيبة وجديرة بالاحترام إن قالها وهو معتقد ظعفه وقصوره، أما عند الخزنوية وخصوصاً عند محمد الخزنوي فهي للاستهلاك المحلي، وتكرار المقولة لا يضره، بله ينفعه للترويج لتواضعه المصطنع، لأن الواقع العملي يكذب ذلك، لأن الشيخ أوتي الكمال فكيف يحتاج إلى معونة.
ومن المقولات المكررة: ألا يبدّل في الطريقة ولا يأتي بجديد، فكما أن الشريعة نصوص وأحكام ثابتة، لا يعتريها التغير والتبدل، ومن حاول التزود أو النقص فهو مبتدع ضال، كذلك في الطريقة، ولذلك يفتخر الخزنوي في دروسه بأن نهجه ونهج آبائه سليم من البدع الطريقية والشرعية. وهذه دعوى عريضة لا دليل عليها فعلماء الأمة منذ ظهور تصوف القوم، هم على خلاف هل للتصوف سند شرعي أم لا .؟ والمعلوم بالبداهة أن الطريقة من اختراع المشايخ، فكيف يراد للبدعة المخترعة البقاء والتمام.(37/36)
ثم بقدر ما يكون الخليفة الجديد، متمسكاً بنهج شيخه بقدر ما تكون ولايته أعظم حتى أن من الواجبات الغريبة، أن يحتكم فيما استجدّ من أمور على فعل شيخه السابق، وإن ظهر بطلان فعله، أستغفر الله، فهذه الكلمة أخطر من الكفر، فمن ذا الذي يجرؤ على فحص أثار السابقين ونقدها، أو كشف بطلانها ؟ وأنّى للبعوض المترامي على الجيف مضارعة الصقور ومن يعترض على أمر مخالف للشريعة، يجابه بأن الشيخ السابق فعله أو قال به، أو أن الأتباع فعلوه والشيخ رآهم وسكت على فعلهم، فهذه كلها نصوص صريحة في المشروعية، لأن الشيخ أدرى منا بالشريعة، وكان لزاماً على المعترض السكوت، فقد دمغ اعتراضه بالحجج المقنعة. ومما يزيد الشيخ الجديد قداسة، تقليده لشيخه في كل حركة وسكنه، حتى الأمور التي لا عبرة فيها ولا فائدة، حتى لو اضطره إلى تغيير بعض طبائعه، ولو أخطأ السابق بكلمة أو خرجت سهواً، فيجب أن يتصنع الخطأ والسهو، أو قال كلمة غير مفهومة، أو بذيئة فلا بد أن ينطقها، حتى لو أن الفحش واضح.(37/37)
من ذلك تلك القصة المقرفة، التي تناقلها المشايخ والأتباع، وهي قصة الخاتون وجاريتها والحمار والحكاية: أنه في غابر العصر والزمان ، خاتون حاصرتها شهواتها من كل صوب، وعمل الشبق الجنسي في غياهب صدرها، حتى ألجأها إلى حمار، ولكن بمقدار(1) وشاءت المقادير أن ترى هذه المناظر خادمتها التي تقوم بنفس العمل، إلا أنها لم تكن تعلم المقدار، فكان فيه أجلها والشاهد هنا أن الدنيا كحمار الخاتون، فمن أراد التمتع بالدنيا، فيجب أن يتمتع بمقدار، وإلا كانت النتيجة مؤلمة وقاتلة، والشيخ هو من يمثّل الخاتون التي تستعمله بمقدار وسوقة الناس من يمثّلون الجارية، ولكن الغريب أن الشيخ وأبنائه وأحفاده أكثر تمسكاً بالحمار، ولم يأخذ السوقة غير شعرات يسيرة من ذيله يتبركون بها.
فانظر يا رعاك الله إلى هذه الحكاية، وهذا التشبيه المريض، وهل عقمت الحياة عن عمل نشّبه به غير هذا المثال، ولكن ما العمل ؟ وهذه سنة متبعة، وطريقة في التوجيه والتربية عديمة النظير والمصيبة العظمى أن هذه الحكاية لا مناسبة لها إلا مجلس العزاء، والسبب أن الشيخ الذي ذكر القصة، ذكرها في مجلس عزاء فكان لزاماً على اللاحقين المتابعة.
* * * *
خصوصيّاته
للشيخ عند الصوفية عامّة والخزنوية خاصّة، خصوصيات لا يشاركه فيها أحد منها ما هو معروف في الدين، ولكنه لله أو لرسوله، ومنها ما جلبه علينا أعاجم النقشبنديه من فرس وكرد، وهنود .
__________
(1) عندما يريد توضيح الصورة ، يشير بسبابته على أنها ذكر الحمار، ثم يشرح كيفية ربط الخاتون للذكر لمعرفة المقدار !!(37/38)
فمن خصوصيات الشيخ: إطلاعه على الكون وعلى العباد، وكشفه الدائم لما في الصدور والقبور، بل إن المريد السالك عند الشيخ من أول مراحله وأحواله كشف القبور والقلوب فما بالك بالشيخ؟ وإليك النص(1) (ونقل الغوث الأرفاسي عن شيخه الشيخ خالد الجزري قوله دخلت الطريقة عند خليفة من خلفاء مولانا خالد وببركة توجهه الأول نلت حال كشف القلوب؟) بل إن الشيخ له التأثير في الكون حتى أن من المقولات عند الخزنوية، أن القط لا يستطيع صيد الفأرة حتى يأذن له الشيخ؟ ولا ينبغي لنا الإنكار، فهناك في مناقب أحد مشايخ النقشبندية (أنه المتصّرف على الإطلاق) وهذا يذكر في ختم الخواجكان كل يوم ..
ولذلك تحتاج للشيخ جميع المخلوقات بلا استثناء(2) بل كان في مناقب شيخ الخزنوي الكبير التي تقرأ في الختمة "أنه نور السموات والأرضيين" ولم تحذف هذه المنقبة من السلسلة إلا في فترة الشيخ عز الدين الخزنوي والسبب عدم تحمل الناس ؟ لا لأنها خطأ فاحش..؟
ومن الخصوصيات: أن الشيخ لا يسأل عما فعل، ولا يملك مخلوق حق الاعتراض على قوله وفعله حتى لو خالف الشرع وأي شرع ؟ أهو القرآن ذاك الرسم والظاهر.
ولا ننسى أن هذا من أصول الصوفية الكبرى، وإليك ما كتب في الذكرى الثانية فالشيخ الكامل لا يجوز مخالفته ولو صدر منه ما يخالف الشرع ؟
ولذلك قالوا :
وكن عنده كالميت عند مغسل ... يقلبه ما شاء وهو مطاوع
وفي قصة الخضر الكريم كفاية ... بقتل غلام والكليم ينازع
__________
(1) من مجلة الذكرى الثانية ص74.
(2) مجلة الذكرى الثانية ص66 [إن الشيوخ هم الأقمار التي يسري في ضوئها السائرون هم الشموس، التي يحتاج إلى شعاعها كل مخلوق في الوجود…].(37/39)
ومنها منع الزواج بنسائه؟ لأن زوجته تعتبر أماً للمريدين والدليل {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ } ولذلك عندما ينادي المريد زوجة الشيخ أو يذكرها، لا يناديها إلا بقوله يا أمي والمشهورة بـ "يادي" –أي أمي عند الأكراد والفرس- وكذلك الشيخ لا ينادى إلا بـ " يابو " -أي يا أبي- والسبب قوله تعالى:{وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا}(1) ولذلك لم تتزوج أي امرأة من نساء الخزنوية الآيامى وإن كانت صغيرة السن …؟
* * * *
بعد الاستلام
لا يختلف في الطريقة إلا بالنص عليه، من قبل الشيخ الراحل، بوصية مكتوبة تفتح أمام المريدين تضفي هذه الوصية طابع الشرعية، كما تعطي مزيداً من القداسة على الشيخ الجديد0
أول ما يبدء به إدراج اسمه، مثقلاً بالألقاب المهيلة في السلسلة المباركة، التي يقرأها المريد، أو يسمعها كل يوم بعد العصر أو العشاء، وهي ما يسمى عندهم بالختمة أو ختم الخواجكان(2)، و لا يذكر اسمه ولقبه هكذا، وإنما يشترك تلامذته في كتابة مناقبه، ويحاولون -رغم قصرهم ونقصهم- أن يقتربوا شيئاً يسيراً من شخصيته العظيمة، فيكتب كل واحد منهم سطوراً، عن عظمته بما تمليه عليه أمانة العقيدة في شيخه، وإن جاوز بوصفه الحد المشروع ومن ثمّ تجمع هذه الورقات وتعطى للشيخ الذي يحاول أن ينتقي منها، ما يليق بجلاله وقداسته، وهذا إن دل إنما يدل على التناقض الصارخ والسخف، الذي يعيشه أتباع الطريقة النقشبندية فكيف تتناسب ادعاءاته بعدم الأهلية والنقص والعجز والفاقة، وتلك الألقاب التي لم يحصل عليها نبي مرسل، ولا ملك مقرب، تلك الألقاب التي تقرأ كل يوم ويردّدها ألا ف الناس .
__________
(1) الأحزاب :53.
(2) يراجع فصل ختم الخواجكان من هذا الكتاب.(37/40)
بعد ذلك يسعى الشيخ على إدخال محبته في قلوب المريدين المفجوعين بشيخهم الراحل، وقد استطاع محمد الخزنوي، تثّبيت محبته بكثرة البكاء المصطنع، على كل ما يذكره بشيخه، حتى البكاء من غير دموع تذكر، المهم أن يبعث في نفوس الأتباع روح المشاركة، أما بعد تلك المرحلة، أخذ يوحي لهم بطرق غير مباشرة أو عن طريق جلاوزته - وما أكثرهم - بأنه السيف الذي سل بعدما أغمد الخنجر والشمس التي سطعت بنورها، بعدما تلاشى الليل ونور القمر0
ومن طرقه في تثبيت المحبة والاعتقاد فيه، نشره بين الأتباع قصص خرافية وكرامات مخترعة ومن أهم هذه القصص :(حكاية الشيخ وسائس الخيل ) وملخص الحكاية: أن سائس الخيل لأحد المشايخ، أكتشف أن شيخه يسافر إلى المدينة المنورة، لحضور اجتماع سري للأولياء وهذا الاجتماع يحصل كل يوم مما أظعف الفرس، وبعد وفاة الشيخ وتسلم ولده الخلافة لاحظ سائس الخيل ظهور السمن على الفرس، مما جعله يعتقد أن الولد لم يكن مثل أبيه، ولكن الولد يظهر أنه أعظم من أبيه؛ لأنه أخذ السائس من تلابيبه، وأدخله غرفته الخاصة، حيث شاهد فيها، الرسول عليه الصلاة والسلام وجميع الأولياء، فقال له: انظر كان أبي يذهب إليهم، أما الآن فهم يأتون إلي00!! الله أكبر ما أعظم هؤلاء المشايخ وما أعظم مصابنا بهم، وبمن يصدق مثل هذه الحكاية، ولكنها وجدت رواجاً عظيماً بل أصبحت حجة بالغة على عظم مكانة محمد الخزنوي، بأي طريق ؟
وبأي برهان؟ إنها هذه الحكاية .(37/41)
وهذا هو الأسلوب المنطقي والناجع في الواقع، فعلاج الخرافة بالخرافة ، فالمحبة التي كان يكنّها الأتباع لأبيه، ما كانت إلا وليدة الخرافات، التي يتناقلها الأتباع الجهلة بل عمل على تثبيتها مئات العلماء، بالآلاف المؤلفة من الكرامات المفردة والمكرّرة والمنامات الهادئة، التي كانت تسند القداسة، حين يعجز العقل الواعي عن التقديس وقد استطاع محمد الخزنوي، إظهار نفسه لأتباعه بأنه أوحد زمانه بالعلم والمعرفة ولذلك كان يكيل العداء لكل عالم، أو مدعي العلم في نظره، وكل الطرق سدت إلا طريقته، وهذا المرض شائع عند كل الصوفية، فكلهم يرى طريقته هي صلة الوصل الوحيدة بين الأرض والسماء
وكل يدعي وصل بليلى ... وليلى لا تقر لهم بذاك
وهذه الدعوى وغيرها لا يظهرها على الملأ، وإنما يلقّنها خاصته، الذين يقومون بنشرها بين الأتباع، أما هو فلا يجيد غير تقديس عتبة والده، وأنه أخ لهم وليس شيخاً، وهذا من تواضعه المصطنع، وأنه فرد منهم قائمٌ على رعاية مصالح العتبة لا أكثر، والعتبة قطبٌ لكل الوافدين، وهي ملكٌ للجميع.
وهذا الكلام إن أمعنت النظر فيه، وجدته تزويراً للحقيقة، وتشويهاً للواقع، لأن العتبة ملك للشيخ وحده، ومن لم يقدم له فروض الطاعة والولاء، يطرد منها شر طردة، هذا إن لم يضرب بعصا أو بحجر .
ورغم تقديسه لعتبة والده، لم يكن محمد الخزنوي يلبث فيها إلا أيام الأعياد والمناسبات الرسمية فرغم ادعائه بالمرض، فقد كان في سفر دائم، يأتي في جنح الظلام، ويغادر كذلك، ولا ندري أإلى العاصمة أم إلى المدينة المنورة ؟!
واليوم الذي يمضيه في القرية، لا يخرج من قصره إلا بعد نفاد صبر الأتباع، الذين تجمعوا أمام بابه .
* * * *
الفصل الثاني
الطريقة والمرض(37/42)
استطاع محمد الخزنوي، بما أوتيه من البراعة في التمثيل، أن يوهم الناس أنه مريض لا يقوى على الوقوف أو الجلوس الطويل بين الأتباع، ولديه حجّة، وهي تحطّم عظامه في شبابه إثر حادث أليم، وقد شفي تماماً منذ زمن، إلا أن الحجة بقيت قائمة كلما سُئل أحد أتباعه، عن عدم إشرافه الكامل والمباشر، أجاب بألم :إنه مريض. وقد زاد أمراضاً من عنده قدس سره، وهي القلب والسكري، وضغط الدم ، والواقع أنه أوتي طاقة عشر شبان، ولم يكن يشتكي إلا من مرض واحد وهو: كثرة الجميلات وضيق وقته المبارك0
أما إذا حلّ في قريته، فلا يخرج إلا لماماً، ينتظره الأتباع بكل فئاتهم، كباراً وصغاراً، علماء وجهلة، أصحاء ومرضى، والملاحظ أنهم من الطبقة البسيطة الجاهلة في المجتمع،أما إذا أتى مسئول أو غني كبير، فيخرج دون إبطاء، أما من ذكرنا أنفاً، فكثيراً ما يقفوا ساعة أو أكثر دون اللقاء، وأحياناً يلغى الخروج لأسباب غير معروفة، هكذا دون اعتذار، أستغفر الله فمن يعتذر ومن يوجه له الاعتذار؟! فهؤلاء الدراويش الذين جاءوا من كل حدب وصوب، إنما الفضل في مجيئهم للشيخ، ولهم الفخر في بقائهم ساعات تحت حر الظهيرة أيام الصيف وتحت وابل المطر في الشتاء، وله الفضل أيضاً في قبولهم في هذا الموضع ولكل مصيبة إنا لله وإنا إليه راجعون0
وإن خرج وأدى الصلاة، ولنقل صلاة الظهر مثلاً، إن كان هناك مريد جديد جلس ليعطيه الطريقة، وإلا دخل إلى غرفته الخاصة، ليدخل خواصه واحداً تلو الأخر هكذا حتى صلاة العصر وكثيراً ما يذهب إلى بيته قبل الصلاة بلحظات حيث يقترن دخوله وأذان العصر أحياناً أما إن صلى فهناك الختمة المفروضة كل عصر، ثم يخرج بجموع الناس، إلى مرقد والده وجده(1) ليبقى ما يقارب الساعة من الزمن.
__________
(1) وللمرقد ودوره في الطريقة 0فصل خاص 0أثرنا تأخيره لوقته ومناسبته.(37/43)
هذه الصورة تتكرر كلما خرج الشيخ من بيته ، فهؤلاء الحمقى بانتظاره بكل فئاتهم وما يلفت الانتباه، البون الشاسع بين لباس الشيخ وأخيه، وبين لباس جلاوزته فالشيخ كما ترى يلبس جبة طويلة، بينما يمنعها من طلبته، ويعتبرها سوء أدب وكما يحتكر لباس الجبة الطويلة، كذلك يحتكر لقب الشيخ، فلا يطلق إلا علية أما الغير فيسمى: ملا .
ولو قارنّا بين لبثه في المسجد لأداء الصلاة ولبثه في المرقد، لزاد الأخير على الأول بأضعاف وبعد خروجه من المرقد يتجه إلى قصره، ولا يخرج إلا لصلاة العشاء حيث ينتظره الأتباع - كما هي العادة - ومن رحمة الله بهؤلاء المساكين، أن الشيخ لا يصلي الصبح في المسجد، وإلا لانتظروه أيضاً كما في الصلوات الاخرى0 فإن صلى العشاء في المسجد وانتهى من صلاته، أدخل مريديه في ديوان الضيوف، ودخل هو غرفته الخاصة، ليبقى فيها فترة من الزمن، والضيوف ينتظرون إطلالته البهية، وإن دخل قبلهم، جلس والناس قيام واضعين اليمين فوق الشمال - كهيئة الصلاة تماماً - بل يزيد أكثرهم عليها بخفض الرأس، بحالة بين الركوع والقيام -وهذه الكيفية محببة عند الشيخ وأنجاله - ولا يجلس أحد حتى يشير إليه الشيخ بالجلوس، ويشير الشيخ لمن أراد له الجلوس إلى مكانه، فعن يمينه يجلس جلاوزته الكبار المتفانين في محبته، والجهة المقابلة الضيوف الكبار وأحياناً العكس، و الشيخ هو من يرتّب المجلس، ثم يجلس السوقة بعد ذلك ويجب على الحضور إغماض العينين، والجلوس عكس التورّك في الصلاة، ووضع اليمين على الشمال، والطلب من الشيخ سراً المدد المعنوي أو تصفية القلب، وهذا من أهم آداب الصحبة كما يسمونها(1) ( من آداب الصحبة :أن يحضر المريد قلبه أمام قلب المرشد، "بتمام الأدب وكمال التعظيم"، ويرجو من أستاذه أن يدعوا الله أن يوجه نظره إلى قلبه المجروح، المظلم بران الكدورات والمتسخ بصدأ الشهوات
__________
(1) مجلة الذكرى السنوية الثانية ص50 آداب الصحبة نقلا عن الشيخ.(37/44)
ليجلوه من هذا الصدأ، ويطّهره من هذا الران ، ويوجه قلبه إلى الله )
لا يبتدأ مجلسه بذكر الله ولا بقرآن، وإنما يشير إلى أحد مريديه، بالحداء، وما يسمى عندهم بالمديح، وكذلك لا يبدأ هذا المديح بذكر الله، ولا ذكر رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وإنما يبدأ المديح بذكر الشيخ السابق، والمقصود ضمناً هو الشيخ الحي الذي هو في المجلس، وإن خرج ثناءٌ موجهٌ للحي، أنبّ الشيخ ذاك المداح تواضعاً منه، لا لأنه بالغ في الثناء، ويقول لهم سراً: إن الناس لا تحتمل أو أن أهل الظاهر يعترضون علينا.
وهذه من معضلات الطريقة، ومن فلسفة الخزنوية حصراً، فالشيخ عندما يعطي الطريقة، يصّر على المريد الجديد، أن يقر أن الشيخ الراحل هو شيخه والسبب هو التواضع فقط، بينما يجب قطع الصلة الماضية بين المريد والشيخ الراحل وكذلك بالنسبة للمدح والثناء، يجب أن يكون محصوراً في الشيخ الحي، وإلا كان المدّاح ناقص المحبة ثم إنك تجد الصراخ والنباح، وما يسمى بالجذبة الربانية تسيطر على المجلس، وكل الذين يصرخون ويصيحون، تجدهم من أسّوء الناس سيرة وسريرة، سواء في علاقاتهم الاجتماعية أو العائلية، بينما ينظر لهم أتباع الخزنوي أنهم من الذين ما صرخوا اختياراً وإنما قسراً، لعدم احتمالهم للنور الإلهي الذي يسطع على قلوبهم الطاهرة، أو لما رأوه من الكشوفات الربانية فمنهم من يرى العرش ، ومنهم من يرى الملائكة أو الأولياء !! آلا ساء ما يدعون .(37/45)
بعد ذلك يبدأ الشيخ بالكلام، وكعادته وعادة سادته، لا يبدأ بأية قرآنية أو حديث وإنما بقوله: أنا سمعت من الشيخ الوالد، أو كان الشيخ الوالد قدسنا الله وإياكم بأسراره العلية يقول: ثم يسرد حكاية تتضمن كرامة أو قاعدة صوفية، أو أنه يستنبط منها حكمة(1) يلتزم بنهجها المريد، ويزين الشيخ درسه بألفاظ التواضع المدعى زوراً مثل : أنا لست أهلاً للكلام، وأنا لا أساوي شيء، لا أساوي فرنك ويطلب من الله أن يرقّق قلب الشيخ الوالد الميت أن يقبله تابعاً وخادماً، وأن تحميه عناية السادات العظام ، وتعينه لحمل أعباء الطريقة الثقيلة وتجد الأتباع الحاضرين بين عويل وبكاء ونباح ، لأن هذه الكلمات تثير أرواحهم وتستنزل الألطاف الإلهية مما يفقدهم السيطرة على جوارحهم، فمن يركل بقدميه ومن يبطش بيديه، ومن يتلفظ بكلام مشوش، ومن يخاطب الشيخ بأنه: المتصرّف في كل شيء، وأن التواضع لا يخفي حقيقته الواضحة .
يحدث كل هذا، والشيخ ماض في سرد القصص وخلط المفاهيم، وكثيراً ما يستشهد بقصص الحيوانات، والاستدلال بها على فوائد وفضائل الطريقة، وفضل الشيخ على المريد وبيان القدرات الخارقة للشيخ المسلّك، وهو يشير من طرف خفي إلى نفسه، فما معنى أن يقول مثلاً: إن الشيخ المسلك لو نظر إلى حيوان لترك أثراً غريباً فيه وما الدليل ؟
__________
(1) ومن ثم تصبح هذه الحكاية قرآن الأتباع ، تردد في اليوم والليلة مئات بل آلاف المرات في المجالس العامة والخاصة ، وإن كان المريد خطيبا ، فقد أغناه شيخه عن إعداد خطبة الجمعة فما عليه إلا أن يغمض عينيه ، ويتخيل الشيخ أمامه وهو يسطع نوراً على قلبه ، ثم يذكر حكاية الشيخ الجديدة ، وما فيها من حكم وأسرار.(37/46)
إنها القصة التالية: أحد المشايخ يوجّه نظره إلى أحد تلامذته وأثنائها يمر كلب فتصيبه نظرة من الشيخ، فيحدث أمراً عظيماً في عالم الكلاب حيث لم يبقى كلب في البلدة، إلا وهو تابع ذليل لهذا الكلب المقدس، والكلب المسكين ظن نفسه هو المتبوع، وما درى أنهم يتبعون ذاك السر اللطيف الذي أهاله الشيخ عليه مصادفة(1) وهذه القصة يوردها الشيخ حصراً، لنسف بعض أوهام الأتباع وخصوصاً الدعاة منهم، حيث أن هؤلاء قد يحبهم الأتباع الجدد، لكونهم السبب في مجيئهم إلى الشيخ، فالشيخ بهذه القصة يشير إلى نفسه بأنه هو المسبب، وهو من أتى بكل الناس، وإن كان يتقلّب في أحضان زوجته بينما الداعي المسكين الذي تجّهم الطرقات، وجفّ ريقه واستحلّ الكذب أحياناً من أجل شيخه، ما هو إلا سبب تافه، وما جاء الناس إلا لأنهم جذبوا بذاك السر الخفي، ولذلك يشير الشيخ للداعي: بأنك لن تستفيد، حتى ترى نفسك عصا بيد الشيخ، قد يلقيها متى شاء، فلا ترى لنفسك أثراً مع الشيخ، فهذا شرك مقيت قد يكون سبباً في الطرد، نسأل الله العافية .
__________
(1) في مجلة السنوية السابعة ص66 [ لأن من نظروا –المشايخ –إليه سرى نظرهم في كيانه وأثر في مشاعره ووجدانه ، ولا تزال هذه النظرة ، تقتحم في نفسه مداخل الشيطان ، وتنتصر في ضميره على عناصر الشر والفساد والطغيان ، فإذا نزل ماء الرحمة من سماء هذه النظرة على أرض النفس ، اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج ].(37/47)
وكثيراً ما يقول الشيخ للدعاة في وداعه لهم: ما عليكم إلا أن تكثروا الطنين أما العسل فعلينا والمعنى أكثروا من ذكرنا أمام الناس بذكر كراماتنا وخوار قنا، ولا عليكم من النتيجة والفائدة فهي ملكنا نحن المتصرّفون، ونحن من يقرر النتائج والنتيجة المرجوة من كدّ الأتباع، هي كثرة الوفود وزيادة الجمع وهي ما يستند إليها الشيخ دائماً، حين يثبت مشروعية الطريقة ومصداقيتها ،وعظم مكانة سادته ولذلك ينسب الفضل في مجيء الناس إلى سيده، وولي نعمته الشيخ الوالد المتوفى؟ وهذا المتوفى رمز يختفي وراءه الشيخ الحي، فهو يذكر في القصائد ويذكر في القصص الخارقة، ويندب في الشدائد والملمات، وتنسب له كل الكرامات، ولذلك ورد في وصية عز الدين الخزنوي لولده ( أن لا يرى نفسه في البين مطلقاً، وأن يرى نفسه كالعصا في يد الشيخ ، يرميها حينما ينحرف ، فيجرد من كل شيء ) (1) …
الفصل الثالث
كسروية المشيخة
أعطي شيخ الطريقة عند الصوفية عامة، وعند الخزنوية خاصة، مزايا غريبة ومرتبة لم يصل إليها نبي مرسل، ولا ملك مقرب .
فالمريد الذي يريد الاستفادة من الشيخ، لابد له حين الدخول في سلكه المقدس من شرطين أولهما: أن ينسى أن له إله يملك النفع والضر .
والثاني: أن ينسى أن له عقلاً، أما الشرط الأول: فيستند الخزنوية في إثباته إلى قاعدة عندهم، تقول: على السالك أن يعتقد أن كل ما يحصل له من خبر وشر حتى الشوكة يشاكها فهي من الشيخ ؟
__________
(1) مجلة الذكرى السنوية الثالثة ص30 .(37/48)
ففي كتاب تنوير القلوب(1) :فصل في آداب المريد مع شيخه وهي كثيرة جداً واقتصرنا على بعض المهمات: أعظمها أن يوقّر المريد شيخه ويعظمه ظاهراً وباطناً، معتقداً أنه لا يحصل مقصوده إلا على يده، وإذا تشتت نظره إلى شيخ أخر،حرمه من شيخه وانسد عليه الفيض، ومنها: أن يكون مستسلماً منقاداً راضياً بتصرفات الشيخ ، يخدمه بالمال والبدن، لأن جوهر الإرادة والمحبة، لا يتبين إلا بهذا الطريق، ووزن الصدق والإخلاص، لا يعلم إلا بهذا الميزان. ومنها: أن لا يعترض عليه فيما يفعله، ولو كان ظاهره حراماً، ولا يقول لم فعلت كذا ، لأن من قال لشيخه: لم ؟ لا يفلح (2).
__________
(1) تنوير القلوب ص559-560-561.
(2) ولو كان لنا شيخ يسلم إليه حاله لكان ذلك الشيخ أبا بكر الصديق - رضي الله عنه -. وقد قال إن اعوججت فقوموني ولم يقل فسلموا إلي. ثم أنظر إلى الرسول صلوات الله عليه كيف اعترضوا عليه. فهذا عمر يقول: ما بالنا نقصر وقد أمنا. وآخر يقول: تنهانا عن الوصال وتواصل؟ وآخر يقول: أمرتنا بالفسخ ولم تفسخ! ثم إن الله تعالى تقول له الملائكة: (أتجعل فيها). ويقول موسى: (أتهلكنا بما فعل السفهاء منا) وإنما هذه الكلمة (يعني: قول الصوفية: الشيخ لا يعترض عليه) جعلها الصوفية ترفيها لقلوب المتقدمين وسلطنة سلكوها على الإتباع والمريدين كما قال تعالى: (فاستخف قومه فأطاعوه) -تلبيس إبليس ص373-374).(37/49)
ومنها: أن يسلب اختيار نفسه باختيار شيخه في جميع الأمور، كلية كانت أو جزئية عبادة أو عادة، ومن علامة المريد الصادق أنه لو قال له شيخه: ادخل التنور دخل(1)، ومنها: أن يحفظ شيخه في غيبته كحفظه في حضوره، وأن يلاحظه بقلبه في جميع أموره سفراً وحضراً ليحوز بركته، ومنها : أن يرى كل بركة حصلت له من بركات الدنيا والآخرة ببركته(2) ومنها: أن لا يتزوج قط امرأة رأى شيخه مائلاً إلى التزوج بها، ولا يتزوج قط امرأة طلّقها شيخه أو مات عنها ومنها: أن لا يشير قط على شيخه برأي إذا استشاره(3) في فعل شيء أو تركه بل يرد الأمر إلى شيخه، اعتقاداً منه أنه أعلم منه بالأمور(4)
__________
(1) عَنْ عَلِيٍّ - رضي الله عنه - قَالَ بَعَثَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - سَرِيَّةً وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ رَجُلًا مِنْ الْأَنْصَارِ وَأَمَرَهُمْ أَنْ يُطِيعُوهُ فَغَضِبَ عَلَيْهِمْ وَقَالَ أَلَيْسَ قَدْ أَمَرَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ تُطِيعُونِي قَالُوا بَلَى قَالَ قَدْ عَزَمْتُ عَلَيْكُمْ لَمَا جَمَعْتُمْ حَطَبًا وَأَوْقَدْتُمْ نَارًا ثُمَّ دَخَلْتُمْ فِيهَا فَجَمَعُوا حَطَبًا فَأَوْقَدُوا نَارًا فَلَمَّا هَمُّوا بِالدُّخُولِ فَقَامَ يَنْظُرُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالَ بَعْضُهُمْ إِنَّمَا تَبِعْنَا النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فِرَارًا مِنْ النَّارِ أَفَنَدْخُلُهَا فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ خَمَدَتْ النَّارُ وَسَكَنَ غَضَبُهُ فَذُكِرَ لِلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ لَوْ دَخَلُوهَا مَا خَرَجُوا مِنْهَا أَبَدًا إِنَّمَا الطَّاعَةُ فِي الْمَعْرُوفِ –البخاري برقم 6612 ومسلم 3424.
(2) تنوير القلوب- 561-.
(3) لا غرابة فلا يعتد هؤلاء بالقرآن الذي مدح وأمر بالشورى ومقام المشايخ أعلى من مقام سيد البشر الذي شاور أصحابه بكل أمر لم ينزل فيه وحي وأخذ برأي أصحابه.
(4) فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا(59)النساء .(37/50)
، وغني عن استشارته وإنما استشاره تحبباً، ما لم تقم القرائن الواضحة على خلاف ذلك.
ومنها : أن يعظم ما أعطاه له شيخه، ولا يبيعه لأحد ولو أعطاه ما أعطاه فربما يكون طوى له فيه سراً من أسرار الفقراء(1)، فيما يعينه في الدارين ويقربه إلى حضرة الله عز وجل .
ثم إن هذا الشرط قد يخفوه ضمن عقائدهم الباطنية(2).
وأما الشرط الثاني: فهو مثبت عندهم بكل صراحة يقول كاتبهم(3) : إن الولي الكامل لا يجوز مخالفته، ولو صدر منه ما يخالف الشرع ولذلك قالوا :
وكن عنده كالميت عند مغسل ... يقلبه ما شاء وهو مطاوع
وفي قصة الخضر الكريم كفاية ... بقتل غلام والكليم ينازع
وقالوا: لأن من طاعة المريد لشيخه، وهي تجربة وامتحان، وهذه مز الق زلت بها الأقدام، التي لا ينجو منها إلا من أمدوه بكريم رعايتهم، ولاحظوه بعين عنايتهم ؟؟
__________
(1) هذه من بقايا هرطقات الصوفية الأوائل ، وهي الخرقة ، فهم يزعمون أن الخرقة التي يعطيها الشيخ لمريده تحمل نوره وأسراره.
(2) لأن الخزنوية لديهم مبدأ التقية ، فيدعون عدم مخالفة الشريعة .
(3) مجلة الذكرى الثانية ص 57.(37/51)
قلت: وهذا القول أقبح، لأن الميت فاقد الإحساس والشعور، وهذا سببه معروف فالميت لا يرى ولا يسمع ولا يتحرك إلا ما كان من حركة المغسّل ، وهذا يفيد إذا شاهد المريد شيخه قد اعتلى صهوة إحدى المريدات، وإن كانت قريبة المريد أو زوجته مثلاً ، فلا ينبغي أن تسري فيه روح الغيرة أو الغضب، وإلا لم يكن ملتزماً بهذه" الآية الصوفية "، وفي هذا المقام تحضرني كلمة للملا علي الأسود حينما ذكر أن الشيخ ينتهك الأعراض، وخصوصاً المريدات، فقال بلسان مبين ، وبكل وقاحة: لو رأيت الشيخ فوق زوجتي، لرفعت عمامتي وصحت "شو باش" وهذه تقال للمنتصرين، ويستفيد الشيخ أيضاً بالنسبة لتسليم النساء له، فمن أرادت الوصول إلى الله فلا يجب أن تتحرك إن عبث الشيخ بمفاتنها، ويسمح لها بألانين بل قد يجب فربما يهواه الشيخ(1) وحتى تثبت هذه الحالة للمريد، يجب عليه أن يزن ما يحبه الله، وما يحبه الشيخ ؟ فإن رجح ما يحبه الله فلن يفلح .
ولذلك يجب أن يفضّل الأدب مع الشيخ على النوافل التي يحبها الله، والتي جعلها وسيلة للقرب منه، وإن لم تصدّق فإليك الدليل(2) مما سطّروه عند الحديث عن شروط استفادة المريد من الشيخ .
__________
(1) وللخزنوية وعالم النساء فصل خاص.
(2) مجلة الذكرى الثانية ص61.(37/52)
احترام الظاهر: أن لا يجادله ولا يشتغل بالاجتماع معه في كل مسألة، ولا يلقى بين يديه سجادته- أي سجادة نفسه- إلا وقت أداء الصلاة، فإذا فرغ من الصلاة يرفعها ولا يكثر من "النوافل" بحضرته ؟ ويعمل ما يأمره الشيخ من العمل بقدر وسعه وطاقته(1). بل إن النقشبندية قد زادوا على ذلك، فقالوا إن كان الوالدان اختلفوا مع الشيخ، فيجب قطع الصلة بهم، وهذا لمجرد الاختلاف، بل إن الخزنوية أضافوا معنى علياً على هذا، وهو إذا قطع الوالدين زيارة الشيخ الدورية، فيجب على المريد الابن قطع الصلة بهم ، بل إن أحد المريدين واسمه صبغة الله، ضرب والده -وهو من خلفاء الخزنوي -لا لكفر، وإنما لأنه ينكر على الشيخ المتسلّط بعض المفاهيم، و حديث قطع الصلة بالوالدين عند أتباع الخزنوية كثيرة جداً، فقد ثبت لدينا أن أحد أتباع الشيخ، واسمه عبد الرحمن بن ملا سعيد لم يزر بيت والديه منذ أكثر من سبع سنين، وأبويه من الملتزمين بالشريعة والذي لديه أدنى معرفة بالدين، يعلم مدى اهتمام القرآن بالوالدين، حتى لو كانا من المشركين، بل حتى لو أمرا بالشرك، وهو أعظم الذنوب عند الله { وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنْ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ، وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ }(2)
__________
(1) وهذه العبارة الأخيرة تذكرنا بالآية { اتقوا الله ما استطعتم} ولا عجب ففي أدبيات النقشبندية أن الشيخ يعتبر الإله المجازي.
(2) لقمان(14-15).(37/53)
فأمر بالإحسان إليهما وإن كانا مشركين، وفي الصحيحين (عن ابن مسعود- رضي الله عنه - أنه قال سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أي العمل أفضل؟ قال: الصلاة على وقتها، قلت: ثم أي، قال: بر الوالدين، قلت: ثم أي قال الجهاد في سبيل الله قال ابن مسعود: حدثني بهن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ولو استزدته لزادني ) بينما يروي الخزنوية هذا الحديث(1) ( وسئل الشيخ الأرفاسي مريد له" أستاذ" بالظاهر كثير الحقوق عليه لكنه منكر لشيخه؟ أيصله أم يقطعه؟ فأجاب بأن يقطعه وأشبع القول فيه بالمعقول والمنقول عن المشايخ وهلم جرا إلى الصحابة، مما يصرح بأنهم لم يزالوا أصحاب الحقوق حتى "الآباء"إذا شاقوا شيوخهم؟ وإن حق الشيخ لكونه"نائب الحق " مقدم على كافة الحقوق )
و ما العمل وجلسة مع الشيخ، ولو كحلب شاة أو شيّ بيضة، تعدل الدنيا وما فيها- بل إن الخزنوية يحاولوا توجيه العباد ، وتصحيح معتقداتهم القديمة، فلما تقدّس الكعبة وهي أحجار ولا تقدّ س وتعظّم الشيخ، وإليك ما كتب (2)..
( بعد أن يقول : إذا كانت تعظيم الكعبة من شعائر الله، وهي أحجار والصفا والمروة وهما جبلان 0000فأولياء الله الذين هم ورثة رسوله وحملة سره، والذين هم خاصّة الله وأهله "فهم الأولى من شعائر الله ومن حرمات الله"، فيجب علينا تقديسهم وتعظيمهم ..إلى أن يقول :
فالشيخ المرشد إذن من شعائر الله ، التي فرض علينا تعظيمها، والتي لا يعظمها إلا الأتقياء والأنقياء 000بل تعظيمه "أولى "من تعظيم تلك الشعائر التي هي مجرد أمكنة للعبادة، أو محل لبعض الأحداث، والمشاهد الربانية 00مثل جبل الطور ) وعلى ضوء هذا نفهم تلك الأبيات التي يلقيها عريف حفل الذكريات السنوية :
يا كعبة الآمال وجهك حجتي ... وعمرة نسكي أني فيك والع
__________
(1) مجلة الذكرى السنوية الثانية.
(2) في مجلة الذكرى الثانية ص47و ص49.(37/54)
بل يعتبر الشيخ بيت الله الأكبر( إن زوار المشايخ الذين هم بيت الله الأكبر كالحجاج منقسمون إلى ثلاثة أقسام …)(1).
* * * *
هذه الصورة توضح كيفية تعامل الخزنوي مع أتباعه، وهي لا تحتاج كما ترى إلى تعليق وبيان ، بل لعلها دليل قاطع على ما قلناه سابقاً، ولكن ما لم نذكره هو قضية كأس الماء، ولكأس الماء قصة أيضاً فلا يأتي بالماء إلا الخواص ، ثم يقف حامل الكأس ما شاء له الشيخ أن يقف ،فأحياناً يقف نصف ساعة أو أكثر والكأس في يده لاسيما عند إلقاء الشيخ للمواعظ ،وفي هذه الصورة لم يجلس حامل الكأس إلا بعد خور قواه وأمر الشيخ له بالجلوس .
موالاة شيخ الطريقة المقدس
__________
(1) الكلمات القدسية منحة 184،ص38.(37/55)
إن موالاة الشيخ في الطريقة النقشبندية الخزنوية، فاقت موالاة المؤمنين لله ورسوله فالمؤمن يختلف مع من أشرك، واختلافه معه لا يمنعه من محاورته والكلام معه لاسيما أهل الكتاب، بل يشاركهم في أفراحهم وأحزانهم، إن كان مجاوراً لهم ويأكل طعامهم ويتزوج نسائهم بنص الكتاب {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمْ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ }(1) الآية... رغم أنهم أعداء لله ولرسوله ،بينما نجد مجرد الإنكار على الشيخ، ولو كان في أمر مشروع، هو القول الفصل في منع المريد عن مقاربته والاجتماع به، بله النظر إليه، حتى لو كان عالماً بالشريعة حافظاً لكتاب الله، بل إن إنكار الفقيه على الشيخ يجلب عليه وعلى ذريته الويل والثبور، وأقرأ معي هذه السطور(2) ( إنكار علماء الرسم "الشريعة"لهذه الطائفة يسلب الانتفاع بهم وبكتبهم ويورثهم الفاقة ويسري ذلك في أعقابهم إلى ما شاء الله) إن الاستفادة مشروطة بالإخلاص، وبها يكون المريد حرياً بأن يكون منظوراً من السادات بعين العناية، ومحلاً لتوجهاتهم وبركاتهم، وكما ينبغي للمريد التحلي بالإخلاص، ينبغي أن يكون متخلياً عن الأمور التي تكون سبباً لقطع النسبة عنة وأشدها ضرراً وأعظمها خطراً، مخالطة المنكرين الذين يتنكرون لآداب الطريقة أو في قلوبهم، ولو شيئاً قليلاً من العداء لشيخ الطريقة، لأن الإنكار مرض فتاك يسري بسرعة مذهلة إلى القلوب، فيترك فيها أثراً غير محمود، ولذلك يذكر الشيخ عن النقشبنديين: فرّوا من المنكر كما تفروا من الأسد0 وإن أكل خبز المنكر يميت القلب عن الذكر أربعين يوماً، ولو أن هؤلاء المنكرين كانوا في زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يؤمنوا
__________
(1) المائدة-5.
(2) من مجلة الذكرى السنوية 51، ص69لزوم تجنب المنكرين والبعد عنهم.(37/56)
به (1).
فأفاد من هذا التحذير الشديد والنهي الأكيد، أنه لا يجوز للمريد أن يغتر بصفائه ولا يصح له أن يقول: لا يضرني اختلاط المنكرين، فإن الشمس وهي هي يحجبها السحاب الرقيق )(2).
ثم يقول :( وكثيراً ما كان الشيخ يروي لنا هذه الحادثة: كان أحد المشايخ جالساً مع تلاميذه فقال لهم: أجد بيننا رائحة منكر، فهل هي مني أم منكم؟ فتفقد كل واحد منهم نفسه وفتّش قلبه ثم قال كل واحد منهم ، ليست مني ولكن الشيخ أكّد مرة ثانية قائلاً بل لا بد أن تكون هذه الرائحة مني أو منكم، فأما أنا فليست مني فلا بد أن تكون منكم ثم فتشوا جيداً، وإذ بواحد منهم يقول نعم مني لقد لبست" فردة حذاء "جاري خطأ؟ وجاري منكر للسادات فقال الشيخ: ردوا له فردة حذائه فردوها وحينئذ هدأ الشيخ وقال : الآن وجدت قلبي) -ما أعظم هذا الشيخ الشّمام -.
__________
(1) أي كفاراً ، ولاحظ حديث الشيخ المحرف من حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الفرار من المجذوم ، وكيف أن أكل طعام المسلم الموحّد يميت القلب ، بينما يبيح الله أكل طعام أهل الكتاب.
(2) وهذا من تناقضاتهم فأين نظر الشيخ ووصول المريد إلى الله.(37/57)
وقال الشيخ عز الدين(1) : كان أحد المشايخ جالساً مع بعض تلاميذه، وإذ برجل دخل عليهم وجلس معهم، وكان مشرب ذلك الرجل لا يوافق مشربهم والظاهر أنه كان من أهل الأذكار الجهرية اللسانية، ومعلوم أن حالهم الذكر القلبي الذي لا يطلع عليه إلا الله تعالى، فلما دخل عليهم ذلك الرجل، ضاقوا به ذرعا-أخلاق إسلامية عاليه- وتكدّر باطنهم من جلوسه إليهم، فلم يجد ذلك الشيخ وسيلة للتخلص منه، وإخراجه من المجلس، ولا يريد إزعاجه وكسر قلبه(2) بل يريد إخراجه بلطف وبدون إزعاج،فخلع الشيخ جبته، وأعطاها لذلك الرجل وقال له: اذهب فبعها في السوق، واشتر بثمنها حلوى للفقراء، فلما ولى ألحق به شخصاً آخر وقال قل له: بع الجبة وخذ ثمنها، ولا ترجع إلى هنا، فقال التلاميذ: كيف تعطيه جبتك؟ وبإمكانك أن تخرجه بدون ذلك، فقال الشيخ لقد اشتريت صفاء وقتكم بجبتي .
__________
(1) المصدر السابق ص70.
(2) لاحظ كيف أن الشيخ رقيق القلب فلا يريد كسر قلبه ، بينما حرق قلوب كثير من الآباء والأمهات على أولادهم.(37/58)
وسئل الشيخ الأرفاسي سأله مريد له" أستاذ" بالظاهر كثير الحقوق عليه(1)،لكنه منكر لشيخه أيصله أم يقطعه؟ فأجاب: بأن يقطعه وأشبع القول فيه بالمعقول والمنقول عن المشايخ وهلم جرا إلى الصحابة، مما يصرّح بأنهم لم يزالوا أصحاب الحقوق حتى "الآباء"إذا شاقّوا شيوخهم؟ وإن حق الشيخ لكونه "نائب الحق "(2) مقدّم على كافة الحقوق، لقد كان - رضي الله عنه - ينهى المخلصين من طلبة العلم أن يقرؤوا على المنكرين من العلماء(3) ويقول "فلان" العالم منكر أفسد عدة من المخلصين بتتلمذهم عليه 00ويقول "فلان " كان مخلصاً وإنما فسد بميله إلى أخيه المنكر .
__________
(1) ليس هذا بمستغرب على مشايخ النقشبندية ، فهم أجهل الناس بالشريعة والقرآن وإلا فأين هذا الغوث من قوله تعالى في سورة الرحمن {هل جزاء الإحسان إلا الإحسان}.
(2) لاحظ هذه الجملة ، وما لها من دلالة على معتقد القوم في الشيخ فهو نائب عن الله ولذلك يأخذ كثير مما أختص به سبحانه وتعالى بل تجاوزها هذا النائب كما أوضحنا قبل قليل.
(3) من هؤلاء العلماء المنكرين الذين أنكروا على الشيخ الدكتور البوطي، وأذكر أنه حين ألف كتاب هذا والدي ،ثارت ثائرة الخزنوية بالسب والقدح عليه، حتى أنهم مزّقوا كتاب فقه السيرة النبوية والبعض أحرقها وكأنهم بذلك انتقموا من المؤلف ؟(37/59)
قال الغوث الأرفاسي(1) وقد ذكر له يوماً: إن فلاناً -يعنون به مريداً - حديث العهد بالإرادة، قد خالط بالأمس بعض المنكرين فخرج على الفور، ولما قعد وانعقد المجلس العالي، قال لذلك المريد: إما المريديه وإما مخالطة المنكرين ؟! فاعتذر بأنهم كانوا أصدقاء من القديم، ولم يرهم منذ ست سنوات، فقال: يهجر المنكر ولو كان أخاً ، ثم أشبع القول في وخامة الاختلاط بهم، ونقل عن شيخه الشيخ خالد الجزري قوله : دخلت الطريقة عند خليفة من خلفاء مولانا خالد وببركة توجهه الأول " نلت حال كشف القلوب " فلما خرجت من عنده ذهبت إلى المدرسة، وحاورت بعض منكري الطلبة ، فانعدام مني ذلك المعنى .
وكل هذا التنفير من المنكر -وإن كان اتقى من الشيخ - سببه معروف وهو حتى لا تتّسع على الشيخ دائرة المعارضة ، وحتى لا يفسد المنكر أتباع الطريقة .
وكلمة إفساد إنما قلناها مجاراة لمصطلحهم الفاسد وميزانهم الخاسر، وإلا فما أنكر عليهم إلا المؤمنون والصالحون حقاً، كما أنه ما والاهم إلا الفسقة والمدجلون، أو الجهلة، ومن أولئك الرجال الذين أنكروا على الخزنوي الشيخ عبد الصمد، هذا الطود العظيم والعلم الراسخ ، هذا المدرّس الذي خدم الخزنوية بتدّريسه المجاني وهو المدرس الوحيد الذي كان محبوباّ لدى طلبة العلم ، هذا الرجل هو الوحيد الذي قال لمحمد الخزنوي: لا، وما أسرع أن أمر محمد الخزنوي جلاوزته من مدرسين وطلبة أن يضربوه ويقتلوه ، وعدد هؤلاء يفوق الخمسمائة ، و كان تنفيذ الأمر أسرع من لمح البصر، وهجموا عليه بكل نشوة وفخار، وكل منهم يريد النيل منه علّه ينال بركة تنفيذ أمر الشيخ .
ولولا أن نجاه الله ، لكان بتلك المعركة حتفه، ولذهب دمه هدراً كما يهدر دم أي نعجة في تكية الخزنوي، والخزنوي الخبيث يهمهم بالدعاء لمن شارك وبالبركة لمن ساهم ، وينسى أنه كان محبوباً عند أبيه ومن درّسوا أولاده. ثم لماذا كل هذا ؟
__________
(1) الذكرى السنوية ص74 .(37/60)
أليس أتباعه ممن نالوا الولاية الكبرى بدخولهم الطريقة فلما الخوف من هذا وغيره ؟
وهذا يضاف إلى تناقضات النقشبندية ، فإذا كان الشيخ يصل المريد بالله ، وأول مراحل الطريقة -كما يزعمون -كشف القبور وغيرها ، فلماذا نخاف عليه وقد اطمأن قلبه بالإيمان .وداهية الدواهي أنهم يتعاملون مع النصارى واليهود والملحدين بكل أريحية وبلا وجل، ويأكلون طعامهم بينما طعام المسلم الذي اختلف مع الشيخ، فهو سم قاتل، آلا لعنة الله على الظالمين .
والحقيقة أن الشيخ الخزنوي أحكم الخناق على أتباعه الجهلة بهذه القضية، وفرّق المسلمين شرّ تفرقة، بل فرّق بين الأرحام والأسرة الواحدة، ولا عجب فالمريد له قدوة في ذلك، وهي شيخه الذي يكيل العداء، والحقد على إخوانه وأرحامه.
* * * *
الباب الثالث
مقوّمات الخزنوية
الفصل الاول
التكية :ما هي؟ كيف نشأت ؟ دورها
التكية : كلمة تركية تعني المكان الذي يأوي الفقراء من المسلمين على العموم ولكنها في العصر المتأخر، جعلت حكراً على أتباع الطريقة، وعند الخزنوية للذين يخدمونهم فقط .
في التكية يتم تقديم الطعام للوافدين، والفرش لمن أراد النوم، وهذه الفرش هي فرش الموتى التي يتبرّع بها الورثة لتكية الخزنوي، وتوزّع كل فترة على نساء الأتباع للغسيل والخياطة، ولا يخسر الخزنوي حتى ثمن مواد التنظيف بله حتى أجرة النقل .
في عهد الخزنوي الكبير، كانت التكية عبارة عن مطبخ صغير، تشرف عليه زوجته ومن يخدمها، وذاك عندما كان ضيوفه يعدون على أصابع اليد الواحدة ولكن بعد سنين معدودة تغير الحال وكثر مريدوه، مما أدى إلى فصل المطبخ العام عن بيته.(37/61)
من أين تمول: إذا ابتعدنا عن داء المبالغة وفن الخوارق، الذي يواجهك به أتباع الخزنوي ، نجد أنه بعد انتشار أخبار الخزنوي ، وطريقته وكراماته الغريبة ، وذاك في بداية العقد الثالث من القرن العشرين، مما جعل الناس يفدون إليه زرافات ووحدانا, هذا مريض يطلب الشفاء، وهذا عقيم يطلب الولد، وذاك أتى به حب الدين والمتدينين وطلب العلم، وكل منهم لم ينسى الشيخ ولم ينسى تكيته المشرعة للناس, مما خفف هموم التكاليف على الشيخ، فقد اعتاد الفلاحون جلب ما استطاعوا من زكاة زرع وسائمة، أو تطوّع أو نذر إلى بيت الشيخ، وكان المصدر الآخر، هو إحياء خدّامه ومريديه للموات من الأراضي، وكان تعرّفه على شيوخ العشائر الذين كان لهم دور في الجزيرة آنذاك(1) مصدراً آخر للتكية، حيث أعطى أحد هؤلاء الشيوخ قطعة كبيرة من الأرض وقفاً للتكية, ومن إنتاجها وتعب الأتباع اشترى الشيخ قرى بأكملها .
__________
(1) لم يبقى لهؤلاء بعد عصر الثورة ، غير الدلال التي ترمز لحب الضيافة والكرم.(37/62)
ولا ننسى الختمة التهليلية، التي كانت مصدراً عظيماً للسيولة النقدية عند الشيخ وأبنائه، وهذه الختمة من مكتشفات الصوفية، ومن الوسائل الفريدة للنصب على الناس باسم الدين، وهي ذكر الشخص لا اله إلا الله ما يقارب سبعين ألف مرة يهديها الذاكر لصاحب العلاقة، أو قريبه المتوفى، والمقابل ليرتين ذهبيتين حصراً -وما تسمى في الجزيرة بالنيرة - والأنكى من ذلك، أنه لا يجوز لأحد أن يقوم بهذا الذكر إلا من سمح له الشيخ بذلك، بل لا يمكن للمأذون له بهذا، إلا إذا أتاه الأمر المباشر، ولذلك يضطّر المريد إذا أراد الثواب ووصوله، أن يذكر ذلك للشيخ ويعطيه الليرات الذهبية، والشيخ له حرّية التصرّف، إما أن يقوم هو بالذكر، وإما أن يعطيها لأحد أبنائه أو المخلصين له، وكان ابنه عز الدين من أشهر أبنائه في الختمة التهليلية، وحجّة هذا الحصر، أن من مبادئ النقشبنديه منع الذكر للمريد إلا عن طريق شيخه، حتى لو كان هذا الذكر سنة نبوية، وخصوصاً الأذكار التي توافق أذكار النقشبندية، فالقيام بهذه الأذكار دون أمر من الشيخ، مخالفة تستوجب العقاب، والعقاب يأتي على شكل أمراض نفسية، من وسوسه وثقل نفسي أثناء أداء العبادات وآداب الطريقة، ولا يشفى منه إلا باعتراف المريد، وغفران شيخه له يعيش أل الخزنوي على التكية، من تأمين الخبز وما يسمى بالتموين - أي أغلب الأغذية -كما يسرق الخدم بعض المؤن، وفي الأعياد يقدم الناس ذبائح وخصوصاً الضحايا، وتذبح في التكية على أنها من الشيخ، ينتقي منها أبناء الشيخ أطايبها ويأخذ الجلاوزه نصيبهم، وما بقي يطبخ للفقراء .
باسم هذه التكية وباسم الرغيف الذي يمنحوه للزائرين حصد الخزنوي الملايين بل المليارات بل أنه مهما فعل واعترض عليه، قيل للمعترض: إنه يفتح تكية ويطعم الناس.
* * * *
الفصل الثاني : المعهد الخزنوي(37/63)
المعهد : هو تلك المدرسة التي تدرّس العلوم الشرعية واللغوية . يتبع المعهد نظام العهد القديم في بعض مناهجه وطريقة الأداء، ولكن لم يكن المعهد يحفل بمدرّس عالم بما في الكتاب وبما يقول بل كلهم عالة على العلم وأهله.
هذا المعهد هو الشبكة الثانية بعد التكية، لاصطياد الناس والضحك عليهم، بل إن المعهد لهو الأساس في نماء الجموع المؤيدة، والمحبة للخز نوي وطريقته، وهو الشبكة المثلى لاصطياد الخدّام والفعلة .
فكل من دخل لابد له من العمل في مصالح الشيخ، إمّا بحجّة الفتح العظيم، وإمّا بحجة الحصول على الأجر والثواب، بل للحصول على أسهم في شركة الشيخ الأخروية، ولا يجوز للطالب مهما كان مجتهداً، أن يترك الخدمة، وإن أصرّ على العلم دون الخدمة، ضيّق عليه جلاوزة الخزنوي حتى يفر بجلده .
الوضع المأساوي للمعهد:
قد يظن الظان أنه معهد شرعي، والحقيقة إنه مأوى للعصابات، والمجرمين والمارقين والسفلة. فما يصنع طالب العلم عند أناس شعارهم (خلّ علمك وتعال ) ولذلك لا يبقى ويستمرّ في المعهد إلا من حذا حذوهم ، أو صبر على المعاناة والعذاب .
عندما يدخل الطالب الجديد في المعهد يبدأ أحد الخبثاء بغسل دماغه، وإزالة ما علق فيه من علوم خاطئة في نظرهم، حتى يكون خليقاً لعلمهم اللدني ، يرسخ في ذهن الطالب، أن العلم علمان ظاهر في الكتب-في القرآن والحديث وغيره- وباطني وهو العلم النافع وهذا عند الشيخ، ولا يمكن الحصول عليه إلا بالفناء في خدمة الشيخ وآله البررة .
ثم ينفّروا الطالب من قراءة العلم الظاهري، لأنه حجاب كثيف ومانع من حصوله على العلم الباطني، فلا يمكن أن تخوض في هذا العلم وأنت مثقل بمفردات الظاهر من آيات وأحاديث، بل قد يكون سبباً في الطرد المعنوي من قبل أصحاب الكشوفات والسبحات الملكوتية، ومن هنا أخذ أكثر الطلبة بالسعي للحصول على هذا الإكسير وترك تلك الحجب من المعلومات .(37/64)
حتى أنهم تركوا القرآن والأحاديث, اتكالاً على مدد الشيخ حين الضرورة(1) .
بل إن أكثرهم يصّرح: أن القرآن يسبب ضرراً بالغاً في السلوك لأنه يوجه إلى الله والطريقة توجّه الناس إلى الشيخ، وعندما تسأل أولئك: لماذا يفتح الشيخ هذا المعهد؟ يجاوبوك بأنه سبب ظاهري فقط، أي أنه خدعة ودجل ومصيدة للناس كما قلنا أنفاً، أي استغلال لمشاعر الناس، فلولا محبة الناس لدينهم ما أرسلوا أبنائهم إلى المعهد .
أساتذة المعهد :
كما قلنا سابقاً لا يحفل المعهد بعالم واحد يجيد فنون العلم ، بل كلهم عالة عليه وهذا يعود لثلاثة أسباب وهي :
السبب الأول : أن الشيخ يرفض إعطاء أجر للمدرسين ولو أجراً رمزياً .
السبب الثاني : أن العالم المتمكّن يرفض مخالفة الشيخ وأبنائه للشريعة، مما يؤثر على الأتباع والطريقة، بل أن الشيخ يرفض وجود الطالب المجد، الذي يرجى منه الخير والنفع، إذا أخذ بالسؤال عن الطريقة وأدلّتها .
السبب الثالث : وجود الحسد والغيرة من قبل أبناء الشيخ للعلماء.
لهذه الأسباب لا يتواجد في المعهد إلا كسالا المدرسين، الذين ما فقهوا غير قصص شيخهم وما حفظوا غير القصائد الشركية في حقه. وأكثر المدرسين يمتلكوا تاريخاً غير مشرف وسوابق يشيب لها الرضّع، فلا مكان لهم أفضل من البقاء في المعهد، فبما يعيشوا بين الناس فلا علم ولا خلق .
أما المعهد فلا يكلّف البقاء فيه سوى خدمة الشيخ واختراع الكرامات وقصص العجائز، وما أيسرها على الكذّابين، ثم إنهم يحصلوا على أموال طائلة من الوافدين إلى قرية الشيخ .
ينقسم الأساتذة إلى قسمين :
القسم الأول : أساتذة دير الزور ، وهم الأكثر جمعاً وسلطة على التلاميذ .
__________
(1) تسري خرافات بين الطلبة أن الذي يخدم الشيخ ولا يدرس العلوم ينال مدد الشيخ لاسيما إذا ناقشه أحد فما عليه إلا إغماض عينيه وطلب المدد من الشيخ ، وسرعان ما يمده بالحجج الدامغة من القرآن والسنة مع أن الشيخ لا يجيد قراءة القرآن .(37/65)
القسم الثاني : و هم الأسوء حظاً والأتّعس طالعاً ، وهم من باقي المناطق .
يمتاز أهل دير الزور بالخبث والدسائس، والإطاحة بكل من لا يهوى مجالسهم لاسيما إن كان بلده خارج تلك المحافظة، فسرعان ما تحل عليه لعنة الشيخ وأنجاله ورغم تفانيهم في خدمة الشيخ وأنجاله، قد يذهب كل هذا بطرفة عين، فكثيراً ما وقع هؤلاء تحت نير العقاب، الذي يصبّه الشيخ وأنجاله دون رحمة ولا شفقة وتسبّ زوجاتهم وبناتهم، ثم يرجعوا بعد هذا إلى تقبيل الأحذية والأقدام ، وترجع زوجاتهم إلى خدمة نساء الشيخ وأنجاله، آلا بعداً للخائرين .
من هؤلاء المدرّسين من وعى جهله بالعلم جهلاً تاماً، فأخذ بادعاء التصوف والدعوى مأمونة النجاح والقبول، إن كانت مرفقة بالخنوع والتذلل والتملق حتى أصبح من خواص الشيخ، وهي مرتبة لا يحلم بها شيخ عشيرة في دير الزور، حتى أنها جعلته أكثر مكانة في المعهد ، فالطالب يجب أن يتذلل لهذا حتى يذكره عند ربه وطلب رضاه ورضا ابن الشيخ، وختن الشيخ وخادم الشيخ، من الأمور المخزية حقاً لاسيما إذا كانت الطلبات غير شريفة .
فشغل هذا الرجل المبارك، هو مرافقة الشيخ إن جاء إلى الجامع، أو دخل ديوان الضيوف يضع له الوسائد، ويدلّك أقدامه وظهره، وبين هذا وتلك يخبره بما يريد من نفع وضر للآخرين، (( ففلان طالب مجد في الطريقة، وكامل الأخلاق والفضائل، ويصلح أن يقود جيشاً من الأتباع إلى قرية الشيخ "مع أنه لا يجيد غير الكذب والتزوير "وفلان إنسان كاذب وظعيف العقيدة "وهو عالم بالشريعة ")) والشيخ يخزّن هذه المعلومات، حتى يحسن التصرّف أمام الأتباع ، فيمنح رضاه لعبيده، ويصب غضبه على المتمردين، وهذا العمل يعتبره الأتباع من كشوفات الشيخ، بينما هو من دسائس هذا المستشار والمدلّك .(37/66)
ومن المدرّسين من لم يعي الجهل المطبق الذي يعيشه ، فأخذ يصول ويجول ولا يملك غير الجرأة على العلوم والإدعاء، ولا يهمه أقال صواباً أم خطأ، ضلالاً أم هدى المهم أنه يتكلم ويجمع حوله محبين وموالين .
ومن هؤلاء العابثين رجل اسمه فقه صالح، وما أدراك ما فقه صالح ؟ من أجرأ خلق الله على إدّعاء العلم والمعرفة، ومن أخبث الناس في التلفيق واختلاق الحكايا ونسج الأكاذيب، وهو محبوب عند الشيخ وأكثر الأتباع، وعند بعض الطلبة والمدرسين ، ومحبة هؤلاء لتوقي شره .
يمتاز هذا الرجل بطول باعه في سرد الخرافات والأساطير، والكرامات المختلقة بل ما أبرعه في سرّد القصص الارتجالية التي تناسب المقام أو لا تناسبه .
كان هذا الرجل اليد اليمنى للشيخ عز الدين الخزنوي، فهو المشرف العام على التكية، والداعي الأول في الجزيرة .كان كثير الدسائس والفتن، ودسائسه ترسل مباشرة للشيخ، وأكثر الدسائس تأثيراً فيه قوله : إن فلان منكر على الشيخ فرغم الولاية والكرامات، وكشف الغيب لا يحتمل الخزنوي هذه الكلمة البغيضة، بل قد يقال إنه تكلّم مع منكر أو وقف معه، فسرعان ما يطرد مهما كانت منزلته العلمية والدينية، فكلمة المنكر في تل معروف –قرية الخزنوي- أخطر من كلمة الكافر والزنديق . فهذه الكلمة هي سلاح هذا الرجل، فيه يصول ويجول وبه يطرد من يشاء ويبقي من يشاء، وأحسبه بلغ الذروة في الظلم والبهتان .(37/67)
والطلبة الذين يحترمونه ويتأدبون معه ويمشون خلفه، هؤلاء هم صفوة الله من خلقه ولو أتوا ما أتوا من المعاصي، وصفائحهم نقية رغم الكبائر التي يتعاطونها(1)، وما يبرّر الجرائم، هو عقيدتهم الراسخة في الشيخ، فالعقيدة في الشيخ أضخم معنى من العقيدة في الله، بل بينهما عموم وخصوص من وجه -كما يقول المنطق الأفلاطوني- فالذي يعتقد بالله قد لا يعتقد في الشيخ فهذا يشمل المنكرين الضالين فهو أعم من وجه بنما الذي يعتقد في الشيخ يعتقد في الله فهذا أعم من وجه أخر .
* * * *
إدارة المعهد
زمام الإدارة بيد أحد أخوان الشيخ، وهو محمد راشد، وهذا الرجل أقلّ العائلة مرضاً، يستيقظ باكراً لحفظ القرآن الكريم، ويأتي إدارته قبل بدء الدروس، يحاول تحضير الدرس قبل دخوله للصف، ورغم أنه يجيد فهم ما يعطيه للطلبة، إلا أن سرعته في إعطاء الدرس تذهب بالفائدة ولا يستطيع الطالب سؤاله، وإن استطاع فسؤال وحيد لا يثنى ، ثم يخرج إلى إدارته، ويقف على بابه حاجب يمنع الداخلين. وكثيراً ما ترى على باب إدارته، ما يذكرك بكتب التاريخ التي تذكر الملوك والخلفاء وما يكون على أبوابهم من خلاف بين الحجّاب و أهل الحوائج والطلبات وحوائج هؤلاء كلها تجاب، إن لم تكن فيها خسائر مادية، فهو منها براء كبراءة الذئب من دم ابن يعقوب، ورغم غناه الفاحش إلا أنه شديد التقتير والبخل حتى أن الضوائق المالية، التي تصيب أعزّ خدمه وأوفاهم، كانت تجابه بالألم والأنين والدعاء، هذا إذا كانوا أحياء، أما إذا ماتوا فبقراءة القرآن على أرواحهم الطاهرة وبالذّكر الحسن إن اضطّر لذلك .
__________
(1) أغلب الذين يحيطون به ويحتفلون لإطلالته هم من اللوطية.(37/68)
كان محمد راشد اليد اليمنى لأخيه، فهو المنافح والمدافع والمقاتل ضدّ أعداء الطريقة فكان هو الذي يجهّز الدعاة ويوصيهم، ويبثّ سرايا الخدم في مصالح الشيخ المتناثرة في كل البقاع، ويدير شؤون التكية ويستقبل المسئولين، والخلاصة كان شيخاً غير متوّج، إلى أن فاحت روائح أخيه الكريهة، وأحسّ بعذاب الضمير إن سكت على أفعال أخيه الشنيعة بنساء المسلمين، فثار عليه إلا أن ثورته قمعت شرّ قمع، فقد أمر محمد الخزنوي بالقضاء عليه، وكسر شوكته وقطع دابره هو ومن لفّ حوله من الطلبة، فكانت معركة حامية الوطيس، حيث هجم خدم محمد الخزنوي -وهم الأغلب والأكثر همجية -على المعهد، يحملوا الفؤوس والمعاول والمساحي يضربوا كل من مرّ بهم من أتباع محمد راشد، أما محمد راشد فقد دخل إدارته مع أخيه محمد عارف وثلّة من الطلبة المطلوبين، وأخذ المهاجمون بتحطيم باب الإدارة ولكن محمد راشد أفلت من أيديهم، حيث قام أحد أفراد القرية بخلع شباك الغرفة من الخلف، وأخرج المحاصرين ودخل المهاجمون الإدارة فحطموا أثاثها ، ومزّقوا الكتب الشرعية شرّ ممزق ، حتى أنهم مزقوا القرآن الكريم .(37/69)
انتهت المعركة بقتل أحد الطلبة الدراويش، واسمه عبد الرزاق دعبول من منطقة جسر الشغور وما مات إلا بعد اعترافه بمن قتله، وكان نصيب السجون والمشافي كبيراً من الصوفية ذلك اليوم أما الخبيث محمد الخزنوي، فعاد من سفره وادّعى عدم علمه بالأمر، وألقى بالمسؤولية على بعض المدرسين. ثم إنه جمع من المريدين دية القتيل البالغة ثلاثمائة ألف ليرة سورية، وجاء إلى أهل القتيل يعزّيهم ويكذب عليهم بدعوى أن ابنهم مات بسبب حجرة صغيرة طائشة بينما قتل في الحقيقة بالمعاول والمساحي عن عمد وتصميم ، فعل كل ذلك محمد الخزنوي بدم بارد(1) وبكل صفاقة وجه .
فكيف يدافع عن المجرمين والقتلة، وهو يدّعي أنه ما أمر أحد، ولا علم بذلك.
انتهت هذه المشكلة باتفاق الشيخ وإخوانه على شروط من أهمها: طرد الأساتذة المباشرين للجريمة من مثل فقه صالح وعبد الستار الحديد ورمضان الحبشان .
* * * *
الطلبة قبيل التخرج وبعده
لا يحبّ الطالب عند الخزنوية إلا إذا بذل الوسع في خدمة آل الشيخ وتفانى في محبتهم، والمحبة والاهتمام به، تتجلى بالثناء عليه، وإدّعاء أنه ابن الشيخ الحقيقي مما يبعث النشوة في نفس الطالب، و يجعله أكثر إيغالاً في الجهد والتقديس .
وهموم الشيخ الخاصة، جعلته في برزخ عن طلبته ومريديه، فلا يدري عن معاناتهم حسبما يظهر للعيان، فالشيخ غارق في الشهوات لاسيما العلاقات النسائية.
__________
(1) إن قضية الإنسان وأهميته عند الخزنوي لا اعتبار لها، بل إن ارخص شيء عندهم هو الإنسان، حتى لو كان من أتباعهم، بل أرخص شيء هم هؤلاء الأتباع، ولذلك قتلوا رجل من حماة يدعى أبوحمزة، مات هذا الرجل تحت التعذيب من قبل جلاوزة الخزنوي وحتى يخفوا جريمتهم, جاءوا بطبيب من القرية, ليعطيهم تقريراً طبياً بسبب وفاته، وهي السكتة القلبية, وحملوه إلى أهله مكفن ومجهز، ووضعوه في المسجد, ولم يتم لأهله النظر لجسده المشوه، لأنهم أقنعوهم بمرضه .(37/70)
والراجح أنه يتجاهل معاناة الطلاب، فهي لا تخفى على أحد، أما معرفة المجاهدين والمرابطين في سبيل الشيخ، فهي من مهمة أولئك المدرسين الذين ذكرناهم أنفاً الذين يقتربوا من الشيخ زلفاً ليعطوه صورة عنهم، لعله يدعو لهم بالفتح العظيم .
بعد التخرّج :
يعيش الطالب بعد التخرج في حيرة، فشهادته لا تؤهله لشيء في الدولة، ولا تدخله جامعتها فلا قيمة ولا عبرة لشهادته، ولكن هناك بعض الكليات الخاصة تقبله ولكن الشيخ يعرقل الطالب لأنهم يعلموا أنه إذا دخل في تلك الكلية، فقد خسروا جندياً من جنودهم، أو عبداً من عبيدهم فلا يمنحوه تسلسل العلامات -وهي ورقة مهمة جداً - ولا التزكية ولا غيرها .
بل يحاولوا إقناعه بالبقاء في عتبة الخزنوي، أو العيش داعية للخزنوي في إحدى القرى النائية ليعيش التخلف الديني بأبشع صورة .
ويزينوا له أن يتقرّب من الشيخ ليعرفه، ومن عرفه الشيخ باسمه ورسمه فقد فاز فوزاً عظيماً وكيف يتقرّب من الشيخ ؟ وهذه تحتاج إلى فن ومهارة، فإن كان يجيد فنّ التدّليك، فقد دخل إلى قلب الشيخ من أوسع الأبواب، وإلا فلعله يجيد لفّ العمائم، أو ذا صوت جميل وإن أفلس من هذا وذاك فما عليه إلا أن يتجهّم الناس أمام الشيخ، ويحاول ذبّهم عنه، والصياح: ابتعدوا، الشيخ مريض يا أخوة وإن جلس الشيخ، فيحاول ترتيب طابور الناس الذين سيقبلّوا يد الشيخ .
* * * *
ما يحدث في المعهد
ينقسم طلبة المعهد إلى قسمين :
القسم الأول : هم المنبوذين المطرودين من رحمة الشيخ ومدده وهم الذين أصرّوا على طلب العلم .(37/71)
القسم الثاني : وهم الأغلبية العظمى، وهؤلاء يتفرعوا إلى فرق وجماعات تلتقي على محبة الشيخ والفناء في خدمته، وتفترق في وجوه المصالح التي ندبوا لها، ينتشر بين هؤلاء كل شيء إلا الدين والفضيلة، فلا وجود لها بتاتاً، فالشرك مؤصل عندهم، بل إنهم أخذوا بتوحيد الشيخ وعدم إشراك الباري معه، بل هذا هو الشرك عندهم، الإباحية واللواطة جائزة بل من المستحبات التنكيل بالناس وقتلهم من الواجبات إن أمر الشيخ أو أنجاله(1). لا عمل لهؤلاء سوى الخدمة حتى أنهم لا يصلّون مع الجماعة ولا حتى الجمعة، لأنهم مجاهدون في سبيل الشيخ وأنجاله الكرام حتى أن اليد التي تحمل المسبحة بينهم، إنما هي يد غريبة يجب التخلّص منها، أو إقناع صاحبها بتركها، وحمل الفأس أولاً لتحطيم النفس، وغوائلها استعداداً لحمل المسبحة على نقاء مزعوم وما إن ينتهي النهار حتى يؤبوا إلى الراحة وراحتهم في شيئين أولهما : صحبة الشيخ وهي عبارة عن جلوسهم عكس التورك، وأخذ رابطة الشيخ واستمداده، ثم يتكلم كل واحد عن كرامة من كرامات الشيخ، وسبحان الله كيف تتوارد صحبتهم على موضوع واحد ؟ فمثلاً : إذا قصّ أحدهم كرامة تخصّ الصدق، فتجد كل واحد يذكر كرامة لشيخه في هذا الباب، وهكذا دواليك وثانيهما: أن يتفرغوا لبعضهم باسم المحبة(2).
__________
(1) قضايا الغدر والخيانة وحرق بيوت الناس ظلماً وعدواناً, من أشر ما يقوم به هؤلاء ولذلك حرق أكثر من بيت, وشلّ وقتل أكثر من شخص بيد هؤلاء .
(2) سئل - رضي الله عنه - عن وقوع النكاح المعنوي بين الشيخ والمريد هل هو بابتداء الرغبة أم بابتداء الشيخ ؟ فأجاب بأنه بابتداء المريد. منحة 81-الكلمات القدسية .(37/72)
ففي أدبيات الخزنوي، أنك لن تصل إلى محبة الشيخ، إلا بعد التدريب والتمرين على المحبة ومن هذا الباب يعشق كل منهم الآخر ويتعلق به، لاسيما المردان منهم فتجد اللواطة تنتشر بين هؤلاء، والمخزي أن هذا بعلم الشيخ وأنجاله، ولكنه يحتفظ بهؤلاء، بينما يطرد الطلبة المتقين بحجة أنهم منكرين عليه، فلا تهمّه التقوى والخلق إذا هدّدت مصالحه، وقد حدثني من أثق به: أن أحد المدرسين في عصر عز الدين الخزنوي ثبت عليه بالشهود، أنه يمارس اللواطة، فأراد أبناءه طرد هذا المدرس فقال الشيخ: لا، إذا طردناه فسوف يخرب ؟! وأي خراب بعد اللواطة ؟! وهذا ليس بمستغرب على الصوفية، فاغلبهم من هذا الصنف القذر، وموضوع اللواط عند الصوفية قديم قدم التصوف، فهذا القشيري بخاري الطائفة، يقول (1): ومن أصعب الآفات في هذا الطريقة، صحبة الأحداث، متمنياً على الذين حكوا بعض حكايات المشايخ في ذلك ، لو أنهم أسبلوا الستر عنهم وعن آفاتهم. وكذلك يروي الشعراني(2) عن الشبلي أنه رأى إبليس فناداه فقال له إبليس: ليس لي بكم حاجة قد فرغت منكم، ثم قال غير إن لي فيكم لطيفة، قال ما هي؟ قال صحبة الاحداث. قال الشبلي: وهذا الشيء لا يكاد يسلم منه أحد من الصوفية .
ولا يخفى أن صحبة الاحداث هي معاشرة الصبيان والمردان، وهذه شهادة من رجل في القرن الثالث ، ولذلك وضعوا أحاديث منها ( النظر إلى وجه الأمرد عبادة ) وانشدوا في هذا الباب قصائد في هوى الصبيان من ذلك ما انشده عبد الغني النابلسي في كتابه الفتح الرباني والفيض الرحماني :
وما تركت الهوى كلا وكيف وهل ... تخفى الملاحة في أولاد أتراك
وجه مليح وشعر أسود جعد ... وا حيرتي بين أضواء وأحلاك
وانشد أيضاً
قام يسعى فطاف بقلبي ... طائف الشوق سبعه ثم حيا
من بني الترك أحور الطرف أحوى ... في هواه تركت سلمى وميا
وكذلك :
__________
(1) الرسالة القشيرية –ص184.
(2) طبقات الشعراني -ص104.(37/73)
بدا كبدر على غصن فقلت له ... الله أكبر ليس الحسن في العرب
بالله بالله يا طرفي أجل نظرا ... كم تحت كمة هذا التركي من عجب
وهذا هو عبد الوهاب الشعراني يجمع في كتابه الطبقات الكبرى كل فسق الصوفية وخرافاتها وزندقتها، فيجعل كل المجانين والمجاذيب واللوطية والشاذين جنسياً والذين يأتون البهائم عياناً وجهاراً في الطرقات، يجعل كل أولئك أولياء وينظمهم في سلك العارفين وأرباب الكرامات وينسب إليهم الفضل والمقامات. ولا يستحي أن يبدأهم بأبي بكر الصديق ثم الخلفاء الراشدين ثم ينظم في سلك هؤلاء من كان (يأتي الحمارة) جهاراً نهاراً أمام الناس، ومن كان لا يغتسل طيلة عمره، ومن كان يعيش طيلة عمره عرياناً من الثياب، ويخطب الجمعة وهو عريان، ومن ومن… من كل مجنون وأفّاك وكذاب، ممن لم تشهد البشرية كلها أخس منهم طوية، ولا أشد منهم مسلكاً، ولا أقبح منهم أخلاقاً، ولا أقذر منهم عملاً، ينظم كل أولئك في سلك واحد مع أشرف الناس وأكرمهم ، من أمثال الخلفاء الراشدين والصحابة الأكرمين وآل بيت النبي الطاهرين، فيخلط بذلك الطهر مع النجاسة، والشرك بالتوحيد، والهدى بالضلال، والإيمان بالزندقة، ويلبس على الناس دينهم، ويشوه عقيدتهم .(37/74)
وأقرأ الآن بعض ما سطّره عمن سماهم بالأولياء العارفين: قال في ترجمة من سماه بسيده علي وحيش: "وكان إذا رأى شيخ بلد، أو غيره ينزله من على الحمارة ويقول: امسك رأسها حتى أفعل فيها. فإن أبى شيخ البلد تسمر في الأرض ولا يستطيع أن يمشي خطوة، وإن سمح حصل له خجل عظيم والناس يمرون عليه"!!(1) فانظر كيف كان سيده علي وحيش، يفعل هذا أمام الناس!! فهل يتصور عاقل بعد هذا أن هذا التصوف النجس من دين المسلمين، ومما بعث به رسول رب العالمين محمد - صلى الله عليه وسلم - الهادي الأمين. وهل ينظم أمثال علي وحيش ومن على شاكلته في سلك أصحاب الرسول، ويجعل هؤلاء جميعا أصحاب صراط واحد إلا أفّاك أراد هدم دين الإسلام وتخريب عقائد المسلمين. وحتى لا تستفيق العقول من رقادها، فإن الشعراني هذا زعم لهم أن الأولياء لهم شريعتهم الخاصة التي يعبدون الله بها، ويتقربون إلى الله بها وإن كان منها إتيان الحمير!! وكذلك يروي أن الشيخ علي أبي خودة - رضي الله عنه -، كان يفعل الفاحشة في خدمة وعبيدة وكان إذا رأى أمردا، راوده عن نفسه وحسس على مقعدته، أمام الناس لا يبالي بوجودهم.
وكلما حاولت نفس أن تستيقظ، وتفكر لتفرّق بين الهدى والضلال، والطهر والنجاسة، ألقى هؤلاء عليها التلبيس والتزوير. فيذكر الشعراني أن رجلاً أنكر الفسق والفجور الذي يكون في مولد (السيد) البدوي حيث وما زال يجتمع الناس بمئات الآلاف في مدينة طنطا، ويكون هناك الاختلاط المشين بين الرجال والنساء بل تصنع الفاحشة في المساجد والطرقات، وحيث كانت تفتح دور البغاء وحيث يمارس الصوفيون والصوفيات الرقص الجماعي في قلب المسجد ، وحيث يستحل كل الحرمات
__________
(1) الطبقات الكبرى ج2ص135.(37/75)
أقول: يروي الشعراني في كتابه الطبقات أن رجلاً أنكر ذلك فسلبه الله الإيمان !! -أنظر- ثم يقول: (فلم يكن شعرة فيه تحن إلى دين الإسلام فاستغاث بسيدي أحمد - رضي الله عنه -. فقال: بشرط أن لا تعود فقال: نعم فرد عليه ثوب إيمانه. ثم قال له: وماذا تنكر علينا؟ قال: اختلاط الرجال بالنساء. فقال له سيدي أحمد - رضي الله عنه -: ذلك واقع في الطواف ولم يمنع حرمته ثم قال: وعزة ربي ما عصى أحد في مولدي إلا وتاب.. وحسنت توبته وإذا كنت أرعى الوحوش والسمك في البحار واحميهم بعضهم بعضاً. أفيعجزني الله عز وجل من حماية من حضر مولدي!!)(1)
* * * *
الفصل الثالث : المرقد
المشفى الرباني وحلال العقد
المرقد: هو الصرح المشيد،على قبور المشايخ الأربعة، وبعضاً من أبنائهم وزوجاتهم لم يرد في الشريعة الإسلامية نص ولو ضعيف، يستحب البناء على القبر، لا صريح ولا ضمني، بل على العكس تماماً، ثبت في الأحاديث الصحاح، النهي الصريح عن البناء والأمر بتسوية القبر 0
روى البخاري ومسلم والنسائي وأحمد، (عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّ أُمَّ حَبِيبَةَ وَأُمَّ سَلَمَةَ ذَكَرَتَا كَنِيسَةً رَأَيْنَهَا بِالْحَبَشَةِ فِيهَا تَصَاوِيرُ فَذَكَرَتَا لِلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ إِنَّ أُولَئِكَ إِذَا كَانَ فِيهِمْ الرَّجُلُ الصَّالِحُ فَمَاتَ بَنَوْا عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِدًا وَصَوَّرُوا فِيهِ تِلْكَ الصُّوَرَ فَأُولَئِكَ شِرَارُ الْخَلْقِ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ- صلى الله عليه وسلم - )
ولمسلم :( وَإِنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كَانُوا يَتَّخِذُونَ قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ وَصَالِحِيهِمْ مَسَاجِدَ أَلَا فَلَا تَتَّخِذُوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ إِنِّي أَنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ )
__________
(1) الطبقات الكبرى ج1 ص162(37/76)
وله:( عَنْ أَبِي الْهَيَّاجِ الْأَسَدِيِّ قَالَ قَالَ لِي عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ أَلَا أَبْعَثُكَ عَلَى مَا بَعَثَنِي عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ لا تَدَعَ تِمْثَالًا إِلا طَمَسْتَهُ وَلَا قَبْرًا مُشْرِفًا إِلا سَوَّيْتَهُ ) وهذا الحديث مروي بلفظه في النسائي وابوداود والترمذي
وفي مسند الإمام أحمد: ( عَنْ عَلِيٍّ - رضي الله عنه - قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي جَنَازَةٍ فَقَالَ أَيُّكُمْ يَنْطَلِقُ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلَا يَدَعُ بِهَا وَثَنًا إِلا كَسَرَهُ وَلَا قَبْرًا إِلا سَوَّاهُ وَلَا صُورَةً إِلا لَطَّخَهَا فَقَالَ رَجُلٌ أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ فَانْطَلَقَ فَهَابَ أَهْلَ الْمَدِينَةِ فَرَجَعَ فَقَالَ عَلِيٌّ - رضي الله عنه - أَنَا أَنْطَلِقُ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ فَانْطَلِقْ فَانْطَلَقَ ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَمْ أَدَعْ بِهَا وَثَنًا إِلا كَسَرْتُهُ وَلَا قَبْرًا إِلا سَوَّيْتُهُ وَلَا صُورَةً إِلا لَطَّخْتُهَا ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مَنْ عَادَ لِصَنْعَةِ شَيْءٍ مِنْ هَذَا فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّد ] والنصوص في هذا الباب كثيرة جداً ، وكلها تنص على المنع والتحريم ، ولكن الصوفية يصرّون على أن البناء على قبور العلماء والصالحين مستثناة، بأي دليل ؟ لا ندري وما سبب ذلك إلا الجهل المطبق، الذي يعيش فيه الصوفية بأجمعهم .
ولذلك استثنوا ما ذكره الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالنص على علة الحكم ( كَانُوا يَتَّخِذُونَ قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ وَصَالِحِيهِمْ ) فلم يقل: كانوا يتخذون القبور على العموم ولا اتخذوا قبور أقربائهم أو أمرائهم حتى نستثني ولكن صلاح المقبورين واعتقاد الخير فيهم، هو ما دفع الناس للبناء فكيف نستثني ما أثبته الشارع .(37/77)
ذكر ابن كثير قال:عبد الله بن عباس، وغير واحد من علماء التفسير :
كان أول ما عبدت الأصنام، أن قوماً صالحين ماتوا، فبنى قوم عليهم مساجد وصوروا صور أولئك فيها، ليتذكروا حالهم، وعبادتهم فيتشبهوا بهم، فلما طال الزمان جعلوا أجساداً على تلك الصور، فلما تمادى الزمان عبدوا تلك الأصنام وسموها بأسماء أولئك الصالحين، وداً وسواعاً ويغوث ويعوق ونسراً, فلما تفاقم الأمر بعث الله سبحانه .
وفي قوله تعالى {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًاٍ }(1) قال :كانوا قوماً صالحين بين آدم ونوح، وكان لهم أتباع يقتدون بهم فلما ماتوا، قال أصحابهم الذين كانوا يقتدون بهم: لو صورّناهم كان أشوق لنا إلى العبادة إذا ذكرناهم ، فصورهم فلما ماتوا وجاء آخرون، دبّ إليهم إبليس فقال: إنما كانوا يعبدونهم، وبهم يسقون المطر فعبدوهم .
وفي البخاري [عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا صَارَتْ الأَوْثَانُ الَّتِي كَانَتْ فِي قَوْمِ نُوحٍ فِي الْعَرَبِ بَعْدُ أَمَّا وَدٌّ كَانَتْ لِكَلْبٍ بِدَوْمَةِ الْجَنْدَلِ، وَأَمَّا سُوَاعٌ كَانَتْ لِهُذَيْلٍ، وَأَمَّا يَغُوثُ فَكَانَتْ لِمُرَادٍ ثُمَّ لِبَنِي غُطَيْفٍ بِالْجَوْفِ عِنْدَ سَبَإٍ، وَأَمَّا يَعُوقُ فَكَانَتْ لِهَمْدَانَ وَأَمَّا نَسْرٌ فَكَانَتْ لِحِمْيَرَ لِآلِ ذِي الْكَلَاعِ أَسْمَاءُ رِجَالٍ صَالِحِينَ مِنْ قَوْمِ نُوحٍ فَلَمَّا هَلَكُوا أَوْحَى الشَّيْطَانُ إِلَى قَوْمِهِمْ أَنْ انْصِبُوا إِلَى مَجَالِسِهِمْ الَّتِي كَانُوا يَجْلِسُونَ أَنْصَابًا وَسَمُّوهَا بِأَسْمَائِهِمْ فَفَعَلُوا فَلَمْ تُعْبَدْ حَتَّى إِذَا هَلَكَ أُولَئِكَ وَتَنَسَّخَ الْعِلْمُ عُبِدَتْ ](2) فكيف نستثني بعد هذه النصوص الواضحة الصالحين ؟
__________
(1) نوح -23
(2) رقم4539(37/78)
وبعض المدجلين من أتباع الخزنوي، يدّعي أن البناء المقصود، هو أن نبني القبر نفسه، لا أن نبني فوقه، ولو بنينا بناءً فوق القبر، وتركنا القبر على السنة، أي لا نرفعه فوق الشبر لجاز الأمر!! والبعض الآخر يقول: إذا كانت المقبرة ملك صاحب القبر، فلا مانع من البناء، بينما إذا كانت مسبلة، أي عامّة فلا يجوز .
وهذا اجتهاد وهو التضييق على الناس، بينما ينسى هؤلاء الجهلة النص المانع .
والبعض يدّعي أن النصوص الشرعية، جاءت لأن العرب كانوا قريبي عهد بشرك وينسى هؤلاء أن هذه النصوص، من أواخر وصايا النبي - صلى الله عليه وسلم - روى البخاري: ( عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ : لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى، اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسْجِدًا قَالَتْ: وَلَوْلَا ذَلِكَ لَأَبْرَزُوا قَبْرَهُ غَيْرَ أَنِّي أَخْشَى أَنْ يُتَّخَذَ مَسْجِدًا )(37/79)
ولا يعلم هؤلاء الحديث المتفق عليه(1) ( لَتَتْبَعُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ شِبْرًا شِبْرًا وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ حَتَّى لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ تَبِعْتُمُوهُمْ قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى قَالَ: فَمَنْ ؟ ) وما رواه أحمد: ( لَيَحْمِلَنَّ شِرَارُ هَذِهِ الأُمَّةِ عَلَى سَنَنِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلِ الْكِتَابِ حَذْوَ الْقُذَّةِ بِالْقُذَّة )(2)، ولا الحديث المتفق عليه(3) (لا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَضْطَرِبَ أَلَيَاتُ نِسَاءِ دَوْسٍ عَلَى ذِي الْخَلَصَةِ وَذُو الْخَلَصَةِ طَاغِيَةُ دَوْسٍ الَّتِي كَانُوا يَعْبُدُونَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ )و لم يطلعوا على قوله تعالى : {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلا وَهُمْ مُشْرِكُونَ}(4) ولا قول إمام الحنفاء {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ ،رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}(5)
ولم يطّلعوا على سيرة المصطفى - صلى الله عليه وسلم - (حين قال الناس لرسول الله صلى الله عليه و سلم، في غزوة حنين عقيب فتح مكة: اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط، فقال: الله أكبر، قلتم كما قال قوم موسى لموسى {اجْعَل لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَة}(6) إنها لسنن لتتركبن سنن من كان قبلكم سنة سنة )(7) .
__________
(1) البخاري:6775 ،مسلم :4822.
(2) المسند-16512
(3) البخاري:6583،مسلم:5173.
(4) يوسف:106.
(5) إبراهيم )35-36).
(6) الأعراف:138
(7) مسند الإمام أحمد :20893-20895،الترمذي :2106 .(37/80)
كما يجهل الخزنوية التاريخ، حيث سجّل أقبح العقائد التي ظهرت على وجه الأرض، ففي القرن الثالث الهجري لم يظهر الشرك فقط، بل الإلحاد والكفر بأبشع صوره من باطنية وقر مطية، بل أن من المسلمين من انحرف بعد تلك العصور إلى مستوى غريب لم يشهده تاريخ الأرض، وهي عبادة الشيطان ثم ما الفائدة الشرعية للبناء، إن سلّمنا جدلاً بالإباحة؟ لاسيما مرقد الخزنوية الذي زاد عليه محمد الخزنوي، منارتين شامختين وقبب مزخرفة، وأخذ من التكاليف الشيء الكثير، ولكم آلمني منظر المرقد المزخرف بين القبور، بينما بيوت الطلبة واليتامى والأرامل والدراويش، لا تصمد أمام المطر، ولو أن تلك التكاليف الضخمة، التي أهيلت فوق العظام النخرة، أنفقت على الطلبة، وعلماء الشيخ لأغنتهم، وكفتهم مؤنه طلب الدنيا وعرضها الفاني، على الرغم من أنهم يتشدقون ببغض الدنيا كشيخهم المخادع، أمام الوافدين والزوار. .
