والوجه الآخر: أن ذلك يعني عند الطالبين أن الأنبياء والصالحين يسمعون طلبتهم، وإلا كان دعاؤهم ومناداتهم بذلك سخفاً جلياً وضلالاً بيناً، وهذا ما يترفع عنه العاقل، بله المؤمن، لأنه باطل بداهة وفطرة، وبذلك احتج الله على المشركين في مواطن كثيرة من القرآن، فقال تعالى في ]الأعراف:194-195[: { إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا } ؟! ولذلك كانت حجة إبراهيم على أبيه وقومه: { إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً } ]مريم:42[ وقال في ]الشعراء:70-74[: { إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ * قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَاماً فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ * قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ * أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ * قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ } فقد اعترفوا بهذه الحجة القاطعة وخضعوا لها في قلوبهم، ولكنهم عاندوا وعدلوا عنها إلى قولهم: { بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ } .(13/26)
إذا عرفت هذا، فتنبه أيها المسلم المبتلى بدعاء الأولياء والصالحين من دون الله تعالى، هل أنت تعتقد أنهم حين تناديهم لا يسمعونك؟ إذن فأنت مع مخالفتك للعقل والفطرة السليمة مثل أولئك المشركين من قوم إبراهيم وغيرهم ولا فرق، فلا ينفعك والحالة هذه ما تدعيه من إسلام وإيمان، لأن الله تعالى يقول في القرآن: { لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ } ]الزمر:65[ وإن كنت تزعم أنهم يسمعونك، ولذلك تناديهم وتستغيث بهم وتطلب منهم، فهي ضلالة أخرى فقت بها المشركين! وإني لأعيذك بالله أن تكون منهم في شيء.
فاعلم أخي المسلم! أن كل ما أعطاه الله لبشر ــ وفيهم الأنبياء والأولياءـ من قدرات وصفات، أن كل ذلك يذهب بالموت، كالسمع والبصر، والبطش، والمشي، ونحو ذلك،
فما يبقى منها شيء كما هو مشاهد، اللهم إلا الروح باتفاق المسلمين، وأجساد الأنبياء
كما في الحديث الصحيح، فمن زعم أن الموتى يسمعون، فهو كالذي يزعم أنهم يبصرون ويبطشون ويتصرفون! فكل هذا ــ مع كونه خلاف المشاهدـ إنما هو تحدث عما وراء العقل والمادة، وذلك مما لا يجوز شرعاً، لأنه من الغيب، ولا يعلم الغيب إلا الله تعالى، وإذا كان الأمر كذلك ــ وهو كذلك يقيناً لا شك فيه ــ فلا يجوز نسبة شيء مما ذكر إلى الموتى جميعاً إلا بنص من الشارع الحكيم، فهل جاء نص يثبت للموتى صفة السمع أي أن من طبيعة الميت أن يسمع الكلام كما كان قبل موته، وأن ذلك صفة له كما كانت له قبل ذلك، أم الأمر على النقيض من ذلك، كما شرحه المؤلف رحمه الله تعالى وبسط القول فيه معتمداً على أقوال المذاهب والأئمة؟
هذا ما أردت تحقيقه وتأييده بما وقفت عليه من الأدلة من الكتاب والسنة الصحيحة،(13/27)
راجياً ممن وقف عليه أن يصيخ بسمعه، ويصغي بقلبه، ويتبع آيات ربه القائل في كتابه: { إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ * وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ } ]النمل:80-81[.
تحقيق أن الموتى لا يسمعون
هذا واعلم أن كون الموتى يسمعون أو لا يسمعون إنما هو أمر غيبي من أمور البرزخ التي
لا يعلمها إلا الله عز وجل فلا يجوز الخوض فيه بالأقيسة والآراء وإنما يوقف فيه مع النص إثباتا ونفيا وسترى المؤلف رحمه الله تعالى ذكر في الفصل الأول كلام الحنفية في أنهم
لا يسمعون وفي الفصل الثاني نقل عن غيرهم مثله وحكى عن غير هؤلاء أنهم يسمعون وليس يهمني أن هؤلاء قلة وأولئك الكثرة فالحق لا يعرف بالكثرة ولا بالقلة وإنما بدليله الثابت في الكتاب والسنة مع التفقه فيهما وهذا ما أنا بصدده إن شاء الله تعالى فأقول:
استدل الأولون بقوله تعالى: { وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ } ]فاطر:22[ وقوله: { إِنَّكَ
لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِين } ]النمل:80 والروم 52[ وأجاب الآخرون بأن الآيتين مجاز وأنه ليس المقصود بـ (الموتى) وبـ (من في القبور) الموتى حقيقة في قبورهم وإنما المراد بهم الكفار الأحياء شبهوا بالموتى (والمعنى من هم في حال الموتى أو في حال من سكن القبر) كما قال الحافظ ابن حجر على ما يأتي في الرسالة (ص72).
فأقول: لا شك عند كل من تدبر الآيتين وسياقهما أن المعنى هو ما ذكره الحافظ رحمه الله
تعالى (1) وعلى ذلك جرى علماء التفسير لا خلاف بينهم في ذلك فيما علمت ولكن ذلك
__________
(1) :وقد بين ذلك بيانا شافيا العلامة محمد الأمين الشنقيطي في كتابه "أضواء البيان"(6/416- 421).(13/28)
لا يمنع الاستدلال بهما على ما سبق لأن الموتى لما كانوا لا يسمعون حقيقة وكان ذلك معروفا
عند المخاطبين شبه الله تعالى بهم الكفار الأحياء في عدم السماع فدل هذا التشبيه على أن المشبه بهم ـــ وهم الموتى في قبورهم ـــ لا يسمعون كما يدل مثلا تشبيه زيد في الشجاعة بالأسد على أن الأسد شجاع بل هو في ذلك أقوى من زيد ولذلك شبه به وإن كان الكلام
لم يسق للتحدث عن شجاعة الأسد نفسه وإنما عن زيد وكذلك الآيتان السابقتان وإن كانتا تحدثتا عن الكفار الأحياء وشبهوا بموتى القبور فذلك لا ينفي أن موتى القبور لا يسمعون
بل إن كل عربي سليم السليقة لا يفهم من تشبيه موتى الأحياء بهؤلاء إلا أن هؤلاء أقوى في عدم السماع منهم كما في المثال السابق وإذا الأمر كذلك فموتى القبور لا يسمعون. ولما لاحظ هذا بعض المخالفين لم يسعه إلا أن يسلم بالنفي المذكور ولكنه قيده بقوله:"سماع انتفاع" يعني أنهم يسمعون ولكن سماعا لا انتفاع فيه(1) وهذا في نقدي قلب للتشبيه المذكور في الآيتين حيث جعل المشبه به مشبها فإن القيد المذكور يصدق على موتى الأحياء من الكفار فإنهم يسمعون حقيقة ولكن لا ينتفعون من سماعهم كما هو مشاهد فكيف يجوز جعل المشبه بهم من موتى القبور مثلهم في أنهم يسمعون ولكنهم لا ينتفعون من سماعهم مع أن المشاهد أنهم لا يسمعون مطلقا ولذلك حسن التشبيه المذكور في الآيتين الكريمتين فبطل القيد المذكور.
ولقد كان من الممكن القول بنحو القيد المذكور في موتى القبور لو كان هناك نص قاطع على أن الموتى يسمعون مطلقا إذن لوجب الإيمان به والتوفيق بينه وبين ما قد يعارضه من النصوص
__________
(1) 10):انظر (ص45- 46) من كتاب "الروح" المنسوب لابن القيم رحمه الله تعالى فإن فيه غرائب وعجائب من الروايات والآراء كما سنرى شيئا من ذلك فيما يأتي:وانظر (ص87).(13/29)
كالآيتين مثلا ولكن مثل هذا النص مما لا وجود له بل الأدلة قائمة على خلافه وإليك البيان: الدليل الأول: قوله تعالى في تمام الآية الثانية: { وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِين } فقد شبههم الله تعالى ــ أعني موتى الأحياء من الكفارـ بالصم أيضا فهل هذا يقتضي في المشبه بهم (الصم) أنهم يسمعون أيضا ولكن سماعا لا انتفاع فيه أيضا أم أنه يقتضي أنهم لا يسمعون مطلقا كما هو الحق الظاهر الذي لا خفاء فيه. وفي التفسير المأثور ما يؤيد هذا الذي نقول فقال ابن جرير في "تفسيره" (21/36) لهذه الآية:
"هذا مثل معناه: فإنك لا تقدر أن تفهم هؤلاء المشركين الذين قد ختم الله على أسماعهم فسلبهم فهم ما يتلى عليهم من مواعظ تنزيله كما لا تقدر أن تفهم الموتى الذين سلبهم الله أسماعهم بأن تجعل لهم أسماعا.
وقوله: { وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ } يقول:كما لا تقدر أن تسمع الصم الذين قد سلبوا السمع إذا ولوا عنك مدبرين كذلك لا تقدر أن توفق هؤلاء الذين قد سلبهم الله فهم آيات كتابه لسماع ذلك وفهمه".
ثم روى بإسناد الصحيح عن قتادة قال:"هذا مثل ضربه الله للكافر فكما لا يسمع الميت الدعاء كذلك لا يسمع الكافر { وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ.. } يقول: لو أن أصم ولى مدبرا
ثم ناديته لم يسمع كذلك الكافر لا يسمع ولا ينتفع بما سمع". وعزاه في "الدرر" (5/114)
لعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم دون ابن جرير
وقد فسر القرطبي (13/232) هذه الآية بنحو ما سبق عن ابن جرير وكأنه اختصره منه.(13/30)
فثبت من هذه النقول عن كتب التفسير المعتمدة أن الموتى في قبورهم لا يسمعون كالصم إذا ولوا مدبرين وهذا هو الذي فهمته السيدة عائشة رضي الله عنها واشتهر ذلك عنها في كتب السنة وغيرها ونقله المؤلف عنها في عدة مواضع من رسالته فانظر (ص 54 56 58 68 69 71) وفاته هو وغيره أنه هو الذي فهمه عمر رضي الله عنه وغيره من الصحابة لما نادى النبي - صلى الله عليه وسلم - أهل القليب على ما يأتي بيانه قريبا إن شاء الله تعالى.
الدليل الثاني: قوله تعالى: { ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ * إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ } . ]فاطر13 و14[.(13/31)
قلت: فهذه الآية صريحة في نفي السمع عن أولئك الذي كان المشركون يدعونهم من دون الله تعالى وهم موتى الأولياء والصالحين الذين كان المشركون يمثلونهم في تماثيل وأصنام لهم يعبدونهم فيها وليس لذاتها كما يدل على ذلك آية سورة (نوح) عن قومه: { وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً } ففي التفسير المأثور عن ابن عباس وغيره من السلف: أن هؤلاء الخمسة أسماء رجال صالحين من قوم نوح فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم: أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون أنصابا وسموها بأسمائهم ففعلوا فلم تعبد حتى إذا هلك أولئك وتنسخ العلم (أي علم تلك الصور بخصوصها) عبدت. رواه البخاري وغيره. ونحوه قوله تعالى: { وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى } ]الزمر:3[ فإنها صريحة في أن المشركين كانوا يعبدون الصالحين ولذلك اتخذوهم وسائط بينهم وبين الله تعالى قائلين: { مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى } ولاعتقادهم بصلاحهم كانوا ينادونهم ويعبدونهم من دون الله توهما منهم أنهم يسمعون ويضرون وينفعون ومثل هذا الوهم لا يمكن أن يقع فيه أي مشرك مهما كان سخيف العقل لو كان لا يعتقد فيمن يناديه الصلاح والنفع والضر كالحجر العادي مثلا وقد بين هذا العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى فقال في كتابه " إغاثة اللفهان " (2/222 ـــ 223).
"وتلاعب الشيطان بالمشركين في عبادة الأصنام له أسباب عديدة تلاعب بكل قوم على قدر عقولهم.(13/32)
فطائفة دعاهم إلى عبادتها من جهة تعظيم الموتى الذين صوروا تلك الأصنام على صورهم كما تقدم عن قوم نوح عليه السلام ولهذا لعن النبي - صلى الله عليه وسلم - المتخذين على القبور المساجد ونهى عن الصلاة إلى القبور (1).. فأبى المشركون إلا خلافه في ذلك كله إما جهلا وإما عنادا لأهل التوحيد ولم يضرهم ذلك شيئا. وهذا السبب هو الغالب على عوام المشركين.
وأما خواصهم فإنهم اتخذوها ـــ بزعمهم ـــ على صور الكواكب المؤثرة في العالم عندهم وجعلوا لها بيوتا وسدنة وحجابا وحجبا وقربانا ولم يزل هذا في الدنيا قديما وحديثا (ثم بين مواطن بيوت هذه الأصنام وذكر عباد الشمس والقمر وأصنامهم وما اتخذوه من الشرائع حولها ثم قال 2/224):
"فوضع الصنم إنما كان في الأصل على شكل معبود غائب فجعلوا الصنم على شكله وهيأته وصورته ليكون نائبا منابه وقائما مقامه وإلا فمن المعلوم أن عاقلا لا ينحت خشبة أو حجرا بيده ثم يعتقد أنه إلهه ومعبوده".
