وهذا الذي لا يختلف في تحريمه اثنان ، ولا يستحسنه ذوو المروءة الفتيان ، وإنما يحلو ذلك لنفوس موتى القلوب ، وغير المستقلين من الآثام والذنوب ، وأزيدك أنهم يرونه من العبادات ، لا من الأمور المنكرات المحرمات ، فإنَّا لله وإنا إليه راجعون . (( بدأ الإسلام غريباً وسيعود كما بدأ ...))(1). هذا مع أن الشهر الذي ولِدَ فيه صلى الله عليه وسلم- وهو ربيع الأول- هو بعينه الشهر الذي تُوفي فيه، فليس الفرح فيه بأولى من الحزن فيه ،وهذا ما علينا أن نقول ومن الله تعالى نرجو حُسن القبول ) ا.هـ(2) .
__________
(1) - هذا حديث رواه الإمام أحمد في مسنده(1/398) .ورواه مسلم في صحيحه(1/130) كتاب الإيمان ،حديث رقم (145) . ورواه الترمذي في سننه (4/129) أبواب الإيمان ، حديث رقم (2764) ، وقال : وهذا حديث حسن غريب صحيح . ورواه ابن ماجه في سننه (2/1320) كتاب الفتن ، حديث رقم (3988) .
(2) - يراجع : الحاوي للسيوطي (1/190-192 ) .(22/196)
وقال محمد عبد السلام خضر الشقيري في كتابه (( السنن والمبتدعات )) : ( في شهر ربيع الأول وبدعة المولد فيه : لا يختص هذا الشهر بصلاة ولا ذكر ولا عبادة ولا نفقة ولا صدقة ، ولا هو موسم من مواسم الإسلام كالجمع والأعياد التي رسمها لنا الشارع – صلوات الله وتسليماته عليه ، وعلى سائر إخوانه من الأنبياء والمرسلين -، ففي هذا الشهر ولِد صلى الله عليه وسلم ، وفيه تُوفي ، فلماذا يفرحون بميلاده ولا يحزنون لوفاته ؟! فاتخاذ مولده موسماً ، والاحتفال به بدعة منكرة ، وضلالة لم يرد بها شرع ولا عقل ، ولو كان في هذا خير فكيف يغفل عنه أبو بكر وعمر وعثمان وعلي – رضوان الله عليهم - ، وسائر الصحابة والتابعين وتابعيهم ، والأئمة وأتباعهم ؟ لا شك أن ما أحدثه المتصوفون الأكَّالون البطَّالُون أصحاب البدع ، وتبع الناس بعضهم بعضاً فيه إلا من عصمه الله ، ووفقه لفهم حقائق الإسلام ، ثم أي فائدة تعود ، وأي ثواب في هذه الأمور الباهظة، التي تعلق بها هذه التعاليق ، وتنصب بها هذه السرادقات ، وتضرب بها الصواريخ ؟ وأي رضا لله في اجتماع الرقاصين والرقاصات والطبالين والزمَّارين ، واللصوص والنشالين ، والحاوي والقرادتي(1)، وأي خير في اجتماع ذوي العمائم الحمراء والخضراء والصفراء والسوداء، أهل الإلحاد في أسماء الله، والشخير والنخير والصفير بالغابة ، والدقّ بالبازات والكاسات ، والشهيق والنعيق [ بأح أح يا ابن المرة ، أم أم ،أن أن، سابينها يا رسول الله ، يا صاحب الفرح المدا آد يا عم يا عم اللّع اللْع ](2)
__________
(1) - لأن اجتماع هؤلاء يعتبر من مراسم الاحتفال بالموالد عموماً ، فعلى ماذا يدل اجتماع هؤلاء العصاة وربما الكفرة ؟؟. يراجع :تاريخ الحبرتي(1/304)ترجمة عبد الوهاب العفيفي المتوفى سنة 1172هـ . ذكر فيها ما يفعلونه في مولده ، وهو مشابه لما ذكره الشقيري في كتابه مما يدل على أن ذلك أمر متفق عليه عند المتخلفين بالموالد منذ دهر طويل .
(2) - لعل هذه العبارات الغريبة مما يردده هؤلاء الصوفية في موالدهم ، وبعض مفرداتها واضح المعنى ، وبعضها غريب .(22/197)
كالقرود ، ما فائدة هذا كله ؟! فائدته سخرية الإفرنج بنا وبديننا ، وأخذ صور هذه الجماعات لأهل أوروبا ،فيفهمون أن محمداً صلى الله عليه وسلم – حاشاه حاشاه – كان كذلك هو وأصحابه ، فإنا للهِ وإنا إليه راجعون .
ثم هو خراب ودمار ، فوق ما فيه الناس من فقر وجوع وجهل وأمراض ، فلماذا لا ننفق هذه الأموال الطائلة في تأسيس
مصانع يعمل فيها الألوف من العاطلين ؟أو لماذا لا ننفق هذه النفقات الباهظة في إيجاد آلات حربية نقاوم بها أعداء الإسلام
والأوطان ؟ وكيف سكت العلماء على هذا البلاء والشر ، بل وأقروه ؟ ولماذا سكتت الحكومة الإسلامية على هذه المخازي
وهذه النفقات التي ترفع البلاد إلى أعلى عليين ؟ فإما أن يزيلوا هذا المنكر وإما وصمتهم بالجهالة )ا. هـ(1) .
وقال الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ في جواب على سؤال عن حكم الاحتفال بمولد النبي صلى الله عليه وسلم ، وهل فعله أحد من أصحابه أو التابعين وغيرهم من السلف الصالح :
( لا شك أن الاحتفال بمولد النبي صلى الله عليه وسلم من البدع المحدثة في الدين ، بعد أن انتشر الجهل في العالم الإسلامي ، وصار للتضليل والإضلال ، والوهم والإيهام مجال عميت فيه البصائر ، وقوي فيه سلطان التقليد الأعمى ، وأصبح الناس في الغالب لا يرجعون إلى ما قام الدليل على مشروعيته ، وإنما يرجعون إلى ما قاله فلان وارتضاه علان ، فلم يكن لهذه البدعة المنكرة أثر يذكر لدى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا لدى التابعين ، وتابعيهم ، وقد قال صلى الله عليه وسلم : ((عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين ، تمسكوا بها ، وعضُّو عليها بالنواجذ ، وإياكم ومحدثات الأمور ، فإن كل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة ))(2)
__________
(1) -يراجع : السنن والمبتدعات ص (143) .
(2) - رواه الإمام أحمد في مسنده (4/126، 127) .
ورواه أبو داود في سننه المطبوع مع شرحه عون المعبود (12/358- 360) كتاب الفتن ، واللفظ له .
ورواه الترمذي في سننه المطبوع مع شرحه تحفة الأحوذي (7/ 438-442). وقال هذا حديث حسن صحيح ، باب الأخذ بالسنة واجتناب البدعة .
ورواه ابن ماجه في سننه (1/ 15، 16 ) ، المقدمة .(22/198)
. وقال – عليه السلام – أيضاً- : ((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد ))(1). وفي رواية : (( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد ))(2).
وإذا كان مقصدهم من الاحتفال بالمولد النبوي تعظيم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإحياء ذكره، فلا شك أن تعزيره(3) وتوقيره يحصل بغير هذه الموالد المنكرة، وما يصاحبها من مفاسد وفواحش ومنكرات، قال الله تعالى:{وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ }(4). فذكره مرفوع في الأذان والإقامة ، والخطب والصلوات ، وفي التشهد والصلاة عليه في الدعاء وعند ذكره ، فلقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : (( البخيل من ذُكرت عنده فلم يصل علي ))(5).
وتعظيمه يحصل بطاعته فيما أمر ، وتصديقه فيما أخبر ، واجتناب ما نهى عنه وزجر ، وألاَّ يُعبد الله إلا بما شرع .
__________
(1) - رواه البخاري في صحيحه المطبوع مع فتح الباري (5/301) كتاب الصلح ، حديث رقم (2697). ورواه مسلم في صحيحه (3/1343) كتاب الأقضية ، حديث رقم ( 1718).
(2) - ورواه مسلم في صحيحه (3/1343، 1344) كتاب الأقضية ، حديث رقم ( 1718).
(3) - كلمة التعزير مأخوذة من قوله تعالى : { )لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} (الفتح:9) . وقوله تعالى :{ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}(لأعراف: من الآية157)
(4) - سورة الشرح:4.
(5) - رواه الإمام أحمد في مسنده (1/201) . ورواه الترمذي في سننه (5/211) أبواب الدعوات ، حديث رقم (3614) ، وقال : هذا حديث حسن غريب صحيح .(22/199)
فهو أجل من أن تكون ذكراه سنوية فقط ، ولو كان هذه الاحتفالات خيراً نحضاً ، أو راجحاً لكان السلف الصالح – رضي الله عنهم – أحق بها منا ، فإنهم كانوا أشدّ منا محبة وتعظيماً لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهم على الخير أحرص ، ولكن قد لا يتجاوز أمر أصحاب هذه الموالد ما ذكره بعض أهل العلم : من أن الناس إذا اعترتهم عوامل الضعف والتخاذل والوهن ، راحوا يعظمون أئمتهم بالاحتفالات الدورية،دون ترسم مسالكهم المستقيمة؛لأن تعظيمهم هذا لا مشقة على فيه النفس الضعيفة، ولا شك أن التعظيم الحقيقي هو طاعة المعظم ، والنصح له ، والقيام بالأعمال التي يقوم بها أمره ، ويعتز بها دينه، إن كان رسولاً، وملكه إن كان ملكاً .
وقد كان السلف الصالح أشد ممن بعدهم تعظيماً للنبي صلى الله عليه وسلم ، ثم للخلفاء الراشدين من بعده ، وناهيك ببذل أموالهم وأنفسهم في هذا السبيل ،إلا أن تعظيمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفاءه الراشدين ، لم يكن كتعظيم أهل هذه القرون المتأخرة ، ممن ضاعت منهم طريقة السلف الصالح في الاهتداء والاقتداء ،وسلكوا طريق الغواية والضلال في مظاهر التعظيم الأجوف ،ولا ريب أن الرسول صلى الله عليه وسلم أحقّ الخلق بكل تعظيم يناسبهم ، إلاَّ أنه ليس من تعظيمه أن نبتدع في دينه بزيادة أو نقص ،أو تبديل أو تغيير لأجل تعظيمه به ، كما أنه ليس من تعظيمه- عليه الصلاة والسلام - أن نصرف له شيئاً مما لا يصلح لغير الله من أنواع التعظيم والعبادة ........
والخلاصة : أن الاحتفال بالمولد من البدع المنكرة ، وقد كتبنا فيها رسالة مستقلَّة فيها مزيد تفصيل ...والله ولي التوفيق )ا.هـ(1)
__________
(1) - يراجع : فتاوى ورسائل الشيخ محمد بن لإبراهيم (3/54-56) . وللشيخ – رحمه الله – ورسائل كثيرة في إنكار بدعة المولد ، بعضها مطول ، وبعضها مختصر ، فلتراجع في الجزء الثالث من الفتاوى .
وممن كتب أيضاً في إنكار بدعة المولد الشيخ عبد الله بن محمد بن حميد – رحمه الله – وذلك في رسالة لطيفة ، وكذلك الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز – رحمه الله – وذلك من خلال الصحف والمجلات ، وله رسائل مطبوعة في هذا الموضوع ....... إلى غير هؤلاء من العلماء الذين لا يتسع المجال لذكر كتاباتهم التي جاءت على شكل ردود على القائلين بشرعية الاحتفال بالمولد النبوي .(22/200)
.
فمن خلال هذه الشواهد من آثار السلف الصالح ، ومن على نهجهم ، يتبين لنا أنهم اتفقوا على أن الاحتفال بالمولد النبوي بدعة محدثة ، لم تؤثر على الرسول صلى الله عليه وسلم ، ولا عن أحد من أصحابه- رضوان الله عليهم - ، ولا عن التابعين وتابعيهم ومن تبعهم من الأئمة الأعلام من سلفنا الصالح- رحمة الله عليهم .
والبدعة مهما عمل الناس بها ، ومهما مرَّت عليها الأزمنة والعصور ، ومهما عمل بها أو رضي بها من يدَّعي العلم ، لا يمكن أن تكون في يوم من الأيام سنَّة يؤجر على فعلها .
والذين يحتفلون بهذه الموالد قد آثروا أقوال علماء الغواية والجهالة على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، وإن استشهدوا بهما فهم يؤولون معانيهما على ما يوافق شهواتهم وهوى أنفسهم ، ويدلُّ على ذلك تعصبهم لأقوال مشايخهم الذي ضلُّوا وأضلُّوا ،ولو كانوا يبحثون عن الحق ،لسألوا أهل العلم واستفسروا منهم ، وفحصوا الأدلة والبراهين ، وإذا اتضح لهم الطريق المستقيم اتبعوه ، ولكن المكابرة سلاح الجاهل يطعن به نفسه .(22/201)
وصدق الله العظيم القائل في محكم كتابه : {وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ* وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ * وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ* أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ}(1).
__________
(1) - سورة النور والآيات :47- 52 .(22/202)
والقائل سبحانه وتعالى :{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً *وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً * فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً *أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً * وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً* فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً }(1) .
والقائل – أيضاً -في محكم كتابه : { وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً}(2).
وهل قام الذين يحتفلون بالموالد بكل تعاليم الإسلام كبيرها وصغيرها من الأركان والفروض والواجبات والسنن ،حتى يبحثوا عن بدعة حسنة- كما يزعمون- رغبة في زيادة الأجر والثواب من الله؟! الله أكبر!!!.
__________
(1) - سورة النساء الآيات :60- 65 .
(2) - سورة النساء:115.(22/203)
نسأل الله للجميع الهداية والتوفيق إلى صراطه المستقيم ، وأن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه ، والباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه إنه ولي ذلك والقادر عليه ، والله أعلم .
*******************************
الفصل الرابع
شهر رجب
المبحث الأول : بعض الآثار الواردة فيه .
المبحث الثاني : ويحتوي علي مطلبين .
المطلب الأول : تعظيم الكفار لشهر رجب .
المطلب الثاني : عتيرة رجب .
المبحث الثالث : بدعة تخصيصه بالصيام أو القيام
وحكم العمرة فيه والزيارة الرجبية .
المبحث الرابع : بدعة صلاة الرغائب .
المبحث الخامس : بدعة الاحتفال بليلة الإسراء والمعراج .
المبحث الأول
بعض الآثار الواردة فيه
عن أبي بكرة – رضي الله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض ، والسنة اثنا عشر شهراً ، منها أربعة حرم : ثلاث متواليات ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان .... )) الحديث . متفق عليه(1) .
__________
(1) - - رواه البخاري في صحيحه المطبوع مع فتح الباري (10/7) كتاب الأضاحي ، حديث رقم ( 5550) ، ورواه مسلم في صحيحه (3/1305) كتاب القسامة ، حديث رقم (1679).(22/204)
عن مجاهد قال :(( دخلت أنا وعروة بن الزبير المسجد ، فإذا عبد الله بن عمر- رضي الله عنهما-جالس إلى حجرة عائشة ، وإذا ناس يصلون في المسجد صلاة الضحى ، قال : فسألناه عن صلاتهم ، فقال : بدعة . ثم قال له : كم اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : أربعاً ، إحداهن في رجب ، فكرهنا أن نرد عليه . قال : وسمعنا استنان(1)عائشة أم المؤمنين في الحجرة فقال عروة : يا أماه يا أم المؤمنين ، ألا تسمعين ما يقول أبو عبد الرحمن ؟ قالت : ما يقول ؟ قال : يقول : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتمر أربع مرات إحداهن في رجب . قالت :يرحم الله أبا عبد الرحمن ما اعتمر عمرة إلا وهو شاهده ، وما اعتمر في رجب قط(2) )) .
عن أبي هريرة – رضي الله عنه – عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( لا فرع ولا عتيرة )) . والفرع أول النتاج ، كانوا يذبحونه لطواغيتهم ، والعتيرة في رجب(3).
__________
(1) - الاستنان : استعمال السواك ، وهو افتعال من الأسنان أي يُمره عليها . يراجع النهاية ( 2/411) . مادة (سنن) .
(2) - رواه البخاري في صحيحه المطبوع مع فتح الباري (9/599) كتاب العمرة ، حديث رقم ( 1775- 1776) ، ورواه مسلم في صحيحه (2/917) كتاب الحج، حديث رقم (1255)(220).
(3) - رواه البخاري في صحيحه المطبوع مع فتح الباري(9/596)كتاب العقيقة، حديث رقم( 5473) ،ورواه مسلم في صحيحه(3/1564)كتاب الأضاحي،حديث رقم(1976)(22/205)
عن أسامة بن زيد – رضي الله عنهما – قال : قلت يا رسول الله لم أرك تصوم شهراً من الشهور ما تصوم من شعبان . قال : (( ذلك شهر يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان ، وهو شهر ترفع فيه الأعمال إلى رب العالمين ، فأحب أن يرفع عملي وأنا صائم ))(1).
عن مجيبة الباهلية عن أبيها أو عمها أنه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم انطلق فأتاه بعد سنة وقد تغيرت حاله وهيئته فقال : يا رسول الله أما تعرفني ؟ قال : (( ومن أنت )) ؟ قال : أنا الباهلي الذي جئتك عام الأول .قال:((فما غيرك ، وقد كنت حسن الهيئة ))؟.... قال صلى الله عليه وسلم :(( صم من الحرم واترك،صم من الحرم واترك ،صم من الحرم واترك)) وقال بأصبعه الثلاثة فضمها ثم أرسلها(2).
__________
(1) - رواه الإمام أحمد في مسنده (5/201) . ورواه النسائي في سننه (4/102) كتاب الصيام . وقال الألباني : وهذا إسناد حسن ، ثابت بن قيس صدوق يهم – كما في التقريب – وسائر رجاله ثقات . يراجع : سلسلة الأحاديث الصحيحة (4/522) . حديث رقم (1898) .
(2) -- رواه الإمام أحمد في مسنده (5/28) . ورواه أبو داود في سننه (2/809-810) كتاب الصوم .حديث رقم (2428) ، ورواه ابن ماجه في سننه (1/554) كتاب الصيام .حديث رقم (1741) . ورواه البهقي في سننه (4/291، 292) كتاب الصيام ، وقال المنذري- : بعد أن ذكر الاختلاف في مجيبة الباهلية أو أبي مجيبة الباهلية ، أو مجيبة الباهلي -: وأشار بعض شيوخنا إلى تضعيفه لذلك ، وهو متوجه . يراجع : مختصر سنن أبي داود (3/306) ، حديث رقم (2318).(22/206)
عن عثمان بن حكيم الأنصاري قال:سألت سعيد بن جبير عن صوم رجب؟ونحن يومئذ في رجب،فقال:سمعت ابن عباس -رضي الله عنهما-يقول: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم حتى نقول لا يفطر، ويفطر حتى نقول لا يصوم(1).
عن ابن عمر – رضي الله عنهما - : أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتمر أربعاً إحداهن في رجب(2) .
عن أبي المليح قال:نبيشة :نادي رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم :إنا كنا نعتر عتيرة في الجاهلية في رجب ، فما تأمرنا ؟ قال : (( اذبحوا لله في أي شهر كان وبروا الله عز وجل وأطعموا ))(3) .
__________
(1) - رواه الإمام أحمد في مسنده (1/231) . ورواه مسلم في صحيحه (2/811) كتاب الصيام . حديث رقم (1157((179)) ). ورواه أبو داود في سننه (2/811) كتاب الصوم .حديث رقم (2430) .
(2) - رواه الترمذي في سننه (2/207) ، حديث رقم (941) ، وقال : حديث غريب حسن صحيح . وقد تقدم رد عائشة – رضي الله عنها – على هذا الحديث .
(3) -رواه أحمد في مسنده (5/76) ، ورواه أبو داود في سننه (3/255) ،كتاب الأضاحي حديث (2830) ، ورواه النسائي في سننه (7/169، 170) ،كتاب الفرع والعتيرة ، ورواه ابن ماجه في سننه (2/1057، 1058) كتاب الذبائح ، حديث رقم (3167) . ورواه الحاكم في المستدرك (4/235) كتاب الذبائح ، وقال : هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ، ووافقه الذهبي .(22/207)
عن يحيى بن زرارة بن كريم بن الحارث بن عمرو الباهلي قال : سمعت أبي يذكر أنه سمع جده الحارث بن عمرو لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع ...... فقال رجل من الناس : يا رسول الله العتائر والفرائع ؟ قال : (( من شاء عتر ومن شاء لم يعتر ، ومن شاء فرع ومن شاء لم يفرع ، وفي الغنم أضحيتها )) وقبض أصابعه إلا واحدة(1) .
عن مخنف بن سليم قال : كنا وقوفاً مع النبي صلى الله عليه وسلم بعرفات فسمعته يقول : (( يا أيها الناس على كل أهل بيت في كل عام أضحية وعتيرة هل تدرون ما العتيرة ؟ هي التي تسمونها الرجبية ))(2) .
__________
(1) - رواه النسائي في سننه (7/168، 169) ،كتاب الفرع والعتيرة ، ورواه الحاكم في المستدرك (4/236) كتاب الذبائح ، وقال : حديث صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي وأشار إلى أنه على شرط الشيخين .
(2) - رواه أحمد في مسنده (4/215) ، ورواه النسائي في سننه (7/167، 168) ،كتاب الفرع والعتيرة ، رواه الترمذي في سننه (3/37) ،أبواب الأضاحي، حديث رقم (1555) ، واللفظ له ،وقال : حديث حسن غريب. ورواه أبو داود في سننه (3/256) ،كتاب الضحايا . حديث رقم(2788) ،وقال الخطابي : هذا الحديث ضعيف المخرج ، وأبو رملة مجهول . يراجع : معالم السنن (4/94) ، كتاب الضحايا . حديث رقم (2670) ، وقال المنذري : وقد قيل أن هذا الحديث منسوخ بقوله صلى الله عليه وسلم (( لا فرع ولا عتيرة )) . يراجع : مختصر سنن أبي داود (4/93) ،كتاب الضحايا . حديث رقم(2670)(22/208)
عن أبي رزين لقيط بن عامر العقيلي قال : قال يا رسول الله إنا كنا نذبح ذبائح في الجاهلية في رجب فنأكل ونطعم من جاءنا . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( لا بأس به ))(1).
عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن العقيقة .....وسئل عن العتيرة فقال : (( العتيرة حق ))(2).
عن ابن عباس – رضي الله عنهما – أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن صيام رجب(3) .
__________
(1) - رواه النسائي في سننه (7/171) ،كتاب الفرع والعتيرة ،ورواه الدارمي في سننه (2/81) ، باب في لبفرع والعتيرة . ورواه ابن حبان في صحيحه . يراجع : موارد الظمآن إلى زوائد ابن حبان ص(262) كتاب الأضاحي . حديث رقم (1607) .
(2) - رواه الإمام أحمد في مسنده (3/183) ، ورواه النسائي في سننه (7/168) ،كتاب الفرع والعتيرة . وذكره السيوطي في الجامع الصغير (2/187) ، رقم (5674) . وأشار إلى أنه حسن .
(3) - رواه ابن ماجه في سننه (1/554) ، كتاب الصيام . حديث رقم (1743) ، وفيه داود بن عطاء المدني وهو متفق على تضعيفه . قال ابن الجوزي : هذا حديث لا يصح عن الرسول الله صلى الله عليه وسلم قال أحمد بن حنبل : لا يحدث عن داود بن عطاء . وقال البخاري : منكر الحديث . يراجع : مصباح الزجاجة في زوائد ابن ماجه (2/77، 78) ، والعلل المتناهية ( 2/ 65) ،حديث رقم (913) ، والضعفاء الكبير (2/34، 35)ترجمة رقم (457) ، وتهذيب التهذيب ( 3/193-194)ترجمة رقم (370) .(22/209)
عن أنس بن مالك قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل رجب قال : (( اللهم بارك لنا في رجب وشعبان ، وبارك لنا في رمضان )) . وكان يقول : (( ليلة الجمعة غراء ويومها أزهر ))(1).
قال ابن حجر : لم يرد في فضل شهر رجب ، ولا في صيامه ، ولا في صيام شيء منه معين ، ولا في قيام ليلة مخصوصة فيه حديث صحيح يصلح للحجة ، وقد سبقني إلى الجزم بذلك الإمام أبو إسماعيل الهروي الحافظ رويناه عنه بإسناد صحيح، وكذلك رويناه من غيره(2) ا.هـ .
ثم ذكر بعد ذلك مجموعة من الأحاديث الضعيفة والموضوعة نذكر بعضها بشكل موجز :
فمن الضعيف :
__________
(1) - رواه الإمام أحمد في مسنده (1/259) ،وفيه زائدة بن أبي الرقاد عن زيادة النميري . قال ابن حجر : وزائدة بن أبي الرقادة روى عنه جماعة . وقال فيه أبو حاتم : يحدث عن زيادة النميري عن أنس أحاديث مرفوعة منكرة ، فلا يدري منه أو من زيادة ، ولا أعلم روى عنه غير زيادة ، فكنا نعتبر حديثه . وقال البخاري : منكر الحديث ، وقال النسائي : بعد أن أخرج له حديثاً في السنن : لا أدري من هو ، وقال في الضعفاء : منكر الحديث ، وقال في الكنى : ليس بثقة . وقال ابن حبان : لا يحتج بخيره .
يراجع : تبيين العجب بما ورد في فضل رجب ص(12) ، والضعفاء الكبير (2/81) ، ترجمة رقم (531) ، وتهذيب التهذيب (3/305) ترجمة رقم (570) .
(2) - يراجع : تبيين العجب بما ورد في فضل رجب ص(6).(22/210)
* حديث : (( إن في الجنة نهراً يقال له رجب ماؤه أشد بياضاً من اللبن وأحلى من العسل من صام يوماً من رجب سقاه الله من ذلك النهر ))(1).
* وحديث : (( اللهم بارك لنا في رجب وشعبان وبلغنا رمضان))(2).
* وحديث : (( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يصم بعد رمضان إلا رجباً وشعبان ))(3) .
ومن الأحاديث الموضوعة :
__________
(1) - قال ابن حجر : ذكره أبو القاسم التيمي في كتاب الترغيب والترهيب ، وذكره الحافظ الأصبهاني في كتاب فضل الصيام ، ورواه البيهقي في فضائل الأوقات ، وانب شاهين في كتابه الترغيب والترهيب . وقال : قال ابن الجوزي في العلل المتناهية : فيه مجاهيل ، فالإسناد ضعيف في الجملة لكن لا يتهيأ الحكم عليه بالوضع . وله طرق أخرى في إسنادها مجاهيل . يراجع : تبيين العجب ص(9، 10، 11 ) . والعلل المتناهية (2/65) .
(2) - رواه الإمام أحمد في مسنده (1/259) ،وفيه زائدة بن أبي الرقاد عن زيادة النميري . قال ابن حجر : وزائدة بن أبي الرقادة روى عنه جماعة . وقال فيه أبو حاتم : يحدث عن زيادة النميري عن أنس أحاديث مرفوعة منكرة ، فلا يدري منه أو من زيادة ، ولا أعلم روى عنه غير زيادة ، فكنا نعتبر حديثه . وقال البخاري : منكر الحديث ، وقال النسائي : بعد أن أخرج له حديثاً في السنن : لا أدري من هو ، وقال في الضعفاء : منكر الحديث ، وقال في الكنى : ليس بثقة . وقال ابن حبان : لا يحتج بخيره .
يراجع : تبيين العجب بما ورد في فضل رجب ص(12) ، والضعفاء الكبير (2/81) ، ترجمة رقم (531) ، وتهذيب التهذيب (3/305) ترجمة رقم (570) .
(3) - قال ابن حجر : قال البيهقي – ثم أورد هذا الحديث – وقال : وهو حديث منكر من أجل يوسف بن عطية فإنه ضعيف جداً . يراجع : تبيين العجب ص(12) .(22/211)
* حديث : (( رجب شهر الله وشعبان شهري ورمضان شهر أمتي ))(1).
* وحديث : (( فضل رجب على سائر الشهور كفضل القرآن على سائر الأذكار .....))(2).
* وحديث :((رجب شهر الله الأصم،من صام من رجب يوماً إيماناً واحتساباً استوجب رضوان الله الأكبر))(3)
* وحديث:(( من صام ثلاثة أيام من رجب كتب الله له صيام شهر ومن صام سبعة أيام أغلق عنه سبعة أبواب من النار... ))(4)
* وحديث :(( من صلى المغرب في أول ليلة من رجب ثم صلى بعدها عشرين ركعة ، يقرأ في كل ركعة بفاتحة الكتاب ، وقل هو الله أحد مرة ، ويسلم فيهن عشر تسليمات ، أ تدرون ما ثوابه ؟ ......قال : حفظه الله في نفسه وأهله وماله وولده ، وأجير من عذاب القبر ،وجاز على الصراط كالبرق بغير حساب ولا عذاب))(5)
__________
(1) - قال ابن حجر : رواه أبو بكر النقاش المفسر ، ورواه الحافظ أبو الفضل محمد بن ناصر في أماليه عن النقاش مطولاً – ذكر فيه فضل صوم كل يوم من أيام شهر رجب – وقال : النقاش وضاع دجال ، وقال ابن دحية : هذا الحديث موضوع . يراجع : تبيين العجب ص(13-15) . وحكم عليه بالوضع ابن الجوزي في الموضوعات ( 2/205، 206) ، والصغاني في الموضوعات ص(61) . ، حديث : 129- والسيوطي في اللآليء المصنوعة (2/114) .
(2) -قال ابن حجر بعد ذكره الحديث : ورجال هذا الإسناد ثقات إلا السقطي فهو الآفة وكان مشهوراً بوضع الحديث . يراجع : تبيين العجب ص(17) .
(3) - يراجع : تبيين العجب ص(17) . والفوائد المجموعة للشوكاني ص (439) . حديث رقم (1260) .
(4) - حديث موضوع : يراجع الموضوعات : لابن الجوزي (2/206) ، تبيين العجب ص(18) ، واللآليء المصنوعة للسيوطي (2/115) . والفوائد المجموعة للشوكاني ص (100) . حديث رقم (228) .
(5) - حديث موضوع : يراجع الموضوعات : لابن الجوزي (2/123) ، تبيين العجب ص(20) ، والفوائد المجموعة ص (47) . حديث رقم (144) .(22/212)
* وحديث : ((من صام من رجب وصلى فيه أربع ركعات .... لم يمت حتى يرى مقعده من الجنة أو يرى له ))(1).
* وحديث صلاة الرغائب :(( رجب شهر الله وشعبان شهري ورمضان شهر أمتي ... ولكن لا تغفلوا عن أول ليلة جمعة من رجب فإنها ليلة تسميها الملائكة الرغائب ، وذلك أنه إذا مضى ثلث الليل لا يبقى ملك مقرب في جميع السموات والأرض ، إلا ويجتمعون في الكعبة وحواليها ، فيطلع الله عز وجل عليهم اطلاعة فيقول : ملائكتي سلوني ما شئتم ، فيقولون : يا ربنا حاجتنا إليك أن تغفر لصوم رجب ، فيقول الله عز وجل: قد فعلت ذلك . ثم قال صلى الله عليه وسلم : وما من أحد يصوم يوم الخميس ، أول خميس في رجب ، ثم يصلي فيما بين العشاء والعتمة ، يعني ليلة الجمعة ، ثنتي عشرة ركعة …....))(2) الخ.
* وحديث :(( من صلى ليلة النصف من رجب أربع عشرة ركعة يقرأ في كل ركعة الحمد مرة ، وقل هو الله أحد عشرين مرة ...... ))(3) الخ.
* وحديث :(( إن شهر رجب شهر عظيم ، من صام منه يوماً كتب الله له صوم ألف سنة ..........))(4) الخ .
__________
(1) - حديث موضوع : يراجع الموضوعات : لابن الجوزي (2/124) ، تبيين العجب ص(21) ، والفوائد المجموعة ص (47) . حديث رقم (145) .
(2) - حديث موضوع : يراجع الموضوعات : لابن الجوزي (2/124- 126) ، تبيين العجب ص(22- 24) ، والفوائد المجموعة ص (47-50) . حديث رقم (146) .
(3) - حديث موضوع : يراجع الموضوعات : (2/126) ، تبيين العجب ص(25) ، والفوائد المجموعة ص (50) . حديث رقم (147) .
(4) - حديث موضوع : يراجع الموضوعات : (2/206- 207) ، تبيين العجب ص(26) ،واللآليء المصنوعة(2/115).والفوائد المجموعة ص (101) . حديث رقم (289) .(22/213)
فما تقدم جزء يسير من الأحاديث الموضوعة في فضل شهر رجب والقصد الإشارة والتنبيه على عدم خصوصية شهر رجب بصوم أو صلاة ونحو ذلك من العبارات ، وما ذكر فيه الكفاية ، وما لم يذكر فليراجع في الكتب التي ذكرت فيها الأحاديث الموضوعة ، والله الهادي إلى سواء السبيل ............- والله أعلم - .
***********************************
المبحث الثاني
المطلب الأول : تعظيم الكفار لشهر رجب .…
رجب في اللغة مأخوذ من رجبَ الرجلَ رجَبا ، وَرَجَبَه يرجُبُه رَجْباً ورُجُوباً ، ورجَّبه وَتَرجَّبه وأَرجْبَهَ كلهُّ : هابه وعظمه ، فهو مَرْجُوبٌ .
ورجب : شهر سموه بذلك لتعظيمهم إياه في الجاهلية عن القتال فيه، ولا يستحلِّون القتال فيه، والترجيب التعظيم ، والراجب المعظم لسيده(1) .
وذكر بعض العلماء أن لشهر رجب أربعة عشر اسماً : شهر الله ، ورجب ، رجب مضر ، منّصل الأسنة ، الأصم منفس ، مطهر ، مقيم ، هرم ، مقشقش ، مبريء ، فرد ، الأصب ، مُعلّى ، وزاد بعضهم: رجم، منصل الآل وهي الحربة، منزع الأسنة(2).
وقد فسر بعض العلماء بعض هذه الأسماء بما يلي :
رجب : لأنه كانُ يرجَّب في الجاهلية أي يُعظم .
الأصم : لأنهم كانوا يتركون القتال فيه ، فلا يسمع فيه قعقعة السلاح ، ولا يسمع فيه صوت استغاثة .
الأصب : لأن كفار مكة كانت تقول : إن الرحمة تصب فيه صباً .
رجم : بالميم لأن الشياطين ترجم فيه : أي تطرد .
الهرم : لأن حرمته قديمة من زمن مضر بن نزار بن معد بن عدنان .
المقيم : لأن حرمته ثابتة لم تنسخ ، فهو أحد الأشهر الأربعة الحرم .
الُمعلّى : لأنه رفيع عندهم فيما بين الشهور .
منصل الأسنة : ذكره البخاري عن أبي رجاء العطاردي .
منصل الآل : أي الحرب .
المبريء : لأنه كان عندهم في الجاهلية من لا يستحل القتال فيه بريء من الظلم والنفاق .
__________
(1) -يراجع : القاموس المحيط (1/74) ، ولسان العرب (1/411، 412) مادة (رجب) .
(2) -يراجع : لطائف المعارف ص(122) .(22/214)
المقشقش : لأن به كان يتميز في الجاهلية المتمسك بدينه ، من المقاتل فيه المستحل له .
شهر العتيرة : لأنهم كانوا يذبحون فيه العتيرة ، وهي المسماة الرجبية نسبه إلى رجب(1) .
رجب مضر : إضافة إلى مضر(2) لأنهم كانوا متمسكين بتعظيمه ، بخلاف غيرهم ، فيقال إن ربيعة كانوا يجمعون بدله رمضان ، وكان من العرب من يجعل في رجب وشعبان ، ما ذكر في المحرم وصفر ، فيحلون رجباً ويحرمون شعباً(3) .
وقال صلى الله عليه وسلم : (( ورجب مضر الذي بين جماد وشعبان ))(4). فقيده بهذا التقييد مبالغة في إيضاحه ، وإزالة اللبس عنه قالوا : وقد كان بين مضر وبين ربيعة ، اختلاف في رجب ، فكانت مضر تجعل رجباً هذا الشهر المعروف الآن ، وهو الذي بين جمادي وشعبان ، وكانت ربيعة تجعله رمضان ، فلهذا إضافة النبي صلى الله عليه وسلم إلى مضر ، وقيل لأنهم كانوا يعظمونه أكثر من غيرهم(5).
فكل هذه الأسماء التي أطلقت على شهر رجب ، تدل على تعظيم الكفار لهذا الشهر ، وربما كان تعظيم مضر لشهر رجب أكثر من تعظيم غيرهم له ، فلذلك أضيف إليهم .
وكان أهل الجاهلية يتحرون الدعاء فيه على الظالم وكان يستجاب لهم ، ولهم في ذلك أخبار مشهورة قد ذكرها ابن أبي الدنيا في كتاب مجابي الدعوة وغيره .
وقد ذكر ذلك لعمر بن الخطاب – رضي الله عنه -، فقال عمر : إن الله كان يصنع بهم ذلك ليحجز بعضهم عن بعض ، وإن الله جعل الساعة موعدهم ، والساعة أدهى وأمر(6).
__________
(1) - يراجع : تبيين العجب ص(5، 6) . وفص الخواتم ص(93، 94) .
(2) - نسبة إلى مضر بن نزار بن معد بن عدنان .
(3) - يراجع : فتح الباري (8/325) .
(4) - رواه البخاري في صحيحه المطبوع مع فتح الباري (10/7) كتاب الأضاحي ، حديث رقم ( 5550) ، ورواه مسلم في صحيحه (3/1305) كتاب القسامة ، حديث رقم (1679).
(5) - يراجع : النهاية لابن الأثير (2/197) . وشرح النووي على صحيح مسلم (11/218) .
(6) - يراجع : لطائف المعارف ص(126) .(22/215)
وروى ابن أبي شيبة في مصنفه عن خرشه بن الحر قال : رأيت عمر بن الخطاب-رضي الله عنه-يضرب أكف الناس في رجب ، حتى يضعوها في الجفان ، ويقول : كلوا فإنما هو شهر كان يعظمه أهل الجاهلية(1) .
المطلب الثاني : عتيرة رجب .
فسر العلماء عتيرة رجب بعد تفسيرات ، منها :
قال أبو عبيدة : ( وأما العتيرة فإنها الرجبية ، وهي ذبيحة كانت تذبح في رجب ، يتقرب بها أهل الجاهلية .... وذلك أن العرب في الجاهلية كانوا إذا طلب أمراً نذر لئن ظفر به ليذبحن من غنمه في رجب كذا وكذا ، وهي العتائر )(2) .
وذكر ابن منظور : ( أن الرجل كان يقول في الجاهلية : إن بلغت إبلي مائة عترت عنها عتيرة ، فإذا بلغت مائة ضنّ بالغنم فصاد ظبياً فذبحه ) (3).
وقال أبو داود : ( والعتيرة في العشر الأول من رجب )(4).
وقال الخطابي :(العتيرة: تفسيرها في الحديث أنها شاة تذبح في رجب، وهذا هو الذي يشبه معنى الحديث، ويليق بحكم الدين ).
وأما العتيرة التي كانت تعترها الجاهلية فهي الذبيحة التي كانت تذبح للأصنام فيصب دمها على رأسها. والعتر: بمعنى الذبح)(5) .
__________
(1) - يراجع : المصنف (3/102) . قال الألباني بعد ذكره سنده : وهذا سند صحيح . يُراجع: إرواء الغليل (4/113) ، وحديث رقم ( 957).
(2) - يراجع : غريب الحديث (1/ 195و196) .
(3) - يراجع : لسان العرب (4/537) مادة (عتر) .
(4) - يراجع : سنن أبي داود (3/256) كتاب الأضاحي . حديث رقم (2833) .
(5) - يراجع : معالم السنن (4/92) . أول كتاب الضحايا . حديث رقم (2670) .(22/216)
والصحيح – إن شاء الله تعالى – أنهم كانوا يذبحونها في رجب من غير نذر ، وجعلوا ذلك سنة فيما بينهم كالأضحية في الأضحى ، وكان منهم من ينذرها ، كما قد ينذر الأضحية ،بدليل قول النبي صلى الله عليه وسلم ((على كل أهل بيت أضحاة وعتيرة ))(1) .وهذا الذي قاله النبي صلى الله عليه وسلم في بدء الإسلام تقريراً لما كان في الجاهلية ، وهو يقتضي ثبوتها بغير نذر ثم نسخ بعد ، ولأن العتيرة لو كانت هي المنذورة لم تكن منسوخة ، فإن الإنسان لو نذر ذبح شاة في أي وقت لزمه الوفاء بنذره(2).
حكم العتيرة :
اختلف العلماء في حكم العتيرة على أقوال :
القول الأول : أن العتيرة مستحبة ، والدليل على ذلك ما تقدم من الأحاديث الدالة على الأمر بها ، وأنها حق .
__________
(1) - رواه أحمد في مسنده (4/215) ، ورواه النسائي في سننه (7/167، 168) ،كتاب الفرع والعتيرة ، رواه الترمذي في سننه (3/37) ،أبواب الأضاحي، حديث رقم (1555) ، واللفظ له ،وقال : حديث حسن غريب. ورواه أبو داود في سننه (3/256) ،كتاب الضحايا . حديث رقم(2788) ،وقال الخطابي : هذا الحديث ضعيف المخرج ، وأبو رملة مجهول . يراجع : معالم السنن (4/94) ، كتاب الضحايا . حديث رقم (2670) ، وقال المنذري : وقد قيل أن هذا الحديث منسوخ بقوله صلى الله عليه وسلم (( لا فرع ولا عتيرة )) . يراجع : مختصر سنن أبي داود (4/93) ،كتاب الضحايا . حديث رقم(2670)
(2) - يراجع : الشرح الكبير لابن قدامة (2/304و305) .(22/217)
وأما قوله صلى الله عليه وسلم : ((لا فرع ولا عتيرة )) .أي لا عتيرة واجبة قوله صلى الله عليه وسلم : (( إذبحوا لله في أي وقت كان ))(1). أي إذبحوا إن شئتم ، واجعلوا الذبح لله في أي شهر كان ، لا أنها في رجب دون غيره من الشهور(2). وهذا قول الشافعي – رحمه الله - .
قال النووي : وقد نص الشافعي – رحمه الله – في سنن حرملة أنها إن تيسرت كل شهر كان حسناً ، فالصبح الذي نص عليه الشافعي – رحمه الله – واقتضته الأحاديث أنهما – الفرع والعتيرة – لا يكرهان بل يستحبان هذا مذهبنا(3) .ا.هـ .
القول الثاني : أنها لا تستحب ، وهل تكره ؟ : فيه وجهان :
الوجه الأول : تكره العتيرة لقوله صلى الله عليه وسلم : ((لا فرع ولا عتيرة ))
الوجه الثاني : لا تكره للأحاديث السابقة (4) بالترخص فيها .
وأجابوا عن قوله صلى الله عليه وسلم : ((لا فرع ولا عتيرة )). بثلاثة أوجه :
أحدها : أن المراد نفي الوجوب – كجواب الشافعي – رحمه الله – السابق .
الثاني : أن المراد نفي ما كانوا يذبحونه لأصنامهم .
__________
(1) - رواه البخاري في صحيحه المطبوع مع فتح الباري(9/596)كتاب العقيقة، حديث رقم( 5473) ،ورواه مسلم في صحيحه(3/1564)كتاب الأضاحي،حديث رقم(1976)
(2) - يراجع : المجموع للنووي (8/445) .
(3) - يراجع : المجموع (8/445، 446) .
(4) - عن يحيى بن زرارة بن كريم بن الحارث بن عمرو الباهلي قال : سمعت أبي يذكر أنه سمع جده الحارث بن عمرو لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع ...... فقال رجل من الناس : يا رسول الله العتائر والفرائع ؟ قال : (( من شاء عتر ومن شاء لم يعتر ، ومن شاء فرع ومن شاء لم يفرع ، وفي الغنم أضحيتها )) وقبض أصابعه إلا واحدة .
عن مخنف بن سليم قال : كنا وقوفاً مع النبي صلى الله عليه وسلم بعرفات فسمعته يقول : (( يا أيها الناس على كل أهل بيت في كل عام أضحية وعتيرة هل تدرون ما العتيرة ؟ هي التي تسمونها الرجبية )) .(22/218)
الثالث: أن المراد أنها ليست كالأضحية في الاستحباب أو ثواب إراقة الدم .
وقد نسب النووي هذا القول : إلى ابن كج والدارمي من الشافعية .
القول الثالث : أنها لا تسن . والدليل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم : ((لا فرع ولا عتيرة )). الذي رواه أبو هريرة – رضي الله عنه – وهذا الحديث متأخر على الأمر بها فيكون ناسخاً .
ودليل تأخره أمران :
أنه من رواية أبي هريرة وهو متأخر الإسلام ، فإن إسلامه في سنة فتح خيبر وهي السنة السابعة من الهجرة .
أن الفرع والعتيرة كان فعلهما أمراً متقدماً على الإسلام ، فالظاهر بقاؤهم عليه إلى حين نسخه ، واستمرار النسخ من غير رفع له . ولو قدرنا تقدم النهي عن الأمر بهما ، لكانت نسخت ثم نسخ ناسخها وهذا خلاف الظاهر .
إذا ثبت هذا فإن المراد بالخبر نفي كونها سنة ، لا تحريم فعلها ولا كراهته(1) . ذكر هذا القول ابن قدامة في الشرح الكبير وقال: هذا قول علماء الأمصار ، سوى ابن سيرين ، فإنه كان يذبح العتيرة في رجب ويروي فيها شيئاً(2) .
وقد قال بالنسخ أبو عبيد القاسم بن سلام ، وذكر النووي أن القاضي عياض يقول : إن الأمر بالفرع والعتيرة منسوخ عن جماهير العلماء(3) .
__________
(1) - - يراجع : الشرح الكبير (2/304، 305) .
(2) - يراجع : الشرح الكبير (2/304) .
(3) - يراجع : المجموع (8/446) .وشرح صحيح مسلم للنووي : (13/137) . والاعتبار في الناسخ والمنسوخ من الآثار : ص(158-160) .(22/219)
القول الرابع : النهي عن العتيرة ، وأنها باطلة: قال ابن قيم الجوزية: وقال ابن المنذر-بعد أن ذكر الأحاديث في عتيرة رجب- : وقد كانت العرب تفعل ذلك في الجاهلية ، وفعله بعض أهل الإسلام ، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بهما ، ثم نهى عنهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال :((لا فرع ولا عتيرة )). فانتهى الناس عنهما لنهيه إياهم عنها ، ومعلوم أن النهي لا يكون إلا عن شيء قد كان يفعل، ولا نعلم أن أحداً من أهل العلم يقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان نهاهم عنهما ثم أذن فيهما، والدليل على أن الفعل كان قبل النهي قوله في حديث نبيشة:(( إنا كن نعتر عتيرة في الجاهلية، إنا كنا نفرع في الجاهلية))(1) .
وفي إجماع عوام علماء الأمصار على عدم استعمالهم ذلك، وقوف عن الأمر بهما مع ثبوت النهي عن ذلك بيان لما قلنا(2)..ا.هـ .
وقال الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ : قوله (( ولا تسن الفرعة والعتيرة ))وفيما أفهم الآن أنه أقرب إلى التحريم . قوله (( والمراد بـ((لا فرع ولا عتيرة )) نفي كونهما سنة )) أي خلافاً لما يراه بعض أهل الجاهلية من أن ذلك سنة ، هذا معنى كلام بعضهم . لكن النفي يفيد البطلان كـ((لا عدوى ولا طيرة )) أفلا يكون((لا فرع ولا عتيرة )) إبطال لذلك ؟! .
فالأصل سقوط ذلك ، ولا حاجة إلى تأويل ، بل هو ساقط بالإسقاط النبوي ، سقط سنة وفعلاً .
__________
(1) -رواه أحمد في مسنده (5/76) ، ورواه أبو داود في سننه (3/255) ،كتاب الأضاحي حديث (2830) ، ورواه النسائي في سننه (7/169، 170) ،كتاب الفرع والعتيرة ، ورواه ابن ماجه في سننه (2/1057، 1058) كتاب الذبائح ، حديث رقم (3167) . ورواه الحاكم في المستدرك (4/235) كتاب الذبائح ، وقال : هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ، ووافقه الذهبي .
(2) - يراجع : تهذيب سنن أبي داود لابن القيم (4/92و93) . والاعتبار ص( 159و160) .(22/220)
هذا مع دلالة ((من تشبه بقوم فهو منهم))(1).مع دلالة أن الرسول صلى الله عليه وسلم منع من مشابهة الجاهلية.
ثم إن هذا من باب العبادات ، والعبادات توقيفية ، فلو لم ينفها صلى الله عليه وسلم كانت منتفية ، فإن أمور الجاهلية كلها منتفية ، لا يحتاج إلى أن ينصص على كل واحد منها .
قوله : (( ولا يكرهان )) هذا تصريح بعدم الكراهية ، وبعض الأصحاب قال بالكراهة(2)، والذي نفهم أنه حرام ، وهذا بالنسبة إلى تخصيصهم ذبح أول ولد تلده الناقة – الفرع - ، والذبح في العشر الأول من رجب -العتيرة - ، أما إن كان مثل ما يفعله الجاهلية لآلهتهم فهو شرك(3). ا.هـ .
__________
(1) - رواه أحمد في مسنده (2/50) . ورواه أبو داود في سننه (4/314) كتاب اللباس ، حديث رقم (4031). قال المنذري في تهذيب سنن أبي داود (6/25) : ( في إسناده عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان وهو ضعيف ) . وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في اقتضاء الصراط المستقيم (1/236): (وهذا إسناد جيد ) . وذكره السيوطي في الجامع الصغير (2/ 590) رقم ( 8593 ). وأشار إلى أنه حسن . من رواية أبي داود ، والطبراني في الأوسط . وقال الحافظ العراقي : سنده صحيح ، وصححه ابن حبان ، وله شاهد عند البزار . وعند أبي نعيم في تاريخ أصبهان . يُراجع : كشف الخفاء (2/314) ، حديث رقم (2436) . وقال الألباني – رحمه الله - : صحيح . يُراجع: إرواء الغليل (8/49) ، وحديث رقم ( 2384).
(2) - يراجع : الإنصاف للمرداودي (4/114) .
(3) - يراجع : فتاوى ورسائل الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ (6/165و166) .(22/221)
والذي يترجح عندي –والله أعلم – هو القول بالبطلان ، لاتفاق جمهور العلماء على أن ما ورد في العتيرة منسوخ بقوله صلى الله عليه وسلم : ((لا فرع ولا عتيرة )).وأن اللام في هذا الحديث تفيد النفي قياساً على قوله صلى الله عليه وسلم : ((لا عدوى ولا طيرة )). ولما في العتيرة من التشبه بأهل الجاهلية ، وهذا منهي عنه ، ولأن الذبح عبادة ، والعبادات توفيقية .
ولكن ليس هذا معناه أنه لا يجوز الذبح عموماً في شهر رجب ولكن المراد بالنهي هو ما ينويه الذابح أن هذه الذبيحة هي عتيرة رجب ، أو انه ذبحها تعظيماً لشهر رجب ونحو ذلك . – والله أعلم - .
**************************************
المبحث الثالث
بدعة تخصيص شهر رجب بالصيام أو القيام
وحكم العمرة فيه والزيارة الرجبية
من الأمور المبتدعة في شهر رجب : تخصيصه بالصيام أو القيام ، والمخصصين له استندوا إلى أحاديث بعضها ضعيف ، وكثير منها موضوع والتي سبق وذكرنا بعضاً منها.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية :( أما تخصيص رجب وشعبان جميعاً بالصوم ، أو الاعتكاف ، فلم يرد فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء ولا عن أصحابه ، ولا أئمة المسلمين، بل قد ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصوم شعبان، ولم يكن يصوم من السنة أكثر مما يصوم من شعبان ، من أجل شهر رمضان )(1).
__________
(1) - رواه البخاري في صحيحه المطبوع مع فتح الباري (4/213) كتاب الصوم،حديث رقم (1970).ورواه مسلم في صحيحه (2/811) كتاب الصيام،حديث رقم (1156) . وليس فيهما زيادة ( من أجل شهر رمضان ) .(22/222)
وأما صوم رجب بخصوصه فأحاديثه كلها ضعيفة ، بل موضوعة،لا يعتمد أهل العلم على شيء منها ، وليست من الضعيف الذي يروى في الفضائل ، بل عامتها من الموضوعات المكذوبات ، وأكثر ما روي في ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل رجب يقول : (( اللهم بارك لنا في رجب وشعبان وبلغنا رمضان))(1).
وقد روى ابن ماجه في سننه عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم ((نهى عن صيام رجب))(2) .وفي إسناده نظر .
لكن صح أن عمر بن الخطاب كان يضرب أيدي الناس ليضعوا أيديهم في الطعام في رجب ، ويقول : لا تشبهوه برمضان .
__________
(1) - رواه الإمام أحمد في مسنده (1/259) ،وفيه زائدة بن أبي الرقاد عن زيادة النميري . قال ابن حجر : وزائدة بن أبي الرقادة روى عنه جماعة . وقال فيه أبو حاتم : يحدث عن زيادة النميري عن أنس أحاديث مرفوعة منكرة ، فلا يدري منه أو من زيادة ، ولا أعلم روى عنه غير زيادة ، فكنا نعتبر حديثه . وقال البخاري : منكر الحديث ، وقال النسائي : بعد أن أخرج له حديثاً في السنن : لا أدري من هو ، وقال في الضعفاء : منكر الحديث ، وقال في الكنى : ليس بثقة . وقال ابن حبان : لا يحتج بخيره .
يراجع : تبيين العجب بما ورد في فضل رجب ص(12) ، والضعفاء الكبير (2/81) ، ترجمة رقم (531) ، وتهذيب التهذيب (3/305) ترجمة رقم (570) .
(2) - رواه ابن ماجه في سننه (1/554) ، كتاب الصيام . حديث رقم (1743) ، وفيه داود بن عطاء المدني وهو متفق على تضعيفه . قال ابن الجوزي : هذا حديث لا يصح عن الرسول الله صلى الله عليه وسلم قال أحمد بن حنبل : لا يحدث عن داود بن عطاء . وقال البخاري : منكر الحديث . يراجع : مصباح الزجاجة في زوائد ابن ماجه (2/77، 78) ، والعلل المتناهية ( 2/ 65) ،حديث رقم (913) ، والضعفاء الكبير (2/34، 35)ترجمة رقم (457) ، وتهذيب التهذيب ( 3/193-194)ترجمة رقم (370) .(22/223)
ودخل أبو بكر فرأى أهله قد اشتروا كيزانا للماء واستعدوا للصوم فقال : ما هذا ؟ فقالوا: رجب. فقال: أتريدون أن تشبهوه برمضان ؟ وكسر تلك الكيزان(1) .
فمتى أفطر بعضاً لم يكره صوم البعض .
وفي المسند وغيره حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم(( أنه أمر بصوم الأشهر الحرم )) .وهي رجب وذو القعدة وذو الحجة والمحرم ، فهذا في صوم الأربعة جميعاً ، لا من تخصص رجب(2) .ا.هـ .
وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية- رحمه الله- ( أن تعظيم شهر رجب من الأمور المحدثة التي ينبغي اجتنابها ، وأن اتخاذ شهر رجب موسماً بحيث يفرد بالصوم مكروه عن الأمام أحمد – رحمه الله – وغيره )(3).
وقال ابن رجب : ( وأما الصيام فلم يصح في فضل صوم رجب بخصوصه شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا عن أصحابه ، ولكن روي عن أبي قلابة قال : (( في الجنة قصر لصوام رجب )) قال البيهقي : أبو قلابة من كبار التابعين ، لا يقول مثله إلا عن بلاغ )(4) .
__________
(1) - قال ابن قدامة : وروى الإمام أحمد بإسناده عن أبي بكرة – ثم ذكر هذا الآثر - . يراجع : : المغني (3/167) . والشرح الكبير (2/52) . قلت : ولكني لم أجده في مسند الإمام أحمد . وقد ذكره شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى (25/291) . عن أبي بكرة . وذكره أيضاً في اقتضاء الصراط المستقيم (2/265) . عن أبي بكرة . وذكر ابن حجر في تبيين العجب أن سعيد بن منصور رواه في سننه عن أبي بكرة . يراجع : تبيين العجب ص(35) .
(2) - يراجع : مجموع فتاوى الشيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله - (25/290و291) .
(3) - يراجع : اقتضاء الصراط المستقيم (2/624، 625 ) .
(4) - يمكن الجواب عن هذا بأنه قد اتفق العلماء مثل أبي إسماعيل الهروي ، وشيخ الإسلام ابن تيمية ، وابن حجر العسقلاني – كما سبق وذكرت – على أنه لم يصح حديث في صوم رجب على وجه الخصوص ، وأن ما ورد في ذلك فإما ضعيف وهذا قليل ، وإما موضوع وهو الأكثر ، والله أعلم .(22/224)
وإنما ورد في صيام الأشهر الحرم كلها حديث مجيبة الباهلية عن أبيها أو عمها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له :((صم من الحرم واترك)) (1)،قالها ثلاثاً : خرجه أبو داود وغيره ، وخرجه ابن ماجه وعنده (( صم أشهر الحرم )).
وقد كان بعض السلف يصوم الأشهر الحرم كلها منهم : ابن عمر والحسن البصري ، وأبو إسحاق السبيعي .
وقال الثوري : الأشهر الحرم أحب إلى أن أصوم فيها . وجاء في حديث خرجه ابن ماجه أن أسامة بن زيد كان يصوم الأشهر الحرم ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم - : (( صم شوالاً )) ، فترك أشهر الحرم وصام شوالاً حتى مات(2). وفي إسناده انقطاع . وخرج ابن ماجه أيضاً بإسناد فيه ضعف عن ابن عباس – رضي الله عنهما – أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن صيام رجب . والصحيح وقفه على ابن عباس . ورواه عطاء عن النبي صلى الله عليه وسلم – مرسلاً .
__________
(1) -- رواه الإمام أحمد في مسنده (5/28) . ورواه أبو داود في سننه (2/809-810) كتاب الصوم .حديث رقم (2428) ، ورواه ابن ماجه في سننه (1/554) كتاب الصيام .حديث رقم (1741) . ورواه البهقي في سننه (4/291، 292) كتاب الصيام ، وقال المنذري- : بعد أن ذكر الاختلاف في مجيبة الباهلية أو أبي مجيبة الباهلية ، أو مجيبة الباهلي -: وأشار بعض شيوخنا إلى تضعيفه لذلك ، وهو متوجه . يراجع : مختصر سنن أبي داود (3/306) ، حديث رقم (2318).
(2) - رواه ابن ماجه في سننه (1/555) كتاب الصيام .حديث رقم (1744) .وقال البوصيري في زوائد ابن ماجه : ( هذا إسناد رجاله ثقات وفيه مقال .... الحديث الذي في سنن ابن ماجه من رواية التيمي عن أسامة لم يسنده إليه فليس بمتصل .ا.هـ . يراجع : مصباح الزجاجة في زوائد ابن ماجه (2/78) .(22/225)
وروى عبد الرازق في كتابه عن داود بن قيس عن زيد بن أسلم ذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم قوم يصومون رجباً فقال: (( أين هم من شعبان ))(1) .ا.هـ(2) .
وقال ابن رجب أيضاً : وعن ابن عمر وابن عباس أنهما كانا يريان أن يفطر منه أياماً .
وكرهه أنس أيضاً ، وسعيد بن جبير .
وكره صيام رجب كله : يحيى بن سعيد الأنصاري ، والإمام أحمد – رحمه الله – وقال : يفطر منه يوماً أو يومين ، وحكاه عن ابن عمر وابن عباس .
وقال الشافعي – رحمه الله – في القديم : ((أكره أن يتخذ الرجل شهر صوم شهر يكمله كما يكمل رمضان )) ، واحتج بحديث عائشة – رضي الله عنها - : ((ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم استكمل شهراً قط إلا رمضان ))(3).وقال: كذلك يوماً من الأيام وقال إنما كرهته أن لا يتأسى رجل جاهل ، فيظن أن ذلك واجب ، وإن فعل فحسن وتزول كراهة إفراد رجب بالصوم ، بأن يصوم معه شهراً آخر تطوعاً عند بعض أصحابنا(4)(الحنابلة) مثل أن يصوم الأشهر الحرم ، أو يصوم رجب وشعبان ، وقد تقدم عن ابن عمر – رضي الله عنهما – وغيره صيام الأشهر الحرم .
والمنصوص عن أحمد –رحمه الله - : ( أنه لا يصومه بتمامه إلا من صام الدهر )(5) .
وروي عن ابن عمر- رضي الله عنهما- ما يدل عليه : فإنه بلغه أن قوماً أنكروا عليه أنه حرم صوم رجب فقال : كيف بمن يصوم الدهر ؟(6) .
__________
(1) - رواه عبد الرازق في مصنفه (4/292) . حديث رقم (7858) . ورواه ابن أبي شيبة في مصنفه (3/102 ) .
(2) - يراجع : لطائف المعارف ص(123-124) .
(3) - رواه البخاري في صحيحه المطبوع مع فتح الباري (4/213) كتاب الصوم،حديث رقم (1969).ورواه مسلم في صحيحه (2/810) كتاب الصيام،حديث رقم (1156-((175)) ) .
(4) - يراجع : الإنصاف للمردواي (3/347) .
(5) - يراجع : المغني (3/167) .
(6) - رواه الإمام أحمد في مسنده (1/26) . ورواه مسلم في صحيحه (3/1641) كتاب اللباس والزينة .حديث رقم (2069 ) .(22/226)
وهذا يدل على أنه لا يصام رجب إلا مع صوم الدهر .
وروي يوسف بن عطية عن هشام بن حسان عن ابن سيرين عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصم بعد رمضان إلا رجباً وشعبان(1) . ويوسف ضعيف جداً(2) . ا.هـ .
وقال ابن قيم الجوزية في هديه صلى الله عليه وسلم في صيام التطوع: لم يصم الثلاثة الأشهر سرداً -رجب وشعبان ورمضان -كما يفعله بعض الناس ، ولا صام رجباً قط ، ولا استحب صيامه ، بل روي عنه النهي عن صيامه ذكره ابن ماجه . ا.هـ(3) .
وقال أبو شامة :وذكر الشيخ أبو الخطاب في كتاب أداء ما وجب من وضع الوضاعين في رجب عن المؤتمن بن أحمد الساجي الحافظ قال : (( كان الإمام عبد الله الأنصاري شيخ خراسان(4) لا يصوم رجب وينهى عن ذلك ويقول : ما صح في فضل رجب ولا صيامه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم شيء وقد رويت كراهة صومه عن جماعة من الصحابة ، منهم أبو بكر وعمر- رضي الله عنهما -، وكان يضرب بالدرة صوامه )).
__________
(1) - ذكره ابن حجر في تبيين العجب ص(12) . وقال وهو حديث منكر من أجل يوسف بن عطية فإنه ضعيف جداً .
(2) - يراجع : لطائف المعارف ص(124و125) .
(3) - يراجع : زاد المعاد (2 /64) .
(4) - خراسان : بلاد واسعة ، أول حدودها مما يلي العراق ، وآخر حدودها مما يلي الهند طخارستان وغزنه وسجستان وكرمان وليس ذلك منها إنما هو أطراف حدودها ، ومن أمهات البلاد فيها : نيسابور ، وهراة ، ومرو ، وبلخ طالقان ، ونسا وسرخس ، وأبيورد ،وما يتخلل ذلك من المدن التي دون نهر جيحون ، وقد فتحت أكثر هذه البلاد عنوة وصلحاً وذلك سنة 31هـ في خلافة عثمان بن عفان رضي الله عنه - . يراجع : معجم البلدان (2/350-354) .(22/227)
وروي ذلك الفاكهي في كتاب مكة له، وأسند الإمام المجمع على عدالته، المتفق على إخراج حديثه وروايته، أبو عثمان سعيد بن منصور الخراساني قال :حدثنا سفيان عن مسعر عن وبرة عن خرشة بن الحر أن عمر ابن الخطاب-رضي الله عنه-كان يضرب أيدي الرجال في رجب ،إذا رفعوها عن طعامه حتى يضعوها فيه ، ويقول : إنما هو شهر كان أهل الجاهلية يعظمونه(1) .قال وهذا سند مجمع على عدالة رواته .
فالصيام جنة ، وفعل خير ، وعمل بر ، لا لفضل صوم هذا الشهر قال : فإن قيل : أليس هذا هو استعمال خير ؟ . قيل الخير ينبغي أن يكون مشروعاً من النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا علمنا أنه كذب خرج أنه من المشروعية ، وإنما كانت تعظيمه مضر في الجاهلية ، كما قال أمير المؤمنين عمر - رضي الله عنه-، وضرب أيدي الذين كانوا يصومونه وكان ابن عباس حبر القرآن يكره صيامه .
وقال فقيه القيروان ، وعالم أهل زمانه بالفروع : أبو محمد بن زيد : وكره ابن عباس صيام رجب كله ، خيفة أن يرى الجاهل أنه مفترض(2).ا.هـ .
وقال الطرطوشي : يكره صيام رجب على أحد ثلاثة أوجه :
أحدها : إذا خصه المسلمون بالصوم في كل عام ، حسب العوام ومن لا معرفة له بالشريعة مع ظهور صيامه أنه فرض كرمضان .
الثاني : أو أنه سنة ثابتة خصه رسول الله صلى الله عليه وسلم كالسنن الراتبة .
الثالث : أو أن الصوم فيه مخصوص بفضل ثواب على سائر الشهور ، جار مجري صوم عاشوراء ، وفضل آخر الليل على أوله في الصلاة ، فيكون من باب الفضائل لا من باب السنن والفرائض ، ولو كان من باب الفضائل لسنه صلى الله عليه وسلم ، أو فعله ولو مرة في العمر كما فعل في صوم عاشوراء ، وفي الثلث الغابر من الليل .
__________
(1) - يراجع : المصنف (3/102) . قال الألباني بعد ذكره سنده : وهذا سند صحيح . يُراجع: إرواء الغليل (4/113) ، وحديث رقم ( 957).
(2) - يراجع : الباعث ص(48، 49) .(22/228)
ولما لم يفعل بطل كونه مخصوصاً بالفضيلة ، ولا هو فرض ولا سنة باتفاق ، فلم يبق لتخصيصه بالصيام وجه ، فكره صيامه والدوام عليه ، وحذراً من أن يلحق بالفرائض والسنن الراتبة عند العوام .
فإن أحب امرؤ أن يصومه على وجه تؤمن فيه الذريعة ، وانتشار الأمر-حتى لا يعد فرضاً أو سنة-فلا بأس بذلك(1) .ا.هـ .
فمما تقدم من كلام هؤلاء العلماء من السلف الصالح يتبين لنا أن شهر رجب لا يخصص ولم يخصص بصيام دون غيره من الأشهر ، وكذلك تخصيصه بالصيام تعظيم له ، وتعظيم شهر رجب فيه تشبه بأهل الجاهلية ، ومن تشبه بقوم فهو منهم .
وتخصيصه بالصيام بدعة لأنه لم يأمر به صلى الله عليه وسلم ولم يفعله، ولا خلفاؤه الراشدون ، ولا التابعون، ولا السلف الصالح، وكل ما ورد في صيامه من النصوص فقد اتفق جمهور على أنها موضوعة إلا القليل منها ضعيف جداً لا يصلح الاحتجاج به .
وقد صح عن ابن عباس أنه كان ينهى عن صيام رجب كله لئلا يتخذ عيداً(2). وصح عنه أيضاً قال : ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتحرى صيام يوم فضله على غيره إلا هذا اليوم يوم عاشوراء، وهذا الشهر يعني شهر رمضان .فإذا ليس لتخصيص شهر رجب بالصوم أصل – والله أعلم - .
وأما تخصيصه بالعمرة فيه فقد روى ابن عمر – رضي الله عنهما – أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتمر في رجب ، فأنكرت ذلك عائشة – رضي الله عنها – وهو يسمع فسكت(3).
واستحب الاعتمار في رجب عمر بن الخطاب وغيره ، وكانت عائشة تفعله وابن عمر أيضاً .
__________
(1) - يراجع : الحوادث والبدع ص(130، 131) .
(2) - رواه عبد الرزاق في مصنفه (4/292) . رقم (7854) . وقال ابن حجر : وهذا إسناد صحيح . يراجع تبيين العجب : ص(35) .
(3) - رواه صحيح البخاري (2/199) كتاب العمرة،باب (3). صحيح مسلم (2/916، 917) كتاب الحج حديث رقم (1255) . (219، 220 ) .(22/229)
ونقل ابن سيرين عن السلف أنهم كانوا يفعلونه ، فإن أفضل الأنساك أن يؤتى بالحج في سفرة ، والعمرة في سفرة أخرى في غيره أشهر الحج ، وذلك من إتمام الحج والعمرة المأمور به .
وهذا(1) رأي جمهور الصحابة كعمر وعثمان وعلى وغيرهم(2) .ا.هـ .
فكلام ابن رجب-رحمه الله - يدل على أن العمرة في رجب مستحبة واستدل على ذلك باستحباب عمر بن الخطاب-رضي الله عنه-العمرة في رجب . وفعل عائشة- رضي الله عنها- لها ، وابن عمر أيضاً ، وهذا هو القول الأول .
وروى البيهقي في سننه عن سعيد بن المسيب أن عائشة – رضي الله عنها – كانت تعتمر في آخر ذي الحجة من الجحفة(3) ، وتعتمر في رجب من المدينة ، وتهل من ذي الحليفة(4).(5)
__________
(1) - أن الإتيان بالحج في سفرة والعمرة في سفرة أخرى – والله أعلم – وليس المراد استحباب العمرة في رجب .
(2) - يراجع : لطائف المعارف ص(125-126) .
(3) - كانت قرية كبيرة ذات منبر ، على طريق المدينة من مكة على أربع مراحل ، وهي ميقات أهل مصر والشام إن لم يمروا على المدينة ، وكان اسمها مهيعة وإنما سميت الجحفة لأن السيل اجتحفها ، وحمل أهلها في بعض الأعوام فصارت خراباً . يراجع : معجم البلدان (2/111) .
(4) - قرية بينها وبين المدينة ستة أميال أو سبعة ، ومنها ميقات أهل المدينة ، وهي من مياه جشم بينهم وبين بني خفاجة من عقيل . يراجع : معجم البلدان (2/295، 296) .
(5) - رواه البيهقي في سننه (4/344) كتاب الحج . بإسناد حسن ، لأن فيه يحيى بن أيوب الغافقي قال فيه ابن حجر : صدوق ربما أخطأ . يراجع : تقريب التهذيب (2/343) .(22/230)
القول الثاني : أن تخصيص شهر رجب بالعمرة لا أصل له ، قال ابن العطار : ومما بلغني عن أهل مكة زادها الله شرفاً اعتياد كثيرة في رجب ، وهذا مما لا أعلم له أصلاً ، بل ثبت في حديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( عمرة في رمضان تعدل حجة ))(1).ا.هـ(2) .
وذكر الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ أن العلماء أنكروا تخصيص شهر رجب بكثرة الاعتمار(3).
والذي يترجح عندي- والله أعلم- أن تخصيص شهر رجب بالعمرة ليس له أصل ، لأنه ليس هناك دليل شرعي على تخصيصه بالعمرة فيه ، مع ثبوت أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعتمر في رجب قط كما تقدم.
ولو كان لتخصيصه بالعمرة فضل لدل أمته عليه- وهو الحريص عليهم-كما دلهم على فضل العمرة في رمضان ونحو ذلك .
وأما ما ورد أن عمر بن الخطاب استحب العمرة في رجب فلم أقف على سنده .
وأما ما نقله ابن سيرين عن السلف ، أنهم كانوا يفعلونه فليس في ذلك دليل على تخصيصه بالعمرة ، لأنه ليس قصدهم-والله أعلم – تخصيص شهر رجب بالعمرة ، وإنما القصد – والله أعلم – هو الإتيان بالحج في سفرة والعمرة في سفرة أخرى ، رغبة في إتمام الحج والعمرة المأمور به ، كما وضح ذلك ابن رجب في معرض كلامه عما نقله ابن سيرين عن السلف.
__________
(1) - رواه البخاري في صحيحه المطبوع مع فتح الباري(3/603)كتاب العمرة ،حديث رقم(1782).ورواه مسلم في صحيحه(2/917، 918) كتاب الحج،حديث رقم(1256).
(2) -يراجع : مساجلة العز بن عبد السلام وابن الصلاح حول صلاة الرغائب ص(56) . وقد نقلها المحقق من نسخة مخطوطة لرسالة : حكم صوم رجب وشعبان للعطار .
(3) - يراجع : مجموع فتاوى الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ (6/131) .(22/231)
وإما ما رواه البيهقي عن عائشة – رضي الله عنها – من أنها كانت تعتمر في ذي الحجة وفي رجب ، فيمكن الجواب عنه: بأنه موقوف على عائشة ، وكذلك يحتمل أن فعلها هذا جمع بين السنة في الاعتمار في أشهر الحج كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم وبين فضل الإتيان بالحج في سفرة والعمرة في سفرة أخرى . ولو كان لتخصيص شهر رجب بالعمرة فضل أو مزية لذكرته - عائشة – رضي الله عنها – عندما أنكرت على ابن عمر قوله : أن النبي صلى الله عليه وسلم – اعتمر في رجب – والفضل كله في الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم والنبي صلى الله عليه وسلم لم يعتمر في رجب قط . والله أعلم .
قال أبو شامة : (( ولا ينبغي تخصيص العبادات بأوقات لم يخصصها بها الشرع ، بل يكون جميع أفعال البر مرسلة في جميع الأزمان ليس لبعضها على بعض فضل ، إلا ما فضله الشرع وخصه بنوع من العبادة ، فإن كان ذلك ، اختص بتلك الفضيلة تلك العبادة دون غيرها ، كصوم يوم عرفة وعاشوراء ، والصلاة في جوف الليل ، والعمرة في رمضان ، ومن الأزمان ما جعله الشرع مفضلاً فيه جميع أعمال البر كعشر ذي الحجة ، وليلة القدر التي هي خير من ألف شهر ، أي العمل فيها أفضل من العمل في ألف شهر ، ليس فيها ليلة القدر ، فمثل ذلك يكون أي عمل من أعمال البر حصل فيها ، كان له الفضل على نظيره في زمن آخر)) .
فالحاصل : أن المكلف ليس له منصب التخصيص ، بل ذلك إلى الشارع ا.هـ(1) . – والله أعلم - .
******************************
المبحث الرابع
بدعة صلاة الرغائب
صلاة الرغائب من البدع المحدثة في شهر رجب ، وتكون في ليلة أول جمعة من رجب بين صلاة المغرب والعشاء ، يسبقها صيام الخميس الذي هو أول خميس في رجب .
والأصل فيها حديث موضوع على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ورد فيه صفتها وأجرها على النحو التالي :
صفتها
__________
(1) - يراجع : الباعث ص(48) .(22/232)
عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم-:(( رجب شهر الله، وشعبان شهري ،ورمضان شهر أمتي...، وما من أحد يصوم يوم الخميس ، أول خميس في رجب ، ثم يصلي فيما بين العشاء والعتمة ، يعني ليلة الجمعة ، ثنتي عشرة ركعة، يقرأ في كل ركعة فاتحة الكتاب مرة ، و {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ}(1) ثلاث مرات و{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}(2)اثنتي عشرة مرة ، يفصل بين كل ركعتين بتسليمه ، فإذا فرغ من صلاته صلى عليَّ سبعين مرة، ثم يقول : اللهم صلى على محمد النبي الأمي وعلى آله ، ثم يسجد فيقول في سجوده : سبوح قدوس رب الملائكة والروح سبعين مرة ، ثم يرفع رأسه فيقول : رب اغفر لي(3) وارحم وتجاوز عما تعلم ، إنك أنت العزيز الأعظم ، سبعين مرة ، ثم يسجد الثانية فيقول مثل ما قال في السجدة الأولى ، ثم يسأل الله تعالى حاجته فإنها تقضى . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم والذي نفسي بيده ما من عبد ولا أمة صلى هذه الصلاة ، إلا غفر الله تعالى له جميع ذنوبه ، وإن كانت مثل زبد البحر ، وعدد ورق الأشجار ، وشفع يوم القيامة في سبعمائة من أهل بيته ، فإذا كان في أول ليلة في قبره ، جاء بواب(4) هذه الصلاة فيجيبه بوجه طلق ، ولسان ذلق ، فيقول له : حبيبي أبشر فقد نجوت من كل شدة ، فيقول : من أنت فو الله ما رأيت وجهاً أحسن من وجهك ، ولا سمعت كلاماً أحلى من كلامك ، ولا شممت رائحة أطيب من رائحتك ، فيقول له : يا حبيبي أنا ثواب الصلاة التي صليتها في ليلة كذا في شهر كذا جئت الليلة لأقضي حقك ، وأونس وحدتك ، وأرفع عنك وحشتك، فإذا نفخ
__________
(1) - سورة القدر:1.
(2) - سورة الإخلاص:1.
(3) - هكذا وردت في الأصل ، والمشهور على حذف كلمة (لي) فتكون العبارة : رب اغفر وارحم – والله أعلم - . يراجع : الأذكار للنووي ص(168) .
(4) - هكذا بالأصل ، ولعل صحة الكلمة ثواب ، لأنه عندما سئل من أنت ؟ أنا ثواب الصلاة ...... الخ – والله أعلم -(22/233)
في الصور أظللت في عرصة القيامة على رأسك ، وأبشر فلن تعدم الخير من مولاك أبداً ))(1) .
قال ابن الجوزي:(ولقد أبدع(2)من وضعها فإنه يحتاج من يصليها أن يصوم، وربما كان النهار شديد الحر، فإذا صام ولم يتمكن من الأكل حتى يصلي المغرب ، ثم يقف فيها ، ويقع ذلك التسبيح الطويل ، والسجود الطويل ، فيتأذى غاية الإيذاء ، وإني لأغار لرمضان ، والصلاة التراويح كيف زوحم بهذه؟! بل هذه عند العوام أعظم وأجل، فإنه يحضرها من لا يحضر الجماعات)(3).ا.هـ .
__________
(1) - رواه ابن الجوزي في الموضوعات(2/124- 126) . وقال : هذا حديث موضوع على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد اتهموا به ابن جهيم ، ونسبوه إلى الكذب ، وسمعت شيخنا عبد الوهاب الحافظ يقول : رجاله مجهولون ، وقد فتشت عليهم جميع الكتب فما وجدتهم . وذكره الشوكاني في الفوائد المجموعة ص (47-48) . وقال : موضوع ، ورجاله مجهولون وهذه هي صلاة الرغائب المشهورة ، وقد اتفق الحفاظ على أنها موضوعة ........ قال الفيروز آبادي في المختصر : إنها موضوعة بالاتفاق ، وكذا قال المقدسي ، ومما أوجب طول الكلام عليها ، وقوعها في كتاب رزين ابن معاوية العبدري ، ولقد أدخل في كتابه الذي جمع فيه بين دواوين الإسلام بلايا وموضوعات لا تعرف ، ولا يدرى من أين جاء بها ، وذلك خيانة للمسلمين . وذكر أبو شامة في الباعث ص(40) : أن المتهم به اسمه علي بن عبد الله بن جهضم الصوفي .
(2) - أي غلا في بدعته – والله أعلم - .
(3) - يراجع : الموضوعات لابن الجوزي (2/125- 126) .(22/234)
وقال الغزالي بعد أن أورد حديث أنس في صفة صلاة الرغائب ، وسماها صلاة رجب:(فهذه صلاة مستحبة !! وإنما أوردناها في هذا القسم-ما يتكرر من الرواتب بتكرر السنين صلاة رجب وشعبان، وإن كانت رتبتها لا تبلغ رتبة التراويح وصلاة العيد، لأن هذه الصلاة نقلها الآحاد ولكني رأيت أهل القدس بأجمعهم يواظبون عليها، ولا يسمحون بتركها فآحببت إيرادها)(1)!!ا.هـ.
وصلاة الرغائب أول ما أحدثت ببيت المقدس ، وذلك بعد ثمانين وأربعمائة للهجرة ،ولم يصلها أحد قبل ذلك.
فلم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه فعلها ، ولا أحد من أصحابه- رضوان الله عليهم -، ولا التابعين ، ولا السلف الصالح -رحمه الله عليهم -(2).
حكمها :
لا شك في بدعية صلاة الرغائب، لاسيما أنها أحدثت بعد القرون المفضلة، فلم يفعلها الصحابة ولا التابعون ولا تابع التابعين، ولا السلف الصالح – رحمهم الله- وكانوا على الخير أحرص ممن جاء بعدهم . وقد جرى بين العز بن عبد السلام وابن الصلاح مساجلة علمية جيدة من خلالها يتأكد لنا بدعية هذه الصلاة المحدثة . فقد أكد الإمام العز بن عبد السلام أن صلاة الرغائب موضوعة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذب عليه ، وأنها مخالفة للشرع من وجوه يختص العلماء ببعضها ، وبعضها يعم العالم والجاهل . فأما ما يختص به العلماء فضربان :
الأول : أن العالم إذا صلى كان موهماً للعامة أنها من السنن ، فيكون كاذباً على رسول الله صلى الله عليه وسلم بلسان الحال الذي قد يقوم مقام لسان المقام .
الثاني : أن العالم إذا فعلها كان متسبباً إلى أن تكذب العامة على رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقولوا : هذه سنة من سنن ، والتسبب إلى الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يجوز .
وأما ما يعم العالم والجاهل فمن وجوه :
__________
(1) - يراجع : إحياء علوم الدين ص (1/202، 203) .
(2) -يراجع : الحوادث والبدع للطرطوشي ص(122) .(22/235)
الوجه الأول : أن فعل البدع مما يغري المبتدعين الواضعين بوضعها وافترائها ، والإغراء بالباطل والإعانة عليه ممنوع في الشرع واطراح البدع والموضوعات زاجر عن وضعها وابتداعها ، والزجر عن المنكرات من أعلى ما جاءت به الشريعة .
الوجه الثاني : أنها مخالفة لسنة السكون في الصلاة ، من جهة أن فيها تعديد لسورة الإخلاص ، وسورة القدر ، ولا يتأتى عده في الغالب إلا بتحريك بعض أعضائه .
الوجه الثالث : أنها مخالفة لسنة خشوع القلب وخضوعه وحضوره في الصلاة ،وتفريغه لله تعالى، وملاحظة جلاله وكبريائه ، والوقوف على معاني القراءة والذكر ، فإنه إذا لا حظ عدد السور بقلبه ، كان متلفتاً عن الله تعالى،معرضاً عنه بأمر لم يشرعه في الصلاة ،والالتفات بالوجه قبيح شرعاًَ ،فما الظن بالالتفات عنه بالقلب الذي هو المقصود الأعظم .
الوجه الرابع : أنها مخالفة لسنة النوافل ، فإن السنة فيها أن فعلها في البيوت أفضل من فعلها في المساجد ، إلا ما استثناه الشرع كصلاة الاستسقاء والكسوف وقد قال صلى الله عليه وسلم:((صلاة الرجل في بيته أفضل من صلاته في المسجد إلا المكتوبة))(1).
الوجه الخامس : أنها مخالفة لسنة الانفراد بالنوافل ، فإن السنة فيها الانفراد ، إلا ما استثناه الشرع ، وليست هذه البدعة المختلفة على رسول الله صلى الله عليه وسلم منه .
__________
(1) - رواه البخاري في صحيحه المطبوع مع فتح الباري (2/214) كتاب الأذان حديث رقم (731) . بلفظ: (( فإن أفضل الصلاة صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة )) . ورواه مسلم في صحيحه (1/539و540) كتاب صلاة المسافرين . حديث رقم (781) . ولفظه(( فإن خير صلاة المرء...)) .(22/236)
الوجه السادس : أنها مخالفة للسنة في تعجيل الفطر ، إذ قال صلى الله عليه وسلم - : ((لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر ))(1) .
الوجه السابع : أنها مخالفة للسنة في تفريغ القلب عن الشواغل المقلقة قبل الدخول في الصلاة ، فإن هذه الصلاة يدخل فيها وهو جوعان ظمآن ، ولاسيما في أيام الحر الشديد ، والصلوات لا يدخل فيها مع وجود شاغل يمكن رفعه .
الوجه الثامن : أن سجدتيها مكروهتان ، فإن الشريعة لم ترد بالتقرب إلى الله تعالى بسجدة منفردة لا سبب لها ، فإن القرب لها أسباب وشرائط وأوقات وأركان لا تصح بدونها ، فكما لا يتقرب إلى الله بالوقوف بعرفة ومزدلفة ورمي الجمار ، والسعي بين الصفا والمروة من غير نسك واقع في وقته بأسبابه وشرائطه ،فكذلك لا يتقرب إليه بسجدة منفردة ،وإن كانت قربة ،إلا إذا كان لها سبب فكذلك لا يتقرب إلى الله عز وجل بالصلاة والصيام في كل وقت وأوان وربما تقرب الجاهلون إلى الله تعالى بما هو مبعد عنه من حيث لا يشعرون .
الوجه التاسع : لو كانت السجدتان مشروعتين ، لكان مخالفاً للسنة في خشوعهما وخضوعهما ، بما يشتغل به من عدد التسبيح فيهما بباطنه ، أو بظاهره ، أو بباطنه وظاهرة.
الوجه العاشر : أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال : (( لا تختصموا ليلة الجمعة بقيام من بين الليالي ، ولا تختصوا يوم الجمعة بصيام من بين الأيام ، إلا أن تكون في صوم يصومه أحدكم ))(2).
__________
(1) - رواه البخاري في صحيحه المطبوع مع فتح الباري (4/198) كتاب الصوم،حديث رقم (1957).ورواه مسلم في صحيحه (2/771) كتاب الصيام،حديث رقم (1098) .
(2) - رواه الإمام أحمد في مسنده (6/444) . ورواه مسلم في صحيحه (2/801) كتاب الصيام .حديث رقم (1144 ) (148) .(22/237)
الوجه الحادي عشر : أن في ذلك مخالفة للسنة فيما اختاره رسول الله صلى الله عليه وسلم في أذكار السجود ، فإنه لما نزل قوله سبحانه وتعالى{سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى}(1) . قال : (( اجعلوها في سجودكم ))(2). وقوله : ((سبوح قدوس )) وإن صحت عن النبي صلى الله عليه وسلم ، فلم يصح أنه أفرادها بدون (( سبحان ربي الأعلى )) ، ولا أنه وظفها على أمته ، ومن المعلوم أنه لا يوظف إلا أولى الذكرين ، وفي قوله : ((سبحان ربي الأعلى )) من الثناء مالي في قوله : (( سبوح قدوس ))(3). ا.هـ .
ثم قال العز بن عبد السلام:(ومما يدل على ابتداع هذه الصلاة أن العلماء الذين هم أعلام الدين، وأئمة المسلمين من الصحابة والتابعين ، وتابعي التابعين ، وغيرهم ممن دون لكتب في الشريعة ، مع شدة حرصهم على تعليم الناس الفرائض والسنن ، لم ينقل عن أحد منهم أنه ذكر هذه الصلاة ، ولا دونها في كتابه ، ولا تعرض لها في مجالسه، والعادة تحيل أن تكون مثل هذه سنة وتغيب عن هؤلاء الذين هم أعلام الدين ، وقدوة المؤمنين ، وهم الذين إليهم الرجوع في جميع الأحكام من الفرائض والسنن والحلال والحرام.... ولما صح عند السلطان الكامل- رحمه الله- أنها من البدع المفتراه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أبطلها من الديار المصرية ، فطوبى لمن تولى شيئاً من أمور المسلمين ، فأعان على إماتة البدع وإحياء السنن .
__________
(1) - سورة الأعلى:1.
(2) - رواه الإمام أحمد في مسنده (4/155) . ورواه أبو داود في سننه (1/542) كتاب الصلاة ، حديث رقم (869) . ورواه ابن ماجه في سننه (1/287) كتاب إقامة الصلاة ، حديث رقم (887) . ورواه ابن حبان في صحيحه .
يراجع : موارد الظمآن ص(136،135)حديث رقم(505).ورواه الحاكم في المستدرك(2/477،478)،وقال حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه.وقال الذهبي:الحديث صحيح.
(3) - يراجع : المساجلة ص(5-9) وكذلك الباعث ص (52-57) .(22/238)
وليس لأحد أن يستدل بما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : (( الصلاة خير موضوع ))(1). فإن ذلك مختص بصلاة لا تخالف الشرع بوجه من الوجوه ، وهذه الصلاة مخالفة للشرع من الوجوه المذكورة ، وأي خير في مخالفة الشريعة؟ ولمثل ذلك قال صلي الله عليه وسلم : ((شر الأمور محدثاتها ، وكل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلاله))(2) . وفقنا الله للإجابة والابتاع وجنبنا الزيغ والابتداع .
__________
(1) - ذكره السيوطي في الجامع الصغير (2/120) ، حديث رقم (5181) ، وأشار إلى أنه رواه الطبراني في الأوسط عن أبي هريرة ، وأشار إلى أنه ضعيف . وذكره العجلوني في كشف الخفاء (2/38) ،رقم (1616) ، وقال : رواه الطبراني في الأوسط عن أبي هريرة ،وعن أبي ذر ، ورواه أحمد وابن حبان والحاكم وصحيحه عن أبي ذر . وذكره الألباني في صحيح الترغيب والترهيب وأشار إلي أنه حسن (1/154) ، كتاب الصلاة ، حديث رقم (386) .
(2) - رواه ابن ماجه في سننه مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم (1/18) المقدمة . وفي سنده عبيده بن ميمون الدني ، قال ابن حجر : مستور . تقريب التهذيب (1/545) .(22/239)
وقد بلغني(1) أن رجلين(2) ممن تصدى للفتيا مع بعدهما عنها،وسعيا في تقرير هذه الصلاة،وأفتيا بتحسنها، وليس ذلك ببعيد مما عهد من خطلهما(3) وزللهما ، فإن صح ذلك عنهما ، فما حملهما على ذلك إلا أنهما قد صلياها مع الناس ، مع جهلهما بما فيها من المنهيات ، فخافا وفرقا(4) إن نهيا عنها أن يقال لهما : فلم صليتماها ؟ فحملهما اتباع الهوى على أن حسنا ما لم تحسنه الشريعة المطهرة ، نصرة لهواهما على الحق ، ولو أنهما رجعا إلى الحق وآثراه على هواهما ، وأفتيا بالصواب ، لكان الرجوع إلى الحق أولى من التمادي في الباطل { وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً}(5) . والعجب كل العجب لمن يزعم أنه من العلماء ويفتي بأن هذه الصلاة موضوعة على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم يسوغ موافقة وضاعها عليها ، وهل ذلك إلا إعانة للكذابين على رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن اتبع الهوى ضل عن سبيل الله،كما نص عليه القرآن .
ثم أفتيا بصحتها مع اختلاف أصحاب الشافعي- رضي الله عنهم-في صحة مثلها،فإن من نوى صلاة ووصفها في نيته بصفة ، فاختلفت تلك الصفة هل تبطل صلاته من أصلها ،أو تنعقد نفلاً ؟فيه خلاف مشهور(6).
وهذه الصلاة بهذه المثابة ، فإن من يصليها يعتقد أنها من السنن الموظفة الراتبة ، وهذه الصفة مختلفة عنها ، فأقل مراتبها أن تجري على الخلاف . والحمد لله رب العالمين(7).ا.هـ .
__________
(1) - الكلام لا زال للعز بن عبد السلام .
(2) -وهما ابن الصلاح وآخر – والله أعلم - .
(3) -الخطل : الكلام الفاسد الكثير المضطرب . يراجع : لسان العرب (11/209) ، مادة (خطل ) .
(4) - الفرق – بالتحريك - : الخوف والجزع . يراجع : لسان العرب (10/304، 305) ، مادة (فرق ) .
(5) -سورة النساء: الآية66.
(6) - يراجع : المجموع شرح المهذب (3/286-289) .
(7) - يراجع : المساجلة ص(9-12) . وذكر السبكي في طبقات الشافعية (8/251-255)(22/240)
وقد رد ابن الصلاح على كلام العز بن عبد السلام السابق ، وناقشة فيه وتوصل إلى أن صلاة الرغائب غير ملحقة بالبدع المنكرة فقال : سألتم أرشدكم الله وإياي عن ما رمه بعض الناس من إزالة صلاة الرغائب وتعطيلها ، ومنع الناس من عبادة اعتادوها في ليلة شريفة ،ولاشك في تفضيلها ، واحتجاجه لذلك بأن الحديث الوراد بها ضعيف بل موضوع ، ودعواه أنه يلزم من ذلك رفعها ، وإلحاقها بالأمر المطرح المدفوع ، وغلوه في ذلك وإسرافه ، وغلو الناس في مشاقته وخلافه ، حتى ضرب له المثل بقوله ذلك بقوله تبارك وتعالى { أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى * عَبْداً إِذَا صَلَّ } إلى قوله تعالى { كَلَّا لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} (1).
__________
(1) - سورة العلق، الآيات :9- 19(22/241)
فرغبتهم في أن أبين الحق في ذلك وأوضحه، وأزيف الزائف منه وأزحزحه، فاستعنت بالله تبارك وتعالى على ذلك واستخرجه، وأوجزت القول فيه واختصرته ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم ، وحسبنا الله ونعم الوكيل ، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب ،فأقول :هذه الصلاة شاعت بين الناس بعد المائة الرابعة ولم تكن تعرف . وقد قيل :إن منشأها من بيت المقدس صانها الله- تبارك وتعالى- والحديث الوارد بها بعينها وخصوصها ضعيف ساقط الإسناد عن أهل الحديث، ثم منهم من يقول :هو موضوع ، وذلك نظنه، ومنهم من يقتصر على وصفه بالضعف،ولا يستفاد له صحة من ذكر رزين بن معاوية إياه في كتابه في تجريد الصحاح ولا من ذكر صاحب كتاب الإحياء(1) له فيه ، واعتماده عليه ، لكثرة ما فيهما من الحديث الضعيف ، وإيراد رزين مثله في مثل كتابه من العجب . ثم إنه لا يلزم من ضعف الحديث ، بطلان صلاة الرغائب والمنع منها ، لأنه داخلة تحت مطلق الأمر الوارد في الكتاب والسنة بمطلق الصلاة ، فهي إذاً مستحبة بعمومات نصوص الشريعة الكثيرة،الناطقة باستحباب مطلق الصلاة،ومنها ما رويناه في صحيح مسلم من حديث أبي مالك الأشعري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :(( الصلاة نور ))(2) .وما رويناه من حديث ثوبان ، وعبد الله بن عمرو بن العاص-رضي الله عنهم- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((استقيموا ولن تحصوا ، واعملوا أن خير أعمالكم الصلاة ))(3)
__________
(1) -وهو : الغزالي صاحب إحياء علوم الدين .
(2) - رواه الإمام أحمد في مسنده(5/342).ورواه مسلم في صحيحه (1/203)كتاب الطهارة،حديث رقم(223).والترمذي في سننه(5/196،197)،أبواب الدعوات،حديث رقم (2583).وقال:حديث حسن صحيح.والنسائي في سننه(5/6،5)،كتاب الزكاة،باب وجوب الزكاة .وابن ماجه في سننه (1/102، 103) ، كتاب الطهارة ، حديث رقم (280).
(3) - رواه الإمام أحمد في مسنده (5/276، 277) . ورواهابن ماجه في سننه (1/101، 102) كتاب الطهارة ،حديث رقم (277). وقال البوصيري في مصباح الزجاجة في زوائد ابن ماجه (1/41) ،هذا الحديث له رجاله ثقات أثبات ،إلا أنه منقطع بين سالم وثوبان فإنه لم يسمع منه بلا خلاف لكن له طريق أخر متصلة أخراجها أبو داود الطيالسي في مسنده ، وأبو يعلى الموصلي ، والدرارمي في مسنده ، وابن حبان في صحيحه من طريق حسان بن عطية .ورواه الدارمي في سننه(1/168).ورواه الحاكم في المستدرك (1/ 130) ، كتاب الطهارة وقال : حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ، ولست أعرف له علة يعلل بمثلها مثل هذا الحديث إلا وهم من أبي بلال الأشعري وهم فيه علي أبي معاوية ، ووافقه الذهبي . ورواه البيهقي في سننه (1/457) ، كتاب الصلاة . ورواه ابن حبان في صحيحه . يراجع : موارد الظمآن ص(69) ، كتاب الطهارة ، حديث رقم (164). وقال ابن الصلاح في المساجلة حول صلاة الرغائب ص(17) ، وأخرجه ابن ماجه في سننه ، وله طرق صحاح .(22/242)
.
وأخص من ذلك بما نحن فيه ما رواه الترمذي في كتابه تعليقاً من حديث عائشة -رضي الله عنها- ولم يضعفه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ((من صلى بعد المغرب عشرين ركعة بني الله له بيتاً في الجنة))(1).
فهذا مخصوص بما بين المغرب والعشاء ، فهو يتناول صلاة الرغائب من جهة أن اثنتي عشرة داخلة في عشرين ركعة ، وما فيها من الأوصاف الزائدة ، يوجب نوعية وخصوصية غير مانعة من الدخول في هذا العموم ، على ما هو معروف عند أهل العلم ، فلو لم يرد حديث أصلاً بصلاة الرغائب بعينها ووصفها ، لكان فعلها مشروعاً لما ذكرنا .
وكم من صلاة مقبولة مشتملة على وصف خاص ، لم يرد بوصفها ذلك نص خاص من كتاب ولا سنة ، ثم لا يقال: إنها بدعة.
ولو قال قائل أنها بدعة لقال مع ذلك بدعة حسنة ، لكونها راجعة إلى أصل من الكتاب أو السنة .
ومن أمثال هذا ما لو صلى إنسان في جنح الليل مثلا خمس عشرة ركعة بتسليمه واحدة ، وقرأ في كل ركعة آية من خمس عشرة سورة على التوالي ، خص كل ركعة منها بدعاء خاص ، فهذه صلاة مقبولة غير مردودة ، وليس لأحد أن يقول : هذه صلاة مبتدعة مردودة . فإنه لم يرد بها على هذه الصفة كتاب ولا سنة ، ولو وضع لها حديثاً بإسناد رواها به ، لأبطلنا الحديث وأنكرناه ، ولم ننكر الصلاة ، فكذلك الأمر في صلاة الرغائب من غير فرق – والله أعلم - .
__________
(1) -رواه الترمذي تعليقاً بصيغة التضعيف – روي – في سننه (1/272) ، أبواب الصلاة ، حديث (433) . رواه ابن ماجه في سننه (1/437) ، كتاب إقامة الصلاة ، حديث رقم (1373) ، وجاء في زوائد ابن ماجه (2/7) : هذا إسناد ضعيف يعقوب بن الوليد . قال فيه الإمام أحمد من الكذابين الكبار ، وكان يضع الحديث . وقال الحاكم : يروي عن هشام بن عروة المناكير ، قال البوصيري : واتفقوا على ضعفه .ا.هـ .(22/243)
ولهذا شوهدا ونظائر لا تحصي من سائر أحكام الشريعة ، نعم ما يكون من ذلك صفته الزائدة منكراً يردها شيء من أصول الشريعة ، فذلك الذي يحكم بكونه من البدع المذمومة ، والحوادث المردودة ، والذي يتوهم فيه صلاة الرغائب أنه كذلك ، أمور نذكرها ونبين بالدليل الواضح كونها سالمة من ذلك إن شاء الله تعالى :
أحدهما : ما فيها من تكرار السور .
وجوابه : أن ذلك ليس من المكروه المنكر ، فقد ورد نحو ذلك ، وورد في بعض الأحاديث تكرار سورة الإخلاص ، فإن لم نستحبه ، لم نعده من المكروه المنكر ، لعدم دليل قوي على ذلك .
وما ورد عن بعض أئمة الحديث من كراهة نحو ذلك ،فمحمول على الكراهة ، التي هي بمعني ترك الأولى(1)، فإن الكراهة قد أطلقت على معان ، وذلك أحدها والله أعلم .
الثاني : السجدتان الفردتان عقيب هذه الصلاة . وقد اختلف أئمتنا في كراهة مثل ذلك ، فإن كان المنازع يختار قول من يكرهها فسبيله أن يتركها فحسب، لا أن يترك الصلاة من أصلها، وهكذا الأمر في تكرار السورة ، سواء بقي على الصلاة اسمها المعروف لبقاء معظمها ، أو لم يبق ، لكون المقصود إبقاء الناس على ما اعتادوه ، ومن شغل هذا الوقت بالعبادة ، وصيانتهم من الترك لا إلى خلف – والله أعلم - .
الثالث : ما فيها من التقييد بعدد خاص من غير قصد .
__________
(1) - قال ابن قيم الجوزية : ( وقد غلط كثير من المتأخرين من أتباع الأئمة بسبب ذلك ، حيث تورع الأئمة عن اطلاق لفظ التحريم ، وأطلقوا لفظ الكراهة فنفى المتأخرون التحريم عما أطلق عليه الأئمة كراهة ، ثم سهل عليهم لفظ الكراهة وخفت مؤنته عليهم فحمله بعضهم على التنزيه ، وتجاوز به آخرون إلى كراهة ترك الأولي ، وهذا كثير جداً في تصرفاتهم فحصل بسببه غلط عظيم على الشريعة والأئمة )ا.هـ . ثم ذكر عدداً من الأدلة على كلامه . إعلام الموقعين (1/39، 40 ) .(22/244)
وهذا قريب راجع إلى ما سبق الكلام عليه ، وهو كمن يتقيد بقراءة سبع القرآن أو ربعه كل يوم ، وكتقيد العابدين بأورادهم التي يختارونها لا يزيدون عليها ولا ينقصون . – والله أعلم - .
الرابع : أن ما فيها من عدد السور والتسبيح وغيرهما مكروه لإشغاله القلب .
وجوابه :أن ذلك غير مسلم ، وهو يختلف باختلاف القلوب وأحوال الناس .
وقد روي عدّ الآيات في الصلاة عن عائشة – رضي الله عنها – وطاووس ، وابن سيرين وسعيد بن جبير ، والحسن ، وابن أبي ملكية ، في عدد كثير من السلف .
وقال الشافعي-رحمه الله -:(لا بأس بعد الآي في الصلاة، نقله عنه صاحب جمع الجوامع في منصوصاته من غير خلاف، وحكاه ابن المنذر عن مالك ، والشافعي ، وأحمد ، وإسحاق والثوري ، وغيرهم ، ويشهد له من الحديث صلاة التسبيح(1)-والله أعلم- .
الخامس : فعلها جماعة مع أن الجماعة في النوافل مخصوصة بالعيدين ، والكسوفين ، والاستسقاء ، وصلاة التراويح ووترها .
وجوابه : أن الحكم في ذلك . أن الجماعة لا تسن إلا في هذه الستة ، لا أن الجماعة منهي عنها في غيرها من النوافل .
__________
(1) - قال ابن الجوزي في الموضوعات (2/143-146) . بعد أن ذكر حديث صلاة التسبيح من طرق عدة : هذه الطرق كلها لا تثبت . ثم ذكر علة كل طريق . ثم قال : قال العقيلي : ليس في صلاة التسبيح حديث يثبت .(22/245)
وفي مختصر الربيع عن الشافعي-رضي الله عنهما-أنه قال:(لا بأس بالإمامة في النافلة، ومن الدليل عليه ما رويناه في الصحيحين عن ابن عباس – رضي الله عنهما - : ((أنه بات عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة ، فلما قام يصلي صلاته من الليل قام ابن عباس – رضي الله عنهما – يصلي خلفه ، ووقف عن يساره فأداره إلى يمينه ))(1).
وفي رواية مسلم التصريح بأنه قام يصلي متطوعاً من الليل(2).
وثبت عن أنس – رضي الله عنه - : (( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاهم في دارهم في غير وقت الصلاة ، فصلى به وبأم سليم وأم حرام ))(3).
وفي رواية لأبي داود ((فصلى بنا ركعتين تطوعاً ))(4).
وفي الصحيحين نحوه عن عتبان بن مالك الأنصاري – رضي الله عنهم - - والله أعلم - .
السادس : أن هذه الصلاة صارت شعاراً ظاهراً حادثاً ، ويمتنع إظهار شعار ظاهر في الدين .
__________
(1) - - رواه البخاري في صحيحه المطبوع مع فتح الباري ( 1/212) كتاب العلم ، حديث رقم (117). ورواه مسلم في صحيحه (1/525، 526) كتاب صلاة المسافرين ، حديث رقم (763) .وذكره ابن الصلاح هنا مختصراً ، وإلا فهو : عند الشيخين أطول من ذلك ، وفيه تفصيل .
(2) -يراجع : صحيح مسلم (1/531) ، حديث رقم (763) (192).في كتاب صلاة المسافرين
(3) - رواه الإمام أحمد في مسنده (3/217) . ورواه مسلم في صحيحه (1/457) كتاب المساجد ، حديث رقم(660) . ورواه أبو داود في سننه (1/406) كتاب الصلاة ،حديث رقم (608) . ورواه النسائي في سننه (2/86) ، كتاب الإمامة .
(4) - رواها أبو داود في سننه (1/406) كتاب الصلاة ،حديث رقم (608) .(22/246)
وجوابه : أن حاصل ذلك يرجع إلى أنها عبادة لها أصل في الشريعة، ظهرت وكثرت الرغبات فيها ، وهذا لا يوجب أن يعكر عليها باجتثاثها من أصلها ،فإن ما اختص به علماء المسلمين في علم الفقه،وسائر علوم الدين من التأصيل ، والتفصيل ، والتفريغ ، والتدقيق ، والتصنيف ،والتدريس ، شعار ظاهر حدث في الدين لم يكن في صدر الإسلام ، فلم لا نقول : إن ذلك مبتدع ينبغي اجتنابه ، وشعار محدث يتعين اجتثاثه .- والله أعلم - .
وقد احتج المنازع بأشياء أخر لا تساوي الذكر ، ومما يجاب به عنها أن يقال له : صل هذه الصلاة ، وتجنب وجنب فيها ما زعمت أنه محذور كما بيناه فيما سبق ، وهو معتمد منها بقوله : إن في ذلك اختصاص ليلة الجمعة بالقيام ، وهو منهي عنه،وهذا ليس بشيء،لأنه ليس بلازم من حال من يصلي صلاة الرغائب، أن يدع في باقي لياليه صلاة الليل ، ومن لم يدع ذلك لم يكن مخصصاً ليلة الجمعة بالقيام ، وهذا واضح -والله أعلم-.
فقد وضح بما بيناه وأصلناه أن صلاة الرغائب غير ملتحقة بالبدع المنكرة!! وأن الحوادث ذوات وجوه مختلفة مشتبهة، فمن لم يميز كان بصدد إلحاق الشيء منها بغير نظير !! – والله تعالى أعلم - .
فهذا بيان شاف ، يتضاءل له – إن شاء الله تعالى – خلاف المخالف ، ويتبدل به وصفه إذ لم يعاند ، بوصف الموافق المؤلف ، ولا يبقي له بعده إلا جعجعة لا طائل وراءها ، وقعقعة وابهامات لا يغتر بها إلا شر ذمة فسدت أهواؤها ، وما شاء الله لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وحسبنا الله وحده لا شريك له ونعم الوكيل(1).ا.هـ .
__________
(1) -يراجع : المساجلة ص(14-27) .(22/247)
ثم فند العز بن عبد السلام رد ابن صلاح بقوله : (( حمداً لله الذي لا إله إلا هو ، وصلاة على نبيه محمد وآله . فإني لما أنكرت صلاة الرغائب الموضوعة ، وبينت مخالفتها للسنن المشروعة ، من الجهات التي ذكرتها في تعليق ذلك ، انتهض بعض الناس معارضاً لذلك، ساعياً في تحسينها وتقريرها، لإلحاقها بالبدع الحسنة من جهة كونها صلاة ، وإنما أنكرتها لمجموع صفاتها وخصائصها ، التي بعضها يقتضي التحريم ، وبعضها يقتضي مخالفتها للسنن ، فأخذ يشنع على أني منعت الناس من عبادة ، وأنا لم أنكر ذلك لكونها عبادة ، وإنما أنكرتها لصفاتها ، ناهياً عما نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ومقتدياً بما نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصلوات في الأوقات المكروهات ، فإنه لم ينه عن ذلك لمجرد كونها صلاة ، وخشوعاً، وذكراً ، وتلاوة؟ وإنما نهى عنها لأمر تختص به ، وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم بن الحجاج (( أنه نهى عن اختصاص ليلة الجمعة بقيام من بين الليالي ))(1). وقد شرط واضح هذه البدعة فيها ، أن توقع في الليلة التي نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن اختصاصها بالقيام )) .
فويل لمن جعل ما نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم قرابة إلى الله تعالى . ثم قال : اعتادها الناس في ليلة شريفة لا شك في تفضيلها. فجعل اعتياد من لا علم له حجة في فعل بدعة منهي عنها، وإنما يفعلها عوام الناس،ومن لم يرسخ قدمه في علم الشريعة، ثم أخطأ في القطع بتفضيلها ،فإنه أراد بكونها ليلة جمعة واقعة في رجب، فمتى ثبت تفضيل هذه الليلة على سواها ؟ وإن أراد مجرد كونها ليلة جمعة فقد أخطأ بإيهامه أنها مقيدة برجب!! وأخطأ أيضاً في تعبيره عن المبالغة في نصرة الدين وإماتة البدع، بلفظ السرف والغلو .
__________
(1) - رواه الإمام أحمد في مسنده (6/444) . ورواه مسلم في صحيحه (2/801) كتاب الصيام .حديث رقم (1144 ) (148) .(22/248)
وأما المثل الذي ذكره في قوله تعالى{ أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى * عَبْداً إِذَا صَلَّ}إلى قوله تعالى{ كَلَّا لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} (1). فذلك تحريف لكتاب الله تعالى ، ووضع له في غير مواضعه ، فإن الآية نزلت في إنكار أبي جهل على رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة المأمور بها ، وإنكار صلاة الرغائب إنكار لصلاة نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها ، فإذن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم – على مقتضى قوله – قد نهى عبداً إذا صلى فيما نحن فيه، وفي نهيه عن الصلوات في الأوقات المكروهات .
وكذلك حرف في قوله تعالى :{ كَلَّا لا تُطِعْهُ.......}(2)الآية ، لأن الناهي عن هذه الصلاة ونظائرها هو الرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فيكون على تأويله قد أمرنا الله أن لا نطيع رسوله صلى الله عليه وسلم فيما نهى عنه من الصلوات .
وذكر أنه استخار الله تعالى في ذلك ، وقد ظهر أنه لم يخر له ، لأنه لو خار له لأفهمه الحق وألهمه الصواب.
ثم اعترف أنها بدعة موضوعة، فنحتج عليه إذاً بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:((وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة)).
__________
(1) - سورة العلق، الآيات :9- 19
(2) - سورة العلق، الآية : 19(22/249)
وقد استثنين البدع الحسنة من ذلك ، وهي كل بدعة لا تخالف السنن ، بل توافقها، فيبقى ما عداها على عموم قول صلى الله عليه وسلم: ((وشر الأمور محدثاتها ، وكل بدعة ضلالة )). وليست صلاة الرغائب في معنى ما استثنى حتى تلحق بها قياساً . وأما استدلاله بقوله صلى الله عليه وسلم قال : (( الصلاة نور ))(1) . وبقوله صلى الله عليه وسلم قال : ((واعملوا أن خير أعمالكم الصلاة ))(2). فلا يصح ، لأن ذلك مخصوص بالإجماع بكل صلاة لم يتوجه إليها نهي ، وأما ما نهى عنه الشرع فليس
__________
(1) - رواه الإمام أحمد في مسنده(5/342).ورواه مسلم في صحيحه (1/203)كتاب الطهارة،حديث رقم(223).والترمذي في سننه(5/196،197)،أبواب الدعوات،حديث رقم (2583).وقال:حديث حسن صحيح.والنسائي في سننه(5/6،5)،كتاب الزكاة،باب وجوب الزكاة .وابن ماجه في سننه (1/102، 103) ، كتاب الطهارة ، حديث رقم (280).
(2) - رواه الإمام أحمد في مسنده (5/276، 277) . ورواهابن ماجه في سننه (1/101، 102) كتاب الطهارة ،حديث رقم (277). وقال البوصيري في مصباح الزجاجة في زوائد ابن ماجه (1/41) ،هذا الحديث له رجاله ثقات أثبات ،إلا أنه منقطع بين سالم وثوبان فإنه لم يسمع منه بلا خلاف لكن له طريق أخر متصلة أخراجها أبو داود الطيالسي في مسنده ، وأبو يعلى الموصلي ، والدرارمي في مسنده ، وابن حبان في صحيحه من طريق حسان بن عطية .ورواه الدارمي في سننه(1/168).ورواه الحاكم في المستدرك (1/ 130) ، كتاب الطهارة وقال : حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ، ولست أعرف له علة يعلل بمثلها مثل هذا الحديث إلا وهم من أبي بلال الأشعري وهم فيه علي أبي معاوية ، ووافقه الذهبي . ورواه البيهقي في سننه (1/457) ، كتاب الصلاة . ورواه ابن حبان في صحيحه . يراجع : موارد الظمآن ص(69) ، كتاب الطهارة ، حديث رقم (164). وقال ابن الصلاح في المساجلة حول صلاة الرغائب ص(17) ، وأخرجه ابن ماجه في سننه ، وله طرق صحاح .(22/250)
بنور ، بل هو ظلمة ، وليس بخير الأعمال إذ لا خير في مخالفة الرسول صلى الله عليه وسلم ولا نور في معصية{ وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ}(1). (( ورب حامل فقه ليس بفقيه ))(2) .
__________
(1) - سورة النور:40.
(2) - رواه الإمام أحمد في مسنده (5/183) ورواه الترمذي في سننه (4/141) أبواب العلم ، حديث رقم (2794) ، وقال :حديث حسن . ورواه أبو داود في سننه (4/68-69) كتاب العلم ،حديث رقم (3660)..ورواه ابن ماجه في سننه (1/ 84 ) ، المقدمة ،حديث رقم (230).وقال البوصيري في زوائد ابن ماجه : هذا إسناد فيه ليث بن أبي سليم وقد ضعفه الجمهور وهو : مدلس . رواه بالعنعنة ، لكن لم ينفرد ابن ماجه بهذا الحديث من طريق زيد بن ثابت فقد روى بعضه أبو داود و الترمذي والنسائي وأبو يعلى الموصلي في مسنده ..... ورواه ابن حبان في صحيحه بتمامه ، والبيهقي بتقديم وتأخير ، ورواه أبو داود الطياليسي بزيادة طويلة ..... ورواه الحاكم في المستدرك ، يراجع مصباح الزجاجة (1/32) . ورواه الحاكم في المستدرك عن النعمان بشير (1/88) ، كتاب العلم وقال الذهبي : على شرط مسلم . ورواه أيضاً عن جبير بن مطعم بلفظ ((فرب حامل فقه لا فقه له ... )) وقال حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ، ووفقه الذهبي .
يراجع المستدرك (1/87) .(22/251)
وأما استلالاً بما أخرجه الترمذي تعليقاً من حديث عائشة -رضي الله عنها- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم- قال: ((من صلى بعد المغرب عشرين ركعة بني الله له بيتاً في الجنة))(1).
فإن كان عالماً بأن المعلق لا حجة فيه فكيف يستدل بما لا حجة فيه ، وإن ظن أن مثله حجة ، فمذهبه الذي ينتمي إليه ويعتمد عليه لا يقتضي ذلك ، مع أن هذا الحديث قد أسنده ابن ماجه في سننه ، وفي إسناده يعقوب بن الوليد المديني وهو كذاب وضاع على ما ذكره أحمد بن حنبل وغيره من أئمة الحديث . فوا عجباً لمن يترك ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثل هذا الحديث الذي لا وزن له .
وأما إدراجه صلاة الرغائب في هذا الحديث فلا يستقيم ، لأن هذا الحديث- لو صح-لم تندرج فيه هذه الصلاة ، فإنه خرج مخرج الترغيب ، والترغيب مقيد بعشرين ركعة فلا يتحقق فيما دونها .
وأما ما ذكره من إحداث الصلوات التي توقع على أوصاف خاصة ، فجوابه أن الأوصاف ضربان :
أحدهما : ما يقتضي الكراهة كصفة صلاة الرغائب ، فتلك بدعة مكروهة(2) .
الثاني : مالا يقتضي الكراهة فيكون من البدع الحسنة ، والمثال الذي ذكرناه مندرج في هذا الضرب .
وأما قوله في هذا المثال : لو وضع لهذه الصلاة حديثاً لأنكرناه ولم ننكر الصلاة ، فكذلك الأمر في صلاة الرغائب من غير فرق .
فجوابه : أن الفرق من وجوه :
__________
(1) -رواه الترمذي تعليقاً بصيغة التضعيف – روي – في سننه (1/272) ، أبواب الصلاة ، حديث (433) . رواه ابن ماجه في سننه (1/437) ، كتاب إقامة الصلاة ، حديث رقم (1373) ، وجاء في زوائد ابن ماجه (2/7) : هذا إسناد ضعيف يعقوب بن الوليد . قال فيه الإمام أحمد من الكذابين الكبار ، وكان يضع الحديث . وقال الحاكم : يروي عن هشام بن عروة المناكير ، قال البوصيري : واتفقوا على ضعفه .ا.هـ .
(2) - يراجع : حكم البدع في هذا الكتاب .(22/252)
أحدها : أن صلاة الرغائب بخصوصياتها توهم العامة أنها سنة من سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما هو الواقع ، بخلاف الصلاة في المثال المذكور .
الثاني :أن تعاطي صلاة الرغائب يوقع العامة في أن يكذبوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وينسبوه إلى أنه سنها بخصوصياتها ، فيكون متعاطيها منتسباً إلى الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم بخلاف الصلاة التي مثل بها .
الثالث : أن تعاطي صلاة الرغائب مما يغري الواضعين بالوضع ، لنفاق كذبهم وعمومه ، بخلاف ما مثل به.
الرابع : أن تعاطيها بخصوصها يتضمن سنن كثيرة بخلاف ما مثل به .
الخامس : أن صلاة الرغائب في حق من يعتقد أنها سنة راتبة يجب تخريج صحتها على الخلاف ، فيمن وصف الصلاة في نيته بصفة فاختلفت ، ولا خلاف في صحة الصلاة في المثال المضروب . ثم قد ناهض حكمه بأنها من البدع الحسنة بقوله : إن الصفة الزائدة إذا كانت منكرة يردها شيء من أصول الشريعة ، فهي من البدع المذمومة ، والحوادث المردودة ، وتعاطي صلاة الرغائب كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم بلسان الحال ،وتسبب إلى الكذب عليه ،وإغراء للواضعين بالوضع ،وكل ذلك مما ترده أصول الشريعة . وأما نسبته المنكر لصلاة الرغائب إلى أنه أنكر تكرار السور ، فلم ينكر تكرار السور ، وإنما أنكر شغل القلب عن الخشوع بعدها .
وأما قوله : فليس ذلك من المكروه المنكر ، فقد ورد نحو ذلك .
فجوابه : أنه إن أراد بما ورد تسبيحات الركوع والسجود ، وتكبيرات العيد فالفرق من وجهين :
أحدهما : أن ذلك عدد قليل يتأتى تعاطيه مع ملاحظة الخشوع .
والثاني : أن ذلك العدد مما ثبتت شرعيته في الصلاة ، فإن كان الخشوع لا يتأتى معه وجب تقديمه على الخشوع ، فقدمنا أحد مأموري الشرع على الآخر بخلاف العد في صلاة الرغائب فإنه طويل غير مشروع ، فإذا تعاطاه المصلى كان تاركاً للخشوع المشروع بأمر غير مشروع .(22/253)
وأما ما ورد في بعض الأحاديث من تكرار سورة الإخلاص، فإن لم يصح هذا الحديث فلا حجة فيه(1)، وإن صح فإن دل على الجواز فنحن لا ننكر الجواز ، وإن دل على الاستحباب فإن لم يتأتى معه الخشوع ، كان الشرع مقدماً له على الخشوع ، وإن تأتى معه الخشوع صار كتسبيحات الركوع .
وإذ لم يدل على الاستحباب كان مكروهاً ، لما فيه من تفويت مقصود الصلاة ، وإعراض القلب عن الله تعالى ، مع أن مجرد التكرار لا يشعر بالتعديد فكم من مكرر غير معدد فإن كان قد عبر عن التعديد بالتكرير فسوء عبارة تنبيء عن المقصود .
وأما تأويله كراهة بعض أئمة الحديث لذلك بأنه محمول على ترك الأولى ، فمخالفة للظاهر بغير دليل ، فإن الكراهة ظاهرة في المنهي الذي لا إثم في فعله بغلبة الاستعمال ، فحملها على ترك الأولى تأويل بغير دليل.
__________
(1) - بل الحديث صحيح فقد رواه البخاري تعليقاً في صحيحه المطبوع مع فتح الباري (2/255) ، كتاب الأذان ، حديث رقم (774) مكرر . وقال ابن حجر في فتح الباري : وحديثه هذا وصله الترميذي والبزار عن البخاري عن إسماعيل بن أبي أويس ، والبيهقي ..... وقال الترمذي : حسن صحيح غريب . يراجع : فتح الباري (2/257) . ورواه البيهقي في سننه (2/61) ، كتاب الصلاة . ورواه البخاري في صحيحه المطبوع مع فتح الباري (13/437، 348) ، كتاب التوحيد ، حديث رقم (7375) ، قصة أمير السرية بعثة صلى الله عليه وسلم وكان يختم صلاته بقل هو الله أحد ..... الحديث . ورواه مسلم في صحيحه (1/557) ، كتاب صلاة المسافرين ، حديث رقم (813) ، ولكن في هذه الأحاديث دليل ذهب إليه ابن الصلاح من جواز التكرار ، لأنه ليس فيها تكرار السورة الواحدة في الركعة الواحدة كما في صلاة الرغائب .(22/254)
وأما قوله في السجدتين عند من يرى كراهتها :أن سبيله أن يتركهما فحسب.فهذا لا يستقيم ،لأن الإنكار إنما وقع على صلاة الرغائب بخصائصها وتوابعها ، ولواحقها ، ولا يلزم من إنكار المركب بعض أجزائه(1).
وأما حرص هذا المسكين على إبقائها ، أو إبقاء بدلها فذلك حرص منه على مخالفة الرسول صلى الله عليه وسلم فيها ، أو في بدلها ، إذا نهى صلى الله عليه وسلم عن تخصيص ليلة الجمعة بقيام ، كأنه يقول: إن لم يأت بصلاة الرغائب المكروهة من وجوه ، فليأت بمكروه آخر ، يقوم مقامها ، حتى لا يخلو من مخالفة الرسول الله صلى الله عليه وسلم ؟! .
وأما نسبته المنكر إلى أنه أنكر تقييدها بعدد خاص !! فهذا افتراء وتقول .
وأما نقله عن جماعة من العلماء أنهم أجازوا عدّ الآيات، فنحن لا ننكر الجواز، ولا يصلح استشهاده بصلاة التسبيح إذ لم تثبت عن الرسول الله صلى الله عليه وسلم،فلا تسقط الخشوع الذي ثبت في الشرع أنه من سنن الصلاة،بما لم يثبت من ملاحظة العدد.
وأما قوله : يجوز الاقتداء في نوافل الصلوات .
فنحن ما منعنا الجواز، وإنما قلنا السنة فيها الانفراد، إلا ما استثني مع أنه صلى الله عليه وسلم فعل ذلك، ولم يجعله شعاراً متكرراً
وأما استشهاده باقتداء ابن عباس – رضي الله عنهما – برسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاة الليل فلا يصح ، لأن التهجد كان واجباً على الرسول الله صلى الله عليه وسلم ، عند الشافعي – رحمه الله – فلم يقع الاقتداء في نفل ، وأما ما روي أنه قام يصلي متطوعاً ، فذاك ظن من الراوي .
[ قلت : بل هو يقين ، جزم به راويه وهو ابن عباس- رضي الله عنهما-وساقه كما ساق سائر الحديث ، جازماً به(2).
__________
(1) - هكذا وردت العبارة في الأصل ولعل صحة العبارة (ولا يلزم من إنكار المركب إنكار بعض أجزائه )، والله أعلم .
(2) - يراجع : صحيح مسلم (1/531) ، كتاب صلاة المسافرين ، حديث رقم (763) (192) .(22/255)
ويجاب عن ذلك : بأن فعل الصلوات فرضاً كانت أو نفلاً ، فذا أو جماعة موقوف على بيان صاحب الشريعة صلوات الله وسلامه عليه ، قال-عليه السلام-(( صلوا كما رأيتموني أصلي ))(1) ، والتجميع في النوافل جائز عند العلماء من غير مدوامة على ذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم أم في النافلة في بيته وبيت غيره ولم يفعل ذلك في المساجد ولا في المواضع المشهورة ، إلا ما ورد عنه في صلاة التراويح ، فلا يتعدى ما شرعه عليه الصلاة والسلام إلا بدليل . ولم يثبت في صلاة الرغائب دليل حتى يقاس على النوافل المشروعة ، وإذا بطلت في نفسها فكيف تقاس على ما هو مشروع ؟!] .
وأما حديث أنس وعتبان بن مالك-رضي الله عنهما- فالفرق بينها وبين صلاة الرغائب أن الاقتداء في صلاة الرغائب ، يوهم العامة أنها سنة ، وشعار في الدين ، بخلاف ما وقع في حديث أنس وعتبان – رضي الله عنهما – فإنه نادر فلا يوهم العامة أنه من السنة ، بل يوهم الجواز وذلك متفق عليه .
وأما نسبته المنكر إلى أنه قال :إن هذه الصلاة صارت شعاراً ظاهراً حادثاً في الدين ، فهذا تقول منه وافتراء.
وأما تشبيهه هذه الصلاة بما أحدثه الفقهاء في تدوين أصول الفقه ، وفروعه والكلام على مآخذه ، ودقائقه ، وحقائقه .
فلا يصح ، لأنا قد بينا أن الصلاة الرغائب منهي عنها من الوجوه المذكورة ، فكيف يقاس ما صح النهي عنه في السنة ، على ما وقع الإجماع على الأمر به ؟! .
وأما قوله : وقد احتج المنازغ بأشياء أخر لا تساوي الذكر ، فالعجز عن الجواب عنها أوجب ذلك ، وإنما إيهام للعامة أنه ترك الجواب مع القدرة عليه ، وإما لشذوذ ذلك عن فهمه.
وكم من عائب قولا صحيحاً وآفته من الفهم السقيم(2)
__________
(1) - رواه أحمد في مسنده (5/53) . ورواه البخاري في صحيحه المطبوع مع فتح الباري (2/111) ، كتاب الأذان ، حديث (631) .
(2) - البيت للشاعر المتنبي من قصيدته التي مطلعها :
إذا غامرت في شرف مروم فلا تقنع بما دون النجوم
يراجع : ديوان المتنبي المطبوع مع شرح العكبري المسمى بالتبيان في شرح الديوان (4/120) .(22/256)
وأما جوابه على ذلك بأن يقال لمنكر هذه الصلاة : صلها واجتنب ما فيها مما زعمت أنه محذور ، فلا يصح ، لأن الإنكار إنما وقع على صلاة الرغائب بخصائصها ، ولو تركت خصائصها لخرجت عن أن تكون صلاة الرغائب المنكرة .
وأما ما ذكره على الحديث الصحيح في النهي عن تخصيص ليلة الجمعة بالقيام ، وقوله ، إن ذلك لا يطرد في حق من يقومها، ويقوم غيرها . فلا يصح لأنه سوغ صلاة الرغائب على الإطلاق لمن خصص ، ولمن لم يخصص ، ونحن نقول: وقعت كراهتها من وجوه ، إذا فقد بعضها استقل الباقي بالنهي والكراهة .
وأما قوله : إن الحوادث ذوات وجوه مشتبهة فمن لم يميز كان بصدد إلحاق الشيء منها بغير نظيره .
فهذه شهادة منه على نفسه بعدم التمييز .
وأما تفاصحة بذكر الجعجعة والقعقعة ، فلا يخفى ما فيه من التكلف والركاكة ، ومن اتبع هواه أراده .
ثم إني ظفرت للمذكور بفتيين قد أجاب فيهما قبل ذلك بما يوافق ، وإن كان قد أخطأ في أمور لا تتعلق بما نحن فيه .
صورة أحدهما : بسم الله الرحمن الرحيم . ما تقول السادة الفقهاء الأئمة-رضي الله عنهم- في الصلاة المدعوة بصلاة الرغائب ، هل هي بدعة في الجماعات أم لا ؟ وهل ورد فيها حديث صحيح أم لا ؟ أفتونا مأجورين .
وجوابه : اللهم وفق وارحم . حديثها موضوع على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي بدعة حدثت بعد أربعمائة من الهجرة ، ظهرت بالشام ، وانتشرت في سائر البلاد ، ولا بأس أن يصليها الإنسان ، بناء على أن الإحياء فيما بين العشائين مستحب كل ليلة ، ولا بأس بأن يصليها الإنسان مطلقاً . أما أن تتخذ الجماعة فيها سنة ، وتتخذ هذه الصلاة من شعائر الدين الظاهرة فهذا من البدع المنكرة ، ولكن ما أسرع الناس إلى البدع ، والله أعلم وكتب ابن الصلاح .ا.هـ .
وقال ابن عبد السلام - : ولا يخفى ما في هذا الجواب من موافقة الصواب ، ولا ما فيه من الاختلال .(22/257)
والصورة الثانية : بسم الله الرحمن الرحيم . ما تقول السادة الفقهاء أئمة الدين-رضي الله عنهم- فيمن ينكر على من يصلي في ليلة الرغائب ونصف شعبان ، ويقول : أن الزيت الذي يشغل فيها حرام وتفريط ، ويقول : أن ذلك بدعة ومالهما فضل ولا ورد في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم فيهما فضل ولا شرف فهل هو على الصواب أو على الخطأ ؟ أفتونا-رضي الله عنكم-.
وجوابه : اللهم وفق وارحم . أما الصلاة المعروفة في ليلة الرغائب فهي بدعة ، وحديثها المروي موضوع ، وما حدثت إلا بعد أربعمائة سنة من الهجرة ، وليس لليلتها تفضيل على أشباهها من ليالي الجمع .
وأما ليلة النصف من شعبان فلها فضيلة ، وإحياؤها بالعبادة مستحب، ولكن على الانفراد من غير جماعة ، واتحاد الناس لها ولليلة الرغائب موسماً وشعاراً بدعة منكرة ، وما يزيدونه فيهما عن الحاجة والعادة من الوقيد ونحوه ، فغير موافق للشريعة ، والألفية التي تصلى في ليلة النصف لا أصل لها ولأشباهها .
ومن العجب حرص الناس على المبتدع في هاتين الليلتين ، وتقصيرهم في المؤكدات الثانية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والله المستعان وهو يعلم . كتب ابن الصلاح .
قال ابن عبد السلام : ( فأظهر الله تعالى ما الرجل منطو عليه ، ومصغ إليه )(1) .
__________
(1) - قال الذهبي في سير أعلام النبلاء (23/ 142، 143) ، في ترجمة ابن الصلاح : (وله مسألة ليست من قواعده شذ فيها وهي صلاة الرغائب ، قوّاها ونصرها ، مع أن حديثها باطل بلا تردد ، ولكن له أصابات وفضائل ) ا. هـ .(22/258)
نسأل الله عز وجل أن يعصمنا من أمثال ذلك ، وأن يعافيه مما ابتلاه به ، فمثله فليرحم، وحسبنا الله ونعم الوكيل . والحمد لله وحده ، وصلواته على سيدنا محمد وآله وصحبه ،وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين(1) .ا.هـ.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله - : ( وأما صلاة الرغائب فلا أصل لها ، بل هي محدثة ، فلا تستحب لا جماعة ولا فراداى ، فقد ثبت في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن تختص ليلة الجمعة بقيام ، أو يوم الجمعة بصيام.
والأثر الذي ذكر فيها كذب موضوع باتفاق العلماء ، ولم يذكره أحد من السلف والأئمة أصلاً ) .ا.هـ(2) .
وقال أيضاً : ( صلاة الرغائب بدعة باتفاق أئمة الدين ، لم يسنها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أحد من خلفائه، ولا استحبها أحد من أئمة الدين كمالك ، والشافعي ، وأحمد ، وأبي حنيفة ،-رحمهم الله- والثوري ، والأوزاعي، والليث وغيرهم ، والحديث المروي فيها كذب بإجماع أهل المعرفة بالحديث )(3).ا.هـ .
وسئل عن صلاة الرغائب : هل هي مستحبة أم لا ؟ فأجاب : ( هذه الصلاة لم يصلها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أحد من أصحابه ، ولا التابعين ، ولا أئمة المسلمين ، ولا رغب فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أحد من السلف، ولا الأئمة، ولا ذكروا لهذه الليلة فضيلة تخصها، والحديث المروي في ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم كذب موضوع باتفاق أهل المعرفة بذلك ، ولهذا قال المحققون : إنها مكروهة غير مستحبة والله أعلم )(4) .ا.هـ .
__________
(1) - يراجع المساجلة ص(29-42) ، ويراجع الباعث لأبي شامة ص (39-48) ، ويراجع المدخل لابن الحاج (4/248-277) ، ورده على ابن الصلاح رد جميل ومفصل .
(2) - يراجع : مجموع الفتاوى (23/132) .
(3) - يراجع : مجموع الفتاوى (23/134) ، والاختيارات ص(121) .
(4) - يراجع : مجموع الفتاوى (23/135) .(22/259)
وسئل النووي – رحمه الله – عن صلاة الرغائب ، وصلاة نصف شعبان هل لهما أصل ؟ فأجاب : الحمد لله ، هاتان الصلاتان لم يصلهما النبي صلى الله عليه وسلم ولا أحد من أصحابه – رضي الله عنهم – ولا أحد من الأئمة الأربعة المذكورين – رحمهم الله - ، ولا أشار أحد منهم بصلاتهما ، ولم يفعلهما أحد ممن يقتدي به ، ولم يصح عن النبي منها شيء ولا عن أحد يقتدي به ، وإنما أحدثت في الأعصار المتأخرة وصلاتهما من البدع المنكرات ، والحوادث الباطلات ، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : (( إياكم ومحدثات الأمور ، فإن كل محدثة بدعة ضلالة ))(1) . وفي الصحيحين عن عائشة – رضي الله عنها – قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( من أحدث في ديننا ما ليس منه فهو رد))(2). وفي صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد ))(3).
__________
(1) - رواه ابن ماجه في سننه مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم (1/18)، المقدمة . وفي سنده عبيد بن ميمون المدني ، قال ابن حجر : مستور . تقريب التهذيب (1/545).
(2) - رواه البخاري في صحيحه المطبوع مع فتح الباري (5/301) كتاب الصلح ، حديث رقم (2697). ورواه مسلم في صحيحه (3/1343) كتاب الأقضية ، حديث رقم ( 1718).
(3) - ورواه مسلم في صحيحه (3/1343، 1344) كتاب الأقضية ، حديث رقم ( 1718).(22/260)
وينبغي لكل أحد أن يمتنع عن هذه الصلاة ، ويحذر منها ، وينفر عنها ويقبح فعلها ، ويشيع النهي عنها ، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:((من رأى منكم منكراً فليغيره بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه))(1). وعلى العلماء التحذير منها ، والإعراض عنها أكثر مما على غيرهم ، لأنه يقتدى بهم .
ولا يغترن أحد بكونها شائعة يفعلها العوام وشبههم ، فإن الاقتداء إنما يكون برسول الله صلى الله عليه وسلم وبما أمر به لا بما نهى عنه ، وحذَّر منه ...... أعاذنا الله من المبتدعات ، وحمانا من ارتكاب المخالفات .-والله أعلم -(2) ا.هـ .
وسئل النووي أيضاً عن صلاة الرغائب هل هي سنة أم بدعة ؟.
فأجاب : (( هي بدعة قبيحة منكرة أشد إنكار ، مشتملة على منكرات فيتعين تركها والإعراض عنها ، وإنكارها على فاعلها، وعلى ولي الأمر- وفقه الله تعالى- منع الناس من فعلها :فإنه،راع ، وكل راع مسئول عن رعيته .
__________
(1) -رواه الإمام أحمد في مسنده (3/20) . ورواه مسلم في صحيحه (1/69) كتاب الإيمان ، حديث رقم (49) . ورواه أبو داود في سننه (1/677، 678) كتاب الصلاة ، حديث رقم (1140) .ورواه الترمذي في سننه(3/317، 318)أبواب الفتن ، حديث رقم(2263) ، وقال :هذا حديث حسن صحيح . ورواه النسائي في سننه (8/111، 112) كتاب الإيمان، باب تفاضل أهل الإيمان . ورواه ابن ماجه في سننه (2/133) كتاب الفتن ، حديث رقم (4013) . وكلهم روى في آخر الحديث : ((وذلك أضعف الإيمان)) .
(2) - يراجع : مساجلة العز عبد السلام وابن صلاح حول صلاة الرغائب ص(45-47) .(22/261)
وقد صنف العلماء كتباً في إنكارها وذمها ، وتسفيه فاعلها ، ولا يغتر بكثرة الفاعلين لها في كثير من البلدان ، ولا بكونها مذكورة في قوت القلوب(1) وإحياء علوم الدين(2) ونحوهما ، فإنها بدعة باطلة ، وقد صح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ((من أحدث في ديننا ما ليس منه فهو رد )) ثم ذكر بعض الأحاديث الواردة في الفتوى السابقة ..... وقد أمر الله تعالى عند التنازع بالرجوع إلى كتابه فقال : { فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ }(3). ولم يأمر باتباع الجاهلين ، ولا بالاغترار بغلطات المخطئين(4) - والله أعلم - ا.هـ .
وقال ابن قيم الجوزية ( وكذلك أحاديث صلاة الرغائب ليلة أول جمعة من رجب كلها كذب مختلق على رسول الله صلى الله عليه وسلم )(5).ا .هـ .
فمما تقدم يتضح للقارئ الكريم أن الصلاة تكون في أول جمعة من رجب ، والتي تسمى الرغائب ، بدعة منكرة ، لم يسنها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا أحد من خلفائه ، ولم يستحبها صحابته والتابعون ، والأئمة المشهورون ، مع أنهم أحرص الناس على الخير ، وفضائل الأعمال ، وهذا الحكم صدر عن جملة من العلماء المتفق على جلالة قدرهم وسعة علمهم ، وكذلك الحديث الوارد فيها فإنه موضوع على رسول الله صلى الله عليه وسلم باتفاق أئمة الحديث ، فلم يبق لمدعي فضيلتها من حجة – والله أعلم - .
**********************************
المبحث الخامس
بدعة الاحتفال بليلة الإسراء والمعراج
__________
(1) - ومصنفه هو : محمد بن علي بن عطية العجمي المكي المتوفى سنة 386هـ .يراجع : كشف الظنون (2/1361) .
(2) - لأبي حامد الغزالي المتوفى سنة 505هـ . يراجع الإحياء (1/202، 203 ) .
(3) - سورة النساء: الآية59.
(4) - يراجع : فتاوى النووي ص(40) .
(5) - يراجع : المنار المنيف ص(95) ،حديث رقم (167) .(22/262)
الاحتفال بالإسراء والمعراج من الأمور البدعية، التي نسبها الجهال إلى الشرع ، وجعلوا ذلك سنة تقام في كل سنة، وذلك في ليلة سبع وعشرين من رجب ، وتفننوا في ذلك بما يأتونه في هذه الليلة من المنكرات وأحدثوا فيها من أنواع البدع ضروباً كثيرة ، كالاجتماع في المساجد ،وإيقاد الشموع والمصابيح فيها ، وعلى المنارات ، والإسراف في ذلك ، واجتماعهم للذكر والقراءة ، وتلاوة قصة المعراج المنسوبة إلى ابن عباس ، والتي كلها أباطيل وأضاليل ، ولم يصح منها إلا أحرف قليلة ، وكذلك قصة ابن السلطان الرجل المسرف الذي لا يصلي إلا في رجب ، فلما مات ظهرت عليه علامات الصلاح ، فسئل عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : (( إنه كان يجتهد ويدعو في رجب )) . وهذه قصة مكذوبة مفتراه ، تحرم قراءتها وروايتها إلا للبيان(1).
وكذلك ما يفرشونه من البسط والسجادات وغيرهما ، ومنها أطباق النحاس فيها الكيزان والأباريق وغيرهما ، كأن بيت الله تعالى بيتهم ، والجامع إنما جعل للعبادة ،لا للفراش والرقاد والأكل والشرب ،وكذلك اجتماعهم في حلقات ، كل حلقة لها كبير يقتدون به في الذكر والقراءة ، وليت ذلك لو كان ذكراًَ أو قراءة ،لكنهم يلعبون في دين الله تعالى ، فالذاكر منهم في الغالب لا يقول (( لا إله إلا الله )) بل يقول :لا يلاه يلله. فيجعلون عوض الهمزة ياء وهي ألف قطع جعلوها وصلاً ، وإذا قالوا سبحان الله يمطونها ويرجعونها ، حتى لا تكاد تفهم، والقارئ يقرأ القرآن فيزيد فيه ما ليس فيه، وينقص منه ما هو فيه، بحسب تلك النغمات، والترجيعات التي تشبه الغناء الذي اصطلحوا عليه على ما قد علم من أحوالهم الذميمة .
__________
(1) - يراجع : السنن والمبتدعات ص(147) ، والإبداع ص (272) .(22/263)
ثم في تلك الليلة من الأمر العظيم أن القارئ يبتدئ بقراءة القرآن والآخر ينشد الشعر، أو يريد أن ينشده ، فيسكتون القارئ، أو يهمون بذلك ، أو يتركون هذا في شعره ، وهذا في قراءته، لأجل تشوف بعضهم لسماع الشعر وتلك النغمات الموضوعة أكثر .
فهذه الأحوال من اللعب في الدين ، أن لو كان خارج المسجد منعت ، فكيف بها في المسجد ؟! .
ثم إنهم لم يقتصروا على ذلك ، بل ضموا إليه اجتماع النساء والرجال في الجامع ، مختلطين بالليل ، وخروج النساء من بيوتهن على ما يعلم من الزينة والكسوة والتحلي .
وعندما يحتاج بعضهم إلى قضاء الحاجة فإنه يفعل ذلك في مؤخر الجامع ، وبعض النساء يستحين أن يخرجن لقضاء حاجتهن فيدور عليهن إنسان بوعاء فيبلن فيه، ويعطينه على ذلك شيئاً، ويخرجه من المسجد ، ثم يعود كذلك مراراً ، والبول في المسجد في وعاء حرام ، مع ما فيه من القبح والشناعة . وبعضهم يخرج إلى السكك القريبة من المسجد فيفعلون ذلك فيها ، ثم يأتي الناس إلى صلاة الصبح، فيمشون إلى الجامع فتصيب أقدامهم النجاسة أو نعالهم، ويدخلون بها المسجد فيلوثونه، ودخول النجاسة في المسجد فيها ما فيها من عظيم الإثم ، وقد ورد في النخامة في المسجد أنها خطيئة، هذا وهي طاهرة باتفاق ، فكيف بالنجاسة المجمع عليها.
إلى غير ذلك من الأمور العظيمة التي ترتكب باسم الدين ، ودعوى تعظيم بعض الأمور التي يزعمون أن تعظيمها دليل محبة للرسول صلى الله عليه وسلم(1) .
وهذه الاحتفالات في ليلة سبع وعشرين من رجب ، والتي يزعمون أنها ليلة الإسراء والمعراج باطلة من أساسها ، لأنه لم يثبت أنه أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم في هذه الليلة بالذات .
قال ابن قيم الجوزية :( وأما السؤال الثاني ، فقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – عن رجل قال : ليلة الإسراء أفضل من ليلة القدر ، وقال آخر : بل ليلة القدر أفضل فأيهما المصيب ؟ .
__________
(1) - يراجع : المدخل لابن الحاج (1/295-298) .(22/264)
فأجابه : الحمد لله ، أما القائل بأن ليلة الإسراء أفضل من ليلة القدر ، فإن أراد أن تكون الليلة التي أسري فيها بالنبي صلى الله عليه وسلم ونظائرها من كل عام، أفضل لأمة محمد صلى الله عليه وسلم من ليلة القدر، بحيث يكون قيامها ، والدعاء فيها أفضل منه في ليلة القدر فهذا باطل، لم يقله أحد من المسلمين، وهو معلوم الفساد بالاطراد من دين الإسلام، هذا إذا كانت ليلة الإسراء تعرف عينها ، فكيف ولم يقم دليل معلوم لا على شهرها، ولا على عشرها ، ولا على عينها، بل النقول في ذلك منقطعة مختلفة ، ليس فيها ما يقطع به ، ولا شرع للمسلمين تخصيص الليلة التي يظن أنها ليلة الإسراء بقيام ولا غيره ، بخلاف ليلة القدر )(1).ا.هـ.
فقد اختلف العلماء في تحديد الليلة التي أسري فيها بالنبي صلى الله عليه وسلم .
قال ابن حجر العسقلاني : ( وقد اختلف في وقت المعراج فقيل : كان قبل المبعث ، وهو شاذ ، إلا إن حمل على أنه وقع حينئذ في المنام ) .
وذهب الأكثر إلى أنه كان بعد المبعث ، ثم اختلفوا :
فقيل : قبل الهجرة بسنة.قال ابن سعد وغيره .وبه جزم النووي ، وبالغ ابن حزم فنقل الإجماع فيه-فيكون في شهر ربيع الأول-.
وهو مردود ، فإن في ذلك اختلافاً كثيراً ، يزيد على عشرة أقوال منها ما حكاه ابن الجوزي أنه كان قبلها بثمانية أشهر- فيكون في رجب-، وقيل بستة أشهر- فيكون في رمضان- وحكي هذا الثاني أبو الربيع بن سالم ، وحكي ابن حزم مقتضى الذي قبله ، لأنه قال : كان في رجب سنة اثنتي عشرة من النبوة ، وقيل : بأحد عشر شهراً، جزم به إبراهيم الحربي حيث قال: كان في ربيع الآخر قبل الهجرة بسنة ، ورجحة ابن المنير في شرح السيرة لابن عبد البر وقيل: قبل الهجرة بسنة وشهرين، حكماه ابن عبد البر .
وقيل : بسنة وثلاثة أشهر حكاه ابن فارس .
__________
(1) - يراجع : زاد المعاد (1/57) .(22/265)
وقيل : بسنة وخمسة أشهر قاله السدي ، وأخرجه من طريقة الطبري والبيهقي،فعلى هذا كان في شوال،أو في رمضان على إلغاء الكسرين منه ومن ربيع الأول،و به جزم الواقدي،وعلى ظاهره ينطبق ما ذكره ابن قتيبة.
وحكاه ابن عبد البر أنه كان قبلها بثمانية عشر شهراً .
وعند ابن سعد عن ابن أبي سبرة أنه كان في رمضان ، قبل الهجرة بثمانية عشر شهراً .
وقيل كان في رجب حكاه ابن عبد البر ، وجزم به النووي في الروضة . وقيل قبل الهجرة بثلاث سنين حكاه ابن الأثير .
وحكي عياض وتبعه القرطبي والنووي عن الزهري أنه كان قبل الهجرة بخمس سنين ،ورجحه عياض ومن تبعه )(1) .ا.هـ .
فما تقدم من أقوال العلماء، وما ذكروه في ليلة الإسراء والمعراج من الخلاف، مصداق قول شيخ الإسلام ابن تيمية-رحمه الله-أنه لم يقم دليل معلوم لا على شهرها ، ولا على عشرها ، ولا على عينها ، بل النقول منقطعة مختلفة ، ليس فيها ما يقطع به(2).
قال ابن رجب : (وقد روي أنه كان في شهر رجب حوادث عظيمة ، ولم يصح شيء من ذلك ، فروي أن النبي صلى الله عليه وسلم ولد في أول ليلة منه، وأنه بعث في السابع والعشرين منه ، وقيل: في الخامس والعشرين، ولا يصح شيء من ذلك)(3).ا.هـ.
وقال أبو شامة : ( وذكر بعض القصاص أن الإسراء كان في رجب ، وذلك عند أهل التعديل والجرح عين الكذب )(4).ا.هـ .
__________
(1) - يراجع فتح الباري (7/203) ، ويراجع شرح الزرقاني على المواهب اللدنية (1/307، 308) ، والطبقات لابن سعد (1/213، 214) ، والوفا لابن الجوزي (1/349) ، والجامع لأحكام القرآن للقرطبي (10/210) ، وشرح النووي على صحيح مسلم (2/209) ، وعيون الأثر لابن سيد الناس (1/181، 182) ، والبداية والنهاية (3/119) ، وتفسير ابن كثير (3/22) ، وفتاوى النووي ص(27) ، وسبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد للشامي (3/94-96) .
(2) - يراجع : زاد الميعاد (1/57) .
(3) - يراجع : لطائف المعارف ص(168) .
(4) - يراجع : الباعث ص (171) .(22/266)
حكم الاحتفال بليلة الإسراء والمعراج :
أجمع السلف الصلح على أن اتخاذ موسم غير المواسم الشرعية من البدع المحدثة التي نهى عنها صلى الله عليه وسلم (( إياكم ومحدثات الأمور ، فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة )) بقوله صلى الله عليه وسلم (( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد )). بقوله صلى الله عليه وسلم: (( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد )) .
فالاحتفال بليلة الإسراء والمعراج بدعة محدثة لم يفعلها الصحابة والتابعون ، ومن تبعهم من السلف الصالح ، وهم أحرص الناس على الخير والعمل الصالح .
قال ابن قيم الجوزية : (( قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله - : ولا يعرف عن أحد من المسلمين أن جعل لليلة الإسراء فضيلة على غيرها ، لاسيما على ليلة القدر ، ولا كان الصحابة والتابعون لهم بإحسان يقصدون تخصيص ليلة الإسراء بأمر من الأمور ولا يذكرونها ، ولهذا لا يعرف أي ليلة كانت )) .
وإن كان الإسراء من أعظم فضائله صلى الله عليه وسلم ومع هذا فلم يشرع تخصيص ذلك الزمان ، ولا ذلك المكان ، بعبادة شرعية، بل غار حراء الذي ابتديء فيه بنزول الوحي، وكان يتحراه قبل النبوة،لم يقصده هو ولا أحد من الصحابة بعد النبوة مدة مقامه بمكة، ولا خصَّ اليوم الذي أنزل فيه الوحي بعبادة ولا غيرها، ولا خص المكان الذي ابتديء فيه بالوحي ولا الزمان بشيء.
ومن خص الأمكنة والأزمنة من عنده بعبادات لأجل هذا وأمثاله، كان من جنس أهل الكتاب الذين جعلوا زمان أحوال المسيح مواسم وعبادات كيوم الميلاد ، ويوم التعميد ، وغير ذلك من أحواله .(22/267)
وقد رأى عمر بن الخطاب – رضي الله عنه- جماعة يتبادرون مكاناً يصلون فيه فقال : ما هذا؟ قالوا : مكان صلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : أتريدون أن تتخذوا آثار أنبيائكم مساجد ؟! إنما هلك من كان قبلكم بهذا ، فمن أدركته فيه الصلاة فليصل وإلا فليمض(1) .ا.هـ(2) .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله -:((وأما اتخاذ موسم غير المواسم الشرعية كبعض ليالي شهر ربيع الأول التي يقال أنها ليلة المولد ، أو بعض ليالي رجب ، أو ثامن عشر ذي الحجة ، أو أول جمعة من رجب ، أو ثامن شوال الذي يسميه الجهال عيد الأبرار ، فإنها من البدع التي لم يستحبها السلف ولم يفعلوها ، والله سبحانه وتعالى أعلم(3).ا.هـ .
وقال ابن الحاج :((ومن البدع التي أحدثوها فيه أعني في شهر رجب ليلة السابع والعشرين منه التي هي ليلة المعراج.....(4).ا.هـ .
ثم ذكر كثيراً من البدع التي أحدثوها في تلك الليلة من الاجتماع في المساجد ، والاختلاط بين النساء والرجال ، وزيادة وقود القناديل فيه ، والخلط بين قراءة القرآن وقراءة الأشعار بألحان مختلفة ، وذكر الاحتفال بليلة الإسراء والمعراج ضمن المواسم التي نسبوها إلى الشرع وليست منه(5).
وقال الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ-رحمه الله-(( في رده على دعوة وجهت لرابطة العالم الإسلام لحضور أحد الاحتفالات بذكري الإسراء والمعراج ، بعد أن سئل عن ذلك : هذا ليس بمشروع ، لدلالة الكتاب والسنة والاستصحاب والعقل :
أما الكتاب :
__________
(1) - رواه ابن أبي شيبة في مصنفه (2/376، 377) . كتاب الصلوات
(2) - يراجع : زاد المعاد (1/58، 59) .…
(3) - يراجع : مجموع الفتاوى (25/298) .
(4) - يراجع : المدخل (1/294) .
(5) - يراجع : المدخل (1/294-298) .وكذلك الإبداع ص(272) .(22/268)
فقد قال تعالى:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً}(1).قال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ}(2). والرد إلى الله هو الرد إلى كتابه،والرد إلى الرسول هو الرجوع إليه في حياته،وإلى سنته بعد موته.قال تعالى:{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}(3)قال تعالى:{لْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}(4)
وأما السنة :
فالأول : ما ثبت في الصحيحين من حديث عائشة- رضي الله عنها- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)).وفي رواية لمسلم:(( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)) .
الثاني : روى الترمذي وصححه ، وابن ماجه وابن حبان في صحيحه عن العرباض بن سارية قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( إياكم ومحدثات الأمور ، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة)).
__________
(1) -سورة المائدة: الآية3.
(2) - سورة النساء: الآية59.
(3) - سورة آل عمران:31.
(4) - سورة النور: الآية63.(22/269)
الثالث:روى الإمام أحمد والبزار عن غضيف أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((ما أحدث قوم بدعة إلا رفع مثلها من السنة))(1) إلا أنه قال : ((ما من أمة ابتدعت بعد نبيها بدعة إلا أضاعت مثلها من السنة ))(2).
الرابع : روى ابن ماجه وابن أبي عاصم عن أنس بن مالك-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(( أبي الله أن يقبل عمل صاحب بدعة حتى يدع بدعته))(3).ورواه الطبراني إلا أنه قال:((إن الله حجب التوبة عن كل صاحب بدعة حتى يدع بدعته ))(4).
وأما الاستصحاب :
فهو هنا استصحاب العدم الأصلي .
__________
(1) - رواه الإمام أحمد في مسنده (4/105) . وذكر السيوطي في الجامع الصغير (2/480) ، حديث رقم (7790) ، وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (1/188) ، وقال : رواه أحمد والبزار وفيه أبو بكر بن أبي مريم وهو : منكر الحديث ا.هـ .
(2) - قال الهيثمي في مجمع الزوائد (1/188) ، ورواه الطبراني في الكبير وفيه أبو بكر بن أبي مريم وهو : منكر الحديث . وذكره السيوطي في الجامع الصغير (2/508) ، حديث رقم (7999) ،وأشار إلى أنه ضعيف .
(3) - رواه ابن ماجه في سننه (1/19) ، المقدمة . حديث رقم (50) . وقال البوصيري في زوائد ابن ماجه : هذا إسناد رجاله كلهم مجهولون ، قاله الذهبي في الكاشف ، وقال أبو زرعة : لا أعرف أبا زيد ولا أبا المغيرة . يراجع مصباح الزجاجة (1/11) ، باب اجتناب البدع والجدل . وكذلك الكاشف (3/380) ، ترجمة رقم (403) ، (ترجمة أبي المغيرة) ، ورواه ابن أبي عاصم في كتاب السنة (1/22) .حديث رقم (39) . وفيه أبو زيد وأبو المغيرة اللذان قال عنهما الذهبي في الكاشف (3/380) ، أبو المغيرة عن ابن عباس وعنه أبو يزيد مجهولون .
(4) - قال الهيثمي في مجمع الزوائد (10/189) ، ورواه الطبراني في الأوسط ورجاله رجال الصحيح غير هارون بن موسى الفروي وهو : ثقة . وليس فيما ذكره قوله : ((حتى يدع بدعته )) .(22/270)
وتقرير ذلك أن العبادات توقيفية ، فلا يقال : هذه العبادة مشروعة إلا بدليل من الكتاب والسنة والإجماع ، ولا يقال : إن هذا جائز من باب المصلحة المرسلة ، أو الاستحسان ، أو القياس ، أو الاجتهاد ، لأن باب العقائد والعبادات والمقدرات كالمواريث والحدود لا مجال لذلك فيها .
وأما المعقول :
فتقريره أن يقال : لو كان هذا مشروعاً لكان أولى الناس بفعله محمد صلى الله عليه وسلم .
هذا إذا كان التعظيم من أجل الإسراء والمعراج، وإن كان من أجل الرسول الله صلى الله عليه وسلم وإحياء ذكره كما يفعل في مولده صلى الله عليه وسلم فأولى الناس به أبو بكر- رضي الله عنه- ثم عمر ثم عثمان ثم علي -رضي الله عنهم- ثم من بعدهم الصحابة على قدر منازلهم عند الله ، ثم التابعون ومن بعدهم من أئمة الدين ، ولم يعرف عن أحد منهم شيء من ذلك فيسعنا ما وسعهم )(1) ا.هـ .
ثم ساق – رحمه الله – كلام ابن النحاس في كتابه تنبيه الغافلين حول بدعة الاحتفال بليلة الإسراء والمعراج ، جاء فيه : ( أن الاحتفال بهذه الليلة بدعة عظيمة في الدين ، ومحدثات أحدثها إخوان الشياطين )(2).
وذكر الشيخ محمد بن إبراهيم في فتوى أخرى : (أن الاحتفال بذكرى الإسراء والمعراج أمر باطل، وشيء مبتدع، وهو تشبه باليهود والنصارى في تعظيم أيام لم يعظمها الشرع ، وصاحب المقام الأسمى رسول الهدى محمد صلى الله عليه وسلم هو الذي شرع الشرائع ، وهو الذي وضع ما يحل وما يحرم ثم إن خلفاءه الراشدين ، وأئمة الهدى من الصحابة والتابعين لم يعرف عن أحد منهم أنه احتفل بهذه الذكرى،ثم قال:المقصود أن الاحتفال بذكرى الإسراء والمعراج بدعة،فلا يجوز ولا يجوز المشاركة فيه)(3)ا.هـ
__________
(1) - يراجع : فتاوى ورسائل الشيخ محمد بن إبراهيم (3/97-100) .
(2) - يراجع : تنبيه الغافلين ص(379، 380) .
(3) - يراجع : فتاوى ورسائل الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ (3/103) .(22/271)
وأفتى-رحمه الله-:(بأن من نذر أن يذبح ذبيحة في اليوم السابع والعشرين من رجب من كل سنة فنذره لا ينعقد لاشتماله على معصية ، وهي أن شهر رجب معظم عند أهل الجاهلية ، وليلة السابع والعشرين منه يعتقد بعض الناس أنها ليلة الإسراء والمعراج، فجعلوها عيداً يجتمعون فيه ، ويعملون أموراً بدعية ، وقد نهى الرسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوفاء بالنذر في المكان الذي يفعل فيه أهل الجاهلية أعيادهم ، أو يذبح فيه لغير الله فقال صلى الله عليه وسلم للذي نذر أن ينحر إبلاً ببوانة(1) : (( هل كان فيها وثن من أوثان الجاهلية يعبد ؟ قالوا : لا. قال : فهل كان فيها عيد من أعيادهم ؟ قالوا : لا . فقال صلى الله عليه وسلم : أوف بنذرك ، فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله ، ولا فيما لا يملك ابن آدم(2) ))(3).
__________
(1) - هضبة وراء ينبع قريبة من ساحل البحر .... يراجع : معجم البلدان (1/505) .
(2) - رواه أبو داود في سننه (3/607) كتاب الأيمان والنذور ، حديث رقم (3313) . ورواه البيهقي في سننه (10/ 83) كتاب النذور . ورواه الطبراني في المعجم الكبير (2/68)، حديث رقم (1341) . وقال الشيخ محمد بن عبد الوهاب : وإسناده على شرطهما . يراجع : كتاب التوحيد بحاشية الشيخ ابن قاسم ص(104-106) ويراجع : النهج السديد حديث رقم (132).
(3) - يراجع : فتاوى ورسائل الشيخ محمد بن إبراهيم (3/104) .(22/272)
وقال الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز-رحمه الله -: (وهذه الليلة التي حصل فيها الإسراء والمعراج، لم يأت في الأحاديث الصحيحة تعيينها ، وكل ما ورد في تعيينها فهو غير ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم عند أهل العلم بالحديث، ولله الحكمة البالغة في إنساء الناس لها ، ولو ثبت تعيينها لم يجز للمسلمين أن يخصوها بشيء من العبادات ولم يجز لهم أن يحتفلوا بها لأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه – رضي الله عنهم – لم يحتفلوا بها ، ولم يخصوها بشيء ، ولو كان الاحتفال بها أمراً مشروعاً لبينه الرسول صلى الله عليه وسلم للأمة إما بالقول أو الفعل ، ولو وقع شيء من ذلك لعرف واشتهر ، ولنقله الصحابة – رضي الله عنهم – إلينا فقد نقلوا عن نبيهم صلى الله عليه وسلم كل شيء تحتاجه الأمة ، ولم يفرطوا في شيء من الدين ، بل هم السابقون إلى كل خير ، فلو كان الاحتفال بهذه الليلة مشروعاً لكانوا أسبق الناس إليه ، والنبي صلى الله عليه وسلم هو أنصح الناس للناس، وقد بلغ الرسالة غاية البلاغ ، وأدى الأمانة ، فلو كان تعظيم هذه الليلة والاحتفال بها من دين الإسلام لم يغفله النبي صلى الله عليه وسلم ولم يكتمه ، فلما لم يقع شيء من ذلك علم أن الاحتفال بها وتعظيمها ليسا من الإسلام في شيء، وقد أكمل الله لهذه الأمة دينها ، وأتم عليها النعمة ، وأنكر على من شرع في الدين ما لم يأذن به الله ، قال سبحانه وتعالى في كتابه المبين من سورة المائدة :{ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً }(1),وقال عز وجل في سورة الشورى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}(2).
__________
(1) -سورة المائدة: الآية3.
(2) - سورة الشورى:21.(22/273)
وثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأحاديث الصحيحة التحذير من البدع ، والتصريح بأنها ضلالة تنيبها للأمة على عظيم خطرها ، وتنفيراً لهم من اقترافها(1).ا.هـ .
ثم أورد – رحمه الله تعالى – بعض الأحاديث الواردة في ذم البدع مثل قوله صلى الله عليه وسلم ((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)). قوله صلى الله عليه وسلم:(( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)) . قوله صلى الله عليه وسلم : (( أما بعد فإن خير الحديث كتاب الله ، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم ، وشر الأمور محدثاتها ، وكل بدعة ضلالة )) وقوله صلى الله عليه وسلم : (( فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ ، وإياكم ومحدثات الأمور ، فإن كل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة ))(2).
__________
(1) - يراجع : التحذير من البدع ص (7-9) .
(2) - رواه الإمام أحمد في مسنده (4/126) .ورواه أبو داود في سننه (5/13-15) كتاب السنة ،حديث رقم (4607).ورواه الترمذي في سننه (4/149، 150) أبواب العلم ، حديث رقم (2816) ، وقال : حديث حسن صحيح .ورواه ابن ماجه في سننه (1/ 16 ) ، المقدمة ،حديث رقم (42، 43).(22/274)
فما ذكر من كلام العلماء وما استدلوا به من الآيات والأحاديث فيه الكفاية ، ومقنع لمن يطلب الحق في إنكار هذه البدعة، هي بدعة الاحتفال بليلة الإسراء والمعراج ، وأنها ليست من دين الإسلام في شيء ، وإنما هي زيادة في الدين ، وشرع لم يأذن به الله ، وتشبه بأعداء الله من اليهود والنصارى في زيادتهم في دينهم ، وابتداعهم فيه ما لم يأذن به الله ، وأن لازمها التنقص للدين الإسلامي ، واتهامه بعدم الكمال ، ولا يخفى ما في ذلك من الفساد العظيم ، والمنكر الشنيع ، والمصادمة لقوله تعالى : { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} ، والمخالفة الصريحة لأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم المحذرة من البدع ، ومما يؤسف له أن هذه البدعة قد فشت في كثير من الأمصار في العالم الإسلامي ، حتى ظنها بعض الناس من الدين ، فنسأل الله أن يصلح أحوال المسلمين جميعاً ، ويمنحهم الفقه في الدين ، ويوفقنا وإياهم للتمسك بالحق ، والثبات عليه ، وترك ما خالفه ، إنه ولي ذلك والقادر عليه ، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبيناً محمد وآله وصحبه أجمعين(1) .
*****************************
الفصل الخامس
شهر شعبان
المبحث الأول : بعض الآثار الواردة فيه .
المبحث الثاني : بدعة الاحتفال بليلة النصف من شعبان .
المبحث الثالث : بدعة الصلاة الألفية .
المبحث الأول
بعض الآثار الواردة فيه
عن عائشة -رضي الله عنها- قالت : (( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم حتى نقول لا يفطر، ويفطر حتى نقول لا يصوم ، وما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم استكمل صيام شهر إلا رمضان ، وما رايته أكثر صياماً منه في شعبان )) متفق عليه(2).
__________
(1) - يراجع : التحذير من البدع ص (9) .
(2) - رواه البخاري في صحيحه المطبوع مع فتح الباري (4/213) كتاب الصوم،حديث رقم(1969) . ورواه مسلم في صحيحه(2/810) كتاب الصيام،حديث رقم (1156) (175) .(22/275)
عن أبي سلمة أن عائشة -رضي الله عنها-حدثته قالت:((لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يصوم شهراً أكثر من شعبان، وكان يصوم شعبان كله )) ، وكان يقول : (( خذوا من العمل ما تطيقون ، فإن الله لا يمل حتى تملوا ، وأحب الصلاة إلى النبي صلى الله عليه وسلم ما دوام عليه وإن قلت ، وكان إذا صلى صلاة دوام عليها )) متفق عليه(1) .
عن عمران بن حصين- رضي الله عنهما- عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سأله – أو سأل رجلاً وعمران يسمع -فقال : (( يا فلان أما صمت من سرر(2) هذا الشهر ؟)) . قال : أظنه يعني رمضان ، قال الرجال: لا يا رسول الله . قال : (( فإذا أفطرت فصم يومين )) متفق عليه(3) .
عن أبي سلمة قال : سمعت عائشة – رضي الله عنها – تقول : (( كان يكون علي الصوم من رمضان ، فما استطيع أن أقضيه إلا في شعبان )) متفق عليه(4) .
__________
(1) - رواه البخاري في صحيحه المطبوع مع فتح الباري (4/213) كتاب الصوم،حديث رقم(1970) . ورواه مسلم في صحيحه(2/811) كتاب الصيام،حديث رقم (782) .
(2) - سرر الشهر بالتحريك آخر ليلة منه ، وهو مشتق من قولهم : استسر القمر أي خفي ليلة السرار ، فربما كان ليلة وربما كان ليلتين . لسان العرب (4/357) .
(3) - رواه البخاري في صحيحه المطبوع مع فتح الباري(4/230) كتاب الصوم،حديث رقم(1983) . وقال : لم يقل الصلت : أظنه يعني رمضان ، وقال أيضاً :وقال ثابت عن مطرف عن عمران عن النبي صلى الله عليه وسلم ((من سرر شعبان )) . ورواه مسلم في صحيحه(2/820) كتاب الصيام،حديث رقم (1161) وفيه : (( أصمت من سرر شعبان )) ..
(4) - رواه البخاري في صحيحه المطبوع مع فتح الباري(4/189) كتاب الصوم،حديث رقم(1950) . وقال يحيى : الشغل من النبي صلى الله عليه وسلم – أو بالنبي صلى الله عليه وسلم . ورواه مسلم في صحيحه(2/802، 803) كتاب الصيام،حديث رقم (1146) وفيه الشغل من الرسول الله صلى الله عليه وسلم،أو برسول الله صلى الله عليه وسلم.(22/276)
عن عبد الله بن أبي قيس أنه سمع عائشة تقول : كان أحب الشهور إلى رسول الله صلي الله عليه وسلم أن يصومه شعبان ثم يصله برمضان ))(1).
__________
(1) - رواه الإمام أحمد في مسنده ( 6/ 188) . ورواه أبو داود في سننه (2/ 812) كتاب الصيام ، حديث رقم ( 2431) . ورواه النسائي في سننه (4/199) كتاب الصيام ، باب صوم النبي صلى الله عليه وسلم .ورواه ابن خزيمة في صحيحه (3/ 282) جماع أبواب صوم التطوع، حديث رقم (2077) .ورواه الحاكم في المستدرك (1/434) ، كتاب الصوم ، وقال : هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه . ووافقه الذهبي في تلخيصه ).(22/277)
عن أبي هريرة – رضي الله عنه – أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (( إذا انتصف شعبان فلا تصوموا ))(1) .
__________
(1) - رواه الإمام أحمد في المسند ( 2/ 442) . ورواه أبو داود في سننه (2/ 751) كتاب الصوم ، حديث رقم ( 2337) . ورواه الترمذي في سننه (2/ 121) أبواب الصوم ، حديث رقم ( 735) . وقال : حديث حسن صحيح . وقال : معنى هذا الحديث عند بعض أهل العلم : أن يكون الرجل مفطراً فإذا بقي شيء من شعبان أخذ في الصوم لحال شهر رمضان .ا.هـ . ورواه ابن ماجة (1/ 528) كتاب الصيام ، حديث رقم ( 1651) . ورواه الدارمي في سننه (2/ 17) كتاب الصيام ، باب ( 34) .قال ابن رجب في لطائف المعارف ص (142) . خرج الإمام أحمد، وأبو داود ،والترمذي، والنسائي وابن ماجة ، وابن حبان في صحيحه والحاكم من حديث علاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة – وذكر الحديث – وصححه الترمذي وغيره ، واختلف العلماء في صحة هذا الحديث .... فأما تصحيحه فصححه غير واحد منهم الترمذي وابن حبان والحاكم في صحة هذا الحديث ... فأما تصحيحه فصححه غير واحد منهم الترمذي وابن حبان والحاكم والطحاوي وابن عبد البر وتكلم فيه من هو : أكبر من هؤلاء وأعلم وقالوا : هو حديث منكر ، منهم عبد الرحمن بن مهدي والإمام أحمد وأبو زرعة الرازي ، والأثرم ، وقال الإمام أحمد : لم يرو العلاء حديث أنكر منه ، ورده بحديث : (( لا تقدموا رمضان بصوم يوم أو يومين )) – متفق عليه – فإن مفهوم جواز التقدم بأكثر من يومين وقال الأثرم : الأحاديث كلها تخالفه ، يشير إلى أحاديث صيام النبي صلى الله عليه وسلم شعبان كله ووصله برمضان ، ونهيه عن التقدم على رمضان بيومين فصار الحديث حينئذ شاذاً مخالفاً للأحاديث الصحيحة ، وقال الطحاوي : هو منسوخ وحكي الإجماع على ترك العمل به ، وأكثر العلماء على أنه لا يعمل به ..... الخ .ا.هـ .(22/278)
عن أبي هريرة – رضي الله عنه –عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ((لا يتقدمنَّ أحدكم رمضان بصوم يوم أو يومين، إلا أن يكون رجل كان يصوم صومه فليصم ذلك اليوم )) متفق عليه(1) .
عن أم سلمة -رضي الله عنها- قالت:((ما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يصوم شهرين متتابعين إلا شعبان ورمضان))(2)
عن أسامة بن زيد- رضي الله عنهما- قال : قلت يا رسول الله لم أرك تصوم شهراً من الشهور ما تصوم من شعبان ؟ قال صلى الله عليه وسلم: (( ذلك شهر يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان ، وهو شهر ترفع فيه الأعمال إلى رب العالمين ، فأحب أن يرفع عملي وأنا صائم ))(3).
__________
(1) - رواه البخاري في صحيحه المطبوع مع فتح الباري(4/127، 128)كتاب الصوم،حديث رقم(1914)ورواه مسلم في صحيحه(2/762)كتاب الصيام،حديث رقم (1082)
(2) - رواه الإمام أحمد في مسنده ( 6/ 300) . ورواه النسائي في سننه(4/150)كتاب الصيام،باب(33).ورواه الترمذي في سننه(2/ 120)أبواب الصيام ، حديث رقم ( 733) وقال حديث حسن . ورواه الطحاوي في شرح معاني الآثار (2/82) ، كتاب الصيام ، باب الصوم بعد النصف من شعبان إلى رمضان .