* * * *
خوارق المرقد عند الخزنوية(37/81)
هناك كلمة مشهورة للخزنوية وهي( أن الشيخ في حياته(1)، كالسيف في الغمد فإذا مات جرد هذا السيف من غمده ؟ ) بل ذكرت في مجلاتهم السنوية(2) ( ومن كرامات الشيخ الظاهرة الواضحة،ما كان يحدّثنا عنه فضيلته، ويقول حينما يكون الولي على قيد الحياة، تكون روحانيته كالسيف في الغمد، يحتاج إلى معالجة ليستعمل؟ وإذا توفي وفارق الروح الجسد، تكون روحانيته كالسيف الصلت ولعمري لقد رأينا ذلك بأم أعيننا؟ فقد رأينا عدد الطلاب، قد زاد عن ثلاثمائة وأربعمائة إلى ألف طالب، وقد رأينا الضيوف في حياة الشيخ، كانوا بالألوف أما بعد وفاته، فقد صاروا عشرات الألوف) وفي المجلة ذاتها(3) في موضوع الصبر (ما إن غابت عين والده، حتى هبّت عليه عواصف المحن؟ ولكنه صبر عليها مستعيناً بالله وبهمة شيخه الذي وعده " أي في الوصية"، قائلاً إنك إذا مشيت على نهج السادات فالله معك والرسول معك والنقشبنديون معك، وقد كانوا معه فعلاً، ولو لم يكونوا معه ولو لم يكن من عظماء الرجال، الذين لا يأبهون بالزوابع وهبوبها، ولا يراعون للعواصف وعتوها، لما استطاع أن يقف على ساقه وأن يتحمل هذا العبء ) وهذا يضاف إلى متناقضاتهم الكثيرة إذ أن شيخ الطريقة الحي في ضمائر أتباعه ومعتقدهم هو المتصرّف المطلق في كل شؤونهم، وهذا ركن ركين في الطريقة، فكيف ينسجم هذا مع تلك المقولة ؟
ولكن تلك المقولة تمر دون تأمل، بل تصبح عند الأتباع الدليل الناجع، والحجّة الناصعة على كرامات ومعاجز الموتى.
__________
(1) ذكر السنهوتي في كتابه الأنوار القدسية ص142عند الحديث عن قبر شاه نقشبند قال :ولم يزل إلى يومنا هذا يستغاث بجنابه ويكتحل بتراب أعتابه ويلتجأ إلى أبوابه.
(2) الذكرى السنوية الثانية ص64.
(3) ص 80.(37/82)
ومن هذا المنطلق كان للمرقد الدور الأكبر والسهم الوافر في امتداد الطريقة شرقاً وغرباً، ففي المرقد جميع الاختصاصات الطبية ، فمن الداخلية إلى العظمية والعصبية إلى معالجة الشلل العام وأمراض النساء وخاصة العقم ؟
ولا ننسى العمليات الجراحية، التي يقوم بها موتى الخزنوية، فكثيراً ما سمعنا عن عمليات قيصرية، حصراً لنساء الأتباع، وكلها تتحدث عن مجيء الشيخ ليلاً مع مساعد له، يحمل حقيبة فيها كل اللوازم الطبية ويقوم بالعملية، بعدها يغادر ويترك أثراً مادياً على كرامته، إما بقعة دم أو أثر خياطة الجرح0
والعمليات الصعبة، مثل عمليات استئصال الأورام الخبيثة فحدث ولا حرج والعجب أن هذه العمليات، تحدث عندما يصل الرجل إلى مرحلة اليأس، ولم يبقى أمامه إلا مشايخ الخزنوية الموتى، وكأنه لم يبقى ولي في الحياة ولا في البرزخ غيرهم وأما من يملك الضر والنفع فلا ذكر له0
أما المجانين الذين شفاهم المرقد والمقعدين وغيرهم فلا يحصون، ولا ننسى أن المرقد وساكنيه لهم أيادي بيضاء في كل المعارك، التي دارت بين العرب وإسرائيل ففي حرب تشرين وقبلها في النكسة، شارك الموتى بعضهم بسلاح الطيران والبعض بالدبابات، ولكن إسرائيل كانت أقوى من المشايخ، فلم يحقق العرب غير الهزائم .
كما أن للمرقد الدور الكبير في سقيا السماء، فقد كان الشيخ عز الدين الخزنوي إذا طلب الناس منه الاستسقاء، استسقى بقبور مشايخه، وهذا أمر مشهود، بل موثق بالصور، فالمرقد يمثل لدى العامة، الذين يأتون كزوّار، هذا الجانب الغيبي من قدرة خارقة على شفاء الأمراض المستعصية وحل لبعض المشاكل .(37/83)
في هذه الصورة يظهر عز الدين الخزنوي أمام باب المرقد وهذه الوقفة هي وقفة رابطة الاستئذان من الموتى للدخول، وهناك رابطة الاستئذان بالجلوس حين الدخول وبعدها الرابطة الرسمية وبعدها رابطة الاستئذان بالخروج، وفي هذه الصورة كما هو مشاهد، لم يأتي الشيخ ليعتبر بالقبور، وإنما جاء مستغيثاً وملتجئاً يطلب الغوث من أبيه وأخويه. ولا أدري بعد هذا ما هو الشرك في نظر هؤلاء .
أما المرقد للأتباع فحديث ذو شجون، ففي أدبيات الخزنوي يشكّل المرقد صلة الوصل بين المريد والشيخ الحي، وبين الله والشيخ الحي، وبين المريد وبين أي مقبور وفد إليه، ويشكّل أيضاً جانباً مهماً، في علاج كثير من وساوس الطريقة، التي يمرّ بها السالك، ومركزاً آخر للتصفية الباطنية، ولذلك يسمى عندهم، بالمشفى الرباني والصيدلية الإلهية؟ وإليك التفسير: فأما كونه الصّلة بين المريد والشيخ الحي فحين يقف المريد عند قبر الشيخ، ويطلب منه أن يكون واسطة خير بينه وبين الشيخ الحي، أن يجعله ينظر إليه ويمده بنوره وفي هذا المقام تحضرني أبيات للملا علي الأسود التي ،قالها في رثاء ابن الشيخ، فقال مخاطباً الشيخ الحي:
يا موئلي يابن الأماجد نظرة ... تشفي الغليل فإن قلبي وامق
بالفقر جئتك سيدي لا بالغنى ... فالفقر والإذعان عندك ينفق
مستشفاً بأبيك قبلتنا الذي ... يعطي العطايا والثنايا تبرق(37/84)
وكونه واسطة بين المريد وأي مقبور يفد إليه، فهذا حين يحظى المريد في سفره بقبر ولي(1) فيتوجه إليه وهو مغمض العينين، ويستمد من مرقد سادته، ويطلب منهم أن ينفعه صاحب القبرأو العكس، وهذا لا يقوم به إلا خواص الخزنويه لأنه معنى راق، لأنه طلب من صاحب القبر، أن يتوجه للخزنويه المقبورين، بأن ينفعوه وإن زاد إخلاص شركه، فيطلب أن يقبلوه ؟
أما ثالثة الأثافي وداهية الدواهي، جعل المرقد واسطة بين الله والشيخ الحي وهي: طلب المريد من الشيخ الميت، أن يطلب من الله أن يجعل الشيخ الحي يعطف عليه ويشمله بعنايته، وأحياناً يطلب من الله، أن يجعل الموتى ينظرون إليه ؟
__________
(1) فائدة : إذا أراد المريد أن يزور قبور الأولياء ويستمد من روحانيتهم، فينبغي له أن يسلم على صاحب القبر أولاً، ثم يقف تجاه وجهه مستدبراً القبلة، ثم يقرأ الفاتحة مرة، والإخلاص إحدى وعشرين مرة، وآية الكرسي مرة، ويهب ثوابها إليه، ثم يجلس عنده ويجرد نفسه عن كل شيء حتى يصير لوحاً صافياً، ثم يتصور روحانيته نوراً مجرداً عن الكيفيات المحسوسة، ويحفظ ذلك النور في قلبه حتى يحصل له فيض من فيوضا ته، أو حال من أحواله، وينبغي أن يستعين على ذلك الاستمداد من روحانية شيخه أولاً، وجعلها بينه وبين المزور …وما يفعله العامة من تقبيل أعتاب الأولياء والتابوت الذي يجعل فوقهم فلا بأس به إن قصدوا بذلك التبرك. ولا ينبغي الاعتراض عليهم لأنهم يعتقدون أن الفاعل والمؤثر هو الله . تنوير القلوب ص566-567.(37/85)
وهنا يسجّل للخزنوية قصب السبق في فنون الشرك والافتراء فالمشركين العرب كانوا أكثر حياء وأكثر عقلاً ومنطقاً {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ}(1)0 فهم يتّخذون الأصنام ، وسائط عند الله ، بينما يتّخذ الخزنوية الله واسطة لبلوغ رضا الموتى والأحياء ؟
ولا تظنن أن هذا يقوم به الجهلة ، كما يزعم جلاوزة الخزنوي ، كلا فهي تقيّة منهم فالموتى من الخزنوية، يتجلى فعلهم بعد الموت بأسمى الصور، ولذلك تجد محمد الخزنوي، يشعر بحضور أبيه عند ذكره ، ويؤكّد على عقيدته في أبيه الميت بأنه الملاذ: يقول في الذكرى السابعة،وهو يخاطب والده الميت :يا شيخي ويا من جفت كل أوردتي ظمأ إليك 0000
نحن عواجزكم وانتم عزّنا ... أبداً وحمل العاجزين عليكم
إلى أن يقول: [كنت الضماد لأوجاعنا ، كنت الملاذ.. ونعتقد أنك ما زلت الملاذ والطبيب لأجسادنا ولأرواحنا ٍ]فمن لنا بعدك ، ولسان الحال يقول دوماً :
إذا مرضنا تداوينا بذكركم ... ونترك الذكر أحياناً فننتكس
وهذا شيخ الطريقة، الذي لا يناقش قوله لأنه الناطق باسم السماء، فقوله هو القاعدة عند الخزنوية، وقول غيره هو الشذوذ، وهذا القول ليس للخزنوي المتأخر بل كلام من سبقوه فالذي رأى والده، وسمع قوله في أهل المرقد لن يلوم الولد فقد كان المرقد وساكنيه عند الوالد المعين العذب الذي ينهل منه فيوضا ته، فكلّما أراد الحديث في أي بقعة من العالم، أغمض عينيه وطلب المدد من المرقد، وكلما خرج من بيته وقف خاشعاً مستقبلاً المرقد، وكذلك إذا أراد الدخول هكذا، كلما دخل وخرج لا يحجزه عن هذه الوقفة المخترعة حرّ ولا قرّ، والناس وراءه مقتدون.
هذه رابطة تحية المرقد .
__________
(1) الزمر:آية37.(37/86)
كلما خرج الشيخ من بيته لابد أن يستأذن من المرقد ويتسخيرهم في الخروج وكذلك حين دخوله إلى بيته، حتى لو أنه قد عاد تواً من المرقد ؟!
ولو تكرر خروجه ألف مرة لعاد إلى هذا الصنيع .
وعندما يسأل الغريب عن السبب، يجيبه الكذّابون من جلاوزة الشيخ: إن الشيخ يقرأ الفاتحة على أهل المرقد، وهذا الجواب يلزم السائل ويسكته، وهل يستطيع الاعتراض على قراءة القرآن؟ ولا يسأل هؤلاء الحمقى، لماذا التوجّه قبل المرقد لا ينحرف يميناً ولا شمالاً ؟! هل أن قراءة الفاتحة لا تقبل ولا تصل، حتى يصيب القارئ عين المرقد، إذا كان قريباً منه، ويجتهد إن غاب عنه كمذهب الشافعي في القبلة والشيخ من المتعصبين له.؟! كل هذا ليس له جواب، بل لا تطّرح مثل هذه الأسئلة على الخزنوية، والذي يطرح في هذا الباب ما سمعته من كشوفات جديدة للمخلصين في مرقد السادات!
وأما دوره في علاج وساوس الطريقة التي يمرّ بها السالك، فهذا باب واسع لايحصره كتاب، لأن هذا تابع للحالة الهستيرية التي يعيشها السالك، فالذي لا يشعر بالحضور في الذكر، يشتكي للمرقد، والذي يفكّر في الملذات الدنيوية يبكي في توجهه للمرقد لينفوا عنه الخواطر الشيطانية0والخلاصة أن أيّ مشكلة سواء كانت مرضاً عضوياً، أو روحياً على شكل عقد نفسية، تحل جميعها في المرقد. والغريب أن الشيخ الراقد، يحلّ جميع العقد النفسية، والجسدية إلا أنه يقف عاجزاً أمام عقدة كيس المال، فرغم أنه كثيراً ما أطلق المجانين، وعالج أصحاب العاهات، إلا أنه عجزعن داء الفقر الذي يصيب أبناء الطريقة، وهو المرض الوحيد الذي لم يعالج ، ولعلّ هذا المرض من اختصاص الشيخ الذي سيفد للمرقد بعد سنين ؟!
ومن يدري فالمطرقة التي تضرب بها على يديك، خير من التي توعد بها على رأسك؟
ولكن الشيخ الذي سيفد، م يحلّها في حياته، بل سعى جهده في تمكينها، فكيف يحلّها إذا واراه التراب ؟!
* * * *
قواعد وآداب دخول المرقد(37/87)
على داخل المرقد أن يلتزم بالتعاليم التي لابدّ منها لحصول الفائدة وهي : عند دخولك بداية المقبرة، تقف هنيهة مغمض العينين، خافض الرأس مكتوف اليدين مستحضراً وجه الشيخ، وقد سلط نور جبينه على قلبك، ثم تمشي مطأطأ الرأس، حتى تقترب من باب سور المرقد، عندها تقف مستعيداً الفكرة السابقة مضيفاً إليها، بعض المعاني الجديدة وبعض الخطابات السرية، التي لا يسمعها إلا الشيخ الميت من مثل: أنا لا أستحق الدخول لتقصيري في حقكم أنا لا أستحق الدخول، لأني طين أرضي، وأنتم أنوار سماوية علّية .
وإذا كنت محبًا حقيقيًا، تذكّر الشيخ بأنّك أحد حيواناتهم الوفية وما أكثرها لاسيما لقب الكلب الوفي، فهو محبب عند الخزنوية بعدها تدخل السور، ثم تقف مرة ثالثة أمام باب المرقد وتطلب منهم الدخول، والقبول وتتخيل أن الشيخ يقول لك: ادخل ثم تدخل موجهًا وجهك نحوهم، وتتخيلهم جالسين، وتبقى واقفًا مدة قد تطول أحياناً، بحسب قربك وبعدك من الشيخ فإن كنت من المخلصين طالت الوقفة كثيرًا، وصرت مثار إعجاب من رآك، وصرت من الشواهد الحية ودليلاً على وجود مخلصين للشيخ، ثم تمشي باتجاه الشيخ الثاني، وتتبع الأدب ذاته ثم الشيخ الثالث، ثم الشيخ الرابع، بعد هذا الطواف والوقفات ، تتخيل أن الشيخ يشير إليك بالجلوس فتجلس، والجلسة جلسة الرابطة، وهي عكس التورك في الصلاة، ثم تتصور المشايخ الأربعة، وهم جلوس والأنوار تحفهم، وترجو منهم شيئاً من هذا النور، هذا إن كنت من الراسخين وأهل الباطن.
أما إن كنت شرعياً ومن أهل الرسوم، تصورّت نوراً نازلاً من السماء إلى المرقد وترجو من الله أن يلهم المشايخ حذوك من هذا النور، وتطلب من الشيخ الراقد، ما تريد من حل مشكلة وتفرّيج كرب وتيّسير عسر، ولعل أ هم الطلبات التي تحبذ للمريد السالك، هي توسّله إلى الراقد، أن يكون خير وسيلة إلى الشيخ الحي أن يقبله ولو من خدمه وعبيده، أو أن ينظر إليه نظرة عطف ورعاية .(37/88)
هذا إذا كان الداخل رجلاً، أما إذا كان امرأةً فالوضع أقبح وألعن، فقد سمعت أن المرأة تصلي ركعتين، كما علّمتها زوجة الشيخ(1)، وإذا أرادت طلباً عقدت على سياج الحديد خيطاً، وما دام هذا الخيط مربوطاً، فإن الطلب يجاب. وكثيراً ما رأينا تلك الخيوط الملونة، وبعض الرسائل التي ترمى على القبر، من بعض الفتيات التي ملّت الكلام والدعاء، ولم تأتي الإجابة ولم يأتي العريس فأرادت تسطير الطلب بكلمات مكتوبة، لعل الشيخ يحن ويقرأها؟ وهناك من تأخذ تراباً من القبر بينما تجد من يأخذ شيئاً من الماء ، ويضعه هنيهة في المرقد، ليصطحبه لأهله إذا رجع ؟؟
* * * *
هذا هو مرقد الخزنوية (والمفارقة أن البيوت التي على يسار الصورة هي بيوت الطلبة وهي كما ترى من الطين الذي لا يصمد أمام المطر بينما قبور الموتى من الأسمنت ومن الفسيفساء الغالية الثمن فهل هذه هي الشريعة ) ثم لماذا هذه المنارات ؟
* * * *
الفصل الرابع
الخدمة
(طريق الوصول إلى العلم الباطن)(2)
__________
(1) تعد زوجة الشيخ كالشيخ في تربية النساء، أو الوسيط الأمين لتعاليم الشيخ، وقد أخبرني أحد الطلبة أن شغل زوجة الشيخ وضرتها، البحث عن أفضل سحر، وأفضل تميمة أو خرزها تحببها إلى زوجها، وتجعله يبغض الأخرى ، وهذا وضع كل نساء العائلة الخزنوية.
(2) الفكرالصوفي في ضوء الكتاب والسنة.(37/89)
ظن كثير من الناس أن هذا العلم الباطني نتيجة للصلاح والتقوى، والمداومة على التسبيح والذكر فداوم على هذا، وسار في طريق التصوف زماناً علّه يظفر بما يظفرون به ولكنه لم يصل إلى شيء، من هؤلاء من يحدثنا عنه أبو حامد الغزالي في كتابه(1) "حكي أن شاهداً عظيم القدر من أعيان أهل (بسطام) كان لا يفارق مجلس أبي يزيد البسطامي فقال يوماً: أنا منذ ثلاثين سنة أصوم الدهر ولا أفطر، وأقوم ولا أنام، ولا أجد في قلبي من هذا العلم الذي تذكر شيئاً، وأنا أصدق به وأحبه! فقال أبو يزيد: ولو صمت ثلاثمائة سنة، وقمت ليلها ما وجدت من هذا ذرة !! قال: ولم قال: لأنك محجوب بنفسك. قال : فلهذا دواء ؟ قال: نعم. قال: قل لي حتى أعمله. قال: لا تقبله. قال: فاذكره لي حتى أعمل. قال: اذهب إلى المزين، فاحلق رأسك ولحيتك وانزع هذا اللباس واتزر بعباءة، وعلق في عنقك مخلاة مملوءة جوزاً، واجمع الصبيان حولك وقل.. كل من صفعني صفعة أعطيته جوزة وادخل السوق، وطف الأسواق كلها عند الشهود وعند من يعرفك، وأنت على ذلك!! فقال الرجل: سبحان الله، تقول لي مثل هذا؟ فقال أبو يزيد: قولك.. "سبحان الله" شرك!! قال: وكيف؟قال لأنك عظّمت نفسك فسبّحتها وما سبّحت ربك. فقال : هذا لا أفعله ولكن دلني على غيره . فقال : ابتدئ بهذا قبل كل شيء فقال لا أطيقه. فقال: قد قلت لك إنك لا تقبل..!."وهذا ما يسمونه كسر النفس ولكنّ النقشبنديين المتأخرون طوّروا هذا التعليم وحصّروه في خدمتهم ، فجعلوا الخطوة الأولى والأخيرة في علم الباطن هي الخدمة ، بل جعلوه أولى حتى من تعاليم مولاهم نقشبند ، فالخدمة أنفع حتى من الذكر.
__________
(1) الإحياء (ج4 ص358).(37/90)
وقد جاء في أفضل كتبهم(1) أن الشيخ يرجّح النسبة الحاصلة من الخدمة على النسبة الحاصلة من غيرها كائناً ما كان، ويشبهها- أي الخدمة - بالشعير للحيوان، وغير الخدمة بعشب الربيع فالسمن الحاصل من الشعير يبقى أطول فترة بعكس السمن الحاصل من عشب الربيع. والحقيقة أن الخدمة فعلياً هي أفضل من الأذكار والتعاليم لأن كل هذا لا يستفيد منه الشيخ شروى نقير أما الخدمة فهي الطلسم الذي جمع من خلاله الخزنوية أموال قارون، فما بنوا بنياناً ولا حرثوا أرضاً إلا بالمجّان ،بل إن الخزنوي كان يعلّم خواصه أن الله لن يفتح عليك الفهم في العلوم الظاهرية من حديث وتفسير وفقه إلا بالخدمة، حتى أنه حوّل معهده الشرعي لاستقطاب الطلبة للعمل في حقوله ومزارعه وفي قصره، ومن يعترض عليه يطرد .
__________
(1) الكلمات القدسية- منحة.28(37/91)
ولو أنهم لم يحصروا الخدمة فيهم لكان لهم فيها وجهة شرعية ، فخدمة الناس عمل مبرور ، ففي الحديث [كُلُّ سُلَامَى عَلَيْهِ صَدَقَةٌ كُلَّ يَوْمٍ يُعِينُ الرَّجُلَ فِي دَابَّتِهِ يُحَامِلُهُ عَلَيْهَا أَوْ يَرْفَعُ عَلَيْهَا مَتَاعَهُ صَدَقَةٌ وَالْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ وَكُلُّ خَطْوَةٍ يَمْشِيهَا إِلَى الصَّلَاةِ صَدَقَةٌ وَدَلُّ الطَّرِيقِ صَدَقَةٌ](1) بل إن إسداء الخير والمعروف حتى للحيوانات فيه صدقة وخير [عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ بَيْنَا رَجُلٌ يَمْشِي فَاشْتَدَّ عَلَيْهِ الْعَطَشُ فَنَزَلَ بِئْرًا فَشَرِبَ مِنْهَا ثُمَّ خَرَجَ فَإِذَا هُوَ بِكَلْبٍ يَلْهَثُ يَأْكُلُ الثَّرَى مِنْ الْعَطَشِ فَقَالَ لَقَدْ بَلَغَ هَذَا مِثْلُ الَّذِي بَلَغَ بِي فَمَلأَ خُفَّهُ ثُمَّ أَمْسَكَهُ بِفِيهِ ثُمَّ رَقِيَ فَسَقَى الْكَلْبَ فَشَكَرَ اللَّهُ لَهُ فَغَفَرَ لَهُ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَإِنَّ لَنَا فِي الْبَهَائِمِ أَجْرًا قَالَ فِي كُلِّ كَبِدٍ رَطْبَةٍ أَجْرٌ ](2) أما أن تتحول إلى عبادة الشيخ الخزنوي وحده، إلى خدمته وخدمة أهله الذين يرضى عنهم، أن يتحول المسلمين الأحرار إلى عبيد، ونسائهم إلى جواري عند الشيخ وأبنائه، فلا وألف لا .
والمصيبة أن هذه الخدمات التي يقدمها الناس للخزنوي، تذهب سدى دون كلمة شكر، بل للشيخ الفضل على قبوله لهم كخدم (3)، أما أن يسدّ عوزهم وفقرهم فلا وكرامة عين، فما سمعنا يوماً برحمته لفقير من خدمه، نعم قد يوزّع شيئاً من زكاته عليهم كل سنة، ولكن هذه الزكاة لا تكفي مصروف عشرة أيام .
__________
(1) البخاري رقم-2677.
(2) البخاري رقم-2190.
(3) بل إن لقب الخادم لقب رفيع ، ومنزلته منزلة عظيمة لا ينالها إلا الواصلون .(37/92)
ويذكر للشيخ(1) أنه كان شديد الحرص على اللقاء مع خدمه كل فترة، لا لمعرفة همومهم أو حاجاتهم، وإنما ليرفع من معنوياتهم، التي تهبط إثر الحاجة والفقر المدقع الذي يعيشوه عند
الخزنوي، اتكالاً على الأجر الأخروي، أو الواردات الإلهية التي يزعم الخزنوية إمدادهم بها يجمعهم كل فترة ليقول لهم: أنتم أبناء الشيخ الحقيقيين، وأنتم شركائي في الطريقة وأنتم وأنتم، وينتهي الاجتماع دون تكلم أحد، أو سؤال أو استفسار، اللهم إلا صراخ المجاذيب وعويل النوكى، الذين لم يحتملوا كلمات الشيخ القدسية، والأنوار المرفقة معها، بل يخرجوا منتشين مطروبين سكارى لأن الشيخ نسبهم لنفسه، واعتبرهم أبنائه الحقيقيين، وكثيراً ما تقام الدبكة الشعبية، والأهازيج الكردية والتركية و العربية، احتفاءً بهذه المناسبة العظيمة ولا يسأل أولئك المجانين: لو كان الشيخ صادقاً فيما يقول، بأنهم أبنائه الحقيقيين وشركائه فلما لا يعطيهم كما يغدق على أبنائه؟ وهذا الشيخ صاحب المواعظ توفي، وخلّف ابنه الذي لا يجتمع إلا مع الخادمات الجميلات، حيث يحاول حلّ مشكلته العصيّة على العلاج، وهي الشبق الجنسي .
ثم إن الخدم يخضعوا لتقسيمات إدارية، فهناك خدم التكية، ولها رئيس ولها مدّاحها الخاص وهناك خدم الفرن ولهم رئيس ومدّاح، وخدم القصر وخدم الأرض وخدم الطوارئ، وهذا الفرقة جاهزة لجميع الأعمال من بناء وحرث وغير ذلك .
ولا ننسى الحرس الذين يحرسون القصر على الدوام، وهؤلاء قبيلة من قبائل الشرابيين التي تدّعي(2) انتسابها إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - .
__________
(1) هو عز الدين الخزنوي .
(2) قبيلة الطفحييين وأغلبهم يدجّلوا على الناس ويأخذوا أموالهم إما بطريق الدين أو التسول بحجة أنهم أبناء الرسول - صلى الله عليه وسلم -.(37/93)
هذه القبيلة تمتاز بالفقر المدقع، فأرضها سبخة مالحة، وأبنائها من الأميين العاطلين عن العمل والمفارقة أن أحدهم يحملهم بسيارته إلى بيت الشيخ ليواصلوا الحراسة ، دون أخذ أجرة السيارة ولا حتى ثمن الوقود، الذي يشتريه بحرّ ماله من كازية الخزنوي.
فهل سمعتم بأعجب من هذا؟! بل للخز نوي فضل لا ينكر عليهم، لأنه قبلهم خدماً في عتبة الشيخ .
* * * *
الباب الرابع
الخزنوية وأحكام الشريعة
الفصل الأول
المخالفات الشرعية
بعد كل ما ذكرنا لا يستحي الخزنوية أن يقولوا أنهم لا يتعاطون المنهيات الشرعية ولا المكروه ولا خلاف الأولى، وهم غرقى في مستنقع الحرام والشرك، نعم قد تجد الشيخ يدخل المسجد برجله اليمنى ويخرج باليسرى، قد تجده يشرب قاعداً وينهى عن الشرب قائماً، بينما يسرق عرق الكادحين دون مبالاة !؟ قد تجده يصيح في درسه فضّ الله فاه: أنا لست أهلاً، ولا أساوي فرنك، بينما يجلس على سدّة الكبر والعجب فيميّز نفسه، وولده بالجبب، والعمائم وينهى علمائه منها وإن سمح لهم فجبة قصيرة لا تشبه جبة الشيخ .
ربما يصيح بأتباعه: أنكم أبناء الشيخ، بينما هو يستخدمهم ويذلهّم، ويرفض أشدّ الرفض مصاهرة أحدهم مهما كان، بل يحوّلهم إلى مسخ منقاد بذلّة لذيذة يهدر كرامتهم متى أراد بحجة التعليم، بل ينفث في روعهم أنهم لن يقبلوا في ملكوت السماء، حتى ينضّموا إلى كلاب الشيخ وقططه، تجده يذمّ الدنيا وينهى أتباعه عنها، بينما يسخّرهم لأغراضه ومنافعه الدنيوية الصرفة .
تجده يدّعي إتباع الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهو يخالف أوامره الصريحة مثل أمره بتسوية القبر وهو يشيد القبر بله يجدّده كل فترة، والبناء على القبور إن لم نقل أنه حرام فليس بسنة الاستغاثة بغير الله إن لم يكن شركاً فما هو الشرك ؟(37/94)
الحلف بغير الله إن لم يكن شركاً فما هو دون الحرام روى الترمذي(1) [ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ سَمِعَ رَجُلا يَقُولُ لا وَالْكَعْبَةِ فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ لا يُحْلَفُ بِغَيْرِ اللَّهِ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللَّهِ فَقَدْ كَفَرَ أَوْ أَشْرَكَ ] قَالَ أَبُو عِيسَى هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ، بينما الشيخ يفصّل في هذا الموضوع، ويقول إلا للتبرك فإنه يجوز، فيحلف بالمرقد ورأس أبيه، وكأنّ المرقد أقدس من الكعبة .
يمنع الخزنوي اختلاط الرجال بالنساء إلا في قصره، فقصره مليء بالخادمات الجميلات، التي تخدم زوجاته وزوجات إخوانه، ولا أدري متى استخدم الرسول - صلى الله عليه وسلم - نساء المسلمين لنفسه أو لزوجاته؟، فقد جاءت فلذة كبده تطلب خادماً، فلم يعطها(2).
يدعي التزام الشريعة بلا حياء، وهو يقطع رحمه وينسى النصوص التي تلعن قاطعي الرحم {فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم، أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم }(3).
وما رواه البخاري عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (إن الله خلق الخلق حتى إذا فرغ من خلقه، قالت الرحم: هذا مقام العائذ بك من القطيعة، قال: نعم أما ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك قالت بلى يارب، قال: فهو لك، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: فاقرءوا إن شئتم {فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم ،أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم}(4).
__________
(1) رقم الحديث 1455 ،وفي مسند أحمد برقم-5799.
(2) البخاري رقم 3429.
(3) سورة محمد :22-23.
(4) البخاري :الأدب -5529، مسلم: البر والصلة -4634.(37/95)
ينحني الناس له، ويركعوا له حين يقبّلوا يده، يقف طلابه فوق رأسه، وهو جالس وهذه الكيفية نهى عنها الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ولا ننسى أن الخزنوي يحرّم على مريده أن يحيي الشيخ بتحية الإسلام والسلام عليه سوء أدب(1).
* * * *
لاحظ أيها القارئ الكريم طريقة السلام على الشيخ... ألا ترى أنه يركع للشيخ ؟
ألا ترى أنه يسجد على يده ؟...أم أنني واهم أو متهم ؟
ثم لا تنسى أن هذا المريد لم يلقى على شيخه تحية الإسلام !
بدعوى أن السلام عليه سوء أدب ،وينسى أن الصحابة كانت تسلّم على النبي - صلى الله عليه وسلم - ،والذي نعرفه كمسلمين أن الذي لا يسلم عليه هو الله وحده لأنه هو السلام
فإذا عرفنا هذه المعلومة وأضفناها إلى المعلومات التي في الصورة عندها نعرف ما يريده الخزنوية.
الفصل الثاني
قضية الغوث والقطب
وهذه من أخطر المخالفات الشرعية، بل إنها من أولويات الشرك، فالغوث عند القوم هو الفرد الوحيد الذي يتصّرف في العالم، فما يحدث في هذا الكون من أمر إلا بعد إذنه، تحت هذا الغوث بدرجة واحدة الأقطاب الأربعة الذين يمسكون جهات الأرض، وتحتهم الأوتاد السبعة وهم من يمسكون بالأقاليم السبعة وتحتهم الأبدال الأربعين، وهذه العقيدة من أولويات الطريقة أن تعتقد أن الشيخ الخزنوي هو غوث الأرض، يرزق من يشاء ويمنعه عمن يشاء، ولذلك لو اطلعت على أي كتاب للنقشبدية، تجد هذا الوصف لكل شيخ من مشايخهم، وهذا مثبت بختم الخواجكان، من مثل الغوث الحقاني ومغيث المستغيثين، وغوث العامة والخائفين والخزنوية يروّجون بين أتباعهم خصوصية مرتبة الغوث فيهم، بل إن شيخ الطريقة إن لم يكن يطّلع على كل شيء فليس بشيخ(2).
__________
(1) الذي لا يصح السلام عليه هو الله، وهذا يدل على تشبيه الشيخ بالله.
(2) ورد عن أحمد الخزنوي قوله (إن الشيخ الذي لا يعرف كم مرّة تقلّب مريدة في الفراش لا يصلح للمشيخة وفي رواية : الذي لا يعرف كم فسوة لمريدة ) فإن تعجب فعجب .(37/96)
وكما قال العلماء في شرح أسماء الله الحسنى إن المغيث بمعنى المجيب لكن الإغاثة أخص بالأفعال والإجابة أخصّ بالأقوال قالوا من أسمائه تعالى المغيث والغيّاث وجاء ذكر المغيث في حديث أبى هريرة قالوا واجتمعت الأمة على ذلك، وأكثر ما يقال غيّاث المستغيثين، ومعناه المدرك عباده في الشدائد إذا دعوه ومجيبهم ومخلصهم وفى خبر الاستسقاء في الصحيحين ( اللهم أغثنا اللهم أغثنا ) يقال أغاثه إغاثة وغياثاً وغوثاً وهذا الاسم في معنى المجيب والمستجيب قال تعالى {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ}(1) إلا أن الإغاثة أحق بالأفعال والاستجابة أحق بالأقوال وقد يقع كل منهما موقع الآخر، وخير من تكلّم في هذا الباب شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله حيث سئل عن الحديث المروى في الابدال، وهل صحيح أن الولي يكون قاعداً في جماعة ويغيب جسده، وعن غوث الأغواث، وقطب الأقطاب، و قطب العالم و القطب الكبير وخاتم الأولياء..
__________
(1) الأنفال آية 9.(37/97)
فأجاب: أما الأسماء الدائرة على ألسنة كثير من النساك والعامة مثل الغوث الذي بمكة و الأوتاد الأربعة، والأقطاب السبعة والابدال الأربعين والنجباء الثلاثمائة فهذه أسماء ليست موجودة في كتاب الله تعالى ولا هي أيضاً مأثورة عن النبي بإسناد صحيح ولا ضعيف يحمل عليه ألفاظ الأبدال فقد روى فيهم حديث شامي منقطع الإسناد عن على بن أبى طالب رضى الله عنه مرفوعا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - انه قال: ( إن فيهم يعنى أهل الشام الأبدال الأربعين رجلاً كلما مات رجل أبدل الله تعالى مكانه رجلاً ) ولا توجد هذه الأسماء في كلام السلف، كما هي على هذا الترتيب، ولا هي مأثورة على هذا الترتيب والمعاني عن المشائخ المقبولين عند الأمة قبولاً عاماً.. إلى أن يقول : وبذلك يتبين أن هذه الأسماء على هذا العدد والترتيب والطبقات ليست حقاً في كل زمان بل يجب القطع بأن هذا على عمومه وإطلاقه باطل. فان المؤمنين يقلّون تارة ويكثرون أخرى، ويقلّ فيهم السابقون المقربون تارة، ويكثرون أخرى وينتقلون في الأمكنة ولا من شروطهم تعيين العدد، وقد بعث الله رسوله بالحق وآمن معه بمكة نفر قليل كانوا اقلّ من سبعة، ثم أقلّ من أربعين، ثم أقلّ من سبعين، ثم أقلّ من ثلاثمائة فيعلم أنه لم يكن فيهم هذه الأعداد ومن الممتنع أن يكون ذلك في الكفار ثم هاجر هو وأصحابه إلى المدينة وكانت هي دار الهجرة والسنة والنصرة ومستقر النبوة وموضع خلافة النبوة، وبها انعقدت بيعة الخلفاء الراشدين، وان كان قد خرج منها بعد أن بويع فيها، ومن الممتنع أنه قد كان بمكة في زمنهم من يكون أفضل منهم، ثم إن الإسلام انتشر في مشارق الأرض ومغاربها، وكان في المؤمنين في كل وقت من أولياء الله المتقين، بل من الصدّيقين السابقين المقرّبين، عدد لا يحصى عدده إلا رب العالمين، لا يحصرون بثلاثمائة ولا بثلاثة آلاف، ولما انقرضت القرون الثلاثة الفاضلة كان في القرون الخالية من أولياء الله ، من(37/98)
لا يعرف عدده وليسوا بمحصورين بعدد ولا محدودين بأمد ، وكل من جعل لهم عدداً محصوراً فهو من المبطلين عمداً أو خطأ، فنسأله من كان القطب والثلاثة إلى سبعمائة في زمن آدم ونوح وإبراهيم وقبل محمد عليهم الصلاة والسلام في الفترة حين كان عامة الناس كفرة ؟
قال الله تعالى(إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا )(1) أي كان مؤمناً وحده وكان الناس كفاراً جميعاً وفى صحيح البخاري ( أنه قال لسارة: ليس على الأرض اليوم مؤمن غيري وغيرك ).
__________
(1) النحل (120).(37/99)
وقال الله تعالى{ هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ }(1) وإن زعموا أنهم كانوا بعد رسولنا عليه السلام، نسألهم في أي زمان كانوا؟ ومن أول هؤلاء وبأيّة آية وبأىّ حديث مشهور في الكتب الستة؟ وبأي إجماع متواتر من القرون الثلاثة ثبت وجود هؤلاء، بهذه الأعداد حتى نعتقده ؟! لأن العقائد لا تعتقد إلا من هذه الأدلة الثلاثة ومن البرهان العقلي { قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ }(2) فان لم يأتوا بهذه الأدلة الأربعة الشرعية، فهم الكاذبون بلا ريب فلا نعتقد أكاذيبهم ويلزم منه أن يرزق الله سبحانه وتعالى الكفار وينصرهم على عدوهم بالذات بلا واسطة، ويرزق المؤمنين وينصرهم بواسطة المخلوقات. فأما لفظ الغوث والغيّاث فلا يستحقه إلا الله فهو غياث المستغيثين، فلا يجوز لأحد الاستغاثة بغيره ولا بملك مقرب ولا نبي مرسل. ومن زعم أن أهل الأرض يرفعون حوائجهم التي يطلبون بها كشف الضر عنهم ونزول الرحمة إلى الثلاثمائة، والثلاثمائة إلى السبعين والسبعون إلى الأربعين، والأربعون إلى السبعة، والسبعة إلى الأربعة، والأربعة إلى الغوث ، فهو كاذب ضال مشرك، فقد كان المشركون كما اخبر الله تعالى عنهم بقوله {وَإِذَا مَسَّكُمْ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلا إِيَّاهُ}(3) وقال سبحانه وتعالى : {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ}(4) فكيف يكون المؤمنون يرفعون إليه حوائجهم بعده بوسائط من الحجاب وهو القائل: { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِي إِذَا دَعَانِي فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ
__________
(1) الجمعة (2).
(2) البقرة 111.
(3) الإسراء 67.
(4) النمل 62.(37/100)
يَرْشُدُونَ}(1)
وقال إبراهيم عليه السلام داعياً لأهل مكة{ رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنْ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنْ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ، رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ ،الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ} (2).
__________
(1) البقرة 186.
(2) إبراهيم 37-38-39(37/101)
وقال النبي عليه السلام لأصحابه لما رفعوا أصواتهم بالذكر : (أيها الناس اربعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصم ولا غائباً، وإنما تدعون سميعاً قريباً إن الذي تدعونه اقرب إلى أحدكم من عنق راحلته ) وقد علم المسلمون كلهم انه لم يكن عامة المسلمين ولا مشايخهم المعروفون يرفعون إلى الله حوائجهم لا ظاهراً ولا باطناً بهذه الوسائط والحجاب، فتعالى الله عن تشبيهه بالمخلوقين من الملوك وسائر ما يقوله الظالمون علواً كبيراً، وهذا من جنس دعوى الرافضة انه لابدّ في كل زمان من إمام معصوم، يكون حجة الله على المكلفين لا يتم الإيمان إلاّ به، ثم مع هذا يقولون انه كان صبياً دخل السرداب من أكثر من أربعمائة وأربعين سنة، ولا يعرف له عين ولا أثر، ولا يدرك له حس ولا خبر، وهؤلاء الذين يدّعون هذه المراتب فيهم مضاهاة للرافضة من بعض الوجوه، بل هذا الترتيب والأعداد تشبه من بعض الوجوه، ترتيب الإسماعيلية والنصيرية ونحوهم في السابق والتالي والناطق والأساس والجسد وغير ذلك من الترتيب، الذي ما أنزل الله به من سلطان، فأما الحديث المرفوع -الذي في الأبدال- فالأشبه انه ليس من كلام النبي فإن الإيمان كان بالحجاز وباليمن قبل فتوح الشام، وكانت الشام والعراق دار كفر، ثم لما كان في خلافة على رضى الله عنه قد ثبت عنه عليه السلام انه قال ( تمرق مارقة من المسلمين تقتلهم أولى الطائفتين بالحق ) فكان علي وأصحابه أولى بالحق ممن قاتلهم من أهل الشام
ومعلوم إن الذين كانوا مع على رضى الله عنه من الصحابة مثل عمار بن ياسر وسهل بن حنيف ونحوهما، كانوا أفضل من الذين كانوا مع معاوية، وان كان سعد بن أبى وقاص ونحوه من القاعدين، أفضل ممن كان معهما، فكيف يعتقد مع هذا إن الابدال جميعهم الذين هم أفضل الخلق كانوا في أهل الشام هذا باطل قطعاً وان كان قد ورد في الشام وأهله فضائل معروفة فقد جعل الله لكل شيء قدراً .(37/102)
والذين تكلّموا باسم البدل فسروه بمعان منها: أنهم أبدال الأنبياء، ومنها انه كلما مات منهم رجل أبدل الله تعالى مكانه رجلاً، ومنها أنهم أبدلوا السيئات من أخلاقهم وأعمالهم وعقائدهم بحسنات، وهذه الصفات كلها لا تختص بأربعين ولا بأقل ولا بأكثر، ولا تحصر بأهل بقعة من الأرض. وكذلك من فسّر الأربعين الابدال: بأن الناس إنما ينصرون ويرزقون بهم فذلك باطل بل النصر والرزق يحصل بأسباب، من أكدها دعاء المؤمنين وصلاتهم وإخلاصهم، ولا يتقيد ذلك لا بأربعين ولا بأقلّ ولا بأكثر، كما جاء في الحديث المعروف ( أن سعد بن أبى وقاص قال : يا رسول الله الرجل يكون حامية القوم أيسهم له مثل ما يسهم لأضعفهم؟ فقال يا سعد وهل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم، بدعائهم وصلاتهم وإخلاصهم) وليس في أولياء الله المتقين، ولا عباد الله المخلصين الصالحين، ولا أنبيائه المرسلين من كان غائب الجسد دائماً عن أبصار الناس، بل هذا من جنس قول القائلين إن علياً في السحاب، وان محمد بن الحنفية في الجبال رضوى، وإن محمد بن الحسن بسرداب سامرا، وإن الحاكم بجبل مصر، وإن الابدال الأربعين رجال الغيب بجبل لبنان، فكل هذا ونحوه من قول أهل الإفك والبهتان، نعم قد تخرق العادة في حق الشخص، فيغيب تارة عن أبصار الناس، إما لدفع عدو عنه، وإما لغير ذلك وأما انه يكون هكذا طول عمره فباطل، وكذلك ما يزعمه بعضهم من أن القطب الغوث الجامع يمد أولياء الله ويعرفهم كلهم، ونحو هذا فهذا باطل، فأبو بكر وعمر رضي الله عنهما، لم يكونا يعرفان جميع أولياء الله، ولا يمدانهم فكيف بهؤلاء الضالين المغترين الكذابين ؟ ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سيد ولد آدم إنما عرف الذين لم يكن رآهم من أمته بسيماء الوضوء وهو الغرة والتحجيل .(37/103)
ومن هؤلاء من أولياء الله من لا يحصيه إلا الله عز وجل ، وأنبياء الله الذين هو إمامهم وخطيبهم لم يكن يعرف أكثرهم بل قال الله تعالى {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ }(1)
الخضر :
وموسى لم يكن يعرف الخضر، والخضر لم يكن يعرف موسى، بل لما سلّم عليه موسى قال له الخضر: وأنّا بأرضك السلام؟ فقال له: أنا موسى قال: موسى بنى إسرائيل ؟ قال: نعم، وقد كان بلغه اسمه وخبره، ولم يكن يعرف عينه .
__________
(1) غافر78(37/104)
ومن قال: أنه نقيب الأولياء أو أنه يعلمهم كلهم فقد قال الباطل. والصواب الذي عليه المحققون أنه ميت، وأنه لم يدرك الإسلام، ولو كان موجوداً في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، لوجب عليه أن يؤمن به ويجاهد معه، كما أوجب الله ذلك عليه وعلى غيره، ولكان يكون في مكة والمدينة، ولكان يكون حضوره مع الصحابة للجهاد معهم وإعانتهم على الدين أولى به من حضوره عند قوم كفار ليرقع لهم سفينتهم، ولم يكن مختفياً عن خير أمة أخرجت للناس، وهو قد كان بين المشركين ولم يحتجب عنهم، ثم ليس للمسلمين به وأمثاله حاجة، لا في دينهم ولا في دنياهم، فإن دينهم أخذوه عن الرسول النبي الأمي صلى الله عليه وآله وسلم الذي علّمهم الكتاب والحكمة، وقال لهم نبيهم :( لو كان موسى حياً ثم اتبعتموه وتركتموني لضللتم ) وعيسى بن مريم عليه السلام إذا نزل من السماء إنما يحكم فيهم بكتاب ربهم وسنة نبيهم، فأي حاجة لهم مع هذا إلى الخضر وغيره ؟ والنبي صلى الله عليه وآله وسلم قد أخبرهم بنزول عيسى من السماء، وحضوره مع المسلمين، وقال :( كيف تهلك أمة أنا في أولها وعيسى في آخرها) فإذا كان النبيان الكريمان، اللذان هما مع إبراهيم وموسى ونوح أفضل الرسل ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم سيد ولد آدم، ولم يحتجبوا عن هذه الأمة لا عوامهم ولا خواصهم فكيف يحتجب عنهم من ليس مثلهم، وإذا كان الخضر حياً دائماً فكيف لم يذكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذلك قط ؟(37/105)
ولا أخبر به أمته ولا خلفاؤه الراشدون، وقول القائل: أنه نقيب الأولياء فيقال له من ولاه النقابة ؟ وأفضل الأولياء أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم وليس فيهم الخضر، وعامّة ما يحكى في هذا الباب من الحكايات بعضها كذب، وبعضها مبنى على ظن رجل، مثل شخص رأى رجلاً ظنّ أنه الخضر، وقال: أنه الخضر كما أن الرافضة ترى شخصاً، تظن أنه الإمام المنتظر المعصوم، أو تدعى ذلك وروى عن الإمام أحمد بن حنبل أنه قال وقد ذكر له الخضر: من أحالك على غائب فما أنصفك، وما ألقى هذا على ألسنة الناس إلا الشيطان…(1).
__________
(1) مجموع الفتاوى -ج11-ص437وما بعدها.(37/106)
وقد رد ابن تيمية على أولئك الذين يرون النفع والخوارق من هؤلاء الأدعياء بقوله(1):وكثير ممن يستغيث بالمشائخ فيقول : ياسيدى فلان، أو يا شيخ فلان اقض حاجتي فيرى صورة ذلك الشيخ تخاطبه ويقول: أنا أقضي حاجتك أطيب قلبك، فيقضى حاجته أو يدفع عنه عدوه، ويكون ذلك شيطاناً قد تمثل في صورته لما أشرك بالله فدعا غيره، وأنا أعرف من هذا وقائع متعددة حتى إن طائفة من أصحابي، ذكروا أنهم استغاثوا بي في شدائد أصابتهم أحدهم كان خائفاً من الأرمن، والآخر كان خائفاً من التتر، فذكر كل منهم أنه لما استغاث بي رآني في الهوى، وقد دفعت عنه عدوه، أخبرتهم أنى لم أشعر بهذا، ولا دفعت عنكم شيئاً وإنما هذا الشيطان تمثّل لأحدهم فأغواه لما أشرك بالله تعالى، وهكذا جرى لغير واحد من أصحابنا المشائخ مع أصحابهم يستغيث أحدهم بالشيخ فيرى الشيخ قد جاء وقضى حاجته ويقول ذلك الشيخ: إني لم أعلم بهذا فيتبين أن ذلك كان شيطاناً وقد قلت لبعض أصحابنا لما ذكر لي: أنه استغاث باثنين كان يعتقدهما، وأنهما أتياه في الهوى، وقالا له: طيب قلبك نحن ندفع عنك هؤلاء، ونفعل ونصنع قلت له فهل كان من ذلك شيء؟ فقال: لا فكان هذا مما دلّه على أنهما شيطانان فإن الشياطين وان كانوا يخبرون الإنسان بقضية، أو قصة فيها صدق فإنهم يكذبون أضعاف ذلك كما كانت الجن يخبرون الكهان.
__________
(1) مجموع الفتاوى -ج 35-ص115.(37/107)
ولهذا من اعتمد على مكاشفته- التي هي من إخبار الجن -كان كذبه أكثر من صدقه، كشيخ كان يقال له الشياح توبناه وجددنا إسلامه، كان له قرين من الجن يقال له عنتر، يخبره بأشياء فيصدق تارة ويكذب تارة، فلما ذكرت له إنك تعبد شيطاناً من دون الله، اعترف بأنه يقول له: يا عنتر لا سبحانك إنك إله قذر وتاب من ذلك في قصة مشهورة . وقد قتل سيف الشرع من قتل من هؤلاء مثل الشخص الذي قتلناه سنة خمس عشرة، وكان له قرين يأتيه ويكاشفه فيصدق تارة ويكذب تارة، وقد انقاد له طائفة من المنسوبين إلى أهل العلم والرئاسة فيكاشفهم حتى كشف الله لهم، وذلك أن القرين كان تارة يقول له: أنا رسول الله ويذكر أشياء تنافى حال الرسول، فشهد عليه أنه قال: إن الرسول يأتيني ويقول لي كذا وكذا من الأمور التي يكفر من أضافها إلى الرسول، فذكرت لولاة الأمور أن هذا من جنس الكهان، وان الذي يراه شيطاناً، ولهذا لا يأتيه في الصورة المعروفة للنبي بل يأتيه في صورة منكرة، ويذكر عنه انه يخضع له ويبيح له أن يتناول المسكر وأموراً أخرى، وكان كثير من الناس يظنون أنه كاذب فيما يخبر به من الرؤية، ولم يكن كاذباً في أنه رأى تلك الصورة، لكن كان كافراً في اعتقاده أن ذلك رسول الله، ومثل هذا كثير، ولهذا يحصل لهم تنزلات شيطانية، بحسب ما فعلوه من مراد الشيطان، فكلما بعدوا عن الله ورسوله وطريق المؤمنين، قربوا من الشيطان فيطيرون في الهواء والشيطان طار بهم، ومنهم من يصرع الحاضرين وشياطينه صرعتهم، ومنهم من يحضر طعاماً وإداماً وملأ الإبريق ماء من الهوى والشياطين فعلت ذلك، فيحسب الجاهلون أن هذه كرامات أولياء الله المتقين، وإنما هي من جنس أحوال السحرة والكهنة وأمثالهم، ومن لم يميز بين الأحوال الرحمانية والنفسانية، اشتبه عليه الحق بالباطل، ومن لم ينّور الله قلبه بحقائق الإيمان وإتباع القرآن، لم يعرف طريق المحق من المبطل، والتبس عليه الأمر والحال كما التبس على الناس(37/108)
حال مسيلمة صاحب اليمامة وغيره من الكذابين في زعمهم أنهم أنبياء وإنما هم كذابون، وقد قال عليه الصلاة والسلام :( لا تقوم الساعة حتى يكون فيكم ثلاثون دجالون كذّابون كلهم يزعم انه رسول الله )(1)
وأعظم الدجاجلة فتنه الدجّال الكبير، الذي يقتله عيسى بن مريم، فإنه ما خلق الله من لدن آدم إلى قيام الساعة أعظم من فتنته وأمر المسلمين أن يستعيذوا من فتنته في صلاتهم، وقد ثبت انه يقول للسماء: أمطري فتمطر وللأرض: أنبتي فتنبت، وانه يقتل رجلاً مؤمناً، ثم يقول له : قم فيقوم فيقول: أنا ربك فيقول له: كذبت بل أنت الأعور الكذّاب الذي أخبرنا عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والله ما ازددت فيك إلا بصيرة، فيقتله مرتين فيريد أن يقتله في الثالثة، فلا يسلطه الله عليه وهو يدّعى الألوهية، فهذا هو الدجّال الكبير، ودونه دجاجة منهم من يدّعى النبوة، ومنهم من يكذب بغير ادعاء النبوة كما قال ( يكون في آخر الزمان دجالون كذابون، يحدثونكم بما لم تسمعوا انتم ولا آباؤكم فإياكم، وإياهم ) .
قلت: وللأسف أن هذا الكلام، لا نفع له في الجزيرة، وما سبب ذلك إلا الجهل المستحكم في عقول الناس، بل المحاط من قبل مشايخ النقشبندية، فهم يسعون جهدهم في ترسيخ الاعتقاد بالأغواث والأقطاب والخضر وإلياس، لاسيما الخزنوي الذي يخرّج كل سنة مجموعة من دعاته ينافحون بكل قوة عن هذه العقيدة بل يعضدوها بقصص مكذوبة، وهرطقات منحولة، ولهذا يخرج علينا كل بضع سنين رجل يدّعي أنه رأى الخضر، وعلّمه أو بارك له أرضه أو حوض ماءه، وأودع فيه من البركة والمنفعة ما لا يعلم به إلا الله، لاسيما تلك الأمراض التي عجز العلم الحديث عن علاجها. بل إن نوري الدير شوي يدافع عن الأغواث والأقطاب(2)
__________
(1) البخاري:3340، مسلم:5205، الترمذي:2144.
(2) ردود على شبهات السلفية :ص111وما بعدها .(37/109)
ويثبت أنهم يجتمعون في غار حراء كل فترة ويرأس الجلسة الغوث، ويدافع دفاع المستميت عن جواز الاستغاثة(1) بالمشايخ،وهذا يعتبره البعض من العلماء، والذي يقرأ كتابه يكتشف أن الجهل المركب الذي يعاني منه، مصيبة كبيرة لاسيما إذا قرن بالتعصب وتقديس الآباء والأجداد، وهناك قضية الأسياد الذي ورثوا عن أجدادهم الولاية والكرامة، فهؤلاء لا يستطيع أي فرد أن يقترب من حماهم بنقد أو تجريح بحق أو بغير حق وإلا فالهلاك والدمار له ولأهله وذريته .
* * * *
الفصل الثالث
الكرامات ودورها في إلهاب العاطفة وطمس العقل
إن القلب والعقل من نعم الله على الإنسان، بهما امتاز عن الكائنات بله فضّل وكرّم لما أودع فيه من خصائص تندر عند غيره قال تعالى {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا}(2)
ولكل من القلب والعقل مجاله المرسوم له، ونطاقه الذي لا يمكن تجاوزه، إذا أردنا الحق والصواب. فالقلب باعث ودافع لأننا نعلم علماً بديهياً، كمون العواطف والرغبات فيه، فكل البشر يعمل وعمله مدفوع بعاطفة، أما العقل فدوره توجيه هذه البواعث لما أراد بالسلب أو الإيجاب لا العكس، والعكس يودي إلى فقدان الفائدة، وهي التوازن بين قوى الفكر والعاطفة مما يؤدي إلى اختلال في الفهم والشعور، وما ضاع الحق عند الكثير إلا بسبب من قلبوا هذه المفاهيم رأساً على عقب. والغفلة عن دور العقل في القيادة والتوجيه، كفران للحق وجريمة كبرى ارتكبها كثير من الأجداد المتأخرين، ودفعوا ضريبتها من ذلّ وهوان، ومهادنة للجهل ونكران للحق، وما بعد الحق إلا الضلال المبين .
وما غفل عن دور العقل إلا الصوفية ، بل سعوا جهدهم إلى طمسه وإلغائه .
__________
(1) المصدر السابق :ص256وما بعدها.
(2) الإسراء (70)(37/110)
لقد أخطئوا بل عصوا الله ورسوله، حينما أعطوا العاطفة كل اهتمامهم ونسوا وتناسوا التوازن بين الروح والجسد. نجد أن أعمال الصوفية قلبية روحية تنطوي على الغيبيات واللا معقول. فبمجرد الدخول في الطريقة الصوفية تتحول حياة الداخل إلى كرامات ومعاجز للشيخ، فإذا مرض لا يفسر بجرثومة غريبة دخلت الجسم، وإنما هناك أسباب غريبة، أعيت العلم الحديث عن تفسيرها، وهي على حسب درجة السالك على يد الشيخ، فقد يفسّر بغضب الشيخ، كما يفسّر الشفاء بالرضا ؟! فمن أراد الشفاء فلينظر مواضع الرضا والغضب. وإلا فإن الشيخ يريد الابتلاء والامتحان .
فلابد عند ذلك من التوجه إلى الشيخ بإخلاص، ودعائه بقلبه ولسانه: أن يكون أهلاً للابتلاء لا أن يشفيه فهذا سوء أدب .
وإن رزق مالاً فالشيخ فتح له شيئاً من خزائنه، أو افتقر فالشيخ يريد تمحيص قلبه من الدنيا. حتى أنه إذا رزق ولداً، فلابد أن يعتبر السالك الحقيقي أن الولد وهبة من الشيخ ، وهكذا إلى ما هنالك من أمور الحياة ومشاكلها .
فالذي لا يعتقد بهذا فلن يصل، وإن صلّى وصام وذكر الله كثيراً !؟
والأدلة التي تسند هذا الاعتقاد المريض، هي الكرامات التي يرويها بعض الكذّابين والمهووسين والحشاشين والمرتزقة، أو نقلاً عن رجل مات ورؤى في المنام .
من ذلك تلك القصص التي لا يعرف أصحابها، وتروى في كل حين لاسيما عند دخول الجدد في الطريقة ومنها: رجل أصيب في معدته أو كبده وأعيا الأطباء شفاءه، فدخل في الطريقة فشفي مباشرة، أو بعد عملية مناميه، يرى الشيخ يحمل حقيبة، فيها أدوات الجراحة ويشقّ بطنه ويزيل علّته، ويبقى أثر الجراحة بعد أن يستيقظ !؟
والشيخ عند الخزنوية عالم بكل الاختصاصات حتى القيصرية، فكثيراً ما جاء إلى نساء الأتباع المخلصين حصراً، فأجرى لهن عملية ناجحة، حتى أنه يولّد أحياناً ؟!(37/111)
بل إنه عالج كثير من حالات العقم، فكثيراً ما يروى عن مجهول أنه تاب فأنجبت زوجته غلاماً هكذا دون سابق عهد، ولا عجب فالشيخ يهب لمن يشاء إناثاً ويهب من شاء الذكور ويجعل من يشاء عقيماً .
بل قد يتدخّل الشيخ في الحياة والموت، بل لا يجوز لملك الموت سلب روح المريد إن لم يأذن له الشيخ، وإن أخطأ ملك الموت يوماً، استرد الشيخ روح مريده وليفعل ملك الموت ما يشاء ؟؟
والأدهى من ذلك ضمان المريد الجنة ما دام أنه مات على محبة الشيخ مهما فعل فإن من أهمّ المعتقدات عند الخزنوية، حضور الشيخ المريد عند الوفاة، ولا يموت إلا على الإيمان، بل هناك روايات أن الشيخ حضر وفاة رجل زاره مرة واحدة في عمره ولم يدخل طريقته، ولكنه لم ينكر على الشيخ، فلما أخذته السكرات غار الشيخ على من جالسه لحظة واحدة أن يموت على غير الإيمان .
بل جاء في كتاب العقيدة المقرر للسنة الرابعة في المعهد، قصة محي الدين بن عربي حينما كان يصلي وضرب برجله في الهواء، ولما سئل بعد الصلاة عن السبب قال لقد حضرت فخر الدين الرازي الوفاة واحتوشه الشيطان، وأخذ يفنّد له أدلته على وجود الله، فلما نفدت الأدلة خشيت عليه من الموت على غير الإيمان، فقلت له قل عرفت الله بغير دليل، وضربت الشيطان برجلي(1) فهذا كتاب العقيدة لطلاب العلم الشرعي فما بالك بالصوفية الذين ينكرون العلم ويسمّوه قشوراً وظاهراً .
بل إن هناك روايات عن يوم القيامة، أن الشيخ يحمل مردائه بصندوق صغير إلى الجنّة مباشرةً ويجنبهم المشي على الصراط ؟!
__________
(1) شرح الصاوي على جوهرة التوحيد –ص51.(37/112)
بل إن بعضهم روّج لعقائد الباطنية التي تؤمن بالتناسخ. فهناك روايات عن صينيين وأفارقة يأتون إلى تل معروف –قرية الشيخ – يخبروهم أن الخزنوي عندهم أيضاً وروايات عن جهاد الخزنوي في أفغانستان، فلا تعجب أيها المسلم الغيور فآباء الشيخ وأعمامه، اشتركوا في حرب النكسة وتشرين، منهم بالطائرات ومنهم بالدبابات، وساحة المعركة في مصر، والشيخ قابع بين أحضان زوجته .
وقد سمعت من الكثيرين، أنهم اشتركوا في حرب الخليج الثانية، ولكن العجيب أن أمريكا وإسرائيل تزداد انتصاراً وقوة، فهل المشايخ هم من يقفون وراء انتصارهم وهزائمنا ؟ هذا ما لم يذكره هؤلاء المجانين .
وبعض هؤلاء روى لي أنه شاهد بالكشف شيخه مع أكبر الضباط في البلد ومنهم من يقول: أخذ الطريقة على يد الشيخ ؟ هكذا المهم أن يقفز على الممكن بأي طريقة ويتعامل مع المستحيل مباشرةً .
وهذا ليس بمستغرب، فالذي يتكاسل عن الأخذ بالأسباب، ولا يستطيع تحقيق النصر لأماله يلجأ إلى الوهم والأماني والأحلام، بله إلى الأكاذيب والخرافات وإضفاء الصبغة الدينية عليها علّها تصدّق وتروّج .
ومن ثمّ أصبحت هذه الكرامات المكذوبة، الأدلة الدامغة على صدق الخزنوية وصحة طريقتهم وفضلهم على باقي الطرق .(37/113)
والذي يتتبع تلك الكرامات وناقليها، يجد تدخّل المشايخ الواضح في نسجها وتقريرهم لها والسعي إلى ترويجها. وهذا ما كان يفعله الصوفية الأوائل، أورد الذهبي في كتابه سير أعلام النبلاء قصة للحلاج تدل على خبث هذا الرجل وبعد نظره ، وإليك نصها : إن الحلاج كان قد أنفذ أحد أصحابه إلى بلاد الجبل ووافقه على حيلة يعملها ، فسافر وأقام عندهم سنين، يظهر النسك والعبادة، وإقراء القرآن والصوم، حتى إذا علم أنه قد تمكن، أظهر أنه قد عمي فكان يقاد إلى المسجد ويتعامى شهوراً، ثم أظهر أنه قد زمن، فكان يحمل إلى المسجد حتى مضت سنة على ذلك، وتقرر في النفوس زمانته وعماه، فقال لهم بعد ذلك: رأيت في النوم كأن النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول لي: إنه يطرق هذا البلد عبد مجاب الدعوة تعافى على يده، فاطلبوا لي كل من يجتاز من الفقراء، فلعلّ الله أن أعافى فتعلّقت النفوس بذلك العبد، ومضى الأجل الذي بينه وبين الحلاج، فقدم البلد ولبس الصوف وعكف في الجامع، فتنبّهوا له وأخبروا الأعمى فقال: احملوني إليه فلما حصل عنده وعلم أنه الحلاج قال: يا عبد الله إني رأيت مناماً، وقصه عليه فقال: من أنا وما محلي، ثم أخذ يعدو له ومسح يده عليه، فقام المتزامن صحيحاً بصيراً فانقلب البلد وازدحموا على الحلاج، فتركهم وسافر وأقام المعافى شهوراً ثم قال لهم: إن من حق الله عندي ورده جوارحي علي، أن أنفرد بالعبادة وأن أقيم في الثغر وأنا أستودعكم الله فأعطاه هذا ألف درهم، وقال : اغز بها عني وأعطاه هذا مائة دينار وقال: اخرج بها في غزوة وأعطاه هذا مالاً وهذا مالاً حتى اجتمع له ألوف دنانير ودراهم ، فلحق بالحلاج وقاسمه عليها.(37/114)
وهذا ما يحصل في كثير من الأحيان عند الخزنوية، ولكن بغير هذه الصور فمثلاً جاء غرباء وقالوا: رأينا الشيخ الخزنوي في المنام وقال لنا : تعالوا إلى قريتي. وعندما يأتي الخزنوي يصيح فيهم : هذا ليس أنا، ومن أنا ؟ هذا الشيخ الوالد (1).
وتواضع الشيخ كتواضع الحلاج في القصة السابقة، يزيد الناس عقيدة فيه ويزيد أتباعه تمسكاً وحباً. ولولا الإطالة لسردنا مئات القصص التي يتحدث بها أتباع الخزنوي عن كرامات شيخهم، بل إن اليوم الواحد في حياة الشيخ الخزنوي، ليطوي مئات الكرامات الجائزة والمستحيلة، ففي نومه كرامة، وفي استيقاظه كرامة، في أكله وشربه في ذهابه وإيابه، في سفره وحضره، في صحته ومرضه، في رضاه وغضب .
ففي إحدى سفراته غضب، فحوّل شرطي تركي من ذكر إلى أنثى، وما عاد إلى ذكوريته إلا بعد أن تاب على يد الشيخ، وكراماته كلها من هذا القبيل .
وأمّا كرامات الإطّلاع على الغيب فما أكثرها، واكتفي بواحدة يذكرها الخزنوية دائماً في مجلاتهم السنوية، وهي: إعلام الشيخ بعض مريديه بموته، ولكنني بعد دراسة وطول بحث استشفّ منها غير ذلك، فيذكر أبناء الشيخ معصوم أن عمهم الشيخ عزالدين تعرّض للسم مما أودى بحياته، وهذا منقول عن أكثر من شخص، ويذكروا السبب وهو أن الشيخ أراد المصالحة مع أبنه معشوق الذي يبغضه محمد الخزنوي أشدّ البغض، مما حدا بالأخير إلى سمّ والده والله أعلم .
ومما يؤيد ذلك، تلك الرسالة التي بعثها الشيخ لخواصه، للحضور يوم الجمعة وقوله في الرسالة ( من الضروري أن تحضروا عندنا يوم الجمعة لأمر يهمنا جميعاً ) وهذه الرسالة تذكر في المجلات التي تصدر باسم الذكرى السنوية على أنها من أهم الكرامات للشيخ وهي حضور هؤلاء وفاة شيخهم
وهذه من جملة الكذب والدجل لسببين :
__________
(1) إذا أراد هلاك شخص فما عليه إلا أن يتهمه بتهمة سياسية، وكلامه مسموع فهو الرجل الأول في هذا الباب ومن ثمّ يدّعي أتباعه أن من كرامات الشيخ هلاك عدوه.(37/115)
1-هذا من علم الغيب بل من الغيبيات الخمس التي أختص بها الله وفي صحيح البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: [مفاتيح الغيب خمسة لا يعلمها إلا الله: لا يعلم ما تغيض الأرحام إلا الله، ولا يعلم ما في غد إلا الله، ولا يعلم متى يأتي المطر أحد إلا الله، ولا تدري نفس بأي أرض تموت إلا الله ولا يعلم متى تقوم الساعة إلا الله]. وهذا الحديث يقرر قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}(1)
2- إذا سلّمنا أن الشيخ عرف يوم وفاته بأربع أيام، فلماذا لم يرسل لأولاده أفلاذ كبده وأقرباءه، وكلنا يعلم إن من يشعر بدنو أجله يتمنى رؤية أهله قبل كل شيء بل إنه أرسل ابنه محمد الذي لا يفارقه، إلى أقصى مكان وهي قرية الشيخ ؟!
* * * *
من كرامات قدماء الصوفية
وهذه مقتطفات نقلتها من كتب شتى، من عجائب الصوفية التي تجاوزت العقل والنقل، وهي إن دلت، فإنما تدل على قمة الجهل، الذي وصل إليه كاتب تلك الكرامات، فمنها البسط الزماني(2): ذكر الشاه الفراهي أنه كان ساكنا يوما كالمراقب وبعد ساعة رفع رأسه، وقال لأصحابه: قد بسط لي الزمان في هذه الساعة ثمانين سنة، وعمرت فيها ذلك المقدار، وعملت فيها عمل ثمانين سنة!!، وسئل الشيخ هل يثيب على ذلك العمل ؟ فقال: نعم، وذكر قصة الرجل الذي اغتسل في الشط، وفيها أنه أدخل رأسه في الماء، فرأى أنه في مكان آخر، فخرج من الماء وبسط له الزمان وتزوج وأنجب، ثم اغتسل مرة أخرى ، وإذ به في مكانه الأول .
__________
(1) لقمان (34)
(2) كتاب الكلمات القدسية :منحة 130.(37/116)
ولقد حدثني بعض الإخوة : أن الدكتور البوطي ذكر قصة تشابه تلك، فإن كان الحديث صحيحاً، فيا للعلم والمنطق، وكأنه ما قرأ عقيدة الأشعرية التي تقول: أن القدرة لا تتعلق بالمستحيل، أم أنه اعتبرها من الممكنات، وكأنه ما قرأ المنطق الذي يمنع اجتماع الضدين ومنه أن يكون الشخص في مكانيين في زمن واحد أو العكس.
وأقرأ هذه الكرامة التي تتدخّل في ملكوت الباري عز وجل، وتجري تعديل على حكم الله وكأنها تقول: إن هذا الحكم خطأ.(1) وهي ما قاله الخاني من أن الشيخ عبيد الله أحرار مرض، فقال له الشيخ قاسم: إني فديتك بنفسي، فقال الشيخ عبيد الله: لا تفعل هكذا، فإن المتعلقين بك كثيرون، وأنت رجل شاب، فقال الشيخ قاسم: ما جئتك مستشيراً في هذا الأمر بل قررته في نفسي وصممت عليه، وجئتك وقد قبل الله مني ذلك !! ففي اليوم الثاني انتقل مرض الشيخ عبيد الله إلى الشيخ قاسم، وبرئ الشيخ عبيد الله من المرض تماماً فلم يعد بحاجة إلى طبيب.
وهذا التخريف لا يزال موجوداً عند الخزنوي، فما أسهل عند الأتباع نقل الأمراض من شخص لأخر، بل إن أحدهم إذا كان في مجلس صحبة الشيخ(2)، واحتاج لبيت الخلاء، وللأنوار التي في المجلس لا يستطيع القيام، فما عليه إلا أن يحّول البول والغائط إلى شخص أخر، فماأسرع ما يقوم ذاك المتعوس إلى بيت الخلاء ولا أدري لماذا لا يحوّلوه إلى الغوث الذي هم بذكره ؟!
فالغوث كما ذكروا يحمل أثقال الأتباع وألآمهم، وهي من بعض كراماته وإليك الدليل(3): من كرامات التاغي أنه كان يجتمع بأبداله كل جمعة مرتين، يخدمونه وهو يحمل أثقالهم وأمراضهم، حتى أنه قال: كثيرًا ما كنا نذهب بأمره لمواقع بعيدة بالابدالية فيقع رجلنا بحجر فلما جئنا إذا الدم يسيل من رجله .
ومن الكرامات التي دونت ما يصلح قصص ممتعة للأطفال ومنها:
__________
(1) جامع كرامات الأولياء ج2ص236-237—الأنوار القدسية ص177.
(2) يراجع فصل ما يحدث في المعهد (84) .
(3) المصدر السابق ص97(37/117)
ذكر قصة خواجة أحرار وسعد الدين الكاشغري حين تفرجا على ميدان مصارعة ورأيا فيه متصارعين فقال أحدهما للآخر: نعطي الهمة لفلان وننظر ماذا يكون فلما أعطياه صرع صاحبه بلا توقف ثم منحاها صاحبه فانعكس الأمر، وكان أحدهما ظعيفاً والأخر قويا، وكلما اهتما بالظعيف صرع القوي، والناس يتعجبون لعدم علمهم بالسبب(1).
قلت : الهمة كما يزعمون، هي القوة الخارقة التي يمتلكها الولي بحيث لو سلّطها على العالم لأهلكه، وكثيراً ما شاركت همم الصوفية في الحروب، ولكن العجيب أنهم لا يأبهون بالجهاد وحتى لو اضطروا له خلقوا أعذاراً شنيعة .
خرج شيخنا مع جم غفير من المتطوعة مدداً للمجاهدين ضد الغزاة الروس فلما قارب بلدة (وان) رجع بمن معه لما كوشف بأن أمر الفريقين يستتب بالمصالحة قبل انتهائه إليهم وكان كما كوشف (2).
* * * *
الفصل الرابع : الخزنوية والجهاد
لم أرى عداوة متجّذرة حتى النخاع، أكثر من عداوة الصوفية للجهاد، ولذلك ما سمعنا بصوفي مجاهد إلا ما ندر، هناك صوفي فيلسوف، وهناك صوفي مغني أو ملحد ماجن، هناك صوفي اتحادي إباحي، أما مجاهد فلا .
ولذلك غلبت النزعة الجبرية والسلبية على أكثرهم، مما أثّر في تفكير عامة المسلمين ، وجعلهم يعتقدون أن الإنسان مسير لا مخير، وأن لا فائدة من مقاومة الفساد ومحاربة الباطل، لأن الله أقام العباد فيما أراد " وشاع بينهم هذا القول: دع الملك للمالك ، واترك الخلق للخالق". وهذا أدى إلى تغليب الروح الانهزامية أو الإنسحابية في حياة جمهور المسلمين .
بل إنه مسخ الشخصية العربية ، التي من خصائصها إباء الضيم والخسف، وتفضيل الموت على الذل ومن رضي بالذل فحقه أن يلحق بالبهائم والجمادات
ولا يقيم على ذل يسام به ... إلا الأذلان عير الحي والوتد
هذا على الخسف مربوط برمته ... وذا يشج فلا يرثي له أحد
__________
(1) الكلم ات القدسية :منحة 157
(2) المصدر السابق : منحة 182(37/118)
أما الصوفية فجاءوا بفلسفة جديدة، تحبب للناس الذل باسم التواضع، والمهانة باسم الرضا بالقدر فقالوا:
وكن أرضاً لينبت فيك ورد ... فإن الورد منبته التراب
واستعبدوا الناس باسم التربية ، فحوّلوهم إلى عبيد والعبد لا يحسن الكرّ والفرّ .
والخزنوية من أولئك الذين حطّموا شخصية الإنسان العربي في الجزيرة، فأحمد الخزنوي عاش كل حياته في فترة الاحتلال الفرنسي لسوريا، فما قاوم لا بالسلاح ولا بالقلم ولا باللسان ، وعلى هذا سار أنجاله معتمدين على آيتين من أبيهم ( لا نتدخل في السياسة ولا نجمع أموال الناس ) أما عدم جمع أموال الناس فهو كذب صريح، و أمّا عدم التدخل في السياسة ، فهو الحق الذي لم يحد عنه القدماء ولا المحدثين ، ولشدة تمسّكهم بهذه القاعدة، درجوا تحتها كثير من الجزئيات التي لم تكن فيها، فالجهاد سياسة والحديث عنه سياسة، حتى قراءة آيات الجهاد سياسة الحديث عن المجاهدين كالحديث عن الشياطين ، بل الدعاء لهم ممنوع عند الخزنوية فما سمعت يوماً أن الخزنوية دعوا للمجاهدين الأفغان أيام السوفييت، ولا لأهل البوسنة والهرسك ولا للشيشان .(37/119)
حتى أنه في حرب العراق، شارك الكثير من أهل الجزيرة في الجهاد، باستثناء أتباع الخزنوية بل إن الشيخ بهمهتة الخادعة، ثبّط الكثير من أتباعه الذين ثارت في نفوسهم أثارة من حميّة. استطاع هؤلاء تفريغ الجهاد من معناه، فالجهاد عند الخزنوية إذا أطلق فلا يراد منه غير جهاد النفس ، ويستندون إلى حديث الجهاد الأكبر والأصغر وهذا الحديث لا أصل له(1) وإن سلّمنا جدلاً بصحته ، فهو لا يعني ترك جهاد الأعداء كما يفهم الصوفية، ولا يعني ترك الجهاد بالمال واللسان، أو على القليل الدعاء للمجاهدين ولا أعلم بدعة شر من مقولة "لا سياسة في الدين ولا دين في السياسة" وهذه المقولة قيلت منذ زمن بعيد، وزوّرت ظلما على المسيح حيث قال: (دع ما لقيصر لقيصر وما لله لله ) أما نحن المسلمون، فقيصر وماله كله لله، ويخضح لمنهج الله بل إن أفضل الجهاد كلمة حق يجابه بها قيصر وأزلامه.
وكيف يطبق المسلم الشريعة على وجهها، إن خرج من هذه الساحة التي تشمل حياته كلها ؟ والشريعة تتدخل بكل كبيرة وصغيرة، تتدخل في أكله وشربه ، نومه ويقظته، سفره وحضره حربه وسلمه، علاقته بأسرته ومجتمعه، وإذا كان إبداء الرأي في المجتمعات المتحضرة، مسألة شخصية وحرية فردية ، وترف فكري لك الحق في السكوت أو الاعتراض، فهذا شأنهم ، أما نحن المسلمون فالتفكير واجب والسعي إلى تغيير المنكر فرض على كل مسلم .
* * * *
الفصل الخامس
الخزنوية وعالم النساء
للخزنوية تاريخ حافل في باب النساء، ويبدأ هذا التاريخ بكيفية زواج الشيخ أحمد الجد الكبير للعائلة، حيث أختطف زوجته رغماً عن أهلها، وهي أم المشايخ الذين أتوا بعده، وهذا أول المخالفات الشرعية، إن لم يعد في باب الكبائر وتذكر الروايات : أنه تم العقد الشرعي، بعد رضوخ أهل الفتاة لرغبة الخاطف والمخطوفة .
__________
(1) "الأسرار المرفوعة" (211) . "تذكرة الموضوعات" للفتني (191).(37/120)
ومن تدابير القدر أن يرزق الشيخ أحمد ببنت، وتصبو نفسها إلى أحد الطلبة ولكن يرفض أل الخزنوي ارتباطها به، فيلجأ الطالب إلى سنة أستاذه بخطف معشوقته وتبقى أياماً إلا أن أخيها الكبير الشيخ معصوم، يرفض هذا ويعيد أخته إلى بيت أبيها، ويزوجوها لابن عمها وهذا الرفض يعتبر البداية لرؤية آل الخزنوية لأنفسهم ولمنزلتهم التي لا تدانى ، هذا من ناحية ومن ناحية أخرى، كي لا يعطى الميراث للأجانب عن العائلة المقدسة، وهذا ما أثبته الشيخ عز الدين الخزنوي بعد وفاة أخويه معصوم وعلاء الدين. حيث أجبر بنات أخويه على الزواج من أبناء عمومتهن كما أجبر بناته على الزواج من أبناء أخويه ، ولكن بعد توتّر علاقته مع أبناء أخيه، لم يزوج ابنته الصغيرة من هؤلاء، ولم يختر لها الدين والخلق أو العلم، وإنما أختار لها العنصرية والمال الذي يقدًسه ؟ حيث زوجها لأحد أغنياء الأكراد في تركيا، بينما كان لها من الأكفاء من طلبته الكثير، ولكنهم من العرب الفقراء أومن خدمه وعبيده ، والعبد لا يكافئ الحرة، ولا زلت أذكر مظاهرة بعض الطلبة لذاك الزواج ولكن كانت زوبعة في فنجان، وأنّا للعبيد والخدم العصيان ؟؟
كما أن الشيخ ودّع حياته المليئة بالعنصرية البغيضة، بتوزيع حفيداته على أحفاده بالسوية العادلة ورفض طلب أحد أحفاده من الزواج من فتاة أحبها ، كانت تخدم أمه بقوله :كيف ترضى الزواج من خادمتك ؟؟(37/121)
إذاً على هذه الخلفية التاريخية لموضوع النساء عند الخزنوية، نقرأ تاريخ العائلة الحالي يبدأ الشبق الجنسي من رأس الهرم في العائلة، وهو محمد الخزنوي، هذا الرجل الذي يملك تاريخاً غير مشرف، منذ نعومة أظفاره وحتى الآن، ففي مراهقته اعتدى على فتاة من أهل القرية فأحبلها فغضب عمه علاء الدين وأراد عقابه ولكن والده عز الدين اعترض، بحجّة الشريعة التي تطالبه بأربع شهود، فلم يعاقب الولد المدلل وحدث شرخ بين الأخوين لهذا السبب، حتى أنه حينما توفي علاء الدين لم يكن معه بل كان مغاضباً لأخيه. إذاً كانت هذه القصة باكورة معاصي محمد الخزنوي ومنها كان منطلقه، فما دخلت فتاة على قصر والده إلا عبث بها، حتى قريباته فقد سمعت عن بعضهن أنهن كن في غاية الخوف منه ، لما يرينه من شدّة شبقه وقلّة دينه وضميره ثم تحوّل إلى إغواء نساء المريدين فكان يختلف إلى بيت إحداهن بعد مغادرة زوجها إلى خدمة عتبة والده المقدسة ويرافقه في الخيانة ابن عمه ، حتى أنه روى للناس مرة عن شدة شهوة محمد الخزنوي في تلك الأيام فقال كنت أحاول سحبه من فوق تلك المرأة بقوة فلا يتحرك؟ ثم استفحل أمره وأصبح يتقلب من حضن إلى حضن، وينوّع فمن غجرية إلى كردية ومن بدوية إلى حضرية ، ولم تكن أرض حلب الشهباء قد فتحت ولا أنوار النقشبندية لاحت عليها بعد ثم أغوى زوجة ابن عمه، فكانت نعم الخليلة، فقد حدثني صديق لي بعد اعتزاله الخزنوية وكان من المتزمتين والمحبين له، قال : ركبت معه في السيارة ، ودخلنا المدينة فأوقف سيارته عند مدخل بيت وقال لي : انزل وأطرق الباب، فإن تكلمت امرأة فقل : محمد يقول ردوا على الهاتف، وفعلاً كان ما قال . وقصصه المشينة لا تعدّ ولكن نكتفي ببعضها، لاسيما تلك التي تنطوي على قمة الخبث والخديعة والدناءة وقلّة الضمير بل عدمه... أما الزنا فذنب من الذنوب قد يضعف أمامه الإنسان، أما بهذا المستوى القبيح وبهذا الأسلوب الرخيص الذي يندى له الجبين(37/122)
فلا .
* * * *
قصة منجي التونسي
هذا الشاب الطيب جاء من تونس زائراً و سرعان ما تلقته أيدي دعاة الخزنوية الكذّابين، فأتوا به إلى شيخهم وأدخلوه في الطريقة، فأحبهم وبقي عندهم سنتين أو أكثر، غادر بعدها إلى تونس، ثم عاد ومعه خطيبته الجميلة التي جاء بها لتتبرك ببيت الشيخ قبل الزواج، وما درى أنه أتى بالشاة إلى جزارها، وما درى أنه ألقى صيداً سميناً في واد ليس فيه إلا الذئاب و الضباع .
ودخلت القصر ورآها الضبع اللئيم، وسال لعابه فما جرّب بعد الظباء المغربية فكيف يحتال لها وما أسرع ما انقدح في ذهنه حيلة ومكيدة خسيسة .
ابلغ الأجهزة الأمنية عن تهمة أمنية وألصقها بمنجي، اعتقل على أثرها، واختفى أثره وانقطعت أخباره، بقيت خطيبته وحيدة لا قريب ولا معيل، فقام صاحب الشهامة والنبل محمد الخزنوي وسافر بها إلى الشام ليوصلها إلى قريبها، أو يرسلها إلى تونس ولكنه هناك أغراها واستمالها وبقيت تحته سنين ، أنجبت منه طفلة ماتت في ظروف غامضة، أما خطيبها فقد خرج بعد سنين ولكن على أن لا يدخل البلد مرة ثانية .
ومرّت سنين وفتحت بلد الحور العين، ونيط عن سوق الجواري اللثام، فتحت مدينة حلب وضرب القواد الكذّاب ملا علي الأسود أطنابه فيها، وأخذ يرسل ما يستحسنه من الجواري والغلمان إلى بيت الشيخ ، ينتقي محمد الخزنوي منهن ما شاء ، وما بقي إن كانت جميلة وناعمة تبقى مدة تخدم نساء الشيخ ، ونساء أبنائه ومن هنا وهناك يسرق الأحفاد النظرات وبعض القبل منهن ، أما الغلمان فهي لهم خاصة ، ثم إن الشيخ لديه اهتمام عظيم بتزويج مريديه من مريداته ، أو عشيقاته إن صح التعبير ، ولكن لا يزوّج الجميلات جداً إلا من المغفلين جداً، وهذا كان يردّ علمه إلى الشيخ وحده فهو أعلم بحكمته ومراده ، ولكن بعد فضيحته الكبرى مع خديجة، تبين أن السبب هو لتخلص الجميلة له وحده .
* * * *
الفضيحة الكبرى(37/123)
دخل شاب جميل اسمه نديم العقاد في الطريقة ومعه أهله فاحتضنوه واحتضنوا أهله وما درى المسكين ما يخبئ له الخزنوية من نوايا خبيثة .
جعل هذا الشاب مشرفاً ومسئولاً عن مسجد النساء، وهي مرتبة لا تعطى لكل الناس وكعادة أي مريد صادق أن يجلب أهله لبيت الشيخ حتى يتبركوا ويستفيدوا فكان على رأس القادمين خديجة أخت نديم، فتاة مكتنزة الجسم فاتنة المحاسن أغواها محمد الخزنوي، وعبث بها، وكعادته في كل مريدة يزني بها وتكون بكراً يزوجها لأحد مردائه المخلصين، ولكن هذه الفتاة وجد منها تجاوباً أكثر من غيرها وقد أوتيت الحسن فزوجها لمريد له، ما أشبهه بالرجال، شخص ضعيف البنية ، نصف أهبل و اسمه بكري واختاره أهبل حتى لا يعترض على زوجته مهما فعلت، وضعف البنية حتى تكون زوجته خالصة لمحمد الخزنوي، فهو يكره الشرك في هذا الباب .
أصبحت هذه المرأة ملازمة للشيخ، تذهب معه حيثما حلّ وارتحل(1) بحجة أنها تخدم أهله ، ولا يجوز أن يعترض أحد، فالشيخ لا يسأل عما يفعل، حتى أن نديم العقاد درس الشريعة، ولكنه لا يفقه ولا يعي، حظر الشريعة لهذا السفر الغير مبرر .
مضت سنون وأصبحت خديجة، سكرتيرة الشيخ الخاصة بالنساء القادمات من شتى النواحي تحمل في يدها جدولاً بأسماء المريدات الموجودات للدراسة على زعمهم في هذا الجدول الأسماء والصفات الخارجية والداخلية إن أمكن، حجم العين واللون الطول والرشاقة، حجم الصدر واكتنازها، نسبة الجمال فيها على الإجمال ولعشرة السكرتيرة الطويلة مع مديرها، أصبحت ذات خبرة عالية في مقياس الجمال عند الشيخ .
* * * *
كيف افتضح أمره
__________
(1) حين يسافر داخل سوريا وخارجها ، لاسيما إلى تركية ،وهناك أيضاً زوجة عادل قباقبجي التي لديها جواز سفر كخديجة ولكن زوجها اعترض بعض الشيء فأنبّه الشيخ وشنّع عليه بل شنّ عليه حرباً شعواء ، بقيادة قوّاده العظيم ملا علي الأسود ، ولا زلت أذكر حينما قال له : يجب أن تضع حذائها فوق رأسك ؟!(37/124)
لدى محمد الخزنوي فتاة اسمها متمنى هذه الفتاة ذكية نوعاً ما ، وتدرك الأمور على ما يبدو كانت ترافق أبيها أحياناً، وهذا ليس من باب الحنان الأبوي ، وإنما يجعل من ابنته ربيطة للصيد وحجة دامغة لرفقة العشيقات معه، وليخلو له المكان ، فكان يصطحبها أكثر مما يصطحب زوجتيه .
في إحدى الليالي الحمراء مع خديجة، ترى الفتاة أبيها ذاك المقدس عندها، وقد افترش الخنا وادثر بالخيانة، وبرز أمام ناظريها وقد تجرد ولكن ليس من الدنيا، وإنما من ثيابه تلك الثياب التي كانت تستر ضبعاً لئيماً، قبل قليل قبّلت يده التي كانت مباركة، لتنام ملئ جفونها، فقد حصّنت نفسها من الهواجس وأخذت حرزاً عظيماً من الشيطان فأبيها هو الغوث المعظّم وقطب الأرض الذي لا يرام حماه .
ما وضعت جبينها على الوسادة حتى سمعت صوتاً مشبوهاً، وهمهمة ليست غريبة على مسامعها وتقوم لترى ذاك المشهد القبيح لأبيها ومع من؟ مع أخت من يخدمه ويفديه بالمال، والنفس آلا سحقاً للخائنين. صدمت الفتاة بأبيها، وعلمت سرّ اهتمام الشيخ بمرافقة خديجة لها .
وما إن رجعت إلى بيتها حتى أخبرت نديم بما جرى بينه وبين أخته، ونديم في الفترة الأخيرة أخذت تنتابه الهواجس ، فزوجته تشتكي من تصرّفات الشيخ معها، فكثيراً ما يغازلها على الهاتف ، ويراودها عن نفسها ، ولكن كان يقال إنه امتحان من الشيخ وأما وقد وضح الصبح لذي عينين ، فأحتمل حوائجه وسافر إلى حلب وهناك سجّل أشرطة للشيخ مع أخته خديجة وتكشف هذه الأشرطة قمة اللؤم والخيانة لمحمد الخزنوي، و مدى الشبق الجنسي المستحكم في داخله .
وانتشر الخبر وسمع جلاوزة الخزنوي تهم نديم لشيخهم المقدس، فما كان منهم إلا أن هجموا بالسكاكين على بيت نديم وصهره علي سلمو وما خرجوا إلا بعد شعورهم أنهم قضوا عليهما ولكن شاء الله أن يعيشا، ثم تدخلت الدولة، وأغلقت الموضوع بعد فترة من الزمن .(37/125)
كشفت خديجة كثيراً من الأسرار التي طوتها يد الخزنوي عن الأنظار، فمثلاً تعليمها للنساء كيفية معاملة الغوث الأعظم، وهذا الغوث يسمح له كل شيء، ولا يعترض عليه لاسيما حين يريد إزالة الحجاب بينها وبين الله كما يزعم، وهذا الحجاب هو حجاب الشهوة ولا تزال الشهوة إلا بالشهوة، وكشفت أيضاً زنا الخزنوي بنساء حلب الجميلات المتزوجات بحيل منها : يعطي المرأة ماء لتتبرّك به وفيه مخدر، وعندما تتخدّر المرأة يجردها من ثيابها ويزني بها، ثم يصورها عارية، فإذا فاقت من المخدّر هددها بالصورة، ثم يزني بها مرة أخرى وقد اعترفت بعض النساء لأزواجهم بهذا العمل، ولكن أسكتهم خوف الفضيحة وعدم جدواها، فالرجل يده طائلة كما يقولون ، وعديم الضمير .