قلت: ومما يؤيد أن المقصود بقوله في الآية المتقدمة { لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ } إنما هم المعبودون من دون الله أنفسهم وليست ذوات الأصنام تمام الآية: { وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ } والأصنام لا تبعث لأنها جمادات غير مكلفة كما هو معلوم بخلاف العابدين والمعبودين فإنهم جميعا محشورون قال تعالى: { وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْماً بُوراً } .]الفرقان/17-18[ وقال:
__________
(1) 11):انظر كتابي:"تحذير الساجد من اتخاذ القبور مساجد".(13/33)
{ وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ } ]سبأ:40-41[، وهذا كقوله تعالى: { وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ } الآية ]المائدة/116[ وخير ما فسر به القرآن إنما هو القرآن والسنة وليس فيهما- فيما أعلم- ما يدل على أن الله يحشر الجمادات أيضا فوجب الوقوف عند هذه الآية الصريحة فيما ذكرنا.
وقد يقول قائل: إن هذا الذي بينته قوي متين ولكنه يخالف ما جرى عليه كثير من المفسرين في تفسير آية سورة (فاطر) وما في معناها من الآيات الأخرى فقالوا:إن المراد بها الأصنام نفسها وبناء على ذلك عللوا قوله تعالى فيها: { لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ } بقولهم:"لأنها
جمادات لا تضر ولا تنفع".
فأقول: لا شك أنت هذا بظاهره ينافي ما بينت ولكنه لا ينفي أن يكون لهم قول آخر يتماشى مع ما حققته فقال القرطبي (14/336) عقب التعليل المذكور آنفا وتبعه الشوكاني
(4/333) وغيره ما معناه:
"ويجوز أن يرجع { وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ... } وما بعده إلى من يعقل ممن عبدهم الكفار كالملائكة والجن والأنبياء والشياطين والمعنى أنهم يجحدون أن يكون ما فعلتموه حقا وينكرون أنهم أمروكم بعبادتهم كما أخبر عن عيسى عليه السلام بقوله: { مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إ } ". وقد ذكرا نحوه في تفسير آية (الزمر) المتقدمة.(13/34)
قلت: وهو أولى من تفسيرهما السابق لأنه مدعم بالآيات المتقدمة بخلاف تفسيرهما المشار إليه فإنه يستلزم القول بحشر الأصنام ذاتها وهذا مع أنه لا دليل عليه فإنه يخالف الآيات المشار إليها ولهذا قال الشيخ عبد الرحمن ابن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب - رحمهما الله - في كتابه "قرة عيون الموحدين" (ص107-108) في تفسير آيتي (فاطر) ما نصه:
"ابتدأ تعالى هذه الآيات بقوله: { ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ } يخبر الخبير أن الملك له وحده والملوك وجميع الخلق تحت تصرفه وتدبيره ولهذا قال: { وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ } فإن من كانت هذه صفته فلا يجوز أن يرغب في طلب نفع أو دفع ضر إلى أحد سوى الله تعالى وتقدس بل يجب إخلاص الدعاء- الذي هو أعظم أنواع العبادة- له وأخبر تعالى أن ما يدعوه أهل الشرك لا يملك شيئا وأنهم لا يسمعون دعاء من دعاهم ولو فرض أنهم يسمعون فلا يستجيبون لداعيهم وأنهم يوم القيامة يفكرون بشركهم أي ينكرونه ويتبرؤون ممن فعله معهم. فهذا الذي أخبر به الخبير الذي { لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ } وأخبر أن ذلك الدعاء شرك به وأنه لا يغفره لمن لقيه فأهل الشرك ما صدقوا الخبير ولا أطاعوه فيما حكم به وشرع بل قالوا: إن الميت يسمع ومع سماعه ينفع فتركوا الإسلام والإيمان رأسا كما ترى عليه الأكثرين من جهلة هذه الأمة".
فتبين مما تقدم وجه الاستدلال بقوله تعالى: { إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ } على أن الصالحين لا يسمعون بعد موتهم وغيرهم مثلهم بداهة بل ذلك من باب أولى كما لا يخفى فالموتى كلهم إذن لا يسمعون. والله الموفق.
الدليل الثالث: حديث قليب بدر وله روايات مختصرة ومطولة أجتزئ هنا على روايتين منها:
الأولى: حديث ابن عمر قال:(13/35)
"وقف النبي - صلى الله عليه وسلم - على قليب بدر فقال: { هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقا } ؟ ثم قال:
{ إنهم الآن يسمعون ما أقول } فذكر لعائشة فقالت: إنما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: إنهم الآن يعلمون أن الذي كنت أقول لهم هو الحق ثم قرأت: { إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى } حتى قرأت الآية.
أخرجه البخاري (7/242- "فتح الباري") والنسائي (1/693) وأحمد (2/31) من طريق أخرى عن ابن عمر وسيأتي بعضه في الكتاب (ص68-71).
والأخرى: حديث أبي طلحة أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - أمر يوم بدر بأربعة وعشرين رجلا من صناديد قريش فقذفوا في طوي من أطواء بدر خبيث مخبث وكان إذا ظهر على قوم أقام بالعرصة ثلاث ليال فلما كان ببدر اليوم الثالث أمر براحلته فشد عليها رحلها ثم مشى واتبعه أصحابه وقالوا: ما نرى ينطلق إلا لبعض حاجته حتى قام على شفة الركي فجعل يناديهم بأسمائهم وأسماء آبائهم: { يا فلان ابن فلان: ويا فلان ابن فلان أيسركم أنكم أطعتم الله ورسوله فإنا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا فهل وجدتم ما وعدكم ربكم حقا } ؟ قال: فقال عمر: يا رسول الله ما تكلم من أجساد لا أرواح فيها ؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: { والذي نفس محمد بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم } . قال قتادة: أحياهم الله حتى أسمعهم قوله توبيخا وتصغيرا ونقمة وحسرة وندما.
أخرجه الشيخان وغيرهما وقد خرجته في التعليق الآتي (ص54) من الكتاب.
ووجه الاستدلال بهذا الحديث يتضح بملاحظة أمرين:(13/36)
الأول: ما في الرواية الأولى منه من تقييده - صلى الله عليه وسلم - سماع موتى القليب بقوله: { الآن } (1) فإن مفهومه أنهم لا يسمعون في غير هذا الوقت. وهو المطلوب. وهذه فائدة هامة نبه عليها العلامة الآلوسي- والد المؤلف رحمهما الله- في كتابه "روح المعاني" (6/455) ففيه تنبيه قوي على أن الأصل في الموتى أنهم لا يسمعون ولكن أهل القليب في ذلك الوقت قد سمعوا نداء النبي - صلى الله عليه وسلم - وبإسماع الله تعالى إياهم خرقا للعادة ومعجزة للنبي - صلى الله عليه وسلم - كما سيأتي في الكتاب
(ص56-59) عن بعض العلماء الحنفية وغيرهم من المحدثين.
وفي "تفسير القرطبي" (13/232): "قال ابن عطية(2): فيشبه أن قصة بدر خرق عادة لمحمد - صلى الله عليه وسلم - في أن رد الله إليهم إدراكا سمعوا به مقاله ولولا إخبار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بسماعهم لحملنا نداءه إياهم على معنى التوبيخ لمن بي من الكفرة وعلى معنى شفاء صدور المؤمنين".
قلت: ولذلك أورده الخطيب التبريزي في "باب المعجزات" من "المشكاة" (ج 3رقم5938 - بتخريجي).
والآمر الآخر: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أقر عمر وغيره من الصحابة على ما كان مستقرا في نفوسهم واعتقادهم أن الموتى لا يسمعون بعضهم أومأ إلى ذلك إيماء وبعضهم ذكر صراحة لكن الأمر بحاجة إلى توضيح فأقول:
__________
(1) 12):ولها شاهد صحيح في حديث عائشة الآتي (ص 70) عند المؤلف رحمه الله تعالى.
(2) 13):هو عبد الحق بن غالب بن عطية المحاربي الغرناطي مفسر فقيه أندلسي عارف بالأحكام والحديث. توفي سنة (542) له "المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز" طبع منه جزءان في المغرب. ثم علمت الآن وأنا في زيارة = = = = الدوحة ـــ قطر (أوائل ربيع الأول سنة 1401 ه) من فضيلة الشيخ عبد الله الأنصاري أنه يقوم بطبع الكتاب طبعة جديدة وقد تم حتى اليوم. طبع أربع مجلدات منه يسر الله تمامه.(13/37)
أما الإيماء فهو في مبادرة الصحابة لما سمعوا نداءه - صلى الله عليه وسلم - لموتى القليب بقولهم:"ما تكلم أجسادا لا أرواح فيها ؟" فإن في رواية أخرى عن أنس نحوه بلفظ "قالوا" بدل:"قال عمر" كما سيأتي في الكتاب (ص71-73) فلولا أنهم كانوا على علم بذلك سابق تلقوه منه - صلى الله عليه وسلم -
ما كان لهم أن يبادروه بذلك. وهب أنهم تسرعوا وأنكروا بغير علم سابق فواجب التبليغ حينئذ يوجب على النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يبين لهم أن اعتقادهم هذا خطأ وأنه لا أصل له في الشرع
ولم نر في شيء من روايات الحديث مثل هذا البيان وغاية ما قال لهم: { ما أنتم بأسمع لما أقول منهم } . وهذا- كما ترى- ليس فيه تأسيس قاعدة عامة بالنسبة للموتى جميعا تخالف اعتقادهم السابق وإنما هو إخبار عن أهل القليب خاصة على أنه ليس ذلك على إطلاقه بالنسبة إليهم أيضا إذا تذكرت رواية ابن عمر التي فيها { إنهم الآن يسمعون } كما تقدم شرحه فسماعهم إذن خاص بذلك الوقت وبما قال لهم النبي - صلى الله عليه وسلم - فقط فهي واقعة عين لا عموم لها فلا تدل على أنهم يسمعون دائما وأبدا وكل ما يقال لهم كما لا تشمل غيرهم من الموتى مطلقا وهذا واضح إن شاء الله تعالى. ويزيده ووضوحا ما يأتي.
وأما الصراحة فهي فيما رواه أحمد (3/287) من حديث أنس رضي الله عنه قال: ".... فسمع عمر صوته فقال: يا رسول الله أتناديهم بعد ثلاث ؟ وهل يسمعون ؟ يقول الله عز وجل: { إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى } فقال: { والذي نفسي بيده ما أنتم بأسمع ]لما أقول[(13/38)
منهم ولكنهم لا يستطيعون أن يجيبوا } . وسنده صحيح على شرط مسلم(1). فقد صرح عمر رضي الله عنه أن الآية المذكورة هي العمدة في تلك المبادرة وأنهم فهموا من عمومها دخول أهل القليب فيه ولذلك أشكل عليهم الأمر فصارحوا النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك ليزيل إشكالهم ؟ وكان ذلك ببيانه المتقدم.
ومنه يتضح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أقر الصحابة - وفي مقدمتهم عمر- على فهمهم للآية على ذلك الوجه العام الشامل لموتى القليب وغيرهم لأنه لم ينكره عليهم ولا قال لهم: أخطأتم فالآية
لا تنفي مطلقا سماع الموتى بل إنه أقرهم على ذلك الوجه العام الشامل لموتى القليب وغيرهم لأنه لم ينكره عليهم ولا قال لهم: أخطأتم فالآية لا تنفي مطلقا سماع الموتى بل إنه أقرهم على ذلك ولكن بين لهم ما كان خافيا من شأن القليب وأنهم سمعوا كلامه حقا وأن ذلك أمر مستثنى من الآية معجزة له - صلى الله عليه وسلم - كما سبق.
هذا وإن مما يحسن التنبيه عليه وإرشاد الأريب إليه أن استدلال عائشة المتقدم بالآية يشبه تماما استدلال عمر بها فلا وجه لتخطئتها اليوم بعد تبين إقرار النبي - صلى الله عليه وسلم - لعمر عليه اللهم إلا في ردها على ابن عمر في روايته لقصة القليب بلفظ السماع وتوهيمها إياه فقد تبين من اتفاق جماعة من الصحابة على روايتها كروايته هو أنها هي الواهمة وإن كان من الممكن الجمع بين روايتهم وروايتها كما سيأتي بيانه في التعليق على "الرسالة" (ص7-8) فخطؤها ليس في
الاستدلال بالآية وإنما في خفاء القصة عليها على حقيقتها ولولا ذلك لكان موقفها موقف
__________
(1) 14):وأصله عنده (8/163- 164) والزيادة له وهو رواية لأحمد (3/219-220) والحديث عزاه في "الدر" (5/157) لمسلم وابن مردويه وكأنه يعني أن أصله لمسلم وسياقه لابن مردويه ولا يخفى ما فيه من إيهام وتقصير !!(13/39)
سائر الصحابة منها ألا وهو الموقف الجازم بها على ما أخبر به النبي - صلى الله عليه وسلم - واعتبارها مستثناة من الآية.