(3) - رواه الإمام أحمد في مسنده (5/201) . ورواه النسائي في سننه (4/102) كتاب الصيام . وقال الألباني : وهذا إسناد حسن ، ثابت بن قيس صدوق يهم – كما في التقريب – وسائر رجاله ثقات . يراجع : سلسلة الأحاديث الصحيحة (4/522) . حديث رقم (1898) .(22/279)
عن أنس-رضي الله عنه- قال: سئل النبي صلى الله عليه وسلم أي الصوم أفضل بعد رمضان ؟ قال : (( شعبان لتعظيم رمضان ، قال فأي الصدقة أفضل ؟ قال : الصدقة في رمضان ))(1) .
__________
(1) - رواه الترمذي في سننه(2/ 86)أبواب الزكاة ،حديث رقم (657) . وقال : هذا حديث غريب ، وصدقة بن موسى ليس بذلك القوي . ورواه الطحاوي في شرح معاني الآثار كتاب الصيام ،حديث رقم (1778) ورواه ابن الجوزي في العلل المتناهية (2/65،66) ، حديث (914) . وقال: وهذا حديث لا يصح ، قال يحيى بن معين : صدقة بن موسي ليس بشيء ، وقال ابن حبان : لم يكن الحديث من صناعته ، فكان إذا روى قلب الأخبار فخرج عن حد الاحتجاج به .ا.هـ . ويعارضه الحديث الصحيح الذي أبو هريرة والذي سبق تخريجه ص (93) من هذا الكتاب (( أفضل الصيام بعد شهر رمضان شهر الله المحرم )).(22/280)
عن عائشة -رضي الله عنها- قالت فقدت رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة فخرجت فإذا هو بالبقيع ، فقال صلى الله عليه وسلم: (( أكنت تخافين أن يحيف الله عليك ورسوله ؟ )) قلت : يا رسول الله ظننت أنك أتيت بعض نسائك ، فقال : (( إن الله تبارك وتعالى ينزل ليلة النصف من شعبان إلى سماء الدنيا فيغفر لأكثر من عدد شعر غنم كلب(1) ))(2) .
__________
(1) - كلب : حي من أحياء قضاعة ، ومنهم حارثة الكلبي أبو زيد بن حارثة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانوا في الجاهلية ينزلون دومة الجندل وتبوك وأطراف الشام ، والنسبة إليهم كلبي ، وهم بنو كلب بن وبرة بن ثعلبة بن حلوان بن عمران بن الحافي بن قضاعة . يراجع : الاشتقاق لابن دريد ص(20 ،537-543) ، وصح الأعشى (1/316) ، ومعجم قبائل العرب (3/991-993) .
(2) - رواه الإمام أحمد في مسنده ( 6/ 238) . ورواه الترمذي في سننه(2/ 121- 122)أبواب الصيام ، حديث رقم ( 736) وقال حديث عائشة لا نعرفه إلا من هذا الوجه من حديث الحجاج ، وسمعت محمداً – يعني البخاري – يقول : يضعف هذا الحديث . وقال : يحيى بن أبي كثير لم يسمع من عروة ، قال محمد : والحجاج لم يسمع من يحيى بن أبي كثير .ا.هـ . ورواه ابن ماجه في سننه (1/444) ، كتاب إقامة الصلاة ، حديث رقم (1389) . ورواه ابن الجوزي في العلل المتناهية (2/66) ، حديث رقم (915) . وذكر كلام الترمذي ثم قال : قال الدر اقطني : قد روي من وجوه وإسناده مضطرب غير ثابت .ا.هـ .(22/281)
عن أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ((إن الله ليطلع في ليلة النصف من شعبان ، فيغفر لجميع خلقه ، إلا لمشرك أو مشاحن ))(1).
عن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((إذ كانت ليلة النصف من شعبان، فقوموا نهارها، فإن الله ينزل فيها لغروب الشمس إلى سماء الدنيا ، فيقول: ألا من مستغفر فأغفر له! ألا مسترزق فأرزقه !ألا مبتلى فأعافيه! ألا كذا ألا كذا،حتى يطلع الفجر))(2)
وقد ورد في فضل شهر شعبان والصلاة فيه أحاديث حكم عليها الحفاظ بأنها موضوعة منها :
قوله صلى الله عليه وسلم : (( رجب شهر الله وشعبان شهري ورمضان شهر أمتي.......)).
__________
(1) - رواه ابن ماجه في سننه (1/455) ، كتاب إقامة الصلاة ، حديث رقم (1390) . وقال البوصيري في زوائد ابن ماجه (2/10) ، إسناد حديث أبي موسى ضعيف لضعف عبد الله بن لهيعة ، وتدليس الوليد بن مسلم .ا.هـ . ورواه الطبراني في المعجم الكبير عن معاذ بن جبل (20/107، 108) . وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (8/65) . رواه الطبراني في الكبير والأوسط ورجالهما ثقات . ورواه ابن حبان في صحيحة . يراجع : موارد الظمآن ص(486) ، كتاب الأدب ، حديث رقم (1980) .
(2) - رواه ابن ماجه في سننه(1/444)،كتاب إقامة الصلاة ، حديث رقم(1388).وقال البوصيري في زوائد ابن ماجه (2/10) ، هذا إسناد فيه ابن أبي سبرة واسمه أبو بكر بن عبد الله بن محمد بن أبي سبرة وقال أحمد وابن معين يضع الحديث.ا.هـ.وقال ابن حجر في التقريب (2/397):رموه بالوضع.ا.هـ.وذكر العقيلي في الضعفاء الكبير(2/271) . عنه مثل ذلك .(22/282)
وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم : ((يا علي من صلى مائة ركعة في ليلة النصف من شعبان، يقرأ في كل ركعة بفاتحة الكتاب و ((قل هو الله أحد )) عشر مرات . قال النبي صلى الله عليه وسلم : يا علي ما من عبد يصلي هذه الصلوات إلا قضى عز وجل له كل حاجة طلبها تلك الليلة .......)) الحديث(1). وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم:((من صلى ليلة النصف من شعبان ثنتي عشرة ركعة، يقرأ في كل ركعة((قل هو الله أحد)) ثلاثين مرة ، لم يخرج حتى يرى مقعده من الجنة....))(2) - والله أعلم .
*********************************
المبحث الثاني
بدعة الاحتفال بليلة النصف من شعبان
__________
(1) - ذكره ابن الجوزي في الموضوعات (2/127، 128، 129) ، من طرق ثلاثة وقال : هذا حديث لا نشك أنه موضوع ، وجمهور رواته في الطرق الثلاثة مجاهيل وفيهم ضعفاء بمرة ، والحديث محال قطعاً ، وقد رأينا كثيراً ممن يصلي هذه الصلاة – ويتفق قصر الليل – فيقوتهم صلاة الفجر ، ويصبحون كسالى ، وقد جعلها أئمة المساجد مع صلاة الرغائب ونحوها شبكة لجمع العوام وطلباً لرياسة التقدم ، وملأ بذكرها القصاص مجالسهم ، وكل ذلك عن الحق بمعزل . ا.هـ . قال ابن قيم الجوزية في المنار المنيف ص(98) ، رقم (175) . ومنها – أي الأحاديث الموضوعة – أحاديث صلاة النصف من شعبان ا.هـ .ثم ذكره ،وقال بعد ايراده للحديث :والعجب ممن شم رائحة العلم بالسنن أن يغتر بمثل هذا الهذيان ويصليها؟!وذكره السيوطي في اللآليء المصنوعة(2/59،58،57)،وحكم عليه بالوضع وكذلك الشوكاني في الفوائد المجموعة ص(52،51) .
(2) - ذكره ابن الجوزي في الموضوعات (2/ 129) ، وقال : هذا موضوع أيضاً ، وفيه جماعة مجهولين . وذكره ابن قيم الجوزية في المنار المنيف ص(99) ، رقم (177) .وذكره السيوطي في اللآليء المصنوعة(2/59) ، وحكما عليه بالوضع(22/283)
روي عن عكرمة -رحمه الله- أنه قال في تفسير قوله تعالى : { إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ}(1) : أن هذه الليلة هي ليلة النصف من شعبان ، يبرم فيها أمر السنة ، وينسخ الأحياء من الأموات ، ويكتب الحاج فلا يزاد فيهم أحد ، ولا ينقص منهم أحد(2) .
قال ابن كثير-رحمه الله- في تفسير قوله تعالى :{ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ}(3): يقول تعالى مخبراً عن القرآن العظيم أنه أنزله في ليلة مباركة ، وهي ليلة القدر كما قال عز وجل :{ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْر}(4) ، وكان ذلك في شهر رمضان كما قال تبارك وتعالى :{شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ }(5).
وقد ذكرنا الأحاديث الواردة في ذلك في سورة البقرة بما أغنى عن إعادته(6).
ومن قال إنها ليلة النصف من شعبان كما روي عن عكرمة فقد أبعد النجعة(7) ، فإن نص القرآن في رمضان(8) ا.هـ .
فللعلماء في قوله تعالى :{ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ} قولان :
أحدهما : أنها ليلة القدر وهو قول الجمهور .
الثاني : أنها ليلة النصف من شعبان ، قاله عكرمة .
__________
(1) - سورة الدخان الآيات :3-4
(2) - يراجع : الجامع للقرطبي (16/126) .
(3) - سورة الدخان الآيات :3-4
(4) - سورة القدر:1.
(5) - سورة البقرة: الآية185.
(6) - يراجع : (1/215، 216) .
(7) - النجعة : المذهب – أي الذهاب – في طلب الكلأ في موضعه . يراجع : لسان العرب (8/347) ، مادة (نجع) .
(8) - يراجع : تفسير ابن كثير (4/570) .(22/284)
والراجح -والله أعلم- ما ذهب إليه جمهور العلماء من أن هذه الليلة المبارك هي ليلة القدر ، لا ليلة النصف من شعبان ، لأن الله سبحانه وتعالى أجملها في قوله :{ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ}. وبينها في سورة البقرة بقوله:{شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ } وبقوله تعالى:{ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْر}(1) .
فدعوى أنها ليلة النصف من شعبان لاشك أنها دعوى باطلة ، لمخالفتها النص القرآني الصريح ، ولاشك أن كل ما خالف الحق فهو باطل، والأحاديث التي يوردها بعضهم في أنها من شعبان المخالفة لصريح القرآن لا أساس لها، ولا يصح سند شيء منها كما جزم به العربي وغير واحد من المحققين، فالعجب كل العجب من مسلم يخالف نص القرآن الصريح بلا مستند من كتاب ولا سنة صحيحة(2).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية ( في معرض كلامه عن الأوقات الفاضلة التي قد يحدث فيها ما يعتقد أنه له فضيلة وتوابع ذلك، ما يصير منكراً ينهى عنه : ومن هذا الباب ليلة النصف من شعبان فقد روي في فضلها من الأحاديث المرفوعة والآثار ما يقتضي أنها ليلة مفضلة ، وأن من السلف من كان يخصها بالصلاة ، وصوم شهر شعبان قد جاءت فيه أحاديث صحيحة .
ومن العلماء من السلف من أهل المدينة وغيرهم من الخلف من أنكر فضلها ، وطعن في الأحاديث الواردة فيها كحديث إن الله يغفر لأكثر من عدد غنم كلب ))، وقال لا فرق بينها وبين غيرها .
لكن الذي عليه أكثر أهل العلم ، أو أكثرهم من أصحابنا وغيرهم على تفضيلها ، وعليه يدل نص أحمد، لتعدد الأحاديث الواردة فيها ، وما يصدق ذلك من الآثار السلفية، وقد روي بعض فضائلها في المسانيد والسنن(3)
__________
(1) - يراجع : فتح القدير (4/137) .
(2) - يراجع : أضواء البيان (7/319) .
(3) - ورد في فضل ليلة النصف من شعبان أحاديث وآثار ولكنها لا تخلو من مقال .
يراجع : العلل المتناهية (2/67-72) ، ومجمع الزوائد (8/65) ، وسلسلة الأحاديث الصحيحة للألباني (3/135- 139) ، حديث رقم (1144) .(22/285)
وإن كان قد وضع فيها أشياء أخر)(1)ا.هـ
وقال الحافظ ابن رجب : (وليلة النصف من شعبان كان التابعون من أهل الشام كخالد بن معدان ومكحول ولقمان بن عامر وغيرهم يعظمونها ويجتهدون فيها في العبادات ، وعنهم أخذ الناس فضلها وتعظيمها ، وقد قيل إنه بلغهم في ذلك آثار إسرائيلية ، فلما اشتهر ذلك عنهم في البلدان اختلف الناس في ذلك، فمنهم من قبله ووافقهم على تعظيمها، منهم طائفة من عبّاد أهل البصرة وغيرهم ، وأنكر ذلك أكثر علماء الحجاز منهم عطاء وابن أبي مليكة ونقله عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن فقهاء أهل المدينة (2)، وهو قول أصحاب مالك وغيرهم ، وقالوا ذلك كله بدعة .
واختلف علماء أهل الشام في صفة إحيائها على قولين :
أحدهما : أنه يستحب إحياؤها جماعة في المساجد ، كان خالد بن معدان ، ولقمان بن عامر ، وغيرهما يلبسون فيها أحسن ثيابهم ويتبخرون ويكتمون ويقومون في المسجد ليلتهم تلك ، ووافقهم إسحاق بن راهويه على ذلك ، وقال في قيامها في المساجد : ليس ذلك ببدعة . نقله عنه حرب الكرماني في مسائله .
والثاني : أنه قول الأوزاعي إمام أهل الشام وفقيههم وعالمهم ، وهذا هو الأقرب إن شاء الله تعالى(3) .ا.هـ .
فالحاصل أن جمهور العلماء اتفقوا على كراهة الاجتماع في المساجد ليلة النصف من شعبان للصلاة والدعاء ، فإحياء ليلة النصف من شعبان في المساجد على سبيل المداومة كل سنة ، أو كل فترة بدعة محدثة في الدين.
وأما صلاة الإنسان فيها لخاصة نفسه في بيته ، أو في جماعة خاصة فللعلماء فيه قولان :
__________
(1) - يراجع : اقتضاء الصراط المستقيم (3/626، 627) ، ومجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية (23/123) ، والاختيارات الفقهية ص (65) .
(2) - ورواه عنه ابن وضاح في البدع والنهي عنها ص (46) . وقال : ابن أبي زيد – من كبار علماء المالكية – والفقهاء لم يكونوا يصنعون ذلك .
(3) - يراجع : لطائف المعارف ص (144) .(22/286)
الأول :أن ذلك بدعة وهو قول أكثر علماء الحجاز ومنهم عطاء وابن أبي مليكة، ونقل عن فقهاء أهل المدينة، وهو قول أصحاب مالك وغيرهم(1).
الثاني : أنه لا يكره صلاة الإنسان لنفسه في بيته ، أو في جماعة خاصة ،- في ليلة النصف من شعبان - .
وهو قول الأوزاعي ، واختيار الحافظ ابن رجب ، وكذلك شيخ الإسلام ابن تيمية .
والذي يترجح عندي – والله أعلم – ما ذهب إليه أصحاب القول الأول – أن ذلك بدعة - .
ويمكن الجواب عن قول أصحاب الثاني – القول بعدم الكراهة – بعدة وجوه منها :
الوجه الأول : أنه ليس هناك دليل على فضل هذه الليلة ، ولم يثبت- حسب اطلاعي المحدود- عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أحياها ،ولا عن أحد من أصحابه- رضوان الله عليهم -،ولا عن التابعين- رحمة الله عليهم- عدا من اشتهر عنهم تفضيلها وأحياؤها وهم الثلاثة الذين ذكرهم ابن رجب – ولو فعلوه لاستشهد بفعلهم من فضلها وأحياها ، وإنما هو أمر محدث بعدهم ، فهو أمر مبتدع ، وليس له أصل من الكتاب أو السنة أو الإجماع .
قال أبو شامة : ( وقال الحافظ أبو الخطاب بن دحية – في كتاب ما جاء في شهر شعبان : قال أهل التعديل والتجريح : ليس في فضل ليلة النصف من شعبان حديث صحيح )(2).ا.هـ .
وذكر ابن رجب ( أن قيام ليلة النصف من شعبان لم يثبت فيه شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه ، وثبت فيها عن طائفة من التابعين من أعيان فقهاء أهل الشام )(3).
وقال الشيخ عبد العزيز بن باز : ( وقد ورد في فضلها -ليلة النصف من شعبان- أحاديث ضعيفة لا يجوز الاعتماد عليها، وأما ما ورد في فضل الصلاة فيها فكله موضوع كما نبه على ذلك كثير من أهل العلم)(4).ا.هـ.
__________
(1) - يراجع : لطائف المعارف ص (144) .
(2) - يراجع : الباعث ص (33) .
(3) - يراجع : لطائف المعارف ص (145) .
(4) - يراجع : التحذير من البدع ص (11) .(22/287)
الوجه الثاني : أن الحافظ ابن رجب وهو الذي نقل تفضيل بعض التابعين لهذه الليلة(1) وإحياءهم لها في المساجد ذكر أن مستندهم في ذلك ما بلغهم من آثار إسرائيلية ، ومتى كانت الآثار الإسرائيلية مستنداً ؟!.
وذكر أيضاً أن الناس أخذوا عنهم فضلها وتعظيمها فمتى كان عمل التابعي حجة ؟! .
الوجه الثالث : أن العلماء المعاصرين للقائلين بفضل ليلة النصف من شعبان قد أنكروا عليهم ذلك ، ولو كان للمفضلين دليل لاحتجوا به على المنكرين عليهم ، ولكن لم ينقل عنهم ذلك ، لاسيما وأن من المنكرين عليهم عطاء بن أبي رباح الذي كانت إليه الفتيا في زمانه(2) . والذي قال فيه ابن عمر -رضي الله عنهما - : تجمعون لي المسائل وفيكم ابن أبي رباح .
الوجه الرابع : أن قوله صلى الله عليه وسلم : (( إن الله ليطلع في ليلة النصف من شعبان ، فيغفر لجميع خلقه ، إلا لمشرك أو مشاحن))(3).
__________
(1) - يراجع : لطائف المعارف ص (144) .
(2) - يراجع : طبقات الفقهاء للشيرازي ص(11) .
(3) - رواه ابن ماجه في سننه (1/455) ، كتاب إقامة الصلاة ، حديث رقم (1390) . وقال البوصيري في زوائد ابن ماجه (2/10) ، إسناد حديث أبي موسى ضعيف لضعف عبد الله بن لهيعة ، وتدليس الوليد بن مسلم .ا.هـ . ورواه الطبراني في المعجم الكبير عن معاذ بن جبل (20/107، 108) . وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (8/65) . رواه الطبراني في الكبير والأوسط ورجالهما ثقات . ورواه ابن حبان في صحيحة . يراجع : موارد الظمآن ص(486) ، كتاب الأدب ، حديث رقم (1980) .(22/288)
ليس فيه دليل على تخصيص ليلة النصف من شعبان بفضل من دون الليالي الأخرى، لأنه ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (( ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر يقول : من يدعوني فأستجيب له ، من يسألني فأعطيه ، من يستغفرني فأغفر له))(1) . فاطلاعه سبحانه وتعالى على خلقه ، وغفرانه لهم ، ليس متوقف على ليلة معينة في السنة ، أو ليالي معدودة .
الوجه الخامس : أن من اختار القول بأنه لا يكره صلاة الإنسان فيها لخاصة نفسه ، لم يدعم اختياره بالدليل ، ولو كان هناك دليل لذكره ، ومن أنكر ذلك استدل بعموم قوله صلى الله عليه وسلم: (( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد )) وعموم الأحاديث والآثار الدالة على النهي عن البدع والتحذير منها .
قال الشيخ ابن باز-رحمه الله-:( وأما ما اختاره الأوزاعي -رحمه الله- من استحباب قيامها للأفراد ، واختيار الحافظ ابن رجب لهذا القول فهو غريب وضعيف،لأن كل شيء لم يثبت بالأدلة الشرعية كونه مشروعاً لم يجز للمسلم أن يحدثه في دين الله، سواء فعله مفرداً أو في جماعة ، وسواء أسره أو أعلنه لعموم قوله صلى الله عليه وسلم:((من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)) . وغيره من الأدلة الدالة على إنكار البدع والتحذير منها )(2) .ا.هـ .
وقال أيضاً بعد أن ذكر جملة من الآيات والأحاديث وكلام أهل العلم حول ما ورد في ليلة النصف من شعبان:
__________
(1) - رواه البخاري في صحيحه المطبوع مع فتح الباري (3/29) ، كتاب التهجد ، حديث رقم (1145) . ورواه مسلم في صحيحه (1/521) ، كتاب صلاة المسافرين ، حديث رقم (758) .
(2) - يراجع : التحذير من البدع ص (13) .(22/289)
ومما تقدم من الآيات والأحاديث وكلام أهل العلم، يتضح لطالب الحق أن الاحتفال بليلة النصف من شعبان بالصلاة أو غيرها، وتخصيص يومها بالصيام بدعة منكرة عند أكثر أهل العلم ، وليس له أصل في الشرع المطهر ، بل هو مما حدث في الإسلام بعد عصر الصحابة – رضي الله عنهم - ، ويكفي طالب الحق في هذا الباب وغيره قول الله عز وجل:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ}(1) .وما جاء في معناها من الآيات ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم : (( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)) وما جاء في معناه من الأحاديث ، وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(( لا تختصموا ليلة الجمعة بقيام من بين الليالي، ولا تختصوا يوم الجمعة بصيام من بين الأيام، إلا أن تكون في صوم يصومه أحدكم ))(2) فلو كان تخصيص شيء من الليالي بشيء من العبادة جائزا ، لكانت ليلة الجمعة أولى من غيرها ، لأن يومها هو خير يوم طلعت عليه الشمس(3) بنص الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
__________
(1) -سورة المائدة ، الآية : 3.
(2) - رواه الإمام أحمد في مسنده (6/444) . ورواه مسلم في صحيحه (2/801) كتاب الصيام .حديث رقم (1144 ) (148) .
(3) - قال صلى الله عليه وسلم : (( خير يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة ........ الحديث )) . رواه الإمام أحمد في مسنده (2/512) .مسلم في صحيحه (2/585) ، كتاب الجمعة ، حديث رقم (584) . وأبو داود في سننه (1/634) ، كتاب الصلاة . حديث رقم (1046) .والترمذي في سننه (1/305) ، أبواب الجمعة . وقال : حديث حسن صحيح . والنسائي في سننه (3/89، 90) ، كتاب الجمعة باب رقم (4) .(22/290)
فلما حذّر النبي صلى الله عليه وسلم من تخصيصها بقيام من بين الليالي ، دل ذلك على أن غيرها من الليالي من باب أولى لا يجوز تخصيص شيء منها بشيء من العبادة ، إلا بدليل صحيح يدل على التخصيص ، ولما كانت ليلة القدر وليالي رمضان يشرع قيامها والاجتهاد فيها ، نبه صلى الله عليه وسلم على ذلك وحث الأمة على قيامها ، وفعل ذلك بنفسه ،كما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : (( من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر الله له ما تقدم من ذنبه، ومن قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر الله له ما تقدم من ذنبه))(1)فلو كانت ليلة النصف من شعبان، أو ليلة أول جمعة من رجب، أو ليلة الإسراء والمعراج يشرع تخصيصها باحتفال أو شيء من العبادة لأرشد النبي صلى الله عليه وسلم الأمة ولم يكتموه عنهم ، وهم خير الناس، وأنصح الناس بعد الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- ، ورضي الله عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم-وأرضاهم ، وقد عرفت آنفاً من كلام العلماء أنه لم يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه – رضي الله عنهم – شيء في فضل ليلة أول جمعة من رجب ، ولا في فضل ليلة النصف من شعبان ، فعلم أن الاحتفال بهما بدعة محدثة في الإسلام ، وهكذا تخصيصها بشيء من العبادة بدعة منكرة .... ا.هـ(2) .- والله أعلم – وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبيناً محمد وآله وصحبه أجمعين .
**************************************
المبحث الثالث
الصلاة الألفية المبتدعة في شعبان
أول من أحدثها :
__________
(1) - رواه البخاري في صحيحه المطبوع مع فتح الباري (1/92،91) ، كتاب الإيمان ، حديث رقم (37،35) .ذكر قيام رمضان في رواية ، وقيام ليلة القدر في رواية أخرى .وكذلك رواه مسلم في صحيحه (1/524،523) ، كتاب صلاة المسافرين ، حديث رقم (759، 760) .
(2) - يراجع : التحذير من البدع ص (15، 16) .(22/291)
أول من أحدث الصلاة الألفية في ليلة النصف من شعبان رجل يعرف بابن أبي الحمراء من أهل نابلس(1)، قدم على بيت المقدس سنة 448هـ وكان حسن التلاوة ، فقام فصلى في المسجد الأقصى ليلة النصف من شعبان فأحرم خلفه رجل ، ثم انضاف إليهما ثالث ورابع ، فما ختمها إلا وهم في جماعة كثيرة .
ثم جاء في العام القابل فصلى معه خلق كثير، وشاعت في المسجد وانتشرت الصلاة في المسجد الأقصى، وبيوت الناس ومنازلهم، ثم استقرت كأنها سنة(2).
صفتها :
هذه الصلاة المبتدعة تسمى بالألفية لقراءة سورة الإخلاص فيها ألف مرة، لأنها مائة ركعة، يقرأ في كل ركعة سورة الإخلاص عشر مرات .
وقد رويت صفة هذه الصلاة ، والأجر المترتب على أدائها ، من طرق عدة ذكرها ابن الجوزي في الموضوعات ثم قال : ( هذا حديث لا نشك أنه موضوع ، وجمهور رواته في الطرق الثلاثة مجاهيل وفيهم ضعفاء بمرة ، والحديث محال قطعاً )(3) .ا.هـ .
وقال الغزالي في الإحياء : ( وأما صلاة شعبان : فليلة الخامس عشر منه يصلى مائة ركعة ، كل ركعتين بتسليمه ، ويقرأ في كل ركعة بعد الفاتحة (( قل هو الله أحد)) )(4) .ا.هـ .
حكمها :
اتفق جمهور العلماء على أن الصلاة الألفية ليلة النصف من شعبان بدعة .
__________
(1) - نابلس : مدينة مشهورة بأرض فلسطين بين جبلين ، مستطيلة لا عرض لها ، كثيرة المياه ، بينها وبين بيت المقدس عشرة فراسخ ، وبها الجبل الذي تعتقد اليهود أن الذبح كان عليه ، وعندهم أن الذبيح إسحاق – عليه السلام – فهم يعتقدون في هذا الجبل . يراجع : معجم البلدان (5/248) .
(2) - يراجع : التحذير و البدع للطرطوشي ص (121، 122) .
(3) - يراجع : الموضوعات (2/ 127-130) ، وكذلك اللآليء المصنوعة للسيوطي (2/57-60) ، وكذلك الفوائد المجموعة ص (51) .
(4) - يراجع : إحياء علوم الدين (1/203) .(22/292)
فألفية النصف من شعبان لم يسنها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أحد من خلفائه ، ولا استحبها أحد من أئمة الدين الأعلام كأبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد والثوري والأوزاعي والليث وغيرهم – رحمة الله عليهم جميعاً –
وكذلك فإن الحديث الوارد فيها موضوع باتفاق أهل العلم بالحديث(1).وأعلم أخي المسلم أن مثل هذه الاحتفالات كالاحتفال بليلة النصف من شعبان ، وليلة الإسراء والمعراج المزعومة ، وليلة الرغائب، يكون فيها من الأمور المبتدعة والمحرمة الشيء الكثير ، والتي تختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة ، وقد فصل العلامة ابن الحاج هذه البدع والمحرمات في هذه الاحتفالات فنلخص من كلامه ما يأتي :
تكلف النفقات الباهظة ، وهو إسراف يعملونه باسم الدين وهو بريء منه .
الحلاوات المحتوية على الصور المحرمة شرعاً .
زيادة وقود القناديل وغيرها ، وفي زيادة وقودها إضاعة المال ، لاسيما إذا كان الزيت من الوقف فيكون ذلك جرحاً في حق الناظر، لاسيما إذا كان الواقف لا يذكره ، وإن ذكره لم يعتبر شرعاً، وزيادة الوقود مع ما فيه من إضاعة المال كما تقدم سبب لاجتماع من لا خير فيه، ومن حضر من أرباب المناصب الدينية عالماً بذلك فهو جرحة في حقه إلا أن يتوب ، وأما إن حضر ليغير وهو قادر بشرط فيا حبذا .
حضور النساء وما فيه من المفاسد .
إتيانهم الجامع واجتماعهم فيه ، وذلك عبادة غير مشروعة .
ما يفرشونه من البسط والسجادات وغيرها .
__________
(1) -يراجع : مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (23/134،133،131)، واقتضاء الصراط المستقيم (2/628) ، والباعث لأبي شامة ص(32-36) ، وفتاوى محمد رشيد رضا (1/28-30) و(3/994-1003) ، والسنن والمبتدعات للشقيري ص(148-149) ، والإبداع لعلي محفوظ ص (286-288) ، والتحذير من البدع للشيخ ابن باز ص (11-16) .(22/293)
أطباق النحاس فيها الكيزان والأباريق وغيرهما ، كأن بيت الله تعالى بيتهم ، والجامع إنما جعل للعبادة ، لا للفراش والرقاد والأكل والشرب .
ومن هذه البدع والمحرمات السقاؤون ، وفي ذلك من المفاسد جملة منها :البيع والشراء لأنهم يأخذون الدراهم ، وضرب الطاسات بما يشبه صوت النواقيس ، ورفع الصوت في المسجد وتلويثه ، وتخطي رقاب الناس ، وكلها منكرات .
اجتماعهم حلقات ، كل حلقة لها كبير، يقتدون به في الذكر والقراءة وليت ذلك لو كان ذكراً أو قراءة، لكنهم يلعبون في دين الله تعالى فالذاكر منهم في الغالب لا يقول : (لا إله إلا الله ) بل يقول : (لا يلاه يلله ) فيجعلون عوض الهمزة ياء وهي ألف قطع جعلوها وصلاً وإذا قالوا :( سبحان الله ) يمططونها ويرجعونها حتى لا تكاد تفهم ، والقارئ يقرأ القرآن فيزيد فيه ما ليس منه ، وينقص منه ما هو فيه ، بحسب تلك النغمات والترجيعات التي تشبه الغناء والأصوات التي اصطلحوا عليها، على ما قد علم من أحوالهم الذميمة ، وهذا منكر يحف به عدة منكرات .
ومن الأمور العظيمة فيها أن القارئ يبتدئ بقراءة القرآن والآخر ينشد الشعر ، أو يريد أن ينشده ، فيسكتون القارئ أو يهمون بذلك ، أو يتركون هذا في شعره وهذا في قراءته ، لأجل تشوف بعضهم لسماع الشعر وتلك النغمات الموضوعة أكثر ، فهذه الأحوال من اللعب في الدين أن لو كانت خارج المسجد منعت ، فكيف بها في المسجد ؟ .
حضور الوالدان الصغار وما يتبع من لغطهم وتنجيسهم المسجد .
خروج النساء في هذه الليلة-ليلة النصف من شعبان- إلى القبور-مع أن زيارة النساء للقبور محرمة شرعاً- ومع بعضهن الدف يضربن به ، وبعضهن يغنين بحضرة الرجال ورؤيتهم لهن متجاهرين بذلك، لقلة حيائهن ، وقلة من ينكر عليهن .
اختلاط النساء بالرجال عند القبور ، وقد رفع النساء جلبان الحياء والوقار عنهن ، فهن كاشفات الوجوه والأطراف .(22/294)
أنهم أعظموا تلك المعاصي بفعلها عند القبور التي هي موضع الخشية والفزع والاعتبار ، والحث على العمل الصالح ، لهذا المصرع العظيم المهول أمره ، فردوا ذلك للنقيض ، وجعلوه موضع فرح ومعاصي كحال المستهزئين .
إهانة الأموات من المسلمين وأذيتهم بفعل المنكرات بجانب قبورهم .
أن بعضهم يقيمون خشبة عند رأس الميتة أو الميت ، ويكسون ذلك العمود من الثياب ما يليق به عندهم .
فإن كان الميت عالماً أو صالحاً صاروا يشكون له ما نزل بهم ويتوسلون به ، وإن كان من الأهل أو الأقارب صاروا يتحدثون معه ويذكرون له ما حدث لهم بعده ، وإن كان عروساً أو عروسة كسوا كل واحد منهما ما كان يلبسه في حال فرحة ، ويجلسون يتباكون ويبكون ويتأسفون . وكسوتهم لهذه الخشبة تشبه في الظاهر بالنصارى في كسوتهم لأصنامهم ، والصور التي يعظمونها في مواسمهم ، ومن تشبه بقوم فهو منهم .
أنهم اتصفوا بسبب ما ذكره بصفة النفاق ، لأن الفارق صفته قصد المعصية وإظهارها في الصورة أنها طاعة .
اللغو في المسجد وكثرة الكلام بالباطل وهو منكر شديد .
جعل المسجد كأنه دار شرطة لمجيء الوالي والمقدمين والأعوان ، وفرش البسط ، ونصب الكرسي للوالي ليجلس عليه في مكان معلوم ، وتوقد بين يديه المشاعل الكثيرة في صحن الجامع ، ويقع منها بعض الرماد ، وربما وقع الضرب بالعصا والبطح لمن يشتكي في الجامع ، أو تأتيه – الوالي – الخصوم من خارج الجامع وهو فيه ، هذا كله في ليلة النصف من شعبان ، وإذا وقعت هذه الأشياء في الجامع فلابد من رفع الأصوات من الخصوم والجند وغيرهم ، بل اللغط واقع لكثرة الخلق فيه ، فكيف به إذا انضم إلى الشكاوي وأحكام الوالي ؟! .(22/295)
اعتقادهم أن فعل هذه المنكرات والبدع المحرمات إقامة حرمة لتلك الليلة ، ولبيت الله عز وجل ، وأنهم أتوه ليعظموه ، وبعضهم يرى أن ذلك من القرب وهذا أشد(1) . وسبق وذكرت أن هذه البدع والمنكرات تختلف باختلاف الزمان والمكان ، فالاحتفالات في الوقت الحاضر تكاد لا تخلو من كثير من هذه المنكرات وإن اختلف الشكل والهيئة .
ويضاف إلى هذه البدع أيضا :الدعاء المعروف الذي يطلب فيه من الله تعالى أن يمحو من أم الكتاب شقاوة من كتبه شقياً ...... الخ . ونصه ما يلي : اللهم يا ذا المن ولا يمن عليه ، يا ذا الجلال والإكرام ، يا ذا الطول والإنعام ، لا إله إلا أنت ، ظهر اللاجئين ، وجار المستجيرين ، وأمان الخائفين ، اللهم أن كنت كتبتني عندك في أم الكتاب شقياً أو محروماً ، أو مطروداً أو مقتراً عليَّ في الرزق ، فامح اللهم بفضلك شقاوتي وحرماني ، وطردي وإقتار رزقي ، وأثبتني عندك في أم الكتاب سعيداً مرزوقاً موفقاً للخيرات ، فإنك قلت وقولك الحق في كتابك المنزل ، على لسان نبيك المرسل : {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ }(2) . إلهي بالتجلي الأعظم في ليلة النصف من شهر شعبان المكرم ، التي يفرق فيها كل أمر حكيم ويبرم أسألك أن تكشف عنا البلاء ما نعلم وما لا نعلم ، وما أنت به أعلم إنك أنت الأعز الأكرم ، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وسلم ))(3).
وهذا الدعاء ليس له أصل صحيح في السنة، كما هو الحال في صلاة النصف من شعبان ، فلم يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه ، ولا عن السلف-رضوان الله عليهم أجمعين- أنهم اجتمعوا في المساجد من أجل هذا
__________
(1) - يراجع : المدخل لابن الحاج (1/293-313) ، وكذلك مجلة المنار (3/ 665- 667 ) .
(2) - سورة الرعد:39.
(3) - يراجع : رسالة في فضل ليلة النصف من شعبان لمحمد حسنين مخلوف ص(32، 33) ، وكذلك : رسالة روي الظمآن للأنصاري ص(9) .(22/296)
الدعاء في تلك الليلة ، ولا تصح نسبة هذا الدعاء إلى بعض الصحابة.(1)
وربما شرطوا لقبول هذا الدعاء قراءة سورة(يس)،وصلاة ركعتين قبله،يفعلون القراءة والصلاة والدعاء ثلاث مرات ، يصلون المرة الأولى بنية طول العمر ، والثانية بنية دفع البلايا ، والثالثة بنية الاستغناء عن الناس ، واعتقدوا أن هذا العمل من الشعائر الدينية، ومن مزايا ليلة النصف من شعبان وما تختص به، حتى اهتموا به أكثر من اهتمامهم بالواجبات والسنن فتراهم يسارعون إلى المساجد قبيل الغروب من هذه الليلة، وفيهم تاركوا الصلاة ، معتقدين أنه يجبر كل تقصير سابق عليه، وأنه يطيل العمر ويتشاءمون من فوته(2) .
فالاجتماع لقراءة هذا الدعاء بالطريقة المتبعة والمعروف عندهم ، وجعل ذلك شعيره من شعائر الدين ، من البدع التي تحدث في ليلة النصف من شعبان .
صحيح أن الدعاء والتضرع إلى الله تعالى مطلوب في كل وقت ومكان ، لكن لا على هذا الوجه المخترع ، فلا يتقرب إلى الله بالبدع ، وإنما يتقرب إليه تعالى بما شرع .
__________
(1) -يراجع : مجلة المنار (3/667) ، والسنن والمبتدعات ص(149) ، والإبداع ص (290) .
(2) - يراجع : والإبداع ص (290) .(22/297)
ومن البدع المنكرة في الاحتفالات بليلة النصف من شعبان كثيرة الوقيد فالمحدث لهذه البدعة راغب في دين المجوسية ، لأن النار معبودة وأول ما حدث ذلك في زمن البرامكة(1)، فأدخلوا في دين الإسلام ما يموهون به على الطغام ، وهو جعلهم الإيقاد في شعبان كأنه من سنن الإيمان ، ومقصودهم عبادة النيران ، وإقامة دينهم وهو أخسر الأديان ، حتى إذا صلى المسلمون وركعوا وسجدوا كان ذلك إلى النار التي أوقدوها(2) .
فزيادة الوقود فيه تشبه بعبدة النار في الظاهر – وإن لم يعتقدوا ذلك – لأنَّ عبدة النار يوقدونها حتى إذا كانت في قوتها وشعشعتها اجتمعوا إليها بنية عبادتها،ولا شك أن التشبه بأهل الأديان الباطلة منهي عنه(3). والله أعلم .
*************************************
الفصل السادس
شهر رمضان
المبحث الأول : فضل هذا الشهر وما ورد فيه .
المبحث الثاني : بعض البدع التي تقام في هذا الشهر .
أولاً : قراءة سورة الأنعام .
ثانياً : بدعة صلاة التراويح بعد المغرب .
ثالثاً : بدعة صلاة القدر .
رابعاً :بدعة القيام عند ختم القرآن في رمضان
بسجدات القرآن كلها في ركعة .
خامساً : بدعة سرد آيات الدعاء .
سادساً : بدعة الذكر بعد التسليمتين من صلاة التراويح .
سابعاً : بعض بدع ليلة ختم القرآن .
ثامناً : بدعة التسحير .
__________
(1) - نسبة إلى خالد بن برمك بن جاماس بن يشتاسف ، وكان برمك من مجوس بلخ ، وتلقد خالد بن برمك المناصب تدريجياً في الدولة العباسية حتى وصل إلى الوزارة ، ثم إمارة الأقاليم ، وتوفي سنة 163هـ ، ثم تولى أولاده يحيى ، وولده الفضل ، وجعفر ، وغيرهم المناصب العليا ، حتى طغت سمعتهم وما ينفقونه من العطايا على سمعة الخليفة في وقته ، إلى أن نكبهم الرشيد فقتلهم ،، وفرق شملهم ، وذلك سنة 187هـ . يراجع : البداية والنهاية (10/215-225) , والأعلام (2/295) .
(2) - يراجع : والباعث ص(33-34) .
(3) - يراجع : المدخل لابن الحاج (1/308) .(22/298)
تاسعاً : البدع المتعلقة برؤية هلال رمضان .
عاشراً : بدعة حفيظة رمضان .
أحد عشر : بدعة قرع النحاس آخر الشهر .
إثنا عشر : بدعة وداع رمضان .
ثلاثة عشر : بدعة الاحتفال بذكرى غزوة بدر .
المبحث الأول
فضل هذا الشهر وما ورد فيه
يعتبر شهر رمضان من أعظم مواسم المسلمين ، فهو شهر الصوم الذي هو الركن الرابع من أركان الإسلام ، قد فضله الله بأن أنزل فيه كتابه الكريم ، وجعل فيه ليلة خيراً من ألف شهر . وقد ورد في فضله وفضل العبادات فيه آثار كثيرة نذكر منها على النحو التالي :
أولاً : وجوب صوم شهر رمضان :
عن عبد الله بن عمر – رضي الله عنهما – قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :((بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله ، وأن محمداً رسول الله ،وإقامة الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، والحج، وصوم رمضان))(1)متفق عليه .
__________
(1) - رواه البخاري في صحيحه المطبوع مع فتح الباري(1/49) ، كتاب الإيمان ، حديث رقم (8) . ورواه مسلم في صحيحه (1/45) ، كتاب الإيمان ، حديث رقم(16) . وفي رواية مسلم تقديم صوم رمضان على الحج ، فقال رجل : الحج وصيام رمضان ؟ قال – ابن عمر - :لا .صيام رمضان والحج هكذا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم(22/299)
عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: ((كان النبي صلى الله عليه وسلم بارزاً يوماً للناس، فأتاه رجل فقال: ما الإيمان؟ قال: (( الإيمان أن تؤمن بالله ، وملائكته ، وبلقائه ، ورسله، وتؤمن بالبعث . قال : ما الإسلام؟ قال : الإسلام أن تعبد الله ولا تشرك به وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة المفروضة وتصوم رمضان. قال: ما الإحسان؟ قال : أن تعبد الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنه يراك . قال: متى الساعة ؟ قال: ما المسئول عنها بأعلم من السائل. وسأخبرك عن أشراطها: إذا ولدت الأمة ربها، وإذا تطاول رعاة الإبل البهم في البنيان. في خمس لا يعلمهن إلا الله. ثم تلا النبي صلى الله عليه وسلم: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}(1)الآية ثم أدبر فقال: ردوه فلم يروا شيئاً ، فقال : هذا جبريل جاء يعلم الناس دينهم )) . متفق عليه(2) .
__________
(1) - سورة لقمان:34.
(2) - رواه البخاري في صحيحه المطبوع مع فتح الباري(1/114) ، كتاب الإيمان ، حديث رقم (50) . ورواه مسلم في صحيحه (1/39) ، كتاب الإيمان ، حديث رقم(9) .(22/300)
عن طلحة بن عبيد الله -رضي الله عنه- أن أعربياً جاء إليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ثائر الرأس:((فقال: يا رسول ، أخبرني ماذا فرض الله عليَّ من الصلاة ؟ فقال : الصلوات الخمس إلا أن تطوع شيئاً . فقال : أخبرني ماذا فرض الله عليَّ من الصيام ؟فقال : شهر رمضان إلا أن تطوع شيئاً. فقال : أخبرني ماذا فرض الله عليَّ من الزكاة ؟ قال : فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بشرائع الإسلام . فقال : والذي أكرمك بالحق ، لا أتطوع شيئاً ولا أنقص مما فرض الله علىَّ شيئاً . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أفلح إن صدق ، أو دخل الجنة أن صدق ))(1) متفق عليه .
حديث ابن عباس – رضي الله عنهما - : إن وفد عبد القيس لما أتوا النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( من القوم -أو من الوفد ؟- قالوا : ربيعة قال: مرحباً بالقوم -أو الوفد- غير خزايا ولا ندامى. فقالوا: يا رسول الله، إنا لا نستطيع أن نأتيك إلا في الشهر الحرام، وبيننا وبينك هذا الحي من كفار مضر، فمرنا بأمر فصل نخبر به من وراءنا، وندخل به الجنة، وسألوه عن الأشربة . فأمرهم بأربع ونهاهم عن أربع : أمرهم بالإيمان بالله وحده ، قال: أتدرون ما الإيمان بالله وحده؟ قالوا : الله ورسوله أعلم ، قال : شهادة أن لا إله إلا الله ، وأن محمداً رسول الله ، ولإقامة الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وصيام رمضان ، وأن تعطوا من المغنم الخمس ...... ))الحديث متفق عليه(2) .
__________
(1) - رواه البخاري في صحيحه المطبوع مع فتح الباري(4/102) ، كتاب الصوم ، حديث رقم (1891) . ورواه مسلم في صحيحه (1/40، 41) ، كتاب الإيمان ، حديث رقم(11) ، (9،8) .…
(2) - رواه البخاري في صحيحه المطبوع مع فتح الباري(1/129)،كتاب الإيمان،حديث رقم (53).ورواه مسلم في صحيحه(1/47، 48)،كتاب الإيمان،حديث رقم(17)،(24)(22/301)
عن أنس بن مالك – رضي الله عنه – قال : نهينا أن نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء ، فكان يعجبنا أن يجيء الرجل من أهل البادية العاقل فيسأله ونحن نسمع فجاء رجل من أهل البادية فقال : يا محمد أتانا رسولك ! فزعم لنا أنك تزعم أن الله أرسلك ؟قال : (( صدق )) . قال فمن خلق السماء .... إلى أن قال – وزعم رسولك أن علينا صوم شهر رمضان في سنتنا . قال : (( صدق)) . قال : فبالذي أرسلك ، آلله أمرك بهذا ؟ قال : (( نعم )) ...... قال : والذي بعثك بالحق لا أزيد عليهن ولا أنقص منهن . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : (( لئن صدق ليدخلن الجنة ))(1).
عن عائشة-رضي الله عنها- قريش(2)
__________
(1) - رواه أحمد في مسنده (3/143) . ورواه مسلم في صحيحه(1/41، 42)،كتاب الإيمان،حديث رقم(12) . ورواه النسائي في سننه (4/120-122) كتاب الصيام ، باب وجوب الصوم . ورواه ابن حبان في صحيحه (1/316، 317) كتاب الإيمان ، حديث رقم (155) .
(2) -هي قبيلة من أشهر قبائل العرب وأقواها ، شرَّفها الله ببعث النبي صلى الله عليه وسلم منهم ، قال – عليه السلام - : (( إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل ، واصطفى قريشاً من كنانة ، واصطفى من قريش بني هاشم ، واصطفاني من بني هاشم )) [رواه مسلم (4/1782) حديث رقم (2276) ].
واختلف العلماء في سبب تسميتهم بهذا الاسم على أقوال كثيرة : قيل نسبة إلى قريش بن بدر بن يخلد بن الحارث بن يخلد بن النضر بن كنانة . وقيل : نسبة إلى النضر بن كنانة سمي قريشاً لوصف قومه له بأنه كالحمل القريش – الشديد - . وقيل : نسبة إلى دابة بالبحر تأكل دواب البحر تدعي القرش ، وقيل : إن النظر بن كنانة كان يقرش عن حاجة الناس فيسدها بماله ، والتقريش : التفتيش ، وقيل : نسبة إلى التقرش وهو التكسب والتجارة ، وقيل : نسبة إلى التقرش وهو التجمع .
والراجح- والله أعلم-أن قريش هو النضر بن كنانة ، فما كان من ولده فهو قرشي ، ومن ليس بولده فليس بقرشي . يُراجع : تاريخ الطبري (2/263-265) ، والبداية والنهاية (2/ 218- 229) .(22/302)
كانت تصومه يوم عاشوراء في الجاهلية ،ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بصيامه، حتى فرض رمضان وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :((من شاء فليصمه ، ومن شاء أفطره )). متفق عليه(1).
عن سلمة بن الأكوع – رضي الله عنه – قال : لما نزلت { وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ}(2) . كان من أراد أن يفطر ويفتدي ، حتى نزلت هذه الآية التي بعدها فنسختها . متفق عليه(3).
وفي رواية لمسلم أنه قال: كنا في رمضان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من شاء صام، ومن شاء فطر فافتدى بطعام مسكين حتى أنزلت هذه الآية { فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}(4). (5) .
ثانياً : فضل شهر رمضان :
__________
(1) - رواه البخاري في صحيحه المطبوع مع فتح الباري (4/102) كتاب الصوم، حديث رقم (1893)، ورواه مسلم في صحيحه (2/792) كتاب الصيام ، حديث رقم (1125). (116) .
(2) - سورة البقرة: الآية184.
(3) - رواه البخاري في صحيحه المطبوع مع فتح الباري (8/181) كتاب التفسير، حديث رقم (4507)، ورواه مسلم في صحيحه(2/802)كتاب الصيام ،حديث رقم (1145).
(4) - سورة البقرة: الآية185.
(5) - رواه مسلم في صحيحه(2/802)كتاب الصيام ،حديث رقم (1145) ، (15) . ورواه ابن خزيمة في صحيحه (3/200)كتاب الصيام ، حديث رقم (1903) ورواه الحاكم في مستدركه (1/423) كتاب الصوم . قال : هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ، ووافقه الذهبي في تلخيصه .(22/303)
عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (( إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة )). وفي رواية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( إذا دخل شهر رمضان فتحت أبواب السماء ، وغلقت أبواب جهنم ، وسلسلت الشياطين ))(1) .
عن ابن عباس – رضي الله عنهما – قال : ((ما صام النبي صلى الله عليه وسلم شهراً كاملاً قط غير رمضان ، ويصوم حتى يقول القائل : لا والله لا يفطر ، ويفطر حتى يقول القائل : لا والله لا يصوم))متفق عليه(2).
عن عائشة – رضي الله عنها – قالت :((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم حتى نقول لا يفطر ، ويفطر حتى نقول لا يصوم ، وما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم استكمل صيام شهر إلا رمضان ، وما رايته أكثر صياماً منه في شعبان )) متفق عليه(3).
__________
(1) - رواه البخاري في صحيحه المطبوع مع فتح الباري (4/112) كتاب الصوم، حديث رقم (1898،1899)، ورواه مسلم في صحيحه (2/758) كتاب الصيام ، حديث رقم (1079). (2،1) ، بزيادة في الرواية الأولى ، وفي الرواية الثانية (( فتحت أبواب الرحمة )) .
(2) -. رواه البخاري في صحيحه المطبوع مع فتح الباري (4/215) كتاب الصوم،حديث رقم(1971) . ورواه مسلم في صحيحه(2/811) كتاب الصيام،حديث رقم (1157) .
(3) - رواه البخاري في صحيحه المطبوع مع فتح الباري (4/213) كتاب الصوم،حديث رقم(1969) . ورواه مسلم في صحيحه(2/810) كتاب الصيام،حديث رقم (1156) (175) .(22/304)
عن عبد الله بن شقيق قال : (( قلت لعائشة – رضي الله عنها - : هل كان النبي صلى الله عليه وسلم يصوم شهراً معلوماً سوى رمضان ؟ قالت : (( والله إن صام شهراً معلوماً سوى رمضان، حتى مضى لوجهه، و لا أفطر حتى يصيب منه))(1) . وفي رواة قالت : (( وما رأيته صام شهراً كاملاً منذ قدم المدينة إلا أن يكون رمضان ))(2).
عن أبي هريرة – رضي الله عنه – أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : (( الصلوات الخمس ، والجمعة إلى الجمعة ، ورمضان إلى رمضان ، مكفرات ما بينهن ، إذا اجتنب الكبائر ))(3).
عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا كان أول ليلة من شهر رمضان صفدت الشياطين ومردة الجن ، وغلقت أبواب النيران فلم يفتح منها باب ، وفتحت أبواب الجنة فلم يغلق منها باب ، وينادي مناد يا باغي الخير أقبل ، ويا باغي الشر أقصر ، والله عتقاء من النار وذلك كل ليلة ))(4) .
__________
(1) - رواه مسلم في صحيحه(2/809، 810)كتاب الصيام ،حديث رقم (1156) ، (15) . ورواه الترمذي في سننه (2/133، 134) ، أبواب الصوم حديث رقم (765) . وقال حديث حسن صحيح .ورواه ابن خزيمة في صحيحه (3/304، 305)أبواب صوم التطوع ، حديث رقم (2132) .
(2) - رواه مسلم في صحيحه(2/810)كتاب الصوم ،حديث رقم (1156) ، (174) . ورواه الإمام أحمد في مسنده (6/157) .
(3) - رواه الإمام أحمد في مسنده (2/400) . ورواه مسلم في صحيحه (1/209) كتاب الطهارة،حديث رقم (233) ، (16) .
(4) - رواه الترمذي في سننه (2/95، 96) ، أبواب الصوم حديث رقم (677) . وقال : حديث غريب .ورواه ابن خزيمة في صحيحه (3/188)أبواب فضائل شهر رمضان ، حديث رقم (1883) .ورواه ابن ماجه في سننه (1/526) كتاب الصوم ، رقم الحديث (1642) ، ورواه الحاكم في المستدرك ( 1/421) ، وقال : هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه بهذه السياقة ، وقال الذهبي في تلخيصه : لم يخرجاه بهذه السياقة .(22/305)
عن أبي بكرة -رضي الله عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ((شهران لا ينقصان ، شهر عيد : رمضان وذو الحجة )) متفق عليه(1).
عن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أتاكم رمضان . شهر مبارك ، فرض الله عز وجل عليكم صيامه تفتح فيه أبواب السماء ، وتغلق فيه أبواب الجحيم ، وتغل فيه مردة الشياطين ، لله فيه ليلة خير من ألف شهر من حرم خيرها فقد حرم ))(2) .
عن أبي هريرة – رضي الله عنه –عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( لا يتقدمنَّ أحدكم رمضان بصوم يوم أو يومين ، إلا أن يكون رجل كان يصوم صومه فليصم ذلك اليوم )) متفق عليه(3) .
ثالثاً : فضل العبادات فيه :
عن أبي هريرة- رضي الله عنه-عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه ، ومن صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه)) متفق عليه (4) .
__________
(1) - رواه البخاري في صحيحه المطبوع مع فتح الباري (4/124) كتاب الصوم،حديث رقم(1912) . ورواه مسلم في صحيحه (2/766) كتاب الصيام،حديث رقم (1089) .
(2) - رواه الإمام أحمد في مسنده (2/230) . ورواه النسائي (4/129) كتاب الصيام ، وذكره المنذري في الترغيب والترهيب (2 /98) . وقال : رواه النسائي والبيهقي وكلاهما عن أبي هريرة ، ولم يسمع منه فيما أعلم .
(3) - رواه البخاري في صحيحه المطبوع مع فتح الباري(4/127، 128)كتاب الصوم،حديث رقم(1914)ورواه مسلم في صحيحه(2/762)كتاب الصيام،حديث رقم (1082)
(4) - رواه البخاري في صحيحه المطبوع مع فتح الباري (4/115) ، كتاب الصوم ، حديث رقم (1901) .ورواه مسلم في صحيحه (1/524،523) ، كتاب صلاة المسافرين ، حديث رقم (760) .(22/306)
عن أبي هريرة – رضي الله عنه – أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (( من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر الله له ما تقدم من ذنبه)) متفق عليه (1).
عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن أعربياً أتي النبي صلى الله عليه وسلم فقال : دلني على عمل إذا عملته دخلت الجنة. قال : ((تعبد الله لا تشرك به شيئاً ، وتقيم الصلاة المكتوبة ، وتؤدي الزكاة المفروضة ، وتصوم رمضان . قال : والذي نفسي بيده لا أزيد على هذا . فلما ولى قال النبي صلى الله عليه وسلم : من سره أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا )) متفق عليه (2).
عن أبي قتادة – رضي الله عنه - : أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : كيف تصوم ؟ فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما رأى عمر -رضي الله عنه- غضبه ، رضينا بالله رباً ، وبالإسلام ديناً ، وبمحمد نبياً ، نعوذ بالله من غضب الله وغضب رسوله ، فجعل عمر -رضي الله عنه-يردد هذا الكلام حتى سكن غضبه....ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( ثلاث من كل شهر ، ورمضان إلى رمضان ، فهذا صيام الدهر كله ...... الحديث ))(3).
__________
(1) - رواه البخاري في صحيحه المطبوع مع فتح الباري (1/92) ، كتاب الصوم، حديث رقم (37) .ورواه مسلم في صحيحه (1/523) ، كتاب صلاة المسافرين ، حديث رقم (759) .
(2) - رواه البخاري في صحيحه المطبوع مع فتح الباري (3/261) ،كتاب الزكاة، حديث رقم (1397) .ورواه مسلم في صحيحه (1/44) ، كتاب الإيمان ، حديث رقم (14) .
(3) - رواه أحمد في مسنده ( 5/297) . ورواه مسلم في صحيحه (3/818، 819) كتاب الصيام ، حديث رقم (1162) . ورواه أبو داود في سننه (3/ 807، 808) كتاب الصوم ، حديث رقم ( 2425) . ورواه النسائي في سننه (4/209)كتاب الصيام ، باب صوم ثلثي الدهر ..ورواه ابن خزيمة في صحيحه (3/ 301) كتاب الصيام، حديث رقم (2126) ، مختصراً.(22/307)
عن أبي أيوب الأنصاري -رضي الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ((من صام رمضان ثم أتبعه ستاً من شوال كان كصيام الدهر ))(1).
عن أبي هريرة – رضي الله عنه- قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( أفضل الصيام بعد رمضان ، شهر الله المحرم ، وأفضل الصلاة بعد الفريضة ، صلاة الليل ))(2).
عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( رغم أنف رجل ذكرت عنده فلم يصلِّ علىَّ ، ورغم أنف رجل دخل عليه رمضان ثم انسلخ قبل أن يغفر له، ورغم أنف رجل أدرك أبواه فلم يدخلاه الجنة))(3).
__________
(1) -رواه أحمد في مسنده (5/417) ،. ورواه مسلم في صحيحه (2/822) كتاب الصيام ، حديث رقم (1164) . ورواه أبو داود في سننه (2/812، 813) كتاب الصوم ، حديث رقم (2433) ، ورواه الترمذي في سننه (4/129، 130) ، أبواب الصوم ، حديث رقم (756) .وقال :حديث حسن صحيح . ورواه ابن ماجه في سننه (1/547) كتاب الصيام ، حديث رقم (1716) .
(2) - رواه الإمام أحمد في مسنده ( 2/ 303) . ورواه مسلم في صحيحه (3/821) كتاب الصيام ، حديث رقم (1163) . ورواه أبو داود في سننه (2/ 811) كتاب الصوم ، حديث رقم ( 2429) . ورواه الترمذي في سننه مختصراً (2/12) أبواب الصوم ، حديث رقم (737) .وقال : حديث حسن . ورواه النسائي في سننه (3/206، 207)كتاب قيام الليل .باب فضل صلاة الليل. ورواه ابن خزيمة في صحيحه (3/281) أبواب صوم التطوع ، حديث رقم (2076) .
(3) - رواه الإمام أحمد في مسنده ( 2/ 254) . ورواه الترمذي في سننه (5/210) أبواب الدعوات ، حديث رقم (3613) . وقال : حديث حسن غريب ، واللفظ له . ورواه ابن خزيمة في صحيحه (3/192، 193) حديث رقم (1888) .ورواه الحاكم في المستدرك (4/ 153، 154) كتاب البر والصلة ، عن كعب بن عجرة بلفظ آخر ، وقال : هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ، ووافقه الذهبي في تلخيصه .(22/308)
عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال :قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(( من آمن بالله وبرسوله ، وأقام الصلاة ، وصام رمضان ، كان حقاً على الله أن يدخله الجنة جاهد في سبيل الله، أو جلس في أرضه التي ولد فيها ....الحديث))(1).
عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنه قال : ((كان النبي صلى الله عليه وسلم أجود الناس بالخير، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل-عليه السلام- يلقاه كل ليل في رمضان حتى ينسخ، يعرض عليه النبي صلى الله عليه وسلم القرآن ، فإذا لقيه جبريل -عليه السلام- كان أجود بالخير من الريح المرسلة )) متفق عليه (2).
عن ابن عباس – رضي الله عنهما - : (( لما رجع النبي صلى الله عليه وسلم من حجته قال لأم سنان الأنصارية :((ما منعك من الحج ؟ قالت : أبو فلان تعني زوجها – كان له ناضحان(3) حج على أحدهما والآخر يسقي أرضاً لنا .قال : فإن عمرة في رمضان تقضي(4) حجة معي )) متفق عليه (5).
__________
(1) - رواه الإمام أحمد في مسنده ( 2/ 335) . ورواه البخاري في صحيحه المطبوع مع فتح الباري (6/11) كتاب الجهاد ، حديث رقم (2790).
(2) - رواه البخاري في صحيحه المطبوع مع فتح الباري(4/116) كتاب الصوم، حديث رقم (1902).ورواه مسلم في صحيحه(2/1803) كتاب الفضائل، حديث رقم(2308)
(3) - النواضح : الأبل التي يستقى عليها ، وأحدهما : ناضح . يراجع : النهاية في غريب الحديث والآثر (5/69) ، باب النون مع الضاد .
(4) - تقضي بمعنى تعدل ، ورواية مسلم لهذا الحديث بهذا اللفظ (( فإن عمرة فيه تعدل حجة )) .
(5) - رواه البخاري في صحيحه المطبوع مع فتح الباري(4/73،72)كتاب جزاء الصيد،حديث رقم(1863).ورواه مسلم في صحيحه(1/44)كتاب الحج،حديث رقم (1256)(22/309)
عن معاذ بن جبل -رضي الله عنه- قال:(( كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر، فأصبحت يوماً قريباً منه ونحن نسير ، فقلت: يا نبي الله أخبرني بعمل يدخلني الجنة ويباعدني من النار. قال :((لقد سألت عن عظيم وإنه ليسير على من يسره الله عليه، تعبد الله ولا تشرك به شيئاً، وتقيم الصلاة ، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت ....الحديث))(1)
رابعاً : صلاة التراويح :
عن عائشة أم المؤمنين-رضي الله عنها- ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى ذات ليلة في المسجد فصلى بصلاته ناس ، ثم صلى من القابلة فكثر ، ثم اجتمعوا من الليلة الثالثة أو الرابعة فلم يخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما أصبح قال: (( قد رأيت الذي صنعتم، ولم يمنعني من الخروج إليكم إلا أني خشيت أن تفرض عليكم وذلك في رمضان )). متفق عليه(2). وفي رواية (( ولكني خشيت أن تفرض عليكم فتعجزوا عنها)) (3).
__________
(1) - رواه الإمام أحمد في مسنده ( 5/ 231) . ورواه الترمذي في سننه (4/124، 125) أبواب الإيمان ، حديث رقم (2749) . وقال : حديث حسن صحيح ،ورواه ابن ماجه في سننه (2/1314، 1315) كتاب الفتن ، حديث رقم (3973) . ورواه الحاكم في مستدركه (2/ 76) كتاب الجهاد ، وقال : هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ، ووافقه الذهبي في تلخيصه .
(2) - رواه البخاري في صحيحه المطبوع مع فتح الباري(3/10) كتاب التهجد ، حديث(1129) ورواه مسلم في صحيحه( 1/524) كتاب صلاة المسافرين، حديث رقم (761)
(3) - رواه البخاري في صحيحه المطبوع مع فتح الباري (4/250،251) كتاب صلاة التراويح ، حديث (2012) ورواه مسلم في صحيحه( 1/524) ، كتاب صلاة المسافرين ، حديث رقم (761) (178) .(22/310)
عن أبي سلمة بن عبد الرحمن أنه سأل عائشة – رضي الله عنها - : كيف كان صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان ؟ فقالت : ((ما كان يزيد في رمضان ولا في غيره على أحد عشرة ركعة، يصلي أربعاً فلا تسأل عن حسنهن وطولهن ، ثم يصلى أربعاً فلا تسأل عن حسنهن وطولهن ، ثم يصلى ثلاثاً . فقلت : يا رسول الله أتنام قبل أن توتر ؟ قال : ((يا عائشة إن عيني تنامان ، ولا ينام قلبي )) . متفق عليه(1) .
عن عبد الرحمن بن عبد القادرّي أنه قال :((خرجت مع عمر بن الخطاب-رضي الله عنه- ليلة في رمضان إلى المسجد، فإذا الناس أوزاع متفرقون يصلي الرجل لنفسه ، ويصلي الرجل فيصلي بصلاته الرهط ، فقال عمر: إني أرى لو جمعت هؤلاء على قارئ واحد لكان أمثل ، ثم عزم فجمعهم على أُبي بن كعب ، ثم خرجت معه ليلة أخرى والناس يصلون بصلاة قارئهم ، قال عمر: نعم البدعة هذه ، والتي ينامون عنها أفضل من التي يقومون -يريد آخر الليل- وكان الناس يقومون أوله ))(2) .
خامساً : العشر الأواخر :
عن عائشة - رضي الله عنها- قالت ((كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر شد مئزره ، وأحيا ليله ، وأيقظ أهله )) متفق عليه(3).
__________
(1) - رواه البخاري في صحيحه المطبوع مع فتح الباري (4/251) كتاب صلاة التراويح ، حديث (2012)ورواه مسلم في صحيحه( 1/509) ،كتاب صلاة المسافرين، حديث رقم (738).
(2) - رواه مالك في الموطأ (1/114، 115) كتاب الصلاة في رمضان ، حديث رقم (3) . ورواه البخاري في صحيحه المطبوع مع فتح الباري(4/250) كتاب صلاة التراويح ، حديث (2010) . ورواه البيهقي في سننه (2/493) كتاب الصلاة ، باب قيام شهر رمضان .
(3) - رواه البخاري في صحيحه المطبوع مع فتح الباري (4/269) كتاب فضل ليلة القدر ، حديث (2024) ورواه مسلم في صحيحه( 2/832) ، كتاب الاعتكاف ، حديث رقم (1174).(22/311)
عن عائشة-رضي الله عنها-قالت((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجتهد في العشر الأواخر، مالا يجتهد في غيره))(1)
سادساً : الاعتكاف :
عن أبي سلمة قال : انطلقت إلى أبي سعيد الخدري فقلت : ألا تخرج بنا إلى النخل نتحدث ؟ فخرج . فقال : قلت : حدثني ما سمعت من النبي صلى الله عليه وسلم في ليلة القدر ؟ قال : (( اعتكف رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر الأول من رمضان واعتكفنا معه ، فأتاه جبريل فقال : إن الذي تطلب أمامك . قام النبي صلى الله عليه وسلم خطيباً صبيحة عشرين من رمضان فقال : (( من كان اعتكف مع النبي صلى الله عليه وسلم فليرجع فإني أريت ليلة القدر، وإني نُسّتُها ، وإنها في العشر الأواخر في وتر ، وإني رأيت كأني أسجد في طين وماء . وكان سقف المسجد جريد النخل، وما نرى في السماء شيئاً ، فجاءت قزعة فأمرنا ، فصلى بنا النبي صلى الله عليه وسلم حتى رأيت أثر الطين والماء على جبهة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأرنبته تصديق رؤياه )) متفق عليه(2).
__________
(1) - رواه الإمام أحمد في مسنده ( 6/ 82) . ورواه مسلم في صحيحه (2/832) كتاب الاعتكاف، حديث رقم (1175) . ورواه الترمذي في سننه (2/146) أبواب الصوم ، حديث رقم (793) .وقال : هذا حديث غريب حسن صحيح. ورواه أبن ماجه في سننه (1/ 562) كتاب الصيام ، حديث رقم ( 1767) . ورواه ابن خزيمة في صحيحه (3/342) كتاب الصيام ، حديث رقم (2215) .
(2) - رواه البخاري في صحيحه المطبوع مع فتح الباري (2/298) كتاب الأذان ، حديث (813) ورواه مسلم في صحيحه( 2/824) ، كتاب الصيام ، حديث رقم (1164).(22/312)
عن عائشة – رضي الله عنها – زوج النبي صلى الله عليه وسلم: (( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان ، حتى توفاه الله تعالى ، ثم اعتكف أزواجه من بعده )) متفق عليه .(1)
عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنه- قال ((أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان )) متفق عليه .(2)
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال((كان النبي صلى الله عليه وسلم يعتكف في كل رمضان عشرة أيام، فلما كان العام الذي قبض فيه اعتكف عشرين يوماً )).(3)
__________
(1) - رواه البخاري في صحيحه المطبوع مع فتح الباري (4/271) كتاب الاعتكاف ، حديث رقم (2026) . ورواه مسلم في صحيحه (2/831) كتاب الاعتكاف ، حديث رقم (1172)(5).
(2) - رواه البخاري في صحيحه المطبوع مع فتح الباري (4/271) كتاب الاعتكاف ، حديث رقم (2025) . ورواه مسلم في صحيحه (2/830) كتاب الاعتكاف ، حديث رقم (1171) .
(3) - رواه الإمام أحمد في مسنده ( 2/ 336) .ورواه البخاري في صحيحه المطبوع مع فتح الباري (4/284) كتاب الاعتكاف ، حديث رقم (2044) . ورواه أبو داود في سننه (2/832) كتاب الصوم، حديث رقم (2466) . ورواه أبن ماجه في سننه(1/ 562) كتاب الصيام ، حديث رقم( 1769) .وزاد فيه ( وكان يعرض عليه القرآن في كل عام مرة ، فلما كان العام الذي قبض فيه عرض عليه مرتين ) ورواه الدارمي في سننه (2/27) كتاب الصيام ، باب اعتكاف النبي صلى الله عليه وسلم .ورواه ابن خزيمة في صحيحه (3/344) أبواب الاعتكاف ، حديث رقم (2221) .(22/313)
عن أبي كعب -رضي الله عنه- ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان ، فسافر سنة فلم يعتكف ، فلما كان العام المقبل اعتكف عشرين يوماً )).(1)
سابعاً : ليلة القدر :
عن عائشة -رضي الله عنها- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((تحروا ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر من رمضان )) متفق عليه .(2)
وفي رواية للبخاري (( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجاور في العشر الأواخر من رمضان ويقول: تحروا ليلة القدر
في الوتر من العشر الأواخر من رمضان )).(3)
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال(( أريت ليلة القدر ، ثم أيقظني بعض أهلي فُنسيتها . فالتمسوها في العشر الغوابر))(4).
__________
(1) - رواه الإمام أحمد في مسنده ( 5/ 141) . ورواه أبو داود في سننه(2/830) كتاب الصوم، حديث رقم (2463) . ورواه الترمذي في سننه (2/148) أبواب الصوم ، حديث رقم (800) .عن أنس بن مالك ،قال : هذا حديث غريب حسن صحيح. ورواه أبن ماجه في سننه(1/ 562) كتاب الصيام ، حديث رقم( 1770) . ورواه الحاكم في المستدرك (1/ 439) كتاب الصوم ، عن أنس بن مالك ، وقال : هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ،ووافقه الذهبي في تلخيصه .وذكر حديث أبي بن كعب كشاهد وحكم عليه بالصحة . ووافقه الذهبي .
(2) - رواه البخاري في صحيحه المطبوع مع فتح الباري (4/259) كتاب فضل ليلة القدر ، حديث رقم (2017) . ورواه مسلم في صحيحه (2/828) كتاب الصيام ، حديث رقم (1169) .
(3) - رواه البخاري في صحيحه المطبوع مع فتح الباري (4/259) كتاب فضل ليلة القدر ، حديث رقم (2020).
(4) - رواه مسلم في صحيحه(2/824)كتاب الصيام ،حديث رقم (1166) . ورواه الدارمي في سننه (2/28) ، كتاب الصيام ، باب في ليلة القدر . ورواه ابن خزيمة في صحيحه (3/333) ، حديث رقم (2119) .(22/314)
عن ابن عباس – رضي الله عنهما - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( التمسوها في العشر الأواخر من رمضان ليلة القدر في تاسعة تبقى ، في سابعة تبقى ، في خامسة تبقي ))(1) .
عن ابن عباس – رضي الله عنهما - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :((هي في العشر الأواخر ، في تسع يمضين ، أو في سبع يبقين ))(2).
عن عبادة بن الصامت -رضي الله عنه- قال : ((خرج النبي صلى الله عليه وسلم ليخبرنا بليلة القدر، فتلاحى(3) رجلان من المسلمين فقال: خرجت لأخبركم بليلة القدر، فتلاحى فلان وفلان فرفعت، وعسى أن يكون خيراً لكم، فالتمسوها في التاسعة والسابعة والخامسة ))(4) .
__________
(1) - رواه الإمام أحمد في مسنده ( 1/ 297) . ورواه البخاري في صحيحه المطبوع مع فتح الباري (4/260) كتاب فضل ليلة القدر ، حديث رقم (2021) . ورواه أبو داود في سنه (1 / 108، 109) كتاب الصلاة ، حديث رقم (1381) .
(2) - رواه الإمام أحمد في مسنده ( 1/ 281) .وفيه (( في سبع يمضين أو سبه يبقين ورواه البخاري في صحيحه المطبوع مع فتح الباري (4/260) كتاب فضل ليلة القدر ، حديث رقم (2022) . واللفظ له
(3) - الملاحاة : التشاجر ورفع الأصوات ، والمراجعة بالقول الذي لا يصلح على حال الغضب . يراجع : التمهيد لابن عبد البر ( 2/201) .
(4) - رواه مالك في الموطأ (1/320) كتاب الاعتكاف ،حديث رقم (13) عن أنس بن مالك ، قال ابن عبد البر في التمهيد (2/200) . هكذا روى ابن مالك هذا الحديث لا خلاف عنه في إسناده ومتنه ......... وإنما الحديث لأنس عن عبادة بن الصامت .ا.هـ . رواه البخاري في صحيحه المطبوع مع فتح الباري (4/267) كتاب فضل ليلة القدر ، حديث رقم (2023) واللفظ له. ورواه الدارمي في سننه (2/27،28) ، كتاب الصيام ، باب في ليلة القدر . ورواه ابن خزيمة في صحيحه (3/334) ، حديث رقم (2198) .(22/315)
عن ا بن عمر – رضي الله عنهما- قال ((أن رجالاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أروا ليلة القدر في المنام في السبع الأواخر ، فمن كان متحريها فليتحرها في السبع الأواخر )) متفق عليه .(1)
عن عبد الله بن أنيس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (( رأيت ليلة القدر ثم أنسيتها ، وأراني صبيحتها أسجد في ماء طين)) ، فمطرنا ليلة ثلاث وعشرين فصلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فانصرف وإن أثر الماء والطين على جبهته وأنفه(2).
عن عيينة بن عبد الرحمن قال : حدثني أبي قال : ذكرت ليلة القدر عند أبي بكرة فقال : ما أنا بملتمسها لشيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا في العشر الأواخر، فإني سمعته يقول :(( التمسوها في تسع يبقين ، أو سبع يبقين، أو خمس يبقين ، أو ثلاث أو آخر ليلة )) . قال : وكان أبو بكرة يصلي في العشرين من رمضان كصلاته في سائر السنة فإذا دخل العشر اجتهد(3) .
__________
(1) - رواه البخاري في صحيحه المطبوع مع فتح الباري (4/256) كتاب فضل ليلة القدر ، حديث رقم (2015) . ورواه مسلم في صحيحه (2/822، 823) كتاب الصيام ، حديث رقم (1165) .
(2) - رواه الإمام أحمد في مسنده ( 3/ 495) . ورواه مسلم في صحيحه (2/827) كتاب الصيام ، حديث رقم (1168) . ورواه ابن خزيمة في صحيحه (3/328) ، حديث رقم (2185، 2186) بلفظ آخر .
(3) - رواه الترمذي في سننه (2/145) أبواب الصوم ، حديث رقم (791) . وقال : هذا حديث حسن صحيح . ورواه ابن خزيمة في صحيحه (3/324) ، حديث رقم (2175) ورواه الحاكم في المستدرك (1/438) كتاب الصوم : هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي في تلخيصه .(22/316)
عن زر بن حبيش قال : سألت أبي بن كعب -رضي الله عنه- فقلت : إن أخاك ابن مسعود يقول : (( من يقم الحول يصب ليلة القدر )) . فقال : - رحمه الله – أراد أن لا يتكل الناس . أما إنه قد علم أنها في رمضان ، وأنها في العشر الأواخر ، وأنها ليلة سبع وعشرين ، ثم حلف لا يستثني أنها ليلة سبع وعشرين . فقلت : بأي شيء تقول ذلك يا أبا المنذر ؟. قال : ((بالعلامة ، أو بالآية التي أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنها تطلع يومئذ لا شعاع لها ))(1) .
__________
(1) - رواه الإمام أحمد في مسنده ( 5/ 130، 131) . ورواه مسلم في صحيحه (2/828) كتاب الصيام ، حديث رقم (762) واللفظ له . ورواه أبو داود في سنه (2 / 106، 107) كتاب الصلاة ، حديث رقم (1378) . رواه الترمذي في سننه (2/145) أبواب الصوم ، حديث رقم (790) . وقال : هذا حديث حسن صحيح . ورواه ابن خزيمة في صحيحه (3/332) ، حديث رقم (2193).(22/317)
عن أبي ذر -رضي الله عنه- قال : (( صمنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم رمضان ، فلم يقم بنا شيئاً من الشهر حتى بقي سبع، فقام بنا حتى ذهب ثلث الليل ، فلما كانت السادسة لم يقم بنا ، فلما كانت الخامسة قام بنا حتى ذهب شطر الليل ، فقلت: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لو نفّلتنا قيام هذه الليلة ، قال : فقال :(( إن الرجل إذا صلى مع الإمام حتى ينصرف حسب له قيام ليلة )). قال : فلما كانت الرابعة لم يقم ، فلما كانت الثالثة جمع أهله ونساءه والناس فقام بنا حتى خشينا أن يفوتنا الفلاح . قال : قلت وما الفلاح ؟ قال : السحور ، ثم لم يقم بنا بقية الشهر ))(1).
ثامناً : الإفطار فيه للمسافر :
عن ابن عباس- رضي الله عنهما- (( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى مكة في رمضان فصام حتى بلغ الكديد(2) أفطر ، فأفطر الناس )) متفق عليه .(3)
__________
(1) - رواه الإمام أحمد في مسنده ( 5/ 159، 160) . بلفظ آخر . ورواه أبو داود في سننه (2 / 105) كتاب الصلاة ، حديث رقم (1375) .واللفظ له . ورواه الترمذي في سننه (2/150) أبواب الصوم ، حديث رقم (803) . وقال : هذا حديث حسن صحيح . ورواه النسائي في سننه (3/202، 203) باب قيام شهر رمضان .ورواه ابن ماجه (1/26،27) باب في فضل قيام شهر رمضان .ورواه ابن خزيمة في صحيحه (3/337، 338) ، حديث رقم (2206).
(2) - الكديد : موضع بالحجاز ، ويوم الكديد من أيام العرب ، وهو : موضع على اثنين وأربعين ميلاً من مكة . يراجع : معجم البلدان (4/442) .
(3) - رواه البخاري في صحيحه المطبوع مع فتح الباري (4/180) كتاب الصوم ، حديث رقم (1944) . ورواه مسلم في صحيحه (2/784) كتاب الصيام ، حديث رقم (1113) . وفيه زيادة : ( وكان صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم يتبعون الأحدث فالأحدث من أمره ) .(22/318)
عن أبي الدرداء -رضي الله عنه- قال : ((خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره في يوم حار، حتى يضع الرجل يده على رأسه من شدة الحر، وما فينا صائم إلا ما كان من النبي صلى الله عليه وسلم وابن رواحة)) متفق عليه(1).
عن أنس بن مالك – رضي الله عنه – قال : (( كنا نسافر مع النبي صلى الله عليه وسلم فلم يعب الصائم على المفطر، ولا المفطر على الصائم )) متفق عليه .(2)
وعلى كثرة ما ورد في فضل شهر رمضان من الأحاديث الصحيحة ، إلا أن هناك بعض الأحاديث الموضوعة في فضل شهر رمضان ، والتي تظهر فيها المبالغة جليه واضحة ، وهذه الأحاديث الموضوعة كثيرة منها :
__________
(1) - رواه البخاري في صحيحه المطبوع مع فتح الباري (4/182) كتاب الصوم ، حديث رقم (1945) . ورواه مسلم في صحيحه (2/790) كتاب الصيام ، حديث رقم (1122) . وفيه : ( خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في شهر رمضان في حر شديد ) .
(2) - رواه البخاري في صحيحه المطبوع مع فتح الباري (4/186) كتاب الصوم ، حديث رقم (1947) . ورواه مسلم في صحيحه (2/787) كتاب الصيام ، حديث رقم (1118) . ولفظه : ( سافرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان .......... ) الحديث .(22/319)
حديث: (( لا تقولوا رمضان فإن رمضان اسم من أسماء الله تعالى، ولكن قولوا شهر رمضان))(1).حديث:((إذا كان أول ليلة من شهر رمضان نادي الجليل رضوان خازن الجنة فيقول: لبيك وسعديك....-وفيه أمره بفتح الجنة وأمر مالك بتغليق النار-))(2) .حديث : (( لو علم العباد ما في رمضان لتمنت أمتي أن يكون رمضان السنة كلها )) (3).حديث :(( إذا كان أول ليلة من شهر رمضان نظر الله إلى خلقه الصيام ، وإذا نظر الله إلى عبد لم يعذبه...)) (4). حديث : (( إن لله تبارك وتعالي ليس بتارك أحداً من المسلمين صبيحة أول يوم من شهر رمضان إلا غفر له)) (5) .حديث: ((إن الله تبارك وتعالى في كل ليلة من رمضان عند الإفطار ألف ألف عتيق من النار)) (6) .حديث: ((لو أذن الله لأهل السموات والأرض أن يتكلموا لبشروا صوام شهر رمضان بالجنة))(7)
__________
(1) - حكم عليه بالوضع : ابن الجوزي في الموضوعات (2/187) . والسيوطي في اللآليء (22/97) . والشوكاني في الفوائد المجموعة ص(87) ، حديث رقم (251) .
(2) - حكم عليه بالوضع : ابن الجوزي في الموضوعات (2/187) . والسيوطي في اللآليء (22/98، 99) . والشوكاني في الفوائد المجموعة ص(87) ، حديث رقم (253) .
(3) - حكم عليه بالوضع : ابن الجوزي في الموضوعات(2/189،188).والسيوطي في اللآليء(22/99،100).والشوكاني في الفوائد المجموعة ص(88)،حديث رقم (254).
(4) - حكم عليه بالوضع : ابن الجوزي في الموضوعات(2/189،190) .والسيوطي في اللآليء (2/100) . والشوكاني في الفوائد المجموعة ص (88) ، حديث رقم (255).
(5) - حكم عليه بالوضع : ابن الجوزي في الموضوعات(2/190) .والسيوطي في اللآليء (2/101) . والشوكاني في الفوائد المجموعة ص (88) ، حديث رقم (256).
(6) - حكم عليه بالوضع : ابن الجوزي في الموضوعات(2/191) .والسيوطي في اللآليء (2/101) . والشوكاني في الفوائد المجموعة ص (89) ، حديث رقم (257).
(7) - حكم عليه بالوضع : ابن الجوزي في الموضوعات(2/191،192) .والسيوطي في اللآليء (2/103) . والشوكاني في الفوائد المجموعة ص (90) ، حديث رقم (258).(22/320)
حديث: ((إذا سلمت الجمعة سلمت الأيام ، وإذا سلم رمضان سلمت السنة))(1).وحديث: (( من أفطر يوماً من رمضان فليهد بدنه ، فإن لم يجد فليطعم ثلاثين صاعاً من تمر للمساكين ))(2). حديث : ((من أفطر يوماً من رمضان من غير رخصة ولا عذر له ، كان عليه أن يصوم ثلاثين يوماً ومن أفطر يومين كان عليه ستون ومن أفطر ثلاثاً كان عليه تسعون يوماً ))(3) .
حديث : (( رجب شهر الله ، وشعبان شهري ، ورمضان شهر أمتي ......))الحديث(4) وحديث: (( من صلى في آخر جمعة من رمضان الخمس الصلوات المفروضة في اليوم والليلة ، قضت عنه ما أخل به من صلاة سنته )) (5).
إلى غير ذلك من الأحاديث الباطلة – والله أعلم - .
************************************
المبحث الثاني
بعض البدع التي تقام في هذا الشهر
__________
(1) - حكم عليه بالوضع : ابن الجوزي في الموضوعات(2/196) .والسيوطي في اللآليء (2/106) . والشوكاني في الفوائد المجموعة ص (94) ، حديث رقم (275).
(2) - حكم عليه بالوضع : ابن الجوزي في الموضوعات(2/191،192) .والسيوطي في اللآليء (2/103) . والشوكاني في الفوائد المجموعة ص (90) ، حديث رقم (258).
(3) - حكم عليه بالوضع : ابن الجوزي في الموضوعات(2/196) .والسيوطي في اللآليء (2/106) . والشوكاني في الفوائد المجموعة ص (95،94) ، حديث رقم (276).
(4) - حكم عليه بالوضع : ابن الجوزي في الموضوعات(2/205) .والصغاني في الموضوعات ص (61)، حديث رقم (129) وابن قيم الجوزية في المنار المنيف ص(95) ، رقم (168) والسيوطي في اللآليء (2/114) .
(5) - حكم عليه بالوضع : الشوكاني في الفوائد المجموعة ص (54) ، حديث رقم (75).(22/321)
شهر رمضان شهر مبارك ، وفضائله كثيرة، وقد شرع فيه من الأعمال والقرب الشيء الكثير، ولكن المبتدعة المعارضين لقوله تعالى:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ }(1) أحدثوا بدعاً في هذا الشهر الفضيل ، وأرادوا بها إشغال الناس عن القرب المشروعة، ولم يسعهم ما وسع رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته -رضوان الله عليهم- ، ومن تبعهم بإحسان من السلف الصالح- رحمة الله عليهم-، الذين كانوا أحرص الناس على الخير -فلا وسع الله عليهم في الدنيا ولا في الآخرة- فزادوا في الدين ما ليس منه ، وشرعوا ما لم يأذن به الله ، ومن هذه البدع :
أولاً : قراءة سورة الأنعام :
مما ابتدع في قيام رمضان في الجماعة ، قراءة سورة الأنعام جميعها في ركعة واحدة ، يخصونها بذلك في آخر ركعة من التراويح ليلة السابع أو قبلها . فعل ذلك ابتداعاً بعض أئمة المساجد الجهال مستشهداً بحديث لا أصل له عند أهل الحديث ، ولا دليل فيه أيضاً، إنما يروى موقوفاً على علي وابن عباس، وذكره بعض المفسرين مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم في فضل سورة الأنعام بإسناد مظلم عن أبي بن كعب -رضي الله عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( نزلت سورة الأنعام جملة واحدة يشيعها سبعون ألف ملك ، لهم زجل بالتسبيح والتحميد ))(2). فاغتر بذلك من سمعه من عوام المصلين .
__________
(1) -سورة المائدة ، الآية : 3.
(2) - قال الهيثمي في مجمع الزوائد (7/19، 20) . ورواه الطبراني في الصغير وفيه يوسف بن عطية الصفار وهو ضعيف .ا.هـ . قلت : قال ابن حجر في التقريب (2/381) متروك . وروى الحاكم في المستدرك (2/314، 315) كتاب التفسير ، عن جابر – رضي الله عنه –( لقد شيع هذه السورة من الملائكة ما سد الأفق ) . وقال : هذا حديث صحيح على شرط مسلم . قال الذهبي : وأظن هذا موضوعاً .(22/322)
وعلى فرض صحة الحديث فليس فيه دلالة على استحباب قراءتها في ركعة واحدة ، بل هي من جملة سور القرآن ، فيستحب فيها ما يستحب في سائر السور ، والأفضل لمن استفتح سورة في الصلاة وغيرها أن لا يقطعها بل يتمها إلى آخرها ، وهذه كانت عادة السلف(1) .
وورد غي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ سورة الأعراف في صلاة المغرب (2) ، وإن كان فرقها في الركعتين .
وكذلك ما ثبت في الصحيحين عن جابر -رضي الله عنه- أنه قال: ((أقبل رجل بناضحين -وقد جنح الليل- فوافق معاذاً يصلي، فترك ناضحه وأقبل على معاذ ، فقرأ بسورة البقرة -أو النساء- فانطلق الرجل، وبلغه أن معاذاً نال منه ، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فشكا إليه معاذ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ((يا معاذ ، أفتّان أنت- أو أفاتن أنت- أو أفاتن- ثلاث مرات، فلولا صليت بسبح اسم ربك الأعلى، والشمس وضحاها ، والليل إذا يغشى، فإنه يصلي وراءك الكبير والضعيف وذو الحاجة))(3).
فكون قراءة سورة الأنعام كلها في ركعة واحدة في صلاة التراويح بدعة ، ليس من جهة قرائتها كلها ، بل من وجوه أخرى :
الأول : تخصيص ذلك بسورة الأنعام دون غيرها من السور، فيوهم ذلك أن هذا هو السنة فيها دون غيرها، والأمر بخلاف ذلك.
الثاني : تخصيص ذلك بصلاة التراويح دون غيرها من الصلاة ، وبالركعة الأخيرة منها دون ما قبلها من الركعات .
__________
(1) - يراجع : الباعث لأبي شامة ص(82، 83) .
(2) - رواه البخاري في صحيحه المطبوع مع فتح الباري (2/246) كتاب الأذان حديث رقم (764) .مختصراً . ورواه أبو داود في سننه (1/509) كتاب الصلاة ، حديث رقم (812). ورواه النسائي في سننه (2/170) باب القراءة في المغرب بـ { آلمص } .
(3) - رواه البخاري في صحيحه المطبوع مع فتح الباري (2/200)كتاب الأذان حديث رقم(705).ورواه مسلم في صحيحه (1/ 339، 340)كتاب الصلاة،حديث رقم (465).(22/323)
الثالث : ما فيه من التطويل على المأمومين ، ولاسيما من يجهل أن ذلك من عادتهم ، فينشب في تلك الركعة ، فيقلق ويضجر ويتسخط بالعبادة .
الرابع : ما فيه من مخالفة السنة من تقليل القراءة في الركعة الثانية عن الأولى ، فقد ثبت في الصحيحين (( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الركعتين الأوليين من صلاة الظهر بفاتحة الكتاب وسورتين يطول في الأولى ، ويقصر في الثانية ، ويسمع الآية أحياناً ..... وكان يطول في الركعة الأولى من صلاة الصبح ويقصر في الثانية ))(1).
وقد عكس صاحب هذه البدعة الأمر ، فإنه يقرأ في الركعة الأولى نحو آيتين من آخر سورة المائدة ، ويقرأ في الثانية سورة الأنعام كلها ، بل يقرأ في تسع عشرة ركعة نحو نصف حزب المائدة، ويقرأ في الركعة الموفية عشرين بنحو حزب ونصف حزب، وفي هذا ما فيه من البدعة ومخالفة الشريعة(2) .
وسئل شيخ الإسلام ابن تيمية-رحمة الله- عما يصنعه أئمة هذا الزمان من قراءة سورة الأنعام في رمضان في ركعة واحدة ليلة الجمعة هل هي بدعة أم لا ؟ .
فأجاب – رحمة الله – ( نعم بدعة ، فإنه لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من الصحابة والتابعين ، ولا غيرهم من الأئمة أنهم تحروا ذلك ، وإنما عمدة من يفعله ما نقل عن مجاهد وغيره من أن سورة الأنعام نزلت جملة مشيعة بسبعين ألف ملك فاقرأوها جملة لأنها نزلت جملة ، وهذا استدلال ضعيف ، وفي قرائتها جملة من الوجوه المكروهة أمور منها :
__________
(1) - رواه البخاري في صحيحه المطبوع مع فتح الباري (2/243) كتاب الأذان حديث رقم(759) . ورواه مسلم في صحيحه (1/ 333) كتاب الصلاة،حديث رقم (451).
(2) - يراجع : الباعث ص(83) .(22/324)
أن فاعل ذلك يطول الركعة الثانية من الصلاة على الأولى تطويلاً فاحشاً والسنة تطويل الأولى على الثانية كما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم ومنها : تطويل آخر قيام الليل على أوله . وهو بخلاف السنة ، فإنه كان يطول أوائل ما كان يصليه من الركعات على أواخرها ، والله أعلم )(1) .ا.هـ .
ثانياً : بدعة صلاة التراويح بعد المغرب :
وهذه البدعة من فعل الرافضة، لأنهم يكرهون صلاة التراويح، ويزعمون أنها بدعة(2) أحدثها عمر بن-رضي الله عنه-، ومعروف موقفهم من عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- فيدخل في ذلك ما يزعمون أنه أحدثه .
فإذا صلوها قبل العشاء الآخرة لا تكون هي صلاة التراويح(3).
وقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: عن من يصلي التراويح بعد المغرب: هل هو سنة أم بدعة؟ وذكروا أن الإمام الشافعي – رحمه الله – صلاها بعد المغرب ، وتممها بعد العشاء الآخرة؟ .
__________
(1) - يراجع : مجموع الفتاوى ص(23/121) .
(2) - يراجع : مختصر التحفة الاثنى عشرية للألوسي ص(255) .
(3) - يراجع :الفتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (23/120) .(22/325)
فأجاب -رحمة الله– (الحمد لله رب العالمين. السنة في التراويح أن تصلى بعد العشاء الآخر، كما اتفق على ذلك السلف والأئمة. والنقل المذكور عن الشافعي-رحمة الله- باطل، فما كان الأئمة يصلونها إلا بعد العشاء على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وعهد خلفائه الراشدين، وعلى ذلك أئمة المسلمين، لا يعرف عن أحد أنه تعمد صلاتها قبل العشاء ، فإن هذه تسمى قيام رمضان ،كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : (( إن الله فرض عليكم صيام رمضان ، وسننت لكم قيامه ، فمن صامه وقامه غفر له ما تقدم من ذنبه ))(1) .وقيام الليل في رمضان وغيره إنما يكون بعد العشاء ، وقد جاء مصرحاً به في السنن (( أنه لما صلى بهم قيام رمضان صلى بعد العشاء ))(2)
__________
(1) - رواه أحمد في مسنده (1/191) . ورواه النسائي في سننه (4/158)، باب ثواب من قام رمضان وصامه إيماناً واحتساباً . ورواه ابن ماجه في سننه (1/421) كتاب إقامة الصلاة ، حديث رقم (1328) . ورواه ابن خزيمة في صحيحه (3/335) حديث رقم (2201) . وقال : ( أما خبر من صامه وقامه إلى آخر الخبر فمشهور من حديث أبي سلمة عن أبي هريرة ، ثابت لاشك فيه ، ولا ارتياب في ثبوته أول الكلام ، وأما الذي يكره ذكره النضر بن شيبان عن أبي سلمة عن أبيه ، فهذه اللفظة معناها صحيح من كتاب الله عز وجل وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم لا بهذا الإسناد ، فإني خائف أن يكون هذا الإسناد وهماً ، أخاف أن يكون أبو سلمة لم يسمع من أبيه شيئاً ، وهذا الخبر لم يروه عن أبي سلمة أحد أعلمه غير النضر بن شيبان ) ا.هـ . وقال البنا في الفتح الرباني (9/245): وفي إسناده النضر بن شيبان وهو :ضعيف ، قلت : قال ابن حجر في التقريب : النضر بن شيبان الحداني لين الحديث ........ يراجع : تقريب التهذيب (2/301) ترجمة رقم (88) .
(2) - لم أقف عليه فيما اطلعت عليه من كتب الحديث ، ولكن عموم بعض الأحاديث الواردة في صلاة التراويح تدل على أنها كانت بعد صلاة العشاء كما في حديث أبي ذر المتقدم في هذا الكتاب .(22/326)
.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم قيامه بالليل هو وتره ، يصلي بالليل في رمضان وغير رمضان إحدى عشرة ركعة ، أو ثلاث عشرة ركعة ، لكن كان يصليها طوالاً ، فلما كان ذلك يشق على الناس قام بهم أُبي بن كعب في زمن عمر بن الخطاب عشرين ركعة ، يوتر بعدها ، ويخفف فيها القيام ، فكان تضعيف العدد عوضاً عن طول القيام ، وكان بعض السلف يقوم أربعين ركعة فيكون قيامها أخف ، ويوتر بعدها بثلاث ، وكان بعضهم يقوم بست وثلاثين ركعة يوتر بعدها ، وقيامهم المعروف عنهم بعد العشاء الآخر ..... فمن صلاه قبل العشاء فقد سلك سبيل المبتدعة المخالفين للسنة ، والله أعلم ) ا.هـ(1) .
ثالثاً : بدعة صلاة القدر :
وصفتها : أنهم يصلون بعد التراويح ركعتين في الجماعة، ثم في آخر الليل يصلون تمام مائة ركعة ، وتكون هذه الصلاة في الليلة التي يظنون ظناً جازماً ليلة القدر ، ولذلك سميت بهذا الاسم .
وسئل شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- عن حكمها ، وهل المصيب من فعلها أو تركها ؟ وهل هي مستحبة عن أحد من الأئمة أو مكروهة ، وهل ينبغي فعلها والأمر بها أو تركها والنهي عنها ؟ .
فأجاب -رحمه الله- ( الحمد لله ، بل المصيب هذا الممتنع من فعلها والذي تركها ، فإن هذه الصلاة لم يستحبها أحد من أئمة المسلمين ، بل هي بدعة مكروهة باتفاق الأئمة ، ولا فعل هذه الصلاة لا رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أحد من الصحابة، ولا التابعين ، ولا يستحبها أحد من أئمة المسلمين ، والذي ينبغي أن تترك وينهى عنه ) ا. هـ(2) .
رابعاً :بدعة القيام عند ختم القرآن في رمضان بسجدات القرآن كلها في ركعة :
قال أبو شامة : (وابتدع بعضهم أيضاً جمع آيات السجدات ، يقرأ بها في ليلة ختم القرآن وصلاة التراويح ، ويسبح بالمأمومين في جميعها )(3).
__________
(1) - يراجع : مجموع الفتاوى ص(23/119-121) .
(2) - يراجع : مجموع الفتاوى ص(23/122) .
(3) - يراجع : الباعث ص(83) .(22/327)
وقال ابن الحاج: (وينبغي له –الإمام- أن يتجنب ما أحدثه بعضهم من البدع عند الختم، وهو أنهم يقومون بسجدات القرآن كلها فيسجدونها متوالية في ركعة واحدة أو ركعات. فلا يفعل ذلك في نفسه وينهى عنه غيره، إذاً أنه من البدع التي أحدثت بعد السلف . وبعضهم يبدل مكان السجدات قراءة التهليل على التوالي ، فكل آية فيها ذكر (لا إله إلا الله ) أو (لا إله إلا هو) قرأها إلى آخر الختمة ، وذلك من البدع أيضاً )(1).ا.هـ .
وقال ابن النحاس: (ومنها -البدع والمنكرات- القيام عند ختم القرآن في رمضان بسجدات القرآن كلها في ركعة أو ركعات ، أو الآيات المشتملة على التهليل من أول القرآن إلى آخره ، وهذا كله بدعة أحدثت، فينبغي أن تُغير وتُرد ، لقوله صلى الله عليه وسلم : (( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد ))(2)ا.هـ.(3)
خامساً : بدعة سرد آيات الدعاء :
ومن البدع التي أحدثت في رمضان بدعة سرد جميع ما في القرآن من آيات الدعاء ، وذلك في آخر ركعة من التراويح ، بعد قراءة سورة الناس فيطول الركعة الثانية على الأولى ، مثل تطويل بقراءة سورة الأنعام .
وكذلك الذين يجمعون آيات يخصونها بالقراءة ويسمونها آيات الحرس ولا أصل لشيء من ذلك، فليعلم الجميع أن ذلك بدعة، وليس شيء منها من الشريعة ، بل هو مما يوهم أنه من الشرع وليس منه(4).
سادساً : بدعة الذكر بعد التسليمتين من صلاة التراويح :
ومما أحدث في هذا الشهر الفضيل : الذكر بعد كل تسليمتين من صلاة التراويح ، ورفع المصلين أصواتهم بذلك ، وفعل ذلك بصوت واحد ، فذلك كله من البدع .
__________
(1) - يراجع : المدخل (2/298) .
(2) - رواه البخاري في صحيحه المطبوع مع فتح الباري(5/301)كتاب الصلح ،حديث رقم (2697).ورواه مسلم في صحيحه (3/1343)كتاب الأقضية ،حديث رقم( 1718)
(3) - يراجع : تنبيه الغافلين ص (331، 332) .
(4) - يراجع : الباعث لأبي شامة ص(84) .(22/328)
وكذلك قول المؤذن بعد ذكرهم المحدث هذا: الصلاة يرحمكم الله. فهذا أمر محدث أيضاً، لم يرو أن النبي صلى الله عليه وسلم فعله ولا أقره . وكذلك الصحابة والتابعون والسلف الصالح ، فالإحداث في الدين ممنوع ، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم ثم الخلفاء بعده ثم الصحابة -رضوان الله عليهم أجمعين- ولم يفعلوا شيئاً من هذا ، فليسعنا ما وسعهم ، فالخير كله في الاتباع ، والشر كله في الابتداع(1) .
سابعاً : بعض بدع ليلة ختم القرآن :
ومما أحدث في هذا الشهر العظيم : رفع الصوت بالدعاء بعد ختم القرآن ، ويكون هذا الدعاء جماعياً ، أو كل يدعو لنفسه، ولكن بصوت عال، مخالفين بذلك قوله تعالى{ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً}(2).وهذا الشهر العظيم موضع خشوع وتضرع وابتهال ، ورجوع إلى سبحانه وتعالى بالتوبة النصوح الصادقة مما قارفه من الذنوب ، والسهو والغفلات والتقصير في الطاعة فينبغي أن يبذل الإنسان جهده، كل على قدر حاله، ويدعو الله بالأدعية الصحيحة المأثورة عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتابعين والسلف الصالح ، والتي تخلو تماماً من دعاء غير الله أو التوسل به .
وسرية الدعاء أحرى للإخلاص فيه ، بعيداً عن الرياء والسمعة ، فعندما رفع الصحابة أصواتهم بالدعاء قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم : ((يا أيها الناس أربعوا على أنفسكم . فإنكم لا تدعون أصمَّ ولا غائباً، إنه معكم، إنه سميع قريب، تبارك اسمه، وتعالى جده ))(3). وفي رواية لمسلم : (( والذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلة أحدكم ))(4) .
__________
(1) - يراجع : المدخل لابن الحاج(2/293، 294) .
(2) - سورة لأعراف: الآية55.
(3) - رواه البخاري في صحيحه المطبوع مع فتح الباري(6/135)كتاب الجهاد ،حديث رقم (2292)، واللفظ له .ورواه مسلم في صحيحه(4/2076) كتاب الذكر والدعاء حديث رقم( 2704) .
(4) - رواها في صحيحه (4/2077)كتاب الذكر والدعاء ،حديث رقم( 2704) ، (46).(22/329)
ومن البدع التي أحدثت في ليلة ختم القرآن :
اجتماع المؤذنين تلك الليلة فيكبرون جماعة في حال كونهم في الصلاة، لغير ضرورة داعية إلى السمع الواحد، فضلاً عن جماعة، بل بعضهم يسمعون ولا يصلون، وهذا فيه ما فيه من القبح والمخالفة لسنة السلف الصالح -رحمه الله عليهم-.
أنه إذا خرج القارئ من الموضع الذي صلى فيه، أتوه ببغلة أو فرس ليركبها، ثم تختلف أحوالهم في صفة ذهابه إلى بيته، فمنهم من يقرأ القرآن بين يديه ، كما يفعلونه أمام جنائزهم من عاداتهم الذميمة ، والمؤذنون يكبرون بين يديه كتكبير العيد .
قال ابن الحاج: ( قال القاضي أبو الوليد بن رشد -رحمه الله تعالى-: كره مالك قراءة القرآن في الأسواق والطرق لوجوه ثلاثة :
أحدها : تنزيه القرآن وتعظيمه من أن يقرأه وهو ماش في الطرق والأسواق، لما قد يكون فيها من الأقذار والنجاسات.
الثاني : أنه إذا قرأ القرآن على هذه الأحوال لم يتدبره حق التدبر .
الثالث : لما يخشي أن يدخله ذلك فيما يفسد نيته )ا.هـ(1) .
سير الفقراء الذاكرين بين يدي القارئ ، إلى أن يصل إلى بيته ، ومنهم من يعوض ذلك بالأغاني ، وهو أشدُّ هذه الأمور وإن كانت كلها ممنوعة .
ضرب الطبل والأبواق والدف أو الطار أمام القارئ أثنا سيره إلى بيته .
وربما جمع بعضهم الأمور السابقة كلها أو أكثرها ، ويكون في ذلك من اللهو واللعب ما هو ضد المطلوب في هذه الليلة ، من الاعتكاف على الخير ، وترك الشر والمباهاة والفخر ونحو ذلك .
عمل بعض أنواع الأطعمة والحلاوات لهذه المناسبة .
زيادة وقود القناديل الكثيرة الخارجة عن الحد المشروع ، ولما في ذلك من إضاعة المال ، والسرف والخيلاء .
استعمال الشمع للوقود في أوان من ذهب أو فضة ، ولا يخفى تحريم استعمالهما لعدم الضرورة إليهما
__________
(1) - يراجع : المدخل (2/301) .(22/330)
تعليق ختمه عند الموضع الذي يختمون فيه، فمنهم من يتخذها من الشقق(1)الحرير الملونة ، ومنهم من يتخذها من غيرها، لكنها ملونة أيضاً، ويعلقون فيها القناديل، وما في ذلك من السرف والخيلاء وإضاعة المال والرياء والسمعة واستعمال الحرير .
ومنم من يستعير القناديل من مسجد آخر وهي وقف عليه ، فلا يجوز إخراجها منه ، ولا استعمالها في غيره .
أن هذا الاجتماع يفضي إلى اجتماع أهل الريب والشك والفسوق ، وممن لا يرضى حاله، حتى جرّ ذلك إلى اختلاط النساء بالرجال في موضع واحد ولا يخفى ما في ذلك من الضرر العظيم .
كثرة اللغط في المسجد ورفع الأصوات فيه والقيل والقال، إذ أنه يكون الإمام في الصلاة، وكثير من الناس يتحدثون ويخوضون في أشياء ينزه المسجد عن بعضها .
اعتقاد بعض العلماء أن هذا الاجتماع بما فيه من البدع ، إظهار لشعائر الإسلام، ولا يخفى ما يجلب هذا الأمر من الضرر العظيم ، وتكثير سواد أهل البدع ، ويكون حضور هؤلاء العلماء حجة إن كانوا قدوة للقوم ، بأن ذلك جائز غير مكروه ، فيقولون : لو كان بدعة لم يحضره العالم فلان ، ولم يرض به . فإنا لله وإنا إليه راجعون . والإثم في هذا من فعله أو أمر به أو استحسنه أو رضي به أو أعان عليه بشيء أو قدر على تغييره فلم يفعل .
إحضار الكيزان وغيرها من أواني الماء في المسجد حين الختم ، فإذا ختم القارئ شربوا ذلك الماء ، ويرجعون به إلى بيوتهم فيسقونه لأهليهم ومن شاءوا على سبيل التبرك ، وهذه بدعة لم تنقل عن أحد من السلف-رحمة الله عليهم- .
__________
(1) - الشُّقَّة بالضم : معروفة من الثياب السببية المستطيلة ، والجمع شقاق وشقق ، فالشقة جنس من الثياب . يراجع : لسان العرب (10/ 184) ، مادة (شقق) .(22/331)
تواعدهم للختم ، فيقولون : فلان يختم في ليلة كذا وفلان يختم في ليلة كذا ، ويعرض ذلك بعضهم على بعض ، ويكون ذلك بينهم بالنوبة – أي بالتناوب-، حتى صار ذلك كأنه ولائم تعمل ، وشعائر تظهر ، فلا يزالون كذلك غالباً من انتصاف شهر رمضان إلى آخر الشهر ، وهذا أمر محدث لم يؤثر على السلف الصالح -رحمة الله عليهم -(1) .
فهذه بعض المنكرات والبدع التي أحدثت في ليلة الختم، ولما كانت مخالفة لسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وخلفائه، وما عليه السلف الصالح زينها الشيطان وأتباعه في نفوسهم ، وسول لهم الإصرار على فعلها ، وجعل ذلك من شعائر الدين ، ولو فرضنا جدلاً أن هذه الأمور المحدثة مطلوبة شرعاً لأدعى هؤلاء المبتدعة المشقة في فعلها ، وعجزهم عنها ، ولتهاونوا بها ، ولكن صدق الله العظيم القائل في محكم كتابه : { أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ}(2). – والله أعلم -.
ثامناً : بدعة التسحير :
التسحير من الأمور المحدثة التي لم تكن على عهده صلى الله عليه وسلم ولم يأمر به ، وليس من فعل الصحابة أو التابعين أو السلف الصالح -رحمة الله عليهم أجمعين- ولأجل أنه أمر محدث اختلفت فيه عوائد الناس ، ولو كان مشروعاً ما اختلفت فيه عوائدهم .
__________
(1) - يراجع : المدخل لابن الحاج(2/299، 305) .
(2) - سورة فاطر:8.(22/332)
ففي الديار المصرية يقول المؤذنون بالجامع: تسحروا كلوا واشربوا أو ما أشبه ذلك ، ويقرؤن قوله تعالى{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}(1)الآية.ويكررون ذلك مراراً عديدة،ثم يسقون على زعمهم ويقرؤن قوله تعالى: {إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً}إلى قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً}(2).
والقرآن العزيز ينبغي أن ينزه عن موضع بدعة ، أو على موضع بدعة ، ثم ينشدون في أثناء ذلك القصائد ، ويسحرون أيضاً بالطبلة يطوف بها بعضهم على البيوت ، ويضربون عليها ، هذا الذي مضت عليه عادتهم ، وكل ذلك من البدع(3) .
وأما أهل الإسكندرية(4) ، وأهل اليمن(5)، وبعض أهل المغرب(6)، فيسحرون بدق الأبواب على أصابع البيوت ، وينادون عليهم: قوموا كلوا ، وهذا نوع آخر من البدع نحو ما تقدم .
__________
(1) - سورة البقرة:183.
(2) - سورة الانسان:5- 23.
(3) - يراجع : المدخل لابن الحاج(2/255) .
(4) - الإسكندرية : مدينة كبيرة في شمال مصر على البحر ، اختلف في أول من بناها ، فتحها عمرو بن العاص – رضي الله عنه – سنة 20هـ في خلافة عمر بن الخطاب – رضي الله عنه - . يراجع : معجم البلدان (1/182-189) .
(5) - اليمن :اليمن وما اشتمل عليه حدودها بين عُمان إلى نجران ، ويدخل في ذلك عدن والشحر ، وما يقع وراء تثليث ، وتسمى اليمن الخضراء لكثرة أشجارها وزروعها . يراجع : معجم البلدان (5/447-448) .
(6) - المغرب:ضد المشرق : : وهي بلاد واسعة كبيرة وكثيرة ، حدها من مدينة مليانة وهي آخر حدود أفريقيا إلى آخر جبال السوس التي وراءها البحر المحيط ، وتدخل فيه جزيرة الأندلس ، وطول هذا البر مسيرة شهرين . يراجع : معجم البلدان (5/161) .(22/333)
وأما أهل الشام(1) فإنهم يسحرون بدق الطار والغناء والرقص واللهو واللعب ، وهذا شنيع جداً ، وهو أن يكون شهر رمضان الذي جعله الشارع صلى الله عليه وسلم للصلاة والصيام ، والتلاوة والقيام ، قابلوه بضد الإكرام والاحترام ، فإنا لله وإنا إليه راجعون .
وأما بعض أهل المغرب فإنهم يفعلون قريباًَ من فعل أهل الشام ، وهو أنه إذا كان وقت السحور عندهم ، ويضربون بالنفير(2)على المنار ، ويكررونه سبع مرات ، ثم بعده يضربون بالأبواق(3) سبعاً أو خمساً ، فإذا قطعوا حرم الأكل إذ ذاك عندهم .
__________
(1) - الشام : من الفرات إلى العريش المتاخم للديار المصرية ، وعرضها من جبل طيء إلى بحر الروم ، وطولها شهر ، وعرضها عشرين يوماً وبها من أمهات المدن ، منبج وحلب وحماة وحمص ودمشق وبيت المقدس ، والمعرة ، وفي الساحل : إنطاكية وطرابلس وعكا وصور وعسقلان وغير ذلك ، وهي خمسة أجناد : جند قنسرين ، و جند دمشق ، وجند الأردن ، وجند فلسطين . وجند حمص ، يراجع : معجم البلدان (3/312) .
(2) - وردت كلمة نفير في كتب المعاجم بمعنى : القوم ينفرون معك ، ويتقدمون في الأمر ، ونفر بمعنى فر وذهب ، وبمعنى ما يحمل على النفور ، وبمعنى النصرة والمدد . يراجع : القاموس المحيط (2/151، 152) ، فصل النون باب الراء . ويراجع : لسان العرب (5/224، 225) ، مادة (نفر) والمراد والله أعلم هي الآلة التي تجمع الناس للحرب أو لأمر ما ، ويكون لها صوت قوي .
(3) - الأبواق : جمع بوق ، والبوق : الذي ينفخ فيه ويزمر . يراجع : لسان العرب ( 10/31) ، مادة (بوق) .(22/334)
والعجيب أنهم يضربون بالنفير والأبواق في الأفراح التي تكون عندهم، ويمشون بذلك في الطرقات، فإذا مروا على باب مسجد سكتوا وأسكتوا ، ويخاطب بعضهم بعضاً بقولهم : احترموا بيت الله تعالى فيكفون حتى يجوزوه ، فيرجعوا إلى ما كانوا عليه ، ثم إذا دخل شهر رمضان، الذي هو شهر الصيام والقيام، والتوبة والرجوع إلى الله تعالى من كل رذيلة، يأخذون فيه النفير والأبواق، ويصعدون بها على المنار في هذا الشهر الكريم ، ويقابلونه بضد ما تقدم ذكره .
وهذا يدل على أن فعل التسحير بدعة بلا شك ولا ريب ، إذ أنها لو كانت مأثورة لكانت على شكل معلوم لا يختلف حالها، في بلد دون آخر كما تقدم .
فيتعين على من قدر من المسلمين عموماً التغيير عليهم ، وعلى المؤذن والإمام خصوصاً ، كل منهم يغير ما في إقليمه إن قدر على ذلك بشرطه ، فإن لم يستطع ففي بلده ، فإن لم يستطع ففي مسجده .
ومسألة التسحير هذه لم تدع ضرورة إلى فعلها وإذ أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد شرع الأذان الأول للصبح دالاً على جواز الأكل والشرب والثاني دالاً على تحريمها ، فلم يبق أن يكون ما يعمل زيادة عليهما إلا بدعة ؛ لأن المؤذنين إذا أذنوا مرتين انضبطت الأوقات وعلمت(1) .
تاسعاً : البدع المتعلقة برؤية هلال رمضان :
ومن المحدثات في شهر رمضان ، ما تفعله العامة في بعض البلدان الإسلامية ، من رفع الأيدي إلى الهلال عند رؤيته يستقبلونه بالدعاء قائلين : ( هل هلالك، جل جلالك، شهر مبارك). نحو ذلك ، مما يعرفه له أصل في الشرع ، بل كان من عمل الجاهلية وضلالاتهم .
__________
(1) - يراجع : المدخل (2/ 255-257) .(22/335)
والذي ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه رأى الهلال قال :(( اللهم أهله علينا باليمن والإيمان، والسلام والإسلام، ربي وربك الله))(1). فما يفعله بعض الناس عند رؤية الهلال من الإتيان بهذا الدعاء ، والاستقبال ورفع الأيدي، ومسح وجوههم بدعة مكروهة لم تعهد في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه-رضوان الله عليهم- ولا السلف الصالح-رحمة الله عليهم(2).
ومن ذلك أيضاً ما تفعله العوام ، وأرباب الطرق(3) من الطواف في أول ليلة من رمضان في العواصم وبعض القرى -المسمى بالرؤية- فإنه لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا أصحابه ولا أحد من السلف الصالح ، مع اشتماله على قراءة الأوراد والأذكار ، والصلوات مع اللغط والتشويش بضرب الطبول ، واستعمال آلات الملاهي ، وزعقات النساء والأحداث وغير ذلك، مما هو مشاهد في بعض البلدان والأقطار الإسلامية(4) .
عاشراً : بدعة حفيظة رمضان :
ومن البدع المنكرة التي أحدثت في هذا الشهر الكريم ، كتب الأوراق التي يسمونها (حفائظ) في آخر جمعة من رمضان ، ويسمون هذه الجمعة بالجمعة اليتيمة ، فيكتبون هذه الأوراق حال الخطبة ، ومما يكتب فيها قولهم ( لا آلاء إلا آلاؤك سميع محيط علمك كعسهلون(5) وبالحق أنزلناه وبالحق نزل ) . ويعتقد هؤلاء الجهال المبتدعة أنها تحفظ من الحرق والغرق والسرقة والآفات .
__________
(1) - رواه أحمد في مسنده (1/162) . ورواه الترمذي في سننه (5/167) ، أبواب الدعوات ، حديث رقم (3515) . وقال : هذا حديث حسن غريب . ورواه الدارمي في سننه (2/4) كتاب الصوم ، باب ما يقال عند رؤية الهلال .
(2) - يراجع : الإبداع لعلي محفوظ ص(303، 304) .
(3) -من الصوفية المخرفين .
(4) - يراجع : الإبداع ص (304) .
(5) - لا شك في أن هذه الكلمة أعجمية .(22/336)
فلا شك في بدعية هذا الأمر، لما في ذلك من الإعراض عن استماع الخطبة بل والتشويش على الخطيب وسامعيه، وذلك ممنوع شرعاً كما لا يخفى ، ولا خير في ذلك ولا بركة ، فإنما يتقبل الله من المتقين لا من المبتدعين .
وقد يكتب فيها كلمات أعجمية قد تكون دالة على مالا يصح ، أو فيها كفر بالله ، ولم ينقل هذا عن أحد من أهل العلم، وذلك- والله أعلم- من بدع الدجالين(1) التي زينهوها للعامة البسطاء الجهال ، ولذلك لا تقع إلا في القرى المتأخرة ، والبلدان التي تكثر فيها البدع ، فيجب النهي عنها ، والتحذير منها ، مثلها في ذلك مثل جميع البدع التي تشغل الناس عما أوجبه الله عليهم من الفروض والواجبات(2).
أحد عشر : بدعة قرع النحاس آخر الشهر :
ومن البدع المحدثة في شهر رمضان بدعة القرع على النحاس(3) ونحوه آخر يوم من رمضان ، عند غروب الشمس ، يأمر الناس بذلك أولادهم ، ويعلمونهم كلمات يقولونها حالة القرع ، تختلف باختلاف البلدان ، ويزعمون أن ذلك يطرد الشياطين التي هاجت في هذا الوقت ، لخروجها من السجن ، وخلاصها من السلاسل التي كانت مقيدة بها في شهر الصوم ، قاتل الله الجهل كيف يؤدي بالناس إلى هذه المهازل(4)
اثنا عشر : بدعة وداع رمضان :
__________
(1) - الدجال : من دجل أو كذب ، لأن الكذب تغطية ، فدجل الشيء تغطيته فالدجال : الكذاب ، وكل كذاب فهو : دجال لأنه يستر الحق بكذبه . أو يدجل الحق بالباطل . يراجع : لسان العرب (11/236، 237) ، مادة (دجل) .
(2) - يراجع : الإبداع ص (177) . والسنن والمبتدعات للشقيري ص(161) .
(3) - النحاس :ضرب من الصفر والآنية شديد الحمرة . يراجع : لسان العرب (11/227) ، مادة (نحس) .
(4) - يراجع : الإبداع ص (430) .(22/337)
ومن البدع المحدثة في شهر رمضان المبارك : أنه إذا بقي من رمضان خمس ليال، أو ثلاث ليال يجتمع المؤذنون، والمتطوعون من أصحابهم ، فإذا فرغ الإمام من سلام وتر رمضان ، تركوا التسبيح المأثور ، وأخذوا يتناوبون مقاطيع منظومة في التأسف على انسلاخ رمضان ، فمتى فرغ أحدهم من نشيد مقطوعة بصوته الجهوري ، أخذ رفقاؤه بمقطوعة دورية ، باذلين قصارى جهدهم في الصيحة والصراخ بضجيج يصم الآذان ، ويسمع الصم ، ويساعدهم على ذلك جمهور المصلين .
ولعلم الناس بأن تلك الليالي هي ليالي الوداع ، ترى الناس في أطراف المساجد ، وعلى سدده(1) وأبوابه ، وداخل صحنه ، النساء والرجال والشباب والولدان ، بحالة تقشعر لقبحها الأبدان ، وقد اشتملت هذه البدعة على عدة منكرات منها .
رفع الأصوات بالمسجد ، وهو مكروه كراهة شديدة .
التغني والتطرب في بيوت الله ، التي لم تشيد إلا للذكر والعبادة .
كون هذه البدعة مجبلة للنساء والأولاد والرعاع ، الذين لا يحضرون إلا بعد انقضاء الصلاة للتفرج والسماع .
اختلاط النساء بالرجال .
هتك حرمة المسجد ، لاتساخه وتبذله بهؤلاء المتفرجين ، وكثرة الضوضاء والصياح من أطرافه ، إلى غير ذلك ، مما لو رآه السلف الصالح لضربوا على أيدي مبتدعيه – وهذا هو الواجب على كل قادر على ذلك – وقاوموا بكل قواهم من أحدث فيه ، نسأل الله تعالى العون على تغيير هذا الحال بمنه وكرمه .
__________
(1) - السدة : كالظلة على الباب ، لتقي الباب عن المطر ، وقيل : هي الباب نفسه ، وقيل : هي الساحة بين يديه . يراجع : لسان العرب (3/209) ، مادة (سدد) .(22/338)
ومن الأمور المحدثة المتعلقة بوداع رمضان، ما يفعله بعض الخطباء في آخر جمعة من رمضان ، من ندب فراقه كل عام ، والحزن على مضيه ، وقوله: لا أوحش الله منك يا شهر كذا وكذا . ويكرر هذه الوحشيات مسجعات مرات عديدة ، ومن ذلك قوله: لا أوحش الله منك يا شهر المصابيح، لا أوحش الله منك يا شهر المفاتيح.فتأمل هدنا الله وإياك لما آلت إليه الخطب، لاسيما خطبة آخر هذا الشهر الجليل ، الناس فيه بحاجة ماسة إلى آداب يتعلمونها لما يستقبلهم من صدقة الفطر ، ومواساة الفقراء ، والاستمرار على ما ينتجه الصوم من الأمور الفاضلة ، والآثار الحميدة ، وتجنب البدع وغير ذلك مما يقتضيه المقام(1) .
ثلاثة عشر : بدعة الاحتفال بذكرى غزوة بدر(2) :
ومما أحدث في هذا الشهر المبارك الاحتفال بذكرى غزوة بدر ، وذلك أنه إذا كامن ليلة السابع عشر من شهر رمضان اجتمع الناس في المساجد وأغلبهم من العامة، وفيهم من يدعي العلم، فيبدأون احتفالهم بقراءة آيات من الكتاب الحكيم،ثم ذكر قصة بدر وما يتعلق بها من الحوادث، وذكر بطولات الصحابة-رضوان الله عليهم- والغلو فيها، وانشاء بعض القصائد المتعلقة بهذه المناسبة.
وفي بعض البلدان الإسلامية تحتفل الدولة رسمياً بهذه المناسبة فيحضر الاحتفال أحد المسئولين فيها .
__________
(1) - يراجع : إصلاح المساجد ص (145، 146) . السنن والمبتدعات ص(165) .
(2) - - بدر : ماء مشهور بين مكة والمدينة أسفل وادي الصفراء بينه وبين ساحل البحر ليلة ، ينسب إلى بدر بن يخلد بن النضر بن كنانة ، وبهذا الماء كانت الوقعة المشهورة التي اظهر الله بها الإسلام ، شهدها من الصحابة – رضوان الله عليهم - . يراجع : معجم البلدان (1/357، 358) .(22/339)
ولا يخفى ما يصاحب هذه الاحتفالات من الأمور المنكرة كالاجتماع في المساجد لغير ما عبادة شرعية، أو ذكر مشروع، وما يصاحب هذه الاجتماعات من اللغط والتشويش ونحو ذلك من الأمور التي تصان بيوت الله عنها ، وكذلك دخول بعض الكفار إلى المسجد كالمختصين منهم في مجال مكبرات الصوت ، أو الإضاءة ، أو الصحافة والإعلام ، وكذلك دخول المصورين للمسجد لتصوير هذه المناسبة ، بالإضافة إلى اعتبار هذا الاجتماع سنة تقام في مثل هذا اليوم ، أو هذه الليلة في كل عام .
فتخصيص هذه الليلة -ليلة السابع عشر من رمضان– بالاجتماع والذكر وإلقاء القصائد ، وجعلها موسماً شرعياً ، ليس له مستند من الكتاب ولا من السنة ، ولم يؤثر عن الصحابة-رضوان الله عليهم- أو التابعين أو السلف الصالح -رحمهم الله- ، أنهم احتفلوا بهذه المناسبة في هذه الليلة أو في غيرها .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله - : (( وللنبي صلى الله عليه وسلم -خطب وعهود ووقائع في أيام متعددة : مثل يوم بدر ، وحنين(1) ، والخندق(2)
__________
(1) - حنين : هو واد قبل الطائف ، بينه وبين مكة بضعة عشر ميلا ، وهو : المواضع الذي هزم فيه الرسول صلى الله عليه وسلم هوازان وذلك سنة 8هـ . يراجع : معجم ما استعجم ص (471، 472) .
(2) - وهي المعروفة بغزوة الخندق أو غزوة الأحزاب وفيها اجتمعت القبائل بتحريض من اليهود على قتال النبي صلى الله عليه وسلم ومن هذه القبائل : قريش وبنو سليم ، وبنو أسد ، وفزارة ، وأشجع ، وبنو مرة ، وكان عددهم عشرة آلاف فلما سمع بهم الرسول صلى الله عليه وسلم استشار الصحابة فآشار عليه سلمان الفارسي- رضي الله عنه – بحفر خندق يحول بين العدو وبين المدينة ، فأمر به الرسول صلى الله عليه وسلم فبادر إليه المسلمون ، وعمل بنفسه فيه ، وكان حفر الخندق أمام جبل سلع الذي كان خلف ظهور المسلمين ، والخندق بينهم وبين الكفار ، وكان عدد المسلمين ثلاثة آلاف ، وكان ذلك سنة 5هـ.
يراجع : زاد المعاد (3/296- 271) .(22/340)
، وفتح مكة(1) ، ووقت هجرته ، ودخوله للمدينة(2) ، وخطب متعددة يذكر فيها قواعد الدين .ثم لم يوجب ذلك أن يتخذ أمثال تلك الأيام أعياداً ، وإنما يفعل مثل هذا النصارى ، الذين يتخذون أمثال أيام حوادث عيسى – عليه السلام – أعياداً ، أو اليهود ، وإنما العيد شريعة ، فما شرعه الله أتبع ، وإلا لم يحدث في الدين ما ليس منه .ا.هـ(3) .
والاشتغال بهذه الأمور وأمثالها من الأمور المحدثة ، سبب في ابتعاد الناس عما شرعه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم لهم من إحياء ليالي رمضان بالصلاة والذكر . ومن أعظم البلاء على المسلمين ترك المشروع وفعل الأمر المحدث المبتدع – والله أعلم - .
*****************************
الفصل السابع
شهر شوال
المبحث الأول : بعض الآثار الواردة فيه .
المبحث الثاني : بدعة التشاؤم من الزواج فيه
المبحث الثالث : بدعة عيد الأبرار .
المبحث الأول
بعض الآثار الواردة فيه
__________
(1) - - مدينة مكة المكرمة : أشهر من أن تعرف فهي قبلة المسلمين ، وبها بيت الله الحرام ، وأشرف بقعة على وجه الأرض . وكان فتح مكة سنة 8هـ .
(2) - المدينة : وكانت تسمى في الجاهلية : يثرب . وهي مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومهاجره، ورد في فضلها وأنها بلد حرام ، أحاديث كثيرة ، عقد لها البخاري كتاباً في صحيحه وسماه كتاب : فضائل المدينة ، وفيها مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم وقبره ومنبره اللذين ورد في أن ما بينهما روضة من رياض الجنة ، وبها استقر خير أمة محمد عليه والسلام من الخلفاء الراشدين والصحابة وبها ماتوا ودُفنوا. وفي شمالها يقع جبل أحد الذي وقعت عنده الغزوة المشهورة غزوة أحد ، وهي في حرة سبخة الأرض ، وبها نخيل كثيرة ومياه ومزارع . وتقع شمال مكة على نحو عشر مراحل (حوالي 450كم) . يراجع : معجم البلدان (5/82، 88) ، وصحيح البخاري (2/220- 255) كتاب فضائل المدينة
(3) - يراجع : اقتضاء الصراط المستقيم (2/614، 615 ) .(22/341)
عن أبي أيوب -رضي الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :(( من صام رمضان ثم أتبعه ستاً من شوال فذلك صيام الدهر ))(1).
عن عائشة -رضي الله عنها-قالت : (( كان النبي صلى الله عليه وسلم يعتكف في العشر الأواخر من رمضان ، فكنت أضرب له خباء فيصلي الصبح ثم يدخله ، فاستأذنت حفصة عائشة أن تضرب خباء ، فأذنت لها فضربت خباء،فلما رأته زينب بنت جحش ضربت خباء آخر، فلما أصبح النبي صلى الله عليه وسلم رأي الأخبية فقال : ما هذا ؟ فأخبر . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : البر ترون بهن؟ فترك الاعتكاف ذلك الشهر ، ثم اعتكف عشراً من شوال )) متفق عليه .(2)
__________
(1) -رواه أحمد في مسنده (5/417) ، واللفظ له . ورواه مسلم في صحيحه (2/822) كتاب الصيام ، حديث رقم (1164) . ورواه أبو داود في سننه (2/812، 813) كتاب الصوم ، (756) ، وقال :حديث حسن صحيح . ورواه ابن ماجه في سننه (1/547) كتاب الصيام ، حديث رقم (1716) . ورواه الدارمي في سننه (2/21) كتاب الصوم ، باب صيام الستة من شوال . ورواه ابن خزيمة في صحيحه (3/297، 298) ، حديث رقم (2114) .
(2) - رواه البخاري في صحيحه المطبوع مع فتح الباري (4/275) كتاب الاعتكاف ، حديث رقم (2023) ، واللفظ له . ورواه مسلم في صحيحه (2/831) كتاب الاعتكاف ، حديث رقم (1173) ، وفيه : (( حتى اعتكف العشر الأول من شوال )) .(22/342)
عن ثوبان -رضي الله عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من صام رمضان فشهر بعشرة أشهر ، وصيام ستة أيام بعد الفطر فذلك تمام صيامه السنة ))(1).
عن عائشة -رضي الله عنها- قالت : (( تزوجني النبي صلى الله عليه وسلم في شوال ، وأدخلت عليه في شوال ، فأي نسائه كانت أحظى عنده مني ))(2). فكانت تستحب أن تدخل نساءها في شوال .
__________
(1) - رواه أحمد في مسنده (5/280) ، واللفظ له .ورواه ابن حبان في صحيحه : يُراجع موارد الظمآن ص (232) كتاب الصيام ، حديث رقم (928) . ورواه ابن ماجه في سننه (1/547) كتاب الصيام ، حديث رقم (1715) . ورواه الدارمي في سننه (2/21) كتاب الصيام ، باب صيام الستة من شوال . ورواه ابن خزيمة في صحيحه (3/298) حديث رقم (2115) . وقال المنذري في مختصر سنن أبي داود (3/308) : أخرجه النسائي وإسناده حسن .ا.هـ .
وقد ذكر ابن قيم الجوزية في تهذيب سنن أبي داود كلاماً مفيداً في الخلاف في حديث أبي أيوب في صيام ستة أيام من شوال ، وتكلَّم عن طرقه ، وحكم بعد ذلك بصحة الحديث ، ثم ذكر الاعتراضات على أحاديث فضل صيام ستة أيام من شوال ، ثم أجاب عن هذه الاعتراضات وهو كلام لا يستغني عنه طالب علم . والله أعلم . يراجع : تهذيب سنن أبي داود لابن قيم الجوزية (3/308-318) .
(2) - رواه أحمد في مسنده (6/54) واللفظ له . ورواه مسلم في صحيحه (2/1039) كتاب النكاح ، حديث رقم (1423) . ورواه الترمذي في سننه (2/277) أبواب النكاح ، حديث رقم (1099) ، وقال : هذا حديث حسن صحيح . ورواه النسائي في سننه (6/70) كتاب النكاح ، باب التزويج في شوال . ورواه ابن ماجه في سننه (1/641) كتاب النكاح ، حديث رقم (1990) .(22/343)
عن عبد الله بن مسلم القرشي عن أبيه قال : سألت – أو سُئِل- النبي صلى الله عليه وسلم عن صيام الدهر، فقال: (( إن لأهلك عليك حقاً ، صم رمضان والذي يليه ، وكل أربعاء وخميس ، فإذاً أنت قد صمت الدهر ))(1).
عن محمد بن إبراهيم : أن أسامة بن زيد -رضي الله عنه- كان يصوم أشهر الحرم ، فقال له رسول صلى الله عليه وسلم : (( صم شوالاً . فترك أشهر الحرم ، ثم لم يزل يصوم شوالاً حتى مات(2) .
عن أبي عبيد مولى ابن أزهر قال شهدت العيد مع عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- فقال: ((هذان يومان نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيامهما : يوم فطركم من صيامكم ، واليوم الآخر تأكلون فيه من نسككم )) . متفق عليه(3) .
__________
(1) - رواه أبو داود في سننه (2/812) كتاب الصوم (2432) ، ورواه الترمذي في سننه (2/125) أبواب الصوم ، حديث رقم (745) ، وقال : حديث غريب . ونسبه المنذري في تهذيب سنن أبي داود (3/308) إلى النسائي . وذكره السيوطي في الجامع الصغير (2/100) حديث رقم (5038) وأشار إلى أنه صحيح .
(2) - رواه ابن ماجه في سننه (1/555) كتاب الصيام ، حديث رقم (1744) ، وقال البوصيري في زوائد ابن ماجه (2/78) باب صيام شوال : (هذا غسناد رجاله ثقات ، وفيه مقال ) ا.هـ . وذكر أن الحديث منقطع بين محمد بن إبراهيم التيمي وبين أسامة بين زيد . ثم قال : (قلت : لم ينفرد محمد هذا عن أسامة ، فقد رواه أبو يعلى الموصلي في مسنده من طريق محمد بن إسحاق عن أبي محمد بن أسامة عن جده أسامة به ، مرفوعاً ، وذكره.وسياقه أتم كما أوردته في زوائد المسانيد العشرة ) ا.هـ .
(3) - رواه البخاري في صحيحه المطبوع مع فتح الباري (4/239) كتاب الصوم،حديث رقم (1991). ورواه مسلم في صحيحه (2/799) كتاب الصيام،حديث رقم (1137).(22/344)
عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: (( نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن صوم يوم الفطر ويوم النحر ..)) الحديث . متفق عليه(1).
عن أبي هريرة -رضي الله عنه- (( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن صيام يومين: يوم الأضحى ويوم الفطر ))(2)
عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال : قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ولهم يومان يلعبون فيهما في الجاهلية ، فقال : (( إن الله تبارك وتعالى قد أبدلكم بهما خيراً منهما يوم الفطر ويوم النحر))(3).
عن ابن عمر- رضي الله عنهما-أنه كان يقول :((من اعتمر في أشهر الحج : في شوال ، أو في ذي القعدة ، أو في ذي الحجة ... )) الخ قوله(4).
__________
(1) - رواه البخاري في صحيحه المطبوع مع فتح الباري (4/238،239) كتاب الصوم،حديث رقم (2).ورواه مسلم في صحيحه (2/799) كتاب الصيام،حديث رقم (1137).
(2) - رواه البخاري في صحيحه المطبوع مع فتح الباري (4/240) كتاب الصوم،حديث رقم (1993).موقوفاً على أبي هريرة . ورواه مسلم في صحيحه (2/799) كتاب الصيام،حديث رقم (1137) مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، واللفظ له.
(3) - رواه أحمد في مسنده (3/103) .ورواه أبو داود في سننه (1/675) كتاب الصلاة ، حديث رقم (1134). ورواه النسائي في سننه (3/180،179) كتاب العيدين . ورواه الحاكم في المستدرك (1/294) كتاب العيدين ، وقال :هذا حديث صحيح على شرط مسلم ،ولم يخرجاه .ووافقه الذهبي في تلخيصه
(4) - رواه مالك في الموطأ (1/344) كتاب الحج ، حديث رقم (62). وروى البخاري في صحيحه (2/150) كتاب الحج ، باب (33) تعلقياً قول ابن عمر : ( أشهر الحج شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة ) .(22/345)
قال ابن عباس -رضي الله عنهما- :(( وأشهر الحج التي ذكر الله تعالى: شوال، وذو القعدة , وذو الحجة...)).ا. هـ(1).
وقد ورد في ليلة عيد الفطر ويومه أحاديث موضوعة ، منها :
حديث :( أن من صلى ليلة الفطر مائة ركعة ، يقرأ في كل ركعة الحمد مرة ، وقل هو الله أحد عشرة مرات ......الخ )(2) . وحديث : ( من صلى يوم الفطر بعدما يصلي عيده أربع ركعات ، يقرأ في أول ركعة بفاتحة الكتاب ... فكأنما قرأ كل كتاب نزله الله على أنبيائه ..... )(3) . وحديث : ( من السنة اثنتا عشرة ركعة بعد عيد الفطر ، وست ركعات بعد عيد الأضحى)(4) . وحديث : ( من أحيا الليالي الأربع وجبت له الجنة : ليلة التروية ، وليلة عرفة ، وليلة النحر ، وليلة الفطر )(5). وحديث : ( من صام صبيحة يوم الفطر فكأنما صام الدهر )(6)
__________
(1) - رواه البخاري في صحيحه (2/154) كتاب الحج ، باب (37) ، من طريق أبي كامل فضيل بن حسين البصري معلقاً . وقال ابن حجر في فتح الباري(3/434):( ويحتمل أيضاً أن يكون أخذه – البخاري – عن أبي كامل نفسه فإنه أدركه ، وهو من الطبقة الوسطى من شيوخه) ا.هـ .
(2) - حكم عليه بالوضع : ابن الجوزي في الموضوعات (2/130، 131) ، والشوكاني في الفوائد المجموعة ص(52) ، حديث رقم (149) .
(3) - حكم عليه بالوضع : ابن الجوزي في الموضوعات (2/131، 132) ، والشوكاني في الفوائد المجموعة ص(52) ، حديث رقم (150) .
(4) - حكم عليه بالوضع : الشوكاني في الفوائد المجموعة ص(52) ، حديث رقم (151) .
(5) - حكم عليه بالوضع : ابن الجوزي في العلل المتناهية (2/78) ، والألباني في سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة (2/12) ، حديث رقم (522) .
(6) - قال ابن الجوزي في العلل (2/57) : ( هذا حديث لا يصح . قال ابن حبان : محمد بن عبد الرحمن يروي عن أبي نسخة شبيهاً بمائتي حديث كلها موضوع لا يجوز الاحتجاج بها . وقال يحيى بن معين : ومحمد بن الحارث ليس بشيء . وقال الفلاس : متروك ) .ا.هـ .
قلت : ولا يصح أيضاً لمخالفته للأحاديث الثابتة الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن صوم يوم الفطر ويوم النحر والتي تقدم ذكرها في هذا الكتاب .(22/346)
، والله أعلم .
****************************************
المبحث الثاني
بدعة التشاؤم من الزواج فيه
قال ابن منظور : (وشوال : من أسماء الشهور معروف ، اسم الشهر الذي يلي رمضان ، وهو أول أشهر الحج ) .
قيل : سمي بتشويل لبن الإبل ، وهو توليه وإدباره ، وكذلك حال الإبل في اشتداد الحر وانقطاع الرطب .....وكانت العرب تطير من عقد المناكح فيه، وتقول : إن المنكوحة تمتنع من ناكحها كما تمتنع طروقة الجمل إذا لقحت وشالت بذنبها، فأبطل النبي صلى الله عليه وسلم طيرتهم، و قالت عائشة-رضي الله عنها-:((تزوجني النبي صلى الله عليه وسلم في شوال، وبنى بي في شوال ، فأي نسائه كانت أحظى عنده مني ))(1).ا.هـ .(2)
فالسبب الذي جعل العرب في الجاهلية يتشاءمون من الزواج في شهر شوال : هو اعتقادهم أن المرأة تمتنع من زوجها كامتناع الناقة التي شولت بذنبها بعد اللقاح من الجمل .
قال ابن كثير-رحمه الله-( وفي دخوله صلى الله عليه وسلم بها – بعائشة- رضي الله عنها- في شوال ردّ لما يتوهمه بعض الناس من كراهية الدخول بين العيدين خشية المفارقة بين الزوجين ، وهذا ليس بشيء ) ا.هـ(3) .
__________
(1) - رواه أحمد في مسنده (6/54) واللفظ له . ورواه مسلم في صحيحه (2/1039) كتاب النكاح ، حديث رقم (1423) . ورواه الترمذي في سننه (2/277) أبواب النكاح ، حديث رقم (1099) ، وقال : هذا حديث حسن صحيح . ورواه النسائي في سننه (6/70) كتاب النكاح ، باب التزويج في شوال . ورواه ابن ماجه في سننه (1/641) كتاب النكاح ، حديث رقم (1990) .
(2) - يراجع : لسان العرب (11/377) مادة (شول ) .
(3) - يراجع البداية والنهاية (3/253) .(22/347)
فالتشاؤم من الزواج في شهر شوال أمر باطل ؛ لأن التشاؤم عموماً من الطيرة التي نهى النبي صلى الله عليه وسلم عنها بقوله: ((لا عدوى ولا طيرة ))(1).وقال – عليه السلام - : ((طيرة شرك))(2).
فمثله مثل التشاؤم بشهر صفر . وقد تقدم الكلام عن ذلك .
قال النووي – رحمه الله – في شرحه لحديث عائشة –رضي الله عنها-: ( فيه استحباب التزويج والتزوج والدخول في شوال، وقد نص أصحابنا على استحبابه ، واستدلُّوا بهذا الحديث .
وقصدت عائشة بهذا الكلام ردُّ ما كانت الجاهلية عليه ، وما يتخيله بعض العوام اليوم،من كراهة التزويج والدخول في شوال، وهذا باطل لا أصل له وهو من آثار الجاهلية ، كانوا يتطيرون بذلك لما في اسم شوال من الإشالة والرفع .......)(3).ا.هـ .
*******************************************
المبحث الثالث
بدعة عيد الأبرار
ومن الأمور المحدثة المبتدعة في شهر شوال : بدعة عيد الأبرار ، وهو اليوم الثامن من شوال .
فبعد أن يتم الناس صوم شهر رمضان ، ويفطروا اليوم الأول من شهر شوال-وهو يوم عيد الفطر- يبدأون في صيام الستة أيام الأول من شهر شوال ، وفي اليوم الثمن يجعلونه عيداً يسمونه عيد الأبرار .
__________
(1) - رواه البخاري في صحيحه المطبوع مع فتح الباري (10/215) كتاب الطب ، حديث رقم (5757) .
(2) - رواه الإمام أحمد في مسنده (1/440) . ورواه أبو داود في سننه (4/230) كتاب الطب ، حديث رقم (3910) . ورواه الترمذي في سننه (3/84، 85) أبواب السير ، حديث رقم (1663) ، وقال : حديث حسن صحيح . ورواه ابن ماجه في سننه (2/1170) كتاب الطب ، حديث رقم (3538) . ورواه الحاكم في المستدرك (1/17، 18) كتاب الإيمان ، وقال : حديث صحيح سنده ، ثقات رواته ولم يخرجاه ، ووافقه الذهبي في تلخيصه .
(3) - يراجع : شرح صحيح مسلم للنووي (9/209) .(22/348)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله - : ( وأما اتخاذ موسم غير المواسم الشرعية كبعض ليالي شهر ربيع الأول التي يقال: إنها ليلة المولد ، أو بعض ليالي رجب ، أو ثامن عشر ذي الحجة ، أو أول جمعة من رجب ، أو ثامن شوال الذي يسميه الجهال عيد الأبرار : فإنها من البدع التي لم يستحبها السلف ، ولم يفعلوها . والله سبحانه وتعالى أعلم ) ا.هـ(1) .
وقال أيضاً : ( وأما ثامن شوال : فليس عيداً لا للأبرار ولا للفجار ، ولا يجوز لأحد أن يعتقده عيداً ، ولا يحدث فيه شيئاً من شعائر الأعياد ) ا.هـ(2) .
ويكون الاحتفال بهذا العيد في أحد المساجد المشهور فيختلط النساء بالرجال ، ويتصافحون ويتلفظون عند المصافحة بالألفاظ الجاهلية ، ثم يذهبون بعد ذلك إلى صنع بعض الأطعمة الخاصة بهذه المناسبة(3) .
***************************************
الفصل الثامن
شهر ذي الحجة
المبحث الأول : بعض الآثار الواردة فيه .
المبحث الثاني : بدعة التعريف .
المبحث الثالث : بدعة عيد غدير خم .
المبحث الأول
بعض الآثار الواردة فيه
عن أبي بكرة – رضي الله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض ، والسنة اثنا عشر شهراً ، منها أربعة حرم : ثلاث متواليات ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان .... )) الحديث . متفق عليه(4) .
__________
(1) - يراجع : مجموعة الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية (25/298) .
(2) - يراجع : الاختيارات الفقهية ص(199) .
(3) - يراجع : السنن والمبتدعات للشقيري ص(166) .
(4) - - رواه البخاري في صحيحه المطبوع مع فتح الباري (10/7) كتاب الأضاحي ، حديث رقم ( 5550) ، ورواه مسلم في صحيحه (3/1305) كتاب القسامة ، حديث رقم (1679).(22/349)
عن أبي بكرة -رضي الله-عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(( شهران لا ينقصان ، شهرا عيد : رمضان وذو الحجة )) متفق عليه(1).
عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- : (( أن رجلاً من اليهود قال له : يا أمير المؤمنين آية في كتابهم تقرؤونها ، لو علينا معشر اليهود نزلت لا تخذنا ذلك اليوم عيداً . قال : أي آية ؟ قال:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً }(2) . قال عمر -رضي الله عنه- قد عرفنا ذلك اليوم والمكان الذي نزلت فيه على النبي صلى الله عليه وسلم وهو قائم بعرفة ، يوم جمعة ))متفق عليه(3).
__________
(1) - رواه البخاري في صحيحه المطبوع مع فتح الباري (4/124) كتاب الصيام ، حديث رقم (1912) . ورواه مسلم في صحيحه (2/766) كتاب الصيام ، حديث رقم (1089) .
(2) -سورة المائدة ، الآية : 3.
(3) - رواه البخاري في صحيحه المطبوع مع فتح الباري (1/ 105) كتاب الإيمان ، حديث رقم (45) .ورواه مسلم في صحيحه (4/ 2312،2313) كتاب التفسير ، حديث رقم (3017) (5)(22/350)
عن ابن عباس – رضي الله عنهما- قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من هذه الأيام العشر )) ، فقالوا : يا رسول الله ! ولا الجهاد في سبيل الله ؟ . فقال رسول صلى الله عليه وسلم : (( و لا الجهاد في سبيل الله ، إلا رجل خرج بنفسه وماله ، فلم يرجع من ذلك بشيء ))(1)
عن أبي سعيد الخدري – رضي الله عنه – قال: (( نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن صوم يوم الفطر ويوم النحر .. )) الحديث . متفق عليه(2).
عن أبي هريرة -رضي الله عنه- (( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن صيام يومين: يوم الأضحى، ويوم الفطر )) .متفق عليه(3).
__________
(1) - رواه البخاري في صحيحه المطبوع مع فتح الباري (2/ 457) كتاب العيدين ، حديث رقم (969)،بلفظ آخر . ورواه أحمد في مسنده (2/161،162) . ورواه داود في سننه (2/815) كتاب الصيام ، حديث رقم (2438) . ورواه الترمذي في سننه (2/ 129) أبواب الصوم ، حديث رقم (754) ، وقال : حديث ابن عباس حديث حسن غريب صحيح . ورواه الدارمي في سننه (2/25 كتاب الصيام ، باب في فضل العمل في العشر . ورواه ابن خزيمة في صحيحه (4/273) ، حديث رقم (2865) .
(2) - رواه البخاري في صحيحه المطبوع مع فتح الباري (4/238،239) كتاب الصوم،حديث رقم (2).ورواه مسلم في صحيحه (2/799) كتاب الصيام،حديث رقم (1137).
(3) - رواه البخاري في صحيحه المطبوع مع فتح الباري (4/240) كتاب الصوم، حديث رقم (1993)موقوفاًَ على أبي هريرة . ورواه مسلم في صحيحه (2/799) كتاب الصيام ، حديث رقم (1137) مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، واللفظ له .(22/351)
مولى ابن أزهر قال : شهدت العيد مع عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- فقال: (( هذان يومان نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيامهما : يوم فطركم من صيامكم ، واليوم الآخر تأكلون فيه من نسككم )) . متفق عليه(1).
عن أم الفضل بنت الحارث :(( أنَّ ناساً تماروا(2) عندها يوم عرفة في صوم النبي صلى الله عليه وسلم فقال بعضهم : هو صائم . وقال بعضهم : ليس بصائم .فأرسلت إليه بقدح لبن وهو واقف على بعيره ، فشربه )) متفق عليه(3)
عن ميمونة- رضي الله عنها-:(( أن الناس شكوا في صيام النبي صلى الله عليه وسلم يوم عرفة ، فأرسلتُ إليه بحلاب(4) وهو واقف في الموقف ،فشرب منه والناس ينظرون )) متفق عليه(5) .
عن عائشة-رضي الله عنها- قالت:((ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صائماً في العشر قط))(6)
__________
(1) - رواه البخاري في صحيحه المطبوع مع فتح الباري (4/238، 239) كتاب الصوم، حديث رقم (1990) . ورواه مسلم في صحيحه (2/799) كتاب الصيام ، حديث رقم (1137) .
(2) - تماروا : أي اختلفوا . يُراجع : فتح الباري (4/237) .
(3) - رواه البخاري في صحيحه المطبوع مع فتح الباري (4/236، 237) كتاب الصوم، حديث رقم (1988) . ورواه مسلم في صحيحه (2/791) كتاب الصيام ، حديث رقم (1123) .
(4) - الحلاب : اللبن الذي يحلب ، وقيل :هو الإناء الذي تحلب فيه الغنم . يُراجع : النهاية في غريب الحديث والأثر (1/421، 422) ، باب الحاء مع اللام.
(5) - رواه البخاري في صحيحه المطبوع مع فتح الباري (4/237) كتاب الصوم، حديث رقم (1989) . ورواه مسلم في صحيحه (2/791) كتاب الصيام ، حديث رقم (1124) .
(6) - رواه أحمد في مسنده ( 6/ 42) . ورواه مسلم في صحيحه (2/833) كتاب الاعتكاف ، حديث رقم (1176) . ورواه أبو داود في سننه (2/ 816) كتاب الصوم ، حديث رقم ( 2439) . ورواه الترمذي في سننه (2/128) أبواب الصوم ، حديث رقم (753) .ورواه ابن خزيمة في صحيحه (3/ 293) ، حديث رقم (2103) .(22/352)
عن أم سلمة – رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( إذا دخلت العشر وأراد أحدكم أن يضحي ، فلا يمس من شهره وبشره شيئاً ))(1).
عن أبي قتادة – رضي الله عنه - : أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : كيف تصوم ؟ فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم .... ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( ثلاث من كل شهر ، ورمضان إلى رمضان ، فهذا صيام الدهر كله ، صيام يوم عرفة أحتسب على الله أن يكفّر السنة التي قبله ، والسنة التي بعده ،وصيام يوم عاشوراء أحتسب على الله أن يكفِّر السنة التي قبله))(2).
__________
(1) - رواه مسلم في صحيحه (3/1565) كتاب الأضحي ، حديث رقم (1977) . ورواه الترمذي في سننه (3/39) أبواب الأضاحي ،حديث رقم (1561) بطريق آخر ولفظ آخر . وقال : حديث حسن . ورواه النسائي (7/212) كتاب الضحايا . ورواه الحاكم في المستدرك (4/ 220) كتاب الأضاحي ، وقال : هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه . ووافقه الذهبي في تلخيصه .
(2) - رواه أحمد في مسنده ( 5/ 296،297) . ورواه مسلم في صحيحه (3/818، 819) كتاب الصيام ، حديث رقم (1163) . ورواه أبو داود في سننه (3/ 818، 819) كتاب الصيام ، حديث رقم ( 3435) . ورواه الترمذي في سننه مختصراً (3/136) أبواب الصوم ، حديث رقم (749) .ورواه ابن خزيمة في صحيحه (3/ 288) أبواب صوم التطوع، حديث رقم (2087) .(22/353)
عن عائشة – رضي الله عنها – قالت : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (( ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبداً من النار من يوم عرفة ، وإنه ليدنو ثم يباهي بهم الملائكة . فيقول : أراد هؤلاء ؟ ))(1).
عن عقبة بن عامر – رضي الله عنه – قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( يوم عرفة ، ويوم النحر ، وأيام التشريق ، عيدنا أهل الإسلام وهي أيام أكل وشرب ))(2).
__________
(1) - رواه مسلم في صحيحه (2/ 982، 983) كتاب الحج ، حديث رقم ( 1348) . ورواه النسائي في سننه ( 5/ 251، 252) كتاب مناسك الحج ، باب ما ذكر في يوم عرفة . ورواه الحاكم في المستدرك (1/ 464)كتاب المناسك ،وقال : هذا حديث صحيح الإسناد .ولم يخرجاه ،ووافقه الذهبي في تلخيصه.
(2) - رواه أحمد في مسنده (4/152) . ورواه مسلم في صحيحه (2/800) كتاب الصيام ، حديث رقم (1141) عن نبيشة الهذلي ، وحديث رقم (1142) عن كعب بن مالك الأنصاري . ورواه أبو داود في سننه (2/804) كتاب الصوم ، حديث رقم (2419) . ورواه الترمذي في سننه (2/135) أبواب الصوم ، حديث رقم (770) ، وقال : حديث حسن صحيح . ورواه النسائي في سننه (5/252) كتاب مناسك الحج ، باب النهي عن صوم يوم عرفة . ورواه ابن حبان في صحيحه . يُراجع : موارد الظمآن ص(238) كتاب الصيام ، حديث رقم (958) . ورواه الحاكم في المستدرك (1/434) ، وقال : حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه . ووافقه الذهبي في تلخيصه .(22/354)
عن أنس بن مالك- رضي الله عنه- قال : قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ولهم يومان يلعبون فيهما في الجاهلية ، فقال : (( إن الله تبارك وتعالى قد أبدلكم بهما خيراً منهما يوم الفطر ويوم النحر))(1).
عن عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - أنه دخل على أبيه عمرو بن العاص -رضي الله عنه- فوجده يأكل . قال : فدعاني . قال : فقلت : إني صائم . فقال : (( هذه الأيام التي نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيامهن، وأمرن بفطرهن)). قال مالك :( هي أيام التشريق )(2)
__________
(1) - رواه أحمد في مسنده (3/103) .ورواه أبو داود في سننه (1/675) كتاب الصلاة ، حديث رقم (1134). ورواه النسائي في سننه (3/180،179) كتاب العيدين . ورواه الحاكم في المستدرك (1/294) كتاب العيدين ، وقال :هذا حديث صحيح على شرط مسلم ،ولم يخرجاه .ووافقه الذهبي في تلخيصه
(2) - رواه مالك في الموطأ ( 1/376، 377) كتاب الحج ، حديث رقم (137) .ورواه أحمد في المسند(4/ 197).ورواه أبو داود في سننه(2/803، 804) كتاب الصوم ، حديث رقم (2418). ورواه الدارمي في سننه (2/24) كتاب الصيام ، كتاب النهي عن صيام أيام التشريق. ورواه ابن خزيمة في صحيحه (4/313) ، حديث رقم (2961) . ورواه الحاكم في المستدرك (1/435) كتاب الصوم ، وصححه . ووافقه الذهبي في تلخيصه .(22/355)
عن أبي نجيح قال : سُئِل ابن عمر – رضي الله عنهما – عن صوم يوم عرفة فقال : (( حججت مع النبي صلى الله عليه وسلم فلم يصمه ، وحججت مع أبي بكر فلم يصمه ،وحججت مع عمر فلم يصمه ، وحججت مع عثمان فلم يصمه، وأنا لا أصومه ، ولا آمر به ، ولا أنهى عنه ))(1) .
عن عبد الله بن قرط عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن أعظم الأيام عند الله تبارك وتعالى يوم النحر،ثم يوم القر(2))(3)
__________
(1) - رواه أحمد في مسنده (2/47) .ورواه الترمذي في سننه (2/126) ، وقال : حديث حسن .ورواه الدرامي في سننه (2/23) باب في صيام يوم عرفة . ورواه الطحاوي في شرح معاني الآثار (2/72) باب صوم يوم عرفة . رواه ابن حبان في صحيحه. يُراجع : موارد الظمآن (233) ، حديث رقم (934)
(2) - قال ابن خزيمة في صحيحه (4/274) . يوم القر : يعني يوم الثاني من يوم النحر . وقال ابن الأثير في النهاية في غريب الحديث والأثر (4/37) في معنى يوم القر: (( هو الغد من يوم النحر ، وهو حادي عشر ذي الحجة ؛ لأنّ الناس يقرون فيه بمنى ، أي : يسكنون ويقيمون )ا.هـ .
(3) - رواه أحمد في مسنده (4/350) . ورواه أبو داود في سننه (2/370) كتاب المناسك ، حديث رقم (1765) . ورواه ابن خزيمة في صحيحه (4/273، 274) ، حديث رقم (2866) .ورواه ابن حبان في صحيحه . يُراجع : موارد الظمآن ص(258) ، حديث رقم (1044) . ورواه الحاكم في المستدرك (4/221) كتاب الأضاحي ، وقال : هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه . ووافقه الذهبي في تلخيصه .
وقد ذكر ابن قيم الجوزية – رحمه الله – في تهذيب سنن أبي داود ( 2/295) : أن في هذا الحديث دليل على أن يوم النحر أفضل الأيام ، وقال : ( وذهب جماعة من العلماء إلى أن يوم الجمعة أفضل الأيام ، واحتجُّوا بقوله صلى الله عليه وسلم :((خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة )) وهو حديث صحيح رواه ابن حبان وغيره . وفصل النزاع : أن يوم الجمعة أفضل أيام الأسبوع ، ويوم النحر أفضل أيام العام ، فيوم النحر مفضل على الأيام كلها ، التي فيها يوم الجمعة وغيرها ، ويوم الجمعة مفضل على أيام الأسبوع ، فإن اجتمعا يوم تظاهرت الفضيلتان ، وإن تباينا فيوم النحر أفضل وأعظم ، لهذا الحديث ، والله أعلم ) ا. هـ .(22/356)
عن عبد الله بن عمر- رضي الله عنهما- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف يوم النحر بين الجمرات في الحجة التي حجّ ، فقال : (( أي يوم هذا ؟)) . فقالوا : يوم النحر ، قال : (( هذا يوم الحج الأكبر ))(1).
عن عبد الله بن عمرو – رضي الله عنهما – أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (( أمرت بيوم الأضحى عيداً جعله الله لهذه الأمة ... ))الحديث(2).
__________
(1) - رواه البخاري تعليقاً في صحيحه المطبوع مع فتح الباري ( 3/ 574) كتاب الحج ، حديث رقم (1742) . ووصله أبو داود في سننه (2/483) كتاب المناسك ، حديث رقم (1945) . ورواه ابن ماجه في سننه (2/1016) كتاب المناسك ، حديث رقم (3058) .
قال ابن قيم الجوزية في تهذيب سنن أبي دواو (2/406) : (والقرآن قد صرَّح بأن الأذان يوم الحج الأكبر ، ولا خلاف أن النداء بذلك إنما وقع يوم النحر بمنى ، فهذا دليل قاطع على أن يوم الحج الأكبر يوم النحر . وذهب عمر بن الخطاب وابنه عبد الله – رضي الله عنهما – والشافعي – رحمة الله – إلى أنه يوم عرفة . وقيل : أيام الحج كلها فعبر عن الأيام باليوم ، كما قالوا : يوم الجمل ، ويوم صفين ، قاله الثوري ، والصواب : القول الأول ) ا.هـ .
(2) - رواه أحمد في مسنده (2/169) . ورواه أبو داود في سننه (3/227) كتاب الضحايا ، حديث رقم (2789) .ورواه النسائي في سننه (7/212، 213) كتاب الضحايا ، باب من لم يجد الأضحية . ورواه ابن حبان في صحيحه : يراجع : موارد الظمآن ص(258) كتاب الأضاحي ، حديث رقم (1043) ، واللفظ له . ورواه الحاكم في المستدرك (4/223) ، كتاب الأضاحي ، وقال : هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ، ووافقه الذهبي في تلخيصه .(22/357)
عن أبي هريرة – رضي الله عنه – (( أن أبا بكر الصديق – رضي الله عنه – بعثه في الحجة التي أمره النبي صلى الله عليه وسلم عليها قبل حجة الوداع يوم النحر في رهط يؤذن في الناس : لا يحج بعد العام مشرك ، ولا يطوف بالبيت عريان))(1) . وفي رواية لأبي داود : (( ويوم الحج الأكبر يوم النحر والحج الأكبر الحج ))(2).
__________
(1) - رواه البخاري في صحيحه المطبوع مع فتح الباري (8/82) كتاب المغازي ، حديث رقم (4363) . ورواه مسلم في صحيحه (2/982) كتاب الحج ، حديث رقم (1347) . وقال البخاري في صحيحه المطبوع مع فتح الباري (8/320) كتاب التفسير ، حديث رقم (4657) :(فكان حميد– بن عبد الرحمن ابن عوف – يقول : يوم النحر يوم الحج الأكبر،من أجل حديث أبي هريرة) ا.هـ.كذلك ذكره مسلم في صحيحه (2/982) كتاب الحج،حديث رقم (1347) عن ابن شهاب .
(2) - رواها في سننه (2/483) كتاب المناسك ، حديث رقم (1946) .(22/358)
عن ابن عباس- رضي الله عنهما – قال : ((كانوا يرون أن العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور في الأرض ، ويجعلون المحرم صفراً ، ويقولون : إذا برأ الدبر(1) ، وعفا الأثر(2) ، وانسخ صفر ، حلَّت العمرة لمن اعتمر . قدم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه صبيحة رابعة مهلين بالحج فأمرهم أن يجعلوها عمرة، فتعاظم ذلك عندهم، فقالوا:يا رسول الله! أي الحل؟ قال:(( حل كله)) متفق عليه(3).
عن عبد الله بن عمر – رضي الله عنهما – أنه كان يقول : (( من اعتمر في أشهر الحج : في شوال ، أو ذي القعدة ، أو في ذي الحجة ... ))الأثر(4).
__________
(1) - الدبر : الجرح الذي يكون في ظهر البعير ، وقيل : هو أن يقرح خف البعير ، والمراد : ما كان يحصل بظهور الإبل من الحمل عليها ، ومشقة السفر، فإنه كان يبرأ بعد انصرافهم من الحج . يراجع : النهاية لابن الأثير (2/97) ، باب الدال مع الباء . ويراجع : فتح الباري (3/ 426) .
(2) - عفا الأثر : أي : درس وانمحى . أي : اندرس أثر الإبل وغيرها في سيرها ، ويحتمل أثر الدبر المذكور وفي سنن أبي داود . (عفا الوبر) أي كثر وبل الذي حلق بالرحال ، يراجع : النهاية لابن الأثير (3/266) ، باب العين مع الفاء ، ويراجع : فتح الباري (3/426) .
(3) - رواه في صحيحه المطبوع مع فتح الباري (3/422) كتاب الحج ، حديث رقم (1564) . ورواه مسلم في صحيحه (2/909، 910) كتاب الحج ، حديث رقم (1240)
(4) - رواه مالك في الموطأ (1/344) كتاب الحج ، حديث رقم (62). وروى البخاري في صحيحه (2/150) كتاب الحج ، باب (33) تعلقياً قول ابن عمر : ( أشهر الحج شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة ) .(22/359)
قال ابن عباس- رضي الله عنهما-:(( وأشهر الحج التي ذكر الله تعالى : شوال ، وذو القعدة , وذو الحجة ..)) الأثر(1).
عن ابن عباس – رضي الله عنهما –{وَالْفَجْرِ }(2) قال :فجر النهار ، {وَلَيَالٍ عَشْرٍ}(3) )) قال : عشر الأضحى(4).
عن جابر – رضي الله عنهما – عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( إن العشر عشر الأضحى ، والوتر يوم عرفة ، والشفع يوم النحر))(5).
وقد ورد في فضل بعض الأعمال في شهر ذي الحجة بعض الأحاديث الموضوعة ، نذكر منها:
__________
(1) - رواه البخاري في صحيحه (2/154) كتاب الحج ، باب (37) ، من طريق أبي كامل فضيل بن حسين البصري معلقاً . وقال ابن حجر في فتح الباري (3/434) : ( ويحتمل أيضاً أن يكون أخذه – البخاري – عن أبي كامل نفسه فإنه أدركه ، وهو من الطبقة الوسطى من شيوخه) ا.هـ .
(2) - سورة الفجر، الآية :1.
(3) - سورة الفجر، الآية :2.
(4) - رواه الحاكم في المستدرك (2/522) كتاب التفسير ، وقال : هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ، ووافقه الذهبي في تلخيصه .
(5) - رواه أحمد في مسنده (3/327) .وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (7/137) : ( رواه البزار وأحمد ورجالهما رجال الصحيح ، غير عياش بن عقبة وهو ثقة )ا.هـ .(22/360)
حديث:(من صام العشر فله بكل يوم صوم شهر ، وله بصوم يوم التروية سنة،وله بصوم يوم عرفة سنتان)(1) وحديث :(من صام آخر يوم من ذي الحجة ،وأول يوم من المحرم ، فقد ختم السنة الماضية ،وافتتح للسنة المستقبلة بصوم ، جعله الله كفارة خمسين سنة )(2). وحديث: (من صلى يوم عرفة بين الظهر والعصر أربع ركعات، يقرأ في كل ركعة بفاتحة الكتاب مرة، وقل هو الله أحد خمسين مرة ، كتب الله له ألف ألف حسنة ....الخ )(3). وحديث: (من صلى يوم عرفة ركعتين يقرأ في كل ركعة بفاتحة الكتاب ثلاث مرات...إلا قال الله عز وجل: أشهدكم أني قد غفرت له)(4).وحديث: (من صلى ليلة النحر ركعتين يقرأ في كل ركعة بفاتحة الكتاب خمس عشرة مرة، وقل هو الله أحد خمس عشرة مرة....جعل الله اسمه في أصحاب الجنة....الخ)(5)وحديث : (إذا كان يوم عرفة غفر الله للحاج ، فإذا كان ليلة المزدلفة غفر الله للتجار.... الخ)(6)...إلى غير ذلك من الأحاديث الباطلة التي لا تصح عن النبي صلى الله عليه وسلم – والله أعلم- .
المبحث الثاني
بدعة التعريف
المراد بالتعريف :
__________
(1) - حكم عليه بالوضع : ابن الجوزي في الموضوعات (2/198). والسيوطي في اللآلئ (2/107، 108) . والشوكاني في الفوائد ص(96).
(2) - حكم عليه بالوضع : ابن الجوزي في الموضوعات (2/199). والسيوطي في اللآلئ (2/108) . والشوكاني في الفوائد ص(96).
(3) - حكم عليه بالوضع : ابن الجوزي في الموضوعات (2/132). والشوكاني في الفوائد ص(53).
(4) - حكم عليه بالوضع : ابن الجوزي في الموضوعات (2/133). والشوكاني في الفوائد ص(53).
(5) - حكم عليه بالوضع : ابن الجوزي في الموضوعات (2/133، 134).. والشوكاني في الفوائد ص(53).
(6) - حكم عليه بالوضع : ابن الجوزي في الموضوعات (2/215). والسيوطي في اللآلئ (2/124) .(22/361)
هو اجتماع غير الحاج في المساجد عشية يوم عرفة ، في غير عرفة ، يفعلون ما يفعله الحاج يوم عرفة من الدعاء والثناء(1) .
وأول من جمع الناس يوم عرفة في المساجد هو ابن عباس – رضي الله عنهما - ، وذلك في مسجد البصرة(2).
وقيل إن أول من عرف بالكوفة(3) مصعب بن الزبير(4).
قال ابن كثير – رحمه الله – في ترجمة ابن عباس – رضي الله عنهما -: ( وهو أول من عرف بالناس في البصرة ، فكان يصعد المنبر ليلة عرفة ويجتمع أهل البصرة حوله ، فيفسر شيئاً من القرآن ، ويذكر الناس ، من بعد العصر إلى الغروب ، ثم ينزل فيصلي بهم المغرب )ا.هـ(5) .
حكم التعريف :
اختلف العلماء في حكم التعرف في المساجد يوم عرفة :
1- قال ابن وهب: ( سألت مالكاً عن الجلوس يوم عرفة ، يجلس أهل البلد في مسجدهم ، ويدعو الإمام رجالاً يدعون الله تعالى للناس إلى الشمس فقال : ما نعرف هذا ، وإن الناس عندنا اليوم ليفعلونه )ا.هـ(6) .
__________
(1) - يُراجع : الباعث لأبي شامة ص(29) .
(2) - البصرة : مدينة معروفة في العراق . وكان تمصيرها في سنة 14هـ في خلافة عمر بن الخطاب – رضي الله عنه - ، ومعنى البصرة في الكلام العرب : الأرض الغليظة ، وقيل : البصرة : حجارة رخوة فيها بياض . يُراجع : معجم البلدان (1/430- 441).
(3) - الكوفة : المصر المشهور بأرض بابل من سواد العراق ، ويسميها قوم خد العذراء . وسُميت بالكوفة لاستدارتها ، وقيل لاجتماع الناس بها ، وكان تمصيرها في أيام عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – سنة 17هـ. يُراجع : معجم البلدان (490، 494).
(4) - يراجع : السنن الكبرى للبيهقي (5/118) كتاب الحج . ويُراجع : الباعث ص(31) ، وسير أعلام النبلاء (3/351)، ترجمة عبد الله بن عباس – رضي الله عنهما- .
(5) - يراجع : البداية والنهاية (8/322) .
(6) - يُراجع : الحوادث والبدع للطرطوشي ص (115) .(22/362)
قال ابن وهب – أيضاً - : ( وسمعت مالكاً يسأل عن جلوس الناس في المسجد عشية عرفة بعد العصر ، واجتماعهم للدعاء، فقال : ليس هذا من أمر الناس ، وإنَّما مفاتيح هذه الأشياء من البدع )ا.هـ(1) .
وقال مالك – أيضاً - : ( وأكره أن يجلس أهل الآفاق يوم عرفة في المساجد للدعاء، ومن اجتمع إليه الناس للدعاء فلينصرف، ومقامه في منزل أحب إليَّ ، فإذا حضرت الصلاة رجع فصلى في المسجد)ا.هـ(2) .
وروى ابن وضاح عن أبي حفص المدني قال: اجتمع الناس يوم عرفة في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، يدعون بعد العصر، فخرج نافع مولى ابن عمر من دار آل عمر ، فقال : أيها الناس إن الذي إن الذي أنتم عليه بدعة ، وليست بسنة ، إنا أدركنا الناس ولا يصنعون مثل هذا ، ثم رجع فلم يجلس ، ثم خرج الثانية ففعل مثلها ثم رجع )ا.هـ(3) .
وروى أيضاً عن ابن عون قال:(شهدت إبراهيم النخعي سُئلَ عن اجتماع الناس عشية عرفة، فكرهه، وقال: محدث) ا.هـ(4).
وروى أيضاً عن سفيان قال : (ليست عرفة إلا بمكة ، ليس في هذه الأمصار عرفة ) ا.هـ(5) .
وقال الحارث بن مسكين : (كنت أرى الليث بن سعد ينصرف بعد العصر يوم عرفة ، فلا يرجع إلى قرب المغرب )ا.هـ (6).