أما الخزنوي بعد هذه الفضيحة، فما زعزعته وما حركت له ساكن بل زادته ضراوة وشبق وقد حاول مع أخت أحد الطلبة، وهي من عائلة بازر باشا وكانت محاولة فاشلة علىحد زعم أهل الفتاة ، زعموا أنه أمرها بالتجرد من ثيابها ليحصل لها النور والوصول، ولكنها خافت وهربت ، والمصيبة أن أبيها قال إن الشيخ اختبرها وامتحنها، ولكنها فشلت في الامتحان .(37/126)
وكذلك قصته مع زوجة عبد الله محمود، وهي قصة تدل على مزيد من الخسّة والنذالة ، فهذا الشاب أرقّه طلب الولد كما أرّق زوجته، وهما من المخلصين للخزنوي ، المطيعين له طاعة عمياء ، وقد حدّثني أحد الأخوة بكل ما جرى قال أمرني الشيخ باللحاق به إلى الشام، ليرسلني إلى طبيب لعل الله يرزقني ولداً والتقينا بالشيخ ، وركبنا معه في السيارة ، وأخذ يجول بنا في شوارع الشام حتى انتصف النهار ، فأمرني أن انزل واشتري له دواءً من الصيدلية، ونزلت وبحثت عن صيدلية، فلم أجد وبقيت فترة لابأس بها، ثم إني رجعت وانطلقنا إلى عيادة الطبيب ولم استفد شيئاً، ثم ركبنا مرّة أخرى معه، فقال لنا : لماذا لا تنامون عندنا فوالدتي موجودة هنا ؟ فقلت برأي الشيخ –بكيف الشيخ- قال : لا بكيف زوجتك فسألتها، فقالت : لن أنام عندهم، وهكذا كرر الشيخ السؤال وكررت زوجتي الإجابة فغضبت منها كيف ترد كلام الشيخ ؟!
حتى أني أردت طلاقها في تلك الساعة، والخلاصة بعد نزولنا من سيارته قالت لي ودمعها يسبق ألفاظها: إن الشيخ راودني عن نفسي، وأراد أن يحتال عليك بالمبيت حتى يخلو بي ، وقال : إن زوجك عقيم، وإن أردت الولد فتعالي معي وسيكون الولد مني، ولما رفضت وقلت له : وكيف وأنت الشيخ ؟ فقال : إنني لا أتأثر بالمعصية، فنقطة البول لا تؤثر بالبحر !! قال : ثم إننا توجهنا إلى حلب وقصدنا بيت الشيخ، وسألنا عن والدته، فقالوا : إنها موجودة هنا، عندها تبين لي كذب الشيخ وصدق زوجتي.
وأما حديثه في أوربا فحديث ذو شجون .(37/127)
فقد سمعت عن أحد خلفاء الشيخ عز الدين الخزنوي أنه قال: أنهم كانوا على علم بعلاقاته المشبوهة منذ زمن طويل، لاسيما في حياة أبيه، وذكر أنه في سفر أبيه الأخير إلى بريطانيا، جاء أحد المخلصين والصادقين إلى أبيه، وقال : لقد رأينا ابنك في أسوء مكان، فغضب الشيخ على ولده، وأراد محو اسمه من الخلافة، ولكنني جئت ومعي أكثر من ملا، وحلفنا للشيخ أن ابنه بريء، مما أرضى عز الدين على ولده، وكان الحلف بالله كذباً وزوراً .
ولا يزال محمد الخزنوي يمارس الزنا، واللعب بأعراض الناس باسم الدين والعلم والتصوف فقد حدثني أحد الأخوة، أنه يجلب كل سنة عشرات النساء الجميلات من تركيا بحجة الدراسة ويضعهن في بيته في حلب ليفرغ لهن، وليخلو له الجو ولا يزال يزوج كل فتاة يفتضها، من أحد طلبته وخدمه البلهاء، ولا يزال يزوج الجميلات المقربات إليه من المجانين والدراويش .
ولا ننسى قصة ذاك الصوفي الكبير، الذي كان قائداً للصوفية الخزنوية في دمشق وهو أبو محمد الشرطي، هذا الرجل اعترف أنه كثيراً ما أخذ فتيات إلى الأطباء ليجهضن بأمر الشيخ والحجة : أنها فتاة أخطأت ولجأت إلى بيت الشيخ ليخلصها من القتل والعار .
* * * *
الفصل السادس
الخزنوية وفنّ الكذب
كثيراً ما كنت اسمع من رجل من المخلصين للخزنوية ، يدعى سيد لطيف أنه قال للشيخ عز الدين : يا سيدي إننا نكذب في حديثنا عنكم أمام الناس، فما هو قولكم فقال الشيخ : قل يا سيد ما بدي لك، فكل ما تقول صحيح على السادات ؟
والمعنى اكذب كما تشاء، فكل كذبة تصدق على مشايخنا ؟
وهذه العبارة هي آية المريدين، التي يسعون في تطبيقها، فما تكلم متكلم إلا وأضاف من مخيلته ما يعجز القلم عن وصفه، من صنوف الكذب والتزوير ولأنهم ينكرون أقوالهم، إذا حوصروا بالحجج ، أثرت أن اثبت كذبهم، عن طريق مجلاتهم التي تصدر كل سنة، باسم الذكرى السنوية وإليك أهمها يبدأ محمد الخزنوي الكذب في بداية الصفحات من الذكرى الثالثة :(37/128)
أحد يدانيك في تقوى وجود يد ... فيك الهدى والندى والفضل لا
أنت الجمال وفيك الحسن أجمعه ... ولن يرى مثل هذا الحسن في أحد
وهذا الكلام عام، والمعنى أن الشيخ الذي قصده، فاق الرسل والصحابة والتابعين بالتقوى والجود ، وكذلك البيت الآخر، ولا يخفى على من أوتي حظاً من العلم مدى الكذب الذي وصل إليه صاحب هذا البيت، بل هناك أبيات شنيعة تدل على سوء طوية وقلة دين، للشاعر إبراهيم الأسود وهاك بعضها:
أواه أواه يا تموز لو عقرت ... بك الليالي رشوت الحظ دينارا
كسفت شمساً بتل معروف طالعة ... كانت تمد نجوم الكون أنوارا
ذهبت منا بمولانا وسيدنا ... يا أنت يالك يا تموز غدارا
إلى أن يصل لوصف محمد الخزنوي :
تضاءل الكون مأخوذاً بهيبته ... وأطرق الدهر إجلالاً وإكبارا
هناك ولد لمحمد الخزنوي، حرق نفسه إثر حبل خادمته ، التي أراد الزواج منها بعد ذلك ولكن أباه رفض، ففضل الانتحار ، والقصة معروفة لدى كل الناس .
بينما يذكر في الذكرى الثانية والثالثة بأنه شهيد، ويصفوه بأوصاف عظيمة، ثم يعيدوا الكذب في الذكرى الرابعة عن كيفية وفاته ( لكن هذا الشاب وافاه القدر حيث انفجرت عليه اسطوانة الغاز وشبت عليه حريقاً، كان فيه أخر حياته وهو في رحلة قام بها، مع بعض مدرسي وطلبة المعهد)لاحظ الكاتب بهذين السطرين، صوّر هذا الشاب، في قمة الأخلاق والتواضع، إذ ما الذي قرب إليه أسطوانة الغاز لولا أنه كان يخدمهم، بإشرافه على الطبخ وهذا من جانب، والجانب الآخر هذه الرحلة الخيالية، مع بعض مدرسي وطلبة المعهد وهذا الشهيد كان متربع على عرش التكبر، ومن اشد المتسلطين بين أبناء المشايخ وأكثر ما كان يحتقر هم طلبة المعهد ومدرسيه، حتى أنه اعتدى على أحد هؤلاء المدرسين ،ولم يكن يرافق إلا أسوء الناس سلوكاً وخلقاً، ثم إن أكثر المدرسين اصطحبهم الشيخ في تضليله للناس في مدينة دير الزور ، وما يسمى زوراً بالإرشاد .(37/129)
في مجلة الذكرى الثامنة(1) ( إن مريدي الشيخ في كل بلد وقرية ومدينة، بل في دول إسلامية وحتى غير إسلامية ) والمفهوم أن أتباع الخزنوي في كل مكان، إذ أن كلمة كل من صيغ العموم ، والتعميم ليس في سوريا، وإنما في كل بقاع الأرض، وهذا كذب صريح لا يحتاج إلى أدلة وبراهين ، فلا يوجد في الدول الإسلامية مريد للخز نوي ، اللهم إلا أكراد تركية حصراً والذين انتقل بعضهم إلى أوربا ، و أفراد منهم هم المعنيون بقول عريف الحفل الكذاب بسام حين يرحب ويشكر الوفود القادمة من الدول الأوربية .
واذكر هنا أنه كان لديهم طالب من تشاد، وطالب من تونس وضيف تقطّعت به السبل من مصر، فطلبوا من الطالب التشادي إلقاء كلمة في الحضور ينوه فيها بالمعهد، ويذكر أن المعهد يضم الكثير الكثير من الطلاب الأجانب من تشادين وتونسيين ومصريين ، وهذا من صغائر الكذب عندهم .
( (2) لقد كانت أفعاله دروساً وعظات للأجيال، ومثلاً رائعة في نكران الذات والاستخفاف بالمنافع الشخصية ) إلى أن يقو ل: وصدق من قال:
هم القوم من أصفاهم الود مخلصاً ... تمسك في أخراه بالسبب الأقوى
هم القوم فاقو العالمين مناقبا ... محاسنهم تحكى وآياتهم تروى
موالاتهم فرض وحبهم هدى ... وطاعتهم ود وودهم تقوى
ولا أدري أي فعل للشيخ الراحل والحالي، يدل على نكران الذات والاستخفاف بالمنافع الشخصية ؟ أهو تميّيزه لنفسه وأولاده بالجبب الفاخرة والعمامة ؟
أم بالقصور التي يسكنها ؟ أم باستخدامهم للناس في أغراضهم الشخصية ؟
بل حصر الخدمة فيهم من دون العالمين، وأي نكران للذات والشيخ الراحل يوصي ولده : أن لا يحرم إخوانه من الجاه، والجاه هنا : هو تقديس الناس لهم كما في حياة أبيهم، والعبارة الصحيحة ( ومثلاً رائعة في تمجيد الذات ، والاهتمام بالمنافع الشخصية ) وأما الأبيات فلا تعليق عليها .
__________
(1) ص13.
(2) الثامنة ص18.(37/130)
(1) وكم من معدم عضه الفقر بأنيابه، فأزال عنه بؤسه وأعطاه عطاء جزيلاً )
لا أدري من هو هذا الرجل الذي يتكلم عنه هذا الكاتب الدجال ؟ ، فمن هو ذاك الفقير الذي أزيل بؤسه ؟، ولا تزال صورة ذاك الضرير الذي خدم تكية الشيخ سنين عددا، كيف أزال الشيخ بؤسه في حياته، وأقام له صرحاً تذكارياً بعد وفاته حيث بنى محمد الخزنوي على أنقاض بيته ، محلاً تجارياً ضخماً، وهو ما يسميه الأتباع "سوبر ماركت الشيخ " هذا الرجل الذي يسمى بحق" الجندي المجهول "
كان من أفقر الخلق، ومن أحوج الناس للمساعدة، ما رأيت آل الخزنوي، ولا خدمهم من مد له يد المساعدة، هذا الرجل كثيراً ما رأيته ، يصعد على سطح منزله الطيني، ليصلحه هو وزوجته العجوز ، بينما يمر المئات من الخدم الذاهبين إلى قصور الخزنوي ومزارعه . وهذه صورة واحدة من الصور التي كانت بارزة للعيان ويعلمها الجميع لاسيما الطلبة، لأن بيت هذا الضرير يقع قبالة باب المعهد الخزنوي للعلوم الإلهية، فما بالك بأحوال البعيدين عن الأنظار من الأرامل والأيتام والعجزة والمساكين الذين لا كاسب لهم، الذين يزعم الكاتب أن الشيخ يعيلهم لاسيما أنهم لم يخدموا عتبة الخزنوي ؟
( فلقد أنشأ المدارس وبنى المساجد )(2) أي مدارس وأي مساجد تلك التي بناها أو شارك في بنائها ؟، أما محمد الخزنوي فنعرف أنه كون ثروة لا يستهان بها، من وراء بيع مواد البناء في السوق السوداء ، التي اشتريت برخص بناء المعهد والمسجد .
( والسعي في تقديم النفع من غير تمييز بين فقير وغني 000والإنفاق على زائريه وطلابه ومرتادي تكيته، إنفاق من لا يخشى الفقر )(3) ( من أزهد الزهاد"وفي هذا نظر" ومن أعبد العباد " ( وزهد في الآخرة ونعيمها عدولا إلى الله ) .
__________
(1) نفس المصدر ص20.
(2) المصدر ذاته ص32.
(3) ص35.(37/131)
قلت : يعلم كل الذين عاشوا في تل معروف، أن الشيخ عديم المشاركة المادية للناس ، حتى للمخلصين من أتباعه ، فكثيراً ما تجابه شكواهم التي ترفع إلى الشيخ بالدعاء والألم والهمهمة والأنين ، أما الإنفاق الحاتمي على الزائرين والطلاب، فإن كان بحساء العدس المقدس في الشتاء وفي الصيف اللبن والقثاء فاللهم نعم ، وألف نعم .
فصل الحديث عن كرمه (1) كان مدراراً على الفقراء والمساكين، وخصوصاً فقراء المدينة المنورة وروى من ذهبوا معه، أن خدم المسجد النبوي الشريف عندما يرون الشيخ يصطفون أمامه فيدر عليهم العطايا والهبات، مما لا يحصي ولا يعد فقد أصبح عند هؤلاء الخدم، معروفاً بالعطاء الكثير، والكرم الغزير. ) لاحظ فنّ الكذب والتزوير،كيف يصوّر خدم المسجد النبوي، وهم مستشرفين لعطاء الخزنوي بكل شوق وأدب، و الكاتب أخذ الصورة بتمامها ولكنها لغير أهلها، يذكر هذا وينسى خدم مرقد الخزنوي، وهم يلحفون في طلب الدنيا وتعريضهم بالحاجة أمام الوافدين للمرقد كما هي عادة الصوفية الموجودين في قرية الشيخ والملالي المعترين، حين يقدم الأتراك وأغنياء الجزيرة إلى قرية الخزنوي، ولا أدري لماذا ينفق حاتم الطائي على أهل المدينة المنورة، وينسى أهل قريته بل أتباعه وطلابه وأعز خدمه ؟!.
__________
(1) مجلة الذكرى السابعة ص100.(37/132)
( أوتى الكمال الإنساني ، فهو نور إلهي، لمع سناه فأضاء ما بين الخافقين، إلى أن يقول :فكم أدنى بعلي همته ، من كان بعيداً من حضرة قدسه، فعاد وهو من خير الجلاس، إمام لا تحصى عجائب إرشاده، ولا تحصر غرائب إمداده(1) ) أي نور هذا ؟ ثم كي ف لا تحصى عجائب إرشاده، ولا تحصر غرائب إمداده ؟ والمدد معروف عند الصوفية، وهو الدفق النوراني والفيض الروحاني، الذي يهبه أوليائهم لمن استغاث بهم من المحبين ، سواء كانوا مسلمين، أم نصارى وبوذيين ؟ ولا عجب إن قلنا ذلك ، فمن الروايات أن نصراني أسمه صورو كان خادماً لشيخ الخزنوي المسمى" حضرة " بقي على نصرا نيته ، وهو من المحبين الأوفياء وعندما سئل بعد وفاة شيخه، لماذا لا تسلم وأنت محب للشيخ ؟
فأجاب والدموع تنهمر من عينيه : أخشى إن أسلمت أصبح مثلكم - مثلكم في قلة المحبة - ففضل المحبة على الإسلام ؟ وهذه الحكاية تروى لشحذ قلوب الأتباع وتعتبر من أروع قصص المحبين ؟
( لقد غض نفسه عن الدنيا جملة وتفصيلاً، ولئن اجتمعت المحاسن في إنسان، فهو إنسان عينها الأفضل، وتفتخر الأكارم بأن لا تعويل لهم بعد الله ورسوله إلا عليه(2) ) فأما العبارة الأولى فتكذّبها قصور الشيخ الملونة، والثانية إن لم نكذبها فهو إقرار منا بأن الشيخ أفضل من النبي - صلى الله عليه وسلم - وصحابته ، وحاشى أن يكون الخلوف المرضى المغمورين أفضل من أدنى التابعين .
__________
(1) الذكرى الثامنة ص25.
(2) المصدر ذاته ص26.(37/133)
( وما إن شب واكتمل في ريعان شبابه، حتى تفتحت له الأبواب، وتمزق عنه كل حجاب فجاءه الإذن الظاهري والباطني، باستواء على عرش الإرشاد، تتحرك محبة الله في قلب من أبصره ، وينقدح النور الإلهي في وجه من حضر صحبته ) قلت : لا يعنيني إلا العبارة الأخيرة، وهي كيفية انقداح النور الإلهي لا لرؤيته، وإنما لمجرد حضوره مجلس ذكر الشيخ وهي ما يسمى عندهم بالصحبة ..ألا ساء ما يدعون . ( إنفاقه على المدرسة ومستلزماتها من بناء وصيانة وماء وكهرباء وفرش ومراوح في الصيف للتبريد !! ومدافئ في الشتاء للتدفئة !! (1) ) أما الماء والكهرباء فعلى حساب الدولة ، وأما الفرش والمراوح والمدافئ فلا وجود لها إلا في خيال الكاتب .
( تقديمه للطلاب الطعام والكتب، والعلاج للمريض، والاهتمام بمن لا كاسب له ولا معيل ) أما تقديم الطعام فهو رغيفان صغيران فقط في الصباح، بينما يشتري الطلاب طعام الفطور ، مع أن بيت الشيخ الكرماء، يبيعوا اللبن في مدينة القامشلي لصانعي البوظة، أما طعام الغداء فهو ثلاث أرغفة صغار ، وصحن متوسط الحجم، من حساء العدس الدائم، وهذا الصحن مخصص لعشر طلاب وأما العشاء فأغلبه من البرغل السيء الطبخ، وأما الكتب فكان يبيعها أحد الملالي بأسعار خيالية، أما الآن فقد احتكر الشيخ بيعها فلا تباع إلا في محله، وما سمعنا يوماً بشراء الشيخ للكتب والأدوية ، وتوزيعها على الطلبة، ولكن إن لم تستح فاصنع ما شئت. بعد هذا يرجع الكاتب الكاذب إلى أن تقديم الطعام بشكل دائم ثلاث وجبات يومياً للضيوف، الذين تتجاوز أعدادهم الألوف، بل أحياناً عشرات الألوف، والضيوف لا يفدون بكثرة إلى القرية إلا في المناسبات كالأعياد والجمع ، وعند قدوم الشيخ من سفره الدائم ، ثم إن كلمة عشرات الألوف فيها مبالغة كبيرة، أما بقية الأيام فلا تكاد ترى أحداً.
__________
(1) الذكرى الثامنة -ص69 :كرم الشيخ.(37/134)
أما كذب الخطباء في الذكرى السنوية للشيخ الخزنوي، فحدث ولا حرج والغريب والمؤسف أنه يحضر هذه البدعة، ويسمع الكذب والتزوير دون نكير بعض علماء الشام، أمثال الدكتور البغا ، بله يحاول الترويج لها بحضوره المستمر ومحاولته تأصيلها والذود عنها بخطابه كل سنة، ولكل مصيبة " إنا لله وإنا إليه راجعون "وينسى الدكتور وأمثاله، أن أول عمل مشين في الذكرى، تعطل صلاة العشاء جماعة، وصلاة الناس فرادى، ومن يدري لعل حضور الذكرى أفضل وأكثر أجراً، لاسيما أنها مليئة بالشركيات ومجانبة الحقيقة ؟ ولا أدري لماذا لا يقوم البغا، بذكرى سنوية لشيخه وشيخ علماء الشام " الشيخ الميداني " وهو من يستحق الذكرى إن كانت مشروعة ؟ أم أن محمد الخزنوي أكثر وفاءً لشيخه منه ؟، أم أن الميداني أقل علماً وولايةً من الخزنوي؟ ولا يعنيني مناقشة كون الذكرى بدعة أم سنة ؟ فالمسألة واضحة لأدنى طالب علم، فضلاً عن كونه أستاذً في جامعة؟ ولكن ما يعنيني تسجيل فقرات بسيطة من مجمل الكذب الذي يهتف به في مجلس الذكرى .(37/135)
تبدأ الذكرى بالكذّاب، الشيخ بسام عريف الحفل، الذي يقول في الذكرى السادسة : من علينا بما "يشحذ "همتنا من همة شيخنا، ومرشدنا، وعظيمنا ومربينا الشيخ عز الدين، ويقول : لقد انتقل الشيخ وهو على طريق الجهاد ! وكأنه يقول: اسمعوا مني أيها الناس أبين لكم ، فلعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا في موقفي هذا. قلت : لا أدري أي جهاد والشيخ في مصيفه في الزبداني يخدّر الناس بله يميت فيهم روح الجهاد، لاسيما أنه توفي في العام الذي كان يستأصل فيه المسلمون، في البوسنة والهرسك وفي الشيشان، والذي يؤرّخ للشيخ المجاهد أنه توفي وما ذكر هؤلاء في خير ولا شر، رغم دروسه الكثيرة ، حتى أنه بخل حتى في الدعاء لهم، وكذا أيام جهاد الأفغان، ثم يقول : أجل أيها الأحبة أيتها القلوب المنورة "المستمدة "روحانيتها من روحانية شيخها ومرشدها الخزنوي. ولا أدري هذه الجملة بأي ميزان توزن ؟ .(37/136)
وكذلك دعائه بعد هذا : اللهم أدخلنا جميعاً، تحت ظل عطفك، بكرمك بعزك بسّر من نجتمع اليوم من أجله ولأجله، بسرّ من نقف اليوم خاشعين في محرابه متطلعين إلى سماء جنابه، ثم يتوجه بالدعاء : اللهم اجعلنا خدماً حقيقيين له وارزقنا أن نكون أرضاً يطأها برجله -يعني محمد الخزنوي- ثم يتابع الخطيب الإطراء والكذب، ومنه : ذكره أن الناس وفدوا من كل مكان من كل قرية وبلد، من كل بقاع العالم . وهذا غير صحيح، ومن الكذب تقديمه لشخص يدعى" الملا حسن عبد الله" كل سنة، على أنه من الكويت الشقيق، وأنه جاء مع وفد كويتي وهو مواطن سوري، من مدينة "أبو كمال" يعمل في الكويت، ولم يأتي مع وفد اللهم إلا وفد عمال قرية "الشعفة "التابعة لتلك المدينة، الذين يعملون في الكويت وكل سنة يلقي هذا الملا كلمة، ومن جملة خطاب هذا الخريّت ؟ في الذكرى السنوية الخامسة : إننا نعيش في روحانية الشيخ وفي ظل بركته، عيشة حقيقية محسوسة ظاهرة كطلوع القمر –كيف يعيش هذا الضال في روحانية الشيخ ،وفي ظل بركته عيشة حقيقية ومحسوسة ؟! - ثم يقول : أخاطبك يا سيدي بكاف الخطاب، لأنني أومن أن روحك الطاهرة، وأرواح المشايخ العظام ترفرف في سمائنا الآن يا سيدي، ويا ذخري ويا ملجئي ويا منقذي - ولا أدري في أي باب من أبواب التوحيد يقع هذا الكلام- ، وفي الذكرى السابعة يقول : حضرة مولاي وسيدي، وسندي محمد الخزنوي قدس سره، الضيوف الأكارم، حياكم الله في روضة سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - ، وفي روضة السادات الكرام الخزنوية –وهذا من الكلام المشروع عند الدكتور البغا –سيدي وسندي إنني لتأخذني الرهبة ،حتى أكاد أن أحجم عن الخوض في خضم أوصاف الشيخ الراحل 000إلى أن يصل إلى زيارة الشيخ للكويت، كيف كانت مواعظه تذرف العيون ، وترجف القلوب، وتقشعر الأجساد ، وهذا مردّه روحانية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "وإمداد الشيخ أحمد الخزنوي "، وأنجاله الكرام ، ثم يكذب بقوله : لم(37/137)
يقتصر بجولاته على الكويت ، لكنه رفع راية الإرشاد في جميع البلدن العربية(1) وأكثر البلدن الأوربية ، فلم لا يكون عظيماً ؟ من رفرفت أعلام دعوته في سماء أوربا خفّاقة عالية (2) ثم يذكر كيف كان مصاب الناس بالشيخ ( وها هو الكون أصابه أهله الوجوم والحيرة " يتساءلون عن النبأ العظيم " "هل وقعت الواقعة أم كانت القارعة" إنه قضاء الله الذي لا معقب لحكمه ، قد استأثر بفرع النبوة، واقتطف" عنصر الدين" والمروة !! فيجب الصبر وخصوصاً إذا كانت هذه "عادة الدهر"(3) .
بينما في الذكرى الثالثة، يصرح بالكذب فيقول: ها أنا جئتكم من بلاد بعيدة من دولة الكويت التي تشرّ فت واستفادت من ذلك العلم 0
ثم انظر إلى خطبة الذي تربّع على عرش الكذب، ملا علي الأسود "زاد الله وجهه قبحاً وسواداً " عندما يبدأ خطابه : سيدي أبا محمد، يا من نحن في رحابه وحماه ثم يقول :
فرض الله علينا حبهم ... فعلام اللوم يا قومي علاما
__________
(1) ولم يثبت عن الشيخ سفره لنشر الطريقة إلا سفرته الفاشلة إلى الكويت.
(2) كذلك سفره لأوربا كان للعلاج، وأثنائها التقى الشيخ بالجالية " الكردية "من تركيا حصراً .
(3) لاحظ هذه الكلمة عادة الدهر وهل لها تفسير شرعي ؟(37/138)
- وهذا افتراء على الله - سيدي لم لا تأخذني الرهبة ؟ لم لا أحجم عن الخوض أوساط بحرك المتلاطم الأمواج ؟، لم لا أشعر بالظعف إزاء مطاولة هذا الطود الشامخ؟ لم لا تحجزني الدهشة عن إدراك سر هذا المجد الباذخ؟ وأنت أنت، من دهشت الدنيا بمعانيك وأنت من سارت الركبان تتغنى بأمجادك ومعاليك، فماذا عسى أن يصنع مسكين مثلي، وقد تحدثت جميع الألسن بالثناء عليك ، وترنم الناس بمدحك في جميع اللغات .قلت: أي مجد خلّفه الشيخ للأمة عامة ولأتباعه خاصّة ؟ فإن كان باستعباد أبنائه لأتباعه فاللهم نعم وأي ألسن تحدثت بالثناء على الشيخ ، غير تلك التي ربط مصير أصحابها وأرزاقهم ، بحبهم للشيخ والثناء عليه، وأما ترنم الناس بمدح الشيخ بجميع اللغات فظاهر البهتان .
ثم قال : يا ربيعاً للممحلين، يا ثمالا اليتامى يا عصمة للأرامل ؟ سيدي تفضل علينا بإطلالة من روحك الزكية ؟ فيا قطب الإرشاد، من للإرشاد بعدك يحمل رايته ؟
يا كنز العلوم ، من للعلوم بعدك يحمي حوزته ؟ يا روح الأرواح ويا ترياق القلوب ثم أنشأ يقول :
أتى نبأ من تل معروف مصعدا ... أقام جمع العالمين واقعد
فوا عجبا من فرقد حل مرقد ... وأعظم به من مرقد ضم فرقدا
وويح الردى كيف انبرى دفعة له ... وكنا به من قبل نستدفع الدى
عساه أتاه في مخايل سائل ... فراوده عن روحه باسطا يدا
فما رده لما اجتلاه تكرما ... وعادته أن لا يرد من اجتدى
قلت : لا أدري، هؤلاء القوم ماذا تركوا لله من وصف ؟ أخذ وصف عم النبي صلى اله عليه وسلم لابن أخيه، بقوله : يا ثمالا اليتامى يا عصمة للأرامل(37/139)
فقلنا : محب مغالي، بل زاد على أبي طالب بقوله ياربيعا للممحلين، ثم صور ملك الموت بصورة شحاذ يستجدي الشيخ ، فقلنا تصوير مجازي خاطئ، أما أن يصل بشيخه إلى صفات الربوبية فلا . ( فإن من تفكر في وضع الشيخ قدس سره ونظر نظرة فاحصة بتجرد وإنصاف ليعلم علم اليقين بل عين اليقين ، أن النور المحمدي، الذي سطع في شخصه - رضي الله عنه - باق لا يزال ومتجدد لا ينطفئ وذلك أن شمس الحقيقة بعد أن شخص الشيخ قدس سره عن الأنظار، وارتفعت روحه إلى الرفيق الأعلى مع المتقين والأبرار، لمع نورها مرة أخرى على جبين خليفته وازدهر ازدهاراً عظيماً بطالع سعد نجله الأكبر فضيلة الشيخ محمد(1) ) لاحظ "عبارة النور المحمدي " الذي سطع في شخص الشيخ الراحل ، ثم كيف انتقل هذا النور إلى ولده ، وقد كان قبلهما عند الجد والأعمام ، وسينتقل إلى الحفيد وهو ابن محمد الخزنوي بالتأكيد وسيبقى هذا النور حتى يسلم ابن الخزنوي الطريقة إلى المهدي "عجل الله فرجه الشريف"، أو عيسى عليه السلام، ولا عجب فإن الصوفية والشيعة، يتلقون العقيدة والنور والعلم من مشكاة واحدة .
ثم كيف يجزم أتباع الخزنوي بالجنة ، بله الفردوس الأعلى لشيخهم الراحل ؟ وليس هذا بغريب ، فالخزنوية من جملة كشوفا تهم البسيطة ، كشف القبور والجنة والعرش !!
__________
(1) من الذكرى الثامنة -ص13.(37/140)
جاء في البخاري [أَنَّ أُمَّ الْعَلاءِ قالت لعثمان بن مظعون لما توفي : رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْكَ أَبَا السَّائِبِ فَشَهَادَتِي عَلَيْكَ لَقَدْ أَكْرَمَكَ اللَّهُ ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : وَمَا يُدْرِيكِ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَكْرَمَهُ ؟ فَقُلْتُ : بِأَبِي أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، فَمَنْ يُكْرِمُهُ اللَّهُ فَقَالَ : أَمَّا هُوَ فَقَدْ جَاءَهُ الْيَقِينُ وَاللَّهِ إِنِّي لَأَرْجُو لَهُ الْخَيْرَ ، وَاللَّهِ مَا أَدْرِي وَأَنَا رَسُولُ اللَّهِ مَا يُفْعَلُ بِي ، قَالَتْ : فَوَاللَّهِ لَا أُزَكِّي أَحَدًا بَعْدَهُ أَبَدًا ](1)
وروى ابن حبان في صحيحه، والحاكم في مستدركه، والبيهقي في سننه ( قالت امرأته : هنيئاً لك الجنة، فنظر إليها النبي - صلى الله عليه وسلم - نظرة غضبان، وقال: وما يدريك ؟ قالت : فارسك وصاحبك، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : والله ما أدري ما يفعل بي ، فاشتد ذلك على أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، من قوله لعثمان وهو أفضلهم ، فلما ماتت رقية بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : الحقي بسلفنا عثمان بن مظعون )
فهذا الرجل من السابقين الأولين ، ومن الذين هاجروا الهجرتين، وأخو النبي - صلى الله عليه وسلم - من الرضاعة ، ولم يجزم رسول الله في خاتمته، رغم ما قدّم الرجل وغضب من تلك المقولة ، وفي الصحيحين [ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سمع رجلا يثني على رجل فقال : ويحك قطعت عنق صاحبك ، ثم قال: إن كان أحدكم مادحاً صاحبه لا محالة ، فليقل : أحسبه كذا، ولا أزكي على الله أحدا](2)
والكذّاب الأكبر هو محمد الخزنوي، يقول في الذكرى السابعة : يخاطب والده الميت : يا شيخي ويا من جفت كل أوردتي ظمأ إليك 00 وهكذا إلى أن يقول :
نحن عوا جزكم وانتم عزنا ... أبداً وحمل العاجزين عليكم
__________
(1) البخاري –رقم 1166.
(2) البخاري – 2662، مسلم 3000.(37/141)
ويقول : كنت الضماد لأوجاعنا كنت الملاذ .. ونعتقد أنك ما زلت الملاذ والطبيب لأجسادنا ولأرواحنا، فمن لنا بعدك(1) ولسان الحال يقول دوماً :
إذا مرضنا تداوينا بذكركم ... ونترك الذكر أحيانا فننتكس
ثم في نهاية كلامه يخبّص أكثر فيقول :
سمعت من الشيخ أن أحد سادتنا ذهب إلى بيت الله الحرام، وتمسّك بالأعتاب بأستار الكعبة ويقول ويبكي ويتضرع إلى الله ، يقول : يا رب اغفر لي ارحمني يارب : إن لم تغفر لي وترحمني احشرني أعمى حتى لا يراني الناس فافتضح فأنا أقول : يا رب إن لم تغفر لي، وترحمني احشرني أعمى ، حتى لا افتضح بين هؤلاء القوم ؟ أعمى الله بصره ، كما أعمى بصيرته لماذا لا يدعوا بعمى الناس حتى يكون الكلام سليماً، لأن عماه أمام الخلق فضيحة كبرى بل العمى علامة مميزة للضالين ، نسأل الله العافية.
* * * *
الفصل السابع
الخزنوية وعلم الحديث
__________
(1) أليس هذا من الندب والنياحة المحرمة.(37/142)
الخزنوية ككل الصوفية، من أجهل الناس في الحديث، وهذا يعود لسبب بسيط وهو افتقار الطرق إلى السند الشرعي لمجمل البدع التي تقوم عليها، والذي ثبت تاريخياً ، أن هذا الجهل متعمد، لأن الطرق لا تجد رواجاً إلا عند الجهلة وخصوصاً بالحديث، والعجيب أن الصوفية الذين كشفوا كل شيء، وأطّلعوا على ما في القلوب والغيوب والجيوب، أعيتهم معرفة الحديث، بل إنهم عجزوا رغم ولايتهم المزعومة، التصدّي لأهل الحديث أو علماء الرسوم اللهم إلا ماكان من الدس، وتلفيق التهم لهم عند السلاطين ، والذي يرجع إلى كتب التراجم لأهل السنة، يجد الحرب الكريهة التي شنّها الصوفية على أهل الحديث، لا لشيء إلا لأنهم ينافحون عن نهج المصطفى - صلى الله عليه وسلم -، وينفون عنه دجل المدجلين وزيغ المغالين والخزنوية من هذا الطراز الفذ، بل هم الثمرة النضيجة لتجارب الصوفية على مر التاريخ فإننا نعرف وجود الصوفية على الأغلب في الزوايا والتكايا والخانقاة، التي يرتادها الدراويش والمجانين فقط، أما أن يكونوا في معهد يدرس فيه العلوم الشرعية، فما عرفناه إلا في العصور المتأخرة ، ولكن دور هذا المعهد عند الخزنوية كان لطمس الحقيقة والتمويه على الناس فالحديث يدرس في المعهد ، ولكن لتلوى عنقه ويؤول ، ويستنبط منه قواعد للصوفية .
أما انتشار الكذب على النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه، فحدث ولا حرج .
وأما الاهتمام برواية الموضوعات فلا سبيل لحصره، لأن أتباع الخزنوية لديهم الضوء الأخضر من الشيخ برواية الموضوع، ما دام يخدم الطريقة، وإن كان من نسج خيال المريد، وهذا ليس بجديد على الصوفية، بل إن الشيخ نفسه كثيراً ما يروي الموضوع والحديث الضعيف بصيغة الجزم، في المجالس العامة دون حياء ويبني على هذا الحديث قواعد وحكم، من مثل (حب الدنيا رأس كل خطيئة )(1)
__________
(1) موضوع ."أحاديث القصاص" لابن تيمية (7) . "الأسرار المرفوعة" (1/163) . "تذكرة الموضوعات" (173).(37/143)
وكذلك (يموت المرء على ماعاش عليه ) وهذا الحديث لم نجده في كتب السنة ،ولا يعلم هذا الشيخ أن رواية الموضوع حرام، إلا في موضع البيان والبحث العلمي ولا يدري أنه يدخل تحت حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي رواه البخاري ( إن كذباً عليّ ليس ككذب على أحد، من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار )(1) ولكن ما فائدة هذا الحديث، وكل الصوفية لا يخافون من النار ؟
ولذلك دأبوا على إهمال الحديث ووعيده، ولا يعلم الشيخ أن رواية الضعيف لا تجوز أيضاً إلا بصيغة التمريض، من مثل روي وقيل ونقل وحكي ونحو ذلك فإذا كان هذا حال شيخ الطريقة الولي ، فما يكون حال ا لأتباع :
إذا كان رب البيت بالطبل ضارب ... فشيمة أهل البيت كلهم الرقص
وحتى لا نوصف بالبهتان إليك بعض نصوصهم التي دونت في مجلاتهم السنوية :
في مجلة الذكرى السنوية الثالثة (2)( روي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال :إن العالم إذا أراد بعلمه وجه الله هابه كل شيء، وإذا أراد أن يكنز الكنوز هاب من كل شيء ) وهذا الحديث بحثت عنه فلم أجد له أصلاً ، وكذلك هذا الحديث(3)(أحب حاتماً لكرمه)
__________
(1) رقم-1209.
(2) ص6.
(3) مجلة الذكرى الثالثة ص47لقد ذكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقوله: الحديث.(37/144)
(1)وقد أشار النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المشيخة التي هي وراثة النبوة بقوله: (والذي نفسي بيده لئن سألتم لأقسمن لكم أن أحب عباد الله إلى الله الذين يحببون الله إلى عباده ويحببون عباد الله إلى الله ويمشون في الأرض بالنصيحة) ولم أجد هذا الحديث بكتب السنة ولكن وجدته في كتاب جامع العلوم والحكم لأبي الفرج عبد الرحمن بن أحمد بن رجب الحنبلي (قال الحسن وقال بعض أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - والذي نفسي بيده إن شئتم لأقسمن لكم بالله، إن أحب عباد الله إلى الله، الذين يحببون الله إلى عباده ويحببون عباد الله إلى الله ويسعون في الأرض بالنصيحة) وهذا القول لا قيمة له فمن الناقل عن الحسن وبينه وبين مؤلف الكتاب قرون ودهور .
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من حديث طويل (2)(ألا فاقتدوا بالعلم خذوا منه ما صفا ودعوا له ما كدر ) وهذا الحديث لا أصل له حتى في كتب الموضوعات ولا يشبه كلام النبوة (3)(قال - صلى الله عليه وسلم -: طوبى لمن تواضع من غير منقصة وجالس أهل الفقر والمسكنة وخالط أهل الفقه والحكمة )وهذا الحديث لا أصل له .
(4)وكفى دليلاً على عداوتها "أي النفس" قوله عليه الصلاة والسلام ( أعدى أعدائك نفسك التي بين جنبيك ) قال العجلوني في كشف الخفا: رواه البيهقي في الزهد بإسناد ضعيف .
وقال الله تعالى في الحديث القدسي [ إن أوليائي من عبادي ، وأحبائي من خلقي الذين يذكرون بذكري وأذكر بذكرهم .](5) هذا جزء من حديث رواه الأمام أحمد في مسنده وقد تفرد به رشدين بن سعد وهو ضعيف .
__________
(1) المصدر ذاته ص68.
(2) الذكرى الثالثة ص 68.
(3) الذكرى الخامسة ص25.
(4) المصدر ذاته ص58.
(5) المصدر ذاته ص63.(37/145)
نقل الذهبي في ميزان الاعتدال في ترجمة رشدين بن سعد: قال أحمد لا يبالي عمن روى وليس به بأس في الرقاق، وقال أرجو أنه صالح الحديث، وقال ابن معين ليس بشيء، وقال أبو زرعة ضعيف ، وقال الجوزجاني : عنده منا كير كثيرة، وقال النسائي : متروك .
الحديث القدسي(1)( يا دنيا من خدمني فاخدميه ومن خدمك فاستخدميه )وهذا الحديث لم أعثر عليه في كتب السنة بهذا اللفظ، ولكن بلفظ (أوحى الله إلى الدنيا أن اخدمي من خدمني وأتعبي من خدمك))(2) قال الألباني : موضوع.
والحديث (3) من تعلّم العلم ليجادل به العلماء، أو يماري به السفهاء، فكأنما ملأ جوفه قيحاً وصديداً) لم أجده في كتب السنة .
والرسول يقول (4) ذو الوجهين لا يكون وجيهاً عند الله ) وهذا الحديث لا وجود له أيضاً .
قال رسول الله عليه الصلاة والسلام (5) العالم في قومه كالنبي في أمته) قال القاري في المصنوع حديث (الشيخ في قومه كالنبي في أمته) أخرجه ابن حبان والديلمي ضعيف جداً، وفي المقاصد جزم شيخنا وغيره بأنه موضوع، وإنما هو كلام بعض السلف .
والعجلوني في كشف الخفا( الشيخ في قومه كالنبي في أمته) رواه ابن حبان أيضا في ترجمة عبد الله بن عمر الأفريقي عن ابن عمر ثم قال: وهو موضوع، وقال الحافظ ابن حجر كابن تيمية، انه ليس من كلام - صلى الله عليه وسلم -، وإنما يقوله بعض أهل العلم، وربما أورده بعضهم بلفظ (الشيخ في جماعته كالنبي في قومه ) يتعلمون من علمه ويتأدبون من أدبه، وكل ذلك باطل .
__________
(1) الذكرى الخامسة ص65.
(2) السلسلة الضعيفة(12) تنزيه الشريعة للكناني (2/303).الفوائد المجموعة للشوكاني (712).
(3) الذكرى الخامسة ص73.
(4) المصدر السابق ص76.
(5) المصدر السابق ص94.(37/146)
(1) اتقوا فراسة المؤمن 000وفي الحاشية رواه البخاري والترمذي ) وهذا الحديث مما انفرد به الترمذي وقال حديث غريب .وهوظعيف(2).
(3) لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذرا مما به بأس) ونسبوه للشيخين . بينما الذي رواه هو الترمذي ،وقال حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه ، ورواه ابن ماجة في الزهد .
( (4) المقولة المشهورة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما صب الله في صدري شيئاً إلا وصببته في صدر أبي بكر ) ذكر ابن القيم في كتابه نقد المنقول : أحاديث وضعها ممن ينتسبون للسنة في فضل أبي بكر، منها هذا الحديث وحديث عمر (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر يتحدثان وكنت أنا كالزنجي بينهما) وحديث ( لو حدثتكم بفضائل عمر نوح في قومه ما فنيت وإن عمر حسنة من حسنات أبي بكر ) .
(5) لقوله - صلى الله عليه وسلم - ( خير الذكر الخفي وخير الرزق ما يكفي) قال العجلوني في كشف الخفا : رواه أبو يعلى والعسكري وأبو عوانة وأحمد وابن حبان وصححه عن سعد بن أبي وقاص رفعه لكن لفظ أحمد وابن حبان خير الرزق ما يكفي وخير الذكر الخفي. وقال النووي في فتاويه ليس بثابت.
يقول الرسول - صلى الله عليه وسلم - : (6)(من وقر عالما فكأنما وقرني ومن وقرني فكأنما وقر الله) لم نجده بهذا اللفظ وإنما (من وقر عالما فقد وقر ربه ومن فعل فقد استوجب المآب على الله) أورده الذهبي في ترجمة راويه الحكم بن عبد الله، قال أحمد: أحاديثه كلها موضوعة، وقال ابن معين ليس بثقة، وقال السعدي وأبو حاتم كذاب. قال النسائي والدار قطني وجماعة متروك الحديث فالحديث إن لم يكن موضوعاً فهو ظعيف جداً .
__________
(1) الذكرى السادسة ص31.
(2) "تنزيه الشريعة" للكناني (2/305) . "الموضوعات" للصغاني (74) .
(3) المصدر السابق ص40.
(4) الذكرى السابعة ص22.
(5) المصدر السابق ص38.
(6) ص48.(37/147)
وفي الحديث الشريف ( (1) إذا تحاب اثنان في الله كان أحبهما إلى الله أكثرهما حباً لصاحبه ) لم أجده في أي مصدر من مصادر السنة .
(2) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حينما رجع من غزوة من الغزوات، فقال رجعنا إلى الجهاد الأكبر، وعندما سئل قال جهاد النفس .) لا أصل له(3) .
(4) فما مثلهم إلا كمثل ذلك اليتيم الذي رباه سيدنا علي فرآه الرسول - صلى الله عليه وسلم - ذات مرة يحمله على عاتقه ويداعبه، فقال يا علي أما أنه سوف يضربك على هذه، وأشار على رأسه حتى يخضب منها هذه، وأشار إلى لحيته وقد ظهرت أخيراً معجزة سيدنا رسول الله صلى اله عليه وسلم ، و فعلاً حينما قتل سيدنا علي - رضي الله عنه -، على يد ذلك اليتيم.)
وهذا ليس بمستغرب فعلماء الشيخ كلهم على هذه الشاكلة فقد خطب أحد ملالي الشيخ وهو أبو صالح خطبة في جامع في المحافظة، ذكر فيها أن الله كلما أصاب قوم فرعون بشيء يخرج فرعون إلى المز ابل، وقد لبس أطماراً، ويأخذ بالبكاء والنحيب ويبادر بالتوبة فيكشف الله عنهم البلاء بدعوة فرعون .
والملا الآخر واسمه نجاة يلقي درساً، يذكر فيه أن العرش اهتز من وفاة سعد بن معاذ لأنه لم يكن يستبرء من بوله .
(5)حديث( اتخذوا عند الفقراء أيادي فإن لهم عند الله دولة ) وهذا لا أصل له .
(6) يرد على من ينكر على أتباع الشيخ كثرة ذكر شيخهم كيف لا وقد كان الشافعي يهش ويبش إذا ذكر أبي حنيفة بل كان يتغنى ويترنم قائلا :
أعد ذكر نعمان لنا إن ذكره ... هو المسك ما كررته يتضوع
وكأنّ الشافعي أخذ الطريقة من أبي حنيفة وما دروا هؤلاء الحمقى أن الشافعي ولد في السنة التي توفي فيها أبو حنيفة، قاتل الجهل والتعصّب الأعمى.
* * * *
خاتمة
__________
(1) مجلة الذكرى الثامنة ص50.
(2) المصدر السابق ص.
(3) "الأسرار المرفوعة" (211) . "تذكرة الموضوعات" للفتني (191)
(4) الذكرى الثامنة ص81.
(5) المصدر السابق ص88.
(6) الم صدر السابق ص89.(37/148)
بعد هذا البحث وهذا التحري الذي أتعبني كثيراً، من جمع أقوال هؤلاء وجمع مصادرهم والنقل عنها ، والبحث عن الأدلة الشرعية، بعد هذا أقول :
إن ما ذكرته إنما هو غيض من فيض، فمآسي الخزنوي، ومصائبه على الأمة كبيرة وكثيرة لا يحصرها كتيب، ويشهد الله أني ما تجنيت عليهم، ولم أحرّف لهم كلمة ولم افتري فيما ذكرته ، بل إنني تجنبت الكثير الكثير من أحاديثهم الخرافية وهرطقة كذّابيهم والكثير من مخازيهم ومخازي جلاوزتهم ، لأنه باب واسع، وأنا أريد الاختصار، لكثرة الشواغل والواجبات .
أسأل الله العظيم أن يجعل هذا العمل خالصاً لوجهه الكريم وأن يكتب له القبول، وينتفع به الناس لاسيما أتباع الخزنوي، فأغلبهم من الدراويش الذين لعب الخزنوي ودعاته بعقولهم وقلوبهم ،وما وجدوا من يوجههم إلى الصراط المستقيم .
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
وكتبه عبد الله بن عبد الرحمن الجز يري
المصادر والمراجع
1 القرآن الكريم
ابن جرير الطبري ... 2 جامع البيان
محمد بن أحمد القرطبي ... 3 الجامع لأحكام القرآن
إسماعيل بن كثير ... 4 تفسير القرآن العظيم
محمود الآلوسي ... 5 روح المعاني
البخاري ... 6 صحيح البخاري
مسلم بن الحجاج ... 7 صحيح مسلم
سليمان السجستاني ... 8 سنن أبو داود
أحمد النسائي ... 9 سنن النسائي
محمد بن عيسى الترمذي ... 10 سنن الترمذي
محمد القزويني ... 11 سنن ابن ماجة
أحمد بن حنبل ... 12 مسند الإمام أحمد
مالك بن أنس ... 13 موطأ مالك
الحاكم ... 14 مستدرك الحاكم
ناصر الدين الألباني ... 15 السلسلة الصحيحة والظعيفة
الكتاني ... 16 تنزيه الشريعة
الشوكاني ... 17 الفوائد المجموعة
ابن الجوزي ... 18 الموضوعات
السخاوي ... 19 المقاصد الحسنة
السيوطي ... 20 اللألئ المصنوعة
ابن الجوزي ... 21 العلل المتناهية
الذهبي ... 22 ميزان الاعتدال
ابن حجر العسقلاني ... 23 لسان الميزان
الفتني ... 24 تذكرة الموضوعات
العجلوني ... 25 كشف الخفا(37/149)
ابن أبي حاتم الرازي ... 26 الجرح والتعديل
أبي حامد الغزالي ... 27 إحياء علوم الدين
عبد الرحمن عبد الخالق ... 28 الفكر الصوفي
الخزنوية ... 29 المجلات السنوية
محمد الخاني ... 30 المواهب السرمدية
السنهوتي ... 31 الأنوار القدسية
القشيري ... 32 الرسالة القشيرية
عبد الغني النابلسي ... 34 الفتح الرباني
الشعراني ... 35 الطبقات الكبرى
لمجموعة من مشايخ النقشبندية ... 36 الكلمات القدسية
عبد الرحمن الوكيل ... 37 الصوفية
عبد الرحمن دمشقة ... 38 تهذيب النقشبندية
محمد أمين الكردي ... 39 تنوير القلوب
النبهاني ... 40 جامع كرامات الأولياء
الصاوي ... 41 شرح الصاوي على الجوهرة
نوري الديرشوي ... 42 ردود على شبهات السلفية
ابن قيم الجوزية ... 43 مدارج السالكين
ابن تيمية ... 44 مجموع الفتاوي
الذهبي ... 45 سير أعلام النبلاء
الفهرس
الموضوع ... الصفحة
مقدمة الطبعة الثانية ... 2
مناجاة ... 4
الخزنوية في سطور ... 6
دعاوي كاذبة ... 9
أركان الطريقة ... 12
الرابطة ... 13
إنكار البوطي على الخزنوي ... 16
الذكر القلبي ... 17
اللطائف ... 19
الختمة (الخواجكان) ... 21
التوجه ... 23
شيخ الطريقة ... 26
قصة الخاتون والحمار ... 27
خصوصيات الشيخ ... 28
الطريقة والمرض ... 32
كسروية المشيخة ... 35
موالاة شيخ الطريقة ... 39
التكية ... 43
المعهد الخزنوي ... 44
اساتذة المعهد ... 45
إدارة المعهد ... 47
طلبة المعهد ... 48
ما يحدث في المعهد ... 49
سلف الخزنوية في اللواطة
المرقد (المشفى الرباني) ... 52
خوارق المرقد ... 55
قواعد وآداب المرقد ... 59
الخدمة ... 61
المخالفات الشرعية ... 65
قضية الغوث والقطب ... 67
الخضر ... 70
الكرامات ... 73
الخزنوية والجهاد ... 78
الخزنوية وعالم النساء ... 80
قصة منجي التونسي ... 81
الفضيحة الكبرى ... 82
الخزنوية وفن الكذب ... 85
الخزنوية وعلم الحديث ... 94
خاتمة ... 99
تم بحمد الله(37/150)
الدرر
في إثبات نبوة وموت الخضر
جمع/ أبي معاذ السلفي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فهذا موضوع يتعلق بذكر الأدلة من الكتاب والسنة التي تثبت نبوة وموت الخضر عليه الصلاة والسلام، وفيه مناقشة لما ذهب إليه المتصوفة (تجاه الخضر عليه السلام حيث أنهم يعتقدون بأن الخضر عليه السلام ولي من أولياء الله تعالى وليس بنبي، وبنوا على ذلك أن الولي يجوز له الخروج عن الشريعة كما خرج الخضر عليه السلام عن شريعة موسى عليه السلام حسب زعمهم الباطل، وأنه يمكن للولي أن يصل إلى مرضاة الله سبحانه وتعالى بدون اتباع الرسول - صلى الله عليه وسلم -.
وإلى جانب ذلك يعتقد المتصوفة أيضاً تجاه الخضر عليه السلام إلى أنه حي يرزق إلى الآن ويدعون أنهم يلتقون به ويتلقون عنه علمهم اللدني الذي هو خاص بالأولياء فقط ولا يمكن أن يعرفه غيرهم كائناً من كان حتى الأنبياء).
والمراجع التي نقلت منها الأدلة وأقوال العلماء هي:
1ــ"المصادر العامة للتلقي عند الصوفية عرضاً ونقداً" للشيخ صادق سليم صادق
حظه الله.
2ــ"كشف الإلباس عما صح وما لم يصح من قصة الخضر" لإبراهيم بن فتحي عبد المقتدر حفظه الله.
3ــ"تقديس الأشخاص في الفكر الصوفي عرض وتحليل على ضوء الكتاب والسنة" للشيخ
محمد أحمد لوح حفظه الله.
4ــ"مظاهر الانحرافات العقدية عند الصوفية وأثرها السيئ على الأمة الإسلامية" لإدريس محمود إدريس حفظه الله .
5ــ"الخضر وآثاره بين الحقيقة والخرافة" لأحمد بن عبد العزيز الحصين حفظه الله .
6ــ"أبو حامد الغزلي وكتابه "إحياء علوم الدين" للشيخ عبد الرحمن دمشقية حفظه الله.
* أولاً: إثبات نبوة الخضر عليه الصلاة والسلام:
الذي عليه جمهور العلماء، أن الخضر عليه السلام نبي، والأدلة على ذلك كثيرة منها:
* الدليل الأول:(38/1)
قوله تعالى: { فَوَجَدَا عَبْداً مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً }
]الكهف:65[. ووجه الاستدلال بالآية الكريمة: أن الرحمة تكرر إطلاقها في القرآن الكريم على النبوة، كقوله تعالى: { وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ * أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ } ]الزخرف:31ــ32[، وقوله تعالى: { وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ } ]القصص:86[.
وإطلاق إيتاءه العلم، دليل على نبوته أيضاً، وقد أٌطلق هذا في القرآن الكريم في مثل قوله تعالى: { وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ } ]النساء:113[، وقوله:
{ ...وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ } ]يوسف:68[، فهذه الأدلة ترشد إلى نبوته .
ويُشعر تنكير الرحمة في الآية الكريمة، واختصاصها بجناب الكبرياء، أن المقصود بها :الوحي والنبوة .
قال أبو السعود في"تفسيره"عن الآية:(التنكير للتفخيم، والإضافة للتشريف، والجمهور على أنه الخضر واسمه بليا بن ملكان .
وقيل: إلياس عليهم الصلاة والسلام .
{ آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا } وهي الوحي والنبوة كما يُشعرُ به تنكير الرحمة واختصاصها بجناب الكبرياء، { وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً } خاصاً لا يُكتنه كنهه ولا يُقادر قدره وهو علم الغيوب) اهـ .
وعزا الفخر الرازي في"تفسيره"القول بنبوته للأكثرين.(38/2)
ومما يستأنس به للقول بنبوته تواضع موسى عليه الصلاة والسلام له في قوله: { هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً } ]الكهف:66[، وقوله: { سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً } ]الكهف:69[ مع قول الخضر له: { وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً } ]لكهف:68[.
* الدليل الثاني:
قوله تعالى: { وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي } ]الكهف:82[.
فهذا يقتضي أنه إنما فعله بأمر الله ووحيه الذي أوحاه إليه .
قال ابن جرير الطبري ــ رحمه الله ــ في"تفسيره"(8/270):(يقول : وما فعلتُ يا موسى جميع الذي رأيتني فعلته عن رأي، ومن تلقاء نفسي، وإنما فعلتُه عن أمر الله تعالى إياي به)
وروى عن قتادة:(كان عبداً مأموراً فمضى لأمر الله).
وقال ابن كثير ــ رحمه الله ــ في "تفسيره" (3/162):( { وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي } أي: لكني أٌمِرتُ به ووقفت عليه، وفيه دلالة لمن قال بنبوة الخضر عليه السلام).
وقال القرطبي ــ رحمه الله ــ في تفسيره"(11/39):(يدل ــ أي قول الخضر عليه السلام:
{ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي } ــ على نبوته وأنه يوحى إليه بالتكاليف والأحكام، كما أُوحي إلي
الأنبياء عليه السلام غير أنه ليس برسول).
وقال أبو حيان في"البحر المحيط"(6/156):( { وَمَا فَعَلْتُهُ } أي: ما رأيت من خرق السفينة وقتل الغلام وإقامة الجدار عن اجتهاد مني ورأي وإنما فعلته بأمر الله، وهذا يدل على أنه أُوحي إليه).
وقال النووي رحمه الله في"شرح صحيح مسلم" (15/197،211):(يعني بل بأمر الله تعالى...(ثم قال): فدل على أنه نبي أوحى إليه).
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في"الزهر النضر"(ص66) في بيان وجه الاستدلال من الآية على نبوة الخضر:(وهذا ظاهر أنه بأمر من الله، والأصل عدم الواسطة، ويحتمل أن يكون بواسطة نبي آخر لم يذكره، وهو بعيد .(38/3)
ولا سبيل إلى القول بأنه إلهام ؛ لأن ذلك لا يكون من غير نبي وحياً، حتى يعمل به
ما عمل، من قتل النفس، وتعريض الأنفس للغرق، فإن قلنا : إنه نبي، فلا إنكار في ذلك).
وقال أيضاً في"فتح الباري"(1/265):(ومن أوضح ما يُستدل به على نبوة الخضر قوله:
{ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي } ).
وقال في (8/275):(...وفي الحديث من الفوائد غير ما تقدم...واستدل به على نبوة الخضر لعدة معاني قد نبهتُ عليها فيما تقدم كقوله: { وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي } ، وكاتباع موسى رسول الله له ليتعلم منه، وكإطلاقه أنه أعلم منه، وكإقدامه على قتل النفس فلا يسوغ الإقدام على قتل النفس ممن يتوقع منه أن يقتل أنفساً كثيرة قبل أن يتعاطى شيئاً من ذلك، وإنما فعل الخضر ذلك لإطلاع الله تعالى عليه).
وقال العلامة محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله في"أضواء البيان"(4/158):(ومن أظهر الأدلة في أن الرحمة والعلم اللدني الذيّن امتن الله بهما على عبده الخضر عن طريق النبوة والوحي: قوله تعالى: { وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي } ، أي وإنما فعلته عن أمر الله جلا وعلا ولا سيما قتل الأنفس البريئة في ظاهر الأمر، وتعييب سفن الناس بخرقها ؛ لأن العدوان على أنفس الناس وأموالهم، لا يصح إلا عن طريق الوحي من الله تعالى).
وقال في (4/177):(وبهذا كله تعلم أن قتل الخضر للغلام، وخرقه للسفينة، وقوله:
{ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي } دليل ظاهر على نبوته).
وقال الشيخ عبد الرحمن دمشقية حفظه الله في كتابه"أبو حامد الغزالي وكتابه إحياء علوم الدين" (ص290):(إن ما فعله الخضر عليه السلام كان مأموراً به، ولم يفعله من عنده لقوله تعالى: { وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي } ).
* الدليل الثالث:(38/4)
قال تعالى: { قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً } ]الكهف:66[. فموسى عليه السلام طلب مصاحبة الخضر عليه السلام لينال ما عنده من العلم الذي اختصه الله به، فلو كان الخضر ولياً ولم يكن نبياً لم يكن معصوماً وموسى أراد أن يتعلم منه زيادة علم على ما عنده من التوراة، فلو كان ما عند الخضر مجرد الإلهام، فمعلوم أنه ليس بعلم ولا تشريع، ولا يفيد اليقين، لجواز أن يكون للشيطان فيه مدخل، فهل يعقل أن يمضي موسى عليه الصلاة والسلام حقباً من الزمان، قيل: ثمانين سنه، ويتواضع له، ويتبعه في صورة
مستفيد منه، ليتعلم منه شيئاً للشيطان فيه مدخل؟! هل يستقيم هذا في العقل؟!
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في"الإصابة"(2/116-117):(فكيف يكون النبي تابعاً لغير نبي؟ مهما كان قدره عند الله).
* الدليل الرابع:
ومن دلائل نبوته:تعليله لما فعل بقوله: { فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا } ]الكهف:79[، { فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا } ]الكهف:81[، وقوله: { فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا... } ]الكهف:82[، فهذا يدل على أنه كان واثقاً من نتيجة عمله، جازماً بها، وهي غيب، لا يدرك إلا بوحي نبوة، ولو كان إلهاماً لقال : فرجوت أن يكون كذا، ولم يجزم به أبداً .
لهذا يقول القرطبي في "تفسيره"(11/16):(والآية تشهد بنبوته؛ لأن بواطن أفعاله لا تكون إلا بوحي).
وقال ابن حجر في"الإصابة"(2/116- 117) و"الزهر"(ص24):(وغالب أخباره مع موسى هي الدالة على تصحيح قول من قال إنه كان نبياً).
* الدليل الخامس:
ومن دلائل نبوته أيضاً: أنه لو فعل ما فعل من الأمور بحكم الإلهام، لوجب عليه القصاص في قتل الغلام، ودفع قيمة تعييب السفينة، ولا تعفيه ولايته من ذلك، لكن شيئاً من ذلك
لم يحصل، فدل على أنه كان يفعل بوحي من عند الله .
* الدليل السادس:(38/5)
قال تعالى: { عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً } ]الجن:26ــ27[.
فلما أظهر الخضر على علم الغيب كإعلامه أن الغلام طُبع يوم طُبع كافراً دل على أنه رسول بنص الآية المذكورة لأنه تعالى خص إظهار علم الغيب وحصره في المرسلين، وغيرهم
لا يطلعه على شيء من علم الغيب .
* الدليل السابع:
قوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث: { فأوحى الله إليه أن عبداً من عبادي بمجمع البحرين هو أعلم
منك } رواه البخاري ومسلم .
قال ابن كثير رحمه الله في"تفسيره" (3/101):(..خصه بعلم لم يطلع موسى عليه).
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في "الإصابة"(2/116) و"الزهر"(ص23):(فإن قلنا إنه نبي فلا إنكار في ذلك، وأيضاً فكيف يكون غير النبي أعلم من النبي؟.
وقد أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم -في الحديث الصحيح أن الله تعالى قال لموسى: { بلى عبدنا خضر } ، وأيضاً فكيف يكون النبي تابعاً لغير نبي).
ولا ريب أن جعل غير النبي أعلم من النبي باب فتحه الزنادقة كما نقل ابن حجر في "الإصابة"(2/116) عن بعض أكابر العلماء أنه كان يقول:(أول عقد يحل من الزندقة اعتقاد كون الخضر نبياً، لأن الزنادقة يتذرعون بكونه غير نبي إلى أن الولي أفضل من النبي كما قال قائلهم:
مقام النبوة في برزخ فويق الرسول ودون الولي).
وقال أيضاً في"فتح الباري"(1/265) تحت قوله: { هو أعلم منك } :(ظاهر في أن الخضر نبي بل نبي مرسل، إذ لو لم يكن كذلك للزم تفضيل العالي على الأعلى وهو باطل من القول).
وقال النووي رحمه الله في"تهذيب الأسماء واللغات"(1/179):(والخضر على جميع الأقوال نبي).
قلتُ: إذاً فهو نبي ولا سبيل إلى إنكار نبوته بحال من الأحوال لأنه لا يسوغ أن يكون نبياً معصوماً من أولى العزم من الرسل تابعاً لبشر غير نبي يجوز عليه الخطأ وغيره لأنه غير معصوم.(38/6)
* الدليل الثامن:
قوله تعالى: { قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ } ]الكهف:78[.
لأنه لو كان مجرد ولي تابع لنبي وقته لم يرغب بأي حال من الأحوال عن مرافقة نبي الله موسى عليه السلام.
وفي "المنار المنيف" نقلاً عن ابن الجوزي:(فكيف يرضى لنفسه بمفارقة مثل موسى عليه السلام ثم يجتمع بجهلة العباد، الخارجين عن الشريعة الذين لا يحضرون جمعة ولا جماعة
ولا مجلس علم وكل منهم يقول: قال لي الخضر، جاءني الخضر، أوصاني الخضر، فيا عجباً له يفارق الكليم ويدور على صحبة جاهل لا يصحبه إلا شيطان رجيم سبحانك هذا بهتان عظيم).
وفي هذا كفاية لمن شرح الله صدره لقبول الحق .
* ثانياً: إثبات وفاته عليه الصلاة والسلام:
* الدليل الأول:
قوله تعالى: { وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ } ]الانبياء:34[. قال ابن كثير رحمه الله في"تفسيره"(3/187):(يقول تعالى: { وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ }
يا محمد { الْخُلْدَ } أي: في الدنيا بل { كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ } ]الرحمن:26ــ27[، وقد استدل بهذه الآية الكريمة من ذهب من العلماء إلى أن الخضر عليه السلام مات وليس بحي إلى الآن لأنه بشر).
وقال ابن الجوزي رحمه الله كما في"المنار المنيف" لابن القيم رحمه الله:(فلو دام الخضر كان خالداً).
وقال أيضاً كما في "البداية والنهاية " لابن كثير رحمه الله (1/312):(فالخضر إن كان بشراً فقد دخل في هذا العموم لا محالة، ولا يجوز تخصيصه منه إلا بدليل صحيح).
وقال ابن كثير مؤكداً كلام ابن الجوزي ــ بعد نقله إياه ــ:(الأصل عدمه، حتى يثبت،
ولم يذكر ما فيه دليل على التخصيص عن معصوم يجب قبوله).(38/7)
وقال الشنقيطي رحمه الله في"تفسيره"(4/179):(ظاهر عموم قوله تعالى: { وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ } ، فقوله: { لِبَشَرٍ } نكرة في سياق النفي تعم كل بشر، فيلزم من ذلك نفي الخلد عن كل بشر من قبله .
والخضر بشر من قبله؛ فلو كان شرب من عين الحياة وصار حياً خالداً إلى يوم القيامة لكان الله قد جعل لذلك البشر الذي هو الخضر من قبله الخلد).
* الدليل الثاني:
قال تعالى: { وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ } ]آل عمران:81[. قال الحافظ ابن كثير رحمه الله في"البداية والنهاية"(1/312):(قال ابن عباس رضي الله عنهما:(ما بعث الله نبياً إلا أخذ عليه الميثاق، لئن بُعِثَ محمد- صلى الله عليه وسلم - وهم أحياء ليؤمنن به وينصرنه ...) فالخضر إن كان نبياً أو ولياً، فقد دخل في هذا الميثاق ؛ فلو كان حياً في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - لكان أشرف أحواله أن يكون بين يديه، يؤمن بما أنزل الله عليه، وينصره أن يصل أحد من الأعداء إليه، لأنه إن كان ولياً فالصديق أفضل منه، وإن كان نبياً، فموسى أفضل منه، وقد روى الإمام أحمد في مسنده...أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: { والذي نفسي بيده،
لو أن موسى كان حياً ما وسعه إلا أن يتبعني } وهذا الذي يُقطع به ويُعلم من الدين بالضرورة . . .(38/8)
فإذا علم هذا...علم أنه لو كان الخضر حياً، لكان من جملة أمته - صلى الله عليه وسلم -، وممن يقتدي بشرعه، لا يسعه إلا ذلك، وهذا عيسى بن مريم عليه السلام إذا نزل في آخر الزمان يحكم بهذه الشريعة المطهرة، لا يخرج منها، ولا يحيد عنها، وهو أحد أولي العزم الخمسة المرسلين وخاتم أنبياء بني إسرائيل).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله "مجموع الفتاوى"(17/100ــ102)باختصار: (والصواب الذي عليه المحققون أنه ميت وأنه لم يدرك الإسلام ولو كان موجوداً في زمن
النبي - صلى الله عليه وسلم - لوجب عليه أن يؤمن به ويجاهد معه كما أوجب الله ذلك عليه وعلى غيره، ولكان يكون في مكة والمدينة ولكان حضوره مع الصحابة للجهاد معهم وإعانتهم على الدين أولى به من حضوره عند قوم كفار ليرقع لهم سفينتهم ولم يكن مختفياً عن خير أمة أخرجت للناس وهو قد كان بين يدي المشركين ولم يحتجب عنهم ثم ليس للمسلمين به وأمثاله حاجة لا في دينهم و لا في دنياهم، فإن دينهم أخذوه عن الرسول النبي الأمي - صلى الله عليه وسلم - الذي علمهم الكتاب والحكمة...وإذا كان الخضر حياً دائماً فكيف لم يذكر النبي ذلك قط ولا أخبر به أمته
ولا خلفاؤه الراشدون، وقول القائل إنه نقيب الأولياء فيقال له: من ولاه النقابة وأفضل الأولياء أصحاب محمد وليس فيهم الخضر وعامة ما يحكى في هذا الباب من الحكايات بعضها كذب وبعضها مبني على ظن رجل: مثل شخص رأى رجلاً ظن أنه الخضر وقال: إنه الخضر كما أن الرافضة ترى شخصاً تظن أنه الإمام المنتظر المعصوم أو تدعي ذلك.
وروى عن الإمام أحمد ابن حنبل أنه قال وقد ذكر له الخضر:(من أحالك على غائب
فما أنصفك وما ألقى هذا على ألسنة الناس إلا الشيطان)).(38/9)
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله في"الإصابة"(1/434):(فلو كان الخضر موجوداً في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - لجاء إليه ونصره بيده ولسانه وقاتل تحت رايته، وكان من أعظم الأسباب في إيمان معظم أهل الكتاب الذين يعرفون قصته مع موسى).
وقال العلامة الشنقيطي رحمه الله في"أضواء البيان":(أن الخضر لو كان حياً إلى زمن
النبي - صلى الله عليه وسلم - لكان من أتباعه، ولنصره وقاتل معه ؛ لأنه مبعوث إلى جميع الثقلين الإنس والجن، والآيات الدالة على عموم رسالته كثيرة جداً؛ كقوله تعالى: { قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً } ]الأعراف:158[، وقوله: { تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً } ]الفرقان:1[ وقوله تعالى: { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ } ]سبأ:28[.
ويوضح هذا أنه تعالى بيَّن في سورة "آل عمران": أنه أخذ على جميع النبيين الميثاق المؤكد أنهم إن جاءهم نبينا - صلى الله عليه وسلم - مصدقاً لما معهم أن يؤمنوا به وينصروه، وذلك في قوله تعالى: { وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ * فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ } ]آل عمران:81ـ ـ82[، وهذه الآيات الكريمة على القول بأن المراد بالرسول فيها نبيا - صلى الله عليه وسلم -، كما قاله ابن العباس وغيره
ــ فالأمر واضح ــ وعلى أنها عامة فهو - صلى الله عليه وسلم - يدخل في عمومها دخولاً أولياً؛ فلو كان الخضر حياً في زمنه لجاءه ونصره وقاتل تحت رايته.(38/10)
ومما يوضح أنه لا يدركه نبي إلا ابتعه ما رواه الإمام أحمد وابن أبي شيبة والبزار من حديث جابر - رضي الله عنه -: أن عمر - رضي الله عنه - أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - بكتاب أصابه من بعض أهل الكتاب فقرأه عليه فغضب وقال: { لقد جئتكم بها بيضاء نقية لا تسألوهم عن شيء فيخبروكم بحق فتكذبوا به، أو بباطل فتصدقوا به.والذي نفسي بيده لو أن موسى كان حياً ما وسعه إلا أن يتبعني } .
قال ابن حجر ــ ومازال الكلام للعلامة الشنقيطي ــ في"الفتح":ورجاله موثقون إلا أن في مجالد ضعفاً))اهـ.
* الدليل الثالث:
ما روه البخاري ومسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - صلاة العشاء في آخر حياته فلما سلم قام النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: { أرأيتكم ليلتكم هذه فإن على رأس مائة سنة منها لا يبقى ممن هو اليوم على ظهر الأرض أحد } فوهل الناس في مقالة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى ما يتحدثون من هذه الأحاديث عن مائة سنة وإنما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: { لا يبقى ممن هو اليوم على ظهر الأرض } يريد أنها تخرم ذلك القرن .
وفي إحدى روايات مسلم عن جابر بن عبد الله عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال قبل أن يموت بشهر: { ما من نفس منفوسة اليوم تأتي عليها مائة سنة وهي حية يومئذ } .
قال ابن الجوزي رحمه الله كما في"البداية والنهاية" لابن كثير (1/313ــ 314):(فهذه الأحاديث الصحاح، تقطع دابر دعوى حياة الخضر .. فالخضر إن لم يكن قد أدرك زمان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، كما هو المظنون الذي يرتقي في القوة إلى القطع، فلا إشكال، وإن كان قد أدرك زمانه، فهذا الحديث يقتضي أنه لم يعش بعد مائة سنة، فيكون الآن مفقوداً، لا موجوداً، لأنه داخل في العموم، والأصل عدم المخصص له حتى يثبت بدليل صحيح يجب قبوله، والله أعلم)اهـ .(38/11)
وقد بين الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله وجه العموم في الحديث بقوله في"أضواء البيان"(4/167):(...فقوله: { نفس منفوسة } ونحوها من الألفاظ في روايات الحديث، نكرة في سياق النفي، فهي تعم كل نفس مخلوقة على الأرض، ولا شك أن ذلك العموم بمقتضى اللفظ، يشمل الخضر، لأنه منفوسة على الأرض) اهـ .
قال الإمام النووي رحمه الله في"شرح صحيح مسلم":(16/324):(والمراد أن كل نفس منفوسة كانت تلك الليلة على الأرض لا تعيش بعدها أكثر من مائة سنة سواء قل أمرها قبل ذلك أم لا).
ثم قال رحمه الله:(وقد احتج بهذه الأحاديث من شذ من المحدثين فقال:الخضر عليه السلام ميت، والجمهور على حياته..ويتأولون هذه الأحاديث على أنه كان على البحر
لا على الأرض، أو أنها عام مخصوص).
وقد رد العلامة الشنقيطي رحمه الله على تلك التأويلات فقال في"أضواء البيان" (4/187ــ192) بتصرف:(واعلم أن جماعة من أهل العلم ناقشوا الأدلة التي ذكرنا أنه تدل على وفاته فزعموا أنه لا يشمله عموم: { وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ } ولا عموم حديث: { أرأيتكم ليلتكم هذه فإنه على رأس مائة سنة لم يبق على ظهر الأرض أحد ممن هو عليها اليوم }
كما تقدم.
قال أبو عبد الله القرطبي في"تفسيره"رحمه الله تعالى: ولا حجة لمن استدل به ــ يعني الحديث المذكور ــ على بطلان قول من يقول: إن الخضر حي لعموم قوله: { ما من نفس منفوسة.. } لأن العموم وإن كان مؤكد الاستغراق ليس نصاً فيه؛ بل هو قابل للتخصيص، فكما لم يتناول عيسى عليه السلام فإنه لم يمت ولم يقتل، بل هو حي بنص القرآن ومعناه .(38/12)
ولا يتناول الدجال مع أنه حي بدليل حديث الجساسة: فكذلك لم يتناول الخضر عليه السلام، وليس مشاهداً للناس، ولا ممن يخالطهم حتى يخطر ببالهم حالة مخاطبة بعضهم بعضاً، فمثل هذا العموم لا يتناوله. وقيل: إن أصحاب الكهف أحياء، ويحجون مع عيسى عليه السلام كما تقدم، وكذلك فتى موسى في قول ابن عباس كما ذكرنا.اهـ منه .
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له ــ والكلام ما زال للعلامة الشنقيطي ــ: كلام القرطبي هذا ظاهر السقوط كما لا يخفى على من له إلمام بعلوم الشرع؛ فإنه اعتراف بأن حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - عام في كل نفس منفوسة عموماً مؤكداً؛ لأن زيادة "من" قبل النكرة في سياق النفي تجعلها نصاً صريحاً في العموم لا ظاهراً فيه كما هو مقرر في الأصول. وقد أوضحناه في سورة "المائدة".
ولو فرضنا صحة ما قاله القرطبي رحمه الله تعالى من أنه ظاهر في العموم لا نص فيه، وقررنا أنه قابل للتخصيص كما هو الحق في كل عام؛ فإن العلماء مجمعون على وجوب استصحاب عموم العام حتى يرد دليل مخصص صالح للتخصيص سنداً ومتناً، فالدعوى المجردة عن دليل من كتاب أو سنة لا يجوز أن يخصص بها نص من كتاب أو سنة إجماعاً .
وقوله:(إن عيسى لم يتناوله عموم الحديث) فيه أن لفظ الحديث من أصله لم يتناول عيسى؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال فيه: { لم يبق على ظهر الأرض ممن هو بها اليوم أحد } ؛ فخصص ذلك بظهر الأرض فلم يتناول اللفظ من في السماء، وعيسى قد رفعه الله من الأرض كما صرح بذلك في قوله تعالى: { بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ } ]النساء:158[ وهذا واضح جداً كما ترى .
ودعوى حياة أصحاب الكهف، وفتى موسى ظاهرة السقوط، ولو فرضنا حياتهم فإن الحديث يدل على موتهم عند المائة كما تقدم ؛ ولم يثبت شيء يعارضه .
وقوله:(إن الخضر ليس مشاهداً للناس، ولا ممن يخالطهم حتى يخطر ببالهم حالة مخاطبة بعضهم بعضاً) يقال فيه: إن الاعتراض يتوجه عليه من جهتين:(38/13)
الأولى: أن دعوى كون الخضر محجوباً عن أعين الناس ــ كالجن والملائكة ــ دعوى لا دليل عليها والأصل خلافها ؛ لأن الأصل أن بني آدم يرى بعضهم بعضاً لاتفاقهم في الصفات النفسية، ومشابهتهم فيما بينهم .
الثانية: أنا لو فرضنا أنه لا يراه بنو آدم، فالله الذي أعلم النبي بالغيب الذي هو (هلاك كل نفس منفوسة في تلك المائة) عالم بالخضر، وبأنه نفس منفوسة، ولو سلمنا جدلياً أن الخضر فرد نادر لا تراه العيون، وأن مثله لم يقصد بالشمول في العموم، فأصح القولين عند علماء الأصول شمول العام والمطلق للفرد النادر والفرد غير المقصود.خلافاً لمن زعم أن الفرد النادر وغير المقصود لا يشملهما العام ولا المطلق... وقد كان الصحابة رضي الله عنهم يعملون بشمول العمومات من غير توقف في ذلك .
وبذلك تعلم أن دخول الخضر في عموم قوله تعالى: { وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ... } الآية، وعموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: { أرأيتكم ليلتكم هذه فإنه على رأس مائة سنة لا يبقى على وجه الأرض ممن هو عليها اليوم أحد } هو الصحيح، ولا يمكن خروجه من تلك العمومات
إلا بمخصص صالح للتخصيص ومما يوضح ذلك: أن الخنثى صورة نادرة جداً، مع أنه داخل في عموم آيات المواريث والقصاص والعتق، وغير ذلك من عمومات أدلة الشرع.(38/14)
وما ذكره القرطبي من خروج الدجال من تلك العمومات بدليل حديث الجساسة لا دليل فيه؛ لأن الدجال أخرجه دليل صالح للتخصيص، وهو الحديث الذي أشار له القرطبي، وهو حديث ثابت في الصحيح من حديث فاطمة بنت قيس رضي الله عنهما...ومحل الشاهد منه قول تميم الداري:(فانطلقنا سراعاً حتى دخلنا الدير فإذا فيه أعظم إنسان رأيناه قط خلقاً، وأشده وثاقاً مجموعة يداه إلى عنقه ما بين ركبتيه إلى كعبيه بالحديد؛ قلنا: ويلك! مالك! الحديث بطوله ــ إلى قوله ــ وإني مخبركم عني، إني أنا المسيح، وإني أوشك أن يُؤْذن لي في الخروج فأخرج فأسير في الأرض، فلا أدع قرية إلا هبطها في أربعين ليلة غير مكة وطيبة فهما محرمتان عليّ كلتاهما...) الحديث"صحيح مسلم" (2942).
فهذا نص صحيح صريح في أن الدجال حي موجود في تلك الجزيرة البحرية المذكورة في حديث تميم الداري المذكور، وأنه باقٍ وهو حي: حتى يخرج في آخر الزمان وهذا نص صالح للتخصيص يُخْرجُ الدجال من عموم حديث موت كل نفس في المائة .
والقاعدة المقررة في الأصول: أن العموم يجب إبقاؤه على عمومه، فما أخرجه نص مخصص خرج من العموم، وبقي العام حجة في بقية الأفراد التي لم يدل على إخراجها دليل؛ كما قدمناه مراراً وهو الحق ومذهب الجمهور، وهو غالب ما في الكتاب والسنة من العمومات يخرج منها بعض الأفراد بنص مخصص، ويبقى العام حجة في الباقي، وإلى ذلك أشار في مراقي السعود في مبحث التخصيص بقوله:
وهو حجة لدى الأكثر إن مخصص له معيناً يبن
وبهذا كله يتبين أن النصوص الدالة على موت كل إنسان على وجه الأرض في ظرف تلك المائة، ونفي الخلد عن كل بشر قبله تتناول بظواهرها الخضر، ولم يخرجه منها نص صالح للتخصيص كما رأيت والعلم عند الله) انتهى كلام العلامة الشنقيطي رحمه الله .(38/15)
وقال العلامة عبد العزيز بن باز رحمه الله في تعليقه على "فتح الباري" (2/90):(الذي عليه أهل التحقيق أن الخضر قد مات قبل بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم -لأدلة كثيرة معروفة في محلها،
ولو كان حياً في حياة نبياً - صلى الله عليه وسلم - لدخل في هذا الحديث وكان ممن أتى عليه الموت قبل رأس المائة كما أشار إليه الشارح هنا فتنبه، والله أعلم) اهـ .
* الدليل الرابع:
ثبت في"صحيح البخاري" أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال يوم بدر: { اللهم إن تهلك هذه العصابة
لا تُعْبَدْ في الأرض } رواه البخاري ومسلم، ولم يكن الخضر فيهم ولو كان حياً لورد على هذا العموم فإنه كان ممن يعبد الله قطعاً .
قال ابن القيم رحمه الله في "المنار المنيف" (ص36):(سئل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عن الخضر عليه السلام؛ فقال لو كان الخضر حيا لوجب عليه أن يأتي النبي - صلى الله عليه وسلم - ويجاهد بين يديه ويتعلم منه، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم بدر: { اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض } وكانوا ثلاث مائة وثلاثة عشر رجلاً، معروفين بأسمائهم وأسماء آبائهم وقبائلهم فأين كان الخضر حينئذ) اهـ .
وقال العلامة الشنقيطي رحمه الله في"أضواء البيان" (4/165ــ 166):(ومحل الشاهد منه قوله - صلى الله عليه وسلم -: { لا تعبد في الأرض } فعل في سياق النفي: فهي بمعنى: لا تقع عبادة لك في الأرض، لأن الفعل ينحل عن مصدر وزمن عند النحويين، وعن مصدر ونسبة وزمن عند كثير من البلاغيين، فالمصدر كامن في مفهومه إجماعاً، فيتسلط عليه النفي، فيؤول إلى النكرة في سياق النفي، وهو من صيغ العموم...فإذا علمت أن معنى قوله - صلى الله عليه وسلم -: { إن تهلك هذه العصابة لا تُعْبَدْ في الأرض } أي لا تقع عبادة لك في الأرض:(38/16)
فاعلم أن ذلك النفي يشمل بعمومه وجود الخضر حياً في الأرض، لأنه على تقدير وجوده حياً في الأرض فإن الله يُعْبَدُ في الأرض، ولو على فرض هلاك تلك العصابة من أهل الإسلام؛ لأن الخضر ما دام حياً فهو يعبد الله في الأرض).
واستدل بهذا الحديث ذاته، الإمام ابن كثير في"البداية والنهاية"(1/312ــ313) ووجهه: بأن تلك العصابة ــ التي هي مقصود الحديث ــ كان فيها سادة المسلمين يومئذ، وسادة الملائكة، حتى جبريل عليه السلام، فلو كان الخضر حياً، لكان وقوفه تحت هذه الراية، أشرف مقاماته، وأعظم غزواته .
* الدليل الخامس:
قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: { وددنا أن موسى كان صبر فقصَّ الله علينا من خبرهما } رواه البخاري ومسلم .
قال الحافظ:(وهذا مما استدل به من زعم أنه لم يكن حالة هذه المقالة موجوداً إذ لو كان موجوداً لأمكن أن يصحبه بعض أكابر الصحابة فيرى منه نحواً مما رأى موسى).
* الدليل السادس:
قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: { والذي نفسي بيده لو أن موسى كان حياً ما وسعه إلا أن يتبعني } رواه الإمام أحمد .
قال ابن الجوزي:(فإذا كان هذا في حق موسى فكيف لم يتبعه الخضر إذ لو كان حياً فيصلي معه الجمعة والجماعة ويجاهد تحت رأيته كما ثبت أن عيسى يصلي خلف إمام هذه الأمة).
* ثالثاً: الأدلة العقلية على موت الخضر عليه الصلاة والسلام:
قال الإمام ابن الجوزي رحمه الله كما في"المنار المنيف" للإمام ابن القيم رحمه الله:
(أما الدليل من المعقول على موت الخضر عليه السلام فمن عشرة أوجه :
* الوجه الأول: أن الذي أثبت حياته يقول إنه ولد آدم لصلبه وهذا فاسد لوجهين:
أحدهما: أن يكون عمره الآن ستة آلاف سنة فيما ذكر في كتاب يوحنا المؤرخ، ومثل هذا بعيد في العادات أن يقع في حق البشر .
الثاني: أنه لو كان ولده لصلبه، أو الرابع من ولد ولده كما زعموا، وأنه كان وزير ذي
القرنين، فإن تلك الخلقة ليست على خلقتنا بل مفرط في الطول والعرض .(38/17)
* الوجه الثاني: في"الصحيحين" من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال:
{ خلق الله آدم طوله ستون ذراعا فلم يزل الخلق ينقص بعد } وما ذكر أحد ممن رأى الخضر أنه رآه على خلقة عظيمة وهو من أقدم الناس .
* الوجه الثالث: إن كان الخضر قبل نوح لركب معه في السفينة ولم ينقل هذا أحد .
* الوجه الرابع: أنه قد اتفق العلماء أن نوحاً لما نزل من السفينة مات من كان معه، ثم مات نسلهم، ولم يبق غير نسل نوح، والدليل على هذا قوله تعالى: { وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ }
]الصافات:77[؛ وهذا يبطل قول من قال إنه كان قبل نوح .
* والوجه الخامس: أن هذا لو كان صحيحاً أن بشراً من بني آدم يعيش من حين يولد إلى آخر الدهر، ومولده قبل نوح، لكان هذا من أعظم الآيات والعجائب، وكان خبره في القرآن مذكوراً في غير موضع، لأنه من أعظم آيات الربوبية، وقد ذكر الله سبحانه وتعالى من أحياه ألف سنة إلا خمسين عاما، وجعله آية، فكيف بمن أحياه إلى آخر الدهر، ولهذا قال بعض أهل العلم: ما ألقى هذا بين الناس إلا شيطان .
* والوجه السادس: أن القول بحياة الخضر قول على الله بلا علم، وذلك حرام بنص القرآن.
أما المقدمة الثانية فظاهره، وأما الأولى فإن حياته لو كانت ثابتة لدل عليها القرآن
أو السنة، أو إجماع الأمة، فهذا كتاب الله تعالى فأين فيه حياة الخضر؟ وهذه سنة
رسول الله- صلى الله عليه وسلم - فأين فيها ما يدل على ذلك بوجه؟ وهؤلاء علماء الأمة هل أجمعوا على حياته؟
* الوجه السابع : أن غاية ما تمسك به من ذهب إلى حياته حكايات منقولة يخبر الرجل بها أنه رأى الخضر!!
فيا لله العجب هل للخضر علامة يعرف بها من رآه، وكثير من هؤلاء يغتر بقوله: أنا الخضر؟!
ومعلوم أنه لا يجوز تصديق قائل ذلك بلا برهان من الله، فأين للرائي أن المخبر له صادق
لا يكذب؟!(38/18)
* الوجه الثامن: أن الخضر فارق موسى بن عمران كليم الرحمن ولم يصاحبه وقال له:
{ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ } ]الكهف:78[، فكيف يرضى لنفسه بمفارقته لمثل موسى، ثم يجتمع بجهلة العباد الخارجين عن الشريعة الذين لا يحضرون جمعة ولا جماعة، ولا مجلس علم، ولا يعرفون من الشريعة شيئا؟! وكل منهم يقول: قال الخضر، وجاءني الخضر، وأوصاني
الخضر، فيا عجبا له يفارق كليم الله تعالى ويدور على صحبة الجهال ومن لا يعرف كيف
يتوضأ، ولا كيف يصلي!!
* الوجه التاسع: أن الأمة مجمعة على أن الذي يقول أنا الخضر، لو قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول كذا وكذا لم يلتفت إلى قوله، ولم يحتج به في الدين، ولا مخلص القائل بحياته عن ذلك إلا أن يقول إنه لم يأت إلى الرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا بايعه أو يقول إنه لم يرسل إليه!! وفي هذا من الكفر ما فيه!
* الوجه العاشر: أنه لو كان حياً لكان جهاده الكفار، ورباطه في سبيل الله، ومقامه في الصف ساعة، وحضوره الجمعة والجماعة، وإرشاده الأمة أفضل بكثير من سياحته بين الوحوش في القفار، والفلوات، وهل هذا إلا من أعظم الطعن عليه والعيب له؟!
* رابعاً: أقوال العلماء في تضعيف الأحاديث التي جاء فيها أنه حي:
1ــ نقل ابن الجوزي رحمه الله تلك الأحاديث بأسانيدها في كتابه"الموضوعات"(1/195ـ197) ثم قال:(هذه الأحاديث باطلة).
2 ــ قال الحافظ ابن القيم رحمه الله في "المنار المنيف"(ص67):(والأحاديث التي يذكر فيها الخضر وحياته، كلها كذب، ولا يصح في حياته حديث واحد) اهـ .
3 ــ نقل الحافظ ابن كثير تلك الأحاديث في"البداية والنهاية"(1/334) ثم قال:(هذه الروايات والحكايات هي عمدة من ذهب إلى حياته إلى اليوم، وكل من الأحاديث المرفوعة ضعيفة جداً، لا تقوم بمثلها حجة في الدين).(38/19)
4 ــ ونقل الحافظ ابن حجر رحمه الله في كتابه"الزهر النضر"(ص32) قول أبي الخطاب ابن دحية ــ مقراً له ــ:(ولا يثبت اجتماع الخضر مع أحد من الأنبياء إلا مع موسى كما قص الله تعالى من خبرهما، وجميع ما ورد في حياته لا يصح منها شيء باتفاق أهل النقل، وإنما يَذكر ذلك من يروي الخبر ولا يذكر علته، إما لكونه لا يعرفها، وإما لوضوحها عند أهل الحديث).
5 ــ ونقل ابن الجوزي رحمه الله في "الموضوعات"(1/199) عن ابن المنادي قوله:(جميع
الأخبار في ذكر الخضر، واهية الصدر والأعجاز..).
* خامساً: الرد على تقسيم الصوفية الدين إلى ظاهر وباطن:
وفي هذا الفصل أورد ما ذكره الشيخ عبدالرحمن دمشقية حفظه الله في كتابه"أبو حامد الغزالي والتصوف"(ص256ــ262) في الرد على استغلال الصوفية السيئ لقصة موسى والخضر عليهما السلام في تقسيمهم الدين إلى ظاهر وباطن! حيث قال :
ولو أن الأمة كلها أرادت الاقتداء بقصة موسى مع الخضر ــ على الوجه الذي يفهمه منها الصوفية ـ لبطل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولأصبحت هذه القصة ذريعة الزنادقة لتحليل الشرائع، كما تذرعت الباطنية بقاعدة الباطن والظاهر في تحليل المحرمات وإسقاط التكاليف وإبطال الفرائض .
ولأصبح بإمكان الزنادقة أن يصرخوا في وجه المنكرين ويسكتوهم بمجرد تذكيرهم بقصة موسى والخضر بحجة أن عليهم التزام الصمت وعدم التسرع في الإنكار كما فعل ذلك موسى (عليه الصلاة والسلام)، وهذا قد حصل بالفعل إذ حجج ضلال الصوفية قائمة على هذه القصة وكم ألبسوا بذلك على جهال المسلمين، وأوقعوهم في متاهات الضلال .