فتنبه لهذا واعلم أن من الفقه الدقيق الاعتناء بتتبع ما أقره النبي - صلى الله عليه وسلم - من الأمور والاحتجاج به لأن إقراره - صلى الله عليه وسلم - حق كما هو معلوم وإلا فبدون ذلك قد يضل الفهم عن الصواب في كثير من النصوص. ولا نذهب بك بعيدا فهذا هو الشاهد بين يديك فقد اعتاد كثير من المؤلفين وغيرهم أن يستدلوا بهذا الحديث- حديث القليب- على أن الموتى يسمعون متمسكين بظاهر قوله - صلى الله عليه وسلم -: { ما أنتم بأسمع لما أقول منهم } غير منتبهين لإقراره - صلى الله عليه وسلم - الصحابة على اعتقادهم بأن الموتى لا يسمعون وأنه لم يرده عليهم إلا باستثناء أهل القليب منه معجزة له - صلى الله عليه وسلم - فعاد الحديث بالتنبه لما ذكرنا حجة على أن الموتى لا يسمعون وأن هذا هو الأصل فلا يجوز الخروج عنه إلا بنص كما هو الشأن في كل نص عام. والله تعالى الموفق.
وقد يجد الباحث من هذا النوع أمثلة كثيرة ولعله من المفيد أن أذكر هنا ما يحضرني الآن من ذلك وهما مثالان:
الأول: حديث جابر عن أم مبشر رضي الله عنهما أنها سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول عنه حفصة: { لا يدخل النار إن شاء الله من أصحاب الشجرة أحد من الذين بايعوا تحتها } . قالت: بلى يا رسول الله فانتهرها.فقالت حفصة: { وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا } فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -:
{ قد قال الله عز وجل: { ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً } } .
رواه مسلم وغيره وهو مخرج في "الصحيحة" (2160) و"تخريج السنة" (860- طبع المكتب الإسلامي).
أقول: ففي استدلال السيدة حفصة رضي الله عنها بآية الورود دليل على أنها فهمت(13/40)
(الورود) بمعنى الدخول وأنه عام لجميع الناس الصالح والطالح منهم ولذلك أشكل عليها نفي النبي - صلى الله عليه وسلم - دخول النار في حق أصحاب الشجرة فأزال - صلى الله عليه وسلم - إشكالها بأن ذكرها بتمام الآية:
{ ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا } ففيه أنه - صلى الله عليه وسلم - أقرها على فهمها المذكور وأنه على ذلك أجابها بما خلاصته أن الدخول المنفي في الحديث هو غير الدخول المثبت في الآية وأن الأول خاص بالصالحين ومنهم أهل الشجرة والمراد به نفي العذاب أي أنهم يدخلونها مرورا إلى الجنة دون أن تمسهم بعذاب. والدخول الآخر عام لجميع الناس ثم هم فريقان:منهم من تمسه بعذاب ومنهم على خلاف ذلك وهذا ما وضحته الآية نفسها في تمامها وراجع لهذا "مبارق الأزهار" (1/250) و"مرقاة المفاتيح" (5/621-632).
قلت: فاستفدنا من الإقرار المذكور حكما لولاه لم نهتد إلى وجه الصواب في الآية وهو أن الورود فيها بمعنى الدخول وأنه لجميع الناس ولكنها بالنسبة للصالحين لا تضرهم بل تكون عليهم بردا وسلاما كما كانت على إبراهيم وقد روي هذا صراحة مرفوعا في حديث آخر لجابر لكن استغربه الحافظ ابن كثير وبينت علته في "الأحاديث الضعيفة" (4761). لكن حديثه هذا عن أم مبشر يدل على صحة معناه وقد مال إليه العلامة الشوكاني في تفسيره للآية (3/333) واستظهره من قبله القرطبي (11/138-139) وهو المعتمد.
والآخر: حديث "الصحيحين" والسياق للبخاري نقلا من "مختصر البخاري" بقلمي لأنه أتم جمعت فيه فوائده وزوائده من مختلف مواضعه قالت عائشة:(13/41)
"دخل علي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعندي جاريتان ]من جواري الأنصار 3/3[(وفي رواية: قينتان 4/266)]في أيام منى تدففان وتضربان 4/161[ تغنيان بغناء (وفي رواية: بما تقاولت (وفي أخرى تقاذفت) الأنصار يوم) بعاث(1). ]وليستا بمغنيتين[، فاضطجع على الفراش، وحول وجهه ودخل أبو بكر ]والنبي - صلى الله عليه وسلم - متغش بثوبه 2/11[ فانتهرني (وفي رواية: فانتهرهما) وقال: مزمارة (وفي رواية: مزمار) الشيطان عند (وفي رواية: أمزامير الشيطان في بيت) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ](مرتين)[؟ فأقبل عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (وفي رواية: فكشف النبي - صلى الله عليه وسلم - عن وجهه) فقال:"دعهما]يا أبا بكر ! ] فـ[ إن لكل قوم عيداً، وهذا عيدنا[". فلما غفل غمزتهما فخرجتا". (رقم 508 من "المختصر").
__________
(1) 15):بالصرف وعدمه وهو اسم حصن وقعت الحرب عنده بين الأوس والخزرج قبل الهجرة بثلاث سنين.(13/42)
قلت: فنجد في هذا الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم ينكر قول أبي بكر الصديق في الغناء بالدف أنه "مزمار الشيطان" ولا نهره لابنته أو للجاريتين بل أقره على ذلك فدل إقراره إياه على أن ذلك معروف وليس بمنكر فمن أين جاء أبو بكر بذلك؟ الجواب: جاء به من تعاليم النبي - صلى الله عليه وسلم - وأحاديثه الكثيرة في تحريم الغناء وآلات الطرب وقد ذكر طائفة منها العلامة ابن قيم الجوزية في كتابه "إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان" (1/258-267) وخرجت بعضها في "الصحيحة"(91) و"المشكاة" (3652) ولولا علم أبي بكر بذلك وكونه على بينة من الأمر ما كان له أن يتقدم بين يدي النبي - صلى الله عليه وسلم - وفي بيته بمثل هذا الإنكار الشديد غير أنه كان خافيا عليه أن هذا الذي أنكره يجوز في يوم عيد فبينه له النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: { دعهما يا أبا بكر فإن لكل قوم عيدا وهذا عيدنا } فبقي إنكار أبي بكر العام مسلما به لإقراره - صلى الله عليه وسلم - إياه ولكنه استثنى منه الغناء في العيد فهو مباح بالمواصفات الواردة في هذا الحديث.
فتبين أنه - صلى الله عليه وسلم - كما أقر عمر على استنكاره سماع الموتى كذلك أقر أبا بكر على استنكاره مزمار الشيطان وكما أنه أدخل على الأول تخصيصا كذلك أدخل على قول أبي بكر هذا تخصيصا اقتضى إباحة الغناء المذكور في يوم العيد ومن غفل عن ملاحظة الإقرار الذي بينا أخذ من الحديث الإباحة في كل الأيام كما يحلو ذلك لبعض الكتاب المعاصرين وسلفهم فيه ابن حزم فإنه استدل به على الإباحة مطلقا جمودا منه على الظاهر فإنه قال في رسالته في الملاهي (ص98-99):
"وقد سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قول أبي بكر:"مزمار الشيطان" فأنكر عليه ولم ينكر على الجاريتين غناءهما".
والواقع أنه ليس في كل روايات الحديث الإنكار المذكور وإنما فيه قوله - صلى الله عليه وسلم - لأبي بكر:(13/43)
{ دعهما... } وفرق كبير بين الأمرين فإن الإنكار الأول لو وقع لشمل الآخر ولا عكس كما هو ظاهر بل نقول زيادة على ذلك: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - أقر قول أبي بكر المذكور كما سبق بيانه، وقد قال ابن القيم في "إغاثة اللهفان" بعد أن ذكر الحديث (1/257):
"فلم ينكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أبي بكر تسميته الغناء مزمار الشيطان وأقرهما لأنهما جاريتان غير مكلفتين تغنيان بغناء الأعراب الذي قيل في يوم حرب بعاث من الشجاعة والحرب وكان اليوم يوم عيد".
وأما أنه - صلى الله عليه وسلم - لم ينكر على الجاريتين فحق ولكن كان ذلك في يوم عيد فلا يشمل غيره أولا.
وثانيا: لما أمر - صلى الله عليه وسلم - أبا بكر بأن لا ينكر عليهما بقوله: { دعهما } أتبع ذلك بقوله: { فإن لكل قوم عبدا... } فهذه جملة تعليلية تدل على أن علة الإباحة هي العيدية إذا صح التعبير ومن المعلوم أن العلة تدور مع المعلول وجودا وعدما فإذا انتفت هذه العلة بأن لم يكن يوم عيد لم يبح الغناء فيه كما هو ظاهر ولكن ابن حزم لعله لا يقول بدليل العلة كما عرف عنه أنه لا يقول بدليل الخطاب وقد رد عليه العلماء ولا سيما شيخ الإسلام ابن تيمية في غير
ما موضع من "مجموع الفتاوى" فراجع المجلد الثاني من "فهرسه".(13/44)
لقد طال الكلام على حديث عائشة في سماع الغناء ولا بأس من ذلك إن شاء الله تعالى فإن الشاهد منه واضح ومهم وهو أن ملاحظة طالب العلم إقرار النبي - صلى الله عليه وسلم - لأمر ما يفتح عليه بابا من الفقه والفهم ما كان ليصل إليه بدونها. وهكذا كان الأمر في حديث القليب فقد تبين بما سبق أنه دليل صريح على أن الموتى لا يسمعون وذلك من ملاحظتنا إقرار النبي - صلى الله عليه وسلم - لاستنكار عمر سماعهم واستدلاله عليه بالآية { إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى } فلا يجوز لأحد بعد هذا أن يلتفت إلى أقوال المخالفين القائلين بأن الموتى يسمعون فإنه خلاف القرآن الذي بينه الرسول - صلى الله عليه وسلم -.
الدليل الرابع: قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: { إن لله ملائكة سياحين في الأرض يبلغوني عن أمتي
السلام } (1).
أقول: ووجه الاستدلال به أنه صريح في أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يسمع سلام المسلمين عليه إذ لو كان يسمعه بنفسه لما كان بحاجة إلى من يبلغه إليه كما هو ظاهر لا يخفى على أحد إن شاء الله تعالى. وإذا كان الأمر كذلك فبالأولى أنه - صلى الله عليه وسلم - لا يسمع غير السلام من الكلام وإذا كان كذلك فلأن لا يسمع السلام غيره من الموتى أولى وأحرى.
ثم إن الحديث مطلق يشمل حتى من سلم عليه - صلى الله عليه وسلم - عند قبره ولا دليل يصرح بالتفريق بينه وبين من صلى عليه بعيدا عنه والحديث المروي في ذلك موضوع كما سيأتي بيانه في التعليق (ص80).
وهذا الاستدلال لم أره لأحد قبلي فإذا كان صوابا- كما أرجو - فهو فضل من الله ونعمة وإن كان خطأ فهو من نفسي والله تعالى أسأل أن يغفره لي وسائر ذنوبي.
أدلة المخالفين: فإن قيل: يظهر من النقول التي ستأتي في الرسالة عن العلماء أن المسألة خلافية فلا بد أن المخالفين فيها أدلة استندوا إليها.
__________
(1) 16):وهو حديث صحيح انظر التعليق الآتي (ص80).(13/45)
فأقول: لم أر فيها من صرح بأن الميت يسمع سماعا مطلقا عاما كما كان شأنه في حياته
ولا أظن عالما يقول به وإنما رأيت بعضهم يستدل بأدلة يثبت بها سماعا لهم في الجملة وأقوى ما استدلوا به سندا حديثان:
الأول: حديث قليب بدر المتقدم وقد عرفت مما سبق بيانه أنه خاص بأهل القليب من جهة وأنه دليل على أن الأصل في الموتى أنهم لا يسمعون من جهة أخرى وأن سماعهم كان خرقا للعادة فلا داعي للإعادة.
والآخر:حديث: { إن الميت ليسمع قرع نعالهم إذا انصرفوا } . وفي رواية { إن العبد إذا وضع في قبره وتولى عنه أصحابه وإنه ليسمع قرع نعالهم أتاه ملكان... } الحديث (انظر ص55،56،57،82) من "الآيات".
وهذا كما ترى خاص بوقت وضعه في قبره ومجيء الملكين إليه لسؤاله فلا عموم فيه وعلى ذلك حمله العلماء كابن الهمام وغيره كما سيأتي في "الآيات" (ص56،59،73).
ولهم من هذا النوع أدلة أخرى ولكن لا تصح أسانيدها وفي أحدها التصريح بأن الموتى يسمعون السلام عليهم من الزائر وسائرها ليس في السماع وبعضها خاص بشهداء أحد وكلها ضعيفة وبعضها أشد ضعفا من بعض كما ستراه في التعليق (ص69).