قال الطرطوشي : فاعلموا- رحمكم الله – أن هؤلاء الأئمة علموا فضل الدعاء يوم عرفة، ولكن علموا أن ذلك بموطن عرفة، لا في غيرها ولا منعوا من خلا بنفسه فحضرته نية صادقة أن يدعو الله تعالى ، وإنما كرهوا الحوادث في الدين ، وأن يظن العوام أن من سنَّة يوم عرفة بسائر الآفاق الاجتماع والدعاء ، فيتداعى الأمر إلى أن يدخل في الدين ما ليس منه .
__________
(1) - يُراجع : الحوادث والبدع للطرطوشي ص (115) .
(2) - يُراجع : الحوادث والبدع للطرطوشي ص (115) .
(3) - يراجع : البدع لابن وضاح ص (46) .
(4) - يراجع : البدع لابن وضاح ص (47) .
(5) - يراجع : البدع لابن وضاح ص (47) .
(6) - يُراجع : الحوادث والبدع للطرطوشي ص (116) .(22/363)
وقد كنت ببيت المقدس ، فإذا كان يوم عرفة حشر أهل السواد وكثير من أهل البلد ، فيقفون في المسجد ، مستقبلين القبلة مرتفعة أصواتهم بالدعاء، كأنه موطن عرفة ، وكنت أسمع سماعاً فاشياً منهم أن من وقف ببيت المقدس أربع وقفات ، فإنها تعدل حجَّة ، ثم يجعلونه ذريعة إلى إسقاط فريضة الحج إلى بيت الله الحرام )ا.هـ(1).
وروى البيهقي عن شعبة قال : سألت الحكم وحماداً عن اجتماع الناس يوم عرف في المساجد فقالا : ( هو محدث )(2) .
وروى كذلك عن إبراهيم – النخعي – قال : ( هو محدث )(3).
2- وقال أبو شامة : فإن ابن عباس -رضي الله عنهما- حضرته نية فقعد فدعا، وكذلك الحسن من غير قصد الجمعية، ومضاهاة لأهل عرفة ، وإيهام العوام أن هذا شعار من شعائر الدين المنكر ، إنَّما هو ما اتَّصف بذلك -والله أعلم- أن تعريف ابن عباس قد صار على صورة أخرى غير مستنكر .
ذكر ابن قتيبة في غريبه قال في حديث ابن عباس أن الحسن ذكره فقال : كان أول من عرف بالبصرة صعد المنبر فقرأ البقرة وآل عمران وفسَّرهما حرفاً حرفاً . قلت : - والقول لأبي شامة - : فتعريف ابن عباس – رضي الله عنهما – كان على هذا الوجه فسَّر للناس القرآن ، فإنما اجتمعوا لاستماع العلم ، وكان ذلك عشية عرفة ، فقيل عرَّف ابن عباس بالبصرة ، لاجتماع الناس له كاجتماعهم بالموقف .
وعلى الجملة : (فأمر التعريف قريب إلا إذا جرَّ مفسدة ، كما ذكره الطرطوشي في التعريف ببيت المقدس )ا.هـ(4) .
قال ابن قدامة :
__________
(1) - يُراجع : الحوادث والبدع للطرطوشي ص (116، 117) .
(2) - رواه البيهقي في سننه (5/117، 118) كتاب الحج ، باب التعرف بغير عرفات .
(3) - رواه البيهقي في سننه (5/118) كتاب الحج ، باب التعرف بغير عرفات .
(4) - يُراجع : الباعث ص (31، 32).(22/364)
(قال القاضي : ولا بأس بالتعريف عشية عرفة بالأمصار ، وقال الأثرم : سألت أبا عبد الله عن التعريف في الأمصار ، يجتمعون في المساجد يوم عرفة. قال : أرجو أن لا يكون به بأس ، قد فعله غير واحد .
قال أحمد – رحمه الله - : لا بأس به ،إنما هو دعاء وذكر الله ، فقيل له : تفعله أنت ؟ قال : أما أنا فلا ) ا.هـ(1).
وقد تعقب الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ رواية الأثرم عن الإمام أحمد – رحمهم الله – بقوله : (وحينئذ الراجح هو عدم فعله ؛ لأنَّ هذه عبادة اختصت بمكان وهو عرفة ، ولا يلحق غيره به ، فإلحاق مكان بمكان في عبادة ، زيادة في الشرع ، فالذي عليه العمل أنه بدعة )ا.هـ(2) .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله - : ( ومن هذا – المتابعة في السنَّة – وضع ابن عمر يده مقعد النبي صلى الله عليه وسلم ، وتعريف ابن عباس بالبصرة، وعمرو بن حريث بالكوفة ، فإن هذا لما لم يكن مما فعله سائر الصحابة ، ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم شرعه لأمته ، لم يمكن أن يُقال هذا سنَّة مستحبة ، بل غايته أن يًُقال : هذا مما ساغ فيه اجتهاد الصحابة ، أو مما لا ينكر علي فاعله ؛ لأنَّه مما يسوغ فيه الاجتهاد ، لا لأنه سنة مستحبة سنها النبي صلى الله عليه وسلم لأمته . أو يقال في التعريف : إنه لا بأس به أحياناً لعارض إذا لم يجعل سنة راتبة .
__________
(1) - يراجع : المغني (2/399) ، وطبقات الحنابلة (1/67)ترجمة الأثرم .
(2) - يُراجع : فتاوى ورسائل الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ (3/128).(22/365)
وهكذا يقول أئمة العلم في هذا وأمثاله : تارة يكرهونه ، وتارة يسوغون فيه الاجتهاد ، وتارة يرخصون فيه إذا لم يتخذ سنة ، ولا يقول عالم بالسنة : إن هذه سنة مشروعة للمسلمين ، فإن ذلك إنَّما يقال فيما شرعه رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ إذ ليس لغيره أن يسن ولا أن يشرع ، وما سنَّة خلفاؤه الراشدون ، فإنما سنُّوه بأمره ، فهو من سننه .... )ا.هـ(1) .
وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – أن المداومة في الجماعات على غير السنن المشروعة بدعة : كالأذان في العيدين، والقنوت في الصلوات الخمس أو البردين منها ، والتعريف المداوم عليه في الأمصار .... فإن مضاهاة غير المسنون بالمسنون بدعة مكروهة ، كما دلَّ عليه الكتاب والسنَّة والآثار والقياس )(2) .
وقال -أيضاً-: ( فصل: وقد يحدث في اليوم الفاضل مع العيد العلمي المحدث ، العيد المكاني، فيغلظ قبح هذا ، ويصير خروجاً عن الشريعة ، فمن ذلك : ما يفعل يوم عرفة مما لا أعلم بين المسلمين خلافاً في النهي عنه، وهو قصد قبر بعض من يحسن به الظن يوم عرفة ، والاجتماع العظيم عند قبره ، كما يفعل في بعض أرض المشرق والمغرب ، والتعريف هناك كما يفعل في عرفات، فإن هذا النوع من الحج المبتدع الذي لم يشرعه الله ،ومضاهاة للحج الذي شرعه الله ، واتخاذ القبور أعياداً .
وكذلك السفر إلى بيت المقدس للتعريف فيه ، فإن هذا أيضاً ضلال بيِّن ، فإن زيادة بيت المقدس مستحبة مشروعة للصلاة فيه والاعتكاف ،وهو أحد المساجد الثلاثة التي تشد إليها الرحال، لكن قصد إتيانه في أيام الحج هو المكروه، فإن ذلك تخصيص وقت معين بزيارة بيت المقدس ، ولا خصوص لزيارته في هذا الوقت على غيره .
__________
(1) - يُراجع : مجموعة الفتاوى (1/281، 282) .
(2) - يُراجع : مجموع الفتاوى (20 /197) .(22/366)
ثم فيه أيضاً مضاهاة للحج إلى المسجد الحرام، وتشبيه له بالكعبة، ولهذا أفضى إلى ما لا يشك مسلم في إنه شريعة أخرى، غير شريعة الإسلام ، وهو ما قد يفعله بعض الضلاَّل من الطواف بالصخرة ، أو من حلق الرأس هناك أو من قصد النسك هناك ، وكذلك ما يفعله بعض الضلال من الطواف بالقبة التي بجبل الرحمة بعرفة(1) ، كما يُطاف بالكعبة .
فأما الاجتماع في هذا الموسم لإنشاد الغناء، أو الضرب بالدف بالمسجد الأقصى ونحوه، فمن أقبح المنكرات من جهات أخرى، منها :
فعل ذلك في المسجد ،فإن ذلك فيه ما نهي عنه خارج المساجد ، فكيف بالمسجد الأقصى!!!.
ومنها : اتخاذ الباطل ديناَ .
ومنها : فعله في الموسم .
فأما قصد الرجل مسجد بلده يوم عرفة للدعاء والذكر ، فهذا هو التعريف في الأمصار الذي اختلف العلماء فيه ففعله ابن عباس ، وعمرو بن حريث من الصحابة ، وطائفة من البصريين والمدنيين ، ورخص فيه أحمد – وإن كان مع ذلك لا يستحبه- . هذا هو المشهور عنه ، وكرهه طائفة من الكوفيين والمدنيين ، كإبراهيم النخعي ، وأبي حنيفة ، ومالك ..... وغيرهم .
ومن كرهه قال : هو من البدع ، فيندرج في العموم لفظاً ومعنى . ومن رخَّص فيه قال : فعله ابن عباس بالبصرة ، حين كان خليفة لعلي بن أبي طالب -رضي الله عنه-، ولم ينكر عليه ، وما يفعله في عهد الخلفاء الراشدين من غير إنكار، لا يكون بدعة، لكن ما يُزاد على ذلك من رفع الأصوات الرفع الشديد في المساجد بالدعاء ،وأنواع من الخطب والأشعار الباطلة ، مكروه في هذا اليوم وغيره .
__________
(1) - لم تعد هذه القبة موجودة ، وذلك بفضل الله ثم بفضل دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب – رحمه الله – حيث قضى على الأمور الشركية والوسئل المؤدية إليها في هذه البلاد ، ولله الحمد والمنَّة .(22/367)
والفرق بين هذا التعريف المختلف فيه ، وتلك التعريفات التي لم يختلف فيها(1): أنَّ في تلك قصد بقعة بعينها للتعريف فيها، كقبر الصالح ، أو كالمسجد الأقصى ، وهذا تشبيه بعرفات ، بخلاف مسجد المصر(2) ، فإنه قصد له بنوعه لا بعينه ، ونوع المساجد مما شرع قصدها ، فإن الآتي إلى المسجد ليس قصده مكاناً معيناً لا يتبدل اسمه وحكمه ، وإنما الغرض بيت من بيوت الله ، بحيث لو حوِّل ذلك المسجد لتحوَّل حكمه ، ولهذا لا تتعلق القلوب إلا بنوع المسجد لا بخصوصه .
وأيضاً ، فإنَّ شد الرحال إلى مكان للتعريف فيه ، مثل الحج ، بخلاف المصر .
ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (( لا تُشدًّ الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد : المسجد الحرام ، والمسجد الأقصى ، ومسجدي هذا ))(3) .هذا مما لا أعلم فيه خلافاً .
فقد نهى النبي صلى اله عليه وسلم عن السفر إلى غير المساجد الثلاثة ، ومعلوم أن إتيان الرجل مسجد مصره إما واجب كالجمعة ، وإما مستحب كالاعتكاف فيه .
وأيضاً ، فإن التعريف عند القبر اتخاذ له عيداً ، وهذا بنفسه محرم ، سواء كان فيه شد للرحل أو لم يكن ، وسواء كان في يوم عرفة أو في غيره ، وهو من الأعياد المكانية مع الزمانية )ا.هـ(4) .
فمما تقدَّم يتضح لي – والله أعلم – أن التعريف نوعان :
__________
(1) - أي : لم يختلف في النهي عنها . والله أعلم .
(2) - أي : مسجد المدينة التي يسكنها الإنسان . يراجع : لسان العرب (5/176) مادة (مصر) .
(3) - رواه البخارى في صحيحه المطبوع مع فتح الباري (3/63) كتاب التهجد ، حديث رقم (1189)، ولفظه : (( لا تُشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد : المسجد الحرام ، ومسجد الرسول صلى الله عليه وسلم ومسجد الأقصى )) . ورواه مسلم في صحيحه (2/1014) كتاب الحج ، حديث رقم (1397) .
(4) - يراجع : اقتضاء الصراط المستقيم (2/637- 640) .(22/368)
الأول : اتفق العلماء على كراهته ، وكونه بدعة وأمراً باطلاً ، وهو الاجتماع في يوم عرفة عند القبور ، أو تخصيص بقعة بعينها للتعريف فيها كالمسجد الأقصى ، وتشبيه هذه الأماكن بعرفات ؛ لأنَّ ذلك يعتبر حجاً مبتدعاً ، ومضاهاة للحج الذي شرعه الله ، واتخاذاً للقبور أعياداً ، حتى وصل بهم الأمر إلى أن زعموا أن من وقف ببيت المقدس أربع وقفات فإنها تعدل حجة ثم يجعلون ذلك ذريعة إلى إسقاط الحج إلى بيت الله الحرام ، كما ذكر ذلك الطرطوشي في كتابه (( الحوادث والبدع ))(1) . وهذا هو النوع الذي قال عنه شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله - : ( لا أعلم بين المسلمين خلافاً في النهي عنه ) ا.هـ(2) .
الثاني : ما اختلف العلماء فيه ، وهو قصد الرجل مسجد بلده يوم عرفة للدعاء والذكر . فقال بعضهم : محدث وبدعة . وقال بعضهم : لا بأس به .
والذي يترجح عندي – والله أعلم – أن قصد الرجل مسجد بلده يوم عرفة للدعاء والذكر : بدعة.
وأما من رخص فيه ؛ مستنداً إلى فعل ابن عباس له ، وغيره من الصحابة والتابعين ، فيمكن الجواب عن ذلك من وجهين :
* الأول: أن فعل الصحابي لا يقوى على معارضة النصوص الصريحة ، التي ورد فيها النهي عن الإحداث في الدين ، وهي كثيرة، منها :
__________
(1) - يُراجع : الحوادث والبدع ص (117) .
(2) - يُراجع : اقتضاء الصراط المستقيم (2/637) .(22/369)
قوله صلى الله عليه وسلم : (( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد ))(1). وقوله- عليه الصلاة والسلام - : (( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد ))(2). وقوله صلى الله عليه وسلم : (( وإياكم ومحدثات الأمور ، فإن كل محدثة بدعة ..))(3) ...إلى غير ذلك من النصوص الثابتة التي صرحت بالنهي عن الإحداث في الدين .
* الثاني : أنه لم يكن قصد ابن عباس – والله أعلم – أن يجتمع الناس للدعاء والاستغفار ، مضاهاة لأهل عرفة ، وأن ذلك من شعائر الدين ، كما بيَّن ذلك أبو شامة في كتابه ((الباعث))(4). وإنَّما كان اجتماع الناس لسماع تفسيره للقرآن ، لاسيما وهو أعلم أمة محمد صلى الله عليه وسلم بالتأويل بعد نبيها عليه الصلاة والسلام ، فلم يرد أنهم اجتمعوا للدعاء والاستغفار .
وكذلك لم يرد -حسب اطلاعي المحدود- أن ابن عباس -رضي الله عنهما-كرر هذا الفعل مرة أخرى . فكيف بمن اتخذ ذلك سنَّة مشروعة ، يفعلونها كل عام !!!.
وقد أشرت آنفاً إلى ذكر كلام شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – الذي ورد فيه أن المداومة في الجماعات على غير السنن المشروع بدعة ، ومثل لذلك بالتعريف المداوم عليه في الأمصار – والله أعلم - .
*************************
المبحث الثالث
بدعة غدير خم(5)
المطلب الأول : حديث غدير خم .
__________
(1) - رواه البخاري في صحيحه المطبوع مع فتح الباري (5/301) كتاب الصلح ، حديث رقم (2697). ورواه مسلم في صحيحه (3/1343) كتاب الأقضية ، حديث رقم ( 1718).
(2) - ورواه مسلم في صحيحه (3/1343، 1344) كتاب الأقضية ، حديث رقم ( 1718).
(3) - رواه ابن ماجه في سننه مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم (1/18)، المقدمة . وفي سنده عبيد بن ميمون المدني ، قال ابن حجر : مستور . تقريب التهذيب (1/545).
(4) - يُراجع : الباعث ص(31) .
(5) - غدير خم : يقع بين مكة والمدينة بالجحفة .(22/370)
عن زيد بن أرقم -رضي الله عن- قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً فينا خطيباً بماء يُدعى خما بين مكة والمدينة، فحمد الله وأثني عليه ، ووعظ وذكر ، ثم قال : (( أما بعد ، ألا أيها الناس ! فإنما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربي فأجيب ، وأنا تارك فيكم ثقلين: أولهما كتاب الله فيه الهدى والنور، فخذوا بكتاب الله، واستمسكوا به)). فحثَّ على كتاب الله ورغب فيه . ثم قال : (( وأهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي ، أذكركم الله في أهل بيتي ..)) الحديث(1) .
__________
(1) - رواه أحمد في مسنده (4/366، 367) . ورواه مسلم في صحيحه (4/1873) كتاب فضائل الصحابة ، حديث رقم (2408) . ورواه الدارمي في سننه (2/431، 432) كتاب فضائل القرآن ، باب فضل من قرأ القرآن .(22/371)
وعن البراء بن عازب -رضي الله عنه- قال : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفرٍ، فنزلنا بغدير خم ، فنودي فينا الصلاة جامعة ، وكسح(1) لرسول الله صلى الله عليه وسلم تحت شجرتين فصلى الظهر وأخذ بيد علي -رضي الله عنه- فقال : ((ألستم تعلمون أني أولى بالمؤمنين من أنفسهم ؟ )) . قالوا : بلى . قال : (( ألستم تعلمون أني أولى بكل مؤمن من نفسه ؟ )) . قالوا : بلى . قال : فأخذ بيد علي فقال : (( من كنت مولاه فعلي مولاه ، اللهم وال من والاه ، وعاد من عاداه )) . قال : فلقيه عمر بعد ذلك فقال له : هنيئاً يا ابن أبي طالب ! أصبحت وأمسيت ولي كل مؤمن ومؤمنة ))(2).
__________
(1) - الكسح : الكنس ، وكسح البيت : كنسه . يُراجع : لسان العرب (2/571) مادة (كسح) .
(2) - رواه أحمد في مسنده (4/281) . ورواه الترمذي مختصراً في سننه (5/297) أبواب المناقب ، حديث رقم (3797) ، وقال : حديث حسن غريب . ورواه ابن ماجه في سننه (1/43) المقدمة ، حديث رقم (116) . قال البوصيري في زوائد ابن ماجه (1/19، 20) : (هذا إسناد ضعيف ، لضعف على بن زيد بن جدعان ، رواه الإمام أحمد في مسنده أيضاً من حديث) .ا.هـ .(22/372)
وروى الحاكم في المستدرك عن زيد بن أرقم – رضي الله عنه- قال : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى انتهينا إلى غدير خم ، فأمر بروح (1) فكسح في يوم ما أتى علينا يوم كان أشد حراً منه ، فحمد الله وأثنى عليه وقال : (( يا أيها الناس! إنه لم يبعث نبي قط إلا ما عاش نصف ما عاش الذي كان قبله ، وإني أوشك أن أدعى فأجيب، وإني تارك فيكم ما لن تضلوا بعده : كتاب الله عز وجل )). ثم قام فأخذ بيد علي رضي الله عنه-فقال :((يا أيها الناس !من أولى بكم من أنفسكم ؟)) قالوا: الله ورسوله أعلم . قال : (( من كنت مولاه فعلي مولاه ))(2).
المطلب الثاني : أول من أحدث هذه البدعة .
__________
(1) - الروح : برد نسيم الريح ، والمراد – والله أعلم - : مكان بارد مريح . يُراجع : لسان العرب (2/457) مادة (روح )
(2) - رواه الحاكم في المستدرك (3/533) كتاب معرفة الصحابة ، وقال : هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه . ووافقه الذهبي في تلخيصه .
ورواه الإمام أحمد بطرق كثيرة ، منها طرق لا تخلو من ضعف ، ومنها طرق بعض رواتها منهم من رُمِي بالتشيع ، ومنهم من وصف بالغلو في التشيع . فلتراجع الطرق في : (1/48، 118، 119، 152، 330، 4/368، 370، 372. 5/347، 350 ، 358، 361، 366، 370، 419) . ويراجع البداية والنهاية (5/234، 240، 7/379- 383) . ومما يدلُّ على كثرة ما رُوي فيه قول ابن كثير في ترجمة ابن جرير الطبري: ( وقد رأيت له كتاباً جمع فيه أحاديث غدير خم في مجلدين ضخمين ) . يُراجع : البداية والنهاية (11/165) ، وكذلك (5/233، 234) .(22/373)
أول من أحدث بدعة عيد غدير خم هو معز الدولة بن بويه ، وذلك في سنة 352هـ ببغداد(1).
قال ابن كثير في حوادث سنة 352هـ : ( وفي عشر ذي الحجة منها أمر معز الدولة بن بويه بإظهار الزينة في بغداد ، وأن تفتح الأسواق بالليل كما في الأعياد ، وأن تضرب الذبابات(2) والبوقات(3) ، وأن تشعل النيران في أبواب الأمراء ، وعند الشرط ، فرحاً بعيد الغدير- غدير خم- فكان وقتاً عجيباً مشهوداً ، وبدعة شنيعة ظاهرة منكرة )ا.هـ(4) .
__________
(1) - هي عاصمة العراق قديماً وحديثاً . وتقع على نهر دجلة . أول من جعلها مدينة الخليفة المنصور العباسي سنة 149هـ وأنفق عليها ثمانية عشر ألف ألف دينا ، فبناها مدورة وسورها وجعل داره وجامعها في وسطها ، وجعل لها أربعة أبواب . وقد صنَّف في بغداد وسعتها وعظمها وسعة بقعتها وما ورد فيها وما حدث بها الخطيب أبو بكر البغدادي في كتابه تاريخ بغداد (أربعة عشر مجلداً ) ما فيه الكفاية . يُراجع : معجم البلدان (1/456- 467) ، وتاريخ بغداد للخطيب البغدادي .
(2) - بحثت عن معناهم فلم أقف عليه ، ولعلها – والله أعلم - : نوع من الآلات التي تصدر صوتاً كالبوق ونحوه
(3) - الأبواق : جمع بوق ، والبوق : الذي ينفخ فيه ويزمر . يراجع : لسان العرب ( 10/31) ، مادة (بوق) .
(4) - يراجع : البداية والنهاية (11/ 272) .(22/374)
وقال المقريزي : (اعلم أن عيد الغدير لم يكن عيداً مشروعاً ، ولا عمله أحد من سالف الأمة المقتدى بهم ، وأول ما عرف في الإسلام بالعراق أيام معز الدولة على بن بويه، فإنه أحدثه في سنة اثنتين وخمسين وثلاثمائة فاتخذه الشيعة(1) من حينئذٍ عيداً) ا.هـ(2).
ويعتبر عيد ((غدير خم )) من الأعياد والمواسم التي كان العبيديون – ناصري البدعة – يقيمونها ويرعونها ، ويحافظون عليها، وذلك لإثبات تشيعهم ومحبتهم لآل البيت ، الذي يدَّعُون الانتساب إليهم !!(3) .
وأول ما أُقيم الاحتفال بهذا العيد المبتدع في مصر في الثامن عشر من ذي الحجة سنة 362هـ)(4)
__________
(1) - الشيعة : هم الذين شايعوا علياً – رضي الله عنه – على الخصوص ، وقالوا بإمامته وخلافته نصاً ووصاية ، إما جلياً أو خفياً ، واعتقدوا أن الإمام لا تخرج من أولاده ، وإن خرجت فبظلم يكون من غيره ، أو بتقية من عنده ، وقالوا : ليست الإمامة قضية مصلحية تناط باختيار العامة ، بل هي قضية أصولية هو ركن الدين ،لا يجوز للرسول صلى الله عليه وسلم إغفاله وإهماله ،ولا تفويضه للعامة وإرساله ، ويجمعهم القول بوجوب التعيين والتنصيص ، وثبوت عصمة الأئمة وجوباً عن الكبائر والصغائر ، والقول بالتولي والتبري قولاً وفعلاً وعقداً ، إلا في حال التقية ، وهم خمس فرق : كيسانية ، وزيدية ،وإمامية ،وغلاة ، وإسماعيلية . يراجع : الملل والنحل للشهر ستاني ص(146) ، ومقالات الإسلاميين (1/65)،والفرق بين الفرق ص(15ـ17).
(2) - يُراجع : الخطط والآثار (1/388) .
(3) - يُراجع : الخطط والآثار للمقريزي (1/490) .
(4) - يُراجع : الخطط والآثار للمقريزي (1/489) .وقد أطال المؤلف في وصف الاحتفال بهذا العيد،وما يقع فيه من لبس الجديد من الثياب،وإعتاق الرقاب ، والإكثار من الذبح ، وقراءة نص الخلافة المزعوم من النبي صلى الله عليه وسلم إلى أمير المؤمنين على بن طالب – رضي الله عليه – قبل الزوال ... إلى غير ذلك .(22/375)
المطلب الثالث : حكم هذا العيد .
لا شك في أن جعل الثامن عشر من ذي الحجة عيداً وموسماً من المواسم التي يحتفل الناس بها ، ويفرحون بقدومها ، ويخصُّونها بشيء من القرب كالإعتاق والذبح ونحو ذلك : بدعة باطلة ، وأساسها الذي اعتمدت عليه أمرٌ باطل لا شك في بطلانه ، وهو زعمهم أن النبي صلى الله عليه وسلم في اليوم الثامن عشر من شهر ذي الحجة سنة عشرة للهجرة ، وهو قافلٌ -عليه الصلاة والسلام- من حجة الوداع ، أوصى بالخلافة لعلي بن أبي طالب – رضي الله عنه – بمكان يسمى غدير خم .
وهذا يدلُّ دلالة واضحة على أن المبتدعين لهذا العيد ، والمعظمين له هم الشيعة ، فهم يفضلونه على عيدي الفطر والأضحى، ويسمونه بالعيد الأكبر(1) .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله - ، في كلامه عن أنواع الأعياد الزمانية المبتدعة ، والتي قد يدخل فيها بعض بدع أعياد المكان والأفعال :
(النوع الثاني :ما جرى فيه حادثة كما كان يجري في غيره ،من غير أن يوجب ذلك جعله موسماً ، ولا كان السلف يعظمونه ، كثامن عشر ذي الحجة، الذي خطب النبي صلى الله عليه وسلم فيه بغدير خم مرجعه من حجة الوداع، فإنه صلى الله عليه وسلم خطب فيه خطبة وصَّى فيها باتباع كتاب الله ، ووصَّى فيها بأهل بيته ، كما روى ذلك مسلم في صحيحة(2)عن زيد بن أرقم -رضي الله عنه-.
__________
(1) - يُراجع : مختصر التحفة الاثني عشرية للألوسي ص (208) .
(2) - رواه مسلم في صحيحه (4/1873) كتاب فضائل الصحابة ، حديث رقم (2408) . وتقدم تخريجه أيضاً في ص (376- 377) .(22/376)
فزاد بعض أهل الأهواء(1)في ذلك ، حتى زعموا أنه عهد إلى علي – رضي الله عنه – بالخلافة بالنص الجلي ، بعد أن فرش له، وأقعده على فراش عالية ، وذكروا كلاماً وعملاً قد علم بالاضطراب أنه لم يكن من ذلك شيء ، وزعموا أن الصحابة تمالؤا على كتمان هذا النص ، وغصبوا الوصي حقه ، وفسَّقوا وكفَّرُوا إلا نفراً قليلاً . والعادة التي جبل الله عليها بني آدم ، ثم ما كان القوم عليه من الأمانة والديانة ، وما أوجبته شريعتهم من بيان الحق ، يوجب العلم اليقيني بأن مثل هذا اليوم عيداً محدث لا صل له ، فلم يكن في السلف لا من أهل البيت ولا من غيرهم ، من اتخذ ذلك اليوم عيداً ، حتى يحدث فيه أعمالاً ؛ إذ الأعياد شريعة من الشرائع ، فيجب فيها الاتباع لا الابتداع ، وللنبي صلى الله عليه وسلم خُطبٌ وعهودٌ ووقائع في أيام متعددة : مثل يوم بدر(2) ، وحنين(3) ، والخندق(4)
__________
(1) - لاشك أنهم الشيعة .
(2) - بدر : ماء مشهور بين مكة والمدينة أسفل وادي الصفراء بينه وبين ساحل البحر ليلة ، ينسب إلى بدر بن يخلد بن النضر بن كنانة ، وبهذا الماء كانت الوقعة المشهورة التي اظهر الله بها الإسلام ، شهدها من الصحابة – رضوان الله عليهم - . يراجع : معجم البلدان (1/357، 358) .
(3) - حنين : هو واد قبل الطائف ، بينه وبين مكة بضعة عشر ميلا ، وهو : المواضع الذي هزم فيه الرسول صلى الله عليه وسلم هوازان وذلك سنة 8هـ . يراجع : معجم ما استعجم ص (471، 472) .
(4) - وهي المعروفة بغزوة الخندق أو غزوة الأحزاب وفيها اجتمعت القبائل بتحريض من اليهود على قتال النبي صلى الله عليه وسلم ومن هذه القبائل : قريش وبنو سليم ، وبنو أسد ، وفزارة ، وأشجع ، وبنو مرة ، وكان عددهم عشرة آلاف فلما سمع بهم الرسول صلى الله عليه وسلم استشار الصحابة فآشار عليه سلمان الفارسي- رضي الله عنه – بحفر خندق يحول بين العدو وبين المدينة ، فأمر به الرسول صلى الله عليه وسلم فبادر إليه المسلمون ، وعمل بنفسه فيه ، وكان حفر الخندق أمام جبل سلع الذي كان خلف ظهور المسلمين ، والخندق بينهم وبين الكفار ، وكان عدد المسلمين ثلاثة آلاف ، وكان ذلك سنة 5هـ.
يراجع : زاد المعاد (3/296- 271) .(22/377)
، وفتح مكة(1) ، ووقت هجرته ، ودخوله المدينة(2) ، وخطب له متعددة يذكر فيها قواعد الدين ، ثم لم يوجب ذلك أن يتخذ أمثال تلك الأيام أعياداً . وإنَّما يفعل مثل هذا النصارى ، الذين يتخذون أمثال أيام حوادث عيسى عليه السلام – أعياداً ، أو اليهود . وإنما العيد شريعة ، فما شرعه الله اتبع ، وإلا لم يحدث في الدين ما ليس منه )ا.هـ(3) .
وقد أفتى شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- بأن اتخاذ يوم الثامن عشر من شهر ذي الحجة عيداً. بدعة ، لم يفعلها السلف، ولم يستحبوها ، وأن ذلك موسم غير شرعي ، وإنما هو من المواسم المبتدعة(4)- والله أعلم –
*****************************************
الفصل التاسع
مشابهة المسلمين للكفار في أعيادهم .
المبحث الأول : الاحتفال بعيد ميلاد المسيح .
المبحث الثاني : الاحتفال بالنيروز.
__________
(1) - مدينة مكة المكرمة : أشهر من أن تعرف فهي قبلة المسلمين ، وبها بيت الله الحرام ، وأشرف بقعة على وجه الأرض . وكان فتح مكة سنة 8هـ .
(2) - المدينة : وكانت تسمى في الجاهلية : يثرب . وهي مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومهاجره، ورد في فضلها وأنها بلد حرام ، أحاديث كثيرة ، عقد لها البخاري كتاباً في صحيحه وسماه كتاب : فضائل المدينة ، وفيها مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم وقبره ومنبره اللذين ورد في أن ما بينهما روضة من رياض الجنة ، وبها استقر خير أمة محمد عليه والسلام من الخلفاء الراشدين والصحابة وبها ماتوا ودُفنوا. وفي شمالها يقع جبل أحد الذي وقعت عنده الغزوة المشهورة غزوة أحد ، وهي في حرة سبخة الأرض ، وبها نخيل كثيرة ومياه ومزارع . وتقع شمال مكة على نحو عشر مراحل (حوالي 450كم) . يراجع : معجم البلدان (5/82، 88) ، وصحيح البخاري (2/220- 255) كتاب فضائل المدينة .
(3) - يراجع : اقتضاء الصراط المستقيم (2/613- 615) .
(4) - يراجع : مجموعة فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (25/298) .(22/378)
المبحث الثالث : الاحتفال بأعياد الميلاد.
المبحث الرابع : الاحتفالات والأعياد المحدثة .
المبحث الخامس : الاحتفال برأس السنة الهجرية .
البحث السادس : الاحتفال برأس القرن الهجري.
المبحث السابع : الاحتفال بذكرى بعض العلماء.
المبحث الثامن : مشروعية مخالفة أهل الكتاب .
تمهيد
لا يخفى على كل مسلم أن الله سبحانه وتعالى بعث نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم إلى الخلق ، على فترة من الرسل ، وقد مقت(1) أهل الأرض عربهم وعجمهم، إلا بقايا من أهل الكتاب(2) ماتوا- أو أكثرهم- قبيل مبعثه -عليه السلام-، والناس قسمين:
كتابي معتصم بكتاب ، وهذا الكتاب إما مبدَّل ، وإما مبدع منسوخٌ ، ودين دارس ، بعضه مجهول ، وبعضه متروك .
وأمي من عربي أو عجمي ، مقبل على عبادة ما استحسنه وظنَّ أنه ينفعه : من نجم ، أو وثن(3)، أو قبر ، أو تمثال(4)، أو غير ذلك .
والناس في جاهلية جهلاء ، أعلمهم من عنده قليل من العلم الموروث عن الأنبياء المتقدمين ، وقد اشتبه حقه بباطله ، فيشتغل بعمل قليله مشروع وأكثره مبتدع .
__________
(1) - المقت : أشد البغض . يُراجع : النهاية في غريب الحديث والأثر (4/346) ، باب الميم مع القاف .
(2) - ورد ذلك في حديث صحيح رواه مسلم في صحيحه ( 4/ 2197) كتاب الجنة ، حديث رقم (2865).
(3) - الوثن : هو كل ما له جثة معلولة من جواهر الأرض ، أو من الخشب والحجارة ، كصورة الآدمي ، تعمل وتنصب فتعبد ، ومن العلماء من قال : الوثن هو الصنم ، وقيل : الصنم : هو الصورة بلا جثة . يُراجع : النهاية في غريب الحديث والأثر (5/151) ، باب الواو مع الثاء .
(4) - التمثال : اسم للشيء المصنوع مشبهاً بخلق من خلق الله . يُراجع : لسان العرب (11/613) ، مادة (مثل ).(22/379)
فهدى الله الناس بدعوته صلى الله عليه وسلم وبما جاء به من البينات والهدى ، حتى حصل لأمته المؤمنين عموماً ، - ولأولي العلم منهم خصوصاً – من العلم النافع ، والعمل الصالح ، والأخلاق العظيمة ، والسنن المستقيمة ما يفوق ما عند جميع الأمم علماً وعملاً . فكان دين الإسلام ، الذي بُعث به – عليه الصلاة والسلام – هو الصراط المستقيم ، الذي أوجب الله عليهم أن يسألوه أن يهديهم إليه كل يوم في صلاتهم ، ووصفه بأنه صراط الذين أنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ، غير المغضوب عليهم ولا الضالين .
فالمغضوب عليهم هم اليهود ، الذين قال الله فيهم:{ قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ...}(1).وقال فيهم سبحانه وتعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ .... }(2). وهم المنافقون الذين تولوا اليهود(3) . باتفاق أهل التفسير ،وسياق الآية يدلُّ على ذلك. قال تعالى:{ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ... }(4)
__________
(1) - سورة المائدة ، الآية : 60.
(2) - سورة المجادلة ، الآية : 14.
(3) - يُراجع : تفسير ابن كثير (4/327).
(4) - سورة آل عمران ، الآية : 112.(22/380)
ففي الآيات السابقة بيان بأن اليهود هم المغضوب عليهم . والضالين : هم النصارى الذين قال الله تعالى فيهم : { لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ ... } إلى قوله عز وجل : { قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ}(1) . وهذا خطاب للنصارى كما دلَّ عليه السياق ، ولهذا نهاهم عن الغلو ، وهو مجاوزة الحدّ ، كما نهاهم في قوله تعالى : { يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ .... }الآية(2).
واليهود مقصرون عن الحق ، والنصارى غالون فيه . فكفر اليهود أصله من جهة عدم العمل بعلمهم ، فهم يعلمون الحق ولا يتبعونه عملاً ، أو لا قولاً ولا عملاً .
وكفر النصارى من جهة علمهم بلا علم، فهم يجتهدون في أصناف العبادات بلا شريعة من الله، ويقولون على الله مالا يعلمون.
ولهذا كان السلف : سفيان بن عيينة وغيره يقولون : إن من فسد من علمائنا ففيه شبه من اليهود ، ومن فسد من عبادنا ففيه شبه من النصارى .
__________
(1) - سورة المائدة ، الآيات : 73- 77.
(2) - سورة النساء ، الآية : 171.(22/381)
ومع أن الله قد حذَّرنا سبيلهم، فقضاؤه -عزَّ وجل- نافذ بما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم، مما سبق في علمه، حيث قال فيما خرجاه في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( لتتبعن سنن من كان قبلكم شبراً شبراً وذراعاً ذراعاً حتى لو دخلوا جحر ضبِّ(1) تبعتموهم ))، قلنا : يا رسول! اليهود والنصارى؟ . قال: ((فمن ؟))(2) .
ورواه البخاري في صحيحه عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (( لا تقوم الساعة حتى تأخذ أمتي بأخذ القرون قبلها شبراً بشبر وذراعاً بذراع)) . فقيل: يا رسول الله! كفارس والروم؟. فقال: ((ومن الناس إلا أولئك))(3).
فأخبر- عليه والسلام- أنه سيكون في أمته مضاهاة لليهود والنصارى ، وهم أهل الكتاب ، ومضاهاة لفارس والروم ، وهم الأعاجم . وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم ينهى عن التشبه بهؤلاء وهؤلاء ، وليس هذا إخباراً عن جميع الأمة ، بل قد تواتر عن صلى الله عليه وسلم أنه قال : ((لا يزال من أمتي أمة قائمة بأمر الله ، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم ، حتى يأتيهم أمر الله وهم على ذلك ))(4).
__________
(1) - الضب: دويبة أحرش الذنب، خشنُهُ، مُفقره، ذو عقد، ولونه إلى الصُّحْمة، وهي غُبرة مشربة سواداً، وإذا سمن اصفر صدره. يُراجع: لسان العرب( 1/539) مادة(ضبب)
(2) - رواه البخاري في صحيحه المطبوع مع فتح الباري ( 13/300) كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة ، حديث رقم (7320). ورواه مسلم في صحيحه (4/2054) كتاب العلم ، حديث رقم (2669) .
(3) - رواه البخاري في صحيحه المطبوع مع فتح الباري (13/300) كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة ، حديث رقم (7319).
(4) - رواه البخاري في صحيحه المطبوع مع فتح الباري (6/632) كتاب المناقب ، حديث رقم (3641). ورواه مسلم في صحيحه (3/1523) كتاب الإمارة ، حديث رقم (1920، 1921).(22/382)
وأخبر -عليه والصلاة والسلام- : أن الله لا يجمع هذه الأمة على ضلالة(1) .
فعلم بخبره الصدق القاطع الأكيد أن في أمته قوماً مستمسكون بهديه ، الذي هو دين الإسلام محضاً ، وقوم منحرفون إلى شعبة من شعب اليهود أو إلي شعبة من شُعب النصارى ، وإن كان الرجل لا يكفر بكل انحراف ، بل وقد لا يفسق أيضاً بل قد يكون الانحراف كفراً ، وقد يكون فسقاً ، وقد يكون معصية ، وقد يكون خطأ .
وهذا الانحراف أمر تتقاضاه الطباع ، ويزينه الشيطان ، فلذلك أمر الله سبحانه وتعالى عباده بدوام دعاء الله سبحانه وتعالى بالهداية إلى الاستقامة التي لا يهودية فيها ، ولا نصرانية أصلاً(2) .
وقد ابتلى الله هذه الأمة بكثير من الأمور التي في فعلها تشبه بأهل الكتاب والأعاجم ، وسأتكلم عما يتعلق بموضوع كتابي ، وهو تشبه المسلمين بالكفار في أعيادهم واحتفالاتهم ، وذلك على وجه الإيجاز :
المبحث الأول
الاحتفال بعيد ميلاد المسيح
جرت عادة النصارى على الاحتفال بعيد ميلاد المسيح.وهذا العيد يكون في اليوم الذي يزعمون أنه ولد فيه المسيح ابن مريم، وهو يوم 24 كانون الأول (ديسمبر ) آخر شهر في السنة الميلادية(3).
__________
(1) - رواه الترمذي في سننه (3/315) أبواب الفتن ، حديث رقم (2255) ، وقال : حديث غريب من هذا الوجه . وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (5/218) ، وقال : ( رواه الطبراني بإسنادين رجال أحدهما ثقات رجال الصحيح ، خلا مرزوق مولى آل طلحة وهو ثقة ) ا.ه . وذكره السيوطي في الجامع الصغير (1/378) رقم (1818) ، وأشار إلى أنه حسن . ورواه الدرامي في سننه (1/29) . ...........قلت : وله شاهد متفق على صحته وهو الحديث الذي قبله : (( لا يزال من أمتي أمة قائمة بأمر الله ...))
(2) - يُراجع : اقتضاءالصراط المستقيم (1/63- 70).
(3) - يًراجع : اقتضاء الصراط المستقيم ( 2/516).(22/383)
وسنتهم في ذلك كثرة الوقود، وتزيين الكنائس، وكذلك البيوت والشوارع والمتاجر، ويستعملون فيه الشموع الملونة، والزينات بأنواعها .
ويحتفلون بهذا العيد شعبياً ورسمياً ، ويعتبر إجازة رسمية في جميع الدولة التي تدين بالمسيحية ، وكذلك في غيرها من البلدان ، بل في بعض البلاد الإسلامية يعتبر يوم عيد ميلاد المسيح إجازة رسمية ، ويحتفل الناس بهذه المناسبة .
والاحتفال بعيد ميلاد المسيح أمر مُحدث مبتدع في المسيحية ، فاتخاذ يوم ميلاد المسيح عيداً بدعة أحدثت بعد الحواريين(1)، فلم يعهد ذلك عن المسيح ، ولا عن أحد من الحواريين(2).
وقد ابتلى الله كثيراً من المسلمين في بعض البلدان الإسلامية بالاحتفال بهذه المناسبة .
ولم يتوقف الاحتفال فيه على المسيحيين فقط ، بل يشاركهم فيه بعض المسلمين ، الذين دعاهم إلى ذلك الخضوع لشهوات النفس ، والهوى ، والشيطان ؛ لما يحصل في هذه الاحتفالات من اختلاط النساء بالرجال ، ونزع جلباب الحياء بالكلية ، وشُرْب المسكرات ، ورقص النساء مع الرجال ، وما يحدث في هذه الاحتفالات من الأمور التي في ذكرها خدش لكرامة المتحدث بها - عافانا الله وإياكم مما ابتلاهم به -.
__________
(1) - الحواريون :/ هم أتباع عيسى –عليه السلام- وأنصاره. قال تعالى :{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ ....}(الصف: من الآية14) . ويُراجع :تفسير ابن كثير (4/362).
(2) - يُراجع : الجواب الصحيح لشيخ الإسلام ابن تيمية (2/230). ويُراجع : مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (28/611).(22/384)
وكذلك حب التقليد الأعمى للنصارى ، واعتبار ذلك من باب التطور والتقدم ، وأن مشاركة المسيحيين في احتفالاتهم صورة من صور الحضارة ، لذلك يبادرون إلى حضور هذه الاحتفالات ، ويقدمون التهاني للنصارى بهذه المناسبة ، مع أن النصارى لا يهنئونهم بعيدين الفطر والأضحى .
وهذا كله بسبب ضعف الوازع الديني ، وأنهم مسلمون بالاسم لا بالدين والعقيدة ؛ لأن في فعلهم ذلك مخالفة لنهيه صلى الله عليه وسلم عن التشبه بالكفار خصوصاً ، ونهيه عن المعاصي التي تُرْتَكب في هذه الاحتفالات عموماً .
وقد قال الله تعالى : {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ}(1) . ولاشك أن حضور هذه الاحتفالات ، والإهداء للنصارى فيها ، من أعظم صور المودة لأعداء الله ورسوله ، فهذا مما يوجب نفي الإيمان عنهم كما ورد في هذه الآية.
والنصوص في هذا الشأن كثيرة ، وليس هذا مجال ذكرها. والله أعلم.
***********************
المبحث الثاني
الاحتفال بالنيروز
النيروز ، أو النوروز : هو أول يوم من أيام السنة(2) عند الفرس المجوس . يكون في أول فصل الربيع من كل سنة .
وهذا اليوم يوم عيد فارسي مجوسي من أعياد عَّباد النار. وهو من أعظم أعيادهم ، يقال : إن أول من اتخذه جمشيد أحد ملوك الفرس الأُول ، ويُقال فيه : جمشاد ، ومعنى جم : القمر ، وشاد الشعاع أو الضياء .
وسبب اتخاذهم لهذا العيد : أن طهومرت لما هلك ملك بعده جمشاد فسمي اليوم الذي ملك فيه نوروز ؛ أي اليوم الجديد .
ومن الفرس من يزعم أن النيروز اليوم الذي خلق الله عز وجل فيه النور ، وأنه كان معظم القدر عند جمشاد .
__________
(1) - سورة المجادلة: الآية22.
(2) - يُراجع : القاموس المحيط (2/ 200) باب الزاي فصل النون (النرز)(22/385)
وبعضهم يزعم أنه أول الزمان الذي ابتدأ فيه الفلك بالدوران ، ومدته عندهم ستة أيام ، أولها اليوم الأول من شهر ( أفريدون ماه) الذي هو أول شهور سنتهم، ويسمون اليوم السادس النوروز الكبير ؛ لأن الأكاسرة(1) كانوا يقضون في الأيام الخمسة حوائج الناس ، ثم ينتقلون إلى مجالس أنسهم مع خواصهم .
وكان من عادتهم فيه : أن يأتي الملك من الليل رجل جميل الوجه ، قد أرصد لما يفعله ، فيقف على الباب حتى يصبح ، فإذا أصبح دخل على الملك من غير استئذان ، فإذا رآه الملك يقول له : من أنت ؟ ومن أين أقبلت ؟ وأين تريد ؟ وما أسمك ؟ ولأي شيء وردت ؟ وما معك ؟ فيقول : أنا المنصور ، واسمي المبارك ، ومن قبل الله أقبلت ، والملك السعيد أردت ، وبالهناء والسلامة وردت، ومعي السنة الجديدة. ثم يجلس ، ويدخل بعده رجل معه طبق من فضة، وفيه حنطة، وشعير، وجلبان(2)، وحمص، وسمسم، وأرز – من كل واحد سبع سنابل ، وتسع حبات – وقطعة سكر ، ودينار ودرهم جديدان ، فيضع بين يدي الملك ، ثم تدخل عليه الهدايا ، ثم يدخل عليه الناس حسب مراتبهم ، وقربهم من الملك ، ثم يقدم للملك رغيف كبير مصنوع من تلك الحبوب ، موضوع في سلة ، فيأكل منه ويطعم من حضره ، ثم يقول : هذا يوم جديد ، من شهر جديد ، من عام جديد، من زمان جديد، يحتاج أن تجدد فيه ما أخلق من الزمان ، وأحق الناس بالفضل والإحسان الرأس على سائر الأعضاء ، ثم يخلع على وجوه دولته، ويصلهم ، ويفرق فيهم ما حمل إليه من هدايا ، ومن عادة عوام الفرس رفع النار في ليلته ورش الماء في صبيحته(3) .
__________
(1) - الأكاسرة : جميع كسرى ، وهو ملك الفرس . معرب ، هو بالفارسية خسرو ، أي واسع الملك . يراجع لسان العرب (5/142) مادة (كسر) .
(2) - الجلبان : حب أغبر أكدر يطبخ . يراجع لسان العرب (1/274) مادة (جلب ).
(3) - يُراجع : نهاية الأرب للنويري (1/85،186).(22/386)
فأكثر ما يفعلونه في هذا العيد هو كثرة وقود النيران – لأنَّها معبودهم- وكثرة رش الماء ، فيجتمع الناس في الشوارع والساحات ، وقرب الأنهار والبحيرات ، مختلطين رجالهم ونساؤهم ، وترتفع أصواتهم، ويشربون الخمر ظاهراً بينهم في الطرقات، ويتراش الناس بالماء ، وبالماء والخمر ، ويستخفون بحرمات الناس الذين لا يشاركونهم هذا الاحتفال ، فيرشُّونهم بالماء ممزوجاً بالأقذار ... إلى غير ذلك من أمور الفسق والفساد(1).
وللأسف الشديد ، ليس هذا متوقفاً على الأعاجم فقط ، وإنَّما يشاركهم من يدَّعي الإسلام في بلادهم ، وفي غيرها من البلاد، ولاسيما الملوك والرؤساء والوزراء والتجار والأعيان، ويظهرون من الابتهاج والسرور والاحتفالات، والزينات والتهاني ما يفوق الوصف ، ويكون احتفالهم وفرحهم به وتعظيمهم له، أكثر من احتفالهم وفرحهم وتعظيمهم لعيدي الأضحى والفطر(2).
ويتجلى اهتمام من يدعي الإسلام بالاحتفال بالنيروز في تقليده للأعاجم في جميع ما يعملونه من أكل المأكولات التي تعمل في هذه المناسبات خاصة كالهريسة(3) وغيرها من مآكلهم في النيروز . وكذلك بل بعضهم بعضاً بالماء وإلقائه في الماء، وخرجهم من البساتين ، ورمي بعضهم بعضاً في بِركِها، وفي البحر وغيره، مع ما يتعدى ضرر ذلك إلى الغرباء والمساكين من الرجال والنساء، وأذاهم ، ممن لا يشاركهم في هذه الاحتفالات(4).
__________
(1) - يُراجع : الخطط والآثار للمقريزي(1/493).
(2) - يُراجع :تحذير المسلمين ص(151).
(3) - الهريسة : الحب المطبوخ ، والهريس: الحب المهروس قبل أن يطبخ ، وسميت الهريسة هريسة ؛ لأنَّ البر الذي هي منه يدق ثم يطبخ . يُراجع :لسان العرب ( 6/ 247) مادة (هرس ).
(4) - يُراجع :تنبيه الغافلين ص(384).(22/387)
فالاحتفال بالنيروز من أعياد الملحدين ، وتقليدهم لا يجوز شرعاً ، فلا يجوز للمسلم أن يحضر تلك الاحتفالات ، ولا أن يهنئهم على هذا العيد ، ومن صنع دعوة مخالفة للعادة في أعيادهم لم تجب دعوته ، ومن أهدى من المسلمين هدية في هذه الأعياد مخالفة للعادة في سائر الأوقات غير هذا العيد لم تُقْبل هديته ، خصوصاً إذا كانت الهدية مما يُستعان بها على التشبه بهم(1).
والاحتفال بالنيروز عند غير الأعاجم ، ليس المقصود منه تعظيم النار التي هي معبود الفرس ، ولا محبة لديانتهم ، ولا حباً في تقليدهم ، وإنَّما الذي دعاهم إلى ذلك الشيطان الذي استولى على نفوسهم وعقولهم ، فزيَّن لهم ارتكاب المعاصي ، وفعل ما النساء بالرجال ، وشرب الخمور ، وكثرة الهرج والمرج ، وتساقط الأخلاق والآداب ، والتصرفات الحيوانية ، بل ربما كان عند الحيوانات من الغيرة على محارمها أكثر مما عندهم{...إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً}(2) . فجمعوا بين إثم تقليد الكفار المنهي عنه ، وبين الإثم المترتب على فعل المحرمات .
ومن عادة الذين اتخذوا إلههم هواهم الميل إلى التصرفات الخارجة عن حدود الدين ، وحدود الشرف والفضيلة ، كلما وجدوا إلى ذلك سبيلاً ، فيحرصون على حضور الاجتماعات والاحتفالات ، التي تتوفر فيها أنواع المعاصي ؛ لكونها تلبي شهوات نفوسهم المريضة – والعياذ بالله – {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ}(3) . والله الهادي إلى سواء السبيل .
******************************
المبحث الثالث
الاحتفال بأعياد الميلاد
__________
(1) - يُراجع : اقضاء الصراط المستقيم (2/517).
(2) - سورة الفرقان: الآية44.
(3) -(الجاثية:23)(22/388)
ومن الأمور التي تشبَّه المسلمون فيها بالكفار ، الاحتفال بأعياد الميلاد .
فقد جرت عادة النصارى أن يحتفلوا بكل سنة تمر من حياتهم ، وهو أمر محدث في شريعتهم .
فيحتفل الوالدان بمرور سنة على ميلاد ابنهما ، وفي السنة الثانية يحتفلون بمرور سنتين على ميلاده ..... وهكذا.
وكذلك الأب والأم يحتفلون بعيد ميلادهم على هذا النحو .
وعادتهم في مثل هذا الاحتفال : إقامة الزينات الملونة في أنحاء البيت ، ودعوة الأقارب والأصدقاء والجيران ، فيصطحب كل منهم هدية لصاحب هذا العيد .
ويحرص والدي الطفل أو الزوج – إذا كان العيد لزوجته والعكس – على إحضار هدية خاصة بهذه المناسبة ، وعادة ما يكون هذا الاحتفال ليلاً . ومن ضمن استعداداتهم تجهيز الحلويات والمشروبات الخاصة بهذه المناسبة ، وخاصة قطعة من الكعك الخاص(1)، والتي تكون عادة بشكل دائري ، وتختلف أحجامها ومقاساتها حسب الحالة الاجتماعية ، وعمر المحتفل بميلاده ، ويغرس في هذه الكعكة الخاصة عدد من الشموع تكون بعدد سني المحتفل بميلاده إن كان صغيراً ، وبعدد العقود إذا كان كبيراً ، فمثلاً : إذا كان عمره ثلاث سنوات وضعوا ثلاث شمعات ، وإذا كان كبيراً وعمره خمسين سنة مثلاً وضعوا خمس شمعات ، على أساس كل عقد من عمره له شمعة واحدة. وعادة تكون هذه الكعكة الخاصة موضوعة على مائدة تحيط بها الأنواع الأخرى من الحلويات والمشروبات ، فتكون في وسط المائدة .
__________
(1) - الكعك : الخبز ، كلمة فارسية معربة . يراجع : لسان العرب (10/481) مادة (كعك) . والناس في الوقت الحاضر يطلقون الكعك على الخبز اليابس ، أما يستعمل في المناسبات فيسمونه (كيك) وهي كلمة (إنجليزية) تطلق على أنواع الخبز السميك اللين الهش . وهو المراد في هذا المقام ، وعادة ما يحلى بأنواع من الحلوى الملونة التي تكون على ظاهره .(22/389)
ثم يوقدون الشموع المغروسة في قطعة الكعك ، ثم يجتمع المحتفلون حول المائدة ، ويكون المحتفل بميلاده في وسطهم قابلاً للشموع ثم يطفئ هذه الشموع بنفخه إياها، ويشاركه الحاضرون .
ومعنى أنه قضى من عمره قدر هذه الشموع .
ويولي الناس الاحتفال بأعياد الميلاد اهتماماً يفوق الوصف، لحرصهم على تقليد الأعاجم، مع أن هذا من المشابهة المنهي عنها، وفعلهم هذا مصداق قوله صلى الله عليه وسلم : (( لتتبعن سنن من كل قبلكم ...))الحديث(1)
ومن مظاهر هذا الاهتمام : الإعلان عن ذلك في الصحف والمجلات ، الإسراف في صنع الزينات والمأكولات والمشروبات ، وتباهي الناس في ذلك ومفاخرة بعضهم بعضاً في هذا المجال .
أما الأمور التي سنَّها الرسول صلى الله عليه وسلم والتي منها : العقيقة ، وهي ما يذبح عن المولود ذكراً أو أنثى ، فلا يولونها أي اهتمام ، وإنَّما هي سنَّة من السنن التي كادت أن تندرس بسبب كثرة البدع ، والإعراض عن السنن .
وهي التي قال فيها صلى الله عليه وسلم : (( مع الغلام عقيقة ، فأهريقوا عنه دماً ،وأميطوا عنه الأذى ))(2).
__________
(1) - رواه البخاري في صحيحه المطبوع مع فتح الباري (13/300)كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة ، حديث (732).رواه مسلم في صحيحه المطبوع مع شرح النووي (16/219)كتاب العلم واللفظ له .
(2) - رواه البخاري في صحيحه المطبوع مع فتح الباري (9/590) كتاب العقيقة ، حديث رقم (5472). قال ابن حجر في فتح الباري ( 9/591) وصله الطحاوي . ورواه أبو داود في سننه (3/261) كتاب الأضاحي ، حديث رقم ( 2839) ، ورواه الترمذي في سننه (3/35) أبواب الأضاحي ، حديث رقم (1551، 1552)، وقال : حديث صحيح . ورواه النسائي في سننه (7/ 164) كتاب العقيقة . ورواه ابن ماجه في سننه (2/1056) كتاب الذبائح، حديث رقم (3164).(22/390)
وقال صلى الله عليه وسلم: (( كل غلام رهينة بعقيقته ، تذبح عنه يوم سابعه ، ويسمى فيه ، ويحلق رأسه ))(1).وقال أيضاً: (( عن الغلام شاتان مكافئتان ، وعن الجارية شاة ))(2). وقال أيضاً: (( عن الغلام شاتان ، وعن الأنثى واحدة ، ولا يضركم ذكرانا كن أو إناثاً ))(3)......... إلى غير ذلك من الأدلة التي تدلُّ على استحباب العق عن المولود(4).
فهذه سنة المصطفى – عليه الصلاة والسلام - ، قد تركها الكثير من الناس ولهم في فعلها الأجر العظيم ، وتشبهوا بالكفار في الاحتفال بأعياد الميلاد ، فقدموا ما يحصل به العقاب ، على ما ينالوا به الثواب .
__________
(1) - رواه أحمد في مسنده (5/17) .ورواه أبو داود في سننه (3/260) كتاب الأضاحي ، حديث رقم ( 2838) . ورواه الترمذي في سننه (3/38) أبواب الأضاحي ، حديث رقم (1559) ، وقال : حديث حسن صحيح . ورواه النسائي في سننه (7/166) كتاب العقيقة . ورواه ابن ماجه في سننه (2/1056، 1057) كتاب الذبائح ، حديث رقم (3165).
(2) - رواه أحمد في مسنده(6/422). ورواه أبو داود في سننه (3/257) كتاب الأضاحي ، حديث رقم ( 2834) .ورواه الترمذي في سننه (3/35) أبواب الأضاحي ، حديث رقم (1549) ، وقال : حديث حسن صحيح . ورواه ابن ماجه في سننه (2/1056، 1057) كتاب الذبائح ، حديث رقم (3162). ورواه النسائي في سننه (7/165) كتاب العقيقة.
(3) - رواه أحمد في مسنده(6/422). ورواه أبو داود في سننه (3/257، 258) كتاب الأضاحي ، حديث رقم ( 2835) .ورواه الترمذي في سننه (3/35) أبواب الأضاحي ، حديث رقم (1550) ، وقال : هذا حديث صحيح . ورواه النسائي في سننه (7/165) كتاب العقيقة.
(4) - يراجع : تحفة المودود بأحكام المولود ص(38- 42).(22/391)
والسبب في ذلك ضعف الإيمان ، والجهل ، والتقليد الأعمى ، وقلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتكاسل بعض العلماء، وطلاب العلم في محاربة هذه المحدثات البدعية ، التي ليس من شأنها إلا القضاء على السنن لتحل محلها البدع ، فيحصل للناس بذلك الفساد في دينهم وأخلاقهم ، وليس بعد ذلك مصيبة .
حمانا الله وإياكم من كل شرِّ ، وأصلح لنا ديننا ودنيانا وآخرتنا ، إنه سميع مجيب . والله أعلم .
**********************
المبحث الرابع
الاحتفالات والأعياد المحدثة
من الأمور التي تشبه المسلمون فيها بالكفار في هذا الوقت ، وضعهم بعض الأعياد والاحتفالات المحدثة ، والتي تكون معرضة للمحو والتغيير في كل فترة ، لأنها من وضع البشر ، وليست تشريعاً من الله ، وحسب ما تراه الدول وحكامها .
فتتخذ بعض الحكومات يوماً معيناً تجعله عيداً بمناسبة ثورتها أو استقلالها ، وبعد أن يتغير الحكم والحكومة بسبب ثورة أخرى يجعل العيد والاحتفال في تاريخ الثورة الجديدة ، ويترك الاحتفال بالثورة الأولى ، فهذه الأعياد حسب رغبة من يضعها ، إن شاء استمرت ، وإن شاء عطلت ، وكفى بذلك مهزلة !!!.
وأفقدوا الأعياد قيمتها عند الناس ، بأن جعلوا لكل شيء عيداً – وما المانع إذا كان إحداث العيد متوقفاً على رغبة فئة من الناس- . وهذه الأعياد والاحتفالات تختلف من دولة لأخرى ، فلكل بلد مجموعة من الأعياد تختص بها ، منها ما يكون رسمياً فتعطل فيه الدوائر الحكومية والمدارس ، ومنها ما يختص بفئة دون فئة كعيد الأم ، وعيد العمال مثلاً ، ومنها ما هو شكلي كعيد الشجرة ،.......وهكذا .
وبعض الدول تجعل لهذه المناسبات نشرة خاصة يعرفها الناس كلهم ويتمشون عليها .(22/392)
وأكثر البلدان الإسلامية في الوقت الحاضر تجد لها على الأقل عشرة أعياد سنوية فأكثر، مع أن أعياد المسلمين كما هو معروف عيدان فقط : عيد الفطر ، وعيد الأضحى ، ويضاف إليهما عيد الأسبوع وهو يوم الجمعة . فمن شرع الباقي؟!.{أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ }(1) .
ومن الأمثلة على هذه الأعياد : عيد النصر(2) ، عيد العلم ، عيد الأم ، عيد الثورة ، عيد السلام ، عيد الجلاء ، عيد العمال ، عيد الوحدة ، عيد الأحزاب ، عيد الدستور .... إلى غير ذلك .
والعيد الذي تكاد تتفق فيه كثير من البلدان في جميع أنحاء العالم هو العيد الوطني ، أو عيد الاستقلال ، أو عيد الجلوس ، ونحو ذلك . ويقام في اليوم الذي يوافق بداية الحكم في كل دولة ، أو بداية استقلال الدولة عن حكم المستعمرين .
ولا شك أن اتخاذ مثل هذه الأعياد والاحتفالات بدعة في نفسه ، ومحرم ، وشرع دين لم يأذن به الله (3).
*****************************
المبحث الخامس
الاحتفال برأس السنة الهجرية
في بداية كل سنة هجرية تحتفل بعض الدول الإسلامية بعيد رأس السنة فتعطل الأعمال في اليوم السابق له ، واليوم اللاحق له. وليس لاحتفالهم هذا أي مستند شرعي ، وإنّما هو حب التقليد والمشابهة لليهود والنصارى في احتفالاتهم .
وأول من احتفل برأس السنة الهجرية -حسب اطلاعي المحدود – هم ناصري البدعة حكام الدولة العبيدية -الفاطمية- في مصر.
__________
(1) -(الشورى: من الآية21)
(2) - عيد النصر : من الأعياد التي ابتدعها الباطنية لما حكموا مصر وتسموا بالفاطميين . يُراجع : الخطط والآثار للمقريزي (1/490)
(3) - يُراجع : فتاوى ورسائل الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ (3/107- 121).(22/393)
ذكر ذلك المقريزي في خططه ضمن الأيام التي كان العبيديون يتخذونها أعياداً ومواسماً . قال :(موسم رأس السنة : وكان للخلفاء الفاطميين اعتناء بليلة أول المحرم في كل عام ؛ لأنها أول ليالي السنة وابتداء أوقاتها ...) ا.هـ . ثم ذكر الرسوم المتبقية في هذا الموسم ، وذكر بعده موسم أول العام وعنايتهم به(1).
وعيد رأس السنة من أعياد اليهود التي نطقت بها التوراة ، ويسمونه رأس هيشا ، أي عيد رأس الشهر ، وهو أول يوم من تشرين ، ينزل عندهم منزلة عيد الأضحى عند المسلمين ، ويقولون : إن الله عز وجل أمر إبراهيم بذبح إسحاق(2) ابنه - عليهما السلام – فيه ، وفداه بذبح عظيم(3).
__________
(1) - يراجع الخطط والآثار للمقريزي (1/490).
(2) - هذا كذب وافتراء من اليهود ، فالذبيح هو إسماعيل وليس إسحاق – عليهما السلام -؛ لأنَّ أول ولد بشِّرَ به إبراهيم –عليه السلام – هو إسماعيل–عليه السلام – ، وهو أكبر من إسحاق –عليه السلام – ، وهذا باتفاق المسلمين وأهل الكتاب ، بل نصّ في كتابهم أن إسماعيل –عليه السلام – ولد ولإبراهيم –عليه السلام – ست وثمانون سنة ، وولد إسحاق –عليه السلام – وعُمْر إبراهيم – عليه الصلاة والسلام – تسع وتسعون سنة . وكونهم قالوا : إن الذبيح هو إسحاق وليس إسماعيل – عليهما السلام- ؛ لأنَّ إسحاق أبوهم وإسماعيل أبو العرب فحسدوهم . فقولهم تحريف وباطل عند عامة العلماء ، إلا قولاً شاذاً في هذا لا يعول عليه . يُراجع : تفسير ابن كثير (4/14) ، تفسير سورة الصافات ، الآيات (99- 113).
(3) - يُراجع : نهاية الأرب للنويري (1/195).(22/394)
فجاء النصارى فقلدوا اليهود ، وصاروا يحتفلون بليلة رأس السنة الميلادية . ولهذا الاحتفال عندهم مراسم خاصة ، وذلك أنه في تلك الليلة- ليلة أول يوم من العام الجديد– يجتمع المحتفلون ويسهرون على موائد الأكل والشرب المباحة والمحرمة ، في أماكن عامة للأكل والشرب والرقص واللهو . فإذا جاءت الساعة الثانية عشرة- بالتوقيت الزوالي- وهو منتصف الليل ، أُطفئت الأنوار ، فيقبل كل شخص من بجانبه مدة تزيد عن خمس دقائق ،وتكون الأماكن مرتبة بحيث يكون كل رجل بجانبه امرأة ، سواء كان يعرفها أو لا يعرفها ، ويعلم كل واحد منهما أن الآخر سيقبله في الوقت الذي تطفأ فيه الأنوار ، وليس المقصود من إطفاء الأنوار الستر ، بل يعبرون بذلك عن نهاية عام ، وبداية عام جديد .
فلذلك تجد كثيراً من شباب المسلمين وشيبهم يحرصون على حضور هذه الاحتفالات ، سواء في بلادهم ، أو في بلاد الغرب أو الشرق ، لكن لا تفوتهم هذه المراسم ، ويخسرون في سبيل ذلك المال الكثير ، ويعتبرون ذلك فرصة يجب أن تُنتهز؛ لأنَّها – كما يزعمون – من ليالي العمر التي لا تُنسى !!!.
ولم يتوقف الاحتفال بها على النصارى فقط ، بل صارت كثير من البلدان الإسلامية ، والتي ربما يوجد بها نسبة من النصارى ولو قليلة ، يحتفل العامة فيها بعيد رأس السنة الميلادية .
وسرى التقليد إلى أن احتفلوا أيضاً برأس السنة الهجرية ، ولكن المراسم تختلف .
ولا شك أن في هذا الاحتفال – الاحتفال برأس السنة الهجرية – أمر مُحدث مُبتدع ، لم يُؤثر عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من أصحابه–رضوان الله عليهم-،ولا عن السلف الصالح من التابعين وتابعيهم وأعلام الأمة وعلمائها من الأئمة الأربعة وغيرهم – رحمة الله عليهم - .(22/395)
ولكن حدث ذلك بعد القرون المفضلة ، بعدما اختلط المسلمون بغيرهم من اليهود والنصارى ، ودخل في الإسلام من يريد بذلك أن يفسد على المسلمين دينهم، فصاروا يحتفلون بأعياد اليهود والنصارى، وهذا مصداق قوله صلى الله عليه وسلم (( لتتبعن سنن من كل قبلكم ...))الحديث(1).
وقد اخترع بعض المبتدعة دعاء لليلتي أول يوم من السنة وآخرها، وصار العامة في بعض البلدان الإسلامية يرددونه مع أئمتهم في بعض المساجد، وهذا الدعاء لم يُؤثر عن النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا عن أصحابه ، ولا عن التابعين ، ولم يرو في مسند من المسانيد(2) .
وهذا نصه : اللهم ما عملته في هذه السنة مما نهيتني عنه ولم ترضه ، ونسيته ولم تنسه ، وحلمت عليَّ في الرزق بعد قدرتك على عقوبتي ، ودعوتني إلى التوبة بعد جراءتي على معصيتك ، اللهم إني استغفرك منه فاغفر لي ، وما عملته فيها من عمل ترضاه ووعدتني عليه الثواب فأسألك يا كريم ، يا ذا الجلال والإكرام أن تقبله مني ، ولا تقطع رجائي منك يا كريم ، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .ويقولون : فإن الشيطان يقول : قد تعبنا معه سائر السنة ، فأفسد عملنا في واحدة ، ويحثوا التراب على وجهه. ويسبق هذا الدعاء صلاة عشر ركعات ، يقرأ في كل ركعة الفاتحة ، ثم آية الكرسي عشر مرات، والإخلاص عشر مرات(3) .
ولا يخفى على طالب العلم أن الدعاء عبادة ، والعبادات توقيفية ، وهذا الدعاء لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم ، ولم يُذكر عن أحد من الصحابة – رضي الله عنهم – كما تقدَّم .
__________
(1) - رواه البخاري في صحيحه المطبوع مع فتح الباري (13/300)كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة ، حديث (732).رواه مسلم في صحيحه المطبوع مع شرح النووي (16/219)كتاب العلم واللفظ له .
(2) - يُراجع : إصلاح المساجد ص (129).
(3) - يُراجع : رسالة روى الظمآن في فضائل الأشهر والأيام ، ص (21).(22/396)
ومما أحدث أيضاً في يومي آخر السنة وأولها صيامهما ، واستند المبتدعة إلى حديث : ( من صام آخر يوم من ذي الحجة ، وأول يوم من الحرم ، فقد ختم السنة الماضية ، وافتتح السنة المستقبلة بصوم جعل الله له كفارة خمسين سنة)(1)
***************************
البحث السادس
الاحتفال برأس القرن الهجري
ومما أُحدث في القرون الأخيرة : الاحتفال برأس القرن الهجري ،وذلك كما حدث في بداية القرن الخامس عشر الهجري، فقد احتفلت بعض البلاد الإسلامية بهذه المناسبة ، وأقيمت المحافل الخطابية، وتبادل بعضهم التهاني بهذه المناسبة، وطبعت بعض الكتب مصدرة بعبارة ( بمناسبة الاحتفال بالقرن الخامس عشر الهجري)، وليس الاعتراض على طبع الكتب ، فنشر الكتب من تبليغ العلم ، لاسيما إذا كانت سلفية ، أو ذات منهج سلفي ، ولكن الاعتراض على جعل بداية القرن موسماً من المواسم التي يحتفل الناس بها ، فالاحتفال برأس القرن الهجري أمر محدث مبتدع ، والنبي صلى الله عليه وسلم قد نهى عن الإحداث في الدين .
فالاحتفال برأس القرن الهجري منهي عنه من وجهين :
الوجه الأول :
النهي عن الاحتفال به قياساً على الاحتفال برأس السنة؛وسبق أن عرفنا أن عيد رأس السنة من أعياد اليهود، وقلدهم فيه النصارى ثم المسلمون ، والتشبه بالكفار قد نهى عنه الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز ، والرسول صلى الله عليه وسلم في سنته المطهرة(2).
وما دام الأصل منهي عنه ، فكذلك يكون الفرع، فيكون الاحتفال برأس القرن الهجري من الأمور المنهي عنها؛ لأنَّ الاحتفال به فيه مشابهة لأهل الكتاب .
الوجه الثاني :
__________
(1) - رواه ابن الجوزي في الموضوعات (2/199) ، وقال : الهروي هو الجويياري ، ووهب ، كلامها كذاب وضَّاع .
(2) - يُراجع : مشروعية مخالفة أهل الكتاب ص(406).(22/397)
النهي عنه لكونه أمراً محدثاً مبتدعاً ؛ لأنَّهُ لم يؤثر عن السلف الصالح من التابعين وتابعيهم ، وعلماء الأمة المشهورين كالأئمة الأربعة وغيرهم ، ولا من جاء بعدهم ، أنه احتفل برأس القرن الهجري ، ولم يرد في كتب التاريخ -حسب اطلاعي المحدود- أن أحداً من العلماء أو الحكام احتفل برأس قرن من القرون ، ولو كان خيراً لسبقنا إليه من هو أحرص منا على الخير وهم السلف الصالح - رحمة الله عليهم- .
وقد وردت النصوص بالنهي عن الأمور المحدثة المبتدعة ، ومنها :
قوله صلى الله عليه وسلم :(( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد))(1) . وقوله – عليه الصلاة والسلام - : (( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد ))(2)، أي : مردود عليه .
__________
(1) - رواه البخاري في صحيحه المطبوع مع فتح الباري(5/301) كتاب الصلح، حديث رقم(2697). ورواه مسلم في صحيحه(3/1343) كتاب الأقضية، حديث رقم(1718)
(2) - ورواه مسلم في صحيحه (3/1343، 1344) كتاب الأقضية ، حديث رقم ( 1718).(22/398)
فلا يشك طالب الحق المنصف ، أن هذا الاحتفال داخل في الاحتفالات البدعية المنهي عنها ؛ لكونها محدثة في الدين (( وكل محدثة بدعة ))(1) ، ولمشابهة أهل الكتاب في احتفالاتهم وأعيادهم ((ومن تشبه بقوم فهو منهم ))(2) . – والله أعلم- .
المبحث السابع
الاحتفال بذكرى بعض العلماء
ومن الأمور المحدثة التي ظهرت في بعض المجتمعات الإسلامية، الاحتفال بذكرى بعض الموتى، وخاصة العلماء، وهذا الاحتفال يكون في التاريخ الموافق لتاريخ وفاة المحتفل بذكراه ، وربما كان هذا الاحتفال بعد موته بسنة أو أكثر .
وهذا الاحتفال يختلف من شخص لآخر :
__________
(1) - رواه ابن ماجه في سننه مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم (1/18) ، المقدمة. وفي سنده عبيد بن ميمون المدني ، قال ابن حجر : مستور . تقريب التهذيب (1/545).
(2) - رواه أحمد في مسنده (2/50) . ورواه أبو داود في سننه (4/314) كتاب اللباس ، حديث رقم (4031). قال المنذري في تهذيب سنن أبي داود (6/25) : ( في إسناده عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان وهو ضعيف ) . وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في اقتضاء الصراط المستقيم (1/236): (وهذا إسناد جيد ). وذكره السيوطي في الجامع الصغير (2/ 590) رقم ( 8593 ). وأشار إلى أنه حسن . من رواية أبي داود ، والطبراني في الأوسط . وقال الحافظ العراقي : سنده صحيح ، وصححه ابن حبان ، وله شاهد عند البزار . وعند أبي نعيم في تاريخ أصبهان . يُراجع : كشف الخفاء (2/314) ، حديث رقم (2436) . وقال الألباني – رحمه الله - : صحيح . يُراجع: إرواء الغليل (8/49) ، وحديث رقم ( 2384).(22/399)
فإن كان من عامة الناس ، أو ممن ينتسبون إلى العلم وإن كانوا جهَّالاً، فبعد مرور أربعين يوماً على وفاته، يحتفل أهله بذكرى وفاته ، ويسمونها ( الأربعين ) ، فيجمعون الناس في مخيمات خاصة ، أو بيت المتوفى ويحضرون من يقرأ القرآن ، ويعدون وليمة كوليمة العرس ، ويزينون المكان بالأنوار الساطعة ، وبالفرش الوثيرة ، وينفقون النفقات الباهظة ، وغرضهم من ذلك كله المباهاة والرياء ، ولا شك في حرمة ذلك ، لما فيه من إضاعة مال الميت لغير غرض صحيح ، ولا يفيد الميت بشيء، ويعود بالخسارة على أهله. هذا إذا لم يكن في الورثة قاصر ، فما بالك إذا كان فيهم قاصر!!!. وقد يتكلفون ذلك بالقرض بطريق الربا- نعوذ بالله من سخطه-(1) .
قال ابن الجوزي -رحمه الله- : ( وكان من هديه صلى الله عليه وسلم ، تعزية أهل الميت ، ولم يكن من هديه أن يجتمع للعزاء ويقرأ له القرآن ، لا عند قبره ولا عند غيره ، وكل هذا بدعة حادثة مكروهة ) 1.هـ(2).
وقال علي محفوظ – رحمه الله - : ( فما يعمله الناس اليوم من اتخاذ الأطعمة للمعزين، والنفقات التي تنفق في ليالي المآتم ، وما يتبعها مثل ليالي الجمع والأربعين، كله من البدع المذمومة ، المخالفة لما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم والسلف الصالح من بعده )ا.هـ(3)
__________
(1) - يراجع : الإبداع ص (228).
(2) - يُراجع : زاد المعاد (1/527).
(3) - يُراجع : الإبداع ص (230).(22/400)
فهذا الاحتفال أمر محدث مبتدع ، لم يُؤثر عن الرسول صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه -رضي الله عنهم- ، ولا عن السلف الصالح -رحمهم الله-.والسنة في ذلك: أن يُصنع الطعام لأهل الميت ويرسل إليهم، لا أن يصنعونه هم ويدعون الناس إليه، وقد قال – عليه الصلاة والسلام – لما جاءه نعي جعفر بن أبي طالب -رضي الله عنه- : (( اصنعوا لآل جعفر طعاماً فإنه قد جاءهم ما يشغلهم ))(1) .
وقال جرير بن عبد الله البجلي:(كنا نرى الاجتماع إلى أهل الميت وصنعة الطعام من النياحة) ا.هـ(2).
أما إذا كان المحتفل بذكراه من العلماء ، ففي اليوم الذي يوافق تاريخ وفاته ، بعد مرور سنة أو سنين معينة ، يعمل له احتفال خاص ، ويعهد إلى مجموعة من الباحثين كتابة بعض البحوث في سيرته وشخصيته ، ومنهجه في التأليف ، وكل ما يتعلق به ، ثم تلقى في هذا الاحتفال ، وتطبع كتبه ، أو المهم والمشهور منها ، وتوزع أو تُنشر في الأسواق إحياء لذكراه بزعمهم ، وبياناً لجهوده في سبيل نشر العلم والتأليف ونحو ذلك .
__________
(1) - رواه أحمد في مسنده (1/205) . ورواه أبو داود في سننه (3/497) كتاب الجنائز ، حديث رقم (3132) . ورواه الترمذي في سننه (2/234) أبواب الجنائز ، حديث رقم (1003) ، وقال : حديث حسن . ورواه ابن ماجه في سننه (1/514) كتاب الجنائز ، حديث رقم (1610) . ورواه الحاكم في المستدرك (1/372) كتاب الجنائز وقال : حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه . ووافقه الذهبي في تلخيصه .
(2) - رواه ابن ماجه في سننه (1/514) كتاب الجنائز ، حديث رقم (1612) .
قال البوصيري في زوائد ابن ماجه (2/53): ( هذا إسناد صحيح ، رجال الطريق الأولى على شرط البخاري ، والطريق الثانية على شرط مسلم ) ا.هـ(22/401)
وإذا كان من الملوك أو السلاطين أو الرؤساء ، فيحتفل بهذه المناسبة ، ويتكلم كبار المحتفلين عن مآثره وجهوده في الحكم ، وربما صدر بعض الكتب عنه بهذه المناسبة . ومن الناس من يذهب إلى قبره ، ويضع عليه الورود ، ويقرأ على روحه الفاتحة ، وكل هذه بدع ما أنزل الله بها من سلطان .
وليس في نشر كتب العالم، والكتابة في سيرته، ومنهجه في التأليف وطباعة كتبه، بأس، بل هذا مطلوب إن كان يستحق ذلك، ولكن لا يخصص ذلك بزمن معين ، ولا يكون مصحوباً باحتفالات ومهرجانات خطابية ونحو ذلك ، وكذلك الملوك والحكَّام .
فالاحتفال بذكرى بعض الموتى كالعلماء والحكام ، وبعض العامة ونحوهم ، أمر محدثٌ مبتدع ، وكفى بهذا ذماً له .
فإنه لا أحد أوسع علماً منه صلى الله عليه وسلم ، ولا أفضل طريقة في الدعوة إلى الدين ، ولا أشرف مقاماً ، ولا أعظم منزلة منه- عليه الصلاة والسلام- فهو أفضل الخلق على الإطلاق ، ومع ذلك لم يحتفل الصحابة -رضوان الله عليهم- بذكراه- مع أنه لا يمكن أن يحب مخلوق مخلوقاً كمحبة الصحابة – رضوان الله عليهم – للرسول صلى الله عليه وسلم ولا التابعين ، ولا تابعيهم، ولا السلف الصالح -رحمة الله عليهم- ولو كان في ذلك خيراً لسبقونا إليه .
فتقدير العلماء لا يكون بالاحتفال بذكراهم ، بل يكون بالحرص على الاستفادة مما كتبوا وألفوا ، عن طريق النشر والقراءة ، والتعليق والشروح ، ونحو ذلك .
هذا إذا كانوا يستحقون ذلك، بسيرهم على المنهج السلفي الصحيح، والبُعد عن منهج الفرق الضالة، أو التأثر بالغرب ونحوهم.
والعلماء من السلف الصالح ومن جاء بعدهم، قد حفظت ذكراهم ورواياتهم،وما أظهروه للناس من العلم، فالعالم يموت ويفارق الدنيا ، ويبقى علمه يتناقله الناس جيلاً بعد جيل .
وبسبب ما استفاد الناس من علمهم ، صاروا يترحمون عليهم ، ويَدْعُونَ لهم بالأجر والمثوبة ، وهذا أعظم إظهار لذكراهم .(22/402)
أما الاحتفال بذكراهم ، والتبرك بزواياهم وآثارهم، والطواف بقبورهم، فكل ذلك من البدع ، التي قد يصل بعضها إلى درجة الإشراك بالله -نعوذ بالله من ذلك - .
ولو أن هؤلاء العلماء – الذين يُحتفل بذكراهم ويُتبرك بزواياهم – أحياء لأنكروا على من يفعل هذه الأمور .
ولكن بعض الناس قد أغواه هواه والشيطان ، والداعون إلى البدع لدنيا يصيبونها ، أو منصب يترأسون الناس به ، فانزلق في متاهات البدع التي لا خلاص منها، إلا بالرجوع إلى كتاب الله -عز وجل- وسنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم والوقوف عليهما، وعلى ما أجمع عليه علماء الأمة ، وترك ما أحدث من البدع ، التي هي شر في ذاتها ، وتؤدي إلى شرٍّ أعظم ، وبَلِيَّةٍ أكبر .
فنسأل الله لنا ولهم الهداية إلى صراطه المستقيم ، صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ، وأن يباعد بيننا وبين طريق المغضوب عليهم وطريق الضَّالين ، إنه على كل شيء قدير .
*********************
المبحث الثامن
مشروعية مخالفة أهل الكتاب
لا يخفى على كل مسلم أن التشبه بأهل الكتاب حرام ،- سواء في عاداتهم أو أعيادهم أو أخلاقهم أو غير ذلك-؛ لأنَّ التشبه بهم يدل على نوع مودة ومحبة وموالاة ، وإن لم يجاهر المتشبه بذلك ، وإن لم يورث نوع مودة ومحبة ، فهو على الأقل مظنة المودة فيكون محرماً من هذا الوجه سداً للذريعة ، وحسماً لعادة حب الكافرين والولاء لهم ، فضلاً عن كونه محرماً من وجوه أخرى ، بالنصوص الواردة وغيرها .
وكلما كانت المشابهة أكثر ، كان التفاعل في الأخلاق والصفات أتم ، حتى يؤول الأمر إلى أن لا يتميز أحدهما عن الآخر إلا بالعين فقط. بعكس المتمسكين بهدي الإسلام، والبعيدين عن مشابهة الأمم الأخرى ، فهم أكثر نفرة وأقل مودة لغير المسلمين.(22/403)
والتشبه بأهل الكتاب لا يقتصر على المودة الظاهرة بين المسلم والكافر ، بل قد يصل إلى الأمور الاعتقادية والفكرية الباطنية ، وهذا أخطر من سابقه ؛ لأن المسلم الذي يقلِّد الكفار في الظاهر ، يقوده ذلك إلى التأثر باعتقاداتهم الباطنية ، وذلك عن طريق الاستدراج الخفي شيئاً فشيئاً .
فأكثر من تعلموا في ديار الغرب ، أو عاشوا بعض الوقت عندهم ، تجدهم يعشقون حياتهم الغربية ، ويحاولون بقدر الإمكان تقليدهم في كثير من الأمور لشدة إعجابهم بهم ، فيأتون من عندهم وقد حملوا أفكاراً واعتقادات غريبة عن الإسلام ، بل بعضها ربما ينافي العقيدة الإسلامية الصحيحة – هدانا الله وإياهم -.
ومن الأمور التي تساهل بها بعض المسلمين ، وسارعوا إلى التشبه بالأمم الأخرى فيها: الأعياد والاحتفالات البدعية -التي هي موضوع كتابنا- فأحدثوا من البدع في هذا المجال الشيء الكثير ، مما حدا بشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- أن يؤلف كتاباً كاملاً في النهي عن مشابهة أهل الكتاب ، وخاصة في أعيادهم ، سمَّاه ( اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم ). فقال -رحمه الله- بعد حمد الله والثناء عليه بما هو أهله ، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( وبعد : فإني كنت قد نهيت إمَّا مبتدئاً أو مجيباً عن التشبه بالكفار في أعيادهم ، وأخبرت ببعض ما في ذلك من الأثر القديم ، والدلالة الشرعية ، وبينت بعض حكمة الشرع في مجانبة الكفار -من الكتابيين والأميين- وما جاءت به الشريعة من مخالفة أهل الكتاب والأعاجم ....(22/404)
ثم بلغني بأُخرة(1) أن من الناس من استغرب ذلك واستبعده، لمخالفة عادة قد نشأوا عليها،وتمسكوا في ذلك بعمومات وإطلاقات اعتمدوا عليها ، فاقتضاني(2) بعض الأصحاب أن أعلِّق في ذلك ما يكون فيه إشارة إلى أصل هذه المسألة، لكثرة فائدتها، وعموم المنفعة بها ، ولما قد عمَّ كثيراً من الناس من الابتلاء بذلك ، حتى صاروا في نوع جاهلية ، فكتبت ما حضرني الساعة ، مع أنه لو استوفى ما في ذلك من الدلائل ، وكلام العلماء ، واسْتقْريتُ الآثار في ذلك ، لوجد فيه أكثر مما كتبته )ا.هـ(3) .
ويعتبر كتاب شيخ الإسلام -رحمه الله- هذا ، من أحسن ما أُلف في هذا الباب ، فقد ذكر فيه تحريم مشابهة الكفار بالأدلة: من الكتاب والسنة والإجماع والآثار والاعتبار.
فذكر من الآيات القرآنية ما ينيف على ثلاثين آية ، وقرر بعد كل آية وجه دلالتها على ذلك ، ثم ذكر من الأحاديث النبوية الدَّالة على تحريم مشابهة أهل الكتاب ما يقارب مائة حديث ، وأعقب كل حديث بذكر وجه دلالته على ذلك ، ثم ذكر الإجماع على التحريم ، ثم ذكر الآثار ، ثم ذكر من الاعتبار ما في بعضه الكفاية . فما أجلّ هذا الكتاب وأكبر فائدته(4).
وسأذكر- إن شاء الله- بعضاً من هذه الآيات ، والأحاديث ، وكذلك الإجماع ، وبعض الأدلة من الآثار والاعتبار ، الدَّالَّة على تحريم مشابهة أهل الكتاب على النحو التالي :
أولاً : الأدلة من الكتاب :
__________
(1) - أي : أخيراً – والله أعلم -.
(2) - اقتضاني : أي طلب مني . يُراجع : القاموس المحيط (4/381) ، فصل القاف باب الياء.
(3) - يُراجع : اقتضاء الصراط المستقيم (1/60، 61).
(4) - يُراجع : فتاوى ورسائل الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ (3/109).(22/405)
قوله تعالى: { وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرائيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ* وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ* ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ*إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ}(1)
وجه الدلالة من الآيات :
أخبر الله -سبحانه وتعالى- في هذه الآيات أنه أنعم على بني إسرائيل بنعم الدين والدنيا ، وأنهم اختلفوا بعد مجيء العلم بغياً من بعضهم على بعض ، ثم جعل الرسول صلى الله عليه وسلم على شريعة شرعها له وأمره باتباعها ، ونهاه عن اتباع أهواء الذين لا يعلمون وقد دخل في الذين لا يعلمون كل من خالف شريعته .
وأهواؤهم : ما يهوونه ، وما كان عليه المشركون من هديهم الظاهر الذي هو من موجبات دينهم الباطل ، وتوابع ذلك ، وموافقتهم فيه ، اتباع لما يهوونه ، ولهذا يفرح الكافرون بموافقة المسلمين في بعض أمورهم وموافقتهم في ذلك قد تكون ذريعة إلى موافقتهم في غيره ، فإن من حام حول الحمى أوشك أن يقع فيه(2).
__________
(1) - سورة الجاثية ، الآيات :16- 19.
(2) - يُراجع : اقتضاء الصراط المستقيم (1/84، 85) .(22/406)
قوله تعالى :{ وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزَابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ*وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْماً عَرَبِيّاً وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا وَاقٍ}(1).
وجه الدلالة من الآيات :
أن الضمير في أهوائهم يعود -والله أعلم- إلى ما تقدم ذكره ، وهم الأحزاب الذين ينكرون بعضه ، فدخل في ذلك كل من أنكر شيئاً من القرآن:من يهودي ونصراني وغيرهما، وقد قال جلَّ وعلا:{وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ} ومتابعتهم فيما يختصون به من دينهم وتوابع دينهم ، اتباع لأهوائهم ، بل يحصل اتباع أهوائهم بما هو دون ذلك(2) .
وقوله تعالى: { وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ}(3).
وجه الدلالة من الآيات :
أن الله- سبحان وتعالى- قال في الخبر{مِلَّتَهُمْ} وقال في النهي{هْوَاءَهُمْ}؛ لأن القوم لا يرضون إلا باتباع الملة مطلقاً والزجر وقع عن اتباع أهوائهم في قليل أو كثير ، ومن المعلوم أن متابعتهم في بعض ما هم عليه من الدين ، نوع متابعة لهم في بعض ما يهوونه ، أو مظنة لمتابعتهم فيما يهوونه(4).
__________
(1) - سورة الرعد ، الآيتان :36، 37
(2) - يُراجع : اقتضاء الصراط المستقيم (1/85،86) .
(3) -(البقرة:120)
(4) - يُراجع : اقتضاء الصراط المستقيم (1/85) .(22/407)
وقوله تعالى: { وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ* الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ* الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ* وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعاً إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ* وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ* وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}(1).
وجه الدلالة من الآيات :
__________
(1) - سورة البقرة ، الآيات : 145-150.(22/408)
قال غير واحد من السلف(1): معناه : لئلا يحتج اليهود عليكم بالموافقة في القبلة ، فيقولون : قد وافقونا في قبلتنا ، فيوشك أن يوافقونا في ديننا ، فقطع الله بمخالفتهم في القبلة هذه الحجة : إذ الحجَّة : اسم لكل ما يحتج به من حق وباطل .{ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ }وهم قريش ، فإنهم يقولون : عادوا إلى قبلتنا فيوشك أن يعودوا إلى ديننا .
فبين الله سبحانه وتعالى أن من حكمة نسخ القبلة وتغييرها مخالفة الناس الكافرين في قبلتهم ، ليكون ذلك أقطع لما يطمعون فيه من الباطل ، ومعلوم أن المعنى ثابت في كل مخالفة وموافقة ، فإن الكافر إذا اتُبع في شيء من أمره ، كان له من الحجة مثل ما كان أو قريب مما كان لليهود من الحجة في القبلة(2) .
وقوله تعالى: { وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ}(3)
وجه الدلالة من الآية:
أن المراد بالذين تفرَّقوا هم اليهود والنصارى الذين افترقوا على أكثر من سبعين فرقة ، ولذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن متابعتهم في نفس التفرق والاختلاف ، مع أنه صلى الله عليه وسلم أخبر أن أمته ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة ، مع أن قوله : لا تكن مثل فلان . قد يعم مماثلته بطريق اللفظ أو المعنى ، وإن لم يعم دلّ على أن جنس مخالفتهم وترك مشابهتهم أمر مشروع ، ودلَّ على أنه كلما بَعُدَ الرجل عن مشابهتهم فيما لم يشرع لنا ، كان أبعد عن الوقوع في نفس المشابهة المنهي عنها ، وهذه مصلحة جليلة(4).
__________
(1) - منهم : مجاهد ، وعطاء ، والضحاك ، والربيع بن أنس ، وقتادة ، والسدي . يُراجع : تفسير ابن كثير (1/195) . ونسبه القرطبي إلى ابن عطية . يُراجع : الجامع لأحكام القرآن (2/169،170).
(2) - يُراجع : اقتضاء الصراط المستقيم (1/87) .
(3) - سورة آل عمران ، الآية :105 .
(4) - يُراجع : اقتضاء الصراط المستقيم (1/87 ، 88) .(22/409)
وقوله تعالى:{ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ* وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ}(1).
وجه الدلالة من الآيات :
أن متابعتهم في هديهم ، هي من اتباع ما يهوونه ، أو مظنة لاتباع ما يهوونه ، وتركها معونة على ترك ذلك ، وحسم لمادة متابعتهم فيما يهوونه(2).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله -:( واعلم أن كتاب الله من النهي عن مشابهة الأمم الكافرة ، وقصصهم التي فيها عبرة لنا بترك ما فعلوه كثير ، مثل قوله تعالى ؛ لما ذكر ما فعله بأهل الكتاب من المثلات(3):{... فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ}(4) وقوله تعالى{لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ}(5) . وأمثال ذلك ، ومنه ما يدلُّ على مقصودنا ومنه ما فيه إشارة وتتميم للمقصود .
__________
(1) -سورة المائدة ، الآيتان: 48 ،49.
(2) - يُراجع : اقتضاء الصراط المستقيم (1/89) .
(3) - المثلاث : المثلة – بفتح الميم ، وضم الثاء -: العقوبة ، والجمع : المثلاث . يُراجع :لسان العرب (11/615) ، مادة (مثل).
(4) -سورة الحشر: الآية2.
(5) -سورة يوسف: الآية111.(22/410)
ثم متى كان المقصود بيان أن مخالفتهم في عامة أمورهم أصلح لنا ، فجميع الآيات دالَّة على ذلك ، وإن كان المقصود أن مخالفتهم واجبة علينا ، فهذا إنَّما يدلُّ عليه بعض الآيات دون بعض ، ونحن ذكرنا ما يدلُّ على أن مخالفتهم مشروعة في الجملة ، كان هو المقصود هنا )ا.هـ(1).
ثانياً : الأدلة من السنة :
قوله صلى الله عليه وسلم : (( إنَّ اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم ))(2)
وجه الدلالة من الحديث :
أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر بمخالفتهم ، وذلك يقتضي أن يكون جنس مخالفتهم أمراً مقصوداً للشارع ؛ لأنَّه إن كان الأمر بجنس المخالفة حصل المقصود ، وإن كان الأمر بالمخالفة في تغيير الشعر فقط ، فهو لأجل ما فيه من المخالفة .
فالمخالفة إما علّة مفردة - أي أن المخالفة هي وحدها تكون علَّة للنهي- أو علة أخرى، أو بعض علة، وعلى هذه التقديرات تكون مأموراً بها مطلوبة من الشارع(3).
قوله صلى الله عليه وسلم : (( خالفوا المشركين أحفوا الشوارب وأوفوا اللحى ))(4)
وجه الدلالة من الحديث :
__________
(1) - يُراجع : اقتضاء الصراط المستقيم (1/89) .
(2) -رواه البخاري في صحيحه المطبوع مع الفتح الباري (6/496)، كتاب أحاديث الأنبياء ، حديث رقم (3462) . ورواه مسلم في صحيحه (3/1663) كتاب اللباس والزينة ، حديث رقم (2103).
(3) - يُراجع : اقتضاء الصراط المستقيم (1/160، 176) .
(4) - رواه البخاري في صحيحه المطبوع مع الفتح الباري(10/351) كتاب اللباس ، حديث رقم (5893) . بلفظ (( انهكوا الشوارب واعفوا اللحى )) . ورواه مسلم في صحيحه (1/222) كتاب الطهارة ، حديث رقم (259) (54) واللفظ له .(22/411)
أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر بمخالفة المشركين مطلقاً ، ثم قال ((أحفوا الشوارب وأوفوا اللحى)). وهذه الجملة بدلاً من الأولى ، فإن الإبدال يقع في الجمل ، كما يقع في المفردات ، كقوله تعالى :{ َسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ }(1) . فهذا الذبح والاستحياء هو سوم العذاب ، فكذلك هنا : هذا هو المخالفة للمشركين المأمور بها هنا ، لكن الأمر بها أولاً بلفظ مخالفة المشركين دليل على أن جنس المخالفة أمر مقصود للشارع وإن عنيت هنا في هذا الفعل فإن تقديم المخالفة علة تقديم العام على الخاص، وفي رواية لمسلم: ((جزوا الشوارب، وأرخوا اللحى، وخالفوا المجوس)) (2).(3).
قوله صلى الله عليه وسلم : (( خالفوا اليهود فإنهم لا يصلون في نعالهم ولا خفافهم ))(4)
وجه الدلالة من الحديث :
( كالحديث السابق ).
قوله صلى الله عليه وسلم : (( فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السحر))(5).
وجه الدلالة من الحديث :
__________
(1) - سورة البقرة ، الآية :49.
(2) - ورواه مسلم في صحيحه (1/222) كتاب الطهارة ، حديث رقم(260).
(3) - يُراجع : اقتضاء الصراط المستقيم (1/176، 181) .
(4) - رواه أبو داود في سنن (1/427) كتاب الصلاة ، حديث رقم (652) . ورواه الحاكم في المستدرك (1/260) كتاب الصلاة ، وقال : حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه . وقال الذهبي في تلخيصه : صحيح . وذكره السيوطي في الجامع الصغير (1/598) رقم (3879) وصححه .
(5) - رواه أحمد في مسنده (4/197) . ورواه مسلم في صحيحه (2/770) كتاب الصيام ، حديث رقم (1096). ورواه الدارمي في سننه (2/6) كتاب الصوم ، باب في فصل السحور . ورواه النسائي في سننه (4/146) كتاب الصيام ، باب رقم (27).(22/412)
أن الفصل بين عبادة المسلمين وعبادة أهل الكتاب : أمر مقصود للشارع ، وقد صرح بذلك فيما رواه أبو داود عن أبي هريرة -رضي الله عن- أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم : (( لا يزال الدين ظاهراً ما عجل الناس الفطر ؛ لأن اليهود والنصارى يؤخرون ))(1).
وهذا نص في ظهور الدين الحاصل بتعجيل الفطر لأجل مخالفة اليهود والنصارى .
وإذا كانت مخالفتهم سبباً لظهور الدين ، فإنَّما المقصود بإرسال الرسل أن يظهر دين الله على الدين كله ، فيكون نفس مخالفتهم من أكبر مقاصد البعثة(2).
قوله صلى الله عليه وسلم : ((من تشبه بقوم فهو منهم))(3).
وجه الدلالة من الحديث :
__________
(1) - رواه أحمد في مسنده (2/450) . ورواه أبو داود في سننه (2/763) كتاب الصوم ، حديث رقم (2353) . ورواه ابن ماجه في سننه (1/542) كتاب الصيام ، حديث رقم(1698). ورواه ابن حبان في صحيحه ، يُراجع : موارد الظمآن ص(224) كتاب الصيام ، حديث رقم (889) . ورواه الحاكم في المستدرك (1/431) كتاب الصوم ، وقال : حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه ، ووافقه الذهبي في تلخيصه.
(2) - يُراجع : اقتضاء الصراط المستقيم (1/181، 187) .
(3) - رواه أحمد في مسنده (2/50) . ورواه أبو داود في سننه (4/314) كتاب اللباس ، حديث رقم (4031). قال المنذري في تهذيب سنن أبي داود (6/25) : ( في إسناده عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان وهو ضعيف ) . وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في اقتضاء الصراط المستقيم (1/236): (وهذا إسناد جيد ) . وذكره السيوطي في الجامع الصغير (2/ 590) رقم ( 8593 ). وأشار إلى أنه حسن . من رواية أبي داود ، والطبراني في الأوسط . وقال الحافظ العراقي : سنده صحيح ، وصححه ابن حبان ، وله شاهد عند البزار . وعند أبي نعيم في تاريخ أصبهان . يُراجع : كشف الخفاء (2/314) ، حديث رقم (2436) . وقال الألباني – رحمه الله - : صحيح . يُراجع: إرواء الغليل (8/49) ، وحديث رقم ( 2384).(22/413)
أنه قد يحمل هذا على التشبه المطلق ، فإنه يوجب الكفر ، ويقتضي تحريم أبعاض ذلك ، وقد يحمل على أنه منهم في القدر المشترك الذي شابههم فيه، فإن كان كفراً، أو معصية ، أو شعاراً لها ، كان حكمه كذلك. وبكل حال يقتضي تحريم التشبه، بعلة كونه تشبهاً ، والتشبه يعم من فعل الشيء لأجل أنهم فعلوه ، وهو نادر ومن تبع غيره في فعل لغرض له في ذلك ، إذا كان أصل الفعل مأخوذاً عن ذلك الغير ،فأما من فعل الشيء واتفق أن الغير قد فعله أيضاً ، ولم يأخذ أحدهما عن صاحبه ، ففي كون هذا تشبه نظر ، لكن قد ينهى عن هذا لئلا يكون ذريعة إلى التشبه ، ولما فيه من المخالفة(1).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله - : (وهذا الحديث أقل أحوال أن يقتضي تحريم التشبه بهم ، وإن كان ظاهره يقتضي كفر المتشبه بهم )ا.هـ(2).
ثالثاً : الأدلة من الإجماع :
أن عمر بن الخطاب – رضي الله عنه- ، ثم عامة الأئمة بعده ، وسائر الفقهاء ، جعلوا في الشروط المشروطة على أهل الذمَّة من النصارى وغيرهم ، فيما شرطوه على أنفسهم :
__________
(1) - يُراجع : اقتضاء الصراط المستقيم (1/238) .
(2) - يُراجع : اقتضاء الصراط المستقيم (1/237) .(22/414)
أن نوقر المسلمين ، ونقوم لهم من مجالسنا إذا أرادوا الجلوس ولا نتشبه بهم في شيء من لباسهم : قلنسوة(1) أو عمامة أو نعلين، أو فرق شعر، ولا نتكلم بكلامهم، ولا نكتني بكناهم، ولا نركب السروج، ولا نتقلد السيوف، ولا نتخذ شيئاً من السلاح، ولا نحمله، ولا ننقش خواتيمنا بالعربية، ولا نبيع الخمور،وأن نجز مقادم رؤوسنا، وأن نلزم زيِّنا حيثما كنَّا، وأن نشد الزنانير(2) على أوساطنا، وأن لا نظهر الصليب على كنائسنا، ولا نظهر صليباً ولا كتباً في شيء من طرق المسلمين، ولا أسواقهم ، ولا نضرب بنواقيسنا في كنائسنا إلا ضرباً خفياً، ولا نرفع أصواتنا مع موتانا، ولا نظهر النيران معهم في شيء من طرق المسلمين(3)
فهذه الشروط أشهر شيء في كتب الفقه والعلم ، وهي مُجْمَعٌ عليها في الجملة بين العلماء من الأئمة المتبوعين ، وأصحابهم وسائر الأئمة .
والقصد من هذه الشروط : ليتميز المسلم عن الكافر ، ولا يتشبه أحدهما بالآخر في الظاهر ، ولم يرض عمر -رضي الله عنه- والمسلمون بأصل التمييز ، ل بالتميز في عامة الهدي ، وذلك يقتضي إجماع المسلمين على التمييز عن الكفار ظاهراً ، وترك التشبه بهم. والمقصود من هذا التييز ليُعرفوا(4).
__________
(1) - القلنسوة : من ملابس الرؤوس معروف . يُراجع : لسان العرب (6/181) مادة (قلس).
(2) - الزنانير : جمع زنارة وزنارة : ما يلبسه المجوسي والنصراني على وسطه يشده به . يُراجع : لسان العرب(4/330) مادة (زنر).
(3) - رواه البيهقي في سننه (9/202) كتاب الجزية ، باب الإمام يكتب كتاب الصالح على الجزية . ويراجع : أحكام أهل الذمة لابن القيم (2/657-663) . ويُراجع : اقتضاء الصراط المستقيم (1/320- 321) . وقال شيخ الإسلام – رحمه الله -: (رواه حرب – الكرماني – بإسناد جيد ).
(4) - ويُراجع : اقتضاء الصراط المستقيم (1/321- 322) .……(22/415)
ما رواه قيس بن أبي حازم قال : دخل أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- على امرأة من أحمس(1) ، يقال لها : زينب ، فرآها لا تكلم ، فقال : ما لها لا تكلم ؟ . قالوا : حجَّت مصمته . فقال لها : تكلمي ، فإن هذا لا يحل ، هذا من عمل الجاهلية ، فتكلمت ، فقالت : من أنت ؟ . قال : امرؤ من المهاجرين ، قالت : أي المهاجرين ؟ . قال : من قريش. قالت : من أي قريش أنت ؟ قال : إنك لسؤول ، أنا أبو بكر . قالت : ما بقاؤنا على هذا الأمر الصالح الذي جاء الله به بعد الجاهلية ؟ . قال : بقاؤكم عليه ما استقامت بكم أئمتكم . قالت : وما الأئمة ؟ قال : أما كان لقومك رؤوس وأشراف يأمرونهم فيطيعونهم ؟ قالت : بلى . قال : فهم أولئك الناس(2).
فأخبر أبو بكر -رضي الله عنه- أن الصمت المطلق لا يحل ، وعقَّب ذلك بقوله : (( هذا من عمل الجاهلية )) ، قاصداً بذلك عيب هذا العمل وذمّه .
وتعقيب الحكم بالوصف : دليل على أن الوصف علَّة ، فدلَّ على أن كونه من عمل الجاهلية وصف يوجب النهي عنه ، والمنع منه .
ومعنى قوله : (( من عمل الجاهلية )) ، أي : ما انفراد به أهل الجاهلية ولم يشرع في الإسلام ، فيدخل في هذا كل ما اتخذ من عبادة، مما كان أهل الجاهلية يتعبدون به، ولم يشرع الله التعبد به في الإسلام ، وإن لم ينوه عنه بعينه ، كالمكاء والتصدية، فإن الله تعالى قال عن الكافرين : { وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً }(3). والمكاء: الصفير ونحوه ، والتصدية: التصفيق(4).
__________
(1) - أحمس:بطن من أنمار بن أراش من القحطانية،وينسبون إلى أمهم بجيلة.يراجع:معجم ما استعجم(1/57- 63).ومعجم قبائل العرب(1/10و63- 65)
(2) - رواه البخاري في صحيحه المطبوع مع فتح الباري (7/147،148) كتاب مناقب الأنصار ، حديث رقم (3834) .
(3) - سورة لأنفال: الآية35.
(4) - ويُراجع : اقتضاء الصراط المستقيم (1/326- 327) .(22/416)
فما تقدم من الآيات والأحاديث والآثار : يدلُّ على وجوب مخالفة أهل الكتاب عموماً ، وعدم التشبه بهم في جميع الأمور.
أما ما يتعلق بالنهي عن مشابهتهم في أعيادهم واحتفالاتهم ، فقد وردت فيه آيات وأحاديث وآثار ذكرها شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – وسأذكر بعضها فيما يلي :
أولاً : من الكتاب :
ما تأوَّله غير واحد من التابعين وغيرهم في قوله تعالى:{ وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً}(1) .
قال أبو العالية ، وطاوس ، وابن سيرين ، والضحاك ، والربيع بن أنس ، وغيرهم: (هو أعياد المشركين )(2).
وفي رواية عن ابن عباس – رضي الله عنهما - : أنه أعياد المشركين . وقال عكرمة – رحمه الله - : (لعب كان في الجاهلية يسمى بالزور )(3).
وقول هؤلاء التابعين : إنه أعياد الكفار ، ليس مخالفاً لقول بعضهم : إنه الشرك ، أو صنم كان في الجاهلية ، ولقول بعضهم : إنه مجالس الخنا(4)، وقول بعضهم : إنه الغناء؛ لأنَّ عادة السلف في تفسيرهم هكذا ، يذكر الرجل نوعاً من أنواع المسمى لحاجة المستمع إليه ، أو لينبه به على الجنس .
__________
(1) - سورة الفرقان:72.
(2) - يُراجع : تفسير لبن كثير (3/328،329) ، واقتضاء الصراط المستقيم (1/ 426- 427).
(3) -يُراجع : الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (13/79/80).
(4) - الخنا : الفحش في القول . والخنا من الكلام : أفحشه . يُراجع : النهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير (2/86) باب الخاء مع النون . ولسان العرب (14/244) مادة (خنا)(22/417)
وقال قوم: إن المراد: شهادة الزور هي الكذب، وهذا فيه نظر ، فإنه تعالى قال:{ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ} ولم يقل: لا يشهدون بالزور ، والعرب تقول : (شهدت كذا : إذا حضرته) . كقول ابن عباس – رضي الله عنهما- : (( شهدت العيد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ))(1).
ووجه تفسير التابعين المذكورين : أن الزور هو المحسن المموه حتى يظهر بخلاف ما هو عليه في الحقيقة ، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم : (( المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور ))(2)؛ لما كان يظهر مما يعظم به مما ليس عنده .
فالشاهد بالزور يظهر كلاماًُ يخالف الباطن، ولهذا فسَّره السلف تارة بما يظهر حسنه لشبهة أو الشهود، وهو قبيح في الباطن، فالشرك ونحوه : يظهر حسنه للشبهة ، والغناء ونحوه : يظهر حسنه للشهوة .
وأما أعياد المشركين: فجمعت الشبهة والشهود، وهي باطل؛ إذ لا منفعة فيها في الدين، وما فيها من اللذة العاجلة: فعاقبتها إلى ألم فصارت زوراً ، وحضورها شهوداً .
وإذا كان الله قد مدح ترك شهودها، الذي هو مجرد الحضور، برؤية أو سماع، فكيف بالموافقة بما يزيد على ذلك ، من العمل الذي هو عمل الزور ، لا مجرد شهود ؟!
ثم مجرد هذه الآية ، فيها الحمد لهؤلاء والثناء عليهم ، وذلك وحده يفيد الترغيب في ترك شهود أعيادهم ، وغيرها من الزور، ويقضي الندب إلى ترك حضورها ، وقد يفيد كراهة حضورها لتسمية الله لها زوراً ، فأما تحريم شهودها من هذه الآية ففيه نظر ، ودلالتها على تحريم فعلها أوجه(3).
ثانياً : من السنة :
__________
(1) - رواه البخاري في صحيحه المطبوع مع فتح الباري(2/453) كتاب العيدين ، حديث رقم (962) . ورواه مسلم (2/602) كتاب صلاة العيدين ، حديث رقم (884).
(2) - رواه البخاري في صحيحه المطبوع مع فتح الباري(9/317) كتاب النكاح ، حديث رقم (5219) . ورواه مسلم في صحيحه(3/1681) كتاب اللباس والزينة ، حديث رقم (2129).
(3) - ويُراجع : اقتضاء الصراط المستقيم (1/428- 430) .(22/418)
ما رواه أنس بن مالك – رضي الله عنه – قال : قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ولهم يومان يلعبون فيهما ، فقال : (( ما هذان اليومان ؟)) قالوا : كنا نلعب فيهما في الجاهلية ، فقال صلى الله عليه وسلم : (( إن الله قد أبدلكم بهما خيراً منهما : يوم الأضحى ، ويوم الفطر ))(1).
وجه الدلالة من الحديث :
أن العيدين الجاهلين لم يقرهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا تركهم يلعبون فيهما على العادة ، بل قال : (( إن الله قد أبدلكم بهما يومين آخرين))،والإبدال من الشيء يقتضي ترك المبدل منه؛ إذ لا يجمع بين البدل والمبدل منه، ولهذا لا تستعمل هذه العبارة إلا فيما ترك اجتماعهما ، كقوله سبحانه وتعالى:{ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً}(2). وقوله تعالى:{وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ}(3). وقوله تعالى: {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ}(4) . وقوله تعالى:{وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ}(5).
__________
(1) - رواه أحمد في مسنده (3/103) . ورواه أبو داود في سننه (1/675) كتاب الصلاة ، حديث رقم (1134) . ورواه النسائي في سننه (3/179،180) كتاب العيدين . ورواه الحاكم في المستدرك (1/294) كتاب العيدين ، وقال:هذا حديث صحيح على شرط مسلم،ولم يخرجاه . ووافقه الذهبي في تلخيصه.
(2) -سورة الكهف: الآية50.
(3) -سورة النساء: الآية2.
(4) -سورة البقرة: الآية59.
(5) -سورة سبأ ، الآية : 16.(22/419)
ومنه الحديث في المقبور : (( فيقال له : انظر إلى مقعدك من النار قد أبدلك الله به خيراً منه مقعداً في الجنة ))(1) .
فقوله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله قد أبدلكم بهما خيراً منهما)) يقتضي ترك الجمع بينهما لاسيما وقوله ((خيراً منهما)) يقتضي الاعتياض بما شرع لنا ، عما كان في الجاهلية.
وأيضاً فقوله لهم : ((إن الله قد أبدلكم )) لما سألهم عن اليومين فأجابوا : بأنهما يومان كانوا يلعبون فيهما في الجاهلية ، دليلٌ على أنه نهاهم عنهما اعتياضاً بيومي الإسلام ؛ إذ لو لم يقصد النهي لم يكن ذكر هذا الإبدال مناسباً ؛ إذ أصل شرع اليومين الإسلاميين كانوا يعلمونه ، ولم يكونوا ليتركوه لأجل يومي الجاهلية .
وفي قول أنس – رضي الله عنه - : (( ولهم يومان يلعبون فيهما ))، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن الله قد أبدلكم بهما خيراً منها : يوم الأضحى ويوم الفطر )) دليل على أن أنساً -رضي الله عنه- فهم من قول النبي صلى الله عليه وسلم : (( أبدلكم بهما )) تعويضاً باليومين المبدلين .
__________
(1) - رواه البخاري في صحيحه المطبوع مع فتح الباري(3/ 232) كتاب الجنائز ، حديث رقم (1374) . ورواه مسلم في صحيحه (4/ 2200، 2201) كتاب الجنة ، وحديث رقم (2870) .(22/420)
وأيضاً فإن ذينك اليومين الجاهليين قد ماتا في الإسلام ، فلم يبق لهما أثر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا عهد خلفائه ، ولو لم يكن قد نهى الناس عن اللعب فيهما ، ونحوه مما كانوا يفعلونه لكانوا بقوا على العادة ؛ إذ العادات لا تتغير إلا بمغير يزيلها ولاسيما طباع النساء والصبيان ، ونفوس كثير من الناس متشوقة إلى اليوم الذي يتخذونه عيداً للبطالة واللعب، ولهذا قد يعجز كثير من الملوك والرؤساء عن نقل الناس من عاداتهم في أعيادهم ، لقوة مقتضيها من نفوسهم، وتوفر همم الجماهير على اتخاذها ، فلولا قوة المانع من رسول الله صلى الله عليه وسلم لكانت باقية ، ولو على وجه ضعيف ، فعلم أن المانع القوي منه كان ثابتاً ، وكل ما منع منه النبي صلى الله عليه وسلم منعاً قوياً كان محرماً ؛ إذا لا يعنى بالمحرم إلا هذا .
وهذا أمر بيِّن لا شُبهة فيه ، فإن مثل ذينك العيدين ، لو عاد الناس إليهما بنوع مما كان يفعل فيهما – إن رخص فيه – كان مراغمة بينه وبين ما نهى عنه ، فهو المطلوب .
والمحذور في أعياد أهل الكتابين التي نقرهم عليها ، أشد من المحذور في أعياد الجاهلية التي لا نقرهم عليها ، فإنَّ الأئمة قد حذَّروا مشابهة اليهود والنصارى ، وأخبروا أن سيفعل قوم منهم هذا المحذور بخلاف دين الجاهلية ، فإنه لا يعود إلا في آخر الدهر ، عند اخترام(1) أنفس المؤمنين عموماً ، ولو لم يكن أشد منه ، فإنه مثله على ما لا يخفى ؛ إذا الشر الذي له فاعل موجود ، يخاف على الناس منه أكثر من شر لا مقتضى له قوي(2) .
__________
(1) - اخترم فلان عنا : مات وذهب ، واخترمته المنية : أخذته ، واخترمهم الدهر : استأصلهم . يُراجع : لسان العرب (12/ 172) مادة (خرم).
(2) - ويُراجع : اقتضاء الصراط المستقيم (1/432- 435) .(22/421)
ما رواه ثابت بن الضحاك قال : نذر رجل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينحر إبلاً ببوانة ، فأتي النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إني نذرت أن أنحر إبلاً ببوانة ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : (( هل كان فيه وثن(1) من أوثان الجاهلية يعبد ؟ )) قالوا : لا ، قال : هل كان فيها عيد من أعياده ؟ قال : لا ، قال رسول صلى الله عليه وسلم : (( أوف بنذرك ، فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله ، ولا فيما لا يملك ابن آدم ))(2).
وجه الدلالة من الحديث :
أن هذا الناذر كان قد نذر أن يذبح نعماً : إما إبلاً وإما غنماً – على رواية أخرى(3)- بمكان سماه – بوانة- فسأله النبي صلى الله عليه وسلم : (( هل كان فيها وثن من أوثان الجاهلية يُعبد ؟)) قال: (( فهل كان فيها عيد من أعيادهم ؟)). قال: لا . قال: (( أوفِ بنذرك)) ، ثم قال: (( لا وفاء لنذر في معصية الله)). وهذا يدلُّ على أن الذبح بمكان عيدهم ، ومحل أوثانهم معصية لله ، من وجوهٍ :
__________
(1) - الوثن : هو كل ما له جثة معلولة من جواهر الأرض ، أو من الخشب والحجارة ، كصورة الآدمي ، تعمل وتنصب فتعبد ، ومن العلماء من قال : الوثن هو الصنم ، وقيل : الصنم : هو الصورة بلا جثة . يُراجع : النهاية في غريب الحديث والأثر (5/151) ، باب الواو مع الثاء .
(2) - رواه أبو داود في سننه (3/607) كتاب الأيمان والنذور ، حديث رقم (3313) . ورواه البيهقي في سننه (10/ 83) كتاب النذور . ورواه الطبراني في المعجم الكبير (2/68)، حديث رقم (1341) . وقال الشيخ محمد بن عبد الوهاب : وإسناده على شرطهما . يراجه : كتاب التوحيد بحاشية الشيخ ابن قاسم ص(104-106) ويراجع : النهج السديد حديث رقم (132).
(3) - رواها أبو داود في سننه (3/607 ،608) كتاب الأيمان والنذور ، حديث رقم (3314) .(22/422)
أحدها : أن قوله : (( فأوف بنذرك ))(1) تعقيب للوصف بالحكم بحرف الفاء ، وذلك يدلُّ على أن الوصف هو سبب الحكم ، فيكون سبب الأمر بالوفاء : وجود النذر خالياً من هذين الوصفين ، فيكون الوصفان ما نعين من الوفاء ، ولو لم يكن معصية لجاز الوفاء به .
الثاني : أنه عقّب ذلك بقوله: ((لا وفاء لنذر في معصية الله)). ولولا اندراج الصورة المسئول عنها في اللفظ العام، لم يكن في الكلام ارتباط ، والمنذور في نفسه -وإن لم يكن معصية- لكن لما سأله النبي صلى الله عليه وسلم عن الصورتين قال له :
((فأوف بنذرك)) . يعني : حيث ليس هناك ما يوجب تحريم الذبح هناك فكان جوابه صلى الله عليه وسلم فيه أمر بالوفاء عند الخلو من هذا ، ونهي عن وجود هذا ، وأصل الوفاء بالنذر معلوم ، فبيَّن ما لا وفاء فيه . واللفظ العام إذا ورد على سبب ، فلا بدَّ أن يكون السبب مندرجاً فيه .
الثالث : أنه لو كان الذبح في مواضع العيد جائز لسوغ النبي صلى الله عليه وسلم للناذر الوفاء ، كما سوغ لمن نذرت الضرب بالدف أن تضرب به(2).بل لأوجب الوفاء به ، إذا كان الذبح بالمكان المنذور واجباً ، وإذا كان الذبح بمكان عيدهم منهياً عنه ، فكيف بالموافقة في نفس العيد ، بفعل بعض الأعمال التي تعمل بسبب عيدهم ؟
__________
(1) - رواه أبو داود في سننه (3/607 ،608) كتاب الأيمان والنذور ، حديث رقم (3314) ، بلفظ : (( فأوف بما نذرت به لله )).
(2) - رواه أبو داود في سننه (3/607 ،608) كتاب الأيمان والنذور ، حديث رقم (3312) ،ورواه ابن حبان في صحيحه ، يراجع موارد الظمآن ص (289) ، حديث رقم (1193).(22/423)
فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد نهى أن يذبح في مكان ، كان الكفار يعملون فيه عيداً، وإن كان أولئك الكفار قد أسلموا وتركوا ذلك العيد ، والسائل لا يتخذ المكان عيداً، بل يذبح فيه فقط ، فقد ظهر أن ذلك سداً للذريعة إلى بقاء شيء من أعيادهم ، خشية أن يكون الذبح هناك سبباً لإحياء أمر تلك البقعة ، وذريعة إلى اتخاذها عيداً ، مع أن ذلك العيد إنما كان- والله أعلم - سوقاً يتبايعون فيها ، ويلعبون كما قالت الأنصار : يومان كنا نلعب فيهما في الجاهلية . لم تكن أعياد الجاهلية عبادة لهم ، ولهذا فرق صلى الله عليه وسلم بين كونها مكان وثن ، وكونها مكان عيد، وهذا نهي شديد عن أن يفعل شيء من أعياد الجاهلية على أي وجه كان.
وفعل أعياد الكتابيين وغيرهم التي تتخذ ديناً وعبادة أعظم تحريماً من عيد يتخذ لهواً ولعباً ؛ لأن التعبد بما يسخطه الله ويكرهه أعظم من اقتضاء الشهوات بما حرَّمه . ولهذا كان الشرك أعظم إثماً من الزنا ، ولهذا كان جهاد أهل الكتاب أفضل من جهاد الوثنيين .
وإذا كان الشارع قد حسم مادة أعياد أهل الأوثان ، خشية أن يتدنس المسلم بشيء من أمر الكفار – الذين قد يئس الشيطان أن يقيم أمرهم في جزيرة العرب - ، فالخشية من تدنسه بأوضار(1)
__________
(1)
- الأوضار :جمع وضر ،وهو الدرن والدسم ،أو وسخ الدسم ،واللبن وغسالة السقاء ،والقصعة ونحوهما .يراجع :لسان العرب(5/284) مادة (وضر).(22/424)
الكتابيين الباقين أشد ، والنهي عنه أوكد ، كيف وقد تقدم الخبر الصادق بسلوك طائفة من هذه الأمة سبيلهم . ويضاف إلى ما تقدم أيضاً : أن هذا الحديث وغيره ، قد دلَّ على أنه كان للناس في الجاهلية أعياد يجتمعون فيها ، ومعلوم أنه بمبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم محى الله ذلك عنه فلم يبق شيء من ذلك ، ومعلوم أنه لولا نهيه ومنعه لما ترك الناس تلك الأعياد ؛ لأن المقتضى لها قائم من جهة الطبيعة التي تحب ما يُصنع في الأعياد ، وخصوصاً أعياد الباطل ، من اللعب واللذات ، ومن جهة العادة التي ألفت ما يعود من العيد ، فإن العادة طبيعة ثانية وإذا كان المقتضي قائماً قوياً ، فلولا المانع القوي لما درست تلك الأعياد .
وهذا يوجب العلم اليقيني ، بأن إمام المتقين صلى الله عليه وسلم كان يمنع أمته منعاً قوياً عن أعياد الكفار ، ويسعى في دروسها وطمسها بكل سبيل ، وليس في إقرار أهل الكتاب على دينهم ، إبقاء لشيء من أعيادهم في حق أمته، كما أنه ليس في ذلك إبقاء في حق أمته ، لما هم عليه في سائر أعمالهم ، من سائر كفرهم ومعاصيهم ، بل قد بالغ صلى الله عليه وسلم في أمر أمته بمخالفتهم في كثير من المباحات ، وصفات الطاعات ؛ لئلا يكون ذلك ذريعة إلى موافقتهم في غير ذلك من أمورهم، ولتكون المخالفة في ذلك حاجزاً ومانعاً عن سائر أمورهم ، فإنه كلما كثرت المخالفة بينك وبين أصحاب الجحيم ، كان أبعد عن أعمال أهل الجحيم(1) .
__________
(1) - ويُراجع : اقتضاء الصراط المستقيم (1/436- 445) .(22/425)
ما روته عائشة – رضي الله عنها – قالت : دخل أبو بكر -رضي الله عنه- وعندي جاريتان من جواري الأنصار تغنيان بما تقاولت الأنصار يوم بُعاث(1) ، قال: وليستا بمغنيتين. فقال أبو بكر -رضي الله عنه-: أمزامير الشيطان في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ وذلك في يوم عيد ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :(( يا أبا بكر إن لكل قوم عيداً ، وهذا عيدنا ))(2)
وفي رواية : (( يا أبا بكر ! إن لكل قوم عيداً وإن عيدنا هذا اليوم ))(3). وفي رواية : ((دعهما يا أبي بكر ، فإنها أيام عيد)). وتلك الأيام أيام منى(4).
وجه الدلالة من الحديث :
__________
(1) - بُعاث : موضع في نواحي المدينة ، على ليلتين منها ، كانت فيه وقعة عظيمة بين الأوس والخزرج في الجاهلية ، قُتل فيها خلق من أشراف الأوس والخزرج وكبرائهم ، ولم يبق من شيوخهم إلا القليل . روى البخاري في صحيحه عن عائشة – رضي الله عنها – قالت : (( كان يوم بعاث يوماً قدمه الله لرسول صلى الله عليه وسلم فقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد افترق ملأهم ، وقتلت سرواتهم وجرحوا . فقدمه الله لرسول صلى الله عليه وسلم في دخولهم في الإسلام )) . رواه البخاري في صحيحه المطبوع مع الباري (7/110) كتاب مناقب الأنصار ، حديث رقم (3777). يُراجع : البداية والنهاية ( 3/162). ويُراجع : معجم البلدان (1/451).
(2) - رواه البخاري في صحيحه المطبوع مع فتح الباري(2/445) كتاب العيدين، حديث رقم(952). ورواه مسلم في صحيحه(2/607،608) كتاب صلاة العيدين رقم (892)
(3) - رواه البخاري في صحيحه المطبوع مع فتح الباري(7/264) كتاب مناقب الأنصار ، حديث رقم (3931) ، بلفظ: (( دعهما يا أبي بكر ...)) الحديث
(4) - رواه البخاري في صحيحه المطبوع مع فتح الباري (2/474) كتاب العيدين ، حديث رقم (987) . ورواه مسلم في صحيحه (2/608) كتاب صلاة العيدين رقم (892)(17) .(22/426)
أحدها : قوله: (( إن لكل قوم عيداً ، وهذا عيدنا)) . فإن هذا يوجب اختصاص كل قوم بعيدهم ، كما أن الله سبحانه وتعالى لما قال :{ وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا}(1). وقال تعالى :{ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً}(2)، أوجب ذلك اختصاص كل قوم بوجهتهم وبشرعتهم ، وذلك أن اللام تورث الاختصاص ، فإذا كان لليهود عيد ، وللنصارى عيد ، كانوا مختصين به فلا نشركهم فيه ، كما لا نشركهم في قبلتهم وشرعتهم ، وكذلك لا ندعهم يشركوننا في عيدنا .
الثاني : قوله : ((وهذا عيدنا)) فإنه يقتضي حصر عيدنا في هذا فليس لنا عيد سواه ، وكذلك قوله : (( وإن عيدنا هذا اليوم)) فإن التعريف باللام والإضافة يقتضي الاستغراق ، فيقتضي أن يكون جنس عيدنا منحصراً في جنس ذلك ، كما في قوله : (( تحريمها التكبير وتحليلها التسليم ))(3).
وليس غرض صلى الله عليه وسلم الحصر في عين ذلك العيد ، أو عين ذلك اليوم ، بل الإشارة إلى جنس المشروع ، كما تقول الفقهاء : باب صلاة العيد ، ويندرج فيه صلاة العيدين ، كما يُقال : لا يجوز صوم يوم العيد .
وكذا قوله: (( وإن هذا اليوم )) ، أي : جنس هذا اليوم ، كما يقول القائل لما يعاينه من الصلاة : هذه صلاة المسلمين، ويقول لمخرج الناس إلى الصحراء ، وما يفعلونه من التكبير والصلاة ونحو ذلك : هذا عيد المسلمين ... ونحو ذلك .
__________
(1) - سورة البقرة: الآية148
(2) -سورة المائدة: الآية48
(3) - رواه أحمد في مسنده (1/123). رواه أبو داود في سنن (1/411) كتاب الصلاة ، حديث رقم (618) . ورواه الترمذي في سننه (1/5) أبواب الطهارة ، حديث رقم (3) ورواه ابن ماجه في سننه (1/101) كتاب الطهارة ،حديث رقم (275) ورواه الحاكم في المستدرك (1/132) كتاب الطهارة ، وقال : هذا حديث صحيح الإسناد على شرط مسلم ولم يخرجاه . ووافقه الذهبي في تلخيصه .(22/427)
ومن هذا الباب : قوله : ((يوم عرفة ، ويوم النحر ، وأيام منى عيدنا أهل الإسلام ،وهي أيام أكل وشرب ))(1).
فإنه دليل مفارقتنا لغيرنا في العيد ، والتخصيص بهذه الأيام الخمسة ؛ لأنَّه يجتمع فيها العيدان : المكاني والزماني ، ويطول زمنه ، وبهذا يسمى العيد الكبير ، فلما كملت فيه صفات التعبيد : حصر الحكم فيه لكماله ، أو لأنه عدّ أياماً ، وليس لنا عيد هو أيام ، إلا هذه الخمسة .
__________
(1) - رواه أحمد في مسنده (4/152) . ورواه مسلم في صحيحه (2/800 ) كتاب الصيام ، حديث رقم (1141)عن نبيشة الهذلي ، وحديث رقم (1142) عن كعب بن مالك الأنصارى . ورواه أبو داود في سننه (2/804)كتاب الصوم ، حديث رقم (2419) . ورواه الترمذي في سننه (2/135) أبواب الصوم ، حديث رقم (770) ، وقال : حديث حسن صحيح . ورواه النسائي في سننه (5/252) كتاب مناسك الحج ، باب النهي عن صوم يوم عرفة . ورواه ابن حبان في صحيحه . يُراجع : موارد الظمآن ص(238) كتاب الصيام رقم (958) . ورواه الحاكم في المستدرك (1/434)، وقال : حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه . ووافقه الذهبي في تلخيصه .(22/428)
الثالث : أنه رخص في لعب الجواري بالدف ، وتغنيهن ، معللاً بأن لكل قوم عيداً ، وأن هذا عيدنا ، وذلك يقتضي أن الرخصة معللة بكونه عيد مسلمين، وأنها لا تتعدى إلى أعياد الكفار، وأنه لا يرخص في اللعب في أعياد الكفار ، كما يرخص فيه في أعياد المسلمين؛ إذ لو ما فعل في عيدنا من ذلك اللعب يسوغ مثله في أعياد الكفار أيضاً لما قال: ((فإن لكل قوم عيداً، وإن هذا عيدنا))؛ لأن تعقيب الحكم بالوصف بحرف الفاء دليل على أنه علة ، فيكون علة الرخصة: أن كل أمة مختصة بعيد، وهذا عيدنا ، وهذه العلة مختصة بالمسلمين ، فلا يجوز لنا أن نفعل في كل عيد للناس من اللعب ما نفعل في عيد المسلمين ، وهذا فيه دلالة على النهي عن التشبه بهم في اللعب ونحوه(1) .
__________
(1) - ويُراجع : اقتضاء الصراط المستقيم (1/445- 449) .(22/429)
أن أرض العرب ما زال فيها يهود ونصارى ، حتى أجلاهم عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- في خلافته ، وكان اليهود بالمدينة(1) كثيراً في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان قد هادنهم حتى نقضوا العهد ، طائفة بعد طائفة ، وما زال بالمدينة يهود ، وإن لم يكونوا كثيراً ، فإنه مات صلى الله عليه وسلم ودرعه مرهونة عند يهودي ، وكان في اليمن يهود كثير ، والنصارى بنجران(2)
__________
(1) - المدينة : وكانت تسمى في الجاهلية : يثرب . وهي مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومهاجره، ورد في فضلها وأنها بلد حرام ، أحاديث كثيرة ، عقد لها البخاري كتاباً في صحيحه وسماه كتاب : فضائل المدينة ، وفيها مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم وقبره ومنبره اللذين ورد في أن ما بينهما روضة من رياض الجنة ، وبها استقر خير أمة محمد عليه والسلام من الخلفاء الراشدين والصحابة وبها ماتوا ودُفنوا. وفي شمالها يقع جبل أحد الذي وقعت عنده الغزوة المشهورة غزوة أحد ، وهي في حرة سبخة الأرض ، وبها نخيل كثيرة ومياه ومزارع . وتقع شمال مكة على نحو عشر مراحل (حوالي 450كم) . يراجع : معجم البلدان (5/82، 88) ، وصحيح البخاري (2/220- 255) كتاب فضائل المدينة .
(2) - نجران من مخاليف اليمن من ناحية مكة ، وسمي بذلك نسبة إلى نجران بن يعرب بن قحطان ؛ لأنه أول من عمرها ، وبها واد عظيم ، وكان بها على زمن النبي صلى الله عليه وسلم كعبة وبها أساقفة وهم الذين دعاهم صلى الله عليه وسلم للمباهلة . وبها خُد الأخدود ولا زالت آثاره باقية .
وهي الآن تابعة للمملكة العربية السعودية ، وبها إمارة خاصة بمنطقة نجران وتبعد عن الرياض حوالي تسعمائة كيلوا متر عن طريق وادي الدواسر ، وتشتهر بالزراعة . يراجع : معجم البلدان (5/266 – 270 ).(22/430)
وغيرها ، والفرس بالبحرين(1).
ومن المعلوم أن هؤلاء كانت لهم أعياد يتخذونها ، ومن المعلوم أيضاً أن المقتضي لما يفعل في العيد : من الأكل والشرب، واللباس والزينة ، واللعب والراحة ونحو ذلك، قائم في النفوس كلها ، إذا لم يوجد مانع، خصوصاً في نفوس الصبيان والنساء، وأكثر الفارغين من الناس .
ثم من كانت له خبرة بالسيرة ، علم يقيناً أن المسلمين على عهده صلى الله عليه وسلم ما كانوا يشركونهم في شيء من أمرهم ، ولا يغيرون لهم عادة في أعياد الكافرين ، بل ذلك اليوم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وسائر المسلمين يوم من الأيام ، لا يخصونه بشيء أصلاً ، إلا ما قد اختلف فيه من مخالفتهم فيه كصومه ونحو ذلك .
فلولا أن المسلمين كان دينهم الذي تلقوه عن نبيهم صلى الله عليه وسلم منع من ذلك وكف عنه ، لوجب أن يوجد من بعضهم فعل بعض ذلك ؛ لأن المقتضى إلى ذلك قائم ، كما تدلُّ عليه الطبيعة والعادة ، فلولا المانع الشرعي لوجد مقتضاه ، ثم على هذا جرى عمل المسلمين على عهد الخلفاء الراشدين ، فلا شك أن المسلمين تلقُّوا عن نبيهم صلى الله عليه وسلم المنع عن مشاركتهم في أعيادهم(2) .
__________
(1) - البحرين : اسم جامع لبلاد على ساحل البحر بين البصرة وعُمان . وفيها عيون ومياه وبلاد واسعة . يراجع : معجم البلدان (1/346 – 349 ).
(2) - ويُراجع : اقتضاء الصراط المستقيم (1/449- 450) .(22/431)
ما رواه أبو هريرة -رضي الله عنه- أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول : (( نحن الآخرون السابقون يوم القيامة ، بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا ، وأوتينا من بعدهم ، ثم هذا يومهم الذي فرض الله عليهم ، فاختلفوا فيه فهدانا الله له ، فالناس لنا فيه تبع: اليهود غداً ، والنصارى بعد غداً))(1). وفي لفظ : (( بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا ، وأوتيناه من بعدهم ، فهذا يومهم الذي اختلفوا فيه ، فهدانا الله له ))(2)
وعن أبي هريرة وحذيفة – رضي الله عنهما – قالا : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( أضل الله عن الجمعة من كان قبلنا ، فكان لليهود يوم السبت، وكان للنصارى يوم الأحد فجاء الله بنا، فهدانا الله ليوم الجمعة، فجعل الجمعة والسبت والأحد ، وكذلك هم تبع لنا يوم القيامة، نحن الآخرون من أهل الدنيا ، والأولون يوم القيامة، المقتضي لهم)). وفي رواية: (( المقضي بينهم – قبل الخلائق ))(3). وقد سمى النبي صلى الله عليه وسلم الجمعة عيداً في غير موضع ونهى عن إفراد بالصوم لما فيه من معنى العيد .
وجه الاستدلال من الحديث :
__________
(1) - رواه البخاري في صحيحه المطبوع مع فتح الباري (2/354) كتاب الجمعة ، حديث رقم (876) عدا قوله : ((وأوتينا من بعدهم )) فقد ورد في حديث بنفس المعنى برقم (896) كتاب الجمعة . ورواه مسلم في صحيحه (2/585) كتاب الجمعة ، حديث رقم (855) .
(2) - ورواه مسلم في صحيحه (2/585) كتاب الجمعة ، حديث رقم (855) (21) .
(3) - ورواه مسلم في صحيحه (2/586) كتاب الجمعة ، حديث رقم (856) ،ورواه النسائي في سننه (3/87) كتاب الجمعة ، باب إيجاب الجمعة .(22/432)
أنه ذكر أن الجمعة لنا، كما أن السبت لليهود، والأحد للنصارى، واللام تقتضي الاختصاص، وهذا الكلام يقتضي الاقتسام، فإذا قيل : هذه ثلاثة أبواب : هذا لي ، وهذا لزيد وهذا لعمرو . أوجب ذلك أن يكون كل واحد مختصاً بما جعل له ، ولا يشركه فيه غيره. فإذا نحن شاركناهم في عيدهم يوم السبت ، أو عيد يوم الأحد ، خالفنا هذا الحديث ، وإذا كان هذا في العيد الأسبوعي ، فكذلك في العيد الحولي , إذا لا فرق ، بل إذا كان هذا في عيد يُعرف بالحساب العربي ، فكيف بأعياد الكافرين العجمية التي لا تُعرف إلا بالحساب الرومي أو القبطي أو الفارسي أو العبري ونحو ذلك(1) .
ثالثاً : ومن الإجماع :
ما تقدم التنبيه عليه ، من أن اليهود والنصارى والمجوس ، ما زالوا في أمصار المسلمين بالجزية ، يفعلون أعيادهم التي لهم والمقتضي لبعض ما يفعلونه قائم في كثير من النفوس ، ثم لم يكن على عهد السابقين من المسلمين ، من يشركهم في شيء من ذلك ، فلولا قيام المانع في نفوس الأمة ، كراهة ونهياً عن ذلك ، و إلا لوقع ذلك كثيراً ، والمانع هو الدين ، فعُلِم أن الدين دين الإسلام هو المانع من الموافقة ، وهو المطلوب .
__________
(1) - ويُراجع : اقتضاء الصراط المستقيم (1/450- 451) .(22/433)
أنه قد تقدَّم في شروط عمر – رضي الله عنه – التي اتفقت عليها الصحابة ، وسائر الفقهاء بعدهم ، أن أهل الذمة من أهل الكتاب لا يظهرون أعيادهم في دار الإسلام، وسُمُّوا الشعانين(1) والباعوث(2) فإذا كان المسلمون قد اتفقوا على منعهم من إظهارها ، فكيف يسوغ للمسلمين فعلها ؟ أوليس فعل المسلم لها أشد من فعل الكافر لها مظهراً لها ؟ . وذلك : أنَّا إنَّما منعناهم من إظهارها لما فيه من الفساد ؛ إما لأنها معصية ، أو شعار معصية ، وعلى التقديرين : فالمسلم ممنوع من المعصية ومن شعارها ، ولو لم يكن في فعل المسلم لها من الشر إلا تجرئة الكافر على إظهارها لقوة قلبه بالمسلم إذا فعلها ، فكيف وفيها من الشر الشيء الكثير !(3)
رابعاً : من الآثار :
__________
(1) - هو أول أحد في صومهم ، يخرجون فيه بورق الزيتون ونحوه ، ويزعمون أن ذلك مشابهة لما جرى للمسيح ابن مريم – عليه السلام – حين دخل إلى بيت المقدس ، راكباً أتانا مع جحشها فأمر بالمعروف ونهى عن المنكر ، فثار عليه غوغاء الناس ، وكان اليهود قد وكلوا قوماُ معهم عصى يضربونه بها ، فأورقت تلك العصى ، وسجد أولئك للمسيح ، فعيد الشعانين مشابهة لذلك الأمر . ويُراجع : اقتضاء الصراط المستقيم (1/478- 479)
(2) - الباعوث : يخرجون فيه النصارى ، ويجتمعون فيه كما يخرج المسلمون يوم الأضحى والفطر ،ينبعثون إليه من كل ناحية .ويُراجع :اقتضاء الصراط المستقيم (1/321) وأحكام أهل الذمة (2/721).
(3) - ويُراجع :اقتضاء الصراط المستقيم (1/454)(22/434)
قول عمر – رضي الله عنه - : (( لا تعلموا رطانة الأعاجم ، ولا تدخلوا على المشركين في كنائسهم يوم عيدهم ، فإن السخطة(1) تنزل عليهم ))(2).
قول عمر - رضي الله عنه - : (( اجتنبوا أعداء الله في عيدهم ))(3).
قول عبد الله بن عمر- رضي الله عنهما - :((من بنى ببلاد الأعاجم وصنع نيروزهم (4) ومهرجانهم(5) ، وتشبه بهم حتى يموت وهو كذلك حُشِر معهم يوم القيامة )) (6).
__________
(1) - السخط : ضد الرضا ، وسخط : أي غضب ، ويسخط : أي يكره ، ويعاقب . والمراد بالسخطة هنا – والله أعلم - : العقوبة . يراجع : لسان العرب (312، 313).
(2) - رواه البيهقي في سننه (9/234)كتاب الجزية ، باب كراهية الدخول على أهل الذمة في كنائسهم . ورواه عبد الرواق في مصنفه ( 1/411) ، رقم (1609) . وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في اقتضاء الصراط المستقيم (1/455) : وروى البيهقي بإسناد صحيح ... وذكر الأثر .
(3) - رواه البيهقي في سننه (9/234) بإسناده عن البخاري ، كتاب الجزية ، باب كراهية الدخول على أهل الذمة في كنائسهم .
(4) -تقدم الكلام عنهم في المبحث الثاني .
(5) - المهرجان : من أعيان الفرس ، ويكون في السادس والعشرين من تشرين الأول من شهور السريان ، ويكون هذا الزمان وسط الخريف . وهو ستة أيام ، ويسمى اليوم السادس المهرجان الأكبر . يراجع : نهاية الأرب (1/187).
(6) - رواه البيهقي في سننه (9/234)كتاب الجزية ، باب كراهية الدخول على أهل الذمة في كنائسهم . وقال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله- في اقتضاء الصراط المستقيم (1/457، 458) : ( وروى البيهقي بإسناد صحيح ... عن عبد بن عمر وقال :......... وذكر الأثر) .(22/435)
عن محمد بن سيرين قال: أُتي على -رضي الله عنه- بهدية النيروز. فقال : ما هذا ؟ قالوا : يا أمير المؤمنين هذا يوم النيروز . قال : فاصنعوا كل يوم فيروزاً . قال أسامة : كره أن يقول : نيروز(1).
وقال البيهقي : وفي هذا الكراهة لتخصيص يوم بذلك لم يجعله الشرع مخصوصاً به(2).
فمما تقدم من الآثار نري أن عمر – رضي الله عنه- نهى عن تعلم لسانهم ، وعن مجرد دخول الكنيسة عليهم يوم عيدهم ، فكيف بفعل بعض أفعالهم ؟! أو فعل ما هو من مقتضيات دينهم؟. أليست موافقتهم في العمل أعظم من الموافقة في اللغة ؟. أو ليس عمل بعض أعمال عيدهم أعظم من مجرد الدخول عليهم في عيدهم ؟ .
وإذا كان السخط ينزل عليهم يوم عيدهم بسبب عملهم، فمن يشركهم في العمل أو بعضه أليس قد تعرض لعقوبة ذلك؟
ثم قال : (( اجتنبوا أعداء الله في عيدهم )). أليس نهياً عن لقائهم والاجتماع بهم فيه؟ فكيف بمن عمل عيدهم؟ وأما عبد الله بن عمر – رضي الله عنهما – فصرح أنه : من بنى ببلادهم ، وصنع نيروزهم ومهرجانهم ، وتشبه بهم حتى يموت حُشر معهم . وهذا يقتضي أنه جعله كافراً بمشاركتهم في مجموع هذه الأمور ، أو جعل ذلك معصية ؛ لأنه لو لم يكن مؤثراً في استحقاق العقوبة ، لم يجز جعله جزاءاً من المقتضي ، إذا المباح لا يُعاقب عليه ، وليس الذم على بعض ذلك مشروطاً ببعض ، لأن أبعاض ما ذكره يقتضي الذم منفرداً ، وإنما ذكر – والله أعلم – من بني ببلادهم ، لأنهم على عهد عبد الله بن عمر وغيره من الصحابة كانوا ممنوعين من إظهار أعيادهم بدار الإسلام ، وما كان أحد من المسلمين يتشبه بهم في عيدهم ، وإنَّما كان يتمكن من ذلك بكونه في أرضهم .
__________
(1) - رواه البيهقي في سننه (9/235) كتاب الجزية ، باب كراهية الدخول على أهل الذمة في كنائسهم .
(2) - يُراجع : السنن الكبرى للبيهقي (9/235) كتاب الجزية .(22/436)
وأما علي – رضي الله عنه - ، فكره موافقتهم في اسم يوم العيد الذي ينفردون به ، فكيف بموافقتهم في العمل ؟(1).
ومن الاعتبار : وجوه عدة ، منها :
* الوجه الأول :
أن الأعياد من جملة الشرع والمناهج والمناسك ، التي قال الله سبحانه وتعالى فيها : {لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكاً هُمْ نَاسِكُوهُ }(2). كالقبلة والصلاة والصيام ، فلا فرق بين مشاركتهم في العيد، وبين مشاركتهم في سائر المناهج، فإن الموافقة في جميع العيد، موافقة في الكفر، والموافقة في بعض فروعه ، موافقة في بعض شعب الكفر، بل الأعياد هي من أخص ما تتميز به الشرائع ، ومن أظهر ما لها من الشعائر ، فالموافقة فيها موافقة في أخص شرائع الكفر ، وأظهر شرائعه ، ولا ريب أن الموافقة في هذا قد تنتهي إلى الكفر في الجملة بشروطه . وأما مبدؤها فأقل أحواله أن يكون معصية ، وإلى هذا الاختصاص أشار النبي صلى الله عليه وسلم بقوله : ((إن لكل قوم عيداً وإن هذا عيدنا)). وهذا أقبح من مشاركتهم في لبس الزنار(3) ونحوه من علاماتهم ؛ لأن تلك علامة وضعية ليست من الدين ، وإنما الغرض بها مجرد التمييز بين المسلم والكافر ، وأما العيد وتوابعه ، فإنه من الدين الملعون أهله ، فالموافقة فيه موافقة فيما يتميزون به من أسباب سخط الله وعقابه .
فعيد الكفار شريعة من شرائع الكفر ، أو شعيرة من شعائره ، فحرمت موافقتهم فيه كسائر شعائر الكفر وشرائعه(4).
* الوجه الثاني :
أن ما يفعلونه في أعيادهم معصية لله ؛ لأنَّه إما محدث مبتدع ، وإما منسوخ ، وأحسن أحواله- ولا حسن فيه- أن يكون بمنزلة صلاة المسلم إلى بيت المقدس .
__________
(1) - ويُراجع : اقتضاء الصراط المستقيم (1/455-460) .
(2) - سورة الحج ، الآية : 67.
(3) - الزنانير : جمع زنارة وزنارة : ما يلبسه المجوسي والنصراني على وسطه يشده به . يُراجع : لسان العرب(4/330) مادة (زنر).
(4) - ويُراجع : اقتضاء الصراط المستقيم (1/471-472) .(22/437)
هذا إذا كان المفعول مما يتدين به ، وأما ما يتبع ذلك من التوسع في العادات من الطعام واللباس ، واللعب والراحة ، فهو تابع لذلك العيد الديني ، كما أن ذلك تابع له في دين الله : الإسلام . فيكون بمنزلة أن يتخذ بعض المسلمين عيداً مبتدعاً يخرج فيه إلى الصحراء ، ويفعل فيه من العبادات والعادات من جنس المشروع في يومي الفطر والنحر ، أو مثل أن ينصب بنية يطاف بها وتحج، ويصنع لمن يفعل ذلك طعاماً ونحو ذلك .
فلو فعل المسلم ذلك ، لكان غير عادته ذلك اليوم ،كما يغير أهل البدعة عادتهم في الأمور العادية أو بعضها ،بصنعة طعام وزينة لباس ، وتوسيع في نفقة ونحو ذلك ، من غير أن يتعبد بتلك العادة المحدثة ، ألم يكن هذا من أقبح النكرات؟ فكذلك موافقة هؤلاء المغضوب عليهم والضالين أشدّ.
وأهل الكتاب يقرون على دينهم المبتدع والمنسوخ مستسرين به ، والمسلم لا يقر على مبتدع ولا منسوخ، لا سراً ولا علانية، وأما مشابهة الكفار فكمشابهة أهل البدع وأشدّ(1) .
* الوجه الثالث :
أنه إذا سوغ فعل القليل من ذلك ، أدي إلى فعل الكثير ، ثم إذا اشتهر الشيء دخل فيه عوام الناس ، وتناسوا أصله ، حتى يصير عادة للناس بل عيداً ، حتى يضاهى بعيد الله ، بل قد يُزاد عليه حتى يكاد أن يفضي إلى موت الإسلام وحياة الكفر ، كما قد سوله الشيطان لكثير ممن يدعي الإسلام ، فيما يفعلونه في أواخر صوم النصارى ، من الهدايا والأفراح ، والنفقات وكسوة الأولاد ، وغير ذلك ، مما يصير به مثل عيد المسلمين ، بل البلاد المصاقبة(2) للنصارى التي قلَّ عِلْمُ أهلها وإيمانهم ، قد صار ذلك أغلب عندهم وأبهى في نفوسهم من عيد الله ورسوله .
__________
(1) - ويُراجع : اقتضاء الصراط المستقيم (1/472-473) .
(2) - المصاقبة : القريبة والملاصقة . .يراجع : لسان العرب (1/525) مادة (صقب).(22/438)
فالمشابهة تفضي إلى كفر ، أو معصية غالباً ، أو تقضي إليهما في الجملة ، وليس في هذا المفضي مصلحة ، وما أفضى إلى ذلك كان محرماً ، فالمشابهة محرمة ، والمقدمة الثانية لا ريب فيها ، فإن استقراء الشريعة في مواردها ومصادرها دالٌّ على أن ما أفضى إلى الكفر غالباً حرِّم ، وما أفضى إليه وجه خفي حرم ، وما أفضى إليه في الجملة ولا حاجة تدعوا إليه حرم .
والمقدمة الأولى قد شهد بها الواقع شهادة لا تخفى على بصير ولا أعمى مع أن الإفضاء أمر طبيعي ، قد اعتبره الشارع في عامة الذرائع التي سدَّها ، كما ذكر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في كتاب ((إقامة الدليل على إبطال التحليل))(1). (2) .
* الوجه الرابع:
أن الأعياد والمواسم في الجملة لها منفعة عظيمة في دين الخلق ودنياهم ، كانتفاعهم بالصلاة والزكاة والصيام والحج، ولهذا جاءت بها كل شريعة ، كما قال تعالى :{ وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ}(3). وقال جل وعلا : {كُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكاً هُمْ نَاسِكُوهُ}(4).
__________
(1) - يوجد ضمن الفتاوى الكبرى ، الجزء الثالث . ويقع في نحو 265صفحة (طبعة 1328هـ بمصر ) نشر مكتبة المثني ببغداد .
(2) - ويُراجع : اقتضاء الصراط المستقيم (1/473-482) .
(3) - سورة الحج ، الآية : 34.
(4) - سورة الحج ، الآية :67(22/439)
ثم إن الله شرع على لسان خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم من الأعمال ما فيه صلاح الخلق على أتم الوجوه ، وهو الكمال المذكور في قوله تعالى { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي }(1). ولهذا أنزل الله هذه الآية في أعظم أعياد الأمة الحنيفية ، فإنه لا عيد في النوع أعظم من العيد الذي يجتمع فيه المكان والزمان وهو عيد النحر ، ولا عين من أعيان هذا النوع أعظم من يوم كان قد أقامه رسول الله صلى الله عليه وسلم بعامة المسلمين ، وقد نفى الله تعالى الكفر وأهله .
ومن شأن الجسد إذا كان جائعاً فأخذ من طعام حاجته استغنى عن طعام آخر، حتى لا يأكله إن أكل منه إلا بكراهة وتجشم(2)، وربما ضره أكله ، أو لم ينتفع به ، ولم يكن هو المغذي له ، الذي يقيم بدنه ، فالعبد إذا أخذ من غير الأعمال المشروعة بعض حاجته ، قلَّت رغبته في المشروع وانتفاعه به ، بقدر ما اعتاض من غيره ، بخلاف من صرف نهمته وهمَّته إلى المشروع ، فإنه تعظم محبته له ومنفعته به ، ويتم دينه ويكمل إسلامه .
ولذا تجد من أكثر سماع القصائد لطلب صلاح قلبه ، تنقص رغبته في سماع القرآن ، حتى ربما كرهه.
ولهذا عظَّمت الشريعة النكير على من أحديث البدع، وكرهتها ؛ لأنَّ البدع لو خرج الرجل منها كفافاً لا عليه ولا له، لكان الأمر خفيفاً ، بل لابد أن يوجب له فساداً ، منه نقص منفعة الشريعة في حقه ؛ إذ القلب لا يتسع للعوض والمعوض منه .
__________
(1) - سورة المائدة ، الآية : 3.
(2) - تجشم : تكلف على مشقة ، وتجشمت كذا : أي فعلته على كره ومشقة . يُراجع : لسان العرب (12/100) مادة (جشم).(22/440)
ولهذا قال صلى الله عليه وسلم في العيدين الجاهليين: (( إن الله قد أبدلكم بهما يومين خيراً منهما ))(1).فيبقى اغتذاء قلبه من هذه الأعمال المبتدعة ، مانعاً من الاغتذاء ، أو من كمال الاغتذاء بتلك الأعمال الصالحة النافعة الشرعية ، فيفسد عليه حاله من حيث لا يشعر ، كما يفسد جسد المغتذي بالأغذية الخبيثة من حيث لا يشعر ، وبهذا يتبين بعض ضرر البدع(2).
* الوجه الخامس :
أن مشابهتهم في بعض أعيادهم يوجب سرور قلوبهم ، بما هم عليه من الباطل ، خصوصاً إذا كانوا مقهورين تحت ذل الجزية والصغار ، فرأوا المسلمين قد صاروا فرعاً لهم في خصائص دينهم ، فإنَّ ذلك يوجب قوة قلوبهم ، وانشراح صدورهم ، وربما أطعمهم ذلك في انتهاز الفرص ، واستذلال الضعفاء ، وهذا أيضاً أمر محسوس ، لا يستريب فيه عاقل . فكيف يجتمع ما يقتضي إكرامهم بلا موجب ، مع شرع الصغار في حقهم؟ .
* الوجه السادس :
أن فيما يفعلونه في عيدهم: ما هو كفر، وما هو حرام، وما هو مباح، لو تجرد عن مفسدة المشابهة، ثم التمييز بين هذا وهذا يظهر غالباً، وقد يخفى على كثير من العامة، فالمشابهة فيما لم يظهر تحريم للعالم، يوقع العامي في أن يشابههم فيما حرام، وهذا هو الواقع
والفرق بين هذا الوجه ، ووجه الذريعة -الوجه الثالث- أنا هناك قلنا: الموافقة في القليل تدعو إلى الموافقة في الكثير ، وهنا جنس الموافقة يلبس على العامة دينهم ، حتى لا يميزوا بين المعروف والمنكر، فذاك بيان للاقتضاء من جهة تقاضي الطباع بإرادتها، وهذا من جهة جهل القلوب باعتقاداتها.
__________
(1) - رواه أحمد في مسنده (3/103) . ورواه أبو داود في سننه (1/675) كتاب الصلاة ، حديث رقم (1134) . ورواه النسائي في سننه (3/179،180) كتاب العيدين . ورواه الحاكم في المستدرك (1/294) كتاب العيدين ، وقال:هذا حديث صحيح على شرط مسلم،ولم يخرجاه . ووافقه الذهبي في تلخيصه.
(2) - ويُراجع : اقتضاء الصراط المستقيم (1/482-485) .(22/441)
* الوجه السابع :
أن الله تعالى جبل بني آدم -بل سائر المخلوقات- على التفاعل بين الشيئين المتشابهين ، وكلما كانت المشابهة أكثر كان التفاعل في الأخلاق والصفات أتم ، حتى يؤول الأمر إلى أن لا يتميز أحدهما عن الآخر إلا بالعين فقط ، فالمشابهة والمشاركة في الأمور الظاهرة ، توجب مشابهة ومشاكلة في الأمور الباطنة على وجه المسارقة والتدرج الخفي .
ويظهر هذا في اليهود والنصارى الذين عاشروا المسلمين ، فهم أقل كفراً من غيرهم ، والمسلمون الذين أكثروا من معاشرة اليهود والنصارى ، هم أقل إيماناً من غيرهم ممن جرد الإسلام ، والمشاركة في الهدى الظاهر توجب أيضاً مناسبة وائتلافاً، وإن بعد المكان والزمان ، فمشابهتهم في أعيادهم -ولو بالقليل- هو سبب لنوع ما من اكتساب أخلاقهم التي هي ملعونة، وما كان مظنَّة لفساد خفي غير منضبط، علق الحكم به، وأدير التحريم عليه، فنقول: مشابهتهم في الظاهر سبب ومظنة لمشابهتهم في عين الأخلاق والأفعال المذمومة ، بل في نفس الاعتقادات ، وتأثير ذلك لا يظهر ولا ينضبط ونفس الفساد الحاصل من المشابهة قد لا يظهر ولا ينضبط، وقد يتعسَّر أو يتعذر زواله بعد حصوله، لو تفطن له، وكل ما كان سبباً إلى مثل هذا الفساد فإن الشارع يحرمه، كما دلَّت عليه الأصول المقررة(1).
* الوجه الثامن :
__________
(1) - ويُراجع : اقتضاء الصراط المستقيم (1/487-488) .(22/442)
أن المشابهة في الظاهر تورث نوع مودة ومحبة ، وموالاة في الباطن ، كما أن المحبة في الباطن تورث المشابهة في الظاهر وهذا أمر يشهد به الحس والتجربة ، حتى أن الرجلين إذا كانا من بلد واحد ، ثم اجتمعا في دار غربة ، كان بينهما من المودة والائتلاف أمر عظيم ، وإن كانا في مصرهما لم يكونا متعارفين ، أو كانا متهاجرين ، وكذلك تجد أرباب الصناعات الدنيوية يألف بعضهم بعضاً مالا يألفون غيرهم ، وكذلك الملوك والرؤساء وإن تباعدت ديارهم وممالكهم ، إلا أن يمنع من ذلك دين أو غرض خاص . فإذا كانت المشابهة في أمور دنيوية ، تورث المحبة والولاء لهم ، فكيف بالمشابهة في أمور دينية ؟ . فإن إفضاءها إلى نوع من الموالاة أكثر وأشد ، والمحبة والموالاة لهم تنافي الإيمان . قال الله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ * وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ}(1).
__________
(1) - سورة المائدة ، الآيات : 51- 53.(22/443)
قال تعالى فيما يذل به أهل الكتاب : { لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ *كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ * تَرَى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُو *وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فَاسِقُونَ}(1).
فبين سبحانه وتعالى أن الإيمان بالله والنبي وما أُنزل إليه مستلزم لعدم ولايتهم ، فثبوت ولايتهم يوجب عدم الإيمان ؛ لأن عدم اللازم يقتضي عدم الملزوم .
قال سبحانه وتعالى:{ لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْأِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ..........}(2).
فأخبر سبحانه أنه لا يوجد مؤمن يواد كافراً ، فمن واد الكفار فليس بمؤمن ، والمشابهة الظاهرة مظنة الموادة ، فتكون محرمة، كما تقدم تقرير مثل ذلك(3) .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: ( واعلم أن وجوه الفساد في مشابهتهم كثيرة ، فلنقتصر على ما نبهنا عليه )ا.هـ(4).
__________
(1) - سورة المائدة ، الآيات : 78- 81.
(2) - سورة المجادلة ، الآية :22.
(3) - ويُراجع : اقتضاء الصراط المستقيم (1/488-490) .
(4) - ويُراجع : اقتضاء الصراط المستقيم (1/490) .(22/444)
فمما تقدم يتبين لنا أن مشابهة الكفار على وجه العموم ، أو الخصوص -في أعيادهم- حرام ومناف للإيمان ، ويدل على ذلك الكتاب والسنة والإجماع والآثار والاعتبار ، التي تقدم ذكرها .
فحذار أخي المسلم مشابهة أهل الكتاب وغيرهم، في العادات والتقاليد والعبادات، ظاهراً وباطناً؛ لأنَّهُ من تشبه بقوم فهو منهم.
وعليك أيضاً: النصح والإرشاد بالتي هي أحسن لمن رأيته يقلدهم ويتشبه بهم، لعلك تكون سبباً في أن يترك مشابهتهم فينالك من الله الأجر والمثوبة ، لاسيما وأن أغلب المقلدين لهم ليس عن اعتقاد ، وإنما هو مجرد تقليد أعمى ، يفعله عوام الناس وجهَّالهم.
فالواجب على الإنسان المسلم أن يبدأ بنفسه ومن تحت يده ، فيترك كل ما فيه مشابهة للكفار وغيرهم ، ويوجه وينصح غيره ممن ابتلاه الله بتقليدهم فإن تقليدهم ومشابهتهم من المنكر الذي يجب تغييره ، على حسب طاقة الإنسان وقدرته ، فإما أن يغيره بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه ، وذلك أضعف الإيمان .
وواجب الحكام والعلماء وطلاب العلم أكبر من واجب غيرهم ، في إنكار هذا المنكر وغيره ؛ لقدرتهم على ذلك ، فالحكام بسلطانهم ، والعلماء بعلمهم .
فإذا اجتمع السلطان والعلم كان الجهد أكبر ، والفائدة أكثر في قمع البدعة وإظهار السنَّة .
والشواهد على ذلك من التاريخ كثيرة .
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
***********************
الخاتمة
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات ، الذي علم الإنسان ما لم يعلم . أحمده وأشكره على توفيقه وإعانته على إتمام هذا الكتاب، وأسأله المزيد من فضله وإنعامه ، وأُصلي وأُسلم على خير الخلق نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ، ومن اتبع هداه إلى يوم الدين .
أما بعد :
فهذه أهم النتائج التي خرجت بها من خلال كتابي في موضوع (( البدع الحولية )) :
أن البدعة : هي كل ما خالف السنة ، فليس في البدع محمود ، وكل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة.(22/445)
أن من البدع ما يكون كفراً ، ومنها ما هو مختلف فيه: هل هو كفر أم لا ؟ ومنها ما هو معصية ، ومنها ما هو مكروه .
أن من أسباب انتشار البدع وشيوعها بين الناس : سكوت العلماء عن إنكار هذه البدع ، وقول بعض الجهال في الدين بغير علم ، واتباع الهوى ، والجهل بالسنة .
أن ما تفعله الرافضة في اليوم العاشر من شهر محرم من الحزن والنياحة : بدعة محرمة ، ومن أمور الجاهلية المنهي عنها .
أن الفرح يوم عاشوراء ، والتوسيع على الأهل في النفقة وغيرها ، والاكتحال والاختضاب : بدعة محرمة ، ومن مقابلة الباطل بالباطل .
أنه يُستحب صيام يوم عاشوراء ، وأن يُصام معه اليوم التاسع .
أن التشاؤم بشهر صفر : بدعة محرمة ، بل هو من الطيرة الشركية .
أن الاحتفال بالمولد النبوي : بدعة محرمة ، ليس لها أي مستند أو أصل شرعي ، وكذلك جميع الموالد.
أن أول من ابتدع الاحتفال بالمولد النبوي هم العبيديون -الذين يُسَّمون بالفاطميين- وذلك في أواخر القرن الرابع الهجري ، والذي هم من أكفر الناس وأفسقهم ، وانتسابهم إلى آل البيت كذب ومحض افتراء ، بل أصلهم من المجوس أو اليهود ، وهم من مؤسسي دعوة الباطنية .
أن عتيرة رجب محل خلاف بين العلماء ، والذي ترجَّع عندي- والله أعلم- أنها باطلة ، وما ورد فيها منسوخ .
أن تخصيص شهر رجب بالصوم ليس له أصل ، بل هو محدث ، وما ورد فيه من الأحاديث إما ضعيف لا يحتجّ به ، أو موضوع .
أن تخصيص شهر رجب بالعمرة محل خلاف بين العلماء . والذي ترجح عندي – والله أعلم – أنه ليس له أصل .
أن صلاة الرغائب وهي التي تكون في ليلة أول جمعة من رجب : بدعة منكرة ، وحديثها موضوع ، وأول ما أحدثت بعد سنة 480هـ .
أن الاحتفال بليلة الإسراء والمعراج : بدعة منكرة ، لاسيما أنه لم يقم دليل معلوم لا على شهرها ، ولا على عشرها ، ولا على عينها .(22/446)
أن ليلة النصف من شعبان قد يكون لها شيء من الفضل ، ولكن تخصيصها بالقيام جماعة في المساجد : بدعة ليس لها أصل ، وأما صلاة الإنسان فيها لخاصة نفسه ، أو في جماعة قليلة ، من غير مداومة على ذلك ، فهو محل خلاف بين العلماء . والذي ترجّح عندي – والله أعلم – أن هذا أيضاً بدعة ليس لها مستند شرعي .
أن قراءة سورة الأنعام جميعها في رمضان في ركعة واحدة ، في التراويح ، ليلة الجمعة أو غيرها : بدعة ليس لها أصل .
أن صلاة التراويح بعد المغرب بدعة أحدثتها الشيعة .
أن صلاة القدر في رمضان :بدعة منكرة ، وصفتها :أنهم يصلون بعد التراويح ركعتين في الجماعة ، ثم آخر الليل يصلون تمام مائة ركعة ، وتكون في الليلة التي يظنون ظناً جازماً أنها ليلة القدر .
أن القيام عند ختم القرآن في رمضان بسجدات القرآن كلها في ركعة : بدعة ، وكذلك سرد آيات الدعاء في آخر ركعة من التراويح بعد ختم القرآن .
أن الاحتفال بذكرى غزوة بدر ليلة السابع عشر من رمضان : بدعة ، ومن التشبه بالنصارى المنهي عنه أيضاً .
استحباب التزوج في شوال ، وأن التشاؤم من الزواج فيه أمر باطل ليس له أصل .
أن ما يسمى بعيد الأبرار – وهو اليوم الثامن من شهر شوال - : بدعة منكرة .
أن التعرف -وهو اجتماع الناس يوم عرفة في المساجد للذكر والدعاء -: أمر محدث ، وجمهور العلماء على أنه بدعة .
أن عيد غدير خم – وهو في اليوم الثامن عشر من شهر ذي الحجة - : من الأعياد المبتدعة، التي ليس لها أصل ، وأول من أحدثه – حسب ما اطلعت عليه – معز الدولة بن بُويه سنة 352هـ .(22/447)
أن احتفال المسلمين بعيد ميلاد المسيح ، أو بالنيروز ، أو بأعياد الميلاد ، أو ذكرى بعض العلماء والحكام ، أو برأس السنة الهجرية أو الميلاد ، أو براس القرن الهجري ، أو ببعض الأعياد المحدثة ؛ كالأعياد الوطنية ونحوها ، كل ذلك من التشبه بأهل الكتاب المنهي عنه بالكتاب والسنة والآثار والاعتبار . بالإضافة إلى كونها محدثة لا أصل لها .
مشروعية مخالفة أهل الكتاب وغيرهم في عاداتهم ،وأعيادهم ، وأخلاقهم ، وغير ذلك من أمورهم .
وختاماً نقول :
اللهم اجعل خير أعمالنا آخرها ، خير أيامنا يوم لقاك ، ووفقنا لما يحبه وترضاه ، وارزقنا السداد والرشاد ، وأسبغ علينا نعمك الظاهرة والباطنة ، واجعل عملنا خالصاً لوجهك الكريم ، وارزقنا اللهم الفقه في الدين وعلمنا ما جهلنا ، وانفعنا بما علمتنا ، إنك ولي ذلك والقادر عليه ، وصل اللهم وبارك على عبدك ورسولك نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ، والحمد لله رب العالمين .
***************************
www.saaid.net(22/448)
ءؤيبيسبيسببيببيسبسيييسسسسس
مقدمة
ان الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له وأشهد ان لاإله إلا الله وخده لاشريك له ، واشهد أن محمدا عبده ورسوله.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ) (آل عمران : 102 ).
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) ((النساء : 1).
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً) (70 ) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً) (الأحزاب : 71 ).
اما بعد:
فقد أمر الله عباده بالإجتماع ونهاهم عن التفرق والإختلاف فقال تعالى: وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) (آل عمران : 103 ).(23/1)
وللمحافظة على هذه الوحدة ، والإعتصام بحبل الله وعدم التفرق ، فقد أمر الله عز وجل عباده باتباع ماانزله على رسوله فقال تعالى:{ المص *كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلاَ يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ * اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ} {الأعراف 1: 3}.
كما نهى عن اتباع ماوجد عليه الآباء ، ومثلهم الشيوخ وأهل البدع والأهواء . في الأمور المخالفة لما جاء في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فقال :{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ} (البقرة : 170 ).
وقوله:{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ} (لقمان : 21 ).
وكما جاء في كتاب الله العزيز الأمر باتباع ماأنزله الله في كتابه ، والنهي عن اتباع ماوجد عليه الآباء ودعاة الهوى والشيطان كما في الآية السابقة{ أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ} .
فقد جاءت الأحاديث الصحيحية الصريحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تحث الأمة على التمسك بالكتاب والسنة ، وان فيهما النجاة والعصمة ، كما قال عليه الصلاة والسلام " تركت فيكم ماإن تمسكتم به لن تضلوا كتاب الله وسنتي"{1- الموطأ، القدر ص560ح3}.
فقد ضمن عليه الصلاة والسلام ، للتمسك بكتاب الله وسنته ،الهداية والنجاة، وعدم الضلال المؤدي للهلال في الدنيا والشقاء قي الآخرة.(23/2)
وفي مقابل ذلك، نهى عن الإبتداع في دين الله ، وحذر من البدعة ، وبين لأمته أن كل بدعة في دين الله ضلالة ، فقال عليه الصلاة والسلام كما في حديث العرباض بن سارية الذي رواه أبوداوود{2-أبوداوود في السنة/باب في لزوم السنة ح4443}، والترمذي{3-أبوداوود في العلم/باب الأخذ بالسنة واجتناب البدعة7/438ح2815}
وقال : حديث حسن صحيح.