أما القصة فهي حق وما ورد فيها حق، وأما استغلال الصوفية لها، فإنه استغلال لحقٍ أُريد به باطل.
وذلك لوجوه تسعة:(38/20)
* الوجه الأول:(أن موسى عليه الصلاة والسلام كان يعلم منزلة الخضر عليه السلام في العلم وأنه أكثر علماً منه، وهذا كافٍ لأخذ ما عند الخضر بلا انكار ولا اعتراض، ومع ذلك فقد أنكر موسى - صلى الله عليه وسلم - عليه بينما لم يخبر الله العباد عن حقيقة صدق المشايخ أو كذبهم
وما يسمون بالأولياء عند الصوفية ولا أنزل فيهم ذكراً يجعل الناس واثقين من أن ما يرونه منهم من الأعمال المنكرة يكون له تأويلات مشابهة لأعمال الخضر عليه الصلاة والسلام .
وحين سئل موسى عليه السلام: أي الناس أعلم؟ قال: أنا، فعتب الله عليه إذ لم يرد العلم إليه فقال:بلى، لي عبد بمجمع البحرين هو أعلم منك.قال: أيْ رب ومن لي به؟ قال: تأخذ حوتاً فتجعله في مكتل، وحيثما فقدت الحوت فهو ثمَ"]"فتح الباري"(6/431ــ432)[ أي يكون في المكان الذي أضعت عنده الحوت .
إذن فموسى عليه السلام على علم بمنزلته في العلم، وبمكانه الذي يلقاه عنده، بل هو مأمور بملاقاته كما يستفاد ذلك من الحديث .
قال الطبري:(وكان موسى قد حدث نفسه أنه ليس أحد أعلم منه أو تكلم به، فمن ثم أُمر أن يأتي الخضر)"تفسير الطبري"(15/179).
* الوجه الثاني: أن ما فعله الخضر عليه السلام كان مأموراً به، ولم يفعله من عنده لقوله تعالى: { وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي } ]الكهف:82[، وقد ذهب المفسرون إلى أن الأمر ههنا هو الوحي ــ وفي مقدمتهم الرازي ــ بحجة استحالة قتل غلام ونحوه من غير حصول وحي قاطع يأمر بذلك، فهل مشايخ الصوفية مأمورون من الله بفعل المنكرات المخالفة لأوامره ونواهيه ودينه الذي أتمه وارتضاه لعباده؟ وهل يحصل لهم الوحي في ذلك كما حصل للخضر عليه السلام؟ إن قالوا بحصول الوحي فإنهم حينئذ دجاجلة لا فرق بينهم وبين مسيلمة .(38/21)
وإن نفوا أن يكونوا قد فعلوا هذه المنكرات بمقتضى وحي ما، فحينئذٍ يقال لهم: ما تفعلونه مخالف لما أوحاه الله على نبيه - صلى الله عليه وسلم -، فلا وجه يصح في استدلالكم بقصة الخضر وبأفعاله التي كانت وحياً ولم يفعلها عن أمره؟!!!
* الوجه الثالث:(أنهم باستدلالهم بقصة موسى والخضر عليهما السلام ينتقصون من مكانة وقدر موسى عليه الصلاة والسلام، فإنهم ينزلونه منزلة العوام الذين يرون ظواهر الأعمال
ولا يتفطنون إلى معرفة حقائقها .
وهم ــ أي مشايخ الصوفية ــ يدعون أنهم يعرفون ذلك، ويقدمون بذلك درجة العارف (الصوفي) على رتبة النبي(1)، جاعلين موسى في مصاف العوام الذين لم ينالوا درجة الصوفي العارف .
* الوجه الرابع: أنه لا يجوز الخروج على شريعة النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - إلى شريعة أخرى، وهذه القصة حدثت في بني إسرائيل لم نؤمر بالتعبد بفعلها، قال تعالى: { تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا
مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ } ]البقرة:134[. فقد أمر الله تعالى مريم وزكريا أن يمسكا عن الكلام ثلاثة أيام بقوله: { فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً } ]مريم:26[، وقوله لزكريا عليه السلام: { قَالَ آيَتُكَ
أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيَالٍ سَوِيّاً } ]مريم:10[.
__________
(1) قال بذلك محي الدين ابن عربي انظر "فصوص الحكم" (1/62 و 134) طبعة دار الكتاب العربي.(38/22)
فهل يجوز أن يتخذ أحد من أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - من هذا الصيام عبادة له فيصوم عن الكلام مستدلاً بورود ذلك في القرآن؟ ومعلوم أن الخضر وموسى بل وسائر الأنبياء عليهم أفضل الصلوات وأتم التسليم، لو كانوا أحياء لما وسعهم إلا أن يتبعوا شريعة النبي محمد - صلى الله عليه وسلم -، لأن النبي كان يُرسل إلى قومه خاصة؛ ونبيناً - صلى الله عليه وسلم - أُرسل إلى الناس عامة ــ إنسهم وجنهم ــ وحين ينزل المسيح آخر الزمان، فإنه يحكم بين الناس بشريعة القرآن لا يحكم بإنجيل ولا توراة .
والمسيح عليه الصلاة والسلام هو من الرسل الخمسة أولي العزم، وهو خاتم أنبياء بني إسرائيل، ومع هذا فإنه يتبع ما أُنزل إلى نبينا - صلى الله عليه وسلم -، ويحكم بين الناس فيه.
* الوجه الخامس: أن موسى والخضر عليهما السلام لم يخرجا عن الشريعة والنصوص في شيء، وإنما كان موقف موسى مع الخضر كموقف المجتهد المتمسك بعموم الدليل مع صاحب النص الخاص المتمسك بالدليل الخاص، وكلاهما على الدليل يعتمد، ومن الشريعة يستقي لأن هذا مأمور وذلك مأمور .
فمثلاً قصة الغلام: معلوم أن قتل النفس بغير نفس هو منكر ومحرم .
وهذا يعلمه موسى والخضر عليهما السلام ويؤمنان به، وهذا التحريم عام في كل نفس،
إلا ما نص الشرع على خصوصيته واستحقاقه للقتل فبقي موسى على هذا العموم حسب علمه .
لكن الخضر عنده في هذا الغلام المعين دليل خاص فقتله إذ كان مأموراً من الله بفعله حيث قال: { فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَاناً وَكُفْراً } ]الكهف:80[ بدليل أن الخضر عليه السلام
لم يقتل أحداً من المساكين ــ أصحاب السفينة ــ ولا أهل القرية الذين أبوا أن يضيفوهما،
ألا ترى أنه لو كان القتل عند الخضر حلالاً ومخالفاً لشريعة موسى لكان أهل القرية أحرى بالقتل من الغلام، إذ قد منعوه اليسير من الطعام، بينما لم يكن قد أظهر شيئاً من الكفر!(38/23)
لكن الأمر غير ذلك. فقد قتل الخضر من جاءه أمر الله بقتله، إذ الأمر وحي من الله ووقوف مع النص، فتحريم الله القتل عند موسى عليه السلام هو تشريع من الله بذلك، وإباحة الله للخضر عليه السلام بقتل الغلام تشريع من الله بذلك .
فهذا كله في واد، وما تزعمه الصوفية في واد آخر، وما هدف القوم إلا هدم الإسلام،
وإلا فلماذا انتحال المعاذير وتأويل النصوص الصريحة الدالة على اجتناب المحرمات، بل في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي يستند إليه من ينكر عليهم فسادهم؟!!!
* الوجه السادس: أن الخضر عليه السلام لم ينكر على موسى عليه السلام إنكاره عليه مطلقاً، بل أنكر عليه تسرعه في الإنكار قبل أن يسأله عن مأخذه الشرعي، مع أنه حذره أنه لن يستطيع معه الصبر على ما لم يحط به خبراً، ولولا علم موسى عليه السلام بنبوة الخضر عليه السلام لما صبر عليه ولما ارتضى أن يُقتل طفل صغير أمامه وغرق سفينة ومع ذلك فقد أنكر وغالب الصوفية لا ينكرون على من ليسوا أنبياء .
وثانياً : أنه أشترط عليه ألا يسأله عن شيء حتى يحدث له منه ذكراً، ولكن كان من شأن موسى عليه السلام، وطبعه أن يسارع في الحق كما قص الله تعالى علينا من خبر إقدامه على قتل القبطي، وأخذه بلحية أخيه هارون ورأسه، وإلقائه الألواح، وقد تسرع ههنا في قوله: { إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلا تُصَاحِبْنِي } ]الكهف:76[.
ولهذا قال النبي- صلى الله عليه وسلم -: { رحمة الله علينا وعلى موسى لو لبث مع صاحبه لأبصر العجب } "تفسير الطبري"(15/186) "فتح الباري" (8/424).
فأين هذا من أوامر الصوفية الصريحة بعدم الاعتراض على الشيخ مهما ارتكب من المحرمات الظاهرة، فإن مجرد الاعتراض على الشيخ موجب عندهم للمقت والطرد من
رحمة الله وسلب المال، والسقوط في امتحان الشيخ كما يلفقون.
واسمع ما يقولونه في وجوب طاعة المريد للشيخ طاعة عمياء: قالوا:(38/24)
(فصل) في آداب المريد مع شيخه وهي كثيرة جداً...
(منها) أن يكون مستسلماً منقاداً راضياً بتصرفات الشيخ يخدمه بالمال والبدن .
(ومنها) أن لا يعترض عليه فيما فعله ولو كان ظاهره حراماً، ولا يقول لشيخه: لِمَ فَعلت كذا، لن من قال لشيخه: لِمَ ؟ لم يفلح أبداً...وفي هذا المعنى قال بعضهم(1):
وكن عنده كالميت عند مغسل يقلبه ما شاء وهو مطاوع
ولا تعترض فيما جهلت من أمره عليه فإن الاعتراض تنازع
وسلم له فيما تراه ولو يكن على غير مشروع فثم مخادع
فتبين بذلك حقيقة مرادهم من قصة موسى والخضر عليهما السلام، وهو إتيان المنكرات والمحرمات وإطلاق العنان لشهواتهم من غير إنكار يقض مضاجعهم ويؤرق جفونهم، مع أن موسى عليه السلام لم يترك الإنكار على الخضر ـ عليه السلام ـ ولا مرة واحدة .
* الوجه السابع: أن إنكار موسى عليه السلام يستدل منه على أن الفطر السليمة ــ الخالصة من شوائب العبودية والتقديس لغير الحق الذي أنزله الله ــ لابد وأن تنكر المنكر، وكل الناس مأمورون بذلك عملاً بقوله تعالى: { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ } ]آل عمران:110[، ولم يُستثن من هذه الآية شيخ ولا ولي
بل ولا صحابي أو تابعي، وقد كان الصحابة ينكرون على من خالف منهم في شيء ما
فإذا كان ذلك يقع بين الصحابة ــ وهم افضل أولياء الله على الإطلاق ــ فما بالك بأولياء الصوفية إن كانوا أولياء لله حقاً ؟!!!
ثم إن الله أمرنا أن ننكر المنكر في حين أنه لم يؤتنا علم الغيب الذي يمكن معه معرفة حقيقة مراد الشيخ الصوفي بالمنكر الذي يزعم أنه يبدوا منكراً في ظاهره .
__________
(1) "تنوير القلوب في معاملة علام الغيوب"(ص548) للشيخ محمد أمين الكردي النقشبندي.(38/25)
ثم إن الله لم يكلفنا أن ننظر إلى بواطن ونيات وقلوب أصحاب العمل المخالف في الظاهر، ولم يجعل فينا خاصية ذلك لأنه لا يعلم ما في القلوب إلا ربها، وحتى هذا الأصل يخالفنا فيه الصوفية، ولذلك فقد انزل علينا كتاباً وسنة يعتبران دائماً الأصل الذي نتحاكم إليه ومن مقتضى هذا الأصل نحكم على الأعمال إن كانت صالحة أو طالحة، وقد لعن بنو إسرائيل بسبب تركهم هذا الأصل العظيم، والذي يحفظ الدين من فساد المفسدين وضلال المضلين وبدع المبتدعين الذين يأخذون ما تشابه من قصة موسى والخضر عليهما السلام ويتركون المحكم من الآيات والأحاديث الدالة على حِل الطيبات وتحريم الخبائث .
وعلامة ضلالهم أنهم لا يحثون الناس على العمل بهذا الأصل ولا يذكرونهم بقوله تعالى:
{ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ } ، وإنما يحذرونهم من الإنكار مستدلين بقصة موسى والخضر عليهما السلام التي لا تشهد إلا ضدهم، وبالحديث القدسي: { من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب } لكن الحديث لم يعنهم بذلك لأن أولياء الله ليسوا مخرفة ولا مبتدعة، فلا يرقصون عند السماع ولا يجعلون دعاءهم مكاءً وتصدية، ولا ينشرون الوثنية وتقديس الأموات والدجل بين العوام .
* الوجه الثامن: أن فهم المتصوفة للقصة فهم شاذ، وتأسيهم بها شاذ أيضاً فالصحابة والتابعون وتابعو التابعين لم يفهموا منها هذا الفهم، ولم يبنوا عليها منهجاً يرتب على أساسها العلاقة بين المريد والشيخ، ولا يعقل أن يكون المتصوفة قد انفتح عليهم من فهم هذه الآية(38/26)
ما أخفي على أولئك الأفاضل ــ ولا أفاضل الأئمة ــ ما حدث بين موسى والخضر عليهما السلام ـ حتى جاء الصوفية وتذرعوا بتلك القصة تلبيساً منه على عوام الخلق مستحدثين بدعاً من العلوم "العلم اللدني" مستدلين بقول الله عن الخضر عليه السلام: { وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً } ]الكهف:65[ وعلى فرض أنه يوجد في شرائع من قلنا بما يسمى"العلم اللدني"فإن شريعة محمد - صلى الله عليه وسلم - ختمت كل الشرائع والعلوم بما فيها"اللدني وغير اللدني"وما هذا العلم اللدني الذي يتباهى به الصوفية إلا شريعة أخرى مناهضة لما جاء به نبينا - صلى الله عليه وسلم - لأن ما يأتون به من مخالفات إذا أنكره أحد قالوا هذا من العلم اللدني وأنت محق في إنكارك لأنك لم تترق إلى منزلة هذا العلم، وعلمهم هذا لدني ــ كما أسلفت ــ لكنه ليس من لدن الله وإنما من لدن شياطينهم، كما قال تعالى: { )وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ } ]الأنعام:121[.(38/27)
* الوجه التاسع: إذا كان الخضر عليه السلام قال لموسى عليه السلام: يا موسى، إني على علم من علم الله علمنيه الله لا تعلمه ــ وإذا كان هذا خروجاً من الخضر عن شريعة موسى في هذا الباب ــ فإن ذلك لا يجوز قوله في شريعة محمد - صلى الله عليه وسلم - التي قال الله فيها: { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } ]لمائدة:3[، فما خرج الخضر عن شريعة موسى في هذا الباب إلا لشرع آخر من الله أمره به، أما شريعة سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - فإنها باقية إلى قيام الساعة، ولا يستدل أو يستغنى عنها بشيء آخر البتة، ولا يجوز أن يقول قائل: أنا على علم من الله لم يؤتاه محمد - صلى الله عليه وسلم - ولذا فإن الكل ملزمون باتباعها ظاهراً وباطناً ولا حجة لمن خالفها، ولو أحيا الله الأنبياء جميعاً ما وسعهم إلا أن يتبعوها، إذ ما نزل عليه - صلى الله عليه وسلم - هو المصدر الوحيد الذي يجب أن يكون مشكاةً للمسلمين كلهم لا يستثنى منهم أحد في الخروج عنه، وقد قال تعالى: { وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ } ]آل عمران:85[. فذلك تأكيد من الله على عدم حصول وحي منه على أحد غير النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو في الوقت نفسه يفيد تحريم أخذ شيء من الأمور التعبدية عن غير هذا الطريق). انتهى كلام الشيخ عبدالرحمن دمشقية جزاه الله خيراً .
الخاتمة
والخلاصة إن الراجح من الأقوال هو قول الذين يقولون بموت الخضر وعدم تعميره إلى زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - وإلى الآن وذلك لقوة أدلتهم التي سبق ذكرها من آيات قرآنية وأحاديث نبوية .
وأما القائلون بحياة الخضر وتعميره فليس لهم أدلة صحيحة يعتمدون عليها وإنما كل
ما يعتمدون عليه من أدلة لا يخلو من أحد أمرين:(38/28)
إما أحاديث ضعيفة وموضوعة التي حكم عليها العلماء بالإجماع بالضعف وإما حكايات مشائخ التصوف وأمثالهم الذي يزعمون بأنهم ألتقوا بالخضر .
والأحاديث الضعيفة والموضوعة والحكايات المكذوبة لا تصلح أن تكون أدلة يعتمد عليها لإثبات مثل هذا الأمر وعلى هذا فالقول بحياة الخضر وتعميره يعتبر باطلاً وكذباً وافتراء على الله وعلى رسوله وذلك لأنه لم يرد في كتاب الله تعالى ولا في سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ما يدل على تعمير الخضر نهائياً .
وبناء على هذا فحكايات الصوفية التي يزعمون فيها التقاؤهم بالخضر وتلقي الأذكار عنه تعتبر كذباً وافتراءاً محضاً على الله وعلى رسوله - صلى الله عليه وسلم - لأن الخضر قد مات كما يموت غيره فكيف يمكن أن يلتقي بهم ويوزع عليهم الأذكار .
وعلى فرض حياته وإن كان هذا مرجوحاً فإنه مأمور بإتباع الرسول - صلى الله عليه وسلم - في كل شئون حياته.
وأخيراً أختم هذا المبحث المتعلق بالخضر عليه السلام بنقل كلام نفيس للإمام ابن كثير رحمه الله ختم به موضوع الخضر في كتابه"البداية والنهاية"(1/336) حيث قال:
(ثم ما الحامل له ــ أي الخضر عليه السلام ــ على هذا الاختفاء وظهوره أعظم لأجره
وأعلى في مرتبته وأظهر لمعجزته ثم لو كان باقياً بعده لكان تبليغه عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم - الأحاديث النبوية والآيات القرآنية وإنكاره لما وقع من الأحاديث المكذوبة والروايات المقلوبة والآراء البدعية والأهواء العصبية وقتاله مع المسلمين في غزواتهم وشهوده جمعهم وجماعاتهم ونفعه إياهم ودفعه الضرر عنهم ممن سواهم وتسديده العلماء والحكام وتقريره الأدلة والأحكام أفضل ما يقال عنه من كونه في الأمصار وجوبه الفيافي والأقطار واجتماعه بعباد لا يعرف أحوال الكثير منهم وجعله لهم كالنقيب المترجم عنهم وهذا الذي ذكرناه لا يتوقف أحد فيه بعد التفهيم والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم).(38/29)
وصلى الله على نبيا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .(38/30)
الدعوة إلى الله
في
أقطار مختلفة
تأليف
محمد تقي الدين الهلالي
*نبذة عن المؤلف*
نسبه: هو محمد تقي الدين بن عبد القادر الهلالي، نسبة إلى هلال الجد الحادي عشر، بن محمد المعروف بـ: ((بابا، بن عبد القادر، بن الطيب، بن أحمد، بن عبد القادر، بن محمد، بن عبد النور، بن عبد القادر، بن هلال، بن محمد، بن هلال، ابن إدريس، بن غالب، بن محمد المكي، بن إسماعيل، بن أحمد، بن محمد، بن أبي القاسم، بن علي، بن عبد القوي، بن عبد الرحمن، بن إدريس، بن إسماعيل، ابن سليمان، بن موسى الكاظم، بن جعفر الصادق، ابن محمد الباقر، بن علي زين العابدين، بن الحسين، بن علي وفاطمة الزهراء بنت محمد صلى الله عليه وسلم )).
فهو كما ترى ينتهي نسبه رضي الله عنه إلى الحسين بن علي، ذكره غير واحد من المؤرخين، وأقر هذا النسب السلطان الحسن الأول حين قدم سجلماسة سنة 1311هـ.
نشأته: ولد أطال الله بقاءه سنة 1311 هـ بالفيضة القديمة، وتسمى ((الفرخ)) على
بضعة أميال من الريصاني، والأصل قرية أولاد عبد القادر في ((الغرفة)) من أرض سجلماسة المعروفة بتافيلالت من المملكة المغربية.(39/1)
دراسته: قرأ القرآن على جده ووالده، فحفظه وهو ابن اثنتي عشرة سنة، وكان والده ينوي أن يبعثه إلى مقرئ ذلك العصر، الشيخ أحمد بن صالح ليقرأ عليه ختمة التجويد، كما كان عازما على السفر به إلى القرويين بفاس لطلب العلم هناك، فعاجلته المنية وهو في نحو الثالثة عشرة من عمره، فقامت بذلك أمه، فقرأ على الشيخ المذكور القرآن من أوله إلى آخره بالتجويد، ثم بقي فترة بدون تعليم. ولما بلغ سن الرشد سافر إلى زاوية آيات إسحاق بقبيلة آيات أخلف، وبقي هناك سنتين، ثم عاد إلى تافيلالت، ثم سافر إلى الجزائر وأقام بقبيلة أحميان، ولم يكن يخطر له التعلم ببال إلى أن رأى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام، وقال له: ((اقرأ العلم ))، فصار عنده عزم شديد على طلب العلم، فتوجه إلى الرجل الصالح ((الشيخ حمد سيدي بن حبيب الله الشنقيطي، فقص عليه رؤياه، فأعطاه نسخة من مختصر الشيخ خليل، وقال له: ابدأ في حفظ هذا الكتاب، وكلما اجتمعنا شرحت لك بعضه، فاستمر يحفظ، وبعد مدة ذهب إليه وأقام عنده يتعلم الفقه والنحو حتى فتح الله عليه في علم النحو، وصار الشيخ ينيبه عنه في غيابه، وإلى أن مات الشيخ الشنقيطي سنة 1338 هـ، ثم توجه إلى مدينة وجدة فبقي مدة عند العالم الأديب السيد أحمد السكيرج يعلم ابنه الأستاذ عبد الكريم وابن أخيه عبد السلام، ثم توجه إلى فاس، وحضر في القرويين دروس بعض الأساتذة وعلى رأسهم العالم المحقق المصلح السيد الفاطمي الشرادي- رحمة الله عليه-، ومن أجل من لقي علماء فاس وأكثرهم تأثيرا في أحواله واتجاهه في طلب علم الكتاب والسنة، العالم المحقق الشيخ محمد ابن العربي العلوي- رحمة الله عليه- وجرت بينهما مناظرة (1)، فحصل على إجازة من جامع القرويين عادلتها جامعة ((بون)) الألمانية بالشهادة الثانوية ((الباكلورية)).
__________
(1) انظر: كتاب الهدية الهادية، للمؤلف.(39/2)
وفي آخر سنة 1340 هـ سافر إلى القاهرة وحضر دروس القسم العالي بالأزهر، وخلال ذلك اجتمع بعدد كبير من العلماء الأجلاء، وعلى رأسهم الإمام المصلح، السلفي الطائر الصيت الأستاذ رشيد رضا صاحب ((المنار)).
وكانت له رغبة في طلب الحديث، فعزم على السفر إلى الهند لعلمه أنه لا تزال بقية من علماء الحديث في الهند، فسافر لأداء فريضة الحج ومنها إلى الهند، فمكث هناك يدرس الحديث ويدرس الأدب العربي إلى أن أخذ العلم والإجازة عن شيخه العلامة الشيخ عبد الرحمن بن عبد الرحيم ((المباركفوري)) صاحب كتاب: ((تحفة الأحوذي في شرح جامع الترمذي ))، وله في هذا الكتاب قصيدة أثبتها المؤلف في آخر المجلد الرابع.(39/3)
وأجازه كذلك الشيخ محمد بن حسين بن محسن الحديدي الأنصاري اليماني نزيل ((بهربال))، ثم رحل من الهند سنة 1343 هـ إلى العراق، وأثناء إقامته بمدينة البصرة التقى بالعالم السلفي الأديب، المحدث المحقق الشيخ محمد بن أمين الشنقيطي، فزوجه ابنته وانتفع كثيرا بمجالسته ومذاكرته، وبعد ثلاث سنوات توجه إلى المملكة العربية السعودية فأقام بها في ضيافة الملك عبد العزيز، ثم عين مراقبا للمدرسين مدة سنتين، ثم مدرسا في المسجد الحرام والمعهد السعودي لمدة سنة، وبعدها سافر مرة أخرى إلى الهند، فعين رئيسا لأساتذة الأدب العربي في كلية ندوة العلماء ((بلكنو)) مدة ثلاث سنوات تعلم خلالها اللغة الإنجليزية، ثم رجع إلى البصرة وبعد ثلاث سنوات سافر إلى ((جنيف)) ونزل عند الزعيم المجاهد أمير البيان الأمير شكيب أرسلان، وكانت عنده رغبة لإتمام الدراسة الجامعية، فكتب الأمير شكيب أرسلان -رحمه الله- إلى أحد أصدقائه بألمانيا يقول: عندي شاب مغربي أديب ما دخل ألمانيا مثله في العلم يريد أن يدرس في إحدى الجامعات، فاسع أن تجدوا له مكانا لتدريس الأدب العربي براتب يستعين به على الدراسة، فجاء الجواب بالقبول، وعين محاضرا في جامعة ((بون))، وفي ظرف سنة تعلم اللغة الألمانية، وحصل على دبلوم فيها، ثم صار طالباً في الجامعة.
وفي أثناء إقامته بألمانيا ترجم مع الأستاذ ((باول كالي)) مدير معهد العلوم الشرقية في جامعة ((بون)) كتابين عربيين: أحدهما كتاب ((البلدان)) في الجغرافية العالمية للعلامة محمد بن الفقيه البغدادي المتوفى في آخر القرن الثالث الهجري، والثاني كتاب (( طيف الخيال)) للعلامة محمد بن دنيال الكحال الموصلي نزيل مصر.(39/4)
وأثناء إقامته في ألمانيا عمن مشرفا ومراجعا لغويا بالقسم العربي من الإذاعة الألمانية، فوجدها فرصة سانحة لفضح جرائم المستعمرين لبلده المغرب من الفرنسيين والإنجليز، فألقى من على منبر تلك الإذاعة خطبا كانت على المستعمرين خطوبا، وكان بسببها أن نفته فرنسا من المغرب نفيا رسميا مع أنه كان غائبا عنه، كما عملت بريطانيا على نزع جنسيته العراقية التي كان تجنس بها سنة 1934م.
وفي سنة 1940م قدم رسالة دكتوراه، وهي ترجمة ((مقدمة كتاب الجماهير في الجواهير)) للبيروني) مع التعليق عليها، وهكذا حصل على شهادة الدكتوراه في الفلسفة سنة1941م، ثم بعد الحرب العالمية الثانية عين أستاذا بجامعة بغداد، وفي سنة 1942م سافر إلى تطوان بمساعدة الأستاذ المجاهد عبد الخالق الطريس رئيس حزب الإصلاح الوطني إذ ذاك، فبقي إلى أن كاد له الأسبان، ونزعوا منه جوازه بدعوى أنه مزور، وفي سنة 1959م عين أستاذا بجامعة محمد الخامس بالرباط، ثم بفرعها بفاس إلى سنة 1368 هـ، حيث سافر مرة أخرى إلى ألمانيا، ومنها إلى الأراضي القطبية.(39/5)
وفي سنة 1388 هـ توجه إلى الحج، وفي منى اجتمع بالعالم الورع الذي تقل نظره في هذا العصر، ألا وهو الأستاذ الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز، فقال له: إن الجامعة الإسلامية في حاجة إليك، فقال: وأنا مستعد لجدمتها، فكتب الشيخ عبد العزيز وطلبه من وزارة التعليم المغربية، فالتحق أستاذا بالجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية، وبقي بها إلى سنة 1349هـ، حيث طلب منه إخوانه في المغرب أن يستقر في المغرب للدعوة إلى الله تعالى والحافظة على العقيدة السلفية، فعرض الأمر على رئيس الجامعة الإسلامية آنذاك الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز- رحمه الله- فوافق عليه، ورجع إلى المغرب، وسكن مكناس فصار يعطي الدروس بمساجدها، ينتقل بين مساجد مدن وقرى الملكة المغربية، فثقل ذلك على المبتدعة وأغصهم بريقه، فوشوا به وطلبوا منعه وتوقيفه، ولو آمنوا بقوله تعالى: { يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ } [الصف:9، 8] لكان خيرا لهم، وللدكتور محمد تقي الدين مواقف جليلة في الدعوة إلى التوحيد الخالص ونبذ الشرك.
بسم الله الرحمن الرحيم
* مقدمة*
الحمد لله الذي جعل الدعوة إليه فرضا على كل من استطاع إليه سبيلا، وأوعد باللعنة من كتم العلم واشترى به ثمنا قليلا. أشهد أنه الله الذي لا إله إلا هو وأتخذه وكيلا، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الذي فضله على خلقه تفضيلا.
اللهم صل وسلم عليه وعلى آله وأصحابه الذين كانوا يدعون إلى الله ويسبحونه بكرة وأصيلا.(39/6)
أما بعد فيقول العبد الفقير إلى الكبير المتعالي، محمد تقي الدين بن عبد القادر الهلالي: سألني خلق كثير من الإخوان في المشرق والمغرب، أخص بالذكر منهم الأخ الداعي إلى الله على بصيرة الدكتور وجيها زين العابدين أن أؤلف كتابا يشتمل على سيرتي وما لقيته في حياتي في الحل والترحال، وما جري علي في رحلاتي الكثيرة من حوادث وأخبار، وخاصة في الدعوة إلى الله في أقطار مختلفة في المشرق والمغرب، وما صادفته في ذلك من نجاح وضده، وما جرى بيني وبين علماء تلك الأقطار من مباحثات ومحاورات. ولما رأيت ذكر ذلك كله بالتفصيل- بل ذكر ما بقي في ذاكرتي ولم يعفه النسيان- يحتاج إلى وقت طويل، ونفقات كثيرة، في طبعه ونشره، اقتصرت على ما يتعلق بالدعوة إلى الله تعالى في أقطار مختلفة من سنة 1340 إلى 1391 للهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى التحية، على أمل أن أجد وقتا وتوفيقا من الله تعالى لتأليف كتاب في أخبار الشطر الأخير الذي لا يتعلق بالدعوة كالحوادث السياسية والشدائد والمحن التي وقعت لي في أسفاري. وستجد أيها القارئ في أثناء هذا الكتاب قصائد كثيرة هجوت بها بعض المعارضين للدعوة إلى توحيد الله واتباع نبيه الكريم، وما أردت بذلك إلا الانتصار للحق ولم أسم أحدا. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لحسان بن ثابت: ((اهجهم وروح القدس معك )).
ولما أنشد عبد الله بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله:
خلوا بني الكفار عن سبيله ... اليوم نضر بكم على تنزيله
ضربا يزيل الهام عن مقيله ... ويذهل الخليل عن خليله
قال له عمر رضي الله عنه: يا بن رواحة بين يدي رسول الله وفي حرم الله تقول الشعر! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((خل عنه يا عمر فلهن أسرع فيهم من نضح النبل )). أخرجه الترمذي وصححه.
وقيل: إن الذي أنشد ذلك الشعر هو كعب بن مالك، (راجع فتح الباري في شرح أحاديث عمرة القضاء).(39/7)
فأرجو أن أكون سالكا هذه السبيل في هجو أولئك القوم؛ والأعمال بالنيات، ولا أدعي العصمة وأرجو الله أن يغفر لي كل خطأ وخطل؛ فالجواد قد يكبو والسيف قد ينبو والكمال لله سبحانه.
فإن تجد عيبا فسد الخللا ... فجل من لا عيب فيه وعلا
وأرجو أن ينفع الله بهذا الكتاب كل من قرأه أو أعان على نشره بقليل أو كثير من أنصار السنة المحمدية. وأما غيرهم من أعدائها فلا نبالي بهم وهم بلا شك منهزمون وإلى الخسران في الدنيا والآخرة صائرون وحسبنا الله ونعم الوكيل، وهو نعم المولى ونعم النصير { فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } [ البقرة 137].
* الدعوة إلى الله في الإسكندرية*
أيها الداعي قدم مراد الله يقدم الله مرادك. ما من داع يدعو إلى أمر بجد وإخلاص إلا ويحصل على شيء ما، سواء أكان محقا أم مبطلا لكن المبطل عاقبته خسران عاجل أو آجل، والمحق له العاقبة الحسنى في العاجل والآجل { فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ } (الرعد: 17) كل من قرأ تاريخ الدعوات الباطلة من دعوات الخوارج والشيعة والباطنية وما تفرع منها يعلم يقينا صحة ما أشرت إليه أعلاه، ولابد أن يكون الداعي- مع إخلاصه- عنده شيء من العلم بما يدعو إليه وشيء من العلم بقواعد الدعوة.
قد فصلت القول في سبب خروجي من الطريقة التجانية ودخولي في السلفية الحنفية ملة إبراهيم وخير أبنائه محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي الإسلام الطاهر، شرحت ذلك في كتاب (الهدية الهادية إلى الطائفة التجانية) وقد أمر صاحب السماحة الأستاذ الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز أمتع الله المسلمين بطول بقائه بطبع عشرة آلاف نسخة من هذا الكتاب نسأل الله أن يجزيه خيرا وينفع بهذا الكتاب نفعا عظيما.(39/8)
وبعدما خرجت من الطريقة التجانية ودخلت في الطريقة الحنيفية توجهت إلى مصر ولقيت إمام الدعوة في ذلك الزمان السيد محمد رشيد رضا- رحمة الله عليه- ولقيت أكثر الدعاة إلى السلفية في مصر كالشيخ محمد الرمالي بالقاهرة والشيخ حسن عبد الرحمن في مزرعته بين دمنهور والإسكندرية والشيخ عبد الظاهر أبى السمح والشيخ محمد أبي زيد في دمنهور والشيخ حامد الفقي بالقاهرة والشيخ محمد بن عبد الرزاق حمزة بكفر عامر والشيخ الألمعي عبد العزيز الخولي بالقاهرة.
ولما وصلت إلى الإسكندرية وإلى رملها بشاطئ بحرها لقيت أهل بيت (لا أقول أسرة ولا عائلة) من بلادنا سجلماسة بالمغرب الأقصى مستوطنين بالإسكندرية ففرحوا بي فرحا عظيما لأنهم يعرفون والدي، وكان من علماء بلادنا ويجلونه، فأكرموني لأجل ذلك، ووجدتهم تجانيين (طوخ) يعني غارقين في الطريقة سكارى بنشوتها، وكلمة (طوخ) فارسية فيما أظن، تستعمل في العراق بالمعنى المتقدم، فقلت في نفسي: يجب علي أن أنقذهم من هذه الطريقة كما أنقذني الله منها، ولكن خيل لي وأنا في أوائل الشباب أنني إذا صرحت لهم بانتقاد الطريقة سينفرون ولا يقبلون الدعوة، فأردت أن أخادعهم فأظهرت لهم أني لا أزال تجانيا.(39/9)
ولما أخذت أتلطف معهم في انتقاد بعض الأمور كالاجتماع لذكر الوظيفة جماعة بلسان واحد، فجاء رجل مصري من تجانيي الإسكندرية وقال لهم: (يا إخواننا أنا الراكل ده بعيني شفته يخش ويخرك في مسكد الوهابية بالرمل، والوهابية ما بيخلوا خد يخش في مسكدهم إلا إذا كان منهم) معناه بعيني رأيت هذا الرجل- يعني كاتب المقال- يدخل ويخرج في مسجد الوهابية برمل الإسكندرية ومن عادة الوهابيين أنهم لا يتركون أحدا يدخل مسجدهم إلا إذا كان منهم، ويعني بالمسجد مسجد أبي هاشم المهندس رحمة الله عليه، وكان قد خصص جزء ا من أرضه وبنى فيه مسجدا صغيرا للشيخ عبد الظاهر أبي السمح وجماعة السلفيين بالرمل، وسبب إقامتي في هذا المسجد مدة شهرين ما يتلو.
* امتحان الدعاة إلى الله*
اعلم أن الدعاة إلى الله يمتحنون على قدر إيمانهم وصبرهم وتجلدهم، ومنهم الشيخ عبد الظاهر أبو السمح- رحمه الله- فإنه كان يدعو إلى الله برمل الإسكندرية وقد أنكر دعوته جميع من ينتسب إلى العلم في رمل الإسكندرية وفي الإسكندرية نفسها، وكان معلما لبنات محمد باشا الديب- بالدال المهملة كما ينطق به في العامية المصرية- ويدعو إلى الله بإلقاء الدروس في المسجد المذكور وصلاة الجمعة لوجه الله فمنع من ذلك؛ فدعاني لأن أنوب عنه وعما قليل يأتيك سبب المنع، أي بعد أن أتم قصتي مع المغاربة.
فلما سمع المغاربة من ذلك الرجل المصري التجاني ذلك الكلام غضبوا عليه غضبة مغربية فقالوا له: إنكم معشر المصريين عودتمونا سماع ما نكره في كل عزيز لدينا فلا يطيب لكم عيش إلا إذا أسأتم إلينا، نحن نعرف هذا الشاب وأباه وأمه وأهل بيته وهو لم يقدم من المغرب إلا منذ وقت قصير ونحن في المغرب ليس عندنا وهابيون فمن أين تعلم الوهابية، وصاحوا عليه صياحا منكرا.
وكان الرجل داهية فلم يغضب بل قابل غضبهم بحلم وسعة صدر وقال لهم:(39/10)
(يا إخواننا يا مغاربة ما تزعلوش المسألة بسيطة عندنا الشيخ محمد بن مبارك السوسي ولا تشكون في علمه وفضله، وأنه أكبر عالم تكاني في مصر نكتب له ونسأله عن الشاب ده إذا قال هو تكاني صحيح أنا أكي وأبوس روسكم وركليكم كمان، وأطلب منكم المسامحة وإذا قال غير ذلك تعرفوا أن الحق عليكم) معناه أن الشيخ محمد بن مبارك المغربي هو شيخنا في الطريقة التجانية وهو يعرف ضيفكم هذا فهلم نتحاكم إليه فإن حكم بأن محمد تقي الدين الهلالي ضيفكم العزيز هو تجاني حقا اعتذرنا إليكم وقبلنا رءوسكم وأرجلكم.
وكان المغاربة قد هددوا المصريين بأنهم يفترقون عنهم ويتخذون زاوية خاصة لأنفسهم وأكون أنا مقدمهم، ففرحت أنا بهذا السراب الذي خيل لي أنه شراب ولكن الرجل المصري بدهائه أحبط عملي. ومن ذلك الحين علمت يقينا أنني أخفقت في مسعاي؛ لأن الشيخ السوسي المذكور يعلم يقينا أنني من المنتقدين للطريقة التجانية وسبب ذلك: أن أخص مريديه وهو محمد الدادسي كان يغسل رأسي في بيته بالقاهرة فقال لي: هنيئا لكم معشر أهل البيت فإن الجنة مضمونة لكم على أي حال كنتم فقلت ومن ضمنها لنا؟ قال: ألم تطلع على ما ذكره الشيخ الاكبر ابن عربي الحاتمي في تفسير قوله تعالى: { يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا } [الأحزاب: 33] فقلت: وماذا قال؟ فقال: قال الشيخ الاكبر: ((إن أبناء فاطمة خلقهم الله طاهرين طهارة عينية فلا تصدر منهم المعاصي ألبتة وكل ما نراه في الظاهر من صدور المعاصي منهم يجب أن نكذب أعيننا ونصدق الله تعالى.
فقلت: وهل ابن عربي معصوم من الخطأ؟ فقال لي: إن سيدنا الشيخ التجاني نقل عنه ذلك وصدقه. فقلت: وهل الشيخ التجاني معصوم من الخطأ؟ فأصابه حزن عظيم ظهر في وجهه واختصر غسل رأسي وسكت على مضض، فعلمت أنه لابد أن يوصل ذلك إلى شيخه.(39/11)
وغبت عن الإسكندرية أياما ثم رجعت (لأجس) النبض وليس لي إلا أمل ضئيل. فكظم المغاربة ما في أنفسهم، ولم يظهروا لي شيئا ودعينا إلى العشاء عند بعض التجانيين عند المغاربة لآخرين فجرى ذكر الملك حسين بن علي ملك مكة فانتقدت أنا تحالفه مع الإنكليز والفرنسيين وإدخال جيوشهم إلى قرب الحرم المكي، فانفجر أحد التجانيين غيظا، وقال: ((صدق من قال: مثل العالم الذي لا يعمل بعلمه كجلد كلب ملئ عسلا)) يعني أن الملك حسينا وهو من أهل البيت لا يصدر عنه إلا الطاعات فانتقادي له جهل وسفاهة؛ لأن فيه إنكار على شيخ الطريقة.
وسكت أصحابي ولم يدافعوا عني، فلما خرجنا جذبني أحد المغاربة من التجانيين المعتدلين، وقال لي: ألم يبلغك ما أجاب به الشيخ السوسي فقلت: لا. أفدني يرحمك الله، فقال: إنه أجاب التجانيين فقال في جوابه: إن محمدا تقي الدين الهلالي من آل البيت، وقد أوصانا سيدنا رضي الله عنه يعني التجاني بإكرام أهل البيت، فأكرموه ولا تأخذوا عنه شيئا من أمور الدين فعلمت أن القضية قد انتهت بالإخفاق كما كنت أتوقع وعقدت العزم على أن لا أداهن ولا أداجي في دين الله ما دمت حيا؛ بل أقول الحق من أول وهلة، للربح أو للخسارة، وما لقيت إلا الربح إلى حد الآن وسيأتيك الدليل فلا تعجل.
سبب منع أبي السمح من الصلاة والوعظ
في مسجد أبي هاشم برمل الإسكندرية(39/12)
تقدم أن المنتسبين إلى العلم في مدينة الإسكندرية ورملها أنكروا على الشيخ أبي السمح دعوته إلى السلفية، وسموها وهابية وكادوا له كيدا عظيما واتهموه بتهم هائلة في ذلك الزمان منها أنه يقول: إن العصا خير من النبي صلى الله عليه وسلم لأن العصا تنفع في الدنيا والنبي صلى الله عليه وسلم لا ينفع فلا يشفي مريضا من مرضه ولا يغني فقيرا من فقره ولا ينقذ عانيا من سجنه ولا يغيث من استغاث به. وهذا عند عباد القبور طعن عظيم في مقام النبوة ومنها: أنه صلى صلاة الجمعة في أحد المساجد ووجد العلمين منتصبين عن يمين المنبر وشماله فألقاهما على الأرض وقال: { مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ } [الأنبياء 52] ومنها أنه يدعو إلى مذهب خامس، ولا يؤمن بالمذاهب الأربعة ومنها أنه أحدث فتنة في رمل الإسكندرية ففرق بين الأخ وأخيه والأب وابنه والقريب وقريبه، وكتبوا بذلك إلى محافظ الإسكندرية كتابا يطلبون منه أن يمنعه من هذه الدعوة التي يعدونها من أعظم الفساد.(39/13)
وفي الوقت نفسه دبروا له مكيدة أخرى، فدعوه إلى المناظرة في أحد المساجد وأحضروا رجلا من العوام وقالوا له: أحضر معك عصا وإذا أشرنا إليك فاضربه، فلما حمي وطيس الجدل بينهم وبينه في مسألة الاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وسلم وألجؤوه أن يقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم لا يملك لنفسه ولا لغيره نفعا ولا ضرا وإنما هو بشير ونذير أشاروا إلى الرجل فضربه في المسجد. وبعد قليل جاء أمر محافظ الإسكندرية بمنعه من الصلاة والوعظ وسد المسجد، فأرسل إلي يدعوني دعوة عاجلة فحضرت في الليلة التي في غدها يسد المسجد ففتحته وأخذت أصلي فيه وأعظ الإخوان السلفيين فجاءت الشرطة ليسدوا المسجد فوجدوني فقالوا: من أنت، أنت أبو السمح؟ قلت: أنا محمد تقي الدين بن عبد القادر الهلالي المغربي فتوقفوا ورجعوا إلى المحافظ وأخبروه، واختفى أبو السمح فصار لا يأتي المسجد أصلا فأمرهم المحافظ أن يتركوا المسجد ولا يسدوه.(39/14)
فاشتد غيط أعداء السلفية من المنتسبين إلى العلم وأعوانهم، فكتبوا في هذه المرة إلى الملك فؤاد، وكان ذلك سنة إحدى وأربعين وثلاثمائة وألف، وقالوا للملك مثل ما قالوا للمحافظ قبل وزادوا على ذلك أنه ثبت صدق اتهامهم لأبي السمح عند محافظ الإسكندرية؛ فأمر بطرده وسد المسجد فأتى بمغربي له حماية فرنسية فناب عنه في المسجد فلم ينفذ ما أمر به المحافظ، فبعث الملك بشكواهم إلى محافظ الإسكندرية نفسه، فلما قرأها غضب عليهم غضبا شديدا لأمرين: أحدهما أنهم لم يكتفوا به فتخطوه وكتبوا إلى الملك، والثاني أن طعنهم في عمل هذا المغربي يفتح بابا على الحكومة المصرية من النزاع مع دولة تتمتع بالإمتيازات الأجنبية، والمطلعون على تاريخ مصر يعرفون معنى هذه الكلمة، فإن مقتضى الامتيازات الأجنبية يقضي على الحكومة المصرية- وكل حكومة تنكب بمثل هذه النكبة- أن ترد كل نزاع يقع بينها وبين أي شخص من رعايا الدولة صاحبة الامتياز إلى سفارة هذه الدولة، فتحكم السفارة بدون شك على المصري بأنه هو الظالم وتطلب من الحكومة المصرية أن تنزل به أشد العقاب، وعليه أن يتحمل ويصبر على ظلمين، الظلم الأول من الشخص التابع للسفارة الأجنبية، والظلم الثاني من السفارة نفسها، ولذلك لا يحب أي مصري كيف ما كانت منزلته أن يدخل في نزاع مع أي سفارة، ومن أجل ذلك دعا المحافظ الموقعين على العريضة المرفوعة إلى الملك فأدخلوا عليه واحدا بعد واحد، وأخذ يسألهم، فقال للأول: هذا توقيعك؟ فقال: نعم قال: وقع مرة أخرى فوقع ثم أخرج إلى مكان لا يرى فيه أحدا من أصحابه وهكذا فعل بالثاني والثالث إلى آخرهم، ثم جمعهم وعبس وبسر عليهم وقال لهم: كتبتم إلى تزعمون أن الشيخ عبد الظاهر أبا السمح وهابي وأنه فعل كيت وكيت فصدقتكم وأمرت بمنعه من الصلاة والوعظ، ولم يكفكم ذلك حتى تخطيتموني وارتقيتم مرتقى صعبا فكتبتم إلى الملك تعرضون مزاعمكم عليه وقلتم في عريضتكم: إنكم تخافون أن تحدث(39/15)
فتنة في رمل الإسكندرية تسفك فيها الدماء فلله دركم من حفظة ساهرين على الأمن فهل المحافظة على الأمن من اختصاصكم ومن وكل إليكم ذلك؟ بعضكم إمام مسجد وبعضكم مأذون في المحكمة وبعضكم مدرس أو واعظ أو خطيب فكيف ارتقيتم حتى صرتم تحافظون على الأمن العام، وهذا شغلي أنا وشغل أعواني من الشرطة والحرس أفأردتم أن تساعدوني، أنتم أصحاب الفتنة ودعاتها الموقدون لنارها، ولم يبق عندي شك في أنكم مفسدون قلتم: إن المصري وهابي فهل المغربي أيضا وهابي؟ فقالوا: إي والله يا سعادة المحافظ هذا وهابي (زيه تمام) فقال: اسمعوا ما أقوله لكم أنتم تستحقون العقاب، ولكني أعفوا عنكم في هذه المرة. وكل فتنة تقع في المستقبل في الإسكندرية أو رملها من هذا القبيل فأنتم المسؤولون عنها، أغربوا عني لا نعم عوفكم (1) ولا أمن خوفكم! فانطلقوا يتعثرون في أذيال الخيبة { فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ } [القلم:30]، { وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ } [الأحزاب: 25]، ولما سمع بذلك الشيخ أبو السمح صار يحضر صلاة الجمعة ويصلي معنا مأموما وبعد انقضاء شهرين على هذه الحادثة أمن أبو السمح وتجرأ فصلى بنا الجمعة إماما فاستأذنته أنا في إتمام السياحة في البلاد المصرية ورجعت إلى القاهرة وقد نفد ما عندي من الدراهم، لأن التجانيين بعدما وصلت إلى القاهرة بعثوا إلي حوالة فقبضتها، وقلت في نفسي: إنني قصرت في عدم إعلان خروجي من الطريقة وأنا بين ظهرانيهم ولم أدع إلا أربعة أنفس سرا وقبلت مساعدتهم عند السفر، وها أنذا أقبل مساعدتهم بعد السفر فإن بقيت على هذه الحال فأي فرق بينى وبين شيخ الطريقة؟ فكتبت إليهم رسالة في أربع صفحات وجعلت منها أربعة نسخ بعثت كل نسخة منها إلى أحد رؤسائهم فحرقوا الأرم (2)
__________
(1) العوف: الحال. ويقال في الدعاء: نعم عوفك: أي حالك.
(2) الأرم:الأضراس. يقال: فلان يحرق عليك الأرم، إذا تغيظ فحك أضراسه بعضهم ببعض.(39/16)
غيظا، ولم يجبني إلا أحدهم بيني وبينه مصاهرة فقال لي في جوابه: لقد قرأت ما كتبت والقلوب بيد الله يصرفها كيف يشاء ولئن كتبت إلى بعد هذا ولو حرفا من الطعن في الطريقة التجانية لن أجيبك أبدا، وتحمل أنت وحدك إثم قطع الرحم.
ولما نفد ما عندي من الدراهم جاءني الشيخ محمد الخرشي الشنقيطي- رحمه الله سواء أكان حيا أو ميتا- فأعطاني ريالين مصريين وكان من المتخرجين في الجامع الأزهر وله راتب من أوقاف الطلبة المغاربة قدره جنيهان (مشاهرة) وعشرة أرغفة يوميا وهو من الستينيين. وكان الطلبة المغاربة في ذلك الزمان ثلاثة أقسام: ستينيين، وعشرينيين ومنتظرين، فالستينيون عددهم ستون رجلا يأخذون راتبا قدره جنيهان مشاهرة وعشرة أرغفة يوميا، والعشرينيون عددهم عشرون رجلا يأخذون راتبا قدره نصف جنيه مشاهرة وخمسة أرغفة يوميا، والمنتظرون يعدون بالمئات لا يأخذون إلا رغيفين في كل يوم. وكانت الحرب قائمة على الدوام بين الستينيين والمنتظرين، والعشرينيون على الحياد. وذات يوم هجم ثلاثة من المنتظرين على شيخ رواق المغاربة- بعد السلام من صلاة الجمعة- في الأزهر فطعنوه بالخناجر حتى مات، فهرب الناس من المسجد لا يلوون على شيء وركب بعضهم بعضا حتى مات بعض الضعفاء من الزحام (وأظن أن الأخ القارئ يعرف طبعي في الاستطراد، فأنا لا أحول عنه ولا أزول، كما قال المتنبي:
(لكل امرئ من دهره ما تعودا)
فقال لي الشيخ محمد الخرشي: لا تقعد هنا مقيما على معيشة ضنك كالوتد ألمم تسمع قول الشاعر:
ولا يقيم على خسف يراد به ... إلا الأذلان عير الحي والوتد
هذا على الخسف مربوط برمته ... وذاك يشجو فلا يرثى له أحد(39/17)
معنى البيتين لا يرضى أحد أن يقيم على ذل إلا الأذلان الحمار الأهلي والوتد الذي تضرب به الخيمة وتثبت، فالحمار الأهلي مربوط بحبل لا يستطيع الفرار مع أنه يضيق عليه في العلف ويحمل من الأحمال مالا يطيقه وعلاوة على ذلك يضرب بالعصا وينخس بالمنخاس وهو حاد كالإبرة، والوتد يضرب على رأسه ليدخل في الأرض كلما أريد نصب الخيمة ولا يستطيع أن ينجو بنفسه.
فقلت له مكره أخاك لا بطل. وماذا عسيت أن أفعل وأنا هنا غريب؟! فمالي إلا الصبر الجميل. فقال لي: كل طلبة العلم الغرباء في مصر بدون استثناء وما أكثرهم يخرجون إلى الفلاحين ويلقون دروس الوعظ في المساجد، فلا يكاد الفلاحون يرونهم حتى يغمروهم بالإكرام بالدراهم والثياب والزاد دون أن يحوجوهم إلى تذلل أو سؤال، فإن الفلاح المصري يضرب به المثل في الكرم وهذه عادتنا كلنا منذ حللنا هذه الديار فشكرته على هديته ونصيحته وعزمت على الخروج إلى الصعيد وهو الذي بقي لي لم أره، فإن الوجه البحري وهو ناحية الشمال في مصر قد رأيته من القاهرة إلى آخر الإسكندرية وبقي لي الوجه القبلي وهو ناحية الجنوب، فتوكلت على الله وسافرت بالقطار إلى مدينة ملوي فكنت أسمع بالشيخ عبد الظاهر الريرموني أنه من دعاة السلفية فسألت عنه فوجدته، ونزلت عند مغربي يسمى الشيخ إبراهيم الدادسي وهو طبيب عيون يقدح العيون على طريقة الطب الإسلامي القديم بميل من حديد بدون تخدير فيخرج البياض من العين ثم يعالج الجرح بالأدوية إلى أن تشفى العين التي كانت عمياء لا تبصر شيئا ويعود إليها نورها بإذن خالقها، وهذه الطريقة لا تزال مستعملة إلى يومنا هذا في بعض القرى النائية عن المدن في بلاد المغرب وغيرها.(39/18)
فوجدت الشيخ عبد الظاهر الريرموني وفرح بي وأظهر السرور وأكثر الترحيب واعتذر لي عن دعوته إياي إلى قريته الريرمون، فقال: أيها الأخ العزيز إن ضيافتك واجبة علي ولكن قريتي تبعد عن هذه المدينة بقدر نصف ساعة للراكب على الحمار الفاره، وأنا لا أشتغل في الغيط يعني- في المزرعة- وكل أهل القرية يخرجون إلى غيطانهم صباحا ويرجعون مساء وأنا أجيء كل يوم إلى هذه المدينة فأمكث فيها من الصباح إلى المساء، فإن دعوتك إلى القرية فإما أن تبقى وحدك أو تتكلف المجيء كل يوم معي صباحا وترجع مساء وفي ذلك من المشقة عليك ما لا يخفى، فشكرته على ذلك ورأيت عذره قائما.(39/19)
وأقمت عند الشيخ إبراهيم الدادسي بمدينة ملوي من مديرية أسيوط، من بلاد الصعيد أربعة أيام ثم عزمت على التوجه إلى قصبة المديرية وقاعدتها، وهي مدينة أسيوط، وكنت أجتمع بالشيخ عبد الظاهر الريرموني كل يوم ونتذاكر مسائل العلم. وفي صباح يوم الخميس استعددت للسفر بالقطار إلى أسيوط، فبينما أنا على ذلك إذا براكبين على حمارين قد أقبلا ونزلا وسلما على الشيخ إبراهيم الطبيب وقالا له: أين الأستاذ المغربي الذي بلغنا أنه عندك؟ فقال لهما وأشار إلي: هذا هو يريد أن يسافر إلى أسيوط الآن. فقال أحدهما وهو الشيخ عبد العليم رحمة الله عليه: أيها الأستاذ إن إخوانك السلفيين في الريرمون يقرؤونك السلام ويلتمسون أن تتفضل عليهم بالزيارة ولو ليوم واحد فإن أستاذنا الشيخ عبد الظاهر أخبرنا منذ أربعة أيام بقدومك فالتمسنا منه أن يدعوك إلى قريتنا، فقال: إنك مستعجل تريد السفر إلى أسيوط ولا تستطيع أن تزورنا فقلنا له: ولا يوما واحدا فقال: ولا يوما واحدا وكررنا عليه الطلب في اليوم الثاني والثالث حتى يئسنا منه، فأرسلنا إخوانك لندعوك إليهم لما علموا أنك عزمت على السفر إلى أسيوط وقالوا لنا: إن وجدتموه سافر فسافرا إلى أسيوط وأبلغاه دعوتنا، واعلم أيها الأستاذ المحترم أننا معشر السلفيين في قرية الريرمون لا يزيد عددنا على مائة بيت، وقد اشتدت العداوة بيننا وبين قومنا المبتدعين عباد الأضرحة وشيوخ التصوف حتى انتقلت العداوة من أمور الدين إلى أمور الدنيا، وشيخ البلد منهم والعمدة معهم ونحن محاربون لأجل عقيدتنا فنرجو أن يهدي الله بك إخواننا ويجمع شملنا على كلمة التوحيد وأتباع سنة النبي صلى الله عليه وسلم فلا تخيب رجاءنا، فقلت لهما: أيها الأخوان العزيزان لستما في حاجة إلى كل هذا الإلحاح فإنني نذرت لله أن أدعو إلى توحيده وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم حيثما كنت وهذا أهم غرض لي في الحياة.
* الدعوة إلى الله في الصعيد(39/20)
فركبت أحد الحمارين وتوجهت إلى الريرمون مع الشيخ عبد العليم فلما وصلت نزلت في مندرة- أي مضيف- الشيخ إسماعيل الصيفي رحمة الله عليه، واجتمع الإخوان السلفيون واحتفلوا بي كأني أحد الأمراء، ولم يكن عندي من الكتب إلا مجموعة الرسائل التي نشرها عيسى بن رميح رحمه الله وهي رسائل في التوحيد، فبدأت الدعوة بعد صلاة المغرب في المندرة المذكورة واجتمع أهل القرية كلهم تقريبا فلم تسعهم المندرة فجلسوا في الشارع. وكان في مقدمتهم شيخ البلد الشيخ يوسف رحمة الله عليه فأخذ يلقي علي أسئلة في التوسل بالأولياء وشد الرحال إلى زيارة قبور الصالحين والذبح والنذر وأوراد الطريقة والاستمداد من الشيوخ والاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وسلم وما إلى ذلك وأنا أجيبه بحلم وأناة وصبر وهبنيه الله لم أعهده في نفسي قبل ذلك.
إذا اصطفاك لأمر هيأتك له ... يد العناية حتى تبلغ الأملا(39/21)
وحضر هذا الدرس أستاذ الجماعة الشيخ عبد الظاهر الريرموني فأخذ يبحث عن عثراتي في النحو والصرف واللغة، ويلقي علي أسئلة بقصد الزراية وإظهار نقصي فقابلت- بتوفيق من الله- كل ذلك بأدب وحلم كما يفعل التلميذ المتأدب مع أستاذه، وصرت إذا أجبته عن سؤال فلم يقبل جوابي أسلم له وأقول له: تفضل يا حضرة الأستاذ وأفدنا في هذه المسألة بما علمك الله، فصبر الجماعة لهذه المقاطعات على مضض ثم عيل صبرهم فقال الشيخ إسماعيل صاحب البيت: يا شيخ عبد الظاهر هذه المسألة اللغوية التي تقطع بها على الأستاذ المغربي كلامه لا فائدة لنا فيها دعها إلى الوقت المناسب لها، ثم انطلقت في الوعظ شوطا أو شوطين، وإذا بالشيخ عبد الظاهر يعود إلى أسئلته فأعود أنا إلى التسليم والأدب، فيزداد المستمعون غيظا ويعيدون عليه قولهم، واستمر الأمر على ذلك ثلاث ليال ولم ينته عما نهوه عنه فخشنوا له القول وانتهروه فقال لهم: هذا ضيفي أصنع به ما أشاء ويحق لي لو شئت أن أقول له: إن أيام الضيافة ثلاثة، وقد انقضت فتفضل فارحل لقلت له ذلك، فقال له أحدهم وأظنه الشيخ إسماعيل: (إيه ده يا خوي أنت ما تقدرش تقوله كده ده ما هو ضيفك ده ضيفنا إحنا دعوناه واحنا كبناه بعدما ترجيناك أنت تدعوه ويئسنا منك) معناه: ما هذا يا أخي؟! إنه ليس ضيفك وإنما هو ضيفنا نحن ولا تستطيع أن تقول له: ارحل فعند ذلك غضب الشيخ عبد الظاهر ولم يعد يحضر دروس الوعظ والدعوة.
* السر الخفي *
كأني بك أيها القارئ قد تلجلج في صدرك سؤال تريد الإجابة عنه، وهو لماذا امتنع الشيخ عبد الظاهر عن دعوتك، ولماذا يعكر درسك، وفي النهاية يريد أن يطردك؟(39/22)
الجواب: إذا ظهر السبب زال العجب. اعلم يا أخي أن الشيخ عبد الظاهر كان قد خط لنفسه خطة في الدعوة، وهي أنه كان يفرض على كل واحد من السلفيين في الريرمون أن يبايعه بيعة تشبه في بعض نواحيها بيعة المريد المتصوف لشيخ الطريقة، وكانت شروط هذه البيعة شديدة إلى حد أنه لو وقع من أحد الإخوان شيء طفيف مما يخالف ما يريده الشيخ عبد الظاهر، يغضب عليه ويقول له: انتقضت بيعتك فتب إلى الله، وبايعني من جديد فلا يسعه إلا أن يتوب ويبايع من جديد وإلا طرده الشيخ وأخرجه من حظيرة الإخوان.(39/23)
ومن أمثلة ذلك أن الشيخ عبد الظاهر كان قد بلغ من العمر خمسا وثلاثين سنة ولم يتزوج فعتب عليه بعض الجماعة وقالوا له: أنت أستاذنا وإمامنا فلا ينبغي لك أن تبقى عزباً وأنت تعلم ما فرض الله على مستطيعى الباءة فقال لهم: أنا فقير لا يرض أحد أن يزوجني ابنته، فقال أحدهم: أنا أزوجك ابنتي فسكت الشيخ، ومضى على ذلك سنتان فجاء خاطب فخطب الفتاة فوعده أبوها خيرا، فلما سمع بذلك الشيخ غضب عليه غضبا شديدا وقال له: انتقضت بيعتك فتب إلى الله واعدل عن تزويج الفتاة بذلك الخاطب فقد وعدتني بها منذ سنتين فكيف تزوجها شخصا آخر؟! فقال: أيها الأستاذ حقا عرضت عليك ابنتي فلم تجبني ببنت شفة، ومضى على ذلك سنتان فلم يبق عندي شك أنه لا أرب لك فيها فقال الشيخ: كان الواجب يقضي عليك حين جاءك الخاطب أن تأتيني، وتسألني عن رأي في التزوج بها فإما أن أتزوج وإما أن أرخص لك في تزويجها فاختلف الإخوان السلفيون في هذه القضية، فبعضهم صوب رأي الشيخ وبعضهم صوب رأي أبي الفتاة واشتد نزاعهم. وكان كثير من الإخوان يشكون في البيعة، ويظنون أنها غير مشروعة وليست من السنة في شيء، لأنهم لم يروا أحدا من الدعاة إلى السلفية فرضها عليهم قبل هذا الشيخ فهاتان مسألتان معضلتان تحتاجان إلى أبي حسن يكشف عنهما ظلام الإشكال ويبين حكم الله فيهم، ولما رآني الشيخ عبد الظاهر في مدينة ملوي، خاف أن أتصل بإخواننا فيسألوني عن القضيتين فأجيب بخلاف رأيه فلذلك فعل ما فعل ليحول بيني وبينهم، ولم يدر أنه لا حيلة تنفع في رد المقدور فوقع ما خافه ولذلك أخذ يعاكسني في دروس الوعظ وحاول أن يطردني.
* * *
* عودة إلى دروس الوعظ*(39/24)
استمررت في إلقاء الدروس كل مساء في مندرة الشيخ إسماعيل الصيفي، ونسيت أن أقول إن الشيخ عبد الظاهر الريرموني رحمه الله بلغ في المعارضة والمعاكسة إلى أن خالفني في أمر لم يزل يقرره ويدعو إليه، وهو منع شد الرحال إلى زيارة قبور الصالحين، فقال له إخوانه: يا لله العجب.. أنت نفسك لم تزل تقرر المنع فقال: تغير رأي وهل أنا معصوم! ومن طباع المصريين المحمودة- وما أكثرها - أن المرءوس إذا ظهر له الحق لا يفكر في مذهب الرئيس واعتقاده بل يتلقى الحق بالقبول وإن خالف رئيسه، ولذلك كان الناس في أثناء الوعظ يتوبون إلى الله ويعلنون توبتهم من الشرك والبدعة ففي كل ليلة يتوب اثنان أو ثلاثة.
وفي الليلة السادسة أو السابعة قام شيخ البلد فأعلن توبته وقال: أيها الشيخ المغربي: إنك لم تأتنا بشيء جديد فكل هذه المسائل التي دعوتنا إليها سبقك إليها الشيخ علي التونسي والشيخ عبد الظاهر الريرموني وفلان وفلان ولكن الفرق بين دعوتك ودعوتهم أننا إذا جادلناك تصبر على جدالنا وتجيبنا بلطف ولين حتى نقتنع وننتقل إلى مسألة أخرى ثم أخرى إلى أن يزول ما عندنا من الإشكال. وأما الدعاة الذين تصدوا للدعوة قبلك فقد كان لهم أسلوب آخر متى جادلناهم وعرضنا عليهم شبهاتنا قالوا لنا: كفرتم! فنقول لهم: وأنتم أكفر ونفترق على أقبح ما يكون، ثم التفت إلى الشيخ إسماعيل الصيفي صاحب البيت وقال له: يا شيخ إسماعيل جزاك الله خيرا على دعوة هذا الأستاذ المغربي الذي هدانا الله إلى الحق بسببه، ولك الفضل والحق أن تكون الدروس في مندرتك، وأن يكون الأستاذ المغربي ضيفك ولكني أطلب من فضلك أن تسمح لي بأن يكون الأستاذ أسبوعا عندك وأسبوعا عندي. هذا في الدروس الخاصة التي تلقى في المنادر وأنا أطلب من الأستاذ المغربي أن يلقي لنا درسا في المسجد الجامع يوميا وأن يصلي بنا الجمعة مادام مقيما عندنا فقال الشيخ إسماعيل: إني أقبل هذا الاقتراح بكل سرور.(39/25)
فانتقلت إلى مضيف شيخ البلد واستمررت على إلقاء الدروس وأضفت إليها درسا بعد العصر في المسجد الأعظم، واعتذرت إلى الشيخ يوسف عن قبول ما عرضه علي من صلاة الجمعة إماما وقلت له: إنني لا أحب الدعاء للملك فؤاد في كل خطبة ولا أريد أن أكون سببا في شر يصيبك فحسبي أن ألقي الدروس، فقال رحمه الله: أيهما صواب، الدعاء للملك في كل خطبة جمعة أم تركه على ما جاءت به سنة النبي صلى الله عليه وسلم ؟ فقلت له: أنا أرى تركه هو الصواب فقال: (إيه ده يا خوي) نحن نعبد الله أو نعبد فؤاد؟ إذا رأيت الملك فؤادا أمامك في الصف الأول فلا تبال به أنا المسؤول وصل كما أمرك الله واخطب كما أمرك الله.
وبعد توبة الشيخ يوسف تاب أهل البلد عن بكرة أبيهم إلا بيتين، أحدهما بيت شيخ الطريقة والثاني بيت العمدة المرفوت، والمرفوت عندهم هو المعزول، وخدامهما، وبعدما كان السلفيون ممنوعين من جميع المساجد لأنهم وهابيون أهل مذهب خامس تصافح أهل القرية كلهم وزال كل ما كان بينهم من العداوة في الدين والدنيا، وانتقلت العزلة التي كانت ملازمة لهم إلى شيخ الطريقة والعمدة المرفوت وخدامهما، فأخذوا يصلون منعزلين في زاوية في وسطها قبر عليه تابوت كانوا يعبدونه، وبلغت العداوة بين الفريقين إلى أن صار يتهم بعضهم بعضا بإحراق الزروع في البيادر، واتهم المبتدعون السلفيين بإحراق تابوت ذلك الضريح الذي كانوا يعبدونه. والحقيقة أن امرأة أوقدت شمعة تتقرب بها إلى صاحب الضريح وجعلتها على التابوت فلما انقضت الشمعة وصلت النار إلى التابوت فأحرقت بعضه.(39/26)
وكأني بعابد القبر يقول يا هذا لقد أسرفت في القول فهل يعبد مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله قبرا؟ فأقول في الجواب: يمكنك أن تغالط بهذا الكلام غيري أما أنا فلا تستطيع أن تغالطني لأنني أنا بنفسي كنت أعبد القبور، فهداني الله إلى توحيده وهدى بي خلفا كثيرا ولله الحمد وأريدك على ذلك ما يخرسك ويلقمك حجرا أن الجهال في هذا الزمان من أهل البلاد الإسلامية - وما أكثرهم- يعبدون القبور والأنصاب بل والأشجار ويعبدون كل شيء حتى الحمير ودونك البرهان القاطع:
أما عبادة الأضرحة فأمر متواتر مشاهد بالعيان في أكثر البلدان المنتسب أهلها إلى الإسلام كما هو في بلاد النصارى وهؤلاء يزيدون التماثيل.
وأما عبادة الأشجار فقد حدثت من عهد بعيد فقد ذكر ابن أبي شامة في كتاب البدع له: أن شجرة كانت تعبد في دمشق في زمانه. وأما في هذا الزمان فحدث عن البحر ولا حرج فقد شاهدت شجرة عظيمة وافرة الأغصان تعبد في مصر، وأخبرني الشيخ محمد بن عبد الرزاق حمزة أنه هم بقطعها وأخذ فأسا واشتغل طول الليل إلى أن كاد الفجر يطلع فلم يستطع أن يقطع إلا جزءاً يسيراً من أغصانها، فجاء عبادها في الصباح بالنذور فوجدوا بعضها مقطوعا فغضبوا غضب العابد لمعبوده، واتهموا الشيخ المذكور ورفعوا شكوى إلى العمدة فطالبهم بالبينة فقالوا: لا يوجد أحد في هذه الناحية يشنع على المتبركين بها إلا هذا الرجل، فقال العمدة: إنني لا أستطيع أن أعاقبه بهذه الحجة التي لا تتجاوز الظنون. وأخبرني الحاج (محمد أجانا)- وهو رجل قضى عمره في البدع حتى بلغ السبعين ثم هداه الله إلى التوحيد بدعوتنا- أن له شجرتين يعبدهما الفلاحون إحداهما اسمها أبو بكر والأخرى نسيت اسمها، وأن الفلاحين يضعون أدوات الحرث وغيرها مما يثقل عليهم حمله إلى جانب إحدى الشجرتين فلا يتجرأ أحد أن يسرق شيئا من ذلك مع أنهم سرقوا حصر المسجد ولو ذهبنا نعدد وقائع عبادة الأشجار لطال بنا الكلام.(39/27)
وأما عبادة الأحجار فهي كثيرة أورد بعض وقائعها: فمن ذلك حجر كبير ناشز في جبل بالصعيد في مديرية أسيوط أخبرني أصحابنا أنه كان يسمى الشيخ دغارا وأن جماعة منهم ذهبوا ذات ليلة بمعاولهم، واشتغلوا طول الليل فتركوا الشيخ دغارا أثرا بعد عين. ومنها أن صخرة في مرسى مدينة طنجة داخل البحر تسمى سيدي ميمون يعبدها أهل تلك الناحية. وسبب إطلاعي على عبادتها أني كنت راكبا في سيارة حافلة من طنجة إلى تطوان سنة ثلاث وأربعين وتسعمائة وألف بتاريخ النصارى وأتباعهم، وكان إلى جانبي رجل معه امرأة فسلم على وقال لي: أنا ممن يحضر دروسك في الجامع الكبير، وقد هداني الله إلى التوحيد بسبب ذلك ولكن زوجتي هذه لا تزال متمسكة بالشرك فأرجو من فضلك أن تعظها لعل الله يهديها بوعظك كما هداني أنا وذكر لي قضية اشتد نزاعهما فيها تتعلق بعبادة الصخرة البحرية المسماة بسيدي ميمون وحاصلها أنها لا يعيش لهما الأولاد إذا بلغ الصبي سنة يموت، فنذرت زوجته أن تذبح عن ولدها في كل سنة شاة لسيدي ميمون، وقد حانت النهاية السنة الأولى من عمر الصبي قال: فامتنعت أنا من الوفاء بهذا النذر، وقلت: إن عمر الصبي بيد الله وميمون صخرة لا تضر ولا تنفع فلم تقبل. فوعظتها من طنجة إلى تطوان مدة ساعة ولا أدري هل انتفعت بوعظي وتابت من الشرك أم بقيت على شركها. وأكتفي بهذا القدر من الشواهد على عبادة الأحجار.
ومن عبادة المياه أن بئرا بالقصر الكبير يعبدها السفهاء ويسمونها سيدي ميمونا ويزعمون أن ابن أمير الجن شمهورش كثيرا ما يحضرها خبرني بذلك غير واحد في البلد المذكور وشاهدت حوادث أخرى من عبادة المياه فلا أطيل بذكرها.(39/28)
وأما عبادة الحمير فأذكر فيها قصتين: إحداهما وقعت في طرابلس الغرب على ما حدثني به ثقة، وذلك أنه كان في تلك الديار شيخ متصوف اسمه عبد السلام الأسمر كان يرقص مع أصحابه ويضربون بالدفوف حتى يخروا صرعى على الأرض ويعتقدون أن الدف الذي كان يضرب به الشيخ عبد السلام نزل من الجنة، وكان يضرب به علي بن أبي طالب للنبي، والشيخ عبد السلام والمريدون المنقطعون للعبادة معه لم يكونوا يكتسبون معيشتهم لأنهم كانوا بزعمهم متوكلين. وكان للشيخ المذكور حمار يطوف على بيوت البلدة وحده كل صباح ومساء وعليه خرج فكلما وقف بباب بيت يضع أهله شيئا من الطعام في ذلك الخرج فيرجع إلى الشيخ والمريدين بطعام كثير غدوة وعشية، فلما مات الشيخ وتفرق المريدون وبقي الحمار بلا عمل فصار الناس يقدمون له العلف ويتبركون به إلى أن مات فدفنوه وعكفوا على قبره يعبدونه. والقصة الثانية في المغرب الأقصى: قرأت في سنة ستين وتسعمائة وألف بتاريخ النصارى في صحيفة العلم مقالا لمعلمة اسمها خديجة النعيمي من الدار البيضاء قالت خديجة: خرجنما مع نسوة جاهلات نتجول خارج المدينة فمررنا بكوم من حجارة فأخذت النسوة يقبلن تلك الحجارة ويتمسحن بها قائلات: (أنتاع الله لله يا للاحمارة) معناه نسألك متاع الله أي ما أعطاك الله من الكرامة يا سيدتنا الأتان، قالت: فأنكرت صنيعهن وقلت لهن: ويحكن تتخذن أولياء حتى من الحمير، فقلن لي: اسكتي إنك لا تعرفين قدر هذه الولية فكم قضت من حاجات ونخاف عليك أن تضربك ضربة يكون فيها حتفك فسلمي للفارغ لكي تنجي من العامر (قلت: وهذا مثل يضربه المغاربة لمن اعترض على عبادة شخص وقال: إنه لا ينفع ولا يضر يقول له عباده: (سلم للخاوي تنج من العامر) معناه هب أنه فارغ من الولاية فخير لك أن لا تعترض عليه وأن لا تنكر ولايته لأنك إن استمررت في الإنكار يخشى عليك أن تصادف وليا حقيقيا فيصبك بشر). ثم وجهت الكاتبة المذكورة دعوة إلى العلماء وقالت:(39/29)
يا علماء الدين اتقوا الله وعلموا الناس توحيد الله وشعائر دينهم، فإنكم ضيعتم الأمانة التي حملكم الله إياها حتى وصل الناس إلى عبادة الحمير دون الله. فكتبت ثلاث مقالات تلبية لدعوتها ونشرت في صحيفة العلم ولم يلب دعوتها أحد غيري من قراء صحيفة العلم وهم يعدون بالآلاف وأظن أن هذا القدر يكفيك إن كنت منصفا، ويقمعك إن كنت متعسفا.
*عودة إلى الريرمون *
أول جمعة صليتها إماما في الريرمون في المسجد الأعظم كانت يوم عيد عند أهل الريرمون، وتمكن السلفيون لأول مرة من الصلاة في المسجد الأعظم وتعانق الناس، وصاروا إخوانا متحابين. وكان للسلفيين مسجد بنوه باللبن وسقفوا نصفه بخشب النخل فصلى في ذلك اليوم الشيخ عبد الظاهر في ذلك المسجد إماما، وقال في خطبة الجمعة يا إخواننا لا يخفى عليكم (أن المركب اللي فيها ريسين تغرك) يعني أن السفينة إذا كان لها ربانان فمآلها الغرق لأن الربانين يختلفان فيؤدي اختلافهما إلى اختلاف النوتية ويفضي بهم ذلك إلى الغرق، وأن هذا المغربي قد فرق جماعتنا ووالى أعدائنا وأحدث فتنة في البلد، ولا يستمع لحديثه، فما فرغ من الصلاة ولم يصل معه إلا الشيوخ الضعفاء الذين شق عليهم المشي للجامع الأعظم- حتى غضبوا عليه وزجروه زجرا شديدا وقالوا له: ما نظن إلا أنك أصبت بالجنون وأن هذه الصلاة التي صليناها خلفك مشكوك في صحتها لأنك تكلمت باللغو الذي لا يناسب خطبة الجمعة، وهذا الرجل الذي تكلمت فيه بغير حق ما رأينا منه إلا خيرا وهو يجلك غاية الإجلال فقال لهم: هذا فراق بيني وبينكم.(39/30)
وقبل ذلك بيوم دعاني أحد الإخوان للغداء ودعا الشيخ عبد الظاهر، فقال لي: يا شيخ محمد سمعت بأن المنافق يوسف شيخ البلد جاءك وأظهر لك أنه تاب من شركه وبدعته؟ فقبلت توبته وأظنك لا تعلم أنه كبر عدو للسلفيين ولي أنا بالخصوص وأنا شيخ هذه الطائفة وإمامها، فإن كان صادقا فيما يزعم فهلا جاء إلى والتمس مني العفو وبايعني بل أنت بنفسك يجب عليك أن تبايعني وأن لا تخرج عن رأي!! فقلت له: يا شيخ عبد الظاهر والله أني لأحب أن أرضي الله ثم أرضيك ما استطعت إلى ذلك سبيلا، فهب أن رجلا في الروضة- وهي بلدة قريبة من الريرمون- يدعو إلى مثل ما ندعو إليه من التوحيد وإتباع السنة وهذا الشيخ يوسف عدو لي ولك، فجاءه هذا الداعي ودعاه فتاب إلى الله على يده من الشرك والبدعة وبقي مع ذلك مصرا على عداوتنا، ألا ينبغي لنا أن نفرح بتوبته لأنه أنقذ من شر عظيم يوجب له الخلود في نار جهنم، أما عداوتنا نحن فإنها معصية لا يخرجه من الإسلام وقد تزول فنصطلح معه ونعود إلى الوفاق فقال لي: هذا رأيك أنت، أما أنا فأقول: يجب على كل من أراد أن يتوب من الشرك والبدعة أن يرضيني ويبايعني فقلت له: إني أوثر رضي الله على رضاك فقال: هذا فراق بيني وبينك. وسمعت بأنه كان يتعاطى الأفيون وهو مخدر سام- الله أعلم بصحة هذا الخبر- وبقيت في الريرمون على تلك الحال نحو ثلاثة أشهر، ثم حان وقت الحج وكنت في أثنائها أظهر الغنى ولم أسمح لأحد أن يدفع عني أجرة البريد لرسالة أرسلها في البريد فضلا عن غير ذلك حتى صار الناس يعتقدون أنني غني، ولم يتجرأ أحد أن يقدم لي شيئا لا دراهم ولا ثيابا إلا شيئا من الخبز اليابس وشيئا من السمن في إناء من خزف انكسر حين ركبت العربة قبل أن اصل إلى مستقري في القاهرة وإلا كسوة كسانيها الشيخ يوسف رحمه الله بعد أن قدم لها مقدمات من الإلحاح الكثير.
* المناظرة *(39/31)
لما استجاب لي شيخ البلد وتبعه الناس كلهم إلا من ذكرت- أعني العمدة المرفوت وشيخ الطريقة- أصاب هذين الرجلين من الغم والحزن شيء كثير فبعثا إلى الجامع الأزهر ودعيا أحد كبار الأساتذة المعروفين بغزارة العلم وطلاقة اللسان لمناظرتي فجاء الأستاذ الأزهري ونزل في قصر العمدة المرفوت، فجاء أصحابنا وأخبروني بقدومه وقالوا لي: ناظره فستنتصر عليه يقينا فإن الأزهريين ضعفاء في علم السنة والتوحيد ونحن العوام نغلبهم، فقلت لهم: إني أرى في هذه القضية رأيا مخالفا لرأيكم، وهو أنني لا أناظره فأنا حارث وزارع وقد دعوت أهل البلد فاستجابوا لي؟ فليتقدم وليدعهم هو إلى الرجوع إلى الشرك والبدعة فإن رجع معه أحد فأبعده الله ومن تبعه فهو له ومن تبعني فهو لي، والمناظرة تعتريها المشاغبة ثم المضاربة فلا تحق حقا ولا تبطل باطلا فقالوا لي: كلامك هذا يسبب لنا الهزيمة ويصدق قول أعدائنا إنك مغربي حاج ما درست في الأزهر ولا عندك الشهادة العالمية فقلت لهم: صدقوا أنا جاهل ما درست في الأزهر ولا عندي الشهادة العالمية، ولكن هذه المسائل التي أدعو إليها لو جاء شيخ الأزهر ومعه علماء الأزهر كلهم لم يستطيعوا أن ينقضوا منها شيئا غير أنني لا أحب المناظرة ودعوا الأعداء يقولون ما شاءوا، فلم يعجبهم كلامي.
وبقي الأستاذ الأزهري في بيت العمدة خمسة عشر يوما حاول في أثنائها أن يهجم على في الدرس الذي ألقيه كل يوم بعد العصر بالمسجد الجامع فنهاه شيخ البلد وقال له: نحن نثق بهذا الرجل ولا نشك في صحة ما دعانا إليه والله إن فتحت (بقك) أي فمك بكلمة واحدة لآمرن خفيرين أي حارسين يأخذانك إلى محطة السكة الحديدية لأنك تريد أن تحدث تشويشا وفتنة، فبقي شيخ الطريقة وصاحبه العمدة حائرين وفي النهاية عمدا إلى حيلة مكنتهما مما أراد.(39/32)
وذلك أننا كنا في شهر رمضان وفي ذات يوم دعاني العمدة الحقيقي وهو رجل ملحد إلى العشاء فأجبته، وألقيت كلمة أمامه فقال لي: أنا على الحياد لست معك ولا مع خصومك يعني شيخ الطريقة والعمدة المرفوت، ولكن عقيدتكم أنتم أقرب إلى العقل من عقيدتهم لأن عبادة القبور وشيوخ الطريقة إهانة للكرامة الإنسانية.
ولما انصرفت من عنده كان طريقي يمر على باب قصر العمدة المرفوت فلما حاذيت بابه جاءني شيخ الطريقة وسلم علي وقال: إن سعادة العمدة يدعوك إلى فنجان قهوة فقلت: عندي الآن درس، فقال لي: لا يستحسن أن ترد دعوته ولا تزيد على خمس دقائق، فذهب بي حتى أدخلني إلى مقصورة وجدت فيها شيخا ذا عمامة ولحية فظهر لي أنه هو العالم الأزهري الذي دعي إلى مناظرتي، وكان ظني صادقا فلم يكد المجلس يستقر بي حتى هجم علي الأستاذ الأزهري وقال لي: يا فلان بلغني أنك تقول كذا وكذا وكذا وعدد مسائل من التوحيد وأتباع السنة فقلت له: أما كذا وكذا فقلته حقا وذكرت له دليله وأما كذا وكذا فلم أقله. ووقعت المناظرة فعلا، فحانت مني التفاتة فرأيت حديقة القصر كلها عمائم وقلانس لم يبق أحد من أهل البلد إلا حضر وتركوا لذلك صلاة التراويح فلم تزد المناظرة على نصف ساعة وكان الأستاذ الأزهري نسيت اسمه الآن من خيرة علماء الأزهر فجعل يقول في أثناء المناظرة أشهدكم أني رجعت عن كل ما قلته في هذا الأستاذ المغربي؛ فإن الناس نقلوا لي عنه مسائل مكذوبة عليه، وأشهد أنه من العلماء المحققين وإن كنت أخالفه في بعض المسائل. فعند ذلك علم العمدة المرفوت أنه أخفق في سعيه، فقال: أيها الأستاذ أرجوكم أن تقطعوا هذه المناظرة أنا ما دعوت الأستاذ المغربي إلى المناظرة، وإنما دعوته لأتعرف به ويشرب عندي فنجانا من القهوة، فانتهت المناظرة على ما يحبه أصحابنا ويكرهه خصومنا، ومن رأي أني أبعد عن المناظرة وأتجنبها فإذا اضطررت إليها استعنت بالله وخضت غمارها، قال النبي صلى الله عليه وسلم:(39/33)
((لا تتمنوا لقاء العدو واسألوا الله العافية فإذا لقيتموهم فاصبروا))(1).
* الدعوة إلى الله في تندا *
تندا: هي قرية تبعد عن الريرمون، مسافة لا أحصيها وفيها سلفيون واثنان من العلماء.
جاءتني دعوة من السلفيين من أهل هذه القرية فلبيتها، وتوجهت إليهم وأقمت عندهم ثمانية أيام ألقي الدروس في المساجد فرجع عن البدعة والشرك خلق كثير، وقدر عددهم بنصف سكان القرية وعندئذ قال لي بعض أصحابنا: اتق الله وامكث هنا في مديرية أسيوط على الأقل سنة كاملة، وأقسم بالله أني لو أقمت سنة ليهدين الله بي أكثر سكان المديرية وقال لي: إن هذه الفرصة التي سنحت لك من إقبال الناس على مجالس دعوتك قل ما يسنح مثلها ولا يجوز لك أن تضيعها، فقلت له يمنعني من ذلك أن الغرض الذي سافرت من أجله من المغرب هو طلب العلم ولقاء أصحاب الحديث أينما كانوا وأنا لم أؤد فريضة الحج حتى هذه الساعة، فقال لي: أما طلب العلم فهذه المجالس الحافلة بالدعوة إلى الله هي من صميم طلب العلم، وأنت شاب يمكنك أن تستأنف رحلتك بعد ذلك، وجاءني اثنان من أغنياء أصحابنا فقال لي كل منهما: امكث هنا وأنا مستعد أن أزوجك ابنتي وأكتب لك عند المأذون فدانين غلتهما تكفيك للمعيشة، فاعتذرت إليهما عن القبول وقلت لهما: إن الشيخ عبد الظاهر الريرموني عفا الله عنه يظن أنني أقصد الإقامة هنا طلبا للمعيشة لأقصيه وأحل محله، فقالا: معاذ الله أن يظن بك أحد مثل هذا الظن. وفي أثناء إقامتي بالريرمون قرأ علي أخوان معلمان في المدرسة نسيت أسماءهما ختمة من القرآن بقراءة ورش، وكانت نادرة في مصر في ذلك الزمان فلم تلبث أن انتشرت بعد ذلك وأولع بها القراء بقصد الإغراب على السامعين، واكتساب المعيشة أي التأكل بالقرآن. وفي صحيح البخاري، باب من تأكل بالقرآن أو فخر به، ذكر البخاري رحمه الله في هذا الباب حديث علي في الخوارج،
__________
(1) متفق عليه، عن أبي هريرة رضي الله عنه. انظر: صحيح الجامع (7222)(39/34)
واستدل به على أنه لا يحل الأكل بالقرآن فراجعه إن شئت.
* قدم مراد الله يقدم الله مرادك *
تقدم أني تعففت أثناء إقامتي بالريرمون وأظهرت الغنى
تعفف ولا تبتئس ... فما يقض يأتيكا
وإنما فعلت ذلك لعلمي أن الذي يأخذ من الناس لا يستطيع أن يعطيهم شيئا، وأن من كان له غرضان متضادان لا يمكن الحصول عليهما جميعا. فلذلك وحدت همي ووجهت همتي بعد فتح الله لي قلوب الناس إلى الدعوة وحدها كما قال الناصح:
اجعل الهم واحدا ... وارض بالله صاحبا
وكنت أظن قبل التوجه إلى الصعيد أن ييسر الله لي دراهم أحج بها حجة الفريضة. وبعدما أقمت في مصر سنة وشهرا نفد كل ما كان عندي وكنت أنفق على نفسي وأخي الأستاذ محمد العربي الهلالي الذي صحبته معي وكان صغيرا، لكن لما حصلت على تلك الغنيمة فوضت الأمر إلى الله وقلت:
عسى فرج يأتي به الله إنه
... له كل يوم في خليقته أمر
وبعد وصولي إلى القاهرة ببضعة أيام جاءتني حوالة من الشيخ يوسف بثلاثة عشر دينارا فكانت كافية لأن أحج بها أنا وأخي وهذا ما أردت بقولي قدم مراد الله يقدم الله مرادك.
هل بقي أهل الريرمون ثابتين على الدعوة؟(39/35)
الجواب نعم، بعدما سافرت إلى الحجاز ثم إلى الهند ثم إلى العراق رجعت إلى مصر سنة خمسة وأربعين وثلاثمائة وألف فزرت الريرمون، ووجدت الإخوان ثابتين على الحق لم يضرهم من خالفهم، وأخبرني الشيخ يوسف رحمه الله أنه لما شاع في أنحاء الصعيد أن أهل الريرمون بدلوا الدين وأحدثوا دينا جديدا بعثت وزارة الأوقاف مفتشا ليعرف حقيقة ما وقع. قال: فجاءنا وقال: يا شيخ يوسف بلغنا أنكم تركتم الترقية وقراءة سورة الكهف والأذان الثاني في يوم الجمعة وكذا وكذا قال فقلت: له أنت عالم ونحن جهال وسترى صلاتنا وعبادتنا فكلما رأيت أمرا مخالفا للسنة المحمدية فأخبرنا به نرجع عنه وكلما رأيت أمرا ناقصا من السنة فأخبرنا به، فقال لي: يا شيخ يوسف السنة على الرأس والعين ولكن لا يخفى عليك أنه قد حدثت أمور بعد زمان النبوة استحسنها الناس ودأبوا عليها ومن الصعب إزالتها وقد قال العلماء: إن البدعة تعتريها الأحكام الخمسة فقد تكون واجبة أو مستحبة أو مباحة أو مكروهة أو محرمة، قال: فقلت: أنا كما تعلم لست من العلماء ولكني سمعت غير واحد من العلماء الثقات الذين لا أشك في علمهم ولا في صدقهم يقولون أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((كل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار)) وفسروا لنا هذا الحديث كما يدل عليه ظاهره. ولم يقل أحد منهم: إن بعض البدع واجب وبعضها مستحب وبعضها مباح، فقال المفتش: ثم لا يخفى عليكم أن المساجد للأوقاف هي التي بنتها وهى التي تنفق عليها وهي تريد أن تسير على ما كانت عليه، قال الشيخ يوسف فقلت له: (إيه ده يا خوي بس كدا؟) أنا أستطيع أن أبني مسجدا في سبعة أيام وأترك المسجد الجامع فارغا لا يصلي فيه أحد إلا الإمام والمؤذن، قال: فقال المفتش:(39/36)
يا شيخ يوسف أو نعمل شيئا آخر. قال: فقلت: هات ما عندك، فقال: أنا مبعوث إليكم من قبل الأوقاف لأقدم تقريرا فيما نسب إليكم من المخالفات، فأقترح عليكم أن تأمر المؤذن والإمام يوم الجمعة بإعادة تلك الأمور التي كنتم تصنعونها من قبل لأستطيع أن اكتب تقريرا أكذب فيه ما نسب إليكم، وبعد أن أفارقكم وأعود بالتقرير إلي من أرسلني اصنعوا ما شئتم، قال: فقلت: أنا موافق فأمرت الإمام والمؤذن أن يفعلا تلك البدعة المخالفة للسنة يوم الجمعة ففعلاها وصلينا الجمعة كما أراد المفتش ثم عدنا إلى ما كنا عليه.