وأغرب ما رأيت لهم من الأدلة قول ابن القيم رحمه الله في "الروح" (ص8) تحت المسألة الأولى: هل تعرف الأموات زيارة الأحياء وسلامهم أم لا؟ فأجاب بكلام طويل جاء فيه
ما نصه:"ويكفي في هذا تسمية المسلم عليهم زائرا ولولا أنهم يشعرون به لما صح تسميته زائرا فإن المزور إن لم يعلم بزيارة من زاره لم يصح أن يقال: زاره هذا هو المعقول من الزيارة عند جميع الأمم وكذلك السلام عليهم أيضا فإن السلام على من لا يشعر ولا يعلم بالمسلم محال وقد علم النبي - صلى الله عليه وسلم - أمته إذا زاروا القبور أن يقولوا: سلام عليكم أهل الديار.... " وهذا السلام والخطاب والنداء لموجود يسمع ويخاطب ويعقل ويرد وإن لم يسمع المسلم الرد".
أقول وبالله تعالى التوفيق:(13/46)
رحم الله ابن القيم فما كان أغناه من الدخول في مثل هذا الاستدلال العقلي الذي لا مجال له في أمر غيبي كهذا فوالله لو أن ناقلا نقل هذا الكلام عنه ولم أقف أنا بنفسي عليه لما صدقته لغرابته وبعده عن الأصول العلمية والقواعد السلفية التي تعلمناها منه ومن شيخه الإمام ابن تيمية فهو أشبه شيء بكلام الآرائيين والقياسيين الذين يقيسون الغائب على الشاهد والخالق على المخلوق وهو قياس باطل فاسد طالما رد ابن القيم أمثاله على أهل الكلام والبدع ولهذا وغيره فإني في شك كبير من صحة نسبة "الروح" إليه أو لعله ألفه في أول طلبه للعلم. والله أعلم.
ثم إن كلامه مردود في شطريه بأمرين:
الأول: ما ثبت في "الصحيح" أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يزور البيت في الحج وأنه كان وهو في المدينة يزور قباء راكبا وماشيا ومن المعلوم تسمية طواف الإفاضة بطواف الزيارة. فهل من أحد يقول: بأن البيت وقباء يشعر كل منهما بزيارة الزائر أو أنه يعلم بزيارته؟
وأما الآخر: فهو مخاطبة الصحابة للنبي - صلى الله عليه وسلم - في تشهد الصلاة بقولهم:"السلام عليكم أيها النبي..." وهم خلفه قريبا منه وبعيدا عنه في مسجده وفي غير مسجده أفيقال: إنه كان يسمعهم ويشعر بهم حين يخاطبونه به وإلا فالسلام عليه محال؟ اللهم غفرا. وانظر التعليق الآتي على الصفحة (95-96).
وإذا كان لا يسمع هذا الخطاب في قيد حياته أفيسمعه بعد وفاته وهو في الرفيق الأعلى
لا سيما وقد ثبت أنه يبلغه ولا يسمعه كما سبق بيانه في الدليل الرابع (ص36)؟
ويكفي في رد ذلك أن يقال:إنه استدلال مبني على الاستنباط والنظر فمثله قد يمكن(13/47)
الاعتداد به إذا لم يكن مخالفا للنص والأثر فكيف وهو مخالف لنصوص عدة واحد منها فقط فيه كفاية وغنية كما سلف وبخاصة منها حديث قليب بدر وفيه إقرار النبي - صلى الله عليه وسلم - لعمر أن الموتى لا يسمعون فلا قيمة إذن للاستنباط المذكور فإن الأمر كما قيل:"إذا جاء الأثر بطل النظر وإذا جاء نهر الله بطل نهر معقل".
وقد يتساءل القارئ - بعد هذا- عن وجه مخاطبة الموتى بالسلام وهم لا يسمعونه؟ وفي الإجابة عنه أحيل القارئ إلى ما ذكر المؤلف رحمه الله تعالى فيما يأتي من الرسالة وما علقته عليها (ص95- 96) فإن في ذلك كفاية وغنية عن الإعادة.
وخلاصة البحث والتحقيق: أن الأدلة من الكتاب والسنة وأقوال أئمة الحنفية وغيرهم
- كما ستراه في الكتاب مبسوطا- على أن الموتى لا يسمعون وأن هذا هو الأصل فإذا ثبت أنهم يسمعون في بعض الأحوال كما في حديث خفق النعال أو أن بعضهم سمع في وقت ما كما في حديث القليب فلا ينبغي أن يجعل ذلك أصلا فيقال إن الموتى يسمعون كما فعل بعضهم(1) كلا فإنها قضايا جزئية لا تشكل قاعدة كلية يعارض بها الأصل المذكور بل الحق أنه يجب أن تستثني منه على قاعدة استثناء الأقل من الأثر أو الخاص من العام كما هو المقرر في علم أصول الفقه ولذلك قال العلامة الآلوسي في "روح المعاني" بعد بحث مستفيض في هذه المسألة (6/455):"والحق أن الموتى يسمعون في الجملة فيقتصر على القول بسماع ما ورد السمع بسماعه".
وهذا مذهب طوائف من أهل العلم كما قال الحافظ ابن جرب الحنبلي على ما سيأتي
في الرسالة (ص70).
وما أحسن ما قاله ابن التين رحمه الله:"إن الموتى لا يسمعون بلا شك لكن إذا أراد الله تعالى إسماع ما ليس من شأنه السماع لم يمتنع لقوله تعالى: { إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ } الآية وقوله: { فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً } الآية.كما نقله المؤلف فيما يأتي (ص72).
__________
(1) 17):انظر "الأضواء"(6/425).(13/48)
فإذا علمت أيها القارئ الكريم أن الموتى لا يسمعون فقد تبين أنه لم يبق هناك مجال لمناداتهم من دون الله تعالى ولو بطلب ما كانوا قادرين عليه وهم أحياء كما تقدم بيانه في(ص16-21) بحكم كونهم لا يسمعون النداء وأن مناداة من كان كذلك والطلب منه سخافة في العقل وضلال في الدين وصدق الله العظيم القائل في كتابه الكريم: { وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ * وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ } . ]الأحقاف:5- 6[.
هذا ولما كان الواقع يشهد أنه لا يزال في هؤلاء المبتلين بنداء الموتى والاستغاثة بهم من دون الله تعالى من يرجو الدار الآخرة ويحرص على معرفة الحق واتباعه إذا تبين له اقتطعت من وقتي الضيق ما مكنني من التعليق على هذه الرسالة النافعة إن شاء الله تعالى وتحقيقها وتخريج أحاديثها ووضع هذه المقدمة بين يديها راجيا من المولى سبحانه وتعالى أن ينفع بها المخلصين من المسلمين ويجعلنا وإياهم من { الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ } . ]الزمر:18[.
دمشق 15 جمادى الأولى سنة 1398 هـ
وكتب/ محمد ناصر الدين الألباني
ترجمة المؤلف(1):
هو السيد الشريف نعمان خير الدين أبو البركات نجل العلامة المفسر السيد شهاب الدين محمود، ابن السيد عبد الله الألوسي البغدادي، ينتهي نسبه من جهة الأب إلى الحسين، ومن جهة الأم إلى الحسن رضي الله عنهما، من طريق الشيخ السيد عبد القادر الجيلاني رحمه الله تعالى.
__________
(1) * لخصتها من "التاج المكلل"، للعلامة صديق حسن خان، و"مجلة المنار" للسيد رشيد رضا و"الأعلام" للأستاذ الزركلي، و"أعلام العراق" للأستاذ الأثري محمد بهجت.(13/49)
ولد رحمه الله في محرم سنة (1252هـ) في أرض التعصب الأعمى والجمود الذميم، قال الأثري:(ولكنه نشأ بفطرته حر الضمير، نير البصيرة، ورُبي على الآداب الإسلامية الفاضلة، ولولا أن يتيح الله من ينمي فيه قوة الاستعداد، ويربي في الجملة ملكة الاستقلال فيه، (وهو أبوه، وتلميذه العالم السلفي السيد أمين الواعظ) لغلبة جمود البيئة، واستحواذ عليه الخمول، على أنه لم يسلم من العدوى كل السلامة، فظهر في بعض مؤلفاته:"غالية المواعظ" و"الإصابة في منع النساء من الكتابة"، ولكن حسب من نشأ في هذه البلاد في تلك الأيام الحالكة فخراً أن يكون مثل السيد نعمان في استقلاله واعتداله، وجرأته على الدعوة ومجاهدة فريق الجمود والتقليد).
تولى في شبابه القضاء، في بلاد متعددة، سار فيها سيرة حميدة، ثم ترك المناصب، وتفرغ للتدريس والتأليف،وزار مصر في طريقه إلى الحج، وقصد الآستانة (استانبول)سنة (1300هـ) ومكث سنتين، ثم عاد يحمل لقب "رئيس المدرسين"، فعكف على التدريس، إلى أن مات.
وله آثار نافعة، أجلها "جلاء العينين في محاكمة الأحمدين"، يعني الإمام شيخ الإسلام أحمد بن تيمية، والفقيه أحمد بن حجر الهيتمي الفقيه الشافعي، وقد وصفه العلامة السيد صديق حسن خان بقوله:
وهو (كتاب جليل المقدار، مفيد الأحرار، يعز له مثيل، بل لا يُلفى له بديل).
وكانت بينه وبين السيد صديق مراسلات ومفاوضات، وله منه إجازة.(13/50)
وكان رحمه الله جوزيَّ زمانه في الوعظ والتذكير، فكان في كل سنة يجلس في شهر رمضان للوعظ في أحد المساجد الواسعة، فيقصد من أطراف البلد، حتى يغص المكان بالمستمعين، فاتفق له في (رمضان سنة 1305) أن استطرد في مجلس من مجالسه بحث سماع الموتى، فذكر ما قاله الحنفية في كتبهم الفقهية، من عدم سماع الموتى كلام الأحياء، فقام حشوية بغداد وقعدوا، وأنكروا عليه هذا العزو، وأثاروا أفراد الجهلة - كما هي عادتهم في كل زمان ومكان - وكادت تقع فتنة تسود وجه التاريخ، ولكنه بدهائه وحلمه سكن ثائرتهم، فجمع في اليوم الثاني كل ما لديه من كتب المذاهب الأربعة، وارتقى كرسي الوعظ - وقد احتشدت الجموع – فأعاد البحث، وصدع بالبيان، ثم أخذ يتناول كتاباً كتاباً، فيتلو نصوص العلماء، ثم يرمي بها إلى المستمعين ويصرخ: هؤلاء علماؤكم، فإن كنتم في ريب منهم فدونكموهم وناقشوهم الحساب! حتى إذا فرغ، نهض واخترق الجموع الثائرة، غير وجل ولا هياب فأقبلوا عليه يقبلون يديه، ويعتذرون إليه من قيامهم بتحريك المرجفين من فريق المقلدة والجامدين، فكان ذلك سبب تأليفه لهذه الرسالة، وقد أشار إلى ذلك في مقدمتها.
وهكذا أمضى عمره بالتدريس والوعظ والتأليف، إلى أن جاءه اليقين صبيحة الأربعاء السابع من المحرم سنة 1317هـ، رحمه الله.
الآيات البينات
في عدم سماع الأموات
عند الحنفية السادات
تأليف
العلامة نعمان ابن المفسر الشهير محمود الآلوسي
الحمد لله محيي الأموات ومعيد الرفات ومجازيهم على المعاصي ومثيبهم على الطاعات والسامع من الداعين خفي الأصوات الذي لا يخفى عليه شيء في الأرضين والسموات.
والصلاة والسلام على من كان تكليم الجماد له إحدى المعجزات وعلى آله وصحبه أصحاب الكرامات الباهرات.(13/51)
أما بعد: فإني في شهر رمضان عام خمس وثلثمائة وألف من هجرة من أنزل عليه القرآن تفصيلا لكل شئ وتبيانا ذكرت في مجلس درسي العام ما قالته الأئمة الأحناف الأعلام في كتبهم الفقهية وأحكامهم الشرعية من عدم سماع الموتى كلام الأحياء وأن من خلف لا يكلم زيدا فكلمه وهو ميت لا يحنث وعليه فتوى العلماء فأشاع بعض من انتسب إلى العلم من غير إدراك لما حرروه ولا فهم أن هذا العزو غير صحيح وأنه قول منكر مغاير للشرع الرجيح وأنه لم يعتقد ذلك أحد من أصحاب الإمام أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد فاتبعه أتباع كل ناعق من أفراد الجهلة والعوام والمرجفون في مدينة السلام فأحببت للنصيحة في الدين ولتبيان ما أتى في الكتاب المبين وتعليم إخواني المسلمين أن أجمع في هذه الرسالة أقوال أصحابنا الأحناف وما قاله غيرهم من الأئمة والفقهاء الأشراف وأن أحرر ما قالوه وأنقل من كتبهم ما سطروه بعباراتهم المفصلة ونصوصهم المطولة وأدلتهم المحبرة وأجوبتهم المحررة ليتضح للعامة ما جهلوه ويظهر للمعاندين صواب ما أخطأوه ورتبتها على ثلاثة فصول وخاتمة جامعة إن شاء الله تعالى:للمعقول والمنقول وللنزاع حاسمة وسميتها: "الآيات البينات في عدم سماع الأموات عند الحنفية السادات".