قال : وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة بليغة وجلت منها القلوب، وذرفت منها العيون ، فقلنا يارسول الله كأنها موعظة مودع ، فأوصنا ، قال: " أوصيكم بتقوى الله ، والسمع والطاعة، وأن تأمر عليكم عبد، وأنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافا كثيرا ، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين ، عضوا عليها بالنواجذ ، وإياكم ومجدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة".
فهذا الحديث يبين لنا جانبا عظيما من جوانب الحفاظ على كيان الأمة ، والحرص على سلامتها من التفرق المؤدي للفتنة ، وذلك بحثها على لزوم الجماعة والتمسك بالسنة، والابتعاد عن كل المحدثات في الاعتقاد ، والأفعال ، والأقوال ، والمناهج، التي تجر الأمة إلى الشقاق والنزاع المؤدي إلى الاختلاف والفرقة.(23/3)
لأن رسول الهدى –صلى الله عليه وسلم- ، لم يفارق هذه الدنيا حتى بلغ أمته ماأوحاه الله إليه من شرائع دينه، فبين للأمة كل مافيه صلاح دينها ودنياها ، وتركها على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لايزيغ عنها إلا هالك ولأن الله عزوجل أكمل لنبيه الدين، وأتم عليه النعمة، ورضي للبشرية كلها الإسلام دينا، فقال:{ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) (المائدة : 3 ) . وقال :{ وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (آل عمران : 85 ).
فالدين كما بنص هذه الآية الكريمة ، والرسول – صلى الله عليه وسلم- بلغ البلاغ المبين، كما قالت عائشة أم المؤمنين –رضي الله عنها- لمسروق كما في صحيح مسلم، قالت: " ومن زعم أن محمد –صلى الله عليه وسلم – كتم شيئا مما انزل الله عليه فقد أعظم على الله الفرية، والله يقول : { (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} {المائدة : 67}.{2- البخاري ، التوحيد ، فتح الباري13/503ح7531}.
فكون الدين كمل، والرسول صلى الله عليه وسلم بلغ ، كما سبق الحديث بذلك ، وكما جاء في حجة الوداع ، حين قال الرسول للناس وهو يبلغهم شرائع الإسلام ، وأحكامه. ويبين لهم الحلال والحرام ، وحرمة الدماء والأعراض ، وكل ماأمر الله به ونهى عنه ، ويقول لهم : ألا هل بلغت، فيقولون : نعم ، فيرفع يده إلى السماء وينكتها عليهم ويقول: اللهم اشهد اللهم أشهد.(23/4)
فإذا جاءنا بعد ذلك شخص من الناس ، فأحدث لنا شيئا في دين الله لم يكن موجودا في كتاب الله ولافي سنة رسوله –صلى الله عليه وسلم- ولافي سنة الخلفاء الراشدين ، سواء كان هذا الأمر المحدث اعتقادا ، أو عملا ، أو قولا ، أو منهجا ، يخالف منهج الرسول وسيرته ، فكأنه يقول: إن الدين ناقص لم يكمل ، وهذا يرده قوله تعالى:{اليوم أكملت لكم دينكم}.
أو أنه كامل – ولكن بقي شىء لم يبلغه الرسول – صلى الله عليه وسلم.
وهذا يرده حديث عائشة الذي سبق ذكره، وكذلك ابلاغه – صلى الله عليه وسلم- للآمة جميعا في حجة الوداع ، وقال : فليبلغ الشاهد الغائب فرب مبلغ أوعى من سامع. فهذا محصول حال المبتدع ، أو مقاله.
فكأنه يقول : إن الشريعة لم تتم ، وأنه بقي شىء يجب أو يستحب استدراكه ، لأنه لو كان كعتقدا لكمال الشريعة وتمامها من كل وجه، لم يبتدع ، ولا استدرك عليها ، وقائل هذا ومعتقده ضال عن الصراط المستقيم.
قال ابن الماجشون: سمعت مالكا يقول : "من ابتدع في الإسلام بدعة يراها حسنة ، فقد زعم أن محمدا – صلى الله عليه وسلم- خان الرسالة ، لأن الله يقول :{اليوم أكملت لكم دينكم}، فما لم يكن يومئذ دينا فلا يكون اليوم دينا"{1- الاعتصام ،للشاطبي1/49}.
ويقول الإمام الشاطبي في كتابه القيم " الاعتصام"1/49:
1* " إن المبتدع معاند للشرع ومشاق له ، لأن الشارع ، قد عين المطالب العبد طرقا خاصة ، على وجوه خاصة ، وقصر الخلق عليها ، بالأمر والنهي، والوعد ، والوعيد، وأخبر أن الخير فيها ،والشر في تعديها ، لأن الله يعلم ونحن لا نعلم وأنه إنما أرسل الرسول – صلى الله عليه وسلم- رحمة للعالمين.(23/5)
فالمبتدع راد لهذا كله ، فإنه يزعم أن ثم طرقا أُخر ، ليس ماحصره الشارع بمحصور ، ولاماعينه بمتعين، كأن الشارع يعلم ، ونحن أيضا نعلم ، بل ربما يفهم من استدراكه الطرق على الشارع ، أنه ممالم يعلمه الشارع / قال وهذا العمل من المبتدع ، ان كان مقصودا، فهو كفر . وإن كان غير مقصود ، فهو ضلال,
2*- ثم ان المبتدع – بعمله هذا – قد أنزل نفسه منزلة المضاهي للشارع ، لأن الشارغ وضع الشرائع وألزم الخلق الجري على سننها، وصار هو المنفرد بذلك ، لأنه حكم بين الخلق فيما كانوا فيه يختلفون.
فالشرع ليس من مدركات العقول ، حتى يضع كل انسان تشريعا منعند نفسه، ولو كان الأمر كذلك لما احتيج إلى بعثة الرسل إلى البشرية.
فكأن هذا المبتدع في دين الله قد صير نفسه نظيرا ومضاهيا للشارع ، حيث عمل تشريعا مثله ، وفتح باب الاختلاف والفرقة.
3*- ثم ان هذا العمل من المبتدع أيضا ، اتباع للهوى، والشهوات ، والله يقول : {ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله}، فمن لم يتبع هدى الله في هوى نفسه ، فلاأحد أضل منه.
إن هذا المبتدع في دين الله عزوجل ، الذي جعل نفسه مضاهيا للشارع ، قد جاء ذمه في كتاب الله عزوجل ، لآنه من زاغ أزاغ الله قلبه ، إذ الجزاء من جنس العمل فالله يقول : {فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم}، وذلك باتباعهم المتشابه من القرآن ، وترك محكمه ، وابتغائهم تأويله ، أي تحريفه.
قال تعالى: {هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ماتشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله}.{آل عمران /7}.
فقد صح عن عائشة –رضي الله عنها- أنها قالت : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية(23/6)
{هو الذي أنزل عليك الكتاب}، - إلى آخر الآية- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا رأيتم الذين يتبعون ماتشابه منه ، فأولئك الذين سمَّى الله فاحذرهم ، وفي رواية قال " فإذا رأيتم الذين يجادلون فيه ، فهم الذين عَنَى الله فاحذرهم".
وقال تعالى:{إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شىء}، قال بن كثير: أي فرقا كأهل الملل والنحل، والأهواء، والضلالات، فإن الله قد برأ رسول الله صلى الله عليه وسلم مماهم فيه{1- ابن كثير ، التفسير3/372}.
وقوله تعالى:"وان هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون}.
فصراط الله المستقيم ، هو سبيل الله الذي دعا عليه ، وهو السنة التي سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهوالإسلام وهوالقرأن ، أما السبل المتفرقة ، فهي سبل أهل الاختلاف ، الحائدين عن الصراط المستقيم ، وهم اهل الأهواء والبدع في الدين .
وليسوا هم أهل المعاصي من حيث هي معاصي ، فإن صاحب المعصية لم يضعها طريقا تسلك دائما على مضاهات التشريع كما يفعل المبتدع في الدين.
وقد دل على أن المقصود به المبتدع في الدين حديث عبدالله بن مسعود – رضي الله عنه- الذي أخرجه الإمام أحمد والنسائي وابن المنذر والحاكم وصححه ، قال : " خط لنا رسول الله – صلى الله عليه وسلم- خطا بيده ، ثم قال : هذا سبيل الله مستقيما ، ثم خط خطوطا عن يمين ذلك الخط وعن شماله ، ثم قال : وهذه السبل ، ليس منها سبيل إلا عليه شيطان يدعو إليه . ثم قرأ هذه الأية {وان هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولاتتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون}.
قال بكر بن العلاء : أحسبه أراد شيطانا من الانس وهي البدع.
وقال مجاهد : ولاتتبعوا السبل : قال : البدع والشبهات.(23/7)
وكما جاء ذم المبتدع وبيان زيغ قلبه في كتاب الله عزوجل ، فكذلك ورد ذمه في أحاديث كثيره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء فيها ذم المبتدعة وبيان ضلالهم ، آثامهم ، ورد أعمالهم ، ففي صحيح البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت:" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: : "من أحدث في أمرنا هذا ماليس منه فهو رد". وفي رواية مسلم : من عمل عملا ليس عليه امرنا فهو رد أي مردود عليه.{2- البخاري ، البيوع ، فتح الباري4/355باب 60- البخاري ، الصلح ، فتح الباري 5/301ح2697= البخاري، الاعتصام ، باب 20فتح الباري 13/317.مسلم ، الأقضية 3/1343ح18،17}.
وروي الإمام مسلم عن ابي هريرة رضي الله عنه –أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لاينقص ذلك من أجورهم شيئا، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه ممن الإثم مثل آثام من تبعه لاينقص ذلك من آثامهم شيئا".{1-مسلم، العلم،4/2060ح16*البخاري،الاعتصام،فتح الباري13/302}.
ومثله حديث حذيفة الذي سنذكره فيما بعد.
وبعد أن عرفنا النهي عن البدع ، والتحذير منها.
فما البدعة ، وماضابطها ، أو حدها الذي تعرف به ، وفيما تكون:-
تعريف البدعة: البدعة لغة : الاختراع على غير مثال سابق.
ومنه قوله تعالى:{ بديع السموات والأرض} أي : مخترعهما من غير مثال سابق.
ويقال : ابتدع فلان بدعة ، يعني ، ابتدأ طريقة لم يسبقه إليها سابق.
وهذا أمر بديع ، يقال ، في الشىء المستحسن الذي لامثال له في الحسن . ومن هذا المعنى – سميت البدعة بدعة.
فاستخراجها للسلوك عليها هو الابتداع . وهيئتها ، وهي البدعة . وقد يسمى العمل المعمول على ذلك الوجه بدعة.
فمن هذا المعنى سمي العمل الذي لادليل عليه في الشرع بدعة.
فالبدعة في الشرع:
{ طريقة في الدين مخترعة تضاهي الشرعيةيقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد لله سبحانه}.(23/8)
وهذا التعريف يشمل كل ما أحدث في الدين مما لاأصل له في الشريعة يدل عليه.
فأما ماله أصل في الشرع يدل عليه ، فليس ببدعة شرعا ، وإن سمي بدعة لغة.
وهذا معنى ماورد من كلام بعض السلف من قولهم في بعض البدع : " نعمة البدعة ،مثل قول عمر بن الخطاب-رضي الله عنه- لما جمع الناس في قيام رمضان علىإمام واحد في المسجد ،وخرج ورآهم يصلون كذلك ،فقال:نعمت البدعة هذه، لأن لصلاة التراويح جماعة في رمضان أصل،فقد صلى رسول الله –صلىالله عليه وسلم- بالناس في رمضان ليلتين أو ثلاثا،ثم امتنع خشية ان تفرض على الأمة فيعجزون عن القيام بها.
كما أن عمل عمر بن الخطاب –رضي الله عنه- ،والخلفاء الراشدون جميعا لايصح لأحد أن يستدل به على إحداث البدع واستحسانها، مثل صلاة التراويح جماعة في رمضان، مثل جمع المصحف الذي كان مكتوبا في عهد النبي-صلى الله عليه وسلم-إلا أنه كان مفرقا ولم يكن مجموعا في مصحف واحد ، فجمع في عهد أبي بكر حين استحر القتل في القراء في موقعه اليمامة مع مسليمة الكذاب.
وكذلك جمع تلك الصحائف التي كانت مجموعة في عهد أبي بكر وبقيت في عهد عمر بن الخطاب ، فجمعها عثمان في مصحف واحد ، لأن عمل الخلفاء الراشدين سنة بنص الحديث الذي رواه أبو داوود والترمذي من حديث العرباض بن سارية وفيه قول الرسول –صلى الله عليه وسلم لأصحابه:" فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافا كثيرا،فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي". فهذا صريح في أن عملهم سنة وليس ببدعة.
تقسيم البدعة :
بدعة حقيقة{ هي التي لايدل عليها دليل شرعي لامن كتاب ولاسنة ولاإجماع}.
ومن امثلتها: تحريم الحلال، وتحليل الحرام، استنادا إلى شبهة وبدون عذر شرعي ، أوقصد صحيح.
فقد أخرج البخاري في صحيحه عن عبدالله بن مسعود –رضي الله عنه- قال : كنا نغزوا مع النبي –صلى الله عليه وسلم- وليس معنا نساء ، فقلنا : ألانختصي،فنهانا عن ذلك.(23/9)
فرخص لنا بعد ذلك ،أن نتزوج المرأة بالثوب ،ثم قرأ{ياأيها الذين آمنوا لاتحرموا طيبات مأحل الله لكم}.
وروى البخاري عن قيس بن أبي حازم قال : دخل أبوبكر على امرأة من أحمس يقال لها زينب ، فرآها لاتكلم ،فقال : مالها لاتتكلم؟ ،قالوا: حجت مصمته ،فقال لها : تكلمي فإن هذا لايحل هذا عمل الجاهلية ، فتكلمت فقالت: من أنت؟ قال : امرؤ من المهاجرين.{1- البخاري ، التفسير ،فتح الباري8/276،طرفاء في5071،5075}.
ومن امثلتها:اختراع عبادة ماأنزل الله بها من سلطان ،كصلاة الظهر مثلا بركوعين في كل ركعة،أوالصلاة بغير طهارة،أو إنكار الاحتجاج بالسنة،أوتقديم العقل على النقل وجعله أصلا والشرع تابع.
ومثل القول بارتفاع التكاليف عند الوصول إلى مرحلة معينة من التجرد ، مع بقاء العقل وشرط التكاليف – فلا تجب عند ذلك طاعات ، ولاتحرم محرمات ، وإنما الأمر على حسب الهوى والرغبات ، واشباع الشهوات ، كما يزعمه بعض زعماء الطرق الصوفية.
هذه نماذج من البدع الحقيقة التي يخترعها أصحابها من عند أنفسهم.
*- البدعة الإضافية: وأما البدعة الإضافية ، فلها جانبان:
جانب مشروع ، ولكن المبتدع يدخل على هذا الجانب المشروع امرا من عند نفسه فيخرجها عن أصل مشروعيتها ، بعمله هذا ، وأكثر البدع المنتشرة عند الناس من هذا النوع.
ومن أمثلتها: الصوم- الذّكْر- الطهارة واسباغ الوضوء على المكاره، الصلاة ، هذه عبادات مشروعة أمر بها الشارع وحث عليها. فلو جاء شخص فقال : أنا أصوم قائما لاأجلس ، وفي الشمس لااستظل. أو قال : أنا أصوم الدهر فلا أفطر.
أو في الذكر – فقال: نحن نلتزم في الذكر بكيفيات وهيئات معينة، فنذكرالله بهيئةاجتماع على صوت واحد . أو التزم بعبادات معينة في أوقات معينة ، من غير أن يوجد لها ذلك التعيين في الشريعة ، كالتزام صيام يوم النصف من شعبان وقيامه.(23/10)
وفي الطهارة: كأن يكون عند شخص ماء ساخن ، وماء بارد شديد البرودة ، وفي أيام شديدة البرد ، فيترك الماء الساخن ويأخذ بالطريق الأصعب- فيأخذ الماء الشديد البرودة ،وهذا تشديد على النفس فلم يعطها حقها.
ولاحجة له في الحديث الذي ورد فيه رفع الدرجات باسباغ الوضوء على المكاره. فإن هذا لمن لم يجد وسيلة لتسخين الماء ، فيجاهد نفسه ويتوضأ بالماء البارد.
فهذه العبادات ، الصوم ، والذكر ، والصلاة ، والطهارة، كلها عبادات مشروعة ، أمر بها الشارع ورغب فيها وحث عليها وبين جزيل ثوابها ، ولكن هذه الكيفيات والهيئات التي ادخلت عليها ، عمل لادليل عليه من الشارع ،والبدعة في الدين كيفما كانت صفتها فهي استدراك على الشرع وافتيات عليه ، والله يقول: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً} [المائدة/3].
فعن عبدالله بن مسعود –رضي الله عنه- وقد رأى قوما اجتمعوا على الذكر فقال لهم: لقد جئتم ببدعة ظلما، أو لقد فضلتم أصحاب محمد –صلى الله عليه وسلم- علما ، أو إنكم لتمسكون بذنب ضلالة.
ومنها بدعة المولد-فإن محبة النبي –صلى الله عليه وسلم- واجبة على كل مسلم ، ولايتم إيمان المسلم حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب إليه من نفسه وولده ووالده والناس أجمعين . كما في صحيح البخاري.
ولكن محبته – هي طاعته ومتابعته، اي امتثال أمره ،واجتناب نهيه وفد نهى عن البدع وحذر منها / وقال: " كل محدثة بدعة" ، وقال :" من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد" حديث متفق عليه .
ولم يثبت عنه ولاعن خلفائه ، ولاعن الصحابة ، ولاعلماء السنة المتبوعين من عمل مولدا وإنما هذا المولد – احدثه – الفاطميون العبيديون- الرافضة الذين يرجع إلى المدعي النسب الفاطمي – وهو يهودي من سلمية .
*النهي عن مجالسة أهل البدع:-(23/11)
وقد جاء عن عدد من علماء التابعين ، النهي عن مجالسة اهل البدع والأهواء ،وذلك خوفا من أن يؤثر صاحب البدعة في جليسه،لأن الرسول – صلى الله عليه وسلم – قد حث على اختيار الجليس الصالح ، وحذر من جليس السوء ، ومثلهما بحامل المسك أو بائع المسك، ونافخ الكير، فالجليس الصالح كبائع المسك، إما ان تشتري منه ، أو يعطيك ، أو تشم منه رائحة طيبة.
وأما جليس السوء، فكنافخ الكير،إما أن يحرق ثوبك و
وأما جليس السوء، فكنافخ الكير،إما أن يحرق ثوبك وإما أن تشم منه رائحة كريهة[1- البخاري ، البيوع ،فتح الباري4/323ح2101طرفه5534، مسلم ، البر،4/2026ح146].
وهكذا صاحب البدعة ، إما أ، يقذف في قليك بدعته بتحسينه إياها ، وإما أن يمرض قلبك ويؤلمه . لما تشاهد من أعماله ، وتسمع من أقواله من الأمور المخالفة للشرع . ولهذا قال : الحسن : لاتجالس صاحب هوى فيقذف في قلبك ماتتبعه عليه فتهلك ، أو تخالفه فيمُرض قلبك.
وعن أبي قلابة قال: لاتجالسوا أهل الأهواء ولاتجادلوهم فإني لاآمن أن يغمسوكم في ضلالتهم ، ويلبسوا عليكم ماكنتم تعرفون. قال أيوب عن أبي قلابة: وكان والله من الفقهاء ذوى الألباب.
وعنه قال: إن أهل الأهواء ، أهل ضلالة، ولاأرى مصيرهم إلا إلى النار.
وعنه قال: ماابتدع رجل بدعة إلا استحل السيف.[الاعتصام، للشاطبي1/83].
وعن أيوب السختياني إنه كان يقول: ماازداد صاحب بدعة اجتهادا ، إلا ازداد بعدا من الله ، وكان يسمي أهل البدع خوارج ، ويقول: إن الخوارج اختلفوا فى الاسم ،واجتمعوا على السيف.[الاعتصام، للشاطبي1/83].
وعن يحيي بن كثير قال : إذا لقيت صاحب بدعة في طريق فخذ في طريق آخر.(23/12)
وبما سبق لنا من أقوال العلماء ، يتبين لنا – أن المجالسة لأهل البدع تختلف عن دعوتهم إلى الخير وبيان الحق لهم ، ومناظرتهم لإبطال شبههم ، لأن هذا من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو اصل من اصول الدعوة إلى الله أمر الله به في كتابه فقال: {ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر}.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم موجها أمرا عاما لكل المسلمين كل بحسب طاقته:" من رأى منكم منكرا فليغيره بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان".
فإذا جاء النهي من العلماء عن مجالسة أهل البدع، فليس معناه أن العالم بكتاب الله وسنة رسوله، لايدعو هؤلاء إلى الخير ولايناظرهم ، ولايقرب مجالسهم لهذا الغرض ، وإنما مقصود العلماء الخوف على من لايستطيع إن يدفع شبههم عن نفسه فتؤثر في قلبه ، كما سبق ذكر قول أبي قلابة.
واما توبة المبتدع ، فيرى علماء التابعين بعدها ، وأن المبتدع لاينتقل من بدعة إلا إلى شرٍ منها ، لأن الجزاء من جنس العمل ، والله يقول: لآفلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم..}، فعن يحيي بن أبي عمر الشيباني قال : كان يقال : يأبي الله لصاحب بدعة توبة، وما انتقل صاحب بدعة إلا شر منها.
ولهذا كان العوام بن حوشب يقول لابته: ياعيسى أصلح قلبك ، وأقلل مالك، وكان يقول : والله لأن أرى عيسى في مجالس أصحاب – البرابط- أي: المزهر والعود – والأشربة والباطل، أحب إلى من أن أراه يجالس أصحاب الخصومات . قال ابن وضاح – يعني – لأهل البدع.
ولماذا يقول ذبك: لأن البدعة يعتقدها صاحبها دينا، فيبقى متميكا بها تمسكه بدينه ، وإا خرج من بدعته خرج إلى بدعة شرٍ منها.(23/13)
وأما أصحاب المعاصي- كأصحاب المزهر والهود من المغنين ، وأصحاب الشراب ، فهم أصحاب شهوات ، ويعلمون إن تلك الأعمال معاصي دفعتهم إلى ارتكابها شهواتهم ونفوسهم الأمارة بالسوء ، فقد يتركونها يوما من الأيام لاعتقادهم حرمتها ، فصاحب المعصية ترجى له التوبة والإقلاع عنها أكثر من صاحب البدعة التي يعتقدها دينا.
ويظهر أن المقصود به صاحب البدعة الذي أشرب قلبه البدعة حتى بلغت من قلبه مبلغا عظيما ، بحيث اصبح يطرح ماسواها في جنبها ،حتى أصبح ذا بصيرة فيها وحب لها فلا ينثني عنها ،فهي عنده في غاية المحبة ، ومن احب شيئا هذا النوع من المحبة ن والَى وعادى بسببه، ولم يبال بمالقي في طريقه .
كأصحاب البدع القدامى والمعاصرين، فالقدامى – كالخوارج الذين لم يرجعوا عن بدعتهم وأهوائهم ، من التكفير لأصحاب الكبائر، فمن ارتكب كبيرة، حكموا لكفره في الدنيا والآخرة، مخالفين نصوص الكتاب والسنة كقوله تعالى: {إن الله لايغفر أن يشرك به ويغفر مادون ذلك لمن يشاء}، وقوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي ذر الذي أخرجه البخاري" أن من مات على التوحيد دخل الجنة وأن زنى وإن سرق كررها ثلاثا.
وقد قال أهل السنة والجماعة بما تضمنته هذه النصوص من أن مرتكب الكبيرة تحت مشيئة الله ، إن شاء عفاعنه وإن شاء عاقبه بقدر ذنبه، ومآله إلى الجنة.(23/14)
وغيرهم من دعة البدع الحاملين للوائها كبشر ومن تبعه في السابق يخالفونهم ، وكأصحاب البدع المعاصرين ، ممن ولد وعاش في هذه البلاد ودرس منهاهجها في جميغ مراحل الدراسة ، ثم تجده بعد ذلك يتمسك بما عاش عليه الآباء والأجداد من البدع والخرافات المخالفة للكتاب ولسنة رسوله –صلى الله عليه وسلم- - وسنة خلفائه الراشدين المهديين ، ومن بدعهم المشهورة المعاصرة والتي يستجلبون بها قلوب الناس أصحاب العواطف الطيبة التي يجب على الداعية أن يوجه تلك القلوب إلى العمل بالسنة ومتابعة رسول الله صلىالله عليه وسلم، وطاعته في أمره ونهيه ، وكذلك متعابعة خلفائه الراشدين، لأن عملهم سنة، ولكنهم عدلوا عن ذلك بدعواهم محبة رسول-صلى الله عليه وسلم- والتعبير عن تلك المحبة بإقامة المولد.
ومعلوم أم محبته –صلى الله عليه وسلم- فرض على كل مسلم، وأنه لايتم إيمان المسلم حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم ، احب إليه من نفسه وولده ووالده والناس أجمعين، كما في صحيح البخاري.
ولكن ماهي محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم إنها بتعبير شامل : طاعته فيما أمر واجتناب مانهى عنه وزجر.
فهل المولد الذي يقيمه هؤلاء الناس ، طاعة لرسول الله –صلى الله عليه وسلم- أو مخالف لنهيه وزجره، إن إقامة المولد كشاقة لرسول الله –صلى الله عليه وسلم- ومخالفة صريحة لنهيه فهو يقول في الحديث المتفق عليه " من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد"، ويقول في الحديث الصحيح:" كل محدثة بدعة".(23/15)
فهذ المولد محدث ، لم يعمله رسول الله – صلى الله عليه وسلم- ولاخلفاؤه الراشدون الأربعة ولاأحد من اصحابه ، وهم أعلم بسنته ، وأحرص منا على تعظيم رسول الله – صلى الله عليه وسلم- وتوقيره ، وإنما أحدث ها المولد وغيره من الموالد لغير النبي- صلى الله عليه وسلم- الفاطميون الرافضة يقول الإمام أبو حفص تاج الدين الفاكهاني –رحمه الله- في رسالة المورد في عمل المولد:" أما بعد فقد تكرر سؤال جكاعة من المباركين عن الإجتماع الذي يعمله بعض الناس في شهر ربيع الأول ويسمونه المولد – هل له اصل في الدين ؟ وقصدوا الجزاب عن ذلك والإيضاح عنه معينا، فقلت – وبالله التوفيق- :" لاأعلم لهذا المولدأصلا في كتاب الله ولاسنة ، ولاينقل عمله عن أحد من علماء الأمة الذين هم القدوة في الدين . المتمسكون بآثار المتقدمين ، بل هو بدعة أحدثها البطالون ، وشهوة نفس اغتنى بها الأكالون".
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله- : وكذلك مايحدثه بعض الناس ، إما مضاهاة للنصارى في ميلاد عيسى عليه السلام ،واما محبة للنبي –صلى الله عليه وسلم- وتعظيما... من اتخاذ مولد للنبي – صلىالله عليه وسلم- عيدا مع اختلاف الناس في مولده فإن هذه لم يفعله السلف .. ولوكان هذا خيرا محضا أو راجحا لكان السلف – رضي الله عنهم- أحق به منا- فإنهم كانوا أشد محبة للنبي- صلى الله عليه وسلم- وتعظيما له منا وهم على الخير أحرص ، وإنما كان محبته وتعظيمه في متابعته وطاعته ، واتباع أمره وإحياء ينته باطنا وظاهرا، ونشر مابعث به ، والجهاد على ذلك بالقلب واليد ، واللسان، فإن هذه الطريقة السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان.
وأما من لم يشرب البدعة قلبه، وإنما استحسنها ، وظن أنها تقربه إلى اله عزوجل ، ثم ظهر له الدليل على خلافها ، وتعقل ذلك ، فالغالب رحوعه وتوبته.(23/16)
ويمثل العلماء لمثل ذلك: بمن رجع من الخوارج بعد مناظرة ابن عباس لهم ، وبرجوع المهتدى والواثق عن بدعة القول بخلق القرآن.
*حكم المبتدع :
هو الذي يحدث البدعة ، ويدعوإليها ،ويوالي ويعادى عليها ، والبدعة قدتكون مكفرة وغير مكفرة وإن الحكم على من ثبت إسلامه ،بالفسق ،أو التبديع ،أو التكفير ، من الأمور التي جذر الشارع منها ، فقد ثبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- قوله:" من قال لأخيه: ياكافر، إن لم يكن كذلك ، وإلا رجعت عليه".
ولهذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية:" ليس لأحد أن يكفر أحدا من المسلمين وإن خطأ وغلط حتى تقام عليه الحجة ، وتبين له المحجة، ومن ثبت إسلامه بيقين ، لم يزل ذلك عنه بالشك ، بل لا يزول إلا بعد إقامة الحجة وإزالة الشبهة".
أما من كان خارجا عن الهدى ودين الحق ، فتراه يرتكب الأمور المخالفة للشرع ، فله حكم آخر بحسب مايرتكبه من مخالفات ، فإما الكفر الصريح أو النفاق ، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في حق هؤلاء :" إن من كان خارجا عن الهدى ودين الحق من المتنسكة، والمتفقهه ، والمتعبدة، والمتزهدة، والمتكلمة، والأطباء وغيرهم، فمن خرج من هؤلاء عن الحق الذي بعث به رسوله، لايقر بجميع ماأخبر الله به على لسان رسوله، ولايحرم ماحرم الله ورسوله .... مثل – من يعتقد أن شيخه يرزقه ، أو ينصره، أو يهديه، أو يغيثه، أو يعينه، أو كان يعبد شيخه، أو كان يفضله على النبي – صلى الله عليه وسلم- تفضيلا مطلقا ، أو مقيدا في شىء من الفضل الذي يقرب إلى الله ، أو أنه مستغن هو وشيخه عن متابعة الرسول.
قال: فكل هؤلاء كفارُ إن أظهروا ذلك ، ومنافقون إن لم يظهروه.
ثم ذكر أن كثرة هؤلاء الأجناس في زمانه سببه قلة دعاة العلم والإيمان.
ثم انتقل إلى ذكر القسم الثاني من المبتدعة ، والذين هم في حاجة إلى التثبت في إصدار الحكم عليهم لأن الكفر قد يكون عمليا ، أو اعتقاديا، ولكل منهما حكمه في الشرع فقال:(23/17)
" وأصل ذلك – أن النقالة التي كفر بالكتاب والسنة ، والإجماع ، يقال: هي كفر ، قولا يطلق ،كما دل ذلك الدلائل الشرعية، فإن الإيمان من الأحكام المتلقاة عن الله ورسوله، ليس ذلك مما يحكم فيه الناس بظنونهم وأهوائهم. ثم قال : ولايجب أن يحكم في كل شخص قال ذلك ، بأنه كافر حتى يثبت في حقه شروط التكفير وتنتفي موانعه ، ثم مثل لذلك فقال : مثل من قال : إن الخمر والربا حلال لقرب عهده بالإسلام ، أو لنشوئه في بادية بعيدة.[1- الفتاوى، 3/354].
وقد بسط القول في قضية الحكم على المبتدع ، وبين أنه لابد من إقامة الحجة عليه، وإزالة الشبهة عنه ، ثم ذكر بدعة القول بخلق القرآن ، وذكر ماجرى للإمام أحمد بن حنبل مع المأمون والمعتصم ، وإمه عذرهما لوجود الشبهة عندهما وأن الإمام أحمد دعا لهما ، ولو كان يعتقد كفرهما اما دعى لهما .."[الفتاوى10/329].
ويقول الشيخ حافظ الحكمي في كتابه معارج القبول 2/503-504:
" ثم البدع بحسب إخلالها بالدين قسمان:
مكفرة لمنتحلها.
وغير مكفرة.
فضابط البدعة المكفرة : من أنكر أمرا مجمعا عليه ، متواترا من الشرع ، معلوما من الدين بالضرورة ، من جحود مفروض ، أو فرض مالم بفرض ، أو إحلال محرم ، أو تحريم حلال ،أو اعتقاد ماينزه الله ورسوله وكاتبه عنه...
والبدعة غير المكفرة: هي مالم يلزم منه تكذيب بالكتاب ، ولابشىء مما أرسل به، ثم مثل لذلك فقال: مثل بدع المروانية، أي – بدع حكام الدولة من بني مروان التي أنكرها عليهم فضلاء الصحابة ، ولم يقروهم عليها- ومع ذلك لم يكفروهم بشىء منها، ولم ينزعوا يدا من بيعتهم لأجلها، كتأخير بعض الصوات عن وقتها ، وتقديمهم الخطبة قبل صلاة العيد...
*حكم المخطىء:
سبق تعريف المبتدع ، وانه الذي يحدث البدعة ، ويدعو إليها ويوالي ويعادي عليها، وإن البدعة تنقسم إلى بدعة مكفرة ، وبدعة غير مكفرة، وذكرنا أقوال العلماء في حكم مرتكبها.(23/18)
أما المخطىء في بعض المسائل ، المعروف بمنهجه وسلوكه الحميد وعلمه الشرعي ، فإن خطأه لايحط من شأنه، ولابنقص من قدره، فإن كان حيا يرزق ، فيجب تنبيه على خطأه بالسلوب الحكيم ، المتعارف علليه بين العلماء المبني على التعاون على البر والتقوى، لأن الدين النصيحة ، فتقدم النصيحة لطالب العلم بحسب مقامه بأدب واحترام، وبيان للحق بدليله ، من عنف ولاتعال، بل بالحكمة والموعظة الحسنة، حتى تؤدي النصيحة غرضها ، فتبقى الكلمة واحدة ،والمحبة والإخوة في الله باقية ،فإنما المؤمنون أخوة.
وإن كان المخطىء قد افضى إلى ربه ، فيدعى له، لأن العصمة للأنبياء وحدهم ويبين للناس خطأهم ، حتى لايتبعونهم في ذلك الخطأ، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في وصفه لأئمة الهدى ومايصدر منهم من أخطاء يقول :" ومن له في الأمة لسان صدق عام ، بحيث يثني عليه، ويحمد في جماهير أجناس [1- وهذا يعني أن من هذا وصفه ، فهو متجرد لقول الحق ، فلا يختلف عليه أحد من الناس ، وإن قال بخلاف مايهواه ، إذ لايقتصر الثناء علىهذا العالم من الذين يأتي قوله موافقا لما يريدون ويرغبون ،وإنما يأتي من جميع الناس على اختلاف مشاريهم. وقد دل هذا المعنى الحديث الذي أخرجه البخاري وهو" أن الله إذا أحب عبدا قال لجبريل إني أحب فلانا فأحبه ، فيحبه جبريل، ثم ينادي في أهل السماء إن الله يحب فلانا فأحبوه ، فيحبه اهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض: قال : والبغض مثل ذلك ..قلت: وأرجو أن ينطبق هذا المعنى في عصرنا الحاضر على سماحة الشيخ/ عبدالعزيز بن باز –رحمه الله-.] . الأمة ،فهؤلاء هم ائمة الهدى،ومصابيح الدجى، وغلطهم قليل بالنسبة إلى صوابهم ، وعامته من موارد الاجتهاد التي يعذرون فيها ، وهم الذين يتبعون العلم والعدل، فهم بعدائ عن الجهل ، وعن اتباع الظن وماتهوى الأنفس".[ الفتاوى11/43].
*القسم الثاني وهو: تقسيم البدعة:
-عملية
- اعتقادية
قولية(23/19)
فالبدعة في العمل: تكون في العمل الظاهر ، كصلاة تخالف ماورد عم النبي –صلى الله عليه وسلم- ، ونحو ذلك من الأعمال التي سبق ذكرها- فكلها داخلة تحت قوله صلى الله عليه وسلم" من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد".
والبدعة في الإعتقاد: إذا كان اعتقادا للشىء على خلاف ماجاء به النبي –صلى الله عليه وسلم- ، كبدعة الخوارج في اعتقادهم تكفير العصاة من المسلمين ،بل بأهوائهم اعتقدوا كفر عدد من الصحابة. وكالمجسمة ، والمشبههة الذين شبهوا الله بخلقه تعالى الله علوا كبيرا.
والبدعة القولية: إذا كانت تغييرا لماجاء في كتاب الله عزوجل ، ولما ثبت عن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- كأقوال المبتدعة من الفرق المشهورة ، مما هو ظاهر المخالفة للكتاب والسنة، وظاهر الفساد والقبح ، كأقوال الرافضة ، الخوارج ، والجهمية، والمعتزلة، والأشعرية، وجميع الفرق المؤولة، التي وضعت لنفسها مناهج مخالفة لمنهج الطائفة الناجية المنصورة ، الظاهرة على الحق إلى قيام الساعة ، كما وصفها رسول الله-صلى الله عليه وسلم- ،كما جاء في حديث أبي هريرة الذي أخرجه ابوداود ، والترمذي ، وابن ماجه، أن رسول الله-صلى الله عليه وسلم- قال :" إن اليهود افترقت على إحدى وسبعين فرقة، والنصارى علىاثنتين وسبعين فرقة، وأن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة"، فلما سئل عنها قال:" هي من كان على ماانا عليه وأصحابي".[1- الترمذي ، الإيمان ، تحفة الأحوذي 7/2779،قال حديث حسن د/السنة،5/3ح4596].
وفي رواية البخاري ، من حديث المغيرة بن شعبة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" لاتزال طائفة من أمتي ظاهرين حتى يأتيهم أمر الله وهم ظاهرون". [2- البخاري ، الاعتصام ، فتح الباري13/293ح7311].(23/20)
وفي رواية من حديث معاوية قال صلى الله عليه وسلم:" من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين ، وإنما انا قاسم ويعطى الله، ولن يزال أمر هذه الأمة مستقيما حتى تقوم الساعة، أو حتى يأتي أمر الله".[1- البخاري ،الاعتصام ، فتح البااري13/293ح7312].
وكذلك ماجاء في حديث حدذيفة بن اليمان رضي الله عنه ، الذي جاء فيه قوله صلى الله عليه وسلم لحذيفة عند افتراق الأمة إلى تلك الفرق:" تلزم جماعة المسلمين وإمامهم، والذي سنورد نصه فيما بعد ، ولهذا فسيكون حديثنا عن افتراق الأمة إلى تلك الفرق التي أشار إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتي افترقت في الأهواء : بحيث ابتدعت كل فرقة في دين الله مالم يأذن به الله ورسوله، من الاعتقادات الفاسدة ، والأقوال الباطلة ، ووضعت لها مناهج بعقولها ، تخالف المنهج الذي سلكه رسول الله ، وأصحابه الذين ساروا على منهجه.
ثم دعت الناس من خلال تلك المناهج إلى العقائد الفاسدة وجعلتها هي معقد الولاء والبراء ، فمن وافقهم على تلك المناهج واعتقد تلك العقائد ، قبلوه وتولوه وأكرموه.
ومن خالفهم ، بدعوه ، وفسقوه ، وتبرؤا منه، وإذا كانتالسلطة لهم والحكام في طاعتهم ، أغروهم به، فحبسوه ، وضربوه، وربما قتلوه، وبيان سبب كثرة هذه الفرق وتشعب أفكارها.
وسأذكر فيما يلي نماذج من مناهج هذه الفرق ، كما ذكرها شيخ الإسلام ابن تيمية ، وابن القيم، ثم اعقد بعد ذلك مقارنة بسيطة بين تلك المناهج ومعاملة أصحابها لأهل السنة والجماعة الفرقة الناجية السائرة على ماكان عليه رسول الله وأصحابه كما في الحديث السابق.(23/21)
وبين مناهج الجماعات والأحزاب المعاصرة ، ومعاملتهم فيما بينهم ، ولمن يخالفهم في مناهجهم ، ليتضح من خلال المقارنة هل يوجد فرق بين هذه الجماعات المعاصرة ، والفرق السابقة ، في حقيقة الأمر ، او أن الفرق إنما هو في الأسماء فقط، وذلك من غير ذكر لأسماء الأشخاص ، لأن الغرض إنما هو التنبيه على الأخطاء لتجتنب ، كما في هديه صلى الله عليه وسلم حينما ينبه على خطأ حدث من أشخاص ، حيث يثول : مابال أقوام يقولون كذا كذا .، من غير ذكر لأسمائهم.
ثم أذكر بعد ذلك ، منهج الطائفة أو الفرقة الناجية ، كما وصفها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالفرقة الناجية ، وجود في الوقت الحاضر ، وهل هي محصورة في بلد معين، وهل لها إمام يقودها بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم أو أننا الآن في الزمن الذي أشار إليه حديث حذيفة بن اليمان الذي سيأتي نصه، فنضطر إلى أن يعض كل واحد منا على أصل شجرة حتى يأتيه الموت وهو على ذلك.
فنقول : إنما حذر منه النبي صلى الله عليه وسلم، أمته قد حدث فظهر الاختلاف كما اخبر صلى الله عليه وسلم، فافترقت أمته إلى فرق ، يكفر بعضها بعضا ، أو يفسقه ، أو يبدعه، وقد بدأ خط الانحراف – من حين ظهور – عبدالله بن سبأ- اليهودي الحميري الذي ادعى الإسلام نفاقا ، ودس أفكاره الملحدة في هذه الأمة فقبل تلك الأفكار البعيدة عن تعاليم الإسلام، رعاع من الناس أدت إلى قتل الخليفة الراشد عثمان بن عفان –رضي الله عنه- ومن أفكاره الفاسدة ، دعواه الوصية لعلي بن أبي طالب – رضي الله عنه- ودعوى أن الصحابة خالفوا تلك الوصية ، ثم حكم على جميع الصحابة بزعمه هذا أنهم خالفوا وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكفرهم جميعا إلا ثلاثة ، وقد بين العلماء زيفه ، وكذبه وإلحاده، وزندقته، وأنه لم تكن هناك وصية ،لالعلي –رضي الله عنه- ولالغيره ، بكلام علىّ نفسه، لامجال لتفصيل ذلك هنا ، ولكن كثرت الفرق بعد ذلك وانتشرت أفكارها.(23/22)
وسبب ذلك ماذكره المقريزي وغيره ،قال الصفدي:" طلب المأمون من بعض ملوك النصارى، قال : أظنه صاحب جزيرة قبرص ، طلب منه خزانة كتب اليونان، وكانت عندهم مجموعة في بيت لايظهر عليها أحد، فجمع الملك خواصه من ذوي الرأي ، واستشارهم في ذلك ، فكلهم أشاروا بعدم تجهيزها إليه ، إلا مطران واحد قال : جهزها إليهم فما دخلت هذه العلوم على دولة شرعية إلا افسدتها وأوقعت بين علمائها [1- لوامع الأنوار 9/1]، وهكذا كان الأمر ، فانتشرت الأفكار الفاسدة، وكان من اول هذه الأفكار ، أفكار عبدالله بن سبأ،فنشأت الرافضة وبنت عقائدها على ذلك الأساس العقل المتبع للهوى، كما يقول ابن القيم في الصواعق ج1/118 عن الطوائف التي خالفت أهل السنة والجماعة فأصلت مذاهبها على تلك القواعد بعقولهم.
قال : فأصلت الرافضة عداوة الصحابة ، وبناء على هذا الأصل ردُّوا كل ماجاء في فضائلهم والثناء عليهم ، أو تأولوه.
ثم ظهرت فرقة الخوارج – هم من اتباع عبدالله بن سبأ وهم الذين قتلوا عثمان-رضي الله عنه- ثم خرجوا على علىّ بن ابي طالب ، وكفروه وكفروا الصحابة جميعا، ثم جعلوا لهم اصلا – وهو أن مرتكب الكبيرة كافر في الدنياوالآخرة ، وهم جهال لايعرفون نصوص الشريعة فقد وصفهم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بأنهم يقتلون أهل الإسلام ، ويتركون أهل الأوثان كما وصفه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بعدم الفقه في الدين مع الجلد في العبادة على الجهل، فقال في وصفهم:" تحقرون صلاتكم مع صلاتهم وقراءتكم مع قراءتهم "،وفي رواية لمسلم" قوم يقرءون القرآن بألسنتهم لايعدو تراقيهم يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية ، وحث على قتلهم ، فقال فإذا لقيتموهم فاقتلوهم ، فإن في قتلهم أجرا لمن قتلهم عندالله يوم القيامة"[2- مسلم، الزكاة، باب التحريض على قتل الخوارج2/746ح154].(23/23)
وقد قتل تلك الطائفة المارقة علي بن ابي طالب وأصحابه، لأنهم بدل- أن يكون تلاميذا للصحابة الذين حضروا التنزيل وصحبوا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ليتفقهوا على أيديهم، ويأخذوا تعاليم الشريعة الإسلامية وأحكامها منهم كفروهم ن وذلك لجهلهم ،كما وصفهم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وهم من اتباع عبدالله بن سبأ الذين خرجوا على عثمان بن عفان –رضي الله عنه- وقتلوه ظلما وعدونا.
ثم الجهمية-اتباع الجهم بن صفوان : وقد أصلت الجهمية اصلا- وهو أن الله عزوجل لايتكلم ، ولايكلم أحدا، ولايرى بالأبصار في الآخرة ، ولاهو مستو عرشه مباين لخلقه ، ولاله صفة تقوم به بناء على ذلك- ردوا أو أولوا كلما جاء كتاب الله او سنة رسوله يخالف ذلك الأصل.
واصلت المعتزلة: القول ينفوذ الوعيد ، وإن من دخل النار لايخرج منها ونفوا الصفات ، وقالوا بخلق القرآن.
ومثلهم الكلابية ،والأشعرية ، والمرجئة، وكل الطوائف التي سلكت مسلك التأويل في أسماء الله وصفاته- ترد النصوص إلى العقل فماقبلته عقولهم أمضوه ومالم تقبله عقولهم ردوه.
والعقل ليس معيارا لأن ترد النصوص الشرعية من الكتاب والسنة إليه- لأن العقول كثيرة، فما قبله عقل الجهمي لايقبله عقل الرافضي والمعتزلي وهكذا ، وجعلوا الولاء والبراء على تلك الأصول والقواعد التي اصلوها بعقولهم ، فمن وافقهم عليها قبلوه وتولوه، ووظفوه، واكرموه.
ومن خالفهم كفروه ، وعادوه ،وحبسوه ، وضربوه، وربما قتلوه،ولم يقبلوا له شهادة ولم يفكوه من يدعدو.
يقول ابن تيمية وهو يتحدث في بيان مسالة التكفير ، فيذكر معاملة الإمام احمد بن حنبل للمعتزلة ومعاملتهم لمن يخالفهم في عقيدتهم الباطلة التي طبقوا الموالاة والمعادات عليها ، والتي سنقارن بينها وبين مناهج المعاصرين من الجماعات التي توجد في الساحة لنتبين إن وجد فرق بينها ، أو أن الفرق في الأسماء فقط.(23/24)
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى 12/488: فإن الإمام أحمد – مثلا قد باشر الجهمية ، الذين دعوه إلى خلق القرآن ،ونفي الصفات ، وامتحنوه وسائر علماء وقته، وفتنوا المؤمنين والمؤمنات الذين لم يوافقهم على التجهم بالضرب، والحبس ، والقتل، والعزل عن الولايات وقطع الأرزاق، ورد الشهادة ، وترك تخليصهم من أيدي العدو بحيث كان كثير من أولى الأمر إذ ذاك من الجهمية من الولاة والقضاء وغيرهم : يكفرون كل من لم يكن جهميا موافقا لهم على نفي الصفات مثل القول بخلق القرآن ، ويحكمون فيه بحكمهم في الكافر ، فلا يوالونه ولاية، ولايفتكونه من عدو، ولايعطونه شيئا من بيت المال، ولايقبلون له شهادة ، ولافتيا، ولارواية ، ولايمتحنون الناس عند الولاية والشهادة ، ولإفتكاك من الأسر وغير ذلك.
فمن أقرَّ بخلق القرآن حكموا له بالإيمان ـ ومن لم يقربه لم يحكموا له بحكم أهل الإيمان ، ومن كان داعيا لغير التجهم قتلوه أو ضربوه أو حبسوه.
هذه معاملة هذه الفرق لأهل السنة والجماعة للطائفة المتبعة لما كان عليه رسول الله وأصحابه، كماذكر ابن تيمية – فالمعادات والموالاة على تلك المناهج والعقائد الباطلة.
وحيث إن كثيرا من الكتاب المعاصرين ومن المشتغلين بالدعوة ، وجمع كلمة المسلمين ، الذين يظنون أن البحث والتوجيه للشباب إلى الإهتمام بالأصول التي هي الأساس لبناء المجتمع كما سلك المصطفى - صلى الله عليه وسلم- في إصلاح قلوب الناس ، يقولن : إن الباحثين في مسائل العقيدة ينبشون ماتحت التراب، بمعنى أن الحديث عن الفرق حسب زعمهم ـ إنه بحث في أمور انقرضت ومايعلمون أن الذي انقرض هو الأشخاص ،وأما الأفكار والمناهج والعقائد فلا زالت منتشرة، من أجل ذلك فإننا نعقد مقارنة بين المناهج السابقة ، والمناهج المعاصرة.
*مناهج الجماعات المعاصرة:-
إن الأأمة الإسلامية أمة واحدة- كما قال تعالى:"إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون".(23/25)
وسبيلها وطريقها واحد كم قال تعالى:{ وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولاتتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذالكم وصاكم به لعلكم تتقون}. [الأنعام-153].
وإننا نرى في الساحة الإسلامية جماعات وأحزابا معاصرة متعددة ، كل جماعة جعلت انفسها اسما ، وخطت لها منهجا تدعو عن طريقه وفي حدود معالمه إلى الإسلام.
وفي نفس الوقت تجد هذه الجماعات والأحزاب متفرقة متخاصمة ، تفرق وتخاصم تلك الجماعات والطوائف السابقة.
ثم إن هذه الجماعات والأحزاب توالي وتعادي في نطاق ذلك المنهج الذي رسمته لأتباعها ، وتلزم المنتمي إليها ، بعدم الخروج على منهجها فهو محجور عليه فلا يأخذ ولايعطى إلا في حدودهالمرسومة ، وتحت شعاره ، لأنه في نظر زعمائها ومنظريها – ان الإسلام وجميع تعاليمه محصورة في هذا المنهج ، وقد نتج عن ذلك الأفق الضيق البعيد عن منهج الطائفة المنصورة بدع كثيرة ممقوتة نذكر بعضا منها:-
التعصب الحزبي:
للأفكار أو الأشخاص أو الشيوخ ، الذي جاءت تعاليم الإسلام للقضاء عليه ، فليس في الإسلام تعصب لحزب ، أو قبيلة ، أو بلد، وإنما ذلك من أعمال الجاهلية، فقد حعلت هذه الجماعات أو الأحزاب الولاء والبراء هو الانتساب إليها وعلى ذلك – فإن المنتمي للحزب أو الجماعة يبجل ويعظم ويرفع شأنه فالمؤهل لذلك كله هو الانتماء –لاالعلم والتقوى.
ونتج عن ذلك ، أن المخالف لهذه الجماعة ومنهجها – غير المنزّل – وإن كان على الحق ، فيحط من قدره ، ويشاع عنه، بأنه ضيق الأفق قاصر الثقافة لايعرف واقع الأمة والأخطار التي تحيط بها ، حتى بنفر الشباب عنه فلا يستفيدون من علمه وتجاربه ولو كان عالما تجاوز عمره السبعين.
ومعلوم – أن الميزان الشرعي لتقويم الأشخاص هو العلم والتقوى{ إن أكرمكم عند الله أتقاكم}.وليس الانتماء أو عدمه.(23/26)
والميزان للآفكار والمناهج – هو الكتاب والسنة{فإن تنازعتم في شىء فردوه إلى الله والرسول أن كنتم تؤمنون بالله}[النساء-59].وليس الرد لرأي فلان ، أو فلان ، أو منهجه.
ومن نتائج هذا التحزب التفرق ، والخصام ، والعداء ، والخلاف المستمر والفشل المحقق على الساحة الدعوية. أما دعوى – أن الجميع يعملون للإسلام ، وسيلتقون عند حصول الثمرة فهذه الدعوى – تبطلها الخلافات القائمة بين هذه الجماعات لاختلاف مناهجها وأهدافها ، والانشقاقات الحاصلة بين بعضها ، واعتقد أن هذه الأمور لاتحتاج إلى دليل – لظهورها في كل مكان.
وعلى ذلك- فهل يوجد فرق حقيقي بين مناهج تلك الفرق السابقة التي ذكرنا نموذجا مما ذكره شيخ الإسلام – عن المعتزلة – وبين المناهج المعاصرة غير الأسماء – والأسماء لاتغير الحقائق.
إن هذا مصداق قوله - صلى الله عليه وسلم - في افتراق الأمة إلى تلك الفرق المتعددة في الأهواء.
فهل من تعاون على البر والتقوى ، واعتصام بحبل الله جميعا كما قال تعالى: (وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) (آل عمران : 103 ).
الطائفة الناجية:-(23/27)
إن التعاون على البر والتقوى والاعتصام بحبل الله جميعا ، هو ماجاء في منهج الفرقة أو الطائفة الناجية، وقد سئل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عن وصفها فقال :" هم من كان على ماأنا عليه وأصحابي"، وفي صحيح البخاري في كتاب الاعتصام بالسنةح7311" لاتزال طائفة من أمتي ظاهرين حتى يأتيهم أمر الله وهم ظاهرون". وح7412- من رواية معاوية قال: سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقول " من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين ، وإنما أنا قاسم ، ويعطي الله ،ولن يزال أمر هذه الأمة مستقيما حتى تقوم الساعة أو حتى يأتي أمر الله".
والسؤال : مالذي كان عليه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وأصحابه؟
وهل هذه الطائفة موجوده؟ وإذا كان كذلك كما قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فما منهحها ؟ وأين مكانها؟ وهل لها إماما يقودها بكتاب الله وسنة رسوله كما جاء في حديث حذيفة؟
الذي سنورده فيما بعد وقد جاء فيه- فإن لم يكن لهم جماعة ولاإمام، قال : فعتزل تلك الفرق كلها ، ولو أن تعض بأصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك.
سنذكر رؤوس أقلام في الإجابة على هذه التساؤلات:
منهج الفرقة الناجية هو ماكان عليه رسول الله وأصحابه:-
فأما ماكان عليه رسول الله وأصحابه – فهو التمسك بكل ماجاء في كتاب الله الكريم الذي لايأتيه الباطل من بين يديه ولامن خلفه، والتمسك بسنة رسوله المبينة والمفسرة لكتاب الله عزوجل فإنها الوحي الثاني كما قال تعالى:{ وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس مانزل إليهم}[النجم/4،3].
فهم ساروا على الإيمان بالله إلها معبودا لاإله غيره ولارب سواه، فصرفوا جميع أنواع العبادة من الإعتقادات ، والأقوال ، والأعمال الظاهرة والباطنة إليه وحده.(23/28)
والإيمان يأسمائه وصفاته ، كما وصف الله نفسه في كتابه ، ووصفه رسوله - صلى الله عليه وسلم- في سنته الصحيحة. من غير تحريف ولاتعطيل ولاتأويل ، بل إثبات تلك الصفات لله على أساس قوله تعالى: { ليس كمثله شىء وهوالسميع البصير}[الشورى/11].
والحكم بما أنزل الله عزوجل في كتابه ، وماشرعه رسول الله - صلى الله عليه وسلم- كما قال تعالى:{ (فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً) (النساء : 65 ).
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر . كما قال الله لنبيه:{ (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (يوسف : 108 ).
وقال تعالى:{ (ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) (النحل : 125 ).
فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، على أساس هاتين الآيتين ، العلم أولا، والحكمة ثانيا. والدغوة على هذا المنهج تعم المسلمين جميعا كل بقدر استطاعته وفي محيطه الذي يخصه ،لايكلف الله نفسا إلاوسعها ، قال - صلى الله عليه وسلم- كما في صحيح مسلم:" من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان"[1- مسلم ، الإيمان 12/69ح78].
فالتغير باليد لصاحب السلطان ، واللسان لكل مسلم ، فإن لم يستطع حتى بلسانه ، فيلزمه كراهة هذا المنكر بقلبه.(23/29)
والجهاد في سبيل الله لنشر هذا الدين، وإنقاذ العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد. وهطذا في جميغ تعاليم هذا الدين ، في المعاملات والأخلاق الحميدة ، فالمؤمنون رجماء بينهم كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى، فأخلاق رسول الله القرآن ، وهكذا كان أصحابه فالولاء والبراء على الكتاب والسنة.
هذا منهج أصحاب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وعلى هذا سلكت الطائفة الناجية ، حينما افترقت هذه الأمة إلى تلك الفرق التي أشار إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم - ، وهو كاجاء في حديث العلاباض بن سارية حيث قال: "فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافا كثيرا"،ثم امر الأمة عند ظهور هذا الإختلاف ، أن يتمسكوا بسنته وسنة الخلفاء الراشدين المهديين ، وأن يعضُّوا عليها بالنواجذ ،ثم حذرهم من البدع ومحدثات الأمور ، وبين أن كل بدعة ضلالة.
وأما مكان وجود هذه الطائفة- وهل لها إمام يقودها بكتاب الله وسنة رسوله، فالجواب- إن الطائفة السائرة على المنهج الذي سبقت الإشارة إلبه موجودة في الدنيا كلها ، فلا يحصرها بلد دون آخر.
ولاستكمال الجانب الثاني من السؤال – وهو – هل لها إمام يقزدها بكتاب الله وسنة رسوله – فإننا نورد حديث حذيفة بن اليمان الذي اشرنا له سابقا وبعد إيراده سنجد الجواب ، فقد روى البخاري في صحيحه في كتاب المناقب علامات النبوة.
وفي كتاب الفتن /باب كيف الأمر إذا الأمر لم تكن جماعة.
ومسلم في الإمارة/ باب وجوب ملازمة جماعة المسلمين عند ظهور الفتن، وفي كل حال ، وتحريم الخروج من الطاعة ومفارقة الجماعة.
عن حذيفة بن اليمان – رضي الله عنه- قال:" كان الناس يسألون رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عن الخير ،وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني ، فقلت : يارسول الله إنا كنا في جاهلية وشر ، فجاءنا الله بهذا الخير ، فهل بعد هذا الخير من شر؟
قال: "نعم".(23/30)
قلت: وهل بعد ذلك الشر من خير؟ قال : " نعم وفيه دخن"، قلت: ومادخنه؟ قال :" قوم يهدون بغير هدي – تعرف منهم وتنكر" ، قلت / فهل بعد ذلك الخير من شر؟ قال :" نعم ، دعاة على أبواب جهنم ، من أجابهم إليها قذفوه فيها" ، قلت :يارسول الله صفهم لنا ؟ قال:" هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا"، قلت : فماتأمرني إن أدركني ذلك؟ قال:" تلزم جماعة المسلمين وإمامهم"، قال :" فاعتزل تلك الفرق كلها ، ولو أن تعض بأصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك".
يقول النووي في شرح هذا الحديث " دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها" ، قال العلماء: هؤلاء من كان من الأمراء يدعو إلى بدعة أو ضلال آخر ، كالخوارج والقرامطة ن وأصحاب المجنة ، وفي الحديث هذا لزوم جماعة المسلمين وإمامهم ووجوب طاعته وإن فسق وعمل المعاصي"[1- النووي ،شرح مسلم 12/237].
السلف وأتباعهم ليسوا حزبا:-
فالطائفة الناجية التي ذكرها رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ، ووصفها بأناه التي تكون على ماكان عليه هو وأصحابه ، هم السلف الصالح، ثم السائرون على مهجهم، كما قال تعالى:{ (وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (التوبة : 100 ).
فهذه الطائفة بهذا المنهج موجودة في الدنيا كلها في كل زمان ومكان فلا يحصرها بلد دون بلد ، ولامكان دون آخر ، وهم جماعة المسلمين السائرون على الحق والهدى، وقد يكون لهم إمام يقودهم لكتاب الله وسنة رسوله، وقد لايكون لهم إمام في بعض الأحوال وعند ظهور الفتن ، كما حديث حذيفة.(23/31)
ولكن بحمد الله إن هذه الجماعة موجودة بالمنهج ، والإمام الذي يقودها بكتاب الله وسنة رسولهفي هذه البلاد ، كما سنذكر ذلك بعد نقل كلام الإمام إسماعيل بن محمد الأصبهاني الملقب بقوام السنة ، ليتضح لنا إن جماعة المسلمين الواحدة السائرة على ماكان عليه رسول الله- صلى الله عليه وسلم—وأصحابه ، وهم السلف واتباعهم – أهل منهج وليسوا حزبا كما نسمعه من بعض من لم ينظر في منهجهم وطريقتهم ، وإذا وجد أن شخصا انتسب إلى منهج السلف ، ثم ارتكب خطأ وهم ليسو بمعصومين فإن خطأه يحسب عليه لا على المنهج ولاينفر الناس من الحق لاسيما الشباب فتنفيرهم من جماعة السلف أو منهج السلف جناية عظيمة على الأمة الإسلامية إذ يقطع حاضرها عن ماضيها ، وهي دعوة يروج لها أعداء الإسلام ، ويأخذ بإيحاءتها من لايفكر في عواقبها وماتؤول إليه نتائجها .
وقد ألقيت نظرة سريعة على صفحات من شرح الطحاوية فوجدته كرر كلمة السلف أكثر من عشرين مرة، مما يدل على اعتزازه بهذه النسبة، لأن من مميزات منهجهم ، الثبات على الحق والاستمرار عليه، وعدم التقلب والتذبذب ، واتفاقهم على امور العقيدة ـ وعدم اختلافهم فيها مع اختلاف الزمان والمكان بخلاف الطوائف الأخرى التي وضعت مناهجها بعقولها.(23/32)
يقول الإمام الأصبهاني قوام السنة- ومما يدل علىأن أهل الحديث هم أهل الحف – أنك لو طالعت كتبهم المصنفة من أولهم إلى آخرهم ، قديمهم وحديثهم ، مع اختلاف بلدانهم وزمانهم ، وتباعد مابينهم في الديار ، وسكون كل واحد منهم قطرا من الأقطار وجدتهم في بيان الاعتقاد على وتيرة واحدة ، ونمط زاحد يجرون على طريقة لايحيدون عنها ولايميلون فيها ، قولهم في ذلك واحد، ونقلهم واحد ، لاترى فيهم اختلافا ولاتفرقا في شىء ما وإن قل ..الخ، قلت : ومما يدل على صدق قوله كتب هؤلاء الأئمة – الإمام أحمد بن حنبل ، البخاري ، ومسلم ، والترمذي ، وابن ماجه ، وابن خزيمة، وابن قتيبة، وابن منده، واللالكائي وغيرهم، مع اختلاف أزمانهم ، وأقطارهم تجد كلامهم واحدا.
وأما كون هذه الجماعة – موجودة بمنهجها وإمامها فهي موجودة بحمدلله في هذه البلاد إن شاء الله ، فقد أخبر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كما في صحيح البخاري ومسلم: " إن الإيمان ليأرز إلى المدينة ، كما تأرز الحية إلى جحرها".[1-البخاري/فضائل المدينة، فتح الباري4/93ح1876، ومسلم ، الإيمان 1/130ح232،233].
فأنا أذكر الناسي وأنبه الغافل:
أن المنهج في هذه البلاد قائم : على أصالة التوحيد ، ونبذ البدع والخرافات والتأويل، وعلى دراسة العلوم الشرعية بجميع فروعها- بدءً بمناهج المراحل الإبتدائية ، وانتهاء بمناهج الجامعات والدراسات العليا التخصصية مثل قسم العقيدة، وقسم السنة، وقسم التفسير، وقسم الفقه، وقسم الأصول، وجميع التخصصات الشرعية وما يخدمها إضافة إلى العلوم العصرية التي يحتاجها المجتمع ، غير المتعارضة مع الشريعة الإسلامية.(23/33)
بل في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة التي أُنشئت لأبناء العالم الإسلامي جميعا ، وبها أكثر من مائة جنسية ، بها كليات متخصصة ، في هذه الجوانب – مثل – كلية القرآن وعلومه، وكلية الحديث وعلومه، وكلية أصول الدين، كلية الشريعة،كلية اللغة ، وغيرها من الجامعات ،والمعاهد.
ثم فصل التعليم بجميع مراحله ، بين الذكور والإناث.
دار الإفتاء والدعوة والإرشاد
هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
المحاكم الشرعية التي يحكم قضاتها بالكتاب والسنة، وإقامة الحدود الشرعية على مرتكبيها كقطع يد السارق، والقصاص من القاتل، وجلد الزاني ، والشارب ، وذلك ضمن الضوابط الشرعية.
فهذا المنهج تقوم به جماعة في هذه البلاد ، ولهم ، إمام يقوم بتطبيق هذا المنهج ، وتنفيذه، ونحن نسمع بين الحين وآخر تطبيق الحدود على مرتكبيها ، وقد قام بهذا المنهج ووجدت الجماعة القائمة به وإمامها، بعد الفترات السابقة- الإمام محمد بن عبدالوهاب مع الإمام محمد بن سعود من عام 1158هـ، ولازال الأمر كذلك إلى عصرنا الحاضر ، وقد قامت هذه الدولة من ذاك التاريخ ، على عقيدة التوحيد الخالصة من شوائب الشرك والبدع والتأويل وعلى تطبيق الشريعة الإسلامية ، ونسأل الله لها الثبات والاستمرار على ذلك ، ليتحقق في هذه البلاد وأهلها ، ماقاله رسول الله - صلى الله عليه وسلم-" إن الإيمان ليأرز إلى المدينة " وفي الرواية الأخرى:" بين المسجدين كما تأرز الحية إلى جحرها".
إما أن توجد معاصي وأخطاء ، فهذه طبيعة البشر جميعا من عهد النبوة والخلفاء الراشدين، كان الناس يرتكبون الخطاء والمعاصي، وكذلك ايام الدولة الإسلامية بعدهم – فالعيب ليس في وجود المعاصي ، وإنما العيب في عدم إقامة الحدود ، على من أرتكب تلك المعاصي، إن كانت تستوجب إقامة حدٍ على صاحبها.(23/34)
وأما نصح الأئمة وولاة الأمر فواجب على علماء الأمة ففي صحيح مسلم:" الدين النصيحة ثلاثا"، قلنا لمن يارسول الله – قال : " لله ، ولكتابه ولرسوله ولائمة المسلمين وعامتهم"[ 1- مسلم ، الإيمان 10/74ح95].
أما كيفية تقديم النصيحة لهم فننقل ماقاله العلامة عبدالرحمن بن سعدي في كتابه – الرياض الناضرة والحدائق النيرة الزاهرة- الفصل الثامن في "وجوب النصيحة وفوائدها " في شرح حديث الدين النصيحة ثلاثا ، قالوا: لمن يارسول الله؟ قال : " لله ، ولكتابه ، ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم" ، قال في ص 29: "وأما النصيحة لأئمة المسلمين ، وهم ولاتهم من السلطان الأعظم إلى الأمير إلى القاضي إلى جميع من لهم ولاية صغيرة أو كبيرة ، فهؤلاء لما كانت مهماتهم وواجباتهم أعظم من غيرهم وجب لهم من النصيحة بحسب مراتبهم ومقاماتهم ، وذلك باعتقاد إمامتهم والاعتراف بولايتهم ووجوب طاعتهم بالمعروف ، وعدم الخروج عليهم ، وحث الرعية على طاعتهم ولزوم أمرهم الذي يخالف أمر الله ورسوله، وبذل مايستطيع الإنسان من نصيحتهم وتوضيح ماخفي عليهم مما يحتاجون إليه في رعايتهم ، كل أحد بحسب حاله، والدعاء لهم بالصلاح والتوفيق، فإن صلاحهم صلاح لرعيتهم.
ثم قال: واجتناب سبهم والقدح فيهم وإشاعة مثالبهم ، فإن في ذلك شراً وضرراً وفسادا كبيرا فمن نصيحتهم الحذر والتحذير من ذلك.
ثم قال: وعلى من رأى منهم مالايحل أن ينبههم سرا لاعلنا بلطف وعبارة تليق بالمقام ويحصل بها المقصود ، فإن هذا مطلوب في حق كل أحد ،وبالأخص ولاة الأمور، فإن في تنبيههم على هذا الوجه فيه خير كثير ، وذلك علامة الصدق والإخلاص.
ثم قال : واحذر أيها الناصح لهم على هذا الوجه المحمود أن تفسد نصيحتك بالتمدح عند الناس ، فتقول لهم إني نصحتهم وقلت وقلت، فإن هذا عنوان الرياء وعلامة ضعف الإخلاص وفيه أضرار أخر معروفة.
هذا ما قاله – الشيخ عبدالرحمن السعدي في نصيحته ولاة الأمور.(23/35)
السلطان الأعظم وولاته. وقد نص على أن النصيحة تكون سرا لاعلنا،ثم بلطف، وعبارة تلقيق بالمقام، كما حذر الناصح لهم على هذا الوجه المحمود ، إن كان يقصد بنصيحته الصدق والإخلاص ، أن لايفسد تلك النصيحة بالتمدح عند الناس فيقول: إني نصحتهم وقلت وقلت، فإن ذلك دليل على الرياء وعلامة ضعف الإخلاص كما قال الشيخ السعدي.
وبعد ذكرنا لكلام الشيخ السعدي – رحمه الله تعالى- وهو من العلماء المعاصرين نرى أنه من المناسب ذكر مثال من كلام العلماء السابقين:
* يقول ابن أبي عاصم في كتاب السنةج2/521ح-1096
[ باب : كيف نصيحة الرعية للولاة]:
وقد أورد فيه بإسناده عن شريح بن عبيد قال: قال عياض بن غنم لهشام بن حكيم ألم تسمع بقول رسول الله-صلى الله عليه وسلم-:" من أراد أن ينصح لذي سلطان فلا يبده علانيةً، ولكن يأخذ بيده" ، فيخلو به فإن قبل منه فذلك وإلا كان قد أدى الذي عليه"، قال الألباني : إسناده صحيح.
ذها هو أسلوب علماء السنة والجماعة الطائفة المنصورة ،في نصحهم لولاة أمورهم لأنهم يريدون لأمتهم وللعباد والبلاد الخير والصلاح، وهو مانعتقد إن علماءنا في الوقت الحاضر وهم المتبعون لمنهج السلف الصالح يقومون به لولاة أمورهم بالأسلوب الذي ذكره العلامة الشيخ –عبدالرحمن السعدي- رحمه الله- ، فهم لايقدمون النصائح علنا حتى نسمعها ، لأنهم يعلمون أنها بهذا الأسلوب غير مجدية ، ولاهو منهج أهل السنة والجماعة.
ثم هم لايفسدون تلك النصائح التي يقدمونها بالتمدح بين الناس بأن يقولوا فعلنا وقلنا لهم وقلنا- لأن هذا كما قال السعدي فيه رياء وعدم إخلاص في النصيحة ، وفي نفس الوقت فيه إضرار كثيرة.
أما الوقائع العينية مع الولاة والأمراء – فما صح منها- فإنه كان نصيحة للأمير مباشرة عند ظهور مخالفته للسنة، مع وجود اللفة بينهم أي العلماء، والأمراء ، والقصد، من النصيحة الإصلاح لا التشهير- كما في قصة مروان أمير المدينة.(23/36)
ففي صحيح البخاري كتاب العيدين ح956- عن أبي سعيد الخدري قال:"كان النبي - صلى الله عليه وسلم-يخرج يوم الفطر والأضحى إلى المصلى فأول شىء يبدأ به الصلاة ... قال فلم يزل الناس علىذلك حتى خرجت مع مروان – وهو امير المدينة في أضحى أو فطر فلما أتينا المصلى إذا منبر بناه كثير بن الصلت ، فإذا مروان يريد أن يرتقية قبل أن يصلي ، فجبذت بثوبه فجبذني ، فارتفع فخطب قبل الصلاة فقلت له غيرتم والله، فقال : أبا سعيد قد ذهب ماتعلم ، فقلت : ما أعلم والله خير مما اعلم ، فقال :إن الناس لم يكونوا يجلسون لنا بعد الصلاة ، فجعلتها قبل الصلاة.
قال ابن حجر وفي رواية عبدالرزاق عن داوود بن قيس { وهو- أي – مروان – بيني وبين أبي مسعود – يعني عقبة بن عمرو الأنصاري – قلت: وهذا يدل على الصلة الوثيقة بين العلماء وولاة الأمور.
ويقول ابن حجر وهو يعدد فوائد الحديث : وفيه إنكار العلماء على الأمراء إذا صنعوا مايخالف السنة،وفيه جواز عمل العالم بخلاف الأولى إذا لم يوافقه الحاكم على الأولى ، لأن أباسعيد حضر الخطبة ولم ينصرف ، فيستدل به على أن البداءة بالصلاة فيها ليس بشرط في صحتها والله أعلم.
ثم نقب عن ابن المنير قوله: " حمل أبو سعيد فعل النبي - صلى الله عليه وسلم-في ذلك على التعيين، وحملة مروان على الأولوية ، واعتذر عن ترك الأولى بماذكره من تغير حال الناس ، فرأى أن المحافظة على أصل السنة وهو سماع الخطبة أولى من المحافظة على هيئة فيها ليست من شرطها والله اعلم.
ومثل هذا ماذكر من الوقائع مع عمر بن الخطاب ، فما صح من ذلك ، فهو نصيحة للأمير أو الوالي مشافهة في نفس الوقت، الذي ظهر فيه مايخالف السنة، ولاتشهيرا وقدحا وإشاعة لمثالبهم ففي ذلك شر وضرر وفساد كبير كما قال الشيخ السعدي- لأن الهدف هو الإصلاح، وبهذا السلوب يتحقق الإصلاح إن شاء الله.
وآخر دعوانا أن الحمدلله رب العالمين ،وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(23/37)
إعداد: أم عبدالعزيز الأثرية.
-(23/38)
البراهين السنية في بيان كذب أقصوصة أبو جعفر المنصور مع الإمام مالك عند الحجرة النبوية
أبو عمر الدوسري (المنهج)
عجيب هوس هؤلاء القوم بالأقاصيص المختلقة ، وتتبعهم للحكايات المخالفة للنصوص المعتبرة ، وعدم رفع الرأس بالآيات القامعة لأباطيل عقائد المبتدعة ، وعزوفهم وتأويلاتهم للأحاديث الصريحة الصحيحة ؛ بأقاصيص وأحاديث مكذوبة موضوعة!!
ثم هم يزعمون المحبة؟!
أي محبة في عدم الاتباع ، وبناء العقائد على الحكايات التي لا ترتفع إلى الضعف-في الغالب- فما بالك إلى الصحة ، ظلمات موضوعة ، وأقاصيص مكذوبة!
وما على أهل السنة إلا البيان ليحييا من حيي على بينه ويهلك من هلك على بينه.
تكاثر عند القوم ، محبي الاستغاثات الشركية ، كلام يكذبونه ويتناقلونه على الأئمة ، ونحن أمة إسناد ، ولذلك سنذكر روايتهم ثم نأتي بأقوال العلماء المُحدِّثين المحققين في سند القصة ، ثم نقف مع متن القصة.
ينسب إلى مالك بن أنس رحمه الله مع أبي جعفر المنصور العباسي قصة لتأييد احتجاجاتهم بتوسلاتهم بذوات المخلوقين ، وفيها وهو الشاهد من المتن:
(أنه-أي أبو جعفر- سأل مالكاً فقال:يا أبا عبدالله أأستقبل القبلة وأدعوا ، أم أستقبلُ رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: ولم تصرف وجهك عنه ، وهو وسيلتك ووسيلةُ أبيك آدم عليه السلام إلى الله تعالى يوم القيامة ؛ بل استقبله واستشفع به،فيشفعه الله) خرج لها القاضي عياض في الشفا وسندها: (حدثنا القاضي ألو عبدالله محمد بن عبدالرحمن الأشعري ، وأبو القاسم أحمد بن لقي الحاكم وغير واحد فيما أجازونيه ، قالوا:حدثنا أبو العباس أحمد بن عمر بن دلهاث،حدثنا أبو الحسن علي بن فهر ،حدثنا أبو بكر محمد بن أحمد بن الفرج،حدثنا أبو الحسن عبدالله بن النتاب،حدثنا يعقوب بن إسحاق بن أبي إسرائيل،حدثنا ابن حميد قال:ناظر أبو جعفر أمير المؤمنين مالكاً في مسجد رسول الله )
الكلام على سند هذه القصة(24/1)
قال ابن عبدالهادي رحمه الله في "الصارم المنكي" :
(وهذه الحكاية التي ذكرها القاضي عياض ورواها باسناده عن مالك ليست بصحيحة عنه ، وقد ذكر المعترض في موضع من كتابه أن إسنادها إسناد جيد ، وهو مخطئ في هذا القول خطأ فاحشاً ، بل إسناده إسناد ليس بجيد ؛ بل هو إسناد مظلم منقطع ، وهو مشتمل على من يتهم بالكذب وعلى من يجهل حاله ، وابن حميد هو محمد بن حميد الرازي ، وهو ضعيف كثير المناكير غير محتج بروايته ، ولم يسمع من مالك شيئاً ولم يلقه ؛ بل روايته عنه منقطعة غير متصلة ؛ وقد ظن المعترض أنه أبو سفيان محمد بن حميد المعمري أحد الثقات المخرج لهم في صحيح مسلم قال فإن الخطيب ذكره في الرواة عن مالك ، وقد أخطأ فيما ظنه خطأ فاحشاً ووهم وهماً قبيحاً.
فإن محمد بن حميد المعمري رجل متقدم لم يدركه يعقوب بن إسحاق بن أبي إسرائيل راوي الحكاية عن ابن حميد ؛ بل بينهما مفازة بعيدة ، وقد روى المعمري عن هشام بن حسان ومعمر والثوري ، وتوفي سنة اثنين وثمانين ومائة قبل أن يولد يعقوب بن إسحاق أبي إسرائيل ، وأما محمد بن حميد الرازي فإنه في طبقة الرواة عن المعمري كأبي خثيمة فإنه في طبقة الرواة عن يعقوب بن إسحاق بن أبي إسرائيل.
وأما محمد بن حميد الرازي فإنه من طبقة الرواة عن المعمري كأبي خثيمة وابن نمير وعمرو الناقد وغيرهم ، وكانت وفاته سنة ثمان وأربعين ومائتين ، فرواية يعقوب بن إسحاق عنه ممكنة ، بخلاف روايته عن المعمري فإنها غير ممكنة.
وقد تكلم في محمد بن حميد الرازي –وهو الذي رويت عنه هذه الحكاية- من غير واحد من الأئمة ، ونسبه بعضهم إلى الكذب.
قال يعقوب بن شيبة السدوسي:محمد بن حميد الرازي كثير المناكير. وقال البخاري:حديثه فيه نظر. وقال النسائي:ليس بثقة. وقال إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني:ردئ المذهب ، غير ثقة.
وقال فضلك الرازي:عندي عن ابن حميد خمسون ألف حديث لا أحدث عنه بحرف.(24/2)
وقال أبو العباس أحمد لمن محمد الأزهري ، سمعت إسحاق بن منصور يقول: أشهد على محمد بن حميد وعبيد بن إسحاق العطار بين يدي الله أنهما كذابان.
وقال صالح بن محمد الحافظ:كان كل ما بلغه من حديث سفيان يحيله على مهران ، وما بلغه من حديث منصور يحيله على عمرو بن قيس ، وما بلغه من حديث الأعمش يحيله على مثل هؤلاء وعلى عنبسة ، ثم قال: كل شيء كان يحدثنا ابن حميد كنا نتهمه فيه.
وقال في موضع آخر:كان أحاديثه تزيد ، وما رأيت أحد أجرأ على الله منه ، وكان يأخذ أحاديث الناس فيقلب بعضها على بعض.
وقال في موضع آخر:ما رأيت أحداً أحذق بالكذب من رجلين ، سليمان الشاذكوني ومحمد بن حميد الرازي ، كان يحفظ حديثه كله ، وكان كل يوم يزيد.
وقال أبو القاسم عبدالله بن محمد بن عبدالكريم الرازي ابن أخي أبي زرعة:سألت أبا زرعة عن محمد بن حميد فأومأ بأصبعه إلى فمه ، فقلت له: كان يكذب؟ فقال برأسه:نعم.قلت له:قد شاخ ، لعله كان يعمل عليه ويدلس عليه؟فقال: لا يا بني ، كان يعتمد.
وقال أبو حاتم الرازي:حضرت محمد بن حميد وحضره عون بن جرير ، فجعل ابن حميد يحدث بحديث عن جرير فيه شعر ، فقال عون:ليس هذا الشعر في الحديث ، إنما هو من كلام أبي.فتغافل ابن حميد فمر فيه.
وقال أبو نعيم عبدالملك بن محمد بن عدي:سمعت أبا حاتم محمد بن إدريس الرازي في منزله وعنده عبدالرحمن بن يوسف بن خراش وجماعة من مشايخ أهل الري وحفاظهم للحديث ، فذكروا ابن حميد ، فأجمعوا على أنه ضعيف في الحديث جداً ، وأنه يحدث بما لم يسمعه وأنه يأخذ أحاديث لأهل البصرة والكوفة فيحدث به الرازيين.
وقال أبو العباس بن سعيد سمعت داود بن يحيى يقول:حدثنا عنه –يعني محمد بن حميد- أبو حاتم قديماً ثم تركه بآخرة ، قال:سمعت عبدالرحمن بن يوسف بن خراش يقول حدثنا ابن حميد ، وكان والله يكذب.(24/3)
وقال أبو حاتم بن حبان البستي في كتاب الضعفاء: محمد بن حميد الرازي كنيته أبو عبدالله:يروي عن ابن المبارك وجرير ، حدثنا عنه شيوخنا مات سنة ثمان وأربعين ومائتين ، كان ممن ينفرد عن الثقات بالأشياء المقلوبات ، ولا سيما إذا حدث عن شيوخ بلده ، سمعت إبراهيم بن عبدالواحد البغدادي يقول:قال صالح بن أحمد بن حنبل: كنت يوماً عن أبي إذ دق عليه الباب ،فخرجت فإذا أبو زرعة ومحمد بن مسلم بن وارة فباس يده فلم ينكر عليه ذلك ، وأما أبو زرعة فصافحه ، فتحدثوا ساعة،قال ابن وارة: يا أبا عبدالله إن رأيت أن تذكر حديث أبي القاسم بن أبي الزناد،فقال: نعم حدثنا أبو القاسم بن أبي الزناد،عن إسحاق بن حازم،عن ابن مقسم يعني عبيدالله،عن جابر بن عبدالله أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن ماء البحر؟فقال: ((الطهور ماؤه،الحل ميتته)) وقام فقالوا:ماله،قلنا شك في شيء ثم خرج والكتاب بيده فقال في كتابه ميته بتاء واحدة والناس يقولون ميتته،ثم تحدثوا ساعة فقال له ابن وارة:يا أبا عبدالله رأيت محمد بن حميد،قال:نعم،قال:كيف رأيت حديثه؟قال:إذا حدث عن العراقيين يأتي بأشياء مستقيمة،وإذا حدث عن أهل بلده مثل إبراهيم المختار وغيره أتى بأشياء لا تعرف لا يدري ما هي.
قال:فقال أبو زرعة وابن وارة:صح عندنا أنه يكذب، قال:فرأيت أبي بعد ذلك إذا ذكر ابن حميد نفض يده.
وقال العقيلي في الضعفاء:حدثني إبراهيم بن يوسف، قال كتب أبو زرعة ومحمد بن مسلم،عن محمد بن حميد،حديثاً كثيراً، ثم تركا الرواية عنه،وقال الحاكم أبو أحمد في كتاب الكنى:أبو عبدالله بن محمد بن حميد الرازي ليس بالقوي عندهم تركه أبو عبدالله بن يحيى الذهلي،وأبو بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة.
فإذا كانت هذه حال محمد بن حميد الرازي عند أئمة هذا الشأن،فكيف يقال في حكايته رواتها منقطعة:إسناد جيد مع أن طريقها إليه من ليس بمعروف.(24/4)
وقد قال المعترض بعد أن ذكر هذه الحكاية ، وتكلم في رواتها:فانظر هذه الحكاية وثقة رواتها وموافقتها ، لما رواه ابن وهب عن مالك.هكذا قال! والذي حمله على ارتكاب هذه السقطة قلة علمه وارتكاب هواه،نسال الله التوفيق.
والذي ينبغي أن يقال:فأنظر هذه الحكاية وضعفها وانقطاعها ونكارتها وجهالة بعض رواتها ونسبة بعضهم إلى الكذب ومخالفتها لما ثبت عن مالك وغيره من العلماء) .
وقريب من هذا نقل الذهبي وحكم عليه بالضعف كما في الميزان ؛ وقال:
"قلتُ:ولم يكن يحفظ القرآن"
وحكم على القصة عبدالله بن عبدالحميد في (أنواع وأحكام التوسل) :
( قصة مكذوبة ، وسندها غريب ومنقطع)
وقال محقق قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة الدكتور ربيع بن هادي:
(لقد بحثت عن رجال هذا الإسناد بدءً من أبي العباس أحمد بن عمر بن دلهات إلى أبي الحسن ابن المنتاب في "ترتيب المدارك" للقاضي عياض ، و"الصلة" لابن بشكوال ؛ فلم أقف لأحد منهم على ترجمة ، فهو إسناد غريب حقاً كما وصفه شيخ الإسلام)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في (قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة) :
( وهذه الحكاية منقطعة ؛ فإن محمد بن حميد الرازي لم يدرك مالكاً لا سيما في زمن أبي جعفر المنصور ؛ فإن أبا جعفر توفي بمكة سنة ثمان وخمسين ومائة ، وتوفي مالك سنة تسع وسبعين ومائة ، وتوفي محمد بن حميد الرازي سنة ثمان وأربعين ومائتين ، ولم يخرج من بلده حين رحل لطلب العلم إلا وهو كبير مع أبيه ، وهو مع هذا ضعيف عند أكثر أهل الحديث ؛ كذبه أبو زرعة وابن وارة ، وقال صالح بن محمد الأسدي: مات رأيت أحد أجرأ على الله منه ، وأحذق بالكذب منه.وقال يعقوب بن شيبة:كثير المناكير.وقال النسائي:ليس بثقة.وقال ابن حبان:يتفرد عن الثقات بالمقلوبات.(24/5)
وآخر من روى "الموطأ" عن مالك هو أبو مصعب ، وتوفي سنة اثنتين وأربعين ومائتين ، وآخر من روى عن مالك على الإطلاق هو أبو حذيفة أحمد بن إسماعيل السهمي توفي سنة تسع وخمسين ومائتين ، وفي الإسناد أيضاً من لا يعرف حاله.
وهذه الحكاية لم يذكرها أحدٌ من أصحاب مالك المعروفين بالأخذ عنه ، ومحمَّد بن حميد ضعيف عند أهل الحديث إذا أسند ، فكيف إذا أرسل حكاية لا تعرف إلا من جهته!!.
هذا إن ثبت عنه ، وأصحاب مالك متفقون على أنه بمثل هذا النقل لا يثبت عن مالك قول له في مسألة في الفقه ؛ بل إذا روى عنه الشاميون كالوليد بن مسلم ، ومروان بن محمد الطاطري ؛ ضعفوا رواية هؤلاء ، وإنما يعتمدون على رواية المدنيين والمصريين ، فكيف بحكاية تناقض مذهبه المعروف عنه من وجوه ، رواها واحد من الخراسانيين لم يدركه، وهو ضعيف عند أهل الحديث!! )
الكلام على متن القصة
ووقد ناقش غرائب هذا المتن المكذوب أهل العلم ، ولعلي أنقل لك مناقشة الرفاعي في (التوصّل) ثم أسوق لك الأدلة الدامغة بعد أن بيان سقوط إسناد هذه القصة المكذوبة من كلام شيخ الإسلام ، وكما قال ابن عبدالهادي رحمه الله: (المعروف عن مالك أنه لا يستقبل القبر عند الدُّعاء) وقد ساق البيان على سقوط القصة سنداً-ونقلناه- ومتناً-فليرجع إليه في الصارم المنكي.
يقول شيخ الإسلام أحمد بن عبدالحليم بن تيمية-رحمه الله- في كتابه (قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة) بعد أن بين فحص الإسناد وحكم بوضعه وبين أن من ينقله وهو ابن حميد كذاب،فيقول:
(مع أن قوله: "وهو وسيلتُكَ ووسيلةُ أبيك آدمَ –عليه السلام-إلى الله تعالى يوم القيامة" إنما يدل على توسل آدم وذريته به يوم القيامة ، وهذا هو التوسل بشفاعته يوم القيامة ، وهذا حقٌّ ، كما جاءت به الأحاديث الصحيحة ..
ولكنها مناقضة لمذهب مالك المعروف من وجوه:(24/6)
أحدهما قوله: "أستقبل القبلة وأدعوا أم استقبل رسول الله وأدعو" فقال: "ولِمَ تصرفُ وجهَكَ عنه ، وهو وسيلتُكَ ووسيلةُ أبيكَ آدم" فإنَّ المعروف عن مالك وغيره من الأئمَّة ، وسائر السلف من الصحابة والتابعين ؛ أنَّ الداعي إذا سلم على النَّبِيِّ –صلى الله عليه وسلم- ثمَّ أراد أن يدعو لنفسه ؛ فإنه يستقبل القبلة ويدعو في مسجده ، ولا يستقبل القبر عند السَّلام على النبي –صلى الله عليه وسلم- والدُّعاء له ، هذا قول أكثر العلماء كمالك في إحدى الروايتين والشافعي وأحمد وغيرهم.
وعند أصحاب أبي حنيفة ، لا يستقبل القبر وقت السلام عليه أيضاً ، ثمَّ منهم من قال: يجعل الحجرة عن يساره-وقد رواه ابن وهب عن مالك- ويسلم عليه.
ومنهم من قال: بل يستدبر الحجرة ، ويسلم عليه ، وهذا هو المشهور عندهم ، ومع هذا فكره مالك أن يطيل القيام عند القبر.
لذلك قال القاضي بن عياض في "المبسوط" عن مالك قال:لا أرى أن يقف عند قبر النَّبِيِّ –صلى الله عليه وسلم- يدعو ، ولكن يسلم ويمضي.
قال:وقال نافع:كان ابن عمر يُسلم على القبر ، رأيته مائة مرة أو أكثر يجيءُ إلى القبر فيقول:السَّلام على النَّبِيِّ –صلى الله عليه وسلم- السَّلام على أبي بكر، الَّلام على أبي، ثم ينصرف … وقال مالك في "المبسوط": ولي يلزم من دخل المسجد وخرج من أهل المدينة الوقوف بالقبر وإنَّما ذلك للغرباء.(24/7)
فهذا قول مالك وأصحابه ، وما نقلوه عن الصَّحابة يبين أنَّهم لم يكونوا يقصدون القبر إلاَّ للسَّلام على النبي –صلى الله عليه وسلم- والدُّعاء له ، وقد كره مالك إطالة القيام لذلك ، وكره أن يفعله أهل المدينة كلما دخلوا المسجد وخرجوا منه ، وإنما يفعل ذلك الغرباء ومن قدم من سفر أو خرج له ، فإن تحية للنَّبِيِّ –صلى الله عليه وسلم- فأمَّا إذا قصد الرجل الدُّعاء لنفسه فإنَّما يدعو في مسجده مستقبل القبلة كما ذكروا ذلك عن أصحاب النبي –صلى الله عليه وسلم- ولم ينقل عن أحدٍ من الصحابة أنَّه فعل ذلك عند القبر ؛ بل ولا أطال الوقوف عند القبر للدُّعاء للنَّبِيِّ –صلى الله عليه وسلم- فكيف بدعائه لنفسه؟
وأما دعاء الرَّسول وطلب الحوائج منه وطلب شفاعته عند قبره أو بعد موته فهذا لم يفعله أحدٌ من السَّلف ، ومعلوم أنَّه لو كان قصدُ الدُّعاء عند القبر مشروعاً لفعله الصَّحابة والتابعون ،وكذلك السؤال به ، فكيف بدعائه وسؤاله بعد موته؟!
فدلَّ ذلك على أنَّ ما في الحكاية المنقطعة من قوله: "استقبله واستشفع به" كذب على مالك ، مخالف لأقواله ، وأقوال الصحابة والتابعين وأفعالهم التي نقلها مالك وأصحابه ، ونقلها سائر العلماء ، كل أحد منهم لم يستقبل القبر للدُّعاء لنفسه فضلاً عن أن يستقبله ويستشفع به،ويقول له:بل رسول الله اشفع لي أو ادع لي ، أو يشكو إليه المصائب في الدِّين والدُّنيا ، أو يطلب منه أو من غيره من الموتى من الأنبياء والصالحين ، أو الملائكة الذين لا يراهم أن يشفعوا له ، أو يشكو إليه المصائب ؛ فإنَّ هذا كله من فعل النصارى وغيرهم من المشركين ، ومن ضاهاهم من مبتدعة هذه الأُمَّة ، ليس هذا من فعل السَّابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسانٍ ،ولا مَّما أمر به أحد من أئمة المسلمين ، وإن كانوا يسلمون عليه إذ كان يسمع السَّلام عليه من القريب ويبلغ سلام البعيد)(24/8)
ويناقش الرفاعي رحمه الله هذا المتن فيقول:
( إن من يتأمل هذه القصة ، يحكم عليها بالوضع والكذب على الإمام مالك بن أنس رضي الله عنه وعلى أمير المؤمنين أبي جعفر المنصور الخليفة العباسي. ) وذكر أسباباً قوية ، ورأيت الاكتفاء بكلام شيخ الإسلام ومن أراد الرجوع لكلام الرفاعي في (التوصّل) فليرجع إليه ..
وهناك مآخذات على المتن نكملها في وقت لاحق ، وإن كان في ما سبق كفاية ، لمن كان باحثاً عن الحق متجرداً له ، أما أهل الإضلال والمطموس على قلوبهم فهم أشبه بكلام الصادق المصدوق ((كالكوز مجخياً)) فأين يعرف للنور بصيص أمل،والله الهادي.
وهذا رابط لوقفة طيبة مع هذه القصة للأستاذ عبدالله زقيل -وفقه الله-
http://www.saaid.net/Doat/Zugail/203.htm
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(24/9)
البراهين
على ألا بدعة حسنة في الدين
والرد على شبه المخالفين
جمع وإعداد/ أبي معاذ السلفي
sasb@ayna.com
المقدمة
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله؛ فلا مضل له، ومن يضلل؛ فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
أما بعد؛ فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم -، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
وبعد:
فإنه لا يخفى على متمسك بالسنة أن من أهم ما دعا إليه الرسول - صلى الله عليه وسلم - بعد التوحيد التمسك بالسنة ومحاربة البدعة، ومن الأدلة على ذلك تحذير الرسول - صلى الله عليه وسلم - من البدع في خطبة الحاجة التي كان يبدأ بها خطبه عليه الصلاة والسلام، وهي التي بدأت بها مقدمتي لهذه الرسالة والحمد لله.
ورغم ذلك كله فإن الناظر في أحوال الأمة الإسلامية يجد أن البدع قد انتشرت فيها وللأسف في مجال العقيدة والعبادات والمعاملات المختلفة، ومن أهم الأسباب التي أدت إلى انتشار تلك البدع اعتقاد الكثير أن البدع تنقسم إلى قسمين!! بدع سيئة وبدع حسنة!!
وقد واجه كثير من أهل العلم -جزاهم الله خيراً- تلك البدع فحذروا منها في خطبهم وكتبهم بل ألفوا كتب خاصة في التحذير من البدع عموماً، ومن بعض البدع خصوصا.
وقد وفقني الله وله الحمد والمنة بجمع بعض الفوائد من بعض تلك الكتب في هذه الرسالة والتي رأيت من المفيد أن أجمعها حتى يسهل مراجعتها، وحرصت قدر الإمكان أن تكون سهلة العبارة، وسميت هذه الرسالة بـ "البراهين على ألا بدعة حسنة في الدين والرد على شبه المخالفين".
وفي ختام هذه المقدمة أسأل الله أن ينفعني بهذه الرسالة؛ ومن يطلع عليها، كما أسأله أن يجعل جميع أعمالي خالصة لوجهه الكريم؛ موافقة لهدي نبينا محمد- صلى الله عليه وسلم -.(25/1)
وصلى الله على نبينا وقدوتنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
ملاحظة: قد عزوت بعض الأحاديث والآثار إلى مصادرها الأساسية بواسطة بعض المراجع، وذلك بسبب عدم توفر تلك المراجع الأصلية عندي أثناء جمع مادة هذه الرسالة، ورأيت أنه من الأمانة العلمية أن أبقيها كما هي.
مدخل
معنى البدعة:
(قال الإمام الطرطوشي- رحمه الله - في "الحوادث والبدع" (ص40):
"اصل هذه الكلمة من الاختراع، وهو الشيء يحدث من غيرِ أصلٍ سبق، ولا مثال احتذي، ولا ألف مثله.
ومنه قوله تعالى: ((بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْض)) [البقرة: 117]، وقوله: ((قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ)) [الأحقاف: 9]؛ أي: لم أكن أول رسول إلى أهل الأرض".
أما تعريف البدعة شرعا فهي:
"طريقة في الدين مخترعة، تضاهي الطريقة الشرعية، يقصد بالسلوك عليها ما يقصد بالطريقة الشرعية".
كذا اختاره الإمام الشاطبي في "الاعتصام" (1/51)، وهو من أجمع تعاريف "البدعة" وأشملها)(1).
وبهذا التعريف خرجت البدع الدنيوية كالسيارات، والطائرات، وأشباه ذلك، وهي التي تقبل التقسيم إلى الأحكام الخمسة "الوجوب - التحريم - الاستحباب - الكراهة- الإباحة" لا البدعة الدينية، وسيأتي زيادة بيان لذلك فيما بعد إن شاء الله.
الفصل الأول:
البراهين على أن كل بدعة ضلالة وليس فيها شيء حسن
إن تقسيم البدع إلى حسنة وقبيحة، تقسيم لا مستند له في الشرع، وكيف يكون له أصل وهو ينافي صريح القرآن وصحيح الأحاديث؟!
وهاك البيان على وجه التفصيل:
(أولاً: إن من أصول الدين الواجب اعتقادها، ولا يصح إيمان المرء دونها، أن الإِسلام دين أتقن الله بناءه وأكمله، فمجال الناس التطبيق والتنفيذ "السمع والطاعة" وهذا أمر أدلته ظاهرة)(1).
(يقول الله تعالى ممتناً على عباده: ((الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً)) [المائدة: 3].(25/2)
فهذه الآية الكريمة تدل على تمامِ الشريعة وكمالها، وكفايتها لكل ما يحتاجه الخلق الذين أنزل الله قوله فيهم: ((وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)) [الذاريات: 56].
يقول الإمام ابن كثير - رحمه الله - في "تفسيره" (2/19):
"هذه أ كبر نعم الله تعالى على هذه الأمة، حيث أ كمل تعالى لهم دينهم، فلا يحتاجون إلى دين غيره، ولا إلى نبي غير نبيهم صلوات الله وسلامه عليِه، ولهذا جعله الله تعالى خاتم الأنبياء، وبعثه إلى الإنس والجن، فلا حلال إلاَ ما أحله، ولا حرام إلا ما حرمه، ولا دين إلا ما شرعه".
فأي إحداث أو ابتداع إنما هو استدراك على الشريعة، وجرأة قبيحة ينادي بها صاحبها أنَّ الشريعة لم تكف، ولم تكتمل!، فاحتاجت إلى إحداثه وابتداعه!!
وهذا ما فهمه تماما أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -والأئمة من بعدهم؛ فقد صح عن ابن مسعود - رضي الله عنه -أنه قال: "اتبعوا ولا تبتدعوا؛ فقد كفيتم، وكل بدعة ضلالة" (1).
وروى البخاري عن حذيفة بن اليمان - رضي الله عنه -انه قال: "يا معشر القراء استقيموا فقد سبقتم سبقا بعيدا، فإن أخذتم يمينا وشمالا لقد ضللتم ضلالا بعيدا".
وخلاصة القول: "إن المستحسِن للبدعِ يلزمه عادة أن يكون الشرع عنده لم يكمل بعد،
فلا يكون لقوله تعالى: ((الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ)) معنى يعتبر به عندهم" (2).
"فإذا كان كذلك؛ فالمبتدع إنما محصول قوله بلسان حاله أو مقاله: إن الشريعة لم تتم، وإنه بقي منها أشياء يجب استدراكها؛ لأنه لو كان معتقدا لكمالها وتمامها من كل وجه؛ لم يبتدع، ولا استدرك عليها، وقائل هذا ضال عن الصراط المستقيم.
قال الإمام الشوكاني في "القول المفيد" (ص38) مناقشاً بعض المبتدعين في شيء من آرائهم: "فإذا كان الله قد أكمل دينه قبل أن يقبض نبيه - صلى الله عليه وسلم - فما هذا الرأي الذي أحدثه أهله بعد أن أكمل الله دينه؟!(25/3)
إن كان من الدين في اعتقادهم؛ فهو لم يكمل عندهم إلا برأيهم (!) وهذا فيه رد للقرآن!
وإن لم يكن من الدين؛ فأي فائدة في الاشتغال بما ليس من الدين ؟!
وهذه حجة قاهرة، ودليل عظيم، لا يمكن لصاحب الرأي أن يدفعه بدافع أبدا، فاجعل هذه الآية الشريفة أول ما تصك به وجوه أهل الرأي،وترغم به آنافهم،وتدحض به حججهم".
إذ " كل ما أحدث بعد نزول هذه الآية؛ فهو فضلة، وزيادة، وبدعة" (1)) (2).
ثانياً: (إنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم -كان لزاما عليه أن يقوم بحق الرسالة، فيبلغ الإسلام غير منقوص قال تعالى: ((وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ)) [النحل: 44] ولقد فعل - صلى الله عليه وسلم - وإلا فما بلغ رسالته - وحاشاه - فما أنتقل إلى جوار ربه راضيا مرضيا إلا والدين كامل لا يحتاج إلى زيادة) (3).
وقد أشار إلى ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -بقوله: (إنه لم يكن نبي قبلي إلاَ كان حقا عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم، وينذرهم شر ما يعلمه لهم) رواه مسلم.
وأخرج الطبراني في "معجمه الكبير"(1647) بسند صحيح عن أبي ذر الغفاري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (ما بقي شيء يقّرب من الجنة ويباعد من النار؛ إلا وقد بين لكم).
وقال أيضاً - صلى الله عليه وسلم -: (قد تركتكم على البيضاء،ليلها كنهارها،لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك) رواه ابن ماجة (4).
وقد صح عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: "من حدثك أن النبي - صلى الله عليه وسلم -كتم شيئاً من الوحي فلا تصدقه، إن الله تعالى يقول: ((يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَه)) [المائدة: 67]" رواه البخاري مسلم.
ولهذا لما قال بعض المشركين لسلمان الفارسي - رضي الله عنه -: "إني أرى صاحبكم يعلمكم كل شيء حتى الخراءة؟(25/4)
قال: أجل، أمرنا أن لا نستقبل القبلة، وأن لا نستنجي بأيماننا، ولا نكتفي بدون ثلاثة أحجار، ليس فيها رجيع ولا عظم" رواه مسلم وأبو داود وابن ماجة.
وقال ابن الماجِشون: سمعت مالكا يقول: "من ابتدع في الإسلام بدعة يراها حسنة؛ فقد زعم أن محمدا - صلى الله عليه وسلم -خان الرسالة؛ لأن الله يقول: ((الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ))فما لم يكن يومئذ دينا؛ فلا يكون اليوم دينا"(1).
ثالثاً: إنَّ التشريع حق لرب العالمين، وليس من حق البشر، (لأن الله الذي وضع الشرائع، ألزم الخلق الجري على سنتها، وصار هو المنفرد بذلك؛ لأنه حكم بين العباد فيما كانوا فيه يختلفون.
ولو كان التشريع من مدركات الخلق لم تتنزل الشرائع، ولم تبعث الرسل، وهذا الذي ابتدع في دين الله قد صير نفسه ندا لله، حيث شرع مع الله، وفتح للاختلاف باباً ورد قصد الله في الانفراد بالتشريع)(1)قال الله عز وجل: ((اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ)) [الأعراف: 3].
وقال تعالى: ((أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ)) [الشورى: 21].
وقال عز وجل: ((وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)) [الأنعام: 153].
قال الإمام مجاهد- رحمه الله - وهو من كبار التابعين في تفسير قول الله تعالى: ((وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ)): "البدع والشبهات"(2).
وقال: (من أحدث في أمرِنا هذا ما ليس منه؛ فهو رد) متفق عليه.
__________
(1) : البدعة وأثرها السيء في الأمة" لسليم الهلالي (ص16) بتصرف يسير.
(2) : أخرجه البيهقي في "المدخل" والدارمي وغيرهما كما في "علم أصول البدع" للحلبي (ص40).(25/5)
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد) رواه مسلم.
(والرسول - صلى الله عليه وسلم -وهو من هو معرفة وحكمة وعلما لم يكن يحكم باستحسانه ويشرع بنفسه؛ قال تعالى: ((إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّه)) [النساء: 105]، وقال الله عز وجل: ((وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ)) [النحل: 44]؛ وقال:
((وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى)) [النجم: 3- 4])(1).
وقال الله تعالى: ((قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي...)) [الأعراف: 203].
وقال تعالى: ((اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ)) [الأنعام: 106].
وقد ذم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -قوما يفعلون أموراً لم يأمرهم بها الله ولم يحثهم عليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -ففي "صحيح مسلم" عن عبدالله بن مسعود - رضي الله عنه -قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (ما من نبي بعثه الله في أمة قبل، إِلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بأمره.ثم إِنها تخلف من بعدهم خلوف، يقولون ما لا يفعلون ويفعلون ما لا يؤمرون. فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن،ومن جاهدهم بِقلبه فهو مؤمن؛ وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل).
(فمن ابتدع عبادة من عنده - كائنا من كان -؛ فهي ضلالة ترد عليه؛ لأن الله وحده هو صاحب الحق في إنشاء العبادات التي يتقرب بها إليه.
لذا؛ فإن صحة الاستدلال بالقواعد العلمية تقتضي أن نقول كما قال العلامة ابن القيم في كتابه العجاب "إعلام الموقعين" (1/344):
__________
(1) : "شيوخ الأزهر والزيادة في الدين" لعبد الله القصيمي (ص24).(25/6)
"ومعلوم أ نه لا حرام إلا ما حرمه الله ورسوله، ولا تأثيم إلا ما أثم الله ورسوله به فاعله، كما أنه لا واجب إلا ما أوجبه الله، ولا حرام إلا ما حرمه الله، ولا دين إلا ما شرعه الله، فالأصل في العبادات البطلان حتى يقوم دليل على الأمرِ، والأصل في العقود والمعاملات الصحة (1)حتى يقوم دليل على النهي".
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - في "مجموع الفتاوى " (31/35):
"باب العبادات والديانات و التقربات متلقاة عن الله ورسوله، فليس لأحد أن يجعل شيئاً عبادة أو قربة؛ إلا بدليل شرعي".
وقال الإمام ابن كثير - رحمه الله - في "تفسيره" (4/401) مناقشاً مسألة إهداء ثواب
القراءة للموتى، حيث جزم بعدم وصولها،معللاً سبب المنع: "إنه ليس من عملهم، ولا كسبهم،
ولهذا لم يندب إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -أمته، ولا حثهم عليه، ولا أرشدهم إليه بنص ولا إيماء،
ولم ينقل ذلك عن أحد من الصحابة رضي الله عنهم، ولو كان خيراً؛ لسبقونا إليه.
وباب القربات يقتصر فيه على النصوص، ولا يتصرف فيه بأنواع الأقيسة والآراء" وعلى هذا جرى السلَف الصالح رضي الله عنهم من الصحابة والتابعين)(1):
(فعن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -قال: "لو كان الدين بالرأي، لكان أسفل الخفأولى بالمسح من أعلاه وقد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -يمسح على ظاهر خفيه"رواه أبو داود(2).
وقال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - لما قبل الحجر الأسود: "إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقبلك؛ ما قبلتك" رواه البخاري ومسلم.
وقالت امرأة لعائشة رضي الله عنها: أتقضي إحدانا صلاتها إذا طهرت؟
__________
(1) : "علم أصول البدع" لعلي الحلبي (ص70-73) بتصرف.
(2) : وصححه ابن حجر في "التلخيص الحبير" (1/160) والألباني في "صحيح أبي داود" (1/53).(25/7)
فقالت رضي الله عنها: "أحرورية أنت؟ كنا نحيض في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -فلا يأمرنا به، أو قالت: فلا نفعله" رواه البخاري ومسلم.
وروى الترمذي ( 2738)، والحاكم (4/265-266) وغيرهما بسند حسن عن نافع أن رجلا عطس إلى جنب ابن عمر رضي الله عنهما، فقال: الحمد لله، والسلام على رسوله! قال ابن عمر: "وأنا أقول: الحمد لله والسلام على رسول الله وليس هكذا علمنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علمنا أن نقول: الحمد لله على كل حال" .
فهذه أحاديث نبوية وآثار سلفية من صحابة كرام، تبين المنهج الصحيح في تلَقي الشرع،
وأنه لا مجال لتحسين العقل فيه، أو لتزيين الرأي به، وأن مورد ذلك كله النصوص الشرعية.
ولهذا قال الإمام الشافعي رحمه الله في كلمته المشهورة التي نقلها عنه أئمة مذهبه وعلماؤه كالغزالي في "المنخول" (ص374)، والمحلي في "جمع الجوامع-2/395 بحاشيته": "من استحسن فقد شرع ") (1).
رابعاً: إنَّ الابتداع (اتباع للهوى لأن العقل إذا لم يكن متبعا للشرع لم يبق له إلا الهوى والشهوة؛ وأنت تعلم ما في أتباع الهوى وأنه ضلال مبين.
ألا ترى قول الله تعالى: ((يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ)) [ص: 26].
فحصر الحكم في أمرين لا ثالث لهما عنده، وهو الحق والهوى، وعزل العقل مجرداً إذ لا يمكن في العادة إلا ذلك.(25/8)
وقال: ((وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ)) [الكهف: 28] فجعل الأمر محصوراً بين أمرين، اتباع الذكر؛ واتباع الهوى، وقال: ((وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّه)) [القصص: 50])(1).
وقال الله عز وجل: ((ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ)) [الجاثية: 18].
وعن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -قال: "خطَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -لنا خطا، ثم قال: (هذا سبيل الله)، ثم خطَّ خطوطا عن يمينه وعن شماله وقال: (هذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إِليه) وقرأ: ((وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ))" رواه احمد والحاكم(2).
وقال عبدالله بن مسعود - رضي الله عنه -: "إنا نقتدي ولا نبتدي، ونتبع ولا نبتدع، ولن نضل ما تمسكنا بالأمر" أخرجه اللالكائي في "شرح أصول اعتقاد أهل السنة" (1/96).
خامساً: إنَّ الإخلاص لا يكفي في العمل حتى يكون متقبلاً لأن (دين الإسلام مبني على أصلين: أن نعبد الله وحده لا شريك له، وأن نعبده بما شرعه من الدين، وهو ما أمرت به الرسل)(3).
فشروط العمل الصالح المتقبل هي: أولاً: الإخلاص.
وثانياً: متابعة الرسول - صلى الله عليه وسلم -.
__________
(1) : "مختصر كتاب الإعتصام" للشاطبي؛ اختصره علوي السقاف (18- 19).
(2) : وحسن إسناده الألباني في "ظلال الجنة " (1/13) وذكر ان الحاكم قال عنه: "صحيح الإسناد "ووافقه الذهبي.
(3) : "مجموع الفتاوى" لشيخ الإسلام ابن تيمية (1/189).(25/9)
قال الفضيل بن عياض - رحمه الله -: "إن العمل إذا كان خالصاً ولم يكن صواباً؛ لم يُقبل، وإذا كان صواباً ولم يكن خالصاً لم يُقبل والخالص إذا كان لله عز وجل والصواب إذا كان على السنة"(1).
وقال الإمام ابن كثير- رحمه الله - في "تفسيره"(1/572) عند تفسير قوله تعالى: ((وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ)) [النساء: 125]: (((وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ)) أي أخلص العمل لربه عز وجل فعمل إيماناً واحتساباً ((وَهُوَ مُحْسِنٌ)) أي اتبع في عمله ما شرعه الله له وما أرسل به رسوله من الهدى ودين الحق، وهذان الشرطان لا يصح عمل عامل بدونهما أي يكون خالصاً صواباً والخالص أن يكون لله، والصواب أن يكون متابعاً للشريعة فيصح ظاهره بالمتابعة، وباطنه بالإخلاص فمتى فقد العمل أحد هذين الشرطين فسد... الخ).
والأدلة على هذين الشرطين كثيرة: فمن أدلة وجوب إخلاص العبادة لله قوله تعالى:
((وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ)) [البينة: 5].
وجاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -فقال: أرأيت رجلاً غزا يلتمس الأجر والذكر؛ ما له؟.
فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لا شيء له) فأعادها ثلاث مرات، يقول له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
(لا شيء له)ثم قال: (إن الله لا يقبل من العمل؛ إلا ما كان له خالصاً،وابتغي به وجهه) رواه النسائي (1).
ومن أدلة وجوب متابعة الرسول - صلى الله عليه وسلم -: قوله تعالى: ((قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)) [آل عمران: 31].
وقال تعالى: ((وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ)) [الأعراف: 158].
__________
(1) : رواه ابونعيم في "الحلية "(8/95) نقلاً من "علم أصول البدع" لعلي الحلبي (ص61).(25/10)
وروى البخاري ومسلم عن انس - رضي الله عنه -انه قال: جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - يسألون عن عبادة النبي - صلى الله عليه وسلم -فلما أخبروا بها، كأنهم تقالوها، فقالوا: وأين نحن من النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، قال أحدهم: أما أنا؛ فأنا أصلي الليل أبداً، وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبداً، فجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -فقال: (أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟! أما والله؛ إني لأخشاكم لله، وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي؛ فليس مني).
وقد صح عن معاوية - رضي الله عنه -أنه كان يستلم أركان الكعبة الأربعة، فقال له ابن عباس - رضي الله عنه -"إنه لا يستلم هذان الركنان"، فقال معاوية: "ليس شيءٌ من البيت مهجوراً" رواه البخاري ومسلم والترمذي وأحمد.
وزاد أحمد: فقال ابن عباس رضي الله عنهما: ((لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ)) فقال معاوية - رضي الله عنه -: "صدقت".
(ولا أدل على ذلك من قصة عبدالله بن مسعود - رضي الله عنه -لما جاء إلى أولئك القوم المتحلقين في المسجد، ومعهم حصى، يعدون بها التكبير والتهليل والتسبيح، فقال لهم - رضي الله عنه -: "فعدوا سيئاتكم، فأنا ضامنٌ أن لا يضيع من حسناتكم شيءٌ، ويحكم يا أمة محمدٍ! ما أسرع هلكتكم! هؤلاء صحابة نبيكم - صلى الله عليه وسلم -متوافرونَ، وهذه ثيابه لم تبل، وآنيته لم تكسر، والذي نفسي بيده، إنكم لعلى ملةٍ أهدى مِن ملةٍ محمدٍ أو مفتتحو باب ضلالةٍ".
قالوا: والله يا أبا عبد الرحمن؛ ما أردنا إلا الخير.
قال: " وكم من مريدٍ للخيرِ لن يصيبه" رواه الدارمي في "سننه" (1/68-69) وأبو نعيم
وغيرهما، وسنده صحيح.(25/11)
قلت: فهذه قصة جليلة، ترى فيها بجلاء كيف كان علماء الصحابة رضي الله تعالى عنهم يتعاملون مع العبادات بوسائلها ومقاصدها ونيات أصحابها، وبيان ذلك فيما يلي:
أ - قوم يذكرون الله تعالى، تكبيراً، وتهليلاً، وتسبيحاً.
ب - استعملوا في ذكرهم حصى كـ (وسيلة) لعد هذا التكبير والتسبيح.
ج - نياتهم في عملهم هذا حسنة، يريدون به، عبادة الله، وذكره، وتعظيمه.
د - ومع ذلك؛ أنكر عليهم ابن مسعود هذا العمل ضمن هذه الوسيلة؛ لأنه لم يعهد عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ رغم وجود المقتضي له في عصره.
هـ - رتب على عملهم المحدث هذا الإثم لمخالفتهم السنة، ومواقعتهم البدعة.
و - لم يجعل - - رضي الله عنه -- حسن نياتهم سبيلاً للتغاضي عن عملهم، أو دليلاً على صحة فعلهم، إذ النية الحسنة لا تجعل البدعة سنة، ولا القبيح حسناً، بل لا بد أن يكون مع النية الحسنة والإخلاص: موافقة للسنة، ومتابعة للسلف) (1).
وعن سعيد ابن المسيب - رحمه الله -: أنه رأى رجلاً يصلي بعد طلوع الفجر أكثرَ من ركعتين، يكثر فيهما الركوع والسجود، فنهاه! فقال: يا أبا محمد يعذبني الله على الصلاة؟
قال: "لا ولكن يعذبك على خلاف السنة" (2).
قال الألباني- رحمه الله- في"الإرواء"(2/236): "وهذا من بدائع أجوبة سعيد بن المسيب رحمه الله تعالى، وهو سلاح قوي على المبتدعة الذين يستحسنون كثيراً من البدعِ باسم أنها ذكر وصلاة، ثم ينكرون على أهل السنة إنكار ذلك عليهم، ويتهمونهم بأنهم ينكرون الذكر والصلاة!! وهم في الحقيقة إنما ينكرون خلافهم للسنة في الذكر والصلاة ونحو ذلك" اهـ.
وقال (1) رجل للإمام مالك: يا أبا عبدالله من أين أحرم؟
قال: من ذي الحلَيفة، من حيث أحرم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
فقال: إني أريد أن أحرم من المسجد من عند القبر.
قال: لا تفعل؛ فإني أخشى عليك الفتنة.
فقال: وأي فتنة في هذه ؟! إنما هي أميال أزيدها!!(25/12)
قال: وأي فتنةٍ أعظم من أن ترى أنك سبقت إلى فضيلةٍ قصر عنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟
قال تعالى: ((فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ))
[النور: 63].
فهذه الأدلة تدل على أن إخلاص أولئك في نيتهم لم يمنع الرسول - صلى الله عليه وسلم -ولا الصحابة
ولا التابعين ومن تبعهم من الإنكار عليهم بسبب عدم متابعتهم في أعمالهم تلك للرسول - صلى الله عليه وسلم -.
سادساً: إن الأدلة الصحيحة جاءت بذم البدع مطلقاً، ولم تقسم البدع إلى بدع حسنة مستحبة و إلى بدع سيئة مكروهة:
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمدٍ، وشر الأمور محدَثاتها، وكل محدَثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة؛ "وكل ضلالةٍ في النار") أخرجه مسلم في صحيحه والنسائي والزيادة له.
وقال - صلى الله عليه وسلم -: (فإن من يعش منكم؛ فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء
الراشدين المهديين، عضوا عليها بالنواجذ،وإياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة)أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي وغيرهم (1).
وقال - صلى الله عليه وسلم -: (من أحدث في أمرِنا هذا ما ليس منه؛ فهو رد)متفق عليه.
وقال - صلى الله عليه وسلم -: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) رواه مسلم.
(فهذه الأحاديث لم تفرق في الحكم بين بدعةٍ وبين بدعةٍ أخرى، فالنكرة إذا أضيفت؛ أفادت العموم، والعموم لا يخص إلا باستثناء، و أين الاستثناء هنا؟! - وما قد يظنه البعض دليل على الاستثناء سيأتي الجواب عنه فيما بعد إن شاء الله - وهذا ما فهمه السلف الصالح رضي الله عنهم أجمعين: فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: " كل بدعةٍ ضلالة وإن رآها الناس حسنة "(2).(25/13)
وقال عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -: "أيها الناس! إنكم ستحدثون ويحدث لكم، فإذا رأيتم محدثة؛ فعليكم بالأمرِ الأول"(1).
فكلاهما أخذ معنى (البدعة) على عمومه، دون تفريق بين ما يسمى بدعة حسنة أو بدعة سيئة! وهو الذي لا ينبغي سواه)(2).
(وقد ثبت في الأصول العلمية أن كل قاعدة كلية أو دليل شرعي كلي؛ إذا تكررت في مواضع كثيرة وأوقات متفرقة وأحوال مختلفة، ولم يقترن بها تقييد ولا تخصيص فذلك دليل على بقائها على مقتضى لفظها العام المطلق.
وأحاديث ذم البدع والتحذير منها من هذا القبيل، فقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يردد من فوق المنبر على ملأ من المسلمين في أوقات كثيرة وأحوال مختلفة أن (كل بدعةٍ ضلالة) ولم يأت في آية ولا حديث تقييد ولا تخصيص ولا ما يفهم منه خلاف ظاهر الكلية من العموم فيها، فدل ذلك دلالة واضحة على أنها على عمومها وإطلاقها.
وقد اجمع السلف الصالح على ذمها وتقبيحها والهروب عنها وعمن اتسم بشيء منها، ولم يقع منهم في ذلك توقف ولا استثناء، فهو - بحسب الاستقراء - إجماع ثابت يدل دلالة واضحة على أن البدع كلها سيئة ليس فيها شيء حسن)(3).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - في"مجموع الفتاوى" (10/370): (إن المحافظة على عموم قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (كل بدعةٍ ضلالة) متعين وأنه يجب العمل بعمومه).
__________
(1) : أخرجه الدارمي في "سننه"(1/61)،واللالكائي في "شرح أصول الاعتقاد"(1/77)، وصححه ابن حجر في "الفتح" (13/253) كما في "علم أصول البدع"(ص226).
(2) : "علم أصول البدع" (ص91-92) بتصرف.
(3) : "اللمع في الرد على محسني البدع " لعبدالقيوم السحيباني (49-51) بتصرف يسير وأصل الكلام للإمام الشاطبي في "الاعتصام " (1/187-188).(25/14)
سابعاً: (إن معرفة البدعة المدعى حسنها متعذرة، لأن الأمر قد يكون ظاهره طاعة وهو معصية وقد يكون الأمر بالعكس وقد يحسن كثير من العقول بمجر دها أن تصلي الظهر خمساً عند النشاط والرغبة في مناجاة الله ويحسن أن تصلي ركعة عند التعب والإعياء وتراكم الأشغال وهكذا يقال في سائر الفروض.
فيقال لمحسني البدع أنتم في حاجة شديدة أن تميزوا البدعة الحسنة من القبيحة، ونحن على اتفاق أنه ليس كل ما ظاهره طاعة يكون في الواقع طاعة، ولا كل ما ظاهره معصية يكون في الواقع معصية، وغاية الأمر أن يكون هذا المحدث المبتدع دائراً بين أن يكون حسنا مثابا عليه، وأن يكون قبيحاً معاقباً عليه، وإذا كان كذلك فلا يجوز أن تدعوا أنه من القسم الأول إلا بدليل خارج، والدليل إذا كان من الكتاب؛ أو السنة الصحيحة؛ أو الإجماع؛ فما هو من البدعة، فظهر أن القول بالبدعة الحسنة باطل لتعذر معرفتها.
وسر البرهان أننا نقول لمن أشار إلى عمل محدث وقال هذه بدعة حسنة: من أين عرفت أنها حسنة ولعلها قبيحة؟
وكم نشاهد من الأعمال ما نظنه حسناً وهو قبيح، فمثلاً ما يدريك لولا ما جاء في "صحيح مسلم"عن عقبة بن عامر - رضي الله عنه -أنه قال: (ثلاث ساعاتٍ كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينهانا أن نصلي فيهن، أو أن نقبر فيهن موتانا؛ حين تطلع الشمس بازغة حتى ترتفع، وحين يقوم قائم الظهيرة حتى تميل الشمس، وحين تضيف الشمس للغروب حتى تغرب) أن الصلاة بعد صلاة الفجر وقبل غروب الشمس وفي وقت الظهيرة غير جائزة؟
وما يدريك لولا ما جاء في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: "أول ما فرضت الصلاة ركعتين، فأقرت صلاة السفر و أتمت صلاة الحضر" أن إتمام الصلاة في السفر غير جائز، وأن الفاعل لذلك معذب؟
وقد قال بتعذيبه كثير من العلماء.(25/15)
وما يدريك لولا قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -بعد أن توضأ ثلاثاً ثلاثاً: (هكذا الوضوء، فمن زاد علَى هذا فقد أساء وظلم) (1) أن الزيادة في الوضوء كأن يغسل المتوضئ خمساً لا تجوز، وما يدريك لولا ما جاء في صحيح مسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -قال: (ألا وإني نهيت أن أقرأ القرآن راكعا أو ساجدا) أن قراءة القرآن في الركوع والسجود غير جائزة بل مكروهة؛ والإمام أبو حنيفة قائل بذلك؟ وكثير في الشريعة ما نظنه طاعة يثاب عليه وهو معصية يعاقب عليه وكذلك العكس)(2).
قال عبدالله القصيمي في كتابه "شيوخ الأزهر والزيادة في الدين" (20- 21):
(خاطبت يوما شيخاً من شيوخ الأزهر الذين يقولون: إن في الدين بدعة حسنة؛ قلت له:
ما الفاصل بين البدعة الحسنة والبدعة القبيحة الذي يعتمد عليه المسلم فيأخذ الحسن ويترك القبيح؟
فامتقع لونه وقال (وليته ما قال): البدعة الحسنة هي الجائزة ديناً، والقبيحة هي الممنوعة ديناً!
قلت له: ما صنعت شيئاً، بأي شيء نعرف الجائزة والممنوعة؟ وهو سؤالي.
فامتقع أكثر وقال: الجائزة هي الحسنة، والممنوعة هي السيئة!!
قلت له: هذا هو الدور الممنوع لدى المعممين كافة، إذ لا نعرف الحسن إلا بكونه حلالاً، ولا الحلال إلا بكونه حسناً، ولا القبيح إلا بكونه حراماً، ولا الحرام إلا بكونه قبيحاً.
ثم نشط عقله من عقاله وقال: البدعة الحسنة التي لا ضرر فيها، والقبيحة هي ذات الضرر.
قلت له: ما تقصد بالضرر؟
أتقصد ضرر الدنيا أم ضرر الدنيا والأخرى، أم ضرر الأخرى فحسب؟
إن قصدت الأول: فأي ضرر في أن نصلي الظهر خمساً والمغرب أربعاً والفجر ستاً وأن نجعل السجود في الصلاة قبل الركوع، والركوع قبل القيام، والقيام قبل الجلوس، والتشهد قبل الاستفتاح، وأن نصوم شعبان بدل رمضان إذا خفنا أن لا يدركنا رمضان أو يشغلنا شاغل، وأن نصوم في الليل؟(25/16)
هل في واحدة من هؤلاء ضرر دنيوي تراه؟ لا ضرر سوى مخالفة الشرع.
وإن قصدت الثاني والثالث فما العلامة أن هذه الحادثة فيها ضرر علينا في الدار الآخرة وعقاب لفاعليها؟ هذا وأنت من الذين ينفون التقبيح والتحسين العقليين، فانتهى هنا.
والنهاية أن من لم يأخذ بظواهر هذه الأخبار تحير وقال أقوالاً باطلة) اهـ.
والدليل على هذا أن كثيراً من الذين قالوا بالبدع الحسنة قد أنكروا أعمالا في ظاهرها الحسن، بل إنك لتجد أحد العلماء يقول في بدعة ما أنها حسنة تجد عالماً آخر وهو ممن يقول بالبدع الحسنة ينكرها أشد الإنكار وإليك بعض الأمثلة على ذلك:
1- العز بن عبد السلام وهو من أشهر من قال بتقسيم البدع إلى بدع حسنة وبدع سيئة يقول في كتابه "الفتاوى" (ص392): (ولا يستحب رفع اليد في القنوت كما لا ترفع في دعاء الفاتحة، ولا في الدعاء بين السجدتين، ولم يصح في ذلك حديث، وكذلك لا ترفع اليدان في دعاء التشهد؛ ولا يستحب رفع اليدين في الدعاء إلا في المواطن التي رفع فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -يديه، ولا يمسح وجهه بيديه عقيب الدعاء إلا جاهل، ولم تصح الصلاة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -في القنوت، ولا ينبغي أن يزاد على صلاة رسول الله في القنوت بشيء ولا ينقص) اهـ.
وقال في"الترغيب عن صلاة الرغائب الموضوعة"(ص7- 8): (فإن الشريعة لم ترِد بالتقرب إلى الله تعالى بسجدةٍ منفردةٍ لا سبب لها، فإن القرب لها أسباب، وشرائط، وأوقات، وأركان، لا تصح بدونها.
فكما لا يتقرب إلى الله تعالى بالوقوف بعرفة ومزدلفة ورمي الجمار، والسعي بين الصفا والمروة من غير نسكٍ واقعٍ في وقته بأسبابه وشرائطه؛فكذلك لا يتقرب إليه بسجدةٍ منفردةٍ، وإن كانت قربةً، إذا لم يكن لها سبب صحيح.
وكذلك لا يتقرب إلى الله عز وجل بالصلاة والصيام في كل وقتٍ وأوانٍ، وربما تقرب الجاهلون إلى الله تعالى بما هو مبعد عنه، من حيث لا يشعرون) اهـ.(25/17)
وهذا الكلام صدر من العز بن عبد السلام - رحمه الله - أثناء إنكاره لصلاة الرغائب المبتدعة؛ وقد أنكر هذه الصلاة بالإضافة إلى العز بن عبد السلام كثير من العلماء القائلين بالبدعة الحسنة مثل الإمام النووي في "فتاوى الإمام النووي" (ص57) وعبد الله الغماري في "حسن البيان في ليلة النصف من شعبان"؛ مع العلم أن بعض العلماء قال باستحبابها مثل ابن الصلاح وأبو حامد الغزالي في "الإحياء" وأبو طالب المكي في "قوت القلوب" وعدوها من البدع الحسنة.
وقال أيضاً العز بن عبد السلام كما في "فتاوى العز بن عبد السلام" (ص289): (ومن فعل طاعة لله تعالى، ثم أهدى ثوابها إلى حي؛ أو ميت لم ينتقل ثوابها إليه إذ ((وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى)) [النجم: 39] فإن شرع في الطاعة ناوياً أن يقع عن ميت لم يقع عنه إلا فيما استثناه الشرع كالصدقة: والصوم، والحج) انتهى كلامه، ومعروف أن كثيراً من العلماء قالوا بجواز إهداء كثير من الطاعات للأموات وإن لم يرد دليل على ذلك وإنما قياساً على ما ورد!.
وقال أيضاً في (ص197- 199): (أما مسألة الدعاء فقد جاء في بعض الأحاديث أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -عَلم بعض الناس الدعاء فقال في أوله: (قل اللهم إني أقسم عليك بنبيك محمد - صلى الله عليه وسلم -نبي الرحمة)وهذا الحديث إن صح فينبغي أن يكون مقصوراً على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لأنه سيد ولد آدم، وأن لا يقسم على الله تعالى بغيره من الأنبياء والملائكة والأولياء لأنهم ليسوا في درجته، وأن يكون هذا مما خُص به تنبيهاً على علو درجته ومرتبته) انتهى كلامه رحمه الله وكثير ممن قلده في تقسيم البدع تجده يخالفه في هذه المسألة! فيقول بجواز الإقسام على الله بغير النبي - صلى الله عليه وسلم -مع العلم أن الراجح عدم جواز ذلك مطلقاً(1).(25/18)
2- الإمام أبو شامة - رحمه الله - أنكر في "الباعث على إنكار البدع والحوادث" كثيراً من بدع الجنائز مثل قول القائل أثناء حمل الجنازة: استغفروا له غفر الله لكم، كما أنكر أن يكون للجمعة سنة قبلية (ص258- 304)، وأنكر كذلك صلاة الرغائب (ص138- 196)، وأنكر كذلك صلاة ليلة النصف من شعبان (ص134- 138)، ومع كل ذلك قال (ص95) بأن الاحتفال بالمولد النبوي يعتبر بدعة حسنة!!.
3- وأما الإمام النووي - رحمه الله - وهو من القائلين بتقسيم البدع، فقد قال في"المجموع" (8/102): (قال الشيخ أبو محمد الجويني: رأيت الناس إذا فرغوا من السعي؛ صلوا ركعتين على المروة.
قال: وذلك حسن، وزيادة طاعة، ولكن لم يثبت ذلك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
هذا كلام أبي محمد!!
وقال أبو عمرو بن الصلاح: ينبغي أن يكره ذلك؛ لأنه ابتداء شعار، وقد قال الشافعي - رحمه الله -: ليس في السعي صلاة.
- ثم قال النووي - وهذا الذي قاله أبو عمرو أظهر، والله أعلم) اهـ.
وقال أيضاً في "الأذكار" (ص136): (قال الشافعي وأصحابنا رحمهم الله يكرهون الجلوس للتعزية؛ قالوا: يعني بالجلوس لها: أن يجتمع أهل الميت في بيتٍ ليقصدهم من أراد التعزية،
بل ينبغي أن ينصرفوا في حوائجهم،ولا فرق بين الرجال والنساء في كراهة الجلوس لها..الخ).
4 - وأما السيوطي- رحمه الله - فقد أنكر في كتابه "الأمر بالاتباع والنهي عن الابتداع" الصلاة في المساجد المبنية على القبور!وكذلك إيقاد السرج على القبور والمزارات (ص134) وأنكر صلاة الرغائب (ص166) وأنكر الاجتماع للعزاء (ص288) وأنكر التلفظ بالنية قبل الصلاة (ص295) وغير ذلك من البدع مع أنه قرر في كتابه هذا بأن البدع تنقسم إلى بدع حسنة وبدع سيئة!.(25/19)
5 - محمد متولي الشعراوي المفسر المصري أنكر رفع الصوت بالصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد الأذان كما يفعله كثير من المؤذنين في كثير من البلاد الإسلامية فقد وجه إليه سؤال كما في "الفتاوى" (ص487): (جرت العادة في معظم المساجد أن يؤذن المؤذن وعقب الانتهاء من الآذان يقول: الصلاة والسلام عليك يا سيدي يا رسول الله جهراً، فهل الصلاة على الرسول - صلى الله عليه وسلم - جهراً عقب الآذان هي من صلب الآذان أم أن هذه زيادة عما ورد نرجو الإفادة؟
ج: هذا حب لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ لكن أنت تحبه بمشقة، هو قال: (إذا سمعتم المؤذن وانتهى من اذانه فقولوا مثل ما يقول ثم صلوا علي)، وللمؤذن وللذي سمع نصلي عليه في سرنا، لكن المؤذن ليس له أن يوجد شيئاً بصوت الأذان الأذان الأصيل وبلهجة الأذان الأصلية؛ حتى لا يفهم الناس أن ذلك من صلب الأذان) انتهى كلامه، وفي المقابل نجده يقول بجواز الاحتفال بالمولد النبوي (ص544-545)!.
6 - أما حسنين محمد مخلوف مفتي الديار المصرية سابقاً فيقول بمشروعية رفع الصوت بالصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم -من قبل المؤذنين بعد الأذان في كتابه "فتاوى شرعية وبحوث إسلامية" (ص265-267)؛ مع أنه قال في (ص290) جواباً على سؤال: هل في الشريعة الغراء صلاة تسمى صلاة الشكر؟: (لم يرد في الكتاب ولا في السنة نص يفيد مشروعية هذه الصلاة لا فرادى ولا جماعة. وأمر العبادات يقتصر فيه على ما ورد عن الشارع، ولا سبيل فيه إلى القياس، ولا مجال فيه للرأي، وإنما الذي أثر عن النبي - صلى الله عليه وسلم -السجود لله تعالى شكرا إذا أتاه ما يسره أو بُشر به.. الخ).
فظهر بهذه النقول أنه لا يوجد ضابط معين يميز بين البدعة الحسنة - المزعومة - والبدعة السيئة؛ حتى عند القائلين بهذا التقسيم، ولا يسلم الشخص من الوقوع في هذا الاضطراب إلا بمتابعة السنة وترك الابتداع في الدين.(25/20)
ثامناً: (يستدل كثير من الناس بالنصوص العامة لتسويغ بدعهم، والتدليل على واقعهم!
وهذا خطأ كبير، يناقض قاعدة مهمةً في علم الأصول، سيأتي تقريرها - بعد -.
فمثلاً: لو أن عدداً من الناس قَدِموا مسجداً للصلاة فيه، فما أن دخلوا؛ حتى اقترح أحدهم عليهم أن يصلوا تحية المسجد جماعة!! فجابهه بعض أصحابه بالإنكار و الرد!! فاستدل عليهم المقترِح بحديث (صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده وصلاته مع الرجلين أزكى من صلاته مع الرجل) (1)!! فافترقوا رأيين!! بعضهم وافق على هذا الاستدلال، والبعض الآخر خالف؛ لأن هذا الدليل إنما مورده في غير هذا المقام!
فما هو القول الفصل؟
قال الإمام ابن تيمية في "مقدمة في أصول التفسير" (ص8-9): (يجب أن يعلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم -بين لأصحابه معاني القرآن كما بين لهم ألفاظه، فقوله تعالى: ((وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ)) [النحل: 44] يتناول هذا وهذا، وقد قال أبو عبد الرحمن السلمي حدثنا الذين كانوا يقرئوننا القرآن - كعثمان بن عفان وعبد الله بن مسعود وغيرهما - أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي - صلى الله عليه وسلم -عشر آيات لم يجاوزوها حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل، قالوا: فتعلمنا القرآن و العلم جميعاً.
ولهذا كانوا يبقون مدة في حفظ السورة.
وقال أنس: كان الرجل إذا قرأ البقرة وآل عمران جلَّ في أعيننا. وأقام ابن عمر على حفظ البقرة عدة سنين - قيل ثمان سنين - ذكره مالك.
وذلك أن الله تعالى قال: ((كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ)) [ص:29].
وقال: ((أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ)) [النساء: 82] وقال: ((أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْل)) [المؤمنون: 68].
وتدبر الكلام بدون فهم معانيه لا يمكن.(25/21)
وكذلك قال تعالى: ((إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ)) [يوسف: 2]، وعقل الكلام متضمن لفهمه ومن المعلوم أن كل كلام فالمقصود منه فهم معانيه دون مجرد ألفاظه، فالقرآن أولى بذلك.
وأيضاً فالعادة تمنع أن يقرأ قوم كتاباً في فن من العلم كالطب والحساب ولا يستشرحوه فكيف بكلام الله الذي هو عصمتهم وبه نجاتهم وسعادتهم وقيام دينهم ودنياهم؟) اهـ.
وقال الإمام الشاطبي في "الموافقات" (3/72) رداً على من يستدل بالأدلة العامة على خلاف فهم السلف والدعاء إلى العمل به على غير الوجه الذي مضوا عليه في العمل به ما ملخصه: "لو كان دليلاً عليه؛ لم يعزب عن فهم الصحابة والتابعين ثم يفهمه هؤلاء، فعمل الأولين كيف كان مصادم لمقتضى هذا المفهوم ومعارِض له، ولو كان ترك العمل.
فما عمل به المتأخرون من هذا القسم مخالف لإجماعِ الأولين، وكل من خالف الإجماع؛ فهو مخطئ، وأمة محمد - صلى الله عليه وسلم - لا تجتمع على ضلالةٍ، فما كانوا عليه من فعلٍ أو تركٍ؛ فهو السنة والأمر المعتبر، وهو الهدى، وليس ثم إلاَ صواب أو خطأ فكل من خالف السلف الأولين؛ فهو على خطأ، وهذا كافٍ …
ومن هنالك لم يسمع أهل السنة دعوى الرافضة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم -نص على علي أنه الخليفة بعده؛ لأن عمل كافة الصحابة على خلافه دليل على بطلانه أو عدمِ اعتباره؛ لأن الصحابة لا تجتمع على خطأ.
وكثيراً ما تجد أهل البدعِ والضلالة يستدلون بالكتاب والسنة؛ يحملونهما مذاهبهم، ويغبرون بمشتبهاتهما على العامة، ويظَنون أنهم على شيء".
ثم قال (3/77): "فلهذا كله؛ يجب على كل ناظر في الدليل الشرعي مراعاة ما فهم منه الأولون، وما كانوا عليه في العمل به؛ فهو أحرى بالصواب، وأقوم في العلم والعمل".(25/22)
وقال الإمام الحافظ ابن عبد الهادي - رحمه الله - في "الصارم المنكي في الرد على السبكي" (ص318): (ولا يجوز إحداث تأويل في آيةٍ أو سنةٍ لم يكن على عهد السلف ولا عرفوه ولا بينوه للأمة؛ فإن هذا يتضمن أنهم جهِلوا الحق في هذا، وضلوا عنه، واهتدى إليه هذا المعترض المستأخر) اهـ.
وقال الإمام ابن القيم - رحمه الله - في "الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة" (2/128 مختصره): "إن إحداث القول في تفسير كتاب الله الذي كان السلف والأئمة على خلافه يستلزم أحد أمرين: إما أن يكون خطأ في نفسه، أو تكون أقوال السلف المخالفة له خطأ ولا يشك عاقل أنه أولى بالغلط والخطأ من قول السلَف ".
إلا عند ساقطٍ رقيعٍ يقول في مثل هذا المقام: "نحن رجال وهم رجال"!!
فمثل هذا المغرور قد سقطَ معه الخطاب، وسد في وجهه الباب!!
والله الهادي إلى نهج الصواب!
قلت: فإذا وضحت هذه القاعدة ظهر لك أي الفريقين أهدى في المثال الذي صدرنا لك الكلام به!
إذ ذاك الدليل العام لم يجرِ عليه عمل السلف رضي الله عنهم أو فهمهم؛ استدلالاً به على الجماعة في غيرِ الوارد؛ كالفرائض أو التراويح ونحوهما. فهو جرى- إذاً - على جزءٍ من أجزاء عمومه لا على جميع أجزائه.
ومثال آخر تطبيقي سلفي:
روى أبو داود في "سننه" ( رقم 538) بسند حسن عن مجاهد؛ قال: " كنت مع ابن عمر، فثوب رجل في الظهرِ أو العصر، فقال: اخرج بنا؛ فإن هذه بدعة" !
و" معنى التثويب: هؤلاء الَذين يقومون على أبواب المساجد، فينادون: الصلاة؛ الصلاة" .
كما قال الطرطوشي في "الحوادث والبدع" (ص149).
فلو جاء أحد قائلاً: هل من ضيرٍ على من ذكر بالصلاة والله يقول: ((وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ)) [الذريات: 55]؟!
لما قبل قوله، بل رد عليه فهمه، إذ لم يفهم السلف رضي الله عنهم من هذه الآية هذا الإطلاق وهذا العموم، ومعلوم عن ابن عمر رضي الله عنهما شدة اتباعه، ودقة التزامه.(25/23)
ومثال آخر وقد مر معنا فيما سبق: وهو ما رواه الترمذي، والحاكم وغيرهما عن نافع أن رجلاً عطس إلى جنب ابن عمر رضي الله عنهما، فقال: الحمد لله، والسلام على رسوله قال ابن عمر: "وأنا أقول: الحمد لله والسلام على رسول الله وليس هكذا علمنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، علمنا أن نقول: الحمد لله على كل حالٍ " فقد أنكر ابن عمر رضي الله عنهما على هذا الرجل مع أن عموم قولِ الله تعالى: ((إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً)) [الأحزاب: 56] تدخل فيه تلك الصلاة ولكن، ما هكذا فهمها الصحابة فمن بعدهم وما هكذا طبقها السلف الصالح رضي الله عنهم، وفهمهم أولى، ومرتبتهم أعلى.
ورحم الله الإمام الأوزاعي حيث قال: "اصبر نفسك على السنة، وقف حيث وقف القوم، وقل بما قالوا، وكف عما كفوا عنه، واسلك سبيل سلفك الصالح؛ فإنه يسعك ما وسعهم" (1).
وعليه نقول: "الحذر الحذر من مخالفة الأولين! فلو كان ثَمَّ فضل ما؛ لكان الأولون أحق به، والله المستعان")(1).
تاسعاً: (يستلزم من القول بالبدع الحسنة لوازم سيئة جدا:
أحدها: أن تكون هذه البدع المستحبة - حسب زعمهم - من الدين الذي أكمله الله لعباده ورضيه لهم.
وهذا معلوم البطلان بالضرورة، لأن الله تعالى لم يأمر عباده بتلك البدع، ولم يأمر بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولم يفعلها ولا فعلها أحد من الخلفاء الراشدين ولا غيرهم من الصحابة والتابعين وتابعيهم بإحسان، وعلى هذا فمن زعم أنه توجد بدع حسنة في الدين فقد قال على الله وعلى كتابه وعلى رسوله - صلى الله عليه وسلم -بغير علم.
__________
(1) : "علم أصول البدع " لعلي الحلبي (ص137-145) بتصرف.(25/24)
الثاني: أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم -وأصحابه رضي الله عنهم قد تركوا العمل بسنن حسنة مباركة محمودة، وهذا مما ينزه عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأصحابه رضي الله عنهم.
الثالث: أن يكون القائمون بالبدع الحسنة المزعومة قد حصل لهم العمل بسنة حسنة مباركة محمودة لم تحصل للنبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا لأصحابه رضي الله عنهم، وهذا لا يقوله من له أدنى مسكة من عقل و دين)(1).
الفصل الثاني:
ذكر الشبه التي يستدل بها من يقول بتقسيم البدع
الشبهة الأولى: فهمهم لقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: (من سن في الإسلام سنة حسنة، فله أجرها، وأجر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء) رواه مسلم.
والجواب عن هذه الشبه هو (ما قاله الإمام الشاطبي - رحمه الله - في "الاعتصام" (1/233- 236) مختصراً مع بعض الإضافات:
"ليس المراد بالحديث: الاستنان بمعنى الاختراع، وإنما المراد به العمل بما ثبت بالسنة النبوية، وذلك لوجهين:
أحدهما: أن السبب الذي جاء لأجله الحديث هو الصدقة المشروعة؛ بدليل ما في "صحيح مسلم" من حديث جرير بنِ عبدالله - رضي الله عنه -قال: " كنا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -في صدر النهار؛ قال: فجاءه قوم حفاةً عراة مجتابي النمار أو العباء متقلدي السيوف. عامتهم من مضر، بل كلهم من مضر. فتمعر وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -لما رأَى بهم من الفاقة. فدخل ثم خرج. فأمر بلالا فأذن وأقام.
__________
(1) : "الرد القوي على الرفاعي والمجهول وابن علوي وبيان أخطائهم في المولد النبوي"للشيخ حمود التويجري رحمه الله (16-17)بتصرف.(25/25)
فصلى ثم خطب فقال: (((يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ)) [النساء: 1] إلى آخر الآية ((إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً)) والآية الَتي في الحشر: ((اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ)) [الحشر: 18] تصدق رجل من ديناره، من درهمه، من ثوبه، من صاع بره، من صاع تمره) حتى قال: (ولو بشق تمرةٍ)قال: "فجاء رجل من الأنصار بصرةٍ كادت كفه تعجز عنها بل قد عجزت. قال: ثم تتابع الناس.حتى رأيت كومين
من طعام وثياب.حتى رأيت وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -يتهلل كأنه مذهبة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
(من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها، وأجر من عمل بها بعده من غيرِ أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سن في الإسلام سنَة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده.من غير أن ينقص من أوزارهم شيء).
فتأملوا أين قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (من سن في الإسلام سنة حسنة)؛ تجدوا ذلك فيمن عمل بمقتضى المذكور على أبلغ ما يقدر عليه، حتى بتلك الصرة فانفتح بسببه باب الصدقة على الوجه الأبلغ،فسر رسول الله- صلى الله عليه وسلم - حتى قال: (من سن في الإسلام سنة حسنة..إلخ). فدل على أن السنة ها هنا مثل ما فعل ذلك الصحابي، وهو العمل بما ثبت كونه سنة.
فظهر أن السنة الحسنة ليست بمبتدعةٍ".
ووجه ذلك: (أن كل ما فعله الأنصاري إنما هو ابتداؤه بالصدقة في تلك الحادثة، والصدقة مشروعة من قبل بالنص أفترون هذا الصحابي أتى ببدعة حسنة؟!.
وحث عليها - أي على الصدقة - الرسول - صلى الله عليه وسلم -في القصة نفسها.
وعليه فالسنة الحسنة هي إحياء أمر مشروع لم يعهد العمل به بين الناس لتركهم السنن)(1).(25/26)
( ويدل على هذا حديث: (من أحيا سنة من سنتي فعمل بها الناس؛ كان له مثل أجر من عمل بها لا ينقص من أجورهم شيئاً، ومن ابتدع بدعة فعمل بها، كان عليه أوزار من عمل بها لا ينقص من أوزار من عمل بها شيئاً) رواه ابن ماجة)(2).
مع ملاحظة أن النبي - صلى الله عليه وسلم -أضاف السنة إليه فقال: (من سنتي) بينما أطلق الكلام في البدعة فقال: (ومن ابتدع بدعة) ولم يقل بدعة سيئة.
ثانياً: أن قوله: (من سن في الإسلام سنةً حسنةً ومن سن في الإسلام سنةً سيئةً) لا يمكن حمله على الاختراع من أصلٍ؛ لأن كونها حسنةً أو سيئةً لا يعرف إلا من جهة الشرع؛ لأن التحسين والتقبيح مختص بالشرع، لا مدخل للعقل فيه وهو مذهب جماعة أهل السنة، وإنما يقول به المبتدعة - أعني: التحسين والتقبيح بالعقل -.
فلزم أن تكون "السنة" في الحديث: إما حسنةً في الشرع، وإما قبيحةً بالشرعِ، فلا يصدق إلا على مثل الصدقة المذكورة وما أشبهها من السنن المشروعة.
وتبقى السنة السيئة منزلةً على المعاصي التي ثبت بالشرعِ كونها معاصي؛ كالقتل المنبه عليه في حديث ابن آدم، حيث قال - صلى الله عليه وسلم -كما في صحيح البخاري ومسلم: (لا تقتل نفس ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها، لأنه أول من سن القتل) (1)وعلى البدع، لأنه قد ثبت ذمها والنهي عنها بالشرع )(2).
ثالثاً: (لا يمكن أن يكون معنى: (من سن في الإسلام سنةً حسنة )أي من ابتدع في الإسلام بدعة حسنة" لأن بهذا يكون معنى قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (كل بدعة ضلالة) "كل سنة ضلالة ".
فمن جعل هذا هو معنى ذاك فقد أبعد النجعة وحرف الكلم عن مواضعه)(1).
رابعاً: (لو كان هذا الذي يفهمه الناس الفهم الصحيح للحديث لصار في قول النبي - صلى الله عليه وسلم -:
(فمن رغب عن سنتي فليس مني) تناقضاً واضحاً وتحريضاً على الإعراض عن السنة.
وثناءً منه على من رغب عن سنته.(25/27)
فبينما يقول: (فعليكم بسنتي)داعياً إلى التمسك بها والعض عليها بالنواجذ والقبض على الجمر يدعونا هنا إلى الأخذ بأي سنة يسنها من شاء من المسلمين لا بالتقيد بسنته - صلى الله عليه وسلم -وحده!)(2).
الشبهة الثانية: فهمهم لأثر"ما رآه المسلمون حسناً؛ فهو عند الله حسن، وما رآه المسلمون سيئاً؛ فهو عند الله سيئ " أخرجه أحمد وغيره.
الجواب:
أولاً: هذا الحديث لا يصح مرفوعاً إلى النبي- صلى الله عليه وسلم -، بل هو ثابت عن عبدالله بن مسعود - رضي الله عنه -.
قال الزيلعي في"نصب الراية" (4/133) نقلاً من "اللمع" للسحيباني (ص28):
"غريب مرفوعا، ولم أجده إلا موقوفا على ابن مسعود".
(وقال ابن الجوزي في "الواهيات" (رقم452): "هذا الحديث إنما يعرف من كلام ابن مسعودٍ".
وقال ابن عبد الهادي كما في "كشف الخفاء" للعجلوني (2/188):
"(وروي) مرفوعاً عن أنس بإسنادٍ ساقطٍ، والأصح وقفه على ابن مسعودٍ".
وقال ابن القيم في "الفروسية" (ص61): "ليس من كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وإنما يضيفه إلى كلامه من لا علم له بالحديث، وإنما هو ثابت عن ابن مسعودٍ")(1).
وقال الألباني في "السلسلة الضعيفة" (2/17): "لا أصل له مرفوعاً، وإنما ورد موقوفاً على ابن مسعود" اهـ.
ثانياً: (قال الشيخ الألباني في "السلسة الضعيفة" ( 2/17):
(إن من عجائب الدنيا أن يحتج بعض الناس بهذا الحديث على أن في الدين بدعةً حسنةً،
وأن الدليل على حسنها اعتياد المسلمين لها!!
ولقد صار من الأمرِ المعهود أن يبادر هؤلاء إلى الاستدلال بهذا الحديث عندما تثار هذه المسألة، وخفي عليهم:
أ - أن هذا الحديث موقوف - أي على الصحابي - فلا يجوز أن يحتج به في معارضة النصوص المرفوعة - أي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - - القاطعة في أن (كل بدعةٍ ضلالة) كما صح عنه - صلى الله عليه وسلم -.
ب - وعلى افتراض صلاحية الاحتجاجِ به، فإنه لا يعارِض تلك النصوص لأمور:(25/28)
الأول: أن المراد به إجماع الصحابة واتفاقهم على أمر، كما يدل عليه السياق، ويؤيده استدلال ابنِ مسعودٍ - رضي الله عنه -به على إجماع الصحابة على انتخاب أبي بكر خليفةً (حيث قال: "إن الله نظر في قلوب العباد، فوجد قلب محمد - صلى الله عليه وسلم -خير قلوب العباد، فاصطفاه لنفسه، فابتعثه برسالته،ثم نظر في قلوب العباد، بعد قلب محمد، فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد، فجعلهم وزراء نبيه، يقاتلون على دينه، فما رأى المسلمون حسناً فهو عند الله حسن وما رأوا سيئاً، فهو عند الله سيئ" أخرجه أحمد (1/379)، وروى الحاكم الجملة الأخيرة، وزاد: "وقد رأى الصحابة جميعاً أن يستخلفوا أبا بكر")(1).
وعليه؛ فاللام في "المسلمون" ليس للاستغراق كما يتوهمون، بل للعهد.
الثاني: سلمنا أنه للاستغراق، ولكن ليس المراد به قطعاً كل فردٍ من المسلمين، ولو كان جاهلاً لا يفقه من العلم شيئاً؛ فلا بد إذن من أن يحمل على أهل العلم منهم، وهذا مما لا مفر لهم منه فيما أظن).
قلت: ومما يزيد كلامه - حفظه الله - وضوحاً الأمور التالية:
1 - أنه قد بوب له جماعةٌ من أهل الحديث في "باب الإجماع"، كما في "كشف الأستار عن زوائد البزار" (1/81)، و "مجمع الزوائد" (1/177)، وغيرهما.
2 - استدل به كثير من العلماء على الإجماع:
قال ابن كثير: "وهذا الأثر فيه حكايةُ إجماعٍ عن الصحابة في تقديم الصديق، والأمر كما قاله ابن مسعودٍ".
وقال ابن القيم في "الفروسية"(ص60) بعد إيراده، رداً على المستدلين به: "في هذا الأثر دليل على أن ما أجمع عليه المسلمون ورأوه حسناً؛ فهو عند الله حسن، لا ما رآه بعضهم! فهو حجة عليكم".
وقال ابن قدامة في"روضة الناظر"(ص86): " الخبر دليل على أن الإجماع حجة، ولا خلف فيه".(25/29)
وقال الشاطبي في "الاعتصام" (2/655): (إن ظاهره يدل على أن ما رآه المسلمون بجملتهم حسناً؛ فهو حسنٌ، والأمة لا تجتمع على باطلٍ، فاجتماعهم على حسن شيءٍ يدل على حسنه شرعاً؛ لأن الإجماع يتضمن دليلاً شرعياً")(1).
وقال الإمام ابن حزم في "الإحكام في أصول الأحكام" (6/197): بعد ان ذكر اثر ابن مسعود رضي الله عنه: ( فهذا هو الإجماع الذي لا يجوز خلافه لو تيقن، وليس ما رآه بعض المسلمين أولى بالاتباع مما رآه غيرهم من المسلمين، ولو كان ذلك لكنا مأمورين بالشيء وضده، وبفعل شيء وتركه معاً، وهذا محال لا سبيل إليه) اهـ.
وقال العز بن عبد السلام في "فتاوى العز بن عبد السلام"(ص379): "إن صح الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فالمراد بالمسلمين أهل الإجماع" اهـ.
(وهنا نقول لمن استدل بهذا الأثر على أن هناك بدعة حسنة: هل تستطيع أن تأتي ببدعة واحدة أجمع المسلمون على حسنها؟
إن هذا من المستحيل ولا شك، فليس هناك بدعة أجمع المسلمون على حسنها ولله الحمد.
ثالثاً: كيف يستدل بكلام هذا الصحابي الجليل على تحسين شيء من البدع، مع أنه - رضي الله عنه -كان من أشد الصحابة نهياً عن البدع وتحذيراً منها، وهو القائل كما مر معنا "اتبعوا ولا تبتدعوا؛ فقد كفيتم، وكل بدعةٍ ضلالة" رواه الدارمي في سننه)(1).
الشبهة الثالثة: (يقولون: ليست (كل) في حديث: (كل بدعةٍ ضلالة) على عمومها، بدليل أن الله سبحانه يقول: ((تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا)) [الأحقاف: 25] والريح لم تدمر (كل) شيءٍ، فدل على أن (كل) ليست على عمومها!.
الجواب: إن (كل) على عمومها هنا أيضاً، إذ هي دمرت (كل) شيءٍ أمرها به ربها، لا (كل) شيءٍ في الدنيا!!
وعلى هذا قول المفسرين:
__________
(1) : "اللمع في الرد على محسني البدع" (ص30-31) بتصرف.(25/30)
قال ابن جريرٍ في "تفسيره" (13/26/27): (وإنما عنى بقوله: ((تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ)) مما أرسلت بهلاكه؛ لأنها لم تدمر هوداً ومن كان آمن به) اهـ.
وقال القرطبي في "تفسيره" (16/206): "أي كل شيءٍ مرت عليه من رجال عادٍ وأموالها".
وكذا قال آخرون، وانظر "اقتضاء الصراط المستقيم" (ص274-275).
فلا حجة في هذا الاستدلال ألبتة)(1).
الشبهة الرابعة: فهمهم لقول عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: "نعمت البدعة هذه" رواه البخاري.
الجواب:
أولاً: (لو سلمنا جدلاً بصحة دلالته على ما أرادوا من تحسين البدع - مع أن هذا لا يسلم - فانه لا يجوز أن يعارض كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم -القائل: (كل بدعةٍ ضلالة) بكلام أحد من الناس، كائنا من كان.
قال عبدالله بن عباس رضي الله عنهما: "يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء، أقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وتقولون: قال أبوبكر وعمر")(1).
ثانياً: أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -قال هذه الكلمة حين جمع الناس على إمام واحد في صلاة التراويح و (صلاةَ التراويح ليست بدعةً في الشريعة، بل هي سنة بقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -وفعله في الجماعة.. ولا صلاتها جماعةً بدعةً، بل هي سنة في الشريعة، بل قد صلاها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -في الجماعة في أول شهر رمضان ليلتين، بل ثلاثا.
وقال: (من قام مع الإمام حتى يَنصرف، فإنه يعدل قيام ليلةٍ) رواه الترمذي وابن ماجة.
كما قام بهم حتى خشوا أن يفوتهم الفلاح. رواه أهل السنن.
وبهذا الحديث احتج احمد وغيره على أن فعلها في الجماعة أفضل من فعلها في حال الانفراد.
وفي قوله هذا ترغيب لقيام رمضان خلف الإمام وذلك أوكد من أن يكون سنة مطلقة، وكان الناس يصلونها جماعاتٍ في المسجد على عهده - صلى الله عليه وسلم -وهو يقرهم، وإقراره سنة منه - صلى الله عليه وسلم -)(1).(25/31)
بل إن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يصلون التراويح في عهد عمر - رضي الله عنه -قبل أن يقول كلمته هذه، فقد روى البخاري ومالك وغيرهما عن عبد الرحمن بن عبدالقارى - رضي الله عنه -قال: (خرجت مع عمر بن الخطاب ليلة في رمضان إلى المسجد فإذَا الناس أوزاعاً متفرقون، يصلي الرجل لنفسه، ويصَلي الرجل فيصلي بصلاته الرهط، فقال عمر: إني أرى لو جمعت هؤلاء على قارئ واحدٍ لَكان أمثل، ثم عزم فجمعهم على أبي بن كعبٍ. ثم خرجت معه ليلة أخرى والناس يصلون بصلاة قارِئهم. قال عمر: "نعمت البدعة هذه").
ثالثاً: (إذا علمت - رحمك الله - ما تقدم، فمفهوم البدعة الشرعية لا ينطبق على فعل عمر، وإنما أراد - - رضي الله عنه - - بقوله المذكور البدعة اللغوية، فالبدعة في الشرع لا تستخدم إلا في موضع الذم، بخلاف اللغة فإن كل ما أحدث على غير مثال سابق بدعة، سواء أكان محموداً أو مذموماً)(2).
(وعلى هذا حمل العلماء قول عمر - رضي الله عنه -فقد قال الإمام ابن كثير- رحمه الله- في "تفسيره" عند تفسير (سورة البقرة: 117): "البدعة على قسمين: تارة تكون بدعة شرعية؛ كقوله - صلى الله عليه وسلم -: (كل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة) وتارة تكون بدعة لغوية؛ كقول أمير المؤمنين عمر بن الخطاب عن جمعه إياهم على صلاة التراويح واستمرارِهم: "نعمت البدعة هذه" .
وقال ابن رجب في "جامع العلوم والحكم" (ص233): "وأما ما وقع في كلام السلف من استحسان بعض البدع فإنما ذلك في البدع اللغوية لا الشرعية…" ثم ذكر رحمه الله قول عمر - رضي الله عنه -.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في "اقتضاء الصراط المستقيم" (2/592-593):
"وأما قول عمر - رضي الله عنه -: "نعمت البدعة هذه" فأكثر المحتجين بهذا؛ لو أردنا أن نثبت حكماً بقول عمر الذي لم يخالف فيه؛ لقالوا: "قول الصاحب ليس بحجةٍ!"، فكيف يكون حجةً لهم في خلاف قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟!(25/32)
ومن اعتقد أن قول الصاحب حجة؛ فلا يعتقده إذا خالف الحديث.
فعلى التقديرين: لا تصلح معارضة الحديث بقول الصاحب.
ثم نقول: أكثر ما في هذا تسمية عمر تلك بدعةً، مع حسنها، وهذه تسمية لغوية لا تسمية شرعية، وذلك أن البدعة في اللغة تعم كل ما فعل ابتداءً من غير مثالٍ سابقٍ، وأما البدعة الشرعية؛ فما لم يدل عليه دليل شرعي.
فإذا كان نص رسول الله - صلى الله عليه وسلم -قد دل على استحباب فعلٍ، أو إيجابه بعد موته، أو دل عليه مطلقاً، ولم يعمل به ألا بعد موته، ككتاب الصدقة الذي أخرجه أبوبكر - رضي الله عنه -، فإذا عمل ذلك العمل بعد موته، صح أن يسمى بدعة في اللغة؛ لأنه عمل مبتدأ، كما أن نفس الدين الذي جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم -يسمى محدثاً في اللغة؛ كما قالت رسل قريشٍ للنجاشي عن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -المهاجرين إلى الحبشة: "إن هؤلاء خرجوا من دين آبائهم ولم يدخلوا في دين الملك، وجاؤوا بدينٍ محدثٍ لا يعرف".
ثم ذلك العمل الذي دل عليه الكتاب والسنة ليس بدعةً في الشريعة، وإن سمي بدعة في اللغة.
وقد علم أن قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (كل بدعةٍ ضلالة)لم يرد به كل عمل مبتدأ؛ فإن دين الإسلام، بل كل دين جاءت به الرسل؛ فهو عمل مبتدأ، وإنما أراد من الأعمال التي لم يشرعها هو - صلى الله عليه وسلم -).
قلت: وقد سبق بيان أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد صلى بأصحابه في رمضان ثلاث ليالٍ، ثم خاف أن تفرض عليهم، فتركها.
"فلما كان في عهد عمر - رضي الله عنه -؛ جمعهم على قارئ واحدٍ، وأسرج المسجد فصارت هذه الهيئة - وهي اجتماعهم في المسجد وعلى إمامٍ واحدٍ مع الإسراج - عملاً لم يكونوا يعملونه من قبل، فسمي بدعةً؛ لأنه في اللغة يسمى بذلك، ولم يكن بدعةً شرعيةً، لأن السنة اقتضت أنه عمل صالح لولا خوف الافتراض، وخوف الافتراض زال بموته - صلى الله عليه وسلم -، فانتفى المعارض"(1)) (2).(25/33)
الشبهة الخامسة: فهمهم لقول الله تعالى: ((وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ)) [الحديد: 27].
الجواب: (ليس في هذه الآية دليل على استحسان البدع من كل الوجوه المحتملة، فإذا كان قوله تعالى: ((إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ)) يرجع إلى قوله تعالى: ((ابْتَدَعُوهَا))؛ فمعناه أن الله لم يكتبها عليهم؛ إلا أنهم ابتدعوها بقصد زيادة التقرب إلى الله، وفي هذا ذم لها؛ لأن الله لم يفرضها عليهم، ويزداد التقبيح أنهم مع اختراعهم لها لم يرعوها حق رعايتها، وقصروا فيما ألزموا أنفسهم به، وهذا ضرب من التقبيح والتشنيع المضاعف.
وإذا كان راجعاً إلى قوله: ((مَا كَتَبْنَاهَا))؛ فمعناه أنهم ألزموا أنفسهم بابتداعها، فكتبها الله عليهم، أي أصبحت ديناً مشروعاً من لدن أحكم الحاكمين، وهذا ضرب من التقرير، وقد حدث مثله في ديننا، فكان الرسول - صلى الله عليه وسلم -يقر أصحابه على أقوال وأفعال يأتون بها، لم تكن مشروعة من قبل، وبتقريره لها تصبح شرعاً يعبد الله به، وأمثلة ذلك في السنة كثير.
أما بعد موت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ فإن الشرع لم يعد بحاجة إلى زيادة؛ لأن الله أتمه وأكمله، ولم يترك الرسول - صلى الله عليه وسلم - شيئاً مما يقربنا من الجنة إلا وقد أمرنا به، ولم يدع أمراً يقربنا من النار إلا وقد نهانا عنه - صلى الله عليه وسلم -.
وجملة القول أن هذه الآية من شرع ما قبلنا، والراجح في علم الأصول أنه ليس شرعاً لنا؛ لأدلة كثيرة منها قوله - صلى الله عليه وسلم -: (أعطيت خمساً لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي...) فذكرها، وآخرها: (وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس عامة) أخرجه البخاري ومسلم.(25/34)
وعلى فرض صحة قول من قال: "شريعة من قبلنا شريعة لنا" فذلك مشروط بشرطين:
الأول: أن يثبت أن ذلك شرع ارتضاه الله لهم بنقل موثوق.
الثاني: أن لا يكون في شرعنا ما يخالفه.
وعليه؛ فالآية لا حجة فيها لمحسني البدع، لأن الإسلام بين أن كل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار)(1).
الشبهة السادسة: جمع القران بعد وفاة الرسول - صلى الله عليه وسلم -.
الجواب:
أولاً: (القرآن كان في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -مكتوباً في الصحف؛ لقوله تعالى: ((يَتْلُو صُحُفاً مُطَهَّرَةً)) [البينة: 2] وقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: (لا تكتبوا عني.ومن كتب عني غير القرآن فليمحه)أخرجه مسلم، لكنها كانت مفرقة، كما يدل على ذلك قول زيد بن ثابت - رضي الله عنه -في قصة جمع القرآن التي رواها البخاري: " فتتبعت القرآن أجمعه من العسب واللخاف وصدور الرجال".
ثانياً: إن جمع القرآن لم يأت به الصحابة من تلقاء أنفسهم،بل هو تحقيق لوعد الله تعالى أيضاً بجمعه؛ كما وعد بحفظه: ((إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ)) [القيامة: 17].
فإذا جمعنا بين الآيتين؛ تبين لنا يقيناً أصل عظيم وهو أن الذي شرع الغاية لم ينس الوسيلة، فكما أن حفظ القرآن غاية شرعها الله، كذلك جمعه وسيلة بينها الله، فكان على عهد النبوة مكتوباً في الصحف التي هي العسب واللخاف وكذلك صدور الرجال، فلما رأى الصحابة أن القتل استحرَّ بالقراء يوم اليمامة؛ لجؤوا إلى الوسائل الأخرى التي كان القرآن مكتوباً فيها، فجمعوها، وكان ذلك إيذاناً من الله بتحقيق جمع القرآن وحفظه.
ثالثاً: إن اتفاق الصحابة وقع على جمع القرآن وذلك إجماع منهم وهو حجة بلا ريب كيف وهم القوم لا يجتمعون على ضلالة؟!
وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا تجتمع أمتي على ضلالة)رواه الترمذي.(25/35)
رابعاً: إن حاصل ما فعله الصحابة وسائل لحفظ أمر ضروري، أو دفع ضرر اختلاف المسلمين في القرآن، والأمر الأول من باب "ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب"، والأمر الثاني من باب "درء المفاسد، وسد الذرائع" وهي قواعد أصولية مستنبطة من الكتاب والسنة)(1).
(فإن قيل: فلماذا لم يفعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قلت: لوجود المانع، وهو أن القرآن كان يتنزل عليه طيلة حياته، وقد ينسخ الله سبحانه منه ما يريد، فلما انتفى المانع؛ فعله الصحابة رضوان الله عليهم باتفاق)(2).
و"ما رأى المسلمونَ حسناً؛ فهو عند الله حسنٌ ".
الشبهة السابعة: يقول البعض أن قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه؛ فهو رد) مخصص لحديث (كل بدعة ضلالة) ومبين للمراد منها؛ إذ لو كانت البدعة ضلالة بدون استثناء؛ لقال الحديث: من أحدث في أمرنا هذا شيئاً؛ فهو رد!! لكن لما قال: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه؛ فهو رد)؛ أفاد أن المحدث نوعان: ما ليس من الدين، بأن كان مخالفاً لقواعده ودلائله؛ فهو مردود، وهو البدعة الضلالة، وما هو من الدين، بأن شهد له أصل، وأيده دليل؛ فهو صحيح مقبول، وهو السنة الحسنة !!
الجواب:
(معلوم من قواعد العلم ومبادئه أن روايات الأحاديث النبوية يفسر بعضها بعضاً، ويشرح بعضها ما غمض من بعضها الآخر.
فهذه الرواية يوضحها ويزيل لبسها المتوهم فيها ما يلي:
أولاً: الرواية الأخرى للحديث نفسه، وهي: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا؛ فهو رد).
فهذا إيضاح جلي للرواية ذاتها، يكشف صورة العمل المحدث المردود، ويبين أنه كل عمل ليس عليه الدين؛ فهذا شامل للكيفية والصفة والهيئة إذا لم ترد عن النبي - صلى الله عليه وسلم -.
إذ إعراب (ليس عليه أمرنا) أنها في محل نصبِ صفةٍ لـ (عملاً)، فصفة المحدَثِ أنه ليس عليه أمرُ النبي - صلى الله عليه وسلم -.(25/36)
ثانياً: أن تطبيق السلف وفهمهم - وهم القوم لا يشقى الآخذ بقولهم - لهذا الحديث
لم يكن على هذا الوجه المستنكر، وإنما كان على الجادة الموافقة لأصول اللغة، وقواعد الاستدلال.
ففي روايات كثيرة عنهم - رحمهم الله - تراهم يستنكرون أعمالاً مشروعة الأصل محدثة الكيفية والصفة، ويصفونها بالابتداع) (1).
الشبهة الثامنة: استدلالهم بما جاء عن غضيف بن الحارث - رضي الله عنه -أنه قال:
"بعث إلي عبد الملك بن مروان فقال: يا أبا أسماء إنا قد جمعنا الناس على أمرين، قلت: وما هما؟
قال: رفع الأيدي على المنابر يوم الجمعة، والقصص بعد الصبح والعصر.
فقال: أما انهما أمثل بدعكم عندي، ولست مجيبك إلى شيء منهما.
قال: لم؟
قال: لأن النبي - صلى الله عليه وسلم -قال: (ما أحدث قوم بدعة إلا رفع مثلها من السنة) فتمسك بسنة خير من إحداث بدعة" أخرجه احمد.
الجواب:
(أولاً: إن هذا الأثر لا يثبت، بل هو ضعيف، لأن في إسناده أبا بكر بن عبدالله بن أبي مريم الغساني وهو ضعيف، ضعفه احمد، وأبو داود، وأبو حاتم، وابن معين وأبو زرعة، وابن سعد، وابن عدي، والدارقطني، انظر ترجمته في "تهذيب التهذيب" (12/28-29)، و"تقريب التهذيب" (2/398)، و"ميزان الاعتدال" (4/498)، و"سير أعلام النبلاء" (7/64))(1).