وهنا ينبغي أن أقتبس أبياتا من القصيدة التائية التي نظمتها بالهند وذكرت فيها توبتي من الشرك والبدعة ورحلتي في طلب العلم، وأقتصر على ما يخص الدعوة في الريرمون لأني قد أدرجت القصيدة كلها في كتاب الهدية الهادية إلى الطائفة التجانية. والأبيات التي تخص الريرمون هي:
أتيت إلى مصر لأخبر خبرها ... وأنظر هل فيها شفاء لعلتي
وكنا سمعنا قبل أن في ربوعها ... رجالا لنصر الدين أصحاب شدة
وصلت فلم ألف سوى أهل بدعة ... وشرك وإلحاد وشك وردة
سمعت بها الإلحاد يعلن جهرة ... بجامعة للشر مع كل فتنة
رأيت بها الأوثان تعبد جهرة
... قبورا عظاما ناخرات أجنت
ويدعون دون الله من لا يجيبهم ... وهم عن دعاء القوم في عظم غفلة
لهم جعلوا قسما بمال ولدة ... فلا عاش من قد ظنهم أهل ملة
حشا ثلة لله مستضعفين رأيتهم ... يسومهم الأعداء سوء الأذية
وهم صبر مستمسكون بدينهم ... ويدعون ما اسطاعوا لبيضا نقية
وما صدهم إيذائهم عن جهادهم ... لأنهم أهل النفوس الأبية
يعدون بالآلاف في الريرمون كله ـكلهـ كلهـ كلهـ ... ـم أهل إخلاص وأهل فتوة
* من مخارق شيوخ المتصوفة المبتدعين *(39/37)
حكى لي أصحابنا في الريرمون أنني بعدما سافرت من بلدهم زارهم شيخ طريقة اعتاد من قبل أن يزورهم الفينة بعد الفينة، فاستقبلوه استقبال ضيف عادى ولم يقبلوا يديه ورجليه ولم يخضعوا له لخضوع المعتاد قبل توحيدهم لله، فأنكر ذلك وقال: ماخطبكم أراكم تبدلتم؟ قالوا: ماذا تريد منا؟ نحن مستعدون لضيافتك فاقترح ما تشاء فقال لهم: ما هذه الوجوه هي الوجوه التي أعرفها ولا الاستقبال الذي عهدته فيكم، فقال له أحدهم: وماذا تريد منا أتريد أن نعبدك من دون الله؟! لقد تاب الله علينا وهدانا إلى توحيده وأتباع رسوله، فنحن لا نريد منك شيئا لا نسأل حاجتنا إلا من الله ولا نتبع في الدين إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال له الشيخ وهو غضبان تغلي مراجله: يا عكروت (العكروت كلمة شتم في العامية المصري بمعني اللئيم) أنا قتلت نفسا لأجلك وتقابلني بهذه الوقاحة؟ فقال الرجل: وكيف كان ذلك؟ فقال الشيخ: جاء رجل يسرق من مزرعة البطيخ التي زرعتها على شاطئ فرع النيل فوجهت له همتي وقتلته؟ فضحك الرجل وقال له: يا سيدنا الشيخ قد أخطأت في حسابك إن المزرعة التي تعني جاءها فيضان النيل، فأتى عليها قبل أن تثمر،فغضب الشيخ ورحل ولم يقبل ضيافتهم وعلم أن رزقه منهم قد انقطع فذهب يبحث عن غيرهم كما يبحث الذئب عن الحملان، ومن عرف معنى لا إله إلا الله محمد رسول الله وعمل بمقتضاها حفظه الله من شياطين الجن والإنس.(39/38)
وحدثوني عن هذا الشيخ نفسه أنه كان في ضيافتهم في مندرة فنظر فلم ير أحدا وأوحى إليه شيطانه أن يأتي بمخرقة ليرهبهم بها ويستدر خدمتهم وأموالهم، فنزل من فوق المقعد الخشبي، واندس تحته وقد سدل عليه ستار كما هي العادة في ذلك الزمان في المنادر فدخل أحدهم فلم يجده وهم يعلمون يقينا أنه لم يخرج، فقال: يا جماعة قد فقد سيدنا الشيخ، فدخلوا كلهم ولم يشاهدوا شيئا ثم خرجوا فلما خلا له الجو خرج من مخبئه وقعد في مكانه، وانطلقوا هم يفتشون عنه في البلد كله، فلم يجدوا له أثرا ثم رجع أحدهم فوجده في مكانه فأحاطوا به يتمسحون به ويقبلون يديه وهم في هلع عظيم وقالوا: يا سيدنا الشيخ (كرى إيه؟) يعنون ماذا جرى؟ عهدنا بك جالسا على المقعد ثم دخلنا فلم نجدك وانطلقنا نبحث عنك ثم رجعنا فوجدناك، فقال: زرت إخوانكم المجاهدين في طرابلس الغرب (في هذا الزمان تسمى ليبيا) فوجدتهم في معركة عنيفة مع أعداء الإسلام الإيطاليين فأكبوا عليه مرة أخرى يقبلون يديه ويتمسحون بثياب هذا البطل المجاهد!! وما هي من أفعال المبطلين بالشيء ا لغريب.
* الدعوة إلى الله في تطوان *
في شهر آذار "مارس" من سنة اثنتين وأربعين وتسعمائة وألف بتاريخ النصارى، اتفقت مع سماحة المفتي السيد أمين الحسيني على التوجه من برلين إلى شمال المغرب، وحملني رسالة شفوية إلى الأستاذ المجاهد رئيس حزب الإصلاح الوطني الزعيم عبد الخالق الطريس رحمة الله عليه تتعلق بإصلاح حال المسلمين في شمال المغرب. وكان في ذلك الزمان القسم الشمالي من المغرب يسمى المغرب الإسباني لأن المغرب كان مجزأ إلى ثلاثة أجزاء المغرب الفرنسي، وهم القسم الأكبر من المغرب عدد سكانه زهاء أحد عشر مليونا، والمغرب الإسباني وعدد سكانه زهاء مليون واحد، وطنجة ونواحيها وهي دولية، وكان الجرمانيون في أوج عزهم.(39/39)
فلما وصلت إلى تطوان فزع الإسبانيون المستعمرون من قدومي وساء ظنهم، لأنهم وإن كانوا مع الألمانيين في السياسة ظاهرا إلا أنهم لا يأمنون جانبهم، فظنوا أنني جئت مبعوثا من الألمانيين لأتصل بزعماء المغاربة، وأسعى في إخراج الإسبانيين ليحل الجرمانيون محلهم- وهو ظن كاذب- فمنعوني من الرجوع إلى البلاد الجرمانية، بتواطؤ مع القنصلية الإنكليزية في تطوان فاضطررت إلى البقاء في تطوان ونواحيها زهاء ست سنين، وجرت علي حوادث ذكرها هنا كلها يخرجني عن الموضوع، وإنما أذكر منها ما يتعلق بالدعوة إلى الله تعالى، وكنت في ذلك الوقت القديم عديم الجنسية لأن الإنكليز تواطؤوا مع السفارة العراقية في روما أن لا تجدد جواز سفري، فقدمت إلى تطوان بجواز ملفق بعثه إلى الأستاذ عبد الخالق الطريس، فسهل على الإسبانيين المستعمرين المستعبدين أن ينتزعوا مني ذلك الجواز، وأن يجعلوني تحت المراقبة، ثم استطعت أن أقنعهم بكذب ظنهم بعدما اقترحوا على كتابة مقال أصرح فيه بأن الجرمانيين لا حق لهم في استعمار المغرب، فكتبت مقالا قلت فيه: إن المغرب للمغاربة لا حق للفرنسيين ولا للإسبانيين ولا للجرمانيين في الاستيلاء عليه، فرضوا بذلك ولكنهم شرطوا علي أن لا أكتب مقالا ولا ألقي دروسا ولا خطبة إلا بعد اطلاعهم واستئذانهم وهددوني بأن يسلموني للفرنسيين الذين نفوني قبل من القسم الذي تحت أيديهم، ولو ظفروا بي لانتقموا مني أشد انتقام، وبقيت هنالك عاطلا عن العمل.(39/40)
فبعد مدة جاءني جماعة من محبي العلم والإصلاح والتمسوا مني أن ألقي دروس وعظ في المسجد الجامع ويسمي باللغة المغربية الجامع الكبير، فقلت لهم: إن الإسبانيين شرطوا علي أن لا ألقي درسا بدون إذنهم، ثم جاءني جماعة من طلبة المعهد الإسلامي فالتمسوا مني مثل ذلك فأجبتهم بالجواب نفسه، فقالوا لي كلهم: إنهم لم يمنعوك منعا باتا وإنما علقوا ذلك على إذنهم فاستأذنهم. وكان الحاكم المدني قد عين أحد الضباط اسمه بردا واسطة بيني وبينهم، فأخبرت بردا بطلب الجماعتين فبلغ الأمر إلى سيده فقال له: لا مانع عندنا من ذلك ولكن مدير المعارف (وهو إسباني طبعا) متعصب جدا ومعتد بنفسه فإذا رأى الدكتور الهلالي يلقي دروسا بدون استئذانه يخاف أن يكيد له كيدا، فيستحسن أن يطلعه على ذلك لينجو من شره، فشاورت الأستاذ عبد الخالق الطريس رحمة الله وكان قد عينني أستاذا في المعهد الحر وهو مؤسسة وطنية خارجة عن نفوذ المستعمرين نوعا ما، فقال لي: اكتف بإلقاء الدروس في المعهد ود عنك هؤلاء الأرذال، فصرفت النظر عن ذلك.(39/41)
ثم عادت الجماعتان إلى الالتماس وقلت: عسى أن يكون في إجابة طلبهم خيرا، فقلت لبردا: أخبر مدير المعارف بأني أريد زيارته فأخبره، فرحب بذلك واجتمعت به بحضور مدير المعارف المغربي، وكان حضوره صوريا لا حول له ولا قوة ومع ذلك حاول أن يستغل وجوده فأراد أن يشترط على شرطا يتنافى مع الغرض المطلوب، فقال لي: إن الإسبانيين يشترطون عليك أن تكون دروس وعظك خالية من السياسة وخالية من الآراء الشاذة يريد بذلك إنكار الشرك والبدع، فقلت له: أنا لا أقبل هذا الشرط وسأتكلم مع المدير الإسباني فإن أصر عليه عدلت عن إلقاء الدروس، فتكلم المدير الإسباني وقال لي: لقد فرحت بزيارتك لأني أحب العلماء وخصوصا أمثالك الذين يجمعون بين الثقافتين الأوربية والإسلامية وهم قليل بل ما رأينا منهم أحدا قبلك، ولكني أكره للعلماء أن يشتغلوا بالسياسة لأنها تفسد عليهم علمهم وفي رأيي أن على العالم أن ينقطع لخدمة العلم ويترك السياسة، فقلت له: يمكنك أنت أن تفعل ذلك أن تنقطع إلى العلم وتترك السياسة لأن لك دولة قائمة تغنيك عن ذلك، أما أنا فلا يمكنني ترك السياسة لأمرين: أولهما أن القرآن والحديث كلاهما مشحونان بالسياسة، فلا يمكن أن أفسر القرآن وأشرح السنة إلا بالخوض في السياسة، وثانيهما أن المغرب في هذا الزمان كالجسم المريض ونحن أبناؤه يجب علينا السعي في استرداد ما فقد من الصحة والمحافظة على ما لم يفقده منها، فقال: أنا أوافقك على أن المغرب مريض ولكن ينبغي لنا أن نعطيه الدواء إذا أردنا شفاءه بقدر محدود، فقلت له مغالطا: إذا نحن متفقون على السعي في علاجه وشفائه، وفهمت منه الموافقة على إلقاء الدروس.(39/42)
وبدأت بإلقاء ثلاثة دروس في المسجد الجامع كل أسبوع، فأقبل الناس علماؤهم وعامتهم على هذه الدروس إقبالا عظيما مع أن علماءهم إلا واحدا وهو الأستاذ محمد الطنجي كانوا معادين ومحاربين للتوحيد وأتباع السنة أشد المحاربة، وهددوا بأن يعينوا لجنتين إحداهما تناظرني في الأصول والأخرى تناظرني في الفروع فلم أعبأ بهم وأخذت أحطم أصنامهم في دروسي. ولما بدأت دروسي في الجامع الكبير لم يكن أحد يضع اليمنى على اليسرى في الصلاة، ووضع اليمنى على اليسرى في الصلاة وقراءة بسم الله الرحمن الرحيم في أول الفاتحة أعظم شعار للمتبعين للسنة فبدأ العوام يعملون بهذه السنة وغيرها. وكان الناس يتعجبون من العاملين بها ولكن باستمرار الدروس بضع سنين كثر المتبعون للسنة في هذا المسجد حتى صار الناس إذا رأوا رجلا سادلا يديه في الصلاة لا يرفع عند الركوع ولا عند الرفع منه ولا يجهر بالتأمين يتعجبون منه.
*الحوادث التي وقعت أثناء إقامتي في شمال المغرب*
الأولى: كان في طنجة الشيخ أحمد بن الصديق شيخ الطريقة الشاذلية المسماة هناك بالدرقاوية، سمعت أن أباه محمد بن الصديق ورد طنجة منذ زمان غير بعيد من قبيلة غمارة فقيرا لا يملك شيئا، ودعا الناس إلى الدخول في طريقته فاستجاب له بعضهم ونمت دعوته إلى أن أسس زاوية.(39/43)
والزاوية في الحقيقة كالضرة للمسجد فهي بناء قصد به إقامة الصلوات الخمس مع الأذان في كل وقت وقراءة القرآن وإلقاء دروس الوعظ، فهي إلى هذا الحد تشبه المسجد وتكاد تكون إياه، ولكن قد قصد بها بالدرجة الأولى اجتماع طائفة مخصوصة لها اسم يعينها كالدرقاوية والتجانية والقادرية والزروقية والناصرية والكتانية والكرزازية والوزانية وهلم جرا، يجتمعون فيها لما يسمونه بالذكر، وهذا الذكر يكون جماعة بلسان واحد كترانيم النصارى في كنائسهم، وبالنسبة للدرقاوية التي نحن بصدد الكلام فيها يكون معه غناء ورقص وآلات اللهو كالطبل والدف والمزمار وسائر الآلات، ويجتمع فيها رجال ونساء على ذلك وبذلك تخالف المسجد.
وبعدما استقر الشيخ محمد بن الصديق في طنجة وانتشرت طريقته بعض الانتشار نشأ أولاده وشبوا، فأخذوا يقصدون مصر لطلب العلم وكبيرهم في السن والعلم هو الشيخ أحمد المذكور آنفا أقام بمصر سنين جادا مجتهدا حتى حصل على نصيب وافر من علوم اللغة والعلوم الشرعية، وفتح له في التأليف فألف كتبا كثيرة ورجع إلى طنجة، وكان أبوه وأصحاب طريقته إلى حين رجوعه مقلدين كغيرهم لا يعملون بالحديث ولو كان مثل الشمس، فدعاهم أحمد إلى ترك التقليد والعمل بالحديث في الفروع التي لا تمس الطريقة وعقائدها بشيء من التغيير فاستجاب له والده وأتباعه كلهم، وبذلك ضرب سورا على أتباعه يحرسهم من فتنة الفقهاء المقلدين، فلا يمكن أن يسألوهم عن شيء ولا أن يأخذوا منهم شيئا من العلم أما عبادة القبور والرقص واعتقاد وحدة الوجود وتقديس زنادقة الصوفية كابن عربي الحاتمي، وتعاطي الأوراد المبتدعة والاستمداد من الشيوخ والاستغاثة بهم فقد ترك كل ذلك على حاله ولم يغير منه شيئا.(39/44)
ولما استقررت أنا في تطوان وهي شرقي طنجة على مسافة أربعين ميلا وعرفت ذلك كله ظهر لي أن دعوة الشيخ المذكور توافق دعوتي في جانب وتخالفها في جوانب، فعزمت على أن أدعو إلى توحيد الله واتباع السنة دون أن أتعرض للشيخ أحمد بطعن ولا بتزكية من الوجهة الشخصية فأنا أدعو إلى توحيد الله وأعلم الناس معنى لا إله إلا الله محمد رسول الله أي جميع مدلولات الكلمتين، وأبين لهم أن من عبد غير الله بشيء من أنواع العبادات المذكورة أعلاه بعد أن يعرف أن هذا شرك ويصر على عمله فهو مشرك، ومن اعتقد وحدة الوجود فهو كافر، ومن استمد أو استغاث بغير الله فهو كافر، ومن ترك الكتاب والسنة وقلد الرجال قلادة سوء فهو ضال، وقد يفضي به إصراره على ذلك إلى الشرك كما قال تعالى: { فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [النور: 63] قال الإمام أحمد لصاحبه الفضل بن زياد رحمهما الله: أتدري ما الفتنة؟ الفتنة الشرك لعله إذا رد بعض قوله (يعني النبي صلى الله عليه وسلم) أن يقع في قلبه زيغ فيهلك، وهذا تفسير للآية في غاية التحقيق من وجهة الدلالة ومن وجهة العلم والمعرفة الذوقية لا يرتاب فيه إلا جاهل غمر.(39/45)
وانتظرت من الشيخ أحمد بن الصديق أن يسلك معي هذا المسلك نفسه، فلا يدعو إلى تلك الضلالات ويذم أهل التوحيد بل يتمسك بعقيدة السلف الصالح وذلك لازم لدعوته على سبيل العموم دون أن يسميني ولكنه سلك طريقا آخر، فغره استيطانه في طنجة وما له من أتباع، وعلم أني غريب في تلك الناحية يحاربني الاستعمار- ولا يخفى ما كان له في ذلك الزمان من سلطانه- ويحاربني جميع الناس تقريبا: فبعضهم يحاربني لأنه طرقي لأني أطعن في الطرائق كلها إلا طريقة النبي والصحابة والتابعين وهي الحنيفية، وبعضهم يحاربني لأنه مقلد جامد يقلد خليل بن اسحاق مؤلف المختصر الفقهي وشروحه لا يخجل أن يقول: نحن خليليون؟ إن دخل خليل النار دخلناها معه وإن دخل الجنة دخلناها معه!! هكذا يقول غلاة السفهاء الذين يسمون بالفقهاء.
حدثني الشيخ الورع الصالح محمد بن أبي طالب الحسني الهاشمي أن الفقهاء أجتمعوا في مدينة فاس في الضريح الإدريسي الذي يكاد يكون كعبة عندهم، وكان الشيخ الإمام المحدث الداعي إلى الله على بصيرة شيخ شيوخنا عبد الله السنوسي نزيل طنجة رحمة الله عليه يطعن في أولئك الجامدين ويضللهم، فجاءه أحدهم بعد انفضاض الاجتماع في الضريح المذكور فقال له يا سيدي لم لم تشرفنا بحضورك؟ فقال: أنت تعلم لماذا، فإنكم اجتمعتم للصلاة عند القبر وأنتم أسارى التقليد الأعمى فقال له المقلد: نحن خليليون إن دخل خليل النار دخلناها معه وإن دخل الجنة دخلناها معه؟ فقال الشيخ على البديهية:
{ أُفٍّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ } (الأنبياء: 67).
فبدأ الشيخ أحمد يطعن في علمي عندما أخذت أدعو الناس إلى اتباع الكتاب والسنة يقول: هذا طفيلي جاء من أوروبا يتزيا بالزي الأوروبي، وهو زي الكفار فمن أين جاءه علم الكتاب والسنة وأين درسه أفي برلين أم في بون؟(39/46)
ثم بدا للإسبانيين المستعمرين أن يؤسسوا صحيفة عربية يومية جامعة فطلب مني الحاكم الإسباني بواسطة بردا أن أنشر فيها مقالات في الدين والعلم والأدب دون أن أتعرض للسياسة. وكان هذا امتحانا ثانيا أرادوا أن يمتحنوني به فقبلت، وكتبت مقالات على شريطتهم، منها مقال في حل حديث مشكل ذكره الإمام ابن القيم في كتابه (الطرق الحكمية) وذكر من خرجه مع أسانيدهم وقال: إنه على شرط مسلم، إلا أن بعضهم علله باضطراب متنه ثم أجاب ابن القيم عن ذلك، وأثبت صحة الحديث، وسأسوق الحديث هنا ليطلع عليه القراء بلفظ النسائي.
قال ابن القيم ص 62 ما نصه: قال النسائي ((حدثنا محمد بن يحيى بن كثير الحراني، وحدثنا عمر بن حماد بن طلحة، حدثنا أسباط بن نصر عن سماك عن علقمة بن وائل عن أبيه (( أن امرأة وقع عليها رجل في سواد الصبح -وهي تعمد إلى المسجد- بمكروه على نفسها، فاستغاثت برجل مر عليها وفر صاحبها، ثم مر عليها ذوو عدد فاستغاثت بهم فأدركوا الرجل الذي كانت استغاثت به فأخذوه وسبقهم الآخر فجاءوا به يقودونه إليها فقال: أنا الذي أغثتك وقد ذهب الآخر، فأتوا به رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته أنه وقع عليها وأخبر القوم أنهم أدركوه يشتد فقال إنما كنت أغيثها على صاحبها فأدركني هؤلاء فأخذوني، فقالت: كذب هو الذي وقع علي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((انطلقوا به فارجموه)) فقام رجل، فقال: لا ترجموه وارجموني فأنا الذي فعلت بها الفعل واعترف فاجتمع ثلاثة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي وقع عليها والذي أغاثها والمرأة، فقال: ((أما أنت فقد غفر لك ))، وقال للذي أغاثها قولا حسنا، فقال عمر رضي الله عنه: ارجم الذي اعترف بالزنا فأبى رسول لله صلى الله عليه وسلم وقال: ((لا إنه قد تاب)).(39/47)
وكان بحثي في هذا المقال منصبا على الإشكال الواقع في الحديث وهو كيف أمر النبي صلى الله عليه وسلم برجم الرجل الأول الذي أغاثها دون أن تثبت عليه بينة الزنا وهي الاعتراف أو شهادة أربعة شهداء؟ فما كاد المقال يقع في أيدي الناس ويقرأ حتى اشتد غضب الشيخ أحمد بن الصديق، وكأنني هجمت على بيته ونهبت أثمن ما عنده وقال: ما شأن هذا الرجل والحديث؟! هذا رجل متفرنج أقام زمانا طويلا في أوروبا متطفل على الكلام في حديث النبي صلى الله عليه وسلم، فكتب مقالات هو وأعوانه في الرد علي. وكان محرر صحيفة الأخبار شخصا اسمه عرفة الغماري بينه وبين الشيخ المذكور قرابة، فكان إذا جاءه مقال منه أو من أحد أعوانه الذين كانوا يحاربونني معه يبادر بنشره ويؤخر مقالي بعض التأخير، لكنه لا يستطيع أن يترك نشره لأن سادته المستعمرين لا يسمحون له بذلك، واستمرت المعركة مدة من الزمان فيما بيني وبينهم، كانوا كعادتهم يمزجون الشتم بالعلم فأدع الشتم لا أجيبهم عنه وأجيبهم عن مسائل العلمية فقط؛ فاكتسبت بذلك وبالحجج القوية التي أدليت بها كثيرا من الأنصار من قراء صحيفة الأخبار.
وكان مدار رد الشيخ أحمد على مقالي غريبا لا يتعلق بأصل الإشكال بل سلك سبيلا أخرى، وهي قوله: إن الحديث ضعيف لا بالاضطراب في المتن كما قال بعض الحفاظ ولا بالانقطاع في بعض أسانيده كما قال غيرهم، ولكن بدعوى أن سماك بن حرب الذي عليه مدار الحديث ضعيف، وإذا كان الحديث ضعيفا لا يثبت فلا حاجة إلى البحث في الإشكال الذي وقع فيه. فأثبت في محاجتي لهم أن أكثر النقاد وثقوا سماكا وهو من رجال مسلم، ثم وجدت أن الشيخ أحمد بن الصديق نفسه يحتج بسماك هذا في أحد كتبه.(39/48)
وبينما المعركة جارية قد حمي وطيسها إذا برجل اسمه عبد القادر الجزائري كان من جماعتهم الطرقيين ثم صار من جماعتنا السلفيين يكلمني بالهاتف من طنجة ويقول: قد جاءني السيد محمد الزمزمي بن الصديق وأخبرني أن أخاه الشيخ أحمد بن الصديق يريد الاجتماع بك لإزالة ما حصل من الخلاف وإصلاح ذات البين، ولما كانت إقامتك في طنجة لا تطول فهو يرجو أن تعرفه باليوم الذي تتوجه فيه إلى طنجة ليتم اجتماعكما، وقد يخفى على من يعرف الأحوال هناك أن الشيخ الزمزمي لا يتنازل ليذهب إلى رجل ليس في مستواه، يضاف إلى ذلك أنه كان من مريديهم فخرج عن طريقتهم وإن تنزل إلى أن يكلمه ويوسطه فلا يتنزل إلى أن يأتي إلى بيته ولكنه فعل كل ذلك رغبة في إصلاح ما وقع بيننا، وهذا أمر يدل على عقل وفضل وإنصاف لأن هؤلاء الإخوة كان لهم مقام مرموق وأتباع وأعوان، أما أنا فقد كنت غريبا ليس لي أنصار ولا أعوان، وعبد القادر الجزائري تقدم ذكر حاله. فقلت له: لا حاجة إلى تعيين اليوم لأني سأقدم طنجة وأقيم فيها ثلاثة أيام وفي أثنائها يمكن الاجتماع بالسيد محمد الزمزمي. ولما قدمت اجتمعت فعلا به في بيت الجزائري وتحدثنا ساعتين فقال لي: إنك قدمت هذه البلاد بزي إفرنجي وهيئة إفرنجية، ولم نعهد من أصحاب هذا الزي إلا الكفر والإلحاد، ولم نكن نعرفك من قبل فظننا أن تدخلك في أمور الدين كتدخل كثير من أعدائه المفسدين، ثم تبين لنا بيقين علمك وفضلك وصدقك، فأراد أخي الشيخ أحمد أن ندعوك إلى الصلح والتعاون على ما اتفقنا عليه من دعوة الناس إلى أتباع حديث الرسول وترك التعصب للمذهب، وكلانا غريب في هذه البلاد في دعوتنا إلى أتباع الهدي النبوي- وكلاما طويلا في هذا المعنى- فقلت له: أنا منذ قدمت هذه البلاد وخبرت أحوالها عرفتكم، وعرفت دعوتكم وعزمت على التعاون معكم فيما اتفقنا عليه، وأما ما اختلفنا فيه، فكل منا يدعو إلى ما يعتقد، دون أن يتعرض بعضنا للطعن في بعض، فقال لي: إن(39/49)
الأخ الشيخ أحمد يدعوك إلى الغداء في بيتنا غدا بعد الظهر فقبلت.
ولما وصلت إلى الشيخ أحمد رحب بي واحتفل بي أعظم احتفال، ووجدته قد دعا للغداء كثيرا من أعيان البلد، ووضع لنا ثلاثة عشر لونا من الطعام باعتبار أنواع الحلوى ولم أر في عمري كله غداء بلغ ذلك العدد من الألوان، ولما فرغ الناس من الأكل دعاني إلى خزانة الكتب التي يشتغل فيها بتآليفه الكثيرة، وليس فيها إلا خزائن الكتب وحصير مفروش في أرضها يقعد عليه ويشتغل بالتأليف على الطريقة المغربية القديمة. وكان في إمكانه أن يؤثث مكتبا كمكاتب الوزراء ولكنه زهد في ذلك مع أنه كان يعيش معيشة الترف في قصر فخم، ولكنه أراد أن يترك خدمة العلم تسير في نهجها القديم، وبعد محادثة ودية طويلة افترقنا على أن لا يتعرض بعضنا إلى الطعن في صاحبه، ولكن كل منا يدعو إلى ما يعتقد أنه حق ويرد ما يعتقد أنه باطل.
واستمررنا على ذلك مدة إقامتي بتطوان ونواحيها، وقد استمرت من ربيع 1942 إلى صيف 1947. وفي أثناء هذه المدة ألفت كتابا سميته الصراط المستقيم في صفة صلاة النبي الكريم فقرظه الشيخ أحمد في صحيفة الأخبار، وبقي الأمر فيما بيننا كذلك إلى أن سافرت قافلا إلى العراق لم يحل ولم يتغير، ولما سمعت وأنا في تطوان أن الشيخ أحمد أفتى بزيادة (سيدنا) في الأذان وأن مؤذنه يقول: أشهد أن سيدنا محمدا رسول الله أنكرت ذلك ولم أتعرض لشخصه بسوء، ولما وصلت إلى العراق كتب إلى أحد الأخوان أنه ألف جزءا سماه إحياء المقبور في استحباب البناء على القبور، فأنكرت ذلك ولم أتعرض لشخصه بسوء، وبذلك تعلم كما يعلم كثير من أهل طنجة وأهل تطوان، ومنهم الأستاذ العالم الداعي إلى الله على بصيرة، فخر آل الصديق ورائدهم في طريق الحق وفرطهم إلى الهدي صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ محمد الزمزمى بارك الله في حياته ونفع بعمله.(39/50)
فتبين بما ذكرناه أن ما سطره هذا الناعق كله افتراء من بنات غيره (1). وهنا أذكر الألفاظ البذيئة التي وصمني بها كذبا وزورا ثم أنقضها بالتفصيل حتى يعلم من لا يعلم أنه مفتر يكذب على الحاضرين ويعرض نفسه لزيادة سخرية الساخرين، فقد ألف هذا المسكين كتيبا سماه (التيمم في الكتاب والسنة) خبط فيه خبط عشواء وملأه بسب العلماء الأئمة المتقدمين والمتأخرين وهذا نص ما كتبه في صفحة (57): ((فقد جاء إلى طنجة رجل من هؤلاء الدعاة مدعيا محاربة البدع، فأصبح ذات يوم حليفا فأرسل إليه شقيقي الحافظ أبو الفيض من يسأله كيف يتفق حلق اللحية مع أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإعفائها وزعمه العمل بالسنة والدعوة إليها؟ فأجاب السائل بقوله: معنى الحديث اعفوا لحاكم إن شئتم، فقال شقيقي للسائل: ولم لم تقل له: أقيموا الصلاة إن شئتم. ولا تقربوا الزنى إن شئتم؟ فهذه هي السنة التي يدعو إليها هذا الضال وأمثاله، وقد انتقل ذلك الضال إلى بعض مدن الجنوب عاملا على بذر بذور الشقاق والتفرقة بين المسلمين. وإني أعتقد أنه مستأجر من جمعية التبشير الإنكليزية أو الأمريكية لإيقاع التفرقة بين المسلمين لأن التفرقة بينهم هي الوسيلة التي ينال بها الاستعمار أغراضه)).
__________
(1) يقال: جاء ببنات غير: أي بأكاذيب.(39/51)
في هذا الكلام أنواع من البهتان: الأول: قوله: فأصبح ذات يوم حليقا يواهم أنني جئت إلى طنجة بلحية ثم حلقتها، وهذا كذب محض يلعنه عليه خلق كثير لا يزالون أحياء يرزقون، والحقيقة أنني جئت إلى طنجة من برلين عاصمة ألمانيا بعدما أقمت في تلك البلاد زهاء ست سنين لتحصيل العلوم العصرية وشهادة الدكتوراه الجامعية، وقد حصلتها ولله الحمد في مدة لا تزيد على أربع سنين، وسبب توجهي إلى طنجة أن سماحة المفتي السيد أمين الحسيني بارك الله في حياته بعثني إلى الأستاذ الزعيم المجاهد عبد الخالق الطريس لغرض سياسي فيه خير للمسلمين المغاربة كما تقدم، وكنت مدة إقامتي في ألمانيا أحلق لحيتي متأولا حديث الأمر بعفو اللحى على أن الأمر للندب. وقد خيل إلى في ذلك الزمان أن الأوامر الواردة في خصال الفطرة كإحفاء الشارب وعفو اللحى ونتف الإبط وتقليم الأظفار ينبغي أن يسلك بها مسلك احد، فإما أن تحمل على الوجوب كلها وإما أن تحمل على الندب كلها، وأن حمل لا!مر الوارد في اللحية وحده على الوجوب وحمل سائرها على الندب تناقض.
وكذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم في صبغ الشعر ((خالفوا اليهود والنصارى فإنهم لا يصبغون))، واستأنست بأقوال بعض العلماء الذين سلكوا هذا المسلك وقد ذكرهم أخوه عبد العزيز في تأليفه الذي رد فيه على أخيهما الأستاذ الزمزمي، وهو لا شك يعرفه، ثم ظهر لي أن الداعي إلى الله لا ينبغي له أن يعتمد على التأويل ولا يكون له عليه تعويل، بل يجب عليه أن يكون قدوة حسنة في أقواله وأفعاله وسيرته فعفوتها ولله الحمد ولا آخذ منها شيئا.(39/52)
على أن حلق اللحية على ما ذهب إليه جمهور الأئمة من التحريم لا يتعدى أن يكون من الصغائر، ولا يصل إلى حد الكبائر، وقد بسط القول في ذلك شارح العقيدة الطحاوية أنظر كلامه في ص 356 فقد اختار في حد المعصية الكبيرة أنها ما يترتب عليها حد أو توعد عليه بالنار أو اللعنة أو الغضب وهذا أمثل الأقوال ا هـ. والصغيرة ضدها وهي ما لم يترتب عليها حد ولا توعد عليها بالنار أو اللعنة أو الغضب، ثم قال وترجيح هذا القول من وجوه: أحدها: أنه هو المأثور عن السلف كابن عباس وابن عيينة وابن حنبل (رضي الله عنه) وغيرهم.
ولا أقول ذلك تصويبا لحلق اللحية أو تهوينا لشأنه، فإن الواجب على كل مسلم أن تكون له في رسول الله أسوة حسنة وأن يبذل جهده في موافقة قدوته وإمامه صلوات الله وسلامه عليه في الظاهر والباطن، ولكني أعجب لهذا الإنسان الذي يأتي بالطوام الكبرى التي لا تحلق الشعر بل هي الحالقة للدين والمروءة، ثم لا يجد ما يطعن به في أحد الدعاة إلى الله على بصيرة إلا بالتشنيع عليه في معصية من الصغائر قد تاب منها وتركها وهذا من الإفلاس.
الثاني: زعمه أن شقيقه- وهو عوض أبيه وليس له ولا عشر معشار علمه وعقله- زعم أنه أرسل إلي رسولا وهو كاذب مفتر فإنه لم يرسل إلي قط إلا أخاه السيد الزمزمي في طلب الصلح كما تقدم.(39/53)
الثالث: قوله: إني قلت له: معنى الحديث اعفوها إن شئتم، أقول فيه: سبحانك هذا بهتان عظيم، لو أرسل إلي رسولا وأجبته بذلك فإن العادة تقضي عليه أن يحضر دروسي في الجامع الكبير بتطوان، وكان يحضرها فئام من الناس من الموافقين والمخالفين، فلو قلت ذلك لسمعه الحاضرون. وقد سئلت عن هذا الحكم في تلك الأيام مرارا وتكرارا فأجبت بما تقدم من التأويل، وكل من كان يحضر دروسي يعلم ذلك ولا يشك في كذب هذا المفتري وسيزداد كذبه وضوحا حتى يصير كشمس الضحى ليس دونهما غمام { وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ } [الحج: 18] وحينئذ يعلم أنه كان في ذلك كالباحث عن حتفه بظلفه، وكالجادع بكفه مارن (1) أنفه فنعوذ بالله من الخذلان.
الرابع: قوله: وقد انتقل ذلك الضال إلى بعض مدن الجنوب عاملا على بذر بذور الشقاق والتفرقة بين المسلمين، أقول: هذا مضرب المثال رمتني بدائها وانسلت، أتدري أيها المأفون الذي يهرف بما لا يعرف لماذا انتقلت إلى الجنوب؟ لأن الاستعمار الفرنسي كان قد نفاني من وطني الجنوب ومن الجزائر وتونس أيضا، ولم نر أحدا من المنفيين نفاه الفرنسيون مثل هذا النفي المشدد وبذلك تعلم ما أدركك من الشقاء حين تجرأت على ذكر الاستعمار بوقاحة ليس لها نظير.
يا ليت لي من جلد وجهك رقعة ... فأقد منها حافرا للأدهم
مثلك يتجرأ على ذم الاستعمار، وهل نشأت أنت ومن معك إلا في حجر الاستعمار، وهل جلب عليك وعلى إخوانك الشقاء إلا تقلص ظل الاستعمار؟!
__________
(1) المارن من الأنف: هو ما لان منه.(39/54)
الخامس: أن هذا المفتري لما رأى دعوتي إلى توحيد الله والتمسك بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكناس ونواحيها قد أينعت وآتت أكلها شوى الحسد قلبه فسمى ذلك شقاقا وتفرقة بين المسلمين، ولو كان له من الحياء والتفكير فيما يقول مثقال ذرة لاستحى أن يذكر التفرقة بين المسلمين، ويرمي بها بريئا حنيفا ويحتمل بهتانا وإثما مبينا، وهل كتابك هذا من أوله إلى آخره الذي شتمت فيه الأولين والآخرين- لاشتم الأشراف بل شتم أرذال السوقة- إلا شقاق، ونفاق وتفرقة بين المسلمين؟! وإلا فمسألة التيمم واضحة وقد قتلها الناس بحثا من قبل أن تميز، والحق فيها واضح، أنا أدعو الناس إلى أمرين في كل مكان دعوت فيه إلى الله في الشرق والغرب وفي أوروبا.
أولهما: تحقيق معنى لا إله لا الله بجعل جميع أنواع العبادة، من دعاء واستغاثة، واستعانة فيما يخرج عن الأسباب، ونذر، وحلف، وتوكل، واستعاذة، واستمداد وعبودية، وخوف، ورجاء، وجعل شيء من الأحكام الخمسة، وصلاة، وصيام، وصدقة، وحج، وسفر يراد به التقرب إلى الله، وما أشبه ذلك، لله وحده لا شريك له لا يجعل شيء منه ولا مثال ذرة لملك مقرب ولا لنبي مرسل ولا غير مرسل ولا لصديق ولا لصالح ولا لأحد من الجن والإنس فهذا مجمل الأمر الأول.(39/55)
الأمر الثاني: تحقيق شهادة أن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم بامتثال ما أمر واجتناب ما نهى عنه وزجر، وأن لا يحول دون اتباعه حب شيء من المحبوبات الثمانية المذكورة في قوله تعالى: { قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ } [التوبة:24] ويدخل في العشيرة المذهب والطريقة والحزب، ومن يعد هذين الأصلين اللذين قامت عليهما الحنيفية السمحة ملة إبراهيم وخير أبنائه بل خير خلق الله على الإطلاق محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم من يعد ذلك شقاقا وتفريقا بين المسلمين إلا شيطان رجيم أفاك أثيم؟!
السادس: قوله: وإني أعتقد أنه مستأجر من جمعية التبشير الإنكليزية أو الأمريكية لإيقاع التفرقة بين المسلمين لأن التفرقة بينهم هي الوسيلة التي ينال بها الاستعمار أغراضه. أقول:
وإذا استوت للنمل أجنحة ... حتى يطير فقد دنا عطبه(39/56)
بهذا الكلام أمكن هذا الغبي من نفسه وعرضها للهلاك ألا تعلم أيها البليد أن الناس لهم أعين يبصرون بها وآذان يسمعون بها وقلوب يفقهون بها، فأقرب الناس إليك من حيث السكنى أهل طنجة يكذبوك ولو استطاعوا لرجموك بالحجارة فاسألهم ماذا صنع السفير الفرنسي حين ردع الحلفاء الغربيون إلى طنجة حين دب الضعف إلى قوة ألمانيا الهتلرية يخبرونك ويخرجون لك الجريدة الرسمية بالعربية والفرنسية وفيها ما معناه: أن محمدا تقي الدين الهلالي من وكلاء ألمانيا وقد طلب السفير الفرنسي من السفير الإنكليزي والسفير الأمريكي- يعني سفير الولايات المتحدة الأمريكية- أن يوافقوه على القبض عليه متى دخل حدود طنجة الدولية فوافقه السفيران على ذلك، وحينئذ انهالت على المحادثات الهاتفية من طنجة تحذرني من دخولها فهلا سألت الناس يا مغرور قبل أن تسطر ذلك الخزي المبين؟.(39/57)
ولما أردت السفر قافلا إلى العراق كتبت إلى السفارة المصرية من تطوان أطلب منها سمة الدخول إلى القطر المصري، فبعث إلى قنصلها استمارة طلب مني أن أملأ مواضع البياض فيها وهي مكتوبة بالإنكليزية، ومن جملة ذلك هل عندك سمة تمكنك من الخروج من مصر إلى لبنان؟ ولم أجد ما أملأ به هذا الموضع، فكتبت إلى أمير البيان المجاهد الأكبر حقا وصدقا الأمير شكيب أرسلان وكان لا يزال منفيا في جنيف بسويسرا، فكتب إلى يقول: إن لي فضلا على رئيس الجمهورية اللبنانية (بشارة الخوري) فإني أنقذت أباه من الموت في زمان حكم الأتراك العثمانيين، ولم أقتصر على ذلك حتى طلبت له راتبا من الدولة العثمانية، فاكتب إليه كتابا وابعثه إلي وأنا أشفعه بكتاب آخر من عندي ليبعث إليك سمة الدخول إلى لبنان لتتمكن من الدخول إلى مصر، فكتبت إليه الكتاب وبعثه هو إلى رئيس الجمهورية اللبنانية، فجاءني كتاب من وزارة الخارجية اللبنانية، موجه إلى القنصل الفرنسي في تطوان يلتمس منه أن ينوب عن وزارة الخارجية اللبنانية في إعطاء الدكتور محمد تقي الدين الهلالي سمة الدخول إلى لبنان، وكان هذا القنصل قد طلب من المستعمرين الإسبانيين إنزال العقوبة بي ثلاث مرات للمقالات التي نشرتها في صحيفة الحرية في محاربة الفرنسيين، والدفاع عن الملك المجاهد الراحل محمد الخامس قدس الله روحه على رغم أنف أصحاب الطرائق المبتدعة الذين كانوا يعادونه خدمة للاستعمار وخيانة للمسلمين.(39/58)
فأخذت كتاب وزارة الخارجية وتوهجت إلى السفارة الفرنسية في تطوان، ولم يكن لهم في ذلك الوقت سفير وإنما كان لهم قنصل، فما رآني حتى عبس وبسر ولم يأذن لي في الجلوس على الكرسي بل تركني واقفا انتقاما مني لجهادي الذي أقض مضجعه- واسم هذا القنصل سوفوليس- ولما قرأ الكتاب قال لي بعنف وغضب: هؤلاء قد استقلوا ولم يبق بيننا وبينهم علاقة، فقلت له: أكتب لي هذا الجواب فقال: أنا لا أستطيع أن أكتب حتى أكتب إلى المقيم العام في الرباط فهو الذي يستطيع أن يجيب في هذه القضية وسأكتب إليه فانتظر الجواب، فقلت: كم أنتظر فقال: شهرين. فانتظرت شهرين ثم جئته، فلقيني بغير الوجه الأول ووضع لي كرسيا للجلوس عليه وقال: إن المقيم العام في الرباط قد وافق على إعطائك سمه الدخول، ولكن بشرط أن لا تمر لا على الجزائر ولا على تونس أما فرنسا فيمكنك المرور عليها، ولكن بشرط أن نتحقق أن عندك ما يكفي للنفقة على نفسك في مرسيلية لمدة شهر، لأن البواخر التي تسافر منها إلى بيروت بعد الحرب قليلة فقلت له: أعطني سمة الدخول إلى لبنان ودعني أفكر في طريق سفري فإن قررت السفر بطريق فرنسية رجعت إليك، ثم أراد أن يكفر عن ذنوبه الساببقة فقال: إن أعداء فرنسية ينفقون الأموال الكثيرة لبث الفتنة والعداوة بين الفرنسيين والمغاربة وينبغي للفرنسيين والمغاربة أن يتعاونوا على المصلحة العامة ولا يندفعوا مع الأعداء الذين لا يريدون بهذا الوطن إلا شرا، فقلت له: أما قولك إن أعداء فرنسة ينفقون الأموال إلى آخره فأنا لست ممن يشترى بالأموال وإنما أنا من المدافعين عن أوطانهم، وقد اتفق العقلاء والنبلاء على أن هذا مقصد شريف، ثم قلت له: إن السفير الفرنسي في طنجة ذهب إلى السفير الإنكليزي وسفير الولايات المتحدة وقال لهما: إن محمدا تقي الدين الهلالي وكيل لألمانيا وطلب منهما الموافقة على نفيي من طنجة وأنا لست وكيلا لألمانية وإنما أنا وكيل للمغرب وهو وطني أدافع عنه،(39/59)
فقال لي: لست مسئولا عما يقوله السفير الفرنسي في طنجة، وإنما أريد أن تعلم وتقول: إن مسيو سوفوليس القنصل الفرنسي بتطوان تلقاني باستقبال حسن، فأردت امتحانه وقلت له: إنني عازم على السفر إلى العراق وأنت تعلم أني منفي من وطني في الجنوب منذ زمان طويل فإذا أردت أن أتوجه إلى الرباط لأودع أستاذي شيخ الإسلام محمد بن العربي العلوي وغيره من الأصدقاء أتأذن لي في ذلك؟ فقال: ذلك ليس إلي ولا هو بيدي وإنما هو بيد المقيم العام في الرباط فإن أردت أن اكتب إليه كتبت إليه وتنتظر الجواب، فقلت لا تكتب إليه الآن حتى أعزم على ذلك فقال لي: اذهب إلى الكاتب يعطيك سمة الدخول إلى لبنان فذهبت إليه فطلب مني ثمانين بسيطة أي درهما إسبانيا فسلمتها له فأعطاني السمة.
هذا ما كان من أمر الفرنسيين معي ومعاملتهم لي في تطوان وطنجة. ونسيت أن أقول: إن صحيفة الحرية التي كانت لسان حزب الإصلاح الوطني عطلت بسبب مقالاتي التي أغضبت القنصل الفرنسي ثلاث مرات، كل مرة شهرا، وغرمت ألف بسيطة في كل مرة.
أما عداوة الإنكليز لمؤلف هذا الكتاب فهي كالشمس في رابعة النهار. ولولا أن مؤلف كتاب التيمم بين جدران الزاوية وفي وسطها للإطلاع على العورات أو في المقاهي والمتنزهات- على خلاف ما يدعيه من التصوف الكاذب- ولا يعرف من أخبار الدنيا الماضية والحاضرة شيئا لعرف عداوة الاستعمار ومحاربته لي التي بلغت في الوضوح عند أهل المغرب والمشرق أنها لا تخفى إلا على أعمى البصيرة، فمن أدلة عداوة الإنكليز ومحاربتهم لي أنهم سبوني مرارا وتكرارا في إذاعتهم العالمية من أول ابتداء الحرب إلى نهايتها والسامعون في مشارق الأرض ومغاربها لا يزالون أحياء يرزقون.(39/60)
وهل علمت يا مسكين أنني أول ما لقيت المجاهد الكبير السيد أمين الحسيني في برلين نوه بجهادي ومحاربتي للاستعمار بلساني وقلمي وخطبي المجلجلة في إذاعة برلين العربية التي كان يهتز لها طربا كل مجاهد مخلص في الشرق والغرب، وكان يشرق بها كل مدجل من عبيد الاستعمار خائن غدار. وبلغ صاحب السماحة الحاج أمين الحسيني- بارك الله في حياته- من تعظيمي إلى أن قال ذات يوم للزعيم رشيد عالي الكيلاني- كبير آل الشيخ عبد القادر الكيلاني ورئيس وزراء العراق سابقا الذي قاد ثورة مروعة على الاستعمار البريطاني في العراق- قال له ما نصه: أسأل الله ألا يحرمنا من وجود أمثال الدكتور محمد تقي الدين الهلالي، وقال كلاما أعظم من هذا تركته اقتصادا، واستمر على التنويه بجهادي إلى يومنا هذا. وآخر مرة نوه بجهادي كانت في قصره بظاهر بيروت في الصيف الماضي حين دعاني إلى مأدبة جمعت خلفا كثيرا من أهل الفضل والعلم والأدب.
وأورد لك هنا أيها المسكين شهادة أخرى وزنها عند المجاهدين ثقيل ألا وهي شهادة المجاهد المغربي العظيم السيد محمد بن عبد الكريم قائد ثورة الريف المشهورة التي بهرت العالم، لأنه حارب دولتين أوروبيتين هما فرنسة وإسبانية لمدة سنتين لما ذهبت لزيارته بالقاهرة في صيف سنة سبع وأربعين وتسعمائة وألف بتاريخ النصارى كان مريضا في الطبقة الرابعة ملازما للفراش، وجاء خلق كثير إلى مقصورة الاستقبال من الصحفيين ورجال الدولة المبرزين فاستقبلهم أخوه وسميه المجاهد محمد بن عبد الكريم واعتذر في الحال بأن أحضر عنده فجلست على كرسي إلى جانب سريره، فتلقاني بغية الشوق والمحبة والترحيب وقال لي: لم يكن شيء يسليني في منفاي وغربتي مثل خطبك البليغة الرائعة التي كنت تلقيها في إذاعة برلين العربية، فأثنيت على جهاده وفضله فقال لي: أنت مجاهد أكثر مني، وما كنت لأغتر بهذه الكلمة التي صدرت من هذا الرجل العظيم لشدة إعجابه بتلك الخطب.(39/61)
فكيف مع ذلك تتجرأ (1) أن تصمني بخدمة الاستعمار أو أخذ الأجرة من دعاة النصرانية الأوروبية أو الأمريكية؟! ومن يصدقك في هذا؟. ومتى رأيت أنت أو رأى أحد من البشر غيرك جماعة من دعاة النصرانية تبذل الأموال لدعوة الناس إلى توحيد الله واتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟! فقد انقلبت هذه الجماعة من دعوتها إلى النصرانية إلى الدعوة إلى الدين الحنيف ملة إبراهيم! ومن كان يعطينى أجرة على الدعوة إلى الله في صعيد مصر حين كنت أنت لم تخرج إلى الدنيا سنة 1341 هـ؟! ومن كان يعطيني أجرة إلى الدعوة إلى الله في تطوان؟ أ ومن كان يعطيني أجرة في الدعوة إلى الله في بغداد؟! أنا لم أعش بالدين قط مع أني ولله الحمد على دين الحق.
وما أنا بالباغي على الحب رشوة ... ضعيف الهوى يبغي عليه ثوابا
ولكنك أنت ومن يحلب في إنائك تعيشون وتأكلون بدين الشرك، وتصدون الناس عن سبيل الله وتبغونها عوجا، وسنرى من يصدق الناس كلامه أ أنت أم أنا، ولكن كما جاء في المثل بل هو من كلام النبوة القديمة "إذا لم تستح فاصنع ما شئت " ونظمه بعضهم فقال:
فلا والله ما في الدين خير ... ولا الدنيا إذا ذهب الحياء
إذا لم تخش عاقبة الليالي ... ولم تستح فاصنع ماتشاء
__________
(1) الخطاب موجه لمن افترى على الدكتور الهلالي. والكلام السابق كان استطرادا أثناء الحديث عن النوع السادس من أنواع البهتان التي افتريت على المؤلف.(39/62)
وقد سمعت بعدما رجعت من العراق إلى المغرب بعد الاستقلال أن أخاك العلامة المحقق الشيخ أحمد بن الصديق- الذي تدعي الاقتداء به زورا وبهتانا وأنت سالك غير سبيله- حين رجع المجاهد الأكبر في المغرب العربي محمد الخامس رحمة الله عليه إلى عرش آبائه الأكرمين توجه إليه وطلب أن يدخل عليه للسلام والتهنئة، فرفض الملك أن يأذن له، ثم توجه إلى مصر وسمعت أن الحكومة المصرية اتهمته وأخاه عبد الله بالتجسس فحكمت عليه بسجن طويل وعلى عبد الله بالسجن المؤبد كما يسمونه، وأسفت لذلك لما أعرف فيه من العلم والفضل ولما عاملني به من البر والكرم، وإني لأرجو أن يكون الله سبحانه وتعالى قد ختم له بالحسنى فتاب من الطريقة ومن كل ما كان مخالفا لعقيدة السلف الصالح. والله على كل شيء قدير.
أما أنت فلا أعرفك ولا تعرفني ولكن غلبت عليك شقوتك فتعرضت لشتمي
بدون مناسبة، أما قولك في الوهابية فسأفرد له كتابا علميا ليس فيه لغو ولا تهور ولا شتم ولا كذب وسأسميه: (الدفع بالتي هي أحسن) وقد جنيت على نفسك، وعلى أهلها براقش تجني وأقول لك غير مفتخر:
وإن لساني شهادة يشتفى بها ... وهو على من صبه الله علقم
وأنشدت أيضاً:
دعاني لشب الحرب بيني وبينه ... فقلت له:لا لا.. هلم إلى السلم
فلما أبى ألقيت فضل عنانه ... إليه فلم يرجع بحزم ولا عزم
فكان صريع الخيل أول وهلة ... فبعدا له مختار جهل على علم
وقد تعرض لي لما كنت مقيما في الشمال زمان الاستعمار رجال لا تساوي أنت قلامة ظفر أحدهم، فانقلبوا خائبين لأني بالله أستعين وإياه أستنصر وأستهدي وأدعو إلى سبيله على بصيرة، لا أريد بدعوتي إلا وجه الله ومنه أرجو القبول، فقل لي بالله: أي فائدة في الدعوة إلى رد التقليد وحده مع نصر الشرك الأكبر وعقيدة الاتحاد وتقديس إمامها ابن العربي الزنديق الذي أجمع الأئمة على كفره؟!(39/63)
ولا يتسع المقام هنا لذكر أسماء الأئمة الذين حكموا بكفره في عصور مختلفة وقد ألف الإمام إبراهيم بن عمر البقاعي الحافظ كتابين في إقامة البرهان على كفر ابن الفارض وابن عربي أحدهما سماه (تنبيه الغبي إلى تكفير ابن عربي) والثاني سماه (تحذير العباد من أهل العناد ببدعة الاتحاد)، أقام البرهان فيه على كفر ابن الفارض وأمثاله من أصحاب وحدة الوجود ونقل في هذين الكتابين نقولا وافية شافية عن اثنين وثلاثين إماما من بلدان مختلفة في عصور مختلفة تقتصر على ذكر أسماء اثني عشر إماما منهم لهم قدم صدق عند جميع المسلمين: الأول سلطان العلماء الإمام عز الدين بن عبد السلام، الثاني الإمام ابن دقيق العيد، الثالث الإمام الحافظ زين الدين العراقي، الرابع شيخ الإسلام أحمد بن تيمية، الخامس تلميذه الحافظ شمس الدين ابن القيم، السادس الإمام أبو حيان الأندلسي، السابع الإمام تقي الدين السبكي، الثامن الإمام جمال الدين ابن هشام صاحب المغني، التاسع الحافظ محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي مؤلف تذكرة الحفاظ، العاشر الإمام الحافظ تقي الدين الفاسي مؤلف تاريخ مكة، الحادي عشر إمام الصوفية في عصره أبو القاسم القشيري، الثاني عشر الإمام السهروردي مؤلف عوارف المعارف، فأي امرئ عنده ذرة من الإيمان والنصيحة لنفسه وللمسلمين يخالف هؤلاء الأئمة ويقدس الشيخ الأشد كفرا ابن عربي الحاتمي وشيعته؟! لا جرم أنه لا يفعل ذلك إلا زنديق مثلهم. ولا يجوز التوقف في الحكم عليهم، قال الإمام البقاعي في كتابه تحذير العباد المتقدم الذكر ما نصه: ((ولا يسع أحدا أن يقول: أنا واقف أو ساكت لا أثبت ولا أنفي لأن ذلك يقتضي الكفر، لأن الكافر من أنكر ما علم من الدين بالضرورة ومن شك في كفر مثل هذا كفر، ولهذا قال ابن المقري في مختصر الروضة: من شك في اليهود والنصارى وطائفة بن عربي فهو كافر)).
* الحدث الثاني في تطوان ونواحيها*(39/64)
وضعت حاشية على كتاب كشف الشبهات لشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب وطبعتها ونشرتها، ولكنني استعملت في ذكر اسمه ما يسمى في مصطلح الحديث بتدليس الشيوخ، وهو جائز بل مستحسن إذا أريد به الإصلاح، وذلك أن الشيخ يكون له اسمان اشتهر بأحدهما ولم يشتهر بالآخر فيذكره الراوي عنه بالاسم الذي لم يشتهر به لمصلحة في ذلك، أما إذا فعل ذلك، ليوهم الناس علو سنده وترفعه عن الراوية عنه ليوهم الناس أنه لا يتنزل للرواية عن مثله لصغر سنه أو عدم شهرته وغير ذلك من حظوظ النفس الأمارة فهو مذموم، وقد سميت الشيخ محمد عبد الوهاب بن سليمان الدرعي فنسبته إلى جده ثم نسبته إلى الدرعية وذلك حق فهي بلدته ولكن لم يشتهر بذلك، وزاد الأمر غموضا أن في المغرب كورة تسمي (درعة) والنسبة إليها درعي، فنجحت فيما قصدته من ترويج الكتاب، فقد طبعت ألف نسخة فبيعت في وقت قصير، ولم يتفطن أحدا لذلك حتى الشيخ أحمد بن الصديق مع سعة إطلاعه وعلو همته في البحث وكثرة ما في خزائنه من الكتب بقي في حيرة لأنه بحث في تاريخ المنسوبين إلى (درعة) فلم يجد أحدا منهم يسمى بذلك ولا أثر عنه هذا الكتاب، فبعث إلي يسألني عن هذا المؤلف من هو فأخبرته بالحقيقة، ولما اطلع العلم الأجل مفتي المملكة العربية السعودية وشيخ شيوخها الشيخ محمد بن إبراهيم رحمة الله عليه على هذا العمل استحسنه كل الاستحسان. وإنما فعلت ذلك لأن المتأخرين من رجال الدولة العثمانية حرضوا شرار العلماء في جميع البلاد الإسلامية على تشويه سمعة الشيخ محمد بن عبد الوهاب وكذبوا عليه، وأوهموا أتباعهم أنه جاء بدين جديد، وأنه يتنقص جانب النبي الكريم صلى الله عليه وسلم ويكفر المسلمين، إلى غير ذلك من الأكاذيب. وقد تبين لأكثر الناس بطلان تلك الدعوى وعلموا علم اليقين أن محمد بن عبد الوهاب من كبار المصلحين الذين فتح الله بدعوتهم عيونا عميا وآذانا صما، وأنه أحيا العمل بكتاب الله وسنة رسوله في جزيرة العرب(39/65)
بعدما كاد يندثر. وإلى الآن لا يزال بعض الغربان ينعقون بسبه كالغراب الذي تقدم ذكره، وذلك لا يضره: إن كانوا مسلمين فإن سبهم له يجعل حسناتهم في صحيفته وإن كانوا مشركين فإن الله يزيدهم عذابا.
ولما طبع هذا الكتاب غضب عباد القبور وأصحاب الطرائق وخطب كثير من أئمة المساجد خطبة الجمعة ونبهوا المستمعين إلى ما في هذا الكتاب من الضلال بزعمهم، لأن توحيد الله عندهم أعظم الضلال ولكن لم يستمع لهم أحد، أما العلماء المحققون، كالأستاذ محمد الطنجي والأستاذ المجاهد عبد السلام المرابط والأستاذ العبقري عبد الله كنون فإنهم رحبوا بطبع هذا الكتاب وأثنوا عليه وعلى مؤلفه وناشره، ولا يضر السحاب نبح الكلاب.
ماضر بدر السما في الأفق تنبحه ... سود الكلاب وقد مشى على مهل
ثم طبعت رسالة زيارة القبور مع حواش قليلة لشيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام ابن تيمية وسميته أحمد عبد الحليم الحراني، ولم اذكر لفظ ابن تيمية للعلة السابقة الذكر، فراج الكتاب وانتشر ونفع الله به المسلمين، ولما بعثت من كل من الكتابين نسخة إلى الشيخ محمد بن إبراهيم رحمة الله عليه فرح بنشرهما واستحسن الطريقة التي سلكتها لبعد نظره ووفور عقله وحكمته.(39/66)
وقد جربت في بلاد المغرب في الشمال والجنوب أن نشر كتب التوحيد واتباع السنة يتوقف على نجاح الدعوة إلى الله في المساجد فإذا درس الداعي كتابا من كتب التوحيد وبين للمستمعين ما فيه من كنوز العلم والحكمة يرغب المستمعون في اقتناء ذلك الكتاب، وبقراءته تتسع معرفتهم للحق ويزدادون اطمئنانا ويقوى إيمانهم وتندفع عنهم الشبهات. فمن ذلك: أنني درست في الجامع الكبير كتاب فتح المجيد شرح كتاب التوحيد لشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب وختمته في ذلك المسجد مرتين، فانتشر هذا الكتاب انتشارا عظيما حتى أني طلبت من جلالة الملك الفيصل جزاه الله عنا وعن المسلمين أحسن الجزاء، بواسطة فضيلة الشيخ عبد الملك بن إبراهيم بارك الله في حياته أن يمدني بنسخ من فتح المجيد، فأمر بإرسال ثلاثمائة وثلاث وأربعين نسخة بالبريد الجوي، فبدا لي أن لا أوزعها مجانا لأمرين: أحدهما: أنني لا آمن أن تقع بعض النسخ في أيدي أعداء التوحيد فيحرقوها، وقد رأيناهم يفعلون ذلك في المشرق والمغرب فإذا فرضنا أن شخصا أو أشخاصا بلغ بهم التعصب إلى أن يشتروا الكتاب ويحرقوه فإن ذلك لا يضرنا، لأننا نجمع دراهمه ونطبعه مرة أخرى ولا شك أنه لا يفعل ذلك منهم إلا قليل، لأن الناس مجبولون على حب المال والبخل به ولا يبذلونه إلا فيما هو أحب منه إليهم، الأمر الثاني: ما قاله المؤلف الإنكليزي الطائر الصيت (برنارد شو) أن الكتاب الذي لا يدفع ثمنه لا يقرأ.(39/67)
فبيعت تلك النسخ كلها إلا قليلا منها منحته للمستحقين ولم آخذ منهم لعلمي بفقرهم وصدقهم. بيعت في مدة قصيرة وصار الكتاب في حكم المفقود، وكنت أبيع النسخة بستة دراهم فقط، ولم يكن يروج إلا في البلدان التي تلقى فيها دروس التوحيد كمكناس وتطوان وأرفود، أما مكناس وأرفود فإنني ألقي فيهما دروسا في التوحيد وأما تطوان فقد تقدم أني دعوت إلى التوحيد فيها. وفي هذا الزمان يوجد فيها داع وهو أخي الأستاذ محمد العربي الهلالي، وصار الناس في هذه النواحي يبحثون عن هذا الكتاب ليشتروه بضعف ثمنه فلم يجدوا منه شيئا، ولما ذكرت ذلك لصاحب السماحة الأستاذ الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز أمتع الله المسلمين بطول بقائه وأخبرته أنني جمعت من بيع تلك النسخ ألفا وثمانمائة وخمسين ريالا سعوديا قال: لي وأنا أتبرع بستمائة ريال تضاف إلى ذلك ونشترك في طبعه من جديد، والكتاب الآن تحت الطبع، وذكرت ذلك أيضا للعالم الجليل بقية السلف الشيخ عمر بن حسن آل الشيخ أمتع الله المسلمين بطول بقائه فوعدني بتحصيل ألف نسخة، وهو كريم لا شك أنه يفي بوعده. وهذا الكتاب مع وجود الداعي الناجح في دعوته يساعد على نشر الدعوة مساعدة عظيمة لا ينقضي منها العجب. أما البلد الذي ليس فيد ذاع فإنه لا يروج فيه أصلا، فقد بعثت خمس نسخ إلى مدينة مشهورة في المغرب فبيع منها في سنة ثلاث نسخ فقط.
الحدث الثالث
هم جماعة من الناس بقتلي
وهذا الحدث فيه عبرة لمن اعتبر. فإني أصبت بداء الربو في تطوان واشتد علي ففرح المشركون عباد القبور وأصحاب الطرائق وقالوا إن الولي الأكبر رئيس الأولياء في تطوان واسمه السعيدي وله ضريح عليه قبة يعبده كثير من الناس، وإذا قحطوا يذهبون إليه ويسألونه المطر ويوافقهم سفهاؤهم الذين يسمونهم فقهاء.(39/68)
فبينما أنا مريض ملازم للفراش في بيت منفرد خارج تطوان وزجاج طاقته مكسور، فمن أراد أن يرميني برصاصة لا يحتاج إلا إلى حجر واحد يضعه إلى جانب الجدار فيطل علي ويرميني، بينما أنا كذلك جاءني أحد تلامذتي- وهو السيد محمد العبودي- فقال لي: إن فلان جاءني وقال لي: إنه هو وأمير قبيلة بني عروس وجماعة معهم وعدد الجميع خمسة وعشرون رجلا قد اجتمعوا في بيت أحدهم وتعاهدوا على قتلك وجمعوا الدية حتى إذا كان لك ورثة يدفعونها لهم، وقال لي:
إن صاحبكم في حكم الأموات فعما قريب نقتله ونريح الناس من شره، لأن الوقاحة بلغت به إلى أن طعن في جدنا القطب عبد السلام بن مشيش، قال لي ذلك وأنا مريض ملازم للفراش كما تقدم فقلت: { قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلاَنَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ * قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ } [التوبة: 51-52].
ولما أصبحت تحملت كلفة المشي إلى الزعيم عبد الخالق الطريس رحمه الله وأخبرته الخبر فقال لي: إن هذا الرجل ومن معه هم أتباع وأقارب خالد الريسوني أمير العرائش وقد أطلق المستعمرون يده يفعل ما يشاء ففوض أمرك إلى الله وتوكل عليه، فقلت: له هذا هو الرأي الذي عزمت عليه وإنما قصدت إخبارك.(39/69)
ومضت على ذلك سنتان وأنا أقاسي ألم الربو وأبيت الليالي الطوال جالساً أسعل وألهث، وكلما اشتدت نوبة الربو تخور عزيمتي وأقرر في نفسي أنني متى أقلعت عني هذه النوبة أذهب إلى القنصل الفرنسي واستسلم وأطلب العفو، لأني أعلم بواسطة الأطباء أن دوائي هو الهواء الناشف، والأراضي الشمالية التي بأيدي الإسبانيين كلها رطبة قريبة من البحر الذي كان يسمى بحر الروم، ويسمى الآن عبد الأوربيين ومن تبعهم بما معناه البحر الأبيض المتوسط وهو الذي عليه مراسي شمال المغرب والجزائر وتونس وطرابلس- التي تسمى اليوم ليبيا- والإسكندرية وبيروت ومراسي أوروبا والبلاد التركية، فأعرض مكان في هذا القسم من المغرب لا يزيد عرضه على ثلاثين ميلا وهو مستطيل من الغرب إلى الشرق، ولكني حين تزول عني نوبة الربو تعود إلى شجاعتي وتجلدي. بقيت على ذلك ثلاث سنين ونصفا إلى أن يسر الله لي الرجوع إلى العراق ولم أستسلم، وتقدمت محاورتي مع القنصل الفرنسي في تطوان، وفررت من الرطوبة إلى غرناطة من بلاد الأندلس وأقمت فيها أربعة أشهر، ولكنها هي أيضا ليست بعيدة من البحر.(39/70)
ثم رجعت إلى تطوان وقيل لي إن مدينة شفشاون على جبل عال ثم إنها بعيد من البحر نحو خمسة عشر ميلا فلو جربت الإقامة بها، فسافرت إليها يرافقني تلميذي الحاج أحمد هارون بارك الله فيه، فلما أردنا أن نأخذ غرفة في الفندق الجميل المخصص للسائحين امتنع صاحبه- وهو نصراني إسباني- أن يعطينا غرفة لما رآني أسعل وألهث وأبصق في كل حين، ورأى أن لم ذلك يتقزز منه النازلون في الفندق وكلهم من المترفين، فبقيت في مكتب الفندق جالسا على كرسي أفكر أين أنزل، فجاءني رجل أبيض أشيب تدل هيئته على أنه من أعيان البلد، فقال لي: تعرفني؟ قلت: لا. فقال لي: أنا أحمد الريسوني، وأنا من المحبين لك وأنا مستعد لإنزالك في بيتي على الرحب والسعة وسأكون سعيدا بإقامتك عندي ما شئت من الزمن، ولكن الحكومة سنت قانونا يمنعنا من إنزال الضيوف عندنا في الليلة الأولى، ويوجد هنا فندق حقير يمكن أن تمضي فيه هذه الليلة وفي الغد تنزل في بيتي فقلت له: جزاك الله خيرا، فأمضيت تلك الليلة في ذلك الفندق الذي أخبرني به ثم نزلت عنده وبقيت عنده بضعة أشهر وأكرمني غاية الإكرام.(39/71)
وحين استقررت في بيته حكى لي حكاية المؤامرة على قتلي بالتفصيل فقال لي: بلغنا أنك تطعن في كرامات الأولياء وولايتهم وتطعن بالخصوص في جدنا مولاي عبد السلام بن مشيش، فغضبنا لذلك وعزمنا على قتلك وجمعنا أن نشاور رئيسنا سيدي خالد الريسوني فذهبنا إليه ثلاثتنا وتكلم أمير بني عروس وهو يبكي وقال: يا بن العم لا خير في الحياة بعد أن نسمع القدح والطعون في شيخ الشيوخ وإمام العارفين جدنا عبد السلام بن مشيش والذي يطعن فيه وينتهك حرمته رجل غريب حقير وهو فلان- وسماني- وقد عزمنا على قتله وجمعنا ديته وما بقي لنا إلا إذنك، فأيدت أنا وفلان كلامه وإذا بالأمير خالد يتكلم ويقول: إن محمدا تقي الدين الهلالي عالم من خيرة العلماء وأنتم لا تعرفونه وأنا أعرفه، وجدنا عبد السلام عالم فاتركوا العلماء إذا تكلموا بعضهم في بعض فليس للجهال أن يتعرضوا لهم. ثم قال لنا: أيكم سمع طعنه في جدنا؟ فقلنا: هذا متواتر على ألسنة الناس، فقال الناس: يكذبون ويفسدون في الأرض ولا يصلحون. كل منكم ينصرف إلى شأنه واتركوا هذا الأمر فهذا ليس من شأنكم.(39/72)
قال: فأما أمير بني عروس فقد رضي بقوله ولم يبق في قلبه شيء وقال: يا بن عمي أنت عالم ونحن جهال إذا أخطأنا تردنا إلى الصواب قال: أما أنا وفلان- ولم أسمه لأنه حي يرزق ولم يبلغني ندمه على ذلك- فإننا لم نقتنع بما قاله لنا سيدي خالد ولكننا لا نستطيع أن نعمل شيئا بدون رضاه، قال: فتفرقنا فانطلق فلان إلى أهله وتوجهت أنا إلى تطوان لا ألوي على شيء حتى لقيت وزير الأوقاف محمد بن موسى، فقلت: أيها الوزير أما تخاف الله كيف تعطي من أوقاف المسلمين خمسمائة بسيطة لهذا الضال المضل الهلالي الذي ما ترك أحد إلا طعن فيه؟! طعن في مذهب الإمام مالك ورجاله وطعن في الأولياء كلهم وأنكر كرامتهم وبلغت به الوقاحة إلى أن طعن في جدنا القطب عبد السلام بن مشيش قال: فقال لي: لا ينبغي لنا أن نحكم بقيل، وقال: إنه يلقي ثلاثة دروس في كل أسبوع فماذا يضرك أن تحضر دروسه وتسمع كلامه قال: فقلت: أفعل إن شاء الله.
قال: وأقمت أسبوعا في تطوان حضرت دروسك فيه فما سمعت إلا خيرا وندمت على ما كان مني. وقد مضت على سنتان طالما هممت أن آتيك وأطلب منك العفو فلم أوفق إلى أن سنحت لي هذه الفرصة السعيدة، فحياك الله وأهلا وسهلا بك.
ووجدت أن هواء شفتاون خصوصا في الصيف أقل ضررا من هواء تطوان فبقيت فيها خمسة أشهر إلى أن حدثت الحادثة الآتي ذكرها إن شاء الله.
* معركة مع شيخ متصوف من أهل تطوان *(39/73)
كان هذا الشيخ- ولا أسميه- كأكثر متصوفة الوقت آلة بيد المستعمرين يمدحهم ويثني عليهم، وقد ولوه وزارة العدل في وقت من الأوقات وجعلوه رئيسا للمجلس الإسلامي الأعلى في وقت آخر، فضيفني أول ما قدمت تطوان وأملى علي الحديث المسلسل بالأولية إلى سفيان الثوري عن عمرو بن دينار عن أبى قابوس مولى عبد الله ابن عمرو عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الراحمون يرحمهم الرحمن تبارك وتعالى، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء)) أخرجه جماعة منهم البخاري في الأدب المفرد وأبو داود والترمذي وصححه. وفعل ذلك طمعا أن أرويه عنه، وأنا لا أروي شيئا عن طرقي وهذا الشيخ المفتون تجاني فنسأل الله العافية.
فلما رآني جردت السيف في الدعوة إلى التوحيد ومحاربة البدع ذمني في دروس وعظه، فهجوته بثلاث قصائد ضاعت مني الأولي وهي التي أقضت مضجعه- ومن عادتي إذا أردت أن أهجو أحذا أن أبحث عن عيوبه التي يؤلمه نشرها وسماعها فأنظمها في سلك القصيدة ولا أقتصر على الشتم المجرد، لأن ذلك لا يؤلم كثيرا ولا عبرة بقول من قال: أحسن الشعر أكذبه بل أحسن الشعر أصدقه- وعدد أبيات هذه القصيدة ستة وعشرون. وكان ساعدي الأيمن في نشر قصائد الهجو لمن يستحقه تليمذي البار الحاج أحمد هارون فكان يطبع القصائد في آلة المعهد الحر، ويخرج منها نسخا كثيرة يوزعها على الناس بإلقائها في دكاكينهم أو في جيوب ثيابهم المعلقة حين يتوضئون، وقد قامت هذه القصائد الهجائية اللاذعة لي مقام العشيرة والعصبة والمناظرين، وقرض الشعر أمر محمود إذا كان صاحبه لا يظلم الناس ولا يكذب في مدحهم وذمهم. قال ابن الوردي في لاميته:
أنظم الشعر ولازم مذهبي ... اطراح الرفد في الدنيا يجل
فهو عنوان على الفضل وما
... أحسن الشعر إذ لم يبتذل(39/74)
وقال بعض العلماء وأظنه محمدا الأمير الصنعاني رحمة الله عليه ما معناه: إن من أفضل ما يتحلى به العالم أن تكون عنده ملكة قرض الشعر ينتصر به على خصومه ويبين به الحق.
والمخازي التي ذكرتها في القصيدة المذكورة أهمها قصة وقعت له مع شخص محتال- لا أسميه لأنه لا يزال في قيد الحياة- وكان ذلك الرجل شابا يحسن الاحتيال فجاء إلى ذلك الشيخ المتصوف المفتون، وكان يعلم أنه يعتقد أن في كل زمان القطب الغوث الفرد الذي لا تتحرك ذرة في العالم إلا بإذنه، وهو المتصرف في السماوات والأرض وبه تقوم السماوات والأرض وهو محل نظر الحق من خلقه، وهو خليفته في خلقه ولو غفل عن العالم طرفة عين لاندك العالم وصار عدما محضا (أنظر كتابي الهدية الهادية إلى الطائفة التجانية) فجاء ذلك الرجل إلى الشيخ المذكور وادعى له أنه القطب فافتتن به وأخذ يخدمه بنفسه مع أن الخادم تجاوز السبعين والمخدوم في أوائل الشباب، وكانت عند الشيخ ابنة استحسنها القطب الكاذب فأمره أن يزوجه إياها فأحضر الشهود في الحين وزوجه بها وصار أهل المدينة يسخرون منه وقد دنا وقت الحج.
* * *
* السفر إلى مكة في لحظة *(39/75)
فقال الشيخ للقطب: يا سيدي سمعنا أن بعض الشيوخ يحج بطريق الخطوة بحيث يسافر إلى مكة بخطوة واحدة فما رأيكم في ذلك؟ فقال: ذلك صحيح وأنا من الذين يحجون على هذه الطريقة، فقال: يا سيدنا وهل يمكنك أن تصحب معك أحدا؟ فقال: كيف لا يمكن؟! كل شيء عند أولياء الله ممكن. قال: يا سيدي فهل لك أن تحج بنا في هذه السنة؟ فقال: يكون ذلك قال: أريد أن ترافقنا زوجتي أيضا، فقال: لا بأس. وعند ذلك ازداد الشيخ تعظيما لهذا المحتال، وبالغ في عبادته هو وأهل بيته، ولما جاء يوم عرفة اغتسل وزوجته ولبسا ثياب الإحرام، وبقيا ينتظران القطب يأخذ بأيديهما ويطير بهما إلى مكة إلى أن كادت الشمس تغرب، فعيل صبر. الشيخ وقال: يا سيدي إن الفقهاء يقولون لابد من الوقوف بعرفة قبل غروب الشمس وقد كادت الشمس تغرب. فقال: بسم الله قوما. فصعد بهما إلى السطح.
ومن عادة أهل تطوان أن يجعلوا في كل سطح جلاء. وهذا الجلاء يكون على اقدر ما تدخل الشمس والنور والهواء ويكون مربعا في كل ركن من أركانه تبنى سارية قصيرة ويوضع على السواري سقف فيدخل النور والهواء إلى أسفل من أربع جهات ولا يدخل المطر، فذهب القطب يتقدمهما حتى وقف على الجلاء وقال أنتما أعميان ألا تنظران هذه الكعبة؟! فهلم نطوف بها فطافوا بذلك الجلاء سبعة أشواط ولكن الشيخ لم ير كسوة الكعبة ولا الحجر ولا مقام إبراهيم ولا زمزم ولا أحد يطوف بتلك الكعبة ولكنه لم يستطع أن يتكلم تعظيما للقطب.
ولما سمع أهل تطوان بهذا الحج المبرور ازدادوا سخرية وصار الناس لا يتحدثون ويتفكهون إلا بهذه الحكاية، فجاء أصدقاء الشيخ وأخبروه بأنه صار مضغة في الأفواه وأن هذا الشاب قد جعله أضحوكة ونصحوا له بطرده فطرده وأجبره على تطليق ابنته.(39/76)
ولما شاعت القصيدة عند الناس بلغه خبرها، وكان في ذلك الوقت مشرفاً على التعليم الديني ورئيسا للمجلس الإسلامي الأعلى، فبلغه أن نسخة من القصيدة في مكتب مدير المعارف فأمر بإحضارها فكذبوا عليه، وقالوا: ما عندنا شيء، فبعث خادمه إلى فضيلة الأستاذ محمد الطنجي رئيس قسم الوعظ والإرشاد في وزارة الأوقاف المغربية في الوقت الحاضر، وكان في ذلك الوقت تاجرا لأن الاستعمار حرمه من جميع المناصب العلمية، فقال له: يسلم عليك الشيخ ويطلب منك نسخة من القصيدة التي هجاه بها الهلالي، وهذه ست عشرة بسيطة مع أن القصيدة في صحيفة واحدة لا تساوي ربع بسيطة، فقال له الأستاذ المذكور: سلم عليه وقل له: ما عندي منها شيء. والقصيدة الثانية فيها إقذاع ضربت عنها صفحا، أما الثالثة فقد كانت، بإذن الله الذي وعد رسله وأتباعهم بالفتح والنصر المبين، كانت مقرونة بالقضاء على هذا الشيخ.
عزل الشيخ المتصوف الذي حج على سطح بيته
من جميع الناصب العلمية والدينية
كنت قد سميت القصائد الثلاث بأسماء مطابقة لحوادث ذلك الزمان ففي ذلك الزمان كان الجرمانيون في أوج عزتهم، وكانوا قد اخترعوا القنبلة الموسومة برقم (1) ثم القنبلة الموسومة برقم (2) ثم القنبلة الموسومة برقم (3) وكانت هذه القنبلة الأخيرة ترسل من البلاد الجرمانية إلى مبنى بعينه في لندن عاصمة بريطانيا فتصله في بضع دقائق وتدمره في أسرع من طرفة عين، وقد سمعت رجلا يتحدث في إذاعة لندن من الذين نجوا من الموت بعدما أرسلت قنبلة رقم (3) على المبنى الذي كان يسكن فيه فدمرته في لحظة، قال الرجل: كنت نائما في غرفتي فما شعرت إلا وأنا في المستشفى لأن رجال الإسعاف أخرجوني من تحت الأنقاض مغمى علي وأسعفوني بالعلاج، سمعت ذلك من إذاعة لندن باللغة الإنكليزية.(39/77)
وبإلهام من الله تعالى سميت القصائد الثلاث بالأسماء المذكورة، فكانت القنبلة ذات رقم (3) كما أملت مقرونة بالكارثة التي أصابت هذا الشيخ قال تعالى: { وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ } [الطلاق: 2، 3] والحنفاء أهل لا إله إلا الله يتقون الله بتوحيده وترك الشرك به وأتباع نبيه الكريم، فيجعل الله لهم مخرجا من كل شدة ويرزقهم من حيث لا يحتسبون وينصرهم على أعدائهم. فيا أيها المسلم الموفق حقق التوحيد والاتباع تر العجب العجاب قال تعالى في سورة غافر { إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ } [غافر: 51].(39/78)
كان هذا الشيخ أكبر مفت في شمال المغرب، وتقدم أنه كان قد تولى وزارة العدل مدة من الزمان، وكان- كأكثر المفتين- من المقلدة الأغمار إذا جاء أحدهم سائل عن حكم قضائي يقول له مثلا: تعطيني الآن نقدا خمسمائة درهم أجرة البحث في كتب الفقه، فإن وجدت لك قولا يمكنك من الغلبة على خصمك تعطيني خمسة آلاف درهم، وإن لم أجد شيئا لم آخذ منك إلا ما تقدم، فإذا وجد له قولا من أقوال مجتهدي المذهب ينصر قضيته أخذ منه المقدار المشروط وأعطاه الفتوى، وإن لم يجد شيئا غنم خمسمائة درهم وصرفه. كذلك خصمه يذهب إلى مفت آخر فيعامله بالمعاملة نفسها، فإذا اجتمعت الحجج والفتاوى عند القاضي في مدة سنين طويلة وكان نزيها لا يأخذ رشوة- وذلك نادر- يرجح إحدى الفتويين ويحكم لصاحبها بغير ما أنزل الله، فيحل الفروج ويسفك الدماء في زمان الاستقلال. أما في زمان الاستعمار فإن أحكام القتل والجروح جعلت لها محاكم عرفية، وعزلت المحاكم الشرعية عنها، وكذلك ينقل الأموال من ملك زيد إلى ملك عمرو بآراء الرجال التي ما أنزل الله بها من سلطان فينطبق عليه { وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ } [المائدة: 44] والظالمون الفاسقون وهذا أمر معروف في بلاد المغرب لا يزال العمل جاريا به.
* * *
* فتوى الشيخ المتصوف *
أما هذا الشيخ العارف باللاهي لا بالله فقد أفتى فتويين متناقضتين غريبتين عجيبتين:
وقعت خصومة على مال بين تاجرين مغربيين أحدهما يهودي والأخر مسلم، فانطلق اليهودي إلى الشيخ المفتي فعامله بالمعاملة التي تقدم ذكرها وأخذ منه آلافا من الدراهم وأصدر له فتوى تحتم على القاضي أن يحكم له، فقال القاضي للتاجر المسلم: هات ما ينفعك من الحجج، فذهبت زوجته وكانت إسبانية إلى المفتي نفسه الشيخ المتصوف العارف وسلمت له ستة آلاف درهم فأصدر لها فتوى تحتم على القاضي أن يحكم لزوجها على خصمه اليهودي.(39/79)
وكانت المحاكمات في زمان الاستعمار كلها تترجم باللغة الإسبانية ويطلع عليها الحكام الإسبانيون قبل إصدار الحكم، فترجمت الفتويان المتناقضتان ورفعتا من حاكم إلى حاكم حتى بلغتا إلى المقيم العام وهو الحاكم الأعلى فغضب غضبا شديدا، وكتب إلى خليفة السلطان مولاي الحسن بن المهدي يقول: نحن لم نرد أن نتدخل في شريعتكم فتركناكم أحرارا تحكمون في محاكمكم بشريعتكم، وأنتم تزعمون أن هذه الشريعة وضعها لكم محمد، وهو أخذها من القرآن الذي هو كلام الله حسب اعتقادكم، فانظر إلى هاتين الفتويين المتناقضتين الصادرتين من مفت واحد يقول: إن الشريعة الإسلامية تجعل الحق لليهودي ولخصمه في قضية واحدة؛ فإما أن تكون شريعتكم في أصلها فاسدة باطلة، وإما أن تكونوا قد كذبتم على الله وعلى محمد. هذا معنى ما كتب به المقيم العام إلى خليفة السلطان في شمال المغرب.
فلما قرأ الخليفة كتاب المقيم العام أصابه من الغم والحزن ما كاد يقتله، فدعا الوزراء والمستشارين وغضب عليهم غضبا شديدا وقال: ألا ترون إلى هذا المجرم كيف فضحنا عند الأجانب وألصق بشريعتنا كذبا وزورا وطمعا هذا الخزي، فماذا يستحق من العقاب؟ فقالوا كلهم الرأي لسيدنا فقال: اتقوا الله وقولوا ما أوجب الله عليكم فأعادوا جوابهم. فقال: أنا أحكم عليه بالعزل من جميع المناصب الدينية والعلمية والدنيوية، ولو قدرت على أكثر من هذا لحكمت عليه به، فعزل من الإمامة والخطابة والوعظ والشهادة ولم يبق له شيء إلا منصبا واحدا وهو رئاسة المجلس الإسلامي الأعلى، لأن هذه لم تكن بيد الخليفة بل كانت بيد المستعمرين الإسبانيين ولكن الإسبانيين لما رأوا الخليفة قد عزله من جميع المناصب التي في يده عزلوه هم أيضا من رئاسة المجلس الإسلامي فبقي لا يجد ما ينفق.(39/80)
وقد رأيت من المستحسن أن أذكر هنا نخبة من القصيدة الموسومة ((فاو (3) )) وهذا لفظ ألماني وترجمته القنبلة الموسومة برقم (3) وفرق بين هذه القنبلة الحنيفية وبين القنبلة الهتلرية، فإن العدو الذي كان يحارب بالقنبلة الهتلرية استرجع قوته وانتصر على هتلر، أما عدو الحنيفية فكانت تلك القنبلة قاضية عليه ولم تقم له بعدها قائمة وهذه نخبة من القصيدة المشار إليها:
أتشتمني يا ابن اللئام بلا سبب ... وأنت- يمين الله- قرد بلا ذنب
فلا أنت ذو علم ولا أنت ذو حجى ... ولا أنت ذو تقوى، ولا أنت ذو حسب
ولا أنت ذو عرض مصون موقر ... ولا أنت ذو حلم ولا أنت ذو نسب
شوى الحسد الممقوت قلبك في لظى ... فأصبح يبدو اليوم من فمك اللهب
رأيت صنيع الله بي وهباته ... فنالك منها كالجنون وكالكلب
تريد بقول الهجر تطفئ نوره ... ومن رام يطفي نوره مسه العطب
وذلك فضل الله يوتيه من يشا ... فمن ذا الذي يستطيع منعا لما وهب
تحارب رب الناس في أوليائه ... ومن حارب الجبار أودت به الحرب
وقد وعد الرحمن بالنصر حزبه ... بأن لهم دوما على المعتدي الغلب
ومن يقف سنات الرسول وهديه ... وينصره يصبح ظافرا عالي الرتب
ومن يخلص التوحيد لله وحده ... يكن ممسكا في دينه أيما سبب
فلا نزغات الشرك توهن عزمه
... ولا نفثات البطل تثنيه إن وثب
ولا هجر دجال مهين يضيره ... متى كان نبح الكلب يستوقف الشهب؟!
وذلك ولي الله جل جلاله ... يدافع عنه ربه حيثما انقلب
ففي يونس فانظر كريم صفاته ... ودع عنك قول المسرفين ذوي الشغب
فإيماننا بالله ثم تقاته ... ولايتنا لله كل بها اقترب
سلام على أهل الحديث فإنهم ... هم الأولياء حقا وغيرهم كذب
هم حكموا قول الرسول وقد قفوا ... منهاجه في السر والجهر بالأدب
وكل نزاع يرجعون لقوله ... ويرضون حكم المصطفى حيثما وجب
فما اتخذوا من دونه من وليجة ... ولا مذهب زيد وعمرو له ذهب
يدينون بالتوحيد في كل مسلك ... نبي ورب ثم دين له انتسب(39/81)
فلا رب إلا الله، ثم محمد ... إمام وأهل العلم في قفوه سبب
له دعوة الحق التي يستجيبها ... ومن يدع غير الله قد خاب في الطلب
وما كان من أهل الحديث منافق ... عليم لسان للفضائل ما انتدب
ومن يتركن يوما حديثا مصححا ... فما له من علم الحديث سوى النصب
دعوا كل قول غير قول محمد ... أتستبدل الأحشاف يا قوم بالرطب؟!
ومن يعدلن قول الرسول بغيره ... فقد عدل الهندي والند بالحطب
انتهى المراد نقله منها.
*عقيدة الأشعرية المخالفة لعقيدة السلف الصالح*
بعدما استقررت في تطوان أنشأت هناك مجلة شهرية سميتها ((لسان الدين)) ونشرت فيها مقالات، بينت فيها بطلان عقيدة الأشعرية التي يدين بها أهل المغرب منذ عهد محمد بن تومرت ودولة الموحدين التي هي ثمرة دعوته إلى يومنا هذا، وكان أهل المغرب قبل ذلك على عقيدة السلف الصالح حتى أنهم لما وصل إلى المغرب كتاب إحياء علوم الدين لأبي حامد الغزالي أجمعوا كلهم على إحراقه، واتفق علماء العدوتين الأندلسية والمغربية على ذلك لما فيه من علم الكلام المذموم فمن ذلك قوله: ((ليس في الإمكان أبدع مما كان)) يعني لا يمكن أن يخلق الله سبحانه عالماً أفضل من هذا العالم. قال الغزالي: إذا لو كان ذلك ممكنا وادخره لكان ظلما ينافي العدل. هذا معنى كلامه نقلته بمعناه ليفهمه عامة القراء، فهرب من نسبة الظلم المتوهم إلى الله تعالى إلى نسبة العجز إلى قدرته تعالى الله عن ذلك.
وآخر الدول المغربية التي كانت متمسكة بعقيدة السلف الصالح هي دولة المرابطين ويسمون أيضا بالملثمين واللمتونيين نسبة إلى لمتونة وهي قبيلة من قبائل البربر. وفي ذلك قلت شعرا من بحر المواليا:
يا قوم إن اعتقادي الدهر لمتوني ... وإن زريتم على عقلي ولمتوني
ون يو آرنت ستسفايد فجيئوني (أم ... دسكوتيرن) كنسوس لبروس أود رأوني(39/82)
وهذا البيت الثاني يشتمل على أربع لغات العربية وهي فجيئوني، والإنكليزية وهي الكلمات التي قبلها، والجرمانية. وهي التي بعد فجيئوني، ثم الإسبانية ثم الجرمانية مرة أخرى ومعناه: إن كنتم لا تسلمون ذلك فجيئوني للمناظرة بكتبكم أو بدونها.
ونظم الشعر المؤلف من عدة لغات من المستملحات عند أهل الأدب، وقد نظم العالم الأديب المشهور الحسن اليوسي المغربي بيتا من هذا القبيل فقال عند وفاته:
(أتدروا تنومن) العلوم التي (ديكم) ... قد اندرست حقاً وصارت إلى (يركي)
ومعنى هذا البيت يا داري أين العلوم فيك؟ قد اندرست حقا وصارت إلى الله. وهذا البيت مؤلف من ثلاث لغات: البربرية، والعربية والفلاتية من لغات السودان لأن (يركي) هو اسم الله تعالى بهذه اللغة. يريد بذلك أن العلوم التي كانت في داره قد اندرست بوفاته.