والله سبحانه المسئول أن يوفقنا للصواب ويرزقنا استماع الحق واتباعه في المبدأ والمآب.
الفصل الأول
في نقل كلام الأئمة الحنفية في ذلك
قال العلامة الحصكفي(1) الحنفي في كتابه الشهير ب "الدر المختار شرح تنوير الأبصار" في "باب اليمين في الضرب والقتل وغير ذلك" (2) ما لفظه:
__________
(1) 18):بفتح الحاء والصاد المهملتين والكاف نسبة إلى (حصن كيفا) بلدة على الدجلة وهو محمد ابن علي بن محمد الحصني المعروف بعلاء الدين الحصكفي مفتي الحنفية بدمشق ولد فيها سنة (1025) وتوفي سنة (1088).
(2) 19):(ج3 ص179-180 من " رد المحتار على الدر المختار ").(13/52)
"(ما شارك الميت فيه الحي يقع اليمين فيه على الحالتين): الموت والحياة (وما اختص بحالة الحياة) وهو كل فعل يلذ (1) ويؤلم ويغم ويسر كشتم وتقبيل (تقيد بها) ثم فرع عليه:(فلو قال:إن ضربتك أو كسوتك أو كلمتك أو دخلت عليك أو قبلتك تقيد) كل منها (بالحياة) حتى لو علق بها طلاقا أو عتقا لم يحنث بفعلها في ميت (بخلاف الغسل والحمل والمس وإلباس الثوب) كحلفه: لا يغسله أو لا يحمله لا تتقيد بالحياة ".انتهى.
وقال محشيه العلامة الطحطاوي (2) ما لفظه:
(قوله:(أو كلمتك) إنما تقيد بالحياة لأن المقصود من الكلام الإفهام والموت ينافيه لأن الميت لا يسمع ولا يفهم. وأورد أنه عليه الصلاة والسلام قال لأهل القليب قليب بدر: { هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقا } ؟ فقال عمر: يا رسول الله ما تكلم من أجساد لا أرواح فيها؟
فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: { والذي نفسي بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم } (3).
__________
(1) 20):بضم الياء وكسر اللام ليناسب ما بعده أي يحصل اللذة والألم. كذا في "حاشية الطحطاوي على الدر".
(2) 21):يعني في "الحاشية على الدر المختار"(2/381-382) و(الطحطاوي) نسبة إلى (طحطا) وربما قيل (طهطا) قرية بالقرب من (أسيوط) بمصر وهو أحمد بن محمد بن إسماعيل فقيه حنفي من فضلاء عصره وقد اشتهر بكتابه المذكور مات سنة 1231.
(3) 22):أخرجه البخاري في "المغازي" (7/240-241- فتح) ومسلم (8/164) وأحمد (4/29) من طريق قتادة قال:ذكر لنا أنس بن مالك عن أبي طلحة أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم -.. فذكر الحديث بأتم مما هنا وزيادة:"قال قتادة:أحياهم الله حتى اسمعهم قوله توبيخا وتصغيرا ونقمة وحسرة وندما".(13/53)
وأجيب عنه بأنه غير ثابت يعني من جهة المعنى وإلا فهو في الصحيح(1) وذلك أن عائشة رضي اللهتعالى عنها ردته بقوله تعالى: { وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ } و { إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى } .وقوله:"من جهة المعنى"ينظر ما المراد به؟ فإن ظاهره يقتضي ورود اللفظ من الشارع - صلى الله عليه وسلم - وأن المعنى لا يستقيم وفيه ما فيه (2).
__________
(1) 23):هذا الجواب مردود فإن الحديث صحيح المعنى والمبنى كما يأتي بيانه قريبا.
(2) 24):قلت:وذلك أنه لا يعقل أن يقول المسلم بأن اللفظ المذكور قد قاله الرسول - صلى الله عليه وسلم - ومع ذلك فمعناه لا يستقيم وإنما لعل المراد من الجواب المذكور أن الحديث صحيح الإسناد لكنه غير صحيح المعنى إذ أنه من المقرر في علم مصطلح الحديث أن صحة الإسناد لا يستلزم صحة المتن لعلة فيه خفية أو شذوذ من أحد رواته ولذلك ردته السيدة عائشة وصرحت بتوهيم راويه عبد الله بن عمر رضي الله عنه كما سيأتي في الكتاب (ص 6،71) وحينئذ فالتعبير العلمي الصحيح أن يعبر عن وجهة نظرها بغير ما جاء في الجواب المشار إليه كأن يقال:إن الحديث عندها شاذ متنا صحيح سندا غير أن رد عائشة لحديث ابن عمر وتوهيمها إياه مردود بمتابعة جمع من الصحابة له خرج أحاديثهم الحافظ في "الفتح" (7/242) ومنهم أبو طلحة الأنصاري وقد خرجت حديثه آنفا ولذلك فالجواب المذكور لا قيمة له - ولو زين لفظه - من الناحية الحديثية بل إنه لو ذهب ذاهب إلى تخطئتها هي في روايتها لكان ذلك قريبا من الصواب لمخالفتها لجماعة الأصحاب لكن الجمع بين حديثها وحديثهم تمكن بأن يقال:إنه - صلى الله عليه وسلم - أتيت لأهل القليب حين ناداهم السمع والعلم معا فلا تعارض وهو الذي ذهب إليه الحافظ. والله أعلم.(13/54)
وأجيب أيضا بأنه إنما قاله عليه الصلاة والسلام على وجه الموعظة للأحياء لا لإفهام الموتى كما روي عن علي رضي الله تعالى عنه أنه قال:"السلام عليكم دار قوم مؤمنين أما نساؤكم فنكحت وأما أموالكم فقسمت وأما دوركم فقد سكنت فهذا خبركم
عندنا فما خبرنا عندكم ؟"(1).
ويرده أن بعض الأموات رد عليه بقوله:"الجلود تمزقت والأحداق قد سالت ما قدمنا
ما لقينا وما أكلنا ربحنا وما خلفنا خسرنا"(2). أو كلاما هذا كما في بعض شراح
"الجامع الصغير" وأيضا ورد عنه عليه الصلاة والسلام: { إن الميت ليسمع خفق نعالهم إذا
انصرفوا } (3)."كمال" (4). وفي "النهر"(5): أحسن ما أجيب به أنه كان معجزة له - صلى الله عليه وسلم -. انتهى(6).
وقال شيخ مشائخنا العلامة ابن عابدين في "حاشيته"(7) على الكتاب المذكور ما لفظه:
__________
(1) 25):قلت:لم أقف على إسناده وما أراه يصح ولعله في "كتاب القبور" لابن أبي الدنيا فقد عزاه إليه السيوطي في ==
= ="الجامع الكبير"(8/123و125- كنز العمال) عن عمر وعن علي رضي الله عنهما بنحوه.
(2) 26):هو في أثر عمر المشار إليه آنفا بنحوه وهو معضل فإنه من رواية محمد بن حمير عن عمر وبينهما مفاوز !
(3) 27):متفق عليه من حديث أنس رضي الله عنه وهو مخرج في "الصحيحة" (1344).
(4) 28):يعني الكمال ابن الهمام وسيذكر المصنف نص كلامه في الصفحات التالية (57-60).
(5) 29):هو "النهر الفائق" لمؤلفه الشيخ عمر بن إبراهيم بن محمد الشهير بابن نجيم المصري وهو أخو الزين صاحب "البحر الرائق" وتلميذه توفي سنة (1005).
(6) 30):يعني كلام الطحطاوي في حاشيته.
(7) 31):وهي المعروفة بـ "رد المحتار على الدر المختار" (3/180).(13/55)
(وأما الكلام فلأن المقصود منه الإفهام والموت ينافيه ولا يرد ما في "الصحيح" من قوله لأهل قليب بدر: { هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقا } ؟ فقال عمر رضي الله عنه: أتكلم الميت يا رسول الله؟ فقال عليه الصلاة والسلام: { والذي نفسي بيده ما أنتم بأسمع منهم أو من هؤلاء } . فقد أجاب عنه المشايخ بأنه غير ثابت يعني من جهة المعنى (1). وذلك لأن عائشة رضي الله تعالى عنها ردته بقوله تعالى: { وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ } و { إِنَّكَ
لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى } وأنه إنما قاله على وجه الموعظة للأحياء وبأنه مخصوص بأولئك تضعيفا
للحسرة عليهم وبأنه خصوصية له عليه الصلاة والسلام معجزة. لكن يشكل عليهم ما في "مسلم": { إن الميت ليسمع قرع نعالهم إذا انصرفوا } إلا أن يخصوا ذلك بأول الوضع في القبر مقدمة للسؤال(2) جمعا بينه وبين الآيتين فإنه شبه فيهما الكفار بالموتى لإفادة بعد سماعهم وهو فرع عدم سماع الموتى. هذا حاصل ما ذكره في "الفتح" هنا وفي "الجنائز".
ومعنى الجواب الأول أنه وإن صح سنده لكنه معلول من جهة المعنى بعلة تقتضي عدم ثبوته عنه عليه الصلاة والسلام وهي مخالفته للقرآن فافهم) انتهى كلام ابن عابدين عليه الرحمة.
__________
(1) 32):هذا الجواب مردود كما سبق بيانه (ص 54) وقد رده جماعة منهم أبو الحسن السندي الحنفي في "حاشيته على سنن النسائي" (1/293).
(2) 33):قلت:سيأتي مثله عن ابن الهمام (ص58) وعن المناوي (ص73) والتخصيص المشار إليه أمر لا بد منه للجمع المذكور ولكن ينبغي أن يعلم أن ذلك كذلك ولو لم يتعارض ظاهره بالآيتين المذكورتين فإن الحديث يدل أنه خاص بأول الوضع فإن لفظه: { إن العبد إذا وضع في قبره وتولى عنه أصحابه وإنه ليسمع قرع نعالهم أتاه ملكان... } الحديث متفق عليه وهو مخرج في "الصحيحة" كما تقدم:وسيأتي بتمامه (ص82).(13/56)
ولنذكر كلام إمام الحنفية ابن الهمام(1) في "فتح القدير" حاشية "الهداية" فإنه قال في "باب الجنائز" على قوله:"ولقن الشهادة لقوله عليه الصلاة والسلام: { لقنوا موتاكم شهادة أن لا إله إلا الله } (2) والمراد: الذي قرب من الموت "ما نصه:(قوله:(والمراد: الذي قرب من الموت) مثل لفظ القتيل في قوله عليه الصلاة والسلام: { من قتل قتيلا فله سلبه } (3).
__________
(1) 34):هو العلامة محمد بن عبد الوهاب الاسكندري السيواسي عده ابن نجيم في "البحر الرائق" من أهل الترجيح وعده بعضهم من أهل الاجتهاد. قال أبو الحسنات اللكنوي (ص180)"وهو رأي نجيح تشهد بذلك تصانيفه وتآليفه ".
قلت:على هامش الأصل ما نصه:
"[قال] الإمام الحصري في"شرح الجامع الكبير:"بلغ رتبة الاجتهاد"ونقله ابن عابدين في"باب نكاح الرقيق"فليحفظ". انظر "رد المحتار" (2/520).مات سنة (861).
(2) 35):أخرجه مسلم وغيره من حديث أبي هريرة وهو مخرج عندي في "الروض النضير" (1114) و"الإوراء" (686)
و"الصحيحة" (2151) و"أحكام الجنائز"(ص10).
(3) 36):رواه الشيخان وهو مخرج في"الإرواء"(1221).(13/57)
وأما التلقين من بعد الموت وهو في القبر: فقيل: يفعل لحقيقة ما روينا(1) ونسب لأهل السنة والجماعة وخلافه إلى المعتزلة وقيل:لا يؤمر به ولا ينهى عنه(2) ويقول:"يا فلان بن فلان (3) اذكر دينك الذي كنت عليه في دار الدنيا:شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله " (4) ولا شك أن اللفظ لا يجوز إخراجه عن حقيقته إلا بدليل فيجب تعيينه وما في "الكافي" من أنه "إن كان مات مسلما لم يحتج إليه من بعد الموت وإلا لم يفد" يمكن جعله الصارف يعني أن المقصود منه التذكير في وقت تعرض الشيطان وهذا لا يفيد بعد الموت(5) وقد يختار الشق الأول والاحتياج إليه في حق التذكير لتثبت الجنان للسؤال فنفي الفائدة مطلقا ممنوع. نعم الفائدة الأصلية منتفية.
__________
(1) 37):يشير إلى حديث أبي هريرة المتقدم آنفا.
(2) 38):قلت:وهذا مردود لأن التلقين تذكير ليس أمرا دنيويا أو عاديا حتى يصح فيه ما ذكره وإنما هو أمر تعبدي محض فإما أن يكون مشروعا فيؤمر به حينئذ ولو أمر استحباب وإما أن يكون غير مشروع فينهى عنه لأنه يكون والحالة هذه من محدثات الأمور وهي منهي عنه. فتنبه
(3) 39):كذا في "الفتح" أيضا والرواية "فلانة" على أنها ضعيفة كما يأتي.