(ثانياً: على افتراض صحة هذا الأثر، فإنه قد سبق التنبيه على أنه لا يجوز أن يعارض كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم -بكلام أحد من الناس كائناً من كان.
ثالثاً: ان غضيف بن الحارث - رضي الله عنه -رفض الاستجابة لهذه البدع، وردها، ولو كانت حسنة، لما امتنع من الأخذ بها.
رابعاً: ان قوله: "أمثل بدعكم"، أمر نسبي، أي هي بالنسبة للبدع الأخرى أخف شراً، وأقل مخالفة.
__________
(1) : "علم أصول البدع" للشيخ علي الحلبي (ص34-36) باختصار.(25/37)
خامساً: استدل غضيف - رضي الله عنه - - على فرض صحة الأثر والحديث- على ترك هذه البدع بحديث: (ما أحدث قوم بدعة إلا رفع مثلها من السنة) فلو كانت هذه البدعة حسنة، لم يرفع من السنة مثلها، لأن رفع السنة عقوبة، والحسن لا يعاقب عليه)(1).
الشبهة التاسعة: زيادة عثمان بن عفان - رضي الله عنه -للأذان قبل الأذان الشرعي يوم الجمعة.
الجواب:
أولاً: (لقد فعل عثمان ذلك لمصلحة، وهو أن الناس عندما كثروا؛ وتباعدت منازلهم عن المسجد؛ رأى هذا الأذان نافعاً لاتساعها وكثرة أهلها، فيدعوهم ذلك إلى الاستعداد)(1)، يدل على ذلك ما جاء في صحيح البخاري عن السائب بن يزيد أنه قال: "كان النداء يوم الجمعة أوله إذا جلس الإمام على المنبر على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -وأبي بكرٍ وعمر رضي الله عنهما. فلما كان عثمان - رضي الله عنه - وكثر الناس زاد النداء الثالث على الزوراء".
(وقد نقل القرطبي في "تفسيره" (18/100) عن الماوردي قوله: (فأما الأذان الأول فمحدث، فعله عثمان - رضي الله عنه -ليتأهب الناس لحضور الخطبة عند اتساع المدينة وكثرة أهلها) انتهى كلامه - رحمه الله - فمن صرف النظر عن هذه العلة، وتمسك بأذان عثمان - رضي الله عنه -مطلقاً لا يكون مقتديا به، بل هو مخالف له حيث لم ينظر بعين الاعتبار إلى تلك العلة التي لولاها لما كان لعثمان - رضي الله عنه -ان يزيد على سنته عليه الصلاة والسلام وسنة الخليفتين من بعده.
ولهذا قال الإمام الشافعي في كتابه"الأم"(1/173): "وقد كان عطاء ينكر أن يكون عثمان أحدثه، ويقول: أحدثه معاوية، وأيهما كان فالأمر الذي كان على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحب إلي، فإن أذن جماعة من المؤذنين والإمام على المنبر، وأذن كما يؤذن اليوم أذان قبل أذان المؤذنين إذا جلس الإمام على المنبر كرهت ذلك له، ولا يفسد شيء من صلاته" اهـ)(1).(25/38)
ففعل عثمان - رضي الله عنه -يعتبر من المصلحة المرسلة (و"المصلحة المرسَلة" في تعريف الأصوليين هي: "الأوصاف التي تلائم تصرفات الشارع ومقاصده، ولكن لم يشهد لها دليل معين من الشرع بالاعتبار أو الإلغاء، ويحصل من ربط الحكم بها جلب مصلحةٍ أو دفع مفسدةٍ عن الناس".
وسميت "مرسلة"؛ لعدم وجود ما يوافقها أو يخالفها في الشرع؛ أي: أرسلت إرسالاً وأطلقت إطلاقاً.
والضابط الذي تتميز به المصلحة المرسلة من البدع المحدثة هو ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية في "اقتضاء الصراط المستقيم" (2/594): (والضابط في هذا- والله أعلم - أن يقال: إن الناس لا يحدثون شيئاً إلا لأنهم يرونه مصلحةً، إذ لو اعتقدوه مفسدةً؛ لم يحدثوه؛ فإنه لا يدعو إليه عقل ولا دين.
فما رآه الناس مصلحةً؛ نظر في السبب المحوج إليه:
فإن كان السبب المحوج إليه أمراً حدث بعد النبي لكن من غير تفريط منه؛ فهنا قد يجوز إحداث ما تدعو الحاجة إليه.
وكذلك إن كان المقتضي لفعله قائماً على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لكن تركه النبي - صلى الله عليه وسلم -لمعارضٍ زال بموته وأما ما لم يحدث سبب يحوج إليه، أو كان السبب المحوج إليه بعض ذنوب العباد فهنا لا يجوز الإحداث.
فكل أمرٍ يكون المقتضي لفعله على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -موجوداً، لو كان مصلحةٍ ولم يُفْعَل: يُعْلم أنه ليس بمصلحةٍ.
وأما ما حدث المقتضي له بعد موته من غير معصية الخالق؛ فقد يكون مصلحةً..الخ).
وخلاصةُ القول: أن "حاصل المصالح المرسلة يرجع إلى حفظ أمرٍ ضروري، أو رفع حرجٍ لازم في الدين".
وليست البدع - عند من يدعيها- هكذا بيقين)(1) لأن المبتدع إنما يفعل البدع بقصد زيادة التقرب إلى الله وإن لم يكن هناك حاجة لإحداث ذلك الفعل.(25/39)
ثانياً: أن عثمان - رضي الله عنه - من الخلفاء الراشدين وقد قال النبي- صلى الله عليه وسلم -: (فإن من يعش منكم؛ فسيرى اختلافاً كثِيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدَثات الأمور؛ فإن كل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة) رواه أحمد وأبو داود.
الشبهة العاشرة: قول الإمام الشافعي- رحمه الله -: "البدعة بدعتان: بدعة محمودة، وبدعة مذمومة، فما وافق السنة، فهو محمود، وما خالف السنة، فهو مذموم" واحتج بقول عمر - رضي الله عنه -في قيام رمضان: "نعمت البدعة هذه" رواه أبو نعيم في"حلية الأولياء" (9/113).
وقوله: المحدثات من الأمور ضربان: ما أحدث يخالف كتاباً أو سنة أو أثراً أو إجماعاً، فهذه بدعة ضلالة.وما أحدث من الخير لا خلاف لواحد من هذا، فهذه محدثة غير مذمومة.قد قال عمر في قيام رمضان: "نعمت البدعة هذه".
يعني أنها محدثة لم تكن، وإذا كانت فليس فيها رد لما مضى.أخرجه البيهقي في "مناقب الشافعي"(1/469).
الجواب:
قال الشيخ سليم الهلالي في "البدعة وأثرها السيئ في الأمة" راداً على من يستدل بقول الشافعي هذا (ص63- 66):
(أولاً: بالنسبة لما أخرجه أبو نعيم في "الحلية" (9/113) ففي سنده عبدالله بن محمد العطشي، ذكره الخطيب البغدادي في "تاريخه" والسمعاني في"الأنساب" ولم يذكرا فيه جرحاً ولا تعديلاً.
وأما بالنسبة لما أخرجه البيهقي ففيه محمد بن موسى الفضل، لم أجد له ترجمة(1).
ثانياً: قول الشافعي إن صح لا يصح أن يكون معارضاً أو مخصصاً لعموم حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
والشافعي نفسه - رحمه الله - نقل عنه أصحابه أن قول الصحابي إذا انفرد ليس حجة، ولا يجب على من بعده تقليده، ومع كون ما نسب إلى الإمام الشافعي فيه نظر بدليل ما في "الرسالة " للشافعي ( ص597- 598)، فكيف يكون قول الشافعي حجة، وقول الصحابي ليس بحجة؟!(25/40)
ثالثاً: كيف يقول الشافعي رحمه الله بالبدعة الحسنة وهو القائل: "من استحسن فقد شرع".
والقائل في "الرسالة" ( ص507): "إنما الاستحسان تلذذ".
وعقد فصلاً في كتابه "الأم" (7/293- 304) بعنوان: "إبطال الاستحسان".
لذلك؛ من أراد أن يفسر كلام الشافعي- رحمه الله - فليفعل ضمن قواعد وأصول الشافعي، وهذا يقتضي أن يفهم أصوله، وهذا الأمر مشهود في كل العلوم، فمن جهل اصطلاحات أربابها جهل معنى أقاويلهم، وأبعد النجعة في تفسيرها.
إن المتأمل في كلام الشافعي- رحمه الله - لا يشك أنه قصد بالبدعة المحمودة البدعة في اللغة، وهذا واضح في احتجاج الشافعي- رحمه الله - بقول عمر رضي الله عنه، وعلى هذا الأصل يفسر كلام الشافعي، وأنه أراد ما أراده عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -أي: البدعة اللغوية ( كما سبق بيانه) لا الشرعية؛ فإنها كلها ضلالة؛ لأنها تخالف الكتاب، والسنة، والإجماع، والأثر) انتهى كلامه بتصرف.
الشبهة الحادية عشر: أن بعض العلماء قسم البدعة إلى خمسة أقسام، واجبة كالرد على أهل الزيغ؛ وتعلم العلوم الشرعية وتصنيف الكتب في ذلك، ومندوبة كإحداث الربط والمدارس والأذان على المنائر وصنع إحسان لم يعهد في الصدر الأول، ومكروهة زخرفة المساجد، ومباحة كالتوسع في المأكل والمشرب، ومحرمة وهي ما أحدث لمخالفة السنة ولم تشمله أدلة الشرع العامة ولم يحتو على مصلحة شرعية.
الجواب:
أولاً: بالنسبة إلى تقسيم البدع إلى خمسة أقسام فالجواب عنه: قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (كل بدعةٍ ضلالة) وهذا الحديث عام لم يدخله التخصيص كما سبق بيان ذلك.
ثانياً: قال الإمام الشاطبي في "الاعتصام" (1/246) عن هذا التقسيم:(25/41)
(إن هذا التقسيم أمرٌ مخترع، لا يدل عليه دليلَ شرعي، بل هو في نفسه متدافع؛ لأن من حقيقة البدعة أن لا يدل عليها دليل شرعي؛ لا من نصوص الشرع ولا من قواعده، إذ لو كان هنالك ما يدل من الشرع على وجوبٍ أو ندبٍ أو إباحةٍ؛ لما كان ثَمَّ بدعةٌ، ولَكان العمل داخلاً في عموم الأعمال المأمور بها، أو المخير فيها.
فالجمع بين كون تلك الأشياء بدعاً، وبين كون الأدلَة تدل على وجوبها أو ندبها أو إباحتها جمعٌ بين متنافيين.
أما المكروه منها والمحرم؛ فمسلم من جهة كونها بدعاً لا من جهةٍ أخرى، إذ لو دل دليل على منع أمر ما أو كراهته؛ لم يثبت ذلك كونه بدعة؛ لإمكان أن يكون معصية كالقتل والسرقة وشرب الخمر ونحوها، فلا بدعة يتصور فيها ذلك التقسيم البتة، إلا الكراهية والتحريم حسبما يذكر في بابه).
هذا بالنسبة إلى التقسيم المذكور، أما بالنسبة إلى الأمثلة التي ذكروها لهذا التقسيم فالجواب عنها ما يلي:
(أما الرد على أهل الزيغ فإنه من إنكار المنكر لأن البدع هي أعظم المنكرات بعد الشرك بالله، وهو أيضاً من الجهاد في سبيل الله ومن النصيحة للمسلمين.
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (ما من نبيً بعثه الله في أمةٍ قبلي، إِلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته و يقتدون بأمره. ثم إنها تخلف من بعدهم خلوفٌ، يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون. فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن؛ وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل)رواه مسلم.
وقد أنكر النبي - صلى الله عليه وسلم -على الثلاثة الذين قال أحدهم: أما أنا فأصلي الليل أبداً، وقال آخر: أنا أصوم ولا أفطر، وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبداً، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
(أما والله؛ إني لأخشاكم لله، وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي؛ فليس مني).(25/42)
وأنكر ابن مسعود وأبو موسى رضي الله عنهما على الذين اجتمعوا للذكر بطريقة غير مشروعة؛ كما سبق بيانه،ولما خرج الخوارج وأظهروا بدعتهم أنكر ذلك الصحابة وقاتلوهم، ولم يخالف أحد من الصحابة رضي الله عنهم في إنكار بدعتهم ووجوب قتالهم.وقد وردت
الأحاديث الكثيرة في ذمهم والأمر بقتالهم إذا خرجوا)(1).
وأما بالنسبة للتصنيف في جميع العلوم النافعة فالأصل فيه قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (بلغوا عني ولو آية) رواه البخاري، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: (نضر الله امرءا سمع مقالتي فبلَغها، فرب حامل فقهٍ غير فقيهٍ، ورب حامل فقهٍ إلى من هو أفقه منه) (2)، ومن وسائل التبليغ تصنيف الكتب الشرعية.
( وقد كان بعض الصحابة يكتب الأحاديث في عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم -؛ فقد جاء في سنن الترمذي عن أبي هريرة - رضي الله عنه -أنه قال: " ليس أحد من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -أكثر حديثاً عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مني إلا عبد الله بن عمرو فإنه كان يكتب وكنت لا أكتب"، وذكر أهل السير أنه كان لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -كتاب يكتبون له الوحي وغيره)(3).
بل قد حث النبي - صلى الله عليه وسلم -على كتابة العلم فقال: (قيدوا العلم بالكتابة) (4).
(أما بالنسبة لإحداث الربط فلا نقول بأنه ليس له عهد لدى سلفنا الصالح، فأين أنتم عن الصفة وأهل الصفة، فهي رباط على فقراء الصحابة، وهي أصل في مشروعية وقف الأربطة على الفقراء)(5).(25/43)
(وأما المدارس؛ فلا يتعلق بها أمر تعبدي يقال في مثله: بدعة؛ إلا على فرض أن يكون من السنة أن لا يقرأ العلم إلا بالمساجد، وهذا لا يوجد، بل العلم كان في الزمان الأول يبث بكل مكان؛ من مسجد، أو منزل، أو سفر، أو حضر، أو غير ذلك، حتى في الأسواق فإذا أعد أحد من الناس مدرسة يعين بإعدادها الطلبة؛ فلا يزيد ذلك على إعداده له منزلا من منازله، أو حائطاً من حوائطه، أو غير ذلك فأين مدخل البدعة ها هنا؟!
وإن قيل: إن البدعة في تخصيص ذلك الموضع دون غيره والتخصيص ها هنا ليس بتخصيص تعبدي وإنما هو تعيين بالحبس كما تتعيَّن سائر الأمور المحبسة، وتخصيصها ليس ببدعة،فكذلك ما نحن فيه)(1).
(وأما الأذان على المنارة فلا يدخل في مسمى البدعة لأن البدعة في الأذان هي الزيادة في ألفاظه مثل قول الرافضة أشهد أن علياً ولي الله وقول بعضهم أشهد أن علياً حجة الله، وقولهم حي على خير العمل وتكريرهم قول لا إله إلا الله مرتين في آخر الأذان ورفعهم الصوت بالصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم -بعد الآذان، فهذا هو المبتدع في الأذان. وأما الأذان على المكان المرتفع فهو مروي عن بلال - رضي الله عنه -فقد روى أبو داود والبيهقي عن عروة بن الزبير عن امرأة من بني النجار قالت: "كان بيتي من أطول بيت حول المسجد، وكان بلال يؤذن عليه الفجر"وقد ترجم له أبو داود بقوله: "الأذان فوق المنارة" وترجم له البيهقي بقوله: "الأذان في المنارة")(2).
( وأما صنع الإحسان فإنه من المعروف وليس من البدع سواء كان معهوداً في الصدر الأول أو لم يكن معهوداً فيه.(25/44)
وقد قال الله تعالى: ((إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ)) [النحل:90] وقال تعالى: ((وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِين)) [البقرة:195] والآيات والأحاديث الصحيحة في الحث على الإحسان كثيرة جداً، ولم يحدد صور معينة للإحسان بحيث لا يجوز فعل غيرها، وإنما يذم منه ما تجاوز الحد وكان من التبذير)(1).
(وأما زخرفة المساجد فكيف يقال أنها من البدع المكروهة، وقد نص رسول الله - صلى الله عليه وسلم -على النهي عنها، وقد نهى عنها عمر أيضا، فهي منهي عنها نصاً.
فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (ما أمرت بتشييد المساجد) قال ابن عباس: "لتزخرفنها كما زخرفت اليهود والنصارى" أخرجه أبو داود (2) وأمر عمر ببناء المسجد وقال: "أكن الناس من المطر، وإياك أن تحمر أو تصفر فتفتن الناس")(3).
( وأما بالنسبة للتوسع في المأكل والمشرب فهذه من الأمور المباحة ولا يقصد باستعمالها أمر تعبدي، فهي مشمولة بالنص النبوي الكريم: (أنتم أعلم بأمور دنياكم)رواه مسلم؛ وقوله تعالى: ((وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ)) [الأعراف: 31] فما استحدثه الناس في أمور حياتهم مما لا يتعارض مع النصوص العامة في مراعاة الاقتصاد والإباحة العامة،فلا يعتبر بدعا،فقد عرف العلماء البدعة بأنها طريقة محدثة في الدين)(1).
وأما البدع المحرمة وهي حسب تعريفهم: ما أحدث لمخالفة السنة، ولم تشمله الأدلة العامة؛ ولم يحتو على مصلحة شرعية.
فالجواب عن ذلك: أن هذه الشروط مخالفة للأحاديث النبوية والآثار السلفية التي جاءت في التحذير من البدع عموماً دون تخصيص أو تفصيل بين ما أحدث خلاف السنة أو غيره وإليك البيان:
__________
(1) : "حوار مع المالكي" (ص105) بتصرف.(25/45)
1 - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (كل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة) وهذا الحديث عام في إنكار جميع البدع كما سبق بيان ذلك.
2 - أن النبي - صلى الله عليه وسلم -اخبر عن وقوع الاختلاف بعده فقال: (فإن من يعش منكم؛ فسيرى اختلاَفاً كثيراً) وارشد من يدرك هذا الاختلاف بالتمسك بسنته وسنة الخلفاء الراشدين من بعده فقال: (فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عضوا عليها بالنواجذ) ولم يقل لهم: فعليكم بما يوافق سنتي وسنة الخلفاء الراشدين ولم يخالفها مثلاً، ثم حذرهم من المحدثات عموماً فقال: (واياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة) ولم يقل: وإياكم ومحدثات الأمور المخالفة لسنتي، فإن كل محدثة مخالفة لسنتي وسنة الخلفاء بدعة؛ وكل بدعة مخالفة لذلك فهي ضلالة.
3 - قال الصحابي الجليل عبدالله بن عمر رضي الله عنهما: "كل بدعةٍ ضلالة وإن رآها الناس حسنةً" ولم يخصص بدعة من أخرى.
4 - وقال عبد الله بن مسعود- رضي الله عنه -: "أيها الناس! إنكم ستحدثون ويحدث لكم، فإذا رأيتم محدَثة؛ فعليكم بالأمرِ الأول".
5 - وقد مر معنا إنكار ابن عمر رضي الله عنهما زيادة الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم -بعد العطاس! بحجة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يعلمهم ذلك؛ وكذلك إنكار عائشة رضي الله عنها على المرأة التي سألتها عن سبب أن المرأة الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة بحجة أن الرسول - صلى الله عليه وسلم -لم يأمرهم بقضاء الصلاة وإنما أمرهم بقضاء الصيام.
وكذلك مر معنا إنكار الإمام النووي- رحمه الله - صلاة الركعتين بعد السعي!.
فهذه الأدلة وغيرها تبين فساد تلك الشروط التي اشترطوها في البدعة المنكرة حسب زعمهم.
(والحاصل من جميعِ ما ذكر فيه قد وضح منه أن البدع لا تنقسم إلى ذلك الانقسام بل هي من قبيل المنهي عنه إما كراهةً وإما تحريماً)(1).(25/46)
الشبهة الثانية عشر: يقول البعض: إن ترك الرسول - صلى الله عليه وسلم - للفعل لا يدل على التحريم إلا إذا جاء في ذلك دليل صريح، فكيف يحتج على إنكار البدع الحسنة - حسب زعمهم - بحجة أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يفعل ذلك؟
الجواب:
(أولاً: أن الله تعالى قال فيما امتن به على عباده: ((الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً)) [المائدة: 3] وفي هذه الآية دليل على أنه لا يجوز إحداث البدع لأنها ليست من الدين الذي أكمله الله تعالى لهذه الأمة في حياة نبيها ورضيه لهم.
ثانياً: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ( إن بني إسرائيل تفرقت على ثنتتن وسبعين ملة، وتفترق أمتي على ثلاثٍ وسبعين ملة كلهم في النار إلا ملة واحدةً) قالوا: من هي يا رسول الله؟ قال: (ما أنا عليه وأصحابي) رواه الترمذي(1) وهذا الحديث يدل على أن إحداث البدع لا يجوز لأنها من الأعمال التي لم يكن عليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -وأصحابه رضي الله عنهم)(2).
ثالثاً: ("من المقرر عند ذوي التحقيق من أهل العلم أن كل عبادةٍ مزعومةٍ لم يشرعها لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقوله، ولم يتقرب هو بها إلى الله بفعله، فهي مخالفة لسنته.
لأن السنة على قسمين: سنة فعلية، وسنة تركية.
فما تركه - صلى الله عليه وسلم - من تلك العبادات؛ فمن السنة تركها.
ألا ترى مَثلاً أن الأذان للعيدين ولدفن الميت مع كونه ذكراً وتعظيماً لله عز وجل لم يجز التقرب به إلى الله عز وجل، وما ذاك إلا لكونه سنة تركها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
وقد فهم هذا المعنى أصحابه - صلى الله عليه وسلم -، فكثر عنهم التحذير من البدع تحذيراً عاماً؛ كما هو مذكور في موضعه" .
ولتقرير قاعدة السنة التركية أقول: أصل قاعدة (السنة التركية) مأخوذ من عدة أدلةٍ؛ منها:(25/47)
حديث الثلاثة نفر الذين جاؤوا إلى أزواج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسألون عن عبادة الرسول - صلى الله عليه وسلم - … الخ وقد ذكرته فيما سبق.
فقد أنكر الرسول - صلى الله عليه وسلم - عليهم، ورد فعلهم، مع أن أصل العبادات التي أرادوا القيام بها مشروعة، ولكن لما كانت الكيفية والصفة التي قام بها هؤلاء الثلاثةُ في هذه العبادات ( متروكةً) في تطبيق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وغير واردةٍ فيه، أنكر ذلك عليهم.
فهذه ترجمة عملية منه - صلى الله عليه وسلم - لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا (ولم يقل من عمل عملاً عليه نهينا) فهو رد) .
فهذا عمل مشروع الأصل، لكن ليس عليه أمر النبي - صلى الله عليه وسلم -وهديه، فهو مردودٌ على صاحبه، غير مقبول منه.
وخلاصة القول: "إن الترك - مع حرصه عليه السلام على إحراز فضيلة النفل - دليل الكراهة" كما قاله الإمام العيني كما في "إعلام أهل العصر" للعظيم آبادي (ص95) ومن أمثلة ذلك ما سبقت الإشارة إليه في أول هذا المبحث: الأذان لصلاة العيد:
فالأذان مشروع في أصله، لكن لم يفعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا أصحابه، وتركوه، فتركهم له سنة يجب اتباعهم فيها.
وكذا الأذان للاستسقاء والجنازة ونحوهما.
فمن فعل من التعبديات والقربات ما تركوه؛ فقد واقع البدعة، وتلبس بها.
قال الحافظ ابن رجب في "فضل علم السلف" (ص31): "... فأما ما اتفق السلف على تركه؛ فلا يجوز العمل به؛ لأنهم ما تركوه إلا على علم أنه لا يعمل به".
وللشيخ العلامة الشنقيطي في "أضواء البيان" (6/317-320) مبحثاً ماتعاً في أن الترك فعل؛ فهذا يؤكد أن "الترك سنة" ، إذ تعريف السنة أنها: "ما وَرَدَ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من قولٍ أو فعلٍ أو تقريرٍ أو صفةٍ ".
فتمام اتباع السنة يكون بترك ما وَرَدَ تركه، وفعل ما وَرَدَ فعله، وإلا فباب البدعة يفتح؛ عياذاً بالله تعالى.(25/48)
ولابن القيم - رحمه الله - تفصيل بديع ماتع فيما نقله الصحابة رضي الله عنهم لتركه - صلى الله عليه وسلم -؛ قال رحمه الله: "أما نقلهم لتركه؛ فهو نوعان، وكلاهما سنة:
أحدهما: تصريحهم بأنه ترك كذا وكذا ولم يفعله؛ كقوله في شهداء أحد: "ولم يغسلهم، ولم يصل عليهم"؛ وقوله في صلاة العيد: "لم يكن أذان، ولا إقامة، ولا نداء"، وقوله في جمعه - صلى الله عليه وسلم - بين الصلاتين: "ولم يسبح بينهما ولا على إثر واحدةٍ منهم" ... ونظائره.
والثاني: عدم نقلهم لما لو فعله؛ لتوفرت هممهم ودواعيهم، أو أكثرهم أو واحد منهم، على
نقله، فحيث لم ينقله واحدٌ منهم ألبتة، ولا حدث به في مجمعٍ أبداً؛ عُلم أنه لم يكن…".
ثم ذكر رحمه الله عدة أمثلةٍ على ذلك منها: تركه - صلى الله عليه وسلم - التلفظ بالنية عند دخول الصلاة، وترك الدعاء بعد الصلاة على هيئة الاجتماع … وغير ذلك، ثم قال: "… ومن ها هنا يعلم أن القول باستحباب ذلك خلاف السنة؛ فإن تركه - صلى الله عليه وسلم - سنة كما أن فعله سنة، فإذا استحببنا فعل ما تركه؛ كان نظير استحبابنا ترك ما فعله، ولا فرق ")(1).
تنبيه: قال الشيخ علي الحلبي - حفظه الله - في "علم أصول البدع" (ص114- 118): (كتب الغماري المبتدع رسالةً موجزةً سماها "حُسْنَ التفهم والدَّرْك لمسألةِ الترْك" ، تكلم فيها بكلامٍ غير سديدٍ، خالطاً بين المسائل الأصولية خلطاً قبيحاً، يترفع عنه صغار الطلبة.
ومجال تعقبه وتحقيقِ القول في المسائل التي أوردها في رسالته كبير جدا، أفردت له رسالة خاصة، عنوانها "دفع الشك في تحقيق مسألة الترك" يسر الله إتمامها.
ولكي لا أخلي المقام هنا من إشارةٍ تكشف انحرافه وتناقضه أقول:
ذكر في مواضع من كتابه ( ص9) وغيرها تأصيل مسألة الترك؛ قائلاً:
"فمن زعم تحريم شيءٍ بدعوى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يفعله؛ فقد ادعى ما ليس عليه دليل، وكانت دعواه مردودةً".(25/49)
وقال (ص124): "ترك الشيء لا يدل على منعه؛ لأنه ليس بنهي".
وقد ذكر (ص151) أمثلةً على الترك مستحسناً لها؛ منها:
1- الاحتفال بالمولد النبوي.
2- تشييع الجنازة بالذكر.
3- إحياء ليلة النصف من شعبان. وغيرها!
لكنه - من قبل و من بعد - ناقض نفسه، فعد بعض المحدثات التي هي جارية على أصوله مساق الحسن والاستحسان: بدعاً قبيحةً، ومحدثاتٍ سخيفةٍ!!
فقد قال ( ص37): "وأما المغاربة؛ فزادوا بدعةً أخرى، وهي إقامة الجمعة في المساجد على التوالي والترتيب... وهذا اتساع في الابتداع، لا يؤيده دليل!!
ولا تشمله قاعدة!!".
كذا قال ناقضاً ما أصله قبل!
وماذا؟! اتساع في الابتداع!!
فأين أدلة استحساناتك وقواعد محدثاتك؟!
وقال ( ص38): "بعض الأئمة الجهلة يخطب الجمعة ويصليها في مسجدٍ، ثم يذهب إلى مسجدٍ آخر، فيخطب فيه الجمعة، ويصليها أيضاً، فيرتكب بدعةً قبيحةً، ويصلي جمعةً باطلةً، يأثم عليها ولا يثاب".
كذا!! وهو تناقض عجاب!!
وقال ( ص38- 39): "شاع في المغرب الأذان للظهر مرتين، بينهما نحو ساعةٍ، والأذان للعصر مرتين بينهما عشر دقائق، وفي تطوان يؤذن للعشاء مرتين أيضاً، وهذه بدعةٌ سخيفةٌ، لا توجد إلا في المغرب، ولم يشرعِ الأذان؛ إلا عند دخول الوقت للإعلام بالصلاة، والأذان بعده لاغٍ غير مشروعٍ".
وغير هذا وذاك من أمثلةٍ تجعل كتابه كله (( عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ)) [التوبة:109].
فما هو الذي جعل هذه المحدثات منكرةً عندك وهي مستحسنة عند أصحابها؟!
فلماذا رفضتها أنت منهم بلا ضابطٍ؟!
ولماذا هم لا يرفضون - أيضاً - مستحسناتك؟!
ثم ألا تدخل هذه المحدَثات كلها التي أنكرتها تحت العمومات القرآنية التي أشرت إليها فيصدر رسالتك الشوهاء ( ص11) جاعلاً إياها الأصل في استحسان البدع؛ كمثل قوله تعالى: ((وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)) [الحج: 77]... وغيرها؟!(25/50)
فلماذا تصف تلك الفعال - وهي خير - بالسخافة وتشنع على أصحابها بالإنكار؟!
وأنت القائل ( ص11): "فمن زعم في فعل خيرٍ مستحدثٍ أنه بدعةٌ مذمومةٌ؛ فقد أخطأ وتجرأ على الله ورسوله، حيث ذم ما ندبا إليه في عموميات الكتاب والسنة" !
فهذا حكم منه على نفسه أوقعه على أم رأسه! وإبطالٌ لكتابه من أسه وأساسه!
وأوضح من السابق كله ما قاله ( ص39) في حكم إرسال اليدين في الصلاة، حيث صرح بقوله: "لم يفعله النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا الصحابة؛ فهو بدعة لا شك".
ووصفَها (ص40) بأنها: "زلةٌ قبيحةٌ، حيث جعلوا البدعة مندوبة، والسنة مكروهةً!!" .
قلت - القائل الشيخ علي الحلبي -: وبيان كبير زلَله في هذا الموضعِ أن ( عدم الفعل) هو عين (الترك)!!
فاستدل بمجرد ( الترك) على الحكم بالبدعية والوصف بقبح الزلة!!
وهل غير هذا نقول؟!
أم أنه الانحراف عن الجادة؟ والخلط في تخريج الفروع على الأصول!!
وما أحسن كلامه ( ص51) مقلوباً على نفسه: "وأغلب أخطاء هؤلاء المبتدعة -وما أكثرها- تأتي من جهة جهلهم بالأصول، وعدم تمكنهم من قواعده، مع ضيقِ باعهم، وقلة اطلاعهم" !! فلا قوة إلا بالله، ولا رب سواه.
وصفوة القول في هذه المسألة العظيمة ما قاله الإمام الشافعي رحمه الله تعالى تقعيداً وتأصيلاً كما في "فتح الباري" (3/475): "ولكنا نتبع السنة فعلاً أو تركاً" ) انتهى كلام الشيخ علي الحلبي جزاه الله خيراً.
الشبهة الثالثة عشر: أن بعض الصحابة قد فعلوا أمورا تعبدية ولم يكن فيها دليل خاص؛ ومع ذلك أقرهم الرسول - صلى الله عليه وسلم -؛ ولم ينكر عليهم ذلك، كقصة خبيب بن عدي - رضي الله عنه - التي رواها البخاري وفيها ان المشركين لما أرادوا أن يقتلوه طلب منهم أن يتركوه لكي يصلى ركعتين قبل القتل فقال أبو هريرة راوي القصة: " فكان خبيب هو الذي سن الركعتين لكل امرئ مسلم قتل صبراً"، وقصة بلال - رضي الله عنه - عندما كان يصلي ركعتين بعد كل وضوء.(25/51)
فدل ذلك على جواز إحداث أمور تعبدية وإن لم يفعلها الرسول - صلى الله عليه وسلم -.
الجواب:
(ان فعل الصحابة موقوفاً على إقرار النبي - صلى الله عليه وسلم - له، وكان فعلهم قبل نزول آية كمال الدين وتمام النعمة.
وأما بعدها مما ابتدعه الخلف فمن أين لهم أن يعلموا إن كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقره أو ينهى عنه؟ أبالكشف الصوفي؟!
ولئن اقر النبي - صلى الله عليه وسلم - فعل خبيب وبلال في الصلاة بعد كل وضوء فإنه لم يقر البراء بن عازب على خطئه في الدعاء الذي علمه إياه النبي - صلى الله عليه وسلم - وفيه: (آمنت بكتابك الذي أنزلت وبنبيك الذي أرسلت) فقال البراء: "فجعلت استذكرهن: وبرسولك الذي أرسلت"،فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا، وبنبيك الذي أرسلت) رواه البخاري ومسلم.
ولم يقر النبي - صلى الله عليه وسلم - عثمان بن مظعون على التبتل وسماه رهبنة، ولم يقر الصحابة الذين سألوا عن عبادةِ النبي - صلى الله عليه وسلم - فلما أخبروا بها، كأنهم تقالوها، فقالوا: وأين نحن من النبي - صلى الله عليه وسلم -؟
قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، قال أحدهم: أما أنا؛ فأنا أصلي الليل أبداً، وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبداً، فجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: (أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟! أما والله؛ إني لأخشاكم لله، وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي؛ فليس مني) رواه البخاري وقد مر معنا سابقاً.
فمن أين تضمنون إقرار النبي - صلى الله عليه وسلم - لبدعكم وقد مات؟ وقد بلغكم قبل موته أن كل بدعة في الدين مردودة؟)(1).
وكل هذا يدل على ان ما أحدثه بعض الصحابة من أمور تعبدية أصبح سنة بإقرار الرسول - صلى الله عليه وسلم -لا بمجرد فعل الصحابة.(25/52)
وقد قال عبد الفتاح أبو غده(2)؛ بعد ذكره لقصة خبيب بن عدي - رضي الله عنه -: ( قال العلامة القسطلاني في "إرشاد الساري" (5/165): "وإنما صار فعل خبيب سنةً، لأنه فعل ذلك في حياة الشارع - صلى الله عليه وسلم - واستحسنه".
وقال أيضاً (5/261): "وإنما صار ذلك سنةً، لأنه فعل في حياته - صلى الله عليه وسلم - فاستحسنه و اقره".
وقال أيضاً(6/314): "واستشكل قوله: "أول من سن"، إذ السنة إنما هي أقوال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأفعاله وأحواله، وأجيب بأنه فعلهما في حياته - صلى الله عليه وسلم - واستحسنهما"انتهى كلام القسطلاني.
- ثم قال أبو غدة -: وواضح من حديث أبي هريرة وقصة قتل خبيب فيه:
"أن لفظ ( السنة) ولفظَ ( سن) معناه: الفعل المشروع المتبوع في الدين، وعلى هذا فلا يصح لمتفقهٍ أن يستدل على سنية صلاة الركعتين عند القتل، بأن الحديث جاء فيه لفظ "سن"، فتكون صلاتهما سنةً مستحبةً، لأن حكم السنية لصلاة ركعتين هنا استفيد من دليلٍ آخر خارج لفظ "سن" بلا ريب وهو إقرار الرسول - صلى الله عليه وسلم - لفعله)(1).
الخاتمة وتحتوي على طريق الخلاص من البدع
(بعد أن ظهر جلياً أن (كل بدعة ضلالة)، فما هو طريق الخلاص من البدع التي هي مفتاح الضلال؟
فالجواب هو ما قاله الرسول الأعظم - صلى الله عليه وسلم -: (تركت فيكم أمرين ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبداً: كتاب الله وسنتي) رواه مالك في "الموطأ" والحاكم.(25/53)
وقال الموفق ابن قدامة في "ذم التأويل" (ص35) بعد أن ذكر أدلةً كثيرةً في لزوم اتباعِ السلف الصالح: "قد ثبت وجوب اتباع السلف رحمة الله عليهم بالكتاب والسنة والإجماع، والعبرة دلت عليه؛ فإن السلف لا يخلوا من أن يكونوا مصيبين أو مخطئين، فإن كانوا مصيبين؛ وجب اتباعهم؛ لأن اتباع الصواب واجبٌ وركوب الخطأ حرامٌ، ولأنهم إذا كانوا مصيبين كانوا على الصراطِ المستقيم ومخالفهم متبعٌ لسبيل الشيطان الهادي إلى صراط الجحيم،وقد أمر الله تعالى باتباع سبيله وصراطه، ونهى عن اتباع ما سواه، فقال: ((وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)) [الأنعام: 153].
وإن زعم زاعم أنهم مخطئون؛ كان قادحاً في حق الإسلام كله؛ لأنه إن جاز أن يخطئوا في هذا؛ جاز خطؤهم في غيره من الإِسلام كله، وينبغي أن لا تنقل الأخبار التي نقلوها، ولا تثبت معجزات النبي - صلى الله عليه وسلم - التي رووها، فتبطل الرسالة، وتزول الشريعةُ ولا يجوز لمسلم أن يقول هذا أو يعتقده".
إذن؛ "الطريق الوحيد للخلاص من البدع وآثارها السيئة هو الاعتصام بالكتاب والسنة اعتقاداً وعِلماً وعملاً" محوطاً ذلك كله بالاهتداء بهدي السلف وفهمهم ونهجهم وتطبيقهم لهذين الوحيين الشريفين؛ فهم - رحمهم الله - أعظم الناس حباً وأشدهم اتباعاً، وأكثرهم حرصاً، وأعمقهم علماً، وأوسعهم درايةً.
بهذا الطريق - وحسب - يتمسك المسلم بدينه مبرءاً من كل شائبة، بعيداً عن كل محدثةٍ ونائبة.
فـ (عضوا عليه بالنواجذ)؛ تهتدوا وترشدوا.(25/54)
وهذا الطريق يسيرً على من يسره الله له، وسهل على من سهله الله عليه، لكنه يحتاج إلى جهودٍ علميةٍ ودعويةٍ متكاتفةٍ متعاونةٍ، ساقها الصدق، وأساسها الحب والأخوة - بعيداً عن أي حزبيةٍ أو تكتلٍ أو تمحورٍ -، ومنطلقها العمل بأمرِه تعالى: ((وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ)) [المائدة: 2].
والله الهادي - وحدَه - إلى سواءِ السبيل)(1) والحمد لله رب العالمين.
المراجع
1- "الاعتصام" للإمام الشاطبي تحقيق سليم الهلالي. دار ابن عفان بالخبر ط1
2- "اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم" لشيخ الإسلام ابن تيمية.تحقيق ناصر بن عبد الكريم العقل. مكتبة الرشد بالرياض ط5.
3- "مجموع الفتاوى" لشيخ الإسلام ابن تيمية.
4- "الباعث على إنكار البدع والحوادث" للإمام أبي شامة تحقيق مشهور حسن آل سلمان.دار الراية بالرياض ط.
5- "ما جاء في البدع" للإمام محمد بن وضاح القرطبي تحقيق بدر البدر. دار الصميعي بالرياض ط1.
6- "الأمر بالاتباع والنهي عن الابتداع" للسيوطي تحقيق مشهور حسن آل سلمان. دار ابن القيم بالدمام ط1.
7- "علم أصول البدع" للشيخ علي بن حسن الحلبي. طبعة دار الراية بالرياض ط2
8- "البدعة وأثرها السيئ في الأمة" للشيخ سليم الهلالي.دار الهجرة بالدمام ط3.
9- "اللمع في الرد على محسني البدع" لعبد القيوم السحيباني. مكتبة الخضيري ط1
10- "حقيقة البدعة وأحكامها" لسعيد الغامدي. مكتبة الرشد بالرياض ط2.
11- "شيوخ الأزهر والزيادة في الدين" لعبد الله القصيمي. مطبعة المنار بمصر ط1
12- "الموقظة من السنة على ألا بدعة حسنة" لمحمد بن أحمد مود الشنقيطي. مكتبة الأقصى بالدوحة ط1.
13- "إشراقة الشرعة في الحكم على تقسيم البدعة" لأسامة القصاص.المكتب الإسلامي ببيروت
14- "الأجوبة النافعة عن أسئلة لجنة مسجد الجامعة" للعلامة الألباني.المكتب الإسلامي ببيروت ط2.(25/55)
15- "مختصر كتاب الاعتصام" لعلوي بن عبد القادر السقاف.دار الهجرة بالرياض ط1.
16- "حوار مع المالكي في رد منكرته وضلالاته" للشيخ عبدالله بن منيع ط2.
17- "الرد القوي على الرفاعي والمجهول وابن علوي وبيان أخطائهم في المولد النبوي" للعلامة حمود التويجري. دار اللواء بالرياض ط1.
18- "القول الفصل في حكم الاحتفال بمولد خير الرسل" للعلامة إسماعيل الأنصاري طبعة الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والدعوة والإرشاد بالسعودية الأولى.
19- "مساجلة علمية بين الإمامين الجليلين العز بن عبد السلام وابن الصلاح حول صلاة الرغائب المبتدعة" بتحقيق الألباني والشاويش.المكتب الإسلامي ببيروت ط2.
20- " موسوعة أهل السنة" للشيخ عبد الرحمن دمشقية.دار المسلم بالرياض ط1
21- "مقدمة في أصول التفسير" لشيخ الإسلام ابن تيمية تحقيق محب الدين الخطيب.المكتبة السلفية بالقاهرة ط5.
22- "الأذكار" للإمام النووي.طبعة المكتبة العلمية ببيروت ط2.
23- "تفسير القرآن العظيم" للإمام ابن كثير. دار المعرفة ببيروت ط9.
24- "المجموع شرح المهذب"للإمام النووي تحقيق محمد المطيعي دار إحياء التراث العربي.
25- "السنة" للإمام محمد بن نصر المروزي تحقيق سالم بن أحمد السلفي.مؤسسة الكتب الثقافية ببيروت ط1.
26- "السنة" للإمام ابن أبي عاصم تحقيق الشيخ الألباني. المكتب الإسلامي ببيروت ط3
27- "شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة" للإمام اللالكائي تحقيق أحمد بن سعد الغامدي.دار طيبة بالرياض ط5.
28- "فتاوى الإمام النووي" تحقيق محمد الحجار دار البشائر الإسلامية ببيروت.
29-"فتاوى العز بن عبد السلام" للعز بن عبد السلام تحقيق محمد جمعة كردي.مؤسسة الرسالة ببيروت ط1.
30- "الإحكام في أصول الأحكام" للإمام ابن حزم. دار الكتب العلمية ببيروت.
31- "سلسلة الأحاديث الصحيحة" للعلامة الألباني. مكتبة المعارف بالرياض.(25/56)
32- "سلسلة الأحاديث الضعيفة" للعلامة الألباني. مكتبة المعارف بالرياض ط1.
33- "إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل" للعلامة الألباني. المكتب الإسلامي ببيروت ط2.
34- "صحيح سنن أبي داود" للعلامة الألباني. مكتبة المعارف بالرياض ط1.
35- "صحيح سنن ابن ماجة" للعلامة الألباني. مكتبة المعارف بالرياض ط1.
36- "صحيح سنن النسائي" للعلامة الألباني. مكتبة المعارف بالرياض ط1.
37- "السنة النبوية وبيان مدلولها الشرعي والتعريف بحال سنن الدارقطني" لعبد الفتاح أبو غدة.مكتبة المطبوعات الإسلامية بحلب ط1.
38- "فتاوى شرعية وبحوث إسلامية" حسنين محمد مخلوف. دار وهدان ط4.
39- "الفتاوى" لمحمد متولي الشعراوي. دار الندوة الجديدة ببيروت.(25/57)
بسم الله الرحمن الرحيم
التأدب مع رسول الله في ضوء الكتاب والسنة
تأليف /حسن نور حسن
- شكر وتقدير:
الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين ولا عدوان إلا على الظالمين وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
وبعد.. فإن شكر النعمة أمر واجب لمعطيها ولمن كان سبباً لها لقوله تعالى: ((وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنْ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ)) [لقمان:14].
ومن هذا المنطلق، أشكر الله تعالى على ما أسداه إليّ من نعم وفضل وبخاصة نعمة التوفيق والانتساب لجامعة أم القرى العريقة لأنهل من مواردها الصافية وبخاصة في مجال دراسة علوم القرآن والحديث.
وبعد شكر الله تعالى أتوجه بالشكر لعباده الخيرين القائمين على أمر كلية الدعوة وأصول الدين وعلى رأسهم سعادة عميد الكلية وسعادة وكيله وسعادة رئيس قسم الكتاب والسنة.
ولا يفوتني أن أوجه الشكر لسعادة الأستاذ الدكتور أحمد أحمد علوش على ما بذله معي في هذه الرسالة من نصح خالص وتوجيه سديد وإرشاد مستمر، وتشجيع صادق.
كما أني أشكر الأخ الفاضل الذي سعى إلى طبع هذه الرسالة والله أسأل أن يجزيه عني خير الجزاء.
وأخيراً وليس آخراً أشكر للقائمين على إدارة دار المجتمع بجدة التي تولت طبع هذه الرسالة.
وختاماً أشكر لكل من ساعدني ولو بالدعاء والأماني الطيبة وجزى الله الجميع خيراً والله الموفق.
المؤلف
المقدّمة
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أنّ لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له وأشهد أنّ محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.(26/1)
وبعد: فإنّ كل مسلم مخلص يجد نفسه مرتبطاً برسول الله صلى الله عليه وسلم صاحب الفضل في إيصال الإسلام إلى الناس كافة فهو الذي بواسطته جاء الوحي بشقيه القرآن والسنة إلى البشر أجمعين، يأخذون منهما منهج السعادة في الدنيا والآخرة.
وقد أراد الله -سبحانه وتعالى- بفضله ومنّه الخير لي إذ جعلني من طلاب العلم الذين يدرسون العلوم الشرعية، وبالأخص علوم القرآن الكريم والسنة النبوية اللذين هما مصدرا الإسلام الأساسيان.
وهذه نعمة من نعم الله تعالى التي لا تعد ولا تحصى: ((وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ)) [النحل:18].
وأشكر الله على ذلك آملاً في المزيد.
((لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ)) [إبراهيم:7].
وقد ازداد هذا الخير بأن مكّنني الله من الاستمرار في نفس التخصص في مرحلة الدراسات العليا حيث قبلت بالدراسات العليا الشرعية بكلية الشريعة والدراسات الإسلامية بجامعة أم القرى فرع الكتاب والسنة في بلد الله الحرام الذي تهوى إليه أفئدة المؤمنين من أنحاء المعمورة تحقيقاً لدعوة أبي الأنبياء إبراهيم عليه السلام كما حكى لنا القرآن الكريم: ((رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنْ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنْ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ)) [إبراهيم:37].
وهذه نعمة أخرى أحمد الله سبحانه وتعالى عليها وأشكره وأنا راض سعيد، حيث ازدادت صلتي بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وتحققت أمنيتي بالاستمرار في هذا الطريق الحبيب.(26/2)
ولمّا حان موعد كتابة رسالة الماجستير لم أجد أفضل من أن أعيش مع صاحب الرسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي جعله الله أسوة وقدوة للمؤمنين ليقتدوا به. حيث يقول سبحانه: ((لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً)) [الأحزاب:21].
وقد عشت مع هذا الأمل ووفقني الله لاختيار موضوع: (التأدب مع الرسول صلى الله عليه وسلم في ضوء الكتاب والسنة) عساي أن أوضح هذا الجانب الهام الذي يحتاج إليه البشر عموماً والمسلمون على وجه الخصوص.
وأهمية كل دراسة ترتبط بموضوعها، وبذلك يأخذ موضوعي هذا أهمية كبرى لتعلقه بأسلوب التعامل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنته وتعاليمه حياً وميتا.
فلقد أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحق للناس جميعاً، يدعوهم للهدى، ويوجههم للخير، ويحرص على تحقيق المصلحة يقول تعالى: ((وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً)) [سبأ:28].
ويقول تعالى: ((يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً * وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُنِيراً)) [الأحزاب:45-46].
ويقول تعالى: ((وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)) [الشورى:52].
ويقول تعالى: ((لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ)) [التوبة:128].(26/3)
ولرسول الله صلى الله عليه وسلم فضل على أمته، فلقد بلغهم الوحي ونصحهم وأتم لهم الدين وكمل لهم الرسالة وأدى الأمانة المكلف بها من قبل الله على أتم وجه بشهادة الصحابة في حجة الوداع حينما قال لهم أثناء خطبته بوادي عرنة يوم عرفة قال: (وأنتم مسؤولون عنّى فما أنتم قائلون؟ قالوا: نشهد أنّك قد بلغت وأديت ونصحت. فقال بأصبعه السبابة يرفعها إلى السماء وينكتها(1) إلى الناس: اللهم أشهد اللهم أشهد) ثلاث مرات(2).
وقد منّ الله على المؤمنين ببعثه صلى الله عليه وسلم فيهم معلماً ومزكياً ورسولاً يأخذهم إلى طريق الفوز والنجاة.
يقول تعالى: ((لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ)) [آل عمران:164].
يقول بعض المفسرين: (اعلم أنّ بعثة الرسول إحسان من الله إلى الخلق، ثم أنّها لمّا كان الانتفاع بالرسول أكثر كان وجه الإنعام في بعثه الرسل أكثر. وبعثة محمد صلى الله عليه وسلم كانت مشتملة على الأمرين:
أحدهما: المنافع الحاصلة من أصل البعثة.
الثاني: المنافع الحاصلة بسبب ما فيه من الخصال التي ما كانت موجودة في غيره.
__________
(1) ينكتها بتاء مثناة من فوق في رواية مسلم والصواب ينكبها بباء موحدة كما قال القاضي عياض ومعناه يقلبها ويرددها إلى الناس مشيراً إليهم من نكب كنانته إذا قلبها. وهكذا في شرح النووي على صحيح مسلم (8/184)، ويشهد له رواية أبي داود وابن ماجة حيث وردت فيها بالباء الموحدة. انظر سنن أبي داود، كتاب المناسك، باب صفة حجة النبي صلى الله عليه وسلم (2/85)، وسنن ابن ماجة، كتاب المناسك، باب حجة رسول الله صلى الله عليه وسلم (2/1025).
(2) صحيح مسلم، كتاب الحج، باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنه-.(26/4)
أما المنفعة بسبب أصل البعثة فهي التي ذكرها الله تعالى في قوله: ((رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لأَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً)) [النساء:165].
وأمّا المنافع الحاصلة بسبب ما كان في محمد صلى الله عليه وسلم من الصفات فأمور ذكرها الله تعالى في هذه الآية)(1).
والخصال التي تشير إليها هذه الآية هي: أنّه صلى الله عليه وسلم من أنفسهم لا من غيرهم من الأجناس الأخرى من الأمم ولا من المخلوقات الأخرى كالملائكة وأنّه يبلغ إليهم الوحي ويزكيهم من كل مخلفات الجاهلية من عبادة الأصنام والأوثان ويعلمهم القرآن والسنة مع أنهم كانوا قوماً أميين كما تشير إليه آية أخرى وهي قوله تعالى: ((هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ)) [الجمعة:2].
وكما منّ الله تعالى على المؤمنين ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم فيهم، وجههم إلى ضرورة التأدّب معه وذلك يتم بعدة وجوه تشير إليها الآيات التالية: يقول تعالى: ((وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا)) [الحشر:7].
ويقول تعال: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ)) [الحجرات:1].
ويقول تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ)) [الحجرات:2].
ويقول تعالى: ((إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً)) [الأحزاب:56].
__________
(1) التفسير الكبير للأمام فخر الدين الرازي (9/78).(26/5)
ويقولى تعالى: ((لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً)) [النور:63].
ومجمل الآيات يوضح مسؤولية المسلم إزاء رسول الله صلى الله عليه وسلم من ناحية الطاعة العملية والاعتقاد القلبي والسلوك الخلقي والكيفية التي يجب على المسلم أن يتعامل بها مع النبي صلى الله عليه وسلم ومع شرعه حيّاً وميّتا. وعلى الجملة أهمية الموضوع تنحصر فيما يلي:
أولاً: أنّ المسلم يجد نفسه مرتبطاً برسول الله صلى الله عليه وسلم بذكره آناء الليل وأطراف النهار -فهو يشهد له بالرسالة في كلمة التوحيد وفي التشهد وفي الأذان ويصلي عليه في الصلوات المكررة كل يوم ويراه في كل عبادة وحياة المؤمن كلها عبادة وحيث أنّ الأمر كذلك فهو في حاجة إلى أن يعرف مقام رسول الله بحق حتى يتأدب معه بطريقة مشروعة وبمنهج مثاب عليه.
ثانياً: هنالك من الناس من يغفل عن التأدب مع رسول الله -عن جهل أو عن تقصير- ويحتاج هذا الأمر إلى بيان كيفية التأدب مع رسول الله لكي يلتزم المقصر باقتناع ويصحو الغافل بعلم.
ثالثاً: وهناك فريق من المسلمين يغالون في التأدّب مع الرسول ويتصورون المغالاة ديناً، ولذا وجب أن يحدد الأدب المشروع بدليله الصحيح لتبطل المغالاة، ويستقيم الناس على الحق والصواب.
رابعاً: ظهرت بعض مذاهب منحرفة تدعي حب الرسول والتوجه إليه بأدب. وتخترع في سبيل ذلك شرائع وعقائد بقصد تشويه تعاليم الإسلام الصحيحة، وصرف المسلمين عن حقيقة الإسلام وتطبيقاته، وهذا أمر يحتاج إلى التصدي بالعلم وبالأدلة الصحيحة من الكتاب والسنة ليتبين الرشد من الغي ويحيا من يحيا عن بيّنة، ويضل من يضل عن بينة كذلك.
خامساً: الأدب مع الرسول بصورة عامة من القضايا التي يحتاج إليها كل مسلم في كل عصر ومصر، ولذا فإن جمعه في مؤلف واحد يوضح الطريق وييسر الاستفادة أمر يستحق الاهتمام وخاصة في عصرنا الحاضر المليء بالنظريات الهدامة.(26/6)
ولتحقيق تلك الأهداف التي أشرت إليها اتبعت منهجاً علمياً يعتمد على الأسس التالية:
(أ) قسّمت الموضوع إلى أبواب وفصول ومباحث حسب ما تتطلبه الدراسية وعلى ضوء التسلسل العلمي السليم.
(ب) في كل مبحث أبيّن المراد منه ثم أوضّح آراء العلماء فيه.
(ج) أورد أدلة كل فريق من العلماء في المسائل المختلف فيها مع توجيه الأدلة نحو الرأي التي سيقت له كما ذكر العلماء أنفسهم.
(د) أعقد مناقشة بين الأدلة وذلك بمواجهة أدلة كل فريق بأدلة معارضيه.
(هـ) انتهي من المسألة ببيان الرأي الراجح مع بيان وجه الترجيح.
وقد اعتمدت على القرآن الكريم والسنة النبوية وعلى عديد من المصادر والمراجع الأصلية التي لها صلة بالموضوع ككتب التفسير وكتب السنة وشروحها وكتب السيرة والمغازي وكتب الشمائل والخصائص وكتب العقيدة والفرق، وكتب الفقه وأصوله، وغيرها من الكتب.
(و) بالنسبة لآيات القرآن وأحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم فسوف أجعلها في قوسين، واحد في بدايتها وآخر في نهايتها مع وضع نقاط في البداية إذا كان النص جزءاً ممّا قبله، وأمّا إذا كان ما بعده جزءاً منه فسوف أضع النقاط في آخر الكلام لبيان أنّ النص لم ينقل بأكمله، وأمّا إذا حذفت بعض النص من الوسط فسوف أضع النقط في الوسط للعلة نفسها بشرط أن يكون الحديث من كلام النبي صلى الله عليه وسلم.
وبالنسبة للنصوص المقتبسة من غير القرآن الكريم والسنة النبوية فسوف أحصرها بعلامات الاقتباس "" هكذا مع وضع النقاط في مواطن الحذف التي أشرت إليها.
وكل هذا في النصوص التي لم أتعرض لها بالتصرف، وأمّا إذا أحلتها إلى أسلوبي الخاص فسوف أكتفي بالإشارة إلى مصدرها أو مرجعها في الهامش مع الذكر أني تصرفت فيها تحقيقا للأمانة العلمية.
وسوف أقوم أيضاً بعزو كل نص مقتبس إلى موضعه الأصلي وفق المنهج الآتي:
أولاً: النصوص القرآنية: أشير في الهامش إلى اسم السورة ورقم الآية.(26/7)
ثانياً: أما النصوص النبوية فسوف أقوم بعزوها إلى مصادرها الأصلية مكتفياً بمصدر واحد إذا لم يكن هناك ما يقتضي ذكر أكثر من مصدر مع الإشارة إلى اسم الكتاب والباب والجزء والصفحة في الهامش.
وبالنسبة لدرجة الحديث، فسوف أذكر من نص من الأئمة على ذلك صحة وضعفاً إذا كان في غير الصحيحين لاتفاق الأمة على قبول ما ورد فيهما مرفوعاً مسنداً.
ومن ناحية أسانيد الأحاديث فلا أتطرق إلى رجالها إلا ما ورد في الباب الثالث من هذه الرسالة وخاصة أسانيد الأحاديث من طرف الخصم المرجوح مع الاكتفاء بذكر الرجل المجروح من قبل أئمة هذا الشأن لا كل الرجال في السند لحصول الغرض بواحد أو اثنين منهم في مقام التضعيف والرد بعكس ما هو مطلوب في مقام التصحيح والقبول إذ أن وجود رجل واحد في السند يكفي لرد قبول الاحتجاج بالحديث وليس العكس كما هو معلوم.
من ناحية النصوص المقتبسة من كتب المعاجم والقواميس فأذكر المادة أحياناً مع الإشارة إلى اسم الكتاب والجزء والصفحة.
من ناحية النصوص المقتبسة من المراجع والمصادر غير ما ذكرت فسوف أقوم بعزوها إلى مرجعها مع الإشارة إلى الاسم المتعارف عليه للكتاب والجزء والصفحة في الهامش وأؤخر اسم الكتاب كاملاً في ثبت المراجع مع ذكر الطبعة وتاريخها ودار النشر ومكانها إن أمكن.
بالنسبة لمؤلفي المصادر والمراجع فلا أتطرق إلى الترجمة لكل واحد بل أكتفي بذكر اسمه المشهور مع كتابه في أول وروده وأؤخر ذكر اسمه الكامل مع كتابه في ثبت المراجع إذا كان المؤلف من المشهورين أو المعاصرين، وأمّا غيرهم فسوف أضيف إلى ذلك ترجمة موجزة لهم أذكر فيها أسماءهم كاملة وتاريخ ولادتهم ووفاتهم كلما أمكن ذلك.
هذا هو المنهج الذي اتبعته مع النصوص الواردة في هذا البحث، وقد جاء مشتملاً على مقدمة وثلاثة أبواب وخاتمة.(26/8)
ففي المقدمة: تحدثت عن أهمية الموضوع وسبب اختياري له، والمنهج الذي اتبعت في بحثه، وأهم المشاكل التي واجهتني وخطة البحث بإجمال.
وأما في التمهيد: فقد تحدثت فيه عن تعريف الأدب في اللغة وفي الاصطلاح وضرورة الالتزام بالتأدب مع الرسول صلى الله عليه وسلم بما جاء في القرآَن الكريم والسنة النبوية الثابتة.
وفي البالب الأول: تحدثت فيه عن أسباب قيام الأمة بالأدب مع الرسول صلى الله عليه وسلم وذكرت فيه نسبه الطاهر وتربيته وأهم صفاته قبل النبوة وبعد النبوة ومواقفه من المشركين المعاندين لرسالته من احتمال الأذى وعدم خضوعه لمغرياتهم، وإكمال الدين على يديه.
وفي الباب الثاني: -وهو أهم الأبواب- فقد تحدثت فيه عن أنواع الأدب مع الرسول صلى الله عليه وسلم وقد قسّمتها إلى ثلأثِة أنواع:
النوع الأول: الأدب القلبي -وهو ما كان محله القلب كالإيمان بنبوته- صلى الله عليه وسلم ومحبته.
النوع الثاني: الأدب القولي -وهو ما كان محله اللسان. مثل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم.
النوع الثالث: الأدب العملي -وهو ما كان محله الجوارح غير اللسان مثل اتباعه صلى الله عليه وسلم وتنفيذ أمره.
وفي الباب الثالث: -فقد تحدثت فيه عمّا ينافي التأدب مع الرسول صلى الله عليه وسلم وإن كان يقصد فاعله التأدب بعينه عن جهل أو تأويل أو غير ذلك مثل الاحتفال بمولده صلى الله عليه وسلم وشد الرحال إلى قبره صلى الله عليه وسلم دون مسجده وغيرها من البدع الأخرى التي تصحب ذلك أو تفعل في مسجده صلى الله عليه وسلم.
وفي الخاتمة: فقد ذكرت أهم النتائج التي توصلت إليها أثناء البحث.
ولا شك أنّ عملاً كهذا يتطلب جهداً كبيراً لإنجازه حتى يخرج إلى حيز الوجود في أكمل صورته.(26/9)
وقد بذلت جهداً متواصلاً تجاه هذا البحث مع أنّي لاقيت صعوبات كثيرة وأهمها ما هو متعلق بمراجع الموضوع من بحث وتنقيب في الكتب المطبوعة وغير المطبوعة ومن تنسيق وترتيب واستنباط وغير ذلك. وأخيراً: أسجل هنا أهم الصعوبات التي واجهتني:
(أ) لم أجد من تكلم عن هذا الموضوع في مؤلف واحد مما كلفني مراجعة بطون الكتب التي لها صلة بهذا الموضوع من قريب ومن بعيد ككتب التفسير وكتب الحديث وشروحها وكتب السيرة والمغازي وكتب الشمائل وغير ذلك من مطبوع ومخطوط.
(ب) الذين تطرقوا إلى موضوع من مواضيع هذه الرسالة ينقسمون إلى فئتين:
الفئة الأولى: تذكر النصوص الواردة في المسألة من القرآن والسنة سرداً دون تعليق.
وأما الفئة الثانية: فهي على نقيض ذلك إذ تخصص كتاباً كاملاً لموضوع من مواضيع رسالتي وتتكلم عنه بالتفصيل، وحينئذٍ أجد صعوبة في استخلاص المعلومات التي تتمشى مع حجم رسالتي وخاصة المبحث الذي خصصت لتلك المسألة إذ أنّ كتاباً واحداً من تلك المؤلفات يوازي ما في هذه الرسالة أو أكثر، فما بال المبحث الذي هو جزء من فصل ضمن باب من رسالة مكونة من عدة أبواب.
(ج) بعض المراجع لهذا الموضوع ما زالت مخطوطة ولم أتمكن من الوصول إليها، ولذلك اضطررت إلى اقتباس بعض النصوص المعزوة إلى تلك المخطوطات من مراجع فرعية.
(د) بعض المراجع التي رجعت إليها واقتبست منها يعزو أصحابها بعض النصوص التي لها علاقة وثيقة بالموضوع إلى شخص غير مشهور ويذكرون كنيته أو نسبته إلى قبيلة، أو بلد دون المؤلف أو الاسم الكامل للشخص والقرن الذي عاش فيه مع أنّ هذه النسبة أو الكنية مشتركة بين عدة أشخاص عاشوا قبل صاحب ذلك المرجع أو من أقرانه، وحينئذ أجد صعوبة في الوصول إلى الشخص المقصود منهم.
التمهيد(26/10)
يحتاج موضوع بحثي هذا (التأدب مع الرسول صلى الله عليه وسلم) إلى بيان بعض المسائل التي تبيّن المراد منه حتى تكون الدراسة محددة من ناحية الموضوع ومن ناحية الهدف معاً.
وهذه المسائل هي:
1- بيان المراد بالتأدّب مع الرسول صلى الله عليه وسلم.
2- ضرورة الالتزام في التأدّب معه صلى الله عليه وسلم بما جاء في القرآن الكريم والسنة النبوية.
وسوف أتناول بحث هاتين النقطتين فيما يلي:
1- بيان المراد بالتأدّب مع الرسول صلى الله عليه وسلم:
التأدب مصدر من الفعل الخماسي (تأدّب) بتشديد الدال، وله معان متعددة يشترك فيها مع كلمة الأدب مع الزيادة بسبب ما فيه من تضعيف. ولذا حسن أن أبدأ ببيان معنى الأدب أولاً، وبعدها أبيّن معنى التأدّب مع ملاحظة الفرق بين الصيغتين.
أ- الأدب في اللغة:
يقول ابن فارس(1): (الهمزة والدال والباء أصل واحد تتفرع مسائله وترجع إليه، فالأدْب أن تجمع الناس إلى طعامك، ومن هذا القياس، الأدب -أيضاً- لأنّه مجمع على استحسانه...)(2).
ولهذا قال ابن منظور(3): (أصل الأدب الدعاء)(4).
__________
(1) هو أبو الحسين أحمد بن فارس بن زكريا المتوفى سنة (395هـ). انظر ترجمته في بغية الدعاة للسيوطي (1/352).
(2) معجم مقاييس اللغة (1/74-85).
(3) هو محمد بن مكرم بن علي بن أحمد الأنصاري الأفريقي ثم المصري جمال الدين أبو الفضل المتوفى سنة (711هـ). انظر ترجمته في بنية الوعاة (1/248).
(4) لسان العرب (1/206).(26/11)
هذا أصل كلمة الأدب، وأمّا عن اشتقاقها، فيقول الجواليقي(1): (واشتقاقه من شيئين يجوز أن يكون من الأدب وهو العجب، ومن الأدب مصدر قولك: أدب فلان القوم يأدبهم أدباً بالكسر إذا دعاهم... ثم قال: فإذا كانت من الأدب الذي هو العجب فكأنّه الشيء الذي يعجب منه لحسنه ولأنّ صاحبه هو الرجل الذي يعجب منه لفضله، وإذا كان من الأدب الذي هو العجب فكأنه الشيء الذي يدعو الناس إلى المحامد والفضل وينهاهم عن المقابح والجهل)(2).
وأمّا عن استعمالاتها فيقول الشيخ أحمد رضا: (الأدب: ملكة تقصى من قامت به عن كل ما يشينه، ويقع على كل رياضة محمودة يتخرج بها الإنسان من فضيلة من الفضائل: حسن الخلق، فعل المكارم، الظرف، حسن التناول، وهذا كله أدب النفس. والأدب: درس العلوم العربية مولد، وهذا أدب الدرس)(3).
ولهذا قال الجوهري(4): (الأدب: أدب النفس والدرس، تقول منه: أدب الرجل بالضم فهو أديب وأدّبته فتأدّب)(5).
ومعنى ذلك أنّ لكلمة الأدب استعمالين: حسن الخلق ودرس العلوم العربية.
وهذا ما عبّر عنه ابن هذيل (6) بالأدب الطبيعي والأدب الكسبي، حيث قال:
فالطبيعي: ما يفطر عليه الإنسان من الأخلاق الحسنة السنية والاتصاف بالصفات المرضية مثل الحلم والكرم وحسن الخلق والحياء والتواضع والصدق وغير ذلك من الصفات الحميدة.
__________
(1) هو أبو منصور موهوب بن أحمد الجواليقي المتوفى سنة (465هـ)، وقيل غير ذلك. انظر ترجمته في بغية الوعاة (2/308).
(2) شرح أدب الكتب للجواليقي (13).
(3) معجم متن اللغة (1/153).
(4) هو إسماعيل بن حماد الجوهري المتوفى سنة (393هـ)، وقيل: في حدود الأربعمائة. انظر ترجمته في بغية الوعاة (1/446-447).
(5) الصحاح: (1/86).
(6) أبو الحسن علي بن عبد الرحمن بن هذيل، من أعيان القرن الثامن.(26/12)
والكسبي: فهو ما يكتسبه الإنسان بالدرس والقراءة والحفظ والنظر، وهو عبارة عن ستة أشياء: الكتاب والسنة والنحو، واللغة والشعر، وأيام الناس)(1).
والاستعمال الأول هو الشائع ولهذا قال الجواليقي: (والأدب الذي كانت العرب تعرفه هو ما يحسن من الأخلاق وفعل المكارم مثل ترك السفه، وبذل المجهود وحسن اللقاء)(2).
وأمّا الاستعمال الثاني: فهو اصطلاح مولد جاء بعد الإسلام.
يقول الجواليقي: (واصطلح الناس بعد الإسلام بمدة طويلة على أنّ يسمّوا العالم بالنحو والشعر وعلوم العربية أديباً، ويسمون هذه العلوم أدباً. وذلك كلام مولد، لأنّ هذه العلوم حدثت في الإسلام).
وخلاصة القول أنّ كلمة الأدب كانت تطلق عند العرب على الأخلاق الحسنة، وأمّا بعد الإسلام فقد أطلق بجانب ذلك على الكلام الحسن والجيد من الأقوال سواء كان نثراً أو شعراً.
والاستعمال الأول هو الذي يتمشى مع مقامنا هذا.
ولهذا نقول: إنّ كلمة الأدب في بحثي هذا تعني الأخلاق الحسنة والاتصاف بالصفات الحميدة.
وعلى ضوء معنى الأدب المذكور يمكن فهم المراد من التأدّب لأنّهما من أصل واحد، ويشتركان في معانٍ كثيرة مع ملاحظة ما بين الصيغتين تركيباً ومعنى؛ لأنّ الأولى من المجرد، والثانية من المزيد. لأنّه يقال: إنّ الزيادة في المبنى تفيد الزيادة في المعنى غالباً.
وكلمة تأدّب وزنها تفعّل، في الميزان الصرفي، وهي تأتي لعدة معان ولكن المعنى الذي يتمشى مع مقامنا هذا هو أنّها مطاوع أدّب على وزن (فعّل) لأنّه يقال: أدّبته فتأدّب أي تلقى الأدب، والتأدّب مصدرها. وعلى هذا فمعنى التأدّب: المبالغة في التخلق بالصفات الحسنة والمكارم الجميلة.
ب- الأدب في اصطلاح الشرع:
وكلمة الأدب في اصطلاح الشرع لا تخرج عن المعنى اللغوي الذي أشرنا إليه آنفاً.
__________
(1) عين الأدب: (95).
(2) شرح أدب الكاتب: (13).(26/13)
ولهذا قال الجرجاني(1): (الأدب عبارة عن معرفة ما يحترز به عن جميع أنواع الخطأ، وأدب القاضي، وهو ما ندب إليه الشرع من بسط العدل ورفع الظلم وترك الميل)(2).
ويقول صاحب البحر الرائق(3): (كتاب أدب القاضي: أي ما ينبغي للقاضي أن يفعله وما ينبغي أن ينتهي عنه، والأولى التعبير بالملكة؛ لأنها الصفة الراسخة للنفس فما لم يكن كذلك لا يكون أدباً كما لا يخفى)(4).
وكلمة الأدب في التعريفين السابقين تعني الاتصاف بالأخلاق الجميلة، والاحتراز عما يقابلها من سفاسف الأمور.
وهذا هو المعنى المتبادر من إطلاقها إلاّ أنّها قد تطلق على المظهر الخارجي للخلق.
يقول محمد جمال الدين رفعت في التفريق بين الأدب والخلق: (فكلمة الآداب تعني السلوك كما تعني الأسلوب الذي يسير عليه الإنسان في تصرفاته الشخصية أو حين يتعامل مع الناس.. أمّا كلمة الأخلاق فتطلق لغة على الطبع والسجية والعادة بل وعلى غريزة الإنسان العاقلة)(5).
وخلاصة القول، أنّ كلمة الأدب تعني المظهر الخارجي للأخلاق الجميلة أو السلوك الذي ينبغي أن يراعي الشخص مع غيره.
ولهذا قال ابن القيم -رحمه الله تعالى-: (وحقيقة الأدب استعمال الخلق الجميل)(6).
وأما كلمة التأدّب في عنوان رسالتنا فنقصد بها استنتاجأ مما سبق من معنى كلمة الأدب -ما ينبني أن يفعله المسم تجاه رسول الله صلى الله عليه وسلم سلباً وإيجاباً مما يدخل في حقوقه على الأمة من احترام وتقدير وطاعة وأتباع وغير ذلك والاحتراز مما يخالف ذلك من مخالفة ورفع الصوت وغيرها.
__________
(1) هو علي بن محمد الشريف الجرجاني المتوفى سنة (816هـ). انظر ترجمته في بغية الوعاة (2/196-197).
(2) كتاب التعريفات: (14).
(3) هو الإمام العلامة زين الدين بن إبراهيم بن محمد الشهير بابن نجيم المتوفى سنة (969هـ).
(4) البحر الرائق شرح كنز الدقائق: (6/377).
(5) آداب المجتمع في الإسلام: (9-10).
(6) مدارج السالكين: (2/381).(26/14)
يقول ابن القيم -رحمه الله تعالى-: (فرأس الأدب معه صلى الله عليه وسلم كمال التسليم له والانقياد لأمره وتلقي خبره بالقبول والتصديق دون أن يحمله معارضة خيال باطل يسميه معقولاً أو يحمله شبهة أو شكاً، أو يقدم عليه آراء الرجال وزبالات أذهانهم، فيوحده بالتحكيم والتسليم والانقياد والإذعان، كما وحد المرسل -سبحانه وتعالى- بالعبادة والخضوع والذل والإنابة والتوكل، فهما توحيدان لا نجاة للعبد من عذاب الله إلا بهما توحيد المرسل وتوحيد متابعة الرسول فلا يحاكم إلى غيره ولا يرضى بحكم غيره ولا يقف تنفيذ أمره وتصديق خبره على عرضه على قول شيخه وإمامه وذوي مذهبه وطائفته ومن يعظمه)(1).
2- ضرورة الالتزام في التأدب بما جاء في القرآن والسنة:
إن هذا الدين الذي لا يقبل عند الله سواه له أصلان هما الكتاب والسنة النبوية الثابتة.
يقول الله تعالى: ((وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنْ الْخَاسِرِينَ)) [آل عمران:85].
وهذان المصدران هما القرآن الكريم والسنة النبوية.
يقول تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ)) [النساء:59].
والرد إلى الله هو الرد إلى كتابه، والرد إلى رسوله هو الرد إليه في حال حياته وإلى سنته في حال وفاته كما قال المفسرون.
كما أنّهما المصدران اللذان تركهما رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمرنا بالتمسك بهما لئلا نضل بقوله صلى الله عليه وسلم:
(تركت فيكم أمرين لن تضلّوا ما تمسكتم بهما كتاب الله وسنتي)(2).
__________
(1) مدارج السالكين: (2/387).
(2) رواه الإمام مالك بلاغاً في الموطأ (2/899) وقال الألباني في تعليقاته على مشكاة المصابيح (1/66) له شاهد من حديث ابن عباس أخرجه الحاكم.(26/15)
وعلى هذا الأساس فهذا الدين غني عن الزيادة والإضافة أياً كان نوعها، بعدما أكمله الله -سبحانه وتعالى- كما تشير آية المائدة وهي قوله تعالى: ((الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِيناً)) [المائدة:3].
وقد لحق الرسول صلى الله عليه وسلم بالرفيق الأعلى بعد نزول هذه الآية بأشهر.
وبناء على هذا، عندما نتعامل أو نتأدب مع الرسول صلى الله عليه وسلم فيجب أن نلتزم بما جاء في القرآن وفي السنة النبوية الثابتة دون أن نختلق من تلقاء أنفسنا أموراً لم تثبت عن الشارع بقصد حسن النية ثم التقرب بها إلى الله راجياً منه الثواب والمغفرة؛ لأنّ الأمور التي يتقرب بها المسلم إلى الله لا بد أن تجتمع فيها أربعة شروط:
1- أن تكون مشروعة بنص من الكتاب أو السنة الثابتة أو باجتهاد معتمد عليه.
2- أن تقع في الحدود المقرر لها من الزمان والمكان.
3- أن تقع بالكيفية التي أمر بها الشارع.
4- الإخلاص في القربى إلى الله تعالى.
وإذا انتفى شرط من هذه الشروط فلا تعتبر قربة بل تكون بدعة حينئذ.
ونحن نرى اليوم أناساً يغالون في شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم بالمدح يرفعونه إلى مرتبة الألوهية أو يصفونه بصفات لا تليق إلا بالله أو يطلبون طلبات لا دخل له في حصولها أثناء حياته فضلاً عن بعد مماته صلى الله عليه وسلم.
وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من هذا الغلو بقوله: (لا تطروني (1) كما أطرت النصارى ابن مريم فإنّما أنا عبده، فقولوا عبد الله ورسوله)(2).
__________
(1) من الإطراء: وهو مجاوزة الحد في المدح والكذب فيه. النهاية في غريب الحديث لابن الأثير (3/123).
(2) صحيح البخاري، كتاب الأنبياء، باب: (واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها.) (2/256).(26/16)
وعندما نرفض الغلو في شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم لا يعني بالضرورة أن نقصر في توقيره وتعظيمه وحبه ولكن نعني أن نلتزم بما هو مشروع في حقه صلى الله عليه وسلم دون إفراط أو تفريط بعيدين عن الغلو والتقصير لنتصف بالوسطية التي أشار إليها القرآن الكريم في قوله تعالى: ((وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً)) [البقرة:143].
ومعنى الوسطية هنا الخيار والأجود ومنه الصلاة الوسطى التي هي أفضل الصلوات(1).
ومع هذا فلا نضطر بالضرورة عندما نرد على المغالين إلى أن نصف الرسول صلى الله عليه وسلم بصفات قد وصفه بها الشارع دون أن نبيّن معناها من جميع الجهات.
مثال ذلك: أن نقول أن الرسول بشر ونجتهد في إثباتها مستدلين بقوله تعالى: ((قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ)) [الكهف:110].
والمثلية يقصد بها هنا أنه يعتريه ما يعتري الإنسان من جوع وظمأ ومرض غير منفر وغير ذلك ولكن هو بشر يوحى إليه كما تدل عليه بقية الآية.
((قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ...)) [الكهف:110].
لأنّ المثلية قد يفهم منها أنّه كأحاد الناس إذا لم نبيّن القصد من ذلك...
وغالباً عندما يريد شخص أن يصحّح انحرافاَ معيناً ويجتهد في تصحيحه قد يقع في انحراف آخر مضاد للأول دون أن يشعر بذلك.
__________
(1) انظر تفسير ابن كثير (1/190).(26/17)
يقول سيد قطب -رحمه الله تعالى-: (إن استحضار انحراف معين أو نقص معين والاستغراق في دفعه... منهج شديد الخطر، وله معقباته في إنشاء انحراف جديد لدفع انحراف قديم، والانحراف انحراف على كل حال(1). ثم ضرب مثلاً لذلك قائلاً: (يتّعمد بعض الصليبيين والصهيونيين مثلاً أن يتهم الإسلام بأنّه دين السيف، وأنّه انتشر بحد السيف فيقوم منّا مدافعون عن الإسلام يدفعون عنه هذا الإتهام، وبينما هم مشتطون في حماسة (الدفاع) يسقطون قيمة (الجهاد) في الإسلام، ويضيقون نطاقه ويعتذرون عن كل حركة من حركاته بأنّها كانت لمجرد (الدفاع)! بمعناه الإصطلاحي الحاضر الضيق! وينسون أنّ للإسلام بوصفه المنهج الإلهي الأخير للبشرية -حقه الأصيل في أن يقيم (نظامه) الخاص في الأرض لتستمتع البشرية كلها بخيرات هذا النظام بحرية العقيدة التي اختارها حيث (لا إكراه في الدين) من ناحية العقيدة أمّا إقامة (النظام الإسلامي) ليظلل البشرية كلها ممن يعتنقون عقيدة الإسلام وممن لا يعتنقوها فتقتضي الجهاد لإنشاء هذا النظام وصيانته، وترك الناس أحراراً في عقائدهم الخاصة في نطاقه، ولا يتم ذلك إلاّ بإقامة سلطان خير وقانون خير ونظام يحسب حسابه كل من يفكر في الإعتداء على حرية الدعوة وحرية الإعتقاد في الأرض)(2).
وهكذا شأن بعض الذين يردون على المغالين في شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم حيث يصفونه بالبشرية دون أن يصفوه بالرسالة؛ ويجتهدون في إثبات ذلك الجانب دون قصد إلى تقليل قيمة الرسول صلى الله عليه وسلم بل إلى نفي غلو هؤلاء المغالين عنه إلا أن المغالين بدورهم يأخذون عبارات هؤلاء التي ظاهرها الجفاء ومن ثم يكيلون لهم شتائم عدة ويصفونهم بأنهم جفاة وأنّه نزع من قلوبهم حب الرسول صلى الله عليه وسلم بينما حبّه هو الاتباع لما جاء به صلى الله عليه وسلم.
__________
(1) خصائص التصور الإسلامي (ص:25).
(2) المصدر السابق (ص:26).(26/18)
((قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ...)) [آل عمران:31].
وعلى هذا يجب على المسلم الغيور على دينه أن يلتزم بما شرعه الله سبحانه وتعالى حين يرد على غيره، وحين يصحح انحرافاً معيناً حق لا يقع في انحراف آخر مقابل تصحيح انحراف قديم.
ويجب على المسلم -أيضاً- أن يلتزم بصورة دقيقة بكل ما ثبتت مشروعيته في كل حياته بصورة عامة، وبما يتصل بالتأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة لأنّ ذلك حق وهو الصراط المستقيم.
الباب الأول
أسباب قيام الأمة بالأدب مع الرسول صلى الله عليه وسلم
الرسول صلى الله عليه وسلم صاحب فضل كبير على أمته لأنه صلى الله عليه وسلم بواسطته وصل إلينا الوحي بشقيه القرآن الكريم والسنة النبوية اللذين هما مصدرا الشريعة الإسلامية وأساس الدين كله.
ووصول الوحي إلى الناس لم يتم بسهولة ويسر، وإنّما تم بجهود متواصلة وصبر كبير وتحمّل لمشقات متنوعة من صاحب الرسالة صلى الله عليه وسلم.
وقد تحمّل -عليه الصلاة والسلام- هذه كلها حتى تحقق منهج الله - سبحانه وتعالى- في الأرض وكمل الدين وتمّت النعمة.
يقول تعالى: ((الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِيناً)) [المائدة:3].
وبتمام النعمة قامت الأمة وتحقق وعد الله -سبحانه وتعالى- للمؤمنين بالاستخلاف والتمكين في الأرض.
قال تعالى: ((وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً)) [النور:55].(26/19)
وتقديراً لهذه النعمة التي أنعم الله بها على المؤمنين عليهم أن يشكروا الله ويعرفوا حق صاحب الرسالة صلى الله عليه وسلم.
ولا يتم الشكر والعرفان إلاّ بالتأدب معه صلى الله عليه وسلم حيّاً وميّتاً، سراً وجهراً، في المنشط والمكره.
وهناك من الأسباب الأخرى ما يدفع إلى ضرورة التأدب مع الرسول صلى الله عليه وسلم وذلك ككرم محتذه، ورفعة نسبه، واتصافه بالأخلاق الكريمة وتمتعه بالصفات النبيلة طوال حياته -عليه الصلاة والسلام-. ومنها أيضاً ما اتصف به صلى الله عليه وسلم من صفات ساعدت على نشر الدين، وتبليغ الأمانة.
وفي هذا الباب سوف أتكلم عن الأسباب التي من أجلها كان التأدّب معه صلى الله عليه وسلم وهي في مجملها ترجع إلى أمرين:
أولهما: ما يرجع إلى ذاته صلى الله عليه وسلم من ناحية عراقة الأصل، وكرم الخلق في تبليغ الله تعالى.
ثانيهما: ما يرجع إلى عمله صلى الله عليه وسلم وحرصه على هداية الناس وإسعادهم بمنهج الله تعالى.
وقد عقدت لكل من الأمرين فصلاً مستقلاً: ولذلك اشتمل الباب على الفصلين التاليين:
الفصل الأول: نسبه وصفاته صلى الله عليه وسلم.
الفصل الثاني: عمله صلى الله عليه وسلم في نشر الدعوة وحرصه على هداية الناس. وسيأتي تفصيل ذلك فيما يلي بمشيئة الله تعالى.
الفصل الأول
نسبه صلى الله عليه وسلم ونشأته وصفاته
منذ أن خلق الله -سبحانه وتعالى- أبا البشر آدم عليه السلام وأهبطه هو وزوجه إلى الأرض لم يترك الناس سدى يتصرفون برؤية عقولهم واتجاهاتهم لأن عقل البشر مهما كانت قدرته قاصر عن إدراك الطريق المستقيم ومعرفة الحق بصورة تامة، وإن أدرك بعض الجوانب بالفطرة التي فطر الله الناس عليها.
ولكي تستقيم الفطرة وتكمل نحو الأفضل كانت تأتي هداية الله - سبحانه وتعالى- للناس متتابعة على ألسنة الرسل -عليهم السلام- فكلما انحرفت البشرية عن طريق الله القويم جاءها مبعوث من الله سبحانه وتعالى - لهدايتها، ودعوتها.(26/20)
يقول الله تعالى: ((وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خلا فِيهَا نَذِيرٌ)) [فاطر:24].
فكل أمة جاءها رسول من بينها مبشراً ونذيراً وداعياً إلى الله بإذنه، وسراجاً مضيئاً ينير الطريق. ويهدي للتي هي أقوم. وبذلك تقوم الحجه على الناس.
يقول تعالى: ((رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لأَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ)) [النساء:165].
يقول ابن كثير -رحمه الله- في تفسير هذه الآية: (أنّه تعالى أنزل كتبه وأرسل رسله بالبشارة والنذارة، وبين ما يحبه ويرضاه مما يكرهه ويأباه لئلا يبقى للمعتذر عذر)(1).
ومما يؤيد هذا المعنى قوله صلى الله عليه وسلم: (ليس أحد أحب إليه المدح من الله -عز وجل- من أجل ذلك مدح نفسه، وليس أحد أغير من الله من أجل ذلك حرّم الفواحش، وليس أحد أحب اليه العذر من الله من أجل ذلك أنزل الكتاب وأرسل الرسل)(2).
وكانت الرسل قبل رسولنا صلى الله عليه وسلم يأتون أقوامهم خاصة ليكون التبليغ مناسباً للناس، وليدينوا الله بشريعة يستطيعون القيام بتكاليفها. وقد ختم الله -سبحانه وتعالى- الرسل -عليهم الصلاة والسلام بعثة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم إلى الناس كافة رحمة لهم.
يقول الله تعالى: ((وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ)) [سبأ:28].
ويقول الله تعالى: ((وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ)) [الأنبياء:107].
__________
(1) تفسير القرآن العظيم (1/588).
(2) البخاري كتاب التفسير باب قوله: (ولا تقربوا الفواحش) (3/129). ومسلم كتاب التوبة باب غيرة الله تعالى وتحريم الفواحش (4/2114) واللفظ لمسلم.(26/21)
وبذلك بعث رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم للناس جميعاً وختم الله به الرسل وقضى باستمرار رسالته إلى يوم القيامة. وأصبح الرسول صلى الله عليه وسلم اللبنة الأخيرة في البناء العظيم الذي يمثل الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- لبناته. كما أخبر صلى الله عليه وسلم حيث يقول: (مثلي ومثل الأنبياء قبلي كمثل رجل بنى بيتاً فأجمله إلا موقع لبنة من زاوية من زواياه فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له ويقولون: هلا وضعت هذه اللبنة قال: فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين) (1).
واختيار الرسول صلى الله عليه وسلم للرسالة كانت بمشيئة الله - تعالى- الذي خلق الناس جميعاً، وهو العليم بذواتهم وخصائص كل منهم يقول الله تعالى: ((وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ)) [القصص:68] ويقول الله تعالى: ((اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ)) [الأنعام:124].
يقول الألوسي في تفسير هذه الآية: (إنّ منصب الرسالة ليس مما ينال مما يزعمون من كثرة المال والولد وتعاضد الأسباب وإنما ينال بفضائل نفسانية ونفس قدسية أفاضها الله - تعالى- بمحض الكرم والجود على من كمل استمداده. ونص بعضهم على أنه تابع للاستعداد الذاتي وهو لا يستلزم الإيجاب الذي يقول به الفلاسفة لأنه -سبحانه- إن شاء أعطى وإن شاء أمسك، وإن استعد المحل)(2). ومن ثم اختار الله للدعوة الإسلامية التي ختم الله بها كل الرسالات المكان الملائم واختار لحملها خير أمة أخرجت للناس كما اختار رجلها المتميز -وهو الرسول صلى الله عليه وسلم- بصفات جعلته خير من يتلقى الوحي ويبلغه للناس ويتحمل في سبيل ذلك كل اضطهاد وعنت كما هي سنة الله مع كل رسالاته ورسله(3).
__________
(1) البخاري كتاب المناقب - باب خاتم النبييون- (2/270).
(2) روح المعاني (8/21-22).
(3) انظر الدعوة الإسلامية أصولها ووسائلها للدكتور أحمد غلوش (ص:114).(26/22)
وقبل اختيار الرسول للتبليغ صنعه الله، وهيأه، وكفل الله له التنشئة السليمة حتى يكون أهلاً للرسالة والتبليغ، ومن المعلوم أن اصطفاء الله للرسل يتم على مرحلتين، مرحلة تهيئة، ومرحلة تكليف وإبلاغ. ولولا أن النبوة اصطفاء وإحسان لقلنا أن الرسل بصفاتهم يستحقونها كسباً لكنّ جمهور المسلمين أجمعوا على أن الرسالة لا تكتسب فلا بد أن يخلق الله لها استعداداً خاصاً عند صاحبها بحيث يجعله أهلاً لحملها وإبلاغها. وبعد ذلك يصطفيه للرسالة(1).
وفي هذا الفصل سوف أتحدث فيه عن مرحلة تهيئة الرسول صلى الله عليه وسلم لحمل الرسالة الخاتمة وإبلاغها إلى الناس كافة.
ولذا سيأتي مكوناً من ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: عراقة أصله.
المبحث الثاني: نشأته وتربيته.
المبحث الثالث: اتصافه بصفات طيبة وأخلاق فاضلة.
وذلك فيما يلي:
المبحث الأول: عراقة أصله:
يذكر علماء الوراثة أنّ الشخص يتأثر بنسبه سواء من ناحية الجسم والبنية أو من ناحية الذكاء والعقل أو من ناحية الفكر والعقيدة.
يقول د. محمد بيصار: (ولا تكون الوراثة عاملاً هاماً في نقل الصفات الحسية فحسب وإنما كذلك عن طريقها تنتقل الصفات الأدبية كالأمزجة والميول والغرائز، والصفات العقلية كالذكاء والبلادة وحسن تقدير الأمور أو سوء أو شدة الانتباه أو ضعفه إلى غير ذلك من صفات يكون لها الأثر الأقوى في تكوين أخلاق المرء وتكييفها وطبعها بطابع معيّن خيراً كان ذلك الطابع أو شراً حسناً أو قبيحاً).
__________
(1) انظر الدعوة الإسلامية أصولها ووسائلها للدكتور أحمد غلوش (ص:114).(26/23)
ويؤيد هذا علم القيافة. الذي أقره الرسول صلى الله عليه وسلم فعن عائشة - رضي الله عنها-: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل عليها سروراً تبرق أسارير وجهه فقال: (ألم تسمعي ما قال المدلجي لزيد وأسامة ورأى أقدامهما فقال: إنّ بعض هذا الأقدام من بعض) (1).
يدل عليه قوله تعالى حاكياً عن نبي الله نوح عليه السلام: ((وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنْ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً * إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلاَّ فَاجِراً كَفَّاراً)) [نوح:26-27].
يقول ابن كثير في تفسير هذه الآية: (أي فاجراً في الأعمال كافر القلب وذلك لخبرته بهم ومكثه بين أظهرهم ألف سنة إلا خمسين عاماً)(2).
ويدخل في هذا المفهوم قوله صلى الله عليه وسلم: (ما من مولود إلا يولد على الفطرة (3) فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء(4). يقول أبو هريرة راوي الحديث: واقرأوا إن شئتم: ((فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ)) [الروم:30]) (5).
__________
(1) العقيدة والأخلاق وأثرهما في حياة الفرد والمجتمع (ص:240) البخاري -كتاب المناقب- باب صفة النبي صلى الله عليه وسلم (2/272)
(2) تفسير ابن كثير (4/427).
(3) على الفطرة: على معرفة الله فلست واحداً أحداً إلا ويقر بأن له صانعاً وإن سمّاه بغير اسمه أو عبد غيره. غريب الحديث لابن الجوزي (2/199).
(4) جدعاء: أي مقطوعة الأطراف. النهاية في غريب الحديث لابن الأثير (1/247).
(5) صحيح مسلم كتاب القدر باب معنى: (كل مولود على الفطرة وحكم أطفال الكفار وأطفال المسلمين (4/2047).(26/24)
وبهذا يثبت أنّ الولد يتأثر بأبويه من ناحية الجسم والبنية، ومن ناحية العقل والذكاء، ومن ناحية الفكر والعقيدة، قليلاً أو كثيراً، سلباً أو إيجاباً، وذلك بإرادة الله وقدرته. إذا عرف هذا ننظر إلى نسب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومدى تأثره به.
يقول الأستاذ الدكتور/ أحمد غلوش: (هيأت عناية الله تعالى سلسلة ممتازة من الآباء والأجداد للنبي صلى الله عليه وسلم ليأخذ منها عن طريق الوراثة كثيراً من الخلق والطبائع)(1).
وقد وردت في هذا المضمار نصوص كثيرة تدل على أنّ نسب النبي صلى الله عليه وسلم هو أفضل الناس نسباً.
من ذلك ما أخرجه الإمام مسلم عن واثلة بن الأسقع قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل واصطفى قريشاً من كنانة واصطفى من قريش بني هاشم واصطفاني من بني هاشم) (2).
وقد أشار النووي -رحمه الله- إلى أنّ بني هاشم أفضل العرب لا يدانيهم في الأفضلية إلاّ بنو المطلب مستدلاً بهذا الحديث(3).
ويقول المباركفوري عند شرحه لهذا الحديث: قوله: (إن الله اصطفى) أي اختار. يقال استصفاه واصطفاه، إذا اختاره وأخذ صفوته والصفوة من كل شيء خالصه وخياره)(4).
__________
(1) الدعوة الإسلامية أصولها ووسائلها (ص:114).
(2) صحيح مسلم كتاب الفضائل باب فضل نسب النبي صلى الله عليه وسلم (4/1782) والترمذي في سننه، أبواب المناقب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، باب ما جاء في فضل النبى صلى الله عليه وسلم (5/245).
(3) شرح النووي على صحبح مسلم (15/36).
(4) تحفة الأحوذي شرح جامع الترمذي (10/74).(26/25)
ومن ذلك أيضاً ما أخرجه الترمذي عن العباس بن عبد المطلب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنّ الله خلق الخلق فجعلني من خير فرقهم وخير الفريقين ثم خير القبائل فجعلني من خير القبيلة ثم خص البيوت فجعلني من خير بيوتهم فأنا خيرهم نفساً وخيرهم بيتاً) (1).
أي: أصلاً إذا جئت من طيب إلى طيب إلى صلب عبدالله بنكاح لا سفاح(2).
ومما يدل على أنّ الرسول صلى الله عليه وسلم كانت له مكانة عند قومه من جهة النسب شهادة أعدائه كما ورد في قصة أبي سفيان وهو مشرك ومن ألد أعداء صاحب الرسالة آنذاك -مع هرقل ملك الروم عندما وجه إليه أسئلة عديدة تتعلق بشخصية الرسول صلى الله عليه وسلم من بينها: (كيف نسبه فيكم؟ قال -أي أبو سفيان-: هو فينا ذو نسب. ثم قال هرقل في آخر القصة: سألتك عن نسبه فذكرت أنّه فيكم ذو نسب فكذلك تبعث الرسل في أنساب قومها) (3).
__________
(1) أخرجه الترمذي في سننه في أبواب المناقب - باب ما جاء في فضل النبي صلى الله عليه وسلم انظر (5/244)، وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب.
(2) انظر: تحفة الأحوذي (10/76).
(3) صحيح البخاري، باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم (1/8)، وصحيح مسلم، كتاب الجهاد باب كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى هرقل ليدعوه إلى الإسلام (3/1394) واللفظ للبخاري.(26/26)
يقول النووي: (أي في أفضل أنسابهم)(1). ومما يدل على ذلك أيضاً ما جاء على لسان مفوض مشركي قريش عتبة ابن أبي ربيعة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال عند افتتاح كلامه مع الرسول: (يا ابن أخي إنّك منّا حيث قد علمت من السطة (2) في العشيرة والمكانة في النسب وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم فرقت به جماعتهم...) (3).
وهاتان القصتان تشهدان بما للرسول صلى الله عليه وسلم من المكانة في النسب عند قومه لإقرار أعدائه وأعداء رسالته حيث لم يستطيعوا أن يخفوا هذه الحقيقة مع أنهم كانوا يتهمونه بتهم باطلة، مرة بالسحر، ومرة بالجنون، ومرة بالشعر والكهانة. ومع هذا لم ينقل إلينا عن أحدهم تهمة واحدة يقدحون بها الرسول صلى الله عليه وسلم من جهة النسب، كما أن النصوص الأخرى التي أوردناها تدل على أن العرب أفضل الناس من ناحية النسب وأنّ الرسول صلى الله عليه وسلم من أفضلها نسباً، وأن هذه سنة الله في اختيار رسله جميعاً كما جاء في قول هرقل السابق.
يقول الحافظ ابن حجر عند شرحه لهذا الحديث: (الظاهر أن اخبار هرقل بذلك بالجزم كان على العلم المقرر في الكتب السالفة)(4).
والحكمة في ذلك كما قال النووي -رحمه الله- أنه أبعد من انتحاله الباطل وأقرب إلى انقياد الناس له لأن الناس يأنفون من الانقياد إلى رجل وضيع من جهة وكذلك الوضيع لا تسول نفسه له قيادة الناس عن جهة أخرى(5).
ولهذا كان نسب رسول الله صلى الله عليه وسلم له تأثير على نفسه من ناحية وعلى قومه من ناحية أخرى، كما ذكر غير واحد من العلماء.
__________
(1) شرح النووي على صحيح مسلم (12/105).
(2) السطة: أي عن أوساطهم حسباً ونسباً.
(3) تفسير القرآن العظيم لابن كثير (4/91)، وحسّن الألباني هذه القصة في تعليقه على فقه السيرة للغزالي. انظر هامش (ص:113).
(4) فتح الباري شرح صحيح البخاري (1/36).
(5) شرح النووي على صحيح مسلم (12/35).(26/27)
يقول د. محمد قلعت في هذا المقام: (هذا النسب له أثره في رسول الله وكان له أثر فيمن يبلغهم رسول الله شريعة الله، أمّا أثره في رسول الله فقد شب -عليه الصلاة والسلام- مرفوع الرأس رغم يتمه لا يعرف الذل ولا الخنوع. جريئاً في إعلان رأيه، تملأ الثقة نفسه، أما أثره فيمن دعاهم رسول الله إلى الإيمان والانضواء تحت راية الإسلام فإن أكبر شخصية في العرب لا تجد غضاضة من الانضواء تحت راية الإسلام، وقبول محمد صلى الله عليه وسلم رسولاً وحاكماً لأنهم يعترفون بأن محمداً صلى الله عليه وسلم من أعرق بيوت قريش نسباً)(1).
وهذه حقيقة ثابتة لا جدال فيها وإن كان هناك من يعارضه من قومه لكن ليس هذا من جهة نسبه ولا رفضاً لشخصيته وإنما كان رفضاً موجهاً لرسالته صلى الله عليه وسلم.
وصدق الله إذ يقول: ((فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ)) [الأنعام:33].
وممَا يؤيد ذلك ما جاء على لسان أبي جهل عدو الله وعدو رسوله إذ قال للنبي صلى الله عليه وسلم: (قد نعلم يا محمد أنك تصل الرحم وتصدق الحديث ولا نكذبك ولكنّ نكذب الذي جئت به) (2) فأنزل الله -عز وجل-: ((قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ)) [الأنعام:33].
__________
(1) التفسير السياسي للسيرة (ص:11-12).
(2) أخرجه الحاكم في مستدركه (2/315) وقال: هذا صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه قال الذهبي: ما أخرجاه لناجية، وقال الشيخ أحمد شاكر في عمدة التفسير (5/25): (وهذا صحيح فإن الشيخين لم يخرجا لناجية بن كعب الأسدي ولكنه تابعي ثقة والحديث صحيح وإن لم يكن على شرطهما).(26/28)
أي إن رفض قريش كان موجهاً للدعوة التي دعاهم إليها الرسول صلى الله عليه وسلم لا لشخصيته كما يفيد منطوق قول أبي جهل السابق. ولهذا ورد أنهم عرضوا عليه الجاه والسيادة والملك وجمع الأموال والمغريات الأخرى مقابل ترك هذه الدعوة كلية أو جزءاً منها كحل وسط (1) ولكنهم لم ينجحوا فيها لأن موقف الرسول صلى الله عليه وسلم كان ثابتاً. وعرض هذه الأمور عليه يدل على سمو مكانة النبي صلى الله عليه وسلم من جهة النسب عند قومه قريش الذين كانوا يأنفون أن يخضعوا للوضيع مهما كان الأمر وخاصة إذا جاء بأمر يخالف عاداتهم وتقاليدهم مثل ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الدين الحنيف والدعوة إلى التوحيد ونبذ الشرك والأوثان وما كان سائداً في مجتمع مكة من عادات وتقاليد جاهلية.
المبحث الثاني: نشأته وتربيته:
كما هو معروف في كتب السيرة أنّ النبي صلى الله عليه وسلم ولد عام الفيل يتيماً حيث مات أبوه وهو في بطن أمّه، وماتت أمّه وهو ابن ست سنوات، ولهذا لم يتنعم بحنين الأبوين، وقد كفله جده عبد المطلب حتى مات ورسول الله صلى الله عليه وسلم ابن ثماني سنوات(2).
وبعد وفاة جده عبد المطلب كفله عمّه أبو طالب الذي بذل كل ما في وسعه في رعاية الرسول صلى الله عليه وسلم في زمن طفولته وشبابه، وكذلك بعد البعثة حيث دافع عنه تعصباً وحمية مع أنه لم يؤمن به حتى فارق الحياة. يقول الغزالي: (فالمجتمع العربي الأول كان يقوم على العصبيات القبلية الحادة، التي تفنى القبيلة كلها دفاعاً عن كرامتها الخاصة وكرامة من يمت إليها بالصلة، وقد ظل الإسلام حيناً من الدهر يعيش في حمى هذه التقاليد المرعية حتى استغنى بنفسه كما تستغني الشجرة عمّا يحملها بعدما تغلظ وتستوي)(3).
__________
(1) انظر تفسير القرآن العظيم لابن كثير: (4/91).
(2) انظر سيرة ابن هشام: (1/167) وما بعدها.
(3) فقه السيرة: (ص:58).(26/29)
وقد كان أبو طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم مثالاً حياً لهذه العصبيات لقيامه بالدفاع عن الرسول صلى الله عليه وسلم حتى أنّه جوزي وهو كافر بما جاء به من عند الله بتخفيف العذاب عنه يوم القيامة مقابل دفاعه عنه لما ثبت في الصحيح عن العباس بن عبد المطلب أنّه قال: (يا رسول الله هل نفعت أبا طالب بشيء فإنه كان يحوطك ويغضب لك؟ قال: نعم هو في ضحضاح (1) من نار ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار) (2)، وفي رواية أخرى: (وجدته غمرات (3) من النار فأخرجته إلى ضحضاح) (4).
ولقد مرّ الرسول صلى الله عليه وسلم قبل البعثة بمراحل عديدة، واجه حياة كدح صعبة وشاقةْ حيث أنه أصبح يتيماً فقيراً إلى أن أغناه الله فاتجه إلى الانعزال والعبادة في غار حراء.
__________
(1) ضحضاح: ما رق من الماء على وجه الأرض، غريب الحديث لابن الجوزي (2/6).
(2) صحيح مسلم كتاب الإيمان باب شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم لأبي طالب والتخفيف عنه بسببه (1/195).
(3) غمرات: أي المواضع التي تكثر فيها النار. واحدتها غمرة. النهاية في غريب الحديث لابن الأثير (3/383-384).
(4) صحيح مسلم كتاب الإيمان، باب شفاعة الني صلى الله عليه وسلم لأبي طالب والتخفيف عنه بسببه (1/195).(26/30)
فلقد كان -عليه الصلاة والسلام- في صباه يشتغل برعاية الغنم كما هو سنة الأنبياء، لأنّه ثبت في الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم كان يرعى الغنم لأهل مكة على قراريط، وهو -عليه الصلاة والسلام- القائل: (ما بعث الله نبياً إلا ورعى الغنم، فقال له أصحابه -رضي الله عنهم-: وأنت؟ فقال:، نعم كنت أرعاها على قراريط (1) لأهل مكة) (2). وهذا الحديث إنّما يدل على أنّه صلى الله عليه وسلم كان يعتمد على نفسه في فترة مبكرة من عمره.
وبجانب رعايته للغنم كان صلى الله عليه وسلم يذهب إلى الشام مع عمّه أبي طالب للتجارة.
أخرج الترمذي عن أبي موسى الأشعري قال: (خرج أبو طالب إلى الشام وخرج معه النبي صلى الله عليه وسلم في أشياخ من قريش فلمّا أشرفوا على الراهب هبط فحلوا رحالهم فخرج إليهم الراهب...) (3).
هذا ما ورد في فترة صباه، وأمّا بعد بلوغه، فقد ورد أيضاً أنّه كان صلى الله عليه وسلم يذهب إلى الشام للتجارة بأموال خديجة - رضي الله عنها- قبل اقترانه بها.
__________
(1) قراريط: مفردها قيراط وهو جزء من أجزاء الدينار وهو نصف عشر في أكثر البلاد وأهل الشام يجعلونه جزءاً من أربعة وعشرين. والياء فيه بدل الراء فإن أصله من قّراط، النهاية في غريب الحديث (4/42).
(2) أخرجه البخاري في كتاب الإجارة، باب رعي الغنم على قراريط: (2/32-33).
(3) سنن الترمذي، أبواب المناقب باب ما جاء في نبوة النبي صلى الله عليه وسلم (5/250)، وقال: (هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه).(26/31)
يقول ابن إسحاق: (وكانت خديجة بنت خويلد امرأة تاجرة ذات شرف ومال تستأجر الرجال في مالها، وتضاربهم إياه بشيء وتجعله لهم وكانت قريش قوماً تجاراً، فلما بلغها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بلغها من صدق حديثه وعظيم أمانته وكرم أخلاقه بعثت إليه فعرضت عليه أن يخرج في مال لها إلى الشام تاجراً، وتعطيه أفضل ما كانت تعطي غيره من التجار مع غلام لها يقال له ميسرة، فقبله رسول الله صلى الله عليه وسلم منها وخرج في مالها ذلك، وخرج معه غلامها ميسرة حتى قدم الشام(1).
فقام صلى الله عليه وسلم بواجبه في التجارة خير قيام حتى كانت سبباً في زواجه إياها إثر رجوعه من ذلك السفر بعدما عرضت نفسها عليه بناء على ما رأته فيه من صدق وأمانة، وما سمعته من ميسرة في شأن الرسول صلى الله عليه وسلم من خير طوال مرافقته له في تلك الرحلة الميمونة.
يقول ابن كثير في السيرة: (فلمّا أخبرها ميسرة ما أخبرها بعثت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت له فيما يزعمون: يا ابن عم إنّي قد رغبت فيك لقرابتك ووسطتك في قومك وأمانتك وحسن خلقك وصدق حديثك، ثم عرضت نفسها عليه، فلمّا قالت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم ذكره لأعمامه فخرج معه حمزة حتى دخل على خويلد بن أسد فخطبها إليه فتزوجها -عليه الصلاة والسلام-(2). وبعد اقترانه صلى الله عليه وسلم بخديجة أم المؤمنين -رضي الله عنها استغنى بمالها عن الكسب والضرب في الأرض لأنّه لم يرد في كتب السيرة أنّه زاول نشاطاً اقتصادياً بعد ذلك بل ورد أنّه كان يذهب إلى غار حراء ليتعبد فيه فترة يرجع بعدها إلى خديجة ليتزود بمثلها حتى جاءه الملك بأول آيات من القرآن وهي صدر العلق من قوله تعالى: ((اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ)) [العلق:1] إلى قوله تعالى: ((عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ)) [العلق:5].
__________
(1) سيرة ابن هشام: (1/171-172).
(2) السيرة النبوية: (1/263).(26/32)
عن عائشة -رضي الله عنها- أنّها قالت: (أول ما بدىء رسول الله من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم فكان لا يرى رؤيا إلاّ جاءت مثل فلق الصبح ثم حبب إليه الخلاء وكان يخلو بغار حراء فيتحنث فيه- وهو التعبد- الليالي ذات العدد قبل أن ينزع إلى أهله ويتزود لذلك ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها حتى جاءه الحق وهو في غار حراء فجاءه الملك (1) فقال: إقرأ.. إلى قوله: ((عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ)) [العلق:5].
وهذه هي المراحل التي مر بها الرسول صلى الله عليه وسلم قبل النبوة وقد أشار القرآن الكريم إليها في آيات من سورة الضحى وهي قوله تعالى: ((أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى * وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى)) [الضحى:6-8].
قال قتادة في هذه الآيات: (كانت هذه هي منازل رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يبعثه الله -عز وجل-)(2).
وقد ذكر أكثر المفسرين هذه المراحل التي مرّ بها الرسول صلى الله عليه وسلم عند تفسيرهم هذه الآيات من سورة الضحى إلاّ أنهم يذكرون في كل مرحلة عدة أقوال محتملة ومعان متقاربة لا يتسع لذكرها هذا المقام لأن القصد هنا ليس ذكر أقوال المفسرين قاطبة وإنّما ذكر ما يشير إلى هذه المراحل.
__________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه: باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم (1/6).
(2) تفسير ابن كثير: (4/523).(26/33)
وقد لخّص الشهيد سيد قطب معنى هذه الآيات فيقول: (لقد ولدت يتيماً قآواك إليه وعطف عليك القلوب.. ولقد كنت فقيراً فأغنى الله نفسك بالقناعة كما أغناك بكسبك ومال أهل بيتك خديجة - رضي الله عنها- عن أن تحس الفقر أو تتطلع إلى ما حولك من ثراء. ثم لقد نشأت في جاهلية مضطربة التصورات والعقائد منحرفة السلوك والأوضاع فلم تطمئن روحك إليها ولكنّك لم تكن تجد لك طريقاً واضحاً مطمئناً لا فيما عند الجاهلية ولا فيما عند أتباع موسى وعيسى الذين حرّفوا وبدّلوا وانحرفوا وتاهوا ثم هداك الله بالأمر الذي أوحى به إليك وبالمنهج الذي يصلك به)(1).
ويفهم من تفسير سيد قطب للآيات الثلاث من سورة الضحى كغيره من المفسرين أن المراحل الثلاثة ليست على ترتيب الآيات من المصحف حيث أنّ مرحلة الإغناء مقدمة على مرحلة الهداية.
يقول الدكتور محمد عزت دروزة ملخصاً ما ذكره المفسرون في هذا الصدد: (إن الآية تحتوي إشارة إلى حادث تيهان وقع للنبي صلى الله عليه وسلم في طفولته أو في إحدى رحلاته ورووا في ذلك روايات كما قالوا أنّها تعني أنّه كان غافلاً عن الشريعة التي لا تتقرر إلا بالوحي الرباني أو أنّه كان حائراً في أسلوب العبادة لله ونفوا عنه أي حال أن يكون ضالاً أي مندمجاً في العقائد والتقاليد الشركية والنفس لا تطمئن إلى رواية تيهان النبي صلى الله عليه وسلم مضموناً وسنداً بل إنّها ليست متسقة مع ما تضمنته الآية من منّ الله على النبي صلى الله عليه وسلم بأعظم إفضاله عليه، وتفسير ضال بحائر يحمل معنى الآية على أنه المقصود الحيرة في الطريق التي يجب أن يسار فيها إلى الله وعبادته على أفضل وجه. وهو المعنى الذي نراه)(2).
__________
(1) في ظلال القرآن: (6/3927).
(2) سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم: (1/32).(26/34)
والحكمة في تلك المراحل التي مرّ بها الرسول صلى الله عليه وسلم هو أنّ الله - سبحانه وتعالى- كان يدربه حتى يكون مهيأ ومؤهلاً لحمل عبء الرسالة الخاتمة وإبلاغها إلى الناس المنغمسين في بحر من الفساد في كل ناحية من نواحي الحياة حتى يصدق عليهم قوله تعالى: ((ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ)) [الروم:41].
يقول صاحب كتاب "دراسة في السيرة" مشيراً إلى الحكمة من تلك المراحل:
"ومن مرارة اليتم ووحشية العزلة وانقطاع معين العطف والحنان قبس الرسول صلى الله عليه وسلم الصلابة والاستقلال والقدرة على التحمل... وبالفقر والحرمان تربى ونما بعيداً عن ترف الغنى وميوعة الدلال.. وعبر رحلته إلى الشام في رعاية عمّه فتح الرسول صلى الله عليه وسلم عينيه ووعيه تجاه العالم الذي يتجاوز حدود الصحراء وسكونها إلى حيث المجتمعات المدنية التي تضطرب نشاطاً وقلقاً... وفي رحلته الثانية إلى الشام مسؤولاً عن تجارة للسيدة خديجة تعلّم الرسول الكثير الكثير عمّق في حسّه معطيات المرحلة الأولى وزاد عليها إدراكاً أكثر لما يحدث في أطراف عالمه العربي من علاقات بين الغالب والمغلوب... كما علمه الانشقاق الأخلاقي عن الوضع المكي القدرة على مجابهة الأحداث(1).
المبحث الثالث: سمو صفاته صلى الله عليه وسلم وأخلاقه:
نشأ الرسول صلى الله عليه وسلم في بيئة وثنية يعبد أهلها الأصنام والأوثان، ويستعبد القوي منهم الضعيف حتى أصبح الظلم شيئاً معروفاً كما تنبىء به أشعارهم المأثورة كقول زهير بن أبي سلمى:
ومن لم يذد عن حوضه بسلاحه ……يهدم ومن لا يظلم الناس يظلم(2)
__________
(1) دراسة ني السيرة للدكتور عماد الدين خليل (ص:47-49) مع تصرف يسير.
(2) في ديوانه: (ص:88).(26/35)
إضافة إلى ما كانوا عليه من فساد في العادات والسلوك مثل وأد البنات خوفاً من العار والفقر، وأكل أموال اليتامى بحجة أنهم ضعفاء لا يستطيعون حمل السلاح والدفاع عن القبيلة، وأكل الربا واستحلاله راضين بذلك حتى اشتهر فيهم تعريف البيع به كما حكى لنا القرآن الكريم: ((إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا)) [البقرة:275].
وقد وصف جعفر بن أبي طالب -رضي الله عنه- للنجاشي ملك الحبشة أثناء الهجرة الثانية إلى الحبشة أحوال المجتمع المكي آنذاك وصفاً دقيقاً فقال:
"أيها الملك، كنّا أهل جاهلية، نعبد الأصنام ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش ونقطع الأرحام ونسبي الجوار، ويأكل القوي منّا الضعيف، حتى بعث الله إلينا رسولاً منّا نعرف نسبه وأمانته وعفافه، فدعا إلى توحيد الله وأن لا نشرك به شيئاً ونخلع ما كنّا نعبد من الأصنام، وأمرنا بصدق الحديث وأداء الأمانة، وصلة الرحم وحسن الجوار والكف عن المحارم والدماء ونهانا عن الفواحش وقول الزور وأكل أموال اليتيم..."(1).
هكذا كانت حالة المجتمع المكي آنذاك ولكنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم برعاية من الله لم يتأثر ببيئته مع اشتراكه في بعض الأعمال مع قومه لأنّها كانت أعمالاً لا تخدش نبله أو لا تسيء إلى سمعته، وأخلاقه الطيبة.
نذكر في هذا الصدد ما روي من الأعمال التي اشترك فيها الرسول صلى الله عليه وسلم مع قومه.
__________
(1) الفتح الرباني في ترتيب مسند الإمام أحمد مع شرحه بلوغ الأماني من أسرار الفتح الربّاني (20/226) كلاهما لاْحمد البنا "وقال البنا عقب هذا الهديث: "الحديث صحيح ورواه ابن هشام في سيرته بطوله عن ابن إسحاق، وأورده الهيثمي وقال: رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح، غير ابن إسحاق وقد صرّح بالسماع".(26/36)
فلقد اشترك الرسول صلى الله عليه وسلم قبل البعثة في حلف الفضول الذي وقع بين بطون من قريش لرد المظالم إلى أهلها. يروي ابن هشام بسنده عن ابن إسحاق قال(1): "تداعت قبائل من قريش إلى حلف فاجتمعوا له في دار عبد الله بن جُدعان لشرفه وسنه... فتعاقدوا وتعاهدوا على ألا يجدوا في مكة مظلوماً من أهلها وغيرهم ممّن دخلها من سائر الناس إلاّ قاموا معه وكانوا على من ظلمه حتى ترد عليه مظلمته فسمّت قريش ذلك الحلف حلف الفضول"(2).
ويقول ابن كثير -رحمه الله- بعد إيراده ذلك الحلف: "وكان حلف الفضول أكرم حلف سمع به وأشرفه في العرب وكان أول من تكلم به ودعا إليه الزبير بن عبد المطلب"(3).
وعلى هذا فكان اشتراكه صلى الله عليه وسلم في ذلك الحلف أمراً ذا أهمية كبيرة لأنّ ردّ المظالم إلى أهلها أمر هام وقد جاء به الإسلام فيما بعد ولهذا أثنى الرسول صلى الله عليه وسلم على ذلك الحلف بعد البعثة، لما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: "لقد شهدت في دار عبد الله بن جُدعان حلفاً ما أحب لي به حمر النعم ولو دعيت إليه في الإسلام لأجبت"(4).
ومن الأعمال التي اشترك فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم مع قومه قبل البعثة، حرب الفِجار التي وقعت وعمره صلى الله عليه وسلم عشرون سنة كما ذكر ابن إسحاق صاحب السيرة(5).
__________
(1) سيرة ابن هشام: (1/122-123).
(2) سمي هذا الحلف بالفضول إما نسبة إلى الأشخاص المتحالفين الثلاث الذين سمى كل واحد منهم بالفضل أو إما السبب الذي من أجله تحالفوا وهو أن ترد الفضول على أهلها. السيرة النبوية لابن كثير (1/258-261) مع التصرف.
(3) السيرة النبوية (1/259).
(4) انظر سيرة ابن هشام (1/123-124).
(5) المصدر السابق (1/170).(26/37)
وسبب ذلك الحرب (1) كما ذكر ابن هشام في سيرته أنّ عروة الرحال بن عتبة من هوازن أجار لطيمة (2) للنعمان بن المنذر فقال له البراض بن قيس أحد بني ضمرة: أتجيرها في كنانة؟ قال: نعم وعلى الخلق فخرج فيها عروة الرحال وخرج البراض لطلب غفلته حتى إذا كان بتيمن ذي طلال بالعالية غفل عروة فوثب عليه البراض فقتله في الشهر الحرام فلذلك سمي حرب الفجار(3).
وكانت دوره صلى الله عليه وسلم في تلك الحرب أن يرد على أعمامه نبل عدوهم إذا رموهم بها، لأنّه روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: "كنت أنبل على أعمامي"(4).
وفي اشتراكه صلى الله عليه وسلم في تلك الحرب ما يبرره وهو أنّ القتال لم يكن جائزاً في الأشهر الحرم زمن الجاهلية حتى أنّهم إذا أرادوا القتال في الأشهر الحرم أخّروها إلى شهر آخر لكي يستحلوا فيها القتال كما بينها الله -سبحانه وتعالى- في القرآن معيباً عليهم: ((إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عَاماً لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ)) [التوبة:37].
وعلى هذا فما دامت تلك الحرب دفاعاً عن انتهاك حرمة الأشهر الحرم فلا بأس في اشتراكه صلى الله عليه وسلم فيها.
وقد أقر الله ذلك في قوله تعالى: ((إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ)) [التوبة:36].
__________
(1) في حرب الفجار التي وقعت بين قريش ومن معه من كنانة وبين قيس عيلان. انظر سيرة ابن هشام (1/168).
(2) اللطيم تحمل العطر والبزّ غير الميرة. النهاية في غريب الحديث (4/251).
(3) انظر سيرة ابن هشام (1/169) بتصرف.
(4) انظر السيرة النبوية لابن كثير (1/256).(26/38)
ومن الأعمال التي اشترك فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم مع قومه قبل البعثة وضع الحجر الأسود في مكانه من الكعبة حين بناء قريش لها بعد ما اختلفت بطونها في ذلك حيث كانت كل قبيلة تريد أن تنفرد بمزية وضع الحجر الأسود في مكانه وكادوا أن يقتتلوا لولا مجيء رسول الله صلى الله عليه وسلم وحكمه فيهم حكماً يرضى كل الأطراف المتنازعة على ذلك.
عن عبد الله بن السائب قال: كنت فيمن بنى البيت وأخذت حجراً فسويته ووضعته إلى جنب البيت.. وأن قريشاً اختلفوا في الحجر حيث أرادوا أن يضعوه حتى كاد أن يكون بينهم قتال بالسيوف فقال: اجعلوا بينكم أول رجل يدخل من الباب فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: هذا الأمين وكانوا يسمونه في الجاهلية الأمين، فقالوا: يا محمد قد رضينا بك فدعا بثوب فبسطه ووضع الحجر فيه ثم قال لهذا البطن، ولهذا البطن، غير أنّه سمى بطوناً: "ليأخذ كل بطن منكم بناحية من الثوب" ففعلوا ثم رفعوه وأخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم فوضعه بيده(1).
واشتراكه صلى الله عليه وسلم في هذا العمل يظهر مدى فطانته ورجاحة عقله حيث حل المشكلة بسهولة ويسر بعدما كادت أن تؤدي إلى إسالة الدماء والحرب كما أنّه يدل على مكانته صلى الله عليه وسلم عند قومه بحيث إنّهم رضوا بحكمه دون تردد.
هذه هي أهم الأعمال التي وردت أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد اشترك فيها قبل البعثة مع قومه، وكلها كما ذكرت سابقاً من أعالي الأمور ومن مكارم الأخلاق التي من شأنها أن ترفع مكانته وشأنه وبخاصة إذا علم أن بيئته قد عم فيها الفساد وانتشرت فيها الرذائل التي عصمه الله -سبحانه وتعالى- منها وأبعده عنها لينشأ خالياً من الدنايا والشوائب.
__________
(1) أخرجه الحاكم في مستدركه (1/458) وقال: صحيح على شرط مسلم وله شاهد صحيح على شرطه ووافقه الذهبي.(26/39)
يؤيد ذلك ما رواه أبو نعيم بسنده عن علي بن أبي طالب قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما هممت بقبيح مما كان أهل الجاهلية يهمون بها إلا مرتين الدهر كلتاهما يعصمني الله -عز وجل- منها، قلت ليلة لفتى من قريش بأعلى مكة في أغنام لأهلنا نرعاها: أنظر غنمي حتى أسمر هذه الليلة بمكة كما يسمر الفتيان قال: نعم، فخرجت فجئت أدنى دار من دور مكة فسمعت غناء وضرب دفوف وزمراً فقلت ما هذا؟ قالوا: فلان تزوج فلانة المرجل من قريش فلهوت بذلك الغناء وبذلك الصوت حتى غلبتني عيني، فما أيقظني إلا مسَّ الشمس ثم رجعت إلى صاحبي فقال: ما فعلت؟ فأخبرته ثم قلت له ليلة أخرى مثل ذلك ففعل فخرجت فسمعت مثل ذلك، فقيل لي مثل ما قيل لي، فلهوت بما سمعت حتى غلبتني عيني فما أيقظني إلا مسّ الشمس ثم رجعت إلى صاحبي فقال: ما فعلت؟ فقلت: ما فعلت شيئاً، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فوالله ما هممت بعدهما بسوء مما يعمل أهل الجاهلية حتى أكرمني الله بنبوته"(1).
وهذا الحديث دليل واضح على بعده صلى الله عليه وسلم ونزاهته عن أمور الجاهلية التي كانت سائدة آنذاك في المجتمع المكي ومن حوله بعناية من الله -سبحانه وتعالى- وبجانب ذلك كان صلى الله عليه وسلم متصفاً بصفات فاضلة وأخلاق حميدة أقر له بها المؤيدون والمعاندون على السواء.
__________
(1) دلائل النبوة لأبي نعيم (ص:54) وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (8/226) رواه البزار ورجاله ثقات.(26/40)
وقد أوجزت لنا خديجة أم المؤمنين -رضي الله عنها- صفاته وأخلاقه بقولها بعد فزعه إليها من شدة بدء الوحي: "كلا أبشر فوالله لا يخزيك الله أبداً فوالله إنك تصل الرحم وتصدق الحديث وتحمل الكل (1) وتكسب المعدوم (2) وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق.."(3).
وخديجة -رضي الله عنها- أقرب شخصية لرسول الله صلى الله عليه وسلم تصفه بهذه الصفات بناء على تجربة دقيقة وممارسة طويلة ابتداء من ائتمانها له أن يتاجر في مالها ثم اقترانها به ومعاشرته فترة تبلغ خمس عشرة سنة.
وهذه شهادة من جانب أحد المؤمنين بدعوته صلى الله عليه وسلم وهى شهادة حق وصدق أقر بها وبحقيقتها من لم يتبعوا الرسول صلى الله عليه وسلم ويؤمنوا بدعوته.
__________
(1) الكل: العيال والثقل. غريب الحديث لابن الجوزي (2/293).
(2) وتكسب المعدوم - يقال: فلان يكسب المعدوم إذا كان مجذوذاً محظوظاً أي يكسب ما يحرمه غيره، وقيل أرادت -أي خديجة -رضي الله عنها- تكسب الشيء المعدوم الذي لا يجدونه مما يحتاجون إليه، وقيل أرادت بالمعدوم الفقير الذي صار من شدة حاجته كالمعدوم نفسه. النياية في غريب الحديث (3/191-192).
(3) صحيح البخاري في كتاب التفسير باب تفسير سورة اقرأ باسم ربك الذي خلق (3/218).(26/41)
من ذلك ما أخرجه الشيخان بسندهما عن ابن عباس -رضي الله عنهما - قال: "لما نزلت: ((وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ)) [الشعراء:214] خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى صعد الصفا فهتف يا صباحاه، فقالوا: من هذا؟ فاجتمعوا إليه، فقال: "أرأيتم إن أخبرتكم أن خيلاً تخرج من سفح هذا الجبل أكنتم مصدقي؟ "قالوا: ما جربنا عليكَ كذباً، قال: "فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد" قال أبو لهب: تباً لك ما جمعتنا إلا لهذا ثم قام: فنزلت: ((تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ)) [المسد:1](1).
ففي قولهم: ما جربنا عليك كذباً دليل واضح على اتصافه صلى الله عليه وسلم بالصدق التام قبل الرسالة بشهادة أعدائه الذين وقفوا في وجه نشر الدعوة الإسلامية.
وهذه الشهادة قد صدرت من مجموع المشركين ومثلها صدرت من أفرادهم، وقد قالها أبو سفيان -رضي الله عنه- وهو مشرك- عند هرقل ملك الروم الذي وجه إليه عدة أسئلة تتعلق بأحوال الرسول صلى الله عليه وسلم من بينها قول هرقل: "فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ "قلت: لا، ثم قال هرقل: في آخر القصة لأبي سفيان:
وسألتك هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال فزعمت أن لا فعرفت أنّه لم يكن ليدع الكذب على الناس ثم يذهب ويكذب على الله"(2).
تلك شهادة الخصوم والمؤمنين تنطق صريحة في أنّ الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكذب أبداً قبل البعثة، بل كان صادقاً دائماً.
__________
(1) صحيح البخاري في كتاب التفسير باب تفسير سورة: (تبت يدا أبي لهب وتب) (3/222). وصحيح مسلم في كتاب الإيمان، باب (وأنذر عشيرتك الأقربين) (1/194).
(2) جزء من الحديث الطويل المتفق عليه؛ انظر صحيح البخاري باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم (1/8)، وصحيح مسلم في كتاب الجهاد باب كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى هرقل يدعوه إلى الإسلام (3/1394)-(1395هـ)، واللفظ له.(26/42)
والصدق أساس الفضائل الأخلاقية وعنوان الإنسانية الكريمة، وقد انطبع رسول الله صلى الله عليه وسلم بفضل الله تعالى.
وكما اتصف صلى الله عليه وسلم بالصدق اتصف بكل مكارم الأخلاق ومنها الأمانة.
وخير ما يدل على ذلك قصة وضع الحجر الأسود في مكانه من الكعبة أثناء تجديد بنائها حينما اختلفت قريش في ذلك حيث أتفقوا على تحكيم أول رجل يدخل من الباب فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانوا يسمونه في الجاهلية الأمين فقالوا: "قد دخل الأمين، فقالوا يا محمد رضينا بك"(1).
وهذه شهادة صدرت من مجموع المشركين وإن لم يكن بينه وبينهم عداوة حين نطقوا بذلك القول لأنّ ذلك كان قبل البعثة إلا أنّها تشهد على اتصافه صلى الله عليه وسلم بالأمانة حتى أصبحت لقباً له.
وعلى هذا نجزم أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان متصفاً بصفات فاضلة وأخلاق حميدة قبل البعثة اعترف بها أعداؤه وآمن بها أصحابه مع شيوع الظلم والعدوان وسوء الأخلاق في المجتمع المكي يومذاك. وذلك بفضل الله وعنايته ورعايته.
وأمّا بعد البعثة فقد كان خلقه صلى الله عليه وسلم القرآن كما ورد في حديث عائشة أم المؤمنين -رضي الله عنها- حيث قالت: "... فإن خلق نبي الله صلى الله عليه وسلم كان القرآن"(2).
وهذه الأخلاق الكريمة كانت سبباً في تقريب قلوب أصحابه -رضوان الله عليهم- له ولولا اتصافه بها لما تمكن من تأثير دعوته عليهم وخاصة في أيامها الأولى في مكة.
وقد أشار الله -سبحانه وتعالى- إلى تأثير اتصافه صلى الله عليه وسلم بالأخلاق الفاضلة على أصحابه -رضوان الله عليهم- بقوله تعالى: ((فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ)) [آل عمران:159].
__________
(1) جزء من الحديث الذي أخرجه الحاكم في مستدركه (1/458). وقد تقدم تخريجه في (ص:73).
(2) أخرجه الإمام مسلم في صحيحه (1/513).(26/43)
وكما أن الأخلاق الفاضلة لها تأثير كبير على الأصحاب كذلك أيضاً لها تأثير كبير على الأعداء كما يدل عليه قوله تعالى: ((وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ)) [فصلت:34-35].
وقد شهد الله سبحانه وتعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم بالخلق العظيم بقوله: ((وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ)) [القلم:4].
الفصل الثاني
عمله صلى الله عليه وسلم في نشر الدعوة وحرصه على هداية الناس
إن نزول الوحي الإلهى للناس يحتاج إلى رسول يتلقاه ويبلغه للمدعوين، ولذلك اختار الله رسله -عليهم السلام- قادرين على تحمل المسؤولية مهيئين بفضل الله- للقيام بواجب الدعوة خير قيام.
ومن هنا كان إرسال الرسل مسقطاً لحجة الناس بأن الدعوة لم تبلغهم.
يقول الله تعالى: ((رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لأَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ)) [النساء:165].
وعمل الرسل مع الدعوة يحتاج إلى جهد كبير وصبر واضح، ومثابرة شاقة بالإضافة إلى تحمل أذى القوم وعنتهم وعدوانهم القولي والفعلي على الرسول والذين معه.
وتلك سنة عامة مع كل الرسل وسائر الدعوات من لدن نوح عليه السلام إلى خاتم الأنبياء صلى الله عليه وسلم.
ولقد تحدث القرآن الكريم عن الرسل السابقة -عليهم الصلاة والسلام- وبين ما لقوا من أقوامهم من أذى وتعنت أو قتل أو تشريد، ولكن لا يتسع المقام لأن أسرد كل قصصهم إلاّ أنّي أذكر ما يدل على ذلك من الكتاب والسنة على وجه الإجمال.(26/44)
فمن الكتاب قوله تعالى: ((وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ)) [الأنعام:34].
يقول الشهيد سيد قطب -رحمه الله- في تفسير هذه الآية: "ويستطرد من تطييب خاطر الرسول صلى الله عليه وسلم وبيان الأسباب الحقيقية لموقف المكذبين منه ومن دعوته، ومن آيات الله الناطقة بصدقه وصدق ما جاء به... يستطرد من هذا إلى تذكيره بما وقع لإخوانه الرسل قبله، وقد جاءه من أخبارهم في هذا القرآن ثم ما كان منهم من الصبر والمضي في الطريق حتى جاءهم نصر الله ليقرر أنّ هذه سنة الدعوات التي لا تبديل ولا يغير منها اقتراحات المقترحين كما أنها لا تستعجل مهما ينزل بالدعاة من الأذى والتكذيب والضيق"(1).
__________
(1) في ظلال القرآن (2/1077).(26/45)
- وأما السنة فمنها ما جاء على لسان ورقة بن نوفل حينما ذهبت خديجة أم المؤمنين -رضى الله عنها- بالرسول صلى الله عليه وسلم إليه بعد فزع الرسول من رؤية الملك جبريل عليه السلام في بداية الوحي كما رواه البخاري عن عائشة -رضى الله عنها-: وفيه:.. فانطلقت به خديجة إلى ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى ابن عم خديجة وكان امرأ تنصر في الجاهلية وكان يكتب الكتاب العبراني فيكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب وكان شيخاً كبيراً قد عمي فقالت له خديجة: يا ابن عم، اسمع من ابن أخيك؟ فقال ورقة: يا ابن أخي ماذا ترى؟! فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر ما رأى، فقال ورقة: هذا الناموس (1) الذي نزّل الله على موسى يا ليتني فيها جذعاً (2) ليتني أكون حيّاً إذ يخرجك قومك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أمخرجيّ هم" قال: نعم، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي وإن يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزراً ثم لم ينشب (3) ورقة أن توفي وفتر الوحي"(4).
__________
(1) الناموس: صاحب سر الملك، وقيل صاحب سر الخير، وأراد به جبريل عليه السلام لأنّ الله تعالى خصّه بالوحي والغيب اللذين لا طلع عليهما غيره. النهاية في غريب الحديث (5/119).
(2) يا ليتني كنت جذعاً: أي يا ليتني كنت شاباً عند ظهورها حتى أبالغ في نصرتها وحمايتها. وأصل الجذع من أسنان الدواب وهو ما كان شاباً فتياً. النهاية في غريب الحديث (1/250).
(3) لم ينشب: من نشب. يقال نشب في الشيء إذا وقع فيما لا مخلص له منه، ولم ينشب أن فعل كذا أي لم يلبث، وحقيقته لم يتملق بشيء غيره ولا اشتعل بسواه. وهنا لم يلبث حتى مات. النهاية في غريب الحديث (5/52).
(4) صحيح البخاري، كتاب بدء الوحي، باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم (1/7).(26/46)
وهذا الحديث نص صريح في الموضوع الذي نحن بصدده إذ أنّه يعطينا صورة واضحة عن معاداة الأمم السابقة لرسلهم من غير استثناء رسول واحد من الرسل -عليهم السلام- ابتداء من نبي الله نوح عليه السلام وانتهاء بخاتم النبيين صلى الله عليه وسلم كما هي سنة الله تعالى في إرسال الرسل.
وما دامت سنة الله في كل دعوة من دعوات الرسل -عليهم الصلاة والسلام- أن تواجه الابتلاء والاختبار فلا بد لدعوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أن تواجه أيضاً ذلك من قبل المعاندين من المشركين وأهل الكتاب وغيرهم.
وفي هذا الفصل أتحدث عن ما لاقاه الرسول صلى الله عليه وسلم من قبل أعداء الدعوة الإسلامية وكيف قاومهم ومدى ما تحمل من المتاعب في سبيل نشر الدعوة الإسلامية مع مراعاة ظروف ذلك الزمان.
وقد قسمت هذا الفصل إلى ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: تحمل مشاق نشر الدعوة.
المبحث الثاني: الصبر على الأذى والعدوان من قبل الخصوم.
المبحث الثالث: إكمال الله تعالى الدين على يده صلى الله عليه وسلم.
وذلك على النحو التالي:
المبحث الأول: تحمل مشاق نشر الدعوة:
من المعلوم أنّ الإسلام بدأ غريباً كما ورد في الحديث الصحيح الذي أخرجه الإمام مسلم عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ فطوبى للغرباء) (1).
وتلك الغربة قد زالت بفضل الله تعالى ثم بفضل جهود رسول الله صلى الله عليه وسلم في نشر الدعوة الإسلامية في مراحلها الخمسة وتحمله المشاق في سبيل إنجاحها.
وقد ذكر ابن القيم -رحمه الله- تلك المراحل الخمس وهي على النحو التالي:
المرحلة الأولى: النبوة.
المرحلة الثانية: إنذار عشيرته الأقربين.
المرحلة الثالثة: إنذار قومه.
المرحلة الرابعة: إنذار قوم ما أتاهم من نذير من قبله وهم العرب قاطبة.
__________
(1) صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان أنّ الإسلام بدأ غريباً وسيعود غريباً (1/130).(26/47)
المرحلة الخامسة: إنذار جميع من بلغته الدعوة من الجن والإنس إلى آخر الدهر(1).
ويمكن تقسيم هذه المراحل التي أشرتها آنفاً إلى مرحلتين: المرحلة المكية، والمرحلة المدنية أي بعد الهجرة.
أولاً: المرحلة المكية:
وهذه المرحلة هي أصعب المرحلتين لقلة المؤمنين بالرسول صلى الله عليه وسلم وضعفهم وقوة المعادين له وكثرتهم، ولكنه صلى الله عليه وسلم كان على ثقة بالله -سبحانه وتعالى- في أن يتم هذا الأمر فلم يتزحزح عن طريق الحق قيد شبر طيلة المدة التي كان يدعو الناس إلى الله.
وفي السنوات الثلاث الأولى من هذه المرحلة كان الرسول صلى الله عليه وسلم يسر دعوته ولا يدعو الناس إلا فرادى، ويأمر من آمن به أن لا يظهر إسلامه خوفاً على نفسه.
ويؤيد هذا ما أخرجه الحاكم عن عمر بن عبسة -رضي الله عنه- قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم أول ما بعث وهو يومئذ مستخف فقلت أنت ما أنت؟ قال: "أنا نبي" قلت: وما نبى؟ قال: "رسول الله" قلت: أرسلك الله؟ قال: "نعم" قلت: بم أرسلك؟ قال: "بأن تعبدوا الله وتكسروا الأوثان وتصلوا الرحم" قلت: نعما أرسلت فمن تبعك على هذا؟ قال: "حر وعبد" يعني أبا بكر وبلالاً، فكان عمر بن عبسة يقول: لقد رأيتني وأنا ربع الإسلام فأسلمت فقلت: أتبعك يا رسول الله؟ قال: "لا، ولكن الحق بأرض قومك فإذا ظهرت فأتني"(2).
ويشير ابن القيم -رحمه الله- إلى هذه المرحلة قائلاً:
__________
(1) انظر زاد المعاد (1/86).
(2) مستدرك الحاكم (3/617)، وقال الحاكم: صحيح على شرط البخاري ومسلم ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي.(26/48)
"وأقام صلى الله عليه وسلم بعد ذلك (1) ثلاث سنين يدعو إلى الله -سبحانه وتعالى- مستخفياً ثم نزل عليه: ((فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنْ الْمُشْرِكِينَ)) [الحجر:94]. فأعلن صلى الله عليه وسلم بالدعوة وجاهر قومه بالعداوة واشتد الأذى عليه وعلى المسلمين حتى أذن الله لهم بالهجرتين"(2).
ولا يخفى ما لهذه الفترة من مشقة نفسية بالنسبة لصاحب الرسالة - صلى الله عليه وسلم- وللمؤمنين على السواء بحيث أنّهم كانوا لا يقدرون أن ينطقوا بالحق الذي آمنوا به أمام الناس فضلاً عن دعوة الناس إليه جهراً خائفين على أنفسهم لأنّه من المحتمل وأد الدعوة في مهدها إذا أعلنوها آنذاك إمّا بقتل صاحبها أو معتنقيها أو إفتتانهم عن دينهم والفتنة أشد من القتل.
إضافة إلى ذلك فقد كان صلى الله عليه وسلم يعاني مشقة أخرى ينفرد بها عن أصحابه وهي شدة تلقي الوحي وخاصة في أيامه الأولى التي لم يتعوده بعد حتى أنّه كان يفزع من رؤية الملك جبريك عليه السلام أمين الوحي.
ويدل على هذا قوله صلى الله عليه وسلم: "بينما أنا أمشي إذ سمعت صوتاً من السماء فرفعت بصري فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض فرعبت منه فرجعت فقلت: زملوني فأنزل الله تعالى: ((يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ)) [المدثر:1].. إلى قوله: ((وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ)) [المدثر:5] فحمى الوحي وتتابع)(3). وَمن شدائد الوحي أيضاً ما لقيه الرسول صلى الله عليه وسلم من حفظه وقراءته حتى إنه كان يسابق الملك في القراءة إلى أن نزل قوله تعالى: ((لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ)) [القيامة:16-17].
__________
(1) بعد بدء نزول الوحي عليه صلى الله عليه وسلم.
(2) زاد المعاد (1/86).
(3) صحيح البخاري، باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم (1/7).(26/49)
يقول ابن عباس -رضي الله عنه- ما في هاتين الآيتين المذكورتين: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعالج من التنزيل شدة وكان مما يحرك شفتيه فأنزل الله تعالى: ((لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ)) [القيامة:16-17] فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك إذا أَتاه جبريل استمع فإذا انطلق جبريل قرأه النبي صلى الله عليه وسلم كما قرأه"(1).
يقول ابن كثير في تفسير هاتين الآيتين: "هذا تعليم من الله عز وجل لرسوله صلى الله عليه وسلم في كيفية تلقيه الوحي من الملك فإنّه كان يبادر إلى أخذه ويسابق الملك في قراءته، فأمره الله -عز وجل- إذا جاءه الملك أن يستمع له، وتكفل الله له أن يجمعه في صدره وأن ييسره لأدائه على الذي ألقاه إليه وأن يبينه له ويفسره ويوضحه، فالحالة الأولى جمعه في صدره والثانية تلاوته، والثالثة تفسيره وإيضاح معناه"(2).
وقد أخبر صلى الله عليه وسلم أنّه كان يعاني من الوحي شدة طوال فترة بعثته غير أنّه تعود وتحمل دون رعب وفزع منه ومن الملك بخلاف ما كان يعاني وقت بدايته.
ويؤيد هذا ما روته عائشة -رضي الله عنها- أنّ الحارث بن هشام سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "أحياناً يأتيني مثل صلصلة (3) الجرس وهو أشده عليَّ حتى يفصم عني وقد وعيت عنه ما قال، وأحياناً يتمثل لي الملك رجلاً فيكلمني فأعي ما يقول"، قالت عائشة -رضي الله عنها-: ولقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه وإن جبينه ليتفصد عرقاً"(4).
__________
(1) صحيح البخاري، باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم (1/7).
(2) تفسير القرآن العظيم: (4/449).
(3) الصلصة: صوت الحديد إذا حرك. انظر النهاية في غريب الحديث (3/46).
(4) صحيح البخاري، كتاب الوحي، باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم (1/6).(26/50)
وأما بعد أن أمر الله -سبحانه وتعالى- رسوله صلى الله عليه وسلم بالجهر بالدعوة إلى الله- فقد ازدادت الشدة عليه وعلى المؤمنين بسبب معاداة قومه دعوته وإيذائه هو وأصحابه بكل ما أوتي لهم من قوة حسيّاً ومعنوياً.
ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم قد بذل أقصى جهده في إبلاغ الدعوة إلى الناس وهو لا يخاف لومة لائم مهما كانت قوته وسلطته وتحمل المشاق في سبيل إنجاحها.
وقد سلك الرسول صلى الله عليه وسلم في إبلاغ قومه في هذه المرحلة طرقاً شتى وهي إمّا أن يطلب الناس إلى التجمع ليبلغ رسالة ربّه أو أن يذهب إلى أماكن تجمعهم كالمواسم والأسواق، أو أن يذهب إلى مواطنهم ومكان إقامتهم..
وأذكر هنا ما يؤيد ذلك من النصوص الصحيحة:
الطريقة الأولى: تجمع الناس لدعوتهم: ومما يدل على ذلك ما رواه ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: لما نزلت: ((وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ)) [الشعراء:214] خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى صعد الصفا فهتف يا صباحاه فقالوا: من هذا فاجتمعوا إليه فقال: "أرأيتم إن أخبرتكم أن خيلاً تخرج من سفح هذا الجبل أفكنتم مصدقي؟ "قالوا: نعم ما جربنا عليك كذباً. قال: "فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد" قال أبو لهب: تباً لك ما جمعتنا إلا لهذا؟ (1)
وهذا الحديث يدل على مدى اهتمام الرسول صلى الله عليه وسلم إبلاغ الدعوة إلى قومه بحيث وقف على جبل الصفا في الصباح الباكر قائلاً بأعلى صوته: يا صباحاه لينبه هؤلاء حتى يجتمعوا له ومن ثم يبلغهم ما كلف به من قبل الله -سبحانه وتعالى- كما أنّه يدل على ما عانى الرسول صلى الله عليه وسلم من قومه من الاستهزاء والاستكبار والإعراض عنه والدعاء عليه وخاصة من أقرب شخص إليه وهو عمه أبو لهب الخاسر.
__________
(1) صحيح البخاري في كتاب التفسير، باب تفسير سورة (تبت يدا أبي لهب وتب) (3/222)، ومسلم في كتاب الإيمان باب (وأنذر عشيرتك الأقربين) (1/194) واللفظ للبخاري.(26/51)
ولا يخفى ما لهذه الواقعة من المشقة إذ أنها تؤدي إلى اليأس بالنسبة لصاحب الرسالة وللمؤمنين من هؤلاء لولا لطف الله وعنايته المستمرين عليهم وكذلك إخبار الله تعالى عن الأمم السابقة وموقفهم من الرسل - عليهم الصلاة والسلام- من تكذيب وتعنت تسلية له صلى الله عليه وسلم ولأصحابه.
الطريقة الثانية: وهي الذهاب إلى أماكن تجمعهم كالمواسم: ومما يدل على ذلك ما أخرجه الحاكم عن جابر بن عبد الله قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرض نفسه على الناس بالموقف فيقول: "هل من رجل يحملني إلى قومه فإن قريشاً قد منعوني أن أبلغ كلام ربي" فأتاه رجل من همدان فقال: أنا فقال: "وهل عند قومك منعة؟" قال: نعم وسأله من أين هو؟ فقال: من همدان ثم إن الرجل الهمداني خشي أن يحفزه قومه فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: آتي قومي فأخبرهم ثم ألقاك من عام قابل قال: نعم، فانطلق وجاء وفد الأنصار في رجب)(1).
وهذا الحديث يدل دلالة واضحة على ما قام به مشركو قريش في وقف الدعوة الإسلامية حتى اضطر صاحب الرسالة صلى الله عليه وسلم أن يبحث عن قوم آخرين يوجه إليهم الدعوة التي كلف بتبليغها.
وفي ترك وطنه مشقة كبرى لا يشعرها إلا من مارس ذلك بالفعل لأنّه يقال ليس الخبر كالمعاينة مع الالتفات إلى الأسباب الداعية إلى ذلك وهي ما لقي من مشركي قريش من الأذى حسياً كان أو معنوياً.
__________
(1) مستدرك الحاكم (2/612-613) وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ووافقه الذهبي، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (6/35) رواه أحمد ورجاله ثقات.(26/52)
ومن ذلك أيضاً ما أخرجه البخاري ومسلم عن عائشة -رضي الله عنها- أنّها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد؟ قال: "لقد لقيت من قومك وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة (1) إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي فلم أستفق إلاّ وأنا بقرن الثعالب(2) فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظلتني فنظرت فإذا فيها جبريل فناداني فقال: إن الله عز وجل قد سمع قول قومك لك وما ردوا عليك وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم فناداني ملك الجبال فسلم عليَّ ثم قال: يا محمد إن الله قد سمع قول قومك لك وأنا ملك الجبال وقد بعثني ربك إليك لتأمرني بأمرك فما شئت؟ إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين(3). فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: بل أرجوا أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده ولا يشرك به شيئاً"(4).
__________
(1) يوم العقبة: هو اليوم الذي وقف صلى الله عليه وسلم على العقبة التي بمنى داعياً الناس إلى الإسلام.
(2) قرن الثعالب: قرن المنازل ميقات أهل نجد - النهاية في غريب الحديث (4/54).
(3) الأخشبين - الجبلان المطيفان بمكة وهما أبو قيس والأحمر وهو جبل مشرف على قيقعان - والأخشب كل جبل غليظ الحجارة. النهاية في غريب الحديث (2/32).
(4) صحيح البخاري، في كتاب بدء الخلق باب ذكر الملائكة (2/214)، وصحيح مسلم في كتاب الجهاد والسير، باب ما لقي النبي صلى الله عليه وسلم من أذى المشركين والمنافقين (3/1420)، واللفظ لمسلم.(26/53)
من هذه النصوص التي نقلتها آنفاً يتبين لنا مدى اهتمام الرسول صلى الله عليه وسلم بنشر الدعوة الإسلامية واستفادته من كل فرصة متاحة في إبلاغ الدعوة إلى قومه وتحمله المشاق في سبيل ذلك من سفر وترحال مع مراعاة وسائل النقل المتاحة له في ذلك الزمان إضافة إلى ما يلقاه من أعدائه المشركين الذين بذلوا كل الجهد واستعملوا كل الوسائل المتاحة لهم بإيقاف الدعوة الإسلامية.
ثانياً: المرحلة المدنية:
بعد ما أذن الله -سبحانه وتعالى- لرسوله صلى الله عليه وسلم والذين معه بالهجرة إلى المدينة ووصلوا هناك نشأت الدولة الإسلامية الأولى قائدها الرسول صلى الله عليه وسلم ودستورها القرآن الكريم.
وقد سلك الرسول صلى الله عليه وسلم في الدعوة إلى الله طرقاً أخرى غير الذي ذكرت في المرحلة السابقة حسب ما يقتضيه المقام.
من تلك الطرق إرسال الرسل ينوبون عنه ويعلمون الدين الأقوام الذين أرسل إليهم مثل اليمن.
ويؤيد هذا ما أخرجه البخاري عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاذ حين بعثه إلى اليمن: "إنّك ستأتي قوماً من أهل الكتاب فإذا جئتم فادعهم إلى أن يشهدوا أنّ لا إله إلا الله وأنّ محمداً رسول الله فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أنّ الله قد فرض عليم خمس صلوات في كل يوم وليلة فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أنّ الله قد فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على
فقرائهم فإن هم أطاعوا لك بذلك فإياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم فإنّه ليس بينه وبين الله حجاب"(1).
__________
(1) صحيح البخاري في كتاب المغازي، باب بعث أبي موسى ومعاذاً إلى اليمن (3/72-73).(26/54)
ومن ذلك أيضاً ما أخرجه البخاري بسنده عن سعيد بن أبي بردة عن أبيه قال: "بعث النبي صلى الله عليه وسلم جده أبا موسى ومعاذاً إلى اليمن فقال: "يسرا ولا تعسرا وبشرا ولا تنفرا وتطاوعا"(1).
من تلك الطرق التي سلك الرسول صلى الله عليه وسلم في نشر الدعوة إلى الله إرسال الرسائل إلى ملوك الأمم في ذلك الزمان مثل هرقل عظيم الروم وكسرى ملك الفرس وغيرهم.
وقد أخرج الإمام مسلم عن أنس: أنّ النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى كسرى وإلى قيصر وإلى النجاشي (2) وإلى كل جبار. يدعوهم إلى الله تعالى وليس بالنجاشي الذي صلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم(3).
وأذكر هنا رسالة واحدة من تلك الرسائل إلى ملوك الكفار آنذاك كنموذج يشهد لما نحن بصدده. والرسالة التي نختارها لهذا المقام هي التي وجهها الرسول صلى الله عليه وسلم إلى هرقل ملك الروم ونصها كما يرويها الشيخان عن ابن عباس -رضي الله عنهما هو الآتي: "بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم سلام على من اتبع الهدى. أما بعد - فإنّي أدعوك بدعاية الإسلام أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين(4).
__________
(1) صحيح البخاري في كتاب المغازي، باب بعث أبي موسى ومعاذاً إلى اليمن (3/72-73).
(2) لقب لكل من ملك الحبشة.
(3) صحيح مسلم في كتاب الجهاد والسير، باب كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى ملوك الكفار ودعوتهم إلى الله عز وجل.
(4) الأرسيون: هم الخدم والخول وقيل هم الأكارون - النهاية في غريب الحديث (1/38).(26/55)
((قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ)) [آل عمران:64](1).
وبجانب هاتين الطريقتين في الفترة المدنية فقد سلك الرسول صلى الله عليه وسلم مسلكاً آخر في نشر الدعوة الإسلامية، وهو مسلك الجهاد في سبيل الله لإعلاء كلمته تنفيذاً لأمر الله تعالى: ((وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ)) [الأنفال:39].
ويؤيد هذا قوله صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة...) (2).
وقد نفذ الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك الأمر بواسطة إرسال سرايا وبواسطة غزوات اشترك فيها الرسول صلى الله عليه وسلم بنفسه حتى أنّه جرح في بعضها مثل غزوة أحد.
ولا شك أن هذا الأمر يحتاج إلى جهد كبير وصبر على الأذى وثبات في المعركة وتحمل مشقة السفر والترحال إلى مكان العدو الذي يبعد عن المدينة عاصمة الدولة في أكثر الأوقات مع مراعاة الظروف في ذلك الزمان ووسائل النقل المتاحة له صلى الله عليه وسلم ولأصحابه -رضوان الله عليهم-.
__________
(1) صحيح البخاري، باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم (1/9). وصحيح مسلم في كتاب الجهاد والسير، باب كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى هرقل يدعوه إلى الإسلام (3/1396) واللفظ لمسلم.
(2) صحيح البخاري في كتاب الإيمان، باب: (فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلو سبيلهم (1/13)، وصحيح مسلم في كتاب الإيمان باب الأمر بقتال الناس حق يقولوا لا إله إلا الله محمد رسول الله (1/53) واللفظ لمسلم.(26/56)
وبالإضافة إلى ذلك هناك معارضة داخلية وهي المتمثلة في اليهود وأعوانهم المنافقين الذين وقفوا في وجه نشر الدعوة الإسلامية بكل ما لديهم من قوة من غدر وتشكيك وتثبيط المؤمنين عن القتال وموالاة المشركين والتآلب مع أعداء الإسلام بغية القضاء على الإسلام ومعتنقيه.
ولا يتسع هذا المقام لأن أذكر بالتفصيل كل المؤامرات التي قام بها كلا المعسكرين اليهود والمنافقين في سبيل إيقاف نشر الدعوة الإسلامية إلى الآفاق إلا أن الحقيقة التي لا بد من ذكرها هي أنهم كانوا حجر عثرة على طريق الدعوة إلى الله طوال الفترة المدنية.
وأذكر هنا على سبيل الإجمال بعض جرائم معسكري اليهود والمنافقين: أولاً - أهم جرائم اليهود:
(أ) الكفر بآيات الله كما يدل عليه قوله تعالى: ((يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ)) [آل عمران:70].
(ب) تضليل الناس - كما يدل عليه قوله تعالى: ((وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ)) [آل عمران:69].
(ج) تلبيس الحق بالباطل وكتمان الحق كما يدل عليه قوله تعالى: ((يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ)) [آل عمران:71].
(د) تحريف الكلم عن مواضعه كما يدل عليه قوله تعالى: ((مِنْ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ)) [النساء:46].
(هـ) الحسد على صاحب الرسالة وعلى المؤمنين - كما يدل عليه قوله تعالى: ((مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ)) [البقرة:105].
وأما جرائم المنافقين فهي الآتي:(26/57)
(أ) تثبيط همم المسلمين عن القتال -كما يدل عليه قوله تعالى: ((فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لا تَنفِرُوا فِي الْحَرِّ)) [التوبة:81].
(ب) السعي في التفريق بين المؤمنين كما يدل عليه قوله تعالى: ((وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِرَاراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَاداً لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ)) [التوبة:107].
(ج) القدح في أعراض المسلمين كما يدل عليه قوله تعالى: ((إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنْ الإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ)) [النور:11].
(د) مظاهرة أعداء الله كما يدل عليه قوله تعالى: ((بَشِّرْ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً * الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمْ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً)) [النساء:138-139].
وبفضل الله -سبحانه وتعالى- فقد تغلب الرسول صلى الله عليه وسلم على هذين الفريقين اليهود والمنافقين.
أما اليهود فقد قضى عليهم بواسطة إجلاء فريق منهم وهم بنو النضير وغيرهم وبقتل رجال الفريق الآخر وسبي نسائهم وذريتهم وأموالهم كما هو معروف في كتب السيرة.(26/58)
ويؤيد هذا ما أخرجه البخاري عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: (حاربت قريظة والنضير فأجلي بني النضير وأقر قريظة ومنّ عليهم حتى حاربت قريظة، فقتل رجالهم، وقسم نسائهم وأولادهم وأموالهم بين المسلمين إلا بعضهم لحقوا بالنبي صلى الله عليه وسلم وآمنوا وأسلموا، وأجلي يهود المدينة كلهم، بني قينقاع وهم رهط عبد الله بن سلام، ويهود بني حارثة، وكل يهود المدينة "(1).
وأمّا بالنسبة للمنافقين فقد اكتفى الرسول صلى الله عليه وسلم بالجهاد معهم باللسان دون السنان والغلظة عليهم لإظهارهم الإسلام دون الاعتقاد به حقيقة.
يقول تعالى: ((يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدْ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ)) [التوبة:73].
يقول الشهيد سيد قطب في تفسير هذه الآية: "وقد اختلف في الجهاد والغلظة على المنافقين، أتكون بالسيف.. أم تكون في المعاملة والمواجهة وكشف خبيئاتهم للأنظار.. والذي وقع أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يقتل المنافقين"(2).
وهذه الأمور التي ذكرتها كلها تدل على اهتمام الرسول صلى الله عليه وسلم بنشر الدعوة الإسلامية طيلة ثلاثة وعشرين عاماً في مكة والمدينة.
المبحث الثاني: الصبر على الأذى في سبيل الدعوة:
لقي النبي صلى الله عليه وسلم صنوفاً من الأذى من المشركين وأهل الكتاب والمنافقين وغيرهم محاولين إيقاف الدعوة أو إضعافها على الأقل.
وسوف أتحدث في هذا المبحث عما لقي الرسول صلى الله عليه وسلم من هؤلاء الأعداء وأثر ذلك عليه صلى الله عليه وسلم وأقتصر هنا على بيان موقف المشركين لأنّ اليهود والمنافقين قد ظهر أذاهم للرسول صلى الله عليه وسلم بعدما قويت شوكة الإسلام وقامت دولته في المدينة بعد الهجرة على يدي رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم.
__________
(1) صحيح البخاري، كتاب المغازي، باب حديث بنى النضير (3/15).
(2) في ظلال القرآن: (3/1677).(26/59)
وقد سلك المشركون من قريش سبلاً شتى في إضعاف الدعوة الإسلامية وإيقافها ومحاولة وأدها في مهدها بعد ظهورها في مكة وذلك بإيذاء صاحب الرسالة عليه الصلاة والسلام وبمنع الناس من الإيمان به وبالتحذير منه تارة وبتعذيب المؤمنين تارة أخرى.
ولقد اتخذ العدوان الجاهلي على رسول الله وأصحابه صوراً شتى وألواناً عديدة.
ومنه ما كان يتمثل في الدعايات الكلامية الموجهة إلى شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم وإلى التهجم على الوحي بقسميه القرآن الكريم والسنة النبوية.
فلقد وجه كفار قريش اتهامات باطلة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم حيث وصفوه بالجنون وبالسحر، وإنشاء الشعر مع إيمانهم وتيقنهم بأنه صلى الله عليه وسلم بريء من كل هذا.(26/60)
وممَّا يؤيد ذلك ما أخرجه الحاكم عن ابن عباس -رضي الله عنه- أن الوليد بن المغيرة جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقرأ عليه القرآن، فكأنه رق له فبلغ ذلك أبا جهل فأتاه فقال: يا عم إن قومك يرون أن يجمعوا لك مالاً. فقال: لم؟ قال: ليعطوكه، وإنك آتيت محمداً لتعرض لما قبله قال: قد علمت قريش أنّي من أكثرها مالاً، قال: فقل فيه قولاً يبلغ قومك إنك منكر له أو إنّك كاره له. قال: وماذا أقول؟، فوالله ما فيكم رجل أعلم بالأشعار منّي ولا أعلم برجز ولا بقصيدة منّي ولا بأشعار الجن والله ما يشبه الذي يقول شيئاً من هذا والله إنّ قوله الذي يقول لحلاوة وإنّ عليه لطلاوة (1) وإنه لمثمر أعلاه مغدق (2) أسفله، وإنه ليعلوا وما يعلى وإنه ليحطم ما تحته، قال: لا يرضى عنك قومك حتى تقول فيه. قال: فدعني حتى أفكر، ففكر، فلمّا فكر قال: هذا سحر يؤثره عن غيره، فنزلت: ((ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً)) [المدثر:11](3).
هكذا كان شأنهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث أنهم يقرّون الحق في ضميرهم دون النطق به، بل ينكرونه ويجحدونه مصداقاً لقوله تعالى: ((وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً)) [النمل:14]، ومصداقاً لقوله تعالى أيضاً:
((فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ)) [الأنعام:33].
وقد صور الله تعالى بعض أقاويلهم في شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال تعالى حاكياً عن أقوالهم حيث قالوا:
__________
(1) طلاوة: رونقاً وحسناً، وقد تفتح الطاء. النهاية في غريب الحديث (3/137).
(2) مغدق: من غدق، والغدق بفتح الدال المطر الكبير القطر، يقول: أغدق المطر يغدق إغداقاً فهو مغدق. النهاية في غريب الحديث (3/345).
(3) مستدرك الحاكم (2/507) وقال الحاكم: حديث صحيح الإسناد على شرط البخاري ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.(26/61)
((يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ)) [الحجر:6].
وقالوا: ((هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ)) [ص:4].
وقالوا: ((إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُوراً)) [الإسراء:47].
وقالوا: ((وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ)) [الصافات:36].
وقالوا: ((مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلاَّ اخْتِلاقٌ)) [ص:7].
وقالوا: ((مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ)) [الدخان:14].
وأمّا تهجمهم على القرآن فكثير أذكر طرفاً منه على سبيل المثال لا الحصر كما يحكي ربّنا عنهم.
من ذلك قولهم: ((أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً)) [الفرقان:5].
ومنها قولهم: ((لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ)) [فصلت:26].
ومنها قولهم: ((إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ)) [المدثر:24].
ومنها قولهم: ((لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً)) [الفرقان:32].
ومنها قولهمِ: ((لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنْ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ)) [الزخرف:31].
وكان هذا دأب كل قوم مع رسولهم كما يدل عليه قوله تعالى حاكياً عن موقف الأمم السابقة من رسلهم: (كَذَلِكَ مَا أتَى الذِينَ مِن قبلِهم مِن رَسُولِ إلا قَالُوا سَاحِر أو مَجنُونٌ * أتَوَاصَوا بهٍ بَل هُم قومٌ طَاغُونَ) (6).
يقول الشوكاني عند تفسيره هاتين الآيتين: "في هذا تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم ببيان أنّ هذا شأن الأمم المتقدمة وأنّ ما وقع من العرب من التكذيب لرسول الله ووصفه بالسحر والجنون قد كان ممن قبلهم لرسلهم"(1).
__________
(1) تفسير فتح القدير (5/91-92).(26/62)
ويقول الشهيد سيد قطب في هذا الصدد: " فهي جبلة واحدة وطبيعة واحدة للمكذبين وهو استقبال واحد للحق وللرسل يستقبلهم به المنحرفون"(1).
وهذه الاتهامات التي ذكرتها يعتبر قطرة من بحر بالنسبة لما وجه إلى صاحب الرسالة ورسالته من اتهامات وافتراءات إلا أنها تدل دلالة واضحة على تعنت هؤلاء المشركين وموقفهم المتزمت تجاه الدعوة وصاحبها صلى الله عليه وسلم طيلة المدة التي أقام المصطفى بين أظهرهم.
وقد رد الله -سبحانه وتعالى- عن رسوله وعن دينه هذه التهم في كثير من الآيات: منها قوله تعالى: ((مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ)) [القلم:2].
ومنها قوله تعالى: ((وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ)) [يس:69].
ومنها قوله تعالى: ((مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى)) [النجم:2-4].
ومنها قوله تعالى: ((وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَا تُؤْمِنُونَ * وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ)) [الحاقة:41-42].
ومن العدوان الذي قام به المشركون أيضاً ما كان يتمثل في إيذائه صلى الله عليه وسلم جسدياً بغية أن يعدل عن دعوته كلية أو جزءاً منها.
من ذلك إيذاؤه صلى الله عليه وسلم بالخنق بواسطة ثوبه كما فعل عقبة بن أبي معيط.
__________
(1) في ظلال القرآن الكريم: (6/3386).(26/63)
يدل على ذلك ما أخرجه البخاري بسنده عن عمرو بن العاص لما سأله عروة بن الزبير عن أشد ما صنع المشركون برسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي في حجر الكعبة إذ أقبل عقبة بن أبي معيط فأخذ بمنكب رسول الله صلى الله عليه وسلم فوضع ثوبه في عنقه فخنقه خنقاً شديداً فأقبل أبو بكر حتى أخذ بمنكبه ودفع عن النبي صلى الله عليه وسلم وقال: ((أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّي اللَّهُ)) [غافر:28](1).
ومن ذلك إلقاء القاذورات عليه صلى الله عليه وسلم كما فعل عقبة بن معيط أيضاً.
أخرج البخاري عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: "بينا النبي صلى الله عليه وسلم ساجد وحوله ناس من قريش جاء عقبة ابن أبي معيط بسلا جزور فقذفه على ظهر النبي صلى الله عليه وسلم فلم يرفع رأسه فجاءت فاطمة -عليها السلام- فأخذته من ظهره ودعت على من صنع فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اللهم عليك بالملأ من قريش أبا جهل بن هشام بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وأمية بن خلف أو أبي بن خلف(2) "شعبة الشاك" فرأيتهم قتلوا يوم بدر فألقوا في بئر إلا أمية أو أبي تقطعت أوصاله فلم يلق في البئر"(3).
ومن ذلك أيضاً المقاطعة العامة التي فرضت عليه صلى الله عليه وسلم وعلى المؤمنين من أقربائه وغير المؤمنين الذي وقفوا بجانبه تعصباً وحميّة.
__________
(1) كتاب المناقب باب ما لقي النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من المشركين بمكة (2/321).
(2) والصحيح أمية لأن أبي قد قتله رسول الله صلى الله عليه وسلم في أحد كما هو مشهور في كتب السيرة. انظر زاد المعاد (3/199).
(3) صحيح البخاري، كتاب مناقب الأنصار، باب ما لقي النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من المشركين بمكة (2/321).(26/64)
وقد ذكر أصحاب السير هذه المقاطعة العامة ومن بينهم الإمام ابن كثير -رحمه الله- في كتابه السيرة النبوية يروي ذلك تعليقاً عن ابن إسحاق صاحب المغازي قال: " فلما رأت قريش أنّ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نزلوا بلداً أصابوا منه أمناً وقراراً، وأنّ النجاشي قد منع من لجأ إليه منهم وأن عمر قد أسلم، فكان هو وحمزة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وجعل الإسلام يفشوا في القبائل فاجتمعوا وأتمروا على أن يكتبوا كتاباً يتعاقدون فيه على بني هاشم وبني المطلب على ألا ينكحوا إليهم ولا يناكحوهم، ولا يبيعوهم شيئاً ولا يبتاعوا منهم، فلما اجتمعوا لذلك كتبوا في صحيفة، ثم تعاهدوا وتواثقوا على ذلك ثم علقوا الصحيفة في جوف الكعبة توكيداً على أنفسهم"(1).
ويقول ابن إسحاق أيضاً: " فأقاموا على ذلك سنتين أو ثلاثاً، حتى جهدوا ولم يصل إليهم بشيء إلا يسراً مستخفياً من أراد صلتهم من قريش "(2).
وقد ظل الحصار مفروضاً عليهم في تلك المدة حين كان يسمع أصوات صبيانهم يتضاغون من وراء الشعب من الجوع(3).
ومن ذلك محاولة إغرائه صلى الله عليه وسلم بواسطة ما عرضوا عليه من مغريات مادية عساه أن يجنح لبعضها حسب ما تقتضي عقولهم وأهواؤهم وحسب ما تقتضي الموازين الأرضية.
__________
(1) السيرة النبوية: (2/47-48).
(2) المصدر السابق: (2/50).
(3) انظر المصدر السابق: (2/47).(26/65)
يروى أنّ عتبة بن ربيعة وكان سيداً قال يوماً وهو جالس في نادي قريش ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في المسجد وحده يا معشر قريش ألا أقوم إلى محمد فأكلمه وأعرض عليه أموراً لعله يقبل بعضها فيعطيه أيها شاء ويكف عنّا وذلك حين أسلم حمزة -رضي الله عنه- ورأوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يزيدون ويكثرون، فقالوا يا أبا الوليد فقم إليه فكلمه فقام إليه عتبة حتى جلس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا ابن أخي إنك منّا حيث علمت من السطة في العشيرة والمكان في النسب وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم فرقت به جماعتهم وسفهت به أحلامهم وعبت به آلهتهم ودينهم وكفرت به من مضى من آبائهم فاسمع مني أعرض عليك أموراً تنظر فيها لعلك تقبل منها بعضها قال: فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قل يا أبا الوليد أسمع" قال: يا ابن أخي إن كنت إنما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالاً جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً، وإن كنت تريد به شرفاً سودناك علينا حتى لا نقطع أمراً دونك، وإن كنت تريد ملكاً ملكناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك رئيا تراه لا تستطيع ردّه عن نفسك طلبنا لك الأطباء وبذلنا فيه أموالنا حتى نبرئك منه فإنه ربما غلب التابع على الرجل حتى يداوى منه أو كما قال له، حتى إذا فرغ عتبة ورسول الله صلى الله عليه وسلم يستمع منه قال: "أفرغت يا أبا الوليد؟ قال: نعم، قال: فاستمع مني" قال: أفعل، فقرأ صلى الله عليه وسلم صدر سورة فصلت إلى السجدة منها ثم قال: "قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت فأنت وذاك"(1).
ومن إيذائهم أيضاً التآمر على قتله صلى الله عليه وسلم.
__________
(1) انظر تفسير القرآن العظيم لابن كثير (4/91) ويروي البنوي هذه القصة في تفسيره (6/107) عن جابر -رضي الله عنه- وحسن الألباني سندها في تعليقاته على فقه السيرة للغزالي. انظر هامش (ص:113) من فقه السيرة.(26/66)
ويؤيد هذا ما روي عن ابن عباس -رضي الله عنه- أن الملأ من قريش اجتمعوا في الحجر فتعاقدوا باللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى ونائلة وإساف (1) لو قد رأينا محمداً لقمنا إليه قيام رجل واحد فلم نفارقه حتى نقتله، فأقبلت ابنته فاطمة تبكي حتى دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: هؤلاء الملأ من قومك قد تعاقدوا عليك لو قد رأوك لقاموا إليك فقتلوك فليس منهم رجل إلا قد عرف نصيبه من دمك(2).
وقد أشار القرآن إلى تلك الحادثة بقوله تعالى: ((وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ)) [الأنفال:30].
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يواجههم بالصبر على أذاهم والثبات على مبدئه طيلة الفترة المكية إيماناً بأنّ الله -عز وجل- سوف ينصره وينصر دينه وإن تأثر بإيذائهم له صلى الله عليه وسلم تأثراً حتى نبهه الله - سبحانه تعالى- بذلك في عدة مواضع من القرآن على سبيل التسلية والتوجيه.