وبينت في تلك المقالات أن الإمام أبا الحسن الأشعري رحمه الله بريء من العقيدة المنسوبة إليه، لأنه رجع عنها وألف كتاب (مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين)، وبين فيه أنه على عقيدة أصحاب الحديث والسلف الصالح من الصحابة والتابعين والأئمة المجتهدين وسمى منهم أحمد بن حنبل رحمة الله عليه، وألف أيضا كتاب الإبانة عن أصول الديانة، وألف الحافظ ابن عساكر، كتاب (تبيين كذب المفتري فيما نسب إلى أبي الحسن الأشعري). والطائفة التي تسمى نفسها أشعرية تركت كتبه التي رجع إليها وتمسكت بالعقيدة الكلابية والمعتزلية التي كان عليها وتاب منها.(39/83)
فما انتشرت تلك المقالات وأضفت إليها كتاب (مختصر هدي الخليل في العقائد وعبادة الجليل)، وهو كتاب مختصر ألفته لإخواني السلفيين بطلب منهم يشتمل على عقيدة أهل الحق وأحكام العبادات، مأخوذة من نصوص الأحاديث الصحيحة، فظن السفهاء الذين يزعمون أنهم فقهاء أنهم وجدوا فرصة تمكنهم من القضاء على دعوتي، فذهبوا إلى الخليفة مولاي الحسن بن المهدي وقالوا له: إن الهلالي قد طعن في عقيدة أسلافك الطاهرين وضللهم. وهذا الأمير من أهل العقل الثاقب والهمة العالية لذلك توقف في قبول دعواهم ودعا الأديب العبقري والمؤلف الموفق فخر المغرب في هذا الزمان الأستاذ عبد الله كنون عضو المجمع العلمي في القاهرة، وسأله عما نقله إليه أولئك السفهاء، فقال له: يا صاحب السمو لا تسمع لقولهم فإن العقيدة التي يدعو إليها الهلالي هي عقيدة النبي صلى الله عليه وسلم والسلف والخلف ومنهم آباؤك الأكرمون، وقد بين ذلك الإمام محمد بن عبد الله العلوي عالم الملوك وملك العلماء في كتبه، فبطل كيدهم.
*التعيين في خزانة الكتب العامة*(39/84)
جاءني ذات يوم شخص مغربي فدعاني بقوله: إن الحاكم الإسباني فلانا يدعوك للحضور في مكتبه فانطلقت معه حتى وصلت إلى مكتب فخم يجلس فيه شاب إسباني فقام وصافحني، وأشار على بالجلوس وقال لي: أبشرك بأن المقيم العام قد أسند إليك منصبا شريفا وهو إدارة خزانة معهد الباحثين، وهذا المنصب عندنا في إسبانيا لا نولي فيه إلا كبار العلماء الذين يعرفون أصناف العلوم والكتب المؤلفة فيها، ويرشدون الباحثين والمؤلفين إلى الكتب التي تفيدهم في بحوثهم، وجعلنا لك راتبا قدره ثلاثمائة بسيطة فباشر عملك على بركة الله، فقلت له: كيف تسندون إلى هذا المنصب دون أن تستشيروني وتعرفوا رأيي في قبوله؟ فظهرت على وجهه أمارات الاستغراب وقال لي: لم نستشرك لأنه لم يخطر ببالنا أنك تتردد في قبوله، ولو عينا غيرك فيه من المغاربة لتلقاه بفرح عظيم واستبشر وبشر أصدقاءه وأقام مأدبة كوليمة العرس، وهذه عادتنا في إسناد المناصب، فقلت له: أنا لا أقبل هذا المنصب. فقال لي: كيف لا تقبله وقد عينك فيه المقيم العام؟! فقلت له: إن المقيم العام لا يعرفني ولا بد أن يكون قد استشار ذوي رأيه قبل أن يسنده إلي فأشاروا عليه دون أن يعرفوا رأيي فعليهم يقع اللوم، ثم أعاد الإلحاح فأعدت الرفض وانصرفت من عنده. وعند نهاية ذلك الشهر كنت في دكان السيد محمد العبودي الذي تقدم ذكره وإذا بموزع الرواتب يقبل على متقلدا حقيبته الكبيرة ويفتحها ويخرج دفترا ويطلب مني التوقيع على قبض الراتب، فقلت له: أنا لا أقبض هذا الراتب لأنني رفضت المنصب، ولم أشتغل فبأي وجه آخذ راتبا؟ فقال لي: من ذا الذي يأتيه راتب ويرده؟! فقلت له: أنا ذلك الرجل الذي لا يأخذ شيئا من المال إلا بوجه شرعي لا يخل بالمروءة فانصرف.(39/85)
وفي اليوم التالي جاءني خادم الموظف الإسباني يدعوني فانطلقت معه حتى وصلت إليه فقال لي: حتى الدراهم لا تقبلها، فقلت له: بأي وجه أقبلها أنا لم أعمل عملاً فكيف آخذ أجرا؟ فقال لي: نحن لم نطالبك بعمل، فقلت له: إذًا أنا لا آخذ أجرا على عمل لم أقم به ولم أقبله، وانصرفت.
ثم بعد شهرين دعاني الموظف مرة ثالثة وقال لي: الآن نريد أن نتفق معك على إسناد المنصب المتقدم الذكر ونرجوا أن تقبله وأن تشترط ما تريد فقلت له: إن إسناد هذا المنصب على الوجه المتقدم فيه إهانة عظيمة من وجهين: أحدهما أنكم لم تستشيروني ولم تعرفوا رأيي، والثاني أنكم جعلتم لي راتب بواب فأنتم تعطون فلاناً ألفاً ومائتي بسيطة وهو شخص توجه إلى الأزهر فأقام فيه سنتين ورجع بلا شهادة، وأنا أحصل على شهادة دكتوراه من جامعة برلين تجعلون لي ثلاثمائة بسيطة فقال لي: أنا معترف بالخطأ، وأنا ما كنت أعرف رتبتك العلمية والآن نتفق على ما تحب فقبلت ذلك المنصب براتب مناسب.
*خمسمائة بسيطة من وزارة الأوقاف*(39/86)
فإن قلت: إذا كنت عالي الهمة داعيًا إلى الله تريد وجهه فلماذا كنت تأخذ من وزارة الأوقاف خمسمائة بسيطة على الوعظ والإرشاد؟ أقول: إنني -كما قلت من قبل- شرعت في إلقاء دروس الوعظ والإرشاد في الجامع الكبير بتطوان استجابة لطلب أولئك القوم وقياما بالواجب الحتم، ولم أطلب على ذلك أجرا إلا من الله وبقيت على ذلك سنة كاملة، وذات يوم قال لي الزعيم عبد الخالق الطريس رحمة الله عليه: إنني قد سعيت في أمر يخصك دون أن أعرف رأيك فيه اجتهادا مني وأرجو أن أكون مصيبا، وذلك أني رأيت أن دراهم الأوقاف تنفق في أمور لا تجدي نفعا، فعزمت أن ألتمس لك شيئا منها تستعين به فكلمت أحمد بن البشير الكاتب العام للخليفة أن يكلم الخليفة ليأمر وزير الأوقاف أن يجعل مكافأة شهرية على دروسك في الجامع الكبير، وقلت في نفسي: إن نجحت في هذا السعي أخبرتك وإن لم أنجح تركت الأمر مكتوما عنك. وقد نجحت الآن فقد أمر الخليفة وزير الأوقاف محمد بن موسى أن يجعل لك خمسمائة بسيطة مشاهرة.
فإن قلت: فهلا ترفعت عنها ولم تقبلها فالجواب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما جاءك من هذا المال وأنت غير مشرف ولا سائل فخذه فتموله أو تصدق به وما لا فلا تتبعه نفسك)).
*غضب رئيس الوزراء أحمد الغنيمة*
لما نشرت كتاب كشف الشبهات ورسالة زيارة القبور، وقررت -فيما لا يحصى من الدروس- أن شد الرحال إلى قبور الصالحين حرام شرعاً، وأن إقامة المواسم وتقريب القرابين عند قبورهم وسؤالهم قضاء الحاجات كنزول المطر وإعطاء الأولاد للعقيم من الرجال والنساء، وغير ذلك مما لا يقدر عليه إلا الله شرك يخرج فاعله من الملة خصوصاً إذا دعي إلى التوحيد وتبين له الحق وأصر على ذلك، غضب عباد القبور -كما تقدم- وكان من أشدهم غضباً رئيس الوزراء في ذلك الوقت أحمد الغنيمة.(39/87)
وكان متصرف تطوان -والمغاربة يسمونه الباشا- وكان متولي هذا المنصب في ذلك الزمان أحمد عشعاش قد أظهر لي المحبة والتعظيم بعدما عقدت الهدنة مع المستعمرين، وكان يقول لي: لا تسمني باشا حسبك أن تقول لي: أخي أحمد عشعاش، فلما رأى رئيس الوزراء قد غضب وضاق ذرعا بدعوتي إلى التوحيد قال له لا يهمنك أمره؛ فإنني سأزوده برغيفين مأدومين بزيت وسكر وأبعثه محروسًا مع شرطيين إلى الحدود يسلمانه للفرنسيين فأرضاه بذلك الكلام، وهو يعلم أنه لا يستطيع أن يفعل ذلك إلا إذا أمره سادته الإسبانيون، فلم أحفل بذلك وتوكلت على الله.
*معركة مع فقيه مقلد مشرك*
كان من جملة من عاداني وحاربني شخص من فقهاء تطوان وكان مستشارا للمستعمرين في كل أمر يتعلق بالإسلام، وكان مشهورا بالخيانة عند الناس كلهم يسمونه بياعًا، والبياع هو الذي يبيع قومه إلى المستعمرين، ويتجسس على أبناء وطنه ويبلغ سادته المستعمرين أسرار شعبه تزلفًا لهم، وكل ذنب عند المغاربة يمكن أن يغفر إلا هذا فإن مرتكبه قد أجمع الناس على مقته ولعنه وسقوطه إلى الحضيض الأسفل ولا ينفعه مع ذلك نسب ولا حسب ولا علم.(39/88)
ولما أنشأت مجلة (لسان الدين) وأعلنت فيها الحرب على المشركين والمبتدعين شرق بها هذا الرجل؛ فذهب إلى الحاكم الإسباني (بليدا) وقال له: إن الهلالي أنشأ مجلة وأخذ ينشر مقالات يفسد بها عقائد المسلمين ويطعن في عقائدنا ومقدساتنا، وأنا أطلب منك -باسم علماء الدين- أن تلزمه بعرض المقالات قبل نشرها على لجنة من العلماء، فما أذنت له في نشره نشره وما لم تأذن له في نشره يلغى، فدعاني (بليدا) وأخبرني بذلك على سبيل العرض، ولم يأمرني بشيء فذهبت إلى من هو أعلى منه من الإسبانيين، وقلت لهم: إن (بليدا) قال: كيت وكيت ونحن مختلفون في العقيدة اختلافا شديدا فلا يمكن أن يتحكم بعضنا في بعض، وضربت له مثلاً فقلت لهم: إن آل النصرانية مختلفون في العقيدة بعضهم كاثوليكيون مثلكم وبعضهم بروتستانتيون فهل يجوز عندكم أن يتدخل أحد الفريقين في عقيدة الآخر؟! فقالوا: لا، اذهب وانشر مجلتك ونحن نتكلم مع (بليدا) أن يترك هذا الأمر فإنه ليس من اختصاصه فحبط عمل هذا المبدع.(39/89)
ولما اشتد عليّ مرض الربو استأذنت الحكام الإسبانيين في السفر إلى قبيلة تغزوت ببلاد الريف، فأذنوا لي وأقمت هناك عند الشيخ محمد بن أحمد وهو من خيرة السلفيين كان يحضر دروسي في الجامع الكبير كلما ورد تطوان، وطلب الشيخ محمد بن أحمد التغزوتي من الحاكم الإسباني أن يأذن لي في إلقاء دروس لتعليم الناس كيف يصومون رمضان لأن شهر رمضان كان قريبا فأذن لي، وكنت ألقي في كل يوم درسين في بيان توحيد الله وإتباع الرسول صلى الله عليه وسلم ومحاربة الاستعمار فتاب من الطرائق والبدع كثير من الناس، وتنورت أفكار أهل ذلك البلد وأفاقوا من سكرتهم إلا القاضي وشرذمة قليلة، فإن القاضي أكرمني إكراما عظيما وفرح بي أول ما قدمت ولما سمع دروسي انقبض منها وأعرض، أما نائبه فكان على عكس ذلك فإنه لم يسلم علي أول ما قدمت ولم يتصل بي، وكان يقعد وراء سارية من سواري المسجد ويستمع حتى عرف ما أدعو إليه وتبين له الحق، فجاءني ودعاني إلى بيته وأكرمني ولم يزل محافظا على العهد إلى يومنا هذا.(39/90)
وأهل تغزوت كسائر أهل الريف يتكلمون بالبربرية وهي أخت قديمة للغة العربية، كما أن البربر إخوان قدماء للعرب لا يشك في ذلك من عنده أدنى علم باللغات السامية. ولذلك لم ينجح الاستعمار في التفرقة بين العرب والبربر وحدث يوما أني كنت جالسا في دكان عند أحد إخواننا الذين تابوا من البدع، وأخوه الأكبر كان حافظا للقرآن وحافظا لمختصر خليل، وكان تجانيا فتاب من التجانية وعمره سبعون سنة واغتبط بالعقيدة السلفية، فجاء سائل عربي وقال لصاحب الدكان أعطني: صدقة لوجه غياث البر والبحر سلطان الأولياء مولاي عبد القادر الجيلاني، فقلت له: أنا نحن عبيد الله ولسنا عبيدا لعبد القادر الجيلاني، فاذهب إلى عبيده فنحن ليس لنا غياث إلا الله في البر والبحر ولا نتخذ من دون الله أولياء، فقال لي: أنت لا تساوي تراب نعل سيدي عبد القادر الجيلاني، فقلت له: أنا لا أساويه ولكني لا أعبده فقال صاحب الدكان للسائل: اذهب من هنا وأرنا قفاك، فإن هذا الرجل عندنا أفضل من عبد القادر الجيلاني، فقلت: إنك أخطأت فقال أمهلني حتى أشرح لك مرادي ثم احكم علي فقلت: قل.
فقال: أنت مقيم بين ظهرانينا تعلمنا مما علمك الله ونسألك فتجيبنا وعبد القادر ليس كذلك فقلت له أنا: إن كان هذا مرادك فهو حق.
ولما رجعت إلى تطوان علمت أن ذلك الفقيه البياع ذكرني بسوء في درس وعظه فقال لمستمعيه وهو يحثهم على الصلاة بسدل اليدين وترك سنة وضع اليمنى على اليسرى. ماذا تقولون في سيدي محمد السلاوي أكان عالما بالحديث والفقه أم جاهلا بهما؟ فقالوا: كان من كبار العلماء فقال وماذا تقولون في سيدي أحمد الرهوني وسيدي فلان وفلان؟ فقالوا: علماء فقهاء قال: فهل كان أحد منهم يضع اليد اليمنى على اليسرى في الصلاة قالوا: لا. قال فكيف تخالفونهم لقول شخص مجهول لا نعرف من أين خرج؟! فأنشأت فيه قصيدة دالية أنقل نخبة منها هنا:
تجاهلت يابن القين فضلي وسؤددي
... ومن شقوة أقبلت بالظلم تبدى(39/91)
زعمت بأن لم تدر أصلي ومنشئي ... ولا عجب إذ أنت بالجهل مرتدي
سجلماسة الغراء يا قين موطني ... وجدي هلال بن الحسين بن أحمد
وجدي هلال صالح وابن صالح
... وجدي حسين سيد نجل سيد
وريحانة المختار جدي يشمه
... وجدك حداد بوجه مسود
ضربنا على الإسلام أسلافك الألى
... قريناهم بالمشر في المهند
فإما عققت اليوم ساداتك الألى
... حبوك بإسلام وفضل ممدد
فيا رب عبد مثلك اليوم آبق
... ويا رب قين ممعن في التمرد
غدا بعد سندان وكير وحفرة
... وفحم ومطراق على الفقه يعتدي
دع العلم إن العلم لست بأهله
... وخذ من جديد في الحديد لتهتدي
ففي الحرفة الأولى لقد كنت كاذبا
... لدى بيع مفتاح وقفل ومحصد
وفي الحرفة الآخر على الله تفتري
... وتلحد في دين النبي الممجد
ومينك في دنياك أهون مأثما
... من المين في أمر أمر به النلس تقتدي
وعيشك من صنع الحدائد طيب ... وأن تأكلن بالدين تأكل من الردي
فدونك يا بن القين نصحا مسددا
... ومثلك لا يرضى ينصح مسدد
كذبت على شيخ كريم تحلما
يييييي ... برؤيا منام في حديث منضد
على ابن مشيش قد كذبت بلا حيا ... فأخزاك رب الناس في كل مشهد
وتزعم أن الشيخ جاءك قائلا ... إلى القصر فاذهب دون أي تردد
وقل لفلان يشتري بيتك الذي ... بمرتيل إن رمت النجاح بمقصد
فكذبك الشخص الذي قد قصدته ... وبؤت بخزي الله شر مفند
تروم بزوعم نصر مذهب مالك ... ومذهبه قفو النبي المؤيد
ومعصية المختار ليست بمذهب
... له أبدا فاقصر عن اللغو والدد
وفرقت بين البعل والزوج ظالما ... بعنف وإكراه فهل أنت مهتد
وأنكحتها في عصمة البعل دون أن ... يصح طلاق فعل أرعن مفسد
أهذا الذي تدعو بمذهب مالك
... كذبت لعمر الله يا قين فاقصد
فهذا الذي من أجله نال مالكا ... نكال ولم يذعن لأمر المهدد
ففعلك ذا نقض لمذهب مالك ... وفسق بدين الهاشمي محمد
تكلمت قي قبض وسدل مضللا ... وأهملت أصل الدين إهمال ملحد(39/92)
حرمت وصولا للحقيقة عندما ... أضعت أصولا من يضعها يلدد
فكلمة توحيد بها ابدأ محققا ... فإن تدر معناها إلى الحق تهتد
فوحد إله الحق لا تدع غيره ... لنفعك أو دفع المصائب ترشد
فمن يدع غير الله يوما لحاجة ... يدنس بإشراك ويردى من الردي
وذلك توحيد العباد فادره ... فمن يجهلنه في الجحيم يخلد
سواء أصلى قابضا في صلاته ... أم اختار سدلا نقله لم يؤيد
ومن رد قول المصطفى بعد صحة ... فذلك كفار أثيم ومعتد
سيحرم في يوم القيامة شفاعة ... وإن يأت للحوض المبارك يطرد
ويسود في يوم القيامة وجهه ... ويثوى ثواء في الجحيم ويخلد
ويبرأ منه ذلك اليوم مالك ... وكل تقي للإله موحد
وذلك في أصل الشهادة واضح ... لكل صحيح الفهم لم يتبلد
فدونك يا شيخ القيون فوائد ... من العلم إن ترجع لها اليوم تسعد
فدع عنك تقليدا وشركا وبدعة ... فذلك ما يرديك في اليوم والغد
صددت الورى عن قفو سنة أحمد ... ولن يفلحوا إلا بسنة أحمد
فبؤت بسخط الله ثم رسوله ... وسخط شيوخ كابن جعفر زهد
وكان اللوا جري يقليك كالعمى ... متى جئته ياقين تصفع وتطرد
وأسخطت كل الصالحين من الورى ... من الجرم والبغي الذي لم يحدد
وإنك وايم الله أحمق من مشي ... على الأرض طرا في تهوم وأنجد
فخذها غذيت التبن مني قصيدة ... تزدك جنونا مثلها لم يقصد
فتخرج في الأسواق ناتف لحية ... ولاطم خد عاريا غير مرتد
ولم يك قصدي ذكر عيبك كله ... فذلك لا يحصيه ألف مجلد
وانتشرت هذه القصيدة عند أهل تطوان وأعجبوا بها أيما إعجاب لأنهم كانوا حاقدين على ذلك الرجل، وكانت هذه القصيدة مقرونة بسوط عذاب من الله تعالى صب على ذلك المشرك فحدثت له حوادث من الخزي أذكر هنا بعضها:
الأولى: أن شخصا من شيوخ الصوفية كان محترما عند أتباعه من أهل تطوان وهو الشيخ الفارسي جاءه ذلك البياع ومده يده لمصافحته فقبض الشيخ يده أمام جماعة من الناس وقال له: أنا لا أنجس يدي بمصافحتك، فكانت ضربة قاتلة له.(39/93)
الثانية: ماتت امرأة فخرج الناس ببجنازتها إلى باب المقابر حيث يصلى على الجنائز لأن المغاربة لا يصلون على الجنازة في المسجد، ويزعمون أن ذلك مكروه ويعللونه بنجاسة الميت، وذلك جهل ومخالفة للسنة الصحيحة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على ابن بيضاء في المسجد.
ولما وضعت الجنازة نظر الحاضرون فرأوا هذا الفقيه بزعمه هو أولى أن يؤم الناس في الصلاة على الجنازة لسنة وما اشتهر به من الفقه عند العامة، فقال له بعضهم: تقدم يا فقيه صلى الله عليه وسلم بنا، وكانت فيه حماقة فقال رافعا صوته: أنا لا أصلي بكم وأنتم تقولون أنا بياع وخائن فقدموا غيري، وكان يؤمل أنهم يتملقون له ويمدحونه ويقولون: حاشا لله أن نظن بك هذا، ولكن خاب أمله فإن الناس اختلفوا وكثر القيل والقال حتى بلغ النزاع إلى أولياء المرأة فقائل يقول: هو أولى بالصلاة، وقائل يقول: ليس الأمر كذلك لأنه بياع، فاتفق المتنازعون على أن يردوا نزاعهم إلى أولياء المرأة ففعلوا فقال أولياء المرأة لا نرضاه إماما للصلاة على الجنازة فقدموا غيره.ولو أنه حين دعي للصلاة تقدم وصلى لم يقع شيء من ذلك ولكن الأمر كما قال الشاعر:
لكل داء دواء يستطب به ... إلا الحماقة أعيت من يداويها
فهذه المخزية الثانية.
الثالثة: اتفق أن هذا الفقيه كان في مسجد صغير فحانت صلاة العصر وكان إمام المسجد قد قرأ عليه شيئا من الفقه فاستحى أن يتقدم أمامه فقال له تقدم يا أستاذ صل بنا، فقال الحاضرون كلهم: لا نقبله لأنه بياع والصلاة خلفه باطلة.
الرابعة: أنه دعا رئيس البلدية الإسباني (بليدا) إلى مأدبة أقامها في مارتيل، وهي قرية معدة للاصطياف على شاطىء البحر الأبيض المتوسط بينها وبين تطوان ستة أميال، أكثر أهل تطوان يملكون بيوتا فيها يهبطون إليها في وقت الصيف فقط فتكون عامرة وفي شواطئها مسابح للرجال! والنساء وفي سائر الفصول تكون فارغة تقريبا.
* ترف أهل تطوان*(39/94)
كلمة تطوان محرفة عن (تطاون) بكسر التاء وتشديد الطاء وكسر الواو وهي كلمة بربرية معناها العيون، ولا يزال جزء من تطوان إلى الآن يسمي بالعيون. ولم يكن لها شأن يذكر قبل هجرة أهل الأندلس إليها في أواخر القرن التاسع الهجري حين استولى النصارى على ما بقي من الأندلس وأجبروا المسلمين على التنصر أو الهجرة. ولما جاء الأندلسيون إلى تطوان- وكان عندهم من الحضارة والمدنية ما لم يكن عند المغاربة- أسسوا مدينة تطوان على النحو الأندلسي واستنبطوا المياه وجلبوها من الجبال المجاورة إلى المدينة وغرسوا فيها الجنات الجميلة وأسسوا مدينة مارتيل للاصطياف، وكان لكل أهل بيت أربعة مساكن، كما أخبرني بذلك السيد محمد المؤذن الإدريسي رحمة الله عليه وهو من أعيان تطوان، فكان لكل أهل بيت بيت في تطوان وبيت في البستان وبيت في مارتيل وبيت في ناحية أخري قد تركت، فكانوا يقضون فصل الشتاء في تطوان وفصل الربيع في البستان وفصل الصيف في مارتيل على شاطئ البحر وفصل الخريف في الناحية الأخرى التي تركت، ولا يزالون مستمرين على هذه العادة حتى الآن، إلا أنهم لا يقضون شهر رمضان والعيدين إلا في تطوان ولو كانوا ساكنين قبل ذلك في إحدي النواحي المذكورة ينتقلون إلى تطوان فيمضون فيها تلك الأيام ثم يعودون إلى مساكنهم خارج تطوان.(39/95)
قلنا: إن ذلك الفقيه أقام مأدبة في وضح النهار في بيته في مارتيل على أعين الناس، ولما جاء الضيف الإسباني تلقاه أمام بيته ولم يكتف بمصافحته بل عانقه، فما رأي ذلك أهل تطوان وهم أهل غيرة وشجاعة حتى اشتد غمهم وحنقهم على الفقيه البياع ففكروا في عقاب ينزلونه به دون أن يتعرضوا لانتقام (بليدا)، فاتفق رأيهم على أن يجمعوا مقدارا كبيرا من العذرة الطرية، ويلصقوه على باب بيته في جنح الليل ففعلوا ذلك فلما أصبح الناس اجتمع الذباب على باب بيته وجاء الناس يتفرجون، وقد كثر عددهم، وعادة أهل تطوان أنهم لا يقومون من النوم إلا في الضحى، فأخبر بعض الجيران الفقيه وأهله بما جرى فقاموا فزعين وأخذوا ينظفون بابهم والناس تنظر إليهم وبعضكم يضحك وبعضهم يتشفى ويقول: هذا جزاء البياع الذي يوالي أعداء وطنه وينصرهم على قومه.
الخامسة: (وحقها أن تكون الأولي): أن هذا الفقيه كان تلميذا للشيخ محمد ابن جعفر الكتاني الفاسي المغربي الذي قضي شطرا كبيرا من عمره في دمشق، وكان محترفا عند المغاربة وأهل الشام، ولما استولى الإسبانيون على تطوان وقسم من شمال المغرب استشار الفقيه التلميذ أستاذه الكتاني في الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام، فاستحسن الشيخ ذلك وحثه عليه، فهاجر الفقيه إلى المدينة النبوية وأقام بها مدة، فلما خلع الفرنسيون السلطان عبد الحفيظ بن الحسن الأول سافر هذا السلطان إلى مصر ثم إلى الحجاز، فذهب إليه الفقيه المبتدع وشكى له حاله وأنه يريد أن يرجع إلى المغرب ويعود في هجرته، فأعانه على ذلك ورجع إلى تطوان، ولم يقتصر على هذا الذنب حتى صار بياعا فسخط عليه الشيخ الكتاني وهجره واستمر على ذلك حتى مات، وقد أشرت إلى ذلك في القصيدة حين قلت:
فبؤت سخط الله ثم رسوله ... وسخط شيوخ كابن جعفر زهد(39/96)
السادسة: كان في تطوان فقيه مشهور بالصلاح والعفة والزهد والاستقامة يقدسه أهل تطوان وهو الشيخ محمد اللواجري، وكان معتكفا في بيته لا يشهد جماعة ولا جمعة، وعلل ذلك بأنه يري المنكرات ولا يستطيع أن يغيرها، وكنت أزوره الفينة فكان يفرح بزيارتي ويأنس لها ولم أر منه معارضة في التوحيد، والذي يظهر لي أنه كان بريئا من الشرك، وكان هذا الفقيه من تلامذته، ولما أراد الهجرة من تطوان استشاره فاستحسن ذلك فلما رجع من هجرته غضب عليه اللواجري غضبا شديدا وحذر الناس منه ولاسيما حين صار بياعا، وكان هذا الفقيه يجتهد بكل وسيلة أن يجد سبيلا لإرضاء الشيخ اللواجري، فكان يضرب في حديد بارد، لأن اللواجري أصر على السخط عليه وبغضه لله، فلما حضرت الوفاة الشيخ اللواجري اغتنم هذا الفقيه الفرصة وظن أن شيخه وهو في غمرات الموت لا يعرفه إذا سلم عليه وودعه وبذلك يخرج من سخطه ولو فيما يظهر للناس، فقصده، وحدثني أحد أعيان تطوان وأشرافها- وهو الحاج محمد الشرتي- أنه كان جالسا عند الشيخ اللواجري رحمه الله وقد حضرته الوفاة، فجاء هذا الفقيه وقبل رأسه وقال: سامحني أيها الشيخ الصالح. فما كان من الشيخ المحتضر إلا أن استوى جالسا كأن لم يكن به مرض ورفع يده ولطم الفقيه لطمة شديدة ثم اضطجع فمات في الحال وإلى ذلك أشرت في القصيدة بقولي:
وكان اللوا جري يقليك كالعمى ... متى جئته يا قيَّن تصفع وتطرد
فإن قيل: لماذا سميته قينا وهو فقيه؟ فالجواب أن القين في اللغة العربية هو الحداد وكان أبوه حدادا وكان هو يشتغل معه في صباه، ولما تعلم الفقه أعني فروع المذهب المالكي(39/97)
-وليس ذلك بفقه ولكنه اصطلاح وعرف، كتسمية اللديغ بالسليم- ترك تلك الحرفة، وكان دكان أبيه الذي كان يشتغل معه فيه بهذه الصنعة لا يزال تحت تصرفه يكريه. فإن قيل: وهب أنه كان حدادا فأي نقص في ذلك وقد كان نبي الله داود يصنع الدروع من الحديد قال تعالى في سورة الأنبياء: { وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ لِتُحْصِنَكُم مِّن بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنتُمْ شَاكِرُونَ } . [الأنبياء: 80] فمعرفة هذه الصنعة نعمة فكيف يعير بها؟.
فالجواب: أنها في حق داود عليه السلام نعمة وفضيلة وفي حق غيره أمر مباح لا يحمد فاعله ولا يذم، فلو كان هذا الفقيه مستقيما في دينه ولم يبدأني بالظلم ما عيرته بذلك لأن هذه الصنعة لا يضيره التعيير بها لو لم يكن موصوفا بتلك الطوام، وإذ كان مشركا مبتدعا بياعا فإني لم أر حرجا في تذكرته بحرفته السابقة وحرفته اللاحقة، قال الشاعر:
ومن دعا الناس إلى ذمة ... ذموه بالحق والباطل
ولما انتشرت القصيدة وصارت حديث الناس نظم نظما ركيكا هجاني به، ولم يجد ما يعيبني به إلا زعمه أن أبي كان حقيرا يكنس الشوارع، وأن أمي كانت خادمة في البيوت، وأني مصاب بداء السل لا أزال أبصق وأسعل والمخاط يسيل من أنفي وأن الشباب الذين صحبوني اصفرت وجوههم، فلم يعبأ أحد بقصيدته لركاكتها ولأنها شتم وكذب وتناقض، فإنه قال في الجامع الكبير على رءوس الأشهاد في حقي: إنني شخص مجهول لا يعرف من أين خرجت، وهذا كذب مفهوم، فإن كان يجهلني ففي تطوان من يعرفني ويعرف أبي وأمي وأن أبي كان عالماً وجيهاً وأمي كانت شريفة عزيزة، وقد تقدم أن الهجو بالكذب لا يضر، فلما رأيت قصيدته وهي في مائة وخمسين بيتا وكلها هذيان وشتم كما تقدم هجوته بقصيدة أخرى نظمت أربعة أبيات منها في تطوان وسائرها بالأندلس، وينبغي أن أثبتها هنا كلها أو بعضها:
يا أهل تطوان إن الساعة اقتربت ... شدوا حيازيمكم يا أهل تطوان(39/98)
شيخ الحديد غدا شيخ الحديث لدى ... دار يراد بها تشقيف فتيان
وهل سمعتم بقين صار ذا أثر ... يروي الحديث بإحكام وإتقان
عن فحمة بن دخان عن أبي شور ... كير عن الشيخ مطراق بن سندان
يقول:: لا تثقوا فإن صاحبنا ... حديثه محض تدليس وبهتان
وقيل: لا صانعاً إلا ويكذب في ... قول وأكذبه حديث أقيان
ومن على ابن مشيش افترى كذباً ... لم يحترم جده سليل عدنان
وصح من جالس الحداد سوده ... أو أحرق الثوب منه لفح نيران
فيا تلاميذه كونوا على حذر ... من خبثه فهو شر الإنس والجان
فقبلوا يده واحنوا رءوسكم ... كي لا يصيبكم يوماً بعدوان
فإن تقبيل كف القين صار له ... كالقوت للطاو أو كمال لظمآن
لا تعجبوا من يد من كيرها انتقلت ... للكتب يعجبها تقبيل فتيان
فالكتب شاكية بالدمع باكية ... تقول يا ذلتي في شر أزمان
ما زلت في ضعة حتى وصلت إلى ... قين يبهدلني من بين أقراني
ما كنت أحسبني أبقى إلى زمن ... فيه يدنسني قين بأدران
تالله لو كان للتدريس محتسباً ... لظل منكمشاً في قعر دكان
يروي الحديد ويطويه وينشره ... أولى به ذاك من علم وعرفان
دقق دقق دقق دقق دقق دقق ... دقق دقق.. فانفخوا بالكير صبيان
لكن ذا زمن به البغاث غداً ... مستنراً صائلاً في زي عقبان
والذئب أصبح مسك الضأن مرتدياً ... ليبتغي الصيد من أغرار خرفان
وأصبح الدين للدنيا تعلمه ... وقد تمول منه كل خوان
لو كان يجدي البكا يوماً بكيت على ... علم الحديث وتفسير وقرآن
لم يبق منها سوى الأسماء خالية ... من كل معنى سوى تحريف كهان
وكم أهبت بقومي صارخها أبدا
ً ... أوبوا لهدي نبي الله إخواني
دعوا دجاجلة يبغونها عوجا ... فلن يقودكم إلا لخسران
أسلافنا ارتفعوا، أسلافنا سعدوا ... لقفوهم أحمد الهادي بإحسان
قد اقتفوا سنة المختار خالصة ... من غير شوب بزيد أو بنقصان
ومنذ بدل قوم هدية سقطوا ... إلى الحضيض ونالوا كل حرمان
أوطانهم بهم والله قد شقيت ... والأرض تسعد أو تشقى بسكان(39/99)
والله لن تسعدوا إلا بما سعدوا ... فلا يغرنكم وسواس شيطان
ومن يريد حديث المصطفى سفها ... يارب فالعنة كم جن وإنسان
يارب صل على المختار سيدنا ... ماغنت الورق في دوح بألحان
والآل والصحب ثم التابعين له ... واجعل محبته روحي وريحاني
فرج بها كربي واجمع بها شعثي ... وأصلح الحال في سري وإعلاني
وانصر بها حزبنا طول الحياة وفي ... يوم الجزا جد لنا طرا بغفران
السابعة:أن هذا الفقيه- المتحمس للمذهب المالكي بزعمه- كانت له ابنة زوجها بشاب كاتب في وزارة العدل التي كان يتولاها أفيلال، وكانت بينه وبين الفقيه عداوة لأن كليهما فقيه أحدهما محظوظ والآخر محروم، فكان الفقيه يسأل صهره عما يجري في الوزارة ليتوسل به إلى الطعن في الوزير، فلا يكاد يسعفه بشيء مما يريد، ولما ألح عليه قال له: أيها الفقيه لا تسألني عن شيء من أسرار الوزارة فإني أقسمت على الإخلاص في عملي، وإفشاء الأسرار يعد خيانة وعواقبه وخيمة، فغضب عليه وقال له: هذا قدري عندك يا ناكر الإحسان زوجتك ابنتي وفضلتك على غيرك ثم أنت تتألب علي مع عدوي فسترى كيف يكون عقابي لك، فأمر ابنته أن تنشز فنشزت ثم أجبره على تطلبتها فطلقها كارفا، وهو يستغيث بالناس فلم يغثه أحد، ولما تزوج شرط على أولياء الزوجة الجديدة أنه متى يسر الله له أن يرجع زوجته ابنة الفقيه فإنه سيطلق ابنتهم!! والى ذلك أشرت بقولي في القصيدة الدالية:
وفرقت بن البعل والزوج ظالما ... بعنف وإكراه فهل أنت مهتد
الأبيات إلى أن قلت:
أهذا الذي تدعو بمذهب مالك ... كذبت لعمر الله يا قين فاقصد
ومن أشهر ما وقع لمالك رحمه الله في حياته أنه كان يفتي بأن طلاق المكره غير لازم على ذلك ضرب بالسياط، فالعجب ممن يريد أن ينصر المذهب المكذوب على مالك ثم يخالف مذهبه الصحيح المتواتر { وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ } [التوبة: 24].(39/100)
الثامنة: أنه كان يريد- ولو بجدع الأنف- أن يكون مدرسا في المعهد الديني الأعلى وسعى للوصول إلى ذلك سعيا وحثيثا، واستعان بسادته المستعمرين فلم يصل إلى مرامه إلا بعد اللتيا والتي، ولما صار مدرسا في المعهد صار يفرض على الطلبة كلما رأوه من بعيد أن يهرعوا إليه ويقبلوا يده، ويهددهم بأن من لم يفعل ذلك يسقطه في الامتحان وإلى ذلك أشرت بقولي في النونية:
فيا تلاميذه أنا النصيح لكم ... فإنه فاجر عديم إيمان
فقبلوا يده واحنوا رءوسكم ... كي لا يصيبكم يوماً بعدوان
راجع هذه الأبيات في النونية.
التاسعة: أنه كان له بيت في مارتيل وكان يريد بيعه فلم يجد من يشتريه منه، فسافر من تطوان إلى القصر الكبير وقصد الثري المشهور الحاج عبد السلام حسيسن، وقال له: إن سيدي عبد السلام بن مشيش رضي الله عنه جاءني في المنام فشكوت له تعسر بيع داري التي في مارتيل، فقال لي: اذهب إلى خادمنا الحاج عبد السلام حسيسن وبلغه سلامي، وأخبره أني آمره أن يشتري منك تلك الدار وسيشتريها منك. قال الحاج عبد السلام فلما جاءني وقص على الرؤيا قلت له: إن أمر سيدي عبد السلام على رأسي وعيني ولكني أنا بنفسي عندي بيت في مارتيل لا أحتاج إليه لأني أسكن في طنجة وفي القصر الكبير وأنا محتاج إلى بيعه فكيف أزيد عليه بيتًا آخر؟! فرجع خائبا وإلى ذلك أشرت بقولي في الدالية:
على ابن مشيش قد كذبت بلا حيا ... فأخزاك رب الناس في كل مشهد
العاشرة: زيارة الفقيه البياع لأستاذي شيخ الإسلام محمد بن العربي العلوي، سافر هذا الفقيه من تطوان إلى الرباط وزار شيخ الإسلام محمد بن العربي. رحمه الله، فلما أخبره أنه من تطوان أنه من تطوان سأله عني فقال له: تعرف الدكتور محمد تقي الدين الهلالي؟ فقال له: نعم أعرفه وقد هجاني بقصيدتين، ولما تقلص ظل الاستعمار الذي كان حائلاً بيني وبين رؤية أستاذي المذكور واجتمعت به أخبرني بذلك وقال لي: لما أخبرني أنك هجوته علمت أنه خبيث.(39/101)
* الأمير الملالي والاستسقاء *
يسمي المغاربة أمير كل بلد قائدا. والقائد (الملالي) حاكم القصر الكبير كان من أقوى الأمراء الذين لهم وزن ثقيل عند المستعمرين الإسبانيين وعند رعيته، ولكنه لم يكن يقارب منزلة أمير العرائش السيد خالد الريسوني رحمه الله كما تقدمت الإشارة إلى ذلك، لما سمع الأمير الملالي بقدومي تطوان ودروسي فيها أراد أن يدعوني إلى إماريته ليكرمني، وتكلم مع الزعيم عبد الخالق الطريس في ذلك، وسألت عنه فعلمت أنه تجاني متعصب فنشرت في صحيفة الحرية ثلاث مقالات تحت هذه الترجمة (كيف خرجت من الطريقة التجانية) وذكرت فيها قصة خروجي وتوبتي من هذه الطريقة، وأقصت البراهين على بطلانها فغضب غضبا شديدا ورجع عما كان عازفا عليه، ولما أصبت بداء الربو وقد تقدم أن المشركين في تطوان زعموا أن الشيخ السعيدي هو الذي أصابني بذلك المرض لأني أنكرت عليهم عبادته بالذبح والنذر والاستغاثة.
فقلت على كرسي الوعظ في الجامع الكبير: إن هؤلاء الذين يزعمون أن الشيخ السعيدي هو الذي أصابني بمرض الربو ليس لهم عقل ولا دين، أما العقل فدليل نفيه أن خلقا كثيرا من سكان تطوان رجالا ونساء مصابون بهذا الداء، وهم يعبدون الشيخ السعيدي فمن ذا الذي أصبهم بهذا المرض؟! وأما دليل نفي الدين فإن الشيخ السعيدي إما أن يكون مؤمنا بكتاب الله وبرسول الله صلى الله عليه وسلم، وحينئذ لابد أن يكون مغتبطا ومسرورا بدعوتي إلى توحيد الله وأتباع رسوله صلى الله عليه وسلم وساخطا على كل من يعبده بالذبح والنذر والاستغاثة متبرئا إلى الله من عملهم، وإما أن يكون مشركا يرضى بعبادتهم له إذا فأعبده الله إن كان ذلك، والذي نظنه به هو الخير { رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ } [الحشر: 10].(39/102)
ولما اشتد على مرض الربو قيل لي لو: توجهت إلى القصر الكبير فإن بينه وبين البحر عشرين ميلا، وهواؤه ناشف بعض الشيء يمكن أن يخفف عنك بعض ما تعانيه، فذهبت إلى القصر ونزلت في فندق وأنا في حالة يرثى لها فجاءني رجل يظهر عليه أثر النعمة والغنى ومعه شاب فسلم على ببشاشة فرحبت بزيارته فقال لي: أما تعرفني؟ قلت: لا. فقال لي: إنني حضرت مجالسك في طنجة وكنت عازفا في ذلك اليوم أن أدخل في الطريقة التجانية فسمعتك تشرح ما فيها من الضلالات، فعدلت عن الدخول فيها وحمدت الله الذي أنقذني من الوقوع في حبائلها فلك على فضل لا ينسى، وأنا أدعوك أن تنزل في بيتي فقلت له: إني اخترت هذه المقصورة لأنها محكمة النوافذ لا يهب علي فيها الهواء البارد فقال لي: عندي غرفة أحسن منها ومعها حمامها وبيت الخلاء وأنا أقوم بخدمتك على أحسن وجه، فأقمت عنده خمسة عشر يوما، ثم سافرت إلى طنجة وجئت بأهلي وأقمنا في ضيافته خمسة عشر يوما، فأردنا أن نسكن في بيت وحدنا فأسكننا في بيت له خارج المدينة وبقيت هناك أربعة أشهر.
* صلاة الاستسقاء *(39/103)
وفي تلك السنة قل المطر وعم الجدب. وعادة المغاربة في مثل هذه الحال أن يفزعوا إلى أضرحة الأولياء ويذبحوا لهم الذبائح ويستغيثوا بهم ليأتيهم المطر ويزول عنهم الجدب، فأمر القائد الملالي مناديا ينادي قائلا بأعلى صوته: لا إله إلا الله محمد رسول الله لا تسمعون إلا خيرا إن شاء الله إن الأمير يأمركم أن تتبرعوا بالدراهم لشراء الثيران والكباش وتتهيئوا في اليوم الفلاني للاستسقاء عند أضرحة الأولياء، فلما جاء اليوم المعين خرج الأمير والقاضي وجميع أهل البلد حفاة حاسري الرءوس وطافوا على أضرحة الأولياء قائلين بصوت واحد: (جئناكم قاصدين، لا تردونا خائبين، يا أولياء الله الصالحين) وتوجهوا أولا إلى قطب البلد علي أبي غالب والثور الأسود أمامهم وهو أكبر الثيران وأسمنها، فوصلوا إلى ضريحه خاشعين وذبحوا ذلك الثور وذابحه يقول: الذبيحة على الله وعليك يا سيدي علي أبا غالب ثم طافوا على أضرحة الأولياء الكبار فذبحوا على ضريح كل واحد منهم ثورا. وأما الأولياء الصغار فذبحوا على ضريح كل واحد منهم كبشا ورجعوا، فنشأ غمام في السماء فسألت الله تعالى أن لا يسقيهم ولا قطرة واحدة فاستجاب الله دعائي، وانقشع ذلك الغمام وجاء بعده غمام مرارا ثم انقشع ولم يسقوا قطرة واحدة.(39/104)
وعدد جماعتنا الموحدين، ومنهم السيد أحمد الجباري رحمة الله عليه والحاج عبد السلام حسيسن فبعضهم اختفى في يوم الاستسقاء خوفا من الأمير وبعضهم أعلن معارضته كالحاج عبد السلام حسيسن، وعددهم لا يزيد على أربعين إلا أن أحدهم معلم صبيان وعنده خمسون صبيا يعلمهم القرآن. جاء بعض أصحابنا إلي وقالوا لي: إن الأمير والقاضي ومن تبعهما ارتكبوا أمرا شنيعا مخزيا فنريد أن نغسل هذا العار بصلاة الاستسقاء في مصلى العيد خارج المدينة، ونريد أن تكون إمامنا في صلاة الاستسقاء فإن المغاربة يعتقدون أنه متى صليت صلاة الاستسقاء يموت إمامها ويموت السلطان ولم يشأ أحد من الفقهاء الموحدين أن يصلي إماما لأن أزواجهم وأولادهم إذا سمعوا أن أحدهم يريد أن يصلي صلاة الاستسقاء إماما يفزعون ويبكون خوفا عليه ويمنعونه فقلت لهم: إن المرض علي شديد ولكني أرجو من الله أن يقويني حتى أصلي بكم صلاة الاستسقاء وأنا لا أخاف الموت، فاتفق الجماعة على يوم معين فجاءوني بسيارة وتوجهنا إلى مصلى العيد ورأيت الزرع بدأ ييبس، فرقيت المنبر وخطبت خطبة غلبني فيها البكاء وصليت بهم ركعتين وفي اليوم التالي أذن الله للسماء أن تمطر فأمطرت مطرا غزيرا غدقا أحيا الله به الأرض بعد موتها واستبشر الناس وفرح أصحابنا بنصر الله على القوم المشركين.
* الاجتماع بالأمير الملالي*(39/105)
بعد ذلك المطر كان الأمير الملالي يتحدث مع جلسائه فقال أحدهم أيها الأمير، على هذا الغيث ينبغي أن نعمل مأدبة كبيرة شكرا لله تعالى، فقال: إي والله فقال أحدهم: أنا أصنع لكم مأدبة ثم قال آخر: ينبغي أن يدعي إلي هذه المأدبة الدكتور محمد تقي الدين الهلالي لأنه هو الذي صلى صلاة الاستسقاء التي على أثرها جاء المطر، فقال الأمير: لا بأس ندعوه ثم قال لأحد جلسائه- من سوء حظي أنني نسيت اسمه- وسأصفه بما لا يلتبس به مع غيره فهو رجل من أعيان القصر الكبير، وقد كان قبل الاستعمار سفيرا للجزائر في المغرب حسب ما سمعت وهو من جماعتنا الموحدين- فقال له الأمير: أنت من أصحابه فاذهب إليه وادعه فجاءني رحمة الله عليه، وقال لي: إن القائد الملالي يدعوك لحضور المأدبة التي ستقام شكرا لله على المطر. وكنت في أشد ما يكون من الضعف وكان مرض الربو علي شديدا، فسألت الله أن لا يشمت بي أعدائي، وأن يمنحني خفة وقوة لكي أستطيع أن أتحدث وأشرح حقيقة دعوتي أمام هذا الرجل وجلسائه وهم أعيان البلد.(39/106)
فاستجاب الله دعوتي، وخف المرض قليلا فركبت السيارة، وتوجهت إلى المكان المعد، فسلمت عليه وأجلسني إلى جانبه وكان فقيه القصر الكبير ابن عبد القادر الطود حاضرا، فبقيت ساكنا انتظر أن تسنح لي فرصة للكلام، فجرى ذكر اللحوم وما يستحسن أكله منها واختلاف أذواق الناس في ذلك فقال الأمير: يا عجبا لأهل سجلماسة يأكلون الجراد وهو ضرب من الخنافس ويشمئزون كل الاشمئزاز من أكل الحلزون، (ويسمى باللغة المغربية ببوش) ثم قال: ولي أصدقاء من شرفاي سلجماسة إذا زاروني وأردت أن أغضبهم على سبيل المداعبة أقول لهم: غداؤنا اليوم ببوش فيتقززون ويغضبون، فقلت: أيها الأمير كيف تعيب أكل الجراد على أهل بلادنا وقد أكله النبي صلى الله عليه وسلم وتمدح أكل الحلزون وهو دود مائع، ولم يأكله النبي صلى الله عليه وسلم فالنبي معنا وبه ننتصر عليكم، فقال الملالي: إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم معكم وجب علينا أن نكون نحن أيضا معكم.(39/107)
واستمر الحديث في ذكر ما يؤكل من الحيوان حتى ذكر أكل سباع الوحش كالذئب والكلب والنمر والأسد، فاندفع الفقيه الطود يسرد ما قاله خليل في مختصره- ومختصر خليل عند المغاربة هو كل شيء، هو القرآن والحديث والعلم متى جرى ذكر مسألة فقهية فالسعيد منهم هو الذي يورد عليها نص مختصرخليل وحين يسمع نصه فهو القول الفصل عندهم- فقال الطود: قال صاحب المختصر: ((وكره هر وذئب ونمر وأسد )) وانطلق بسرعة السهم يسرد مختصر خليل، فسحنت حيئنذ فرصة أخرى للكلام فقلت له: اتقوا الله ولا تكذبوا على مالك فإنكم أبحتم أكل لحوم السباع مع الكراهة التنزيهية ونسبتم ذلك إلى مالك، ومالك بريء من ذلك فقد روى في موطئه بسنده إلي أبي ثعلبة الخشني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن أكل كل ذي ناب من السباع، ثم روى بسنده المتصل إلي أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:(( أكل كل ذي ناب من السباع حرام )) قال محمد بن الحسن في موطئه عقب هذا الحديث: بهذا نأخذ، يكره أكل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير، وهو قول أبي حنيفة والعامة من فقهائنا لإبراهيم النخعي انتهى، أبعد ما يصرح مالك في روايته عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:(( أكل كل ذي ناب من السباع حرام )) تنسبون إليه القول بالإباحة مع الكراهة التنزيهية، وتزعمون أنه هو مشهور مذهبه؟! وقد جلبتم بذلك سبة على مذهبكم حتى نسب إليكم خصومكم أنكم تبيحون أكل لحوم الكلاب، وهم في ذلك صادقون لأن شراح المختصر ذكروا أن الكلب من جملة السباع، ثم خرجت من الكلام في هذه المسألة إلى الكلام في وجوب إتباع النبي صلى الله عليه وسلم وترك تحكيم الرجال وآرائهم المخالفة لما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم، وذكرت حديث عدي بن حاتم حين جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وفي عنقه صليب فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ((ألق عنك هذا الوثن )) وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ سورة(39/108)
براءة حتى انتهى إلى قوله تعالى: { اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ } [التوبة: 31]. فقال عدي: يا رسول الله إنا لم نكن نعبدهم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم:(( أليس يحلون لكم مما حرم الله ويحرمون عليكم ما أحل الله فتتبعونهم )) قال: بلى. قال النبي صلى الله عليه وسلم:(( فتلك عبادتهم )) أو كما قال. ثم خرجت من ذلك إلى الدعوة إلى توحيد الله تعالى وترك الباع في الدين، وتحدثت زهاء ساعة والأمير يسمع وكان يحب الخوض في النوادر والضحكات، ومع ذلك صبر إلى أن أنهيت كلامي وكان رجلا عاقلا من أهل المروءة، ومن الأمثال: (عدو عاقل خير من صديق جاهل) ولما انتهيت من كلامي قال لي الفقيه ابن عبد القادر الطود: أيها الأستاذ إنني أكن لك الحب والإجلال فكيف هجمت علي بمثل هذا الهجوم الشديد؟! لعلك لا تعلم أنك لما رقيت المنبر لخطبة الاستسقاء بحذائك أنكر ذلك كثير من الناس فدافعت عنك، وقلت لهم إن: فقهاءنا قالوا: لو انتقض وضوء الخطيب وهو في خطبة الجمعة ثم دعا بماء فتوضأ واستأنف خطبته جاز ذلك، فأيهما أعظم انتقاض الوضوء أو الخطبة بالنعلين؟! فقلت له: أنا ما قصدت الإساءة إليك ولكني كنت أنتظر فرصة للكلام فهيأتها لي بسردك كلام خليل في أكل لحوم السباع وجزاك الله خيرا على دفاعك عني. أما الذين انتقدوا علي خطبة وأنا منتعل فهم أجهل من حميرهم لأن الصلاة في النعل سنة النبي صلى الله عليه وسلم فكيف بالخطبة؟!
* الاستسقاء بذبح الخيل*(39/109)
وفي تلك الأيام المجدبة بلغنا استسقاء آخر عجيب وغريب وذلك أن أهل سريف وهي قرية في شمال المغرب أشار عليهم أحد الدجاجلة بما زعم أنه قرأه في كتيب من كتب الخرافات والأساطير يسمي خزينة الأسرار، وذلك أنه إذا وقع الجدب وانقطع المطر وأراد الناس الغيث يعمدون إلى مهر من الخيل فيكتبون على جبهته قوله تعالى من سورة الشورى: { وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ } [الشورى: 28] ثم يذبحون المهر ويعلقون رأسه في فرع شجرة عالية فإنهم يمطرون، فعل ذلك أهل سريف فخيبهم الله، وفي ذلك قلت القصيدة التالية:
بكى قوم على جاه ومال ... وأعول آخرون من الهزال
وبعضهم بكى في إثر خل ... بعيد الأنس آذن بارتجال
وبعضهم ينوح على شباب ... تولى ثم بدل باعتلال
ودين الله أصبح في ضياع ... ولا باك عليه ولا مبال
بدهر صار فيه العرف نكرا ... ونور الحق غطى بالضلال
وسنة خير خلق الله أضحت ... تنادي أين أنتم يا رجالي
طغى وبغى عليها ذو ابتداع ... خبيث سالك سبل الخيال
متى ما شاهد الغرباء هبوا ... لنصرتها توعد بالقتال
وغرته جموع وافرت ... حواليه توالى من يوالي
وساعده عموم الجهل حتى ... لقد شمل الأسافل والأعلي
وحزب الله يغلب كل حزب ... وينصره المهيمن ذو الجلال
فيصلت من كتاب الله بيضاً ... مهندة تضيء دجى الليالي
ومن سنن الرسول له سهام ... ومن حجج الأصول له عوالي
وأهل الرأي كلهم بغات ... يتامى في الحديث ذوو اختبال
ومن يعرض عن السنن العوالي ... يذق مر الهزيمة في النزال
ويكسى الخزي في دنياه دوماً ... وفي أخراه يقرى بالنكال
ومن سنن الرسول وتابعيه ... سؤال الغيث من مولى الموالي
من الرحمن لا يدعون شيئا ... سواه مخلصين في الابتهال
إلى أن جاء بعدهم خلوف ... دعوا أهل المقابر باهتبال
وقد ذبحوا لهم بقراً وشاء ... وقد نحروا السمان من الجمال(39/110)
ومن يذبح لغير الله يلعن، ... مقال المصطفى خير المقال
وأعجب بدعة فيما سمعنا ... وأعرق في الجهالة والخبال
أمور عن سريف قد أتتنا ... تواتر نقلها بين الرجال
فقد عمدوا إلى مهر كريم ... من الخيل المطهمة الغوالي
فحزوا رأسه بالسيف ظلماً ... ولم يذنب إلى أحد بحال
وقد كتبوا بجبهته سطوراً ... من القرآن.. يا لك من ضلال
وتلك إهانة للذكر جلت ... صفات الله عن هذي الخلال
ولو تبعوا الكتاب وعظموه ... بلا ذبح لخيل أو بغال
ومن يعرض عن القرآن يسلك ... عذاباً، قول ربك ذي التعالي
والاستسقاء بذبح الخيل بدع ... غريب لم نر له من مثال
أأهل سريف اتئدوا وتوبوا ... إلى الرحمن من هذا المحال
فرب الناس صدقاً وحدوه ... وقفوا للنبي بحر الكمال
* * *
* الاستسقاء بالحصى*
ووقع في تلك السنة استسقاء آخر لا يقل غرابة عما تقدمه، وذلك أن دجالاً من الدجاجلة أشار على أهل بلدة أن يجمعوا سبعين ألف حصاة، ويوزعون الحصى على سبعين شخصا من القراء فينال كل واحد ألف حصاة، فيدني كل حصاة من ذلك الحصى من فمه ويقرأ عليها مرة الآية التي تقدم ذكرها: { وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ } . [الشورى: 29] ثم يضعون ذلك الحصى في أكياس ويشدون كل كيس بحبل طويل ثم يدلونها في نهر إلى أن يصر كل كيس إلى قرار النهر ويربطون رأس كل حبل بشجرة، قال لهم ذلك الدجال: حين تستقر الأكياس في أسفل النهر يبتدئ الغيث ينزل ويستمر أبدًا ما دامت الأكياس في مكانها ولو بقيت سنين، حتى إذا رأى الناس أن الأرض قد أصابها من المطر ما فيه كفايتها ينزعون تلك الأكياس، لأنهم لو تركوها لاستمر المطر بدون انقطاع حتى يعم الطوفان ويهلك الناس بالغرق، ففعلوا ذلك فلم ينالوا قطرة.(39/111)
ألا ترى أيها الموحد الموفق لإتباع كتاب الله وسنة رسوله المتجنب للبدع كلها أن الله سبحانه إذا خيب سعيهم وحرمهم المطر وحبسه، حتى توجه إليه حزبه المفلحون وهم فئة قليلة لا يبلغ عددهم مائة، وعملوا بسنة نبيهم ووجهوا وجوههم إلى الله وحده فسقاهم ذلك المطر الغزير أراد أن يجعلها كرامة ظاهرة لأهل الحق نصر بها أولياءه وكبت بها أعداءه، وبين لهم أن الذين يعبدون من دون الله لا يملكون لهم رزقا، وأن الرزق بيد الله لا حيلة لمحتال في جلبه وإنما ينال بتقوى الله التي رأسها وسنامها توحيده وإتباع سنة رسوله؟!
*هجو فقيه مبتدع مر علينا ولم يسلم*
وكان هذا الفقيه -ولا أسميه إبقاء عليه- من أنصار البدعة والشرك فمر علي ومعي جماعة من الموحدين فلم يسلم، فأصلت عليه سيف الهجو جهادًا في سبيل الله ليذوق وبال أمره، وهجو المشركين من أعظم القربات، وكان هذا الفقيه السفيه قد بلغ به الجهل إلي أن كان في سفر من تطوان إلى القصر الكبير فصلى بمن كان معه المغرب ركعتين ظانًا أنها تقصر كالرباعية فهجوته بهذه القصيدة، وذكرت تلك الحادثة العجيبة.
أبا مرة ماذا التعاظم والكبر ... وأنت حقير مائق(1) أرعن غمر
أبا العلم إن العلم عنك بمعزل ... كما لا يكون الدهر في المغرب القصر
ولم نر في أرض المغارب فقيهاً قاصراً ... كقاصر فرض للنهار هو الوتر
متى رمت إن الفضل لست بأهله... ... ولا حسب يلفى لديك ولا قدر
وحظك في التدريس حظ موقر ... فباقل إن ينسب إليك هو الحبر
ولو كنت من أهل السلام عرفته ... وأديت حقاً واجباً تركه وزر
ولو ذقت للإيمان أدنى حلاوة ... لأخرج منك الغش وانشرح الصدر
وما يستقيم الظل والعود أعوج ... ولا يثمرن الشهدة الحنظل المر
جهلت لحاك الله ما في ابن عاشر ... أمن بعد هذا الخزي ينفخك الكبر
فضاؤك يا شيخ التيوس جناية ... على الدين إن الدين قد مسه الضر
إذا كان رب الجهل ميتاً فإنما ... ثيابك أكفان ومكتبك القبر
__________
(1) المائق: الأحمق.(39/112)
* انتقام المستعمرين مني*
تقدم أني سافرت إلي شفشاون للبعد من شاطئ البحر طلبًا للشفاء من مرض الربو، وبها لقيت الحسيب النسيب الكريم السيد أحمد الريسوني، وضيفني واعترف لي بأنه كان مع تلك الجماعة عازمًا على قتلي حتى نهاهم عن ذلك الأمير العبقري اليد خالد الريسوني رحمة الله عليه، بقيت في شفشاون خمسة أشهر أكثرها في بيت السيد أحمد الريسوني، ثم تزوجت بفتاة من قرائب أحد إخواننا، وكنت ألقي دروسًا منتظمة في الجامع الكبير دون أن أطلب إذنًا من المستعمرين كما اتفقت عليه معهم في أول الأمر، وكانوا قد شرطوا علي أن لا أسافر إلى المدن الصغيرة والقرى إلا بإذنهم فسافرت إلى شفشاون بإذنهم ولكني شرعت في إلقاء الدروس بغير إذن، يضاف إلى ذلك ما يأتي:
*الاتصال بالوطنين المقاومين للاستعمال*
كان من أشد الناس إقبالاً على دروسي ومرافقتي رجال حزب الإصلاح الوطني أذكر منهم الحسيبين النسيبين السيد عبد الله قريش والسيد العياشي العلمي.
*تأليف مختصر هدي الخليل*(39/113)
قال لي أولئك الإخوان: إن الله قد هدانا بدعوتك إلى توحيده وإتباع رسوله صلى الله عليه وسلم، ونحن ضعفاء في العلم لا نستطيع أن نغوص في بحور كتب السنة على دلائل المسائل ومعرفة ما يوافق السنة لنتجنب مخالفتها، ولا نأمن أن تفارقنا بالموت أو بحادث آخر، فنرجو من فضلك أن تؤلف لنا كتابا يحتوي على مسائل العقائد والعبادات مجردًا عن الأدلة مطابقا للسنة المحمدية، فأجبتهم إلى ذلك وصرنا نجتمع في بيتي كل ليلة إلى منتصف الليل أحدهم يكتب وأنا أملي والباقون يطالعون، كل واحد في يده كتاب من كتب الحديث حتى أتممنا في مدة قصيرة كتاب (مختصر هدي الخليل في العقائد وعبادة الجليل) وتبرعنا جميعا بالدراهم اللازمة لطبعه حتى تبرعت النساء المحتجبات في بيوتهن بدون أن تذكر أسماؤهن، وهكذا تكون الدعوة الكاملة الصافية الخالية من الأغراض الدنيوية فتخالط بسببها بشاشة الإيمان قلوب المستجيبين لها، وكان الحاكم الإسباني يبعث عيونه يتجسسون علينا فيرجعون إليه ويخبرونه بأننا نجتمع كل ليلة إلى ما بعد منتصف الليل، فيعد ذلك من الائتمار بالحكم الإسباني والسعي في القضاء عليه ويبلغ ذلك إلى إخوانه المستعمرين في تطوان.
*التعاون مع الإمام الشهيد حسن البنا رحمة الله عليه*(39/114)
وبينما المستعمرون الإسبانيون مغتاظون علي لأني نقضت العهد الذي بيني وبينهم لأمرين أحدهما الاتصال بالوطنيين والتعاون معهم، والثاني إلقاء الدروس بدون إذنهم، وهناك ثالث وهو نشر المقالات في صحيفة الحرية لسان حزب الإصلاح الوطني إذا بهم يكتشفون أمرا عظيما له بال هو أشد خطرا من كل ما تقدم، وذلك أن الإمام حسن البنا رحمه الله ورضي عنه كتب إلي يقول: إن صحيفتنا (الإخوان المسلمون) بلغت من الرواج والانتشار ولله الحمد إلى أن صارت في مقدمة الصحف اليومية التي تصدر في القاهرة، ولنا مكاتبون في جميع أنحاء العالم إلا في المغرب فليس لنا مكاتب يبعث لنا بأخبار إخواننا المسلمين في هذا القطر المهم، فأرجو من فضلك أن ترشدنا إلى مكاتب تختاره لنا وتخبرنا بما يطلب من المكافأة وإن سمحت لك صحتك بأن تكون أنت بنفسك ذلك المكاتب فهو أحب إلينا فأجبته:
لبيك يا لبيك يا لبيكا ... ها أنذا منطلق إليكا
أنا الذي أتشرف بأن أكون مكاتبًا لصحيفة الإخوان المسلمين ولا أريد على ذلك أجرا إلا من الله تعالى:
وما أنا بالباغي على الحب رشوة ... ضعيف الهوى يبغي عليه ثوابا
فشرعت في كتابة المقالات وكتبت إلى الصحيفة المذكورة عدة مقالات باسم مستعار وظننت أن هذا العمل سرًا مكتومًا، وكان ذلك غفلة مني ليقضى الله أمرًا كان مفعولاً. فقد كانت الامتيازات التي اشترطها البريطانيون على المستعمرين الإسبانيين والفرنسيين في المغرب تقضى على الفريقين بأمور منها: أنهم لا يتعرضون لمن له حماية إنكليزية من المغاربة، ومنها: أن يكون للبريطانيين في كل مدينة من كبريات مدن المغرب بريد لا يدخل تحت مراقبة المستعمرين.(39/115)
وغاب عني أن القنصل الإنكليزي من أشد أعدائي، وقد ائتمر مع الإسبانيين علي فمنعوني من الرجوع إلي البلاد الجرمانية، وقد احتج على مقالاتي في صحيفة الحرية عند الإسبانيين وعاقبوا الصحيفة مرات بالغرامة والوقف المؤقت كما فعل القنصل الفرنسي، وسيأتي مزيد من بيان لهذه العداوة إن شاء الله عند ذكر زيارتي للسفارة الإنكليزية قبل سفري إلى الشرق.
أضف إلي ذلك أن الموظفين في البريد البريطاني في تطوان كلهم مغاربة وهم رعايا للإسبانيين بحكم الاستعمار، وقد أكد عليهم الإسبانيون بالرهبة والرغبة ألا يروا رسالة فيها مساس بالإسبانيين إلا أطلعوهم عليها، فكانوا يطلعونهم على تلك المقالات قبل إرسالها وأنا غافل عن ذلك، فأجمع المستعمرون على أن ينزلوا بي عقابًا صارما فأوعزوا إلى جنودهم من عبيد الاستعمار- ومنهم وزير العدل في ذلك الزمان وأمير شفشاون ونائب قاضيها الحسن العمرتي- أن يدبروا لي مكيدة يوقعوني بها في شرك العقاب دون أن ينكشف أن الدافع لها هم الإسبانيون، ففكروا ودبروا وقدروا فظنوا أنهم وجدوا ضالتهم المنشودة في أمر إسلاميّ إصلاحيّ.
وذلك أنهم علموا أني حين أقمت بشفشاون وعظت قراء القرآن جماعة بلسان واحد أن يتركوا ذلك العمل لأنه مخالف للسنة، وذكرت لهم حديث أبي داود عن أبي سعيد الخدري قال: اعتكف صلى الله عليه وسلم في المسجد فسمعهم يجهرون بالقراءة، فكشف الستر وقال: ((ألا إن كلكم يناجي ربه فلا يؤذين بعضكم بعضا ولا يرفع بعضكم على بعض في القراءة)) وروى مالك في الموطأ عن فروة بن بياضة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج على الناس وهم يصلون وقد علت أصواتهم بالقراءة، فقال: ((إن المصلي يناجي ربه لينظر بما يناجيه به ولا يجهر بعضكم على بعض بالقرآن)) قال ابن عبد البر: حديث البياضي وأبي سعيد ثابتان صحيحان. فاستمعوا لنصحي وتركوا القراءة على تلك الصورة ثم تبعهم أهل المساجد الأخرى.(39/116)
فوجد أمير شفشاون ونائب قاضيها باتفاق مع الوزير الوازر أنه يدخلون علي من هذا الباب، فأعد الوزير وأعوانه فتوى في صحيفة طولها نحو ذراعين -أراني إياها الوزير فيما بعد- وزعموا أن الرجح في مذهب مالك أن القراءة برفع الصوت جماعة في المسجد -وإن كان الناس في كل لحظة يدخلون ويصلون تحية المسجد- جائزة بل مستحبة، وكل من درس مذهب المالكية في هذه المسألة يعرف أنهم كاذبون، وقد نص خليل علي ذلك بقوله: ((وجهر بها في مسجد كجماعة وأقيم القارئ في المسجد يوم الخميس أو غيره)) وبسط القول في ذلك شراحه خصوصا المواق. فضربوا بذلك عرض الحائط واتبعوا بنيات الطريق.
ولما أعدوا الفتوى وأطلعوا على ذلك سادتهم المستعمرين رضوا عنهم وقالوا لهم: لله دركم من عبيد ناصحين مخلصين، فإن هذه المكيدة لم تخطر لنا على بال وبها يبقي أمرنا سرا مكتومًا، فاتفقوا مع أمير شفشاون أن يأمر القراء بالعود إلي تلك المخالفة؛ لأنهاهم أنا فيتخذ ذلك وسيلة للقبض علي وإيداعي السجن بدعوى التشويش في أمور الدين، فجاءني النذير من أصحابنا وأخبرني بأن الأمير ونائب القاضي وأعوانهما سينصبون هذا الفخ الشيطاني في الجامع الكبير يوم الجمعة، وسيأتي الأمير بالشرطة معه ليقبضوا عليّ.(39/117)
وكنت في ذلك الوقت أقاسي من شدة الربو والضعف الشيء الكثير فقال لي: وازع النفس الأمارة بالسوء: اترك صلاة هذه الجمعة وأنت مريض عذرك معك ولا تجعل لهم سبيلاً عليك فما بك قدرة على السجن والتعذيب!! فقال لي وازع الله في قلبي: أنت خضت هذه المعركة منذ زمان طويل، ولم تبال بما يصيبك في سبيل الله فكيف تجبن اليوم؟! فغلبت النفس اللوامة على النفس الأمارة، وذهبت وأنا أظن أنني لا أتم صلاة ركعتين تحية المسجد حتى يصعد الخطيب على المنبر ولا يبقى مجال لتغيير المنكر، ولكن ما كتب على المرء لابد من وقوعه، فتوجهت إلى الجامع الكبير ووجدت جماعة القراء قد عادت إلى القراءة جماعة رافعين على حلقتهم ورفعت صوتي، وقلت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كلكم يناجي ربه فلا يجهر بعضكم على بعض بالقرآن ولا يؤذ بعضكم بعضا)) فما كدت أنتهي من هذا الحديث حتى سمعت صوتا وهو صوت الأمير يقول: اشت اسكت، فقلت: اسكت أنت يا جاهل يا ظالم أما تستحي من الله أن تقابل حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثل هذا من سوء الأدب؟! فما شعرت إلا وخمسة من الشرطة يدفعونني إلي باب المسجد، فمروا بي على نائب القاضي الحسن العمرتي، فقام واقفا وقال بأعلى صوته: اضربوا الكلب الكافر. هذا أمر من الخليفة ففضح سرا دون أن يشعر، ولم يمهلوني أن أبحث عن حذائي فقلت لهم: أنا لا أمشي حافيا فذهب بعضهم وجاؤني بأحذية متعددة حتى وجدت من بينها حذائي فاحتذيته، فصار أحدهم يدفعني في كتفي ويقول: (زيد زيد) ومعنى ذلك باللغة المغربية امش امش، فقلت: يا هذا هون عليك فإنك لا تستطيع أن ترعبني، ولست بنادم على ما صنعت ولا خائف مما تبيتونه لي والله غالب على أمهر ولكنكم قوم تجهلون. قلت معنى ذلك باللغة المغربية، حتى أوصلوني إلى غرفة التوقيف التابعة لمكتب الأمير وأدخلوني وأغلقوا علي الباب: وكان معي مصلاي فبسطته وصليت الظهر أربع ركعات، وكانت رائحة كريهة تنبعث من أركان تلك(39/118)
الغرفة وإن كنت لم أر نجاسة فيها.
وبعد نصف ساعة أي بعدما رجع الأمير من السلاة وعلم أن أعوانه حبسوني في غرفة الموقوفين، وهو يعلم خبثها تحركت فيه عاطفة الرفق، فأمر أحد الكتاب أن بنضم إلى موظف آخر، ويترك غرفته حسب ما سمعت وأمرهم أن ينقلوني إلى غرفته، فسمعت صلصلة المفتاح في القفل ففتح الباب ودخل شرطي، وقال لي: قم واتبعني فانطلق بي إلى غرفة نظيفة فيها مقعد خشبي، فجلست عليه وأغلق علي الباب بالمفتاح، فبعد قليل فتح الباب ودخل علي أحد الموظفين وهو من أقارب الأمير وهو المسمى ابن اليماني وجاءني بطعام فأكلت منه قليلاً، وقال لي: إن الأمير نادم على عمله ولكنك أهنته أشد الإهانة على رءوس الأشهاد فصار مضطراً إلى أن يعاملك بمثل هذه المعاملة، فقلت له: { اعْمَلُواْ عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ * وَانتَظِرُوا إِنَّا مُنتَظِرُونَ } . [هود: 121، 122]
ثم علمت زوجتي بما وقع فبعثت لي فراشاً وطعاماً مع أخيها فلم أستطع أن آكل شيئاً فقلت له: رده وأتني بالمصحف، لأني أحب أن أقرأ فيه لأكون أقوى على التدبر مني لو قرأت من حفظي فجاءني به.
وفي تلك الأيام كان المجاهد العظيم أمير البيان الأمير شكيب أرسلان قد توفي إلى رحمة الله، فأردت أن أنظم قصيدة في رثائه وطلبت أداة كتابة فلم يأذن بذلك الأمير، فأخذت أنظم القصيدة بدون كتابة بيتاً فبيتاً حتى أكملتها ستة وعشرين بيتا لأنشدها يوم تأبينه أو أبعثها لتنشد في ذلك اليوم إن بقيت في السجن، فقضى الله سبحانه أن أخرج من السجن وأحضر يوم التأبين وأنشدها فيه، ولم أر مناسبة لذكرها هنا لأنها لا تتعلق بالدعوة، وقد نقها المجاهد الكبير محمد علي الطاهر في كتابه: كرى الأمير شكيب أرسلان فليرجع إليه من شاء الإطلاع عليها.(39/119)
وعند منتصف ليلة السبت وهي الليلة الأولى التي قضيتها في السجن أو التوقف بما يسمونه سمعت صلصلة المفتاح في القفل، ففتح الباب وجاءني ذلك الشرطي الذي كان يدفعني أمس ويقول: امش امش فأخذ يقبل يدي ورجلي ويقول: سامحني يا سيدي ولا يؤاخذني بما فعلت فإن هذا الأمير الظالم أمرني بذلك، وإن شئت أن تخرج إلى صحن الدار لاستنشاق الهواء النقي فأنا في خدمتك وإن أردت طعاما أو شراباً أو فراشا فأمرني به، فدعوت له بخير وعفوت عنه وقلت: لا أحتاج إلى شيء.
* الاجتماع بالحاكم الإسباني *
وفي ضحى يوم السبت فتح الباب وأمرت بالخروج فلقيت شرطيا عند باب المبنى ينتظرني فقال لي: أنا رسول المراقب المدني إليك لتأتي إلي مكتبه، ولأجل أن لا يراك الناس في هذه الحال سأخرج بك خارج المدينة ونسير في طريق البساتين إلى أن نصل إلى مكتب المراقب، فقلت له: أنت مخطئ في ظنك أتظن أني أستحي أن يراني الناس ويعلموا أني مسجون على يد المستعمرين؟ إني أرى ذلك شرفا وأحب إعلانه فقال لي: على كل حال الأفضل أن لا نمر بالسوق، فقلت له: إن أمرك المراقب بذلك فلا بأس، فانطلقت معه إلى المراقب فأجلسني أولا في مكتب فقيه المراقبة فسلم علي الفقيه سلام إجلال وتكريم، وقال لي: جزاك الله خيرا لقد شرفت أهل العلم بصبرك وجهادك وشجاعتك. إن الناس كانوا يقولون: إن العلماء جبناء، فأقمت أنت البرهان على كذبهم، وأهل هذه المدينة أصبحوا يجلونك ويحبونك حتى الذين كانوا يعادونك من قبل، وفي هذا اليوم ظهر لك مقال في صحيفة الحرية فتخطف الناس أجزاءها وقرأوا مقالك بشوق.(39/120)
فجاء الشرطي ودعاني إلى مكتب الحاكم الإسباني، وكان من فضل الله علي أنني ما هبت أحدا منهم ولا ناظرت أحدا منهم إلا ظهرت عليه، فدخلت المكتب وجلست على كرسي مواجه له، فافتتح الحديث بقوله: إننا متأسفون على ما وقع بينك وبين الأمير ونائب القاضي، ولما كانت هذه المسألة دينية لم يكن لنا أن نتدخل فيها، ونحن نكرم أهل العلم ورجال الدين ونرى أنه ينبغي لهم أن يكونوا حلماء، ويصفحوا عن المسيئين إليهم، ولذلك أقترح عليك أن تجتمع مع الأمير وتتصالح معه ليتمكن من إطلاق سراحك. (وكلاما من هذا القبيل) فقلت له بواسطة الترجمان- مع أني كنت أفهم ما يقول لأني كنت في برلين قد دفعت أجرة مائة ساعة لتعلم اللغة الإسبانية فحضرت منها ستين ساعة، أضف إلي ذلك أني أقمت في غرناطة أربعة أشهر كما تقدم- قلت له: هذا الاقتراح الذي اقترحت علي يتفق عندكم مع تعظيم الدين والعلم وحرمات المساجد! أرأيت لو أن قسيسيا كان يعظ الناس في الكنيسة فقام رجل من الحاضرين وأساء الأدب مع الدين ومعه وأسكته فقال له القسيس الواعظ: أنص أحق بالسكوت يا جاهل يا ظالم، وكنت أنت حاكم تلك المدينة ثم رفع الأمر إليك فبأي حكم تحكم؟ أتحكم بحبس القسيس وإلزامه بطلب العفو من ذلك الظالم الذي أمر بحبسه وأساء الأدب مع الدين وانتهك حرمة الكنيسة أم تأمر بحبس ذلك الجاني وإطلاق سراح القسيس والاعتذار له وإرضائه؟! فقال لي حائدا عن الجواب: مقصودي أن العلماء من شأنهم أن يكونوا حلماء فقلت: أرني حقي ثم اطلب مني الحلم، أما قولك: إنها مسألة دينية، فليس بصحيح فإني أقمت هنا أكثر من خمسة أشهر والأمير ونائب القاضي يعاديانني ولم يتجرآن على الإساءة إلي حتى حرضتموهم على ذلك وهما عبدان خاضعان لكم لا يتجرآن أن يحبسا نملة إلا بأمركم، وأنا لست من الغفلة بالمكان الذي يروج علي فيه اعتذارك هذا فهو مردود عليك، فقال لي: أنا متأسف وما أردت لك إلا الخير وأنت حر في تصرفك.(39/121)
وكان مما قاله لي ونسيت ذكره في موضعه: إن الأمير كان مكرها على حبسك لأنك شتمته أمام رعيته، فلو لم يحبسك لم يبق له حرمة عندهم فلا يستطيع أن يحكم على أحد بعد ذلك. فقلت له: أهكذا تكون العدالة عندكم في إسبانيا؟! يتجرأ أمير قرية على إسكات واعظ في الكنيسة والأمر بحبسه ولا يعد ذلك ظلما ولا إهانة للدين والعلم ثم يعتذر للظالم بهذا العذر البارد، فهب أنه لم تبق له حرمة عند رعيته ولا يستطيع أن يحكم عليهم فهناك حكم آخر هو أحسن وأعدل، وهو أن يعزل ذلك الحاكم ويعاقب على عمله ويستبدل بغيره.
فانصرفت من عنده والترجمان يرافقني وهو متأسف علي فقال لي: ماذا صنعت بنفسك يا أخي؟ أنت مريض ولا قوة لك على البقاء في السجن ولا تظن أن هذا الذين أنت فيه هو السجن إنما هذا هو توقيف وتمهيد وسيحكم عليك بالسجن والمكث فيه صعب، ولا تغتر بما يظهره لك الناس من المحبة فإنه يمكن أن تبقى في السجن حتى تموت فقلت له كما قلت للإسباني قبله: أتريد مني أن أذهب إلي الأمير وأتذلل له وأكذب على نفسي وأقول: إني كنت مخطئا في جوابي لك فأسألك العفو؟ فقال: هذا الذي يحتمه الحال التي أنت فيها. فقلت: لن أفعل ذلك أبدا إن شاء الله وليكن ما عسى أن يكون. فقال لي: أرجو أن توافقني على لقاء الأمير فقط فقلت: أنا موافق عليه فقال انتظرني هنا فرجع إلى الحاكم فقال: إنه قبل أن يجتمع بالأمير فأذن لي أن أرافقه. وكان هذا الرجل ناصحا لي، ولم يكن يدرى أن الأمر ليس بيد الأمير ولا بيد حاكم شفشاون هانما جاء من الدائرة العليا في تطوان، وهو أمر بيت بليل، فلم يأذن له الحاكم بل قال له: الشرطي الذي جاء به يرده فقال الترجمان للشرطي: اذهب به إلي الأمير.(39/122)
فذهبت إلي الأمير في مكتبه وقلت: السلام عليكم فقال: وعليكم السلام اجلس، وأشار إلى كرسي فجلست وبقينا ساكتين، ثم قال: أيها الأستاذ أنت قلت في المسجد أمام الناس: إني جاهل وأنت صادق ولكن لو قلت ذلك وصفحت عنك لسقطت في أعين الناس ولم يبق لي عندهم احترام، فقلت له: ماذا تريد بهذا الكلام. لعلك تريد إظهار الندم وفتح باب الصلح؟ فقال: نعم فقلت له: لي شرط واحد إن أنت قبلته سامحتك في الدنيا والآخرة وإن لم تقبله فردني إلي السجن. وقبل ذلك قلت له: لماذا كنت قبل أن أجيء إلي بلدك كلما رأيتني في تطوان أسرعت إلي السلام علي ببشاشة وتودد ولما جئت إلى بلدك لم تسلم علي ولا مرة واحدة ولا ضيفتني؟ فقال لي: لم أستطع ذلك. معناه أنه يخاف من الإسبانيين ثم قلت له: وهذا هو الشرط أن تقف في المسجد الجامع قبيل أن يرقى الخطيب على المنبر، وتقول: أيها الناس اشهدوا علي أني كنت ظالما حين أسكت الدكتور محمد تقي الدين الهلالي يوم الجمعة الماضي، وإني أشهدكم إني تبت إلي الله هانني ألتزم نصرة سنة النبي قولا وعملا حتى ألقى الله، فقال لي: دعني أفكر في هذا الأمر فقلت: إذا أرجع إلى السجن حتى تفكر. وكان الشرطي عند الباب فذهبت معه إلى السجن.(39/123)
أما أهل شفشاون فإنهم استنكروا هذا العمل كل الاستنكار، ولم يخافوا سطوة الأمير ولا سطوة الإسبانيين واجتمع خلق كثير منهم، فتوجهوا إلي مكتب الأمير ليبدوا له استنكارهم ويطلبوا منه إخراجي، فأمر الشرطة إن يصرفوهم، فصرفوهم ومن شدة إعجابهم بموقفي وثباتي أشاعوا أن الأمير عرض علي أن يطلق سراحي فامتنعت، ولعلهم فسروا اشتراطي ذلك الشرط عليه بالامتناع. ووجدت بخط يدي ما نصه أن سكان شفشاون قد قاموا وقعدوا لهذه الحادثة وأقاموا القيامة، وبلغ بهم الأمر إلي أنهم هجروا الجامع الأعظم في الجمعة التالية فلم يصل فيه أحد إلا الغرباء الذين يأتون إلى السوق، وذهب جماعة من المواطنين إلى طنجة واحتجوا على هذه الحادثة عند السفير الإسباني، وأذاعت إذاعة لندن [الخبر]، وقاطعوا الأمير بقدر جهدهم، فقد كانت لهم عادة في أوائل ربيع الأول أن ينادي المنادي في الناس بأمر من الأمير أن يجمعوا النقود لشراء ثور يذبحونه في اليوم الثاني عشر من هذا الشهر على القبة المدعوة سيدي علي بن راشد، ويبيتون ليلة الثاني عشر مع أمير المدينة ينشدون القصائد في المدح النبوي في تلك القبة إلى أواخر الليل، وبعد هذه الحادثة دخل ربيع الأول ونادى المنادي وكان شاتا فذهب الناس إلي أبيه، وقالوا له: كيف تترك ابنك يعين هذا الظالم الذي قبض على الدكتور يوم الجمعة بالمسجد الأعظم؟! فلام الرجل ابنه فقال: إني فعلت ذلك خوفا منه فقط وأنا أقول للناس بصوت منخفض: لا تفعلوا لا تفعلوا، ولم يتبرع أحد بفلس واحد لشراء الثور، فاضطر الأمير أن يشتريه من ماله الحرام وما ذبح لغير الله فهو جدير أن يشترى بمال حرام، ولم يشاركه أحد من أعيان البلد فيما يسمى عندهم بإحياء الليلة وهو في الحقيقة إماتة لها.
وهذا في زمن الاستعمار عمل عظيم ولا يستغرب مثله من سكان الشمال، فإن لهم مواقف مشرفة في محاربة الاستعمار ولا يتجرأ عليها سكان الجنوب ولولا خوف الإطالة لذكرت أمثلة من ذلك.(39/124)
وفي عصر ذلك اليوم وهو السبت 24 صفر 1366 هـ الموافق 17 يناير 1947م جاءني السيد عبد السلام بن محمد المؤذن، والسيد محمد العبودي وهما من خاصة تلامذتي من الشبان فدخلا علي في معتقلي وقال لي السيد عبد السلام: إنا جئنا ظهرا وكنا عند الأمير وبلغته أن والدي السيد محمد المؤذن ساخط كل السخط على معاملته لك، وقال: وقلت له أنا: أين الصداقة والأخوة التي بيننا كيف تقبض على أستاذنا وتخرجه من المسجد وتحبسه بصورة مخزية لك وتبقى بيننا وبينك مودة؟! فقال لي: يا سيدي عبد السلام هذا سر لا أستطيع أن أخفيه عنك ولا أستطيع أن أبوح به لغيرك، إن المراقب الإسباني هو الذي أمرني بالقبض عليه، وقد جاءه الأمر من تطوان بذلك، وأرجو أن تكتم على هذا الأمر ولا تخبره به فإن في ذلك خطرا علي منصبي، وغدا يوم الأحد ما فيه شغل وفي يوم الإثنين يكون عندكم في تطوان، فإن قلت: لماذا يخاف الأمير من السيد عبد السلام ووالده كل هذا الخوف؟ فالجواب، أنه كان له عيال كثير وكان مفلسا على الدوام فإذا أراد المستعمرون توزيع سلفة من الحبوب على الأهالي يطلبون منه ثمنها نقدا فلا ينقذه إلا السيد محمد المؤذن، فهو يقرضه المال الذي يدفعه للمستعمرين ثم يأكل هو اعثر تلك الحبوب ويوزع شيئا قليلا على أصدقائه وهذا أمر مألوف بين حكام الشعوب المستعمرة.
* الإنتقال إلى تطوان *(39/125)
مر يوم واحد وهو يوم تعطيل عند النصارى، يمنع حكامهم رعاياهم ورعايا البلدان الواقعة تحت حكمهم من العمل من بعد ظهر يوم السبت إلي صباح يوم الإثنين، حتى المستشفيات يعطل فيها الشغل ولا يفعل إلا ما هو ضروري لإنقاذ الحياة وكذلك المدارس والمحاكم ودور التجارة والمصانع إلا أن سكك الحديد والطائرات والمطاعم لا تعطل. ومن خالف هذا القانون واشتغل يعاقب عقابا صارما وليس العجب من النصارى إذا عطلوا يوم عيدهم المكذوب على المسيح فذلك دينهم، ولكن العجب كل العجب من سكان المستعمرات التي كان يحكمها النصارى كباكستان والمغرب والجزائر ثم استقلت منذ زمان طويل ومع ذلك ما تزال محافظة على سنة النصارى في تعطيل يوم الأحد وتعطيل أيام عيد الميلاد، وكذلك لم يزل هؤلاء وغيرهم محافظين على سنة النصارى في استعمال تاريخ النصارى وهجر تاريخ الإسلام حتى أن علماء الدين أنفسهم يكتبون إلى إخوانهم المسلمين يؤرخون لهم الكتب بتاريخ النصارى وللكلام على هذا موضع آخر وإنما هي نفثة مصدور.
وإنما قلت: إن جعل يوم الأحد عيدا للنصارى مكذوب على المسيح في جملة ما كذبوا عليه كأكل لحم الخنزير، وقولهم: إن الله ثلاثة أقانيم الأب، والابن، وروح القدس، لأن المسيح كان يعطل يوم السبت كسائر بني إسرائيل والأناجيل الأربعة طافحة بذلك، فلما تنصر الملك قسطنطين كره موافقة اليهود فنقل العيد من يوم السبت إلى يوم الأحد.(39/126)
أقول: مضى يوم الأحد علي في السجن لأنه لا عمل فيه وقبل فجر يوم الاثنين سمعت صوت المفتاح في القفل ثم فتح الباب، وقال لي الحارس: خذ ما تحتاج إليه من أمتعتك لأنك ستبارح هذا المكان، فأخذت اللبدة التي أصلي عليها ولم آخذ شيئا غيرها وخرجت من مبنى مكتب الأمير فوجدت حارسا آخر على الباب ينتظرني، فسلم علي بلطف وأدب غير معهود من حراس مكتب الأمير، وقال لي: اتبعني هاهنا، فتيممت وصليت الصبح لأن فرضي في تلك الأيام كان تيمما للمرض الذي كنت مصابا به، ثم رجع إلى الحارس وأخذني إلى السيارة وركب إلى جانبي فتوجهت السيارة إلى تطوان.
ولما نزلنا رافقني الحارس إلى مكتب (كاساس) وهو المراقب الإسباني الذي كان يتصرف في جميع شؤون الحكم في تلك الأيام وكان شديدا على المغاربة، وكنت أقول فيه باللغة الإسبانية:(كاساس كيقا أدستروير سوس كاساس) وهذا سجع لأن الكلمة الأولى والأخيرة لفظهما واحد ومعناها مختلف فالأولى علم على ذلك الحاكم الإسباني والأخيرة معناها بيوت أو ديار. ومعنى الجملة كاساس هو الذي سيخرب بيوتهم أي بيوت قومه الإسبانيين، وكذلك وقع فإنه بقي يحكم بأمره وأمر رؤسائه حتى فاجأه الاستقلال وخرج من تطوان خاسئا ذليلا. { فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } [الأنعام: 45].(39/127)
ولما جلست أمام كاساس قال لي: نحن متأسفون لهذا الحادث وقد اشترط عليك الحكام الذين كانوا قبلي أن لا تسكن في المدن الصغيرة لأن حكامها يتصرفون حسبما يظهر لهم. ولما كان هذا الحادث من شئون الدين الإسلامي، فنحن لا نحب أن نتدخل فيه وإنما ننفذ ما يحكم به القاضي والأمير، فقلت له: إنني لم أبلغ من الغفلة والجهل إلى الحد الذي تظنه فهذا الحادث بحذافيره منكم وإليكم، وتستركم بدين الإسلام وبالمسجد وبالقاضي والأمير لا يجديكم نفعا، وبرهان ذلك: أن هذه المسألة- وهي وعظ قراء القرآن أن لا يرفعوا أصواتهم ولا يقرؤوا جماعة- وقع منذ أكثر من خمسة أشهر واستمع القراء وقبلوا النصح وتركوا القراءة طوال هذه المدة، والأمير والقاضي يسمعان ويريان ولم يحركا ساكنا ولا نبسا ببنت شفة حتى أوعزتم إليهما بنصب هذا الشرك ولم تقتصروا عليهما بل أوعزتم إلى وزير العدل أن يحضر فتوى بذلك.
فقال لي: أنا آسف على تصورك هذا الذي هو ما تخيلته ولا نصيب له من الصحة، فقلت له؟ أنت حاكم تستطيع أن تجعل الصحيح باطلا والباطل صحيحا بالقول ولا يستطيع أحد أن يعارضك، ولكن الحقائق في نفسها ثابتة لا تتبدل قال لي: نحن لا نمنعك أن تسكن في شفشاون ولكننا لا نستطيع أن نضمن لك أن لا يتكرر مثل هذا الحادث، لأننا لا نستطيع أن نقيد أيدي الحكام المغاربة والإسبانيين عن التصرف طبق ما يرونه صالحا للبلد الذي يديرون شؤونه ثم قال لي: أنت حر طليق يمكنك أن تتصرف.
فكانت مدة إقامتي في السجن إلى أن أطلق سراحي ثلاثة أيام، ثم رجعت إلى الاستقرار في تطوان وبعثت أحد تلامذتي إلى شفشاون، وأرسلت معه رسالة إلى إخوة الزوجة أن يأتوا بها وبالأمتعة إلى تطوان.