(4) 40):هذا القول لم يصح عنه - صلى الله عليه وسلم - وهو طرف من حديث التلقين المروي عن أبي أمامة وإسناده ضعيف كما حققته في "الضعيفة" (597) من المجلد الثاني وقد تم طبعه بحمد الله وتوفيقه.
(5) 41):) قلت:ودليله قوله - صلى الله عليه وسلم -: { إذا مات الإنسان انقطع عمله... } الحديث وهو مخرج في "أحكام الجنائز" (174) و"الإرواء" (1580).(13/58)
وعندي أن مبنى ارتكاب هذا المجاز هنا عند أكثر مشايخنا رحمهم الله تعالى هو أن الميت لا يسمع عندهم على ما صرحوا به في كتاب ]الايمان[ في "باب اليمين بالضرب":"لو حلف لا يكلمه فكلمه ميتا لا يحنث لأنها تنعقد على ما بحيث يفهم والميت ليس كذلك لعدم السماع. وورد عليه قوله - صلى الله عليه وسلم - في أهل القليب: { ما أنتم بأسمع منهم } .
وأجابوا تارة بأنه مردود من عائشة رضي الله تعالى عنها قالت:كيف يقول عليه الصلاة والسلام ذلك والله تعالى يقول: { وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ } و { إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى } ؟ وتارة بأن تلك خصوصية له - صلى الله عليه وسلم - معجزة وزيادة حسرة على الكافرين(1) وتارة بأنه من ضرب المثل كما قال علي رضي الله تعالى عنه.
__________
(1) 42):قلت:وهذا الجواب هو الأصح لقول قتادة المتقدم في حديث أبي طلحة (ص54) وهو الذي اعتمده الحافظ البيهقي وغيره ويأتي في الكتاب (71) قول السهيلي في ذلك ويظهر أن مناداة الكفار بعد هلاكهم سنة قديمة من سنن الأنبياء فقد قال تعالى في قوم صالح عليه السلام: { فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ * فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ } ]الأعراف:78-79[ قال ابن كثير (2/229- 230):"هذا تقريع من صالح عليه السلام لقومه لما أهلكهم الله بمخالفتهم إياه وتمردهم على الله وإبائهم الحق وإعراضهم عن الهدى قال لهم صالح ذلك بعد هلاكهم تقريعا وتوبيخا وهم يسمعون ذلك كما ثبت في "الصحيحين"... فذكر الحديث القليب. لكن قوله:"وهم يسمعون ذلك" ليس في الآية ما يدل عليه. ثم ذكر الله تعالى عن شعيب عليه السلام وقومه نحو ذلك فانظر "ابن كثير" (2/233).(13/59)
ويشكل عليهم ما في "مسلم": { إن الميت ليسمع قرع نعالهم إذا انصرفوا } (1).
اللهم إلا أن يخصوا ذلك بأول الوضع في القبر مقدمة للسؤال(2) جمعا بينه وبين الآيتين فإنهما تفيدان تحقيق عدم سماعهم فإنه تعالى شبه الكفار بالموتى لإفادة تعذر سماعهم وهو فرع عدم سماع الموتى إلا أنه على هذا ينبغي التلقين من بعد الموت لأنه يكون حين إرجاع الروح فيكون حينئذ لفظ (موتاكم) في حقيقته وهو قول طائفة من المشايخ أو هو مجاز باعتبار ما كان نظرا إلى أنه ]الآن[ حي إذ ليس معنى الحديث إلا من في بدنه الروح. وعلى كل حال هو محتاج إلى دليل آخر في التلقين حالة الاحتضار(3) إذ لا يراد الحقيقي والمجازي معا ولا مجازيان وليس يظهر معنى يعم الحقيقي والمجازي حتى يعتبر مستعملا فيه ليكون من عموم المجاز للتضاد وشرط إعماله فيهما أن لا يتضادا). انتهى كلام العلامة ابن الهمام.
__________
(1) 43):مضى تخريجه (ص55) وأنه رواه البخاري أيضا.
(2) 44):انظر التعليق (ص56).
(3) 45):قلت:وهو موجود كما سيأتي في الكتاب قريبا والذي هو بحاجة إلى الدليل حقا إنما هو التلقين بعد الدفن فإنه لم يرد فيه حديث تقوم به الحجة كما سأبين نبذة منه عند إشارة المؤلف إلى حديثه (ص63).(13/60)
وقال أيضا العلامة الشيخ أحمد الطحطاوي في حاشيته على "مراقي الفلاح" للشرنبلالي "شرح نور الإيضاح" في "باب أحكام الجنائز" على قول الشارح:"قال المحقق ابن همام: وحمل أكثر مشايخنا إياه على المجاز أي من قرب ]من[ الموت مبناه على أن الميت لا يسمع عندهم" ما نصه(1):"قوله:(مبناه على أن الميت لا يسمع عندهم) على ما صرحوا به في "كتاب الأيمان": لو حلف لا يكلمه فكلمه ميتا لا يحنث لأنها تنعقد على من يفهم والميت ليس كذلك لعدم السماع قال الله تعالى: { وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ } { إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى } وهو يفيد تحقيق عدم سماع الموتى إذ هو فرعه"انتهى كلام الشرنبلالي والطحطاوي.
وقال العلامة العيني(2) في "شرح الكنز" في "باب اليمين في الضرب والقتل وغير ذلك" بعد قول الماتن:"وكلمتك: تقيد بالحياة" ما لفظه:
"لأن الضرب هو الفعل المؤلم ولا يتحقق في الميت والمراد في الكلام الإفهام. وأنه يختص بالحي" انتهى(3). ومثله في " البحر "(4) ونصه:"لأن المقصود من الكلام الإفهام والموت ينافيه".
__________
(1) 46):حاشية الطحطاوي على"المراقي" (ص326).
(2) 47):هو الشيخ العلامة محمود بن أحمد بدر الدين العيني المصري الحنفي صاحب "عمدة القاري شرح صحيح البخاري" ولد سنة (762) ومات سنة (855).
(3) 48):يعني ما في "شرح الكنز" (1/225) ولفظه يختلف بعض الشيء عما هنا.
(4) 49):يعني "البحر الرائق شرح كنز الدقائق" (4/394) ومؤلفه زين الدين إبراهيم بن محمد الشهير بن نجيم المصري توفي سنة (970). وأخوه عمر بن إبراهيم صاحب كتاب "النهر الفائق" تقدم (ص 55).(13/61)
وقال العلامة ابن ملك(1) في "مبارق الأزهار شرح مشارق الأنوار"(2) الجامع بين "الصحيحين" (3) في قوله عليه الصلاة والسلام: { إنه ليسمع قرع نعالهم إذا انصرفوا } :
"وفيه دلالة على حياة الميت في القبر لأن الإحساس بدون الحياة ممتنع عادة وهل ذلك بإعادة الروح أو لا ؟ ففيه اختلاف العلماء فمنهم من يقول بتلك وتوقف أبو حنيفة في ذلك" انتهى بلفظه.
فتبين من "تنوير الأبصار" وشرحه "الدر المختار" و"حاشيته" للطحطاوي ولابن عابدين ومن "فتح القدير" و"الهداية" ومن "مراقي الفلاح" و"حاشيته" و"شروح الكنز" ومن سائر المتون المبنية على المفتى به من قول الإمام أبي حنيفة وصاحبيه ومشايخ المذهب: أن الميت لا يسمع بعد خروج روحه كما قالت ]عائشة[ وتبعها طائفة من أهل العلم والمذاهب الأخرى وأن الحنفية لم يحكوا خلافا في حكمهم هذا عن أحد من علماء المذهب ولم يحنثوا الحالف كما فصلنا. وهو المطلوب ولله الحمد.
وسيأتي إن شاء الله تعالى ما يؤيد هذه الأقوال في الفصل الثاني والثالث فانتظرهما
ولا تغفل(4)
__________
(1) 50):هو عبد اللطيف بن عبد العزيز بن فرشتا الكرماني عرف بابن مالك من فقهاء الحنفية المبرزين توفي سنة(801).
(2) 51):(ج 1 ص 123).
(3) 52):قلت:وصف "المشارق" بـ "الجامع بين الصحيحين" سبق قلم من المؤلف رحمه الله تعالى فإن اسمه "مشارق الأنوار في صحاح الآثار" كما سماه الشارح نفسه في مقدمته وإن كان كلام المؤلف نفسه يشعر في مقدمته هو بخلافه. فإن الواقع يشهد أنه ليس كذلك وإنما هو منتخب من "الصحيحين" فاعلمه.
ثم إن صاحب "المشارق" عزا الحديث لمسلم فقط وكذلك غيره كما يأتي وهو عند البخاري أيضا كما سبق مني في (ص55) وسيأتي لفظه في الكتاب (81).
(4) 53):على هامش الأصل بخط فارسي مخالف لخط الأصل ما نصه:
ومن الغريب أن بعض من يدعي طلب العلم يزعم أن رأى ما حررته من عبارات الأئمة الحنفية وغيرهم ويشيع عند أمثاله الجهلة العوام أن ملا علي القاري قال في شرحه للمشكاة أن هذه الأيمان مبنية على العرف فلذا قالوا بعدم السماع وعدم الحنث وأنت تعلم أن قول عالم مقلد غير مجتهد ولا من أهل الترجيح ولم يبلغ رتبة الاجتهاد لا يؤخذ بتأويله المصادم لصريح أقوال الأئمة إذ هو رجل من أهل العلم والتقليد قلنا:فكيف تترك أقوال أئمة المذهب وغيرهم المصرحين بعدم السماع ليقول مقلد واحد متأخر جاء إلى ذهنه شيء مخالف لجميع أقوال أئمته كما لا يخفى على من شم رائحة العلم وذاق شهد الفهم فافهم والله تعالى أعلم.(13/62)
.
]تتمة في التلقين بعد الدفن[
اعلم أن مسألة التلقين قبل الموت لم نعلم فيها خلافا(1) وأما بعد الموت وهي التي تقدم ذكرها في "الهداية" وغيرها فاختلف الأئمة والعلماء فيها فالحنفية لهم فيها ثلاثة أقوال:
الأول: أنه يلقن بعد الموت لعود الروح للسؤال.
والثاني: لا يلقن.
والثالث: لا يؤمر به ولا ينهى عنه(2).
وعند الشافعية يلقن كما قال ابن حجر(3) في "التحفة"(4).
"ويستحب تلقين بالغ عاقل أو مجنون سبق له تكليف ولو شهيدا كما اقتضاه إطلاقهم بعد تمام الدفن لخبر فيه وضعفه اعتضد بشواهد(5)
__________
(1) 54):قلت:وفيه أحاديث قولية وفعلية تجد بعضها في"أحكام الجنائز" (ص10-11) ومضى أحدهما قريبا (ص 58).
(2) 55):قلت:سبق هذا (ص57) مع رده هنا.
(3) 56):يعني أحمد بن محمد بن علي بن حجر الهيتمي - بالمثناة الفوقية نسبة إلى محلة أبي الهيتم من إقليم الغربية بمصر - من كبار علماء الشافعية وله مصنفات كبيرة ولكنه كان منحرفا عن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى متحاملا عليه وكلامه عليه في كتابه "الفتاوى الحديثية" معروف وهو عمدة من جاء بعده من المبتدعة الطاعنين فيه وقد رد عليه المؤلف في كتابه "جلاء العينين" أحسن الرد وقد مضى ذكره في المقدمة (ص43) ولد سنة (909) وتوفي بمكة سنة (973) وقيل:(974).
(4) 57):(ج 3/207- بالحواشي).
(5) 58):قلت:كلا فإن الشواهد المشار إليها لا تصلح للشهادة لأنها موقوفات ومقطوعات ولذلك جزم ابن القيم بأنه
لا يصح والنووي وغيره بأنه ضعيف وقد حققت ذلك "سلسلة الأحاديث الضعيفة" (599).(13/63)
على أنه من الفضائل فاندفع قول ابن عبد السلام: أنه بدعة " (1). انتهى.
وأما عند الإمام مالك نفسه فمكروه قال الشيخ علي المالكي في كتابه "كفاية الطالب الرباني لختم رسالة ابن أبي زيد القيرواني"ما لفظه:
"وأرخص (بمعنى استحب) بعض العلماء (هو ابن حبيب) في القراءة عند رأسه أو رجليه أو غيرهما ذلك بسورة (يس) لما روي أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: { ما من ميت يقرأ عند رأسه سورة { يس } إلا هون الله تعالى عليه } (2) ولم يكن ذلك أي ما ذكر من القراءة عند المحتضر عند مالك رحمه الله تعالى أمرا معمولا وإنما هو مكروه عنده وكذا يكره عند تلقينه بعد وضعه في قبره". انتهى.
وأما الحنبلية فعند أكثرهم يستحب قال الشيخ عبد القادر بن عمر الشيباني الحنبلي(3) في "شرح دليل الطالب ما لفظه":"واستحب الأكثر تلقينه بعد الدفن" انتهى.