يقول تعالى: ((وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنْ السَّاجِدِينَ)) [الحجر:97-98].
ويقول الله تعالى: ((فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ)) [هود:12].
ويقول تعالى: ((فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً)) [الكهف:6].
__________
(1) الخمسة أسماء لآلهة المشركين.
(2) أخرجه الإمام أحمد في مسنده (1/303)، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (8/228) رواه أحمد بإسنادين ورجال أحدهما رجال الصحيح، وقال الشيخ أحمد شاكر في شرح المسند (4/2763) كلا الإسنادين صحيح.(26/67)
ويقول تعالى: ((...فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ)) [فاطر:8].
المبحث الثالث: تكميل الدين وإتمام النعمة:
لقد جعل الله -سبحانه وتعالى- نبينا صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين والمرسلين.
يقول تعالى: ((مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ)) [الأحزاب:40].
ويقول صلى الله عليه وسلم: "إن مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بيتاً فأحسنه وأجمله إلا موضع لبنة من زاوية فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له ويقولون: هلا وضعت هذه اللبنة قال: فأنا تلك اللبنة وأنا خاتم النبيين"(1).
وقال صلى الله عليه وسلم لعلي بن أبي طالب -رضي الله عنه-: " ألا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه ليس نبي بعدي "(2).
فهذه النصوص من القرآن والسنة كلها تدل على أن الرسول صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين وإن ادّعى المدعون النبوة قديماً وحديثاً.
يقول ابن كثير عند تفسيره الآية السابقة: " فهذه الآية نص في أنّه لا نبي بعده وإذا كان لا نبي بعده فلا رسول بالطريق الأولى والأحرى لأن مقام الرسالة أخص من مقام النبوة فإنّ كل رسول نبي ولا ينعكس، وبذلك وردت الأحاديث المتواترة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من حديث جماعة من الصحابة -رضوان الله عليهم- "(3).
وعلى هذا فإن رسالته ختمت بها الرسالات السابقة كلها ومن ثم لا يقبل الله أن يدين أحد بسواها بعد نزولها لنسخها ما قبلها سواء كان يدين برسالة سماوية سابقة كاليهودية والنصرانية أو لا كعبدة الأوثان والأصنام. يقول تعالى: ((وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ)) [آل عمران:85].
__________
(1) صحيح البخاري كتاب المناقب، باب خاتم النبيين (2/370).
(2) صحيح البخاري كتاب المغازي، باب غزوة تبوك (3/86).
(3) تفسير القرآن العظيم: (3/493).(26/68)
ويقول صلى الله عليه وسلم مؤكداً ذلك: " لو كان موسى حيّاً ما وسعه إلاّ أن يتبعني "(1).
وقوله صلى الله عليه وسلم: "والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار "(2).
يؤيد هذا قوله تعالى: ((وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنْ الشَّاهِدِينَ)) [آل عمران:81].
يقول ابن عباس -رضي الله عنهما- في هذه الآية التي نحن بصددها: "ما بعث الله نبياً من الأنبياء إلا أخذ عليه الميثاق لئن بعث الله محمداً وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه وأمره أن يأخذ الميثاق على أمته لئن بعث محمد وهم أحياء ليؤمنن به ولينصرنه"(3).
ويروى مثل هذا القول عن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-(4).
وقد تميزت رسالته صلى الله عليه وسلم بأمور ثلاثة تفوق بها على الرسالات التي قبلها وتؤهلها لأن تكون خاتمة:
أولاً: العموم: بمعنى أن رسالة الإسلام ليست محددة بزمن من الأزمان ولا بمكان من الأمكنة ولا بأمة دون الأمم منذ نزولها إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
يقول تعالى: ((وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ)) [سبأ:28].
__________
(1) رواه الدارمي (1/115-116) وحسنه الألباني في تعليقه على مشكاة المصابيح (1/63).
(2) صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب وجوب الإيمان برسالة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم إلى جميع الناس ونسخ الملل بملته (1/134).
(3) انظر تفسير القرآن العظيم لابن كثير (1/378).
(4) انظر تفسير القرآن العظيم لابن كثير (1/378).(26/69)
ويقول تعالى أيضاً: ((وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ)) [الأنبياء:107].
ويقول تعالى أيضاً آمراً إعلان هذا الأمر: ((قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً)) [الأعراف:158] وهذه النصوص كلها تدل على عمومية رسالة النبي صلى الله عليه وسلم وهي من إحدى خصائصه كما يدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: " أعطيت خمساً لم يعطهن أحد قبلي... -ثم ذكر من بينها- وكان النبي صلى الله عليه وسلم يبعث إلى قومه وبعثت إلى الناس كافة "(1).
ويؤيد خصوصية الرسالات السابقة قوله تعالى((وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خلا فِيهَا نَذِيرٌ)) [فاطر:24].
ثانياً: الحفظ: حيث تكفل الله بحفظها باقية كما نزلت إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها دون تغيير شيء منها بالنقص منها أو الزيادة عليها.
يقول تعالى: ((إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ)) [الحجر:9] وهذا أمر مشاهد اليوم لا ينكره أحد بحيث لم يتغير منها شيء بعد أربعة عشر قرناً وستبقى كذلك إلى حين يشاء الله تعالى، بخلاف الكتب السابقة التي تعرضت للتحريف والتبديل من قبل أصحابها كالتوراة والإنجيل.
ثالثاً: الكمال والتمام: ولقد أكملها سبحانه وتعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم كما يدل عليه قوله تعالى: ((الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِيناً)) [المائدة:3].
وقد نزلت هذه الآية في حجة الوداع في العام العاشر من الهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة والتسليم كما ورد في الحديث الصحيح.
__________
(1) صحيح البخاري، كتاب التيمم (1/70).(26/70)
روى البخاري بسنده عن طارق بن شهاب قال: قالت اليهود لعمر: إنكم تقرأون آية لو نزلت فينا لاتخذناها عيداً فقال عمر: " إني لأعلم حيث أنزلت وأين أنزلت وأين رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أنزلت يوم عرفة، وإنا والله بعرفة "(1).
ومن هنا أقول إنّ هذه الآية نزلت بعد جهاد طويل دام ثلاثة وعشرين سنة وفي وقت أظهر الله دينه وفي حجة الوداع الذي لم يحج فيه مشرك لما ورد في الصحيح.
روى البخاري بسنده عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: " بعثني أبو بكر -رضي الله عنه- في تلك الحجة في المؤذنين بعثهم يوم النحر يؤذنون بمنى أن لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان "(2).
وكان ذلك في العام التاسع من الهجرة. ولهذا لم يحج عام حجة الوداع الذي حج فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم مشرك.
كما أني أقول أيضاً: إنّ الرسول صلى الله عليه وسلم قد أبلغ الأمة ما كلف به دون كتمان شيء تنفيذاً لأمر الله تعالى: ((يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ)) [المائدة:67].
وتقول عائشة أم المؤمنين -رضي الله عنها- في هذا الصدد: " من حدثك أنّ محمداً قد كتم شيئاً مما أنزل عليه، فقد كذب، والله يقول: ((يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ)) [المائدة:67] (3)(4).
__________
(1) صحيح البخاري، كتاب التفسير، باب: (اليوم أكملت لكم دينكم) (3/123).
(2) صحيح البخاري، كتاب التفسير، باب: (وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج) (3/134).
(3) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب التفسير، باب: (يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك) (3/125).
(4) قال القاضي عياض: كذا الرواية فيه بالتاء المثناة فوق وهو بعيد المعنى، قيل صوابه ينكبها. ومعناه ويرددها إلى الناس مثيراً إليهم، ومنه نكب كنانته إذا قلبها. شرح النووي على صحيح مسلم (8/184) وانظر مقدمة هذا البحث.(26/71)
وقد شهد له بذلك جموع من أصحابه -رضوان الله عليهم- في حجة الوداع حينما قال لهم أثناء خطبته بوادي عرنة في يوم عرفة: ".. أنتم مسؤولون عني فما أنتم قائلون؟ قالوا: "نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت" فقال بأصبعه السبابة يرفعها إلى السماء وينكبها (1) إلى الناس: "اللهم أشهد اللهم أشهد، ثلاث مرات.. "(2).
ولا يخفى أن مثل هذا الأمر يتطلب جهداً وتحملاً للمشقة كما أنّه يتطلب الصبر على الأذى والثبات أمام المغريات.
وقد تحمل صلى الله عليه وسلم مشقة كبيرة في سبيل نشر الدعوة وإبلاغها إلى الناس كما أنه تحمل أذى المشركين والمنافقين واليهود ومن في حكمهم بالصبر تارة وبالجهاد معهم تارة أخرى طيلة ربع قرن من الزمن تقريباً.
__________
(1) صحيح مسلم، كتاب الحج، باب: حجة النبي صلى الله عليه وسلم (2/890).
(2) ذكرى المولد النبوي (ص:41-42).(26/72)
وقد ذكر محمد رشيد رضا خلاصة عمله صلى الله عليه وسلم في مكة والمدينة حيث قال: "أقام صلى الله عليه وسلم في مكة بعد بدء التبليغ عشر سنين، يدعو إلى أصول الإيمان وكليات الدين، من التوحيد الخالص، والعمل الصالح، وتزكية النفس بتطهيرها من أدران الرذائل، وتحليتها بأحاسن الأخلاق وعقائل الفضائل، واستعمال نعم الله تعالى من بدنية وعقلية، وسماوية وأرضية، فيما تظهر به حكمه ونشاهد آياته في الخلق، وتتسع بها العلوم التي يعرف بها الحق وتكثر موارد الرزق، صابراً مع السابقين من المؤمنين، على الاضطهاد والأذى من المشركين، على أنهم عرضوا عليه الملك والمال والدثر، على أن يترك هذا الأمر، ولو كان لطلب الرياسة لآثر على الضعف والفقر، ثم دخل الإسلام بالهجرة في عهد الحرية، وتكونت له قوة العصبية، وجاء الوحي فيه مفصلاً لما أجمل في السور المكية من الأحكام، وبيان الحلال والحرام، وفيه فرضت الزكاة والحج والصيام، وكانت الصلاة فرضت بمكة في أول الإسلام وبينت السنة النبوية جميع فروع العبادات، وكل ما يحتاج إليه من النصوص والقواعد السياسية وأنواع المعاملات، فبذلك كله أكمل الله الدين وأتم نعمته على المؤمنين وقد تربى على ذلك الألوف من المهاجرين والأنصار ".(26/73)
وهذه الأمور التي ذكرها تمت كلها في فترة وجيزة للغاية لا تتجاوز ربع قرن من الزمن بل أقل من ذلك. بحيث تقتضي هنا الإعجاب والتقدير معاً لمن قام بها وحققها في واقع الحياة وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم بفضل من الله سبحانه وتعالى: يقول أبو الحسن الندوي معرباً إعجابه بذلك: "لقد كان الانقلاب (1) الذي أحدثه صلى الله عليه وسلم في نفوس المسلمين وبواسطتهم في المجتمع الإنساني أغرب ما في تاريخ البشر، وقد كان هذا الانقلاب غريباً في كل شيء، كان غريباً في سرعته، وكان غريباً في عمقه، وكان غريباً في سمعته وشموله، وكان غريباً في وضوحه وقربه إلى الفهم. فلم يكن غامضاً ككثير من الحوادث الخارقة للعادة ولم يكن لغزاً من الألغاز "(2).
وقد نتج عن عمله صلى الله عليه وسلم الأمور التالية:
1- القضاء على الوثنية وإحلال محلها الإيمان بالله واليوم الآخر.
2- القضاء على الرذائل الجاهلية وأقام مقامها الفضائل ومكارم الأخلاق.
3- إقامة الدين الحق الذي يصل بالإنسان إلى أقصى ما قدر له.
4- إحداث انقلاب (3) وتغيير شامل للأوضاع ونظام الحياة الذي درج عليه أهل الجاهلية.
5- توحيد الأمة العربية تحت راية القرآن في فترة وجيزة(4).
يقول سيد سابق بعد ذكره النقاط السابقة: "هذه هي الأعمال التي تمثل نجاح الرسول صلى الله عليه وسلم في مهمته وهي كما تبدو كلها أمور كبيرة وإقامتها بل إقامة واحد منها من الخطورة بمكان وأنّه لا يمكن أن يتأتى النجاح لفرد في بعض هذه الأعمال فضلاً عن توفر النجاح في كل ناحية من هذه النواحي "(5).
__________
(1) الانقلاب مصطلح حديث يستعمل للخير والشر معاً وخاصة للشر في هذا العصر لذلك من الأفضل والأولى وصف الإسلام بالتغيير الكلي أو الإصلاح الجذري.
(2) ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين (ص:88-89).
(3) انظر هامش رقم (2) في الصفحة السابقة.
(4) العقائد الإسلامية (ص:200-201) مع التصرف.
(5) المصدر السابق (ص:201).(26/74)
وعلى هذا فعلى المسلم أن يتأدب مع الرسول صلى الله عليه وسلم تقديراً لما قام به من أعمال جليلة في سبيل وصول الإسلام إلى الناس في زمانه وإلى الذين من بعده حتى يرث الله الأرض ومن عليها ولما أثر عنه صلى الله عليه وسلم من صفات حميدة من ناحية الخلقية والخلقية والتي بينتها في الفصل الأول من هذا الباب مع ما أنعم الله عليه من النبوة والرسالة التي ختم الله بها الرسالات كلها.
الباب الثاني
أنواع الأدب مع الرسول صلى الله عليه وسلم
الأدب مفهوم يتعلق بأعمال الإنسان بصورة عامة، وأنواع الأعمال تبعاً للتقسيم الواقعي لا تتعدى ثلاثة أنواع لأنها إمّا أن يكون مصدرها القلب وهي الأعمال القلبية كالحب والألفة والسرور، وإمّا أن يكون مصدرها اللسان وهي الأقوال والألفاظ، وإمّا أن يكون مصدرها الجوارح وهي الحركة والمشي وهكذا.
والأدب متصل بهذه الأنواع الثلاثة، ولذلك كان على المسلم أن يلتزم بكل منها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا بد من حب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتعظيمه وتوقيره ولا بد من الصلاة والسلام عليه صلى الله عليه وسلم، ولا بد من اتباعه وطاعته واتخاذه أسوة وقدوة.
وقد عقدت هذا الباب للحديث عن أنواع الأدب مع الرسول -صلى الله عليه وسلم -، ولذلك جاء في ثلاثة فصول:
الفصل الأول: الأدب القلبي.
الفصل الثاني: الأدب القولي.
الفصل الثالث: الأدب العملي.
وسوف أبحثها بعون الله بنفس الترتيب فيما يلي:
الفصل الأول
الأدب القلبي
الأدب القلبي هو ما كان مصدره القلب مثل التصديق، والحب، والإخلاص وهكذا..
والآداب القلبية لها شأن عظيم تبعاً لأهمية مصدرها، لأنّ القلب سيد أعضاء الجسد يقودها ويوجهها، ويصبغها بصبغته ومحتواه.(26/75)
لقوله صلى الله عليه وسلم: "...ألا إن في الجسد مضغة (1) فإذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب "(2).
ولهذا يعتبر القلب طاقة ذات أهمية كبيرة بالنسبة لحياة الإنسان في الدنيا والآخرة.
فهو أساس الأعمال الظاهرة لقوله صلى الله عليه وسلم: " إنّما الأعمال بالنيات وإنّما لكل امرىء ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى امرأة ينكحها أو لدنيا يصيبها فهجرته إلى ما هاجر إليه "(3).
وبه يكون قبول الأعمال عند الله تعالى لقوله سبحانه: ((لا يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ)) [البقرة:225].
وهو محل الإيمان لقوله تعالى: ((وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمْ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ)) [الحجرات:7].
ولقوله تعالى: ((كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمْ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ)) [المجادلة:22].
وهو أيضاً محل الهداية لقوله تعالى: ((وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ)) [التغابن:11]. كما أنّه محل للتقوى. لقوله تعالى: ((ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ)) [الحج:32].
__________
(1) المضغة: القطعة من اللحم، قدر ما يمضغ، وجمعها مضغ، وهنا تعني القلب، لأنه قطعة لحم من الجسد. انظر النهاية في غريب الحديث لابن الأثير (4/339).
(2) صحيح البخاري، كتاب الإيمان، باب من استبرأ لدينه (1/19-20).
(3) صحيح البخاري، باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم (1/6).(26/76)
والقلب كما يوجه صاحبه للإيمان والهداية إذا استقام على الفطرة، وتدبر آيات الله واستفاد منها، يوجه صاحبه كذلك إلى المعصية والضلال إن بعد عن فطرته. وانشغل بالهوى والشهوات وحينئذ يكون مصدر الكفر لقوله تعالى: ((وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمْ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ)) [البقرة:93].
ومحل الشك والريب لقوله تعالى: ((إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ)) [التوبة:45].
ومحل التعصب وحمية الجاهلية لقوله تعالى: ((إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمْ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ)) [الفتح:26].
يقول النيسابوري: "القلب صالح لأن يميل إلى الإيمان وصالح لأن يميل إلى الكفر وكل منهما يتوقف على داعية ينشئها الله تعالى فيه، إذ لو حدثت بنفسها لزم سد باب إثبات الصانع فإن كانت داعية الكفر فهو الخذلان والإزاغة والصد والختم والطبع والريبة وغيرها مما ورد في القرآن، وإن كانت داعية الإيمان فهو التوفيق والرشاد والهداية والتثبيت والعصمة ونحوها"(1). ثم استشهد بقوله صلى الله عليه وسلم: "إن قلوب بني آدم كلها بين أصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يصرفه حيث يشاء "(2).
ومن هنا قيل سمي القلب قلباً لتقلبه وتغايره.
وعلى هذا سأل الرسول صلى الله عليه وسلم ربّه -عز وجل- أن يثبت قلبه على طاعته قائلاً: " اللهم مصرف القلوب صرّف قلوبنا على طاعتك "(3).
وفي هذا الفصل سوف نتحدث عن الآداب التي محلها القلب وسيأتي مكوناً من مبحثين هما:
المبحث الأول: الإيمان بنبوته صلى الله عليه وسلم.
المبحث الثاني: محبته صلى الله عليه وسلم.
وذلك فيما يلي:
__________
(1) غرائب القرآن، (3/131-132).
(2) صحيح مسلم، كتاب القدر، بات تصريف الله القلب كيف شاء (4/2045).
(3) صحيح مسلم، كتاب القدر، باب تصريف الله القلب كيف شاء (4/2045).(26/77)
المبحث الأول: الإيمان بنبوته صلى الله عليه وسلم:
من الآداب القلبية المتصلة برسول الله صلى الله عليه وسلم الإيمان بنبوته صلى الله عليه وسلم بل هو رأس الآداب كلها لأن الإيمان به صلى الله عليه وسلم ركن من أركان العقيدة وأساس من أسس الدين وأما غيره من الآداب فتابعة له بحيث إذا اختل هذا الركن يختل معه الآداب الأخرى.
وعلى هذا، فأول ما يطلب من الأنام تجاه رسول الله صلى الله عليه وسلم الإيمان به صلى الله عليه وسلم بعد الإيمان بالله عز وجل بل إنهما متلازمان لقوله تعالى: ((إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً *أُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ حَقّاً وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُهِيناً *وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُوْلَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً)) [النساء:150-152].
ولأهمية الإيمان به صلى الله عليه وسلم جعلت الكلام عنه في صدارة الباب المتعلق بالآداب مع رسول صلى الله عليه وسلم.
وسوف نتطرق في هذا المبحث إلى المسائل المتعلقة بهذا الموضوع وهي على النحو التالي:
1- تعريف الإيمان لغة واصطلاحاً.
2- حكم الإيمان به صلى الله عليه وسلم.
3- أصناف الناس في الإيمان به صلى الله عليه وسلم.
4- ثمرة الإيمان به صلى الله عليه وسلم.
وسوف أبحثها بمشيئة الله وفق هذا الترتيب.
1- تعريف الإيمان: يعد التعريف اللغوي مدخلاً للتعريف الاصطلاحي ولذلك سأبدأ بتعريف الإيمان لغة وبعده أعرّفه بما قال علماء الاصطلاح. وذلك فيما يلي:(26/78)
(أ) تعريف الإيمان في اللغة: يقول الأزهري(1): " الإيمان: مصدر آمن يؤمن إيماناً، واتفق أهل العلم من اللغويين وغيرهم على أنّ الإيمان معناه التصديق "(2).
ويقول ابن فارس(3): " الهمزة والميم والنون أصلان متقاربان أحدهما الأمانة التي هي ضد الخيانة ومعناها سكون القلب، والآخر التصديق، والمعنيان كما قلنا متدانيان "(4).
ويقول الفيروزأبادي (5) في مادة (آمن): " آمن به إيماناً صدقه "(6).
ويقول ابن منظور (7) في مادة (آمن): " والإيمان بمعنى التصديق، وضده التكذيب، ويقال آمن به قوم وكذبه قوم"(8). أي: صدقه بعضهم دون بعض.
وهذه التعاريف التي نقلتها عن أهل اللغة تدور حول معنى واحد وهو التصديق ومنه قوله تعالى حكاية عن قول إخوة يوسف عليه السلام لأبيهم يعقوب عليه السلام.
((وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ)) [يوسف:17] أي بمصدق لنا.
يقول الأزهري بعد ذكر الآية السابقة: " لم يختلف أهل التفسير أنّ معناه وما أنت بمصدق لنا "(9).
ولهذا نقول: اتفق أهل التفسير مع أهل اللغة على أنّ الإيمان في اللغة هو التصديق.
(ب) الإيمان في الشرع: الإيمان عند جهور أهل السنة هو التصديق بالجنان والإقرار باللسان والعمل بالأركان، أي عقد وقول وعمل.
يقول ابن تيمية -رحمه الله تعالى- حكاية عن أقوال السلف في تفسير الإيمان: " فتارة يقولون: قول وعمل.
وتارة يقولون: قول وعمل ونية.
__________
(1) هو أبو منصور محمد بن أحمد الأْزهري (292-370هـ).
(2) تهذيب اللغة مادة أمن (15/513).
(3) تقدمت ترجمته في (ص:25).
(4) معجم مقاييس اللغة (1/133).
(5) مجد الدين محمد بن يعقوب الفيروزأبادي المتوفى سنة (817هـ). انظر ترجمته في بغية الوعاة (2/273-275).
(6) القاموس المحيط (4/199).
(7) تقدمت ترجمته في (ص:25).
(8) لسان العرب (13/21).
(9) تهذيب اللغة، (15/514).(26/79)
وتارة يقولون: قول باللسان واعتقاد بالقلب وعمل بالجوارح، وكل هذا صحيح "(1).
وكل هذه الأقوال المنقولة عن السلف والمتعلقة في تفسير الإيمان تؤول إلى معنى واحد وإن اختلفت ألفاظها كمّاً وكيفاً كما وضح ذلك شيخ الإسلام حيث قال: " إن من قال من السلف: الإيمان قول وعمل أراد قول القلب واللسان وعمل القلب والجوارح، ومن أراد الاعتقاد رأى أنّ لفظ القول لا يفهم منه إلاّ القول الظاهر أو خاف ذلك فزاد الاعتقاد بالقلب، ومن قال: قول وعمل ونية، قال القول يتناول الاعتقاد وقول اللسان، وأمّا العمل فقد لا يفهم منه فزاد ذلك، ومن زاد اتباع السنة فلأن ذلك كله لا يكون محبوباً لله إلاّ باتباع السنة "(2).
وإذا نظرنا إلى التعاريف الاصطلاحية التي ذكرناها لتفسير الإيمان نجد أنه لا يوجد تعريف خال عن عمل القلب أو ما يفيد معناه.
ولهذا السبب تكلمت عن الإيمان بنبوة الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الفصل الذي عقدته للأدب القلبي وإن كان يشمل الأعمال الظاهرة على قول أهل السنة إلا أنّ النية عمود الأعمال الظاهرة وأساسها وبها الثواب والعقاب وإن لم يصاحبها عمل أحياناً، والنية محلها القلب كما هو معلوم.
يقول ابن القيم -رحمه الله-: " الإيمان له ظاهر وباطن، وظاهره قول اللسان وعمل الجوارح، وباطنه تصديق القلب وانقياده ومحبته، فلا ينفع ظاهر لا باطن له، وإن حقن الدماء وعصم به الأموال والذرية، ولا يجزئ باطن لا ظاهر له، إلاّ إذا تعذر بعجز وإكراه أو ضعف وإكراه "(3).
هذا هو تعريف الإيمان بصورة عامة، وأمّا تعريف الإيمان بنبوته - صلى الله عليه وسلم- فهو الإقرار بنبوته صلى الله عليه وسلم ظاهراً وباطناً والتسليم له بما جاء به صلى الله عليه وسلم جملة وتفصيلاً عند العلم به.
__________
(1) الإيمان (146).
(2) المصدر السابق: (146-147).
(3) الفوائد: (85).(26/80)
يقول القاضى عياض: " والإيمان به صلى الله عليه وسلم هو تصديق بنبوته ورسالة الله تعالى له وتصديقه في جميع ما جاء به وما قاله، ومطابقة تصديق القلب بذلك بشهادة اللسان بأنّه رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا اجتمع التصديق به بالقلب والنطق بالشهادة بذلك باللسان، تم الإيمان به -عليه الصلاة والسلام- والتصديق له صلى الله عليه وسلم(1).
ومن هذا يتبيّن أنّ الإيمان به صلى الله عليه وسلم يستلزم ثلاثة أمور هي: 1- الإيمان به صلى الله عليه وسلم باطناً جازماً بذلك دون شك.
2- شهادة اللسان بذلك إظهاراً لما في قلبه ما لم يكن صاحبه عاجزاً عن ذلك.
3- العمل بمقتضى ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم دون اعتراض أو ترك.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: " فلا يكون الرجل مؤمناً حتى يقر بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم وهو تحقيق شهادة أنّ لا إله إلاّ الله وأنّ محمداً رسول الله، فمن شهد أنّه رسول الله شهد أنّه صادق فيما يخبر به عن الله -تعالى-، فإنّ هذا حقيقة الشهادة بالرسالة.. وبالجملة فهذا معلوم بالاضطرار من دين الإسلام لا يحتاج إلى دليل، وهو الإقرار بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم وهو نفس ما جاء به القرآن وجاءت به السنة "(2).
ويقول ابن القيم -رحمه الله تعالى-: " والإيمان هو حقيقة مركبة من معرفة ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم علماً والتصديق به عقداً، والإقرار به نطقاً، والانقياد به محبة وْخضوعاً، والعمل به باطناً وظاهراً، وتنفيذه والدعوة إليه بحسب الإمكان "(3).
هذا هو الإيمان المعتد به عند الله -سبحانه وتعالى- في الدنيا والآخرة، وأمّا إذا فقد أمر من الأمور الثلاثة التي ذكرناها فلكل حكمه الخاص كما سوف نبينه عند كلامنا عن أصناف الناس في الإيمان به - صلى الله عليه وسلم-.
__________
(1) الشفا بتعريف حقوف المصطفى: القاضي عياض (2/539).
(2) القاعدة المراكشية: (24-25).
(3) الفوائد (107).(26/81)
حكم الإيمان به صلى الله عليه وسلم: الإيمان به صلى الله عليه وسلم واجب على كل مكلف بلغته الدعوة الإسلامية على وجهها الصحيح، والأدلة على ذلك كثيرة في القرآن وفي السنة.
أمّا أدلة القرآن الكريم فإنّها تنقسم إلى قسمين: قسم يشهد له ولغيره من الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- وقسم يشهد له صلى الله عليه وسلم خاصة.
أمّا ما يشهد له ولغيره من الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- فمنه قوله تعالى: ((آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ)) [البقرة:285] وقوله تعالى: ((إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً * أُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ حَقّاً وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُهِيناً)) [النساء:149-150].
وأمّا ما يشهد له صلى الله عليه وسلم خاصة فكثيرة: منها قوله تعالى: ((فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ)) [الأعراف:158].
ومنها قوله تعالى: ((فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ)) [التغابن:8].
ومنها قوله تعالى: ((وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيراً)) [الفتح:13].
وأمّا أدلة السنة فإنها تنقسم إلى قسمين على نمط أدلة القرآن الكريم ولذلك ترى في السنة ما يشهد لرسول الله ولغيره من الرسل -عليهم الصلاة والسلام-، وما يشهد له صلى الله عليه وسلم خاصة.(26/82)
أمّا ما يشهد له ولغيره من الرسل -عليهم الصلاة والسلام- جميعاً: فمنه إجابة النبي صلى الله عليه وسلم لجبريل عليه السلام بعد ما سأله عن الإيمان حيث قال: " الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وبلقائه ورسله وتؤمن بالبعث "(1).
وأمّا ما يشهد له صلى الله عليه وسلم فكثيرة منها ما أخرجه الشيخان عن ابن عمر -رضي الله عنهما- أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلاّ الله وأن محمداً رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلاّ بحق الإسلام وحسابهم على الله "(2).
ومنها ما أخرجه الإمام مسلم عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّه قال: والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلاّ كان من أصحاب النار "(3).
والنصوص السابقة تفيد وجوب الإيمان به صلى الله عليه وسلم من عدة وجوه: الأول: الأمر بالإيمان به صلى الله عليه وسلم كما يفيده قوله تعالى: ((فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ)) [الأعراف:158].
وقوله تعالى أيضاً: ((فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا)) [التغابن:8].
__________
(1) البخاري في كتاب الأيمان في باب سؤال جبريل صلى الله عليه وسلم عن الإيمان والإسلام والإحسان وعلم الساعة (1/18).
(2) البخاري في كتاب الإيمان، باب: (فأن أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم) (1/13). واللفظ له، ومسلم في كتاب الإيمان، باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا لا إله إلاّ الله محمد رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة. (1/53).
(3) مسلم في كتاب الإيمان، باب وجوب الإيمان برسالة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم إلى جميع الناس ونسخ الملل بملته (1348).(26/83)
الثاني: تسمية من لم يؤمن به كافراً كما يفيد قوله تعالى: ((إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً * أُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ حَقّاً)) [النساء:150-151].
الثالث: الوعيد لمن لم يؤمن به صلى الله عليه وسلم بإدخال العذاب.
كما يدل عليه قوله تعالى: ((وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيراً)) [الفتح:13].
الرابع: الأمر بقتال من لم يؤمن به صلى الله عليه وسلم كما يدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أنّ لا إله إلاّ الله وأنّ محمداً رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا منّي دماءهم وأموالهم إلاّ بحق الإسلام وحسابهم على الله "(1).
الحاصل أنّ الإيمان به صلى الله عليه وسلم يستلزم الإيمان بالرسل السابقين جميعاً -عليهم الصلاة والسلام- وأنّ الكفر بأحد منهم كفر بهمِ جميعاً كما يدل عليه قوله تعالى: ((إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً * أُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ حَقّاً)) [النساء:150-151].
__________
(1) تقدم تخريجه في الصفحة السابقة.(26/84)
وكل هذه الأمور التي استنبطت من الأدلة السابقة في القرآن وفي السنة تدل على وجوب الإيمان به صلى الله عليه وسلم لورود الأمر به والأمر يقتضي الوجوب ما لم يعارض ولا معارض له هنا، ولورود الوعيد على عدم الإيمان به صلى الله عليه وسلم، ومن المعلوم أنّ الوعيد لا يتأتى إلاّ على ترك أمر واجب أو فعل محرم، ووصف من لم يؤمن به - صلى الله عليه وسلم- بالكفر، ولا يوصف بالكفر إلا من ترك واجباً متعمداً، ولورود الأمر بقتال من لم يؤمن به صلى الله عليه وسلم ولا يقاتل إلا على ترك واجب.
3- أصناف الناس في الإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم: الناس في الإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم على ثلاثة أصناف: الأول: صنف آمن بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم ظاهراً وباطناً وعمل بمقتضى ذلك.
الثاني: صنف آمن به صلى الله عليه وسلم ظاهراً دون الباطن.
الثالث: من آمن به صلى الله عليه وسلم ولم يظهر ما يؤيد ذلك أو يخالفه.
أما الصنف الأول فهو المسلم الذي يقبل الله إيمانه ويجازيه عليه في الدنيا والآخرة، وأمّا الصنف الثاني فهو المنافق الذي لا يقبل إيمانه عند الله، وأمّا عند الناس فيقبل بناء على ما أظهره لنا كالنطق بالشهادتين إذ أنّه لا سبيل لأحد إلى معرفة ما في قلبه إلاّ الله ومن ثم يحقن دمه ويعصم ماله وذريته ويجري عليه ما يجري على المسلمين في الظاهر بالنسبة للأمور الدنيوية في معاشه وعند موته، أمّا في الآخرة فسوف يجد جزاءه العادل عند الله تعالى.(26/85)
يقول القاضي عياض: " وأمّا الحالة المذمومة فالشهادة باللسان دون تصديق القلب وهذا هو النفاق، فلما لم تصدق ذلك ضمائرهم لم ينفعهم أن يقولوا بألسنتهم ما ليس في قلوبهم فخرجوا عن اسم الإيمان ولم يكن لهم في الآخرة حكمة إذ لم يكن معهم إيمان، وألحقوا بالكافرين في الدرك الأسفل من النار، وبقي عليهم حكم الإسلام بإظهار شهادة اللسان في أحكام الدنيا المتعلقة بالأعمال وحكام المسلمين الذين أحكامهم على الظواهر بما أظهروه من علامة الإسلام إذ لم يجعل الله للبشر سبيل إلى السرائر ولا أمروا بالبحث عنها بل نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن التحكم عليها وذم ذلك (1) وقال: "... هلا شققت قلبه... "(2).
__________
(1) الشفا بتعريف حقوق المصطفى (2/540).
(2) جزء من حديث أسامة، وتمامه: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية فصبحنا في الخرقات من جهينة فأدركت رجلاً فقال: لا إله إلا الله فطعنته فوقع في نفسي من ذلك فذكرته للنبي صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أقال: لا إله إلاّ الله وقتلته؟" قال: قلت: يا رسول الله، إنما قالها خوفاْ من السلاح. قال: "أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها أم لا؟" فما زال يكررها عليَّ حتى تمنيت أنّي أسلمت يومئذ. انظر صحيح مسلم في كتاب الإيمان، باب تحريم قتل الكافر بعد أن قال: لا إله إلاّ الله (1/56).(26/86)
وأمّا الصنف الثالث فقد فصّل القاضي عياض -رحمه الله- في شأنه حيث قال بعد ذكر الصنفين السابقين: "بقيت حالتان أخريان بين هذين الصنفين: إحداهما: أن يصدق بقلبه ثم يخترم قبل أن يتسع الوقت للشهادة بلسانه فاختلف فيه، فشرط بعضهم من تمام الإيمان القول والشهادة، ورآه بعضهم مؤمناً موجباً للجنة لقوله صلى الله عليه وسلم: "... يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان" (1) فلم يذكر سوى ما في القلب وهذا مؤمن بقلبه غير عاص ولا مفرط بترك غيره. وهذا هو الصحيح في هذا الوجه.
الثانية: أن يصدق بقلبه ويطول مهلة، وعلم ما يلزمه من الشهادة فلم ينطق بها جملة ولا استشهد بها في عمره مرة، فهذا اختلف فيه أيضاً، فقيل: هو مؤمن لأنّه مصدق، والشهادة من جملة الأعمال فهو عاص بتركها غير مخل، وقيل: ليس بمؤمن حتى يقارن عقده شهادة اللسان، إذ الشهادة إنشاء عقد والتزام إيمان وهي مرتبطة مع العقد ولا يتم التصديق مع المهلة إلا بها وهذا هو الصحيح)(2).
__________
(1) الحديث في صحيح البخاري، في كتاب الإيمان، باب تفاضل أهل الإيمان (1/13) بلفظ: "يدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار، ثم يقول الله تعالى: أخرجوا من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان".
(2) الشفا بتعريف حقوق المصطفى (2/541).(26/87)
4- ثمرة الإيمان بنبوته صلى الله عليه وسلم: إذا أطلق الإيمان في لسان الشرع فإنّه يفيد الإيمان بالله ورسوله وما يتبع ذلك من شعب الإيمان لقوله تعالى: ((إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ)) [النور:62]. قال الإمام الشافعي -رحمه الله- في تأويل هذه الآية: "جعل الله كمال الإيمان الذي ما سواه تبع له الإيمان بالله ثم برسوله فلو آمن عبد بالله ولم يؤمن بَرسوله لم يقع عليه إسم كمال الإيمان أبداً حتى يؤمن برسوله معه "(1).
وثمرة الإيمان كثيرة نذكر طرفاً منها:
1- الاستخلاف والتمكين في الأرض والاستقرار فيها كما يقول تعالى: ((وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً)) [النور:55].
2- البشرى في الدنيا والآخرة. كما يدل عليه قوله تعالى: ((أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمْ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)) [يونس:62-64].
والمراد بالبشرى في الدنيا الرؤيا الصالحة، وأما في الآخرة فهي الجنة(2).
3- الهداية إلى الصراط المستقيم، كما يدل عليه قوله تعالى: ((وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)) [الحج:54].
__________
(1) موسوعة سماحة الإسلام لمحمد صادق عرجون (1/82).
(2) انظر تفسير ابن كثير (2/422).(26/88)
4- الحياة الطيبة والجزاء الحسن. كما يفيد قوله تعالى: ((مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)) [النحل:97].
5- النصر في الدنيا وفي الآخرة. كما يدل عليه قوله تعالى: ((إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ)) [غافر:51].
وقوله تعالى أيضاً: ((وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ)) [الروم:47].
6- قبول الأعمال. كما يدل عليه قوله تعالى: ((فَمَنْ يَعْمَلْ مِنْ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ)) [الأنبياء:94].
7- دخول الجنة. كما يدل عليه قوله تعالى: ((وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ)) [التوبة:72].
وهذه أهم الثمرات الحاصلة بالإيمان بنبوته صلى الله عليه وسلم وما يتبع ذلك من شعب الإيمان الأخرى الواردة في قوله صلى الله عليه وسلم: " الإيمان بضع وسبعون أو بضع وستون شعبة فأفضلها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق...)(1).
المبحث الثاني: محبته صلى الله عليه وسلم
من الآداب القلبية محبته صلى الله عليه وسلم وهي من الأمور الخفية التي لا يطلع عليها إلاّ الله -سبحانه وتعالى- ويمكن معرفتها بالعلامات الظاهرة مثل الاتباع والطاعة. ولهذا قال تعالى في شأن من ادعى محبة الله اختباراً لهم: ((قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ)) [آل عمران:31].
__________
(1) صحبح مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان عدد شعب الإيمان وأفضلها وأدناها (1/63).(26/89)
ويفهم من هذه الآية أنّ محبة العبد لله تستلزم اتباعه باتباع رسوله صلى الله عليه وسلم واتباع الرسول يستلزم محبة الله للعبد.
ومحبته صلى الله عليه وسلم من موجبات الإيمان بل من الإيمان نفسه كما يدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: " لا يؤمن أحداً حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين "(1).
وفي هذا الحديث جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم أقسام المحبة التي تكون بين الناس وهي ثلاثة:
1- محبة إجلال وإعظام كمحبة الولد والده.
2- محبة إشفاق ورحمة كمحبة الوالد ولده.
3- محبة مشاكلة واستحسان كمحبة سائر الناس.
ومحبته صلى الله عليه وسلم فوق هذا كله كما يفيد أفعل التفضيل في قوله: " أحب إليه ".
وفي هذا المبحث سوف نتحدث عن المسائل المتعلقة بهذا الموضوع وهي على النحو التالي:
1- معنى المحبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
2- أنواعها.
3- علاماتها.
4- ثمرتها.
5- صور من حب السلف للرسول صلى الله عليه وسلم.
وسوف أبحثها -إن شاء الله تعالى- وفق هذا الترتيب.
1- معنى المحبة: ذكر العلماء في أصل اشتقاق المحبة عدة أقوال. وإني هنا أذكر أهم ما قيل فيها: يقول الفيروزأبادي: "وهذه المادة تدور في اللغة على خمسة أشياء:
أحدها: الصفاء والبياض -ومنه قيل: حبب الأسنان لبياضها ونضارتها.
الثاني: العلو والظهور -ومنه حبب الماء وحبابه وهو ما يعلو من النفخات عند المطر وحبب الكأس منه.
الثالث: اللزوم والثبات -ومنه حب البعير وأحب إذا برك ولم يقم.
الرابع: اللباب والخلوص - ومنه حبة القلب للبه وداخله، ومنه الحبة الواحدة الحبوب إذ هي أصل الشيء ومادته وقوامه.
الخامس: الإمساك والحفظ - ومنه حبب الماء للوعاء الذي يحفظ فيه ويمسكه. وفيه معنى الثبوت.
ثم قال: ولا ريب أنّ هذه الخمسة من لوازم المحبة(2).
__________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الإيمان، باب حب الرسول صلى الله عليه وسلم من الإيمان (1/12).
(2) بصائر ذوي التمييز: (2/416-417).(26/90)
هذه أصل اشتقاق المحبة، وأمّا معناها اللغوي فيقول الفيروزأبادي في مادة (الحب): " الحب: الوداد كالحباب والحب بكسرها والمحبة والحباب بالضم "(1).
ويقول ابن منظور في مادة "حبب " ما يلي: "الحب نقيض البغض، والحب الوداد والمحبة وكذلك الحب بالكسر"(2).
وهذا هو المعنى اللغوي للمحبة وهو يدور حول الود أو نقيض الكراهية والبغض.
وأمّا علماء الاصطلاح فقد ذهبوا إلى أنّ لفظها يدل عليها وتحديد معناها بألفاظ أخرى لا يحقق الغرض من أتضاحها.
ولهذا قال الإمام ابن القيم -رحمه الله-: " لا تحد المحبة بحد أوضح منها، فالحدود لا تزيدها إلاّ خفاء وجفاء، فحدها وجودها، ولا توصف المحبة بوصف أظهر من المحبة، وإنما يتكلم الناس في أسبابها وموجباتها، وعلاماتها وشواهدها وثمراتها وأحكامها، فحدودهم ورسومهم دارت على هذه الستة "(3).
وبذلك فمن الصعب أن نجد لها حداَ جامعاً، ومع ذلك فإنّي أحاول أن أجليها بذكر آراء العلماء فيها.
__________
(1) القاموس المحيط: (1/52).
(2) لسان العرب: (1/289).
(3) مدارج السالكين: (3/10).(26/91)
يقول القاضي عياض مبيناً ذلك: "اختلف الناس في تفسير محبة الله ومحبة النبي صلى الله عليه وسلم وكثرت عباراتهم في ذلك وليست ترجع بالحقيقة إلى اختلاف مقال ولكنّها أختلاف أحوال، فقال سفيان(1): المحبة اتباع الرسول كأنه التفت إلى قوله تعالى: ((قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ)) [آل عمران:31] وقال بعضهم: محبة الرسول اعتقاد نصرته والذب عن سنته والانقياد لها وهيبة مخالفته، وقال بعضهم: المحبة دوام الذكر للمحبوب، وقال آخر: إيثار المحبوب وقال بعضهم: المحبة الشوق إلى المحبوب، وقال بعضهم: المحبة مواطأة القلب لمراد الرب بحب ما أحب وبكره ما كره، وقال آخر: المحبة ميل القلب إلى موافق له، ثم قال: وأكثر العبارات المتقدمة إشارة إلى ثمرات المحبة دون حقيقتها، وحقيقة المحبة الميل إلى ما يوافق الإنسان "(2).
وكذلك الراغب الأصفهاني حدّها بتعريف مماثل لقول الأخير قائلاً: " المحبة ميل النفس إلى ما تراه أو تظنّه خيراً، وذلك ضربان أحدهما: طبيعي وذلك في الإنسان والحيوان وقيل قد يكون بين الجمادات كالألفة بين الحديد وحجر المغناطيس.
والثاني: اختياري -وذلك يختص به الإنسان "(3).
والذي يهمنا في هذا المقام المحبة الإختيارية التي بين الناس وهي لا تكون إلاّ لأسباب مثل اللذة والنفع والفضل. وسيأتي تفصيلها عند حديثي عن أنواع المحبة وأقسامها.
وأما المحبة التي أقرها الشرع فتكون في ثلاثة: محبة الله ومحبة رسوله صلى الله عليه وسلم ومحبة المؤمنين.
يقول أبو عبد الله المحاسبي: "والمحبة في ثلاثة أشياء لا يسمى محباً لله عز وجل إلاّ بها:
1- محبة المؤمنين في الله عز وجل.
2- محبة الرسول صلى الله عليه وسلم لله عز وجل.
__________
(1) يحتمل أنّه ابن عيينة أو الثوري كما ذكر الخفاجي في شرح الشفا (3/371).
(2) الشفا بتعريف حقوق المصطفى: (2/578-579).
(3) الذريعة إلى مكارم الشريعة: (190).(26/92)
3- محبة الله -عز وجل- في إيثار الطاعة على المعصية "(1).
وعلى هذا فمحبة الرسول صلى الله عليه وسلم هي ميل القلب المؤمن إليه مودة لسبب من الأسباب الموجبة على ذلك لله -عز وجل- ثم الانتفاع برسالته والفضل الذي أوثر عنه مثل مكارم الأخلاق والاتصاف بصفات حميدة.
2- أنواع المحبة: قسّم العلماء المحبة إلى عدة أنواع: فمنهم من قسّمها إلى طبيعية واختيارية، ومنهم من قسّمها إلى حسيّة ومعنوية، ومنهم من قسّمها حسب الأسباب الموجبة لها مثل اللذة والنفع والفضل، ومنهم من قسّمها بحسب الرتب والدرجات.
وقد قسّم الراغب الأصفهاني المحبة إلى قسمين حيث قال: أحدهما: طبيعي -وذلك في الإنسان والحيوان، وقيل: قد يكون بين الجمادات كألفة بين الحديد وحجر المغناطيس.
الثاني: اختياري -وذلك يختص به الإنسان فأما ما يكون بين الحيوانين فألفة، وهذا الثاني أربعة أضرب:
الأول: للشهوة -وأكثر ما يكون ذلك بين الأحداث.
والثاني: للمنفعة -ومن جهة ما يكون بين التجار وأرباب الصناعات المهنية.
والثالث: ما يكون مركباً من ضربين كمن يحب آخر للنفع وذلك يحبه للشهوة.
والرابع للفضيلة -كمحبة المتعلم للعالم. ثم قال: وهذه المحبة -أي الأخيرة- باقية على مرور الأوقات وهي المستثناة بقوله تعالى: ((الأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ)) [الزخرف:67]، وأمّا الضروب الأخر فقد تطول مدتها وتقصر بحسب دوام أسبابها "(2).
__________
(1) رسالة المسترشدين: (177-179).
(2) الذريعة إلى مكارم الشريعة: (190).(26/93)
وقال الراغب الأصفهاني أيضاً في مكان آخر: وهي على ثلاثة أوجه: محبة للذة -كمحبة الرجل المرأة ومنه ((وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً)) [الإنسان:8] ومحبة النفع كمحبة شيء ينتفع به ومنه ((وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ)) [الصف:13]، ومحبة للفضل كمحبة أهل العلم بعضهم لبعض لأجل العلم "(1).
وهذه الأنواع التي نقلناها مبنية غالباً على الأسباب الموجبة للمحبة الإختيارية سواء كانت حسية أو معنوية وخاصة التقسيم الأخير وهو الذي يتمشى مع هذا المقام الذي نحن بصدده.
وقد ذكر القاضي عياض -رحمه الله تعالى- هذه الأقسام الثلاثة المسببة للمحبة حيث قال: "وحقيقة المحبة الميل إلى ما يوافق الإنسان وتكون موافقته إمّا لاستلذاذه بإدراكه كحب الصور الجميلة والأصوات الحسنة والأطعمة والأشربة اللذيذة وأشباهها مما كل طبع سليم مائل إليها لموافقتها له، أو لاستلذاذه بإدراكه بحاسة عقله وقلبه معاني باطنة شريفة كحب الصالحين والعلماء وأهل المعروف المأثور عنهم السير الجميلة والأفعال الحسنة فإن طبع الإنسان مائل إلى الشغف بأمثال هؤلاء حتى يبلغ التعصب بقوم لقوم والتشيع من أمة في آخرين ما يؤدي إلى الجلاء عن الأوطان وهتك الحرم واحترام النفوس أو يكون حبه إيّاه لموافقته له من جهة إحسانه له وإنعامه عليه فقد جبلت النفوس على حب من أحسن إليها "(2).
__________
(1) مفردات في غريب القرآن: (105).
(2) الشفا: (2/579).(26/94)
ثم ذكر بعد ذلك أنّ هذه الأنواع المسببة للمحبة كلها مجتمعة في شخصيته صلى الله عليه وسلم على أتم وجه حيث قال: "فإذا تقرر لك هذا نظرت هذه الأسباب كلها في حقه صلى الله عليه وسلم فعلمت أنّه صلى الله عليه وسلم جامع لهذه المعاني الثلاثة الموجبة للمحبة. فقد تميّز بجمال الصورة والظاهر وكمال الأخلاق والباطن، كما تميّز بإحسانه وإنعامه على أمته. وقد ذكر الله تعالى في أوصافه رأفته بهم ورحمته لهم وهدايته إياهم وشفقته عليم واستنقاذهم من النار وأنّه بالمؤمنين رؤوف رحيم ورحمة للعالمين ومبشراً ونذيراً وداعياً إلى الله بإذنه، ويتلوا عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة ويهديهم إلى صراط مستقيم، فأي إحسان أجلّ قدراً وأعظم خطراً من إحسانه إلى جميع المؤمنين، وأي إفضال أعمّ منفعة وأكثر فائدة من إنعامه على كافة المسلمين، إذ كان ذريعتهم إلى الهداية، ومنقذهم من العماية وداعيهم إلى الفلاح والكرامة، ووسيلتهم إلى ربّهم وشفيعهم والمتكلم عنهم والشاهد لهم والموجب لهم البقاء الدائم والنعيم السرمدي فقد استبان لك أنّه صلى الله عليه وسلم مستوجب للمحبة الحقيقية شرعاً... إلى أن قال: فإذا كان الإنسان يحب من منحه في دنياه مرة أو مرتين معروفاً أو أستنقذه من هلكة أو مضرة مدة التأذي بها قليل منقطع فمن منحة ما لا يبيد من النعيم ووقاه ما لا يفنى من عذاب الجحيم أولى بالحب، وإذا كان يحب بالطبع ملك لحسن سيرته أو حاكم لما يؤثر من قوام طريقته أو قاص بعيد الدار لما يشاد من علمه أو كرم شيمته فمن جمع هذه الخصال كلها على غاية مراقب الكمال أحق بالحب وأولى بالميل "(1).
3- علامات محبته صلى الله عليه وسلم: المحبة من الأمور القلبية التي لا يطلع عليها أحد إلاّ من يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور. ولذلك جعل الله لها دليلاً عملياً وعلامات كثيرة.
__________
(1) الشفا: (2/580-581).(26/95)
ونذكر هنا طرفاً من علاماتها: منها الإيثار -أي إيثار النبي- صلى الله عليه وسلم- على النفس كما يدل عليه قوله تعالى: ((وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ)) [الحشر:9].
والآية وإن كانت عامة في إيثار المهاجرين إلا أنه صلى الله عليه وسلم هو رئيس المهاجرين وقائدهم، وهو المحبوب الأول من الخلق أساساً، وأمّا غيره فتبع له بحسب قربهم إليه صلى الله عليه وسلم ومتابعتهم إيّاه.
ومنها: بغض من أبغض الله ورسوله مهما كانت صلته ورتبته لقوله تعالى: ((لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمْ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ)) [المجادلة:22].
يقول ابن كثير في تفسير هذه الآية: "قيل في قوله تعالى: ((وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ)) [المجادلة:22]: نزلت في أبي عبيدة عامر بن عبد الله بن الجراح حين قتل أباه يوم بدر ((أَوْ أَبْنَاءَهُمْ)) [المجادلة:22]: في الصديق همّ يومئذ ابنه عبد الرحمن ((أَوْ إِخْوَانَهُمْ)) [المجادلة:22]: في مصعب بن عمير قتل أخاه عبيد بن عمير يومئذ، ((أَوْ عَشِيرَتَهُمْ)) [المجادلة:22]: في عمر قتل قريباً له يومئذ أيضاً.."(1).
وهؤلاء قاموا بقتل أقرب أقربائهم في معركة بدر لأن حب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم يقتضي قتل من حاد الله ورسوله وبغض من أبغض الله ورسوله.
__________
(1) تفسير القرآن العظيم: (4/329).(26/96)
ومنها: حب من أحب رسول الله صلى الله عليه وسلم أي عكس الصورة السابقة لقوله صلى الله عليه وسلم: " الله الله في أصحابي لا تتخذوهم غرضاً بعدي فمن أحبم فبحبي أحبهم ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم ومن آذاهم فقد آذاني ومن آذاني فقد آذى الله ومن آذى الله يوشك أنْ يأخذه "(1).
4- ثمرة محبته صلى الله عليه وسلم: وثمرة محبته صلى الله عليه وسلم كثيرة ولكن نذكر هنا أهمها وشواهدها: من ذلك: أنّ محبته صلى الله عليه وسلم تؤدي إلى مرافقته في الجنة.
ومما يدل على ذلك ما أخرجه الإمام مسلم -رحمه الله- عن أنس بن مالك قال:، " بينما أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم خارجين من المسجد فلقينا رجلاً عند سدة (2) المسجد فقال: يا رسول الله: متى الساعة؟ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: " ما أعددت لها؟ " قال: فكأن الرجل استكان ثم قال: ما أعددت لها كبير صلاة ولا صيام ولا صدقة ولكنّي أحب الله ورسوله، قال: "فأنت مع من أحببت"(3).
ومن ثمرة محبته صلى الله عليه وسلم أنّها من الخصال الموجبة لحلاوة الإيمان لقوله صلى الله عليه وسلم: " ثلاث من كنّ فيه وجد بهن حلاوة الإيمان، من كان الله ورسوله أحب إليه ممّا سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلاّ لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار "(4).
__________
(1) أخرجه الترمذي في سننه، أبواب المناقب، باب فيمن سب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم (5/358) وقال: حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه.
(2) سدة المسجد: يعني الظلال التي حوله. النهاية في غريب الحديث: (2/353).
(3) صحيح مسلم في كتاب البر والصلة والأداب، باب المرء مع من أحب (4/2033).
(4) أخرجه البخاري في كتاب الإيمان، باب حلاوة الإيمان (1/12)، ومسلم في كتاب الإيمان، باب بيان خصال من اتصف بهن وجد حلاوة الإيمان (1/66) واللفظ له.(26/97)
ومن ثمرة محبته صلى الله عليه وسلم مرافقة النبيين والصديقين والشهداء والصالحين لحديث عائشة -رضي الله عنها- قالت: " جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله: إنّك لأحبّ إليّ من نفسي وإنّك لأحب إليّ من ولدي وإنّي لأكون في البيت فأذكرك، فما أصبر حتى آتي فأنظر إليك، وإذا ذكرت موتك عرفت إنّك إذا دخلت الجنة رفعت مع النبيين، وإنّي إذا دخلت خشيت أن لا أراك فأنزل الله تعالى(1): ((وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقاً)) [النساء:69].
ومن ثمرة محبته - صلى الله عليه وسلم- إتمام إيمان من اتصف بها لقوله صلى الله عليه وسلم: " لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحبّ إليه من والده وولده والناس أجمعين "(2).
__________
(1) مجمع الزوائد (7/7) وقال الهيثمي: رواه الطبراني في الصغير والأوسط ورجاله رجال الصحيح غير عبد الله بن عمران الغامدي وهو ثقة.
(2) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الإيمان، باب حب الرسول صلى الله عليه وسلم من الإيمان (1/12).(26/98)
5- صور من حب السلف للرسول صلى الله عليه وسلم: هناك صور متعددة من حب السلف للرسول صلى الله عليه وسلم نذكر طرفاً منها في هذا المقام وخاصة ما روي في حب الصحابة -رضوان الله عليهم أجمعين- للرسول صلى الله عليه وسلم: من ذلك ما أخرجه الحاكم عن ابن عمر -رضي الله عنه- قال: لمّا فرض عمر لأسامة بن زيد ثلاثة آلاف وفرض لي ألفين وخمسمائة فقلت له: يا أبت لم تفرض لأسامة بن زيد ثلاثة آلاف وتفرض لي ألفين وخمسمائة والله ما شهد أسامة مشهداً غبت عنه ولا شهد أبوه مشهداً غاب عنه أبي قال: صدقت يا بني، ولكنّي أشهد لأبوه كان أحبّ الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أبيك ولهو أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منك "(1).
ومنها ما أخرجه البخاري عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: " أنَّ خياطاً دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم لطعام صنعه، قال أنس: فذهبت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأيته يتتبع الدباء (2) من حوالي القصعة قال: فلم أزل أحب الدباء من يومئذ "(3).
ومنها ما روي أنّه لما أخرج أهل مكة زيد بن الدثنة من الحرم ليقتلوه، قال له أبو سفيان بن حرب: أنشدك بالله يا زيد: أتحب أن محمداً الآن عندنا مكانك لضرب عنقه وإنّك في أهلك؟ فقال زيد: والله ما أحبّ أن محمداً الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة وإنّي جالس في أهلي، فقال أبو سفيان: ما رأيت الناس أحداً يحب أحداً كحب أصحاب محمد محمداً "(4).
__________
(1) مستدرك الحاكم (3/559)، وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.
(2) الدباء: القرع واحدتها دباءة. النهاية في غريب الحديث (2/96).
(3) صحيح البخاري، كتاب الأطعمة، باب من تتبع حوالي القصعة مع صاحبه إذا لم يعرف منه كراهية (3/291).
(4) انظر سيرة ابن هشام: (3/95).(26/99)
ومنها ما أخرجه الإمام مسلم عن أنس بن مالك أن أعرابياً قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: متى الساعة؟ قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما أعددت لها؟ " قال: حب الله ورسوله، قال: " أنت مع من أحببت "(1).
ومنها ما روي أن امرأة من الأنصار قتل أبوها وأخوها وزوجها فأخبروها بذلك فقالت: ما فعل الله برسول الله؟ قالوا: بحمد الله كما تحبين.
قالت: أرونيه حتى أنظره، فلما رأت قالت: كل مصيبة بعدك جلل (2) "(3).
الفصل الثاني
الأدب القولي
التأدب مع النبي صلى الله عليه وسلم متعدد الجوانب متنوع الصور، وقد تحدثت عن التأدّب القلبي في الفصل السابق وأتبعه -بعون الله تعالى- بالحديث عن التأدّب القولي. ونقصد بالتأدّب القولي ما كان متلفظاً به - وهو عمل اللسان.
والآداب -سواء كانت قلبية أو قولية أو فعلية- مترابطة إلاّ أن التقسيم منهجي للتوضيح والدراسة لأنّ من استقام قلبه استقام لسانه واستقامت جوراحه.
والأدب اللساني له أهميته لأنّ اللسان هو دليل القلب وهو الوسيلة الرئيسية التي تساعد الإنسان على الاتصال بالآخرين وبواسطته تتضح معالم شخصية صاحبه، وبه تقوم الدعوة ويتم البلاغ.
ولهذا السبب سأل موسى -عليه الصلاة والسلام- ربّه عز وجل- حل العقدة من لسانه حتى يقوم بتبليغ الدعوة على وجهها خير قيام، وذلك حين كلفه ربّه بالرسالة وأمره بدعوة فرعون وقومه يقول تعالى: ((وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي)) [طه:27-28].
__________
(1) صحيح مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب المرء مع من أحب (4/2032).
(2) جلل: هين يسير، والجلل من الأضداد، يكون للحقير والعظيم. النهاية في غريب الحديث (10/289).
(3) انظر سيرة ابن هشام (3/43).(26/100)
كما أنه- عليه الصلاة والسلام- طلب من ربّه أن يرسل معه أخاه هارون -عليه الصلاة والسلام- لفصاحة لسانه ووضوح بيانه يقول تعالى: ((وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي)) [القصص:34].
يقول الفخر الرازي في تفسير هذه الآية: "ليس الغرض بتصديق هارون أن يقول له صدقت أو يقول للناس صدق موسى، وإنّما هو أن يلخص بلسانه الفصيح وجوه الدلائل ويجيب عن الشبهات ويجادل الكفار، فهذا هو التصديق المفيد "(1).
والبيان ميزة الإنسان عن سائر المخلوقات، وبه يستطيع الإنسان أن يعبر عن مراده بأسلوب واضح وبطريقة مفهومة.
وقد ذكر الله -سبحانه وتعالى- هذه الميزة على وجه الامتنان فقال تعالى: ((الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الإِنسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ)) [الرحمن:1-4].
يقول الفخر الرازي في تفسيره: "لم يقل وعلمه البيان لأنه لو عطفه عليه لكان مغايراً له، أمّا إذا ترك الحرف العاطف صار قوله: ((عَلَّمَهُ الْبَيَانَ)) [الرحمن:4] كالتفسير لقوله: ((خَلَقَ الإِنسَانَ)) [الرحمن:3] كأنه إنما يكون خالقاً للإنسان إذ علمه البيان، وذلك يرجع إلى الكلام المشهور من أنّ ما هية الإنسان هو الحيوان الناطق "(2).
ولهذا اعتبر اللسان نصف الإنسان لأنّه يقال: المرء بأصغريه قلبه ولسانه.
يقول زهير بن أبي سلمى مشيراً إلى ذلك:
لسان الفتى نصف ونصف فؤاده ……فلم يبق إلاّ صورة اللحم والدم(3)
واللسان مع أهميته مثل آلة ذات حدين حيث يستعمل للخير كالصدق في القول والإرشاد والتعليم والذكر والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدفاع عن الحق، كما أنه يستعمل للشر من إيذاء الناس بالشتم أو بالنميمة والدفاع عن الباطل ومساندته لأن البيان قوة مؤثرة في تحريك النفوس وتوجيه الناس.
__________
(1) تفسير الفخر الرازي: (24/249).
(2) تفسير الفخر الرازي: (22/46).
(3) في ديوانه: (89).(26/101)
يقول صلى الله عليه وسلم: " إن من البيان لسحرا "(1).
ويقول ابن حبان البستي معلقاً على هذا الحديث: "وشبه النبي صلى الله عليه وسلم في هذا البيان بالسحر إذ الساحر يستميل قلب الناظر إليه بسحره وشعوذته، والفصيح الذرب اللسان يستميل قلوب الناس إليه بحسن فصاحته ونظم كلامه، فالأنفس تكون إليه تائقة والأعين إليه رامقة "(2).
ولذا كان مجال اللسان واسعاً سواء في الخير أو في الشر.
يقول الفخر الرازي مبيناً ذلك: " ما من موجود أو معدوم خالق أو مخلوق معلوم أو موهوم إلاّ واللسان يتناوله ويتعرض له بإثبات أو نفي، فإن كل ما يتناوله الضمير يعبر عنه بحق أو باطل، وهذه خاصية لا توجد في سائر الأعضاء فإنّ العين لا تصل إلى غير الألوان والصور، والآذان لا تصل إلى غير الأصوات والحروف، واليد لا تصل إلى غير الأجسام وكذلك سائر الأعضاء بخلاف اللسان فإنّه رحب الميدان ليس له نهاية ولا حد له فله في الخير مجال رحب وله في الشر بحر سحب.. "(3).
وفي هذا الفصل نبين مجاله في التأدب مع النبي صلى الله عليه وسلم من حيث مخاطبته صلى الله عليه وسلم والصلاة عليه وما يتبع ذلك.
لذا يتكون هذا الفصل من مبحثين:
المبحث الأول: مخاطبته صلى الله عليه وسلم.
المبحث الثاني: الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم.
المبحث الأول: مخاطبته صلى الله عليه وسلم:
الخطاب توجيه الكلام إلى الرسول صلى الله عليه وسلم على وجه السؤال أو الجواب أو المحادثة، وقد تكون نداء مباشراً له -عليه الصلاة والسلام- أثناء حياته.
ولذلك تضمن هذا المبحث دراسة مسألتين:
الأولى: غض الصوت وقت مخاطبته صلى الله عليه وسلم.
الثانية: استخدام النداء اللائق بمقامه صلى الله عليه وسلم.
وذلك فيما يلي:
__________
(1) صحيح البخاري، كتاب الطب، باب من البيان سحرا (4/21).
(2) روضة العقلاء ونزهة الفضلاء: (219).
(3) تفسير الفحر الرازي: (22/47).(26/102)
1- غض الصوت وقت مخاطبته صلى الله عليه وسلم: من المعلوم أنّ الرسول صلى الله عليه وسلم هو المصدر الوحيد الذي يتلقى عنه المسلمون تعاليم الله -سبحانه وتعالى- سواء كان قرآناً أو سنة أو حديثاً قدسياً، لذلك يجب عليهم أن يتأدبوا معه صلى الله عليه وسلم أثناء كلامه معهم أو كلامهم معه، وذلك بخفض الصوت وترك الجهر العالي كما يكون بين الإنسان وصديقه لقوله تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ)) [الحجرات:2].
يقول ابن كثير في تفسير هذه الآية: " هذا أدب ثان أدّب الله تعالى به المؤمنين أن لا يرفعوا أصواتهم بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم فوق صوته)(1).
والأدب هنا يحصل بمجانبة أمرين اثنين: أولاهما: رفع الصوت فوق صوته صلى الله عليه وسلم أخذاً من النهي الوارد في قوله: ((لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ)) [الحجرات:2].
ثانيهما: الجهر بالقول له صلى الله عليه وسلم كالجهر بعضهم بعضاً أخذاً من النهي الوارد في قوله تعالى: ((وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ)) [الحجرات:2].
وقد فرّق المفسرون بين النهيين الواردين في الآية حيث قالوا: إن الأول يتعلق برفع الصوت فوق صوته صلى الله عليه وسلم أثناء كلامه معهم. وأمّا الثاني يتعلق بالجهر له صلى الله عليه وسلم وقت صمته.
ومنهم من يقول: إنّ النهي الأول يتعلق وقت خطابه معهم أو خطابهم معه أو صمته، وأن الثاني يتعلق بندائه صلى الله عليه وسلم باسمه المجرد أو بكنيته، مثل: يا محمد، يا أبا القاسم.
__________
(1) تفسير القرآن العظيم: (4/205).(26/103)
وأكثر المفسرين ذهبوا إلى القول الأول الذي مفاده أنّ النهي الأول يتعلق وقت خطابه صلى الله عليه وسلم معهم، وأمّا الثاني فيتعلق وقت خطابهم معه، وصمته، وهو الأرجح لأنّ النهي عن النداء غير اللائق به صلى الله عليه وسلم ورد في آية أخرى بعد هذه الآية بآية واحدة وهي قوله تعالى: ((إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ)) [الحجرات:4].
وقد أجمل النيسابوري -رحمه الله- ما ورد في التفريق بين هذين النهيين قائلاً: "والجمهور على أنّ بين النهيين فرقاً ثم اختلفوا فقيل: الأول: فيما إذا نطق ونطقتم أو أنصت ونطقوا في أثناء كلامه فنهوا أن يكون جهرهم باهر الجهر.
والثاني: فيما إذا سكت ونطقوا ونهوا عن جهر مقيد بما اعتادوه فيما بينهم وهو الخالي عن مراعاة أبهة النبوة.
وقيل: النهي الأول أعم مما إذا نطق ونطقوا أو أنصت ونطقوا والمراد بالنهي الثاني أن لا يتمادى وقت الخطاب باسمه أو كنيته كنداء بعضكم لبعض فلا يقال: يا أحمد يا محمد يا أبا القاسم، ولكن يا نبي الله يا رسول الله "(1).
نستنتج من النهيين السابقين وجوب غض الصوت عند النبي صلى الله عليه وسلم ولزوم الأدب في مخاطبته سواء كان ذلك أثناء كلامه أو صمته لأنّ رفع الصوت والجهر عنده يؤدي إلى سوء الأدب معه وقلة الاحتشام منه ومجانبة توقيره ومعاملته معاملة الأقران بعضهم لبعض ومن ثم يترتب إحباط عمل المؤمن -والعياذ بالله- وهو لا يشعر.
يقول الشهيد سيد قطب -رحمه الله- في تفسير هذه الآية: والأدب الثاني هو أدبهم مع نبيهم في الحديث والخطاب وتوقيرهم له في قلوبهم توقيراً ينعكس على نبراتهم وأصواتهم، ويميز شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم، ويميز مجلسه فيهم، والله يدعوهم إلى ذلك النداء الحبيب ويحذرهم من مخالفة ذلك التحذير الرهيب(2).
__________
(1) تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان للنيسابوري (26/57).
(2) في ظلال القرآن: (6/3339).(26/104)
والتحذير الرهيب هو إحباط العمل الصالح بِدون شعور صاحبه أخذاً من قوله تعالى: ((أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ)) [الحجرات:2] بمعنى أنّ عمل المؤمن يحبط بالذنوب والمعاصي دون الشرك لأن الآية خطاب للمؤمنين بدليل ابتدائها بالنداء الموجه للمؤمنين.
وعلى هذا استشكل المفسرون في توجيه هذه الآية التي ظاهرها يفيد بطلان العمل الصالح بالذنوب والمعاصي مع أن القاعدة هي أن الأعمال لا تبطل إلا بالشرك بدليل قوله تعالى: ((لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ)) [الزمر:65]. ومن ثم اختلفت آراؤهم: فمنهم: من يقول إن الذنوب تحبط العمل الصالح ومن ثم يكفر صاحبها.
ومنهم من يقول: إن الإحباط يقصد به نقص المنزلة دون إحباط أصلها.
ومنهم من يقول: إن قلة الأدب معه صلى الله عليه وسلم تحبط العمل الصالح وإن كان لا يكفر صاحبها.
وممّن قال بالقول الأول شيخ الإسلام ابن تيمية قائلاً: "ومن ذلك أنّه حرم التقدم بين يديه بالكلام حتى يأذن، وحرم رفع الصوت فوق صوته، وأن يجهر له بالقول كما يجهر الرجل للرجل، وأخبر أن ذلك سبب حبوط العمل، فهذا يدل على أنه يقتضى الكفر لأنّ العمل لا يحبط إلا به "(1).
وممّن قال بالقول الثاني أبو سليمان الدمشقي: حيث ذهب إلى أن معنى الإحباط هاهنا نقص المترلة لا لإسقاط العمل من أصله كما يسقط بالكفر" (2) وممّن قال بالقول الثالث ابن جزي الكلبي: وهذا الإحباط، لأن قلة الأدب معه صلى الله عليه وسلم والتقصير في توقيره يحبط الحسنات، وإن فعله مؤمن لعظيم ما وقع فيه من ذلك"(3).
ومع الاختلاف الموجود بين هذه الآراء فإنها مجمعة على أن الذنوب تؤثر في العمل الصالح وتنقصه غير أن شيخ الإسلام ابن تيمية يرى أنّه يترتب على ذلك أمر آخر وهو الكفر أخذاً من ظاهر الآية.
__________
(1) الصارم المسلول على شاتم الرشول (ص:423).
(2) زاد المسير (8/457).
(3) التسهيل (4/104).(26/105)
وأحسن ما قيل في تأويل هذه الآية ما ذكره ابن المنير -رحمه الله- حيث يقول: " والقاعدة المختارة أنّ إيذاءه -عليه الصلاة والسلام- يبلغ مبلغ الكفر المحبط للعمل باتفاق، فورد النهي عمّا هو مظنّة لأذي النبي صلى الله عليه وسلم سواء وجد هذا المعنى أو لا حماية للذريعة وحسماً للمادة، ثم لما كان هذا المنهى عنه هو رفع الصوت منقسماً إلى ما يبلغ ذلك المبلغ أولاً، ولا دليل عليه يميز أحد القسمين عن الآخر لزم المكلف أن يكف عن ذلك مطلقاً وخوف أن يقع فيما هو محبط للعمل وهو البالغ حد الإيذاء إذ لا دليل ظاهر يميزه، وإن كان فلا يتفق تمييزه في كثير من الأحيان، وإلى التباس أحد القسمين بالآخر وقعت الإشارة بقوله سبحانه(1).
((أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ)) [الحجرات:2]
ومن هذا الكلام الذي نقلناه عن ابن المنير يتبيّن لنا أن النهي في الآية يحتمل ما يؤدي إلى الكفر وهو ما يترتب عليه إيذاء النبي صلى الله عليه وسلم أو الاستخفاف به ويحتمل ما دون ذلك، فإن كان الأول فلا غبار أنّ من فعل هذا يكفر ومن ثم يحبط عمله وعليه يتنزل كلام شيخ الإسلام ابن تيمية السابق، وإن كان الثاني فأقل ما يقال فيه: أنّ صاحبه يأثم إثماً كبيراً قد يؤدي إلى منزلق خطير دون أن يترتب عليه كفر، إلا أن عمله ينقص أو يحبط وعليه يتنزل قولا أبي سليمان الدمشقي وابن جزي الكلبي لأن الحسنات يذهبن السيئات لقوله تعالى: ((إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ)) [هود:114] وكذلك العكس أي أنّ الذنوب تحبط العمل أو تنقصه ولكن هنا بدون علم صاحبه أو حسه.
وهذا على غرار قوله تعالى في قضية الإفك: ((وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ)) [النور:15].
__________
(1) الإنصاف فيما تضمنه الكشاف من الاعتزال الذي بهامش الكشاني (3/556).(26/106)
وقوله صلى الله عليه وسلم: " إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله لا يلقي لها بالاً يرفعه إليه بها درجات، وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالاً يهوي بها في جهنم "(1).
وقد التزم الصحابة -رضوان الله عليهم- بهذا الأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في عهده كما ورد في الآثار.
منها قول أبي بكر -رضي الله عنه- لرسول الله صلى الله عليه وسلم: " والذي أنزل عليك الكتاب يا رسول الله لا أكلمك ألا كأخي السرار حتى ألقى الله -عز وجل- "(2).
ومنها ما أخرجه البخاري عن ابن الزبير -رضي الله عنه- قال: " فما كان عمر يسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذه -الآية حتى يستفهمه "(3).
وهذان النموذجان من أبي بكر وعمر -رضي الله عنهما- يمثلان سائر الصحابة -رضي الله عنهم أجمعين- الذين شاهدوا التنزيل وتأدبّوا بآدابه ووقفوا عند حدوده ينفذون أوامره ويتركون نواهيه دون إبطاء أو تأخير.
وفي هذا المقام يقول الشهيد سيد قطب -رحمه الله-: " فهكذا ارتعشت قلوبهم وارتجفت تحت وقع ذلك النداء الحبيب، وذلك التحذير الرهيب، وهكذا تأدبوا في حضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم خشية أن تحبط أعمالهم وهم لا يشعرون ولو كانوا يشعرون لتداركوا أمرهم ولكنّ هذا المترلق الخافي عليهم كان أخوف عليهم فاخافوه واتقوه "(4).
__________
(1) صحيح البخاري، كتاب الرقاق، باب حفد اللسان (4/126).
(2) الحاكم في مستدركه (2/462)، وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.
(3) صحيح البخاري، كتاب التفسير، باب تفسير سورة الحجرات (3/191).
(4) في ظلال القرآن: (6/3339).(26/107)
ولأجل هذا الامتثال السريع من قبل الصحابة -رضوان الله عليهم أجمعين- مدحهم الله سبحانه وتعالى بقوله: ((إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ)) [الحجرات:3].
هكذا كان الأمر في حياته صلى الله عليه وسلم وأمّا بعد مماته فكذلك يجب على المسلم أن يتأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بحيث لا يرفع صوته عند سماع أحاديثه صلى الله عليه وسلم لأن حرمته ميتاً كحرمته حياً سواء بسواء وأن أحاديثه تقوم مقامه.
يقول ابن العربي -رحمه الله-: " حرمة النبي صلى الله عليه وسلم ميتاً كحرمته حياً وكلامه المأثور بعد موته في الرفعة مثل كلامه المسموع من لفظه، فإذا قرئ كلامه وجب على كل حاضر ألا يرفع صوته عليه، ولا يعرض عنه كما كان يلزمه ذلك في مجلسه عند تلفظه به، وقد نبّه الله تعالى على دوام الحرمة المذكورة على مرور الأزمنة بقوله تعالى: ((وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا)) [الأعراف:204] وكلام النبي صلى الله عليه وسلم من الوحي وله الحرمة مثل ما للقرآن إلاّ معاني مستثناة بيانها في كتب الفقه. والله أعلم "(1).
ويراعى هذا الأدب وهو عدم رفع الصوت أيضاً في مسجده صلى الله عليه وسلم لما أخرجه البخاري بسنده عنْ السائب بن يزيد قال: كنت قائماً في المسجد فحصبني رجل، فنظرت فإذا هو عمر بن الخطاب فقال: اذهب فأتني بهذين فجئته بهما، قال: من أنتما؟ أو من أين أنتما؟ قالا: من أهل الطائف قال: لو كنتما من أهل البلد لأوجعتكما ترفعان أصواتكما في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم(2).
__________
(1) أحكام القرآن لابن العربي: (4/1702- 1703).
(2) صحيح البخاري، كتاب الصلاة، باب رفع الصوت في المسجد (1/93).(26/108)
هذا في المسجد وكذلك الحال عند قبره صلى الله عليه وسلم يقول الشيخ محمد الأمين الشنقيطي عند تفسيره هذه الآية: " ومعلوم أنّ حرمة النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته كحرمته في أيام حياته وبه تعلم أنّ ما جرت به العادة من اجتماع الناس قرب قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم في صخب ولغط وأصواتهم مرتفعة ارتفاعاً مزعجاً كله لا يجوز ولا يليق وإقرارهم عليه من المنكر "(1).
وممّا سبق ذكره يتبين لنا أنّ حرمة النبي صلى الله عليه وسلم ميتاً كحرمته في حياته على الوجه الذي شرحناه آنفاً وأنه يجب التأدب معه في الصوت بعد وفاته كما كان الحال وقت حياته للآية الكريمة التي نحن بصددها لأنّ حكمها يستمر إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ولا ينقطع بموته صلى الله عليه وسلم.
كما أنّ هذا الأدب المستفاد من الآية يكون مع العلماء لأنهم ورثة الأنبياء وكذلك مع الأبوين وغيرهما لمن له فضل على الإنسان المسلم.
يقول الجصاص في هذا المقام: " وهذه الآيات وإن كانت نازلة في تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم وإيجاب الفرق بينه وبين الأمة فيه فإنه تأديب لنا فيمن يلزمنا تعظيمه من والد وعالم وناسك وقائم بأمر الدين وذي سن وصلاح ونحو ذلك إذ تعظيمه بهذا الضرب من التعظيم في ترك رفع الصوت عليه وترك الجهر عليه والتمييز بينه وبين غيره ممن ليس في مثل حاله "(2).
__________
(1) أضواء البيان: (7/617).
(2) أحكام القرآن للجصاص (3/398).(26/109)
قلت: لا شك أنّ هؤلاء الأشخاص يأخذون هذا الحكم وينبغي التأدب معهم وتوقيرهم بالشكل اللائق بهم مع مراعاة الفرق بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنّ مقامه أرفع من هؤلاء جميعاً وهو صلى الله عليه وسلم المعنى بالآية أصلاً وهؤلاء تبعاً وليس الفرع كالأصل وإن اشتركا في أمور، والله تعالى يقول: ((النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ)) [الأحزاب:6] بل ينبغي أن يحترم العبد النبي صلى الله عليه وسلم أَكثر من سيده.
يقول الفخر الرازي في تفسير هذه الآية: "إن هذا أفاد أنّه لا ينبغي أن يتكلم المؤمن عند النبي صلى الله عليه وسلم كما يتكلم العبد عند سيده لأن العبد داخل تحت قوله: ((كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ)) [الحجرات:2]. لأنه للعموم فلا ينبغي أن يجهر المؤمن للنبي صلى الله عليه وسلم كما يجهر العبد للسيد وإلا لكان قد جهر له كما يجهر بعضهم لبعض.. ويؤيد ما ذكرناه قوله تعالى: ((النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ)) [الأحزاب:6]. والسيد ليس أولى عند عبده من نفسه حتى لو كان في مخمصة ووجد العبد ما لو لم يأكله لمات لا يجب عليه بذله لسيده ويجب البذل للنبي صلى الله عليه وسلم... وأن الحكمة تقتضي ذلك كما أن العضو الرئيسي أولى بالرعاية من غيره، لأنّ عند خلل القلب مثلاً لا يبقى لليدين والرجلين استقامة، فلو حفظ الإنسان نفسه وترك النبي صلى الله عليه وسلم لهلك هو أيضاً بخلاف العبد والسيد "(1).
2- النداء اللائق به صلى الله عليه وسلم: النداء لون من ألوان الخطاب إلا أنه يتميز عنه بتوجيهه إلى شخص المنادى مباشرة، الأمر الذي يجعل له أثراً عند من ينادي عليه.
وفي مجال التأدّب مع الرسول صلى الله عليه وسلم جاء التنبيه في القرآن الكريم على ضرورة عدم مناداته بطريقة جافة ومزعجة بل لا بد من مراعاة مقامه وقدره وبالأخص عندما يكون في بيته مع نسائه وأولاده.
__________
(1) تفسير الفخر الرازي: (28/113).(26/110)
يقول تعالى: ((إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ * وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)) [الحجرات:4-5].
عن الأقرع بن حابس -رضي الله عنه- أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد أخرج إلينا، فلم يجبه، فقال: يا محمد إن حمدي زين وإنّ ذمي شين، فقال: فأنزل الله: ((إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ)) [الحجرات:4](1).
ويقول ابن كثير: "وقد ذكر أنها نزلت في الأقرع بن حابس التميمي -رضي الله عنه- فيما أورده غير واحد "(2).
وقد ذكر المفّسرون عدّة أسباب لنزول هذه الآية التي نحن بصددها ولكنّ الذي يهمنا في هذا المقام هو ما يستفاد من الآية سواء نزلت في الأقرع بن حابس -رضي الله عنه- أو في غيره لأنّ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
وقد تضمنت الآية أمرين:
أولهما: عدم إزعاج الرسول صلى الله عليه وسلم في وقت خلوته في بيته مع نسائه بالنداء غير اللائق به.
وثانيهما: الإرشاد إلى ما ينبغي أن يفعل في هذه الحالة وهو الانتظار إلى أن يحين وقت خروجه.
يقول ابن كثير في تفسيره هذه الآية: " ثم إنه تبارك وتعالى ذم الذين ينادونه من وراء الحجرات وهي بيوت نسائه كما يصنع أجلاف الأعراب فقال: ((أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ)) [الحجرات:4]. ثم أرشد إلى الأدب في ذلك فقال عز وجل: ((وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ)) [الحجرات:5] أي: لكان في ذلك الخيرة والمصلحة في الدنيا والآخرة "(3).
__________
(1) الدر المنثور بالتفسير بالمأثور للسيوطي، (7/552)، وقال السيوطي: رواه أحمد والطبراني وغيرهما بسند صحيح.
(2) تفسير القرآن العظيم: (4/208).
(3) تفسير القرآن العظيم: (4/208).(26/111)
وهذا لا يعني أنه لا يجوز مناداته صلى الله عليه وسلم بتاتاً، وإنما المحظور مناداته في وقت خلوته مع نسائه في بيته كما في هذه الحالة، وكذلك مناداته بصوت مرتفع خال من الاحترام والتقدير بل ينبغي أن ينادي له بصوت منخفض وبصيغة معينة تتناسب مع قدره وعظمته ووقاره مثل: يا رسول الله، يا نبي الله، لا مجرد اسمه مثل: يا محمد، ويا أحمد، ويا أبا القاسم. كما يفعل بعضهم لبعض.
وهذا ما أشار إليه قوله تعالى: ((لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً)) [النور:63].
وهذه الآية تشير إلى أحد المعاني الآتية: الأول: أنه نهي عن التعرض لإسخاطه صلى الله عليه وسلم لأنه إذا دعا على شخص فدعوته مستجابة.
الثاني: أنهم أمروا أن يقولوا: يا رسول الله ونهوا أن يقولوا: يا محمد وما يساويها.
الثالث: أنه نهي لهم عن الإبطاء إذا أمرهم والتأخر إذا دعاهم(1). وقد ذكر أكثر المفسرين هذه التأويلات مع ترجيح واحد منها والسكوت عن المعنيين الآخريين إلا أن ابن عطية (2) رد معنى الأول حيث قال: " ولفظ الآية يدفع هذا المعنى "(3).
وهناك من ذكر التأويلات الثلاثة دون ترجيح إيذاناً بأن الآية تحتمل المعاني الثلاثة.
وقد أيّد كل مفسّر ما ذهب إليه بترجيحات مقبولة ونذكر بعضها هنا.
__________
(1) انظر زاد المسير (6/68).
(2) هو عبد الحق بن غالب المعروف بابن عطية المتوفى سنة (541هـ) انظر ترجمته في طبقات المفسرين للداودي (1/260-261).
(3) انظر البحر المحيط: (6/476).(26/112)
فمن الذين رجحوا التأويل الثاني الفخر الرازي بعد إيراده التأويل المذكور حيث قال: "والذي يدل على هذا عقب هذا(1): ((فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ)) [النور:63] وذهب إلى ذلك أيضاً أبو حيان الأندلسي حيث قال بعد إيراده هذا التأويل: " وهذا موافق لمساق الآية ونظمها "(2).
وأمّا من الذين رجحوا القول الثالث فمنهم الإمام ابن كثير -رحمه الله- حيث قال: " وهذا قول وهو الظاهر من السياق كقوله تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا)) [البقرة:104] إلى آخر الآية.
وقوله تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ)) [الحجرات:2].
إلى قوله: ((إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ * وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ)) [الحجرات:4] إلى آخر الآية، ثم قال: فهذا كله من باب الأدب في مخاطبته صلى الله عليه وسلم والكلام معه كما أمروا بتقديم الصدقة قبل مناجاته "(3).
يقول الأستاذ أبو الأعلى المودودي بعد ذكره الأقوال الثلاثة: " وهذه الوجوه الثلاثة وإن كان كل واحد منها صحيحاً حسب الألفاظ القرآنية، ولكن الوجه الأول (4) هو أقرب إلى نظم الآية عندنا وهو الذي يؤيده قوله تعالى: ((فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ)) [النور:63] بعد هذه الآية(5).
والذي ينبغي في هذا المقام عدم ترجيح أحد الأقوال على آخر ما دامت ألفاظ الآية تحتمل المعاني المذكورة كلها ولا تعارض بينها وخاصة
إذا كان هناك مرجحات مباشرة وغير مباشرة لكل من القولين اللذين أخذ بهما المفسرون.
__________
(1) تفسير الفخر الرازي (24/40).
(2) البحر المحيط: (6/476).
(3) تفسير القرآن العظيم: (3/306-307).
(4) الثاني عندنا.
(5) تفسير سورة النور (ص:231).(26/113)
وأحسن ما قيل في معنى هذه الآية التي نحن بصددها قول ابن قيم الجوزية -رحمه الله- والذي يقول فيه: " إنّ المصدر هنا لم يضف إضافته إلى فاعل ولا مفعول وإنما أضيف إضافة الأسماء المحضة، ويكون المعنى لا تجعلوا الدعاء المتعلق بالرسول المضاف إليه كدعاء بعضكم بعضاً، وعلى هذا فيعم الأمرين معاً ويكون النهي عن دعائهم له باسمه كما يدعو بعضهم بعضاً وعن تأخير إجابته صلى الله عليه وسلم، وعلى كل تقدير أمر الله سبحانه بأن يتميز عن غيره في خطابه ودعائه إياهم، قياماً للأمة بما يجب عليهم من تعظيمه وإجلاله "(1).
وخلاصة القول: إن الغرض الذي من أجله أوردنا هذه الآية هو بيان ما يجب على المسلم أن يتحلى به في ندائه صلى الله عليه وسلم حيث يخفض صوته ويتخير ألفاظ التقدير والتعظيم لندائه بيا رسول الله، ويا نبي الله، يا خير خلق الله. ويدع هذه النداءات السوقية في لفظها وكيفيتها مثل: يا محمد، ويا أحمد، أو كنيته مثل: يا أبا القاسم كما كانوا يفعلونه من قبل، بل بندائه صلى الله عليه وسلم نداء يتناسب مع مقامه ومكانته مثل: يا رسول الله ويا نبي الله اقتداء بما في القرآن من نداء الله سبحانه وتعالى له صلى الله عليه وسلم بحيث أنّ الله -سبحانه وتعالى- لم يناد رسوله في القرآن بمجرد اسمه ولو مرة واحدة وإنما ناداه بصفة النبوة والرسالة وغيرهما من الصفات الثابتة له في القرآن.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- عند كلامه عن حقوق الرسول الزائدة على مجرد التصديق (2) والإيمان:
__________
(1) جلاء الأفهام: (ص:235).
(2) الصارم المسلول (ص:422-423) بتصرف.(26/114)
"ومن ذلك حضّه في المخاطبة بما يليق به فقال: ((لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً)) [النور:63] فنهى أن يقولوا يا محمد أو يا أحمد أو يا أبا القاسم ولكن يقولوا، يا رسول الله، يا نبي الله، وكيف لا يخاطبونه بذلك والله سبحانه وتعالى أكرمه في مخاطبته إياه مما لم يكرم به أحداً من الأنبياء فلم يناد باسمه في القرآن قط بل يقول: ((يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا)) [الأحزاب:28].
و((يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ)) [المائدة:67].
و((يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمْ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً)) [المزمل:1-2].
و((يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ)) [المدثر:1].
مع أنه سبحانه قد قال: ((وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ)) [البقرة:35].
((يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ)) [هود:46].
((يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا)) [هود:76].
((يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ)) [الأعراف:144].
((يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ)) [ص:26].
((يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى وَالِدَتِكَ)) [المائدة:110].(26/115)
وعلى هذا دلت الآية التي نحن بصددها الغرض الذي من أجله أوردناها وهو الذي يهمنا هنا لاحتمالها احتمالاً قوياً أو المتبادر إلى الفهم كما ذكر ابن القيم -رحمه الله- ولوجود مرجحات غير مجاورة ترجح هذا المعنى كما ذكر ابن كثير في تفسيره، ومرجحاً آخر متقدم ومجاور لهذه الآية يرجح هذا المعنى وهو قوله تعالى: ((وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ)) [النور:62] كما أفاد الشهيد سيد قطب في تفسيره المسمى في ظلال القرآن إذ أن مناسبة الآية لما بعدها ليست أولى من مناسبتها لما قبلها إن وجدت وهنا وجدت.
يقول الشهيد سيد قطب: " ويلتفت إلى ضرورة توقير الرسول صلى الله عليه وسلم عند الاستئذان وفي كل الأحوال فلا يدعى باسمه يا محمد أو كنيته يا أبا القاسم كما يدعو المسلمون بعضهم بعضاً إنما يدعى بتشريف الله له وتكريمه يا نبي الله، يا رسول الله "(1).
المبحث الثاني: الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم:
شرع الله تعالى الصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم بقوله سبحانه وتعالى: ((إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً)) [الأحزاب:56].
وقد شمل موضوع الصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم حيزاً واسعاً في فكر العلماء وحياة المسلمين مما جعلني أعقد هذا المبحث للوصول إلى الحق فيه.
والأمر هنا يحتاج إلى بيان عدد من النقاط المتصلة بالصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي:
1- مفهوم الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم لغة واصطلاحاً.
2- حكم الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم.
3-- صيغ الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم.
4- مواطن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم.
5- ثواب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم.
__________
(1) في ظلال القرآن: (4/2535).(26/116)
وسوف تأتي هذه المسائل وفق الترتيب المذكور فما يلي:
تعريف الصلاة لغة واصطلاحاً: الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم غير الصلاة المفروضة التي هي الأقوال والأفعال المفتتحة بالتكبير والمختتمة بالتسليم، ولذلك كان تعريفها ضرورياً لتتضح حقيقتها المرادة من هذا المبحث.
وكما هو منهجي فإني أبدأ بالتعريف اللغوي وبعده يكون التعريف الاصطلاحي.
تعريف الصلاة لغة: يقول الجوهري: " الصلاة: الدعاء "(1).
ويقول الفيروزآبادي: " الصلاة: الدعاء والرحمة الاستغفار "(2).
ويقول صاحب مصباح المنير(3): " الصلاة في اللغة مشتركة بين الدعاء والتعظيم والرحمة والبركة "(4).
وإذا نظرنا إلى التعريفات السابقة للصلاة في اللغة نرى أن لها عدة معان، فى الدعاء وبمعنى التعظيم وبمعنى الرحمة وبمعنى البركة.
وأمّا الصلاة في الاصطلاح الشرعي: فلا تخرج عن معاني اللغة المذكورة إذا قيدت الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وبالتالي فمعناها باق على ما كان عليه في الاستعمال اللغوي.
وعلى هذا فلم يذكر العلماء تعريفاً لها عند كلامهم عن هذا الموضوع وإنّما جلّ كلامهم ينصب على التفريق بين صلاة الله وصلاة المخلوقين، ولكن نحاول هنا أن نذكر تعريفاً للصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم من خلال كلامهم. يقول الفيروزآبادي: " والصلاة حسن الثناء من الله عز وجل على رسوله - صلى الله عليه وسلم-.... "(5).
ويقول الجرجاني بعد تعريفه الصلاة المكتوبة: " والصلاة أيضاً طلب التعظيم بجانب الرسول صلى الله عليه وسلم في الدنيا والآخرة "(6).
__________
(1) الصحاح (6/2402).
(2) القاموس المحيط (4/335).
(3) وتأتي ترجمته في (ص:261).
(4) مصباح المنير (1/371).
(5) القاموس المحيط: (1/371).
(6) كتاب التعريفات: (139).(26/117)
والصلاة في تعريف الفيروزآبادي السابق يتضمن جانباً واحداً وهو إذا كانت الصلاة من الله -عز وجل- وأما جانب المخلوقين فلم يتعرض له ولهذا كان هذا التعريف ناقصاً.
وأما تعريف الجرجاني السابق فمعناه طلب التعظيم للرسول صلى الله عليه وسلم ولكن الطلب يمكن أن يكون طلب أمر وطلب دعاء.
وإذا كان الطلب أمراً فيستقيم في حق الله تعالى-، وأما إذا كان دعاءً فيستقيم في حق المخلوقين دون الله -عز وجل- لأن الدعاء طلب الإعانة من الغير وهذا محال على الله سبحانه وتعالى.
ويلاحظ أن قوله تعالى: ((إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً)) [الأحزاب:56]. يدل على أن الله سبحانه وتعالى، والملائكة يصلون على النبي صلى الله عليه وسلم بحيث جمع الله صلاته وصلاة الملائكة في فعل واحد وبصيغة الأخبار وأمر المؤمنين بالصلاة عليه صلى الله عليه وسلم.
ولهذا فرّق العلماء بين معنى صلاة الله على النبي صلى الله عليه وسلم ومعنى صلاة المخلوقين حتى يستقيم معنى الصلاة في حق الله عز وجل وحق ملائكته وحق المؤمنين.
ولإزالة هذا الإشكال ذكر العلماء أقوالاً عدة في بيان المعنى المراد من الصلاة على اختلاف فاعلها.
يقول أبو العالية: " صلاة الله عز وجل ثناؤه عليه وصلاة الملائكة عليه الدعاء "(1).
ويقول الضحاك: " صلاة الله رحمته وصلاة الملائكة الدعاء "(2).
ويقول الضحاك أيضاً: " صلاة الله مغفرته وصلاة الملائكة الدعاء "(3).
__________
(1) انظر فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم (ص:80) للقاضي إسماعيل الجهضمي.
(2) انظر المصدر السابق: (80-81).
(3) انظر المصدر السابق: (80-81).(26/118)
وإذا نظرنا إلى الأقوال السابقة الواردة في معنى الصلاة نرى أن الصلاة من الله على النبي صلى الله عليه وسلم هي الثناء والرحمة والمغفرة، وأمّا الصلاة من الملائكة فله معنى واحد وهو الدعاء إلا أن هذه الأقوال لا تسلم عن مقال ومآخذ إذ يترتب عليها وجود معنيين على الأقل في فعل واحد وفي استعمال واحد مع أنه أسند إلى الاثنين معاً.
وقد ذكر ابن القيم -رحمه الله- القولين الأخيرين من الأقوال السابقة في معنى الصلاة من جانب الله تعالى وجانب الملائكة وضعفهما وأسهب في ذلك حيث ذكر خمسة عشر وجهاً تدل على ضعفهما. ومن أحسن ما ضعفهما به قوله: "إن الله سبحانه وتعالى فرّق بين صلاته على عباده ورحمته فقال: ((وَبَشِّرْ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُهْتَدُونَ)) [البقرة:155-157]. فعطف الرحمة على الصلاة فاقتضى تغايرهما. هذا أصل العطف، وإن الله سبحانه فرّق بين صلاته وصلاة ملائكته وجمعهما في فعل واحد فقال: ((إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ...)) [الأحزاب:56]. وهذه الصلاة لا يجوز أن تكون هي الرحمة وإنّما هي ثناؤه سبحانه وثناء ملائكته عليه، ولا يقال الصلاة لفظ مشترك ويجوز أن يستعمل في معنييه معاً لأنّ في ذلك محاذير متعددة"(1).
ومن هنا نجزم بأنّ صلاة الله وصلاة الملائكة عليه صلى الله عليه وسلم في الآية التي نحن بصددها لها معنى واحد وهو الثناء عليه، وأمّا صلاتنا نحن عليه صلى الله عليه وسلم فهي طلب المزيد من الثناء من الله عز وجل طلب دعاء لا طلب أمر.
__________
(1) جلاء الأفهام: (ص:83).(26/119)
يقول الحليمي -رحمه الله-: " فيدل على أنَّ قولنا: اللهم صل على محمد صلاة منّا عليه إنّا لا نملك إيصال ما يعظم به أمره ويعلو به قدره إليه وإنّما ذلك على الله تعالى فيصح أن صلاتنا عليه الدعاء له بذلك وابتغاؤه من الله عز وجل "(1).
وقد أيد ابن القيم هذا الرأي القائل بأنّ صلاتنا هي طلب المزيد من الثناء من الله -عز وجل- حيث قال: "الصلاة المأمور بها فيها هي الطلب من الله ما أخبر به عن صلاته وصلاة ملائكته، وهي ثناء عليه وإظهار لفضله وشرفه وإرادة تكريمه وتقريبه فهي تتضمن الخبر والطلب وسمى هذا السؤال والدعاء منّا نحن صلاة عليه لوجهين:
أحدهما: أنّه يتضمن ثناء المصلي عليه والإشارة بذكر شرفه وفضله والإرادة والمحبة كذلك من الله تعالى، فقد تضمنت الخبر والطلب.
الوجه الثاني: أن ذلك سمي منّا صلاة لسؤالنا من الله أن يصلي عليه فصلاة الله عليه ثناؤه وإرادته لرفع ذكره وتقريبه، وصلاتنا نحن عليه سؤالنا الله تعالى أن يفعل ذلك به وضد هذا في لعنة أعدائه الشائنين لما جاء به فإنها تضاف إلى الله وتضاف إلى العبد كما قال تعالى: ((إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمْ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمْ اللاَّعِنُونَ)) [البقرة:159]. فلعنة الله لهم تتضمن مقته وإبعاده وبغضه لهم ولعنة العبد تتضمن سؤال الله تعالى أن يفعل ذلك بمن هو أهل اللعنة"(2).
وعلى هذا فمعنى صلاة الله -عز وجل- وصلاة الملائكة على النبي صلى الله عليه وسلم الثناء، وأمّا في حق المؤمنين في طلب ذلك الثناء من الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم.
__________
(1) المنهاج في شعب الإيمان: (2/134).
(2) جلاء الأفهام: (ص:86).(26/120)
حكم الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم: ذكر السخاوي عن شيخه (1) في حكم الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم عشرة أقوال: القول الأول: إنها مستحبة.
الثاني: إنها واجبة في الجملة بغير حصر لكن أقل ما يحصل به الأجزاء مرة.
الثالث: أنّها تجب في العمر في صلاة أو في غيرها وهي مثل كلمة التوحيد.
الرابع: تجب في القعود مرة آخر الصلاة بين قول التشهد وسلام التحليل.
الخامس: تجب في التشهد فقط.
السادس: تجب في الصلاة من غير تعيين المحل.
السابع: يجب الإكثار منها من غير تقييد بعدد.
الثامن: تجب كلما ذكر صلى الله عليه وسلم.
التاسع: تجب في كل مجلس مرة ولو تكرر ذكره مراراً.
العاشر: تجب في كل دعاء(2).
هذه عشرة أقوال في حكم الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ولكنّها في الحقيقة والواقع قولان: أولهما: أنّها مستحبة.
ثانيهما: أنّها واجبة ولكن الذين يقولون بوجوبها اختلفوا في عدد المرات وفي المواطن التي تجب فيها حتى بلغت أقوالهم تسعة أقوال إلا أنّ أغلب هذه الأقوال متعلقة بالمواطن التي تجب الصلاة فيها.
وأصح ما قيل في حكمها أنّها تجب في الجملة بدون تقييد بعدد أو وقت مع مراعاة المواطن التي يتأكد وجوبها أو استحبابها.
يقول صاحب بهجة المحافل(3): "وأما حكمها فهي واجبة إجماعاً للآية الكريمة (4) لكنّه غير محدد بوقت ولا عدد"(5).
__________
(1) يقصد به الحافظ ابن حجر العسقلاني كما صرح به السخاوي نفسه في آخر القول البديع (ص:264).
(2) انظر القول البديع في الصلاة على الحبيب الشفيع (ص:14) وما بعدها.
(3) هو عماد الدين يحيى بن أبي بكر العامري.
(4) وهي قوله تعالى: ((إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً)) [الأحزاب:56].
(5) بهجة المحافل وبغية الأماثل (2/416).(26/121)
وهذا الإجماع الذي ادعاه فيه نظر لأنّ من العلماء من يقول باستحبابها مطلقاً إلاّ إذا حملنا الاستحباب بما زاد على المرة الواحدة.
يقول السخاوي: "وقد أول بعض العلماء هذا القول بما زاد على المرة الواحدة وهو متعين والله أعلم "(1).
صيغ الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم: للصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم صيغ كثيرة ذكرها العلماء في كتبهم يروونها عن النبي صلى الله عليه وسلم بأسانيد بعضها صحيحة وبعضها حسنة وبعضها ضعيفة أو يلفقونها مما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من صيغ الصلاة أو يؤلفونها من عندهم.
وهنا نكتفي بذكر الصيغ الصحيحة لأنّ الغرض يتم بها وأمّا غيرها من الصيغ الضعيفة أو الملفقة فلا يتم بها بل نص بعض العلماء على عدم جوازها لعدم ثبوتها عن النبي صلى الله عليه وسلم من ناحية السند أو بالكيفية الملفقة.
وعلى هذا فلا بد للمسلم أن يلتزم بالصيغ المأثورة الصحيحة أو الحسنة.
وقد ذكر الشيخ ناصر الدين الألباني سبع صيغ صحيحة للصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم(2).
ونذكر هذه الصيغ كما وردت في كتابه " صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم وبنفس الترتيب.
الصيغة الأولى: عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنّه كان يقول: " اللهم صلّ على محمد وعلى أهل بيته وعلى أزواجه وذريته كما صليت على آل أبراهيم إنك حميد مجيد وبارك على محمد وعلى آل بيته وعلى أزواجه وذريته كما باركت على آل إبراهيم إنّك حميد مجيد "(3).
__________
(1) القول البديع (ص:14).
(2) صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم (ص:146) وما بعدها، وانظر فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بتحقيق الألباني هامش (ص:54).
(3) أخرجه الطحاوي في مشكل الآثار (3/74)، وذكر السخاوي هذه الرواية في القول البديع (ص:42)، وصحيح الألباني هذه الرواية بعد عزوه إلى الإمام أحمد والطحاوي في صفة صلاة النبي (ص:147).(26/122)
الصيغة الثانية: عن كعب بن عجرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: " اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد "(1).
الصيغة الثالثة: عن طلحة بن عبيد الله -رضي الله عنه- قال: قلت: يا رسول الله كيف الصلاة عليك؟ قال: قل: " اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم إنك حميد مجيد "(2).
الصيغة الرابعة: عن أبي مسعود الأنصاري -رضي الله عنه- قال: أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم في مجلس عبادة فقال بشير بن سعد: أمرنا الله أن نصلي عليك يا رسول الله، فكيف نصلي عليك؟ قال: فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تمنينا أنّه لم يسأله، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قولوا: " اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم في العالمين إنّك حميد مجيد "(3).
__________
(1) صحيح البخاري، كتاب التفسير، باب قوله تعالى: (إن الله وملائكته يصلون على النبي.) (3/178)، وصحيح مسلم، كتاب الصلاة، باب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بعد التشهد (1/305).
(2) أخرجه الإمام أحمد في مسنده (1/162)، والنسائي في سننه (1/190) وقد ذكر ابن القيم هذه الرواية في جلاء الأفهام (ص:9) والسخاوي في القول البديع (ص:34) بألفاظ متقاربة، وصحح الألباني هذه الرواية في صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم (ص:147) بعد عزوها إلى الإمام أحمد والنسائي وغيرهما.
(3) أخرجه الإمام مسلم في صحيحه، كتاب الصلاة، باب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بعد التشهد (1/305).(26/123)
الصيغة الخامسة: عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: قلنا يا رسول الله هذا السلام عليك، فكيف الصلاة عليك؟ قال: قولوا:
"اللهم صلّ على محمد عبدك ورسولك كما صليت على آل إبراهيم، وبارك على محمد وآل محمد كما باركت على إبراهيم"(1).
الصيغة السادسة: عن أبي حميد الساعدي -رضي الله عنه- أنّهم قالوا: يا رسول الله كيف نصلّي عليك؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم قولوا: " اللهم صلّ على محمد وعلى أزواجه وذريته كما صليت على آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى أزواجه وذريته كما باركت على آل إبراهيم إنّك حميد مجيد "(2).
الصيغة السابعة: عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنّهم سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف نصلي عليك؟ قال: قولوا: " اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد وبارك على محمد وعلى آل محمد كما صليت وباركت على إبراهيم وآل إبراهيم إنّك حميد مجيد "(3).
__________
(1) أخرجه الإمام البخاري في صحيحه، كتاب التفسير، باب قوله تعالى: (إن الله وملائكته يصلون على النبي.) (3/178).
(2) صحيح البخاري، كتاب الأنبياء باب يزفون القسلان في المشي (2/239)، وصحيح مسلم، كتاب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بعد التشهد (1/306).
(3) أخرجه الطحاوي في مشكل الآثار (3/75)، وقد ذكر ابن القيم في جلاء الأفهام (ص:13) هذه الصيغة وصححها، وكذلك السخاوي في القول البديع (ص:40) وصححها، والألباني في صفة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم (ص:148)، وصححها بعد عزوها إلى الطحاوي وغيره.(26/124)
هذه هي صيغ الصلاة التي علّمها رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه بعد ما سألوا عنها والتي وردت بأسانيد صحيحة كما بينّا، ولهذا ذهب بعض العلماء على التزامها دون تغيير أو تلفيق لأنّها أفضل الكيفيات في الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم يقول السخاوي: " استدل بتعليمه صلى الله عليه وسلم لأصحابه كيفية الصلاة عليه بعد سؤالهم عنها أنّها أفضل الكيفيات؛ لأنّه لا يختار لنفسه إلا الأشرف والأفضل، ويترتب على ذلك لو حلف أن يصلي عليه أفضل الصلوات فطريق البر أن يأتي بذلك "(1).
ومع ورود هذه الصيغ الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم فقد أجاز بعض العلماء الصلاة عليه بلفظ جميل: يقول الفاكهي(2): "ونقل ابن مندة عن جمع من الصحابة وغيرهم أنّ من رزقه الله بياناً شافياً عن المعاني الصحيحة بالألفاظ الفصيحة فأبان عن الشرف النبوي كان كمن سلك السنن السنية "(3).
وجاء في كتاب حسن التوسل: "والصلاة بلفظ صلى الله عليه وسلم أمر حسن متضمن للبلاغة والإيجاز الموفي بالمقصود على أكمل وجه (4) ولذا تواطأ المؤلفون وغيرهم من العلماء المتقدمين والمتأخرين على التزامها "(5).
وأمّا التلفيق بين صيغ الصلاة فقد استحسنه بعض العلماء وكرهه بعضهم.
__________
(1) القول البديع (ص:47).
(2) حسن التوسل: (ص:196).
(3) حسن التوسل في آداب زيارة أفضل الرسل (ص:196).
(4) ففيه نظر، لأنها لم تثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الكيفية، والأكمل ما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم لا غير وخاصة في الأمور الدينية. وهذا الاعتراض يرد أيضاً على قول الفاكهي السابق المبني على نقل ابن مندة عن جمع من الصحابة وغيرهم.
(5) هو عبد الله بن أحمد الفاكهي المتوفي سنة (972هـ). انظر ترجمته في الأعلام (4/193).(26/125)
ومن الذين استحسنوه الإمام النووي -رحمه الله- حيث يقول: "وينبغي أن يجمع ما في الأحاديث الصحيحة فيقول: "اللهم صل على محمد عبدك ورسولك النبي الأمي وعلى آل محمد وأزواجه وذريته كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم وبارك على محمد وعلى آل محمد وأزواجه وذريته كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنّك حميد مجيد "(1).
ومع هذا - فقد فاته شيء، ولعلها توازي قدر ما زاده وتزيد عليه كما ذكر السخاوي عن شيخه ابن حجر العسقلاني مثل قوله: عبدك ورسولك ومثل قوله في العالمين في الأولى ومثل قوله: " اللهم صلّ وبارك لأنهما ثبتا معاً وغير ذلك "(2).
__________
(1) المجموع شرح المهذب (3/447).
(2) انظر القول البديع (ص:61-62).(26/126)
وأما الذين كرهوا التلفيق بين صيغ الصلاة فمنهم ابن تيمية رحمه الله - حيث يقول: " ولبعض المتأخرين في بعض هذه الأدعية والأذكار التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يقولها ويعلمها بألفاظ متنوعة ورويت بألفاظ متنوعة طريقة محدثة بأن جمع تلك الألفاظ واستحب ورأى ذلك أفضل ما يقال فيها مثال الحديث الذي في الصحيحين (1) عن أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- أنّه سأل رسول الله: علِّمني دعاء أدعو به في صلاتي قال: " اللهم إنّي ظلمت نفسي ظلماً كثيراً... " قد روي كثيراً وروي كبيراً فيقول هذا القائل يستحب أن يقول كثيراً كبيراً وكذلك إذا روي: " اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد " وروي " اللهم صلّ على محمد وعلى أزواجه وذريته " وأمثال ذلك. وهذه طريقة محدثة لم يسبق إليها أحد من الأئمة المعروفين وطرد هذه الطريقة أن يذكر التشهد بجميع هذه الألفاظ المأثورة وأن يقال الاستفتاح بجميع الألفاظ المأثورة. وهذا مع أنّه مخالف لعمل المسلمين لم يستحبه أحد من أئمتهم، بل عملوا بخلافه فهو بدعة في الشريعة، فاسد في العقل، ثم قال: إذ قال هذا تارة على آل محمد وتارة على أزواجه وذريته كان حسناً... "(2).
__________
(1) الحديث في صحيح البخاري، كتاب صفة الصلاة، باب الدعاء قبل السلام (1/151)، وفي صحيح مسلم، في كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب أستحباب خفض الصوت بالذكر (4/2078).
(2) مجموع الفتاوي (1/161-162).(26/127)
وتبعه في ذلك تلميذه ابن قيم الجوزية -رحمه الله- حيث يقول: " إنّ هذه الطريقة -أي طريقة التلفيق بين جمع صيغ الصلاة طريقة محدثة لم يسبق إليها أحد من الأئمة المعروفين وأنّ صاحبها إن طردها لزمه أن يستحب للمصلي أن يستفتح بجميع الاستفتاحات وأن يستشهد بجميع التشهدات وأن يقول في ركوعه وسجوده جميع الأذكار الواردة فيه. وهذا باطل فإنه خلاف عمل الناس ولم يستحبه أحد من أهل العلم وهو بدعة وإن لم يطردها تناقض وفرق بين متماثلين "(1).
والرأي الأخير هو الأصح لأن هذه الصيغ تثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم بهذه الكيفية وأنه علّم أصحابه بهذه الكيفية، بعد ما سألوه عنها ولأن التلفيق يترتب عنه صيغة مصطنعة مؤتلفة لم يقل بها الرسول صلى الله عليه وسلم وعلينا الاتباع لا الابتداع.
هذا ما يتعلق بصيغ الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم قولاً. وأما الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم كتابة فقد اصطلح المؤلفون على كتابة عبارة " صلى الله عليه وسلم " بعد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم.
ولذلك يكره أن يقتصر على الصلاة دون السلام أو السلام دون الصلاة كما أنه يكره أن يرمز إليهما بحرفين أو نحو ذلك مثل صعم أو "صلعم" أو "ص" أو "صلم" وما شابه ذلك.
يقول ابن كثير -رحمه الله تعالى- نقلاً عن ابن الصلاح: " وليحافظ على الثناء على الله عز وجل والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن تكرر فلا يسأم فإن فيه خيراً كثيراً. بحيث يكتب الصلاة والتسليم كاملة لا رمزاً ولا يقتصر على قوله "عليه السلام" يعني وليكتب "صلى الله عليه وسلم" واضحة كاملة(2).
__________
(1) جلاء الأفهام: (ص:190).
(2) انظر الباعث الحثيث في اختصار علوم الحديث للحافظ ابن كثير (ص:135-136).(26/128)
ومستند الجمع بين الصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم الأمر بهما معاً في قوله تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً)) [الأحزاب:56]. ومعنى السلام فقيل السلام الذي هو اسم من أسماء الله عليك وتأويله لا خلوت من الخيرات والبركات وسلمت من المكاره والآفات....
ويحتمل أن يكون بمعنى السلام أي ليكن قضاء الله عليك السلام وهو السلامة كالمقام والمقامة... أي يسلمك الله من الملام والنقائص...
ويحتمل أن يكون بمعنى المسالمة له والانقياد(1).
وأما حكم السلام عليه صلى الله عليه وسلم فتابع لحكم الصلاة عليه لأمر الوارد بهما معاً في الآية السابقة.
وأما صيغة السلام عليه فهي "السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته الواردة في التشهد" كما هو الظاهر(2).
وأما مواطنها المتفق عليها فهي في التشهد وعند زيارة قبره صلى الله عليه وسلم بأبي وأمي.
وأما ثوابها فتشترك الصلاة في كثير من ذلك.
مواطن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم: ذكر العلماء مواطن كثيرة للصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فمنهم من ذكر أربعين موطناً كابن قيم الجوزية -رحمه الله تعالى- في جلاء الأفهام (3)، وكذلك السخاوي في القول البديع (4) نحو عدد المواطن التي ذكرها ابن القيم. ومنهم من ذكر اثنين وثلاثين موطناً كصاحب بهجة المحافل(5).
ونذكر هنا أهم ما صح من هذه المواطن وخاصة المرفوع من ذلك.
__________
(1) القول البديع: (67-68).
(2) انظر المصدر السابق: (66).
(3) انظر (ص:193) وما بعدها.
(4) انظر (ص:170) وما بعدها.
(5) انظر بهجة المحافل. (2/416-417).(26/129)
الموطن الأول: في الصلوات عامة بعد التشهد لحديث فضالة بن عبيد صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً يدعو في صلاته لم يمجد الله ولم يصلّ على النبي صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " عجل هذا، ثم دعاه فقال له ولغيره: " إذا صلّى أحدكم فليبدأ بتمجيد اللّه والثناء عليه ثم يصلّي على النبي صلى الله عليه وسلم ثم يدعو بعد بما شاء "(1).
وهذا الحديث يدل في منطوقه على أنّ الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم مطلوبة في الصلاة.
الموطن الثاني: صلاة الجنازة بعد التكبيرة الثانية: لحديث الزهري قال: سمعت أبا أمامة بن سهل بن حنيف يحدث سعيد بن المسيب قال: "إن السنة في صلاة الجنازة أن يقرأ بفاتحة الكتاب، ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ثم يخلص الدعاء للميت متى يفرغ ولا يقرأ إلا مرّة واحدة ثم يسلم في نفسه "(2).
الموطن الثالث: عقب إجابة المؤذن: لحديث عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- أنّه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: " إذا سمع المؤذن فقولوا مثل ما يقول ثم صلّوا عليّ فإنّ من صلّى عليّ صلاة صلّى الله عليه بها عشراً ثم سلوا لي الوسيلة فإنَّها منزلة في الجنة، لا تنبغي إلاّ لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا هو فمن سأل لي الوسيلة حلت له شفاعتي"(3).
__________
(1) رواه الإمام أحمد في مسنده (6/18)، وحسنه الألباني، في تعليقاته على كتاب فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم انظر هامش (ص:86).
(2) أخرجه الحاكم في مستدركه (1/360) وقال: صحيح على شرط الشيخين ووافقه الذهبي.
(3) صحيح مسلم، كتاب الصلاة، باب استحباب القول مثل قول المؤذن لمن سمعه ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ثم يسأل الله له الوسيلة (1/288).(26/130)
وهذه الصلاة ينبغي أن يقولها القائل سرّاً لا جهراً خلافاً لما يفعله الناس وخاصة المؤذنون من الجهر بالآية(1) ثم الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم.
يقول الشيخ ناصر الدين الألباني: " ومن العجيب أن ترى بعض المتهاونين بهذه السنن أشد الناس تعصباً وتمسكاً ببدعة جهر المؤذن بالصلاة عليه صلى الله عليه وسلم عقب الأذان مع كونه بدعة اتفاقاً، فإن كانوا يفعلون ذلك حبّاً بالنبي صلى الله عليه وسلم فهلا اتبعوه في هذه السنة (2) وتركوا تلك البدعة "(3).
الموطن الرابع: طوال يوم الجمعة: لحديث أوس بن أوس -رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنّ من أفضل أيامكم يوم الجمعة فأكثروا عليّ من الصلاة فيه، فإنّ صلاتكم معروضة عليّ "، فقالوا: يا رسول الله وكيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت؟ قال: "يقول بليت؟ قال: إن الله حرّم على الأرض أجساد الأنبياء "(4).
الموطن الخامس: في كل مجلس: لحديث أبي هريرة -رضي الله عنه- موقوفاً عليه قال: " ما جلس قوم مجلساً ثم تفرقوا قبل أن يذكروا الله ويصلوا عليه فيه إلاّ كان عليهم حسرة يوم القيامة "(5).
__________
(1) وهي قوله تعالى: ((إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً)) [الأحزاب:56].
(2) وهي أن يقولوا مثل ما يقول المؤذن ثم يصلّوا على النبي صلى الله عليه وسلم سراً.
(3) انظر فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم للقاضي إسماعيل بن إسحاق الجهضمي هامش (ص:50).
(4) الحاكم في مستدركه (1/278) وصححه ووافقه الذهبي.
(5) رواه الحاكم في مستدركه (1/492).(26/131)
الموطن السادس: كلما ذكر اسمه صلى الله عليه وسلم: لقوله صلى الله عليه وسلم: " البخيل من ذكرت عنده فلم يصلّ عليّ.. "(1). ثواب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم: ذكر العلماء ثواباً كثيراً للصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، فمنهم من ذكر ما يقارب أربعين ثواباً كابن القيم -رحمه الله- في جلاء الأفهام (2)، والسخاوي في القول البديع(3).
وهذا الثواب المذكور منه ما يستند إلى دليل صحيح، ومنه ما يستند إلى أدلةٍ ضعيفة، كما أنّ بعضاً منه يدخل في بعض الآخر.
وأذكر هنا أهم ما ذكره العلماء:
أولها: كتابة عشر حسنات لمن صلّى عليه صلى الله عليه وسلم صلاة واحدة لحديث عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنه- أنّه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "... من صلّى عليّ صلاة صلّى الله عليه بها عشراً "(4).
ولحديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من صلّى عليَّ صلاة واحدة صلّى الله عليه عشراً "(5).
__________
(1) أخرجه الحاكم في مستدركه (1/549) وقال: صحيح الإسناد ووافقه الذهبي.
(2) انظر (ص:262) وما بعدها.
(3) انظر (ص:151) وما بعدها.
(4) صحيح مسلم، (1/288-289) وقد تقدم في (ص:209).
(5) رواه إسماعيل القاضي في فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم (ص:26)، وصحح الألباني إسناد هذا الحديث في تعليقاته على الكتاب المذكور. انظر هامش (ص:26).(26/132)
ثانيها: محو عشر سيئات عمن صلّى على النبي صلى الله عليه وسلم لحديث عبد الرحمن بن عمرو قال: " من صلّى على النبي صلى الله عليه وسلم كتب الله له عشر حسنات ومحا عنه عشر سيئات... "(1).
ثالثها: رفع عشر درجات لمن صلى عليه صلى الله عليه وسلم لحديث عبد الرحمن بن عمرو قال: " من صلّى على النبي صلى الله عليه وسلم كتب الله له عشر حسنات ومحا عنه عشر سيئات ورفع له عشر درجات "(2).
رابعها: مغفرة الذنب كله لمن صلّى على النبي صلى الله عليه وسلم لحديث أبي بن كعب -رضي الله عنه- قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج في ثلثي الليل فيقول: "جاءت الراجفة تتبعها الرادفة جاء الموت بما فيه " وقال أبيّ: يا رسول الله إنّي أصلّي من الليل أفأجعل لك ثلث صلاتي؟ (3) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الشطر قال: أفأجعل لك شطر صلاتي؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الثلثان أكثر، قال: أفأجعل لك صلاتي كلها؟ قال: أذن يغفر لك ذنبك كله "(4).
__________
(1) رواه إسماعيل القاضي في فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم (ص:38). وقال الألباني في تعليقاته على الكتاب المذكور إسناده ضعيف، لكن له شاهد مرفوع عن أنس، أخرجه النسائي وغيره بسند صحيح. انظر هامش (ص:28)، قلت: رواية أنس التي أشار إليها هي بلفظ: "من صلى عليَّ صلاة واحدة صلى الله عليه عشر صلوات، وحطت عنه عشر خطيئات، ورفعت له عشر درجات". سنن النسائي في كتاب السهو، باب الفضل في الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم (3/50).
(2) الحديث هو نفس الحديث الذي قبله.
(3) صلاتي هنا تعني دعائي.
(4) أخرجه إسماعيل القاضي في فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم (29-30) وقال الألباني: حديث جيد. انظر فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم هامش (ص:30).(26/133)
خامسها: القرب من رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم القيامة لحديث ابن مسعود - رضي الله عنه- قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: " أولى الناس بي يوم القيامة أكثرهم عليّ صلاة "(1).
سادسها: أن من صلّى عليه صلى الله عليه وسلم عند ذكره ينجو من أن يوصف بالبخل لحديث علي -رضي الله عنه- أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " البخيل من ذكرت عنده فلم يصلّ علىّ "(2).
سابعها: أنّه من صلى عليه لا يخطئ أبواب الجنة لحديث ابن عباس -رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من ينسى الصلاة عليَّ خطئ طريق الجنة"(3).
وهذان الحديثان الأخيران يدلان على الثواب بدليل المخالفة.
ثامنها: أنها سبب لشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم إذا قرنها بسؤال الوسيلة له.
لحديث عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: " إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول ثم صلّوا عليَّ فإن من صلّى عليَّ صلاة صلى الله عليه بها عشراً ثم سلوا لي الوسيلة فإنها مترلة في الجنة لا تنبغي إلاّ لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا هو فمن سأل لي الوسيلة حلّت له شفاعتي"(4).
الفصل الثالث
الأدب العملي
__________
(1) رواه الترمذي في سننه، أبواب التطوع، باب ما جاء في فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم (2/302)، وقال: هذا حديث حسن غريب.
(2) أخرجه الحاكم في مستدركه (1/549) وقال: صحيح الإسناد ووافقه الذهبي.
(3) رواه ابن ماجة في كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها، باب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم (1/294)، وقال الألباني والحديث يرتقي إلى درجة الحسن على أقل الدرجات. انظر فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم هامش (45).
(4) صحيح مسلم (1/288-289) وقد تقدم في (ص:209)، وفي (ص:211) أيضاً.(26/134)
في بداية هذا الباب قسمت الأدب إلى ثلاثة أنواع وذكرت في الفصلين السابقين نوعين منها وهما الأدب القلبي والأدب القولي، وفي هذا الفصل سوف أتحدث عن النوع الثالث والأخير وهو الأدب الفعلي والعملي، ونقصد بالأدب العملي الأدب الذي يتعلق بالجوارح، ويكون عملياً محسوساً. وبذا يتكون هذا الفصل من مبحثين:
المبحث الأول: الطاعة والاتباع.
المبحث الثاني: مجالسته صلى الله عليه وسلم.
المبحث الأول: الطاعة والاتباع:
وردت طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم في القرآن الكريم مرّات كثيرة بصيغ مختلفة، حيث جاءت أمراً بطاعته ونهياً عن مخالفته، وإخباراً بأن طاعته صلى الله عليه وسلم يترتب عليها ثواباً عظيم في الدنيا والآخرة.
والصيغ التي تدل على أنّ طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم واجبة على الأمة هي صيغتا الأمر بطاعته والنهي عن مخالفته أو ما يجري مجراهما من تحذير عن مخالفته أو توعد بعقاب لمن يخالف.
وأمّا الصيغة الأولى وهي الأمر بطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم فقد وردت في القرآن الكريم مقترنة بطاعة الله مع تكرير الفعل "أطيعوا" مرة مع الله، ومرة مع الرسول صلى الله عليه وسلم.
يقول تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ)) [النساء:59].
ومرة بعدم تكرير الفعل مثل قوله تعالى: ((يَسْأَلُونَكَ عَنْ الأَنْفَالِ قُلْ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ)) [الأنفال:1].(26/135)
ولكل من التعبيرين مدلول خاص كما ذكر المفسرون قائلين: إذا كان الفعل أطيعوا متكرراً يفيد على أن للرسول صلى الله عليه وسلم نوع استقلال من الطاعة مثل قوله تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ)) [النساء:59].
يقول الألوسي -رحمه الله- في تفسيره هذه الآية: "وأعاد الفعل وإن كانت طاعة الرسول مقترنة بطاعة الله تعالى اعتناء بشأنه -عليه الصلاة والسلام- وقطعاً لتوهم أنه لا يحب امتثال ما ليس في القرآن وإيذاناً بأن له صلى الله عليه وسلم استقلالاً بالطاعة لم يثبت لغيره من البشر ومن ثم لم يعد في قوله سبحانه: ((وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ)) [النساء:59] ايذاناً بأنهم لا استقلال لهم فيها استقلال الرسول صلى الله عليه وسلم(1).
وقد حذّر الرسول صلى الله عليه وسلم عن هذا المفهوم الخاطىء وهو الاكتفاء بما جاء في القرآن دون الرجوع إلى السنة المبينة للقرآن الكريم بقوله -صلى الله عليه وسلم-.
" لا ألفين أحداً متكئاً على أريكته يأتيه الأمر من أمري مما أمرت به أو نهيت عنه، فيقول: لا أدري، ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه "(2).
وفي رواية المقدام زيادة: " ألا وإن ما حرّم رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل ما حرم الله "(3).
__________
(1) روح المعاني: (5/65).
(2) أخرجه الحاكم في مستدركه (1/108) وقال: "هو صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه" ووافقه الذهبي.
(3) أخرجه الحاكم في مستدركه (1/109) وصححه.(26/136)
وأمّا إذا كانت الفعل غير متكرر مثل قوله تعالى: ((يَسْأَلُونَكَ عَنْ الأَنْفَالِ قُلْ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ)) [الأنفال:1]. فيفيد أن طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم هي طاعة الله تعالى.
يقول الألوسي -رحمه الله- في تفسيره هذه الآية: " وذكر الرسول صلى الله عليه وسلم مع الله -تعالى- أولاً وآخراً لتعظيم شأنه وإظهار شرفه والإيذان بأن طاعته عليه الصلاة والسلام -طاعة الله تعالى، وقال غير واحد أنّ الجمع بين الله -تعالى- ورسوله صلى الله عليه وسلم أولاً لأن اختصاص الله تعالى بالأمر والرسول صلى الله عليه وسلم بالامتثال "(1).
ومما يدل على هذا المعنى قوله تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ)) [الأنفال:20]. حيث أفرد الضمير وأعيد إلى الرسول صلى الله عليه وسلم دون الله -عز وجل- بعد الأمر بطاعتهما معاً لأنّ الضمير يرجع إلى أقرب المذكور كما هو معروف في علم النحو للإشارة إلى أنه صلى الله عليه وسلم هو الوسيلة بين الله وبين خلقه في تبليغ مراد الله تعالى وبيانه، وأنّ طاعته صلى الله عليه وسلم طاعة لله على غرار قوله تعالى: ((مَنْ يُطِعْ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ)) [النساء:80].
يقول الألوسي -رحمه الله-: " وأعيد الضمير إليه -عليه الصلاة والسلام- لأنّ المقصود طاعته صلى الله عليه وسلم وذكر طاعة الله توطئة لطاعته وهي مستلزمة لطاعة الله -تعالى- لأنّه مبلغ عنه فكان الراجع إليه كالراجع إلى الله تعالى "(2).
__________
(1) روح المعاني: (9/164).
(2) روح المعاني: (9/188).(26/137)
ومن هذه النماذج التي ذكرناها سابقاً في موضوع طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم يتبين لنا أنّ طاعته صلى الله عليه وسلم واجبة على كل مسلم في كل أمر من الأمور سواء كان ذلك الأمر ثبت بالقرآن أو بالسنة لأنّ طاعته طاعة الله تعالى كما يدل عليه قوله تعالى: ((مَنْ يُطِعْ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ)) [النساء:80] ولأنه صلى الله عليه وسلم لا يتكلم عن الهوى وإنما عن وحي من الله -سبحانه وتعالى- ((وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى)) [النجم:3-4].
ويدخل في مفهوم طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم اتباعه لأنّ مدلول الاتباع والطاعة يكادْ يكون واحداً حيث أنها من المترادفات وشأن المترادفات أن يكون معناها واحداً مع وجود فروق طفيفة مثل كلمتي قعد وجلس حيث أن الأولى من الاضطجاع والثانية من القيام مع أنّ مدلولهما واحد.
وهكذا شأن كل المترادفات، وأما كلمتي الاتباع والطاعة، فقد ذكر أبو هلال العسكري -عند كلامه عن الفرق بين العبادة والطاعة- أنّ مدلول الاتباع والطاعة واحد فقال: "والطاعة الفعل الواقع على حسب ما أراده المريد متى كان المريد أعلى رتبة ممن يفعل ذلك وتكون للخالق والمخلوق والعبادة لا تكون إلا للخالق، والطاعة في مجاز اللّغة تكون اتباع المدعو والداعي إلى ما دعاه إليه وإن لم يقصد التبع كالإنسان يكون مطيعاً للشيطان وإن لم يقصد أن يطيعه ولكنّه اتبع دعاءه وإرادته "(1).
__________
(1) الفروق في اللغة (ص:215).(26/138)
وكلام أبي هلال العسكري يفيد أن الاتباع والطاعة يؤديان معنى واحداً تجوزاً كما أنّهما يكونان عن قصد وعن غير قصد، وحديثي هنا يدور حول الاتباع والطاعة التي يكون عن قصد وإرادة من صاحبها مع نيّة صالحة لأنّ المنافق هو الذي يظهر اتباع الرسول ويبطن مخالفته، وعلى هذا نفى الله سبحانه وتعالى عنهم سمة الإيمان في قوله تعالى: ((وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ)) [النور:47].
ومع أن الاتباع والطاعة معناهما واحد كما ذكرنا إلاّ أننا نذكر هنا النصوص التي وردت بصيغة الاتباع أو ما يجري مجراها.
وقد وردت نصوص كثيرة من القرآن والسنة التي تأمرنا تارة باتباع الرسول صلى الله عليه وسلم وتارة باتباع طريقة الله التي هي طريقته وتارة باتباع القرآن.
من الآيات التي تدل على وجوب اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم قوله تعالى: ((قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ)) [آل عمران:31].
وقوله تعالى: ((فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ)) [الأعراف:158].
وأمّا ما يدل على وجوب اتباع طريقة الله التي هي طريقته فمنه قوله تعالى: ((وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)) [الأنعام:153].(26/139)
وقد ورد في السنة ما يبين معنى هذه الآية وهي ما أخرجه الحاكم في مستدركه عن عبد الله -هو ابن مسعود-(1) قال: خط رسول الله صلى الله عليه وسلم خطاً بيده ثم قال: هذا سبيل الله مستقيماً وخط عن يمينه وشماله خطوطاً ثم قال: " هذه السبل ليس منها سبيل إلا عليه شيطان يدعوا إليه ثم قرأ: ((وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ)) [الأنعام:153].
وأمّا ما يدل على وجوب اتباع القرآن فمنه قوله تعالى: ((وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ)) [الأنعام:155] (2).
يقول ابن كثير -رحمه الله- في تفسير هذه الآية: " فيه الدعوة إلى اتباع القرآن يرغب سبحانه عباده في كتابه ويأمرهم بتدبره والعمل به والدعوة إليه ووصفه بالبركة لمن اتبعه وعمل به في الدنيا والآخرة "(3).
ومجموع هذه النصوص من القرآن والسنة التي أوردناها في موضوع الاتباع كلما تفيد على وجوب اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم سواء كانت تتعلق باتباع سبيل الله أو اتباع القرآن لأن اتباع سبيل الله اتباع سبيله صلى الله عليه وسلم لأنه هو الداعي إلى ذلك.
قال تعالى: ((قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنْ اتَّبَعَنِي)) [يوسف:108].
وكذلك فاتباع القرآن هو اتباعه صلى الله عليه وسلم لأنّه هو المبلغ عن الله سبحانه وتعالى.
قال تعالى: ((يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ)) [المائدة:67].
__________
(1) كما صرح ابن كثير عند تفسير هذه الآية. انظر تفسيره (2/190).
(2) مستدرك الحاكم (2/139)، وقال: صحيح الإسناد ووافقه الذهبي.
(3) ابن كثير: (2/192).(26/140)
هذا ما يتعلق بموضوع وجوب طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم واتباعه الواردة بصيغة الأمر، وأمّا الآن فسوف نتحدث عن وجوب الانتهاء عن مخالفته صلى الله عليه وسلم وهي طريقة أخرى لوجوب اتباعه لأن الأمر بالشيء نهي عن ضده وكذلك العكس.
وقد ورد في هذا المعنى آيات كثيرة: منها قوله تعالى: ((فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)) [النور:63].
ومنها قوله تعالى: ((وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً)) [الأحزاب:36].
ومنها قوله تعالى: ((وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا)) [الحشر:7].
ومجموع هذه الآيات التي أوردناها تدل على حرمة مخالفة الرسول صلى الله عليه وسلم.
ومن هذا المعنى أي مخالفة أمره التقدم بين يديه صلى الله عليه وسلم لقوله تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)) [الحجرات:1].
وقد ذكر المفسرون عدة أسباب لنزول هذه الآية التي تبين المعاني المختلفة للتقدم بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم أو الأوجه التي يحصل بها التقدم بين يديه صلى الله عليه وسلم.
منها كما ذكر ابن العربي: أنّ قوماً كانوا يقولون: لو أنزل في كذا وكذا فأنزل الله هذه الآية.
ومنها -نهوا أن يتكلموا بين يدي كلامه.
ومنها - لا تفتاتوا على الله ورسوله في أمر حتى يقضي الله على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم.
ومنها - أنها نزلت في قوم ذبحوا قبل أن يصلي النبي صلى الله عليه وسلم فأمرهم أن يعيدوا الذبح.(26/141)
ومنها - لا تقدموا أعمال الطاعة على وقتها(1).
قال القاضي: " هذه الأقوال كلها صحيحة تدخل تحت العموم فالله أعلم بما كان السبب المثير للآية ولعلها نزلت دون سبب "(2).
وقال أيضاً: "هذه الآية أصل في ترك التعرض لأقوال النبي صلى الله عليه وسلم وإيجاب اتباعه والاقتداء به "(3).
نعم، هذه الوجوه المذكورة في أسباب نزول الآية محتملة وكلها تفسر الآية من زاوية معينة، كما أنّها تحتمل وجوهاً أخرى لم يذكرها ومجمل معناها هو وجوب الانتهاء عن التقدم بين يدي الله ورسوله في كل أمر من الأمور حتى يقضي الله على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم في حال حياته، وأمّا بعد مماته فمعناها وجوب الانتهاء عن التقدم بين يدي كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم في كل أمر من الأمور الدنيوية والأخروية.
يقول ابن القيم -رحمه الله-: " ومن الأدب مع الرسول صلى الله عليه وسلم أن لا يتقدم بين يديه بأمر ولا نهي، ولا إذن ولا تصرف حتى يأمره وينهي ويأذن كما قال تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ)) [الحجرات:1].
وهذا باق إلى يوم القيامة لم ينسخ، فالتقدم بين يدي سنته بعد وفاته كالتقدم بين يديه في حياته ولا فرق بينهما عند كل ذي عقل سليم "(4).
__________
(1) أحكام القرآن (4/1700) مع التصرف.
(2) المصدر السابق (4/1701).
(3) المصدر السابق (4/1701-1702).
(4) مدارج السالكين: (2/389).(26/142)
وممّا يدخل في هذا المعنى أي التِقدم بين يدي رسوله صلى الله عليه وسلم تقديم القوانين الوضعية على الشريعة الإسلامية في هذا العصر حتى لو لم يصرّح واضعو هذه القوانين أو الذين استوردوها أنها أفضل من الشريعة الإسلامية أو لا، لأن مجرد إقصاء الشريعة الإسلامية عن الحياة البشرية ووضع القوانين الوضعية مكانها وإجبار الناس على التحاكم إليها والتوعد لمن يخالفها بالعقاب الشديد وإن خالفت الشريعة الإسلامية مخالفة صريحة كما هو مشاهد في واقعنا اليوم، وكذلك إذا وافقت الشريعة الإسلامية لاختلاف مصدر تلقيهما لأن هذه مصدرها هو الله -سبحانه وتعالى- وبواسطة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتلك مصدرها الطاغوت وهوى النفس الأمارة بالسوء وإن زعم أصحابها أنهم يؤمنون بالله ورسوله مئات المرات.
وكيف يكون لهم إيمان بعد قوله تعالى: ((فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً)) [النساء:65].
وقوله تعالى: ((وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ)) [المائدة:44].
يقول الشنقيطي في تفسيره الآية التي نحن بصددها: "وهذه الآية الكريمة فيها التصريح بالنهي عن التقدم بين يدي الله ورسوله ويدخل دخولاً أولياً تشريع ما لم يأذن به الله وتحريم ما لم يحرمه وتحليل ما لم يحلله لأنه لا حرام إلاّ ما حرمه الله ولا حلال إلا ما حلله الله ولا شرع إلا ما شرعه الله "(1).
ويقول الإمام ابن كثير -رحمه الله- عند تفسير قوله تعالى: ((أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنْ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ)) [المائدة:50].
__________
(1) أضواء البيان (7/614).(26/143)
" ينكر تعالى على من خرج عن حكم الله المحكم المشتمل على كل خير الناهي عن كل شر وعدل إلى ما سواه من الآراء والأهداف والاصطلاحات التي وضعها الرجال بلا مستند من شريعة الله كما كان أهل الجاهلية يحكمون به من الضلالات والجهالات مما يصنعونها بآَرائهم وأهوائهم وكما يحكم به التتار من السياسات الملكية المأخوذة عن ملكهم "جنكز خان" الذي وضع لهم "الياسق" وهو عبارة عن كتاب مجموع من أحكام قد اقتبسها من شرائع شتى من اليهودية والنصرانية والملة الإسلامية وغيرها، وفيها كثير من الأحكام أخذها من مجرد نظره وهواه فصارت في بيئته شرعاً متبعاً يقدمونها على الحكم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فمن فعل ذلك فهو كافر يجب قتاله حتى يرجع إلى حكم الله ورسوله فلا يحكم في سواه في قليل ولا كثير "(1).
ثواب الاتباع والطاعة: طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم واتباعه يترتب عليها ثواب كثير في الدنيا والآخرة.
وقد ورد في القرآن الكريم ما يدل على ذلك نذكر طرفاً منها.
من ذلك أن الله -سبحانه وتعالى- جعل طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم طاعة له ((مَنْ يُطِعْ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ)) [النساء:80].
كما أنه -سبحانه وتعالى- جعل طاعته شرطاً للهداية: ((وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا)) [النور:54].
وجعل طاعة الرسول أيضاً شرطاً لدخول الجنة.
((وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ)) [النساء:13].
كما أنها تؤدي إلى مرافقة النبيين والصديقين والشهداء والصالحين في الجنة.
يقول تعالى: ((وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقاً)) [النساء:69]. كما أنه يترتب عليها الفوز العظيم في الدارين.
__________
(1) تفسير القرآن العظيم: (2/67).(26/144)
يقول تعالى: ((وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً)) [الأحزاب:71].
ويقول الله تعالى أيضاً: ((وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَائِزُونَ)) [النور:52] كما أنها تكون سبباً لرحمة الله لقوله تعالى: ((وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمْ اللَّهُ)) [التوبة:71].
سلوك السلف في الاتباع: تعد الجماعة الأولى التي تلقت الدين وأخذته من رسول الله مباشرة خير من قام بما شرع لها من طاعة واتباع لرسول الله صلى الله عليه وسلم لقوله صلى الله عليه وسلم: " خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم)(1).
وإنّي هنا أحاول إبراز بعض الصور التطبيقية للطاعة والاتباع لتكون أمثلة توضح ما شرع للمسلمين في هذا الجانب الهام. وسأجعل هذه الأمثلة مرتبة على النحو التالي:
أولاً: سلوكهم في الاتباع وهم جماعة: أخرج البخاري في صحيحه عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب: " لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة "، فأدرك بعضهم العصر في الطريق فقال: لا نصلي حتى نأتيها، وقال بعضهم: بل نصلي، لم يرد منّا ذلك، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فلم يعنف واحداً منهم "(2).
وهذا الحديث يدل دلالة واضحة على مدى إسراع الصحابة -رضوان الله عليهم- في تنفيذ أمره صلى الله عليه وسلم باذلين في ذلك أقصى الجهد.
__________
(1) صحيح مسلم، كتاب فضائل الصحابة، باب فضل الصحابة ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم (4/1963).
(2) صحيح البخاري، كتاب المغازي، باب مرجع النبي صلى الله عليه وسلم من الأحزاب ومخرجه إلى بني قريظة ومحاصرته إياهم (3/34).(26/145)
ومنها ما أخرجه البخاري في صحيحه عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: اتخذ النبي صلى الله عليه وسلم خاتماً من ذهب فاتخذ الناس خواتيم من ذهب فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إني اتخذت خاتماً من ذهب فنبذه وقال: إنّي لن ألبسه أبداً، فنبذ الناس خواتيمهم "(1).
وهذا الحديث أيضاً يدل دلالة واضحة على مدى إسراع الصحابة - رضوان الله عنهم- في اتباع فعل الرسول صلى الله عليه وسلم حتى ولو لم يأمرهم بفعل ذلك الفعل وبدون أن يسألوا العلة في ذلك أو أنّ ذلك خاص به صلى الله عليه وسلم أو يعم الأمة جميعاً.
ومن ذلك ما أخرجه الإمام مسلم في صحيحه عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: " بينما الناس في صلاة الصبح بقباء اذ جاءهم آت فقال: إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أنزل عليه الليلة وقد أمر أن يستقبل الكعبة
فاستقبلوها وكانت وجوههم إلى الشام فاستداروا إلى الكعبة "(2).
وفي هذا الحديث يدل دلالة واضحة على مدى استجابة الصحابة لأوامر الله على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أثناء الصلاة دون تردد أو إبطاء وبدون استفسار أو تأخير.
__________
(1) صحيح البخاري، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب الاقتداء بأفعال النبي صلى الله عليه وسلم (4/260).
(2) البخاري في كتاب التراويح، باب فضل من قام رمضان (1/343).(26/146)
ومن ذلك ما أخرجه الإمام البخاري في صحيحه عن عائشة -رضي الله عنها أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج ليلة من جوف الليل فصلى في المسجد وصلى رجال بصلاته فأصبح الناس فتحدثوا، فاجتمع أكثر منهم فصلى فصلوا معه، فأصبح الناس فتحدثوا فكثر أهل المسجد من الليلة الثالثة، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى فصلوا بصلاته، فلمّا كانت الليلة الرابعة عجز المسجد عن أهله حتى خرج لصلاة الصبح فلمّا قضى الفجر أقبل على الناس ثم قال: " أمّا بعد فإنّه لم يخف عليّ مكانكم ولكنّي خشيت أن تفرض عليكم فتعجزوا عنها، فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم والأمر على ذلك "(1).
وهذا الحديث أيضاً يدل على أنّ الصحابة -رضوان الله عنهم- كانوا يحرصون على الاقتداء بالمصطفى صلى الله عليه وسلم في كل فعل من أفعاله إذا لم يكن هناك خصوصية حتى ولو لم يأمرهم بذلك الفعل.
وهذه النصوص التي ذكرناها نموذج لاستجابة الصحابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم والاقتداء بفعله وتنفيذ أمره جماعة، ولكن هناك نصوص أخرى كثيرة تدل على ذلك يصعب حصرها في هذا المقام.
ثانياً: ما يفيد أيضاً سلوك السلف في اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم فرادى: من ذلك ما أخرجه البخاري في صحيحه عن عمر -رضي الله عنه- " أنه جاء إلى الحجر الأسود فقبله فقال: إنّي أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع ولولا أني رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك "(2).
وهذا الحديث يدل دلالة واضحة أنّ أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه- صرح بأنّ تقبيله للحجر الأسود هو مجرد التأسّي بالنبي صلى الله عليه وسلم مع إيمانه ويقينه أنّه لا يضر ولا ينفع لذاته.
__________
(1) صحيح مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب تحويل القبلة من القدس إلى الكعبة (1/375).
(2) صحيح البخاري في كتاب الحج، باب ما ذكر في الحجر الأسود (1/278).(26/147)
ومن ذلك ما أخرجه البخاري أيضاً في صحيحه عن مروان بن الحكم قال: " شهدت عثمان وعلياً -رضي الله عنهما- وعثمان ينهى عن المتعة (1) وأن يجمع بينهما فلمّا رأى علي أهل بهما لبيك بعمرة وحجة قال: ما كنت لأدع سنة النبى صلى الله عليه وسلم لقول أحد "(2).
وهذا يدل على أنّ الصحابة -رضي الله عنهم- يقدمون سنة النبي صلى الله عليه وسلم على أي قول صدر من غيره مهما كانت رتبته كما فعل علي -رضى الله عنه- مع عثمان بن عفان -رضي الله عنه- في هذا الأمر الذي اختلفت وجهة نظرهما لأنّ عثمان بن عفان -رضي الله عنه- وإن كان أميراً للمؤمنين آنذاك إلا أن اتباع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فوق كل شيء.
ومن ذلك أيضاً ما أخرجه الإمام مسلم في صحيحه عن وبرة قال: كنت جالساً عند ابن عمر فجاءه رجل فقال: أيصلح لي أن أطوف بالبيت قبل أن آتي الموقف؟ فقال: نعم. فقال: فإن ابن عباس يقول: لا تطف بالبيت حتى تأتي الموقف فقال ابن عمر: فقد حج رسول الله صلى الله عليه وسلم فطاف بالبيت
قبل أن يأتي الموقف (3)، فبقول رسول الله صلى الله عليه وسلم أحق أن نأخذ أم بقول ابن عباس أن كنت صادقاً(4).
__________
(1) يعني التمتع في الحج وهو نوع من أنواع الحج الثلاثة المعروفة.
(2) صحيح البخاري في كتاب الحج في باب التمتع والإقران والإفراد بالحج وفسخ الحج لمن لم يكن معه هدي (1/272-273).
(3) يعني عرفة.
(4) صحيح مسلم في كتاب الحج، باب ما يلزم من أحرم بالحج ثم قدم مكة، من الطواف والسعي (2/905).(26/148)
وهذه أيضاً حادثة أخرى اختلفت فيها وجهة نظر الصحابة -رضي الله عنهم- ومضمونها يؤكد حرص صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم على اتباع سنة الرسول صلى الله عليه وسلم إذا ثبتت وترك قول أي أحد من الناس مهما كانت رتبته إذا كان ذلك القول يخالف سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولهذا أنكر ابن عمر -رضي الله عنهما- على السائل حينما ذكر فتوى ابن عباس -رضي الله عنه- بعد إخباره ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك المقام، ورحم الله الإمام مالك حينما قال: " ما من قول أحد إلا ويؤخذ قوله ويترك إلا صاحب ذلك القبر -يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذه القاعدة هي الفيصل في هذا الموضوع.
وأما المراجعات التي وقعت بينه صلى الله عليه وسلم وبين الصحابة -رضوان الله عليهم- في بعض الأمور أثناء حياته فلا يعتبر قدحاً في اتباعهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم لأنّ هذه المراجعات كانت مجرد استفسار لبعض الأمور التي لم يتضح لهم الغرض منها أو التبست عليهم أو لم يستسيغوها في أول الأمر ظنّاً منهم أنّهم لا يقدرون على تحملها غيرة للرسول صلى الله عليه وسلم وللإسلام لا للاستهزاء أو الانتقاص من توقير الرسول صلى الله عليه وسلم بخلاف ما كان يفعله المنافقون لعنهم الله -تجاه رسول الله صلى الله عليه وسلم استهزاء به وبرسالته والانتقاص من توقيره صلى الله عليه وسلم متسترين تحت ما أظهروا من الإسلام.
وقد قسّم شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- هذه المراجعات للرسول صلى الله عليه وسلم ثلاثة أقسام حيث قال:
"وبالجملة فالكلمات في هذا الباب ثلاثة أقسام: أحداهن: ماهو كفر - مثل قوله: إنَّ هذه القسمة ما أريد بها وجه الله.(26/149)
الثاني: ما هو ذنب ومعصية يخاف على صاحبه أن يحبط عمله، مثل رفع الصوت فوق صوته، ومثل مراجعة من راجعه عام الحديبية بعد ثباته على الصلح (1)، ومجادلة من جادله يوم بدر بعد ما تبيّن له الحق (2)، وهذا كله يدخل في المخالفة عن أمره.
الثالث: ما ليس من ذلك بل يحمد عليه صاحبه أو لا يحمد كقول عمر: ما بالنا نقصر الصلاة وقد آمنا (3)؟ وكقول عائشة: ألم يقل الله: ((وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا)) [مريم:71]، وكمراجعة الحباب في منزل بدر(4).
__________
(1) مثل قصة عمر مع النبي صلى الله عليه وسلم في صلح الحديبية وفيها: جاء عمر فقال: ألسنا على الحق وهم على باطل؟ أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار؟ فقال: (بلى) قال: ففيم نعطي الدنية في ديننا، ونرجع ولما يحكم الله بيننا؟ فقال: (يا ابن الخطاب إني رسول الله ولن يضيعني الله أبداً)، فرجع متغيظاً فلم يصبر حتى جاء أبا بكر فقال: يا أبا بكر ألسنا على الحق وهم على الباطل؟ قال: يا ابن الخطاب، إنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولن يضيعه الله أبداً ". انظر صحيح البخاري، كتاب التفسير، باب: (إذ يبايعوك تحت الشجرة) (3/190).
(2) يشير إلى قوله تعالى: (يجادلونك في الحق بعدما تبين.). سورة الأنفال: آية (6).
(3) احتجاجاً بقوله تعالى: (فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم.) سورة النساء، آية 101. وأجاب صلى الله عليه وسلم عن ذلك: (صدقة تصدق الله بها عليكم) انظر صحيح مسلم، كتاب صلاة المسافر ين، باب صلاة المسافرين وقصرها (1/478).
(4) حيث أشار إلى النبى صلى الله عليه وسلم أن يغير المكان الذي نزل فيه أولاً إلى مكان آخر أحسن بالنسبة للأهمية الحربية ووافقه على ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم كما في كتب السيرة. انظر السيرة النبوية لابن كثير (2/402).(26/150)
ونحو ذلك ممّا فيه سؤال عن إشكال ليتبين لهم، أو عرض لمصلحة قد يفعلها الرسول صلى الله عليه وسلم"(1).
المقالة الأولى: من هذه الأقسام لم تصدر عن الصحابة -رضوان الله عليهم- وإنّما صدرت عن بعض المنافقين الذين كانوا مع الصحابة ظاهراً لا باطناً لأنّ هذه المقالة هي عين ما حكاه الله -سبحانه وتعالى- عنهم في كتابه كقوله تعالى: ((وَمِنْهُم مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ)) [التوبة:58].
وأما المقالة الثانية: فقد صدرت من بعض الصحابة -رضوان الله عليهم- عن غفلة أو اجتهاد أو عن عجلة إلا أنهم لم يصرّوا على خطأهم وإنما تنازلوا عن رأيهم الذيي رأوه إلى أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم إيماناً منهم ويقينا أنّ ما ذهب إليه الرسول صلى الله عليه وسلم هو الصواب.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: " فهذه أمور صدرت عن شهوة وعجلة لا عن شك في الدين"(2).
وأما المقالة الأخيرة: فقد صدرت من الصحابة أيضاً -رضوان الله عليهم- ولكنّها لا تعتبر ذنباً ولا معصية أو مخالفة لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنّما الاستفسار عن دين الله -عز وجل- وطلب المزيد من التفقه إيماناً منهم بأنّ مهمة الرسول صلى الله عليه وسلم هي التبيين لقوله تعالى: ((وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ)) [النحل:44] كما أنّها صدرت منهم لأجل الإشارة لبعض الأمور إذا كان المقام يتطلب المشورة لأن الله تعالى يقول: ((وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ)) [آل عمران:159].
__________
(1) الصارم المسلول: (ص:119).
(2) الصارم المسلول: (ص:197).(26/151)
يقول ابن تيمية -رحمه الله تعالى-: " وكانت المراجعة المشهورة منهم لا تعدو إمّا لتكميل نظره صلى الله عليه وسلم في ذلك إن كان من الأمور السياسية التي للاجتهاد فيها مساغ، أو ليتبين لهم وجه ذلك إذا ذكر، ويزدادوا علماً وإيماناً، وينفتح لهم طريق التفقه فيه "(1).
المبحث الثاني: في مجالسته صلى الله عليه وسلم:
ذكرنا في المبحث الأول من هذا الفصل جانباً من جوانب الأدب العملي وهو طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم واتباعه. وأمّا في هذا المبحث فسوف نتناول جانباً آخر من جوانب الأدب العملي وهو الأدب المتعلق بمجالسة الرسول صلى الله عليه وسلم أو ما ينبغي للمسلم أن يفعل نحو مقام النبوة، أثناء حضوره عنده صلى الله عليه وسلم سواء كان ذلك في بيته أو في الأماكن العامة مع أنّ بعض هذه الآداب لا تتأتى إلا في حال حياته صلى الله عليه وسلم مع أصحابه -رضوان الله عليهم-.
وننظر مجالسة النبي صلى الله عليه وسلم من زاويتين:
الزاوية الأولى: في حال وجوده في بيته مع نسائه.
الزاوية الثانية: في حالة وجوده في الأماكن العامة.
__________
(1) الصارم المسلول: (ص:191).(26/152)
الزاوية الأولى: وهي حالة وجوده صلى الله عليه وسلم في بيته مع نسائه: في هذه الحالة ينبغي أو يجب على المسلم تجاه مقام النبوة عدم إزعاجه سواء في الحضور عنده بغير إذن أو الجلوس في بيته فترة من الزمن والانشغال بالحديث بعد انتهاء الغرض الذي من أجله أذن له لما يترتب عليه من إيذاء النبي صلى الله عليه وسلم في حين أنه لا يقدر أن ينبه على من تصدر عنه هذه الأفعال حياء منه كما تشير إليه الفقرة الأولى من آية الحجاب، وهي قوله تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِ مِنْكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِ مِنْ الْحَقِّ)) [الأحزاب:53].
من هذه الفقرة من الآية الكريمة يتبين لنا عدة أمور مرغوب عنها في المجتمع الإسلامي وخاصة في بيوت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي: دخول البيوت بغير إذن والتطفل أو الضيفن وانتظار نضج الطعام والمكث في البيوت بعد انتهاء الغرض الذي من أجله أذن لهم.
وهذه الأمور التي ذكرنا هي أمور ينبغي أن يطهر من المجتمع الإسلامي في ذلك الحين وإلى الأبد لأنها من الأمور المتبقية من العادات الجاهلية التي لا تتمشى مع روح الإسلام السامية.(26/153)
قال ابن عطية في تفسير هذه الآية: " وكانت سيرة القوم إذا كان لهم طعام وليمة أو نحوه أن يبكر من شاء إلى الدعوة ينتظرون طبخ الطعام ونضجه وكذلك إذا فرغوا منه جلسوا كذلك، فنهى الله المؤمنين عن ذلك في بيت النبي صلى الله عليه وسلم ودخل في النهي سائر المؤمنين والتزم الناس أدب الله لهم في ذلك فمنعهم من الدخول إلاّ بإذن عند الأكل لا قبله لانتظار الطعام"(1) وخلاصة القول: الآية تشير إلى أنّه يجب على المسلم أن لا يتطفل على النبي صلى الله عليه وسلم بحيث يحضر عند نضج الطعام فيشارك فيه لأنه ربما أعد الطعام لأناس معدودين وأنّ زيادة العدد قد تضر صاحب البيت وتحمله على تقديم شيء زائد ربما لا تكون في حوزته وأما إذا أذن للطعام فعلى المسلم أن لا يأتي قبل نضج الطعام بل في وقت مناسب لأن أهل البيت مشغولون بإعداد الطعام وقد يحمل الحضور قبل نضج الطعام على الإسراع في إعداد الطعام كما هو المألوف، وكذلك إذا حضر في الوقت المناسب فعليه أن يخرج من البيت بعد الطعام لا أن يمكث فترة للحديث والاستئناس مع غيره لأنَّ ذلك يؤدي إلى مضايقات لأهل البيت والاستماع إلى ما يجري في البيت من كلام أو إلى النظر إلى ما لا ينبغي أن ينظر قصداً أو بغير قصد ولا سيما إذا كان هناك منافقون.
وأمر واحد من هذه الأمور المذكورة ممّا يتأذى به صاحب كل بيت عادة فما بال إذا كانت مجتمعة مع أنّه لا يقدر أن يفصح بها حياء منه كما فعل الرسول صلى الله عليه وسلم مع الرهط الذين تخلفوا في البيت بعد الطعام عشية بناءه صلى الله عليه وسلم بزينب بنت جحش -رضي الله عنها- كما يظهر من بعض الروايات الواردة في سبب نزول هذه الآية.
__________
(1) تفسير القرطبي: (14/225).(26/154)
عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: أنا أعلم الناس بهذه الآية آية الحجاب لما أهديت زينب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت معه في البيت، صنع طعاماً دعا إليه القوم فقعدوا يتحدثون فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يخرج ثم يرجع وهم قعود يتحدثون، فأنزل الله تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِ مِنْكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِ مِنْ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ)) [الأحزاب:53]. فضرب الحجاب وقام القوم "(1).
وفي رواية أخرى: " وكان النبي صلى الله عليه وسلم شديد الحياء "(2).
ومن هنا نقول: إنّ الله -سبحانه وتعالى- قد أعطى اهتماماً كبيراً حال وجود النبي صلى الله عليه وسلم في بيته مع نسائه، أخذاً من هذه الآية وغيرها من الآيات الأخرى التي جاءت لمناسبات شتى.
من ذلك قوله تعالى: ((إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ * وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)) [الحجرات:4-5].
__________
(1) صحيح البخاري، كتاب التفسير: باب في قوله تعالى: (لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم إلى طعام) (3/176-177).
(2) صحيح البخاري، كتاب التفسير: باب في قوله تعالى: (لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم إلى طعام) (3/176-177).(26/155)
وقد فصلنا القول في ذلك عند الكلام عن مناداته صلى الله عليه وسلم في الفصل السابق الذي عقدنا للأدب القولي وإن كانت متصلة بالآداب المتعلقة ببيت النبي صلى الله عليه وسلم كما ورد بسبب نزولها إلا أننا تحدثنا هناك حسب ما يقتضي التقسيم المنهجي لأنها تتعلق بالآداب القولية وهنا الآداب العملية.
وعلى هذا فنكتفي بالإشارة إلى موضعها وإن كانت الآداب كلها مترابطة سواء كانت قلبية أو قولية أو عملية إلا أننا قسمناها إلى ذلك للتوضيح والدراسة.
وقبل أن أنتقل إلى الفقرة الأخيرة من الآية والتي تتعلق بعد وفاته صلى الله عليه وسلم لا بد من الإشارة إلى فقرة تتوسط بين الفقرة الأولى المتعلقة في حياته صلى الله عليه وسلم والفقرة الأخيرة التي تتعلق بعد وفاته وهي الفقرة التي تشير إلى وجوب سؤال أزواج النبي صلى الله عليه وسلم من وراء حجاب أخذاً من قوله تعالى: ((وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ)) [الأحزاب:53] لأن سؤالهن قد تكون في حياته صلى الله عليه وسلم وقد تكون بعد وفاته وإنَّ سؤالهن بعد وفاته أولى وخاصة فيما يتعلق بأمور الدين لأنّ جزءاً كبيرا من الأحكام الشرعية قد وصلنا عن طريقهن.
وهذا الحكم وإن كان يعم النسوة كلهن لأنّ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب إلا أن تخصيص الآية بنسائه صلى الله عليه وسلم له مزيته بحيث يتأكد هذا الحكم في جانبهن لارتباطهن بشخصية الرسول صلى الله عليه وسلم خير خلق الله الذي يتأذى بذلك الفعل كما يدل عليه قوله تعالى بعد هذه الجزئية: ((وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ)) [الأحزاب:53].(26/156)
وقد أشار القرآن الكريم إلى هذه المزية لنساء النبي صلى الله عليه وسلم في آية أخرى وهي قوله تعالى: ((يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنْ النِّسَاءِ إِنْ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً)) [الأحزاب:32].
ونأتي إلى الفقرة الأخيرة من آية الحجاب: بينما الفقرة الأولى من هذه الآية تتعلق ببيت النبي ونسائه وقت حياته صلى الله عليه وسلم هذه الفقرة الأخيرة أيضاً تتعلق ببيت النبي ونسائه ولكن بعد وفاته صلى الله عليه وسلم بحيث تنهي المؤمنين نهياً قاطعاً عن الزواج بإحدى زوجاته بعده على التأبيد كما يدل عليه قوله تعالى: ((وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً)) [الأحزاب:53].
وكيف يتزوج أحد من المسلمين إحدى زوجات النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن وصفهن الله تعالى بأمهات المؤمنين بقوله تعالى: ((النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ)) [الأحزاب:6].
يقول الدكتور حسن باجودة في تأملاته: "وبما أن حديث الآية الكريمة في الجزئية السابقة قد صرّح بأنه لا يصح للمؤمنين أن يؤذوا رسول الله صلى الله عليه وسلم حيّاً فإنّ الجزئية الكريمة التالية تصرّح بأنه لا يصح أن يؤذوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ميتاً عن طريق زواج إحدى زوجاته. فقد خص ربّ العزة المصطفى صلى الله عليه وسلم في حياته الزوجية بالعديد من الخصائص التي من بينها هذه الخصيصة وهي، أنّه لا يحل لأحد أن يتزوج إحدى زوجاته لأنهن أمهات المؤمنين كما صرحت بذلك هذه السورة. وكيف يتزوج المرء أمه. لأن منزلة الأمومة لهن -رضوان الله عليهن- أجمعين بالنسبة لرجال الأمة مستمرة إلى أن يلحقن كلهن بالرفيق الأعلى"(1).
__________
(1) تأملات في سورة الأحزاب (ص:460-461) مع التصرف.(26/157)
وقد عد المفسرون هذه الآية من الآيات التي تتحدث عن تعظيم رسول الله صلى الله عليه وسلم حياً وميتاً.
يقول الزمخشري في تفسير هذه الآية: " وسمي نكاحهن بعده عظيماً عنده وهو من أعلام تعظيم الله لرسوله - صلى الله عليه وسلم- وإيجاب حرمته حيّاً وميتاً، وإعلامه بذلك مما طيب نفسه وسر قلبه واستغزر شكره فإن نحو هذا مما يحدث الرجل به نفسه ولا يخلى منه فكره ومن الناس من تفرط غيرته على حرمته حتى يتمنى لها الموت لئلا تنكح من بعده "(1).
وهذه الآداب التي ذكرناها في هذه الزاوية المتعلقة ببيت النبي صلى الله عليه وسلم وإن كانت وردت في حقه صلى الله عليه وسلم وقت حياته -يلتزم المسلمون فيما بينهم أثناء حياته صلى الله عليه وسلم وبعد مماته لأنّ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب إلا ما خص به صلى الله عليه وسلم من عدم الاقتران بإحدى زوجاته بعد وفاته صلى الله عليه وسلم مع أن هذا الحكم لا يمكن تطبيقه بعد لحوقهن بالرفيق الأعلى، وأما وقت حياتهن فكان ملتزماً به من قبل الموجودين وقتئذ.
__________
(1) تفسير الكشاف: (3/272).(26/158)
الزاوية الثانية: في حالة وجوده في الأماكن العامة: كانت الزاوية السابقة تتعلق بحالة وجوده صلى الله عليه وسلم مع نسائه في بيته وما ينبغي المسلم أن يتجنب عنه من إيذائه صلى الله عليه وسلم من دخول بيته بغير إذن أو عدم الانصراف بعد انتهاء الغرض الذي من أجله أذن له والأمور الأخرى التي فصلناها فأما في هذه الزاوية، فسوف نتحدث عن الأمور التي ينبغي للمسلم أن يرعى تجاه رسول الله صلى الله عليه وسلم في حالة وجوده في الأماكن العامة وفي ملأ من الناس. وهذه الحالة العامة تتطلب عدم الخروج من مجلسه إلا بإذن بل البقاء معه إلا لضرورة قصوى وخاصة إذا كان هناك أمر مهم يتطلب المشاورة والاستعانة بأهل الرأي مثل أوقات الحرب والشدة على عكس ما كان مطلوباً في حالة وجوده مع نسائه في بيته صلى الله عليه وسلم لأنه يقال لكل مقام مقال ولكل مقال مقام، وهنا اختلفت المقالتان لاختلاف المقامين.
وقد ذكر الله -سبحانه وتعالى- مراعاة مقام النبوة في حالة وجوده في ملأ من الناس في القرآن الكريم وشهد لمن يلتزم مراعاة ذلك الجانب الإيمان بالله ورسوله في أسلوب حصر كأنهم هم المؤمنون وحدهم كما يشير إليه قوله تعالى: ((إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)) [النور:62](26/159)
ويتبين من نص الآية الكريمة الآداب التي ينبغي أن يراعى بها في مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم من الاستئذان إذا نوى أحد أن يخرج منه وإن كان ذلك خلاف الأولى لتذييل الآية بطلب الاستغفار من الرسول لمن يستأذن مع تفويض للرسول صلى الله عليه وسلم قبول الاستئذان وعدمه لمن يشاء تقديراً للموقف والملابسات المحيطة به.
يقول الشهيد سيد قطب -رحمه الله- في تفسير هذه الآية: " ومع هذا يشير إلى مغالبة الضرورة وعدم الانصراف هو الأولى وأن الاستئذان والذهاب فيها تقصير أو قصور يقتضي استغفار النبي صلى الله عليه وسلم للمعتذرين: ((وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)) [النور:62]. وبذلك يقيد ضمير المؤمن فلا يَستأذن وله مندوحة لقهر العذر الذي يدفع به الاستئذان "(1).
ويدخل تحت هذا المفهوم أي الاستئذان من الرسول صلى الله عليه وسلم بالخروج من مجلسه وقت خطبته صلى الله عليه وسلم وإن كان هناك خلاف حول معنى الأمر الجامع في الآية الكريمة، هل هو في الحرب خاصة أم يعم جميع الاجتماعات الأخرى كالجمعة والعيدين؟ وقد ذهب الإمام ابن العربي إلى القول بأنّ الأمر الجامع مخصوص في الحرب مؤيداً ما ذهب إليه بأدلة نوردها هنا:
يقول ابن العربي -رحمه الله-: "وقد روى أشهب ويحيى بن بكير وعبد الله بن عبد الحكم عن مالك أنّ هذه الآية إنّما كانت في حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الخندق وكذلك قال محمد بن إسحاق.
والذي بيّن ذلك أنّ الآية مخصوص في الحرب أمران صحيحان:
أما أحدهما: فهو قوله تعالى في الآية الأخرى:
((قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذاً)) [النور:63] وذلك أن المنافقين كانوا يتلوذون ويخرجون عن الجماعة ويتركون رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمر الله جميعهم بألاّ يخرج أحد حتى يأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم وبذلك يتبين إيمانه.
__________
(1) في ظلال القران: (4/2534).(26/160)
وأما الثاني: فهو قوله تعالى: ((لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ)) [النور:62]. فأي إذن في الحدث والإمام يخطب. وليس للإمام خيار في منعه ولا إيقافه وقد قال: ((فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ)) [النور:62].
فيبين ذلك أنه مخصوص في الحرب التي يؤثر فيها التفرق "(1).
وهناك فريق آخر من العلماء الذين ذهبوا إلى أنّ الأمر الجامع يعم جميع الاجتماعات من حرب وصلاة جمعة وصلاة العيدين وغيرها من الأمور الأخرى التي تقتضي اجتماع المسلمين مع قائدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومن هؤلاء الإمام ابن كثير -رحمه الله تعالى- حيث يقول في تفسير هذه الآية: "وهذا أيضاً أدب أرشد الله عباده المؤمنين إليه، فكما أمرهم بالاستئذان عند الدخول كذلك أمرهم بالاستئذان عند الانصراف لا سيما إذا كانوا في أمر جامع مع الرسول -صلوات الله وسلامه عليه- من صلاة جمعة أو عيد أو جماعة أو اجتماع في مشورة ونحو ذلك أمرهم الله أن لا يتفرقوا عنه والحالة هذه إلاّ بعد استئذانه ومشاورته، وأنّ من يفعل ذلك فإنّه من المؤمنين الكاملين "(2).
ويقول الإمام القرطبي -رحمه الله- بعد إيراده قول الإمام ابن العربي: " القول بالعموم أولى وأرفع وأحسن وأعلى "(3).
وممّا يرجح القول الثاني وهو أنّ الأمر الجامع يعم كل الاجتماعات قوله تعالى: ((وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِماً قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنْ اللَّهْوِ وَمِنْ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ)) [الجمعة:11].
__________
(1) أحكام القرآن: (3/1398).
(2) تفسير ابن كثير: (3/306).
(3) تفسير القرطبي: (12/321).(26/161)
يظهر من سياق هذه الآية أن بعض الصحابة أو جلهم خرجوا من عند رسول الله وهو قائم يخطب لأمور دنيوية بحتة وهي التجارة بحيث آثروا التجارة القادمة إلى المدينة على استماع رسول الله صلى الله عليه وسلم ولهذا نبههم الله -سبحانه وتعالى- على أن البقاء مع رسول الله صلى الله عليه وسلم خير لهم بخلاف ما صدر عنهم الذي لا يليق لمقام النبوة.
يقول الشهيد سيد قطب -رحمه الله تعالى-: " وتشير إلى حادث معين حيث كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطبهم في المسجد للجمعة حين حضرت قافلة من قوافلهم التجارية، فما أعلن نبأ قدومها حتى انفض المستمعون منصرفين إلى التجارة واللهو الذي كانت القافلة تحاط به على عادة الجاهلية، من ضرب بالدفوف وحداء وهيصة وتركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم قائماً فيما عدا اثني عشر من الراسخين فيهم أبو بكر وعمر بقوا يستمعون كما تذكر الروايات(1).
والرواية التي تحدد العدد هي ما أخرجه البخاري -رحمه الله عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- قال(2): أقبلت عير يوم الجمعة ونحن مع النبي صلى الله عليه وسلم فثار الناس إلاّ اثني عشر رجلاً فأنزل الله: ((وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفَضُّوا إِلَيْهَا)) [الجمعة:11].