*لماذا خذلني خليفة السلطان مولاي الحسن بن المهدي*(39/128)
كان من أسباب انتباه الإسبانيين إلي وإساءتهم لمعاملتي أن هذا الخليفة بعث إلي سيارته في الأسبوع الأول الذي قدمت فيه تطوان، وكنت في نادي الطالب المغربي مع أن المسافة بين النادي والقصر الخليفي لا تحتاج إلى سيارة ولكنه أراد إكرامي فركبت السيارة ووصلت إليه فرحب بي، وقال لي: لي أمنية لم تزل تختلج في صدري وهي إنشاء معهد للقرآن والحديث، ولكني لم أجد لهذا المعهد رجلاً كفؤا أطمئن إليه في تدبير شؤونه، حتى قدمت أنت وعلمت ما لك من الفضل والعلم والدين فأرجو أن تقيم عندنا في تجلة وإكرام ولا ترجع إلى ألمانيا لأن بلادك في حاجة إليك، فدعوت له وشكرته على حسن ظنه واعتذرت بأنني جئت لزيارة تطوان بقصد الرجوع إلي برلين، لأن لي علائق لابد من إنهائها فعاد إلى الإلحاح فقلت: أفكر في هذا الأمر، أما جواسيس الاستعمار فقد أسرعوا إلى الإسبانيين وبلغوهم هذا الاجتماع فحسبوا له حسابًا وفكروا وقدروا.
وكان ذلك سببا لأن دعاني مدير الشرطة العام إلى مكتبه، واستنطقني لمدة ثلاث ساعات كلها سين وجيم كما يقولون وعلى أثر ذلك انتزع مني جواز السفر، وقال لي: سأنقل ما فيه وأرده لك فكان ذلك آخر العهد به، ثم تلا ذلك ما تقدم ذكره من اتهام الإسبانيين لي بأنني مبعوث من الحكومة الألمانية للسعي في إخراج الإسبانيين من المغرب.
ولما رأى الخليفة الإسبانيين عاملوني بتلك المعاملة صرف النظر عما دعاني إليه. وتولى الإسبانيون أنفسهم تأسيس المعهد الإسلامي الأعلى.
وهذا الخليفة وإن كان مقيدًا بسلاسل الاستعمار فإنه كان متصفا بالشهامة والغيرة(39/129)
على الإسلام كما ستعرفه فيما بعد، إلا أن الوشاة من أعداء التوحيد والسنة بلغوه أني صرت من أتباع أمير العرائش السيد خالد الريسوني وكانت بينهما عداوة شديدة، وإن كان الخليفة في الظاهر هو نائب السلطان وهو الرئيس على جميع الأمراء إلا أن الاستعمار كان يسير على خططه المعوجة ومصالحه المنشودة وهو يعلم أن السيد خالد إدريسي النسب وكان أبوه قد ثار على الدولة العلوية والخليفة علوي، وللاستعمار مصلحة كبيرة في إثارة الحزازات والمنافسة بين الأدارسة والعلويين جريًا على قاعدة (فرق تسد) فلما بلغ الخليفة هذا الخبر قبله على علاته ولم يمحصه فلذلك خذلني عندما حبسني الإسبانيون.
ولما سمع خبر هذا الحادث الأمير خالد الريسوني رحمه الله كتب إلي بخط يده كتابًا يقول فيه: إنه قد بلغني ما جرى عليك مما صنعته أيدي المغاربة والإسبانيين فأسفت لذلك كثيرًا فهلم إلي فإني مستعد لحمايتك وإكرامك ما دمت مقيمًا في المغرب لا تصل إليك يد مغربي ولا إسباني، وإن أردت السفر إلى الشرق أوصلتك إلى أي مكان تريد، ولم يكن لي أحد أستشيره إلا عالم المغرب وأديبه العبقري في هذا العصر الأستاذ عبد الله كنون لثقتي بحصافة رأيه وإخلاصه النصيحة فاستشرته، فقال لي: لا تفعل إن لك عند أبناء قومك المغاربة من علو المكانة والقدر أكثر مما للأمير خالد الريسوني فاقنع بحماية الله، فأخذت برأيه وكتبت إلى الأمير خالد وشكرته واعتذرت عن قبول ما دعاني إليه، وعلم -بعد ذلك- الخليفة أن الوشاة خدعوه وأنني لم أكن من أتباع أمير العرائش ولا غيره، وإنما كنت ولا أزال إن شاء الله من المتبعين للنبي صلى الله عليه وسلم.
*طلب أمير شفشاون للصلح مرة أخرى*(39/130)
جاء أمير شفشاون إلى السيد محمد المؤذن رحمه الله واعتذر له بأن الإسبانيين أمروه بأن يقبض علي وأنه لم يزد على تنفيذ ما أمروه به، وأن ناسًا من المشركين والمبتدعين ومنهم الحسن العمرتي طلبوا منه أن يضربني ثلاثمائة سوط لأني أنكرت كرامات الأولياء، وطعنت في عقيدة الأشاعرة وأفسدت المذهب المالكي، فأبى أن يسمع قولهم احترامًا لعلمي وفضلي الذي يعتقده، وهو يطلب من السيد محمد المؤذن: أن يصلح بيننا فقلت للسيد محمد المؤذن: أنا لا أمتنع أبدًا من الصلح، ولكن بالشرط الذي شرطته عليه في مكتبه بشفشاون فبلغه ذلك، فلم يستطع ولكنه بقي مع ذلك مصرا على طلب العفو مني يتحين الفرص لذلك.
وفي يوم من الأيام ذهبت لزيارة الخليفة مولاي الحسن بن المهدي بارك الله في حياته، فسجبت اسمي وأمرت بالانتظار في مقصورة تسمى البنيقة، وكان هناك أناس غيري ينتظرون لقاء الخليفة فما شعرت إلا وقد هجم علي شخص وقبل رأسي، وقال لي: أيها الأستاذ أطلب منك المسامحة فإذا به أمير شفشاون اليزيد بن صالح، فلم أجبه بشيء، ولا شك أن هذا الرجل لم يكن خالياً من الخير بالمرة، وكان صادقاً في قوله: إن الإسبانيين أمروه بالقبض علي وقد طلب العفو مني ثلاث مرات إلا أن شرطي كان شاقاً عليه.(39/131)
وبعد عشر سنين من ذلك فقط جاء الاستقلال وذهب الاستعمال وذل من كان معتزاً به ووصل إلى الحضيض الأسفل بل قبل ثامني سنين فقط وفي سنة 1957 سافرت إلى المغرب ووجدت أمير شفشاون وأحد إخواننا وهو السيد العياشي العلمي فأكرمني غاية الإكرام، ووجدت الحسن العمرتي قد جلله الخزي ولزم بيته فلا يخرج منه، فألقيت درساً في المسجد الأعظم الذي قبض علي فيه افتتحته بقول الله تعالى من سورة القصص: { وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ } . [القصص: 5، 6]
ثم قلت: أين المراقب الإسباني أين اليزيد بن صالح وأعوانه أين الحسن العمرتي؟! أخني عليهم الذي أخنى على لبد { فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ * فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } . [الأنعام: 44، 45] قال تعالى في سورة النمل: { وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ * فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ * فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * وَأَنجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ } . [النمل: 50-53] وامتلأ المسجد الجامع كما يمتلئ يوم الجمعة وأنجز الله سبحانه وتعالى ما كنت أوعدت به الأمير السابق في القصيدة التي ستأتي في هذا الكتاب. قال تعالى في سورة غافر { إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ } . [غافر: 51]. اللهم اجعلنا من الذين آمنوا واتبعوا رسلك فنصرتهم على أعدائهم.(39/132)
* * *
*عاقبة أمير شفشاون اليزيد بن صالح*
نقل الإسبانيون هذا الأمير لإخلاصه في خدمتهم إلى إمارة مدينة تطوان، وهي عاصمة الشمال مكافأة له على إخلاصه لهم فلما جاء الاستقلال زار الملك المظفر محمد الخامس مدينة تطوان، فجاء اليزيد وأخذ يطوف على المستقبلين، ويقول: أين اللبن أين التمر؟ ومن عادة المغاربة أن يستقبلوا كل ضيف عزيز باللبن والتمر. فجاء جماعة من الوطنيين المجاهدين وقالوا له: أيها الخائن بالغت بك الوقاحة إلى أن تأتي إلى هنا! بأي وجه تستقبل الملك أبالوجه الذي خدمت به الاستعمار؟! وحملوه في الهواء وألقوه بعيدًا فأصابته رضوض ودخل بيته ولم يخرج منه إلى أن مات.
وينبغي أن أثبت هنا القصيدة التي أنشأتها في هجوه، لا حقدًا عليه لأن طلبه المتكرر بالعفو يلين القلب القاسي هذا مع أنه كان أميرا، وأنا رجل غريب لا ناصر لي إلا الله، ولكن لما فيها من العبر فقد أنطقني الله فيها بأمور وقعت كلها في المستقبل القريب كأني كنت أنظر إليها:
يزيد لئيم الطبع خب منافق ... على صورة الإنسان وهو مريد
من النكر يدنو حيث سارت ركابه ... وأما من المعروف فهو بعيد
وما كان يوماً زائداً في فضيلة ... ولكن يزيد في الفجور يزيد
ضعيف متى يدعو إلى فعل صالح ... ولكنه في السيئات شديد
فإن كان حقاً ما دعوه ابن صالح ... فما رأيه في الصالحات سديد
يحارب دين الحق من أجل شقوة ... ويبدئ في إجرامه ويعيد
كلام رسول الله أعدى عدوه ... متى يسمعنه فهو عنه يحيد
وإن قلت: قال الله زاد نفوره ... وأدبر -يدعو- ويله ويميد
ولا غرو فالجعلان يجلب حتفها ... شذا المسك مما نالها فتبيد
يضل بذكر الله من حان حينه ... ويهدي به للصالحات رشيد
ومن رام يطفي بالجهالة نوره ... فذلك غمر للمحال يريد
وأهل حديث المصطفى من يعادهم ... ينله عذاب واصب ووعيد
فهم أولياء الله والله مؤذن ... معاديهم بالحرب وهو شهيد
وكم جاهل أمسى بحاول حربهم ... فباء بخزي ما عليه مزيد(39/133)
فقل لتشقى بالوعيد مكذب ... أتاك وبال ليس عنه محيد
وكم صالح ولى وخلّف خلفه ... غوياً، صروح الموبقات يشيد
أتغتر بالإمهال تحسب أنه ... -لك الويل- إهمال فأنت بليد
سيأتيك يوم عن قريب حسابه ... عسير وأخذ المجرمين شديد
فأبشر بخزي ما حييت وإن تمت ... تلاق الذي لاقى أخوك يزيد
ولو كان ذا فضل لهانت مصيبة ... ولكن جهول فاجر وعنيد
ولولا الشقا ما غره ظل منصب ... ولا عدد من خادميه عديد
فلا منصب إلا سراب بقيعة ... وإن كان ملكاً قد حمته جنود
تفرعنت يا مغرور في حكم قرية ... غدوت بها للصالحين تكيد
لصيد ضعاف قد نصبت حبائلاً ... وكم صائد قد عاد وهو مصيد
ومنذ رآك الناس فيها تشاءموا ... بشر ونحس لا يزال يزيد
ولو كنت براً لم تطل لك مدة ... ولكن عهد المجرمين مديد
*بين اليزيد والملالي*(39/134)
بعد حادثة السجن اجتمع اليزيد بن صالح أمير شفشاون بالملالي أمير القصر الكبير حيث زار الأول الأخير في قصره، فقال أحد جلساء الأمير الملالي يخطاب اليزيد: جزاك الله خيراً على ما فعلت بعدونا الهلالي، إن عملك معه يعد جهاداً في سبيل الله، فإنه أنكر على سيدي أحمد التجاني وأهل طريقته ويحكم عليهم بالضلال، فسكت اليزيد وقال له الملالي: لا تظن أن هذا -وإن كان من جلسائي- يعبر عن رأيي فإني أعتقد أنك قد فعلت أمراً قبيحاً شنيعاً لا يرضى به أحد له دين أو مروءة ولا ينبغي للأمير أن يضعف أمام الإسبانيين إلى أن يصير آلة في يدهم يطيعهم في كل ما يأمرون، فلا بارك الله في الإمارة التي توصل إلى مصل ذلك، لا تظن أني أقول هذا محبة له فإني أعاديه كما يعاديه كل تجاني قرأ مقاله في صحيفة الحرية الذي ترجم له بقوله (كيف خرجت من الطريقة) وقد أقام في القصر الكبير أربعة أشهر فلم أستطع أن أتعرض له بسوء وهو في قبضتي وتحت يدي، لأن الذي يقول: قال الله قال رسوله يغلبني، كيف سمحت لك نفسك أن تقبض على رجل يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت من بيوت الله؟! إنني لم أفعل ذلك ولو أفضى بي الأمر إلى أن أتنازل عن الإمارة.
*شكر أهل شفشاون في قصيدة من بحر الطويل*
جزى الله شفشاون بخير ونعمة ... ونجاهم من كل شر ونقمة
وصانهم من كيد كل منافق ... لئيم خؤون هاتك كل حرمة
مطاعين في الهيجا ميامين في الندى ... أكارم شجعان مصابيح ظلمة
هم نصروا الدين الحنيف وعظموا ... حديث رسول الله خير البرية
وقالوا لداعي الحق لبيك إذ دعا ... وقالوا لداعي الشر أبشر بخيبة
ولم يرهبوا في الله لومة لائم ... ولا بطش خصم موعد بالأذية
إذا سمعوا قول الرسول تفتحت ... قلوبهم للحق في كل لحظة
أناس تولى الله شرح صدورهم ... وطهرها من كل رجس وبدعة
ومن شرح الرحمن للحق صدره ... فلن يظفر الشيطان منه بنزغة
ومن ينصر القرآن والسنة التي ... أتت عن رسول الله يحظى بنصرة(39/135)
ولا بد أن يلقى شدائد جمة ... كما لقي المختار في بطن مكة
وأصحابه الغر الكرام ومن قفا ... سبيلهم المثلى يعزم وقوة
وعقابهم فتح ونصر مؤزر ... ومن شك في هذا اقتفى أهل ردة
وقد مست البأساء خير صحابه ... وقالوا متى يا رب نحظى بنجدة
أجابهم الله الكريم ألا اصبروا ... تنالوا قريبا جل نصر وعزة
وذي سنتي في الأصفياء جميعهم ... ومن ذا الذ يسطيع تبديل سنتي
ويا أهل شفشاون سلام عليكم ... ستبلغكم طول الحياة تحيتي
وأذ كركم بالخير في كل مجلس ... وإن كنت في بغداد أو أرض بصرة
وإن كان فيهم من يخالف نهجهم ... فكل أناس مبتلون بسفلة
ولو كان فيالدنيا أناس جميعهم ... خيار لما كانواسوى أهل طيبة
ولا سيما والمصطفى في ديارهم ... سراج محت أنواره كل دجنة
لعمري لنهم القوم جر عليهم ... بما لا يؤاتيهم تيوس مظلة
أراذل عبادون للمال والهوى ... وما وردوا إلاموارد حمأة
وقد عجل الله العزيز عقابهم ... فصب عليهم قومهم كل لعنة
بهم تضرب الأمثال في كل مجلس ... فصاروا كبعران أصبن بحكة
وهم يدعون العلم والعلم منهم ... مناط الثريا من كسير بحفرة
وهم يسترون الجهل، والجهل فيهم ... مبين وهل تخفي ذكاء بخرقة
فيا معشر الإسلام طرا تمسكوا ... بهدي رسول الله أفضل عدة
فذاكم سلاح لا يفل غراره (1) ... به تهزم الأعداء في كل وقعة
ولن تسعدوا والله إلابقفوه ... بصدق وإخلاص وعزم وقوة
فلو قام كل الناس مثل قيامهم ... كأسلاف لنا ... لصرنا كأسلاف لنا خير أمة
ونلنا الذي نبغي من المجد والعلا ... وألبسنا الرحمن أثواب عزة
ورد لنا ذو الفضل غابر فخرنا ... وطهرنا من كل رجس ووصمة
ألا فابذلوا الأرواح والمال دونه ... وأحيوه تحيوا في هناء وغبطة
ووالوا عليه من يعظم أمره ... وإن كان منكم ذا بعاد وشقة
وعادوا معاديه جميعا وإن أتوا ... وأدلوا بقربي أوبعظم مودة
فإن شئتم ذا فالمجادلة اقرؤوا ... وفي توبة تحظوا بأعظم حجة
__________
(1) الغرار: حد السف.(39/136)
وما نحن إلا خادمون لسيد ... حباه إله الناس أفضل رتبة
وما قيمة الأرواح إن لم تكن له ... فداء وتفدي بعده خير سنة
وما قيمة الأموال إن لم ننل بها ... رضى راحم للخلق في يوم كربة
فكن عابداً لله لا تدع غيره ... بوقت رخاء أو بأوقات شدة
وسر في ركاب المصطفى بتواضع ... وصدق تفز منه بقرب وخدمة
فخادمه بالصدق لا شك مفلح ... وتاركه لا شك هاو بهوة
عليه صلاة الله ثم سلامه ... وأصحابه من بعد آل وعترة
صلاة تدوم الدهر ما قال قائل ... حديث رسول الله ذخري وحجتي
*كيف كانت عاقبة وزير العدل*
لما أحس بالاستقلال ضاقت عليه الأرض بما رحبت كما قال المتنبي:
وضاقت الأرض حتى كان هاربهم ... إذا رأى غير شيء ظنه رجلا
فدخل بيته واختبأ فيه إلى أن مات وقد قلت في هجوه قصيدة ولكني لم أنشرها إلا بعد أن تولى الاستعمار وهي هذه:
دعوك وزير العدل بل أنت وازر ... ويبرأ منك العدل إذ أنت فاجر
نعم أنت ذو عدل عن الحق والهدى ... إلى الزور والبهتان إذ أنت خاسر
وأنت للاستعمار خير مطية ... بخدمته في كل حين تجاهر
ومالك من دين متين ولا حيا ... ولا شرف يثنيك عما تباشر
ترأست في فتوى القراءة عصبة ... دعاكم إلى البهتان والزور ماكر
على الله والمختار والشيخ مالك ... مذبتم وعقبى الكاذبين فواقر
فضحكتم في الرد شر فضيحة ... فسوآتكم بانت ولم يبق ساتر
ألا يا وزير العدل أصبحت عادلاً ... بربك في الفتوى التي أنت ساطر
رددت حديث المصطفى أكرم الورى ... وخالفته عمداً كأنك كافر
فقد قال لا يجهر على غيره امرؤ ... إذا ما تلا القرآن فالكل ذاكر
رواه أبو داود في السنن التي ... عن المصطفى قدماً روتها الأكابر
ومثله في المعنى روى الحبر مالك ... بإسناده سمطاً زهته الجواهر
وخالفت ما قد قاله قبل مالك ... وأصحابه في كتبهم ذاك ظاهر
وأقبح من هذا وذلك أنه ... دعاك إلى ذاك العدو المشاجر
فبدلت دين الحق من أجل منصب ... تخاف عليه إن جدك عاثر(39/137)
ظننت للاستعمار خلداً مؤبداً ... فلا فجر يبدوا بعدما جن كافر
فما هي إلا جولة ثمن انجلى ... وأشرق وضاح من الفجر باهر
فأسقيت كأس العزل وهي مريرة ... وكم بكؤوس العزل شقت مرائر
وأصبحت من خزي ببيتك قابعاً ... كأنك في قبر وما ثم قابر
*تبديل الدراهم في البنك*
لما عزمت على السفر إلى العراق كنت قد ادخرت عشرة آلاف بسيطة أتزود بها في سفري قافلاً إلى أهلي في العراق، فعرضت لي مشكلة وهي تبديل الدراهم الإسبانية بالجنيه المصري، فقد كان سعر الجنيه الرسمي حسب النقد الأجنبي الذي بيد الحكومة أربعين بسيطة لكل جنيه أما في السوق السوداء فالجنيه الواحد يساوي مائة وعشرين بسيطة.
*في مكتب كاساس مرة ثانية*
كتبت عريضة وأخذتها إلى كاساس ضمنتها طلب تبديل عشرة آلاف بسيطة في البنك بالسعر الرسمي، ولم أطلب منه إحسانًا ولا معروفًا لأن هذا حق لكل مستوطن من المغاربة، فلما قرأ العريضة عبس وبسر وقال لي: نحن لسنا مغفلين نساعد الناس على السفر إلى الشرق ليكتبوا مقالات في صحف مصر كلها طعن وتشنيع علينا فقلت له: أنا ما ذهبت إلى الشرق بعد ولا كتبت مقالات طعنا فيكم، ولكنه كان يعرف ما يقول وكان صادقًا فإنه كان يشير إلى المقالات التي نشرتها في صحيفة الإخوان المسلمين، ثم قال لي: إن لم تفعل ذلك أنت فعله غيرك ولست بخير منه.
فانصرفت من عنده وذكرت ذلك للأخوين الصديقين المخلصين السيد محمد المؤذن رحمه الله والحاج عبد السلام حسين أطال الله حياته، فقال لي الحاج عبد السلام: لماذا لا تذهب إلى الخليفة وتلتمس منه أن يأمر الإسبانيين أن يبدلوا لك هذه البساسيط بالسعر الرسمي؟ فقال له السيد محمد المؤذن: إن الخليفة لن يصنع شيئا فدعه يبدلها في السوق السوداء ويفوض أمره إلى الله، فقال الحاج عبد السلام حسيسن: أما أنا فأنصح له أن يتوجه إلى قصر الخليفة ويلتمس منه ذلك فإن استجاب فبها ونعمت وإن لم يستجب فلا ضير عليه في زيارته.(39/138)
فتوجهت إلى قصر الخليفة واستأذنت عليه فأذن لي قبل جميع الحاضرين الذين جاؤوا لزيارته وسجلوا أسماءهم فاستأذنته في السفر، والتمست منه أن يكتب إلى الإسبانيين ويأمرهم بتبديل ما عندي من الدراهم بالسعر الرسمي، وقلت له: هذا الطلب مقيد بشرط وهو أن لا يتعرض مقامكم الرفيع لتنقص عند الإسبانيين فقال لي بانفعال: لعنة الله على الإسبانيين، أنا لا أبالي بتنقص مقامي عندهم وإنما أريد أن يكون مقامي عاليًا عند الله وعند المؤمنين، ثم ضغط على زر الجرس فجاء حارس فقال: أين أبا سيدي يعني أخاه الكبير السيد محمد فقال له: يا مولاي إنه ركب منذ ساعة سيارته وخرج، فقال: ادع لي الكاتب العام أحمد بن البشير فدعاه فقال له: اكتب إلى المقيم العام إن الدكتور محمد تقي الدين الهلالي غاب عن أهله في العراق مدة طويلة، وهو يريد الرجوع إلى أهله وعنده عشرة آلاف بسيطة فأبدلها بالجنيه المصري حسب السعر الرسمي، وكان قد قال لي أول ما سلمت عليه واستأذنته في السفر: لن آذن لك حتى تعدني أنك ترجع إلينا فإنني لا أحب أن تكون بلادي خالية من رجل مثلك فشكرته على هذه المجاملة، وانتظرت قليلاً في مكان آخر حتى جاءني الكتاب فأخذته إلى المقيم العام الإسباني، فاستأذنت ودخلت على نائبه فقال لي: ليس عندنا نقد أجنبي في هذه الساعة فإن كنت تقدر أن تنتظر نبدله لك. وقلت له: أنا لا أنتظر إما أن تبدله لي الآن أو أبدله في السوق السوداء فقال لي: ارجع إلى بعد ثلاثة أيام فرجعت إليه فكتب لي كتابا إلى كاساس الحاكم الإسباني الذي تقدم ذكره.
*في مكتب كاساس مرة ثالثة*
فلما أخذت الكتاب من نائب المقيم العام وتوجهت إلى كاساس قلت في نفسي: هل يصر على جوابه الأول ويعصي أمر رؤسائه أو يخضع لهم ويتناقض؟ فلما وصلت إليه قدمت له الكتاب فقرأه وكتب لي كتابا إلى البنك يأمره بتبديل الدراهم ولم ينبس ببنت شفة.
*في السفارة الإنكليزية*(39/139)
لما حصلت على سمة الدخول إلى لبنان بعثتها إلى السفارة المصرية في مدريد عاصمة إسبانيا، فبعث إلى إذنًا بالدخول إلى مصر والإقامة خمسة عشر يوما ويسمى هذا إذن مرور، ثم فكرت في السفر بطريق البحر لأن أجور السفر أقل فذهبت إلى السفارة الإنكليزية وطلبت لقاء السفير، فأعطيت ورقة طلب مني أن أكتب فيها اسمي والغرض الذي جئت من أجله فلم يأذن لي السفير الإنكليزي، ولكني دعيت إلى مكتب نائبه وكان يهوديا يونانيا فقال لي وكان الكلام بالإنكليزية: أنت كنت في إذاعة برلين وقد أذعت أحاديث كثيرة في محاربة بريطانيا وكنت تأخذ من الجرمانيين أجرا على ذلك، فقلت: أما قولك: إني أذعت أحاديث كثيرة في محاربة الاستعمار البريطاني على منبر إذاعة برلين العربية فهو حق ولست نادما عليه ولا معتذرا منه، لأني كنت أدافع عن وطني كما كان البريطانيون يدافعون عن وطنهم فإن بريطانيا كانت حليفة لعدوتنا فرنسا، وحليف العدو عدو فإن كان دفاع البريطانيين عن وطنهم مما يلامون عليه وجب عليكم أن تلوموا أنفسكم قبل أن تلوموني وإن كان الدفاع عن الأوطان من الواجبات المحمودة فكيف تلوموني عليه، وأما قولك أني كنت آخذ على تلك الأحاديث فهو وهم باطل، بل كنت أدفع أجوزا على تلك الأحاديث وأرتكب أخطارًا في إذاعتها.
فقال لي: كيف تدفع أجوزا عليها ومن كان يأخذ هذه الأجور؟
فقلت: كان مدير الإذاعة قد اشترط علي أن لا أذيع حديثا إلا بعد أن أترجمه باللغة الألمانية، وأعد أربع نسخ من الترجمة تقدم إلى أربعة مكاتب فإذا وافق رؤساء تلك المكاتب على إذاعة ذلك الحديث أعطيت إذنًا بإذاعته وهذه الترجمة وكتابتها على الآلة تحتاج إلى كاتبة جرمانية وهذه الكاتبة لابد لها من أجر. وأما ارتكاب الأخطار فإني كنت أركب قطار النفق أعني القطار الذي يجري تحت الأرض مسافة نصف ساعة أحيانا في الليل والثلج ينزل وأتعرض للقنابل التي كنتم تلقونها على برلين حينًا بعد حين.(39/140)
فقال لي: وما غرضك؟ فقلت: أريد أن تعطيني سمة المرور على جبل طارق لأركب منه في البحر إلى الإسكندرية فقال لي: إن حكومة جبل طارق هي التي لها الحق أن تسمح لك بالمرور فاكتب إلى الشركة التي تريد السفر في بواخرها وائتنا بالجواب، فكتبت إلى شركة إنكليزية فجاءني الجواب فذهبت به إليه وأطلعته عليه فقال لي: عين لنا موعد سفر الباخرة من جبل طارق فكتبت إلى الشركة، فجاءني الجواب بأنها لا تستطيع أن تعين لي يوما بعينه على سبيل التحديد ولكن إذا وصلت إلى جبل طارق يمكن أن تسافر في مدة لا تزيد على الأسبوع، فامتنع نائب السفير من إعطائي سمة الدخول إلى جبل طارق إلا إذا عينت له اليوم الذي أسافر فيه، وقد ظهر أنه أراد المنع ولكنه أبى أن يصرح به وأراد أن يعذبني بالمماطلة والتردد عليه، فعدلت عن السفر بطريق البحر وكان ذلك خيرا، فإني سافرت بالقطار إلى مدريد وبالطائرة من مدريد إلى القاهرة بعد أن أخرت سفري شهرين.(39/141)
ولما كنت أتحدث مع نائب السفير كان جالسًا إلى جانبه رجل مغربي لا يدل زيه وهيئته على أنه يعرف الإنكليزية فسألت عنه فقيل لي: هذا السيد أحمد الرزيني، وكنت أعرف أخاه السيد عبد القادر الرزينى وبيتهما من أشرف بيوتات تطوان، وأهل هذا البيت من أصحاب الحمايات الإنكليزية التي وقعت في زمان ضعف الدولة المغربية، فإن التجار كانوا يخافون على أنفسهم من ظلم الحكام المغاربة فيحتمون بحمايات أجنبية، فتكلم السيد أحمد الرزيني أمام الحاضرين وقال لي: جزاك الله خيرا على ذلك التوبيخ الذي وبخت به ذلك المجرم اليهودي، ما أحد شفى قلبي منه إلا أنت ثم أطنب في مدحي عند الحاضرين وقال لهم: هذا الأستاذ بقي نصف ساعة يوبخ ذلك الخبيث بلغة إنكليزية فصيحة، فأنتم تعرفونني أنا لا أخالط الفقهاء ولم أحترم فقيهًا مثل ما احترمت هذا الفقيه فهكذا يكون الفقهاء وإلا فلا، وقال لي: إذا عزمت على السفر ولم يبق على سفرك إلا ثلاثة أيام أرجو أن تلقاني، فظننت أنه يريد أن يبعث معي شيئا لابن أخيه الذي يدرس في مصر.
فلما حان وقت سفري لقيته بالمسجد الأعظم ومعي كاتبي السيد محمد بن فريحة فقلت له: أخبر السيد أحمد الرزيني أنني بعد يومين مسافر إن شاء الله فأخبره، فجلس وأدخل يديه كلتيهما تحت جلابته وسمعت خشخشة واستمر على ذلك نحو خمس دقائق ثم أخرج يده وفيها ألف بسيطة فناولني إياها، وقال لي: هذه هدية للعلم الشريف أرجو أن تقبلها، فلما أخبرت الناس بذلك لم ينقض عجبهم منه وقالوا كلهم: إن هذا الرجل ما رأيناه يتبرع بشيء لأي مقصد من مقاصد البر ولو سأله السائلون وألحوا عليه، هكذا قالوا والعهدة عليهم ولا شك أنه تأثر كثيرا بالجدل الحاد الذي وقع بيني وبين نائب السفير الإنكليزي.
*حادثة أصيلا*(39/142)
كان من عادتي أن أسافر إلى أصيلا يوم الأربعاء بعد الظهر وأمكث فيها إلى الصباح من يوم السبت للقاء إخواني الموحدين وتذكيرهم وتجديد العهد بهم، وكانت مجالسنا في بيوت الإخوان ولم ألق درسًا في أي مسجد من مساجد تلك المدينة خوفا من الدخول في مشاكل مع المستعمرين يستعصى حلها، لأني أعلم يقينا أن صدور حكام تطوان مملوءة حقدا علي وأنهم يتربصون بي الدوائر، فإذا أصابني شر من حاكم صغير كالمراقب المدني في أصيلا يتخذونه سببًا للتنكيل بي، ولما دنا وقت سفري إلى مصر توجهت يوم الأربعاء على عادتي إلى مدينة أصيلا وفي يوم الخميس قال أحد إخواننا: لماذا لا تلقي درسًا في المسجد الأعظم ليعم النفع؟ فاختلف الإخوان بين مستحسن لذلك ومتخوف منه ثم توكلت على الله ورجحت إلقاء الدرس، فلما شرعت في إلقائه امتلأ المسجد الأعظم حتى لم يبق فيه مجلس لأحد ولم ينقطع سيل القاصدين إلى المسجد الأعظم فامتلأ صحن المسجد فبلغ الجواسيس حاكم تلك المدينة الخبر.
وفي صباح يوم الجمعة عزمت على السفر قافلاً إلى تطوان في الصباح مبكرا فبينما أنا واقف انتظر السيارة إذا بشرطي يهمس إلى قائلاً: إن الحاكم الإسباني بعثني لآخذ منك جواز السفر ليطلع عليه، وكان معي أربعة من الإخوان جاءوا لتوديعي فأنفوا لذلك، وقالوا له: هذا رجل مغربي والمغاربة لا يحملون جواز السفر في وطنهم وطردوه، فحضرت السيارة وسافرت.(39/143)
وبعد ذلك علم إخواننا بواسطة شرطي مؤمن أن الحاكم الإسباني عزم أن يقبض علي حين أجيء في يوم الأربعاء التالي فانطلق إلى الإخوان وأخبرهم، فبعثوا إلي كتابًا يحذروني من المجيء إلى أصيلا ويخبروني بما عزم عليه الحاكم الإسباني ولم يصل ذلك الكتاب إلا في صباح يوم الأربعاء، وكنت أبعث الكاتب كل يوم إلى صندوق البريد فيجيئني بما يجده فيه إلا في صباح يوم الأربعاء فإنني لم أبعثه وسافرت إلى أصيلا وأنا جاهل ما يراد بي، لكن الإخوان من شدة حزمهم خافوا أن لا يصلني الكتاب وأتوجه إلى أصيلا كعادتي فبعثوا سيارة تنتظر في إحدى محطات الطريق على مسافة خمسة وعشرين ميلاً فلما وصل الأتوبوس إلى تلك المحطة رأوني فأشاروا إلي بالنزول وأخذوا أمتعتي ووضعوها في السيارة الصغيرة، وكنا في شهر رمضان فسارت بنا السيارة في طريق غير الطريق المعهود حتى وصلنا إلى بيت أحد الإخوان في مدينة أصيلا.
أما الحاكم الإسباني فقد بعث إلى محطة الأوتوبوس بأصيلا ستة من الشرطة ومعهم عريف وأمرهم أن يقبضوا علي ويأتوا بي إليه وكان الشرطي المؤمن أحد الستة، فلما جاء الأوتوبوس أحاطوا به وراقبوا المسافرين فلم يجدوني معهم فرجعوا إلى الحاكم الإسباني وأخبروه أنني لم أجئ.
أما الشرطي المؤمن فإنه جاءني في البيت الذي كنت أفطر فيه وأخبر الجماعة، فضحكوا كثيرا وحمدوا الله على سلامتي، ولما فرغنا من العشاء وصينا العشاء أحضروا السيارة فركبتها إلى محطة القطار ومنها سافرت إلى القصر الكبير فنجوت من تلك المكيدة بفضل الله ثم بحزم الإخوان وشجاعتهم.
*السفر إلى مجريط ثم إلى القاهرة*(39/144)
مجريط هو اللفظ الذي كان يطلقه المسلمون على مدينة مدريد حين كانوا يحكمون تلك البلاد مئات السنين. سافرت بالقطار إلى مدينة مجريط ونزلت عند صديقي عبد الرحمن ياسين، واشتد علي مرض الربو فنقلني إلى المستشفي وزارني فيه إخواني من المغاربة، وزارني أيضا داعية القاديانية فناظرته وأنا على فراش المرض، وبعثت جواز سفري إلى السفارة المصرية لتنظر فيه هل يحتاج إلى تجديد إذن، فقال الموظف المختص: إنه صالح للسفر إلى مصر وإقامتي خمسة عشر يوما.
ثم سافرت بالطائرة إلى القاهرة ونزلت في مطار ألماظة قبيل وقت العشاء فعرض المسافرون أجوزتهم على الكاتب المختص فختم عليها وردها إليهم، فما رأى جوازي قال لي: اجلس فجلست حتى فرغ من أجوزة المسافرين فالتفت إلي، وقال: إن مدة السمة التي أعطيتها وهي خمسة عشر يومًا قد انقضت فيجب أن ترد إلى مجريط، فقلت له: إنني بعثت جواز السفر أمس فقط إلى السفارة المصرية في مجريط، فقال قائلها: إنه صالح والمدة ينبغي أن تعتبر من يوم وصولي لا من يوم تاريخ السمة لأني بعثته من تطوان إلى مجريط، ثم بعث إلى وهذا وحده يستغرق عشرة أيام، فقال لي: لا تطل الحديث فإنما أحكم برأيي لا برأيك فقلت له: أريد أن أصلي المغرب والعشاء فأمر شرطيا أن يرافقني ويدلني على مكان الوضوء والصلاة.(39/145)
وتوضأت وصليت المغرب والعشاء ودعوت الله في سجودي أن ينقذني من هذه المحنة الجديدة، لأنني إذا رددت إلى مجريط لا أجد ما أسافر به من الدراهم ولما فرغت من صلاتي رجعت إلى الكاتب فقال لي: عندك دراهم قلت: عندي حوالة بـ 147 جنيها قال: أرنيها فأريته إياها فأخذ يفتح الهاتف على رؤسائه ليستشيرهم في أمري فلم يجد أحدا منهم لأن ذلك اليوم كان التاسع والعشرين من رمضان وقد انصرف كبار الموظفين إلى إجازة العيد، ثم فتح التليفون على موظف كبير حسب ما فهمت من محادثته معه، فقال له يا سيدي: أرجو المعذرة إذا أزعجتكم لأني لم أجد أحدا من الموظفين في مكتبه عندي راكب مغربي معه جواز سفر وفيه تأشيرة مرور منتهية، ويدعي أنه عرضها على الكاتب المختص أمس في السفارة المصرية بمدريد فقيل له: إنها كافية وأنا أعتقد أنه من الصالحين، فقال له: افتح الهاتف على العروسي فإن لم تجده فأعطه أنت فيزة مرور.
فلما سمعته يقول: إنه يعتقد أنني من الصالحين استبشرت، وأملت خيرا وحسن ظني به، وزاد حسن ظني حين رأيت شرطيا جاءه بالسحور فعلمت أنه يصوم رمضان والصائمون حتى في ذلك الزمان قليلون.
فتح الهاتف على العروسي فلم يجده فأخذ يكتب لي سمة الدخول وقال لي: أريد منك عشرة قروش فقلت: ما عندي نقود مصرية فدعا شخصا موظفا يبيع الطوابع فقال: أعطني عشرة قروش طوابع مجانا فأبى فقال له هل تريد أن نرد رجلاً من هنا إلى مدريد لأجل عشرة قروش؟ فقام هو وغاب قليلاً وجاء بالطوابع فلا أدري أدفع ثمنها من عنده أم وجدها بطريق آخر ثم ناولني الجواز فقلت: جزاك الله خيرا فركبت السيارة. فلما وصلت إلى الفندق قلت: لصاحب السيارة ما عندي نقود مصرية سألتمس من صاحب الفندق أن يقرضني ما أعطيك إياه فقال لي تنازلت عن الأجرة. فانفرجت الأزمة ببركة المحافظة على الصلاة في وقتها.
*الإقامة بالقاهرة*(39/146)
أقمت بالقاهرة اثني عشر يوما لقيت في أثنائها كثيرا من الأصدقاء منهم أخونا الداعية السلفي الشيخ حامد الفقي رحمة الله عليه، فأكرمني كعادته ولقيت المجاهد العظيم الأمير محمد بن عبد الكريم الخطابي وقد تقدم ذكره ذلك. ومن أجل من لقيته في تلك الأيام المجاهد العظيم سماحة الأستاذ السيد الحاج أمين الحسيني، وكان آخر عهدي به في ربيع سنة 1942 حين بعثني إلى المغرب لغرض سياسي فيه مصلحة للمسلمين على أن أرجع إلي فمنعت من الرجوع كما تقدم، وكانت المراسلة مستمرة بيني وبينه إلى أن انهزمت ألمانيا وفر إلى سويسرا ثم إلى مصر وأنجاه الله من كيد أعدائه، كما أنجاه من قبل حين فر من بغداد إلى طهران ومن طهران إلى اليابان، وكان الإنكليز ومطاياهم في العراق قد جعلوا لكل من يأتيهم به حيًا أو ميتًا عشرة آلاف دينار فنجا بأعجوبة بمساعدة السفارة اليابانية حتى وصل إلى برلين.
ومع أني كنت في تطوان أحصل على القدر الذي أعيش به من المال من الأسباب التي ذكرتها من قبل فإنه كان يبعث لي النقود الكثيرة مرة بعد مرة، فلما زرته فرح بي فرحا عظيما وأقام مأدبة دعا إليها خمسين من رجال العلم والسياسة ولما أردت أن أودعه دفع إلي غلاما وقال: اقرأه في منزلك فلما وصلت إلى الفندق وجدت فيه مائة جنيه. وكان قد عرض علي ونحن في برلين أن يجعل لي كاتبا على نفقته فشكرته وقلت له: إن عندي كاتبا وأنا في سعة من المال فقد كان مجموع الرواتب التي كنت آخذها في برلين بكدي وعملي ألفا وأربعمائة مارك (1400) وذلك يعادل ألفا وسبعمائة وخمسين ريالاً في ذلك الزمان أي قبل ثلاثين سنة.(39/147)
والحاج أمين الحسيني رجل عظيم مهما بالغ أعداؤه في القدح وخلق العيوب له فلن يستطيعوا أن ينقصوا شيئا من عظمته وحسبك دليلاً على ذلك أن هتلر كان يجله، وقد التجأ إلي ألمانيا رجل عربي عظيم ومجاهد كبير وعالم متضلع ألا وهو رشيد عالي الكيلاني وأجله الألمانيون وأكرموا مثواه ولكن منزلة الحاج أمين عندهم لم يبلغها أحد.
*الصدق منجاة والكذب مهلكة*
وقعت لي في أسفاري الكثيرة حوادث ووقعت في أزمات لولا خوف الإطالة وكراهية الخروج عن الموضوع لذكرت بعضها، وفيه العجب العجاب لكني أقتصر على هذه الحادثة وليست من أغربها.
لم يسمح لي القانون المصري أن أخرج من مصر أكثر من عشرين جنيها، فتركت ما عندي من الدراهم عند الدكتور الحبيب ثامر والسيد حسين التريكي وهما مجاهدان تونسيان وقع بيني وبينهما قصة في التعاون على محاربة الاستعمار ليس هذا محل ذكرها، على أن يبعثا لي تلك الدراهم حين تسنح لهما الفرصة، لكني عندما توجهت إلى مطار ألماظة أخذت معي خمسين جنيها فناولني المفتش صحيفة، وقال لي: أكتب لي القدر الذي عندك من النقود فكتبت خمسين جنيها، فقال لي: إن القانون لا يسمح لك إلا بعشرين فقلت له: قبل إثني عشر يوما دخلت مصر ومعي 147 جنيها ولم أنفق في هذه المدة إلا قليلا لأني كنت ضيفا عند أصدقائي، وهم كثر فهل يعقل أني أنفقت في هذه المدة القصيرة 127 جنيها ولم يبق لي إلا عشرون؟ فنظر إلى جواز السفر فوجد مدة الإقامة إثني عشر يوما كما ذكرت له فقال لي: تستطيع أن تثبت أنك دخلت مصر بالقدر المذكور من المال قلت: نعم هذه شهادة البنك في تطوان فلما قرأها سمح لي بإخراج خمسين جنيها.(39/148)
فقلت له: إنني ألتزم الصدق وذلك يوقعني في مشاكل، فقال لي: إن الصدق لا يوقع في المشاكل وإذا وقعت لصاحبه مشاكل فعقباها خير وإنما الذي أتعبنا هو الكذب- ووقع لي مثل ذلك في دمشق- فانحلت المشكلة بأن كتب المفتش نفسه على الصحيفة أن عندي عشرين جنيها. أبيت أن أكذب فكذب هو.
* الدعوة إلى الله في العراق *
وصلت إلى العراق عائدا من سفري الطويل في صيف سنة 947ام من تاريخ النصارى، ولما امتنع صالح جبر من الإذن لي بأخذ نسخة من شهادة التجنس بالجنسية العراقية، وبقيت بلا عمل اخترت أن أسكن بالموصل لأن لي إخوانا صادقين في تلك المدينة، فسكنت فيها سبعة أشهر وبدأت الدعوة إلى الله فحصل إقبال عظيم من الناس وفرح بذلك الإخوان السلفيون.
وكانت السلفية موجودة قبل ذلك في الموصل وكان إمامها الشيخ عبد الله النعمة -رحمة الله عليه- وكان يلقي دروس القرآن في بيته مدة طويلة من الزمان يختمه ثم يبدأ من جديد، ويحضره كثير من الناس إلى أن توفي -رحمه الله- أما الشيخ صديق الملاح فكانت مدرسته هي المقهى في الموصل. والمقاهي في الموصل تختلف عنها في سائر البلدان ففي كل مقهى من مقاهي المسلمين مسجد وله مؤذن وإمام لصلاة المغرب والعشاء، وإذا حضر وقت المغرب أذن المؤذن وأم الناس المسجد كلهم لا يبقى إلا يهودي أو نصراني، وأهل هذا البلد لهم فضائل ومزايا من أخصها الشجاعة والكرم، وكان فيها أعداء للسنة ولكن لم يستطيعوا أن يمسونا بسوء.(39/149)
وبعد الوثبة التي تقدم ذكرها انتقلت إلى بغداد وبدأت الدعوة فيها وكانت السلفية قد ماتت في بغداد، مع أنها بلد الإمام أحمد بن حنبل والإمام أبي حنيفة رحمهما الله وكذلك الإمام محمد بن جرير الطبري، وقد كانت من قواعد الدعوة السلفية إلى زمان السيد محمد شكري الألوسي رحمة الله عليه، أما أنا فلم أجد من السلفيين إلا الشيخ عبد الكريم الصاعقة وكان إمام مسجد صغير وقد حاربه المتعصبون من المقلدين فلم يكن يصلي في مسجده إلا بضعة أشخاص، ولكنه كانت له خزانة عظيمة من كتب السنة وكان متمسكا بالعقيدة السلفية راسخ القدم لا يتزحزح عنها.(39/150)
وكان ابتداء دعوتي في مسجد بمحلة الشيوخ بالأعظمية وهو مسجد وقف خاص كان المتولي عليه الحاج محسوب -رحمه الله- وقد جرت العادة بإلقاء الوعظ في كل مسجد كل يوم من أيام رمضان على الأخص، فلما أقبل رمضان ذهب الحاج محسوب يبحث عن عالم من العلماء ليستأجره للوعظ في مسجده مدة شهر رمضان فاتفق مع أحدهم -ولا أسميه إبقاء عليه- ثم وجد ذلك الشيخ أجرا أعلى مما اتفق عليه مع الحاج محسوب فأخبره بفسخ الإجازة، وذهب إلى عالم آخر- لا أسميه أيضا إبقاء عليه- فاتفق معه أن يعطيه عشرة دنانير، فلما أقبل رمضان ولم يبق إلا يوم واحد من شعبان جاءه ذلك العالم وأخبره بفسخ الإجازة لأنه وجد من يعطيه أكثر من ذلك فأصاب الحاج محسوبا من الحزن والغم الغيظ على جميع المعممين وهكذا يسمى علماء الدين عندهم، لأنهم يلتزمون لبس العمامة والجبة وذلك زي العلماء عندهم فكل من لبس عمامة وجبة يحسبه الناس عالما، وإن كان أجهل من حمار أهله. فما شعرت إلا والحاج محسوب يطرق الباب فرحبت به وجلسنا نتحدث فاشتكى إلي مما أصابه من المعممين وذمهم ذما شديدا، وقال لي: يا ليت الواحد منهم حين استولى عليه الطمع وأراد الزيادة جاءني فاستشارني قبل أن ينقض العقد ويتفق مع غيري، كان ينبغي أن يقول لي قد وجدت من يعطيني أجرا أكثر مما اتفقت عليه معك فإما أن أزيده وإما أن أفسخ العقد معه. قال: واليوم جاءني أحد الأصدقاء وقال لي: عليك بالدكتور محمد تقي الدين الهلالي يعظ في مسجدك ثلاث مرات في الأسبوع فإنه يعظ لله ولا يطلب أجرا قال: فجئتك وأنا مستعد أن أقدم لك ما تطلب، فقلت له: يا حاج محسوب أنا لا آخذ شيئا على الوعظ لأنه فرض فرضه الله علي لأنه من الجهاد والجهاد واجب بالنفس والمال.(39/151)
فوعظت في مسجده كل يوم وأقبل الناس شبابا وشيوخا فاغتبط الحاج محسوب واطمأنت نفسه، وبعد رمضان استمررت على دروسي في ذلك المسجد وكان بحضرها الشباب من تلامذة المدارس والشيوخ من أهل تلك المحلة، فغاظ ذلك أعداء السنة، وزعموا أنني أردت أن أهدم مذهب أبي حنيفة.
فقلت مرارا في دروسي: إنكم تكذبون على أبي حنيفة –رحمه الله- وأنا أتبعه حقا وصدقا فإن أبا حنيفة كان على عقيدة السلف الصالح من الصحابة والتابعين كان يصف الله تعالى بما وصف به نفسه في كتابه أو وصفه به رسول الله صلى الله عليه وسلم ويثبت العلو لله تعالى ويكفر من يتأول الاستواء بالاستيلاء كما في الفقه الأكبر وفي الطحاوية وشرحها، وأنتم تعتقدون عقائد المتأخرين من الأشعرية نفاة الصفات وأبو حنيفة يكفر النفاة ثم تتعصبون في إلزام الناس بفروع الحنيفة، وهذا خلاف ما كان عليه أبو حنيفة –رحمه الله- فقد صح أنه قال: لا يجوز لأحد أن يقول بقولنا حتى يعلم من أين قلناه، أي حتى يعرف دليله، وأنتم تقولون على الله بلا علم بل بالتقليد الأعمى، ولعمر الله ليس هذا مذهب أبي حنيفة.
ومما يدل على مخالفتكم لمذهبه أن صاحبه محمدا وأبا يوسف خالفاه في ثلث المهب، ولو كان أبو حنيفة يعلم أصحابه أن يكونوا مقلدين لما خالفه أقرب الناس إليه وأفضل تلامذته الذين نشروا مذهبه. وهذه القبة التي بنيتم على قبره هل أباح لكم أبو حنيفة أن تبنوها؟! وهذا المسجد الذي بنيتم إلى جانبها هل أباح لكم أبو حنيفة أن تبنوا المساجد على القبور وتصلوا فيها؟! وهذه البدع التي ترتكبونها هل رويتموها عن أبي حنيفة؟!.(39/152)
فضاق المتعصبون ذرعا بدروسي فأوعزوا إلى أربعة من تلامذتهم من المعممين الشباب أن يحضروا درسي ويجادلوني، فإذا عارضهم تلامذتي يقتتلون معهم حتى بجيء رجال الأمن إلى المسجد، ويقبضوا علي المقتتلين فيتوصلوا بذلك إلى وقف دروسي بادعاء أنها تثير الفتنة ولكن خاب سعيهم لأن تلامذتي تفطنوا لذلك فالتزموا الصمت والهدوء، فلما رآهم الشيوخ خرجوا عن حدود السؤال بأدب إلى إساءة الأدب غضبوا عليهم وأسكتوهم وأرادوا أن يضربوهم وفي مقدمتهم الحاج محسوب رحمه الله، فخافوا وذلوا وطلبوا مني العفو فبطلت هذه المكيدة.
وكنت أسكن بقرب المسجد المنسوب إلى أبي حنيفة ويسمى عندهم جامع الإمام الأعظم -وهذا اللفظ أطلقه الأتراك في زمان حكمهم على أبي حنيفة -رحمه الله- ولا شك في إمامته ولا في عظمته، ولكن هذا اللفظ مبتدع يشبه ملك الملوك و (شاهن شاه) وقاضي القضاه. وقد جاء في الحديث الصحيح ((أخنع اسم عند الله رجل تسمي بملك الأملاك)) وكره الأئمة كل ما كان قريبا من هذا المعنى -فكنت لا أصلي في ذلك المسجد لا جماعة ولا جمعة أما الجماعة فكنت أصليها في مسجد الحاج محسوب، وأما الجمعة فكنت أركب السيارة من الأعظمية إلى بغداد وأصلي في أحد المساجد الخالية من القبور فاشتد انتقادهم لهذه الخطة، ولاسيما حين كانوا يرون تلامذتي من الشباب يقتدون بي ولا يصلون في المسجد المبني على القبر، بقيت على ذلك مدة سنتين.
* جامع الدهان *
كان جماعة من أهل الخير قد اشتركوا في بناء مسجد يبعد عن جامع أبي حنيفة بنحو ميل واحد إلى ناحية بغداد وعجزوا عن إتمامه، فجاء الحاج عبد الحميد الدهان وهو من أهل الثراء والإحسان ومن وجهاء التجار في بغداد فأكمل بناء ذلك المسجد وفتحه للصلاة.(39/153)
وأهل البيوت القريبة من مسجدي أكثرهم شيعة، وأنا خائف أن لا يجتمع لي العدد الذي تصح به صلاة الجمعة. وقد استنصحت الحاج طه الفياض صاحب صحيفة السجل، فقال: إن أردت أن يمتلئ مسجدك بالمصلين فعليك بالدكتور محمد تقي الدين الهلالي فالتمس منه أن يكون إماما وخطيبا لصلاة الجمعة، فأرجو أن تقبل مني هذا العرض. فقلت له: أنا لا ألبس زي العلماء كما ترى فقال لي: أنا أقبلك على أي حال كنت فقلت له: خيرا.
وشرعت أصلي الجمعة في جامع الدهان فما مرت ثلاث جمعات إلا وقد ضاق المسجد عن المصلين وصار الناس يقصدونه من جميع أرجاء بغداد وحتى أهل الأعظمية كان كثير منهم يمرون على مسجد أبي حنيفة ويتركونه ويؤمون جامع الدهان ومن الذين كانوا يواظبون على الصلاة فيه السفير المغربي في ذلك الوقت الحاج الفاطمي بن سليمان، وبلغ الإقبال على جامع الدهان. إلى أن من لم يتقدم قبل الزوال بساعة أو أكثر لا يجد مكانا.
* تطهير الجامع من البدع *
كان في الجامع كغيره من المساجد بدع:
الأولي: قراءة القراء، بالتناوب في مكان مرتفع مخصص للقارئين وكانوا يشوشون على المصلين بقراءتهم.
الثانية: صلاة ركعتين بعد الأذان الأول، يقوم المؤذن فينادي بأعلى صوته متغنيا فيقول: { مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا } [الأحزاب: 40]، ثم يقول: صلاة سنة الجمعة يرحمكم الله فيقوم الناس كلهم ويصلون ركعتين، ومن لم يصلهما يعد تاركا للسنة، وكان المؤذن يرفع صوته بالتسميع خلف الإمام مع وجود مكبرة الصوت وعدم الحاجة إلى التسميع، كما يفعل اليوم بالمسجد النبوي نسأل الله أن يطهره من المحدثات حتى يعاد إلي الحال التي كان عليها في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وخلفاءه الراشدين.(39/154)
الثالثة: الأذان الأول وهو محدث لم يكن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولا على عهد الخليفتين بعده وهم أولى بالأتباع، ولما كان زمان عثمان وكثر الناس في المدينة أمر عثمان مناديا ينبه أهل السوق بقرب صلاة الجمعة ليستعدوا لذلك ويؤموا المسجد ولم يكن ذلك أذانا حقيقيا ولا كان في المسجد فلما كان زمان عبد الملك بن مروان جعله أذانا لا زما وجعله في جوف المسجد (انظر كتاب المدخل لابن الحاج وفتح الباري)، وكيف ما كان الأمر فسنة النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبيه اللذين قال فيهما: ((اقتدوا باللذين من بعدي)) أولى بالأتباع.
الرابعة: كان المؤذن بعد السلام يرفع صوته بأذكار مخصوصة.(39/155)
استعنت بالله وحده أنا وتلامذتي وأخذنا نزيل تلك البدع واحدة بعد واحدة حتى قضينا عليها ولله الحمد، وكان الحاج عبد الحميد لا يتأخر عن مساعدتنا في ذلك. فبدأنا بإزالة القراءة ثم إزالة ما كان يترنم به فألفت كتابا سميته (الأنوار المتبعة في سنة الجمعة) وأقمت فيه البرهان على أن صلاة الجمعة ليست لها سنة قبلية، وإنما سنة بعدية ونقلت كلاما لأبي شامة في كتاب البدع له وكلام غيره، فلما عرف الناس ذلك بقراءة ذلك الكتاب وبخطب الجمعة المتوالية وكانت كلها من صميم السنة خطبا تعليمية إرشادية اتفقت مع تلامذتي ومع الحاج عبد الحميد الدهان على إزالة الأذان الأول وبإزالته تزول الركعتان، فأنذرت الحاضرين في المسجد في خطبة الجمعة الأخير وقلت لهم: لقد علمتم فيما مضي من خطب يوم الجمعة أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن له إلا مؤذن واحد يؤذن أذانا واحدا عند جلوسه على المنبر حتى إذا فرغ المؤذن من أذانه قام رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيبا ولم يقم أحد لصلاة ركعتين، إلا من تأخر حتى شرع الخطيب في الخطبة فهذا يصلي ركعتين خفيفتين تحية المسجد كما بينته لكم مرارا وتكرارا بالأحاديث الصحيحة، وقد عزمنا على ترك الأذان الأول، وبطبيعة الحال تترك الركعتان المترتبتان عليه فمن شرح الله صدره لقبول الحق فأهلا وسهلا به وهنيئا له ومن أبى فالمساجد كثيرة، فلما كانت الجمعة التالية دخلت المسجد وذهبت رأسا فصعدت المنبر وجلست عليه فقام أحد تلامذتي وأذن ثم قصت أنا وخطبت فجعلناهم أمام الأمر الواقع وانقطع بذلك ما بقي من المخالفات ولله الحمد.(39/156)
والحاج عبد الحميد الدهان كان موافقا لي على إزالة تلك البدع حرصا منه على عمارة المسجد وازدهاره ولم يكن يدرك أهمية التمسك بالسنة وترك المحدثات، لأنه تاجر لا يعرف الأدلة الشرعية ويجيئه المخالفون للسنة فيزينون له البدع فيبقى متحيرا ويحل المشكلة بإرضاءنا في المسجد وإرضاء خصومنا خارج المسجد بأن يقيم لهم مآدب ويعطيهم الحرية في ارتكاب بدعهم من عمل الموالد وغيرها ولذلك لم يثبت على العهد، فبعدما برحت أنا بغداد طمع فيه المبتدعون فأقنعوه برد تلك البدع بعدما طهر منها المسجد لمدة نحو عشر سنين ولله الأمر من قبل ومن بعد.
* هجوم مدير الأوقاف علينا *
لما رأى الفقهاء المتعصبون وأصحاب الطرائق المبتدعون نجاح هذا المسجد وازدهاره وقيام دولة التوحيد وأتباع السنة شرقوا بذلك ودبروا مكيدة عظيمة فذهبوا إلى مدير الأوقاف، و(الأوقاف في العراق لا يكون لها وزير لأنها كلها من وقف أهل السنة ولو كانت لها وزارة مستقلة لأمكن أن يكون الوزير شيعيا وذلك يخالف شرط الواقف فكانت مديرية الأوقاف تابعة لمجلس الوزراء) فذهب المبتدعون إلي مدير الأوقاف، ومعهم مفتي بغداد في ذلك الوقت وقالوا له: لماذا لا تستعمل حقك في تعيين الإمام والخطيب في جامع الدهان وكيف تترك الهلالي ينشر المذهب الوهابي علانية في ذلك المسجد؟! فاستصدر مدير الأوقاف أمرا ملكيا بتعيين شخص إماما وخطيبا في جامع الدهان فنال مراده.(39/157)
فلما صدر الأمر الملكي كتب صحيفة لي يقول فيها بعد السلام: إنه صدرت إرادة ملكية لفلان الفلاني أن يكون إماما وخطيبا بجامع الدهان، وقد أخبرنا الإمام أنك لا تمكنه من أداء واجبه فنرجو أن تتخلى عن الإمامة في ذلك المسجد ليتمكن الإمام من أداء واجبه وبعث الصحيفة مكشوفة بلا غلاف إلى الكلية، فسلمها إلي البواب ولم تزل تنتقل من يد إلى أخرى والناس يقرؤونها حتى وصلت إلي يدي فلما فرغت من دروسي ورجعت إلى بيتي كلمني الحاج عبد الحميد الدهان بالهاتف، وقال لي إن مدير الأوقاف دعاني إلى مكتبه فلما حضرت عنده تكلم بكلام قبيح لا أريد أن أذكره لك. فقلت له: وأنا أيضا كتب إلي يأمرني بالتخلي عن عملي في المسجد فقال لي استمر على عملك واترك الأمر لي فقلت له: وعلى هذا أنا عازم أيضا.
* وقوف الأستاذ منير القاضي إلى جانب الحق *
ذهب الحاج عبد الحميد الدهان إلى مدير مجلس الوزراء، وأخبره بما قال وفعل مدير الأوقاف فأخذ التليفون وتكلم مع مدير الأوقاف ووبخه توبيخا شديدا، فاعتذر له بأن الدكتور الهلالي يبث المذهب الوهابي وله معارضون من أهل السنة ونخشى أن تحدث فتنة في المسجد فقال له فضيلة الأستاذ منير القاضي: أأنت مدير أوقاف أو مدير الأمن العام؟! وزجره زجرا شديدا فحبط عمله وبطلت هذه المكيدة. والأستاذ منير القاضي يعرفني حق المعرفة فإننا كنا نجتمع في الاحتفالات التي تقيمها وزارة المعارف فما كان أحد يقوم لصلاة المغرب إلا أنا وهو فكان يقدمني فأصلي به إماما. وفي رمضان لم يكن أحد من الحاضرين يصوم إلا أنا وهو فكنا نفطر جميعا وفيما عدا ذلك لم تكن بيني وبينه علاقة.
* مكيدة أخرى *(39/158)
ذهب أعداؤنا إلى القصر الملكي وبلغوا خبرا كاذبا على سبيل الوشاية، قالوا: إن الهلالي منذ زمان عين إماما وخطيبا في جامع الدهان بدون إرادة ملكية وطرد الإمام الشرعي وأعانه على ذلك صاحب المسجد، وهو يبث المذهب الوهابي ولا يدعو للملك في خطبة الجمعة لأنه عدو للبيت الهاشمي؛ فجاءني أحد إخواننا وأخبرني بذلك فقلت له: إن الله الذي خيبهم في الأولى سيخيبهم في الثانية، فبعث الوصي من حضر صلاة الجمعة فوجد الخبر غير صحيح وخاب سعيهم، وكنت دائما أختم الخطبة الثانية بالألفاظ التالية على عادة المقتصدين غير المتزلفين من الخطباء في بغداد
فأقول: اللهم وفق وسدد ملك العراق فيصل الثاني وولي عهده عبد الإله وسائر ملوك المسلمين وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
فإن قلت: هذه بدعة كنت ترتكبها مع زعمك أنك تحارب البدع أقول: إنني اجتهدت فرأيت أنني لو لم أفعل ذلك لم أستطع أن أكون إماما في صلاة الجمعة ولا مدرسا وواعظا في ذلك المسجد، وأن ما يحصل من الخير بنشر التوحيد واتباع السنة يربو على تلك البدعة أضعافا مضاعفة، على أن الدعاء لشخص معين في خطبة الجمعة لا بأس به ولكن المداومة عليه فيها ما فيها.
* أخذ الأجرة على صلاة الجمعة*
في الجمعة الثانية التي صليتها إماما وخطيبا في جامع الدهان دعاني الحاج عبد الحميد الدهان إلى الطعام بعد صلاة الجمعة، وقال لي: أنا مسرور جدا بما وقع من الإقبال على الصلاة في مسجدي بسبب خطبتك ونريد أن نتفق الآن على الراتب، فقلت له: إن أردت أن يطرد نجاح المسجد فلا تفكر في الراتب فأنا لا آخذ أجرا على الصلاة أبدا فألح، فثبت على الامتناع عن قبول أي شيء فقال: نجعله هدية فقلت: { إِنَّ اللَّهَ لاَ يَخْفَىَ عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاءِ } [آل عمران: 5].
فبعث إلي بعد ذلك جماعة يشفعون عندي في قبول الراتب فرفضت ولم آخذ شيئا طول تلك المدة إلا أنني اقترضت منه دنانير مرتين فرددتها له.(39/159)
* ملاحقة الاستعمار الإنكليزي لمؤلف هذا الكتاب*
كان السفير الإنكليزي في تطوان قد تعاون مع الإسبانيين في منعي من الرجوع إلي برلين، وكان قد احتج على الإسبانيين بسبب المقالات التي كنت أنشرها في صحيفة الحرية لسان حزب الإصلاح الوطني وتقدم ذكر ما جري بيني وبين نائبه في تطوان، وكنت أظن أن محاربته لي لا تعدو حدود تطوان وإذا به يلاحقني إلى بغداد فقد كتب إلى السفارة الإنكليزية في بغداد وأخبرها بحالي وحذرها مني فأوعزت إلى مطاياها من العراقيين أن يحاربوني.
ومما دل على ذلك أن السفارة التونسية في بغداد أقامت احتفالا فدعتني إليه فالتقيت هناك بصديقي الدكتور عبد الكريم كنون؟ وهو رفيق لي في الدراسة في جامعة بون بألمانيا فأقبل عليه السفير الإنكليزي في بغداد، فقال له: أعرفك بالدكتور محمد تقي الدين الهلالي وأخذ يثني علي، فلم يهش ولم يبش ولم يرحب بل قال له بالإنكليزية ما معناه: أنا أعرفه جدا مع أني ما رأيته قبل ذلك اليوم.
ولما ذهبت إلى التحقيقات الجنائية- وهو اسم دائرة الشرطة السرية- وطلبت إعطائي جواز سفر منعت من ذلك بدون بيان السبب، واستمررت على ذلك ثلاث سنين في كل صيف أتردد على تلك الدائرة مرارا وتكرارا ثم أرجع بخفي حنين، حتى رق قلب الموظف المختص ورحمني، وقال لي: أيها الأستاذ إن منع إعطائك جواز السفر ليس بأيدينا بل هو في يد من فوقنا فلا تتعب نفسك بكثرة التردد، واتفق أنني اطلعت أحد الإخوان على هذه القضية فقال لي: حل هذه المشكلة يسير بالنسبة إليك ولكنك لا تعرف طريق حلها، فقلت: أفدني يرحمك الله فقال: إن مدير الشرطة العام هو ابن عم صديقك الحاج محسوب، والحاج محسوب هو كبير هذه العشيرة ومدير الشرطة العام لا يعصى له أمرا فعليك به.(39/160)
فذهبت إلى الحاج محسوب وأخبرته فقال لي: غدا صباحا نلتقي عند باب جامع الإمام الأعظم فالتقينا وركبنا سيارة، فلما وصلنا إلى باب مديرية الشرطة العامة إذا بالمدير خارج فكلمه الحاج محسوب وقال له: إليك جئنا فقال يا حاجي أمهلني ساعة فإن عندي أمرا مهما لا يمكن تأخيره وبعد ساعة أكون في المكتب، وبعد مضي الساعة دخل عليه الحاج محسوب فلبث عنده نحو نصف ساعة وخرج بكتاب معنون إلى مدير التحقيقات الجنائية ومختوم على غلافه ومكتوب عليه (سري).
فأخبرني الحاج محسوب أنه عاتبه في منعي من جواز السفر ثلاث سنين، فقال له:
إن صاحبك هذا اشتراكي. (وفي ذلك الزمان كانت بدعة الاشتراكية لا وجود لها في البلاد العربية ولا يفكر فيها أحد، وإنما تكلم بشيء لا يعرفه). قال الحاج محسوب: فقلت له: أقسم لك بكل عزيز على أن هذا كذب وافتراء فإن هذا الرجل يعظ في مسجدى منذ ثلاث سنين وما عنده إلا قال الله وقال رسوله، وإن شئت أتيتك بأربعين من سكان الأعظمية يشهدون بما ذكرت، قال: فكتب لي هذا الكتاب إلى مدير التحقيقات الجنائية يأمره أن يعطيك جواز السفر في الحال وأراد أن يبعثه مع شرطي قال: فقلت له: والله ما يأخذه أحد غيري، فقال يا حاج هذا سري قلت له: ليكن سريا أو علانيا لا يأخذه غيري، فسلمني الكتاب وقال: اذهب به إلي مدير التحقيقات.
فذهبت إليه واستأذنت عليه شرطيا كان واقفا ببابه فقال له: قل له: إن قضيته لم تنته بعد فقلت للشرطي: قل له: جئت بكتاب من مدير الشرطة العام ولا أسلمه إلا يدا بيد فأذن لي، فسلمته الكتاب فلما رآه مختوما بختم سيده ورأى عليه كلمة سري قام وقرأه قائما وأبدى لي بشاشة وترحيبا لم أره من قبل ذلك، ودعا بشرطي وقال له: رافق الدكتور إلى المكاتب المختصة ومرهم أن يهيئوا أوراقه في الحين.
فانحلت هذه المشكلة!!
* الانقلاب*(39/161)
في أوائل سنة (1958) قام عبد السلام عارف وعبد الكريم قاسم بالانقلاب المشهور والذي قتل فيه الملك فيصل الثاني والوصي عبد الإله وسائر أهل بيتهما إلا امرأة واحدة وقتل فيه نوري السعيد.
وظن أهل العراق كلهم أن هذا الانقلاب سيأتيهم بخير عميم ويقضى على النفوذ الاستعماري وحينئذ تفتح لهم أبواب البركات من السماء والأرض، إلا أنه بمضي الأيام ظهر لهم خطأ ظنهم، لأن العهد الملكي كان عهد استقرار ورخاء وكان خيره أكثر من شره بالنسبة إلى الخاصة والعامة.
والرئيس عبد السلام عارف هو من أخص إخواننا السلفيين وهو وفرقته قاموا بالانقلاب ولم يشاركهم عبد الكريم م قاسم إلا بموافقته، وقد أخطأ رحمه الله في ذلك الانقلاب، وكان أول من صلى بناره فقد حكم عليه بالقتل وسجن سنين وعذب، ثم أسعده الحظ حيث تمكن من قتل عدوه في أواخر الأمر وشريكه في أوله واستولى على الحكم، فكتب إلي بخط يده وأنا في المغرب يقول: نحن تلامذتك ونحن سائرون على الخطة التي اقتبسناها من دروسك وأبواب العراق مفتحة في وجهك فأقبل إلينا فشكرته على ذلك ولم أقبل دعوته، وما أدري كيف شعر بذلك أخونا السلفي الأستاذ محمود مهدي الإسنطبولي فكتب لي يقول: علمت أن عبد السلام عارف من تلامذتك وهذه فرصة لا تضاع فهلم نسعى في عمل شيء ينفع الإسلام والمسلمين، فاعتذرت له ولم ينشرح صدري لذلك لأني لم أتوقع نجاحا.
ولما استولى عبد الكريم قاسم وأبعد عبد السلام عارف أولا ثم سجنه ثانيا أطلق العنان للشيوعيين يقتلون من شاءوا ويسجنون من شاءوا ويسحلون من شاءوا (والسحل هو وضع حبل في عنق الرجل وجره به على وجهه إلى أن يموت)، وعاث الشيوعيون في بلاد العراق فسادا فعم الخوف والفزع ولم يبق أحد مطمئنا على نفسه.(39/162)
ووقعت حوادث فظيعة معلومة لا نطيل بذكرها ولكن على سبيل المثال أذكر حادثا أو حادثين: أخبرني أخونا السلفي الصالح الدكتور وجيه زين العابدين أنه كان نائما في فراشه وبعد منتصف الليل بساعة ونصف سمع طرقا شديدا على الباب قال: ففتحت الباب وإذا ثلاثة من الشيوعيين دخلوا علي بدون استئذان، وفتشوا البيت، ثم قبضوا علي وتركوا والدي وزوجتي وأولادي يبكون وحملوني في سيارة إلى غرفة من غرف التوقيف كما يسمونه فأدخلوني فيها وأغلقوا الباب، وفي أثناء الطريق قالوا لي: صدق من قال: إنك تبغض الزعيم عبد الكريم قاسم، فقد فتشنا بيتك كله وما وجدنا فيه صورة للزعيم قال: فقلت لهم: هل بعثكم من فوقكم لتحاكموني أو لتقبضوا علي وتقدموني إلى غيركم ليحكم علي؟ قال: فوجدت في تلك الغرفة ثمانين رجلا كل واحد منهم ملتف بكساء يقيه البرد وهم قعود ولا مجال للاضجاع، قال: فقعدت معهم فلما أصبح الصباح وجاء وقت الضحى جاءني شرطي فدعاني إلى مكتب المعاون قال: فسلمت عليه فلم يرد علي بل قال لي: أنت بعثي قال: فقلت: أنا مسلم. فقال لي: لماذا تكونون شجعانا حتى إذا وقعتم في يد العدالة تجبنون؟ قال: فقلت له: أنا لا أجبن ولا أبالي بك ولا برئيسك عبد الكريم قاسم! أتعرف من هو رئيس حزب البعث، قال: لا قلت: هو مشيل عفلق فكيف أكون مسلما ويكون رئيسي مشيل عفلق وهو نصراني؟! فلو كنت تعرف ما هو الإسلام لم تتهمني بالبعثية بعدما قلت لك: أنا مسلم، قال: وكان ذلك المعاون من خيار المعاونين فناولني مقالا مكتوبا بخط يدي وعنوانه مضار الخمر وقال لي: أنت كتبت هذا المقال؟ قال: فقلت: نعم فقال لي: اقرأه فقلت له: أنا كتبته بيدي وأعرفه فاقرأه أنت لتعرفه، قال: فقرأه فلم ينكر منه شيئا قال فقال لي: أنت مظلوم، صدر الأمر بالقبض على صاحب الصحيفة التي كتبت لها هذا المقال فوجدوا بين أوراقه هذا المقال موقعا باسمك فقبضوا عليك قال: وكتب أمامي كتابا إلى من فوقه وقال فيه: إنني أجريت(39/163)
تحقيقا دقيقا مع الدكتور فلان فوجدته بريئا وهو يحب الزعيم فأرجو الأمر بإطلاق سراحه، قال: فبقيت أربعة أيام ثم أطلق سراحي.
ولا نطيل ذكر الحوادث المؤلمة فإن ذكرها أيضا يؤلم، وفي ذات يوم بعد ما صليت الجمعة إماما في جامع الدهان جاءني أحد المصلين فأسر إلي أن ابنه سمع معلما شيوعيا في ثانوية الأعظمية يقول: يزعمون أن حكومتنا ليست ديمقراطية وما عندها حرية وهذا باطل أي حرية أعظم من أن تترك محمدا تقي الدين الهلالي يسبها في كل جمعة على المنبر ولم تتعرض له بسوء؟! فقلت له: وهل سمعتني أسب الحكومة في خطبة من الخطب؟ فقال لي: إنما أردت أن أبلغك الخبر لتكون على حذر.
وكان خطباء الجمعة في ذلك الزمان أصنافا منهم من يمدح حكومة عبد الكريم قاسم في خطبه ويطريها غاية الإطراء كما كانوا يفعلون مع الحكومة الملكية ومنهم من يقتصد في ذلك ومنهم من يقتصر على الدعاء لها، وأنا لم أكن أذكرها أصلا لا بخير ولا بشر، لكن كان بعض المتهوسين من تلامذتي يحاولون أن يلقوا كلمات بعد خطبة الجمعة في انتقاد الحكومة فكنت أمنعهم خوفا من العواقب الوخيمة على المسجد وأهله. وكان عشرات من الشيوعيين يقفون أمام المسجد وقت الخطبة ويكتبون ما تضمنته خطبة الجمعة ويبلغونه الرؤساء، وكان رجال المباحث في كل جمعة يدعون بعض المصلين ويسألونهم عن الخطبة وعن صاحبها.
وفي ذات جمعة دعوت الناس إلى أن يجمعوا تبرعات للمجاهدين في الجزائر وقلت لهم كل متبرع يعد ما يتبرع به وسيأتي في الجمعة التالية ممثل الجزائر السيد محمد الروابحية ويتسلم التبرعات، فاهتم بذلك رجال المباحث ولكنهم اقتصروا على استنطاق المصلين ولم يتعرضوا لنا بسوء.(39/164)
وتعطلت دروس الوعظ في المسجد لأن تلامذتي صاروا يخافون الشيوعيين أن يفتكوا بهم، وذهبت أنا إلى الأستاذ الحاج حمدي الأعظمي وهو أكبر عالم حنفي في ذلك الزمان ببغداد وكان إماما وخطيبا في مسجد الشيخ عبد القادر الكيلاني المبني على قبره فقلت له: ما تقول في خطبتك بالنسبة إلى رجال الحكومة؟ فقال: أدعو لهم بالتوفيق والتسديد وأن يعينهم الله على ما فيه الخير لهذا الوطن فمنذ ذلك أخذت أدعو أنا أيضا لهم بمثل ذلك في الخطبة الثانية خوفا من شرهم.
وعزمت على السعي في الخروج من العراق ولكن ذلك لم يكن أمرا هينا فكتبت إلى رئيس مستشفي العيون الأستاذ (مولر) أن يأمرني بالسفر إلى ألمانيا ليفحص عيني ففعل، وقدمت طلبا لرئاسة الصحة وأطلعتها على كتاب الطبيب الألماني، فعينت ثلاثة من الأطباء للتحقيق في القضية فناقشوني الحساب ولم يأذنوا لي إلا بعد اللتيا والتي. وكان العراقيون ممنوعين من السفر إلا لغرض فيه خدمة للحكومة أو لعلاج مرض يعجز عنه أطباء العراق ثم لا يمكن السماح بالسفر إلا لمن كانت صحيفته بيضاء بالنسبة إلى رجال الثورة، فقدمت الطلب للحصول على الإذن بالسفر ومعه موافقة رئاسة الصحة وبقيت أنتظر الجواب خمسين يوما حتى درسوا كل ما تحتويه محفظة أوراقي التي كتب ففيها كل ما ينسب إلي، وفي نهاية المطاف أعطيت جواز السفر ولم أصدق أنني تخلصت من أظفارهم إلا بعد وصولي إلى مطار بيروت.(39/165)
وكان جواز سفري محصورا في (بون) فلما وصلتها دخلت المستشفى وأنفقت فيه ثلث ما عندي لأري السفارة العراقية أنني صادق في دعواي، كان ذلك خطأ لانني لما توجهت إلى السفارة العراقية في (بون) وجدت القائم بالأعمال شابا طيبا أبوه من أعز أصدقائي، وقال لي: أنا مستعد أن أضيف إلى جوازك إذنا بالسفر إلى أي بلد تريده ولو إلى مصر وكان السفر إلى مصر في ذلك الزمان من أعظم الجرائم وفي أول الثورة كانت صورة جمال عبد الناصر أحسن حلية لكل مكان، تراها في الأمكنة الخاصة والعامة أينما سرت في بغداد ثم مزقت كل ممزق وصار كل من توجد عنده يستحق العقاب الشديد- وبعد ذلك سافرت إلى المغرب.
* الدعوة إلى الله في الدورة*
أول حجة حججتها كانت سنة 1341 على عهد الملك حسين بن علي ورافقني إلى الحج بعض إخواننا السلفيين من أهل الريرمون، وكان السفر من مكة إلى المدينة فيه مخاطرة عظيمة بالنفس والمال فكانت قبائل البدو تتحكم في الحجيج وتنهب وتسلب وتقتل.
وقد أخبرنا بعض الحجاج أن كل قبيلة تمر بها قافلة الحجاج يفرض رجالها على الحجاج أن يمكثوا في بلدهم أياما عديدة إلى أن يبيع أهل القبيلة كل ما يريدون بيعه، وقد يشترى الحجاج منهم أشياء لا حاجة لهم بها، هانما يفعلون ذلك اتقاء لشرهم وطلبا لإطلاق سراحهم، وكل من ابتعد من الحجاج عن القافلة ولو لقضاء الحاجة يكون عرضة للقتل والسلب فلا يصل إلى المدينة ولا يرجع منها إلا طويل العمر.
هذا مع أن الملك حسينا كان يأخذ من كل قبيلة شابا يكون رهنا عنده إلى انقضاء موسم الحج حتى لا تتعدى تلك القبيلة على الحجاج ولم يجد ذلك نفعا.(39/166)
ومما يدلك على أن الشرك كان مسيطرا على البدو والحضر في ذلك الزمان أن الشيخ أحمد الشمس الشنقيطي نزل المدينة النبوية، وهو أحد تلامذة الشيخ ماء العينين وكلاهما شيخ طريقة يسمونها قادرية نسبة إلى عبد القادر الجيلاني رحمه الله، وأهل هذه الطريقة عندهم غلو عظيم في شيوخهم قد اتخذوهم أربابا من دون الله يستغيثون بهم في الشدائد ويزعمون أنهم يغيثونهم، وإذا جالست أحدا منهم تراه كالمجنون ممسكا سبحة بيده يعد حباتها ويسرد لا إله إلا الله بنغمة الغناء واللحن ثم ينشد أبياتا ثم يعود إلى سرد لا إله إلا الله، وفي أثناء ذلك يصرخ صرخات عظيمة يا شيخنا، فهؤلاء ما لهم عقل ولا دين.
قال ابن الجوزي في كتابه (تلبيس إبليس): ((قال الشافعي: رحمه الله لو أن رجلا صحب الصوفية من الصبح إلى الظهر لم يبق له عقل)).
قال محمد تقي الدين: وأنا أصدقه وأزيد عليه: ولا دين. ونحن إنما نذم الصوفية المبتدعين والمشركين والملاحدة كابن عربي الحاتمي وابن الفارض، وإذا كان الصوفية في زمان الشافعي رحمه الله موصوفين بأن من صاحبهم يفقد عقله فما بالك بصوفية الأزمنة المتأخرة؟! وإذا أردت أن تعرف طريقة ماء العينين وتلامذته فعليك بكتابه المسمى ((نعمت البدايات )) فإنك ترى فيه عجب العجاب من الضلال والغلو. ومن جملة ما قاله بعض الغلاة في قصيدة له يطري فيها شيخه ماء العينين:
ومن فاته المصطفى المختار من مضر ... وفاته الشيخ ماء العينين محروم
وقد رددت عليه بقصيدة أنقلها هنا:
من فاته المصطفى المختار من مضر ... وقد قفا نهجه ما ذاك محروم
إن رد كل نزاع للإله إلى ... كتابه فله يحق تحكيم
وللرسول إلى حديثه فبذا ... أمر الإله أتانا وهو محتوم
لا للشيوخ ولا للرأي من شيع ... لديهم حبل ذكر الله مصروم
وكم حديث به عرض الجدار رموا ... إسناده مثل صحو الشمس معلوم
إذ خالف الرأي وهو الأصل عندهم ... كأن صاحب هذا الرأي معصوم(39/167)
ما للرسول لديهم غير الاسم فقط ... وصاحب الرأي متبوع ومأموم
وآية من كتاب الله محكمة ... تفسيرها عن نبي الله مفهوم
تعمدوا سلب معناها المراد بها ... وحملوها مفاهيماً بها ليموا
مضى الصحابة لم تخطر ببالهم ... والتابعون وعقد الدين منظوم
كذا الأئمة مثل الشافعي وما ... لك وأحمد لم يلمز لهم خيم
وجاء من بعدهم خلف أتوا بدعاً ... قد اقتفوا إثر يونان مشائيم
وحكموا عقلهم في الله جل وهم ... جهال أنفسهم وذاك مذموم
فوصفوه بما أوحت وساوسهم ... وعندهم وصفه بالذكر تجسيم
إن قصر الله والمختار في صفة ... وصحبه كيف يرجى بعد تفهيم
أو أنزل الله آيات مكفرة ... فالكفر يحمد والإسلام مذموم
تالله إن أولاء القوم في عمه ... بنوا على غير أس فهو مهدوم
قد أعرضوا عن كتاب الهل وانتبذوا ... بيداء سالكها لا شك مقصوم
من رام تكذيب قول الله أو سنن ... يقول ذا لازم وذاك ملزوم
والحق أوضح من أن يستدل له ... لكن طرف أخي التقليد مخروم
الله أعطاهع طرفاً يستدل به ... فسده واقتفى من هو مشئوم
وقال إنا وجدنا الأقدمين كذا ... والأقدمون لهم يحق تقديم
والحق أقدم والمختار سابقهم ... لقوله حق تبجيل وتعظيم
وليس رب الورى بسائل أحداً ... عن غيره فعليه دام تسليم
يا ويل من لم يكن له بمتبع ... شرابه يوم يظمأ الناس يحموم
وكيف يتبع ذو التقليد سنته ... وأنفه بحبال الجهل مخزوم
إذا عصيتم رسول الله ينتفشوا ... وينفضون رءوسهم وهو بوم
وينبزوك بالألقاب من سفه ... فعندهم قول خير الرسل مشئوم
كونوا حجارة أو حديداً أو خشباً ... وأنفكم أبداً بالتراب مرغوم
من كان قول رسول الله يغضبه ... فذاك في الناس مدحور ومذؤوم
وإن تستر بالتحريف يخدعنا ... فليس يخفى على الهلام مكتوم
أمر النبي وأمر من إمامهم ... ذا حاكم عندهم وذاك محكوم
لو وفقوا حكموا قول النبي على ... قول الإمام وذا في الذكر مرقوم
فأين الإيمان منهم أين آيته ... أين المحبة أين أين تعظيم(39/168)
وهم يقولون نحن الوامقون له ... وخالوفا أمره فالحب مزعوم
إن كنت وامقه فلتقف سنته ... والحب منك إذا خالفت معدوم
وكل ما كان من نقص فمصدره ... مشايخ دينهم والعرض مثلوم
هم زينوا للعوام كل فاحشة ... ومنهم نتن أكل السحت مشموم
رموا التأكل بالفتوى فصار لديهم ... بالدراهم تحليل وتحريم
لا كسب عندهم إلا العمائم كالـ ... يقطين والكم مثل الخرج مرسوم
يرخون للناس أيديهم تقبلها ... ومن أبى فهو ملحي(1) ومشتوم
إن كان حال هداة الناس يا أسفا ... كما رأيت استوى جهل وتعليم
أما ذوو الطرق من للصرف قد نسبوا ... فلا تسل عنهم فهم مشائيم
لم ترضهم شرعة المختار فانتحلوا ... شرائعاً كلها إفك وتأثيم
واستعبدوا الناس باستتباعهم سفها ... فالحر مستخدم والعبد مخدوم
قالوا عن الله أخذنا الشرائع بل ... من الشياطين شرع القوم مفهوم
هل في شريعة خير الخلق عربدة ... مثل السكارى ورقص ثم هينوم(2)
هل في شريعة خير الخلق تصدية ... مع البكا وتجنن وتهويم(3)
هل للخلائق أرباب تقسمها ... كل له جزء في الناس مقسوم
أم للخلائق رب واحد صمد ... وغيره ما له في الخلق برعوم
هل في الشريعة أقوال تكذبها ... يقول أصحابها ذا السر مكتوم
هل في الشريعة أوثان مقدسة ... وحولها دم ذبح القوم مسجوم
لا يخشعون لربنا خشوعهم ... لها لأوجههم ويل وتسخيم
لو آمنوا بإله الناس ما قصدوا ... من دونه من بكل الفقر موسوم
ما قدروا الله حق قدره أبداً ... إذ كان منهم على المقبور تحويم
إذ كان حيا بكل الفقر متصف ... فكيف وهو بترب اللحد مغموم
قد أخبر المصطفى بكل ما فعلوا ... صلاة ربي عليه ثم تسليم
والله أٍأل أن الحفظ يصحبني ... والعمر بالعمل المرضي مختوم
__________
(1) ملحي: أي مقبح ومشتوم.
(2) الهينوم: الكلام الذي لا يفهم.
(3) هو الرجل إذا هز رأسه من النعاس، فلعله يقصد بالتهويم ما يحدث في حلقات الذكر الجماعي من رفع رءوس الذاكرين وخفضها، وإمالتها يمنة ويسرة.(39/169)
كان الشيخ أحمد الشمس يخرج من المدينة ومعه قافلة كبيرة فيتوجه بهم إلى مكة ولا يمسهم أحد بسوء، وكلما مر على قبيلة جاءه أهلها وقبلوا يده وتبركوا به وقدموا الهدايا، فكان ملكاً بلا جنود بسبب غلبة الجهل والشرك والبدعة والخرافات على أهل هذه البلاد في ذلك الزمان، فإن قبائل البدو كانت ترهب سطوة شيخ صوفي يزعم أنه يقتل من يشاء ويصيب بالأمراض والكوارث من لم يخضع إلى مخرقته أكثر مما يرهبون ملك البلاد وأمراءه.
فقلت لمن كان معي من الإخوان: إننا قد أدينا فريضة الحج نرجو الله القبول، والصلاة في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم فضيلة مستحبة، ولو كانت فريضة ما ساغ لنا أن نخاطر بأرواحنا لأجلها فإن المحصر يحل من حجه، فأي واحد منكم يتوجه إلى المدينة ويركب هذه الأخطار فتوحيده غير صحيح، وكل واحد منكم يترك صلاة الجماعة في المسجد أحيانا بلا عذر وهي فريضة، فكيف يعقل أن يخاطر بروحه لفعل مستحب؟! إن أحيانا الله إلى أن تأمن هذه البلاد فإننا سنعود بإذن الله ونصلي في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم وإلا فقد أدينا فريضتنا فاستمعوا كلهم لقولي وأطاعوني، وقد أحيانا الله سبحانه بفضله ورحمته إلى أن صلينا في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم ما لا يُحصى من الصلوات وهذه ببركة تحقيق التوحيد نسأل الله حسن الختام.
*كيف كان حال السلفيين؟*
كان السلفيون في الحجاز في ذلك الزمان أضيع من الأيتام أما أهل نجد منهم فإنهم كانوا ممنوعين من الحج، وفي تلك الأيام جاء جماعة من حجاج أندونسيا وكانوا سلفيين وأعلنوا الدعوة إلى التوحيد وإتباع السنة فبلغ خبرهم بعض من كانوا يسمون بالعلماء، فرفعوا أمرهم إلى الملك حسين وأخبروه أنهم يدعون إلى مذهب الوهابية فأمر الملك باستتابتهم فاجتمع عليهم العلماء واستتابوهم فتابوا.
*مناظرة مؤلف هذا الكتاب لحبيب الله بن مايابا الشنقيطي*(39/170)
كان الشيخ حبيب الله بن مايابا الجكني من العلماء المقربين عند الملك حسين وكانت له مدرسة تشرف على المسجد الحرام، وكان المسجد الحرام في ذلك الزمان محاطا بالمدارس، وهذه المدارس كان يستغلها المقربون من العلماء والجهال إذا جاءوا إلى المسجد الحرام يجلسون فيها ويتوضئون وينامون ويصلون فيها أيضا، لأن كل واحدة منها كان لها طاقة واسعة مواجهة للكعبة فقصدت زيارة الشيخ المذكور في مدرسته، وأخذت أتحدث معه حديثا يشبه المناظرة في التوحيد والإتباع وكان عنده رجل أشيب فلما سمع كلامي ظهرت عليه أمارات الحزن وقال لي: هذا الذي تقوله تعلمته في الشرق أم في الغرب، فقلت له: بل في المغرب فقال: لا حول ولا قوة إلا بالله وصل هذا البلاء إلى المغرب يعني بالبلاء توحيد الله وإتباع سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأخبرني الشيخ حبيب الله أن ذلك الشيخ كان شنقيطيا كنتيًا نسبة إلى كنتة وهي قبيلة معروفة في شنقيط.