واستفيد منه أن غير الأكثر من الحنابلة يقول: بعدم التلقين بعد الموت أيضا(4).
__________
(1) 59):قلت:بل قوله هو الصواب لأن التلقين مع ضعف حديثه مخالف لهديه - صلى الله عليه وسلم - فإنه ثبت أنه كان إذا دفن الميت وقف على قبره يدعو له بالتثبيت ويستغفر له ويأمر الحاضرين بذلك فما خالفه فهو بدعة دون شك وقد جزم بذلك الإمام الصنعاني وقد فصلت هذا بعض الشيء في "أحكام الجنائز" (ص155-156) فراجعه إن شئت.
(2) 60):قلت:في إسناده من يضع الحديث وقد روي عن مشيخة من التابعين موقوفا عليه وقد فصلت القول في ذلك في "الضعيفة"(5219).
(3) 61):من فقهاء الحنابلة في دمشق. توفي سنة (1135).
(4) 62):قلت:وهو الذي رجحه الشيح المرادي منهم فقال في"الإنصاف"(2/549):"والنفس تميل إلى عدمه والعمل عليه". قلت:وهو الذي نرجحه كما تقدم (ص58).(13/64)
وأما الظاهرية فالظاهر من كلام أبي محمد(1) بن حزم الذي هو من أجل العلماء الظاهرية:
عدم التلقين أيضا كما سيأتي في الفصل الثالث فلا تغفل.
الفصل الثاني
في النقل عمن وافق الأئمة الحنفية في عدم السماع
من علماء المذاهب الثلاثة وغيرهم
قال الإمام النووي(2) الشافعي رحمه الله تعالى في شرحه لـ "صحيح مسلم" في "باب عرض مقعد الميت من الجنة" في الكلام على قوله - صلى الله عليه وسلم - في قتلى بدر: { ما أنتم بأسمع لما أقول منهم }
ما عبارته(3) :
"قال المازري(4): قال بعض الناس: الميت يسمع عملا بظاهر هذا الحديث. ثم أنكره المازري وادعى أن هذا خاص في هؤلاء". انتهى المقصود منه بلفظه.
__________
(1) 63):اسمه علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الأندلسي القرطبي من كبار حفاظ الحديث وأئمة الظاهرية ولكنه في الأسماء والصفات جهمي جلد وله أوهام كثيرة في الرواة وتجهيلهم. توفي سنة (456).
(2) 64):هو يحيى بن شرف بن مري النووي الحوراني من كبار حفاظ الحديث وفقهائه مع ملازمته التصنيف ونشر العلم والعبادة والصيام والذكر والصبر على المعيشة الخشنة في المأكل والملبس وكتابه "المجموع شرح المذهب"من أنفع الكتب المطولة في الفقه المقارن عندي مع تخريج الأحاديث وتمييز صحيحها من سقيمها توفي رحمه الله سنة (676).
(3) 65):(ج17ص206).
(4) 66):نسبة إلى (مازر) بفتح الزاي وكسرها بلدة بجزيرة (صقلية) وهو محمد بن علي بن عمر أبو عبد الله المالكي المحدث مؤلف "المعلم في شرح مسلم" ومنه أخذ القاضي عياض شرحه "الإكمال" وكان من كبار أئمة زمانه وكان ذا فنون من أئمة المالكية مؤلفاته "الكشف والإنباء في الرد على الإحياء - للغزالي". توفي ب (المهدية) سنة (536) عن ثلاث وثمانين.(13/65)
وأنت تعلم أن المازري من أجل العلماء المالكية المتقدمين وسيأتي إن شاء الله تعالى في الفصل الثالث نقل الزرقاني المالكي عن الباجي والقاضي عياض الإمامين المالكيين القول أيضا بعدم السماع فليحفظ. وقال الشيخ محمد السفاريني(1) الحنبلي في كتابه "البحور الزاخرة في أحوال الآخرة" ما عبارته:
"وأنكرت عائشة رضي الله تعالى عنها سماع الموتى. وقالت: ما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
"إنهم ليسمعون الآن ما أقول" إنما قال:"ليعلمون الآن ما كنت أقول لهم أنه حق" ثم قرأت
قوله تعالى: { إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى } { وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ } (2) قال الحافظ
ابن رجب(3)
"وقد وافق عائشة على نفي سماع الموتى كلام الأحياء طائفة من العلماء ورجحه القاضي أبو يعلى(4) من أكابر أصحابنا في كتابه "الجامع الكبير" واحتجوا بما احتجت به وأجابوا عن حديث قليب بدر بما أجابت ]به[ عائشة رضي الله تعالى عنها وبأنه يجوز أن يكون ذلك معجزة مختصة بالنبي - صلى الله عليه وسلم - دون غيره ]وهو سماع الموتى لكلامه[ وفي "صحيح البخاري":
__________
(1) 67):بتشديد الفاء نسبة إلى (سفارين) قرية في نابلس وهو العلامة محمد بن أحمد السفاريني شمس الدين أبو العون عالم بالحديث والأصول والأدب محقق توفي سنة (1188).
(2) 68):أخرجه البخاري (7/242- 243) ومسلم (3/44) والنسائي (1/293) وأحمد (2/31 و38 و6/276) من طرق عن عائشة رضي الله عنها.
(3) 69):في"أهوال القبور"(ق 76/12 - مخطوطة الظاهرية) والزيادة الآتية منه.
(4) 70):هو محمد بن الحسين بن محمد البغدادي أبو يعلى القاضي ابن الفراء صاحب التصانيف وفقيه العصر عالم في الأصول وأنواع الفنون عاش (78) سنة وتوفي سنة (458هـ).(13/66)
"قال قتادة:"أحياهم الله تعالى - يعني أهل القليب - حتى أسمعهم قوله - صلى الله عليه وسلم - توبيخا وتصغيرا ونقمة وحسرة وندما". وذهب طوائف من أهل العلم إلى سماع الموتى كلام الأحياء في الجملة". انتهى ما هو المقصود منه.
فتبين منه أن طائفة من العلماء وافقوا عائشة رضي الله تعالى عنها أيضا على عدم السماع وأن منهم القاضي أبو يعلى الذي هو من أكابر العلماء الحنبلية كما هو مذهب أئمتنا الحنفية رحمهم الله تعالى.
وفي "روح المعاني"(1) :"واحتج من أجاز السماع في الجملة بما رواه البيهقي(2) والحاكم
- وصححه - وغيرهما عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقف على مصعب بن عمير وعلى أصحابه حين رجع من أحد فقال:"أشهد أنكم أحياء عند الله تعالى فزوروهم. وسلموا عليهم فوالذي نفسي بيده لا يسلم أحد عليهم إلا ردوا عليه إلى يوم القيامة".
وأجاب المانعون أن تصحيح الحاكم غير معتبر(3) وأنا إن سلمنا صحته نلتزم القول بأن الموتى الذين لا يسمعون هم من عدا الشهداء لأن الشهداء يسمعون في الجملة لامتيازهم على سائر الموتى بما أخبر عنهم من أنهم أحياء عند الله عز وجل.
واحتجوا أيضا بحديث:"ما من أحد يمر بقبر أخيه المؤمن كان يعرفه في الدنيا فسلم عليه إلا عرفه ورد عليه".
__________
(1) 71):(6/454-456) لمؤلفه العلامة محمود الآلوسي والد المؤلف رحمهما الله تعالى.
(2) 72):أي في "دلائل النبوة" كما قيده السيوطي في "الدر المنثور" (5/191).
(3) 73):ولذلك مال الذهبي إلى أنه موضوع وهو غلو وأعله الحافظ ابن رجب بالاضطراب والإرسال وقد بينت ذلك في
"الضعيفة"(5220). ومثله حديث أبي رزين أن أهل القبور يسمعون السلام عليهم ولكن لا يستطيعون أن يجيبوا. فهو منكر كما بينته في المصدر المذكور رقم (5225).(13/67)
وأجاب المانعون: إن الحافظ ابن رجب تعقبه وقال:"إنه ضعيف بل منكر"(1) انتهى (2). باختصار من تفسير سورة (الروم).
وفي "صحيح البخاري" (3) في "باب دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - على كفار قريش وهلاكهم يوم بدر"
__________
(1) 74):قلت:ذكر ذلك في "الأهوال" (ق 83/2) وهو كما قال وقد بينت ذلك في "الضعيفة" (4493) وأشد ضعفا منه
ما أخرجه عبد الرزاق في "المصنف" (6723) عن زيد بن أسلم قال:مر أبو هريرة وصاحب له على قبر فقال أبو هريرة:سلم. فقال الرجل أسلم على القبر ؟ فقال أبو هريرة:إن كان رآك في الدنيا يوما قط إنه ليعرفك الآن. قلت:ففيه يحيى بن العلاء وهو وضاع.
(2) 75):أي كلام الآلوسي في "روح المعاني".
(3) 76):(ج 7/242-فتح الباري) وكذا مسلم وقد مر تخريجه قريبا.(13/68)
من(1) حديث هشام عن أبيه قال:(ذكر عند عائشة رضي الله تعالى عنها أن ابن عمر رفع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -: { إن الميت ليعذب في قبره ببكاء أهله } فقالت: وهل إنما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنه ليعذب بخطيئته وذنبه وإن أهله ليبكون عليه الآن". قالت: وذلك مثل قوله: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قام على القليب وفيه قتلى بدر من المشركين فقال لهم، ما قال إنهم ليسمعون ما أقول إنما قال: إنهم الآن(2) ليعلمون أن ما كنت أقول لهم حق ثم قرأت { إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى } و { مَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ } يقول: حين تبوأوا مقاعدهم من النار) انتهى. ما في "صحيح البخاري" فقال الحافظ ابن حجر في "شرحه"(3):
"وقال السهيلي ما محصله: إن في نفس الخبر ما يدل على خرق العادة بذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - لقول الصحابة له: أتخاطب أقواما قد جيفوا ؟ فأجابهم (4). قال: وإذا جاز أن يكونوا في تلك الحالة عالمين ]جاز[ أن يكونوا سامعين وذلك إما بآذان رؤوسهم على قول الأكثر أو بآذان
قلوبهم. قال: وقد تمسك بهذا الحديث من يقول: إن السؤال يتوجه على الروح والبدن.
__________
(1) 77):الأصل:"في الكلام على" ولعل الصواب ما أثبتنا.
(2) 78):يلاحظ القارئ أن كلا من ابن عمر وعائشة رضي الله عنهما قد حفظ عنه - صلى الله عليه وسلم - في هذه القصة قوله:(الآن) على ما بينهما من الاختلاف في ضبط تمام قوله - صلى الله عليه وسلم - مع إمكان الجمع كما تقدم بيانه (ص 29) وقد مضى حديث ابن عمر مع تخريجه (ص 28).
(3) 79):أي "فتح الباري" (7/243).
(4) 80):أي بقوله المتقدم:"ما أنتم بأسمع لما أقول منهم" وهو بهذا السياق عند النسائي (1/293) ورواية لأحمد (3/104) من طريق حميد عن أنس. وأخرج أحمد (6/170) القدر المذكور منه في الكتاب من حديث إبراهيم عن عائشة رضي الله عنها.(13/69)
ورده من قال: إنما يتوجه على الروح فقط بأن الإسماع يحتمل أن يكون لأذن الرأس ولأذن القلب فلم يبق فيه حجة.
قلت(1): إذا كان الذي وقع حينئذ من خوارق العادة للنبي - صلى الله عليه وسلم - لم يحسن التمسك به في مسألة السؤال أصلا.
وقد اختلف أهل التأويل في المراد بـ { الْمَوْتَى } في قوله تعالى: { إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى } وكذلك المراد ب { مَنْ فِي الْقُبُورِ } فحملته عائشة على الحقيقة وجعلته أصلا احتاجت معه إلى تأويل قوله عليه الصلاة والسلام: { ما أنتم بأسمع لما أقول منهم } وهذا قول الأكثر. وقيل هو مجاز والمراد ب { الْمَوْتَى } وبـ { مَنْ فِي الْقُبُورِ } الكفار شبهوا بالموتى وهم أحياء والمعنى من هم في حال الموتى ]أو في حال[ من سكن القبر. وعلى هذا لا يبقى في الآية دليل على ما نفته عائشة رضي الله تعالى عنها والله تعالى أعلم ". انتهى ما قاله الحافظ ابن حجر بلفظه(2).
وقال أيضا في "شرح البخاري" في "باب ما جاء في عذاب القبر"(3) من كلام طويل
ما نصه:"وقال ابن التين: لا معارضة بين حديث ابن عمر والآية لأن الموتى لا يسمعون بلا شك لكن إذا أراد الله تعالى إسماع ما ليس من شانه السماع لم يمتنع كقوله تعالى: { إِنَّا عَرَضْنَا
__________
(1) 81):القائل"قلت" هو الحافظ ابن حجر.
(2) 82):قلت:ليس هناك دليل على أن عائشة حملت الآية على الحقيقة - وهي أسمى من ذلك - فالسياق يدل على أنها على المجاز ولكن هذا لا ينفي صحة فهمها لأنه مبني على التأمل في المشبه بهم:"الموتى في القبور" كما بينته في المقدمة مفصلا فراجعها فإنها مهمة جدا.