وخلاصة القول أنّ الآيتين اللتين ذكرناهما في هذه الزاوية ترشدان المسلمين إلى الآداب التي تجب على المسلم أن يتحلى بها في مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم سواء قلنا أنّ الأمر الجامع خاص بالحرب أو أنّه يعم كل الاجتماعات، أو أنّ الآية الأولى تتعلق بالحرب بينما الآية الثانية تتعلق بالخطبة وما يجري مجراها.
وهذه الآداب محلها في حال حياته صلى الله عليه وسلم وأمّا بعد مماته فتنتقل إلى ما بعده من الخلفاء الراشدين ومن في حكمهم.
__________
(1) في ظلال القرآن: (6/3563).
(2) صحيح البخاري، كتاب التفسير، تفسير سورة الجمعة (3/202).(26/162)
يقول القرطبي -رحمه الله-: " وظاهر الآية يقضي أن يستأذن أمير الأمرة الذي هو في مقعد النبوة، فإنّه ربما كان له رأي في حبس ذلك الرجل لأمر من أمور الدين)(1).
الباب الثالث
البدع الملحقة بالأدب مع النبي صلى الله عليه وسلم
غالى بعض الناس في حبّهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتعوّدوا القيام ببعض الأعمال التي لم يرد بها دليل شرعي، كما استغل بعض المنافقين حب المسلمين لرسولهم وأدخلوا عليهم ما لا يجوز ولا يصح اعتماداً على دليل واه، أو تأويل غير صحيح.
ومن هنا ظهرت بدع في مجال التأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يجب أن تعرف لتترك ويتخلص منها المؤمنون الصادقون.
وقد اتبعت في دراسة هذا الموضوع عرض الآراء الواردة في كل مسألة مع ذكر أدلتها ومناقشتها جلاء للحق وبياناً للصواب.
وقد قسّمتها إلى بدع ألحقت بمولده صلى الله عليه وسلم، وأخرى ألحقت بزيارة مسجده صلى الله عليه وسلم، وثالثة بزيارة قبره الشريف صلى الله عليه وسلم، وتناولت هذه البدع بالدراسة بعد تعريف مفصل للبدعة لغة واصطلاحاً.
ولذا جاء هذا الباب مشتملاً على أربعة فصول هي:
الفصل الأول: تعريف البدعة لغة واصطلاحاً.
الفصل الثاني: البدع الملحقة بمولده صلى الله عليه وسلم.
الفصل الثالث: البدع الملحقة بمسجده صلى الله عليه وسلم.
الفصل الرابع: البدع الملحقة بزيارة قبره الشريف صلى الله عليه وسلم.
وذلك فيما يلي بنفس الترتيب.
الفصل الأول
تعريف البدعة لغة واصطلاحاً
أولاً: تعريف البدعة لغة:
__________
(1) تفسير القرطبي: (13/320).(26/163)
يقول صاحب معجم مقاييس اللغة(1): "الباء والدال والعين أصلان أحدهما ابتداء الشيء وصنعه لا عن مثال، والآخر الانقطاع والكلال. فالأول قولهم: أبدعت الشيء قولاً أو فعلاً إذا ابتدائه لا عن مثال والله بديع السموات والأرض (2) والعرب تقول: ابتدع فلان الركيّ إذا استنبطه وفلان بدع في هذا الأمر. قال الله تعالى: ((قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنْ الرُّسُلِ)) [الأحقاف:9] أي ما كنت أول "(3).
ويقول صاحب مصباح المنير(4): "أبدعت الشيء وأبدعته: استخرجته وأحدثته ومنه قيل للحالة
المخالفة بدعة وهي اسم من الابتداع كالرفعة من الارتفاع ثم غلب استعمالها فيما هو نقص في الدين أو زيادة... وفلان بدع في الأمر أي هو أول من فعله. فيكون اسم فاعل بمعنى مبتدع والبديع فعيل من هذا فكأن معناه هو منفرد بذلك من بين نظائره، وفيه معنى التعجب، ومنه قوله تعالى: ((قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنْ الرُّسُلِ)) [الأحقاف:9] أي ما كنت أول من جاء بالوحي من عند الله تعالى وتشريع الشرائع بل أرسل الله تعالى الرسل قبلي مبشرين ومنذرين فأنا على هداهم..(5).
ويقول ابن منظور: " بدع الشيء يبدعه بدعاً، وابتدعه: أنشأه وبدأه ويبدع الشيء الذي يكون أولاً وفي التنزيل: ((قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنْ الرُّسُلِ)) [الأحقاف:9] أي ما كنت أول من أرسل قد أرسل قبلي رسل كثير..
__________
(1) تقدمت ترجمته في (ص:25).
(2) إشارة إلى قوله تعالى: (بديع السموات والأرض) سورة البقرة، آية (117) وسورة الأنعام، آية (101).
(3) معجم مقاييس اللغة (1/209) مادة (بديع).
(4) هو أحمد بن محمد بن علي المقري الفيومي المتوفي سنة (770هـ) انظر ترجمته في بغية الوعاة (1/389).
(5) مصباح المنير: 1/44 مادة (بدع).(26/164)
وأبدعت الشيء: أخترعته لا على مثال والبديع من أسماء الله تعالى لإبداعه الأشياء وإحداثه إيّاها وهو البديع الأول قبل كل شيء ومنه قوله تعالى: ((بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ)) [البقرة:117] أي خالقها ومبدعها فهو -سبحانه- المخترع لها لا عن مثال سابق "(1).
ونستنتج من هذه التعريفات اللغوية السابقة لكلمة البدعة ومشتقاتها أمرين اثنين:
أ) أنّ معناها يدور حول الاختراع والإحداث والابتداء والإنشاء وكلها معان متقاربة كما ترى.
ب) أنّ البدعة اللغوية تشمل المحدث المذموم والحسن لأن الأمر المخترع قد يترتب عليه مصلحة فيكون حسناً، وقد يترتب عليه مفسدة فيكون مذموماً.
ثانياً: تعريف البدعة في اصطلاح أهل الشرع:
اختلفت أنظار العلماء في تحديد معنى البدعة. فمنهم من حددها بـ "ما أحدث في الدين بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ومنهم من أطلقها على ما أحدث بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدين وفي غيره من العادات.
ويمثل الفريق الأول ابن رجب الحنبلي (2) والشاطبي (3) والحافظ ابن حجر العسقلاني وغيرهم. بينما يمثل الفريق الآخر العز بن عبد السلام (4) والنووي وغيرهما.
وسوف أفصل تعريف كل فريق لنصل إلى التعريف المختار.
تعريف البدعة عند الفريق الأول: يقول ابن رجب الحنبلي في تعريف البدعة: "والمراد بالبدعة: "ما أحدث مما لا أصل له في الشريعة يدل عليه، أمّا ما كان له أصل من الشرع يدل عليه فليس ببدعة شرعاً وإن كان بدعة لغة"(5).
__________
(1) لسان العرب: 8/6 مادة (بدع).
(2) هو عبد الرحمن بن أحمد بن رجب السلامي البغدادي ثم الدمشقي.
(3) هو إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الغرناطي أبو إسحاق الشهير بالشاطبي المتوفي سنة (790هـ) انظر ترجمته في الإعلام (4/144).
(4) هو عز الدين بن عبد السلام بن أبي القاسم شيخ الإسلام المتوفي سنة (660هـ) بمصر. انظر ترجمته في الإعلام (4/144).
(5) جامع العلوم والحكم (ص:160).(26/165)
وعرّف الشاطبي البدعة بتعريفين: الأول: هو أن البدعة عبارة عن طريقة في الدين مخترعة تضاهي الشرعية يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد لله سبحانه(1).
والثاني: هو أنّ البدعة طريقة في الدين تضاهي الشرعية يقصد بالسلوك عليها ما يقصد بالشرعية "(2).
ويقول الحافظ ابن حجر في تعريف البدعة: " ما أحدث وليس له أصل في الشرع يسمى في عرف الشرع بدعة. وما كان له أصل يدل عليه الشرع فليس ببدعة "(3).
يظهر لنا مما تقدم أن تعريفات هذا الفريق تقيد البدعة بأمور ثلاثة:
أ) الإحداث في الدين بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ب) أن يقصد بها التقرب إلى الله.
ج) أن لا يدل عليها دليل شرعي.
وعلى هذا تكون البدعة اللغوية أعم لاشتمالها على ما أحدث في الدين وفي غيره بينما البدعة الشرعية لا تشمل إلا ما أحدث في الدين على وجه التقرب إلى الله مع عدم وجود الدليل الشرعي. ومن ثم فلا تكون البدعة في نظر هذا الفريق إلا مذمومة شرعاً بخلاف البدعة اللغوية ولا تدخل في العادات التي ليس لها شائبة التعبد.
يقول الشاطبي: " ثبت في الأصول الشرعية أنّه لا بد في كل عادي من شائبة التعبد، لأنّ ما لم يعقل معناه على التفصيل من المأمور به أو المنهي عنه فهو المراد بالتعبدي، وما عقل معناه وعرفت مصلحته أو مفسدته فهو المراد بالعادي، فالطهارات والصلوات والصيام والحج كلها تعبدي، والبيع والنكاح والشراء والطلاق والإجارات والجنايات كلها عادي، لأن أحكامها معقولة المعنى ولا بد فيها من التعبد، إذ هي مقيدة بأمور شرعية لا خيرة للمكلف فيها..
وإذا كان كذلك فقد ظهر اشتراك القسمين في معنى التعبد، فإن جاء الابتداع في الأمور العادية من ذلك الوجه صح دخوله في العاديات كالعبادات وإلاّ فلا(4).
__________
(1) الاعتصام: (1/37).
(2) الاعتصام: (1/37).
(3) فتح الباري: (3/253).
(4) الاعتصام: (2/790-800).(26/166)
ويقول ابن حجر العسقلاني: "فالبدعة في عرف الشرع مذمومة بخلاف اللغة، فإن كل شيء أحدث على غير مثال يسمى بدعة سواء كان محموداً أو مذموماً وكذا القول في المحدثة، والأمر المحدث "(1).
تعريف البدعة عند الفريق الثاني: يقول العز بن عبد السلام: "البدعة: هي فعل ما لم يعهد في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وهي منقسمة إلى بدعة واجبة، وبدعة محرمة، وبدعة مندوبة، وبدعة مكروهة، وبدعة مباحة. والطريقة في معرفة ذلك أن تعرض البدعة على قواعد الشريعة، فإن دخلت في قواعد الإيجاب فهي واجبة، وإن دخلت في قواعد التحريم فهي محرمة، وإن دخلت في قواعد المندوب فهي مندوبة، وإن دخلت في قواعد المباحات فهي مباحة (2) ثم ضرب أمثلة لكل نوع منها وهي على النحو التالي:
والبدعة الواجبة مثل الاشتغال بالنحو، والبدعة المحرمة مثل الاشتغال بمذهب القدرية والجبرية، والبدعة المندوبة مثل جمع الناس في صلاة التراويح، والبدعة المكروهة مثل زخرفة المساجد، والبدعة المباحة مثل المصافحة عقب الصبح والعصر(3).
ويقول النووي -رحمه الله تعالى-: "والبدعة بكسر الباء في الشرع هي إحداث ما لم يكن في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي منقسمة إلى حسنة وقبيحة "(4).
وهذا الفريق يقيّد تعريف البدعة بقيد واحد وهو إحداث ما لم يكن في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولهذا فإن البدعة عندهم ليست مذمومة كلها، بل منها ما هو واجب يلزم فعله، ومنها ما هو حرام يلزم تركه، وما هو وسط بين هذا وذاك. حيث إنها تخضع للأحكام الشرعية الخمسة من وجوب، وحرام، ومندوب، ومكروه، ومباح، ومندوب.
__________
(1) فتح الباري: (13/253).
(2) قواعد الأحكام في مصالح الأنام: (2/204).
(3) انظر المصدر السابق (2/204-205).
(4) تهذيب الأسماء واللغات (2/22).(26/167)
وعلى هذا فإنّ البدعة عندهم تساوي البدعة اللغوية لأنها تشمل الحدث المذموم والحسن بخلاف الفريق الأول الذي يرى انحصارها في الحدث المذموم ومن ثم فإن النسبة بين الفريقين عموم وخصوص مطلق.
أدلة الفريقين: يستدل كلا الفريقين بأدلة تؤيد ما ذهب إليه ونذكر هنا طرفاً من أدلة كلا الفريقين مع بيان وجهة الاستدلال لكل منهما.
أولاً: أدلة الفريق الأول: هذا الفريق يستدل بالنصوص التي يفيد منطوقها ذم البدعة على وجه العموم.
1- من ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: " فإنّ خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة "(1).
أنّ قوله صلى الله عليه وسلم: " كل بدعة ضلالة " عام يفيد أن البدعة مذمومة كلها بغير استثناء نوع منها ولم يرد ما يخصص ذلك العموم، ولذلك فليس هناك بدعة حسنة بل كلها مذمومة شرعاً.
2- ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: " من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد " (2) أي: مردود.
ووجه الاستدلال بهذا الحديث هو: أنّ الإحداث في الدين أمر مردود مهما كان ذلك الإحداث صغيراً أو كبيراً لأنّ الإحداث في الدين بدعة، ومن ثم فلا يوجد بدعة حسنة.
3- ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: " أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة لولاة الأمر وإن عبد حبشي فإنّه من يعش منكم ير اختلافاً كثيراً، وإياكم ومحدثات الأمور فإنّها ضلالة فمن أدرك ذلك منكم فعليه بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضوا عليها بالنواجذ "(3).
__________
(1) صحيح مسلم كتاب الجمعة، باب تخفيف الصلاة والخطبة (2/592).
(2) صحيح مسلم كتاب الأقضية، باب رد الأحكام الباطلة ورد محدثات الأمور (3/1342).
(3) أخرجه الترمذي في كتاب العلم، باب الأخذ بالسنة واجتناب البدعة (4/150)، وقال هذا حديث حسن صحيح.(26/168)
ووجه الاستلالال بهذا الحديث هو أنّ الرسول صلى الله عليه وسلم قد حذر من المحدثات ووصفها بأنّها بدعة كما وصف البدعة بأنّها ضلالة على وجه العموم، وهذا يقتضي أنّه ليس هناك بدعة حسنة وأخرى قبيحة بل كلها قبيحة.
ثانياً: أدلة الفريق الثاني: يستدل هذا الفريق بأدلة نوجزها فيما يلي:
1- قول عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- في صلاة التراويح بعد ما جمعهم على أبي بن كعب -رضي الله عنه-: "نعمت البدعة"(1).
ووجه الاستدلال بهذا القول هو أن عمر -رضي الله عنه- قد سمى صلاة التراويح بدعة مع إقراره بل بأمره ذلك.
وهذا يدل على أنه يقصد بها البدعة الحسنة لا القبيحة ومن ثمّ فإن البدعة تنقسم إلى حسنة وقبيحة.
2- قوله صلى الله عليه وسلم: "من سنّ في الإسلام سنّة حسنة فيعمل بها بعده كتب له مثل أجر من عمل بها ولا ينقص من أجورهم شيء، ومن سنّ في الإسلام سنّة سيئة وعمل بها بعده كتب عليه مثل وزر من عمل بها ولا ينقص من أوزارهم شيء "(2).
ووجه الاستدلال بهذا الحديث هو أنه إذا أحدث أحد شيئاً حسناً يثاب عليه وأنّه غير مذموم وكذلك العكس وبالتالي هناك اختراع حسن وأخرى غير حسن ومن ثم البدعة تنقسم إلى حسنة وقبيحة.
__________
(1) والحديث كما أخرجه البخاري بسنده عن عبد الرحمن قال: "خرجت مع عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- ليلة في رمضان إلى المسحد فإذا الناس أوزاع متفرقون. يصلي الرجل لنفسه، ويصلي الرجل فيصلي صلاته الرجل، فقال عمر: إني أرى لو جمعت هؤلاء على قاريء واحد لكان أمثل، ثم عزم فجمعهم على أبي بن كعب، ثم خرجت معه ليلة أخرى والناس يصلون بصلاة قارئهم فقال عمر نعمت البدعة هذه ". صحيح البخاري (1/342)، كتاب التراويح، باب فضل من قام رمضان.
(2) صحيح مسلم كتاب العلم، باب من سن سنة حسنة أو سيئة ومن دعا إلى هدى أو ضلالة (4/2059).(26/169)
3- قول ابن مسعود -رضي الله عنه-: "فما رأى المسلمون حسناً فهو عند الله حسن وما رأوا سيئاً فهو عند الله سئ"(1).
ووجه الاستدلال بهذا الأثر هو أنّه ما فعل المسلمون واستحسنوه لا يكون مذموماً بشرط أن لا يخالف الكتاب أو السنة أو الإجماع. وعلى هذا فلا يعتبر البدعة كلها قبيحة بل منها ما هو حسن.
وخلاصة القول: أنّ طريقة الفريق الأول مبنية على ثلاثة أمور:
1- البدعة حقيقة فيما لم يفعل في الصدر الأول ولم يكن له أصل من أصول الشرع ومجاز في غير ذلك.
2- أنّ جميع ما ورد في ذم البدع من نحو قوله صلى الله عليه وسلم: "كل بدعة ضلالة" (2) باق على عمومه.
3- القول بأنّ البدع لا تدخل إلاّ في العاديات التي لا بد فيها من التعبد.
وأمّا طريقة الفريق الثاني فهي مبنية على أمور ثلاثة أيضاً:
1- أنّ البدعة حقيقة فيما لم يفعل في الصدر الأول كان له أصل من أصول الشرع أم لا.
2- أنّ جميع ما ورد في البدع من نحو قوله صلى الله عليه وسلم: "إن كل بدعة ضلالة" (3) عام مخصوص.
3- القول بأن جميع المخترعات من العاديات ولو لم يلحقها شائبة تعبد تلحق بالبدع وتصير كالعبادات المخترعة)(4).
مناقشة الأدلة والترجيح: نبدأ بمناقشة أدلة الفريق الثاني ثم نتبعها بأدلة الفريق الأول: أولاً: استدلالهم بقول عمر -رضي الله عنه-: "نعمت البدعة "، ليس بدليل لهم لعدة أمور:
__________
(1) رواه الإمام أحمد في مسنده (1/379).
(2) صحيح مسلم -كتاب الجمعة، باب تخفيف الصلاة والخطبة- (3/592).
(3) صحيح مسلم -كتاب الجمعة، باب تخفيف الصلاة والخطبة- (3/592).
(4) انظر تهذيب الفروق (4/229).(26/170)
1- أن صلاة التراويح جماعة ليست بدعة شرعية بل صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته جماعة عدة ليالي ثم بعد ذلك تركها مخافة أن تفرض عليهم ثم لا يطيقوها. ومما يدل على ذلك ما أخرجه الإمام البخاري عن عائشة -رضي الله عنها- أنّها قالت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج من جوف الليل فصلى في المسجد فصلى رجال بصلاته فأصبح الناس يتحدثون بذلك فاجتمع أكثر منهم فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في الليلة الثانية فصلوا بصلاته فلما كانت الليلة الرابعة عجز المسجد عن أهله فلم يخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فطفق رجال منهم يقولون: الصلاة فلم يخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى خرج لصلاة الصبح فلما قضى الفجر أقبل على الناس فتشهد، ثم قال: " أما بعد فإنّه لم يخف عليّ مكانكم ولكنّي خشيت أن تفترض عليكم صلاة الليل فتعجزوا عنها " (1) وفي رواية وذلك في رمضان.
وما دام الرسول صلى الله عليه وسلم ترك صلاة التراويح جماعة مخافة أن تفرض عليهم وقد زال ذلك الخوف بموته صلى الله عليه وسلم فلا مانع أن يرجع الأمر كله إلى ما كان عليه وهو أن يصلى بها جماعة.
2- أنّ صلاة التراويح جماعة تدخل في ضمن سنة الخلفاء الراشدين، وبالتالي فهي سنة سنّها أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- لقوله صلى الله عليه وسلم "... وإياكم ومحدثات الأمور، فإنها ضلالة فمن أدرك ذلك منكم فعليه بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين... "(2).
3- إن عمر -رضي الله عنه- أمر ذلك بمرأى ومسمع من الصحابة -رضوان الله عليهم- ولم ينقل من عارض ذلك.
__________
(1) صحيح البخاري، كتاب صلاة التراويح، باب فضل من قام رمضان (1/343).
(2) رواه الترمذي في سنة، في كتاب العلم، باب الأخذ بالسنة واجتناب البدعة (4/150).(26/171)
وعلى هذا فلا يكون قول عمر -رضي الله عنه- دليلاً لهذا الفريق ولكن يبقى لماذا سمى عمر هذا الفعل بدعة؟ وقد أوّل العلماء هذا القول بعدة تأويلات وأحسنها هو أن يقصد بها البدعة اللغوية لاشتمالها البدعة السيئة والبدعة الحسنة.
يقول ابن تيمية -رحمه الله- في هذا المقام: " ما سمي بدعة وثبت حسنه بأدلة الشرع فأحد الأمرين فيه لازم إمّا أن يقال ليس ببدعة في الدين وإن كان يسمى بدعة في اللغة كما قال عمر: نعمت البدعة، وإما أن يقال هذا عام خصت منه هذه الصورة لمعارض راجح كما يبقى عداها على مقتضى العموم كسائر عمومات الكتاب والسنة"(1).
ويقول أيضاً: " أكثر ما في هذا تسمية عمر تلك بدعة -أي صلاة التراويح جماعة- مع حسنها، وهذه تسمية لغوية لا تسمية شرعية، وذلك أنّ البدعة في اللغة تعم كل ما فعل ابتداء من غير مثال سابق، وأمّا البدعة الشرعية فكل ما لم يدل عليه دليل شرعي "(2).
ثانياً: استدلالهم بقوله صلى الله عليه وسلم: "من سن في الإسلام سنة حسنة فعمل بها بعده كتب له مثل أجر من عمل بها.... ".
__________
(1) مجموع الفتاوي (10/371).
(2) اقتضاء الصراط المستقيم (ص:376).(26/172)
ليس بدليل لهم لأن معناه هو من أحيا سنة من سنة الرسول صلى الله عليه وسلم فله ثوابها وثواب من اتبعه بها كما يدل عليه سبب حديث جرير بن عبدالله حيث قال: " جاء ناس من الأعراب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصرف (1) فرأى سوء حالهم قد أصابتهم حاجة فحث الناس على الصدقة فأبطأوا عنه حتى رؤي ذلك في وجهه قال: ثم إنّ رجلاً من الأنصار جاء بصرة من ورق ثم جاء آخر ثم تتابعوا حتى عرف السرور في وجهه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من سنّ في الإسلام سنة حسنة فعمل بها بعده كتب له مثل أجر من عمل بها ولا ينقص من أجورهم شيء، ومن سنّ في الإسلام سنة سيئة فعمل بها بعده كتب عليه مثل وزر من عمل بها ولا ينقص من أوزارهم شيء "(2).
وهذا يدل على أن الغرض من ذلك إحياء ما ثبت في الإسلام، وهنا الصدقة وليس ابتداع شيء لا أصل له في الشريعة الإسلامية.
وهناك حديث آخر يفسر هذا الحديث مثل قوله صلى الله عليه وسلم: "من أحيا سنّة من سنن قد أميتت بعدي كان له من الأجر مثل من عمل بها من غير أن ينقص من أجورهم شيئاً، ومن
ابتدع بدعة ضلالة لا يرضاها الله ورسوله كان عليه آثام من عمل بها لا ينقص ذلك من أوزار الناس شيئاً "(3).
__________
(1) صحيح مسلم - كتاب العلم، باب من سن سنة حسنة أو سيئة ومن دعا إلى هدى أو ضلالة (4/2059).
(2) الصرف بالكسر الخالص من كل شيء. انظر النهاية (3/24).
(3) أخرجه الترمذي في سننه كتاب العلم، باب الأخذ بالسنة واجتناب البدعة (4/50ا-151) وقال: هذا حديث حسن.(26/173)
ثالثاً: وأمّا قول ابن مسعود -رضي الله عنه-: " فما رآى المسلمون حسناً فهو عند الله حسن " (1) فهو أثر موقوف على ابن مسعود وليس بحجة، وأما على فرض حجته فليس المراد جنس المسلمين الصادق بالمجتهد وغيره لاقتضائه أن كل ما رآه آحاد المسلمين حسناً فهو حسن، وكذلك العكس، كما أنه يقتضي كون العمل الواحد حسناً عند البعض الآخر لا يصح التقرب به إلى الله - تعالى- قبيحاً عند البعض الآخر لا يصح التقرب به إليه، وهو باطل(2).
وعلى هذا يحمل معنى هذا الأثر على ما اجتمعت عليه الأمة لعصمتها من الإجماع على ضلال، والإجماع حجة لاستناده إلى دليل شرعي، وعلى هذا فلا يوجد دليل واحد يدل إلى ما ذهبوا إليه وأنّ الأمثلة التي ذكروها للبدعة الحسنة والقبيحة تدخل تحت ما يناسبها من القواعد الشرعية.
وأما أدلة الفريق الأول: فهي مقبولة ومسلمة من ناحية ثبوتها ومن ناحية الاستدلال معاً، وبالتالي فلا تحتاج إلى مناقشة.
وعلى هذا نرجّح ما ذهب إليه الفريق الأول وهو أن البدعة لا تكون إلاّ مذمومة لعموم النصوص التي وردت في ذم البدعة شرعاً ولعدم وجود ما يخصص ذلك، وبالتالي ليست مقسمة إلى حسنة وقبيحة.
يقول الإمام الشاطبي -رحمه الله- مؤيداً ذلك: "إنّه قد ثبت في الأصول العلمية أنّ كل قاعدة كلية أو دليل شرعي كلي إذا تكررت في مواضع كثيرة وأتى بها شواهد على معان أصولية أو فروعية، ولم يقترن بها تقييد ولا تخصيص مع تكرارها، وإعادة تقررها فذلك دليل على بقائها على مقتضى لفظها من العموم كقوله تعالى: ((أَلاَّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى * وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى)) [النجم:38-39] وما أشبه ذلك...
__________
(1) رواه الإمام أحمد في مسنده (1/379).
(2) الإبداع في مضار الابتداع للشيخ علي محفوظ (ص:128).(26/174)
فما نحن بصدده من هذا القبيل. إذ جاء في الأحاديث المتعددة والمتكررة في أوقات شتى وبحسب الأحوال المختلفة أنّ كل بدعة ضلالة وأنّ كل محدثة بدعة وما كان نحو ذلك من العبارات الدالة على أنّ البدع مذمومة ولم يأت في آية ولا حديث تقييد ولا تخصيص ولا ما يفهم خلاف ظاهر الكلية فيها، فدل ذلك دلالة واضحة على أنّها على عمومها وإجمالها "(1) وأمّا البدع المنقسمة إلى حسنة وقبيحة فهي البدعة اللغوية المتعلقة بالاختراعات وبأمور المعاش ووسائله ومقاصده (2)، فما كان ضاراً فنترك، وما كان نافعاً فنفعل ونستعمل.
وكل هذه أمور تدخل تحت ما فرضّه لنا الشارع بقوله صلى الله عليه وسلم: "أنتم أعلم بأمور دنياكم... "(3).
هذا ما يتعلق بالبدعة الحقيقة وأما البدعة الإضافية فهي -كما ذكر الشاطبي -رحمه الله- التي لها شائبتان: إحداهما لها من الأدلة متعلق فلا تكون من تلك الجهة بدعة، والأخرى ليس لها متعلق إلا مثل ما للبدعة الحقيقية. فلما كان العمل الذي له شائبتان لم يتخلص لأحد الطرفين وضعنا له هذه التسمية "البدعة الإضافية" أي أنها بالنسبة إلى إحدى الجهتين سنة لأنها مستندة إلى دليل، وبالنسبة إلى الجهة الأخرى بدعة لأنها مستندة إلى شبهة لا إلى دليل أو غير مستندة إلى دليل.
والفرق بينهما من جهة المعنى، أن الدليل عليها من جهة الأصل قائم، ومن جهة الكيفيات أو الأحوال أو التفاصيل لم يقم عليها مع أنها محتاجة إليه لأن الغالب وقوعها في التعبديات لا في العاديات المحضة(4).
__________
(1) الاعتصام (1/141-142).
(2) انظر إصلاح المساجد من البدع والعوائد، لجمال الدين القاسمي (ص:16).
(3) صحيح مسلم، كتاب الفضائل، باب وجوب امتثال ما قاله شرعاً ما ذكره صلى الله عليه وسلم من معايش الدنيا على سبيل الرأي (4/1836).
(4) انظر: الاعتصام للشاطبي (1/286-287).(26/175)
ومثال ذلك الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم عقب الأذان جهراً مع أن الشارع طلب منا ذلك سراً بقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول ثم صلّوا عليّ، فإن من صلّى عليّ مرة صلى الله عليه بها عشراً..."(1).
والبدعة تدخل من جهة الكيفية لا من جهة أصل مشروعية ذلك، ومن ثم تأخذ حكم البدعة الحقيقية بحسب قربها لها أو بعدها منها.
يقول الشاطبي -رحمه الله-: "فقلما تختص -أي البدعة الحقيقية- بحكم دون الإضافية بل هما معاً يشتركان في أكثر الأحكام إلا أن الإضافية على ضربين: أحدهما: يقرب من الحقيقة حتى تكاد البدعة تعد حقيقية.
والآخر: يبعد منها حتى يكاد يعد سنة محضة(2).
الفصل الثاني
البدع الملحقة بمولده صلى الله عليه وسلم
يقصد بالمولد تلك الاحتفالات التي تقام في اليوم الثاني عشر من شهر ربيع الأول من كل عام، وهو اليوم الذي ولد فيه المصطفى صلى الله عليه وسلم على أرجح الأقوال.
ولذا كان الاحتفال المذكور، أحياء لذكراه -عليه الصلاة والسلام وإظهاراً للفرح بمولد نبي الثقلين كما يقول المحتفلون.
وفي ذلك اليوم يقرأ المحتفلون أوراداً كثيرة ويتذاكرون سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم كما أنّهم يقومون بجانب ذلك بأعمال كثيرة مثل الذبح وإعداد الطعام للمجتمعين وللتوزيع على الفقراء حتى أصبح ذلك اليوم يوم أكل وشرب مثل يومي العيد -الفطر والأضحى- أو أكثر.
وقد يتوسع بعضهم في ذلك الاحتفال حتى أنه يقام من بداية شهر ربيع الأول ويستمر إلى اليوم الثاني عشر أو إلى نهاية الشهر أو يقام في كل يوم الاثنين أو يوم الجمعة من كل أسبوع.
__________
(1) صحيح مسلم، كتاب الصلاة، باب استحباب القول مثل قول المؤذن لمن سمعه ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ثم يسأل الله له الوسيلة (1/288).
(2) انظر الاعتصام (1/287).(26/176)
يقول الشيخ علي محفوظ: "الموالد هي الاجتماعات التي تقام لتكريم الماضين من الأنبياء والأولياء والأصل فيها أن يتحرى الوقت الذي ولد فيه من يقصد بعمل المولد وقد يتوسع فيها حتى تتكرر في العام الواحد"(1).
ونتحدث في هذا الفصل عن ذلك اليوم وما يفعل فيه من الأعمال مع عرض كافة الآراء بأدلتها ومناقشتها بموضوعية وحياد كاملين ليظهر الحق بدليله ويزهق الباطل بمزاعمه وأوهامه وليعيش الناس مع الإسلام عن بينة ووضوح.
وسوف يتكون هذا الفصل من مبحثين:
المبحث الأول: تحديد وقت الاحتفال بالمولد ونشأته.
المبحث الثاني: حكم الاحتفال بالمولد.
المبحث الأول: تحديد وقت الاحتفال بالمولد ونشأته:
تحديد وقت الاحتفال بالمولد مرتبط بتحديد الوقت الذي ولد فيه المصطفى صلى الله عليه وسلم لأنّ ذلك الاحتفال يقصد به إحياء ذكرى مولده - صلى الله عليه وسلم- كما قلنا آنفاً.
ومعنى ذلك أنّ ذلك الاحتفال يخضع للاختلاف الوارد في تحديد وقت ولادته صلى الله عليه وسلم ولكن الذي لا جدال فيه أنّه ولد في يوم الإثنين للحديث الصحيح الذي ورد في هذا الشأن وأمّا ما عدا ذلك فمختلف فيه.
أخرج الإمام مسلم بسنده عن أبي قتادة الأنصاري -رضي الله عنه- أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن صوم الإثنين فقال: "فيه ولدت وفيه أنزل عليّ"(2).
وقد ذكر ابن كثير -رحمه الله الخلاف الوارد في ذلك في كتابه السيرة النبوية قائلاً:
"أنّ ذلك كان في شهر ربيع الأول، فقيل لليلتين خلتا منه.. وقيل لثمان خلون فيه. وقيل لعشر خلون منه.. وقيل لاثنتي عشر خلت منه.."(3).
__________
(1) الإبداع في مضار الإبتداع: (ص:250-251).
(2) صحيح مسلم، كتاب الصيام، باب استحباب صيام ثلاثة أيام من كل شهر وصوم يوم عرفة، وعاشوراء والاثنين والخميس (2/820).
(3) السيرة النبوية (6/199).(26/177)
ولأجل هذا الخلاف كان الملك المظفر صاحب إربل (1) يحتفل بالمولد الشريف مرة في ثامن شهر ربيع الأول ومرة في الثاني عشر منه (2) ولكن المشهور هو أنّه ولد في يوم الثاني عشر من شهر ربيع الأول وهو الراجح.
يقول ابن كثير بعد نقله هذا القول: "وهذا هو المشهور عند الجمهور والله أعلم"(3).
وأمّا ما ذكر من أنّه ولد في رمضان أو في يوم الجمعة وفي غيرهما فغير صحيح كما ذكر الإمام ابن كثير -رحمه الله تعالى-.
وأمّا نشأة الاحتفال بالمولد الشريف فمختلف فيه أيضاً بين العلماء، فمنهم من يقول إنّ الاحتفال بدأ في القاهرة أيام الدولة الفاطمية، ومنهم من يقول إنّ ذلك قد أحدثه الملك مظفر صاحب إربل بإربل في آخر القرن السادس أو أوائل القرن السابع.
الأقوال التي تؤيد القول الأول: يقول المقريزي: " كان للخلفاء الفاطميين في طول السنة أعياد ومواسم وهي: موسم رأس السنة، وموسم أول العام، ويوم عاشوراء، ومولد النبي صلى الله عليه وسلم ومولد علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- ومولد الحسن ومولد الحسين -رضي الله عنه- ومولد فاطمة الزهراء -رضي الله عنها- ومولد الخليفة الحاضر"(4).
__________
(1) هو الملك المظفر أبو سعيد كوكبوري ين زين الدين بن تبكتكين المتوفى سنة (630هـ). له ترجمة في البداية والنهاية (13/136).
(2) انظر وفيات الأعيان لابن خلكان (1/437).
(3) السيرة النبوية (1/199-200).
(4) المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار (1/490)، مع التصرف.(26/178)
ويقول القلقشندي عند كلامه عن جلسات الخلفاء الفاطميين: "الجلوس الثالث جلوسه في مولد النبي صلى الله عليه وسلم في الثاني عشر من شهر ربيع الأول وكان عادتهم فيه أن يعمل في دار الفطرة عشرون قنطاراً من السكر الفائق حلوى من طرائف الأصناف وتعبأ ثلاثمائة صينية نحاس فإذا كان ليلة ذلك المولد تفرق في أرباب الرسوم كقاضي القضاة وداعي الدعاة وقراءة الحضرة... "(1).
ويفهم من كلام المقريزي وكلام القلقشندي أنّ الفاطميين كانوا يعملون الاحتفال بالمولد النبوي وغير ذلك من الموالد وإن لم يصرحا بأنّهم أول من أحدث ذلك ولكن صرح في ذلك حسن السندوبي في كتابه تاريخ الاحتفال بالمولد النبوي قائلاً: "لقد دلني البحث والتنقيب والتحري والاستقصاء على أن الفاطميين هم أول من ابتدع فكرة الاحتفال بذكرى المولد النبوي الشريف وجعلوه من الأعياد العامة في كل أمة من الأمم الإسلامية كما ابتدعوا غيره من الاحتفالات الدورية التي عدّت من مواسمها، وكذلك صرفوا الكثير من اهتمامهم إلى إحياء ما يكون معروفاً من المواسم والأعياد قبل الإسلام"(2).
وممن ذهب إلى القول الثاني السيوطي حيث يقول: "أول من أحدث فعل ذلك -الاحتفال بالمولد- صاحب إربل الملك المظفر أبو سعيد كوكبوري بن زين الدين بن علي بن بكتكين أحد ملوك الأمجاد والكبراء الأجواد وكان له آثار حسنة"(3).
__________
(1) صبح الأعشي في صناعة الإنشاء (13/498).
(2) تاريخ الاحتفال بالمولد النبوي (ص:62) وما بعدها.
(3) الحاوي للفتاوي: (1/189).(26/179)
وتبعه في ذلك محمد رشيد رضا صاحب المنار حيث يقول: "إن الاحتفال بالمولد النبوي الشريف قد صار عادة عامة، والمشهور أنّ المحدث لها هو أبو سعيد كوكبوري بن أبي الحسن علي بن بكتكين التركماني الجنس الملقب بالملك العظيم مظفر الدين صاحب إربل أحدثها في أوائل القرن السابع أو أواخر القرن السادس فإن السلطان صلاح الدين ولاّه على إربل في ذي الحجة سنة 580 هـ "(1).
وهذان القولان هما المشهوران في الموضوع الذي نحن بصدده ولم أقف على أقوال أخر تتعلق بهذا الموضوع.
وقد ذهب بعض العلماء إلى التوفيق بين الرأيين: يقول الشيخ علي محفوظ: "أول من أحدثها بالقاهرة الخلفاء الفاطميون في القرن الرابع فابتدعوا ستة موالد: المولد النبوي، ومولد الإمام علي -رضي الله عنه- ومولد فاطمة الزهراء -رضي الله عنها- ومولد الحسن والحسين -رضي الله عنهما- ومولد الخليفة الحاضر. وبقيت الموالد على رسومها إلى أن أبطلها الأفضل أمير الجيوش ثم أعيدت في خلافة الآمر بأحكام الله في سنة أربع وعشرين وخسمائة بعدما كاد الناس ينسونها، وأول من أحدث المولد النبوي بمدينة إربل الملك المظفر أبو سعيد في القرن السابع، وقد استمر العمل بالمولد إلى يومنا هذا وتوسع الناس فيها وابتدعوا بكل ما تهواه أنفسهم وتوحيه شياطين الإنس والجن"(2).
__________
(1) ذكرى المولد النبوي (ص:أ).
(2) الإبداع في مضار الابتداع (ص:251).(26/180)
وذهب إلى ذلك أيضاً الدكتور عزت عطية حيث يقول: "وأول من أحدثه بالقاهرة المعز لدين الله الفاطمي سنة 362هـ ودام الاحتفال به إلى أن أبطله أمير الجيوش بدر الدين الجمالي سنة 488هـ في عهد المستعلي بالله، ولمّا ولي الخلافة الآمر بأحكام الله ابن المستعلي أعاد الاحتفال في سنة 495هـ وأول من أحدث هذا الاحتفال بإربل الملك المظفر أبو سعيد في القرن السادس أو السابع(1). ويفهم من كلامهما أنّ الابتداء نسبي بحيث أن الفاطميين هم أول من أحدث ذلك الاحتفال بالنسبة لمدينة القاهرة، وأما بالنسبة لإربل فصاحب إربل الملك المظفر هو أول من أحدث فيها ولكن أرجح الأقوال هو الأول الذي يقول بأنّ الفاطميين هم الذين أحدثوا ذلك ولم يسبقهم أحد في ذلك بل انتشرت من عندهم إلى البلاد الإسلامية.
والذي يؤيد ذلك أنّ الدولة الفاطمية قد سقطت قبل وجود الملك المظفر صاحب إربل وبالتحديد سنة 567 هـ (2) وكذلك صاحب إربل نفسه لم يبتدع ذلك الاحتفال بالمولد بل اقتدى بالشيخ عمر الملا(3).
يقول أبو شامة: "وكان أول من فعل ذلك -أي الاحتفال بالمولد- الشيخ عمر بن محمد الملا أحد الصالحين المشهورين وبه اقتدى في ذلك صاحب إربل وغيره -رحمهم الله تعالى-(4).
وخلاصة القول أنّ الاحتفال بالمولد النبوي لم يكن معروفاً في القرون الثلاثة الأولى التي شهد رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهلها بالخيرية بقوله: "خير الناس قرني في ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم..."(5).
__________
(1) البدعة تحديدها وموقف الإسلام منها (ص:481).
(2) انظر كتاب ظهور خلافة الفاطميين وسقوطها في مصر الدكتور/عبد المنعم ماجد (ص:487).
(3) هو الشيخ عمر بن محمد الملا -له ترجمة في مرآة الزمان لسبط ابن الجوزي (8/310).
(4) الباعث على إنكار البدع والحوادث (ص:16).
(5) صحيح مسلم كتاب فضائل الصحابة، باب فضل الصحابة ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم (4/1963).(26/181)
وإنّما بدأ ذلك في النصف الأخير من القرن الرابع الهجري على يد أحد ملوك الفاطميين وهو المعز لدين الله.
والغرض من ابتداع الاحتفال بالمولد النبوي هو جذب قلوب العامة إلى الدولة الفاطمية الجديدة في مصر كما جزم غير واحد.
يقول السندوني: " ولمّا استقر له الحكم -أي المعز لدين الله- أخذ يفكر في الوسائل الكفيلة باستمالة القلوب، وامتلاك النفوس، واستثارة العواطف حتى تألف الأمة المصرية تصرفات هذه الحكومة الجديدة وترضى عن سياستها في إدارة البلاد، ولمّا كانت الميول العامة لطبقات الأمة المصرية متجهة إلى حب آل بيت الرسول مع الاعتدال في التشيع لهم... رأى المعز لدين الله أنّ أقرب الأسباب للوصول إلى أغراضه من هذا الميل العام الالتجاء إلى الأمور التي تمت بصلة إلى المظهر الديني، فهداه تفكيره إلى أن يقرر إقامة مواسم حافلة وأعياد شاملة في مواعيد مقررة وكان من أولها وأجلّها وأفضلها الاحتفال بذكرى المولد النبوي الشريف"(1).
وبجانب هذه المناسبات والأعياد الدينية فقد كان الخلفاء الفاطميون يشتركون في الاحتفالات التي تقام للأعياد الأخرى مثل عيد الميلاد عند الأقباط في مصر وغيرها من الأعياد والمواسم للغرض نفسه حتى ينالوا رضاء أهل الملل المختلفة القاطنين في مصر.
يقول د. حسن إبراهيم حسن وصاحبه في كتابهما "المعز لدين الله": "وكان الفاطميون يتخذون هذه الأعياد وسيلة لجذب الرعايا إليهم، لذلك شارك المعز القبط في الاحتفال بعيد الميلاد وغيرها"(2).
ومن هنا نقول إنّ إحداث الاحتفال بالمولد النبوي من قبل الخلفاء الفاطميين كان لغرض سياسي بحت دون النظر إلى دوافع دينية أو اعتبارات أخرى بل الغرض الوحيد هو كسب احترام رعايا المسلمين في مصر كما كانوا يعملون مع رعايا غير المسلمين هناك بحيث يشتركون معهم في احتفالاتهم التي ليست لها صلة بالدين.
__________
(1) تاريخ الاحتفال بالمولد النبوي (ص:63).
(2) المعز لدين الله (ص:285) وما بعدها.(26/182)
وهذه سمة عامة الخلفاء الفاطميين منذ أن نشأت دولتهم في مصر عام 357هـ إلى أن سقطت في سنة 5670هـ وإن كان فيهم من أبطل الاحتفال بالمولد النبوي وغيره من الموالد فترة مثل الأفضل أمير الجيوش في سنة 488هـ ولكن أعيد الاحتفال في عهد الآمر بأحكام الله في سنة 495 هـ وبعد ذلك استمر إلى يومنا هذا. وقد أصبح ذلك اليوم في بعض البلاد عيداً رسمياً حيث تعطل المصالح الحكومية والشركات والمؤسسات وتقفل المدارس وتقام حفلات هائلة وتعمل إنارة الطرقات وتزيينها.
والأغرب من ذلك كله أن بعض الحكومات التي تدور في فلك المعسكر الشيوعي الملحد الذي لا يعترف بوجود الله تجعل ذلك اليوم عيداً رسمياً مثل الأعياد الوطنية في عصرنا الحاضر لكسب تأييد رعايا المسلمين فقط دون النظر إلى دوافع دينية -لأنّ الدين عندهم أفيون الشعب- بناء على مبدئهم القائل: الغاية تبرر الوسيلة.
وعلى هذا فغرضهم يتفق مع غرض الدولة الفاطمية في مصر التي أحدثت ذلك الاحتفال وإن اختلفت الأزمنة وبعدت الأمكنة.
المبحث الثاني: حكم الاحتفال بالمولد النبوي:
ذكرنا في المبحث السابق أن الاحتفال بالمولد النبوي في أقدم الأقوال قد بدأ في النصف الأخير من القرن الرابع الهجري.
ومعنى ذلك أنّ الاحتفال بالمولد النبوي لم يكن معروفاً في القرون الفاضلة الثلاثة المشهود لأهلها بالخيرية.
ومع هذا فقد جوز بعض العلماء الاحتفال بالمولد النبوي، بل ذهبوا إلى استحسان الشرع له مستدلين بأدلة نوردها قريباً ولكن هناك فريقاً آخر من العلماء ذهبوا إلى عدم جوازه ورأوا أنّه بدعة محدثة يرفضها الشرع ويأباها، ولهم على ذلك أدلة أخرى.
ومحل التراع بين الفريقين هو إذا كان ذلك الاحتفال خاليًا ممّا يصحبه عادة من المنكرات كاختلاط الرجال بالنساء وغيرها من الأمور المنهية عنها شرعاً وأما إذا صحبته شيء من ذلك فهم مجمعون على عدم جوازه لتلك العلة عند الفريق الأول.(26/183)
وأمّا عند الفريق الثاني، فالعلة عندهم هي إحداثه وبدعيته حتى وإن خلا من المنهيات المصاحبة عادة. وبالتالي فمن باب أولى أن يقولوا بعدم جوازه إذا صاحبته الأمور المنهية عنها شرعاً.
ونذكر هنا آراء كل من الفريقين مع الأدلة التي يستدلون بها ووجهة استدلالهم بها.
أولاً: الفريق الأول: هذا الفريق هو الذي ذهب إلى جواز الاحتفال بالمولد النبوي بل إلى استحسانه بشرط خلوه من المنكرات مثل الطرب والرقص واختلاط الرجال والنساء.
ومن علماء هذا الفريق ابن ناصر الدين الدمشقي (1) وابن الجزري (2) وابن حجر العسقلاني والسيوطي وغيرهم.
وقد استدل كل منهم بما رأى من دليل ومن أهمها:
1- رأي ابن ناصر الدين: يقول ابن ناصر الدين الدمشقي في كتابه، مورد الصادي في مولد الهادي: "ثويبة أول من أرضعت النبي صلى الله عليه وسلم بعد أمه وهي مولاة أبي لهب عمه أعتقها سروراً بميلاد خير الثقلين فلهذا صح أنّه يخفف عنه عذاب النار في مثل يوم الاثنين- ثم أنشد:
إذا كان هذا كافراً جاء ذمه ……وتبت يداه في الجحيم مخلدا
أتى أنه في يوم الاثنين دائماً ……يخفف عنه للسرور بأحمدا
فما الظن بالعبد الذي كان عمره ……بأحمد مسروراً ومات موحدا(3)
__________
(1) هو محمد بن أبي بكر بن عبد الله القيسي الدمشقي شمس الدين الشهير بابن ناصر الدين الدمشقي المتوفى سنة (842هـ) انظر ترجمته في لحظ الألحاظ لتقي الدين محمد بن فهد المكي (ص:317).
(2) هو محمد بن محمد بن علي أبو الخير شمس الدين الدمشقي الشهير بابن الجزري المتوفى سنة (833هـ) انظر ترجمته في مفتاح السعادة لأحمد المصطفى طامش كبري زادة (2/55).
(3) مورد الصادي في مولد الهادي، ورقة (14).(26/184)
3- رأي ابن الجزري: يقول ابن الجزري في هذا المقام: (وقد روي أنّ أبا لهب بعد موته رؤي في النوم فقيل له: ما حالك؟ فقال: في النار إلاّ أنّه يخفف عنّي كل ليلة اثنين وأمص من بين أصبعي ماء بقدر هذا، وأشار إلى ثغرة إبهامه وأنّ ذلك بإعتاقي ثويبة عندما بشرتني بولادة محمد صلى الله عليه وسلم وبإرضاعها له، ثم قال: إذا كان أبو لهب الكافر الذي نزل القرآن بذمه جوزي في النار بفرحه ليلة مولد النبي صلى الله عليه وسلم فما بال المسلم الموحد من أمة محمد صلى الله عليه وسلم يسر بمولده ويبذل ما تتصل إليه قدرته في محبته صلى الله عليه وسلم لعمري إنّما جزاؤه من الله الكريم يدخله بفضله جنات النعيم)(1).
ويلاحظ أن ابن ناصر الدين وابن الجرزي استدلا بدليل واحد هو ما روي أن أبا لهب رؤي في النوم بعد موته وذكر بعد سؤال حاله أنّه يخفف عنهْ العذاب في كل يوم الإثنين لإعتاقه ثويبة بعد ما بشرته بميلاد النبي صلى الله عليه وسلم سروراً بذلك ومن ثم يجعلون ذلك دليلاً على مشروعية الاحتفال بالمولد النبوي لأنّ الكافر وهو أبو لهب يثاب على سروره بمولد المصطفى صلى الله عليه وسلم حيث يخفف عنه العذاب في كل يوم الإثنين، فمن باب أولى أن يثاب المسلم إذا احتفل بالمولد النبوي والثواب لا يكون إلاّ على عمل مشروع فدل ذلك أن الاحتفال بالمولد النبوي عمل مشروع في اليوم الثاني عشر من شهر ربيع الأول. من كل عام.
__________
(1) عرف التعريف بالمولد الشريف، ورقة (143).(26/185)
3- رأي ابن حجر العسقلاني: يقول ابن حجر العسقلاني: (أصل عمل المولد بدعة لم تنقل عن أحد من السلف الصالح من القرون الثلاثة، ولكنها مع ذلك اشتملت على محاسن وضدها، فمن تحرى في عملها المحاسن وتجنب ضدها كان بدعة حسنة وإلا فلا، قال: وقد ظهر لي تخريجها على أصل ثابت وهو ثابت في الصحيحين من أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قدم المدينة فوجد اليهود يصومون يوم عاشوراء فسألهم فقالوا: هذا يوم أغرق الله فرعون ونجّى موسى فنحن نصومه شكراً لله تعالى، فيستفاد منه فعل الشكر لله على ما منّ به في يوم معين من إسداء نعمة أو دفع نقمة، ويعاد ذلك في نظير اليوم من كل سنة والشكر لله يحصل بأنواع العبادة كالسجود والصيام والصدقة والتلاوة وأي نعمة أعظم من النعمة ببروز هذا النبي نبي الرحمة في ذلك اليوم وعلى هذا فينبغي أن يتحرى اليوم بعينه حتى يطابق قصة موسى في يوم عاشوراء، ومن لم يلاحظ ذلك لا يبالي بعمل المولد في أي يوم من الشهر بل توسع قوم فنقلوه إلى أي يوم من السنة وفيه ما فيه، فهذا ما يتعلق بأصل عمله)(1).
ووجه استدلال الحافظ بهذا الحديث أنّ النعمة تقابل بالشكر، فكما نقابل يوم نجاة موسى عليه السلام بالصوم فلا مانع من أن نقابل يوم مولد النبي صلى الله عليه وسلم بلون من ألوان العبادة كالصيام والصدقة والتلاوة وهكذا.
__________
(1) الحاوي للفتاوي للسيوطي (1/196).(26/186)
رأي السيوطي: ينقل السيوطي رأي ابن حجر مع دليله ثم يقول: (وقد ظهر لي تخريجه على أصل آخر وهو ما أخرجه البيهقي عن أنس -رضي الله عنه- "أنّ النبي صلى الله عليه وسلم عق عن نفسه بعد النبوة " (1) مع أنّه قد ورد أن جدّه عبد المطلب عق عنه في سابع ولادته والعقيقة لا تعاد مرة ثانية فيحمل ذلك على أن الذي فعله النبي صلى الله عليه وسلم إظهار للشكر على إيجاد الله إياه رحمة للعالمين، وتشريع لأمته كما كان يصلي على نفسه. لذلك فيستحب لنا أيضاً إظهاراً للشكر بمولده بالاجتماع وإطعام الطعام. ونحو ذلك من وجوه القربات وإظهار المسراتا)(2).
وتوجيه هذا الدليل يقوم على أن الشكر على النعمة يجوز تكراره، فكما كرر النبي صلى الله عليه وسلم العقيقة عن نفسه يجوز أن يكرر المسلمون الاحتفال بمولده صلى الله عليه وسلم شكراً لله على مولد رسولهم الكريم.
ونضيف إلى هذا دليلاً آخر استدل به بعضهم وهو ما أخرجه الإمام مسلم عن أبي قتادة الأنصاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن صوم يوم الإثنين فقال: "فيه ولدت وفيه أنزل عليّ" (3) ووجه الاستدلال بهذا الحديث هو ما دام أنّ الرسول صلى الله عليه وسلم قد خصّص عبادة في هذا اليوم شكراً لله على نعمة إيجاده صلى الله عليه وسلم فكذلك يجوز لنا أن نحتفل في هذا اليوم إظهاراً للسرور بميلاد النبي صلى الله عليه وسلم وشكراً لله على هذه النعمة لأنّه كما قابل الرسول صلى الله عليه وسلم هذه النعمة بالصوم فلا مانع أن نقابل هذه النعمة بألوان من العبادة كالصدقة والتلاوة وغيرها.
__________
(1) السنن الكبري: (9/300).
(2) الحاوي الفتاوي: (1/196).
(3) صحيح مسلم، كتاب الصيام، باب استحباب صيام ثلاثة أيام من كل شهر وصوم يوم عرفة وعاشوراء والاثنين والخميس (2/820).(26/187)
والآراء المذكورة تمثل رأي فريق واسع، إلاّ أنّي اكتفيت بما ذكرت لأنّه يصور واقع هذا الفريق قديماً وحديثاً -وكلهم يعتمدون على هذه الأدلة أو بعضها.
ومجمل الآراء يقوم على أن الاحتفال بالمولد النبوي في اليوم الثاني عشر من شهر ربيع الأول من كل عام عمل مشروع.
وقبل أن نتكلم عن أدلة هذا الفريق من ناحية صحتها أو ضعفها، ومقدار قربها أو بعدها عما سيقت له نذكر رأي الفريق الثاني والأدلة التي يستدل بها من جانبه.
ثانياً: الفريق الثاني: ذهب هذا الفريق إلى عدم جواز الاحتفال بالمولد النبوي سواء صاحبته المنكرات أم لا.
وجمهور العلماء على هذا الرأي ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية وابن الحاج (1) والفاكهاني (2)، ومن أهم آرائهم ما يلي:
1- رأي شيخ الإسلام ابن تيمية: يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في هذا المقام: (ما يحدثه بعض الناس من اتخاذ مولد النبي صلى الله عليه وسلم عيداً إما مضاهاة للنصارى في ميلاد عيسى عليه السلام وإما محبة للنبي صلى الله عليه وسلم وتعظيماً بدعة لأنّ هذا لم يفعله السلف مع قيام المقتضى له، وعدم المانع منه، ولو كان هذا خيراً محضاً، أو راجحاً، لكان السلف - رضي الله عنهم -أحق به منّا فإنهم كانوا أشد محبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم له منا وهم على الخير أحرص وإنما كمال متابعته وطاعته، واتباع أمره، وإحياء سنته باطناً وظاهراً، ونشر ما بعث به، والجهاد على ذلك، بالقلب واليد واللسان، فإن هذه طريق السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان)(3).
__________
(1) هو محمد بن عبد الله بن محمد المبدري المعروف بابن الحاج المتوفي سنة (641هـ) انظر ترجمته في الأعلام للزركلى (7/110).
(2) هو عمر بن أبي اليمن بن سالم اللخمي المالكي الشهير بتاج الدين الفاكهاني المتوفي سنة (734هـ). انظر ترجمته في الديباج المذهب لابن فرحون (2/80-82).
(3) اقتضاء الصراط المستقيم: ص (254-295).(26/188)
وملخص هذا الرأي أنّ الاحتفال بالمولد أمر غير مشروع ومن ثم فهو بدعة لأنّ السلف الصالح لم يحتفلوا به مع قيام المقتضى له وعدم المانع منه حيث كانت الفطرة سليمة، والحرص على التدين أصيل، ولا يسعنا إلا ما وسعهم، وعلينا أن نتبع لا أن نبتدع. ولله در القائل: لن يصلح هذه الأمة الاّ ما صلح به أولها.
2- رأي ابن الحاج: يقول ابن الحاج بعد أن تكلم عن المفاسد المصاحبة للاحتفال بالمولد كالطرب وغيرها: (وهذه المفاسد مركبة على فعل المولد إذا عمل بالسماع فإن خلا منه وعمل طعاماً فقط ونوى به المولد ودعا إليه الإخوان وسلم من كل ما تقدم ذكره فهو بدعة بنفس نيته فقط، إذ أنّ ذلك زيادة في الدين وليس من عمل السلف الماضيين، واتباع السلف أولى بل أوجب من أن يزيد من مخالفة ما كانوا عليه، لأنهم أشد الناس اتباعاً لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وتعظيماً له ولسنته صلى الله عليه وسلم ولهم قدم السبق في المبادرة إلى ذلك ولم ينقل عن أحد منهم أنّه نوى المولد، ونحن لهم تبع فيسعنا ما وسعهم)(1).
وهذا الرأي يقوم على ما قام به رأي ابن تيمية تماماً وهو بدعية الاحتفال بالمولد لأنّ السلف لم يحتفلوا به ولا يسعنا إلاّ ما وسعهم.
__________
(1) المدخل (2/10).(26/189)
3- رأي الفاكهاني: يقول الفاكهاني -رحمه الله-: (لا أعلم لهذا المولد أصلاً في كتاب ولا سنة ولا ينقل عمله عن أحد من علماء الأمة الذين هم القدوة في الدين المتمسكون بآثار المتقدمين، بل هو بدعة أحدثها البطالون وشهوة نفس اعتنى بها الأكّالون بدليل أنا إذا أدرنا عليه الأحكام الخمسة قلنا إمّا أن يكون واجباً أو مندوباً أو مباحاً أو مكروهاً أو محرماً، وليس بواجب إجماعاً ولا مندوباً لأن حقيقة المندوب ما طلبه الشرع من غير ذم على تركه، وهذا لم يأذن به الشرع ولا يفعله الصحابة والتابعون ولا العلماء المتدينون فيما علمت، وهذا جوابي عنه بين يدي الله تعالى إن عنه سئلت، ولا جائزاً أن يكون مباحاً، لأن الابتداع في الدين ليس مباحاً بإجماع المسلمين، فلم يبق إلاّ أن يكون مكروهاً أو محرماً)(1).
وملخص هذا الرأي يقوم على أنّ الاحتفال بالمولد قد أحدثه البطالون والأكالون ومن ثم فهو بدعة لعدم ورود ما يدل على مشروعيته من كتاب ولا سنة صحيحة. ولهذا لا يكون واجباً ولا مندوباً ولا مباحاً وإنما يكون حكمه إمّا مكروهاً أو حراماً.
هذه مجمل ما قيل في هذا الموضوع وهو الاحتفال بالمولد النبوي، وكما نرى أنّ كل فريق من الفريقين يستدل بأدلة تؤيد رأيه.
وقبل أن نصل إلى حكم الاحتفال بالمولد، لا بد من مناقشة الأدلة والنظر فيها لنرى مدى صحتها أو ضعفها ومدى قربها أو بعدها لما استدل بها له.
مناقشة الأدلة: ونبدأ بأدلة الفريق الأول:
1- استدلالهم بأن أبا لهب قد رؤي في النوم وإخباره بأنّه يخفف عنه العذاب في كل يوم الإثنين جزاء إعتاقه ثويبة عند ما بشرته بميلاد المصطفى صلى الله عليه وسلم وسروره بذلك.
قبل أن نرفض الاستدلال بمثل هذا النص الوارد عن رؤيا منامية نذكر سند الحديث ومتنه لأنّه خير ما يساعدنا في الرفض.
__________
(1) الحاوي للفتاوي: (1/190-191).(26/190)
قال البخاري -رحمه الله تعالى-: (حدثنا الحكم بن نافع أخبرنا شعيب، عن الزهري، قال أخبرني عروة بن الزبير قال: "وثوبية مولاة لأبي لهب كان أبو لهب أعتقها فأرضعت النبي صلى الله عليه وسلم فلما مات أبو لهب أريه بعض أهله بشر حيبة(1).
قال: ماذا لقيت؟ قال أبو لهب: لم ألق بعدكم غير أنّي سقيت في هذه بعتاقي ثويبة"(2).
وهذا الحديث لم يسلم عن مقال لا من ناحية السند ولا من ناحية المتن والاستشهاد به مردود لعدة أسباب: أ) إمّا من ناحية السند فهو حديث مرسل أرسله عروة كما هو واضح.
ب) وإمّا من ناحية المتن فهو مخالف لما دلّ عليه القرآن حيث يقول الله تعالى:
((وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً)) [الفرقان:23].
وقد ذكر علماء التفسير في معنى الآية أنّ الكافر إذا فعل عمل خير لا يثاب عليه لفقده الإيمان الذي هو أساس قبول الأعمال كلها ومن ثم عمله يكون كالهباء المنثور. (3)ولذلك بانت معارضة الحديث للآية.
وأخيراً فإنّ مثل هذا النص مع فرض صحته ومع تصوّر عدم معارضته للقرآن الكريم لا يفيد حكماً شرعياً لأنّه تصوير لرؤيا منامية رآها كافر وهو العباس بن عبد المطلب الذي لم يسلم بعد وقت الرؤيا، ورؤيا الناس عموماً -ما عدا الأنبياء عليهم الصلاة والسلام- لا تفيد حكماً شرعياً، ومن باب أولى إذا كانت رؤية الكفار.
__________
(1) أي بشر حال، والحيبة والحوبة: الهم والحزن، والحيبة أيضاً الحاجة والمسكنة، النياية في غريب الحديث (1/466).
(2) صحيح البخاري، كتاب النكاح، باب (وأمهاتهم اللاتي أرضعنكم) يحرم من الرضاعة ما حرم من النسب (3/243).
(3) انظر تفسير القرطيى: (13/21-22).(26/191)
وأمّا ما ثبت (1) في حق أبي طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم من تخفيف العذاب عنه في النار مع كفره وبقائه في الشرك حتى فارق الحياة فمخصوص ولا يتعدى إلى غيره.
وهذا الحديث لا يصح للأمور التي ذكرناها، ومن ثم لا تقوم به الحجة.
وإذا كان كذلك فلننظر الأدلة الأخرى التي يستدلون بها:
استدلالهم بالحديث المتعلق بصيام يوم عاشوراء على جواز الاحتفال بالمولد قياساً على ذلك لعلة حصول النعمة فيهما فمردود لأن إظهار الشكر فيهما على طرفي نقيض، وذلك أن يوم عاشوراء يوم صوم، وأن الاحتفال بالمولد يوم أكل وشرب، ولو عمل في يوم المولد من جنس ما يعمل في يوم عاشوراء وهو الصيام لكان أقرب وإن كان هذا لا يخرجه عن البدعة لعدم مشروعيته في ذلك اليوم الموافق الثاني عشر من ربيع الأول، ولأنّ مثل هذه الأعمال التي يتقرب بها إلى الله لا تثبت بالقياس كما يقال: أنّ الأصل في العادات أن لا يشرع فيها إلا ما يشرعه الله وأن الأصل في العادات أن لا يحظر منها الاّ ما حظره الله.
ولهذا لا يمكن الاستدلال بهذا الحديث مع ثبوته لعدم مطابقته هذا المقام الذي نحن بصدده.
__________
(1) إشارة إلى الحديث الذي أخرجه الأمام مسلم عن العباس بن عبد المطلب أنه قال: يا رسول الله، هل نفعت أبا طالب بشيء، فإنه كات يحوطك ويغضب لك؟ قال: "نعم في ضحضاح من نار ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار". انظر صحيح مسلم كتاب الإيمان، باب شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم لأبي طالب والتخفيف عنه بسببه (1/155).(26/192)
استدلالهم بالحديث الذي أخرجه البيهقي عن أنس -رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم قد عق عن نفسه بعد النبوة فهو حديث لا يستدل به، وسند الحديث ونصّه هو الآتي: قال البيهقي -رحمه الله-: (أخبرنا أبو الحسن محمد بن الحسين بن داود العلوي -رحمه الله- أنبأنا حاجب بن أحمد بن سفيان الطوسي، ثنا محمد بن حماد الايبردي ثنا عبد الرزاق، أنبأنا عبد الله بن محرر، عن قتادة، عن أنس -رضي الله عنه-: أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قد عقّ عن نفسه بعد النبوة "(1). ففي إسناد هذا الحديث رجل قد جرحه غير واحد من النقاد وهو عبد الله بن محرر.
ونذكر هنا أقوال العلماء فيه: يقول البخاري: (عبد الله بن المحرر عن قتادة، متروك الحديث (2)، وهنا عن قتادة.
يقول النسائي: (عبد الله بن محرر يروي عن قتادة متروك الحديث)(3).
ويقول ابن أبي حاتم عن أبيه: (عبد الله بن محرر متروك)(4).
ويقول ابن حبان: (كان من خيار عباد الله، ممن يكذب ولا يعلم ويقلب الإسناد ولا يفهم)(5).
ويقول البيهقي عن عبد الرزاق (6) قال: (إنّما تركوا عبد الله بن محرر لأجل هذا الحديث(7).
من هذه الأقوال التي أوردتها يتبين لنا أنّ هذا الحديث لا يصح سنده لوجود راوٍ متروك في سنده ومن ثم لا يمكن الاستدلال به في هذا المقام.
هذا من ناحية السند، وأمّا من ناحية المتن فلا يمكن أن يستدل به أيضاً لما نحن بصدده وهو الاحتفال بالمولد وإنّما غاية ما يستدل به عليه مشروعية العقيقة بعد البلوغ أن فرضنا صحته، وهيهات أن يصح.
__________
(1) السنن الكبرى: (5/300).
(2) الضعفاء الصغير: (ص:67).
(3) الضعفاء والمتروكين: (ص:63).
(4) الجرح والتعديل لابن أبي حاتم.
(5) المجروحين: (2/23).
(6) هو عبد الرزإق بن همام الصنعاني صاحب المصنف.
(7) السنن الكبري: (9/300).(26/193)
4- استدلالهم بصيامه صلى الله عليه وسلم في كل يوم الإثنين معللاً بأنّه اليوم الذي ولد فيه واليوم الذي أنزل عليه فمردود لأن صيامه صلى الله عليه وسلم لم يكن في اليوم الثاني عشر من ربيع الأول من كل عام وإنما كان في يوم الإثنين من كل أسبوع وفي كل شهر من شهور السنة. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فعلينا أن نشكر الله بمثل ما شكره به صلى الله عليه وسلم وهو الصيام مع مراعاة الوقت الذي شرع فيه لا أن نحتفل ونأكل ونشرب.
من هذه المناقشة يتبيّن لنا أنّ ما ذهب إليه هذا الفريق وهو جواز الاحتفال بالمولد النبوي واستحبابه غير صحيح، لاستدلالهم بأدلة بعضها واهٍ وبعضها غير مطابق لما استدل به عليه كما ذكرنا وإن كانت ثابتة.
وأمّا أدلة الفريق الثاني: فيدور استدلالهم على ضرورة الاتباع لما كان عليه السلف الصالح فهم خير من نقل دين الله إلينا كما أخذوه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنّه لم ينقل أحد منهم جواز الاحتفال بالمولد النبوي ولا خطر في بالهم يوماً ما مع حبّهم واحترامهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم بل نقل عنهم الاختلاف في وقت ولادته، وهذا يدل على أنّ السلف الصالح كانوا لا يرون تخصيص يوم ولادته بعبادة معينة أو إقامة احتفال.
وعلى هذا فإنّ الاحتفال بالمولد يدخل في ضمن البدع المنهي عنها في كثير من الأحاديث.
منها قوله صلى الله عليه وسلم: ومنها قوله صلى الله عليه وسلم: " فإن خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة"(1).
ومنها قوله صلى الله عليه وسلم: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد"(2).
ومن هنا نقول إنّ رأي الفريق الثاني هو الراجح لأنّه مبني على الاتباع وترك الابتداع.
__________
(1) صحيح مسلم، كتاب الجمعة، باب تخفيف الصلاة والخطبة (2/552).
(2) صحيح مسلم، كتاب الأقضية، باب نقض الأحكام الباطلة. محدثات الأمور (3/1343).(26/194)
ولا يفهم من هذا أنّ ترك الاحتفال بالمولد النبوي جفوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وإهمال لحبه كما يقول الجهال لأنّ الاتباع الدقيق هو الحب الحقيقي ويكون مستمراً طول الحياة في كل يوم وليلة ولا يختص بيوم من السنة دون غيره من الأيام كما يفعله المحتفلون المبتدعون. وبالإضافة إلى ذلك فإن الابتداع يعتبر زيادة في الدين خارجة عنه بعد أن أكمله الله تعالى بنزوله على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
يقول الله تعالى: ((الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِيناً)) [المائدة:3] وبالتالي يقف المبتدع موقف المستدرك على الشارع سبحانه وتعالى وعلى صاحب الرسالة صلى الله عليه وسلم المبلغ عن الله -عز وجل-.
وهذا سوء الأدب بعينه مع الله ومع رسوله صلى الله عليه وسلم وإن لم يقصد بذلك وحسنت نيته لأنّ حسن النية لا يحلل حراماً ولا يحرم حلالاً كما أنها لا يكون مبرراً لزيادة في دين الله أو النقصان منه لأنّ المرجع في كل ما يتعلق بأمر الدين هو كتاب الإله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
وعلى المسلم أن يراعي ذلك الجانب حتى لا يقع في منزلق لا يحمد عقباه وأن ينظر ما يتقرب به إلى الله قبل أن يقدم عليه فيعرف سنده من الكتاب والسنة عملاً بقوله تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)) [الحجرات:1].
الفصل الثالث
البدع الملحقة بمسجده صلى الله عليه وسلم(26/195)
من المعلوم أنّ المسجد النبوي الشريف هو أول مسجد بناه رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة بعد وصوله إياها مهاجراً وله فضائل كثيرة يشترك فيها معه المسجد الحرام والمسجد الأقصى وأخرى خاصة به، ولكنّ الناس ابتدعوا أموراً يفعلونها في المسجد النبوي تقرباً إلى الله -تعالى- في ظنهم وتأدباً مع الرسول صلى الله عليه وسلم كما يزعمون بناء على أدلة واهية لا تثبت بمثلها الأحكام أو على استحسان منهم دون الرجوع إلى أدلة الشرع من الكتاب والسنة والإجماع والقياس.
وكثير من هذه المبتدعات من وضع أعداء الإسلام الذين يقصدون تشويه الحق، وصرف المسلمين عن التدين الصادق الذي يجعل التوجه كله لله عبودية واستقامة. وبذلك يتوصلون إلى صرف الناس إلى الانغماس في اللهو والبدع بلا فائدة.
وبجانب فعلهم هذه المنكرات في المسجد النبوي الشريف فإن المبتدعين يرمون من ينهاهم عن هذه الأفعال بأنه لا يحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك لقيامه بواجبه الذي كلف به من قبل الله -سبحانه وتعالى- وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والنصح الذي هو لله ولرسول الله صلى الله عليه وسلم ولأئمة المسلمين وعامتهم.
وهذا ما سوف نبينه في هذا الفصل الذي يتكون من مبحثين:
المبحث الأول: فضائل المسجد النبوي.
المبحث الثاني: ما يفعله الجهّال من البدع في مسجده صلى الله عليه وسلم.
وذلك فيما يلي:
المبحث الأول: فضائل المسجد النبوي:
للمسجد النبوي الشريف على صاحبه أفضل الصلاة والسلام فضائل كثيرة منها ما يشترك فيها مع المسجد الحرام بمكة والمسجد الأقصى، ومنها ما هو خاص به.(26/196)
أمّا الفضائل المشتركة: فمنها مشروعية شد الرحال إليه لما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجد الرسول صلى الله عليه وسلم، ومسجد الأقصى"(1).
وهذه فضيلة مشتركة بين المساجد الثلاثة كما يفيد منطوق الحديث ولا تتعدى هذه الفضيلة إلى غير هذه الثلاثة المنصوصة في الحديث كما جزم بذلك العلماء.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية بعد ذكره هذا الحديث: " فالسفر إلى هذه المساجد الثلاثة للصلاة فيها والدعاء والذكر والقراءة والاعتكاف من الأعمال الصالحة، وما سوى هذه المساجد لا يشرع السفر إليه باتفاق أهل العلم حتى مسجد قباء يستحب قصده من المكان القريب كالمدينة ولا يشرع شد الرحال إليه"(2).
ومن تلك الفضائل مضاعفة ثواب الصلاة في مسجده صلى الله عليه وسلم لما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: "صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلاّ المسجد ا لحرام"(3).
هذه الفضيلة ثابتة للمسجد النبوي الشريف بنص الحديث، لكنّ استشكل العلماء حول المراد من هذا الاستثناء، هل هو أن الصلاة في المسجد النبوي أفضل من الصلاة في المسجد الحرام بدون الألف أم أنّ الصلاة في المسجد الحرام أفضل من الصلاة في المسجد النبوي الشريف.
وممن قال بالقول الأول: الإمام مالك وطائفة من العلماء: وأمّا الإمام الشافعي وجماهير العلماء، فقد ذهبوا إلى الثاني.
__________
(1) صحيح البخاري، كتاب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة (1/206) واللفظ للبخاري. وصحيح مسلم، كتاب الحج، باب لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد (2/1014).
(2) اقتضاء الصراط المستقيم (430).
(3) صحيح البخاري في أبواب التطوع، باب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة (1/206) واللفظ للبخاري. وصحيح مسلم في كتاب الحج، باب فضل الصلاة بمسجدي مكة والمدينة (2/1012).(26/197)
يقول الإمام النووي -رحمه الله تعالى- عند شرحه هذا الحديث: "اختلف العلماء في المراد بهذا الاستثناء على حسب اختلافهم في مكة والمدينة أيتهما أفضل، ومذهب الشافعي وجماهير العلماء أنّ مكة أفضل من المدينة وأنّ مسجد مكة أفضل من مسجد المدينة، وعكسه مالك وطائفة.
فعند الشافعي والجمهور معناه إلاّ المسجد الحرام فإنّ الصلاة فيه أفضل من الصلاة في مسجدي، وعند مالك وموافقيه إلا المسجد الحرام فإنّ الصلاة في مسجدي تفضله بدون الألف"(1).
وكلا التأويلين محتمل إذا لم نجد من الخارج ما يرجح أحدهما من الآخر كما أنّ هناك تأويلاً ثالثاً محتملاً وهو أنّ الصلاة فيهما سواء.
وقد ذكر ابن حزم الظاهري التأويل الثالث عند ذكره هذا الحديث حيث قال: "تأوّلوا أن الصلاة في مسجد المدينة أفضل من الصلاة في مسجد مكة بدون الألف، وقلنا نحن: بل هذا الاستثناء أنّ الصلاة في المسجد الحرام أفضل من الصلاة في مسجد المدينة، ثم قال: فكلا التأويلين محتمل نعم وتأويل ثالث وهو المسجد الحرام فإنّ الصلاة في كليهما سواء ولا يجوز المصير إلى أحد هذه التأويلات دون الآخر إلاّ بنص آخر وبطل أن يكون في هذا الخبر بيان فضل المدينة على مكة"(2).
ممّا سبق يتضح لنا أن التأويلات الثلاثة محتملة ولكن تأويل الجمهور هو الأصح لثبوت ما يرجح ذلك وهو الحديث الذي في مسند الإمام أحمد -رحمه الله- عن عبد الله بن الزبير -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام، وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة صلاة في هذا"(3).
ومن العلماء من صحّح هذا الحديث ومنهم من حسّنه فمن الأولين ابن حزم الظاهري حيث قال: "حديث ابن الزبير صحيح فارتفع الإشكال"(4).
__________
(1) صحيح مسلم بشرح النووي (9/163).
(2) المحلى (7/284).
(3) مسند أحمد (4/5).
(4) المحلى (7/290).(26/198)
ومن الفريق الثاني النووي حيث قال: "حديث حسن رواه أحمد بن حنبل فى مسنده"(1).
وسواء قلنا أنّ هذا الحديث الذي نحن بصدده صحيح أو حسن فلا يخرج من دائرة الاحتجاج به والغرض الذي من أجله أوردناه وهو ثبوت أفضلية مسجد مكة على مسجد المدينة وكذلك مضاعفة ثواب الصلاة في مسجده صلى الله عليه وسلم وهو ما يهمنا في هذا المقام، وإن اشترك في ذلك المسجد الحرام وزاد عليه.
ومن تلك الفضائل كونه حرماً مثل المسجد الحرام لدخوله في حدود حرم المدينة المنورة التي حددها رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: "إنّ إبراهيم حرم مكة وإني حرمت المدينة ما بين لابتيها لا يقطع عضاهها (2) ولا يصاد صيدها(3).
وبقوله صلى الله عليه وسلم: "المدينة حرم ما بين عير الى ثور... "(4).
هذان الحديثان يحددان لنا حدود حرم المدينة المنورة بحيث أنّ الحديث الأول يحدد الحرم من ناحية العرض وأنه يقع ما بين لابتي المدينة وهما الحرتان الوبرة والواقم أولاهما تقع في غرب المدينة وثانيهما تقع في شرق المدينة.
يقول الدكتور/محمد حسن هيكل: "تحد هذه الحرة وهي الواقم المدينة من الشرق وتحدها حرة الوبرة بن الغرب"(5).
وأما الحديث الثاني فيحد لنا حرم المدينة المنورة من جهة الطول بحيث يقع الحرم ما بين عير إلى ثور وهما أي عير وثور جبلان يقع أولاهما جنوب المدينة وثانيهما يقع في شمال المدينة.
__________
(1) صحيح مسلم بشرح النووي (9/164).
(2) عضاة: كل شجر عظيم له شوك. انظر النهاية في غريب الحديث (3/255).
(3) صحيح مسلم في كتاب الحج، باب فضل المدينة (2/992).
(4) صحيح مسلم كتاب الحج، باب فضل المدينة (2/995).
(5) في منزل الوحي (ص:582).(26/199)
يقول عبد القدوس الأنصاري: "عير وثور اسما جبلين من جبال المدينة أولهما عظيم شامخ يقع بجنوبي المدينة على مسافة ساعتين عنها تقريباً بسير الأقدام غير المستعجل، وثانيهما أحمر صغير يقع شمال أحد، ويحدان حرم المدينة جنوباً وشمالا"(1).
وعلى هذا فيدخل جبل أحد في حدود حرم المدينة المنورة.
يقول صاحب (2) حسن التوسل في آداب زيارة أفضل الرسل عند تحديده حرم المدينة: "وحرمها من عير بفتح العين المهملة إلى ثور طولا، وثور جبل صغير خلف أحد وعرضا ما بين لابتيها، واللابتان الحرتان السود"(3).
وخلاصة القول أن حرم المدينة المنورة تحده من الشرق الواقم ومن الغرب الوبرة ومن الجنوب جبل يسمى عيراً ومن الشمال جبل يسمى ثور وهو غير ثور الذي بمكة على الأصح خلافاً لمن نفى ذلك عن المدينة كأبي عبيد القاسم بن سلام ومن تبعه في ذلك كالزمخشري حيث قال: "هما جبلان بالمدينة وقيل لا يعرف بالمدينة جبل يسمى ثوراً وإنما ثور بمكة ولعل الحديث ما بين عير إلى أحد"(4).
وهذا وهم منهم كما جزم غير واحد من العلماء.
يقول الفيروزآبادي: "ثور جبل بالمدينة ومنه الحديث الصحيح:
"المدينة حرم ما بين عير إلى ثور" (5)، وأمّا قول أبي عبيد القاسم بن سلام وغيره من أكابر الأعلام أنّ هذا تصحيف والصواب إلى أحد لأنّ ثوراً إنما هو بمكة فغير جيّد"(6).
__________
(1) آثار المدينة (209).
(2) تقدمت ترجمته في (ص:204).
(3) حسن التوسل في آداب زيارة أفضل الرسل (ص:223).
(4) الفائق (3/429).
(5) مسلم في كتاب الحج باب فضل المدينة (2/995).
(6) القاموس المحيط مادة ثور (1/398).(26/200)
هذا ما يتعلق بالفضائل المشتركة بين المسجد النبوي الشريف وبين المسجد الحرام أو المسجد الأقصى. وأمّا الفضيلة الهامة التي يختص بها المسجد النبوي فهي الروضة التي بين بيته ومنبره صلى الله عليه وسلم حيث وصفها رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنها روضة من رياض الجنة في الحديث الذي أخرجه الشيخان عن عبد الله بن زيد المازني أنّه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة"(1).
وفي رواية: "ما بين قبري ومنبري"(2).
والرواية الثانية: لا تصح وإنما هي رواية بالمعنى كما جزم ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية بعد ذكره هذا الحديث حيث قال: "هذا هو الثابت الصحيح ولكنّ بعضهم رووه بالمعنى فقال: "قبري" وهو صلى الله عليه وسلم حين قال هذا القول لم يكن قد قبر - صلى الله عليه وسلم-. ولهذا لم يحتج بهذا أحد من الصحابة حينما تنازعوا في موضع دفنه، ولو كان هذا عندهم لكان نصاً في محل النزاع ولكن دفن في حجرة عائشة في الموضع الذي مات فيه بأبي وأمي -صلوات الله وسلامه عليه"(3).
وعلى هذا لا نحتاج إلى تكلف في الجمع بين الروايتين كما فعل الطحاوي في مشكل الآثار بل وعده من علامات النبوة قائلاً: "في هذا الحديث معنى يجب أن يوقف عليه وهو قوله صلى الله عليه وسلم: "ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة"(4).
__________
(1) صحيح البخاري أبواب التطوع فضل ما بين القبر والمنبر ص (1/207).
(2) صحيح مسلم في كتاب الحج باب ما بين القبر والمنبر روضة من رياض الجنة (2/1010).
(3) القاعدة الجليلة في التوسل والوسيلة (ص:74).
(4) مشكل الآثار (4/72).(26/201)
على أكثر ما في هذه الآثار وعلى ما في سواه منها: "ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة" (1) فكان تصحيحها يجب به أن يكون بيته هو قبره وكون ذلك علامة من علامات النبوة جليلة المقدار لأنّ الله -عز وجل- قد أخفى على كل نفس سواه الأرض التي يموت بها لقوله عز وجل: ((وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ)) [لقمان:34] فأعلمه الموضع الذي يموت فيه والموضع الذي فيه قبره حتى علم بذلك في حياته وحتى أعلمه من أعلمه من أمته فهذه منزلة لا منزلة فوقها زادها الله شرفاً وخيراً"(2).
وخلاصة القول: أن هذه الفضيلة ثابتة لا يشترك فيها غيره من المساجد ولكنّ العلماء اختلفوا في معنى قوله صلى الله عليه وسلم: "روضة من رياض الجنة"(3).
هل هذه البقعة بعينها من الجنة أم أن العمل فيها يؤدي إلى دخول الجنة؟.
يقول القاضي عياض -رحمه الله تعالى-: "قوله: "روضة من رياض الجنة" (4) يحتمل معنيين:
أحدهما: أنه موجب لذلك وأنَّ الدعاء والصلاة فيه يستحق ذلك من الثواب.
الثاني: أنّ تلك البقعة قد ينقلها الله فتكون في الجنة بعينها"(5).
__________
(1) تقدم تخرمجه في الصفحة السابقة.
(2) مشكل الآثار: (4/72).
(3) جزء من الحديث المتفق عليه الذي تقدم تخريجه في الصفحة السابقة.
(4) جزء من الحديث المتفق عليه الذي تقدم تخريجه في الصفحة السابقة.
(5) الشفا (2/683).(26/202)
والمعنى الأول هو الأولى وهو المعنى الذي أيده ابن حزم وذكره الحافظ ابن حجر العسقلاني. يقول ابن حزم -رحمه الله-: "وهذا الحديث ليس على ما يظنه أهل الجهل من أنّ تلك الروضة قطعة منقطعة من الجنة، هذا كذب وباطل لأنّ الله يقول في الجنة: ((إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى * وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى)) [طه:118-119]. فهذه صفة الجنة بلا شك، وليست هذه صفة الروضة، ورسول الله لا يقول إلا الحق، فصح أن تكون تلك الروضة من الجنة إنما هو لفضلها وأن الصلاة فيها تؤدي إلى الجنة"(1).
ويقول الحافظ ابن حجر -رحمه الله-: "إنه كروضة من رياض الجنة في نزول الرحمة وحصول السعادة بما يحصل من ملازمة حلق الذكر، لا سيما في عهده صلى الله عليه وسلم فيكون تشبيهاً بغير أداة، أو المعنى أن العبادة فيه تؤدي إلى الجنة فيكون مجازاً"(2).
المبحث الثاني: ما يفعله الجهال من البدع في مسجده صلى الله عليه وسلم:
كثير من الناس يفعلون أموراً منكرة لا أساس لها من الدين عند زيارتهم المسجد النبوي الشريف وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً، ويحتجون على أعمالهم تلك بالاستحسان العقلي أو بأدلة واهية باطلة.
وفي هذا المبحث سنذكر -بمشيئة الله تعالى- أهم تلك البدع التي تقع في مسجده صلى الله عليه وسلم مبينين بدعيتها تذكيراً لهؤلاء الجهال ومن في حكمهم حتى لا يقعوا فيها بعد البيان ولإقامة الحجة عليهم أمام الله تعالى: ((لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ)) [الأنفال:42].
من تلك البدع التزام الزوار الإقامة في المدينة المنورة أسبوعاً أو ثمانية أيام حتى يتمكنوا من الصلاة في مسجده صلى الله عليه وسلم أربعين صلاة لكي يكتب لهم البراءة من النار والنجاة من العذاب والبراءة من النفاق محتجين بالحديث الآتي:
__________
(1) المحلى: (7/283-285) مع التصرف.
(2) فتح الباري: (4/100).(26/203)
قال الإمام أحمد: حدثنا الحكم بن موسى حدثنا عبد الرحمن بن أبي الرجال عن نبيط بن عمرو عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من صلى في مسجدي أربعين صلاة لا يفوته صلاة كتبت به براءة من النار ونجاة من النار وبرئ من النفاق"(1).
واستدلالهم بهذا الحديث مأخوذ من ظاهره فهو يفيد أن من صلى أربعين صلاة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم يبرأ من النار والنفاق ونجا منهما، وهم بهذا الحديث يتمسكون ببدعتهم هذه، وهذا استدلال صحيح لو كان الحديث مما يحتج به.
وقد تكلم العلماء عن هذا الحديث حيث قال العلماء القدماء في صحته ما يلي: قال المنذري: "رواه أحمد ورواته رواة الصحيح والطبراني في الأوسط وهو عند الترمذي بغير هذا اللفظ"(2).
وقال الهيثمي: "روى الترمذي بعضه، ورواه أحمد والطبراني في الأوسط ورجاله ثقات"(3).
هذه أقوال العلماء القدماء في هذا الحديث ولكن محمد ناصر الدين الألباني قد ضعّف هذا الحديث بسبب وجود راو مجهول في سنده وهو نبيط بن عمرو: قال الألباني: "وهذا سند -أي سند هذا الحديث الذي نحن بصدده- ضعيف، نبيط هذا لا يعرف إلا في هذا الحديث، وقد ذكره ابن حبان في الثقات على قاعدته توثيق المجهولين، وهو عمدة الهيثمي في قوله في المجمع 4/8: رواه أحمد والطبراني في الأوسط ورجاله ثقات وأمّا قول المنذري في الترغيب (2/136) رواه أحمد ورواته رواة الصحيح والطبراني في الأوسط فوهم واضح لأن نبيط هذا ليس من رواة الصحيح ولا روى له أحد من بقية الستة"(4).
__________
(1) المسند: (3/155).
(2) الترغيب والترهيب: (2/136).
(3) مجمع الزوائد: (44/8).
(4) سلسلة الأحاديث الضعيفة م (1/366).(26/204)
وقد تتبعت نبيط هذا في كتاب الجرح والتعديل وكتب التراجم الأخرى فلم أجد من ترجم له إلا ابن حبان في الثقات (1) والحافظ ابن حجر العسقلاني في تعجيل المنفعة (2) الذي اكتفى بقوله: ذكره ابن حبان في الثقات.
وعلى هذا نقول: إن سند هذا الحديث ضعيف لوجود راوٍ مجهول كما بينا وهو نبيط بن عمرو، ومن ثم لا يمكن الاحتجاج به في هذا المقام.
وإذا كان كذلك فيكون التزام الزوار الإقامة في المدينة بثمانية أيام بدعة لغرض الصلاة في مسجده صلى الله عليه وسلم أربعين صلاة حتى يبرأوا من النفاق ومن العذاب.
والبدعة تأتي من ناحية تحديد الأيام وعدد الصلوات ومن ناحية الثواب المترتب على ذلك لا من ناحية مجرد الصلاة في مسجده صلى الله عليه وسلم بل ثبت أن ثواب الصلاة فيه يضاعف كما بينا في المبحث السابق عند حديثنا عن الفضائل الثابتة لمسجده صلى الله عليه وسلم.
ومن تلك البدع الخروج من المسجد النبوي الشريف القهقرى تأدباً معه وتوقيراً له وإيماناً منهم أنّ الخروج العادي يترتب عليه الإدبار عن المسجد وهو سوء أدب عندهم حسب عقولهم بينما هذا سوء أدب لأن هذا الفعل غير مشروع ولأنه يترتب عليه أن يفعلوا هذا الفعل مع شيوخهم وكبرائهم سواء كانوا أحياء أو أمواتاً، ولأن الشرع لا يثبت بالرأي ولا باستحسان المستحسنين.
ولله در الإمام علي -رضي الله عنه- حيث قال: "لو كان الدين بالرأي لمسح أسفل القدم أولى من ظهرها"(3).
__________
(1) انظر الثقات: (5/483).
(2) تعجيل المنفعة: (421).
(3) رواه الدارمي في سننه (1/181) بلفظ: لولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل كما رأيتموني فعلت لرأيت أن باطن القدمين أحق بالمسح من ظاهرهما.(26/205)
يقول ابن الحاج في هذا المقام: "وليحذر ما يفعله بعضهم من هذه البدعة وهو أنّهم إذا خرجوا من مكة يخرجون من المسجد القهقرى وكذلك يفعلون في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم حين وداعهم له -عليه الصلاة والسلام- ويزعمون أن ذلك من باب الأدب. وذلك من البدع المكروهة التي لا أصل لها في الشرع الشريف ولم يفعلها أحد من السلف -رضي الله عنهم- وهم أشد الناس حرصاً على اتباع سنة نبيهم صلى الله عليه وسلم ثم أدت هذه البدعة التي أحدثوها وعللوها إلى أن صاروا يفعلونها مع مشائخهم ومع كبرائهم وعند المقابر التي يحترمونها ويعظمون أهلها ويزعمون أن ذلك من باب الأدب"(1).
ومن تلك البدع رفع الصوت بالصلاة والسلام في المسجد النبوي الشريف لأن ذلك يؤدي إلى سوء الأدب مع النبي صلى الله عليه وسلم ومع المسجد وإن كان هذا الحكم يتعدى إلى غيره من المساجد إلا أنه يتأكد في هذا المسجد لمكانته عند الله وعند المسلمين.
وقد كان عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يمنع أن يرفع الأصوات في المسجد النبوي الشريف بل كان يتوعد على من يفعل ذلك بالعقاب الشديد.
والدليل على ذلك ما أخرجه البخاري -رحمه الله تعالى- في صحيحه عن السائب بن يزيد قال: "كنت قائماً في المسجد فحصبني رجل فنظرت فإذا هو عمر بن الخطاب فقال: اذهب فأتني بهذين فجئته بهما قال: من أنتما أو من أين أنتما؟ قالا: من أهل الطائف قال: لو كنتما من أهل البلد لأوجعتكما ترفعان أصواتكما في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم"(2).
__________
(1) المدخل: (4/238).
(2) صحيح البخاري، كتاب الصلاة، باب رفع الصوت في المساجد (1/93).(26/206)
هذا الحديث يدل على أن رفع الصوت ممنوع في مسجده صلى الله عليه وسلم لأنّ ذلك ينافي الأدب مع النبي صلى الله عليه وسلم ويدخل في عموم النهي عن رفع الصوت فوق صوته والجهر له في قوله تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ)) [الحجرات:2].
ومنها أكل التمر الصيحاني في الروضة الشريفة (1) تبركاً بها لزعمهم أنّه صاح بالنبي صلى الله عليه وسلم.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "وأما التمر الصيحاني فلا فضيلة فيه بل غيره من التمر البرني والعجوة خير منه والأحاديث إنما جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم في مثل ذلك كما جاء في الصحيح: "من تصبح كل يوم بسبع تمرات عجوة لم يضره في ذلك اليوم سم ولا سحر"(2).
ولم يجئ عنه في الصيحاني شيء، وقول بعض الناس أنّه صاح بالنبي صلى الله عليه وسلم جهل منه، بل إنما سمي بذلك ليبسه فإنه يقال تصوح التمر إذا يبس"(3).
ومن ذلك وقوف بعضهم أمام القبر بغاية الخشوع واضعاً يمينه على يساره كما يفعل في الصلاة.
ومنها استقبال القبر للدعاء عنده رجاء الإجابة(4).
ومنها قصد الصلاة تجاه القبر(5).
ومنها زيارة قبره صلى الله عليه وسلم قبل الصلاة في مسجده.
ومنها تخصيص ليلة سبع وعشرين من رمضان بموعظة التي يلقيها إمام المسجد النبوي للاعتقاد أنها ليلة القدر.
ومنها قراة دعاء ختم القرآن في آخر ليلة من رمضان جماعة.
__________
(1) الباعث على إنكار البدع (ص:70).
(2) صحيح البخاري، كتاب الأطعمة، باب العجوة (3/301). وصحيح مسلم، كتاب الأشربة، باب فضل تمر المدينة (3/1618)، واللفظ للبخاري.
(3) مجموعة الرسائل الكبرى: (2/413).
(4) المصدر السابق: (2/390).
(5) حجة النبي صلى الله عليه وسلم للألباني (ص:140).(26/207)
ومنها الأذان الأول في يوم الجمعة في المسجد النبوي قبل صعود الإمام على المنبر بزمن يسير جداً لأن عثمان بن عفان رضي الله عنه فعل ذلك قبل الأذان الثاني بزمن كاف لاستعداد أهل البلد لحضور الخطبة.
وهذه مجمل البدع التي تفعل في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم عن جهل أو استحسان من بعض الناس حسب ما تسول لهم أنفسهم دون الرجوع إلى الكتاب والسنة.
وما ذكرنا من البدع في هذا المبحث يعتبر نموذجاً لما يفعل في المسجد النبوي وليس للحصر لأن المقام لا يتسع لأكثر من ذلك.
الفصل الرابع
البدع الملحقة بزيارة قبره صلى الله عليه وسلم
قبر النبي صلى الله عليه وسلم ملحق بمسجده الشريف وزيارة القبر سنة مشروعة لمن كان في المدينة وضواحيها كزيارة سائر القبور للاتعاظ والعبرة والدعاء للميت وتذكر ما كان وما سيكون بإذن الله تعالى.
وقد ألحق أهل البدع مخترعات لا أصل لها وهم يزورون قبر النبي - صلى الله عليه وسلم- ظانين أن ذلك حب له -عليه الصلاة والسلام- وتعظيم وتوقير مثل التبرك والتمسح بقبره والدعاء عنده معتقدين أن ذلك أولى من الدعاء في المساجد.
ونتحدث في هذا الفصل عن البدع الملحقة بزيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم، وسوف يأتي هذا الفصل مكوناً من المباحث التالية:
المبحث الأول: بيان معنى الزيارة وأنواعها وحدود مشروعيتها.
المبحث الثاني: حكم السفر لزيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم.
المبحث الأول: الزيارة أنواعها وأغراضها:
الزيارة في اللغة القصد وهي مصدر زار.
يقول صاحب مصباح المنير: زار يزور زيارة وزورا قصده.. والمزار يكون مصدراً وموضع الزيارة، هذا في اللغة، وأمّا الزيارة في العرف: فهي قصد المزور إكراماً له واستئناساً به(1).
__________
(1) مصباح المنير (1/279).(26/208)
يقول الخفاجي: والزيارة تختص بمجيء بعض الأحياء لبعض مودة ومحبة، هذا أصل معناها لغة واستعمالها في القبر للأموات لإعطائهم حكم الأحياء وصار حقيقة عرفية لشيوعها فيها(1).
وقد جاء في القرآن الكريم قوله تعالى: ((أَلْهَاكُمْ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمْ الْمَقَابِرَ)) [التكاثر:1-2].
ومعناها أدرككم الموت وأنتم على تلك الحال من التفاخر وعبر عن موتهم بزيارة المقابر لأن الميت قد صار إلى قبره كما يصير الزائر إلى الموضع الذي يزوره (2) ويقول ابن كثير في تفسيره: "والصحيح أنّ المراد بقوله: (زُزتُم المَقَابِرَ) أي صرتم إليها ودفنتم" (3) ثم استشهد عما جاء في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على أعرابي يعوده قال: وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل على مريض يعوده قال له: "لا بأس طهور إن شاء الله" قال: قلت: طهور كلا بل هي حمى تفور وتثور على شيخ كبير تزيره القبور، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "فنعم إذاً"(4).
وعلى ذلك فمعنى الزيارة اصطلاحاً هو الانتقال من مكان إلى مكان آخر لغرض ما وغالباً تضاف إلى القبور فيكون معناها إتيان القبور لغرض السلام على الأموات والدعاء لهم والاتعاظ بهم.
أنواع الزيارة: تتنوع الزيارة إلى نوعين وهما:
النوع الأول: هو زيارة الأحياء للأموات.
النوع الثاني: زيارة الأحياء بعضهم لبعض مودة ومحبة وعبادة.
أما النوع الأول وهو زيارة الأحياء للأموات فتنقسم إلى ثلاثة أقسام:
1- زيارة شرعية
2- زيارة بدعية
3- زيارة شركية.
وبيانها كالآتي:
__________
(1) نسيم الرياض في شرح الشفا (3/510-511).
(2) انظر تفسير فتح القدير للشوكاني (5/448).
(3) تفسير القرآن العظيم (4/545).
(4) انظر صحيح البخاري، كتاب المرضى، باب عيادة الأعراب (4/4).(26/209)
1- الزيارة الشرعية: وهي التي أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحابة بها بعد أن نهى عنها كما يدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: "نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها"(1).
وقد شرعت هذه الزيارة للرجال اتفاقاً لأجل حكم سامية وأغراض نافعة تعود المزور وللزائر معاً كما دلت عليه السنة النبوية إذ أنها بالنسبة للميت تكون بمنزلة الصلاة عليه حيث يقال فيها من جنس ما يقال في الصلاة عليه من الدعاء والترحم والاستغفار وبالنسبة للزائر تكون عظة وعبرة وتذكرة للآخرة.
وسوف أجمل الأغراض التي من أجلها شرعت الزيارة فيما يلي:-
أولاً- الاتعاظ والاعتبار بمعنى أن يتذكر الزائر أن مصيره الموت مثل المزور فيتدارك أمره كما يدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: "...فزوروا القبور فإنها تذكر الموت..."(2).
وهذا لا فرق بين قبر فيه كافر وبين قبر فيه مسلم؛ لأن الاعتبار والاتعاظ يحصل بالميت المقبور سواء كان كافراً أم مسلماً بدليل قوله - صلى الله عليه وسلم-: ".... واستأذنته في أن أزور قبرها فأذن لي". أي قبر أمه - صلى الله عليه وسلم- بينما لم يؤذن له أن يستغفر لها لأنها ماتت على الشرك في أيام الجاهلية.
والاستغفار لأهل الشرك ممنوع بقوله تعالى: ((مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ)) [التوبة:113].
__________
(1) صحيح مسلم، كتاب الجنائز، باب استئذان النبي صلى الله عليه وسلم ربه -عز وجل- في زيارة قبر أمه (3/673).
(2) صحيح مسلم، كتاب الجنائز، باب استئذان النبي صلى الله عليه وسلم ربه عز وجل في زيارة قبر أمه (2/671) كالذي قبله.(26/210)
ثانياً -الدعاء للأموات والسلام عليهم عسى الله أن يقبل لهم ذلك فينتفعوا به، كما فعل الرسول صلى الله عليه وسلم عند زيارته مقابر البقيع حيث كان يقول: " السلام عليكم دار قوم مؤمنين... اللهم اغفر لأهل البقيع الغرقد(1))(2).
وهذا الغرض خاص بمقابر المسلمين عابدهم وعاصيهم لأن كلاً منهم ينتفع بذلك الدعاء والسلام.
2- الزيارة البدعية: وهي التي لا يقتصر فاعلها على أداء ما هو مشروع بل يضيف إليها أموراً منكرة في الشريعة الإسلامية دون أن يترتب عليها أمور شركية.
ونذكر هنا أهمها أو أكثرها شيوعاً في هذا العصر.
من تلك الزيارة البدعية التبرك والتمسح بالقبر سواء كان المقبور نبياً أو ولياً أو غير ذلك لعدم ورود ما يدل على ذلك من الشارع.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في هذا المقام: (وقد اتفق العلماء على ما مضت به السنة من أنه لا يشرع الاستلام والتقبيل بمقام إبراهيم الذي ذكره الله تعالى في القرآن وقال: ((وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى)) [البقرة:125]. فإذا كان هذا بالسنة المتواترة وباتفاق الأئمة لا يشرع تقبيله بالفم ولا مسحه باليد فغيره من مقامات الأنبياء وغيرهم أولى أن لا يشرع تقبيلها بالفم ولا مسحها باليد(3).
ومن الزيارة البدعية: السفر إلى القبور لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام ومسجد الرسول صلى الله عليه وسلم والمسجد الأقصى"(4).
__________
(1) الغرقد: هو ضرب من شجر العضاه وشجر الشوك. والغرقدة واحدة ومنه قيل لمقبرة أهل المدينة بقيع الغرقدة لأنه كان فيه غرقد وقطع. النهاية (3/362).
(2) صحيح مسلم، كتاب الجنائز، باب ما يقول عند دخول القبور والدعاء لأهلها (2/669).
(3) اقتضاء الصراط المستقيم: (427).
(4) أخرجة البخاري في صحيحه، في أبواب التطوع، باب فضل الصلاة في مسجدي مكة والمدينة (1/206).(26/211)
وزيارة القبور ليست من الأماكن التي شرع السفر إليها قربة لخروجها من منطوق الحديث الذي نحن بصدده.
ومنها الدعاء عند القبر أو القبور رجاء الإجابة لعدم ورود ما يدل على ذلك كما ذكر الشيخ محمد بشير السهسواني: "إن ظن أحد أن الدعاء عند القبر مستجاب وأنه أفضل من الدعاء في المسجد فيقصد زيارته والصلاة عنده لأجل طلب حوائجه. فهو من المنكرات المبتدعة باتفاق المسلمين وهي محرمة وما علمت في ذلك نزاعاً بين أئمة الدين وإن كان كثيراً من المتأخرين يفعل ذلك ويقول بعضهم قبر فلان ترياق مجرب"(1).
ومنها القراءة عند القبور سواء كان المقروء قرآناً أو غيره لعدم ورود ما يدل على ذلك. ويؤيد هذا ما أورده نعمان بن المفسر الألوسي في كتابه الآيات البينات في عدم سماع الأموات حيث ذكر أن القراءة على القبر ذات خلاف، وقال الإمام يعني أبا حنيفة: تكره لأن أهلها جيفة ولم يصح فيها شيء عنده(2).
ويقول الألباني في تعليقه على هذا القول: "وهذا التعليل الثاني هو المعتمد"(3).
وأما ما ورد في هذا المقام من الأحاديث مثل حديث: "من دخل المقابر فقرأ سورة "يس" خفف الله عنهم يومئذ وكان له بعدد ما فيها حسنات" فموضوع وكذلك حديث: "من مر بالمقابر فقرأ: (قل هو الله أحد) أحد عشر مرة"(4).
__________
(1) صيانة الإنسان عن وسوسة الشيخ دحلان: (204).
(2) انظر الآيات البينات في عدم سماع الأموات: (94).
(3) انظر الآيات البينات في عدم سماع الأموات: (94)، تعليقة رقم (3).
(4) المصدر السابق، (ص:93) تعليقة رقم (3).(26/212)
وهذه الأمور التي ذكرناها هنا تعتبر ذريعة إلى الشرك أو تفضي إليه في المآل كما هو مشاهد في وقتنا الحاضر. ويؤيد هذا بما أورده محمد بشير السهسواني في كتابه صيانة الإنسان حيث أن الشيطان له تلطف في الدعوة فيدعوه أولاً إلى الدعاء عنده فيدعو العبد عنده بحرقة وانكسار وذلة فيجيب الله دعوته لما قام بقلبه لا لأجل القبر فيظن الجاهل أن للقبر تأثيراً، فإذا وقع ما يريده الشيطان من الإنسان من استحسان الدعاء عند القبور وأنه أرجح من دعائه في بيته ومسجده نقله درجة أخرى من الدعاء عنده إلى الدعاء به والإقسام على الله به وهذا أعظم من الذي قبله(1).
3- الزيارة الشركية: وهي التي يترتب عنها الإشراك بالله وهي كثيرة ولها صور مختلفة ومن أهمها:-
الذبح للمقبور لدخول ذلك في معنى ما أهل لغير الله تعالى.
يقول الشوكاني -رحمه الله في تفسير قوله تعالى: ((وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ)) [البقرة:173] ما ذكر عليه اسم غير الله كاللات والعزى إذا كان الذابح وثنياً والنار إذا كان الذابح مجوسياً... لا خلاف في تحريم هذا وأمثاله، ومثله ما يقع من المعتقدين للأموات من الذبح على قبورهم، فإنه مما أهل لغير الله ولا فرق بينه وبين الذبح للوثن"(2).
ومن السنة ما يؤيد هذا مثل قوله صلى الله عليه وسلم: "لعن الله من لعن والديه ولعن الله من ذبح لغير الله......"(3).
__________
(1) انظر صيانة الإنسان عن وسوسة الشيخ دحلان (ص:205).
(2) تفسير فتح القدير (1/170).
(3) صحيح مسلم، كتاب الأضاحي والذبائح، باب تحريم الذبح لغير الله ولعن فاعله (3/1562).(26/213)
يقول النووي -رحمه الله تعالى- عند شرحه هذا الحديث: "وأما الذبح لغير الله فالمراد به أن يذبح باسم غير الله تعالى كمن ذبح للصنم أو الصليب أو لموسى أو لعيسى -صلى الله عليهما- أو للكعبة ونحو ذلك فكل هذا حرام ولا تحل هذه الذبيحة سواء كان الذابح مسلماً أو نصرانياً أو يهودياً كما نص عليه الشافعي واتفق عليه أصحابنا فإن قصد مع ذلك تعظيم المذبوح له غير الله تعالى والعبادة له كان ذلك كفراً. فإن كان الذابح مسلماً قبل ذلك صار بالذبح مرتداً"(1).
ومن الزيارة الشركية دعاء الأموات وسؤال المقبور تفريج الكربات مما لا يقدر عليه الأحياء من البشر فضلاً عن الأموات لأن سؤال المحلوف لا بد أن تجتمع فيه ثلاثة شروط:
1- القدرة على التصرف بمعنى أن يكون المدعو قادراً على التصرف فيعطي ويمنع. فالعاجز عن التصرف لا ينفع نفسه فضلاً عن أن ينفع غيره.
2- السمع أي بأن يكون المدعو سامعاً للنداء ومدركاً للخطاب.
3- الملك أي بأن يكون المدعو مالكاً لما يطلبه السائل إذ أن فاقد الشيء لا يعطيه. وشرط واحد من تلك الشروط لا ينطبق على الأموات كما ترى.
__________
(1) شرح النووي على صحيح مسلم (13/141).(26/214)
يقول الألوسي -رحمه الله تعالى- في تفسير قوله تعالى: ((دَعَوْا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ)) [يونس:22]. فالآية دالة على أن المشركين لا يدعون غيره في تلك الحال، وأنت خبير بأن الناس اليوم إذا اعتراهم أمر خطير وخطب جسيم في بر أو بحر، دعوا من لا يضر ولا ينفع ولا يرى ولا يسمع، فمنهم من يدعو الخضر وإلياس ومنهم من يتضرع إلى شيخ من مشائخ الأمة ولا ترى أحداً منهم يخص مولاه بتضرعه ودعاه، ولا يكاد يمر له ببال، أنه لو دعا الله تعالى وحده ينجو من هاتيك الأهوال فبالله عليك قل لي أي الفريقين من هذه الحيثية أهدى سبيلاً، وأي الداعيين أقوم فيه وإلى الله المشتكى من زمن عصفت فيه ريح الجهالة وتلاطمت أمواج الضلالة وخرقت سفينة الشريعة واتخذت الاستعانة بغير الله للنجاة ذريعة وتعذر على العارفين الأمر بالمعروف وحالت دون النهي عن المنكر صنوف الحتوف"(1).
ولذلك أقول: إن مشركي هذا الزمان يفوقون مشركي العرب زمن البعثة بأمرين:
1- أن مشركي العرب في زمن البعثة كانوا يخلصون الدعاء لله سبحانه وتعالى في وقت الشدة وإنما يشركون في زمن الرخاء كما دلت عليه الآية السابقة بينما مشركو هذا الزمان يدعون غير الله في وقت الشدة وفي وقت الرخاء كما هو معلوم.
3- إن مشركي العرب في زمن البعثة كانوا يدعون الملائكة والصالحين والحجر الذي لا ذنب له وأما مشركي هذا الزمان فهم يدعون أناساً ماتوا ولم يكونوا صالحين بل فيهم من يجهر بالفسق ومن لا يصلي أبداً.
ومما يدخل في هذا المعنى أي دعاء الأموات الاستغاثة والاستعانة بهم كما يدل عليه قول الألوسي السابق لأن الاستغاثة فيها طلب وسؤال المقبور وكذلك الاستعانة.
وعلى هذا فعلى المسلم أن يقتصر في مجال الزيارة على ما هو مشروع فقط دون الإضافات البدعية والشركية التي لم يأذن بها الله سبحانه ورسوله صلى الله عليه وسلم.
__________
(1) روح المعالي (11/98).(26/215)
وأما النوع الثاني: وهو زيارة الأحياء بعضهم البعض مودة ومحبة وعيادة فمشروعة أيضاً إذا لم تصحبها أغراض فاسدة لورود أحاديث ثابتة تدل على ذلك: من ذلك ما أخرجه الإمام مسلم في صحيحه عن أنس قال: "قال أبو بكر -رضي الله عنه- بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر: انطلق بنا إلى أم أيمن نزورها كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزورها، فلما انتهينا إليها بكت فقالا لها: ما يبكيك؟ ما عند الله خير لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: ما أبكي أن لا أكون أعلم أن ما عند الله خير لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن أبكي أن الوحي قد انقطع من السماء فهيجتهما على البكاء فجعلا يبكيان معها"(1).
ومنها ما أخرجه الإمام مسلم أيضاً في صحيحه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: أن رجلاً زار أخاً له في قرية أخرى فأرصده الله له على مدرجته ملكاً فلما أتى عليه قال: أين تريد؟ قال: أريد أخاً لي في هذه القرية، قال: هل لك عليه من نعمة تربها؟ (2) قال: لا غير أني أحببته في الله عز وجل، قال: فإني رسول الله إليك بأن الله قد أحبك لما أحببته فيه"(3).
ومن ذلك ما أخرجه الإمام البخاري في صحيحه عن أنس -رضي الله عنه- أنّ غلاماً ليهود كان يخدم النبي صلى الله عليه وسلم فمرض فأتاه النبي - صلى الله عليه وسلم- يعيده، فقال: أسلم تسلم"(4).
يتبين لنا من هذه الأحاديث أن زيارة الأحياء بعضهم لبعض مشروعة أيضاً وأن الغرض منها أمران: الأول: محبة الزائر للمزور ومودته كما يدل عليه حديث أبي هريرة الآنف الذكر.
__________
(1) صحيح مسلم كتاب فضائل الصحابة، فضائل أم أيمن: (4/1907).
(2) تربها: أي تقوم بإصلاحها وتنهض إليه بسبب ذلك.
(3) صحيح مسلم، كتاب البر والصلة، باب فضل الحب في الله (4/1988).
(4) صحيح البخاري، كتاب المرض، باب عيادة المشرك (4/4).(26/216)
وهذا الغرض يخص المسلمين لأنهم وحدهم هم الذين يحبون في الله عز وجل، وأما غيرهم فيحبون لأغراض دنيوية بحتة، وأما في الآخرة فبينهم عداوة كما يدل عليه قوله تعالى: ((الأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ)) [الزخرف:67].
الثاني: عيادة المريض سواء كان مسلماً أو كافراً كما يدل عليه حديث أنس السابق.
وهذا الغرض يعم المسلم والكافر كما يدل عليه منطوق ذلك الحديث.
هذه هي الأغراض المشروعة لزيارة الأحياء بعضهم لبعض التي لا يجوز غيرها مثل الطلب منهم قضاء الحاجات وتفريج الكربات والاستعانة بهم وغيرها من الأمور الأخرى التي ذكرناها سابقاً عند كلامنا عن زيارة القبور وأغراضها إلا ما كان في مقدور البشر عقلاً وشرعاً لأن الأحياء لهم نوع من السمع ونوع من الملك ونوع من القدرة.
وبهذا تنطبق عليهم الشروط الثلاثة التي تبيح سؤال المخلوق بشرط أن يكون ذلك في حدود الشرع وفي مقدور البشر لا أن يسند إليهم أو يسألهم ما لا يقدر عليه إلا الله سبحانه وتعالى مثل جلب المنفعة وسد المضرة بدون أخذ الأسباب فيترتب عليه الشرك والعياذ بالله.
المبحث الثاني: حكم السفر إلى زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم:
ذكرنا في المبحث السابق أن زيارة القبور مشروعة عموماً إذا لم تصحبها أمور مشروعة سواء كانت الزيارة إلى قبر نبي أو أتباعه وغيرهم كالكفار، وأمّا في هذا المبحث فسوف نتكلم فيه عن حكم السفر إلى المزارات وخاصة السفر لزيارة قبر نبينا محمد صلى الله عليه وسلم من باب التنبيه بالأعلى على الأدنى بمعنى إذا منعنا من السفر لزيارة قبره صلى الله عليه وسلم فمن باب أولى نمنع من السفر إلى زيارة قبر من دونه مهما كانت رتبته.(26/217)
وقد اختلف العلماء في حكم السفر إلى زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم، فمنهم من يقول بجواز ذلك بل يجعلونه من الأمور المستحبة، ومنهم من يقول بعدم جوازه ويعدونه من الأمور المحرمة. ولكل من الفريقين أدلتهم: أولاً: القائلون بالجواز: هذا الفريق استدل بأدلة من الكتاب والسنة: أما أدلة الكتاب فقوله تعالى: ((وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً)) [النساء:64].
ووجه الاستدلال بهذه الآية كما يقول السبكي: "دلت الآية على الحث على المجيء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم والاستغفار عنده واستغفاره لهم وذلك وإن ورد في حال الحياة فهي رتبة له صلى الله عليه وسلم لا تنقطع بموته تعظيماً له"(1).
ويقول أيضاً: "والمجيء صادق على المجيء من قرب ومن بعد بسفر وغير سفر ولا يقال (إن جاءوك) مطلق والمطلق لا دلالة له على كل فرد وإن كان صالحاً لها لأنّا نقول هو في سياق الشرط فيعم، فمن حصل منه الوصف المذكور وجد الله تواباً رحيماً"(2).
وأما من السنة -فقد ذكروا أدلة كثيرة نذكر منها ما هو نص في هذا الموضوع: أولاً: ما أخرجه الدارقطني بسنده قال: حدثنا عبد الله بن محمد بن عبد العزيز أنبأنا أبو الربيع بن أبي داود عن ليث بن أبي سليم عن مجاهد عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من حج فزار قبري بعد وفاتي فكأنما زارني في حياتي"(3).
ثانياً: ما أخرجه ابن عدي في الكامل قال: حدثنا علي بن إسحاق حدثنا محمد بن النعمان بن شبل حدثني مالك عن نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من حج البيت ولم يزرني فقد جفاني"(4).
__________
(1) شفاء السقام (ص:80-81).
(2) المرجع السابق (ص:100).
(3) سنن الدارقطني (2/278).
(4) الكامل لابن عدي (7/248).(26/218)
هذان الحديثان اللذان أوردناهما في هذا المقام هما نصان في الموضوع الذي نحن بصدده ولم أجد غيرهما من الأحاديث ما يكون نصاً في الموضوع وإنما هناك أحاديث أخرى تدل على مطلق زيارة النبي صلى الله عليه وسلم.
ولا نتكلم في هذا المكان إلا على ما يكون نصاً في الموضوع.
وهذان الحديثان يحتاجان إلى النظر فيهما من ناحية السند صحة وضعفاً لكي تتبين حجيتهما فيما استدل له بهما ولكن قبل أن نتطرق إلى ذلك نذكر أدلة القائلين بالمنع ثم نناقش أدلة الفريقين معاً.
ثانياً: أدلة القائلين بالمنع: هذا الفريق استدل بالأدلة التالية:
(أ) ما أخرجه الشيخان عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تشد الرحال إلاّ إلى ثلاثة مساجد. المسجد الحرام ومسجد الرسول صلى الله عليه وسلم ومسجد الأقصى"(1).
(ب) ما أخرجه الإمام مالك بسنده عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنّه قال: لقيت بصرة (2) بن أبي بصرة الغفاري فقال: من أين أقبلت؟ فقلت: من الطور. فقال: لو أدركتك قبل أن تخرج إليه ما خرجت.
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا تعمل المطي إلاّ إلى ثلاثة مساجد: إلى المسجد الحرام وإلى مسجدي هذا وإلى مسجد إيليا أو بيت المقدس يشك"(3).
__________
(1) صحيح البخاري، أبواب التطوع، باب فضل الصلاة في مسجدي مكة والمدينة (1/206). وصحيح مسلم، كتاب الحج، باب لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد (2/1014) واللفظ للبخاري.
(2) الصحيح لقيت أبا بصرة الغفاري.
(3) الموطأ: (1/109).(26/219)
ووجه الاستدلال بهذين الحديثين من وجهة نظر هذا الفريق هو أن الشارع قد نهى عن السفر إلى أي مكان للعبادة غير المساجد الثلاثة المستثناة في أسلوب حصر بمعنى أن السفر إلى أي مكان للعبادة محصور في المساجد الثلاثة. وعلى هذا فالسفر إلى زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم يدخل في النهي العام لعدم ورود ما يخرجه عن ذلك ولأنّ الصحابة قد فهموا ذلك كما يدل عليه قول أبي بصرة الغفاري في الحديث الثاني ومن ثم يعدون ذلك أنّه من البدع المحرمة.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في هذا المقام: "إذا كانت المساجد التي هي من بيوت الله التي أمر فيها بالصلوات الخمس قد نهى عن السفر إليها حتى مسجد قباء الذي يستحب لمن كان بالمدينة أن يذهب إليه لما ثبت في الصحيحين عن ابن عمر -رضي الله عنهما- عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أنّه كان يأتي قباء كل سبت راكباً وماشياً" (1) إلى أن قال مؤكداً ذلك: وروى الترمذي أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال من تطهر في بيته فأحسن الطهور ثم أتى مسجد قباء لا يريد إلاّ الصلاة فيه كان له كعمرة" (2)، وكذلك ينهى عن السفر إلى الطور المذكور في القرآن فمن باب أولى أن ينهى عن السفر إلى غيرها من الأمكنة"(3).
__________
(1) صحيح البخاري، كتاب فضل الصلاة، باب من أتى مسجد قباء كل سبت (1/206)، وصحيح مسلم، كتاب الحج، باب فضل مسجد قباء وفضل الصلاة فيه وزيارته (2/1016).
(2) الحديث في سنن الترمذي، أبواب الصلاة، باب ما جاء في الصلاة. في سيد قباء (1/204) بلفظ: "الصلاة في مسجد قباء كعمرة".
(3) مجموع الرسائل الكبرى (2/59) بتصرف.(26/220)
ويقول شيخ الإسلام -أيضاً- في مكان آخر: "قال بعض العلماء: قوله: "من تطهر في بيته ثم أتى مسجد قباء.." تنبيه على أنه لا يشرع قصده بشد الرحال بل إنما يأتيه الرجل في بيته الذي يصلح أن يتطهر فيه ثم يأتيه فيقصده كما يقصد الرجل مسجد مصره دون المساجد التي يسافر إليها، وأمّا المساجد الثلاثة فقد اتفق العلماء على استحباب إتيانها للصلاة ونحوها"(1).
ويقول محيي الدين البركوي: "السفر إلى زيارة قبور الأنبياء بدعة لم يفعلها أحد من الصحابة والتابعين، ولا أمر بها رسول ربّ العالمين، ولا استحبها أحد من أئمة المسلمين، فمن اعتقد ذلك قربة. وطاعة فقد خالف السنة والإجماع ولو سافر إليها بذلك الاعتقاد يحرم بإجماع المسلمين فصار التحريم من جهة اتخاذه قربة، ومعلوم أن أحداً لا يسافر إليها إلاّ لذلك"(2).
ويقول ناصر الدين الألباني في هذا المقام: "المستثنى منه في هذا الحديث ليس هو المساجد فقط -كما يظن كثيرون- بل هو كل مكان يقصد للتقرب إلى الله فيه سواء كان مسجداً أو قبراً أو غير ذلك بدليل ما رواه أبو هريرة قال في حديث له: فلقيت بصرة (3) بن أبي بصرة الغفاري فقال: من أين أقبلت؟ فقلت: من الطور فقال: لو أدركتك قبل أن تخرج إليه ما خرجت، سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم - يقول: "لا تعمل المطي إلا إلى ثلاثة مساجد.. الحديث"(4). فهدا دليل على أنّ الصحابة فهموا الحديث على عمومه ويؤيده أنه لم ينقل عن أحد منهم أنّه شد الرحل لزيارة قبر ما"(5).
__________
(1) اقتضاء الصراط المستقيم (ص:432).
(2) زيارة القبور الشركية والشرعية (ص:22).
(3) والصحيح فلقيت أبا بصرة الغفاري.
(4) الموطأ: (1/109).
(5) سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة: (1/59).(26/221)
هذه مجمل ما ورد في هذا الشأن من قبل الفريقين المجوزين السفر إلى زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم والمانعين لها، ولكن هذه الأدلة تحتاج إلى مناقشة حتى يتبين الصواب من الخطأ ومن ثم يمكن لنا أن نرجح ما نراه صواباً أو أقرب إلى روح الشريعة الإسلامية السمحاء التي ختم الله - سبحانه وتعالى- بها كل الرسالات بواسطة خاتم النبيين محمد صلى الله عليه وسلم دون تعصب إلى فئة من الفريقين.
مناقشة الأدلة: إذا نظرنا إلى الأدلة السابقة التي استدل بها كل فريق من الفريقين نجد أنّ كل فريق يستدل بأدلة تتناقض مع أدلة الفريق الآخر مع أنّ الحق في هذا الموضوع الذي نحن بصدده لا بد أن يكون بجانب فريق واحد لأنّ الحق لا يتعدد ولا يكون لصالح الفريقين المتناقضين في آن واحد لأنّ ذلك من المستحيلات.
نناقش أولاً أدلة القائلين بجواز السفر إلى زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم ونبدأ بالآية الكريمة التي استدلوا بها وهي قوله تعالى: ((وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً)) [النساء:64].
قبل أن نصل إلى القول بأن الآية تصلح للاستدلال لما نحن بصدده أو عدم صلاحيتها نذكر أقوال المفسرين سلفاً وخلفاً ومعاصرين في تفسيرها ومن ثم يتبين صلاحيتها لما استدل بها له.
يقول أبو جعفر الطبري -رحمه الله-: يعني بذلك جل ثناؤه، ولو أنّ هؤلاء المنافقين الذين وصف صفتهم في هاتين الآيتين (1) الذي إذا دعوا إلى حكم الله وحكم رسوله صدوا صدوداً.
__________
(1) يقصد الآيتين (60-61) من سورة النساء.(26/222)
إذ ظلموا أنفسهم باكتسابهم إياها العظيم من الإثم في احتكامهم إلى الطاغوت وصدودهم عن كتاب الله وسنة رسوله إذا دعوا إليها... جاءوك تائبين منيبين، فسألوا الله أن يصفح لهم عن عقوبة ذنبهم بتغطيته عليهم وسأل الله رسوله صلى الله عليه وسلم مثل ذلك، وذلك هو معنى قوله: ((فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ الرَّسُولُ)) [النساء:64] وأمّا قوله: ((لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً)) [النساء:64] يقول رجعاً لهم مما يكرهون إلى ما يحبون: (رحيماً) بهم في تركه عقوبتهم على ذنبهم الذي تابوا منه"(1).
ويقول ابن كثير -رحمه الله-: "يرشد تعالى العصاة المنيبين إذا وقع منهم الخطأ والعصيان أن يأتوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فيستغفروا الله عنده ويسألوه أن يستغفر لهم فإنهم إذا فعلوا ذلك تاب الله عليهم ورحمهم وغفر لهم ولهذا قال: ((لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً)) [النساء:64].
ويقول ابن الجوزي -رحمه الله-: وقوله تعالى: ((وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ)) [النساء:64] يرجع إلى المتحاكمين اللذين سبق ذكرهما. قال ابن عباس: ظلموا أنفسهم بسخطهم قضاء الرسول: ((جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ)) [النساء:64] من صنيعهم"(2).
ويقول الشوكاني -رحمه الله-: " ((ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ)) [النساء:64] بترك طاعتك والتحاكم إلى غيرك ((جَاءُوكَ)) [النساء:64] متوسلين إليك منتصلين عن جناياتهم ومخالفتهم (فاستغفروا الله) لذنوبهم وتضرعوا إليك حتى قمت شفيعاً فاستغفرت لهم "(3).
__________
(1) جامع البيان عن تأويل القرآن المعروف بتفسير الطبري (8/517).
(2) زاد المسير (2/223).
(3) فتح القدير (1/483).(26/223)
ويقول الشهيد سيد قطب -رحمه الله-: "... والذين يتناولهم هذا النص ابتداء كان لديهم فرصة استغفار الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد انقضت فرصتها، وبقي باب الله مفتوحاً لا يغلق، ووعده قائم لا ينقضي، فمن أراد فليقدم، ومن عزم فليتقدم"(1).
من هذه الأقوال التي ذكرناها في هذا المقام يتبين لنا أن المفسرين سلفاً وخلفاً، ومعاصرين فهموا أنّ الآية وردت في قوم معينين في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تتعدى إلى ما بعد وفاته صلى الله عليه وسلم لأنّ حياته البرزخية مخالفة تماماً لحياته في الدنيا ولا يأخذان حكماً واحداً(2).
يقول ناصر الدين الألباني: "... فحياة الأنبياء بعد الموت حياة برزخية، ولنبينا صلى الله عليه وسلم فيها من الخصائص ما ليس لغيره... ولكن لا يجوز التوسع في ذلك بالأقيسة والأهواء"(3).
وعلى هذا لا يمكن الاستدلال بها لما نحن بصدده، وكذلك لا يقال أنّ المجيء إلى قبر الرجل مثل المجيء إلى الرجل لا لغة ولا شرعاً ولا عرفاً.
__________
(1) في ظلال القرآن (2/696).
(2) وأما حكاية العتبي التي يوردها بعض المفسرين في تفسير هذه الآية فهي قصة لا يثبت بها حكم شرعي لأنها مترددة بين أن يكون مصدرها رؤيا منامية والرؤيا المنامية لا تصلح أن تكون دليلاً شرعياً لاستثناء رؤيا الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وبين أن يكون مصدرها نداء مجهول سمع من قبر النبي صلى الله عليه وسلم وروى بسند مرسل لا تقوم به الحجة أيضاً. انظر نص القصة في تفسير ابن كثير (1/52) وتفسير القرطبي (5/267).
(3) الآيات البينات في عدم سماع الأموات (ص:79) هامش رقم (2).(26/224)
يقول محمد بن بشير السهسواني في كتابه صيانة الإنسان: "والمجيء إلى قبر الرجل ليس من أفراد المجيء إلى الرجل لا لغة ولا شرعاً ولا عرفاً، فإن المجيء إلى الرجل ليس معناه إلا المجيء إلى عين الرجل، ولا يفهم منه أصلاً أمر زائد على هذا "(1).
وأما توبة الله ورحمته المذكورتان في الآية التي نحن بصددها فلا يمكن أن ينالهما أحد بعد موته صلى الله عليه وسلم، لأنّ محلهما وقت حياته صلى الله عليه وسلم كما يظهر من أقوال المفسرين السابقة الذكر.
يقول صاحب كتاب صيانة الإنسان: "فإن الأمور الموجبة لتوبة الله ورحمته هي المذكورة في الآية وإنما هي المجيء إليه صلى الله عليه وسلم في الحياة بعد الظلم واستغفارهم عنده في الحياة بعد الظلم، واستغفار الرسول صلى الله عليه وسلم لهم في الحياة بعد الظلم، وفي زيارة القبر لا يوجد واحد من هذا"(2).
وخلاصة القول أن هذه الآية لا يمكن أن يستدل بها للموضوع الذي نحن بصدده للأمور التي بيناها سابقاً لأنّ حكمها منحصر في حال حياته - صلى الله عليه وسلم- ولا يتعدى إلى ما بعد وفاته.
وإذا بطل استدلالهم بالآية الكريمة فلننظر إلى ما يستدلون به من السنة لنرى مدى صلاحيتها للاستدلال الذي ذهبوا إليه.
الحديث الأول: قال الدارقطني: حدثنا عبد الله بن محمد بن عبد العزيز ثنا أبو الربيع ابن أبي داود عن ليث بن أبي سليم عن مجاهد عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من حج فزار قبري بعد وفاتي فكأنما زارني في حياتي"(3).
__________
(1) صيانة الإنسان عن وسوسة الشيخ دحلان (24).
(2) المصدر السابق (ص:31).
(3) سنن الدارقطني (2/278).(26/225)
ففي إسناد هذا الحديث راويان ضعيفان وهما حفص بن أبي داود ويقال حفص بن سليمان أبو عمر الأسدي الكوفي البزار القاري فقد جرحه غير واحد من أئمة الجرح والتعديل، ونذكر هنا طرفاً من أقوالهم تجاه هذا الشخص الذي نحن بصدده. قال البخاري -رحمه الله-: "تركوه"(1).
وقال أيضاً: "سكتوا عنه"(2).
وقال ابن حبان: "كان يقلب الأسانيد ويرفع المراسيل، وكان يأخذ كتب الناس فينسخها ويرويها من غير سماع"(3).
وقال أبو حاتم الرازي: "لا يكتب حديثه وهو ضعيف الحديث"(4).
وقال الذهبي: "ثبت في القراءة والحروف، واه في الحديث"(5).
وأما الشخص الثاني وهو ليث بن أبي سليم فقد ضعفه غير واحد من أئمة هذا الشأن.
ونذكر هنا طرفاً من أقوالهم تجاهه: قال الإمام أحمد بن حنبل: " ليث بن أبي سليم مضطرب الحديث"(6).
وقال النسائي: " ليث بن أبي سليم ضعيف "(7).
وقال ابن حبان: "اختلط في آخر عمره حتى كان لا يدري ما يحدث به فكان يقلب الأسانيد ويرفع المراسيل ويأتي عن الثقات بما ليس في أحاديثهم، كل ذلك كان منه في اختلاطه"(8).
وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني: "صدوق اختلط أخيراً ولم يتميز حديثه فترك"(9).
من هذه الأقوال يتبين لنا أن هذا الحديث ضعيف وآفته وجود شخصين ضعيفين في إسناده ومن ثم لا يمكن أن يحتج به في هذا المقام لخروجه من دائرة الاحتجاج.
__________
(1) التاريخ الكبير (2/363).
(2) التاريخ الكبير (2/363).
(3) التاريخ الصغير (2/256).
(4) المجروحين (1/255).
(5) الجرح والتعديل لابن أبي حاتم (3/174).
(6) الجرح والتعديل لابن أبي حاتم (7/179).
(7) الضعفاء والمتروكين (ص:9).
(8) المجروحون (2/231).
(9) تقريب التهذيب (2/138).(26/226)
الحديث الثاني: قال ابن عدي: حدثنا علي بن إسحاق ثنا محمد بن النعمان بن شبل حدثني جدي عن نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من حج البيت ولم يزرني فقد جفاني"(1).
ففي إسناد هذا الحديث شخصان ضعيفان وهما النعمان بن شبل وحفيده محمد بن محمد بن النعمان بن شبل.
وأما الأول وهو النعمان بن شبل فقد جرحه غير واحد من أئمة هذا الشأن.
ونذكر هنا طرفاً من أقوالهم تجاه هذا الشخص: قال ابن حبان: " يأتي عن الثقات بالطامات وعن الأثبات بالمقلوب "(2).
وقال ابن عدي: "لم أر في حديثه حديثاً قد جاوز الحد "(3).
وقال أيضاً: " ثنا صالح بن أحمد بن أبي مقاتل ثنا عمران بن موسى ثنا النعمان بن شبل وكان ثقة "(4).
وقال أيضاً: " سمعت إبراهيم بن محمد بن عيسى يقول: سمعت موسى بن هارون الحمال يقول: النعمان بن شبل البصري كان متهماً "(5).
وقال الذهبي في ترجمة محمد بن محمد بن النعمان بن شبل: "وأنا رأيت له عن جده النعمان بن شبل عن مالك، فما أعتقده لقي مالكاً "(6).
وأما الشخص الثاني وهو محمد بن محمد بن النعمان بن شبل فقد جرحه غير واحد من النقاد.
ونذكر هنا طرفاً من أقوالهم تجاهه: قال الذهبي: "روى عنه أبو روق الهزاني، قد طعن فيه الدارقطني واتهمه"(7).
وقال أيضاً: "شيخ أبي روق، طعن فيه الدارقطني واتهمه، وأنا فقد رأيت له عن جده عن مالك، فما أعتقد لقي مالكاً"(8).
وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني: "روى عنه أبو روق الهزاني وقد طعن فيه الدارقطني"(9).
__________
(1) الكامل لابن عدي (7/2480).
(2) المجروحين (3/73).
(3) الكامل لابن عدي (7/2480).
(4) الكامل لابن عدي (7/2480).
(5) الكامل لابن عدي (7/2480).
(6) المغني في الضعفاء (2/629).
(7) ميزان الاعتدال (4/26).
(8) المغني في الضعفاء (2/629).
(9) لسان الميزان (5/358).(26/227)
وقال أيضاً: "متروك" (1) من هذه الأقوال التي أوردناها في هذا المقام يتبين لنا أن هذا الحديث ضعيف لوجود شخصين ضعيفين ومن ثم لا يمكن أن يستدل به لما نحن بصدده لخروجه من دائرة الاحتجاج. إضافة إلى ذلك أن ابن الجوزي قد أورد هذا الحديث في الموضوعات(2).
وخلاصة القول أنّ هذا الفريق ليس لهم أدلة صحيحة تدل على ما ذهبوا إليه من تجويز السفر إلى زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم لا من الكتاب ولا من السنة كما يظهر من مناقشة أدلتهم بل لم يرد حديث صحيح في زيارة قبره لا من قريب ولا من بعيد كما نص عليه شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- حيث قال: لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث واحد في زيارة قبر مخصوص ولا روى أحد في ذلك شيئاً لا أهل الصحيح ولا السنن ولا الأئمة المصنفون في المسند كالإمام أحمد وغيره، وإنما روى ذلك من جمع الموضوع وغيره. وأجلّ حديث روي في ذلك ما رواه الدارقطني وهو ضعيف باتفاق أهل العلم بل الأحاديث المروية في زيارة قبره صلى الله عليه وسلم مكذوبة وموضوعة، لكن النبي صلى الله عليه وسلم رخص في زيارة القبور مطلقاَ بعد أن كان قد نهى عنها"(3).
ولهذا نرجّح ما ذهب إليه الفريق الآخر من منع شد الرحال إلى زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم لعدم مشروعيتها لا في الكتاب ولا في السنة بل أنها داخلة في عموم النهي عن شد الرحال إلى أي مكان للعبادة إلاّ المساجد الثلاثة مع أنّه لم يثبت ما يخصص ذلك العموم.
__________
(1) تقريب التهذيب (2/205).
(2) كتاب الموضوعات (2/217).
(3) اقتضاء الصراط المستقيم (400 -401).(26/228)
ولا يفهم من هذا أنّ زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم غير مشروعة كما يقول المرجفون وإنّما هي مشروعة لمن كان في المدينة وضواحيها وإن لم يرد بها نص صحيح بها خاصة لدخولها دخولاً أولياً في ترخيصه صلى الله عليه وسلم زيارة القبور مطلقاً بشرط أن لا يترتب عنها شد الرحال، وأما إن ترتب عنها شد الرحال فالأدلة الثابتة ناطقة بالمنع لأن الفاصل بين الزيارة الشرعية والزيارة البديلة هو شدّ الرحال إذا اقتصر على الفعل المشروع من دعاء للأموات والسلام عليهم والاستغفار لهم.
الخاتمة:
لقد تم بعون الله تعالى وتوفيقه هذا البحث المتواضع مع أنّي أعترف أنّه لا يخلو من نقص بشري الذي هو سمة البشر لأنّ الكمال لله وحده وأنّ العصمة لمن عصمه الله من نبي من أنبيائه -عليهم الصلاة والسلام-. وعلى هذا ينطبق على بحثنا هذا ما قيل قديماً أنّه لا يكتب إنسان كتاباً إلاّ قال في غده لو غير هذا لكان أحسن، ولو زيد هنا لكان يستحسن، ولو قدم هذا لكان أفضل، ولو ترك هذا لكان أجمل وهذا من أعظم العبر وهو دليل على استيلاء النقص على البشر.
ومع أنّ البحث كله يعتبر نتائج فإنّي أسجل أهمّ النتائج التي توصلت إليها أثناء البحث:
1- أن الله -سبحانه وتعالى- اختار نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم لحمل الرسالة الخاتمة ليبلغه للناس كافة بعد إعداده إعداداً يؤهله لحملها.
2- أنّ الرسول صلى الله عليه وسلم قد مارس الدعوة سراً وجهراً وأدّى الأمانة على أكمل وجه طوال فترة البعثة.
3- أنّ الابتلاء سنّة من سنن الله في طريق الدعاة لا ينفك منها أحد من الرسل ومن سلك طريقهم، وأنّ الرسول صلى الله عليه وسلم قد مر بذلك الابتلاء ونجح فيه بفضل الله ومنَّه.(26/229)
4- أنّ الله -سبحانه وتعالى- قد أكمل لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم الرسالة قبل أن يلتحق بالرفيق الأعلى وأنّ الرسول صلى الله عليه وسلم قد طبقها في واقع الحياة طوال فترة البعثة ومن ثمّ فإنّ الدين الإسلامي غني عن الإضافات والزيادات والتغييرات مهما كان شكلها.
5- أنّ الزيادة في الدين يعتبر استدراكاً على الشارع وسوء أدب مع رسوله صلى الله عليه وسلم.
6- أنّ مكانة النبي صلى الله عليه وسلم عند الله عظيمة ومن ثم فقد أوجب الله على المسلمين أن يتأدّبوا معه صلى الله عليه وسلم حيّاً وميّتاً بأنواع من الآداب التي تليق بمكانته من توقير وتعظيم.
7- أنّ تأدّب المسلم مع الرسول صلى الله عليه وسلم يؤدي إلى الالتزام بضوابط الشريعة في كل ناحية من نواحي الحياة وبالتالي يفوز في الدارين.
8- أنّ تأدّب المسلم مع الرسول صلى الله عليه وسلم يؤدي إلى استحضار سيرته والمنهج الذي رسمه طوال ثلاث وعشرين سنة وبالتالي يؤدي إلى القيام بالإسلام قولاً وعملاً، وتطبيقه تطبيقاً شاملاً لكليات الإسلام وجزئياته.
9- أنّ التأدّب مع الرسول صلى الله عليه وسلم يدخل تحته الدين كله، لأنّ التأدّب معه يؤدي بالضرورة إلى التأدّب مع شرعه والالتزام بما جاء به صلى الله عليه وسلم من وحي سواء كان قرآناً أو سنة.
10- أن التأدب معه صلى الله عليه وسلم وسط بين الغلو والتقصير وأنّ العاطفة والمحبة لا يصلحان أن يكونا مصدراً للتأدب معه دون الرجوع إلى الكتاب والسنة والالتزام بهما في هذا المجال.
11- أن كثيراً من الأمور التي تفعل حبّاً له صلى الله عليه وسلم مصدرها أدلّة واهية أو منامات أو استحسان بعض العلماء أو قياس مع الفارق أو تأويلات باطلة أو أغراض دنيوية بحتة.
12- أن ما عليه الأكثرية لا يؤدي بالضرورة إلى أنّه حق، بل إنّ الحق ما ثبت في القرآن أو في السنة أو فيهما معاً وليس للأكثرية وزن ما دامت لا تستند إلى أدلّة صحيحة.(26/230)
13- أن كثيراً من البدع قد انتشرت وخاصة في مجال التأدّب مع الرسول صلى الله عليه وسلم بسبب سكوت أهل العلم عن إنكارها وبيان حقيقتها حتى انقلب الأمر رأساً على عقب وأصبح المعروف منكراً والمنكر معروفاً.
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين...
قائمة المصادر والمراجع
ثبت المصادر والمراجع غير القرآن الكريم على حروف المعجم.
(أ)
1- آثار المدينة - لعبد القدوس الأنصاري - الطبعة الثالثة (1393هـ-1973م)، المكتبة السلفية بالمدينة المنورة.
2- آداب المجتمع في الإسلام -لمحمد جمال الدين رفعت - الناشر: إدارة إحياء التراث الإسلامي بدولة قطر.
3- الإبداع في مضار الابتداع - للشيخ علي محفوظ - دار المعرفة للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، لبنان.
4- أحكام القرآن - للإمام أبي بكر محمد بن عبيد الله المعروف بابن العربي - بتحقيق علي محمد البجاوي - الطبعة الأولى 1376هـ - 1957 م. دار إحياء الكتب العربية.
5- أحكام القرآن - للإمام أبي بكر أحمد بن علي الرازي الجصاص - الناشر: دار الكتاب العربي، بيروت، لبنان.
6- إصلاح المساجد من البدع والعوائد - لمحمد جمال الدين القاسمي - خرج أحاديثه وعلق عليه محمد ناصر الدين الألباني - الطبعة الخامسة 1403هـ - 1983 م، المكتب الإسلامي، بيروت، لبنان.
7 - أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن - لمحمد الأمين بن محمد المختار الشنقيطي - الطبعة الثانية (1400هـ-1979م).
8- الاعتصام - للإمام أبي إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد الشاطبي - دار المعرفة للطباعة والنشر والتوزيع 1403هـ - 1982م. بيروت، لبنان.
9- الأعلام - لخير الدين بن محمود الزركلي - الطبعة الثالثة.
10- اقتضاء الصراط المستقيم - مخالفة أصحاب الجحيم- لشيخ الإسلام ابن تيمية. بتحقيق محمد حامد الفقي - الطبعة الثانية 1369هـ - 1950م مطبعة السنة المحمدية.(26/231)
11- الآيات البينات في عدم سماع الأموات عند الحنفية السادات - للعلامة نعمان بن محمود الألوسي - بتحقيق وتعليق: محمد ناصر الدين الألباني - الطبعة الثالثة 1402 هـ المكتب الإسلامي.
12- الإيمان - لشيخ الإسلام ابن تيمية - بتصحيح وتعليق د. محمد خليل هراس - دار الطباعة المحمدية - مصر.
13- الباعث الحثيث في اختصار علوم الحديث - للحافظ ابن كثير مع شرح وتعليق أحمد محمد شاكر - الطبعة الثالثة - مكتبة ومطبعة علي صبيح وأولاده بالقاهرة.
(ب)
14- الباعث على إنكار البدع والحوادث - لأبي محمد عبد الرحمن بن إسماعيل بن إبراهيم المعروف بأبي شامة - دار الأصفهاني وشركاه بجدة.
15- البحر الرائق شرح كنز الدقائق - للعلامة زين الدين بن نجيم الحنفي - الطبعة الثانية، دار المعرفة للطباعة والنشر والتوزيع.
16- البداية والنهاية - لأبي الفداء إسماعيل بن كثير - الطبعة الثانية 1977 م، مكتبة المعارف، بيروت، لبنان.
17- البدعة تحديدها وموقف الإسلام منها - للدكتور عزت علي عيد عطية - دار الكتب الحديثة 1391هـ - 1971 م القاهرة.
18- بشائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز - لمحمد بن محمد بن يعقوب الفيروزأبادي - الناشر: المجلس الأعلى للشئون الإسلامية لجنة إحياء التراث الإسلامي 1383 هـ القاهرة.
19- بغية الوعاة في طبقات اللغويين والنحاة - لجلال الدين عبد الرحمن السيوطي - بتحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم - الطبعة الأولى 1384هـ - 1964 م مطبعة عيسى البابي الحلبي وشركاه.
20- بهجة المحافل وبغية الأماثل: للإمام عماد الدين يحيى بن أبي بكر العامري - المكتبة العلمية بالمدينة المنورة.
(ت)
21- تاريخ الاحتفال بالمولد النبوي - لحسن السندوني - مطبعة الاستقامة 1948 م.
22- التاريخ الصغير - لأبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري. بتحقيق محمود إبراهيم زايد - الطبعة الأولى 1397هـ - 1977م دار الوعي بحلب.(26/232)
33- التاريخ الكبير - لأبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري - دار الكتب العلمية - بيروت لبنان.
34- تأملات في سورة الأحزاب - للدكتور حسن محمد باجودة - مطابع الصفا 1403 هـ مكة المكرمة.
25- تحفة الأحوذي شرح جامع الترمذي - للحافظ أبي العلى محمد عبد الرحمن بن عبد الرحيم المباركفوري، بمراجعة وتصحيح عبد الرحمن محمد عثمان - الطبعة الثالثة 1399هـ - 1979م دار الفكر للنشر والتوزيع.
36- الترغيب والترهيب - لزكي الدين عبد العظيم بن عبد القوي المنذري. مكتبة الإرشاد.
27- التسهيل في علوم التنزيل - للإمام أبي القاسم محمد بن أحمد بن جزي الكلبي - بتحقيق محمد عبد المنعم اليونسي، وإبراهيم عطوة عوض - دار الكتب الحديثة.
38- تعجيل المنفعة بزوائد رجال الأئمة الأربعة - للحافظ أبي الفضل أحمد بن علي بن حجر العسقلاني - الناشر: دار الكتب العربية - بيروت، لبنان.
29- التعريفات - للعلامة علي بن محمد الشريف الجرجاني - مكتبة لبنان 1969م لبنان.
30- تفسير البحر المحيط - لمحمد بن يوسف الشهير بأبي حيان الأندلسي. الطبعة الثانية 1403هـ - 1983 م دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع.
31- تفسير البغوي المسمى بمعالم التنزيل المطبوع بهامش تفسير الخازن. لأبي محمد الحسين بن مسعود الفراء البغوي - الطبعة الثانية 1375هـ - 1955م طبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر.
32- تفسير سورة النور - لأبي الأعلى المودودي - تعريب محمد عاصم الحداد، دار الفكر.
33- التفسير السياسي للسيرة - للدكتور محمد قلعت جي - دار السلام للطباعة والنشر والتوزيع 1399هـ - 1979م، بيروت/حلب.
34- تفسير القرآن العظيم المعروف بتفسير ابن كثير - لأبي الفداء إسماعيل بن كثير - دار المعرفة، بيروت 1403هـ - 1983م.
35- تفسير الكبير - للإمام الفخر الرازي - الطبعة الثانية الناشر: دار الكتب العلمية، طهران.(26/233)
36- تقريب التهذيب - للحافظ أبي الفضل أحمد بن علي بن حجر العسقلاني - بتحقيق وتعليق عبد الوهاب عبد اللطيف - الطبعة الثانية 1395هـ - 1975م دار المعرفة للطباعة والنشر - بيروت - لبنان.
37- تهذيب الأسماء واللغات - للإمام أبي زكريا يحيى بن شرف النووي. المطبعة المنيرة.
38- تهذيب الفروق المطبوع بهامش الفروق - للشيخ محمد علي بن الشيخ الحسين - دار المعرفة للطباعة والنشر والتوزيع.
39- تهذيب اللغة - لأبي منصور محمد بن أحمد الأزهري - بتحقيق عبد السلام محمد هارون - ومراجعة محمد علي النجار - دار القومية العربية للطباعة 1383هـ - 1964م.
(ث)
40- الثقات - للإمام الحافظ محمد بن حبان البستي - الطبعة الأولى 1393هـ - 1973م - طبعة دائرة المعارف العثمانية بحيدر أباد الدكن- الهند.
(ج)
41- جامع بيان العلم وفضله- للإمام أبي عمر يوسف بن عبد البر النمري - دار الفكر - بيروت - لبنان.
42- جامع البيان في أحكام القرآن - المعروف بتفسير الطبري. تحقيق محمود محمد شاكر ومراجعة أحمد محمد شاكر - مطبعة المعارف بمصر.
43- جامع العلوم والحكم- لزين الدين أبي الفرج عبد الرحمن بن رجب الحنبلي - دار الفكر - بيروت - لبنان.
44- الجامع لأحكام القرآن المعروف بتفسير القرطبي - لأبي عبد الله محمد ابن أحمد الأنصاري القرطبي - الطبعة الثانية.
45- جلاء الأفهام في الصلاة والسلام على خير الأنام - للإمام ابن قيم الجوزية - بتحقيق الشيخ طه يوسف شاهين.
(ح)
46- الهاوي للفتاوي - لجلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي. دار الكتب العلمية - بيروت 1402هـ - 1982م.
47- حجة النبي صلى الله عليه وسلم لمحمد ناصر الدين الألباني - الطبعة السابعة 1405 هـ - 1985م المكتب الإسلامي.
48- حسن التوسل في زيارة أفضل الرسل - لعبد الله بن أحمد الفاكهي. وهو بهامش كتاب إتحاف الأشراف للشبراوي - المطبعة الأدبية 1319هـ القاهرة.
(خ)(26/234)
49- خصائص التصور الإسلامي- للشهيد سيد قطب - دار القرآن الكريم 1398هـ - 1978م.
بيروت - دمشق.
(د)
50- دراسة في السيرة - للدكتور عماد الدين خليل - الطبعة السادسة 1402هـ - 1982م - طبعة مؤسسة الرسالة - دار النفائس - بيروت - لبنان.
51- الدر المنثور في التفسير بالمأثور- لجلال الدين عبد الرحمن السيوطي - الطبعة الأولى 1403هـ - 1983م دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع بيروت - لبنان.
52- الدعوة الإسلامية أصولها ووسائلها - للدكتور أحمد أحمد غلوش. طبعة دار الكتاب المصري ودار الكتاب اللبناني.
53- دلائل النبوة: للحافظ أبي نعيم أحمد بن عبد الله الأصبهاني. طبعة عالم الكتب.
54- الديباج المذهب في معرفة أعيان علماء المذهب - بتحقيق د. محمد الأحمدي أبو النور - دار التراث للطباعة والنشر - القاهرة.
55- ديوان زهير بن أبي سلمى- بتحقيق وشرح كرم البستاني - دار صادر للطباعة والنشر، ودار بيروت للطباعة والنشر بيروت 1379هـ - 1960م.
56- الذريعة إلى مكارم الشريعة - للشيخ أبي القاسم الحسن بن محمد الراغب الأصفهاني - الطبعة الأولى 1393هـ - 1973م مكتبة الكليات الأزهرية - القاهرة.
57- ذكرى المولد النبوي- خلاصة السيرة النبوية وحقيقة الدعوة الإسلامية - لمحمد رشيد رضا - الطبعة الأولى 1335 هـ مطبعة المنار بمصر.
(ر)
58- رسالة المسترشدين- لأبي عبد الله الحارث بن راشد المحاسبي. تحقيق عبد الفتاح أبو غدة - الطبعة الثانية 1391هـ - 1971 م مكتب المطبوعات الإسلامية - بيروت - لبنان.
59- روح المعاني في تفسير القرآن العظيم- للعلامة أبي الفضل محمود الألوسي - دار إحياء التراث العربي - بيروت - لبنان.
60- روضة العقلاء ونزهة الفضلاء - للحافظ محمد بن حبان البستي. بتحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، ومحمد عبد الرزاق حمزة، ومحمد حامد الفقي - دار الكتب العلمية 1397هـ - 1977م بيروت.(26/235)
61- روضة المحبين ونزهة المشتاقين - لشمس الدين ابن قيم الجوزية. مكتبة الجامعة - القاهرة.
(ز)
62- زاد المسير في علم التفسير - للإمام أبي الفرج عبد الرحمن بن الجوزي - الطبعة الأولى 1383هـ - 1964م المكتب الإسلامي للطباعة والنشر. بيروت - لبنان.
63- زاد المعاد في هدي خير العباد - للإمام شمس الدين أبي عبد الله محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية - بتحقيق شعيب الأرناؤوط وأخيه عبد القادر - الطبعة الثانية 1401هـ - 1981م مؤسسة الرسالة، بيروت.
64- زيارة القبور الشركية والشرعية- للإمام الحجة محيي الدين محمد البركوي - مؤسسة النور للطباعة والتجليد - الرياض.
(س)
65- سلسلة الأحاديث الضعيفة- لمحمد ناصر الدين الألباني - الطبعة الرابعة 1398هـ المكتب الإسلامي بيروت - دمشق.
66- سنن ابن ماجة- للحافظ أبي عبد الله محمد بن يزيد القزويني. بتحقيق وتعليق محمد فؤاد عبد الباقي - دار إحياء الكتب العربية 1377هـ - 1953م.
67- سنن أبي داود - للإمام الحافظ أبي داود سليمان بن الأشعث السجستاني - بمراجعة وتعليق محمد محيي الدين عبد الحميد - الناشر: دار إحياء السنة النبوية.
68- سنن الترمذي -للإمام أبي عيسى محمد بن عيسى بن سورة الترمذي. تحقيق وتصحيح عبد الوهاب عبد اللطيف - الطبعة الثانية 1403هـ - 1983م دار الفكر - بيروت.
69- سنن الدارقطني - للحافظ علي بن عمر الدارقطني. وبذيله التعليق المغني على الدارقطني لأبي الطيب محمد شمس الحق أبادي - شركة الطباعة الفنية المتحدة.
70- سنن الدارمي - للإمام أبي محمد عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي. دار الفكر 1398هـ - 1978م القاهرة.
71- السنن الكبرى- للحافظ أبي بكر أحمد بن الحسين بن علي البيهقي. وبذيله الجوهر النقي لعلاء الدين المعروف بابن التركماني.(26/236)
72- سنن النسائي- للإمام الحافظ أبي عبد الرحمن أحمد بن شعيب النسائي - مع شرح السيوطي وحاشية السندي - الطبعة الأولى 1348هـ - 1930م المطبعة المصرية بالأزهر.
73- سيرة ابن هشام- لأبي محمد عبد الملك بن هشام المعافري. بتحقيق طه عبد الرؤوف سعد - مطبعة شركة الطباعة الفنية المتحدة - القاهرة.
74- سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم للدكتور محمد عزت دروزة - الطبعة الثانية 1384هـ - 1965م - مطبعة عيسى الحلبي.
75- السيرة النبوية- للإمام أبي الفداء إسماعيل بن كثير - بتحقيق مصطفى عبد الواحد - الطبعة الثانية 1398هـ - 1978م دار الفكر - بيروت - لبنان.
(ش)
76- شرح أدب الكاتب- لأبي منصور موهوب بن أحمد الجواليقي. مكتبة القدس 1350هـ القاهرة.
77- الشفا بتعريف حقوق المصطفى- للقاضي عياض بن موسى بن عياض اليحصبي - بتحقيق علي محمد البجاوي - دار الكتب العربي بيروت 1404هـ - 1984م.
78- شفاء السقام- للشيخ علي بن عبد الكافي تقي الدين السبكي. مطبعة مجلس دائرة المعارف العثمانية بحيدر أباد الدكن الهند 1371هـ - 1952م.
(ص)
79- الصارم المسلول على شاتم الرسول - لشيخ الإسلام ابن تيمية. بتحقيق وتعليق محمد محيي الدين عبد الحميد دار الفكر.
80- صبح الأعشى في صناعة الإنشا - لأبي العباس أحمد بن علي القلقشندي - مطابع كوستاسوماس وشركاه.
81- الصحاح- تاج اللغة وصحاح العربية- لإسماعيل بن حماد الجوهري - بتحقيق أحمد عبد الغفور عطار - الطبعة الثانية 1399هـ - 1979م دار العلم للملايين- بيروت.
82- صحيح البخاري- للإمام أبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري. ومعه حاشية السندي - دار المعرفة للنشر والتوزيع- بيروت- لبنان.
83- صحيح مسلم- للإمام أبي الحسين مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري - بتصحيح وترقيم محمد فؤاد عبد الباقي - دار إحياء التراث العربي بيروت - لبنان.(26/237)
84- صحيح مسلم بشرح النووي- للإمام أبي زكريا يحيى بن شرف النووي - دار الفكر للنشر والتوزيع 1401هـ - 1981م.
85- صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم لمحمد ناصر الدين الألباني - الطبعة الحادية عشر 1403هـ - 1981م - المكتب الإسلامي -بيروت- لبنان.
86- صيانة الإنسان عن وسوسة الشيخ دحلان- للعلامة محمد بشير السهسواني - الطبعة الثانية 1378هـ المطبعة السلفية ومكتبتها- مصر.
(ض)
87- الضعفاء الصغير- للإمام أبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري. بتحقيق محمود بن إبراهيم زايد - الطبعة الأولى 1396 هـ دار الوعي بحلب.
88- الضعفاء والمتروكون- للحافظ أبي الحسن علي بن عمر الدارقطني. بتحقيق ودراسة موفق بن عبد الله بن عبد القادر - الطبعة الأولى 1404هـ - 1984م مكتبة المعارف- الرياض.
89- الضعفاء والمتروكون- للإمام الحافظ أبي عبد الرحمن بن أحمد بن شعيب النسائي - بتحقيق محمود إبراهيم زايد - دار الوعي - حلب.
(ط)
90- طبقات المفسرين- للحافظ شمس الدين محمد بن علي أحمد الداودي - بتحقيق علي محمد عمر - الطبعة الأولى 1392هـ - 1972م مطبعة الاستقلال الكبرى.
91- ظهور دولة الفاطميين وسقوطهما في مصر- للدكتور عبد المنعم ماجد - الطبعة الثانية 1976م دار المعارف بمصر.
(ع)
92- عرف التعريف بالمولد الشريف- لشمس الدين محمد بن محمد المعروف بابن الجزري - مخطوط بمكتبة الحرم الشريف ضمن مجاميع 6/473 سيرة نبوية وصورة منه في مركز البحث العلمي بجامعة أم القرى.
93- العقائد الإسلامية- دار الكتب الحديثة 1387هـ - 1987م القاهرة.
94- العقيدة والأخلاق وأثرها في حياة الفرد والمجتمع - للدكتور محمد بيصار - الطبعة الرابعة 1973م - دار الكتاب اللبناني بيروت.
95- عمدة التفسير عن الحافظ ابن كثير- اختيار وتحقيق أحمد محمد شاكر - دار المعارف بمصر 1377هـ - 1957م.(26/238)
96- عين الأدب والسياسة وزين الحسب والرياسة- لأبي الحسن علي بن محمد بن عبد الرحمن بن هذيل - الطبعة الثانية 1353هـ - 1938م مطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر.
(غ)
97- غرائب القرآن ورغائب الفرقان- لنظام الدين الحسن بن محمد بن الحسين النيسابوري - بتحقيق إبراهيم عطوة عوض - الطبعة الأولى 1381هـ - 1962م شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي بمصر.
98- غريب الحديث- لأبي الفرج عبد الرحمن بن الجوزي - بتعليق الدكتور عبد المعطي أمين قلعجي - دار الكتب العلمية - بيروت - لبنان.
(ف)
99- الفائق في غريب الحديث- لجار الله محمود بن عمر الزمخشري. بتحقيق علي محمد البجاوي ومحمد أبو الفضل إبراهيم - الطبعة الثانية طبعة عيسى البابي الحلبي.
100- فتح الباري شرح صحيح البخاري- للحافظ أبي الفضل أحمد بن علي بن حجر العسقلاني - بتحقيق وتصحيح الشيخ عبد العزيز بن باز - دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع.
101- الفتح الرباني لترتيب مسند الإمام أحمد - لأحمد عبد الرحمن البنا الشهير بالساعاتي - الطبعة الأولى - طبعة الإخوان المسلمون - القاهرة.
102- فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير- لمحمد بن علي بن محمد الشوكاني - الطبعة الثانية- 1383هـ - 1964م شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي.
103- الفروق في اللغة- لأبي هلال العسكري - الطبعة الأولى 1393هـ - 1973م منشورات دار الآفاق الجديدة بيروت- لبنان.
104- فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم للإمام إسماعيل بن إسحاق القاضي - بتحقيق محمد ناصر الدين الألباني - الطبعة الثالثة 1397هـ - 1977م المكتب الإسلامي- بيروت.
105- فقه السيرة- للشيخ محمد الغزالي - خرج أحاديثه محمد ناصر الدين الألباني. طبع على نفقة أمير قطر.
106- الفوائد- لشمس الدين ابن قيم الجوزية - الطبعة الثانية 1393هـ - 1973م، دار الكتب العلمية بيروت - لبنان.(26/239)
107- في ظلال القرآن- للشهيد سيد قطب - الطبعة الشرعية التاسعة 1400هـ- 1980م - دار الشروق - بيروت.
108- في منزل الوحي - لمحمد حسن هيكل - الطبعة الخامسة- دار المعارف بمصر.
(ق)
109- قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة- لشيخ الإسلام ابن تيمية. المطبعة السلفية ومكتبتها 1374هـ - القاهرة.
110- القاعدة المراكشية- لشيخ الإسلام ابن تيمية - بتحقيق د. ناصر بن سعيد الرشيد والأستاذ رضا نعسان معطي - الناشر: دار طيبة للنشر والتوزيع- الرياض.
111- القاموس المحيط - لمجد الدين محمد بن يعقوب الفيروزأبادي. المؤسسة العربية للطباعة والنشر - بيروت - لبنان.
112- قواعد الأحكام في مصالح الأنام - للإمام أبي محمد عز الدين عبد العزيز بن عبد السلام السلمي - مكتبة الكليات الأزهرية 1388هـ - 1968م القاهرة.
113- القول البديع في الصلاة على الحبيب الشفيع - للحافظ محمد بن عبد الرحمن السخاوي - الطبعة الثانية 1383هـ - 1963م مطبعة الأنصار بيروت.
(ك)
114- الكامل في ضعفاء الرجال- للحافظ أبي أحمد عبد الله بن عدي الجرجاني - الطبعة الأولى 1404 هـ - 1984م - دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع - بيروت - لبنان.
115- الكشاف في حقائق التنزيل وعيون الأقاويل- لجار الله محمود بن عمر الزمخشري. مع كتاب الإنصاف فيما تضمنه الكشاف من الاعتزال. للإمام ناصر الدين أحمد بن محمد بن المنير الإسكندري - دار الفكر - بيروت - لبنان.
(ل)
116- لحظ الألحاظ بذيل طبقات الحفاظ- الحافظ تقي الدين محمد بن فهد المكي - مطبعة التوفيق 1347هـ. دمشق.
117- لسان العرب- لابن منظور محمد بن مكرم الأنصاري - دار صادر ودار بيروت 1375هـ - 1956م.
118- لسان الميزان- الحافظ أبي الفضل أحمد بن علي بن حجر العسقلاني - الطبعة الثانية 1390هـ - 1971م - منشورات مؤسسة الأعلمي للمطبوعات.
(م)(26/240)
119- ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين- لأبي الحسن علي الندوي. الطبعة السادسة 1965م - 1385هـ - دار الكتاب العربي - بيروت.
120- المجروحون عن المحدثين والضعفاء والمتروكين- للأمام محمد بن حبان البستي. بتحقيق محمود إبراهيم زايد - الطبعة الأولى 1396هـ - دار الوعى بحلب.
121- مجمع الزوائد ومنبع الفوائد- الحافظ نور الدين علي بن أبي بكر الهيثمي - الطبعة الثانية 1967م دار الكتب العربية- بيروت.
122- المجموع شرح المهذب- للإمام أبي زكريا يحيى بن شرف النووي. مطبعة الإمام بالقلعة- مصر.
123- مجموع فتاوي- شيخ الإسلام ابن تيمية - مكتبة المعارف - الرباط - المغرب.
124- مجموعة الرسائل الكبرى- لشيخ الإسلام ابن تيمية. مكتبة ومطبعة محمد علي صبيح وأولاده - مصر.
125- المحلى- لأبي محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الظاهري. بتحقيق الشيخ أحمد محمد شاكر - منشورات المكتب التجاري للطباعة والنشر والتوزيع - بيروت - لبنان.
126- مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين- للإمام شمس الدين ابن قيم الجوزية - بتحقيق محمد حامد الفقي - دار الكتاب العربي 1392هـ - 1972م بيروت - لبنان.
127- المدخل إلى تنمية الأعمال بتحسين النيات- لأبي عبد الله محمد ابن محمد العبدري المعروف بابن الحاج - مكتبة مصطفى الحلبي 1380هـ مصر.
128- مرآة الزمان في تاريخ الأعيان- ليوسف بن عزاوغلي المعروف بسبط ابن الجوزي - مطبعة دائرة المعارف العثمانية بحيدر أباد الدكن- الهند.
129- المستدرك على الصحيحين- الحافظ أبي عبد الله محمد بن عبد الله المعروف بالحاكم النيسابوري. مع ذيله تلخيص المستدرك للذهبي - دار الفكر- بيروت 1398هـ - 1978م.
130- المسند- للإمام أحمد بن حنبل- وبهامشه منتخب من كنز العمال في سنن الأقوال والأفعال للمتقي الهندي.
131- مسند الإمام أحمد مع شرح الشيخ أحمد محمد شاكر - دار المعارف بمصر 1369هـ - 1950م.(26/241)
132- مشكاة المصابيح- الشيخ ولي الله محمد بن الخطيب العمري التبريزي- بتحقيق محمد ناصر الدين الألباني - الطبعة الأولى 1380هـ - 1961م منشورات المكتب الإسلامي للطباعة والنشر.
133- مشكل الآثار- للإمام أبي جعفر أحمد بن محمد الطحاوي - دار صادر - بيروت - لبنان.
134- المصباح المنير في غريب الشرح الكبير للرافعي- لأحمد بن محمد بن علي المقري الفيومي. بتصحيح مصطفى السقا - مطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر.
135- معجم متن اللغة- الشيخ أحمد رضا - دار مكتبة الحياة 1377هـ - 1958م بيروت - لبنان.
137- المعز لدين الله- الدكتورين/حسن إبراهيم حسن، وطه أحمد شرف - الطبعة الثانية 1963م مكتبة النهضة المصرية - القاهرة.
138- المغني في الضعفاء- الحافظ شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي - بتحقيق وتعليق د. نور الدين عتر - الطبعة الأولى 1391هـ - 1971م الناشر: دار المعارف بحلب.
139- مفتاح السعادة ومصباح السيادة في موضوعات العلوم - لأحمد بن مصطفى طاش كبرى زادة - الطبعة الثانية 1400هـ - 1980م مطبعة دائرة المعارف العثمانية بحيدرأباد الدكن- الهند.
140- مفردات في غريب القرآن- الشيخ أبي القاسم الحسين بن محمد الراغب الأصفهاني - بتحقيق محمد سعيد الكيلاني - الطبعة الأخيرة 1381هـ - 1961م شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر.
141- المنهاج في شعب الإيمان- لأبي عبد الله الحسين بن الحسن الحليمي - بتحقيق حلمي محمد فودة - الطبعة الأولى 1399هـ - 1979م دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع - بيروت.
142- المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار- لتقي الدين أحمد بن علي المقريزي - مؤسسة الحلبي وشركاه للتوزيع والنشر - القاهرة.
143- مورد الصادي في مولد الهادي - لشمس الدين محمد بن أبي بكر الشهير بابن ناصر الدين الدمشقي - مخطوط بمكتبة الحرم الشريف ضمن مجاميع 1/273 - وصورة منه في مركز البحث العلمي بجامعة أم القرى.(26/242)
144- الموسوعة في سماحة الإسلام- لمحمد صادق عرجون - الناشر: مؤسسة سجل العرب. القاهرة 1392هـ - 1972م.
145- الموضوعات- للإمام أبي الفرج عبد الرحمن بن الجوزي. بتحقيق وتقديم عبد الرحمن محمد عثمان - الطبعة الأولى 1386هـ - 1966م المكتبة السلفية بالمدينة المنورة.
146- الموطأ- للإمام مالك بن أنس - بتصحيح وتعليق محمد فؤاد عبد الباقي - دار إحياء الكتب العربية 9370هـ - 1951م.
147- ميزن الاعتدال- للإمام شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي - بتحقيق علي محمد البجاوي - الطبعة الأولى 1382هـ - 1963م دار إحياء الكتب العربية.
(ن)
148- نسيم الرياض في شرح الشفا للقاضي عياض- العلامة أحمد شهاب الدين الخفاجي- وبهامشه شرح الشفا لعلي القاري - دار الفكر.
149- النهاية في غريب الحديث والأثر- للإمام مجد الدين أبي السعادات المبارك بن محمد بن الجزري المعروف بابن الأثير - بتحقيق طاهر أحمد الزاوي ومحمود محمد الطناحي - دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع.
(و)
150- وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان- لأبي العباس أحمد بن محمد ابن أبي بكر بن خلكان - بتحقيق د. إحسان عباس - دار صادر - بيروت - لبنان.
الفهرس العام
- شكر وتقدير:…1
- المقدّمة:…2
- التمهيد:…10
1- بيان المراد بالتأدّب مع الرسول صلى الله عليه وسلم:…10
أ- الأدب في اللغة:…10
ب- الأدب في اصطلاح الشرع:…12
2- ضرورة الالتزام في التأدب بما جاء في القرآن والسنة:…13
الباب الأول: أسباب قيام الأمة بالأدب مع الرسول صلى الله عليه وسلم:…17
الفصل الأول: نسبه صلى الله عليه وسلم ونشأته وصفاته…18
المبحث الأول: عراقة أصله:…20
المبحث الثاني: نشأته وتربيته:…24
المبحث الثالث: سمو صفاته صلى الله عليه وسلم وأخلاقه:…28
الفصل الثاني: عمله صلى الله عليه وسلم في نشر الدعوة وحرصه على هداية الناس…34
المبحث الأول: تحمل مشاق نشر الدعوة:…36(26/243)
المبحث الثاني: الصبر على الأذى في سبيل الدعوة:…45
المبحث الثالث: تكميل الدين وإتمام النعمة:…51
الباب الثاني: أنواع الأدب مع الرسول صلى الله عليه وسلم:…57
الفصل الأول: الأدب القلبي…57
المبحث الأول: الإيمان بنبوته صلى الله عليه وسلم:…59
المبحث الثاني: محبته صلى الله عليه وسلم…68
الفصل الثاني: الأدب القولي…75
المبحث الأول: مخاطبته صلى الله عليه وسلم:…78
المبحث الثاني: الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم:…88
الفصل الثالث: الأدب العملي…102
المبحث الأول: الطاعة والاتباع:…102
المبحث الثاني: في مجالسته صلى الله عليه وسلم:…114
الباب الثالث: البدع الملحقة بالأدب مع النبي صلى الله عليه وسلم:…122
الفصل الأول: تعريف البدعة لغة واصطلاحاً…123
الفصل الثاني: البدع الملحقة بمولده صلى الله عليه وسلم…133
المبحث الأول: تحديد وقت الاحتفال بالمولد ونشأته:…134
المبحث الثاني: حكم الاحتفال بالمولد النبوي:…138
الفصل الثالث: البدع الملحقة بمسجده صلى الله عليه وسلم…147
المبحث الأول: فضائل المسجد النبوي:…148
المبحث الثاني: ما يفعله الجهال من البدع في مسجده صلى الله عليه وسلم:…153
الفصل الرابع: البدع الملحقة بزيارة قبره صلى الله عليه وسلم…157
المبحث الأول: الزيارة أنواعها وأغراضها:…158
المبحث الثاني: حكم السفر إلى زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم:…164
الخاتمة:…173
قائمة المصادر والمراجع:…176
الفهرس العام…190(26/244)
التبيان بضعف حديث الميزان
أبو عمر الدوسري(المنهج)
ومن تلك الأحاديث الضعيفة التي يستشهد بها الجُهال أدعياء المحبة لحبيبنا بأبي هو وأمي محمد عليه الصلاة والسلام ؛ فأين هذه المحبة ونحن نرى القوم ينشرون الأحاديث الضعيفة ؛ بل والمكذوبة الموضوعة؟!!حديثٌ يسمونه حديث الميزان أو عرض الأعمال أو غيرها من التسميات.