فقال الشيخ حبيب الله: وأنت وهابي وأنتم معشر الوهابية عندي ثلاثة أصناف وهابية نجد ووهابية مصر والشام وأنت منهم ووهابية الهند، فأما وهابية نجد فإنهم كفّار!! بيننا وبينهم ما بين اليهود والنصارى والمسلمين هم اليهود والنصارى ونحن المسلمون. وأما وهابية مصر والشام فهم ضلال. وأما وهابية الهند فهم مخطئون فقلت له: اشرح لي ما ذكرته وبين لي سبب هذه التفرقة فقال لي: أما وهابية نجد فهم عندي كفار لأنهم يقولون: إن ربهم في السماء، وأما وهابية مصر والشام فهم ضلال لأنهم يدّعون الاجتهاد، وادعاء الاجتهاد ضلال ولا يبلغ إلى حد الكفر، وأنا بنفسي لا أقول بالتقليد المحض بل أقول بمنزلة بين منزلتين ثم سرد علي أبياتًا من أرجوزة له لا أحفظ منها إلا شطرا واحدًا وهو قوله: (إنما أقول بالتبصر).(39/171)
فقلت له: هذا التفصيل فيه نظر لأن جميع السلفيين في نجد وفي مصر والشام والمغرب وفي الهند يقولون ويعتقدون أن الله في السماء مستو على عرشه بدون تشبيه ولا تمثيل ولا تأويل ولا تعطيل وأدلة هذا لا تخفى عليك، وأما ما سميته بالاجتهاد فنحن نسميه الإتباع. والأصناف الثلاثة أيضا متفقون عليه إلا أن أهل نجد ينتسبون إلى المذهب الحنبلي في الفروع ونحن لا ننتسب إليه إلا في الأصول، ثم قلت له: ولماذا خففت الحكم على أهل الهند فلم تجعلهم كفارا ولا ضلالاً بل جعلتهم مخطئين؟ فقال لي: لأنهم يزورون قبر النبي صلى الله عليه وسلم، فليس عندهم مما يُنتقد إلا مسألة الاجتهاد فقلت له: فعلام ضللتنا نحن بالاجتهاد وغفرته لهم، فقال: قلت لك إنهم يزورون قبر النبي صلى الله عليه وسلم فقلت له: ماذا تعني بزيارة القبر أتقصد شد الرحال؟ فقال أقصد ذلك كله فقلت له: إن السلفيين في الهند لا يقولون بجواز شد الرحال إلا إلى المساجد الثلاثة فظهر تناقضه، ولم أكن أعلم سبب ذلك التناقض حينئذ غير أني عرفته فيما بعد وذلك أن الشيخ عبد الوهاب الدهلوي التاجر العالم كان بمكة، وكان تلميذا له يدرس عليه بعض فروع العلم وكان يحسن إليه فلذلك خفف الحكم على السلفيين من أهل الهند، وكان يتبع هواه والهوى يعمي ويصم فقد كان يحرم حلق اللحية ويغلظ فيه القول ويفسق مرتكبه، فلما انتقل إلى مصر هاربًا ممن يسميهم بالوهابية كما سيأتي غير رأيه فأفتى بأن حلق اللحية مكروه كراهية تنزيه فقيل له: قد أفتيت زمانًا طويلاً بالتحريم والتفسيق فما عدا مما بدا فقال: إن أكثر العلماء في مصر يحلقون لحاهم فكيف يسوغ لي أن أفسقهم؟!(39/172)
ولما استتيب الأندونسيون وكان هذا الرجل من الذين استتابوهم، اختفيت أنا ثمانية أيام في مكة عند بعض المغاربة، وكنت أبعثه كل يوم إلى المسجد الحرام ليتحسس هل هناك أحد يبحث فلم يجد لذلك أثرا فخرجت من مختبئي. وهذه حسنة أعدها له إذ لم يسع في استتابتي، وسوف يرتكب سيئة تمحو هذه الحسنة.
*مداهنته لمن يسميهم بالوهابية*
لما استولى الملك عبد العزيز على الحجاز بعد هذا التاريخ بقليل أخذ يداهن الملك عبد العزيز وأهل نجد، الذين كان بالأمس يكفرهم. وفي يوم من الأيام جاء الملك عبد العزيز رحمة الله عليه إلى المسجد الحرام فوجد الشيخ حبيب الله والسيد أحمد السنوسي يملآن الأثر المسمى بموضع قدم إبراهيم بماء زمزم ويكرعان فيه بأفواههما كالبهائم فوبخهما، وقال لهما: إذا كنتما تفعلان هذا وأنتما بزعمكما من العلماء فماذا تركتما للجهال؟!
وحدث أنه كان ذات ليلة في مجلس الملك عبد العزيز آل سعود وكان الملك يتكلم في التوحيد، فعارضه فغضب عليه الملك عبد العزيز غضبا شديدا، فظن أن حتفه قد دنا فتقدم إلى الملك وألقى نفسه بين يديه وأظهر التوبة والرجوع عما قاله وإنما فعل ذلك خوفا أن يبطش به، ولم يكن الملك عبد العزيز رحمه الله سريعًا إلى البطش بل كان إذا غضب يقتصر على الكلام ولا يتجاوزه.(39/173)
وعلى إثر ذلك أخذ زوجته إلى المدينة وتركها في بيت أخيه الشيخ محمد الخضر وهرب إلى مصر. وكانت العلاقات بين مصر والمملكة السعودية في ذلك الزمان سيئة جدا بسبب المحمل الذي كانت تبعثه الحكومة المصرية إلى مكة في كل سنة، وهو شيء كالهودج يطاف به في القاهرة ثلاثة أيام يتمسح الناس به ويتبركون به ثم يبعث مع الوفد المصري إلى مكة فيتمسح به الجهال أيضا في جدة وفي الطريق إلى مكة، فأمر الملك عبد العزيز رحمه الله بالمنع من التمسح به والإتيان به إلى مكة وأمر أن يترك في جدة وبعد الحج يرجع به الوفد إلى مصر، فرأى الوفد المصري أن ذلك إهانة له وكانت كسوة الكعبة المشرفة يؤتى بها في مصر يحملها الوفد المصري كل سنة إلى مكة فلما ساءت العلاقة بين المملكتين استغنى الملك عبد العزيز عن كسوة الكعبة التي كان يؤتى بها من مصر، وطلب الصناع من الهند وأسس دارًا بمكة لصنع الكسوة، فاغتنم الشيخ حبيب الله هذا الخلاف والتجأ إلى حكام مصر وشكى لهم ما أصابه من السعوديين والحقيقة أنه لم يصبه شيء فرحبوا به وجعلوه مدرسًا في الأزهر.
وفي سنة 1345هـ توجهت من العراق إلى الحج بصحبة الشيخ مصطفى آل إبراهيم، ومررنا بالقاهرة وكان الشيخ حبيب الله مستقرا بها، فعلمت أن شخصا قال له: هل تعرف الهلالي؟ فقال: نعم أعرفه، فقال له: أهو من أهل العلم فقال له: لا يصلح أن يكون جليسًا لأهل العلم فكيف يكون من أهل العلم؟! فكتبت كتابًا إليه فقلت له فيه: بلغني أنك قلت كيت وكيت، وقد ناظرتك في مدرستك سنة 1341هـ من الظهر إلى العصر كنت تناضل عن عقيدة أسلافك الأرذلين كالجهم بن صفوان والجعد بن درهم وكنت أناضل عن عقيدة السلف الصالح من الصحابة والتابعين والأئمة المجتهدين، فما وجدت فيّ بحمد الله ضعفا ولا توانى وأنشدته في ذلك الكتاب أبياتًا أذكر منها قول الشاعر:
لقد زادني حباً لنفسي أنني ... بغيض إلى كل امرئ غير طائل(39/174)
وأني شقي باللئام ولا ترى ... شقيا بهم إلا كريم الشمائل
وقول المتنبي أيضاً:
ويظهر الجهل بي وأعرفة ... الدر در برغم من جهله
وأبياتًا أخرى نسيتها وكتبت عليه عنوانه وهممت أن ألقيه في صندوق البريد ليصل إليه ويشويه، ولكن أخانا السلفي الشيخ إبراهيم الوادنوني تلطف وتحيل، وقال لي: ناولني هذا الكتاب وأنا أبلغه إليه فناولته إياه وكان مقصوده أن يمنع وصوله إليه حتى لا يسوءه؛ لأنه كانت بينه وبينه صداقة مع اختلافهما في العقيدة فإن إبراهيم سلفي العقيدة وحبيبًا قد علمت معتقده فيما مضى.
وبعد ذلك سافرت إلى الحجاز للحج وكتب السيد رشيد رضا رحمه الله إلى الملك عبد العزيز رحمة الله عليه يرغبه في إبقائي في المملكة ويقول له إن محمدا تقي الدين الهلالي من أفضل من أمّ بلادكم من أهل العلم. وبعد انقضاء الحج تهيأ الشيخ مصطفى آل إبراهيم ليرجع إلى العراق فالتمست من إخواني الشيخ عبد الظاهر أبي السمح والشيخ محمد عبد الرزاق حمزة وغيرهما أن يشفعوا لي عنده ليسمح ببقائي، وأكدت له أنني ما فارقته إلا بقصد البقاء في هذه البلاد المقدسة للتعاون مع إخواني على نشر العقيدة الصحيحة.(39/175)
وكان الشيخ عبد الظاهر أبو السمح قد كتب إلي مرارا يرغبني في التوجه إلى الحرمين والبقاء فيهما بعدما أصلح الله أحوالهما على يد الملك عبد العزيز آل سعود، وكنت في العراق أعيش أحسن معيشة فقد كان الشيخ مصطفى آل إبراهيم قد أنشأ لي مدرسة وجعل لي راتبًا طيبا وتزوجت، فجاهدت نفسي إلى أن أرغمتها على البقاء في مكة وترك ذلك كله مع أني حتى ذلك الحين لم أوعد بشيء وكان معي أخي محمد العربي الهلالي، ولما فارقني الشيخ مصطفى آل إبراهيم سلم لي مقدارًا كبيرا من الدراهم وقال لي: وزعه على العلماء وطلبة العلم السلفيين، فقلت في نفسي: أنا وأخي من طلبة العلم السلفيين أفلا يجوز لي أن آخذ لي ولأخي نصيبًا من هذا المال؟ ثم قلت لنفسي: إن المتبرع بهذا المال يعرفك ويعرف أخاك ويعلم أنكما محتاجان فلو أراد أن يجعل لكما نصيبًا منه لصرح بذلك فالاحتياط والأخذ بالعزيمة يقضى بتوزيع المال كله وألا تأخذ لنفسك ولا لأخيك منه شيئا فوزعته كله ولم آخذ شيئا.
وكنت مع الشيخ مصطفى آل إبراهيم في ضيافة الملك عبد العزيز رحمه الله، فلما سافر أقمت في الطبقة العليا من البيت الذي كان يسكنه الشيخ عبد الظاهر أبو السمح وتلك الطبقة مهجورة شديدة الحر، فجاهدت نفسي على الصبر على تلك الحال، وكان مأمور الضيافة يسكن في الطبقة الأرضية فكنت أمر عليه فأسلم فلا يرد علي السلام إلا في بعض الأحيان.(39/176)
وفي يوم جمعة أردت أن أغتسل للجمعة فذهبت إلى المستقى -ويسمونه البازان- وطلبت من سقاء أن يأتيني بصفيحتين من الماء بعدما كنست الحوض وأخرجت ترابه فلما جاء إلى البيت وعلم أنني أسكن في الطبقة الخامسة امتنع حتى زدته في الأجرة وصارت نفسي توسوس وتقول: كيف تترك راتبا طيبا وبيتا حسنا وتترك أهلك وتصبر على هذه الحال؟ فأدفع هذا الوسواس بمثل قوله تعالى: { وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا 2 وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ } [الطلاق:3،2]. فلما اغتسلت وتهيأت للذهاب إلى المسجد الحرام إذا بخادم مأمور الضيافة يطرق الباب ويقول: إن مأمور الضيافة يسلم عليك ويرجو أن تمر على مكتبه فنزلت إليه، فتلقاني بغاية البشاشة والحفاوة وقال لي: جاءني أمر هاتفي من القصر الملكي بأن أنزلك في الضيافة وأعتذر إليك في التأخير إلى ما بعد العصر، كما أرجو أن تتناول طعام الغداء بعد صلاة الجمعة معي وبعد صلاة العصر يكون كل شيء جاهز.
فجاءني بعد صلاة العصر وذهبنا إلى دار الضيافة، وهي دار السقاف في محلة جياد فوجدت مسكناً طيباً مؤثثاً أحسن الأثاث ونزلت في الضيافة وانفرجت الأزمة.(39/177)
وبقيت أربعة أشهر في الضيافة ثم قال لي الشيخ عبد الله بن حسن رحمة الله عليه ما رأيك في أن تكون إماما وخطيبا في المسجد النبوي؟ فقلت له: أقبل بشرط أن لا أنقص عن عشر تسبيحات في السجود والركوع فقال لي: هذا كثير على الناس لا يتحملونه فقلت: وأنا لا أقبل إلا بهذا الشرط، فقال لي: إذا نعطيك عملا آخر وهو مراقبة المدرسين في المسجد النبوي فقلت: قبلت، هذا مع أن الشيخ عبد الله بن حسن رحمة الله عليه حين سافرنا إلى المدينة كان يقدمني دائما إماما في الصلاة فهو رحمة الله عليه كان يستحسن ما اخترته من إتمام الركوع والسجود والاعتدال إلا أنه رأى أن عامة المصلين يشق عليهم ذلك، فالله يجزل ثوابه ويرحمه رحمة واسعة. سافرت إلى المدينة بصحبة الشيخ عبد الله بن حسن وكان معنا الشيخ محمد عبد الرزاق حمزة وقد عين إماما وخطيبا في المسجد النبوي بعد أن اعتذرت أنا عن قبول ذلك فأقمنا بالمدينة أياما.
* إزالة بستان فاطمة*(39/178)
كانت في صحن المسجد النبوي بئر ونخلة وشجيرات وكان الجهال يسمون ذلك بستان فاطمة ويتبركون بالنخلة وتمرها وبالشجيرات والبئر ويعتقدون أن بئر زمزم تجري تحت الأرض حتى تتصل بتلك البئر يوم عاشوراء من كل سنة، فيقبل الناس في يوم عاشوراء على تلك البئر ويأخذون منها ماء كثيرا للتبرك به فاستشارنا الشيخ عبد الله بن حسن رحمة الله عليه في طم البئر وإزالة البستان، فلم نتردد في الموافقة على ذلك، لأن المسجد كله وقف للصلاة ولا يجوز أن يشغل بغيرها، ولأن الجهال يفتتنون بماء البئر والنخلة والشجيرات فكتب رحمه الله إلى الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن رحمه الله يخبره بما رأيناه ويستأذنه في تنفيذه، فجاء الإذن فأمر الشيخ بطم البئر وقلع تلك الأشجار وتسوية الأرض فكانت من حسناته رحمة الله عليه، ولما قلعت النخلة والأشجار وقطعت وحملت إلى خارج المدينة انتظر المفتونون بها مجيء الليل بظلامه فأخذوها كلها ولم يبقوا شيئا، ولا بد أن يكونوا قد اقتتلوا عليها لينال كل واحد منهم قطعة صغيرة من الأشجار وأوراقها.
وهنا نذكر شجرة (ذات أنواط) التي كانت للمشركين في الجاهلية ينوطون بها أسلحتهم ويتبركون بها، قال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في كتاب التوحيد: باب من تبرك بشجر أو حجر ونحوهما ومضى إلى أن قال: وعن أبي واقد الليثي قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حنين ونحن حدثاء عهد بكفر وللمشركين سدرة يعكفون عندها وينوطون بها أسلحتهم يقال لها: ذات أنواط، فقلنا: يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الله اكبر إنها السنن قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى:(39/179)
{ اجْعَل لَّنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ } لتركبن سنن من كان قبلكم)) رواه الترمذي وصححه قال شارحه الشيخ سليمان بن عبد الله رحمة الله عليه في شرح هذا الحديث ص 150 ما نصه: ((فإذا كان اتخاذ شجرة لتعليق الأسلحة والعكوف عندها اتخاذ إله مع الله مع أنهم لا يعبدونها ولا يسألونها فما الظن بما حدث من عباد القبور من دعاء الأموات والاستغاثة بهم والذبح والنذر لهم والطواف بقبورهم وتقبيلها وتقبيل أعتابها وجدرانها والتمسح بها والعكوف عندها وجعل السدنة والحجاب بها؟! وأي نسبة بين هذا وبين تعليق الأسلحة على شجرة تبركًا؟!.
قال الإمام أبو بكر الطرطوشي من أئمة المالكية: ((فانظروا رحمكم الله أينما وجدتم سدرة أو شجرة يقصدها الناس ويعظمونها، ويرجون البر والشفاء من قبلها ويضربون بها المسامير والخرق فهي ذات أنواط فاقطعوها)).
وقال الحافظ أبو محمد عبد الرحمن بن إسماعيل الشافعي المعروف بأبي شامة في كتاب البدع والحوادث: ((ومن هذا القسم أيضا ما قد عمّ الابتلاء به من تزيين الشيطان للعامة تخليق الحيطان والعمد وسرج مواضع مخصوصة في كل بلد يحكي لهم حاك أنه رأى في منامه بها أحدا ممن شهر بالصلاح والولاية فيفعلون ذلك ويحافظون عليه مع تضييعهم فرائض الله تعالى وسننه ويظنون أنهم متقربون بذلك، ثم يتجاوزون هذا إلى أن يعظم وقع تلك الأماكن في قلوبهم فيعظمونها ويرجون الشفاء لمرضاهم وقضاء حوائجهم بالنذر لهم وهي من بين عيون وشجر وحائط وحجر. وفي مدينة دمشق صانها الله من ذلك مواضع متعددة كعونية الحما خارج باب توما والعمود المخلق داخل باب الصغير والشجرة الملعونة اليابسة خارج باب النصر في نفس قارعة الطريق، سهل الله قطعها واجتثاثها من أصلها فما أشبهها بذات أنواط الوارد في الحديث)) أهـ.(39/180)
فماذا يقول أعداء التوحيد الذين يبغضون الموحدين ويسمونهم بالوهابية فهل كان أبو بكر الطرطوشي وعبد الرحمن أبو شامة أيضاً وهابيين!
وبعدما استقررت في المدينة بعث حبيب الله الشنقيطي من مصر إلى المدينة رجلين ليأتياه بزوجته أحدهما الشيخ إبراهيم المراكشي والثاني شنقيطي لا أعرف اسمه، والشيخ إبراهيم المراكشي مغربي استوطن القاهرة منذ زمن طويل، وهو رجل كريم ضيفني مراراً في بيته فلما رأيته دعوته للغداء، فلما رجع إلى القاهرة كان من أعجب المصادفات أن العلاقة بين الشيخ إبراهيم الودنوني وبين حبيب الله الشنقيطي قد ساءت ووقعت بينهما وحشة فألقى الكتاب الذي أخذه مني في البريد، فوصل الكتاب مع وصول الرجلين الذين بعثهما إلى المدينة فظن حبيب الله أن إبراهيم المراكشي هو الذي جاء بالكتاب وألقاه في البريد فأخذ يلومه، ويقول: يا شيخ إبراهيم هذا قدري عندك تأتيني بكتاب يتضمن تكفيري من ذلك الجهول! فحلف إبراهيم المراكشي أيماناً مغلظة أنه لم يأخذ مني كتاباً ولا سمع مني كلاماً في حقه فبم يصدقه وحصل الغرض المطلوب وهو جزاؤه على إساءته بإساءة مثلها.
*العشاء في قصر الملك حسين*
لما حججت الحجة الأولى سنة 1341 هـ وجدت شيخا من بلدنا بوابًا في قصر الملك حسين، ففرح بي كثيرا ودعاني للعشاء وكان جملة حديثه لي أن قال: يا بني إن هذه البلاد الشرقية فيها عجائب وغرائب، فكن على حذر من أهلها فإنها ليست كبلادنا أهلها كلهم سنيون على مذهب إمامنا مالك، ففي هذه البلاد طائفة يقال لهم الوهابية يبغضون النبي صلى الله عليه وسلم ولا يذكرون اسمه أبدا، فيقولون: لا إله إلا الله مالك يوم الدين بدل أن يقولوا محمد رسول الله فأظهرت له التعجب.(39/181)
وفي سنة 1345 هـ لما كنت في الضيافة الملكية بحثت عنه حتى وجدته وضيفته وعرف حينئذ أنني من الطائفة التي حذرني منها فسكت ولم يقل شيئا، وفي يوم من الأيام كان معي فقصدنا المسجد الحرام فوجدنا الشيخ عبد الظاهر أبا السمح رحمه الله جالسًا على الحصى، فجلست معه وجلس رفيقي فقال عند جلوسه: يا رسول الله فقال له أبو السمح: قل يا الله فقال: ما أقول إلا يا رسول الله يا رسول الله يا رسول الله فاضرب عنقي إن قدرت ثم قال لي: هذا فراق بيني وبينك، فإن صحبتك تجرني إلى لقاء هؤلاء القوم وهرب ولم أره بعد ذلك.
فانظر إلى الجهلاء الذين يسمون بالعلماء كيف يضللّون العوام الجهال { لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلاَ سَاءَ مَا يَزِرُونَ } (النحل:25).
*ملك الحجاز غير المتوج*
هكذا كان يسمى السيد رشيد رحمه الله عميدَ السلفيين في الحجاز الشيخ محمد نصيف بارك الله في حياته، وقد كان في تلك الأيام المظلمة سراجًا يضيء لمن ألهمه الله رشده طريق التوحيد وإتباع السنة، وكان بيته لا يخلو من الضيوف الواردين من جميع أنحاء الدنيا من أمراء البيت الهاشمي وبعد ذلك أمراء البيت السعودي إلى فقراء الحجاج من أهل الهند.. هكذا وجدته سنة 1314 هـ ولا يزال كذلك إلى يومنا هذا، ومناقبه لا يفي بها إلا مؤلف خاص وهو أشهر من أن يعرف، ومع أنه كان متهما بالوهابية كان موضع احترام وإجلال من جميع الناس من الملك حسين وأبنائه إلى الطبقة السفلى من العامة، لأنه من أشرف بيوتات الحجاز ولما آتاه الله من علوّ القدر والوجاهة والمهابة وللسخاء العظيم الذي هو من أخص صفاته وفي الحديث: ((السخي قريب من الله قريب من الناس قريب من الجنة، والبخيل بعيد من الله بعيد من الناس بعيد من الجنة))(1) وما أحسن قول الشاعر:
__________
(1) ضعيف: انظر ضعيف الجامع.(39/182)
تغط بالسخاء عن كل عيب ... فكم عيب يغطيه السخاء
وقال آخر:
أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم ... فطالما استعبدت الإنسان إحسان
ومع شدة عداوة الملك حسين لمن يسميهم بالوهابين كان يحجم عن الإساءة إلى هذا الرجل الكريم إلى أواخر أيام ملكه فقبض عليه ونفاه من الحجاز إلى قبرص فسجن هناك وعزم على قتله، فانهالت عليه البرقيات من جميع أنحاء العالم تحذره من هذه الجريمة ومن جملة من حذره ابنه فيصل الأول وسائر أبناءه، وبعد سجن دام أربعين يوماً أطلق الله سراحه ليعود إلى خدمة العلم والدين وأعمال البرّ وبناء المكرمات.
وقد طفت كثيرا من أنحاء العالم من المغرب الأقصى غربًا إلى كلكتا شرقا ووصلت من جهة الشمال إلى الأراضي القطبية التي لا تغيب فيها الشمس مدة ثلاثة أشهر، فما رأيت أحدا من العلماء والوجهاء منحه الله من خدمة العلم والعلماء وكرم الضيافة والبر والإحسان مثل ما لهذا الرجل، فهو بدون منازع عميد السلفيين في الحجاز بل وفي سائر أنحاء الدنيا فكم طبع من كتب السنة والتوحيد ووزع منها الأعداد الوافرة في جميع أنحاء العالم، وكم له من أياد بيض على أهل العلم والفضل الذين يردون منهله العذب من جميع أقطار العالم في هذه المدة الطويلة، فنسأل الله أن يبارك في حياته ويزيده من فضله.
*عبد الرؤوف الصبان*(39/183)
من أفضل من لقيتهم من السلفيين الذين يوحدون الله ويتبعون رسوله صلى الله عليه وسلم السيد عبد الرؤوف الصبان رحمه الله، وكان مديرا لشركة دبغ الجلود في مكة فقد كرمني وأنزلني في بيته، وكنت مريضا فأخذني إلى الطبيب ولم يزل يرعاني ببره وإحسانه إلى أن انتقلت وأنا مريض إلى جدة، فنزلت عند عميد السلفيين أطال الله بقاءه، وكان يخدمني بنفسه ويجبرني على شرب الحليب إلى أن شفيت، ثم سعى لي في الحصول على الركوب في الباخرة مجانًا إلى بومباي في الهند، وفي تلك الأيام التي كنت عند الشيخ عبد الرؤوف الصبان عرض عليه الأمير علي بن الحسين أن يتخذه كاتبًا له فاستشارني فنهيته، فلم يقبل نصيحتي وصار كاتبًا عند الأمير المذكور، وبعد مدة قصيرة وقعت الحرب بين الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود وبين الملك علي بن الحسين بعد فرار أبيه إلى قبرص، فانهزم الملك علي بن الحسين وخرج من مكة ورافقه كاتبه الشيخ عبد الرؤوف الصبان وبقي منفيًا معه سنين طويلة في أثنائها لقيته في بغداد فوجدته نادما على عدم قبول نصيحتي له.
*السفر إلى الهند*
بعدما شفيت من مرضي عرضت علي أبي مثواي السيد محمد نصيف رغبتي في السفر إلى الهند للقاء علماء أهل الحديث، فسعى لي بواسطة القائم مقام في جدة السيد زينل في الحصول على تذكرة سفر في الباخرة مجاناً من جدة إلى بومباي وسافرت منها إلى دلهي.(39/184)
وكان الشيخ عبد الوهاب الدهلوي قد كتب لي كتاب توصية إلى عمه الحاج عبد الغفار في دلهي؛ فضيفني وأكرمني ولقيت النواب صدر الدين المدبر لشئون مدرسة (علي جان) ومسجده وكان عالماً بالعربية في ذلك الزمان في بلاد الهند في غاية القلة، فرحب بي واستحسن مقصدي وقال لي: إن تجولك في بلاد الهند للقاء العلماء والإطلاع على الكتب يحتاج إلى أمرين: أحدهما الدراهم، والثاني اللغة، وبدون هذين تتعب كثيراً ولا تحصل على طائل، فأنا أقترح عليك أن تمكث عندنا هنا سنة تتعلم فيه شيئاً من اللغة الهندية وتحصل على شيء من المال، وفي أثنائها يستفيد من علمك تلامذة مدرستنا فإن الطلبة عندنا يدرسون كتب التفسير والحديث والأدب العربي نظماً ونثراً بالترجمة الهندية بلغة أردو من البداية إلى النهاية ويتخرجون في المدرسة (ولا تقل من المدرسة) ولم يقرع آذانهم كلام باللغة العربية فيعيشون بكماً صماً يعتمدون على ترجمة الكتب لا على الكتب نفسها.
فقبلت هذا الاقتراح وأقمت في مدرسة (علي جان) فأمر النواب صدر الدين المتقدمين في العلم من الطلبة أن يحضروا دروسي فحضر عندي خمسة عشر طالباً لا يزال أحدهم بقيد الحياة معروف مكانه، وهو الشيخ عبد الودود بن عبد التواب الملتاني وقد حج في السنة الماضية عام 1390هـ ولقيته هنا بالمدينة.
*حادثة عجيبة*
قلت لأولئك الطلبة: ماذا تريدون أن أدرسكم من كتب الأدب؟ فقالوا: نريد أن تدرسنا ديوان المتنبي؛ فبدأت أدرسهم ووجدت صعوبة في إفهامهم لأنهم كما قال النواب صدر الدين: لم يقرع آذانهم كلام عربي قط، وبعد أربعة أيام وصلنا إلى بيت من قصيدة للمتنبي يمدح بها سيف الدولة وكانت النسخة التي نقرأ فيها مطبوعة في دهلي وفيها أخطاء فوجدنا فيها البيت هكذا:
أنا له الشرف الأعلى تقدمه ... فما الذي بتوقى ما أتى نال(39/185)
ففكرت في معنى الشطر الثاني من هذا البيت فلم أكد أفهمه فلما حضر الطلبة قلت لهم: هذا الشطر لم أفهمه وأظن أنه محرف، فأنكروا ذلك وقالوا: (توبة، أستغفر الله) وهاتان الكلمتان تستعملان في لغتهم عند الغضب والإنكار الشديد وقالوا لي: إن هذه النسخة التي في يدك درسنا بها مولانا عبد الرحمن النكرامي مرارًا فلم يجد فيها خطأ، فيا لله للعجب أنت عربي وأديب وتعجز عن فهم كلام المتنبي مع أن أقل الأدباء علما عندنا يدرس ديوان المتنبي بدون مطالعة، والآن ظهر لنا صدق ما قال أستاذ الأدب مولانا عبد الرحمن النكرامي فقلت لهم: وماذا قال؟ قالوا: قال لنا: اذهبوا إلى النواب صدر الدين وقولوا له إننا لا نفهم كلام هذا المدرس العربي ولا حاجة لنا بتدريسه، فقلنا له: نحن نستحي من النواب أن نقول له ذلك فقال لنا: اعلموا أن العرب في هذا الزمان كلهم جهال لم يبق عندهم من العلم شيء وإنما كان عندهم العلم في زمان النبي صلى الله عليه وسلم وفي زمان السلف الصالح، أما اليوم فلا علم عندهم أما ترونهم كل سنة يأتون من مكة والمدينة ويتكففون الناس فهل رأيتم منهم أحدا من أهل العلم؟ يضاف إلى ذلك أن هذا العربي- يعنيني- شاب مجهول في الهند لا يعرفه أحد وشهادته لا تنفعكم، وأنا لا أعطيكم شهادة إذا تركتموني ودرستم عنده فقلت لهم: إن شئتم أن تحضروا درسي فاحضروا، وإن رأيتم أن درسي لا فائدة فيه فانصرفوا إلى مولانا عبد الرحمن فانصرف أحد عشر منهم وبقي أربعة لا لأنهم يعتقدون صحة ما قلت لهم من أن شطر البيت يمكن أن يكون محرفا بل فضلوا سماع الكلام العربي ولو من مدرس قليل العلم وكان أحدهم عبد الودود المذكور.(39/186)
فذهبت إلى النواب صدر الدين رحمه الله وذكرت له ما وقع، فقال لي: أنا أعرف علمك أعرف علم الشيخ عبد الرحمن النكرامي وقد أردت لهم الخير؛ فإن أبوا فذرهم في ضلالتهم وأرجو أن تبقى في مكانك ولو لم يحضر عندك أحد منهم، وبقيت أربعة أيام أفكر في معنى ذلك الشطر فلم أفهمه وقال لي أحد الأربعة الباقيين: إن الشيخ عبد الرحمن قال للطبلة: إن هذا الشطر واضح يفهمه كل أحد حتى الحمار وقد رأيتم صدق ما قلته لكم.
وفي اليوم الخامس ذهبت إلى الشيخ عبد الرحمن النكرامي رحمه الله وأمامه حلقة كبيرة من الطلبة، فسلمت عليه فرد عليّ السلام فقلت: يا شيخ عبد الرحمن لم أفهم هذا الشطر وقد أخبرني الطلبة أنك تفهمه فأفهمني إياه، فقال لي كلام لا معنى له فقلت له: أعربه من فضلك فبالإعراب يتبين المعنى فقال: ما موصولة، والذي توكيد لها، ويتوقى فعل مضارع فاعله ضمير مستتر تقديره هو يعود على الأعداء في البيت قبله، وما مفعول به، وأتى فعل ماض وفاعله ضمير مستتر يعود على الممدوح، ونال خطأ والصواب نالوا، فقلت له: إذا كانت ما موصولة يكون تقدير الكلام الذي الذي فقال: وأي شيء في ذلك؟ فقلت له: وفاعل يتوقى إذا كان يعود على الأعداء لم يصح ذلك لأن قياس النحو يقتضي أن يكون واو فيقال: يتوقون، وليس عندنا ضمير مستتر تقديره هم إلا في نحو قولنا: الرجال قائمون، ففي قائمون ضمير مستتر تقديره هم، أما الفعل فلا يقدر فيه من ضمائر الغيبة إلا هو وهي.
قال لي: تريد أن تعتزر (يعني تعترض) على المتنبي؟ إنك لا تستطيع ذلك فقد عكف أبو عليّ الفارسي على ديوان المتنبي يبحث عن خطأ فلم يجده فقلت له: فقد عيب عليه أبيات منها قول ه:
جخفت وهم لا يجفخون بها بهم ... شيم على الحسب الأغر دلائل
فيه التعقيد، ومن ذلك ثوله:
إن كان مثلك كان أو هو كائن ... فبرئت حينئذ من الإسلام
فيه الركاكة وقبح البراءة من الإسلام لأمر مكذوب يريد به التملق ومن ذلك قوله:(39/187)
فقلقلت بالهم الذي قلقل الحشا ... قلاقل هم كلهن قلاقل
فيه من الركاكة والثقل على اللسان بتكرار حرف القاف ما لا يخفى على فأعرض عني، وقال للطالب الذي كان يقرأ عليه: (تشالو) يعني استأنف القراءة فأصابني من الغم ما الله به عليم، ولم أكن قبضت شيئا من المدرسة وما كان عندي إلا أربع وعشرون روبية أي درهمًا هنديًا، فعزمت على شراء شرح ديوان المتنبي للعكبري لأعرف أين يكمن سر عدم فهمي لذلك الشطر أهو في جهلي أم في الخطأ الواقع في الطبعة الهندية؟ فسألت أحد الطلبة عن لفظ السؤال عن المطبع المجتبائي بلغة أردو فلقنني إياه، فذهبت أسأل إلى أن وصلت فسألت صاحبه عن شرح العكبري لديوان المتنبي، فقال لي: النسخة الأخيرة اشتراها مني طالب من مدرسة كذا وكذا فذهبت إلى تلك المدرسة ووجدت الطالب الذي اشترى النسخة فوجدت البيت هكذا:
أنا له الشرف الأعلى تقدمه ... فما الذي بتوقى ما أتى نالوا؟
فظهر أنني كنت مصيبًا وأن الشطر كان محرفًا، والطامة الكبرى كانت في زيادة نقطة بلفظ (بتوقي) الذي هو جار ومجرور فصار (يتوقي) فعلاً مضارعًا وظهر أن الشيخ عبد الرحمن لم يفهم منه شيئا، فإن (ما) التي زعم أنها موصولة ليست موصولة بل هي استفهامية، و(يتوقى) الذي اخترع له فاعلاً وجعله ضميرا مستترا تقديره هو ليس فعلاً وإنما هو جار ومجرور.
فنقلت البيت على الوجه الصواب وما قاله العكبري في شرحه.(39/188)
ومعنى البيت: (تقدُّمُ سيف الدولة في الحروب وهزيمته لأعدائه أكسبه الشرف الأعلى فما الذي ناله أعداؤه بتوقيهم وإحجامهم عن فعل ما أتاه من ذلك؟! الجواب نالوا الخزي والعار) فانطلقت إلى الشيخ عبد الرحمن النكرامي وهو يدرس وكان لا يفتر عن التدريس طول النهار، فسلمت عليه فرد علي السلام وقلت له: أيها الشيخ إنك قلت للطلبة: إن هذا الشطر يفهمه كل أحد حتى الحمار وقد ظهر أنك لم تفهمه وناولته الصحيفة وقلت له: اقرأ ما قاله العكبري في شرحه فقرأه ثم ناولني الصحيفة وقال للطالب الذي كان يقرأ عليه (تشالو) فهجرته ثلاثة أيام وهجوته بقصيدة لا أريد أن أذكر منها هنا شيئا فكان خيرا مني لأنه بعد ثلاثة أيام بدأني بالسلام.
*التجول في الهند*(39/189)
بعدما مضت على وصولي إلى دهلي ستة أشهر جاء شهر رمضان وهو وقت تعطيل في مدارس أهل الحديث بالهند، وكنت قد جمعت شيئا من المال وكانت عندي نسخة من عون المعبود شرح سنن أبي داود تأليف جماعة من علماء أهل الحديث منهم شيخنا عبد الرحمن بن عبد الرحيم المباركفوري كما أخبرني هو رحمه الله بذلك، ولا تصح نسبته إلى شخص واحد وإن كان الشيخ شمس الحق العظيم آبادي هو الذي كان ينفق على أولئك الجماعة زمان تأليفه ويشاركهم في العمل، بعثه بسبع عشرة روبية فتوجهت من دهلي إلى لكناو وفيها لقيت الشيخ محمد بن محسن اليمني الأنصاري، فقرأت عليه أطرافا من الكتب الستة، وأخذت عنه الإجازة في جميع مروياته عن أبيه عن آل الأهدل. ثم توجهت إلى بنارس ولقيت فيها الأديب الشيخ عبد المجيد الحريري الحاصل على شهادة ماجستير من جامعة (علي كره) ففرح بي فرحا عظيما والتمس مني أن أبقى عنده ليستفيد من علمي وعرض علي راتبًا أكثر مما كنت آخذه في مدرسة (علي جان) وتكفل بجميع ما يلزمني من السكنى والمعيشة فوعدته خيرا. وتوجهت إلى مدينة (مو) ولقيت العالم الجليل الشيخ محمد أحمد ومنها توجهت إلى مبارك فور بقصد لقاء العالم الجليل الورع النبيل خاتمة المحققين في تلك النواحي الشيخ عبد الرحمن بن عبد الرحيم المبارك فوري فأقمت عنده مدة يسيرة قرأت عليه فيها أطرفا من الكتب الستة وثلاثيات البخاري وعارضت معه موضع من كتابه القيم (تحفة الأحوذي) في شرح جامع الترمذي والتمس مني أن أنظم قصيدة في تقريظه فنظمتها وتركتها عنده فأدرجها في آخر المجلد الرابع، وكنت قد طبعت أربع قصائد في دهلي سميتها الهاديات تقدمت إحداها وهي الميمية التي مطلعها:
من فاته المصطفى المختار من مضر إلخ.
وسأدرج هنا قصيدة أخرى منها. فنقل شيخنا المذكور في مقدمة تحفة الأحوذي إحدى القصائد الأربع وهي تخميس قصيدة حميد القرطبي التي أنشدها القسطلاني في مقدمة شرحه للبخاري ومطلعها:(39/190)
نور الحديث مبين فادن واقتبس ... واحد الركاب له نحو الرضى الندس(1)
إلا إنه لم يسمني بل قال: وقال بعض الأعلام مخمساً هذه القصيدة ولقيت منه من الإكرام ما أعجز عن وصفه بل أسأل الله أن يكافئه على ذلك في جنات عدن مع الذين أنعم الله عليهم مع أني أدعو له في كل صلاة.
ورأيت من زهده في الدنيا وتواضعه وحسن خلقه ما يفوق الوصف فقد كان يقضي أوقاته كلها في خدمة العلم تدريساً وتأليفا وإفتاء، ودعاه الدهلويون حين عزموا على تأسيس دار الحديث في مكة شرفها الله إلى أن يكون رئيسًا فيها فأبى، ودعاه غيرهم من أصحاب المدارس فأبى، وكان لا يعيش إلا مما يكتسبه من العلاج لأنه كان طبيبًا حاذقًا، وكان لا يشتغل بالطب إلا من بعد صلاة العصر إلى المغرب.
وذكر مناقبه يفضي بي إلى التطويل الذي يجعل طبع الكتاب صعبًا، ولكن لابد أن أذكر مكرمة له لا أستطيع تركها وذلك أنه حتم علي في تلك المدة أن لا آكل إلا عنده، ولما عزمت على السفر قال لي: لا تسافر في السكة الحديدية إلى مدينة أعظم كرفان ذلك يشق عليك فهنا اثنان من أصحابنا يسافران على عربة تجرها الخيل في وسط الليل، فأردت أن أودعه فقال لي: لابد أن أخرج لوداعك وأصر على ذلك فقام في نصف الليل وذهب معي إلى المكان الذي فيه العربة، فوضع في كفي قرطاسًا وضم يدي عليه وقال لي: أستودع الله دينك وأمانتك وخواتيم عملك، زودك الله التقوى ويسر لك الخير حينما توجهت، وظننت أن القرطاس ورقة مالية فوضعتها في يده وضممتها وقلت له: لست في حاجة فأخذ بيدي إلى أن بعدنا عن الرجلين وبكى بكاءً شديدًا وهو يقول: اقبل مني اقبل مني، فاقشعر جلدي وندمت على ما فعلت وقبلت تلك الورقة وتأثرت بما رأيته من بكائه حتى أني حين طلع الفجر صليت الصبح إمامًا بالرفيقين فبكيت كثيرًا في أثناء القراءة فالله يرحمه رحمة واسعة.
وهذه القصيدة التائية في صفة رحلتي من المغرب إلى الهند:
__________
(1) الندس: الفطنة والكياسة.(39/191)
خليلي عوجا بي إلى كل ندوة ... بعا قول خير الرسل يروي بقوة
ولا تقربا بي مجلس الرأي إنه ... ضلال يحط لتابعيه بهوة
على مجمع فيه كتاب إلهنا ... يفسر تفسير بعلم وحكمة
لدى ثلة قد نور الله قلبهم ... وخصهم بالهدى أفضل نعمة
فصانوا كتاب الله جل جلالته ... عن اللغو والتحريف أسوأ بدعة
وردوا افتراء الخلف من ضل سعيهم ... وقد فرقوا من شؤمهم خير شرعة
وأصلوهم حرب الفرنج بهمة ... كسيف صقيل في مضاء ولمعة
إليهم أجوب البر والبحر آويا ... لأنظر من فازوا بنور ونظرة
وأقبس ن أنوار علم سنة ... وذلك قصدي في اغترابي وهجرتي
وأبعد عن أهل البدائع والخنا ... وأدرك روحاً من عنائي وغربتي
وليس مرادي غربة البعد والنوى ... ولكنها في الدين أعظم كربة
ولما أبان الله لي نور دينه ... وأنقذني من طرق أصحاب خرقة
أولئك قوم بدلوا الدين بالردى ... وقد مرقوا من هديه شر مرقة
وأبغضني الأقوام حين نبذتهم ... وملت إلى قفو الكتاب وسنة
وقد قلبوا ظهر المجن وخشنت ... صدورهم لي واستعدوا لمحنتي
وقد زعموا هجري وشتمي قربة ... وكل جليس لي سيردى بسرعة
وقد جزموا أني أموت على الردى ... وأخلد في النيران من أجل رجعتي
أماني حمق تضحك الثاكل التي ... بواحدها سارت ركاب المنية
نبذتهم نبذ النوى وتركتهم ... وهاجرت كي أحظى بسؤلي ومنيتي
وما الي ولي أو رفيق مصاحب ... ولا ناصر إلا إله البرية
عليه اعتمادي لا على أحد سواه ... فهو قدير أن يجود ببغيتي
وما أطلب المال الذي هو زائل ... سوى بلغة لا بد منها لخلتي
سفرت إلى مصر لأخبر خبرها ... وأنظر هل فيها شفاء لعلتي
ومن قبل قد أخبرت أن في ربوعها ... لاجالاً لنصر الدين أصجاب شدة
وصلت فلم ألف سوى أهل بدعة ... وشرك وإلحاد وشك وردة
سمعت بها الإلحاد يعلن جهرة ... بجامعة للشر مع كل فتنة
رأيت بها الأوثان تعبد جهرة ... قبوراً عظاماً ناخرات أجنت
ويدعون دون الله من لا يجيبهم ... وهم عن دعاء القوم في عظم غفلة(39/192)
لهم جعلوا قسماً بمال ولدة ... فلا عاش من قد ظنهم أهل ملة
حثا ثلة مستضعفين رأيتهم ... تسومهم الأعداء سوء الأذية
وهم صبر مستمسكون بدينهم ... ويدعون ما اسطاعوا بيضا نقية
وما صدهم إيذاؤهم عن جهادهم ... لأنهم أهل النفوس الأبية
أقمت بها عاماً إلى الله داعياً ... فأرشد رب الناس قوماً بدعوتي
يعدون بالآلاف في الريرمون كلهـ ... ـم أهل إخلاص وأهل فتوة حشا
ثلة
ومن بعد ذا سافرت للحج راجياً ... قبولاً من الله الكريم لحجتي
فأتككته والحمد لله سائلاً ... من الله يهديني سواء المحجة
وكنا سمعنا أن بالهند فرقة ... على السنة الغراء بصدق وحجة
فقلت عسى منشودتي عندهم ترى ... وهزتني الأشواق أية هزة
بلغت فألفيت المخبر صادقاً ... وشاهدت سنات تجلت بعزة
قد اخترت دهلي للإقامة إنها ... بلاد علوم الدين فيها تسنت
وقد شفيت نفسي وزال سقامها ... غداة رأت عيني مساجد سنة
فلا تسمعن فيها سوى قال ربنا ... وقال رسول الله يخر البرية
لقد مثلوا خير القرون لناظر ... بقول وفعل واجتهاد ونية
إمامهم خير الأئمة كلهم ... عليه من الرحمن أزكى تحية
تمت
*السيد سليمان الندوي*
السيد سليمان من أكابر علماء الهند ورؤسائهم في ذلك الزمان وكان يدير شؤون مؤسستين عظيمتين: إحداهما دار المصنفين التي أسسها هو بنفسه واختار نخبة من ذوي الكفاءة والمقدرة على تصنيف الكتب وطبعها ومن أهمها التاريخ الذي بدأ تأليفه أستاذه الشيخ شبلي النعماني، واستمر هو في تكميله وهو من أحسن كتب التاريخ حسب ما شهر بذلك عند علماء الهند وأنا لم أقرأه لأنه بلغة أردو ومعرفتي بها ضعيفة.(39/193)
والمؤسسة الثانية كلية ندوة العلماء التي تخرج فيها هو وغيره من الأدباء والعلماء وقد أسسها قبل ذلك بزمان طويل ثلاثون رجلاً من كبار علماء الهند، ووضعوا لها مناهج الدراسة ليتخرج فيها رجال قادرون على الدعوة إلى دين الحق الإسلام، ولا تزال هذه المؤسسة سائرة في طريقها إلى الآن وعلماؤها حنفيون كأكثر علماء الهند، وكان ساعد السيد سليمان الأيمن في تدبير شؤونها الدكتور عبد العلي رحمة الله عليه والذي يتولى تدبير شؤونها في الوقت الحاضر هو تلميذي الأستاذ أبو الحسن علي الندوي أخو الدكتور عبد العلي وهو مشهور في البلاد العربية بتأليفه وخطبه التي ألقاها في أمهات البلدان العربية.
أقمت عند السيد سليمان الندوي أيامًا كنت ضيفه فيها وأكرمني غاية الإكرام، ثم توجهت إلى (بهريا) للقاء العالم الأديب الشاعر البليغ الشيخ عبد الحميد الفراهي وكانت له مدرسة كبيرة يعلم فيها علوم الإسلام واللغة العربية ففرح بي وأكرمني والتمس مني أن أكون مدرسًا في مدرسته وعرض علي راتبا طيبا مع السكنى والمعيشة، فاعتذرت له بأني وعدت الشيخ عبد المجيد الحريري في بنارس أن أقيم عنده.(39/194)
ثم سافرت إلى كلكتا وهي قاعدة بلا بنكال ولقيت بها نابغة الهند في العلم والأدب والسياسة أبا الكلام آزاد، فرحب بي وبقيت في ضيافته بإلحاح منه خمسة عشر يوماً وكان له كاتب اسمه عبد الرزاق المليح آبادي وهو الذي يحرر صحيفة عربية كان ينشرها أبو الكلام، فالتمس مني أبو الكلام أن أنشر فيها ما يتيسر من المقالات فنشرت فيها ثلاث مقالات في أخبار البربر وأحوالهم ولغتهم، وكان أبو الكلام لا يفرق بين البربر الذين هم أمة عظيمة في المغرب تمتد الأراضي التي يسكنونها من حدود مصر شرقاً إلى حدود سنغال غرباً، وتشمل على ليبيا وتونس والجزائر والمغرب وموريتانيا كما تسمى هذه البلدان في هذا الزمان، لا يفرق بين هذه الأمة وبين سكان (بربرة) في السودان فأخبرته بالفروق الكثيرة التي بين الفريقين واهتم بذلك كثيراً. فإن قيل: إن الناس في المشرق العربي يعتقدون أن هذه البلدان عربية فكيف جعلتها بربرية؟ فالجواب: إن سكان هذه البلدان الأصليين هم البربر، وقد نزح إليها العرب في أول الفتح الإسلامي، وفي القرن السادس الهجري كما في مقدمة ابن خلدون عند ذكر بني هلال وبني عامر وهؤلاء العرب النازحون عددهم قليل جداً بالنسبة إلى السكان الأصليين ولكن الإسلام وحدّ بينهم وجعلهم أمة واحدة لا فضل لأحد الفريقين على غيره إلا بتقوى الله، وبطول الزمان انتشرت اللغة العربية في هذه البلدان فصارت أكثر الحواضر تتكلم بها وعلى هذا يصح أن نسميهم عرباً مستعربة ولكن إلى هذه الساعة لا يزال نحو نصف سكان هذه البلدان يتكلمون بالبربرية، والخطب في ذلك سهل فإن البربر من الشعوب التي خرجت من جزيرة العرب قبل زمان سحيق في القد، ونحن معشر طلبة علم اللغات لا نشك في ذلك كما أن الواحد نصف الاثنين ولذكر الأدلة على ذلك مقام آخر.(39/195)
وكان عبد الرزاق المليح آبادي زنديقاً وكان يعظم جمال الدين الأفغاني ويزعم أنه كان ملحداً ولا يعظم رفيقه محمد عبده ولا صاحبه السيد رشيد رضا، لأنهما بزعمه لم يفهما فلسفته لأنها أعلى من مستواهما وقد جادلته في ذلك وكثير من الناس في هذا الزمان يرون هذا الرأي ولكن أقرب الناس إليه محمد عبده ورشيد رضا يشهدان بأنه مؤمن وكتبه التي ألفها وخصوصا رسالته في الرد على الدهرية لا تبقي شكاّ في لأنه كان من المؤمنين.
ومن أعجب ما سمعته من عبد الرزاق المليح آبادي أننا كنا نتجادل في تارك الصلاة أهو مسلم أم كافر واستعرضنا أدلة العلماء وخلافهم في ذلك، فقال لي: عندي دليل قاطع لا يعرفه العلماء الذين ذكرت على أن تارك الصلاة مؤمن فقلت: وما هو؟ قال لي: هو أنا، لأنني لا أصلي ومع ذلك لا أشك في أنني مسلم. ثم رجعت إلى بنارس وأقمت عند الشيخ عبد المجيد الحريري ضيفا مكرما وأستاذا محترقا مدة ثلاثة أشهر، ثم سافرت إلى (عظيم آباد) ولقيت الشيخ إدريس بن شمس الحق فأطلعني على خزانة كتب والده وأكرمني وزرت خزانة كتب (خدا بخش) بتلك المدينة فرأيت في الخزانتين كتبا نفيسة منها كتاب الاستذكار شرح الموطأ لابن عبد البر ومنها كتاب الأحكام الكبرى لعبد الحق الإشيلي.
ثم سافرت إلى لكناو ونزلت عند الشيخ خليل بن محمد بن حسين بن محسن الحديدي الأنصاري واليمني ففرح بي وأكرمني وأخبرته بأني أريد لقاء والده الشيخ محمد حسين في بهوبال، فكتب إلى والده بذلك فأجابه بأنه يستحسن أن أنزل في ضيافة ملكة بهوبال، وقصد بذلك إكرامي، فقال لي الشيخ خليل: ابعث برقية إلى الكولونيل عبد القيوم أمير الضيافة فبعثتها إليه، وركبت القطار في الدرجة الثالثة التي كنت دائمًا أسافر فيها لأن أجرة الركوب فيها رخيصة ولو ركبت الدرجة الثانية لما أمكنني أن أرى إلا قليلاً من البلدان وأنا شاب لا يهمني تحمل المشقة.(39/196)
فلما وصل القطار إلى محطة بهوبال كانت سيارة ملكية تنتظرني أمام عربات الدرجة الثانية فلم يجدني فيها الكولونيل عبد القيوم فبحث عني فوجدني من ركاب الدرجة الثالثة فرحب بي وركبت السيارة الملكية، ووصلت إلى دار الضيافة ووجدت أثاثها في غاية الفخامة والزينة، ثم توجهت إلى شيخنا محمد بن حسين بن محسن في بيته ففرح بي كثيرا وبدأت أذاكره في علم الحديث، وكنت ألازمه في كل وقت إلا في أوقات الطعام فإني كنت أذهب إلى دار الضيافة وأقمت على ذلك خمسة أيام وعينت الملكة يوماً لزيارتها، وقبل ذلك اليوم بيوم واحد جاءني الكولونيل عبد القيوم وقال لي: إن الملكة تسلم عليك وتعتذر عما وعدت به من اللقاء، وقد أمرتني أن أنقلك من دار الضيافة إلى بيتي وأكون في خدمتك مدة إقامتك في بهوبال.
فقلت له: أمهلني حتى أخبر بهذا شيخنا محمد بن حسين فركبت معه السيارة إلى بيته فوجدته قد عرف الخبر وقال لي: إني حين طلبت من الملكة أن تكون ضيفها لم أفعل ذلك بخلاً ولا عجزا، وإنما أردت أن أكرامك وإكرام العلم الذي أنت طالبه ولكن أعداءنا من متعصبة الحنفية ذهبوا إلى الملكة وقالوا لها: إن هذا الرجل العربي الذي في ضيافتك ليس من سكان جزيرة العرب بل هو مغربي، ومن الشروط التي شرطها عليك الإنكليز أن لا تجتمعي بأي شخص ينتمي إلى دولة أجنبية ولا يخفى عليك أن المغرب تابع للدولة الفرنسية ففي لقائه خطر عليك، وقال الشيخ للكولونيل عبد القيوم: جزاك الله خيرا على استعدادك لضيافة محمد تقي الدين الهلالي وجزى الله الملكة خيرا على قصدها الحسن وإكرامها لأهل العلم وجزى الله الوشاة شرا فهذا الرجل محمد تقي الدين طالب علم لا علاقة له بأي دولة إلا أن بلده المغرب تسلطت عليه دولة أجنبية ففرضت عليه حمايتها كما فرضت بريطانية حمايتها على بهوبال.(39/197)
وبقيت عنده خمسة عشر يومًا، ثم سافرت قافلاً إلى لكناو فزرت خزانة كتب الشيخ عبد الحي اللكناوي العالم الحنفي المشهور ذي التآليف الكثيرة في الحديث والفقه باللغة العربية، فوجدت فيها كنزين ثمينين أحدهما خمسة أسفار من مصنف ابن أبي شيبة وأول ما وقع بصري فيه عليه حديث موقوف رواه ابن أبي شيبة بسنده إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه سئل عن الخوارج: أكفار هم؟ فقال: لا، من الكفر فروا، والكنز الثاني هو كتاب التقاسيم المعروف بصحيح ابن حبان، وكلا الكتابين لم يطبع إلى الآن فيما علمت ومن لكناو سافرت إلى دهلي ثم إلى بومباي بقصد الرجوع إلى المغرب مارا بالعراق فالشام فمصر، ووصلت إلى مدينة بومباي فنزلت عند العالم الصالح الشيخ شرف الدين الكتبي رحمة الله عليه، وأقمت في بومباي شهرين دخلت في أثنائها المستشفى وأجري لي عمل جراحي غير ناجح في عيني اليسرى وكان الشيخ شرف الدين رحمه الله في تلك المدة يغمرني ببره وإحسانه.
*لقاء الشيخ مصطفى آل إبراهيم*(39/198)
بينما أنا جالس في مكتب الشيخ شرف الدين رحمه الله إذا بشاب أقبل في سيارة فخمة، وكانت السيارة في ذلك الزمان قليلة ودخل المكتب وعليه بزة فاخرة من الثياب وروائح العطر تفوح منه وهو شاب في الثانية والعشرين من عمره فقام له الحاضرون كلهم وعظموه وتنافسوا في التقرب إليه وإطلاعه على ما طبع حديثا من الكتب، أما أنا فبقيت جالسا على كرسي أطالع كتاب ولم أعبأ بمجيئه فلما جلس واطلع على ما وجد من الكتب سأل الشيخ شرف الدين وكان يعلمه الأدب العربي عن قوله تعالى: { وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ } على أي شيء نصبت { حَمَّالَةَ } مع أن الظاهر يقتضي أن تكون مرفوعة لأنها صفة لامرأته، فقال الشيخ شرف الدين: أنا لا أجيبك بحضور الأستاذ محمد تقي الدين الهلالي لأنه أعلم مني بالجواب، فحينئذ سلم علي الشيخ مصطفى وسألني عن حالي وبلدي فأخبرته أني من المغرب فقال لي: ما تقول في جواب السؤال الذي سمعت؟ فقلت له: هذا الكلمة ترفع وتنصب ورفعها ونصبها قراءتان سبعيتان، أما الرفع فواضح وأما النصب فبفعل محذوف وجوبا تقديره أذم، فطلب تفسير البيضاوي فوجد الأمر كما ذكرت له فأعجبه ذلك واستمر يسألني عن مسائل مختلفة مدة ساعة ثم قال للشيخ شرف الدين: أتريد أن تركب معي لأوصلك إلى بيتك؟ قال: نعم. وفي صباح الغد قال لي الشيخ شرف الدين: إن ذلك الشاب الذي كان هنا أمس سألني عنك فأخبرته أنك تريد السفر إلى العراق ثم إلى الشام ثم إلى مصر ولكن السفارة الإنكليزية رفضت إعطاءك سمة الدخول إلى العراق، لأن بريطانيا كانت في ذلك الوقت في نزاع مع الحكومة التركية على لواء الموصل فكانت لا تأذن لأحد في زيارة العراق إلا إذا كان معروفا عندها بولائه لها فقال له الشيخ مصطفى: قل له أنا أستطيع أن آخذه إلى العراق بدون جواز فإن شاء أن يقيم عندنا بالبصرة لنستفيد من علمه فذلك ما نبغي، وإن أراد السفر إلى الشام أو مصر سهلت له طريقه إلى أن يصل إلى مقصوده، فقلت:(39/199)
للشيخ شرف الدين أنا موافق كل الموافقة.
وبعد ذلك ببضعة أيام كنت سائرا في أحد شوارع بومباي يرافقني عبد الله ابن قاضي شقراء وهي بلدة مشهورة في نجد، فمر بنا الشيخ مصطفى آل إبراهيم في سيارته فوقف ونزل من السيارة وأقبل علي وصافحني، وسأل عن الحال ببشاشة وقال لي: هل أخبرك الشيخ شرف الدين بما اقترحت عليك؟ فقلت: نعم وأنا موافق على ذلك فعين لي يوم السفر وقال لي في صباح اليوم الفلاني أجدك في مكتب الشيخ شرف الدين ثم رجع إلى سيارته وركبها، فقال لي عبد الله: يا عجبا كيف عظمك الشيخ مصطفى آل إبراهيم كل هذا التعظيم وعندنا هنا الشيخ عبد الرحمن القصيبي وهو مثله في الغنى والجاه لو رأى وهو في سيارته عالما من علماء نجد ثم دعاه ليكلمه وهو جالس في سيارته لأقبل ذلك العالم يسعى إليه فرحا مسرورا؟ فحكيت له قصة لقائي للشيخ مصطفى وأنني حين جاء لم أقم له ولم أهتم به فلذلك عظمني، وقلت له إن من عادتي أن لا أعظم غنيا إلا إذا كنت أستفيد من غناه بخلاف ما عليه أكثر الناس الذين يعظمون الأغنياء وإن كانوا يعلمون أنهم لا ينفعون بشيء كما قال ابن دريد في المقصورة:
عبيد ذي المال إن لم يطمعوا ... من ماله في شربة تروي الصدى
وقال غيره:
إن الغني إذا تكلم بالخطأ ... قالوا أصبت وصدقوا ما قالا
وإذا الفقير أصاب قالوا كلهم ... أخطأت يا هذا وقلت ضلالا
إن الدراهم في الأماكن كلها ... تكسوا الرجال مهابة وجمالا
فهي اللسان لمن أراد فصاحة ... هي السلاح لمن أراد قتالا
وقال غيره:
يمشي الفقير وكل شيء ضده ... والناس تغلق دونه أبوابها
وتراه ممقوتاً وليس بمذنب ... يرى العداوة لا يرى أسبابها
حتى الكلاب إذا رأت ذا غنية ... أصغت إليه وحركت أذنابها
وإذا رأت يوماً فقيراً ماشياً ... نبحت عليه وكشرت أنيابها
*السفر إلى العراق في الباخرة*(39/200)
لما حان وقت السفر جاءني الشيخ مصطفى فتوجهنا إلى المرسى لنركب الباخرة إلى البصرة فقال لي: إن عندي سبعة من الخدم، وقد بعثت أحدهم مع السفن الشراعية التي لا يحتاج راكبها إلى جواز، فإذا صعدت سلم الباخرة وسألك الإنكليزي ما اسمك فقل: اسمي حسن الحنيان فقلت له: عفوا أنا لا أكذب، فضحك كثيرا وقال لي: أنت عربي تريد أن تسافر إلى بلد عربي وقد منعك الإنكليز من حقك فأي حرج عليك إذا كذبت عليهم لتتوصل إلى حقك؟ فقلت له: لم ينشرح صدري لذلك فقال لي: هل تستطيع أن تسكت إذا سألك الإنكليزي؟ فقلت: نعم، فقال: إذا سألك الإنكليزي فاسكت وأنا أجيب عنك، فلما صعدنا السلم تقدم هو وأنا خلفه فسألني الإنكليزي: إيش اسمك؟ فسكت فقال الشيخ مصطفى: اسمه حسن الحنيان فدخلت الباخرة، وفي مساء ذلك اليوم قال لي: هل قلت شعرا؟ فقلت: نعم فقال لي: هل تستطيع أن تشطر هذه القصيدة وهي لشوقي مطلعها:
خدعوها بقولهم حسناء ... والغواني يغرهن الثناء
فأعطاني القصيدة مكتوبة فانصرفت إلى منزلي وشطرتها في تلك الليلة وسأدرجها مع التشطير هنا لأني أشعر أن بعض قراء هذا الكتاب إن لم نقل كلهم، يحبون الإطلاع عليها، والشطور المزيدة بين قوسين ونصها:
خدعوها بقولهم حسناء ... (وامتدح الكواعب استهواء)
(فرنت للوصال بعد نفور) ... والغواني يغرهن الثناء
ماتراها تناست اسمي لما ... (أن تفانت في حبها العظماء)
(والتناسي شأن الخريدة إذ ما) ... كثرت في غرامها الأسماء
إن رأتني تصد عني كأن لم ... (يلف لي في فؤادها استيلاء)
(لا شفاني وصالها اليوم إن لم) ... يك بيني وبينها أشياء
نظرة فابتسامة فسلام ... (لفؤادي العليل وهو الشفاء)
(ثم رد فبث شكوى بعاد) ... فكلام فموعد فلقاء
يوم كنا ولا تسل كيف كنا ... (لا وشاة تخشى ولا رقباء)
(فخلعنا العذار ثم جعلنا) ... نتهادى من الهوى ما نشاء
وعلينا من العفاف رقيب ... (أن تدنس وصلنا فحشاء)(39/201)
(يقظ ليس يعتريه منام) ... تعبت في مراسه الأهواء
جاذبتني ثوب العصى وقالت ... (وعلى وجهها بدا استحياء)
فاتقوا الله في خداع العذارى ... (فلكم في اصطيادهن دهاء)
(لا تصيدوا الأبكار بالشعر ختلا) ... فالعذراى قلوبهن هواء
وقد سهل علي تشطير جميع أبيات القصيدة إلا بيتا واحدا وهو قوله:
نظرة فابتسامة فسلام ... فكلام فموعد فلقاء
فإن هذا البيت تضمن أمورا ستة لا يمكن الفصل بينها لأن بعضها في الواقع مترتب على بعض. ولم أكن أفهم ذلك حتى سافرت إلى أوروبا وأقمت فيها مدة فرأيت ذلك واقعا كل يوم في المنتزهات والمطاعم والمقاهي والشوارع والمركبات العامة وقطر سكك الحديد لأن العفاف عندهم معدوم، فأول ما يتقابل رجل وامرأة فيحدق بعضهما في بعض: إن كانت المرأة لا رغبة لها في الرجل تصرف بصرها وإن كانت لها فيه رغبة تبتسم له فيتجرأ هو حينئذ على أن يحييها فترد عليه، فيبدأ الكلام حتى ينتهي إلى الموعد بإعطاء كل منهما رقم تليفون صاحبه فيعقب ذلك اللقاء، ولا يكون اللقاء كما قال شوقي في قصيدته لأن المتحابين هناك لا رقيب عليهم من عفاف ولا من غيره، ومن المعلوم أن شوقي درس في فرنسا وشاهد ذلك بعينه فعبر عنه بذلك البيت. ومن المزايا التي يختص بها شعر شوقي أنه جمع بين الأفكار الأوروبية والأفكار العربية ونسق هذه الأفكار كلها ووحدها حتى امتزجت إلى حد أنه لا يستطيع التمييز بينها إلا من خالط العالم العربي والعالم الأوروبي، هذا مع المحافظة التامة على الأسلوب العربي البليغ الذي لا تشوبه شائبة من ركاكة المقتسبات الأعجمية، وإذا قارنت بين شعر أحمد شوقي وبين شعر معروف الرصافي وهو لا يقل عن شوقي في بلاغة شعره تجد الفرق بينهما واضحا فإن شعر الرصافي ليس فيه إلا أفكار عربية شرقية بخلاف شعر معاصره أحمد شوقي.
* الوصول إلى الدورة *(39/202)
لما وصلت الباخرة في النهر المسمى شط العرب وهو مؤلف دجلة والفرات إلى مكان بإزاء ممتلكات الشيخ مصطفى آل إبراهيم، وهي كثيرة ممتدة على الجانب اليمن من شط العرب أميالا كثيرة طلب من ربان الباخرة أن يوقف له الباخرة لينزل هو وأصحابه ويركب قاربا يوصله إلى قصره في الدورة فقبل الربان الإنكليزي احترافا له لأنه كان يعامل معاملة الأمراء لأنه كان من كبار المالكين، فنزلنا في قوارب وسارت بنا إلى الدورة فلما وصلت القوارب إلى فرع شط العرب الذي يوصل إلى الدورة وجدنا أهل القرية كلهم في استقبال الشيخ مصطفى.
وكان الطريق ضيفا بين البساتين والنهر فقدمني أمامه فأردت الامتناع فأشار إلي إشارة فقبلت، وسار هو خلفي وأهل القرية كلهم خلفه وتعجبت من ذلك كثيرا لأني شاهدت هذا المنظر لأول مرة فإن العادة عندنا في المغرب قلما تجري بذلك، فلما وصلنا إلى القرية قدمني أيضا في التوجه إلى المقصورة التي وضعت فيها الأطعمة فلما صلينا العصر سألته عن ذلك فقال لي: أنا لا أبقى هنا دائما فإني تارة أكون هنا وتارة أسافر إلى بومباي لأكون عند عمي قاسمي آل إبراهيم، وهو من تجار اللؤلؤ المشهورين، وإنما قدمتك ليرى ذلك أهل القرية فيعظموك في غيبتي وحضوري ويعلموا أنك أستاذي فشكرته على ذلك وعرض علي الإقامة عنده، فقبلت وجعل لي راتبا طيبا جدا مع السكنى والمعيشة على أحسن وجه.(39/203)
وأخذت ألقي دروسا في علم الأدب عليه وعلى جماعة من الطلبة وأعلم الشباب في مدرسة أنشأها، وألقي دروس وعظ في المسجد ولما توجهنا إلى المسجد للصلاة قال للإمام والمؤذن: كل ما أمركما به الأستاذ محمد تقي الدين الهلالي فامتثلاه، فمنعتهم من جميع البدع وأمرت الناس بأتباع السنة، ومنها إلصاق القدم بالقدم عند القيام للصلاة، فامتثل الناس الأمر إلا رجلا شيخا من أقاربه كان فيما مضى وكيلا لوالده الشيخ يوسف آل إبراهيم على تلك القرية يدبر أمر الحواصل من الغلات فيعطي الفلاحين حقوقهم والباقي يكون بيده يأخذ منه نفقة السركار (وهي كلمة هندية، معناها رأس العمل)، والمقصود بها هنا النفقات العامة لمن في القصر من العيال والخدم والضيوف وما فضل عن ذلك يبقى بيده. فهذا الرجل لم يقبل ما أمرتهم به من أتباع السنة وبدأ يحاربني، فمن ذلك أنني أمرتهم بأن يجعل المؤذن بين أذانه وإقامته وقتا كافيا لمجيء المصلين واستعدادهم للصلاة وكانت العادة جارية عندهم بأن المؤذن إذا نزل من أذان المغرب يقيم الصلاة في الحين، فلما رأى ذلك الشيخ المؤذن أذن لصلاة المغرب وجلس ينتظر أن آمره بالإقامة -لأني إذا حضرت كنت أتقدم إماما للصلاة بهم- غضب غضبا شديدا وقال لي: يا شيخ المغرب غريب وقته ضيق، فقلت له: ليس الأمر كما توهمت والوقت واسع.(39/204)
وفي الصحيحين عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الظهر والعصر في أول وقت العصر ثماني ركعات جمع تأخير، هذا معنى الحديث فقيل لابن عباس: ما أراد بذلك؟ قال: أراد أن لا يحرج أمته، على أننا نحن لا نؤخر الصلاة إلا بضع دقائق، وأخرج الترمذي والحاكم عن جابر وله شواهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لبلال: ((إذا أذنت فترسل وإذا أقمت فاحدر(1) واجعل بين أذانك وإقامتك مقدار ما يفرغ الآكل من أكله)) وهذا الحديث وإن كانت طرقه ضعيفة فإنها بتعددها تنهض حجة. قال شارح بلوغ المرام: ((ويقويها المعنى الذي شرع له الأذان فإنه نداء لغير الحاضرين ليحضروا الصلاة فلابد من تقدير وقت يتسع للتأهب للصلاة))، فقال لي: لا حول ولا قوة إلا بالله (وهو يتكلم بلغة عامة أهل الكويت يبدلون القاف غينا) هذه صلاة سعودية لا فرض ولا نية إلا الخوف من الخيزرانية، فقلت له: بل هي صلاة محمدية ذات قصد ونية والمتبعون لرسول الله صلى الله عليه وسلم لا يحتاجون إلى خيزرانية وغيرهم لا نبالي بهم. فقال لي: يا غريب كن أديب، فقلت له: أنا لست غريبا لأنني عربي في بلاد العرب وإن كان أسلافي قد نزحوا إلى المغرب فإن حقي لا يزال ثابتا في بلادي الأصلية، فقال لي: روح المغاربة واهدهم، فقلت له: هذه دعوى جاهلية فإن الله تعالى لم يقل ذلك بل قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: { قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ
اتَّبَعَنِي } [يوسف:108]، ولم يحدد للدعوة زمانا ولا مكانا.
__________
(1) الحدر: الإسراع. والحديث ضعيف جدا. انظر إرواء الغليل (228).(39/205)
لما أمرتهم بإلصاق القدم كما في حديث أنس ((كان النبي صلى الله عليه وسلم يأمرنا بتسوية الصفوف فكان أحدنا يلزق قدمه بقدم من يليه ويحاذيه بركبته ومنكبيه ولو فعلت ذلك بأحدهم اليوم لنفر كأنه بغل شموس)) فكان الناس يمتثلون ويلصقون القدم بالقدم. وكان ذلك الشيخ إذا أراد أحد أن يلصق قدمه بقدمه رفسه بقدمه وسبه. وقال لي مرة: إن النبي صلى الله عليه وسلم لا يمكن أن يأمر بهذا لأن الرجل إذا ألصق قدميه، بقدم من يليه يفحش ويدش الشيطان في دبره فقلت له هذا خيال باطل فكيف ترد به سنة النبي صلى الله عليه وسلم؟! وقوله: يفحش يعني يتسع ما بين قدميه، ويدش بمعنى يدخل، وقلت له: إن الشيطان { لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ } كما قال تعالى في سورة النحل [الآيتان 99- 100]، وكنت أصلي بهم الجمعة فأزلت البدع التي كانوا يعملونها في يوم الجمعة فغضب الشيخ غضبا شديدا وقال: هذا تبديل للدين، من يوم خلقنا الله لم نزل نرى العلماء ما رأينا أحدا منهم أنكر هذه الأمور، فقلت له: إن العلماء يخطئون ويصيبون ويمنعهم الجبن في بعض الأحيان والضعف والعجز في أحيان أخرى من إنكار البدع، ولما جاءت صلاة العصر وذهبت أتقدم للصلاة إماما أخذ بطرف عباءتي وقال لي: (ما حد يبيك) معناه لا يريد أحد أن تصلي إماما فوضع الشيخ مصطفى يده برفق على يد الشيخ، وقال له: يا سيدي الوالد أرجوك أن تتركه يصلي فقال: كذا يا مصطفى تفضل المغربي على والدك أو قال على أبيك فقال الشيخ مصطفى: لا يا سيدي أنا ما فضلته ولكن الله فضله لأنه عالم ونحن جهال فقال الشيخ: (زين على شان خاطرك أخليه يصلي) معناه سأتركه يصلي إماما إرضاء لك.(39/206)
ولم يكن عند أولئك القوم شرك ظاهر أعني أهل السنة منهم -وهم قليل- وأكثر سكان القرية من الشيعة، ولكن كان فيهم جمود على التقليد والتعصب للمذهب مع جهلهم فالمتعصبون للمالكية غضبوا بسبب تركي القنوت في صلاة الصبح، والمؤذن كان شافعيا فلما رآني قررت في الدرس أن بول ما يؤكل لحمه طاهر غضب وقال في غيبتي: إذا كان بول البقرة عنده طاهر فليشربه، فقلت له في أثناء الدرس: ياملا أحمد، والملا كلمة فارسية يوصف بها أهل العلم كالفقيه عند العرب أو الشيخ، قلت له: ما حكم المخاط في مذهبك أهو طاهر أم نجس؟ فقال: طاهر. ثم قلت له: ما حكم الأوساخ طاهرة أم نجسة؟ قال: طاهرة، فقلت له: فاشرب المخاط وكل الأوساخ فقال لي: يا شيخ لا يليق بمثلك أن يخاطب أحدا بمثل هذا الكلام، فقلت له: أنت بدأت بما هو أقبح من هذا والبادئ أظلم
{ وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا } [الشورى: 40]، وأنا تكلمت بالعلم وأنت تكلمت بالجهل، وذكرت الأدلة على طهارة ما يؤكل لحمه.
* مناظرة بين المؤلف وبين مجتهد الشيعة في المحمرة *
لما استقررت في الدورة أردت أن أجتمع مع بعض علماء الشيعة بعدما قرأت شيئا من كتبهم، ووجدت فيها عجائب وغرائب فاتفقت مع أحد الفلاحين وهو الحاج غلام حسين، ومعنى غلام حسين أي عبد الحسين والشيعة يسمون عبد علي وكلب علي وعبد الزهراء وعبد الأمير وأمثال ذلك من الأسماء الشركية.
ومن أغرب ما وقع لي في ذلك أنني سافرت من جدة إلى بومباي -كما تقدم- ورأيت الحجاج يقتتلون على الماء، فاستأجرت شابا فارسيا يأتيني بالماء من مستقس الباخرة من جدة إلى بومباي بربريتين أي درهمين هنديين، اسم ذلك الشاب عبد علي فكنت أتجاهل اسمه وأناديه يا عبد العلي فيغضب ويقول: (عبد العلي نا) ونا بالفارسية هي حرف النفي ترادف لا بالعربية ثم يكرر عبد علي، فإذا نسبته إلى الله العلي يغضب ويريد أن ينسب إلى العبد وهو علي!(39/207)
سافر معي غلام حسين إلى المحمرة وهي على الجانب الشرقي من شط العرب، وقد انتزعتها الدولة الفارسية التي تسمى في هذا الزمان إيران من الأمير الشيخ خزعل الذي كان يحكم تلك الناحية وسكانها عرب من بني تميم وألحقتها بمملكتها فقلت لغلام حسين: اختر لي عالما من علمائكم أزوره لا يكون متعصبا فقال لي: أفضل علمائنا في هذا البلد هو الشيخ عبد المحسن الكاظمي فقصدناه في الحسينية، والحسينية مبنى للشيعة يجتمعون فيه لقراءة قصة مقتل الحسين نهت وقصة حرب علي مع عائشة وطلحة والزبير في وقعة الجمل، وكان ذلك اليوم يوم جمعة وهذا الشيخ من الاثنا عشرية الإخباريين فإن الاثنا عشرية فرقتان فرقة إخبارية وفرقة أصولية، فالإخبارية يعتمدون على ما روي من الأخبار وإن كان مخالفا للقياس والأصول، والإخباريون يصلون الجمعة والجماعة خلاف الأصوليين فإنهم لا يصلون جمعة ولا جماعة، فلما دخلت على الشيخ عبد المحسن قام لي وصافحني وأجلسني بقربه وكان الحاضرون كثيرا يقدر عددهم بثلاثمائة فقال أحدهم للروضخون -وهم ينطقون بالضاد زايا- والروضخون هو الذي يقرأ لهم قصة الحسين وقصة عائشة مع علي، قال له: عجل بقراءة القصتين نريد أن نسمع كلام العالمين لأنهم من عادتهم أن يقرؤوا القصتين في ضحى يوم الجمعة، وحثه على أن لا يطول وسيتبين لك مقصوده بذلك فصعد الروضخون المنبر وبدأ يقرأ في قصة الحسين فلما بلغ مقتله وما صنع به أعداؤه، وضعوا طيالسهم على وجوههم وأخذوا يبكون ويتباكون رافعين أصواتهم: واحسيناه وأبا عبد الله. والظاهر أن بكاءهم كان كاذبا وإنما هو تصنع لأن هذه القصة يسمعونها في كل أسبوع مرارا فقلما تؤثر فيهم ولما فرغ من قصة الحسين شرع في قصة عائشة وذكر أنها بعثت رسولها إلى البصرة إلى علي وقالت له: إنه سيعرض عليك طعامه وشرابه فإياك أن تأكل من طعامه أو تشرب من شرابه فإن فيه السم فلما سمع ذلك الحاضرون قالوا بصوت عال ونغمة تدل على، الحقد: (لا يا(39/208)
ملعونة) وأخذوا يكررونها في كل فقرة يسمعونها، فاستعجل بعض الحاضرين الروضخون وقال له: اختتم نريد أن نسمع كلام العالمين فغضب الروضخون، وقال: قد اختصرت القصتين وما ذكرت إلا ربعهما.
ولما فرغ القاص أخذت أتحدث مع الشيخ بالحديث التالي: حسب ما بقي في ذاكرتي فقد مضى على هذه القصة زهاء 48 سنة فإنها كانت سنة 1343 هـ سألت الشيخ: ما أهم كتب الحديث عندكم؟ فذكر لي أربعة كتب لا أذكر الآن منها إلا كتاب الكليني وأثنى عليه وقال: كل أحاديثه صحيحة فهو عندنا بمنزلة.. ثم سكت وأخذ يفكر، فقلت: لعلك تقصد البخاري عندنا فقال: نعم هو عندنا بمنزلة البخاري عندكم والبحث في صحة الحديث وضعفه في هذا الزمان عبث، لأن الأحاديث الصحيحة معلومة يقينا فقلت له: وكيف تعرف صحتها يقينا؟ فقال لي: تعرف بنص الأئمة المعصومين على صحتها، ثم قال: دونك حديثا متواترا عندنا وعندكم فقلت له: قل، فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أنا مدينة العلم وعلي بابها)) فقلت له: أما عندنا فليس هذا الحديث صحيحا ولا حسنا عند المحققين فضلا عن أن يكون متواترا وإنما هو حديث ضعيف، هكذا قلت له من حفظي والآن أثبت ما قاله الأئمة في هذا الحديث؟ قال السخاوي في المقاصد الحسنة صـ 97 ما نصه باختصار: ((أنا مدينة العلم وعلي بابها)). رواه الحاكم في المناقب من مستدركه والطبراني في معجمه الكبير وأبو الشيخ في السنة وغيرهم كلهم من حديث أبي معاوية الضرير عن الأعمش عن مجاهد عن ابن عباس مرفوعا به بزيادة فمن أتى العلم فليأت الباب، ورواه الترمذي في (المناقب) من جامعه، وأبو نعيم في الحلية وغيرهما من حديث علي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((أنا دار الحكمة وعلي بابها))، قال الدارقطني في العلل عقب ثانيهما (يعني حديث الترمذي): إنه حديث مضطرب غير ثابت. وقال الترمذي: إنه منكر. وكذا قال شيخه البخاري وقال: إنه ليس له وجه صحيح وقال ابن معين فيما حكاه الخطيب في تاريخ(39/209)
بغداد إنه كذب لا أصل له، وقال الحاكم عقب أولهما: إنه صحيح الإسناد وأورده ابن الجوزي من هذين الوجهين في الموضوعات ووافقه الذهبي وغيره على ذلك وأشار إلى هذا ابن دقيق العيد بقوله: هذا الحديث لم يثبتوه، وقيل: إنه باطل.
ثم قلت له: وعلى فرض ثبوته فإن أريد أن هذه المدينة لها أبواب كثيرة وعلي من أفضل أبوابها فهذا صحيح، وإن أريد أن هذه المدينة ليس لها إلا باب واحد وهو علي فهذا باطل يكذبه القرآن والواقع ولا يختلف فيه العقلاء، لأن النبي صلى الله عليه وسلم حين بعث كان علي صغيرا دون البلوغ فلو كان هو الباب الوحيد لهذ المدينة ما استطاع النبي صلى الله عليه وسلم أن يبلغ شيئا ولا أن يؤدي رسالة وكان يقول لكل من سأله عن مسألة: اذهب إلى علي وخذ منه الجواب وهذا لا يقوله أحد يحترم نفسه، وقد قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ } [المائدة:67]
حذف المعمول هنا يدل على العمول أي بلغه جميع الناس كما قال تعالى في سورة الأعراف [آية: 158] { قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا } .(39/210)
ولما وصلت إلى هذه المسألة اشترك مع الشيخ في المناظرة نحو عشرة أشخاص فقال لي أحدهم قوله تعالى: { بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ } معناه بلغه عليا، فقلت له هذه زيادة في القرآن فلو قلت لك أنا: معناه بلغه أبا بكر لكان القولان متساويين فبأي دليل ترجح أحدهما على الآخر وكلاهما دعوى بلا دليل؟ فغضب الشيخ وقال أبو بكر: (يأكل خراه) وهذا شتم قبيح مستعمل في تلك البلاد والعراق ونجد، ومعناه يأكل العذرة التي تخرج منه كيف تقارن بينه وبين أمير المؤمنين عليه السلام وهو جاهل لا يعرف (الأب) المذكور في سورة عبس، والعرب كلها تعرف الأب وهو العشب؟!. فقلت له أيها الشيخ: إن علماء المناظرات يقولون: إن الشتم، سلاح العاجز لأن القادر على المناظرة بالدليل والبرهان لا يلجأ إلى الشتم، أبو بكر لم يكن يجهل الأب لأنه كان من شيوخ العرب وحكمائهم إنما قال ذلك تورعا وخوفا من الله تعالى وتعظيما لكتابه وعملا بقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((من قال القرآن برأيه فقد كفر))(1) وقد خاف أبو بكر رضي الله عنه أن يراد بالأب معنى خاص يجيء فيه تفسير عن النبي صلى الله عليه وسلم فتوقف وهذا من فضائله ومناقبه، ثم قلت له إذا أراد الله أن تبليغ النبي صلى الله عليه وسلم إنما هو لعلي فلماذا لم يسمه كما سمي زيدا في سورة الحجر [آية: 9] { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ
__________
(1) الحديث لم أجده بهذا الفظ، لكنه عند الترمذي (2951) وغيره بلفظ: ((من قال في القرآن لرأيه فليتبوأ مقعده من النار)) وهو ضعيف. انظر ضعيف الترمذي (570).(39/211)
لَحَافِظُونَ } ولا شك أن الله تعالى لا يخلف الميعاد وقد حفظ هذا القرآن الكريم من بين سائر الكتب السماوية، وقد أجمع المسلمون وغير المسلمين إلا من شذ من أعداء الإسلام على هذا، فأنت تجد القرآن في جميع أنحاء العالم على اختلاف أديان أهل تلك البلدان لا يستطيع أحد أن يزيد حرفا ولا نقطة ولا أن يغير منه حركة، وحتى صفات الحروف كالتفخيم والترقيق مثلا محفوظة.
وإذا سلمنا أن القرآن قد حذفت منه قريش كثيرا فلا بد أن تكون قد زادت فيه أيضا. فقال لي: أما الزيادة فلم تقع فقلت: وكيف عرفت ذلك؟ قال: عرفناه من أقوال الأئمة المعصومين فإنهم أخبروا بأن الزيادة لم تقع وإنما وقع الحذف، فقلت: هذا مخالف لنص القرآن الذي ذكرته آنفا ومخالف للعقل والله المستعان. ثم قلت له: فهل عندكم قرآن سالم من التغيير ليس فيه زيد ولا نقص؟ فقال لي: لما رأى أمير المؤمنين علي عليه السلام قريشا تحذف أشياء من القرآن وتكتبه على غير الوجه المتفق مع تاريخ النزول دخل بيته واعتكف فيه أربعين يوما؛ فكتب القرآن من أوله إلى آخره على ترتيب نزوله من أول آية إلى آخر آية، فقلت له: وأين هذا المصحف؟ فقال: بقي عند الأئمة يتوارثونه آخرهم عن أولهم حتى وصل إلى الإمام المنتظر محمد بن الحسن العسكري عجل الله بخروجه فلما غاب في سرداب سامراء أخذه معه، فقلت له: ولماذا لم يكتب علي رضي الله عنه إلا مصحفا واحدا ثم لم ينسخ أحد منه في تلك الأزمنة المتطاولة ولا نسخة واحدة وقد كان لعلي كما تعلمون من الأنصار وآل البيت الحريصين على الخير وحفظ العلم ولاسيما كتاب الله وخصوصا قبل خلافته كثير، أما بعد خلافته فكان ينبغي أن يكون أول شيء يبدأ به هو إظهار هذا القرآن الصحيح وإحراق ما سواه من المصاحف فإن لم يفعل ذلك على سبيل التسليم الجدلي فلابد أن يفعله شيعته وأنصاره وقد جمع أبو بكر الناس على هذا المصحف ثم جمعه عثمان طبقا لمصحف أبي بكر وأحرق جميع المصاحف المشتملة على(39/212)
القراءة الشاذة، وعلي رضي الله عنه ليس دونهما في العلم والقدرة على إحقاق الحق فكيف أهمل هذا الواجب العظيم؟ فقال لي: تأدب فإن الأئمة لا يفعلون شيئا إلا بأمر الله وقد كان أمير المؤمنين عليه السلام مشغولا بأمور أخرى من حروب المرتدين وتدبير شؤون المسلمين، فقلت له: هذا الاعتذار لم يقنعني ولا أراه يقنع أحدا من خصومكم، ثم لماذا أخذ الإمام المنتظر محمد بن الحسن العسكري المصحف الوحيد السالم من التغيير معه حينما أدخل في السرداب وأنتم تعتقدون أنه معصوم وأنه يحفظ القرآن ولا يحتاج إلى مصحف فكيف يترك شيعته على مصحف ناقص غير مرتب ويأخذ النسخة الوحيدة المشتملة على القرآن الصحيح معه إلى عالم الغيب؟ فقال لي: قلت لك: تأدب فان الأئمة معصومون ولا يفعلون إلا ما أمرهم الله به، ثم قال لي أحدهم: سأورد عليك آية من القرآن تحجك وتسكتك فقلت: هات، فقال: قال الله تعالى: { وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ } [يس:12] من هو الإمام المبين؟ أليس علي بن أبي طالب عليه السلام؟! فقلت: ذلك قولك أما أنا فأقول: إن الإمام المبين هو اللوح المحفوظ المكتوب عند الله تعالى وهذا القرآن الذي بأيدينا مطابق له، فقال لي: كيف يكون الكتاب إماما وكيف يكون مبينا، فقلت له قال الله تعالى في سورة الأحقاف [الآيتان: ا ا-12] { وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ * وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُّصَدِّقٌ لِّسَانًا عَرَبِيًّا لِّيُنذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ } فوقف حماره في العقبة ولم يستطع جوابا. فقال لي شيخهم: أليس علي نفس النبي بنص القرآن؟! فقلت: وضح لي ما تقول كيف يكون على نفس للنبي؟ فأخذ يتعتع ويكرر أنفينا وأنفسكم، ولم يعرف أحد منهم آية المباهلة لا الشيخ ولا غيره فعلمت أن لا يحفظ القرآن أحد منهم، فقلت لهم: أنا أذكر لك الآية التي(39/213)
تريدون، قال الله تعالى في سورة آل عمران: { فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ } [آل عمران: 61] فقالوا جميعا: هذه الآية التي نريد وهي حجة عليكم فإن قوله تعالى { وَأَنفُسَنَا } المراد به علي بن أبي طالب فقلت لهم: إن نفس النبي صلى الله عليه وسلم هي النبي ولا تتحمل الدلالة اللغوية غير ذلك فما هو دليلكم من جهة النقل أو اللغة على أن عليا هو نفس النبي صلى الله عليه وسلم؟ فقالوا: هذا ثابت في التفاسير فقلت: أنا لا أسلم به إلا إذا ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم بسند صحيح.
هكذا قلت لهم مع أني أعلم أنه روي في خبر بسند ضعيف أن معنى أنفسنا هو النبي صلى الله عليه وسلم وعلي، ومعنى نساءنا فاطمة، ومعنى أبناءنا الحسن والحسين، ثم راجعت الآن وأنا اكتب هذا تفسير ابن كثير فوجدت الخبر قد رواه ابن مردويه والحاكم في المستدرك وقال: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه؛ قال ابن كثير: ((هكذا قال الحاكم وقد رواه أبو داود الطيالسي عن شعبة عن المغيرة عن الشعبي مرسلا وهذا أصح)) ا هـ.
قال محمد تقي الدين: ومن المعلوم أن المرسل من قسم الضعيف ولو كان القوم أهل إنصاف لذكرت لهم هذا الخبر واعترفت به وبينت ضعفه وأنه لا حجة لهم في ذلك، لأن فضل علي وقربه من رسول الله صلى الله عليه وسلم لا ينكره إلا ضال وذلك لا يدل على أنه هو الإمام بعد النبي صلى الله عليه وسلم ولا يدل ألبتة على بطلان خلافة الخلفاء الثلاثة قبله، ولا يحط من قدرهم شيئا فإن الأئمة الثقات رووا أحاديث كثيرة صحيحة كالشمس تدل على صحة خلافتهم وفضلهم ولكن لكل مقام مقال.(39/214)
ثم قال الشيخ: ما تقول في أحاديث صحيح البخاري أصحيحة عندكم أم لا؟ فقلت: هي صحيحة لا نتوقف في قبول شيء منها فقال: الآن أورد لك حديثا من صحيح البخاري يثبت صحة اعتقادنا وفساد اعتقادكم فقلت: ما هو؟ فقال: روى البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((فاطمة بضعة مني يؤذيني ما آذاها)) وأبو بكر آذاها فقد آذى النبي صلى الله عليه وسلم ومن آذى النبي فهو كافر فكيف يكون الكافر خليفة؟! فقلت له: هذا الحديث صحيح، ولكن لمعرفة معناه على التحقيق يجب أن تذكره كاملاً حتى لا تكون مثل ذلك النصراني الذي احتج على المسلمين بقوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ } (النساء: 43) فقال: هذا كتابكم ينهاكم عن الصلاة.(39/215)
قال: فاذكر أنت الحديث كاملاً فقلت له: إن علي بن أبي طالب أراد أن يتزوج بابنة أبي جهل على فاطمة فقام النبي صلى الله عليه وسلم خطيبا في الناس فقال: ((إن ابن أبي طالب يريد أن يتزوج بابنة أبي جهل فليطلق ابنتي فإن فاطمة بضعة مني يؤذيني ما آذاها)) هذا معنى الحديث. فلما سمع القوم هذا الحديث ثاروا ثورة عظيمة وكثر ضجيجهم فقال لي شيخهم رافعا صوته: (كفرتم كفرتم كفرتم، أنتم كفرتم كل واحد حتى محمد بن عبد الله) وسمعت من كان بقربي من الحاضرين يقولون بصوت ملؤه الحنق: (لا يا ملاعين الوالدين اشلون يكذبون على أمير المؤمنين) ومعنى ذلك: اخسأوا يا ملاعين الوالدين كيف يكذبون على أمير المؤمنين يعنون عليا. فقلت له: كيف تكفروننا ونحن نشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ونؤمن بكل ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم؟! وعلي رضي الله عنه لسعة علمه وفضله لم يكفر الخوارج الذين كفروه وقاتلوه فقد روى ابن أبي شيبة بسنده إلى علي أنه سئل عن الخوارج أكفار هم؟ فقال: لا. من الكفر فروا. فإن لم تقبلوا على عادتكم في رد أحاديث أهل السنة- فدونكم برهانا نظريا لا تستطيعون رده أبدا قالوا: ما هو؟ فقلت: إن عليا رضي الله عنه قاتل الخوارج ولم يغنم أموالهم ولا سبى ذريتهم كما فعل هو وسائر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في قتال المرتدين من بني حنيفة، وأمُّ ولده محمد سبية من بني حنيفة واسمها خولة وأنتم تعلمون ذلك.(39/216)