نص الحديث:
( حياتي خير لكم ، تُحدثون ويُحدث لكم ، ووفاتي خير لكم ، تعرض عليَّ أعمالكم ؛ فإن رأيت خيراً حمدت الله عليه ، وإن رأيت شراً استغفرت لكم)
يقول الشيخ عبدالله بن عبدالحميد: (حديث ضعيف منكر)
"أنظر أنواع وأحكام التوسل المشروع والممنوع 208"
قال المحدث العلامة محمد ناصر الدين الألباني رحمه الله:
(وجملة القول ، أن الحديث ضعيف بجميع طرقه ، وخيرها حديث بكر بن عبدالله المزني وهو مرسل ، وهو من أقسام الحديث الضعيف عند المحدثين ، ثم حديث ابن مسعود ، وهو خطأ ، وشرها حديث أنس بطريقيه)
"أنظر السلسة الضعيفة رقم 975"
قال في الصارم المنكي:
( قلت هذا خبر مرسل)
والمرسل من أقسام الحديث الضعيف.
قال الشيخ صالح آل الشيخ:
( لو ثبت لم يكن فيه ما ادعاه "صاحب المفاهيم" من جواز التوسل بعموم استغفار رسول الله-صلى الله عليه وعلى آله وسلم- لأمته ؛ لأنَّ دعاء الرسول –صلى الله عليه وعلى آله وسلم- في حياته لأمته وسؤاله الله لهم أبلغ وأقطع من استغفاره بعد موته –إن ثبت- وهذا السبب الذي كان موجداً في حياته هو عين السبب الذي علق الحكم بعد مماته ؛ فلما لم يشرع هذا العمل ، وهو التوسل بالاستغفار العام مع القيام المقتضي له في حياة رسول الله –صلى الله عليه وعلى آله وسلم- علم أنَّ إحداثه بدعة.
ويؤيد هذا أنَّ خير القرون ثم الذين يلونهم ثمَّ الذين يلونهم ؛ لم يستعمل أحد منهم التوسل بهذا الطريق الذي اخترعه عشاق البدع ، وهُجَّار السُنَن)
"أنظر هذه مفاهيمنا للشيخ صالح آل الشيخ 88"
يقول الشيخ عبدالله بن عبدالحميد:(27/1)
( واعلم أنَّ النبي –صلى الله عليه وعلى آله وسلم- لا يُعرض عليه من أعمالنا شيءٌ ؛ باستثناء السلام والصلاة عليه.
قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((إن لله ملائكة سياحين في الأرض يبلغوني من أُمتي السلام)) "رواه النسائي وصححه الألباني في صحيح النسائي"
وقال: ((صلوا عليَّ فإنَّ صلاتكم تبلغني حيثُ كنتم)) "رواه أبوداود وهو في صحيح الألباني"
وقد ورد في الأحاديث الصحيحة ما يبين بأن النبي –صلى الله عليه وعلى آله وسلم- لا يعلم من أعمال أُمَّته شيئاً بعد وفاته.
قال النبيُّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((إنِّي فرطكم على الحوض ، من مرَّ عليَّ شربَ لم يظمأ أبداً ليردنَّ عليَّ أقوام أعرفهم ويعرفونني ، ثم يحال بيني وبينهم)) وفي رواية: ((فأقولُ: إنهم منِّي ؛ فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك ، فأقول:سُحْقاً سُحْقاً لِمَنْ غيَّرَ بعدي)) "رواه البخاري"
فهذا يدلُّ على عدم علم النَّبيِّ –صلى الله عليه وعلى آله وسلم- بما يحدث في أُمته من بعده ، وهذه الأدلة الثابتة تدلُّ على بطلان الحديث المتقدم لو صحَّ سنده ؛ فكيف والسند ضعيف!!. )
"أنظر أنواع وأحكام التوسل المشروع والممنوع 209-210"
وصلى الله على نبينا وحبيبنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
كتبه:
أبو عمر الدوسري(المنهج) - شبكة الدفاع عن السنة(27/2)
التزكية بين أهل السنة والصوفية
تأليف
أحمد فريد
قام بصف الكتاب ونشره
أبو عمر الدوسري
www.frqan.com
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
الحمد لله الذي وهب لنا العقول والأذهان، ومنحنا فصاحة اللسان وألهمنا التبيان، وحضنا على التحلي بالحلي الأدبية، والتخلق بالمكارم العلية، ورغبنا في الاقتداء بالسنن السنية، والاهتداء بالأقوال المرضية الزكية، المتكفلة بالسعادة الدينية والدنيوية، وأرشدنا إلى الطريق الأسنى، وأمرنا بالإحسان والأفعال الحسنى، ونهانا عن الأخلاق الدنيئة اللئيمة، والأفعال الرديئة الذميمة، وأنعم علينا بالبلاغة والبيان.
نحمده تعالى والحمد من إحسانه العميم، ونشكره والشكر من إنعامه الجسيم، ونصلي ونسلم على رسوله النبي الأمي الكريم، وعلى آله وأصحابه الغر الميامين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
وبعد
قال أبو الحسن بن هذيل:
والذي عليه في التأليف المدار، هر حسن الانتقاء والاختيار، مع الترتيب التبويب، التهذيب والتقريب.
قال بعض العلماء: اختيار الكلام أشد من نحت السهام(1). وهذه رسالة لطيفة في التزكية جمعت فيها ما تفرق مما وقفت عليه في أصل من أصول دعوتنا السلفية، وهو الأصل الذي به نجاة الفرد وصلاح الجماعة، ألا وهو التزكية التي تمنن الله بها على عباده المؤمنين بقوله: { وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } [النور:21] وأخر في كتابه أنه أرسل نبيه المصطفى صلى الله عليه وسلم يزكى به قلوب الناس فقال تعالى متمننا ببعثته: { هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ } . [الجمعة: 2]
__________
(1) عين الأدب والسياسة (8) دار الكتب العلمية.(28/1)
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يسأل الله عز وجل هذه الزكاة فيقول ((اللهم آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها )) (1) .
ورتبت الكلام في ثلاثة أبواب رئيسية ورابعها خاتمة البحث:
الباب الأول: معنى التزكية وأهميتما.
الباب الثاني: مقارنة بين أهل السنة والصوفية في مناهج التزكية.
الباب الثالث: غاية التزكية عند أهل السنة في غاية التزكية عند الصوفية.
الباب الرابع: خاتمة البحث.
وأسأل الله العلي الكبير أن يتقبل مني هذا العمل اليسير، ويثيبني من فضله الثواب الجزيل، وهو مولانا ونعم الوكيل، ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
الباب الأول
معنى التزكية وأهميتها
__________
(1) رواه مسلم(17 /41 ) الذكر بزيادة في أوله وآخره وأحمد (4 /371 ) ،و(6 /209 )بلفظ ((رب أعط نفسي تقواها)).(28/2)
التزكية هي الأصل الثالث من الأصول العلمية للدعوة السلفية، ويقصد بها تنمية القلوب و إصلاحها وتطهيرها، يقولون زكاة الزرع إذا نما وصلح وبلغ كماله، وسميت صدقة المال الواجبة زكاة لأن المال يطهر بها وينمو، فهي طهارة للمال، وطهارة للمزكي، وطهارة للمجتمع، وعكس التزكية التدسية: وهي التصغير والتحقير حتى تصير النفس حقيرة دنيئة لا تكاد ترى من حقارتها ودناءتها، ومنه قوله عز وجل: { أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ } [النحل: 59] أي يخفيه في التراب، وقد أقسم الله عز وجل في كتابه أحد عشر قسما متواليا على أن صلاح العبد منوط بتزكية نفسه، وخيبته منوطة بتدسية نفسه قال تعالى: { وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا 1 وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا 2 وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا 3 وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا 4 وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا 5 وَالأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا 6 وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا 7 فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا 8 قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا 9 وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا } [الشمس: 1-10](28/3)
قال الشيخ عطية سالم في تتمة الأضواء: واختلف في موضع الضمير في { زَكَّاهَا دَسَّاهَا } وهو يرجع إلى اختلافهم في { فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا } فهل يعود على الله تعالى كما في { وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا } ، أم يعود على العبد، ويمكن أن يستدل لكل قوم ببعض النصوص، فمما يستدل به للقول الأول قوله تعالى: { بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَن يَشَاءُ وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً } [النساء:49]، وقوله: { وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَدًا } [النور: 21]، وفي الحديث أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول عند هذه الآية: ((اللهم آت نفوسنا تقواها وزكها، أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها)) (1) ومما استدل به للقول الثاني: { قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى 14 وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى } [الأعلى: 14]، وقوله: { وَمَن تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ } [فاطر:18].
والذي يظهر والله أعلم، أن ما يتزكى به العبد، وعمل في طاعة وترك معصية فإنه بفضل من الله.
كما تفضل عليه بالهدى والتوفيق للإيمان، فهو الذي يتفضل عليه بالتوفيق إلى العمل الصالح وترك المعاصي، في قولك ((لا حول ولا قوة إلا بالله) بل إن في قوله تعالى: { بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَن يَشَاءُ وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً } [النساء: 49]، الجمع بين الأمرين القدري والشرعي، بل الله يزكي من يشاء بفضله،ولا تظلمون فتيلا بعدله، والله تعالى أعلم (2) . فصلاح العباد وفلاحهم وفوزهم ونجاتهم في تعهد أنفسهم بالإصلاح، وتطهير بواطنهم وظواهرهم من الشرك بالله عز وجل ومن سائر الصفات المذمومة، وتحليتها بالتوحيد واستسلامها للشرع المجيد.
__________
(1) تقدم تخريجه ص (6 ).
(2) باختصار من أضواء البيان (9/247 –249 ).(28/4)
وقد أجمع علماء القلوب على أن القلوب لا تصل إلى مناها حتى تصل إلى مولاها، ولا تصل إلى مولاها حتى تكون صحيحة سليمة زكية، والله عز وجل طيب لا يقبل إلا طيبا، فكلما طابت النفس وزكت قربها الله عز وجل، فتسعد بالله عز وجل، وتأنس بالله عز وجل، وتستغني بالله عز وجل.
وكلما عصى العبد ربه وصغر نفسه وحقرها بمعصية الله طرده الله عز وجل عن حضرته، وأبعده بقدر جنايته، فتحدث الوحشة بينه وبين ربه عز وجل، وبينه وبين عباد الله المؤمنين، فلو حصلت له الدنيا بحذافيرها لم تعوضه هذه الوحشة.
فالواجب كل المسلم حتى تزكو نفسه أن يستسلم لشرع الله عز رجل، بعد أن يتحقق قلبه بالتوحيد، وأن يكون بين يدي الشارع كالميت بين يدي الغاسل، ألا ترى أن الميت لا تكون له إرادة ولا هوى تخالف إرادة مغسله، بل يقلبه المغسل كيف يشاء، ويقدم ما يشاء ويؤخر ما يشاء، وليس له إلا التسليم، وهذا معنى الإسلام وهو الاستسلام لشرع الله عز وجل.
قال الزهري: من الله الرسالة، وعلى الرسول البلاغ، وعلينا التسليم.
والشرع كله تزكية لنفوس العباد حتى يصلحوا لمجاورة الله في الجنة، فالتوحيد تزكية: قال الله تعالى: { وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ 6 الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ } [فصلت: 6، 7]، قال ابن كثير رحمه الله: قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: يعني الذين لا يشهدون أن لا إله إلا الله وكذا قال عكرمة. (1)والصلاة تزكية: قال الله تعالى: { إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ } [العنكبوت: 45].
__________
(1) تفسير القرآن العظيم(4 /92 ) دار المعرفة.(28/5)
وقال النبي صلى الله عليه وسلم:((أرأيتم لو أن نهرا بباب أحدا يغتسل فيه كل يوم خمس مرات ما تقولون ذلك يبقى من درنه؟ قالوا لا يبقى من درنه شيئا. قال: فذلك مثل الصلوات الخمس، يمحو الله بها الخطايا (1)
والصدقة تزكية: قال الله تعالى: { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا } [التوبة: 103]،
والحج تزكية: قال الله تعالى: { فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ } [البقرة: 197]
__________
(1) رواه البخاري(2/11) مواقيت الصلاة، ومسلم(2/ 170) المساجد، والترمذي (10/ 316) الأمثال والنسائي (1/ 231) الصلاة. والدرن: الوسخ.(28/6)
فالله عز وجل شرع لنا الشرائع من أجل أن تزكو نفوسنا، وأن تصلح دنيانا وآخرتنا، والله عز وجل أغنى وأعز من أن ينتفع بطاعات العباد، أو أن يتضرر بمعاصيهم كما في الحديث القدسي ((يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضرى فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني ))(1). بل العباد أنفسهم يتضررون بمعاصيهم، وهم أنفسهم ينتفعون بطاعاتهم، والله تعالى غني عنهم وعن طاعاتهم قال تعالى: { لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا } [الحج: 37]، ألا ترى أن العباد يذبحون الهدايا والأضاحي ويأكلون لحومها، وهم مع ذلك يتقربون بها إلى الله عز وجل، لأنهم يستجيبون لأمر الله، ويستسلمون لشرعه، فالإيمان والعمل الصالح سبب سعادة الدنيا، أنه سبب سعادة الآخرة قال تعالى: { مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } [النحل: 97] والسعادة سعادة القلوب، والشقاء شقاء القلوب، والقلوب لا تسعد إلا بالله، ولا تطمئن إلا بذكره وطاعته قال تعالى: { الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ } [الرعد: 28] فلا تسعد بالمال، و لا تسعد بالجاه، ولا تسعد بالشهرة، والتعاسة والشقاء تلاحقان العبد إذا تعلق القلب بغير الله حبا ورجاء وخوفا وتوكلا، قال النبي صلى الله عليه وسلم(( تعس عبد الدينار، وعبد الدرهم، وعبد الخميصة، إن أعطى رضي وإن لم يعط سخط، تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش )) (2) .
__________
(1) رواه مسلم (16 / 132،133) البر والصلة، والترمذي (9/ 305) صفة القيامة عن أبي ذر رضي الله عنه
(2) رواه البخاري(6/ 81) الجهاد، وابن ماجه(4135) الزهد . تعس : دعاء عليه بالهلاك، القطيفة كساء له خمل والخميصة: ثياب خز ( حرير) أو صوف معلمة، شيك: شاكته شوكه: انتقش: خرجت من جسمه.(28/7)
وصفوة القول أن يقال كلما زكى العبد نفسه بالتوحيد وطاعة العزيز الحميد كلما سعد، والعكس بالعكس، قال تعالى: { فَإِمَّا يَأتِيَنَّكُم مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى 123 وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى 124 قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَي وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا 125 قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آَيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ
تُنْسَى } [ طه: 123- 126].
قال ابن القيم رحمه الله:
وسمعت شيخ الإسلام قدس الله روحه يقول: إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لا يدخل جنة الآخرة.
وقال مرة: ما يصنع أعدائي بي؟ أنا جنتي وبستاني في صدري، إن رحت فهي معي لا تفارقني، إن حبسي خلوة، وقتلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة.
وكان يقول في محبسه في القلعة: لو بذلت لهم ملء هذه القلعة ذهبا، ما عدل عندي شكر هذه النعمة، أو قال: ما جزيتهم على ما تسببوا لي فيه من الخير، ونحو هذا.
وكان يقول في سجوده وهو محبوس: ((اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك )) (1) ما شاء الله.
وقال لي مرة: المحبوس من حبس قلبه عن ربه، والمأسور من أسره هواه.
ولما دخل إلى القلعة وصار داخل سورها نظر إليه وقال: { فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ } . [الحديد: 13]
__________
(1) الحديث رواه أبو داود والنسائي(3/53) الدعاء بعد الذكر عن معاذ بن جبل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ بيده فقال: يا معاذ والله إني لأحبك فقال أوصيك يا معاذ لا تدعن في كل صلاة أن تقول : اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك)) وصحح إسناده عبد القادر الأرناؤوط في تحقيق جامع الأصول (4/209) .(28/8)
وعلم الله ما رأيت أحدا أطيب عيشا منه قط، مع ما كان فيه من ضيق العيش، وخلاف الرفاهية والنعيم، بل ضدها، ومع ما كان فيه من الحبس والتهديد والإرهاق وهو مع ذلك من أطيب الناس عيشا، وأشرحهم صدرا وأقواهم قلبا، وأسرهم، تلوح نضرة النعيم على وجهه.
وكنا إذا اشتد بنا الخوف، وساءت منا الظنون، وضاقت بنا الأرض، أتيناه، فما هو إلا أن نراه، ونسمع كلامه فيذهب ذلك. كله عنا، وينقلب انشراحا وقوة ويقينا وطمأنينة، فسبحان من أشهد عباده جنته قبل لقائه،
وفتح لهم أبوابا في دار العمل، فأتاهم من روحها ونسيمها وطيبها ما أستفرغ قواهم طلبا والمسابقة إليها.
وكان بعض العارفين يقول: لو علم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه، لجالدونا عليه بالسيوف.
وقال آخر: مساكين أهل الدنيا، خرجوا منها وما ذاقوا أطيب ما فيها؟
قيل: وما أطيب ما فيها قال: محبة الله تعالى ومعرفته وذكره، أو نحو هذا.
وقال آخر: إنه لتمر بالقلب أوقات يرقص فيها طربا. وقال آخر: إنه لتمر
بي أوقات أقول: إن كان أهل الجنة في مثل هذا، إنهم لفي عيش طيب.
فمحبة الله تعالى ومعرفته ودوام ذكره والسكون إليه، والطمأنينة إليه، وإفراده بالحب والخوف والرجاء والتوكل والمعاملة، بحيث يكون هو وحدة المستولي على هموم العبد و عزماته و إرادته، هو جنة الدنيا، والنعيم الذي لا يشبه نعيم، وهو قرة عين المحبين وحياة العارفين.
وإنما تقر أعين الناس بهم على حب قرة أعينهم بالله عز وجل، فمن قرت عينه بالله، قرت به كل عين، ومن لم تقر عينه بالله تقطعت نفسه على الدنيا حسرات (1) ا هـ.
قال ابن القيم في طريق الهجرتين:
__________
(1) الوابل الصيب بتحقيق بشير محمد عيون(96-98) دار البيان.(28/9)
فوا أسفاه وواحسرتاه، كيف ينقضي الزمان وينفد العمر والقلب محجوب ما شم لهذا رائحة، وخرج من الدنيا كما دخل إليها، وما ذاق أطيب ما فيها، بل عاش فيها عيش البهائم وانتقل انتقال المفاليس، فكانت حياته عجزا وموته كمدا، و معادة حسرة وأسفا، اللهم فلك الحمد، وإليك المشتكى، وأنت المستعان، وبك المستغاث، وعليك التكلان ولا حول ولا قوة إلا بك(1).
والحاصل أن العبد يجهل مواقع السعادة، والنفس الجاهلة تتكاسل عن الطاعات لجهلها بأن سعادة الدارين و طاعة الله والاستسلام لأمره ونهيه، قال ابر المبارك رحمه الله إن الصالحين فيما مضى كانت أنفسهم تواتيهم على الخير عفوا، وان أنفسنا لا تكاد تواتينا فينبغي علينا أن نكرهها.
فلطاعة الله عز وجل. حلاوة تتذوقها القلوب إذا باشرتها، وهذه الحلاوة تقصر دونها العبارة، ولا تحيط بها الإشارة قال بعضهم: أهل الليل في ليلهم ألذ من أهل اللهو في لهوهم، ولولا الليل ما أحببت البقاء في الدنيا.
وقال غيره: ما بقي من لذات الدنيا إلا ثلاث: قيام الليل، ولقاء الإخوان، وصلاة الجماعة.
فتثقل هذه العبادات والتكاليف الشرعية على الذين لم ينالوا من العلم إلا زبد الأفكار وزبالة الأذهان، وتخف على أهل الطاعات الذين زكت نفوسهم، وطهرت جوارحهم، ولقد كان الواحد منهم يثقل عليه خروجه من الصلاة، قال بعضهم: أنا منذ أربعين سنة ما أزعجني إلا طلوع الفجر.
وبكى أحد الصحابة عند موته فسأل عما يبكيه فقال: والله لا أبكي على دنياكم ولا أبكي على فراقكم، ولكن أبكي على طول ظمأ الهواجر، وقيام ليالي الشتاء الطويلة.
__________
(1) طريق الهجرتين (211) السلفية.(28/10)
ويكفيك أيها القارئ الكريم أن تعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي حتى تشقق قدماه، وترم ساقاه، فيقال له أتفعل ذلك وفد غفر الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فيقول صلى الله عليه وسلم ((أفلا أكون عبدا شكورا))(1)
وكان يواصل صلى الله عليه وسلم وينهي عن الوصال ويقول ((إني أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني))(2) فكان صلى الله عليه وسلم أحسن الناس حالا وأسعدهم بربه وكان يقول:
((حبب إلي من دنياكم النساء والطيب وجعلت قرة عيني في الصلاة))(3)
__________
(1) رواه البخاري (3/14) التهجد والتفسير والرقاق، ومسلم (17/ 162) صفات المنافقين، والترمذي (2/ 204، 205) الصلاة، والنسائي(3/219) قيام الليل.
(2) رواه البخاري (4/ 202) الصوم، ومسلم (7/212) الصيام، ومالك في الموطأ (1/ 300) الصيام.
(3) رواه النسائي (7/ 61) عشرة النساء وأحمد (3/128، 199، 285) والحاكم (2/160) النكاح وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه ووافقه الذهبي وصححه الألباني.
قال السندي في حاشيته على سنن النسائي: قيل إنما حبب إليه النساء عما كلف به من أداء الرسالة فيكون ذلك أكثر لمشاقة وأعظم لأجره، وقيل غير ذلك.
وأما الطيب فكأنه يحبه لكونه يناجي الملائكة وهم يحبون الطيب، وأيضا هذه المحبة تنشأ من اعتدال المزاج وكمال الخلقة، وهو صلى الله عليه وسلم أشد اعتدالا من حيث المزاج وأكمل خلقه. وقوله ((قرة عيني في الصلاة)) إشارة إلى أن تلك المحبة غير ما نعقله عن كمال المناجاة مع الرب تبارك وتعالى،بل هو مع تلك المحبة منقطع عليه تعالى، وفيه إشارة إلى أن محبة النساء والطيب إذا لم يكن مخلا لأداء حقوق العبودية. بل للانقطاع إليه تعالى يكون من الكمال وإلا يكون من النقصان فليتأمل (7/ 61/ 62).(28/11)
فتدبر مرة ثانية قول الله عز وجل: { قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا 9 وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا } واعلم أن هذا الفلاح لأهل الزكاة في الدنيا والآخرة، والخيبة لأهل التدسية في الدنيا والآخرة.
كما أن قول الله عز وجل: { إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ 13 وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ } [الانفطار:13،14] لا يعني نعيم الآخرة للأبرار وجحيم الآخرة للفجار، بل الأبرار في نعيم الدنيا، وفي دار البرزخ، وفي الآخرة، وإن كان نعيم الدنيا دون نعيم الآخرة، كما أن العذاب في الدنيا دون عذاب الآخر ة كما قال الله تعالى: { وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } [السجدة:21] والعذاب الأدنى في الآية يقصد به عذاب الدنيا لقوله تعالى: { لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } ولا يكون ذلك إلا في الدنيا، واستدل بها ابن عباس على عذاب القبر قوله تعالى { مِنَ الْعَذَابِ الأَدْنَى } ولم يقل ((العذاب الأدنى)) فدل على أنهم بقيت لهم من العذاب الأدنى بقية، يعذبون بها في القبور.
وظهر الفلاح والنجاح كذلك في هؤلاء الصحابة الكرام، فعزوا في الدنيا وسادوا لأنهم استجابوا لله وللرسول من بعد ما أصابهم القرح، هذا مع ما ينتظرهم في الآخرة من موعود الله عز وجل لهم بالجنة كما قال تعالى: { وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } [ التوبة: 100](28/12)
فمن أراد سعادة الدارين فعليه أن يتعهد نفسه بالإصلاح والتزكية؛ فكما أن السموات والأرض لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا، فكذلك قلوب العباد، لو كان فيها آلهة إلا الله لفسدت بذلك فسادا لا يرجى له صلاح، حتى تعرف ربها عز وجل وتعبده بأمره ونهيه، والنفوس الجاهلية حتى تترقى في محبة الله عز وجل وولايته تحتاج إلى رفق ومداراة حتى تصير سعادتها في الطاعات والعبادات قال بعض السلف: عالجت قيام الليل سنة وتمتعت به عشرين سنة. فالعاقل هو الذي يعالج نفسه ويجبرها على ما فيه سعادتها، وهذه المعالجة لن تطول بإذن الله، فلا تلبث نفس العبد أن تتعلم وتذوق حلاوة الطاعات وترك المعاصي، نصحت إحدى الصالحات من السلف بنيها فقالت لهم: ((تعودوا حث الله وطاعته، فإن المتقين ألفت جوارحهم الطاعة فاستوحشت من غيرها، فإذا أمرهم الملعون بمعصية مرت المعصية بهم محتشمة فهم لها منكرون )).
وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم حلاوة الإيمان، وبين أن الذي يذوق هذه الحلاوة من أخلص حبه لله عز وجل ولرسوله صلى الله عليه وسلم ولعباده المؤمنين فقال صلى الله عليه وسلم
((ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه الله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار)) (1)
__________
(1) رواه البخاري(1/ 60) الإيمان، مسلم(2/ 13) الإيمان، والترمذي (10/91)الإيمان، وروى مسلم والترمذي عنه صلى الله عليه وسلم قال: (( ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربا وبالإسلام دينا ومحمد رسولا)).(28/13)
قال الشيخ أبو محمد بن أبي جمرة: إنما عبر بالحلاوة لأنه شبه الإيمان بالشجرة في قوله { كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ } [إبراهيم:24]، فالكلمة هي كلمة الإخلاص، والشجرة أصل الإيمان، وأغصانها اتباع الأمر واجتناب النهي وورقها ما يهتم به المؤمن من الخير وثمرها عمل الطاعات، وحلاوة الثمر جنى الشجرة وغاية كماله تناهى نضج الثمرة وبه ظهر حلاوتها)) (1) .
الباب الثاني
مقارنة بين أهل السنة والصوفية في مناهج التزكية:
وإنما قصدنا الصوفية من بين فرق الضلالة؛ لأنهم يزعمون أنهم أصحاب الأحوال والمقامات والنفوس الزاكيات، وأنهم أصحاب مناهج في تصفية النفوس وتنقيتها، وهذه المقارنة يظهر فيها بجلاء نقاء المنهج السلفي، وكيف أنه ميراث رسول الله صلى الله عليه وسلم وما خالفه إنما هو ابتداع وبعد عن الكتاب والسنة.
ا- منهج التزكية عند السلفيين أهل السنة والجماعة
أهل السنة والجماعة هم أهل الأثر وأهل الحديث، وهم كذلك أهل الإتباع، فهم يزكون أنفسهم مما زكى به النبي صلى الله عليه وسلم نفوس الصحابة الكرام رضي الله عنهم، فلا يبتدعون طرقا للتزكية، ولا ينتهجون من المناهج ما يخالف نهج النبوة، وهم يضبطون بالعلم اعتقاداتهم وأقوالهم وأعمالهم، ونلخص مناهج التزكية عند السلفيين في ثلاثة أمور:
1- التزكية بالعقيدة الصحيحة عقيدة التوحيد، ولا يكفيهم ذلك حتى تتعبد قلوبهم لله عز و جل، وتمتلئ بأنوار أسمائه وصفاته وربوبيته وإلهيته.
2- التزكية بأداء الواجبات وترك المحرمات.
3- التزكية بالنوافل.
أ- التزكية بالتوحيد
__________
(1) فتح الباري(1/ 60) السلفية.(28/14)
لاشك أن أوجب أنواع التزكية، التزكية بالتوحيد قال الله تعالى: { إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ } [التوبة: 28] وهذه النجاسة ليست نجاسة عينية بحيث أن المسلم إذا مس كافرا يغسل يده، فقد أبيح للمسلم أن يتزوج بالكتابية ولا يسلم من عرقها، والواجب عليه من الطهارة كما هو الواجب على من تزوج بالمسلمة، فهذه نجاسة معنوية، قلوبهم نجسة لأنها لا تعرف الله عز وجل معرفة صحيحة، ولا تعبده وحده لا شريك له عبادة صحيحة.
ونجاسة الشرك ملازمة لا تطهرها المصائب المكفرة ولا الحسنات الماحية، بعكس تدنس المسلم بشيء من نجاسات المعاصي التي هي دون الشرك، فإنما تطهرها المصائب المكفرة والحسنات الماحية، ودعاء المؤمنين، واستغفار الملائكة، وغير ذلك من مكفرات الذنوب والخطايا، لذا كان أول الواجبات أن يطهر العبد نفسه من أنجاس الشرك، ويزكيها بالتوحيد، كما قال ابن عباس في قوله تعالى: { وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ 6 الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ } [فصلت: 6، 7] قال: الذين لا يشهدون أن لا إله إلا الله، وكذلك قول موسى عليه السلام لفرعون { هَل لَّكَ إِلَى أَن تَزَكَّى } [النازعات: 18] أي تتطهر من هذا الشرك بالتوحيد، فأصل التزكية، التزكية بالتوحيد، بل لا تزكو النفس بسائر أنواع العبادات حتى تزكو بالتوحيد أولا، ومن اهتمام النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الأصل لما أرسل معاذا إلى اليمن قال: فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله وأنى رسول الله، فإن هم أطاعوك لذلك فأخرهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة ))(1) الحديث
__________
(1) رواه البخاري(3/261) الزكاة، ومسلم(1/196،197)الإيمان، وأبو داود (1569) الزكاة والترمذي(3/117) الزكاة، والنسائي(5/55) ) الزكاة.(28/15)
وأيضا فإن الزكاة هي التطهير، وهل هناك نجاسة أشد من الشرك قال الله تعالى: { إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء } [النساء: 48]
وقال تعالى: { إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } [لقمان: 13].
وقال: { وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيدًا } [النساء: 116] وقد قضى النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة عشر عاما يدعو إلى التوحيد وكان القرآن المكي دعوة للتوحيد، وبان ما أعده الله عز وجل لأهل التوحيد، وكذلك ما أعده للمعرضين عن توحيده، وكيف نصر الله عز رجل أولياءه الموحدين، وأهلك الكافرين والمعاندين، حتى استنارت قلوب الصحابة بأنوار التوحيد، وظهر هذا النور على جوارحهم فأثمر فعل الطاعات وترك المعاصي، كما قيل في قول الله عز وجل { ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ 24 تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا } [إبراهيم: 24، 25] فالكلمة الطيبة هي كلمة التوحيد ((لا إله إلا الله)) أصلها ثابت في قلب المؤمن، وفرعها من الأعمال الصالحة في السماء صاعد إلى الله عز وجل، ونقصد بالتوحيد الذي تزكو به النفوس التوحيد الذي علمنا إياه رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: ((الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره))(1)والإيمان بالله هو ركن التوحيد الأعظم ويشمل الإيمان بربو بيته وأسمائه وصفاته وإفراده عز وجل بجميع ألوان العبادة تصديقا لقولنا ((لا إله إلا الله)) وقد فصلنا أصول الاعتقاد في بحث ((التربية)) بما أغنى عن إعادته في هذا البحث فليراجع.
__________
(1) رواه البخاري (1/114) الإيمان، ومسلم (1/ 157_ 160) الإيمان.(28/16)
ولا يكفي في توحيد الأسماء والصفات. وتوحيد الربوبية أن نثبت لله تعالى ما أثبته لنفسه وما أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم إثباتا بلا تشبيه وتنزيها بلا تعطيل، بل ينبغي أن تتعبد قلوبنا لله عز وجل بصفات الربوبية، وأسمائه وصفاته، والتحقق بتوحيد المعرفة هو السبيل كذلك لتمام العبودية وكمالها لله عز وجل.
قال ابن القيم رحمه الله في وصف السابقين بالخيرات:
وجملة الأمر أنهم قوم قد امتلأت قلوبهم من معرفة الله، وغمرت بمحبته وخشيته وإجلاله ومراقبته، فسرت المحبة في أجزائهم، فلم يبق فيها عرق ولا مفصل إلا وقد دخله الحب، قد أنساهم حب ذكره غيره، وأوحشهم أنسهم به ممن سواه، قد فنوا بحبه عن حب من سواه، وبذكره عن ذكر من سواه، وبخوفه ورجائه والرغبة إليه والرهبة منه والتوكل عليه والإنابة إليه والسكون إليه والتذلل والانكسار بين يديه، عن تعلق ذلك منهم بغيره، فإذا وضع أحدهم جنبه على مضجعه صعدت أنفاسه إلى إلهه ومولاه واجتمع همه عليه، متذكرا صفاته العلى وأسماءه الحسنى، مشاهدا له في أسمائه وصفاته، قد تجلت على قلبه أنوارها فانصبغ قلبه بمعرفته ومحبته، فبات جسمه على فراشه يتجافى عن مضجعه، وقلبه قد أوى إلى مولاه وحبيبه فآواه إليه، وأسجده بين يديه خاضعا خاشعا ذليلا منكسرا من كل جهة من جهاته، فيالها سجدة ما أشرفها. من سجدة لا يرفع رأسه منها إلى يوم اللقاء.
وقيل لبعض العارفين: أيسجد القلب بين يدي ربه، قال: إي والله بسجدة لا يرفع رأسه ما إلى يوم القيامة.(28/17)
فشتان بين قلب يبيت عند ربه، قد قطع في سفره إليه بيداء الأكوان وخرق حجب الطبيعة، ولم يقف عند رسم، ولا سكن إلى علم حتى دخل على ربه في داره فشاهد عز سلطانه وعظمة جلاله، وعلو شأنه وبهاء كماله، وهو مستو على عرشه يدبر أمر عباده، ويصعد إليه شئون العباد، تعرض عليه حوائجهم وأعمالهم فيأمر فيها بما يشاء، فينزل الأمر من عنده نافذا كما أمر، فيشاهد الملك الحق قيوما بنفسه مقيما لكل ما سواه، غنيا عن كل من سواه فقيرا إليه ((كل من عداه))(1)
{ يَسْأَلُهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ } [الرحمن: 29] يغفر ذنبا، ويفرج كربا، ويفك عانيا وينصر ضعيفا، ويجبر كسيرا، ويغنى فقيرا، ويميت ويحي، ويسعد ويشقى، ويضل ويهدى، وينعم على قوم ويسلب نعمته عن آخرين، ويعز أقواما ويذل آخرين، ويرفع أقواما ويضع آخرين(2).
إلى أن قال رحمه الله:
وجماع الأمر في ذلك إنما هو تكميل عبودية الله في الظاهر والباطن، فتكون حركات نفسه وجسمه كلها في محبوبات الله، وكمال عبودية العبد موافقته لربه في محبته ما أحبه، وبذل الجهد في فعله، وموافقته في كراهة ما كرهه، وبذل الجهد في تركه، وهذا إنما يكون للنفس المطمئنة لا للأمارة ولا للوامة فهذا كمال من جهة الإرادة والعمل.
__________
(1) زيادة لا يستقيم المعنى إلا بها.
(2) طريق الهجرتين (287).(28/18)
وأما من جهة العلم والمعرفة فأن تكون بصيرته منفتحة في معرفة الأسماء والصفات والأفعال. له شهود خاص فيها، مطابق لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، لا مخالف له، فإن بحسب مخالفته له في ذلك يقع لانحراف، ويكون ذلك قائما بأحكام العبودية الخاصة التي تقتضيها كل صفة بخصوصها، وهذا سلوك الأكياس الذين هم خلاصة العالم، والسالكون كل هذا الدرب أفراد من العالم، طريق سهل قريب موصل طريق آمن، اكثر السالكين في غفلة عنه، ولكن يستدعى رسوخا في العلم ومعرفة تامة به، و إقداما على رد الباطل المخالف له ولو قاله من قاله (1) .
كذلك كانت تزكية النبي صلى الله عليه وسلم لنفوس أصحابه من شرك الألوهية كلما سنحت فرصة. قال للصحابة يوما على إثر سماء من الليل، أتدرون ماذا قال ربكم الليلة؟ قالوا الله ورسوله أعلم، قال: قال أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر: فأما من قال مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب، وأما من قال مطرنا بنوء كذا وكذا فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب )) (2)
وقال صلى الله عليه وسلم: لا تقولوا ما شاء الله وشاء فلان ولكن قولوا: ما شاء الله ثم شاء فلان )) (3) .
وكذلك قصة ذات الأنواط (4) وغير ذلك مما كان يزكي به النبي صلى الله عليه وسلم قلوب أصحابه حتى صاروا أبر الأمة قلوبا وأعمقها علما.
2- التزكية بفعل الواجبات وترك المحرمات:
__________
(1) طريق الهجرتين(299، 300) .
(2) رواه البخاري(2/333) صفة الصلاة، ومسلم(2/ 59 ،60) الإيمان، ومالك في الموطأ (1/192) الاستسقاء،وأبو داود(3888) الطب والنسائي(3/ 165) الاستسقاء.
(3) رواه أبو داود(4959) الأدب، وأحمد (384) وصححه الألباني في الصحيحة رقم (137) .
(4) رواه البخاري(10/ 283) اللباس، ومسلم(94) الإيمان.(28/19)
وهذه تزكية واجبة بعد التزكية بالتوحيد، وأولى ما يتقرب به العبد إلى ربه بعد توحيد الله عز وجل أداء الفرائض واجتناب المحرمات، والعمدة في ذلك حديث الولي في صحيح البخاري عنه صلى الله عليه وسلم قال: قال الله تعالى:((وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه))(1).
قال ابن حجر رحمه الله:ويستفاد منه أن أداء الفرائض أحب الأعمال إلى الله )) قال الشوكاني: وجه ذلك أن النكرة وقعت في سياق النفي فتعم كل ما يصدق عليه معنى الشيء، فلا يبقى شيء من القرب إلا وهو داخل في هذا العموم، لأن كل قربه كائنه ما كانت يقال لها شيء، سواء كانت من الأفعال أو الأقوال، أو مضمرات القلوب أو الخواطر الواردة على العبد أو التروك للمعاصي التي هي ضد فعلها.
قال الطوفي: الأمر بالفرائض جازم ويقع بتركها المعاقبة بخلاف النفل في الأمرين، وإن اشتركت مع الفرائض في تحصيل الثواب، فكانت الفرائض أكمل، فلذا كانت أحب إلى الله، وأشد تقربا، فالفرض كالأس، والنفل كالفرع والبناء، وفي الإتيان بالفرائض على وجه المأمور به امتثال الأمر واحترمه وتعظيمه بالانقياد إليه وإظهار عظمة الربوبية وذل العبودية، فكان التقرب بذلك أعظم العمل.
__________
(1) رواه البخاري (4/ 321) ، وأبو نعيم في الحلية (1/4) والبغوي في شرح السنة (1 /142/2)- السلسلة الصحيحة 1640.(28/20)
قال الشوكاني رحمه الله: واعلم أم من أعظم فرائض الله سبحانه ترك معاصيه التي هي حدوده، التي من تعداها كان عليه من العقوبة ما ذكره الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز، ولا خلاف أن الله افتراض على العباد ترك كل معصية كائنة ما كانت، فكان ترك المعاصي من هذه الحثيثة داخلا تحت عموم قوله: (( وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي من مما افترضت عليه)) بل دخول فرائض الترك للمعاصي أولى من دخول فرائض الطاعات كما يدل عليه حديث(( إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شيء فلا تقربوه))(1)
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أفضل الأعمال أداء ما افترض الله، والورع عما حرم الله، وحسن النية فيما عند الله عز وجل (2) ،والمقصود أن أهل السنة، يزكون أنفسهم بعد التوحيد بتكميل الفرائض من فعل الواجبات وترك المحرمات، فلا يفتحون على أنفسهم أبواب النوافل، وهم بعد مقصورون في أداء الفرائض، كما يذهب كثير من الناس إلى الحج والعمرة كل عام ولا يؤدون زكاة أموالهم، أو يهتمون ببناء المساجد وينفقون في أبواب البر لا بنية الزكاة الواجبة في المصارف الثمانية التي حددها الله عز وجل ويصح هنا قول القائل: من شغله الفرض عن النفل فهو معذور ومن شغله النفل عن الفرض فهو مغرور.
والله عز وجل لا يقبل النفل حتى تؤدي الفريضة، فأهل السنة يزكون أنفسهم بالمشروع، ومع ذلك يقدمون في العمل ما قدمه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم ((نبدأ بما بدأ الله به)) ثم تلا { إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللَّهِ } [البقرة: 158].
__________
(1) رواه مسلم (9/100،101)) الحج باب فرض الحج مرة.
(2) ولاية الله والطريق إليها(369) بتصرف واختصار.(28/21)
ومن تلبيس الشيطان على العبد أن يشغله بالعمل المفضول عن الفاضل، وقد ظهر أن الفرائض أفضل وأنفع للعبد من النوافل، فينبغي أن يكمل العبد فرائضه أولا، ثم يزداد تقربا وتحببا إلى الله عز وجل بالنوافل.
3- التزكية بالنوافل
النوافل هي ما عدا الفرائض من جميع أجناس الطاعات، وكل ما ندب الله سبحانه إليه ورغب فيه من غير حتم وافتراض، وتختلف النوافل باختلاف ثوابها، فما كان ثوابه أكثر كان فعله أفضل، وتختلف كذلك باختلاف ما ورد في الترغيب فيها، فبعضها قد يقع الترغيب فيه ترغيبا مؤكدا، وقد يلازمه النبي صلى الله عليه وسلم مع الترغيب للناس في فعله.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((ولا يزال عبدي يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه))(1).
قال الحافظ رحمه الله: وقد استشكل بما تقدم أولا أن الفرائض أحب العبادات المتقرب بها إلى الله فكيف لا تنتج المحبة؟ والجواب أن ما كانت حاوية للفرائض مشتملة عليها ومكملة لها، ويؤيده أن رواية أبي أمامة: ((ابن آدم إنك لن تدرك ما عندي إلا بأداء ما افترضت عليك)).
قال الفاكهاني: معنى الحديث أنه إذا أدى الفرائض ودام على إتيان النوافل من صلاة وصيام وغيرهما أفضى به ذلك إلى محبة الله.
قلت: ويفهم منه أن العبد إذا قصر في الفرائض وأكثر من النوافل لا تكون هذه الطريق موصلة له إلى محبة الله عز وجل: فلا يتم التقرب بالنوافل حتى يتقرب أولا بالفرائض، فهذه سبيل التزكية عند أهل السنة.
__________
(1) جزء من حديث الولي وقد تقدم ص (22).(28/22)
وقال ابن هبيرة: ويؤخذ من قوله: ((ما تقرب... إلخ)) أن النافلة لا تقدم على الفريضة، لأن النافلة إنما سميت نافلة لأنها تأتي زائدة على الرافضة فما لم تؤد الفريضة لا تحصل النافلة، ومن أدى الفرائض ثم زاد عليه النفل وأدام ذلك تحققت منه إرادة التقرب انتهى وأيضا فقد جرت العادة أن التقرب يكون غالبا بغير ما وجب على المتقرب كالهدية والتحفة خلاف من يؤدي ما عليه من خراج أو يقضي ما عليه من دين، وأيضا فإن من جملة ما شرعت له النوافل جبر الفرائض، كما صح في الحديث
((انظروا هل لعبدي من تطوع فتكمل به فريضته))(1) الحديث بمعناه.
فتبين أن المراد من التقرب بالنوافل أن تقع ممن أدى الفرائض لا من أخل بها.
وقال الشوكاني رحمه الله: إن العبد لما كان معتقدا لوجوب الفرائض عليه، وأنه أمر حتم يعاقب على تركها، كان ذلك بمجرده حاملا له على المحافظة عليها والقيام بها، فهو يأتي بها بالإيجاب الشرعي والعزيمة الدينية، أما النوافل فهو يعلم أنه لا عقاب في تركها فإذا فعلها كان ذلك لمجرد التقرب إلى أرب خاليا، عن حتم عاطلا عن حزم، فجوزي على ذلك بمحبة الله له، وإن كان أجر الفرض أكثر، فلا ينافي أن تكون المجازاة بما كان الحامل عليه هو محبة التقرب إلى الله أن يحب الله فاعله لأنه فعل ما لم يوجبه الله عليه، ولا عزم عليه بأن يفعله.
__________
(1) رواه أبو داود (850) الصلاة والنسائي (1/ 232، 233) والحاكم (1/262) الصلاة وصححه على شرط مسلم وقال الذهبي صحيح وصححه كذلك عبد القادر الأرنؤوط.(28/23)
ومثال هذا في الأفعال المشاهدة في ابن آدم أن السيد إذا أمر عبده بأن يقضي له في كل يوم حاجة أو حوائج، وكذلك أمر من له من الممالك بمثل ذلك، فكان أحدهم يقضي له تلك الحوائج ثم يقضى له حوائج أخرى يعلم أن سيده يحب قضاءها وتحسن لديه، والآخرون لا يقضون له إلا تلك الحوائج التي أمرهم السيد بها، فمعلوم أن ذلك العبد الذي صار يأتي له كل يوم بما أمره به وبغيره مما يحبه، يستحق المحبة من السيد محبة زائدة على محبته لكل واحد منهم، فالمراد من الحديث هذه المحبة الزائدة الحاصلة من فعله لما يحبه سيده من غير أمر منه، مع قيامه بما قام به غيره من امتثال أمر السيد والتبرع بالزيادة التي لم يأمره بها (1) .
وهذه مجموعة من نوافل الطاعات الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم أذكر بها من كمل فرائضه وأحب أن يزداد زكاة ومحبة لله عز وجل.
ا- نوافل الصلاة:
من نوافل الصلاة المرغوب فيها المؤكد في استحبابها رواتب الفرائض وهي في الصحيحين وغيرهما من حديث عبد الله بن عمر قال:((حفظت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وآله: ركعتين قبل الظهر، وركعتين بعد الظهر، وركعتين بعد المغرب، وركعتين بعد العشاء، وركعتين قبل الغداة )) (2) . وأخرجه مسلم بمعناه لكن زاد:((قبل الظهر أربعا )) (3)
وفضل هذه النوافل ما رواه مسلم وأهل السنن من حديث أم حبيبة بنت أبي سفيان عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من صلى في يوم وليلة اثنتي عشرة سجدة سوى المكتوبة، بنى له بيت في الجنة )) (4) .
ومن نوافل الصلاة المؤكدة قيام الليل:
__________
(1) ولاية الله والطريق إليها(419) بتصرف).
(2) رواه البخاري(3/ 47) التهجد وفيه زيادة(( وركعتين بعد الجمعة)) ومسلم(6/7،8 )الصلاة وأبو داود (1239) بمعناه.
(3) رواية مسلم(6/8) الصلاة عن عائشة رضي الله عنها.
(4) رواه مسلم(6/6) الصلاة: وأبو بكر (1237) أبواب التطوع.(28/24)
روى مسلم عنه صلى الله عليه وسلم قال:((أفضل الصلاة بعد المكتوبة قيام الليل )) (1) . وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلى ما بين أن يفرغ من صلاة العشاء إلى الفجر إحدى عشرة ركعة، يسلم بين كل ركعتين، ويوتر بواحدة )) (2) .
ومن النوافل صلاة الضحى
والأحاديث في مشروعيتها متواترة منها ما في الصحيحين عن أبى هريرة رضي الله عنه قال: أوصاني خليلي صلى الله عليه وسلم بثلاث: ((صيام ثلاثة أيام من كل شهر وركعتي الضحى وأن أوتر قبل أن أنام )) (3) .
ومن نوافل الصلاة المؤكدة صلاة تحية المسجد:
عن أبي قتادة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إذا دخل أحدا المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين )) (4)
ومن النوافل: الصلاة عقب الوضوء.
والصلاة بين الأذان والإقامة.
ومطلق التنفل إلا في أوقات الكراهة .
2- نوافل الصيام:
صوم شهر المحرم روى مسلم وأهل السنن أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل أي الصيام بعد شهر رمضان أفضل؟ فقال:((شهر الله المحرم )) (5)
ومنه صيام يوم عرفة ويوم عاشوراء
عن أبي قتادة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((صوم يوم عرفة يكفر سنتين ماضية ومستقبله، وصوم يوم عاشوراء يكفر سنة ماضية )) (6) .
ومنه صيام ست من شوال
__________
(1) رواه مسلم(8/55) الصوم من حديث أبي هريرة.
(2) رواه البخاري(3/20) التهجد بلفظ(( ثلاث عشرة منها يوتر وركعتا الفجر، ورواه مسلم (6/16) الصلاة، و؟أبو داود(1322)أبواب صلاة الليل.
(3) رواه البخاري(3/ 56) التهجد، رواه مسلم (5/234) الصلاة عن أبي هريرة ورواه بمعناه عن أبي الدرداء(5/235).
(4) رواه البخاري(3/48) التهجد ومسلم(5/117) الصلاة ومالك في الموطأ(1/162) قصر الصلاة، والثلاثة.
(5) رواه مسلم(8/ 55) الصوم والبغوي في شرح السنة(6/341) الصوم.
(6) رواه مسلم(8/51) الصيام وأبو داود (2408) الصوم.(28/25)
عن أبي أيوب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من صام رمضان ثم أتبعه ستا من شوال فذلك صيام الدهر)) (1) .
ومنه صوم شعبان
أخرج أحمد وأهل السنن من حديث أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يصوم من السنة شهرا تاما إلا شعبان يصل به رمضان )) (2) . وحسنه الترمذي والمعنى يكثر من صيام شعبان لأنه لم يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم صام شهرا كاملا إلا رمضان.
ومنه مطلق التنفل ويكفى في مطلق التنفل بالصيام قوله صلى الله عليه وسلم: ((من صام
يوما في سبيل الله باعد الله وجهه عن النار سبعين خريفا ))(3)
3- نوافل الحج والعمرة:
في الصحيحين وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (( العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة )) وقال صلى الله عليه وسلم:((من حج فلم - يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه )) (4) .
4- نوافل الصدقة:
قال الله عز وجل: { وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ } [سبأ: 39].
__________
(1) رواه مسلم(8/ 26) الصيام وأحمد (5/ 417) (419) ، وأبو داود(2416) الصوم والترمذي(3/290) الصوم.
(2) رواه الدارمي(2/ 17) قال في تحقيق شرح السنة ورجاله ثقات رواه أحمد(6/84، 143) والنسائي(4/ 199) الصوم وأبو داود(2418) الصوم بمعناه عن عائشة رضي الله عنها.
(3) رواه البخاري( 6/ 47) الجهاد، ومسلم(8/33) الصوم، والترمذي(7/124) الجهاد،والنسائي(4(173) الصوم.
(4) رواه البخاري(3/382) الحج، ومسلم(9/119) الحج والترمذي (4/165) الحج.(28/26)
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما من يوم يصبح العباد فيه إلا وكان ينزلان من السماء فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقا خلفا، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكا تلفا (1) وفي صحيح مسلم من حديث أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
((يا ابن آدم إنك إن تبذل الفضل خير لك وإن تمسكه شر لك ولا تلام على كفاف وابدأ بمن تعول، واليد العليا شر من اليد السفلي)) (2) .
وفي الصحيحين وغيرهما من حديث أسماء بنت أبي بكر قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وآله(( لا توكي فيوكي الله عليك )) (3) أي لا تبخلي.
5- نوافل الأذكار:
قال الله تعالى: { وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ } [العنكبوت: 45] أي أكبر مما سواه من الأعمال الصالحة.
وقال تعالى: { وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } [الجمعة: 10].
وفي الصحيحين وغيرهما من حديث أبي موسى:((الذي يذكر ربه والذي لا يذكر ربه مثل الحي والميت )) (4) .
التقرب والتزكية بالدعاء:
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الدعاء هو العبادة) ثم تلا هذه الآية { وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ } [غافر: 60].
وقال عز وجل: { أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ } [النمل: 62].
وقال: { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ } [البقرة: 86].
__________
(1) رواه البخاري(3/ 304) الزكاة، ومسلم(7/95)الزكاة.
(2) رواه مسلم( 7/127) الزكاة، والترمذي(9/207) أبواب الزهد.
(3) رواه البخاري(3/300)الزكاة،(3/301) الزكاة ومسلم(7/118) الزكاة.
(4) رواه البخاري(11/ 208) الدعوات ومسلم(6/68) صلاة المسافرين بلفظ(( مثل البيت الذي لا يذكر الله فيه والبيت الذي يذكر الله فيه مثل الحي والميت)).(28/27)
وعن أنس مرفوعا((لا تعجزوا في الدعاء فإنه لن يهلك مع الدعاء أحد )) (1) .
وعن أبي سعيد عنه صلى الله عليه وسلم: ((ما من مسلم يدعو بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث: إما أن يعجل له دعوته، وإما أن يدخرها له في الآخرة وإما أن يصرف عنه من السوء مثلها )) (2) .
وعن سلمان عنه صلى الله عليه وسلم قال ((إن ربكم حي كريم يستحي إذا رفع الرجل إليه يديه أن يردهما صفرا خائبتين )) (3) .
7- التزكية والقرب بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم
ومما تزكو النفس بملازمته والاستكثار منه الصلاة والسلام على رسول الله
صلى الله عليه وسلم فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من صلى غلي واحدة صلى الله عليه عشرا )) (4) .
فانظر إلى هذا الأمر العظيم والجزاء الكريم، يصلي العبد على الرسول صلى الله عليه وسلم واحدة، فيصلي عليه خالق العالم ورب الكل عز وجل عشر مرات؛ فهذا ثواب لا يعادله ثواب وجزاء لا يساويه جزاء وأجر لا يماثله أجر.
وبعد أن ذكرنا هذه المجموعة الطيبة من النوافل على سبيل التذكير لمن أراد أن يزكى نفسه بالنوافل بعد الفرائض، يظهر جليا كيف أغنانا الله بالوسائل المشروعة لتزكية النفوس، ونوع الأعمال الصالحة التي يدخل العبد بها على الله عز وجل.
__________
(1) رواه ابن حبان(2398موارد) الأدعية والحاكم(1/491) الدعاء وقالا: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه وقال الذهبي صحيح.
(2) رواه الحاكم (1/491)وقال هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه وقال الذهبي صحيح ورواه الترمذي بمعناه عن أبي الزبير عن جابر(12/273).
(3) رواه ابن حبان(399) موارد الأدعية. والحاكم(1/497)وقال إسناده صحيح على شرط الشيخين ووافقه الذهبي.
(4) رواه مسلم(4/128) الصلاة، والترمذي(4/270)الصلاة، وأبو داود(1516)الصلاة، والنسائي (3/50)السهو عن أنس وفيه زيادة(( وحطت عنه عشر خطيئات ورفعت له عشر درجات)).(28/28)
قال ابن القيم رحمه الله: من الناس من يكون سيد عمله الذكر وقد جعله زاده لمعاده ورأس ماله لمآله، فمتى فتر عنه أو قصر رأى أنه قد غبن وخسر، ومن الناس من يكون سيد عمله وطريقه الصلاة فمتى قصر في ورده منها، أو مضى عليه وقت وهو غير مشغول بها أو مستعد لها، أظلم عليه وقته، وضاق صدره، ومن الناس من يكون طريقه الإحسان والنفع المتعدي، كقضاء الحاجات وتفريج الكربات وإغاثة اللهفات وأنواع الصدقات، قد فتح له في هذا وسلك منه طريقا إلى ربه، ومن الناس من يكون طريقه الصوم، فهو متى أفطر تغير عليه قلبه وساءت حاله، ومن الناس من يكون طريقه تلاوة القرآن، وهي الغالب على أوقاته، وهي أعظم أوراده، ومنهم من يكون طريقه الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، قد فتح الله له فيه ونفذ منه إلى ربه، ومنهم من يكون طريقه الذي نفذ فيه الحج والاعتمار، ومنهم من يكون طريقه قطع العلائق، وتجريد الهمة، ودوام المراقبة، ومراعاة الخواصر، وحفظ الأوقات أن تذهب ضائعة، ومنهم جامع المنفذ السالك إلى الله في كل واد، الواصل إليه من كل طريق، فهو جعل وظائف عبوديته قبلة قلبه ونصب عينه يؤمها أين كانت ويسير معها حيث سارت، قد ضرب مع كل فريق بسهم، فأين كانت العبودية وجدته هناك إن كان علم وجدته مع أهله، أو جهاد وجدته في صف المجاهدين، أو صلاة وجدته في القانتين، أو ذكر وجدته في الذاكرين، أو إحسان ونفع وجدته في زمرة المحسنين، أو محبة ومراقبة و إنابة إلى الله وجدته في زمرة المحبين المنيبين، يدين بدين العبودية التي استقلت ركابها، ويتوجه إليها حيث استقرت مضاربها، لو قيل له: ما تريد من الأعمال؟ لقال: أريد أن أنفذ أوامر ربي حيث كانت وأين كانت، جالبة ما جلبت، مقتضية ما اقتضت، جمعتني أو فرقتني، ليس في مراد إلا تنفيذها والقيام بأدائها، مراقبا له فيها، عاكفا عليه بالروح والقلب والبدن والسر، قد سلمت له المبيع منتظرا منه تسليم الثمن: { إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى(28/29)
مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ } [التوبة: 111].
فهذا هو العبد السالك إلى ربه النافذ إليه حقيقة (1) .
فهذه طريقة ومناهج التزكية عند السلفيين أهل السنة والجماعة، جعلها الله عز وجل كثيرة متنوعة جدا؛ لاختلاف استعدادات العباد وقوابلهم، ولو جعلها نوعا واحدا مع اختلاف الأذهان والعقول وقوة الاستعدادات وضعفها لم يسلكها إلا واحد بعد واحد، مع أن كل هذه طريق واحد، وهو صراط الله المستقيم كما قال تعالى: { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ } [ الأنعام: 153].
منهج التزكية عند الصوفية
لاشك أن الصوفية من أجهل الفرق الإسلامية بآثار النبوة، وأكثرها ترويجا للأحاديث الضعيفة والموضوعة، وذلك واضح جلى في مصنفاتهم فإنها مليئة بالأخبار الموضوعة ومالا أصل له، أضف إلى ذلك كثرة الحكايات والمنامات والخرافات يعوضون بها فقرهم بالآثار النبوية والسنن المصطفوية، ويظهر ذلك كذلك في مناهج التزكية عندهم، حيث يطلبون زكاة نفوسهم بالإنشاد والمكاء والتصدية وتكلف ما لم يشرعه الله عز وجل ولا رسوله صلى الله عليه وسلم من العبادات، وهذه بعض وسائلهم في التزكية.
الصوفية يزكون أنفسهم- زعموا- بالمكاء والتصدية والغناء والتصفيق ويتواجدون عند ذلك حتى روى بعضهم كذبا أن النبي صلى الله عليه وسلم أنشده أعرابي شعرا فقال:
قد لسعت حية الهوى كبدي
... فلا طبيب لها ولا راقي
سوى الحبيب الذي شغفت به ... فمنه دائي ومنه ترياقي
وأن النبي صلى الله عليه وسلم تواجد حتى سقطت البردة عن منكبيه وقال: ((ليس بكريم من لم يتواجد عند ذكر المحبوب )).
قال شيخ الإسلام: وهذا حديث كذب بإجماع العارفين بسيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنته وأحواله. (2) .
وقال كذلك:
__________
(1) طريق الهجرتين وباب السعادتين(179).
(2) مجموع الفتاوى(11/ 598) .(28/30)
وبالجملة فقد عرف بالاضطرار من دين الإسلام أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يشرع، لصالحي أمته وعبادهم وزهادهم أن يجتمعوا على استماع الأبيات الملحنة مع الضرب بالكف أو ضرب بالقضيب أو الدف، كما لم يبح لأحد أن يخرج عن متابعته واتباع ما جاء به من الكتاب والحكمة لا في باطن الأمر ولا في ظاهره، ولا لعامي ولا لخاصي، ولكن رخص النبي صلى الله عليه وسلم في أنواع من اللهو في العرس ونحوه؛ رخص للنساء أن يضربن بالدف في الأعراس والأفراح، وأما الرجال على عهده فلم يكن أحد منهم يضرب بالدف ولا يصفق بكف، بل قد ثبت عنه في الصحيح أنه قال: التصفيق للنساء والتسبيح للرجال، ولعن المتشبهات من النساء بالرجال، والمتشبهين من الرجال بالنساء.
ولما كان الغناء والضرب بالدف والكف من عمل النساء كان السلف يسمون من يفعل ذلك من الرجال مخنثا، ويسمون الرجال المغنيين مخانيثا وهذا مشهور من كلامهم. (1) .
إلى أن قال رحمه الله:
وبالجملة فهذه (مسألة السماع) تكلم كثير من المتأخرين في السماع هل هو محظور أو مكروه أو مباح، وليس المقصود بذلك مجرد رفع الحرج بل مقصودهم يذلك أن يتخذ طريقا إلى الله يجتمع عليه أهل الديانات لصلاح القلوب والتشويق إلى المحبوب والتخويف من المرهوب والتحزن على فوات المطلوب، فتستنزل به الرحمة وتستجلب به النعمة وتحرك به مواجيد أهل الإيمان وتستجلي به مشاهد أهل العرفان حتى يقول بعضهم، إنه أفضل لبعض الناس أو للخاصة من سماع القرآن من عدة وجوه، حتى يجعلونه قويا للقلوب، وغذاء للأرواح، وحاديا للنفوس، يحدوها إلى السير إلى الله ويحثها على الإقبال عليه.
__________
(1) وجموع الفتاوى(11/ 567، 568) .(28/31)
ولهذا يوجد من اعتاده واغتذى به لا يحن إلى القرآن، ولا يفرح به، ولا يجد في سماع الآيات كما يجد في سماع الأبيات، بل إذا سمعوا القرآن سمعوه بقلوب لاهية وألسن لاغية، وإذ سمعوا سماء المكاء و التصدية خضعت الأصوات، وسكنت الحركات وأصغت القلوب وتعاطت المطلوب.
وقال رحمه الله: ومن كانت له خبرة بحقائق الدين وأحوال القلوب ومعارفها وأذواقها ومواجيدها عرف أن سماع، المكاء والتصدية لا يجلب للقلوب منفعة ولا مصلحة إلا وفي ضمن ذلك من الضرر والمفسدة ما هو أعظم منه، فهو للروح كالخمر للجسد، يفعل في النفوس فعل حميا الكؤوس، ولهذا يورث أصحابه سكرا أعظم من سكر الخمر فيجدون فيه لذة بلا تمييز، كما يجد الشارب بل يحصل لهم أكثر وأكبر مما يحصل لشارب الخمر، يصدهم ذلك عن ذكر الله وعن الصلاة أعظم مما يصدهم الخمر، ويوقع بينهم العداوة والبغضاء أعظم من الخمر، حتى يقتل بعضهم بعضا من غير مس يد بل بما يقترن بهم من الشياطين، فإنهم يحصل لهم أحوال شيطانية بحيث تتنزل عليهم الشياطين في تلك الحال )) (1) .
وقال ابن الجوزي ما ملخصه:-
هذه الطائفة إذا سمعت الغناء تواجدت وصفقت وصاحت ومزقت الثياب، وقد لبس عليهم إبليس في ذلك وبالغ واحتجوا بما روي عن سلمان:
لما نزلت { وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ } صاح سلمان الفارسي صيحة ووقع على رأسه ثم خرج هاربا ثلاثة أيام. والجواب أن ما ذكروه عن سلمان فمحال وكذب، ثم ليس له إسناد والآية نزلت بمكة وسلمان إنما أسلم بالمدينة، ولم ينقل عن أحد من الصحابة مثل هذا أصلا.
__________
(1) مجموع الفتاوى(11/573/ 574) .(28/32)
قال واعلم وفقك الله أن قلوب الصحابة كانت أصغى القلوب، وما كانوا يزيدون عند الوجد على البكاء والخشوع، قال: وهذا حديث العرباض بن سارية ((وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة ذرفت منها العيون، ووجلت منا القلوب))(1) قال أبو بكر الآجرى: ولم يقل صرخنا ولا ضربنا صدورنا كما يفعل كثير من الجهال الذين يتلاعب بهم الشيطان.
قال: والتصفيق منكر يطرب ويخرج عن حد الاعتدال ويتنزه عن مثله العقلاء ويتشبه فاعله بالمشركين فيما كانوا يفعلونه عند البيت من التصدية، وهي التي ذمهم الله عز وجل بها فقال: { وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكَاءً وَتَصْدِيَةً } [الأنفال: 35] فالمكاء الصفير والتصدية التصفيق.
قال: فإذا قوى طربهم رقصوا، وقد احتج بعضهم بقوله تعالى لأيوب { ارْكُضْ بِرِجْلِكَ } [ص: 42] قال: وهذا الاحتجاج بارد لأنه لو كان أمر بضرب الرجل فرحا كان لهم فيه شبهة، وإنما أمر بضرب الرجل لينبع الماء. فال ابن عقيل: أين الدلالة في مبتلى أمر عند كشف البلاء بأن يضرب برجله الأرض لينبع الماء إعجازا من الرقص. [الإسراء: 37]
قال أبو الوفاء بن عقيل: وقد نص القرآن على النهي عن الرقص فقال عز وجل { وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا } وذم المختال فقال { إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ } [لقمان: 18].
قال ابن الجوزي: فإذا تمكن الطرب من الصوفية في حال رقصهم جذب أحدهم بعض الجلوس ليقوم معه، ولا يجوز على مذهبهم للمجذوب أن يقعد، فإذا قام قام الباقون تبعا له، فإذا كشف أحدهم رأسه كشف الباقون رؤوسهم موافقة له، ولا يخفي على عاقل أن كشف الرأس مستقبح، وفيه إسقاط مروءة وترك أدب، وإنما يقع في المناسك تعبدا لله وذلا له.
__________
(1) رواه أبو داود حديث حسن صحيح، وابن ماجه (41) المقدمة وصححه الألباني.(28/33)
2- الصوفية يدعون تزكية أنفسهم بالاسم المفرد مظهرا أو مضمرا قال شيخ الإسلام:- الشرع لا يستحب من الذكر إلا ما كان كلاما تاما مفيدا مثل ((لا اله إلا الله))، ومثل ((الله أكبر ))، ومثل ((سبحان الله))، ومثل ((لا حول ولا قوة إلا بالله)).
فأما الاسم المفرد مظهرا مثل ((الله)) ((الله)) أو مضمرا مثل ((هو)) ((هو)) فهذا ليس بمشروع في كتاب ولا سنة، ولا هو مأثور أيضا عن أحد من سلف الأمة، ولا عن أعيان الأمة المقتدى بهم، وإنما لهج به قوم من ضلال المتأخرين.
وربما غلا بعضهم حتى يجعلوا الاسم المفرد للخاصة، وذكر الكلمة التامة للعامة، وربما قال بعضهم ((لا إله إلا الله للمؤمنين)) و((الله)) للعارفين وهو للمحققين وربما اقتصر أحدهم في خلوته أو في جماعته على ((الله الله الله))، على ((هو)) أو ((يا هو)) أو ((لا هو إلا هو)) وربما ذكر بعض المصفين في الطريق تعظيم ذلك.
وأما مايتوهمه طائفة من غالطي المتعبدين في قوله تعالى: { قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ } ويتوهمون أن المراد قول هذا الاسم فخطأ واضح، ولو تدبروا ما قبل هذا تبين مراد الآية فإنه سبحانه قال: { وَمَا قَدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُواْ مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِّلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُم مَّا لَمْ تَعْلَمُواْ أَنتُمْ وَلاَ آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ } أي قل الله أنزل الكتاب الذي جاء به موسى، فهذا كلام تام وجملة أسمية مركبة من مبتدأ وخبر.(28/34)
إلى أن قال: وكذلك بالأدلة العقلية الذوقية، فإن الاسم وحده لا يعطى إيمانا ولا كفرا ولا هدى ولا ضلالة ولا علما ولا جهلا، ولو كرر الإنسان اسم الله ألف مرة لم يصر بذلك مؤمنا ولم يستحق ثواب الله ولا جنته، فإن الكفار من جميع الأمم يذكرون الاسم المفرد سواء أقروا به وبوحدانيته أم لا.
فإن قيل فالذاكر والسامع للاسم المجرد قد يحصل له وجد محبة وتعظيم لله ونحو ذلك.
قلت: نعم ويثاب على دلك الوجد المشروع والحال الإيماني، لا لأن الاسم مستحب، وإذا سمع ذلك حرك ساكن القلب، وقد يتحرك الساكن بسماع ذكر محرم أو مكروه، حتى قد يسمع المسلم من يشرك بالله أو يسبه فيثور في قلبه حال وجد ومحبة لله بقوة نفرته وبغضه لما سمعه.
والعبد أيضا قد يدعوه داع إلى الكفر أو المعصية فيستعصم ويمتنع ويورثه ذلك إيمانا وتقوى، وليس السبب مأمورا به، وقد قال تعالى: { الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ } [آل عمران: 173] ففرق بين أن يكون نفس السبب موجبا للخير ومقتضيا، وبين أن لا يكون، وإنما نشأ الخير من المحل.
فثبت بما ذكرناه أن ذكر الاسم المجرد ليس مستحبا، فضلا عن أن يكون هو ذكر الخاصة.(28/35)
وأبعد من ذلك ذكر ((الاسم المضمر)) وهو ((هو)) فإن هذا بنفسه لا يدل على معين، وإنما هو بحسب ما يفسره من مذكور أو معلوم، فيبقى معناه بحسب قصد المتكلم ونيته، ولهذا قد يذكر به من يعتقد أن الحق الوجود المطلق، وقد يقول: لا هو إلا هو، ويسري قلبه في وحدة الوجود، ومذهب فرعون والإسماعيلية وزنادقة هؤلاء المتصوفة المتأخرين، بحيث يكون قوله ((هو)) كقوله ((وجوده)) وقد يعني بقوله ((لا هو إلا هو)) أي أنه هو الوجود وأنه ما ثم خلق أصلا، وأن الرب والعبد والحق والخلق شيء واحد كما بينته من مذهب الاتحادية، ومن أسباب هذه الاعتقادات والأحوال الفاسدة الخروج عن الشريعة والمنهاج الذي بعث به الرسول إلينا صلى الله عليه وسلم، فإن البدع هي مبادئ الكفر ومظان الكفر، كما أن السنن المشروعة هي مظاهر الإيمان ومقوية للإيمان، فإنه يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية.
3- الصوفية يدعون تزكية أنفسهم- بتحريم ما أحل الله من المطاعم والمشارب ولبس الصوف وتكلف ما لم يشرعه الله عز وجل من العبادات: قال ابن الجوزي رحمه الله:.- وقد بالغ إبليس في تلبيسه على قدماء الصوفية فأمرهم بتقليل المطعم وخشونته، ومنعهم شرب الماء البارد، وكان في القوم من يبقى الأيام لا يأكل إلا أن تضعف قوته، ومنهم من في بتناول كل يوم الشيء اليسير الذي لا يقيم البدن، وقد كان منهم قوم لا يأكلون اللحم حتى قال بعضهم: أكل درهم من اللحم يقسي القلب أربعين صباحا.
إلى أن قال رحمه الله: وقد صنف لهم أبو عبد الله محمد بن علي الترمذي كتابا سماه رياضة النفوس قال فيه: فينبغي للمبتدي في هذا الأمر أن يصوم شهرين متتابعين توبة من الله، ثم يفطر فيطعم اليسير، ويأكل كسرة كسرة، ويقطع الإدام والفواكه واللدة ومجالسة الأخوان، والنظر في الكتب، وهذه كلها أفراح للنفس؛ فيمنع النفس لدتها حتى تمتلئ عما.(28/36)
إلى أن قال: وهذا الذي نبهنا عنه من التقلل الزائد الحد قد انعكس في صوفية زماننا فصارت همتهم في المآكل، كما كانت همة متقدميهم في الجوع (1).
أما لبس الصوف فقد كانوا يلبسون الصوف يتقربون بذلك إلى الله عز وجل، ويحتجون بأن النبي صلى الله عليه وسلم لبس الصوف، وأما لبسه إياه فقد لبس النبي صلى الله عليه وسلم كذلك القطن و الكتان، و ما روى في فضل لبس الصوف فمن الموضوعات التي لا تثبت، بل تعمد لبس الصوف والدون من الملابس فمن البدع التي تخالف ما كان عليه السلف الصالح رضي الله عنهم.
قال ابن الجوزي: وقد كان السلف يلبسون الثياب المنوسطة لا المرتفعة ولا الدون ويتخيرون أجودها للجمعة والعيدين ولقاء الإخوان ولم يكن غير الأجود عندهم قبيحا. (2)
وقال: واعلم أن اللباس الذي يزري بصاحبه يتضمن إظهار الزهد، وإظهار الفقر، وكأنه لسان شكوى من الله عز وجل، ويوجب احتقار اللابس، وكل ذلك مكروه ومنهي عنه. وقال: وقد كان من الصوفية من إذا لبس ثوبا خرق بعضه وربما أفسد الثوب الرفيع القدر. (3)
__________
(1) تلبيس إبليس(206-221)باختصار.
(2) تلبيس إبليس(198).
(3) تلبيس إبليس(200).(28/37)
4- الصوفية يدعون تزكية أنفسهم بالرهبانية وترك النكاح قال ابن الجوزي رحمه الله: النكاح مع خوف العنت واجب، ومن غير خوف العنت سنة مؤكدة عند جمهور الفقهاء، ومذهب أبي حنيفة وأحمد بن حنبل أفضل من جميع النوافل، لأنه سبب في وجود الولد قال صلى الله عليه وسلم: ((تناكحوا تناسلوا )) (1) . وقال صلى الله عليه وسلم ((النكاح من سنتي فمن غب عن سنتي فليس مني )) (2) . قال: وقد لبس إبليس على كثير من الصوفية فمنعهم من النكاح فقدماؤهم تركوا ذلك تشاغلا بالتعبد ورأوا النكاح شاغلا عن طاعة الله عز وجل، وهؤلاء وإن كانت بهم حاجة إلى النكاح أوبهم نوع شوق إليه فقد خاطروا بأبدانهم وأديانهم، وإن لم يكن بهم حاجة إليه فاتتهم الفضيلة، وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((وفي بضع أحدا صدقة قالوا: يأتي أحدنا شهوته ويكون له فيا أجر قال: أرأيتم لو وضعها في الحرام أكان عليه وزر؟ قالوا: نعم قال: كذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر )) (3) .
ومنهم من قال: النكاح يوجب الميل إلى الدنيا فعن أبي سليمان الدراني أنه قال: إذا طلب الرجل الحديث، أو سافر في طلب المعاش، أو تزوج فقد ركن إلى الدنيا.
__________
(1) رواه البيهقي في السنن الكبرى(7/78) بلفظ (( تزوجوا فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة ولا تكونوا كرهبانية النصارى...)) الحديث عن أبي أمامه وصححه الألباني بشواهده- الصحيحة 1782.
(2) رواه ابن ماجه(1846) النكاح عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (( النكاح من سنتي فمن لم يعمل بسنتي فليس مني)) الحديث حسنه الألباني في صحيح ابن ماجه(1496).
(3) رواه أبو داود(1271) الصلاة والحديث أصله في صحيح مسلم(5/ 233) صلاة المسافرين وأوله(( يصبح على كل سلامي من أحدكم صدقة وليس فيه هذه الزيادة وصحح الألباني رواية أبي داود المذكورة.(28/38)
قال: فأما جماعة من متأخري الصوفية فإنهم تركوا النكاح ليقال زاهد، والعوام تعظم الصوفي إذا لم تكن له زوجة، فيقولون ما عرف امرأة قط. قال أبو حامد: ينبغي أن لا يشغل المريد نفسه بالتزويج، فإنه يشغله عن السلوك، ويأنس بالزوجة، ومن أنس بغير الله شغل عن الله.
قال ابن الجوزي:- وإني لأعجب من كلامه أتراه ما علم أن من قصد عفاف نفسه ووجود ولد أو عفاف زوجته فإنه لم يخرج عن جادة السلوك، أو يرى الأنس الطبيعي بالزوجة ينافي أنس القلوب بطاعة الله تعالى، والله تعالى من على الخلق بقوله { خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً } [ الروم: 21]
وفى الحديث الصحيح عن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال له ((هلا تزوجت بكرا تلاعبها وتلاعبك))(1)وما كان بالذي يدله على ما يقطع أنسه بالله تعالى، أترى رسول الله صلى الله عليه وسلم لما كان ينبسط إلى نسائه ويسابق عائشة رضي الله عنها أكان خارجا عن الأنس بالله، هذه كلها جهالات بالعلم.
إلى أن قال:- وقد حمل الجهل أقواما فجبوا أنفسهم، وزعموا أنهم فعلوا ذلك حياء من الله تعالى، وهذه غاية الحماقة؛ لأن الله تعالى شرف الذكر على الأنثى بهذه الآلة، وخلقها لتكون سببا للتناسل، والذي يحب نفسه يقول بلسان الحال الصواب ضد هذا. (2)
وقد أخذ الصوفية هذه الرهبانية من النصارى وصرحوا في كتبهم بإعجابهم برهبانية النصارى.
يقول الأستاذ دمشقية ما ملخصه:
وهذا الاعتزال الصوفي ليس مصدره إسلاميا وإنما مصدره رهبان النصارى ورياضاتهم عليه حول الصوفية وآثار هذا الإعجاب تبدو ظاهرة جلية في كتاب الإحياء.
__________
(1) رواه البخاري (3/81، 489) ومسلم (4/176) والترمذي (1/203) والبيهقي (7/80) وأحمد (3/380) الإرواء 785.
(2) باختصار من تلبيس ابليس(292،296).(28/39)
فالغزالي يذكر في الإحياء قصة بقلم إبراهيم بن أدم المعرفة و الحكمة من راهب نصراني يقول: قال إبراهيم بن أدهم: تعلمت المعرفة من راهب يقال له سمعان.
وروى عنه الغزالي أيضا قوله: سألت بعض الرهبان: من أين تأكل؟ فقال: ليس هذا العلم عندي ولكن سل ربي من أين يطعمني .
ويقول مثنيا على اعتزال رهبان النصارى وسلوكهم في التعبد (( اعلم أنه لا وصول إلى الله سبحانه وتعالى إلا بالتنزه عن الشهوات والكف عن اللذات، والاقتصار على الضرورات فيها، والتجرد لله سبحانه في جميع الحركات و السكنات ولأجل هذا انفرد الرهبانيون في الملل السالفة عن الخلق، وانحازوا إلى قلل الجبال، وآثروا التوحش عن الخلق لطلب الأنس بالله عز وجل )) (1) . فانظر رحمك الله كيف آثر الرهبانية التي ابتدعها اليهود والنصارى على الرهبانية التي شرعها الله عز وجل لهذه الأمة على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم فعن أبي سعيد الخدري أن رجلا جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أوصني فقال ((أوصيك بتقوى الله فإنه رأس كل شيء، وعليك بالجهاد فإنه رهبانية الإسلام، وعليك بذكر الله وتلاوة القرآن، فإن روحك في السماء و ذكرك في الأرض )) (2) .
فانظر يرحمك الله كيف تلاعب بهم الشيطان فأبعدهم عن طريق الرحمن فآثروا ما ذم الله عليه الرهبان وقدموه على ما جاء به سيد ولد عدنان عليه من الله أفضل صلاة وأزكى سلام.
مقارنة بين أهل السنة والصوفية في غاية التزكية
فكما تتباين وسائل التزكية وطرقها بين أهل السنة والصوفية، فإن غاية التزكية تختلف كذلك اختلافا كليا بينهما كما يقال:
سارت مشرقة وسرت مغربا ... شتان بين مشرق ومغرب
وسوف نبين ذلك بشيء من التفصيل إن شاء الله تعالى.
غاية التزكية عند أهل السنة
__________
(1) باختصار من(( أبو حامد الغزالي والتصرف)) (397،398).
(2) رواه أحمد(3/82) وصححه الألباني في الصحيحة رقم 555.(28/40)
غاية التزكية عند أهل السنة تحقيق كمال العبودية لله عز وجل، واستكمال مراتب الحب والذل لله عز وجل، واستسلام ظاهر العبد وباطنه لله عز وجل، واستكمال مراتب الحب والذل لله عز وجل
وأن يلقى العبد ربه بقلب سليم فيسعد بمجاورة الله عز وجل في الفردوس الذي سقفه عرش الرحمن.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: وإنما دين الحق هو تحقيق العبودية لله بكل الأوجه، وهو تحقيق محبة الله بكل درجة، وبقدر تكميل العبودية تكمل محبة العبد لربه، وتكمل محبة الرب لعبده، وبقدر نقص هذا يكون نقص هذا، وكلما كان في القلب حب لغير الله كانت فيه عبودية لغير الله بحسب ذلك، أو كلما كان فيه عبودية لغير الله كان فيه حب لغير الله بحسب ذلك، وكل محبة لا تكون لله فهي باطلة، وكل عمل لا يراد به وجه الله فهو باطل.
إلى أن قال: فإن المخلص لله ذاق من حلاوة عبوديته لله ما يمنعه من عبوديته لغيره، ومن حلاوة محبته لله ما يمنعه من محبة غيره، إذ ليس عند القلب لا أحلى ولا ألذ ولا أطيب ولا ألين ولا أنعم من حلاوة الإيمان المتضمن عبوديته لله ومحبته له، وإخلاصه الدين له، وذلك يقتضي انجذاب القلب إلى الله فيصير القلب منيبا إلى الله خائفا منه راغبا راهبا كما قال تعالى: { مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ } [ق:33] ، إذ المحب أ يخاف من زوال مطلوبه وحصول مرغوبه، فلا يكون عبد الله ومحبة إلا بين خوف ورجاء قال تعالى: { أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا } [الإسراء:57].
وإذا كان العبد مخلصا له اجتباه ربه فيحيى قلبه، واجتذبه إليه فينصرف عنه ما يضاد ذلك من السوء والفحشاء، ويخاف من حصول ضد ذلك بخلاف القلب الذي لم يخلص لله.(28/41)
ومما يدل على أن العبودية هي غاية التزكية أن الله عز وجل وصف صفوة الخلق من الملائكة والرسل بالعبودية، ومدحهم بذلك، وذم وتوعد من يستكبر عن عبوديته عز وجل.
قال تعالى في وصف الملائكة { وَلَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ عِندَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ } [الأنبياء: 19]
وقال تعالى: { وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ 26 لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ } [الأنبياء: 29]
وقال عن المسيح عليه السلام: { إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ } [الزخرف: 59]
وقال عز وجل: { لَّن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْداً لِّلَّهِ وَلاَ الْمَلآئِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَن يَسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيهِ جَمِيعًا } [ النساء: 172، 173]
ونعت نبيه المصطفى صلى الله عليه وسلم بالعبودية في أكمل أحواله فقال في الإسراء: { سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً } [ الإسراء: 11] وقال في الإيحاء: { فَأوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى } [النجم: 10]
وقال في الدعوة: { وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا } [ الجن: 19]
وقال في التحدي: { وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ } [البقرة: 23]
فإذا كانت الرسل والملائكة الذين هم أشرف الخلق أكمل الناس عبودية، فإن العبد بتزكية نفسه غايته بذلك أن يحقق كمال العبودية ويستكمل مستلزماتها.(28/42)
والعبادة هي كمال الحب مع تمام الذل فكلما زكت نفس العبد ازداد حبا وذلا لله عز وجل وإذا كان الله عز وجل خلق الخلق من أجل أن يعبدوه عز وجل كما قال تعالى: { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ } [الذاريات: 56]
فلا شك أن العبد كلما أدى هذه الوظيفة التي خلق من أجلها كان أزكى نفسا، وأسلم قلبا، وبهذا وغيره يتضح أن غاية التزكية عند أهل السنة تحقيق العبودية التي يستغني العبد بالله عز وجل ويسعد به ويصل إلى محبة الله عز وجل ورضاه.
قال ابن القيم رحمه الله: ومنى النفوذ إليه أن يتصل به قلبه، ويعلق به تعلق المحب التام المحبة بمحبوبه، فيسلو به عن جميع المطالب سواه، فلا يبقى في قلبه إلا محبة الله وأمره والتقرب إليه، فإذا سلك العبد على هذا الطريق عطف عليه ربه فقربه إليه واصطفاه، وأخذ بقلبه إليه وتولاه في جميع أموره، في معاشه ودينه، وتولى تربيته أحسن وأبلغ مما يتولى الوالد الشفيق ولده، فإنه سبحانه القيوم المقيم لكل شيء من المخلوقات طائعها وعاصيها، فكيف تكون قيوميته بمن أحبه وتولاه وآثره على ما سواه، ورضي به من دون الناس حبيبا وربا ووكيلا وناصرا ومعينا وهاديا، فلو كشف الغطاء عن ألطافه وصنعه به من حيث يعلم ومن حيث لا يعلم لذاب قلبه محبة له وشوقا إليه ويقع شكرا له.(28/43)
إلى أن قال رحمه الله: وإن الله سبحانه إذا أقبل على عبد استنارت جهاته، وأشرقت ساحاته، وتنورت ظلماته، وظهرت عليه آثار إقباله من بهجة الجلال وآثار الجمال، وتوجه إليه أهل الملأ الأعلى بالمحبة و بالموالاة؛ لأنهم تبع لمولاهم، فإذا أحب عبدا أحبوه، وإذا والى واليا والوه، إذا أحب الله العبد نادى: يا جبريل إني أحب فلانا فأحبه، فينادى جبريل في السماء: إن الله يحب فلانا فأحبوه، فيحبه أهل السماء ثم يحبه أهل الأرض فيوضع له القبول بينهم، ويجعل إليه قلوب أوليائه تفد إليه بالرد والمحبة والرحمة، وناهيك بمن يتوجه إليه مالك الملك ذو الجلال والإكرام بمحبته، ويقبل عليه بأنواع كرامته، ويلحظه الملأ الأعلى وأهل الأرض بالتبجيل والتكريم، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.
غاية التزكية عند الصوفية
فبينما يزداد أهل السنة بالتزكية عبودية وذلا وتواضعا وحبا لله عز وجل وافتقارا إلى الكتاب والسنة لضبط أقوالهم وأفعالهم إرضاء لربهم عز وجل، فإن الصوفية يزدادون بدعوى التزكية عندهم إلى إدعاء المكاشفة وحصول العلم اللدني الذي يستغنون به عن الكتاب والسنة والفناء في ذات الله عز وجل وتحقيق ما يسمونه بالعبد الرباني كما في الحديث الموضوع ((عبدي أطعني أجعلك عبدا ربانيا تقول للشيء كن فيكون )) وهم مع ذلك يفضلون الأولياء على الرسل والأنبياء كما قال قائلهم:
مقام الأنبياء في برزخ ... فويق الرسول ودون الولي
ويقول بعضهم: خضنا بحرا وقف الأنبياء بساحله. وينتهي الأمر عند غلاتهم بالقول بالفناء في ذات الله، واعتقاد الحلول والاتحاد.
المكاشفة:(28/44)
قال الغزالي: عبارة عن نور يظهر في القلب عند تطهيره وتزكيته من صفاته المذمومة، وينكشف من ذلك النور أمور كثيرة، حتى تحصل المعرفة الحقيقية بذات الله سبحانه وبصفاته الباقيات التامات، وبأفعاله، وبحكمته في خلق الدنيا والآخرة، والمعرفة بمعنى النبوة والنبي، ومعنى الوحي وكيفية ظهور الملك للأنبياء، وبكيفية وصول الوحي إليهم، والمعرفة بملكوت السماوات والأرض)) (1).
ثم قال: ((ونعني بعلم المكاشفة أن يرتفع الغطاء، حتى يتضح له جبلية الحق في هذه الأمور، اتضاحا يجري مجرى العيان الذي لا يشك فيه.))(2).
وأضاف: وهذا ممكن في جوهر الإنسان، لولا أن مرآة القلب قد تراكم صدؤها وخبثها بقاذورات الدنيا، الحق يتلألأ فيه حقائقه.(3)
يقول الأستاذ دمشقية:-
فإذا أزيلت هذه القاذورات وتطهر القلب من تراكم هذا الصدأ فأنه يصير ممكنا عند الغزالي الإطلاع على اللوح المحفوظ، ومعرفة مقادير الخلائق حسبما هو مدون فيه، ومعرفة ما سيكون في المستقبل، وكشف ما في ضمائر الناس واعتقاداتهم وما تخفيه صدورهم.(4)
2- العلم اللدني:
لا تلبث هذه العلوم الكشفية عند الصوفية أن تتحول إلى علم خاص لدني مستقل عن العلوم الشرعية.
يقول الغزالي: ((وإذا غلب نور العقل على أوصف الحس يستغني الطالب بقليل التفكير عن كثرة التعليم؛ فأن نفس القابل تجد من الفوائد بتفكر ساعة مالا تجد نفس الجامد بتعلم سنة.
ويقول: ((العلم الحاصل عن الوحي يسمى علما نبويا، والذي يحصل عن الإلهام يسمى علما لدنيا، والعلم اللدني الذي لا واسطة في حصوله بين النفس وبين الباري.(5)
ولا شك أن الصوفية يستغنون بهذه العلوم اللدنية عن العلوم الشرعية المنزلة على خير البرية وبذلك يصير تحصيل العلوم الشرعية عيبا مذموما عند الصوفية.
__________
(1) طريق الهجرتين (179، 180)
(2) السابق (1/20).
(3) السابق.
(4) الرسالة اللدنية (112- 113) نقلا عن ((أبي حامد الغزالي والتصوف)).
(5) السابق (116).(28/45)
روى ابن الجوزي عن أحدهم حيث قال: قال أبو سعيد الكندي: كنت أنزل رباط الصوفية وأطلب الحديث في خفية بحيث لا يعلمون، فسقطت الدواة يوما من كمى، فقال لي بعض الصوفية: استر عورتك(1).
روى ابن الجوزي قول البسطامي: ((مساكين أخذوا علمهم ميتا عن ميت، وأخذنا علمنا عن الحي الذي لا يموت(2).
3- إسقاط التكيف:
قال الأستاذ دمشقية: على أن هناك مظهرا آخر من مظاهر الشطح الصوفي أنكره كثيرون من المتصوفة وتبناه بعض الغلاة منهم، وهو القول بإسقاط التكليف، وذلك أن الواحد منهم يسرحه فيه رب العزة من قيود الشرائع، ويخرجه من حدودها، هذا ما يزعمونه، وهو أكبر الزندقة بل هو ردة عن الإسلام لا ريب(3) .
وقال شيخ الإسلام رحمه الله:-
ولكن كثير منهم لا يطلقون السلب العام ويخرجون عن ربقة العبودية مطلقا، بل يزعمون سقوط بعض الواجبات عنهم، أوحل بعض المحرمات لهم، منهم من يزعم أنه سقطت عنه الصلوات الخمس لوصوله إلى المقصود، وربما قد يزعم سقوطها عنه إذا كان في حال مشاهدة وحضور، وقد يزعمون سقوط الجماعات عنهم استغناء عنها بما هو فيه من التوجه والحضور، ومنهم من يزعم سقوط الحج عنه مع قدرته عليه لأن الكعبة تطوف به، أو لغير هذا من الحالات الشيطانية، ومنهم من يستحل الخمر في رمضان لغير عذر شرعي زعما منه استغناؤه عن الصيام، ومنهم من يستحل الخمر زعما منه أنها تحرم على العامة الذين إذا شربوا تخاصموا وتضاربوا دون الخاصة العقلاء، ويزعمون أنها تحرم على العامة الذين ليس لهم أعمال صالحة، فأما أهل النفوس الزكية والأعمال الصالحة فتباح لهم دون العامة (4).
4- الفناء ووحدة الوجود:
قال ابن القيم رحمه الله:
__________
(1) تلبيس إبليس (328-329).
(2) تلبيس إبليس (320).
(3) أبو حامد الغزالي والتصوف (196).
(4) مجموع فتاوى شيخ الإسلام (11/403).(28/46)
زعم أهل الاتحاد القائلون بوحدة الوجود أن الفناء هو غاية الفناء عن وجود السوي، فلا يثبت للسوي وجود ألبته لا في الشهود ولا في العيان، بل يتحقق بشهوده وحدة الوجود فيعلم حينئذ أن وجود جميع المخلوقات هو عين وجود الحق، فما ثم وجودان بل الموجود واحد.
وحقيقة الفناء عندهم أن يفني عما لا حقيقة له، بل هو وهم وخيال، فيفني عما هو فان في نفسه لاوجود له، فيشهد فناء وجود كل ما سواه في وجوده، وهذا تعبير محض، وإلا ففي الحقيقة ليس عند القوم ((سوى)) ولا ((غير)) و إنما السوي والغير في الوهم والخيال.
وأما أهل الاستقامة فيشيرون بالفناء إلى أمرين: أحدهما أرفع من الآخر.
الأمر الأول: الفناء في شهود الربوبية والقيومية فيشهد تفرد الرب تعالى بالقيومية والتدبير. والخلق والرزق والعطاء والمنع والضرر والنفع، وأن جميع الموجودات منفعلة لا فاعلة.
الأمر الثاني: الفناء في مشهد الألوهية وحقيقة الفناء عن إرادة ما سوي الله ومحبته والإنابة إليه والتوكل عليه وخوفه ورجاؤه، فيفني بحبه عن حب ما سواه، وبخوفه ورجائه عن خوف ما سواه ورجائه، وحقيقة هذا الفناء إفراد الرب سبحانه بالمحبة والخوف والرجاء والتعظيم والإجلال ا هـ (1).
قلت: وهذا الكلام في شرح الفناء عند أهل الاستقامة صحيح طيب إلا أن هذا المصطلح لم يثبت بالكتاب والسنة ولا استعمله سلف الأمة وإحداث مثل هذه المصطلحات مما يخالف أصول أهل السنة والجماعة.
المعاصي بريد الكفر
__________
(1) مدارج السالكين (3/378).(28/47)
قديما قال علماؤنا: المعاصي بريد الكفر أي رسوله؛ وذلك أن العبد إذا أكثر من معصية الله عز وجل فإنه يدخل بذلك في عبادة الشيطان، فيعده ويمنيه ويضله ويغويه ولا يرضي منه دون الكفر ما استطاع إلى ذلك سبيلا كما قال تعالى { إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ إِنَاثًا وَإِن يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطَانًا مَّرِيدًا 117 لَّعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا 118 وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَن يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِّن دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُّبِينًا 119 يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُورًا } [النساء: 117، 118، 119، 120] فهذا المنهج المبتدع عند الصوفية في التزكية الذي خالفوا به أهل السنة والجماعة آل يغلاتهم إلى الوقوع في الكفر الذي هو أكبر من كفر اليهود والنصارى، وهذا ما وقع فيه ابن عربي وابن الفارض وابن سبعين والعفيف التلمساني.
قال شيخ الإسلام رحمه الله:
وجماع أمر صاحب الفصوص(1)وذويه هدم أصول الإيمان الثلاثة.
فإن أصول الإيمان: الإيمان بالله، والإيمان برسله والإيمان باليوم الآخر.
فأما الإيمان بالله: فزعموا أن وجوده وجود العالم، ليس للعالم صانع غير العالم.
وأما الرسول فزعموا أنهم أعلم بالله منه ومن جميع الرسل، ومنهم من يأخذ العلم بالله- الذي هو التعطيل ووحدة الوجود- من مشكاته وأنهم يساوونه في أحد العلم بالشريعة عن الله، وأما الإيمان باليوم الآخر فقد قال:
فلم يبق إلا صادق الوعد وحده ... وبالوعيد الحق عين تعاين
وإن دخلوا دار الشقاء فإنها ... على لذة فيها نعيم يباين
__________
(1) المراد ابن عربي النكرة خلافا لابن العربي شارح الترمذي (عارضة الأحوذي) وهو من علماء السنة.(28/48)
وهذا يذكر عن بعض أهل الضلال قبله أنه قال: إن النار تصير لأهلها طبيعة نارية يتمتعون بها، وحينئذ فلا خوف ولا محذور ولا عذاب لأنه أمر مستعذب، ثم إن في الأمر والنهي عنده الآمر والناهي والمأمور والمنهي واحد، ولهذا كان أول ما قاله في الفتوحات المكية التي هي أكبر كتبه:
الرب حق والعبد حق ... يا ليت شعري من المكلف
إن قلت عبد فذاك رب ... أو قلت رب أني يكلف
وهذا مبني على أصله، فإن عنده ما ثم عبد ولا وجود إلا وجود الرب فمن المكلف؟ وعلى أصله هو المكلف والمكلف كما يقولون أرسل من نفسه إلى نفسه رسولا.
وكما قال ابن الفارض في قصيدته التي نظمها على مذهبهم وسماها نظم السلوك:
إلى رسولا كنت مني مرسلا ... وذاتي بآياتي على استدلت
ومضمونها هو القول بوحدة الوجود وهو مذهب ابن عربي وابن سبعين وأمثالهم كما قال:
لها صلاتي بالمقام أقيمها
... وأشهد فيها أنهالي صلت
كلانا مصل عابد ساجد إلى
... حقيقة الجمع في كل سجدة
وما كان لي صلي سواي فلم تكن
... صلاتي لغيري في أدا كل ركعة
إلى قوله:
وما زلت إياها وإياي لم نزل ... ولا فرق بل ذاتي لذاتي أحبت
ومثل هذا كثير والله أعلم.(1)
إلى أن قال شيخ الإسلام رحمه الله:
وحدثني الشيخ العارف كمال الدين المراغي شيخ زمانه أنه لما قدم وبلغه كلام هؤلاء في التوحيد قال: قرأت على العفيف التلمساني من كلامهم شيئا فرأيته مخالفا للكتاب والسنة، فلما ذكرت ذلك له قال: القرآن ليس فيه توحيد بل القرآن كله شرك، ومن اتبع القرآن لم يصل إلى التوحيد.
قال: فقلت له: ما الفرق عندكم بين الزوجة والأجنبية والأخت الكل واحد؟ قال: لا فرق بين ذلك عندنا، وإنما هؤلاء المحجوبون اعتقدوه حراما، فقلنا: هو حرام عليهم عندهم، وأما عندنا فما ثم حرام(2).
__________
(1) مجموع الفتاوى (2/241).
(2) مجموع الفتاوى (2/244، 245).(28/49)
وإنما سقنا هذا الكفر الصراح- وناقل الكفر ليس بكافر- حتى يتبين لإخواننا كيف تذهب المناهج المبتدعة بأصحابها، وأين توصل الطرق الضالة من سلكها وحتى يتبين كذلك نقاء المنهج السلفي، وكيف أنه طريق السلامة والنجاة في الدنيا أنه طريق الجنة؛ لأنه طريق الأنبياء ومن اقتفى آثارهم، ونسج على منوالهم، نسأل الله العفو والعافية في الدنيا والآخرة.
الباب الرابع
خلاصة البحث
* التزكية: هي التنمية والتطهير والإصلاح.
* أهل السنة يزكون أنفسهم أولا بالاعتقاد الصحيح في الله عز وجل وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر، ويعبدون قلوبهم وجوارحهم لله عز وجل بمقتضى هذه العقيدة الصحيحة.
*أهل السنة يعتقدون أن كمال التزكية في الاستسلام لشرع الله عز وجل ظاهرا وباطنا، ولكنهم يبدأون بالفرائض لأنها أحب العبادات إلى الله عز وجل، ثم يترقون بالنوافل حتى يصلوا إلى محبة الله عز وجل.
*أهل السنة لا يستغنون عن الكتاب والسنة بحال في حال بدايتهم وحال بدايتهم وحال نهايتهم، بل إتباع السنة هو علامة محبة الله عز وجل والموصل إلى مزيد محبته كما قال تعالى: { قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ } [آل عمران: 31].
*أهل السنة يسيرون إلى الله عز وجل بين الخوف والرجاء والمحبة، فهم لا يفرطون في الخوف فعل الخوارج، ولا يبالغون في الرجاء فعل المرجئة، ولا يتمادون في دعاوي الحب فعل الصوفية.
*غاية التزكية عند أهل السنة تحقيق كمال العبودية لله عز وجل فهم يعتقدون أن الرسل أكمل الناس عبودية لله عز وجل وأن لله عز وجل خلق الخلق من أجل عبادته فكلما أدى العباد وظيفة العبودية كانوا أحب إلى الله عز وجل وأشد تقربا.
*الصوفية: من أفقر الناس بآثار النبوة.
*الصوفية: يزكون أنفسهم- زعموا- بالبدع والخرافات وتكلف ما لم يشرعه الله عز وجل من العبادات.(28/50)
*الصوفية- يدعون الاستغناء عن الكتاب والسنة بدعاوي الكشف والعلم اللدني والتلقي عن الله عز وجل مباشرة.
* الصوفية:- يهربون من التكاليف الشرعية بدعوى سقوط التكليف؛ لأنهم يصلون إلى حالة يستغنون بها عن العبادات المشروعة.
*غاية التزكية عند الصوفية: الفناء في ذات الله عز وجل ودعوى الحلول و ا لاتحاد:
وبعد
فليس عجيبا أن تختلف ثمرات التزكية بين أهل السنة والصوفية فمدرسة السنة تخرج منها: عبد الله بن المبارك، وأحمد بن حنبل، وشيخ الإسلام ((بن تيمية، وابن عبد الوهاب.
ومدرسة الصوفية تخرج منها الزنادقة والملاحدة، أمثال ابن عربي وابن سبعين وابن الفارض والعفيف التلمساني.
{ وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِدًا } [الأعراف: 58].
قال ابن أبي شونب: إن من نعمة الله على الشاب إذا نسك أن يوفقه الله إلى صاحب سنة يحمله عليها.
{ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ } [الجمعة:4]
اللهم زدنا محبة للمصطفى صلى الله عليه وسلم كما آمنا به ولم نره ولا تفرق بيننا وبينه حتى تدخلنا مدخله، اللهم أحينا على سنته وأمتنا على ملته وأحشرنا في زمرته.
مراجع البحث
1- القرآن الكريم
2-تفسير القرآن العظيم للحافظ ابن كثير دار المعرفة
3- أضواء البيان لمحمد الأمين الشنقيطي دار المدني
4- فتح الباري شرح صحيح البخاري لابن حجر العسقلاني السلفية
5- صحيح مسلم بشرح النووي المكتبة المصرية
6- عارضة الأحوذي شرح ابن العربي لجامع الترمذي دار الوحي
7- عون المعبود شرح سنن أبي داود لشمس الحق أبادي المكتبة السلفية بالمدينة المنورة
8- سنن النسائي بشرح السيوطي وحاشية السندي المعرفة
9- سنن ابن ماجه ترقيم وتعليق محمد فؤاد عبد الباقي المكتبة العلمية
10- جامع الأصول لابن الأثير بتحقيق عبد القادر الأرناؤوط دار الفكر(28/51)
1 ا- مستدرك الحاكم مع تلخيص الذهبي دار المعرفة
2 ا- موارد الظمآن في زوائد ابن حبان المكتبة العلمية 13- شرح السنة للبغوي بتحقيق شعيب الأرناؤوط وزهير الشاويش دار بدر
4 ا- مجموع فتاوى شيخ الإسلام مكتبة ابن تيمية 5 ا- تلبيس إبليس لابن الجوزي مكتبة المتنبي 6 ا- عين الأدب والسياسة لابن هذيل دار الفكر 7 ا- طريق الهجرتين لابن القيم السلفية 8 ا- الوابل الصيب لابن القيم بتحقيق بشير محمد عيون دار البيان 9 ا- مدارج السالكين لابن القيم بتعليق حامد الفقي مطبعة السنة المحمدية 20- أبو حامد الغزالي والتصرف لعبد الرحمن دمشقية دار طيبة 21- ولاية الله والطريق إليها لإبراهيم إبراهيم هلال
22- صحيح الجامع الصغير وزيادته للألباني المكتب الإسلامي 23- سلسلة الأحاديث الصحيحة للألباني المكتب الإسلامي
24- المعجم المفهرس لألفاظ الحديث النبوي لجماعة من المستشرقين دار الدعوة
25- إرواء الغليل للألباني المكتب الإسلامي
26- صحيح ابن ماجه للألباني مكتب التربية .(28/52)
التَّصَوُّفُ
المنْشَأ وَالمَصَادِر
تأليف الأستاذ
إحسان إلهي ظهير( رحمه الله )
1941م ـــ 1987 م
إدارة ترجمان السُّنة
لاهور - باكستان
إهداء ..
إلى شيخي الذي لا يرتضي أن يُذكرَ اسْمُه كَيلا يضيع أجْرُه يقاسمني همُومي وآلامي , ويقفُ وَرَائي في نوائِب الزّمان والحقِّ وَقفَةَ شَرِيفٍ وكريم .
إنْ لَمْ تُعِنِي خيْلُه وسِلاحُهُ
فمتى أقُودُ إلى الأعَادِي عسْكَراً ؟
أهدي إليه هَذَا الكتابَ إحتراماً لشخصه , وحُبّاً لشمائِله ِ , وتقْديراً لمواقفه وَوَفَاءً لإخلاصه وإعتزازاً به .
المؤلف
مقدمة :
حمداً لله على النعمة الظاهرة والباطنة كما يليق بجلاله وجنابه , وصلاة وسلاما على رسوله خير النبيين وأشرف المرسلين , ومن تمسك بسنته , وعض عليها بالنواجذ , واهتدى بهديه من أصحاب من أصحابه وأهل بيته وأتباعه إلى يوم الدين . وبعد :
فإنني قد إشتغلت بكتابي هذا منذ زمن غير قصير , أقدم عليه تاره وأتأخر عنه أخرى , متردداً بين الإحجام والإقدام .
ولكننا لما رأينا احتياج الناس إلى معرفة هذه الفئة من الناس وأفكارها و آرائها ومعتقداتها , وكونهم مترددين متذبذبين في تقييمها ووضعها في مكانها اللائق الصحيح , خرجنا من ترددنا وتذبذبنا خائفين من وعيد الله وتهديده :
{ وإن فريقاً منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون }(1) . و { ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه } (2) وقوله : { لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون } (3) .
__________
(1) سورة البقرة 146
(2) البقرة 283 .
(3) آل عمران 71 .(29/1)
ويعلم الله أنه لم يكن هذا التحفظ للحفاظ على نفسي وعرضي ومالي لكونها مهددة من قبل الضالين, الغالين , والمبطلين المنتحلين , الذين اكتشفنا أمرهم وكشفناه للناس واهتدينا إلى خباياهم وخفاياهم فأظهرناها أمام الآخرين , وعرضنا صورتهم الحقيقية بإزالة نقاب التقية والتستر عن وجوههم , وإماطة اللثام عن أسرارهم وعقائدهم وتعاليمهم الأصلية الحقيقية , لأن نفسي وجسمي ومالي وعرضي جعلتها فداء لوجه ربي وابتغاء مرضاته :
{ إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين }(1) .
فنفسي وعرضي ومالي فداء شريعته تعالى وسنة نبيه وصفيه , خير البرية :
فإن أبي ووالدتي وعرضي لعرض محمد منكم وقاء
وكان ذلك مسلك أحبائه ورفاقه وتلامذته , أصحابه الراشدين وآله الطاهرين والمتبعين لهم بإحسان :
فدت نفسي وما ملكت يميني فوارس صدقوا فيهم ظنوني
وإن التحفظ لم يكن حرصا على نفس وعرض ومال , فإن لكل شيء قدرا , وأن أجل الله لآت { ولكل أمة أجل فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون } (2) { وكان أمر الله قدراً مقدوراً } (3) و { كل نفس بما كسبت رهينة } (4) .
كنت أظن أول الأمر أن بعض الغلاة هم الذين أساءوا إلى التصوف والصوفية , وأن الغلو والتطرف هو الذي جلب عليهم الطعن وأوقعهم في التشابه مع التشيع والشيعة , ولكنني وجدت كلما تعمقت في الموضوع , وتأملت في القوم ورسائلهم , وتوغلت في جماعتهم وطرقهم , وحققت في سيرهم وتراجمهم – أنه لا إعتدال عندهم كالشيعة تماما , فإن الإعتدال عندهم كالعنقاء في الطيور , والشيعي لا يكون شيعيا إلا حين يكون مغاليا متطرفاً , وكذلك الصوفي تماما , فمن لا يعتقد إتصاف الخلق بأوصاف الخالق , لا يمكن ان يكون صوفيا ووليا من أولياء الله .
__________
(1) الأنعام 163 .
(2) الأعراف 34 .
(3) الأحزاب 38 .
(4) المدثر 38 .(29/2)
ومن الطرائف أن ظني ذلك كان يجعلني ويحثني على أن أسمي مجموعة الكتابة عن المتصوفة ( التصوف بين الإعتدال والتطرف ) ولكنني لما كتبت وجدت أن هذا الاسم لا يمكن أن يناسب تلك المجموعة من الناس لعدم وجود الاعتدال مع محاولتي أن أجده لأدافع عنهم وأجادل , وأبرر بعض مواقفهم , وأجد المعاذير للبعض الأخرى , ولكني بعد قراءتي الطويلة العميقة العريضة لكتب الصوفية ومؤلفات التصوف , وجدت نفسي , إما أن أجادل بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير , وأتبع كل شيطان مريد – ولا جعلني الله منهم – وإما أن أقول الحق ولا أخاف في الله لومة لائم , وأتقي الله وأكون مع الصادقين , جعلني الله منهم ورزقني الاستقامة والثبات عليه , .
أما بعد : فهذا كتاب جديد نقدمه إلى القراء في موضوع جديد وقديم , جديد حيث أنه يبحث عن التصوف والصوفية , وقديم لأنه من نفس السلسلة التي كتبنا عنها وعاهدنا الله عز وجل أن نكتب ونتحدث عنها , ونتكلم فيها , ونزنها بميزان الكتاب والسنة , ونضعها في معيار النقد والتجزئة والتحليل ما دمنا أحياء نستطيع الكتابة والخطابة , وما دام في أنا ملنا قدرة في إمساك القلم , وفي اللسان رمق للتفوه والتكلم , لنؤيد الحق وندعمه , ونعلي كلمته ونرفع علمه , ولنبطل الباطل ونرد عليه , ولندحض شبهاته ونفند مزاعمه .
وإننا كنا نقصد أول ما بدأنا في الكتابة عن التصوف أن نقدم دراستنا فيه بصورة كتاب متوسط الحجم لا يزيد على ثلاثمائة صفحة , ويشتمل على تاريخ التصوف , بدايته , منشأه ومولده , مصادره وتعاليمه , عقائده ونظامه , سلاسله وزعمائه وقادته , ولكننا رأينا بعد المضي في الكتابة أن الأمر يتطلب أكثر من كتاب , وعلى الأقل كتابين .(29/3)
الأول يشتمل على نشأة التصوف ومصادره , وقلّ من تطرق إليها بتفصيل , وكل الكتاب الذين بحثوا التصوف مروا عليها كعابر سبيل مع أن أهمية المصادر والمآخذ لطائفة وجماعة لا تقل عن أهمية تلك الجماعة وأفكارها , بل قد تزيد عليها بفارق كبير حيث إن المصادر والمآخذ كثيرا ما تحسم النزاع في معتقدات وعقائد , وتجعل تلك المعتقدات والعقائد تابعة لتلك المصادر .
وعلى هذا فقد فصلنا القول في ذلك , في كتاب مستقل نضعه اليوم بين أيدي الباحثين والقراء راجين أن ينال رضاهم , ولعلنا سددنا بذلك ثغرة كانت في احتياج لأن تسد ولو أنها تتطلب المزيد , كما أننا نظن أننا في بحثنا عن مصادر التصوف استطعنا أن نضع النقاط على الحروف , وخاصة بمقارنة النصوص والعبارات عند الأخذ بالنصوص والعبارات عند المأخوذ عنه , ومقارنة المقتبس بالمقتبس منه , من الكتب المعتمدة والمصادر الموثوق بها لدى الأطراف المعنية كلها , وخاصة في الباب الثالث عن التصوف والتشيع .
ومع إعترافنا بأننا قد سُبقنا إلى هذا البحث من قبل بعض الباحثين الذين كتبوا في هذا الموضوع سيجد القارئ ويلاحظ الباحث أننا أضفنا إليه أشياء واستدركنا عليهم أشياء كثيرة في مختصرنا هذا لم يتطرق واحد منهم إليها , مع المقارنة الواضحة , والمشابهة الصريحة , والموافقات الجليلة , والنصوص الكثيرة من كلا الطرفين بدون تصنع وتكلف واستنتاج بعيد واستشهاد شارد غريب , وأعرضنا عن الأشياء التي كان يمكن إيداعها وإيرادها في هذا المبحث , ولكن بالكلفة والإستنباط فاخترنا ما لا يسع أحد إنكاره .(29/4)
فنحن إستدركنا على السابقين مباحث هي أكثر أهمية وأكبر وزنا وأعظم شأنا مما اشتركنا في إيرادها , ولم يذكروها البتة , من إشتراك الشيعة والصوفية في إجراء النبوة بعد محمد صلوات الله وسلامه عليه , ونزول الوحي , وإتيان الملائكة , وتكليم الله إياهم , وعدم خلو الأرض من شخص به ثبات الأرض ووجودها , وعدم قبول العبادة بدونه , وتفضيل الوصي على النبي و ونسخ الشريعة , ورفع التكاليف , وإباحة المحظورات وإتيان المنكرات وغيرها من المواضيع الهامة العديدة , فالحمد لله على ذلك .
وكذلك يجد القارئ في الباب الثاني من هذا الكتاب عند بحثنا عن المسيحية باعتبارها أحد المصادر الهامة للتصوف أننا قد انفردنا بإيراد نصوص مسيحية أصلية لمقارنتها بالنصوص الصوفية شهادة على الآخذ والمأخوذ عنه .
وقد إخترنا في هذا المبحث مسلكا ذا أبعاد ثلاثة :
أولا : لا نكتفي بإيراد النص الصوفي بل نورد معه النص الذي يشابهه من الديانات الأخرى على خلاف ما تعوده الكتّاب الثقة منهم بأن القارئ والباحث يعرف ذلك , فليس بضروري أن يكون القارئ متخصصا في هذا الموضوع حتى يكون له إلمامة بنصوص تلك الديانات .
ثانيا : أوردنا تأييدات من قبل الباحثين والكتاب من المسلمين والمستشرقين الذين إشتغلوا في دراسة التصوف بإعتبارها شهادات خارجية بعد الشهادات الداخلية الناتجة من مقارنة النصوص نفسها .
وثالثا : جمع النصوص من المتصوفة المتقدمين والمتأخرين المشهورين بالأعتدال والموثوق لدى العامة , وكذلك نصوص الآخرين من المتصوفة غير المعتدلين وغير الغلاة أيضا .
وحاولنا أن تكون هذه النصوص من الكتب المختلفة والمتفاوتة زمنا ومنهجا كي يكون الموضوع شاملا وكاملا , وافيا شافيا قدر الإستطاعة , وعلة لم يجتمع هذا العدد من النصوص في مختصر آخر مثل مختصرنا هذا .
فالحمد لله الذي بتوفيقه ومدده وتأييده تتم الأعمال وهو ولي الهداية والرشاد .(29/5)
ويجدر بنا أن نذكر ههنا أن الكتاب الثاني سيشمل على عقائد وتعاليم صوفية كما يشمل هذا الكتاب على أصلها ومنشأها ومصادرها و وليس معنى هذا أن هذا الكتاب خال عن معتقداتهم , بل ان أعظم قسط منه يشمل على العقائد والمعتقدات وإننا لم نبحث عن مصادر التصوف ومآخذه تاريخيا وسردنا لذلك شهادات وتوثيقات , بل أوردنا فيما أوردنا عقائد القوم , الخاصة بهم , وتعاليمهم التي إمتازوا بها عن غيرهم , ثم ذكرنا عمن أخذوا هذه المعتقدات , وأقتبسوا هذه التعاليم , واحدة بعد واحدة على أنها شهادات داخلية , فعلى ذلك هذا الكتاب مع عنوانه ( المنشأ والمصادر ) لم يبحث في الحقيقة والأصل إلا العقائد والمعتقدات , بهذا لا يكون هذا الكتاب موضوعيا صرف , بل يؤدي رسالته لبيان حقيقة هذه العصابة من الناس وكنهها ولإرجاع الأمور إلى نصابها , ووضع الأشياء في محلها ومقاديرها , وذلك هو العدل .
والنقطة الأخرى التي أشرنا إليها قبل قليل , ونريد أن نركز عليها هي أننا ما بنينا حكمنا , ولا وضعنا احتجاجنا واستدلالنا إلا على المتصوفة المشهورين المعروفين , والموثوق بهم المعتدلين لدى الجميع , وذلك أيضا استشهادا , لا استدلالا , كما يلاحظ الباحث أننا لم نورد في كل هذا القسم من الحلاج , ولا من طائفته وجماعته رواية واحدة , لا استدلالا ولا استشهادا , كي لا يتهمنا متهم أننا اخترنا الغلاة ورواياتهم للحكم على التصوف , لأنه في رأينا كما قلنا آنفا لا إعتدال في التصوف ولدى المتصوفة , اللهم إلا الزهاد الأوائل فإنهم ليسوا منهم , ولا هؤلاء من أولئك .
فإن التصوف امر زائد وطارئ على الزهد , وله كيانه وهيئته , ونظامه وأصوله , قواعده وأسسه , كتبه ومؤلفاته ورسائله ومصنفاته , كما أن له رجالا وسدنة وزعماء وأعيانا .
فإن الزهد عبارة من ترجيح الآخرة على الدنيا , والتصوف اسم لترك الدنيا تماما .(29/6)
والزهد هو تجنب الحرام , والاقتصاد في الحلال , والتمتع بنعم الله بالكفاف , وإشراك الآخرين في آلاء الله ونعمه وخدمة الأهل والأخوان والخلان .
والتصوف تحريم الحلال , وترك الطيبات , والتهرب من الزواج ومعاشرة الأهل والإخوان , وتعذيب النفس بالتجوع والتعري والسهر .
فالزهد منهج وسلوك مبني على الكتاب و السنة , وليس التصوف كذلك , لذلك إحتيج لبيانه إلى ( التعرف لمذهب أهل التصوف ) و ( قواعد التصوف ) و ( الرسالة القشيرية ) و ( اللمع ) و( قوت القلوب ) و ( قواعد التصوف ) و ( عوارف المعارف ) وغيرها من الكتب , وسيأتي تفصيل ذلك في الكتاب القادم إن شاء الله .
فعندما نكتب نكتب عن هذا المذهب أي مذهب التصوف لا عن الزهد , لأن الزهد كما ورد في حديث الترمذي ( ليس الزهد بتحريم الحلال , ولا إضاعة المال ولكن الزهد أن تكون بما في يد الله أوثق بما في يدك , وأن تكون في ثواب المصيبة إذا أصبت أرغب منك فيها لو أنها بقيت لك ) لأن الله تعالى يقول : { لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم } (1) .
وهذا الأمر أي عدم وجود الاعتدال في التصوف ينطبق على التشيع , وهذا هو القدر الآخر المشترك بينهما لأننا في بحثنا الطويل في التشيع لم نجد طائفة يمكن أن توصف بالاعتدال , فالغلو والتطرف من لوازم مذهب التشيع كما قاله الرجالي الشيعي المشهور , المامقاني في تنقيحه , فكذلك التصوف لا يعرف إلا الغلو والتطرف .
__________
(1) فتاوى شيخ الأسلام ج 10 ص 641 ط الرياض(29/7)
فالله أسأل أن يجعلنا أمة وسطا حقا ومن الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه , يتمسكون بكتاب ربهم وسنة نبيهم , ويعضون عليها بالنواجذ , ويدافعون عن حرمات الله وحرمات رسوله , وأعراض أصحاب محمد وأهل بيته , ويذبون عن المسلك القويم المستقيم ومنهج السلف الصالحين , ويردون كيد الضالين المنحرفين , ومكر المبطلين المنتحلين , لا يهابون جموعهم المتكاثرة , وأحزابهم المتكالبة , وفرقهم المعاضد بعضها بعضا , ويقولون للغاضبين الناقمين الحاسدين ما قاله أصفياء الله وأخياره { قُلِ ادْعُواْ شُرَكَاءكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلاَ تُنظِرُونِ 195 إِنَّ وَلِيِّيَ اللّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ 196 }(1) وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .
إحسان إلهي ظهير
ابتسام كاتيج – شادمان – لا هور
فبراير 1986 الموافق
جمادى الآخرة 1406هـ
الباب الأول
التّصَوّفُ نشأته , تَاِريخُه وَتَطَوّرَاته
الفصل الأول
إن الإسلام دين البساطة ودين الفطرة التي فطر الناس عليها , أنزله الله على قلب سيد الخلق لهداية البشر .
{ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ 33 } (2) .
وأمر سبحانه جل وعلا أن يتمسك به , ويقدمه إلى الناس ليعرفوه ويتمسكوا به بدورهم .
وأنه عبارة عن الإقرار بوحدانية الله عز وجل لا شريك له , والشهادة بأن محمدا عبده ورسوله صلوات الله وسلامه عليه , وإقامة الصلوات الخمس , وإيتاء الزكاة بعد مرور عام على ملاك النصاب , وكذلك صوم شهر رمضان من اثني عشر شهرا , وحج البيت إن إستطاع إليه سبيلا , كما ورد في حديث جبريل عليه الصلاة والسلام أنه جاء يوما من الأيام يسأل النبي صلى الله عليه وسلم الإسلام , فقال :
__________
(1) الأعراف 195 -196
(2) التوبة الآية 33(29/8)
( الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله , وتقيم الصلاة , وتؤتي الزكاة , وتصوم رمضان , وتحج البيت إن إستطعت إليه سبيلا ) (1) .
أو كما ورد في حديث أعرابي جاء صلوات الله وسلامه عليه فقال له : ( دلني على عمل إذا عملته دخلت الجنة) .
قال : ( تعبد الله ولا تشرك به شيئا , وتقيم الصلاة المكتوبة , وتؤتي الزكاة المفروضة , وتصوم رمضان ) , قال : ( والذي نفسي بيده لا أزيد على هذا شيئا ولا أنقص منه ) , فلما ولّى , قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( من سره أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا ) (2) .
أو بتعبير آخر أن الإسلام يعبّر عن التمسك بأوامر الله وأوامر رسوله صلى الله عليه وسلم , واجتناب ما نهى الله عنه ورسوله صلى الله عليه وسلم ,وقضاء حياة مثل ما قضاها رسول الله , واختيار الطرق والسنن التي اختارها أصحاب رسول الله صلوات الله وسلامه عليه كما أمر به الرب تبارك وتعالى في كلامه المحكم :
{ َأَطِيعُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ 132 } (3)
و { أَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنتُمْ تَسْمَعُونَ 20 }(4)
و { َمَن يُشَاقِقِ اللّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ 13 }(5)
و { أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّهُ مَن يُحَادِدِ اللّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ 63 } (6)
و { وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا }(7)
{ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا 71 }(8)
__________
(1) رواه مسلم
(2) متفق عليه
(3) آل عمران 132
(4) الأنفال 20
(5) الأنفال 13
(6) التوبة 63
(7) الحشر 7
(8) الأحزاب 71(29/9)
و { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا 21 }(1)
و { وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ 15 }(2) .
وأوامر الله ورسوله , وكذلك نواهي الله ونواهي رسوله موجودة محفوظة في الكتاب والسنة , والكتاب المنزل على سيد البشر وخاتم الأنبياء والرسل صلوات الله وسلامه عليه , المعبر عنه بالذكر الحكيم والفرقان الحميد والقرآن المجيد , الذي جعله الله شفاء وهدى ورحمة للمؤمنين , وسنة رسول الله المعبر عنها بالحكمة في قوله جل وعلا : { ويعلمكم الكتاب والحكمة } وبالحديث النبوي الشريف , ما ثبت عنه وصح من أقواله وأفعاله وتقريراته , الكتاب والسنة اللذين ذكرهما الرسول صلى الله عليه وسلم في قوله حيث حرّض أمته , وحثهم على التمسك والتشبث بهما قائلا : ( تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما كتاب الله وسنة رسوله ) (3) .
ثم ربّى أصحابه وتلامذته في ظلهما وضوئهما تربية نموذجية لكي يكونوا قدوة لمن يأتي بعدهم إلى يوم القيامة , ومثلا عليا لمن أراد أن يهتدي بهدي الله جل وعلا وهدى رسوله صلى الله عليه وسلم . فكانوا صورة حية لتعاليم الرب تبارك وتعالى وإرشادات رسوله صلى الله عليه وسلم متبعين مقتدين , غير مبتدعين محدثين , متقدمين بين يدي الله ورسوله , مبتغين مرضات الله , ومقتفين آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم مهتدين بهديه , سالكين بمسلكه , منتهجين منهجه , غير باغين ولا عادين , ولا مفرطين ولا مفرّطين في أمور دينهم ودنياهم : { أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده } (4) .
__________
(1) الأحزاب 21
(2) لقمان 15
(3) رواه مالك في الموطأ
(4) الأنعام 90(29/10)
وكان خيار هؤلاء كلهم - وكلهم خيار الخلق أجمعين – أصحاب بيعة الرضوان الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الموت وهم في الحديبية , فأنزل الله لهم البشرى برضوانه وجعل يده فوق أيديهم : { لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة } (1) .
و { إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم } (2) .
وفاقهم في المنزلة والشأن أهل بدر , الذين اطلع الله عليهم فقال : ( اعملوا ما شئتم فقد وجبت لكم الجنة ) (3) .
وزاد على هؤلاء فضلا ومنقبة ومكانة من رفعهم الله بتبشيره إياهم بالجنة واحدا واحدا بالاسم والمسمى على لسان نبيهم الناطق بالوحي , الذي لا ينطق عن الهوى إن هو ألا وحي يوحى , الصادق المصدوق صلوات الله وسلامه عليه , العشرة المبشرة { لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة لا تبديل لكلمات الله , وذلك هو الفوز العظيم } .
ولو أنه زادهم رفعة وعظمة من قال في حقهما سيدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه : ( خير الخلائق بعد نبي الله أبو بكر ثم عمر ) (4) .
فمن أراد أن يرى الإسلام المتجسد في شخصهم , وذواتهم , وخلقهم , وعاداتهم , وأقوالهم , وأفعالهم , فلينظر إلى هؤلاء , فإنهم كانوا ممثلي الإسلام الصحيح , الكامل , غير المشوب بشوائب البدع والمحدثات , والخرافات والضلالاات التي لحقت الإسلام بعد أدوار وأطوار , فإنهم كانوا تلامذة المدرسة الإسلامية الأولى التي كان أستاذها والمعلم فيها سيد ولد آدم , المحفوظ بحفظ الله , والمعصوم بعصمة الله , والمؤيد بوحي الله , والهادي إلى الصراط المستقيم صلى الله عليه وسلم .
__________
(1) الفتح 18
(2) الفتح 10
(3) متفق عليه
(4) هذا الحديث رواه البخاري عن علي , وأطرف من ذلك أن هذا الحديث ورد في كتب الشيعة أيضا – أنظر لذلك كتابنا الشيعة وأهل البيت .(29/11)
ولأجل ذلك حصر الله رضاه والدخول في الجنة لمتبعيهم بإحسان لكل من يأتي بعدهم , { والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه } (1) .
فهم أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون لأنهم هم الذين حبب إليهم الإيمان وكرَه إليهم الكفر والفسوق والعصيان وأولئك هم الراشدون .
وهم القدوة الحسنة والمحك والمعيار لمعرفة الحق من الباطل , والهدى من الزيغ والضلال .
فكل عمل يخالف عملهم وكل قول يعارض قولهم , وكل طريق في الحياة يناهض طريقهم مردود مرفوض مطرود , لأنهم شاهدوا من رسول الله ما لم يشاهده غيرهم , وسمعوا من نبي الله ما لم يسمعه الآخرون , ورباهم من لم يرب هؤلاء , وتتلمذوا على من لم يتتلمذ عليه أولئك , فهم أشبه الناس في أقوالهم وأفعالهم , وأخلاقهم وعاداتهم , وعباداتهم ومعاملاتهم , ومعاشرتهم ومعاشهم برسول الله صلوات الله وسلامه عليه من غيرهم , فلذلك أُمر المؤمنون باتباعهم , وإلى ذلك أشار نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم في قوله ( ما أنا عليه وأصحابي ) حيث جعلهم معه على طريقة واحدة ومنهج واحد , ولم يُدخل في هذا الاختصاص أحد غيرهم ولم يخصهم بهذه المزية والفضيلة إلا بأمر من الله وإيعازه حيث أنزل عليه في محكم كتابه أن يقول : { قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني } (2) .
ولم يرد من قوله ( ومن اتبعني ) آنذاك إلا صحابه ورفاقه , تلامذته الراشدين و أوفيائه الصادقين , الهادين المهديين رضي الله عنهم أجمعين .
ففي ضوء الكتاب والسنة , وأسوة الرسول وسيرته , وعمل أصحابه وحياتهم توضع وتوزن أعمال المسلمين المتخلفين وأقوال من جاء بعدهم , فما وجد لها سند ودليل يحكم عليها بالصحة والصواب , قطع النظر عمن صدرت عنه , وممن وردت .
__________
(1) التوبة 10
(2) يوسف 108(29/12)
وما لم يعاضدها الكتاب ولم تناصرها السنة , ولم يوجد لها أثر في حياة الصحابة وأفعالهم يحكم عليها بالفساد والبطلان , سواء وردت من صغير أو كبير , تقي أو شقي , لأن ( أحسن الكتاب كتاب الله , وخير الأمور أوسطها , وشر الأمور محدثاتها , وكل محدثة بدعة , وكل بدعة ضلالة , وكل ضلالة في النار ) (1) .
وقال عليه الصلاة والسلام : ( من أحدث في أمرنا هذا ماليس منه فهو رد ) (2) .
وإن المسلمين لملزمون أن يؤمنوا بأن الله لم يترك خيرا لأمة محمد صلى الله عليه وسلم إلا وقد بينه لرسوله صلى الله عليه وسلم , ولا شرا إلا وقد نبهه عليه , ثم رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكتم بيانه , ولم يقصّر في تبليغه إلى الناس , فأخبر الخلق بكل ما أخبر عن الله عز وجل لصلاحهم وفلاحهم , ولم يخصّ شخصا دون شخص { وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ } (3) .
وكان مأمورا من الله بأن يبلغ كل ما نزل إليه , قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ } (4) .
وكما أن المسلمين مطالبون أيضا أن يؤمنوا بأن الدين قد كمل في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم , ولم يتوفه الله إلا بعد إتمام الإسلام { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا } (5) .
__________
(1) رواه أبو داوود
(2) متفق عليه
(3) التكوير 24
(4) المائدة 67
(5) المائدة 3(29/13)
ومن يعتقد أن شيئا من الدين لو صغيرا بقي ولم ينزله الله على نبيه , أو لم يبينه صلوات الله وسلامه عليه فإنه لا يؤمن بكمال الدين على رسوله صلى الله عليه وسلم , ولا تمام الإسلام في حياته , لأنه بدون هذا ينقص الدين ولا يكمل , وهذا معارض لقول الله عز وجل , ومناف لختم نبوة محمد صلوات الله عليه وسلامه عليه .
ويتضح بذلك جليا أنه لا بد من الأعتقاد أن كل شيء لا يوجد في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فليس من الدين - وهو محدث وبدعة وضلالة , وهذا هو الصحيح الثابت عن الله وعن رسوله – أما اعتقاد أنه من الدين وأن الدين لم يكمل بعج , فهذا هو عين الكفر والضلالة , وقائله ليس من المؤمنين والمسلمين بالإتفاق , فلا بد من أحد الأمرين , إما هذا أو ذلك , ولا يمكن الجمع بينهما { لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ } (1) . و { هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُم مُّؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } (2) .
ومن هذا المنظور والرؤية نرى التصوف , وننظر في الصوفية , ونبحث في وقواعده وأصوله ونحقق أسسه ومبادئه , ومناهجه ومشاربه , هل لها أصل في القرآن والسنة , أو سند في خيار خلق الله أصحاب رسول الله الذين هم أولياء الله الحقيقيون الأولون من أمة محمد , الذين لا خوف عليهم ولاهم يحزنون .
{ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَّهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ }(3)
__________
(1) الأنفال 42
(2) التغابن 2
(3) الأنفال 74(29/14)
و { الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ 20 يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ 21 خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ 22 } (1)
و { فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } (2) .
فإن كان كذلك فعلى المؤمنين كافة الإقرار والتسليم , والتمسك والإلتزام , وليس لهم الخيار في الترك أو القبول , { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا } (3) .
وأيضا { فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا } (4) .
وشمل قول الله عز وجل في الآية القرآنية الأخرى أصحاب نبيه صلى الله عليه وسلم لكونهم قدوة متبعون بعد الله ورسوله حيث قال :
{ ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيراً }(5) .
وما لم يكن كذلك فتركه واجب , والألتفاف إليه حرام , يقطع النظر عمن قاله وعمل به .
وبمثل ذلك قال الإمام أبو إسحاق الشاطبي في إعتصامه :
__________
(1) التوبة 20, 21 , 22
(2) الأعراف 157
(3) الأحزاب 36
(4) النساء 65
(5) النساء(29/15)
( والثاني : إن الشريعة جاءت كاملة لا تحتمل الزيادة ولا النقصان , لن الله تعالى قال فيها : { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا } .
وفي حديث العرباض بن سارية : وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة ذرفت منها الأعين ووجلت منها القلوب , فقلنا : يا رسول الله , إن هذه موعظة مودع فما تعهد إلينا ؟ قال : ( تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها , ولا يزيغ عنها إلا هالك , ومن يعش منكم فسيرى إختلافا كثيرا فعليكم بما عرفتم من سنتي و سنة الخلفاء الراشدين من بعدي ) الحديث .
وثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يمت حتى أتى ببيان جميع ما يحتاج إليه في أمر الدين والدنيا وهذا لا مخالف عليه من أهل السنة .
فإذا كان كذلك , فالمبتدع إنما محصول قوله بلسان حاله أو مقاله : إن الشريعة لم تتم , وأنه بقي منها أشياء يجب أو يستحب استدراكها , لأنه لو كان معتقدا لكمالها وتمامها من كل وجه , لم يبتدع ولا استدرك عليها . وقائل هذا ضال عن الصراط المستقيم .
قال ابن الماجشون : سمعت مالكا يقول : من ابتدع في الإسلام بدعة يراها حسنة فقد زعم أن محمد صلى الله عليه وسلم خان الرسالة , لأن الله يقول : { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } فما لم يكن يومئذ دينا , فلا يكون اليوم دينا .(29/16)
والثالث : إن المبتدع معاند للشرع ومشاقٌ له , لأن الشارع قد عين المطلب العبد طرقاً خاصة على وجوه خاصة , وقصر الخلق عليها بالأمر والنهي والوعد والوعيد وأخبر أن الخير فيها , وأن الشر في تعدِّيها – إلى غير ذلك , لأن الله يعلم ونحن لا نعلم , وأنه إنما أرسل الرسول صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين . فالمبتدع رادٌ لهذا كله , فإنه يزعم أن ثمَّ طرقا أخر , ليس ما حصره الشارع بمحصور , ولا ماعينه بمتعين , كأن الشارع يعلم , ونحن أيضا نعلم . بل ربما يفهم من استدراكه الطرق على الشارع , أنه علم ما لم يعلمه الشارع .
وهذا إن كان مقصودا للمبتدع فهو كفر بالشريعة والشارع , وإن كان غير مقصود , فهو ضلال مبين .
وإلى هذا المعنى أشار عمر بن عبد العبد العزيز رضي الله عنه, إذ كتب له عديُّ بن أرطاه يستشيره في بعض القدرية , فكتب إليه .
( أما بعد فإني أوصيك بتقوى الله والاقتصاد في أمره واتِّباع سنة نبيه صلى الله عليه وسلم , وترك ما أحدث المحدثون فيما قد جرت سنته وكفوا مؤنته , فعليك بلزوم السنة , فإن السنة إنما سنّها من قد عرف ما في خلافها من الخطأ والزلل والحمق والتعمق , فارض لنفسك بما رضي به القوم لأنفسهم , فإنهم على علم وقفوا , وببصر نافذ , قد كفوا وهم كانوا على كشف الأمور أقوى , وبفضل كانوا فيه أحرى . فلئن قلتم : أمر حدث بعدهم , ما أحدثه بعدهم إلا من اتبع غير سننهم , ورغب بنفسه عنهم , إنهم لهم السابقون , فقد تكلموا منه ما يكفي , ووصفوا منه ما يشفي , فما دونهم مقصر , وما فوقهم محسر , لقد قصر عنهم آخرون فقلوا وأنهم بين ذلك لعلى هدى مستقيم ) .
ثم ختم الكتاب بحكم مسئلته .
فقوله : ( فإن السنة إنما سنها من قد عرف مافي خلافها ) فهو مقصود الأستشهاد .(29/17)
والرابع : إن المبتدع قد نزل نفسه منزلة المضاهي للشارع , لأن الشارع وضع الشرائع وألزم الخلق الجري على سنتها , وصار هو المنفرد بذلك , لأنه حكم بين الخلق فيما كانوا فيه يختلفون . وإلا فلو كان التشريع من مدركات الخلق لم تنزل الشرائع , ولم يبق الخلاف بين الناس . ولا احتيج إلى بعث الرسل عليهم السلام .
هذا الذي ابتدع في دين الله قد صير نفسه نظيرا ومضاهيا , حيث شرع مع الشارع , وفتح للاختلاف باباً , ورد قصد الشارع في الانفراد بالتشريع وكفى بذلك ) (1) .
وبعد هذه التوطئة المختصرة والمهمة أيضا ننتقل إلى المقصود والمطلوب , وهو معرفة التصوف والصوفية , وجعل الشرع حاكما عليهما , وعرض آرائهما وأفكارهما عليه . وبالله التوفيق .
الفصل الثاني
أصْلُ التّصَوّفِ وَاشْتقاقهِ
قبل أن بحث في التصوف ونشأته وتاريخه نريد أن نذكر أصل اشتقاقه, من أين اشتق ؟ وكيف كان اشتقاقه ؟ واختلاف الباحثين فيه والصوفية أنفسهم أيضا , ولقد سئل الشبلي : لم سميت بهذا الاسم ؟ .
فقال : ( هذا الاسم الذي أطلق عليهم اختلف في أصله وفي مصدر اشتقاقه ) (2).
ولا زالوا مختلفين فيه حتى اليوم .
فلقد نقل الطوسي أبو نصر السراج (3) في كتابه الذي يعد أقدم مرجع صوفي , عن صوفي أنه قال :
__________
(1) الاعتصام للشاطبي ص 48 إلى 51 ط مطبعة السعادة مصر
(2) أبحاث في التصوف ) للدكتور عبد الحليم محمود , المدرجة في مجموعة مؤلفاته ص 55 ط دار الكتاب اللبناني الطبعة الأولى 1979 م . هو أبو بكر محمد الكلاباذي الملقب بتاج الإسلام قيل في شأن كتابه ( التعرف ) : لولا التعرف لما عرف التصوف ( مقدمة كتابه ) .
(3) هو أبو النصر عبد الله بن علي السراج الطوسي الملقب بطاووس الفقراء , توفي في رجب سنة 378 هـ .(29/18)
( كان في الأصل صفوي , فاستثقل ذلك , فقيل : صوفي – وبمثل ذلك نقل عن أبي الحسن الكناد : هو مأخوذ من الصفاء ) (1) .
وينقل الكلاباذي أبو بكر محمد الصوفي المشهور (2) عن الصوفية أقوالا عديدة في أصل هذه الكلمة واشتقاقها , فقال :
قالت طائفة : إنما سميت الصوفية صوفية لصفاء أسرارها , ونقاء آثارها . وقال بشر بن الحارث : الصوفي من صفت لله معاملته , فصفت له من الله عز وجل كرامته .
وقال قوم : إنما سموا صوفية لأنهم في الصف الأول بين يدي الله عز وجل بارتفاع هممهم إليه , وإقبالهم عليه , ووقوفهم بسائرهم بين يديه .
وقال قوم : إنما سموا صوفية لقرب أوصافهم من أوصاف أهل الصفة , الذين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقال قوم : إنما سموا صوفية للبسهم الصوف .
وأما من نسبهم إلى الصفة والصوف فإنه عبّر عن ظاهر أحوالهم , وذلك أنهم قوم قد تركوا الدنيا , فخرجوا عن الأوطان , وهجروا الأخدان , وساحوا في البلاد , وأجاعوا الأكباد , وأعروا الأجساد , لم يأخذوا من الدنيا إلا من الدنيا إلا ما لا يجوز تركه , من ستر عورة , وسد جوعة .
فلخروجهم عن الأوطان سموا غرباء . ولكثرة أسفارهم سموا سياحين .
ومن سياحتهم في البراري وإيوائهم إلى الكهوف عند الضرورات سماهم بعض أهل الديار ( شكفتية ) والشكفت بلغتهم : الغار والكهف .
وأهل الشام سموهم ( جوعية ) لأنهم إنما ينالون من الطعام قدر ما يقيم الصلب للضرورة , كما قال النبي صلى الله عليه وسلم ( بحسب ابن آدم أكلات يقمن صلبه ) .
وقال السري السقطي , ووصفهم فقال : أكلهم أكل المرضى , ونومهم نوم الغرقى , وكلامهم كلام الخرقى .
__________
(1) انظر ( كتاب اللمع ) ص 46 بتحقيق الدكتور عبد الحليم محمود طه عبد الباقي سرور ط دار الكتب الحديثة بمصر 1960 م .
(2) هو أبو بكر محمد الكلاباذي الملقب بتاج الإسلام قيل في شأن كتابه ( التعرف ) : لولا التعرف لما عرف التصوف ( مقدمة كتابه ) .(29/19)
ومن تخيلهم عن الأملاك سموا فقراء .
قيل لبعضهم : من الصوفي ؟ قال : الذي لا يَملك و لا يُملك . يعني لا يسترقه الطمع .
وقال آخر : هو الذي لا يملك شيئا , وإن ملكه بذله .
ومن لبسهم وزيّهم سموا صوفية , لأنهم لم يلبسوا لحظوظ النفس ما لان مسه , وحسن منظره , وإنما لبسوا لستر العورة , فتجزَّوا بالخشن من الشعر , والغليظ من الصوف .
ثم هذه كلها أحوال أهل الصفة , الذين كانوا غرباء فقراء مهاجرين , أخرجوا من ديارهم وأموالهم , ووصفهم أبو هريرة و فضالة بن عبيد فقالا : يخرون من الجوع حتى تحسبهم الأعراب مجانين . وكان لباسهم الصوف , حتى إن كان بعضهم يعرق فيه فيوجد منه رائحة الضأن إذا أصابه المطر .
هذا وصف بعضهم لهم , حتى قال عيينة بن حصن للنبي صلى الله عليه وسلم : إنه ليؤذيني هؤلاء أما يؤذيك ريحهم ؟ .
ثم الصوف لباس الأنبياء , وزي الأولياء .
وقال أبو موسى الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم : ( إنه مرَّ بالصخرة من الروحاء سبعون نبيا حفاة عليهم العباء يؤمون البيت العتيق ) .
وقال الحسن البصري : كان عيسى عليه السلام يلبس الشعر , ويأكل من الشجرة , ويبيت حيث أمسى .
وقال أبو موسى : كان النبي صلى الله عليه وسلم يلبس الصوف , ويركب الحمار , ويأتي مدعاة الضعيف .
وقال الحسن البصري : لقد أدركت سبعين بدرياً ما كان لباسهم إلا الصوف .
فلما كانت هذه الطائفة بصفة أهل الصفة فيما ذكرنا , ولبسهم وزيهم زي أهلها , سموا صُفية وصوفية .
ومن نسبهم إلى إلى الصفة والصف الأول فإنه عبر عن أسرارهم وبواطنهم , وذلك أن من ترك الدنيا وزهد فيها وأعرض عنها , صفَّى الله سره , ونور قلبه .
قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إذا دخل النور في القلب انشرح وانفسح ) , قيل : وما علامة ذلك يا رسول الله ؟ قال : ( التجافي عن دار الغرور , و الإنابة إلى دار الخلود , والاستعداد للموت قبل نزوله ) .(29/20)
فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن من تجافى عن الدنيا نور الله قلبه .
وقال حارثة حين سأله النبي صلى الله عليه وسلم : ما حقيقة إيمانك ؟ قال : عزفت بنفسي عن الدنيا , فأظمأت نهاري , وأسهرت ليلي , وكأني أنظر إلى عرش ربي بارزا , وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون , وإلى أهل النار يتعادون .
فأخبر أنه لما عزف عن الدنيا نور الله قلبه , فكان ما غاب عنه بمنزلة ما يشاهده . وقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( من أحب أن ينظر إلى عبد نور الله قلبه فلينظر إلى حارثة , فأخبر أنه منوّر القلب .
وسميت هذه الطائفة نورية لهذه الأوصاف .
وهذا أيضا من أوصاف أهل الصفة , قال الله تعالى : { فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} .
والتطهر بالظواهر عن الأنجاس , وبالبواطن عن الأهجاس .
وقال الله تعالى : { رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله } . ثم لصفاء أسرارهم تصدق فراستهم .
قال أبو أمامة الباهلي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم : ( اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله ) .
وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه : ألقى في روعي أن ذا بطن بنت خارجة , فكان كما قال .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إن الحق لينطق على لسان عمر ) .
وقال أبو أويس القرني لهرم بن حيان حين سلم عليه : وعليك السلام يا هرم بن حيان , ولم يكن رآه قبل ذلك , ثم قال له : عرف روحي روحك .
وقال أبو عبد الله الأنطاكي : إذا جالستم أهل الصدق فجالسوهم بالصدق فإنهم جواسيس القلوب يدخلون في أسراركم ويخرجون من هممكم .
ثم من كان بهذه الصفة من صفوة سره وطهارة قلبه ونور صدره فهو في الصف الأول , لأن هذه أوصاف السابقين .
قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( يدخل الجنة من أمتي سبعون ألفا بغير حساب ) ثم وصفهم وقال : ( الذين لا يرقون و لا يسترقون , ولا يكوون ولا يكتوون , وعلى ربهم يتوكلون ) .(29/21)
فلصفاء أسرارهم , وشرح صدورهم , وضياء قلوبهم : صحت معارفهم بالله , فلم يرجعوا إلى الأسباب ثقة بالله عز وجل , وتوكلا عليه , ورضا بقضائه .
فقد إجتمعت هذه الأوصاف كلها , ومعاني هذه الأسماء كلها في أسامي القوم وألقابهم , وصحت هذه العبارات وقربت هذه المآخذ .
وإن كانت هذه الألفاظ متغيرة في الظاهر , فإن المعاني متفقة لأنها إن أخذت من الصفاء والصفوة كانت صوفية.
وإن أضيفت إلى الصف أو الصفة كانت صَفيّة أو صُفيّة , ويجوز أن يكون تقديم الواو على الفاء في لفظ الصفية أو الصُّفية إنما كانت من تداول الألسن .
وإن جعل مأخذه من الصوف : استقام اللفظ , وصحت العبارة من حيث اللغة .
وجميع المعاني كلها من التخلي عن الدنيا وعزوف النفس عنها وترك الأوطان ولزوم الأسفار , ومنع النفوس حظوظها , وصفاء المعاملات , وصفوة الأسرار , وانشراح الصدور وصفة للسباق .
وقال بندار بن الحسين : الصوفي من اختاره الحق لنفسه فصافاه , وعن نفسه برأه , ولم يرده إلى تعمّل وتكلف بدعوى .
وصوفي على زنة عوفي , أي عافاه الله فعوفي وكوفي , أي كافاه الله فكوفي , وجوزي , أي جازاه الله , ففعل الله به ظاهر في اسمه والله المتفرد به ) (1) .
هذا ما تخبط به الكلاباذي من الخلط والغلط قطع النظر عن ضعف أكثر الروايات التي ساقها وسردها .
ويكتب من الصوفية المتقدمين أبو العباس أحمد بن زروق (2) في كتابه قواعد التصوف : وقد كثرت الأقوال في اشتقاق التصوف , وأمسى ذلك بالحقيقة خمسة .
الأول : قول من قال : من الصوفة , لأنه مع الله كالصوفة المطروحة لا تدبير له .
__________
(1) التعرف لمذهب التصوف ) للكلاباذي ص 28 – 34 تحقيق محمود أمين النواوي الطبعة الثالثة 1400 هـ مكتبة الكليات الأزهرية . القاهرة .
(2) هو أبو العباس أحمد بن محمد بن زروق : علم من أعلام الصوفية , وإمام من أئمة أهل الحقيقة ( أنظر الصفحة الفوقانية لكتاب قواعد التصوف ) .(29/22)
الثاني : أنه من صوفة القفا , للينها , فالصوفي هيّن ليّن كهي .
الثالث : أنه من الصفة , إذ جعلته اتصاف بالمحاسن وترك الأوصاف المذمومة .
الرابع : أنه من الصفاء , وصحح هذا القول حتى قال أبو الفتح البستي رحمه الله :
تنازع الناس في الصوفي واختلفوا وظنه البعض مشتقا من الصوف
ولست أمنح هذا الاسم غير فتى صافي فصوفي حتى سمى الصوفي
الخامس : أنه منقول من الصفة لأن صاحبه تابع لأهلها فيما أثبت الله لهم من الوصف حيث قال تعالى : { يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ } . وهذا هو الأصل الذي يرجع إليه كل قول فيه )(1) .
وقال أبو نعيم الأصبهاني المتوفى 430هـ في حليته :
أبو نعيم الأصبهاني المتوفى 430هـ في حليته :
واشتقاقة من حيث الحقائق التي أوجبت اللغة فإنه تفعل من أحد أربعة أشياء , من الصوفانة , وهي بقلة رعناء قصيرة , أو من صوفة وهي قبيلة كانت في الدهر الأول تجيز الحاج وتخدم الكعبة , أو من صوفة القفاء وهي الشعرات النابتة في متأخره , أو من الصوف المعروف على ظهور الضأن ) (2) .
وقال مرجحا كونه مأخوذا من الصفاء :
( اشتقاقه عند أهل الإشارات والمنبئين عنه بالعبارات من الصفاء والوفاء ) (3) .
__________
(1) قواعد التصوف ) لابن زروق الطبعة الثانية ص 293 ط 1396 هـ مكتبة الكليات الأزهرية القاهرة , أيضا ( لطائف المنن ) لابن عطاء الله الأسكندري ط مطبعة حسان مصر , أيضا ( الدر الثمين , والمورد المعين ) لمحمد بن أحمد المالكي ج 2 ص 169 مصطفى البابي الحلبي 1954 م . أيضا ( إيقاظ الهمم في شرح الحكم ) لأحمد بن عجيبة الحسني ط مصطفى البابي الطبعة الثالثة 1982 م .
(2) حلية الأولياء وطبقات الأصفياء ) للأصبهاني ج 1 ص 17 ط دار الكتاب العربي ببيروت الطبعة الثالثة 1400 هـ .
(3) نفس المصدر .(29/23)
وذهب إلى هذا الرأي فريد الدين العطار المتوفى 586 هـ تقريبا نقلا عن بشر الحافي (1) .
وكذلك الصوفي الهندي الملقب بكنج شكر المتوفى 669 هـ (2) .
ولكن السهروردي الذي فصل القول في هذا يرى رأيا آخر , وهو أنه مشتق من الصوف ولبسه , فإليكم ما قاله في كتاب ( عوارف المعارف ) في الباب السادس تحت عنوان : ذكر تسميتهم بهذا الاسم :
( أخبرنا الشيخ أبو زرعة طاهر بن محمد بن طاهر , وقال أخبرني والدي , قال أخبرنا أبو علي الشافعي بمكة حرسها الله تعالى , قال أخبرنا أحمد بن إبراهيم , قال أخبرنا أبو جعفر محمد بن إبراهيم , قال : أخبرنا أبو عبد الله المخزومي , قال حدثنا سفيان عن مسلم عن أنس بن مالك , قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجيب دعوة العبد ويركب الحمار ويلبس الصوف , فمن هذا الوجه ذهب قوم إلى أنهم سموا صوفية نسبة لهم إلى ظاهر اللبسة , لأنهم اختاروا لبس الصوف لكونه أرفق ولكونه كان لباس الأنبياء عليهم السلام .
وروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( مر بالصخرة من الروحاء سبعون نبيا حفاة عليهم العباء يؤمون البيت الحرام ) .
وقيل : إن عيسى عليه السلام كان يلبس الصوف والشعر , ويأكل من الشجر ويبيت حيث أمسى .
__________
(1) تذكرة الأولياء) للعطار ص 68 ط باكستان .
(2) أنظر ( أسرار الأولياء ) ص 129 ط باكستان الطبعة الثالثة 1983 م .(29/24)
وقال الحسن البصري رضي الله عنه : لقد أدركت سبعين بدريا كان لباسهم الصوف , ووصفهم أبو هريرة وفضالة بن عبيد فقالا : كانوا يخرون من الجوع حتى يحسبهم الأعراب مجانين , وكان لباسهم الصوف حتى إن بعضهم كان يعرق في ثوبه فيوجد منه رائحة الضأن إذا أصابه الغيث . وقال بعضهم : إنه ليؤذيني ريح هؤلاء , أما يؤذيك ريحهم يا رسول الله صلى عليه وسلم بذلك , فكان اختيارهم للبس الصوف لتركهم زينة الدنيا , وقناعتهم بسد الجوعة وستر العورة , واستغراقهم في أمر الآخرة , فلم يتفرغوا لملاذ النفوس وراحاتها , لشدة شغلهم بخدمة مولاهم , وانصراف هممهم إلى أمر الآخرة , وهذا الاختيار يلائم ويناسب من حيث الاشتقاق , لأنه يقال ( تصوف ) إذا لبس الصوف , كما يقال ( تقمص ) إذا لبس القميص .
ولما كان حالهم بين سير وطير لتقلبهم في الأحوال وارتقائهم من عال إلى أعلى منه , لا يفيدهم وصف ولا يحسبهم نعت , وأبواب المزيد علماً وحالاً عليهم مفتوحة , وبواطنهم معدن الحقائق ومجمع العلوم , فلما تعذر تقيدهم لتنوع وجدانهم وتجنس مزيدهم , نسبوا إلى ظاهر اللبسة . وكان ذلك أبين في الأشارة إليهم , وأدعى إلى حصر وصفهم , لأن لبس الصوف كان غالبا على المتقدمين من سلفهم , وأيضا لأن حالهم حال المقربين كما سبق ذكره , ولما كان الإعتزاء إلى القرب وعظم الإشارة إلى قرب الله تعالى أمر صعب يعز كشفه والإشارة إليه .. وقعت الإشارة إلى زيهم سترا لحالهم وغيرة على عزيز مقامهم أن تكثر الإشارة إليه وتتداوله الألسنة , فكان هذا أقرب إلى الأدب , والأدب في الظاهر والباطن والقول والفعل عماد أهل الصوفية .(29/25)
وفيه معنى آخر : وهو أن نسبتهم إلى اللبسة تنبئ عن تقللهم من الدنيا وزهدهم فيما تدعو النفس إليه بالهوى من الملبوس الناعم , حتى إن المبتدئ المريد الذي يؤثر طريقهم ويحب الدخول في أمرهم يوطن نفسه على التقشف والتقلل , ويعلم أن المأكول أيضا من جنس الملبوس فيدخل في طريقهم على بصيرة , وهذا أمر مفهوم معلوم عند المبتدئ , والإشارة إلى شيء من حالهم في تسميتهم بهذا أنفع وأولى , وأيضا غير هذا المعنى مما يقال إنهم سموا صوفية لذلك يتضمن دعوى وإذا قيل سموا صوفية للبسهم الصوف كان أبعد من الدعوى , وكل ما كان أبعد من الدعوى كان أليق بحالهم , وأيضا لأن لبس الصوف حكم ظاهر على الظاهر من أمرهم , ونسبتهم من أمر آخر من حال أو مقام أمر باطن , والحكم بالظاهر أوفق وأولى , فالقول بأنهم سموا صوفية للبسهم الصوف أليق وأقرب إلى التواضع , ويقرب أن يقال : لما أثاروا الذبول والخمول والتواضع والإنكار والتخفي والتواري , كانوا كالخرقة الملقاة والصوفية المرمية التي لا يرغب فيها ولا يلتفت إليها , فيقال ( صوفي ) نسبة إلى الصوفة , كما يقال ( كوفي ) نسبة إلى الكوفة , وهذا ما ذكره بعض أهل العلم , والمعنى المقصود به قريب ويلائم الإشتقاق , ولم يزل لبس الصوف اختيار الصالحين والزهاد والمنشقين والعباد .
أخبرنا أبو زرعة طاهر عن أبيه , قال أخبرنا عبد الرزاق بن عبد الكريم , قال أخبرنا أبو الحسن محمد بن محمد , قال حدثنا أبو علي بن إسماعيل بن محمد , قال حدثنا الحسن بن عرفة , قال حدثنا خلف بن خليفة عن حميد بن الأعرج عن عبد الله بن الحارث عن عبد الله بن مسعود رضي الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يوم كلم الله تعالى موسى عليه السلام كان عليه جبة صوف وسراويل صوف وكمه من صوف ونعلاه من جلد حمار غير مذكى .(29/26)
وقيل : سموا صوفية لأنهم في الصف الأول بين يدي الله عز وجل بارتفاع هممهم وإقبالهم على الله تعالى بقلوبهم ووقوفهم بسرائرهم بين يديه . وقيل : كان هذا الاسم في الأصل صفوي , فاستثقل ذلك وجعل صوفيا . وقيل سموا صوفية نسبة إلى الصفة التي كانت لفقراء المهاجرين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم , الذين قال الله تعالى فيهم { للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله لا يستطيعون ضربا في الأرض } الآية , وهذا وإن كان لا يستقيم من حيث الاشتقاق اللغوي ولكنه صحيح من حيث المعنى , لأن الصوفية يشاكل حالهم حال أولئك لكونهم مجتمعين متآلفين متصاحبين لله وفي الله , كأصحاب الصفة , وكانوا نحوا من أربعمائة رجل لم تكن لهم مساكن بالمدينة ولا عشائر , جمعوا أنفسهم في المسجد كاجتماع الصوفية قديما وحديثا في الزوايا والربط , وكانوا لا يرجعون إلى زرع ولا ضرع ولا إلى تجارة , كانوا يحتطبون ويرضخون النوى بالنهار , وبالليل يشتغلون بالعبادة وتعلم القرآن ( تلاوته ) وكان رسول الله صلى اله عليه وسلم يواسيهم ويحث الناس على مواساتهم ويجلس معهم ويأكل معهم , وفيهم نزل قوله تعالى : { وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ } وقوله تعالى : { وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ } ونزل في ابن مكتوم قوله تعالى : { عَبَسَ وَتَوَلَّى (1)أَن جَاءهُ الْأَعْمَى } وكان من أهل الصفة , فعوقب النبي صلى الله عليه وسلم لأجلة , وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صافحهم لا ينزع يده من أيدهم , وكان يفرقهم على أهل الجدة والسعة يبعث مع كل واحد ثلاثة ومع الآخر أربعة , وكان سعد بن معاذ يحمل إلى بيته منهم ثمانين يطعمهم .(29/27)
وقال أبو هريرة رضي الله عنه : لقد رأيت سبعين من أهل الصفة يصلون في ثوب واحد , منهم من لايبلغ ركبتيه , فإذا ركع أحدهم قبض بيديه مخافة أن تبدو عورته . وقال بعض أهل الصفة : جئنا جماعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقلنا يا رسول الله أحرق بطوننا التمر فسمع بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فصعد المنبر ثم قال : ما بال أقوام يقولون أحرق بطوننا التمر , أما علمتم أن هذا التمر هو طعام أهل المدينة وقد واسونا به وواسيناكم مما واسونا به , والذي نفس محمد بيده إن منذ شهرين لم يرتفع من بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم دخان للخبز , وليس لهم إلا الأسودان الماء والتمر .
أخبرنا الشيخ أبو الفتوح محمد بن عبد الباقي في كتابه , قال : أخبرنا الشيخ أبو بكر بن زكريا الطريثيثي قال أخبرنا الشيخ أبو عبد الرحمن السلمي , قال حدثنا محمد بن محمد ابن سعيد الأنماطي , قال حدثنا الحسن بن يحى بن سلام , قال حدثنا محمد ابن علي الترمذي , قال حدثني سعيد بن حاتم البلخي , قال حدثنا سهل بن أسلم عن خلاد بن محمد عن أبي عبد الرحمن السكري عن يزيد النحوي عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهم قال : وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً على أهل الصفة فرأى فقرهم وجهدهم وطيب قلوبهم فقال ( أبشروا يا أصحاب الصفة فمن بقي منكم على النعت الذي أنتم عليه اليوم راضيا بما هو فيه فإنه من رفقائي يوم القيامة ) .(29/28)
وقيل : كان منهم طائفة بخراسان يأوون إلى الكهوف والمغارات ولا يسكنون القرى والمدى , ويسمونهم في خراسان شكفتية , ( لأن شكفت) اسم الغار , ينسبونهم إلى المأوى والمستقر وأهل الشام يسمونهم جوعية , والله تعالى ذكر في القرآن طوائف الخير والصلاح فسمى قوما أبرارا وآخرين مقربين , ومنهم الصابرون والصادقون , والذاكرون , والمحبون , واسم الصوفي مشتمل على جميع المتفرق في هذه الأسماء المذكورة , وهذا الاسم لم يكن في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم , وقيل كان في زمن التابعين .
ونقل عن الحسن البصري رحمة الل عليه أنه قال : رأيت صوفيا في الطواف فأعطيته شيئا فلم يأخذه وقال معي أربع دوانيق يكفيني ما معي ويشيد هذا ما روى عن سفيان أنه قال لولا أبو هاشم الصوفي ما عرفت دقيق الرياء . وهذا يدل على أن هذا الاسم كان يعرف قديما وقيل لم يعرف هذا الاسم إلى المائتين من الهجرة العربية ) (1) .
فهل هناك تعارض وتناقض أكثر من ذلك ؟.
ورجح الرأي الأخير أبو المفاخر يحيى الباخرزي (2) .
ونجم الدين كبرى(3) رجح كون كلمة التصوف مشتقة من الصوف , وأضاف ( بأن أول من لبس الصوف آدم وحواء , لأنهما أول ما نزلا في الدنيا كانا عريانين , فنزل جبريل بالخروف فأخذا منه الصوف , فغزلت حواء ونسجه آدم ولبساه , وكذلك موسى عليه السلام لبس الصوف , وأن يحيى وزكريا ونبينا محمدا صلى الله عليه وسلم أيضا كانوا يلبسون الصوف .
__________
(1) عوارف المعارف ) للسهروردي عبد القاهر بن عبد الله ص 59 إلى 63 ط دار الكتاب العربي بيروت الطبعة الثانية 1403 هـ .
(2) انظر لذلك كتاب ( أوراد الأحباب وفصوص الآداب ) لأبي المفاخر يحيى الباخرزي المتوفى 736 هـ ج 2 ص 14 باهتمام أفشار ط ز طهران 1966 م .
(3) هو أبو عبد الله أحمد بن عمر بن محمد بن عبد الله خوارزمي المشهور بنجم الدين كبرى الملقب بالطامة الكبرى المتوفى 618 هـ وله مؤلفات كثيرة في اللغة الفارسية واللغة العربية .(29/29)
ونسبة الصوفي إلى الصوف , وإذا ألبس الصوف طلب من نفسه حقه , لأن الصوف مركب من الأحرف الثلاثة : الصاد , والواو , والفاء , فيطلب من الصاد العبر والصلابة والصدق والصلاة , ويطلب من الواو الوفاء والوجد , وبالفاء الفرج والفرح ) (1) .
ومن الطرائف أن نجم الدين كبرى هذا زاد على الآخرين حيث بين ألوان الصوف الذي يلبسه الصوفية على اختلاف أوصافهم وأحوالهم فقال :
( إن الذي قهر نفسه وقتلها بسيف المجاهدة والمكابدة , وجلس في مآتم النفس , عليه أن يلبس الصوف الأسود , وإن كان تائبا عن المخالفات وغسل ملبوس عمره بصابون الإنابة والرياضة . ونقى صحيفة قلبه عن ذكر الغير فعليه الصوف الأبيض , وإن كان من الذين اجتازوا العالم السفلي , ووصل العالم العلوي بهمته فعليه أن يلبس الصوف الأزرق , لأنه لون السماء ) (2) .
ويترشح أيضا من كلام أبي طالب المكي (3) في قوته بأنه أيضا من الذين يرحجون اشتقاقه من الصوف , حيث يورد رواية مكذوبة على رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال :
( البسوا الصوف , وشمروا , وكلوا في أنصاف البطون تدخلوا في ملكوت السماء ) (4) .
__________
(1) آداب الصوفية ) لنجم الدين كبرى ( فارسي ) ص 28 ط كتاب فرشي زوار هجري قمري إيران .
(2) نفس المصدر .
(3) هو أبو طالب محمد بن أبي الحسن علي بن عباس المكي , قيل فيه : هو شيخ الصوفية وأهل السنة , المتبحر في التفسير وغيره من أهل العلم وله تفسير كبير , وكتابه ( قوت القلوب ) كتاب جليل ( الصفحة الأولى من كتابه ) توفي سنة 386 هـ ببغداد .
(4) قوت القلوب ) لأبي طالب المكي ج 2 ص 167 ط المطبعة الميمنية مصر 1310 هـ .(29/30)
ولكن القشيري أبا القاسم عبد الكريم (1) رد على هذا الرأي وذاك , حيث قال في رسالته :
( فأما قول من قال : إنه من الصوف , ولهذا يقال : تصوّف إذا لبس الصوف كما يقال : تقمص إذا لبس القميص , فذلك وجه . ولكن القوم لم يختصوا بلبس الصوف .
ومن قال : أنهم منسوبون إلى صفة مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم , فالنسبة إلى الصفة لا تجيء على نحو الصوفي .
ومن قال : أنه مشتق من الصفاء , فاشتقاق الصوفي من الصفاء بعيد في مقتضى اللغة .
ومن قال : أنه مشتق من الصف , فكأنهم في الصف الأول بقلوبهم فالمعنى صحيح , ولكن اللغة لا تقتضي هذه النسبة إلى الصف ) (2) .
وأما الصوفي الفارسي عبد الرحمن الجامي المتوفى 898 هـ فلقد ذكر في نفحاته أنه مأخوذ من الأستصفاء , مستدلا بكلام الصوفي المشهور عبد الله بن خفيف أنه قال : الصوفي من استصفاه الحق لنفسه توددا ) (3) .
وقريبا من ذلك قال قبله صوفي فارسي آخر , وهو عبد العزيز بن محمد النسفي : إن التصوف مأخوذ من الصفوة (4) .
__________
(1) هو أبو القاسم عبد الكريم القشيري النيسابوري الشافعي قيل فيه : هو الإمام مطلقا , الفقيه , المتكلم , الأصولي , المفسر , الأديب ... لسان عصره , وسر الله في خلقه , مدار الحقيقة , وعين السعادة , وقطب السيادة , من جمع بين الشريعة والحقيقة ( مقدمة كتاب الرسالة القشيرية ص 15 ), وقال عنه أبو الحسن الباخرزي : لو ارتبط إبليس في مجلسه لتاب ( دمية القصر ) , توفي سنة 465 هـ.
(2) الرسالة القشيرية لأبي القاسم عبد الكريم القشيري ج 2 ص 550 ط مطبعة حسان القاهرة 1974 .
(3) نفحات الأنس ( الفارسي ) للجامي ص 12 إيران 1337 هجري شمسي .
(4) كشف الحقائق لعبد العزيز النسفي بتحقيق وتعليق الدكتور أحمد مهدوي ص 120 ط طهران 1359 هجري قمري .(29/31)
ولقد ذكر في أصل التصوف واشتقاقه أقوال أخرى , منها ما ذكرها الإمام أبو الفرج عبد الرحمن بن الجوزي , والإمام ابن تيمية , عند ذكرهما التصوف والصوفية , واللفظ الأول :
( قد ذهب قوم إلى أن التصوف منسوب إلى أهل الصفة . وإنما ذهبوا إلى هذا لأنهم رأوا أهل الصفة على ما ذكرنا من صفة صوفة في الإنقطاع إلى الله عز وجل وملازمة الفقر فإن أهل الصفة كانوا فقراء يقدمون على رسول الله صلى الله عليه وسلم ومالهم أهل ولا مال فبنيت لهم صفة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقيل أهل الصفة . والحديث بإسناد عن الحسن . قال بنيت صفة لضعفاء المسلمين فجعل المسلمون يوصلون إليها ما استطاعوا من خير . وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتيهم فيقول : السلام عليكم يا أهل الصفة . فيقولون : وعليك السلام يا رسول الله . فيقول كيف أصبحتم . فيقولون بخير يا رسول الله . وبإسناد عن نعيم بن المجمر عن أبيه عن أبي ذر قال كنت من أهل الصفة وكنا إذا أمسينا حضرنا باب رسول الله صلى الله عليه وسلم , فيأمر كل رجل فينصرف برجل فيبقى من بقى من أهل الصفة عشرة أو أقل فيؤثرنا النبي صلى الله عليه وسلم بعشائه فنتعشى فإذا فرغنا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم . ناموا في المسجد .(29/32)
قال المصنف : وهؤلاء القوم إنما قعدوا في المسجد ضرورة . وإنما أكلوا الصدقة ضرورة . فلما فتح الله على المسلمين استغنوا عن تلك الحال وخرجوا , ونسبة الصوفي إلى أهل الصفة غلط لأنه لو كان كذلك لقيل صفي , وقد ذهب إلى أنه من الصوفانة وهي بقلة رعناء قصيرة . فنسبوا إليها لاجتزائهم بنبات الصحراء وهذه أيضا غلط لأنه لو نسبوا أليها لقيل صوفاني . وقال آخرون هو منسوب إلى صوفة القفا . وهي الشهرات النابتة في مؤخرة كأن الصوفي عطف به إلى الحق وصرفه عن الخلق ) (1) .
وقيل : أن أصل التصوف منسوب إلى صوفة , فيقول ابن الجوزي :
قال أبو محمد عبد الغني بن سعيد الحافظ : قال : سألت وليد بن القاسم : إلى أي شيء ينسب الصوفي .
فقال : كان قوم في الجاهلية يقال لهم صوفة , انقطعوا إلى الله عز وجل , وقنطوا الكعبة , فمن تشبه بهم فهم الصوفية , قال عبد الغني : فهؤلاء المعروفون بصوفة ولد الغوث بن مر بن أخي تميم بن مر ) (2) .
وبمثل ذلك ذكره أهل اللغة والمعاجم (3) .
__________
(1) تلبيس ابليس لابن الجوزي المتوفى 597 ص 157 دار القلم بيروت , أيضا الصوفية والفقراء لشيخ الإسلام ابن تيمية ط دار الفتح القاهرة 1984 م , أيضا تاريخ التصوف في الإسلام للدكتور قاسم غني ترجمة عربية صادق نشأت ص 60 , 61 ط مكتبة النهضة المصرية .
(2) تلبيس ابليس لابن الجوزي الباب العاشر ص 156 .
(3) انظر لسان العرب لابن منظور الأفريقي ج 9 ص 200 ط دار صادر بيروت , والقاموس المحيط للفيروز آبادي ج 3 ص 169 ط مصطفى البابي الحلبي , أيضا أساس البلاغة للزمخشري ص 262 ط احياء المعاجم العربية القاهرة .(29/33)