(3) 83):"فتح الباري"(3/182).(13/70)
الْأَمَانَة } الآية وقوله تعالى: { فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً } الآية وسيأتي في"المغازي" قول قتادة: إن الله تعالى أحياهم حتى سمعوا كلام نبيه عليه الصلاة والسلام توبيخا ونقمة. انتهى. وقد أخذ ابن جرير(1) وجماعة من الكرامية(2) من هذه القصة أن السؤال في القبر يقع على البدن فقط وأن الله تعالى يخلق فيه إدراكا بحيث يسمع ويعلم ويلذ ويألم وذهب ابن حزم وابن هبيرة (3) إلى أن السؤال يقع على الروح فقط من غير عود إلى الجسد وخالفهم الجمهور فقال:تعاد الروح إلى الجسد أو بعضه كما ثبت في الحديث(4).
__________
(1) 84):هو الإمام محمد بن جرير الطبري المفسر المشهور صاحب التصانيف الباهرة مات سنة (310 ه).
(2) 85):طائفة من المبتدعة تقول بالتجسيم وغيره ينتسبون إلى محمد بن كرام السجستاني العابد المتكلم قال الذهبي: "شيخ الكرامية ساقط الحديث على بدعته مات سنة (255)".
(3) 86):هو يحيى بن هبيرة بن محمد بن هبيرة الذهلي الوزير عون الدين ولد سنة 499 وتوفي سنة 560 تفقه على مذهب أحمد وكان عالما أديبا عادلا في وزارته له "الإفصاح عن معاني الصحاح".
(4) 87):يشير إلى حديث البراء الطويل في قبض الملائكة للروح وصعودهم بها إلى السماء ثم تعاد إلى الجسد فيأتيه ملكان فيجلسانه ويسألانه:من ربك ؟ الحديث وهو حديث صحيح قد سقته بطوله وضمت إليه الزيادات الواردة في مختلف طرقه وخرجته وذكرت من صححه في "أحكام الجنائز" (ص156ـ159 ) وقد أخرجه الآجري أيضا (ص367 ـ370).(13/71)
إلى أن قال ابن حجر:"إن المصنف (يعني البخاري) أشار إلى طريق من طرق الجمع بين حديثي ابن عمر وعائشة بحمل حديث ابن عمر على أن مخاطبة أهل القليب وقعت وقت المسالة(1) وحينئذ كانت الروح قد أعيدت إلى الجسد وقد تبين من الأحاديث الأخرى
أن الكافر المسؤول يعذب وأما إنكار عائشة فمحمول على غير وقت المسألة فيتفق الخبران" انتهى بلفظه.
وقال الشيخ عبد الرؤوف المناوي الشافعي في "شرحه الكبير للجامع الصغير"(2) في الكلام على قوله عليه الصلاة والسلام: { إن الميت إذا دفن يسمع خفق نعالهم إذا ولوا منصرفين } (3) ما نصه:
__________
(1) 88):قلت:وكذا قال الطحطاوي (ص546). وهذا باطل فقد ثبت في بعض طرق القصة عن أنس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ترك قتلى بدر ثلاثا ثم أتاهم فناداهم... وفيه أن عمر قال:يا رسول الله كيف يسمعوا وأنى يجيبوا وقد جيفوا ؟ الحديث. أخرجه مسلم (8/163) وأحمد (3/286) من رواية ثابت عنه. ورواه حميد عنه بلفظ "قالوا" بدل "قال عمر" كما تقدم قريبا. ومعناه في طريق قتادة الذي سبق تخريجه (ص54) فالعجب من الحافظ كيف فاته هذا وهو الذي نقل في شرحه لهذا الحديث قول السهيلي المتقدم وفيه قول الصحابة:"أتخاطب أقواما قد جيفوا" بل وذكر قبل ذلك حديث أنس هذا من طريق مسلم ؟ إلا أن يقال:إن الروح تبقى مدة في جسدها بعد إعادتها إليه وهو بعيد جدا لعدم ورود نص بذلك. والله أعلم.
(2) 89):وهو المسمى بـ "فيض القدير" وهو خير شروح "الجامع" وأغزرها فائدة وعلما ومؤلفه هو العلامة المحقق محمد عبد الرؤوف بن تاج العارفين المناوي القاهري من كبار العلماء بالدين والفنون توفي سنة (1031).
(3) 90):هو بهذا اللفظ شاهد قوي لحديث أنس المتقدم (ص56) وهو من حديث ابن عباس قال الهيثمي (3/54):”رواه الطبراني في الكبير ورجاله ثقات". وله شاهد آخر من حديث أبي هريرة أخرجه أحمد (2/347 و445) من طريقين عنه صحح أحدهما الحاكم (1/379) ووافقه الذهبي.(13/72)
"وعورض بقوله تعالى: { وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ } وأجيب بأن السماع في حديثنا مخصوص بأول الوضع في القبر مقدمة للسؤال". انتهى بلفظه.
وفي كتاب "المفاتيح في حل المصابيح" لشرف الدين الحسين بن محمد(1):
(قوله عليه الصلاة والسلام: { إنه ليسمع قرع نعالهم } أي لو كان حيا فإن جسده قبل أن يأتيه الملك ويقعده حيث لا يحس بشيء. وقوله: (فيقعدان) الأصل فيه أن يحمل على الحقيقة على حسب ما يقتضيه الظاهر ويحتمل أن يراد بالإقعاد: التنبيه لما يسأل عنه والإيقاف عما هو عليه بإعادة الروح إليه) انتهى.
ومما يؤيد مذهب الحنفية والموافقين لهم بعدم السماع أن الميت لو كان يسمع مطلقا لما ورد أن الروح ترجع إليه وقت المسألة في القبر ثم تذهب فافهم.
والعجب من بعض من لا فهم له ممن ينتسب إلى مذهب الإمام أبي حنيفة يشيع عند العوام أن السماع مجمع عليه. وأنه أيضا مذهب ذلك الإمام الأعظم وأصحابه ممن تأخر وتقدم بزعم أنه عليه الرحمة قال:"إذا صح الحديث فهو مذهبي"(2) وأن الحديث في سماعهم قد صح
ولم يعلم أن الحنفية قد تمسكوا كعائشة وغيرها بالآيتين وأولوا ما ورد بعد معرفتهم الحديثين ولعل هذا المتوهم يزعم أيضا أن النكاح بلا ولي باطل في مذهب أبي حنيفة لورود الحديث الصحيح فيه(3) وأن الصلاة بلا فاتحة الكتاب خداج لأن الحديث: الصحيح ورد أن
__________
(1) 91):هو الإمام الطيبي الحسين بن محمد بن عبد الله ووقع اسمه في بعض مؤلفاته:الحسين بن عبد الله بن محمد ولعله الأصوب. وهو من علماء الحديث والتفسير والبيان مع حسن المعتقد والرد على المبتدعة مات وهو ينتظر الصلاة سنة (743).
(2) 92):لقد صح هذا عن أبي حنيفة وعن بقية الأئمة الأربعة فانظره في "صفة الصلاة" (ص24-34).
(3) 93):يشير إلى قوله - صلى الله عليه وسلم -: { لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل } . وهو مخرج في "إرواء الغليل" برقم (1896).(13/73)
{ لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب } (1) وأن الوضوء بلا نية غير صحيح لورود حديث
{ إنما الأعمال بالنيات } (2) ونحو ذلك مما ذهب الإمام إلى خلافه مع وجود هذه الأحاديث المغايرة لمذهبه الواردة عليه ولم يعلم هذا المنتسب أن الإمام وأتباعه رأوا الأحاديث المصححة المعارضة لمذهبه في كثير من المسائل فأولوها أو حفظوا ما يعارضها
من الآيات والأحاديث أو علموا نسخها أو تخصيصها فلم يعملوا بها لهذه العوارض أو نحوها مما هو مفصل في محله من الكتب الأصولية والحديثية والفقهية ككتاب "مختلف الآثار" للإمام
__________
(1) 94):أخرجه الشيخان وغيرهما وهو مخرج في المصدر السابق (302) وفي "صحيح أبي داود" (780).
(2) 95):أخرجه الشيخان من حديث عمر بن الخطاب وهو مخرج في أول "الإرواء".(13/74)
الطحاوي(1) والإمام محمد بن الحسن(2) و"شرح الهداية"(3) وكتاب "العقود"(4) وغير ذلك.
__________
(1) 96):هو أحمد بن محمد بن سلامة أبو جعفر الطحاوي المصري من كبار أئمة الحنفية الجامعين بين الفقه والحديث وله الباع الطويل في حفظ متونه وأسانيده يجد عنده الباحث من الحديث ما لا يجد عند غيره من الحفاظ على تساهل في الاحتجاج به وتعصب لمذهبه كما شهد بهذا الثاني أبو الحسنات الليكنوي في "الفوائد البهية"(ص33) وبالذي قبله شيخ الإسلام ابن تيمية في "منهاج السنة" وغيره توفي سنة (321) وله كتب معروفة بعضها مطبوع ومنه كتابه "مشكل الآثار" و"شرح معاني الآثار" وهو الذي يعنيه المؤلف رحمه الله تعالى.
(2) 97):هو الشيباني تلميذ أبي حنيفة رحمهما الله تعالى وهو أشهر أصحابه توفي سنة (189) وهو من أهل الصدق كما قال الشافعي لكن لينه النسائي وغيره من قبل حفظه وليس لأنه خالف المحدثين في مشاكلة التأليف وطريقته كما زعم بعض متعصبة الحنفية المتأخرين وكتابه الذي يشير إليه المؤلف معروف بـ "كتاب الآثار" وهو مطبوع.
(3) 98):وهو "فتح القدير" لابن الهمام.
(4) 99):يعني"عقود الجواهر المنيفة في أدلة مذهب الإمام أبي حنيفة"للمرتضى الزبيدي شارح القاموس مات سنة(1205)(13/75)
وكيف يسوغ لمن شم رائحة العلم وأدرك شيئا من لوامع الفهم- بعد اطلاعه على عبارات الحنفية وغيرهم التي سردناها وأجوبتهم عن الآثار التي رويناها- أن يقول ويشيع إن مذهب الحنفية -كغيرهم-سماع الموتى لقول إمامنا الأعظم "إذا صح الحديث فهو مذهبي"ويجري ذلك على عمومه ؟(1) وهل هذا إلا مكابرة على الثابت بالعيان وإخفاء لضوء الشمس الذي تجحده العينان أو خيانة في حمل علوم الدين لمآرب خبيثة يستخف بها ضعفاء المسلمين.
لقد أسمعت لو ناديت حيا ولكن لا حياة لمن تنادي
والله تعالى المستعان وهو حسبنا ونعم الوكيل.
الفصل الثالث
في حياة الأنبياء عليهم السلام البرزخية وفي أن النعيم والعذاب على الروح والبدن
__________
(1) 100):قلت:هذا كلام رصين متين وخلاصته أنه لا ينبغي أن ينسب إلى الإمام أبي حنيفة - وكذا غيره من الأئمة - كل مسألة جاء بها حديث صحيح مخالف لما ذهب إليه الإمام لاحتمال أن يكون الحديث مما اطلع الإمام عليه ولكنه خالفه لحديث آخر تثبت لديه كما بينه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في رسالته الهامة:"رفع الملام عن الأئمة الأعلام" وهذا بخلاف ما إذا كانت المخالفة بالرأي والاجتهاد فإنه يجب والحالة هذه الأخذ بالحديث ونسبته إلى الإمام وترك الأخذ برأيه كقوله مثلا بجواز الوضوء بلا نية. وتجد تفصيل هذا في مقدمة كتابي "صفة صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم -" فراجعها فإنها هامة. وراجع المقدمة ص (23).(13/76)
كما هو مذهب الجمهور من أهل السنة السنة وأن زيارة القبور أمر مشروع أيضا عند أئمتنا الحنفية (1).
فاعلم أرشدنا الله وإياك إلى الطريق الأسلم أن المشايخ الحنفية وإن قالوا بعدم سماع الأموات كلام الأحياء إلا أنهم قالوا بأن النعيم والعذاب للروح والبدن وأن الزيارة أمر مشروع ولننقل لك من كلام العلماء في ذلك سالكين إن شاء الله تعالى أقصر المسالك.
حياة الأنبياء البرزخية
أما حياة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام:الحياة البرزخية- التي هي فوق حياة الشهداء الذين قال الله تعالى فيهم: { بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ (2) يُرْزَقُونَ } - فأمر ثابت بالأحاديث الصحيحة قال بخاري عصره شيخ مشايخنا الشيخ علي السويدي البغدادي في كتابه
__________
(1) 101):قلت:كذلك سائر الأئمة ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن قيم الجوزية وإمام دعوة التوحيد محمد بن عبد الوهاب وغيرهم فمن نسب إنكارهم للزيارة. فقد اعتدى وظلم وإنما هم ينكرون الزيارة التي يقترن بها بعض المخالفات الشرعية كالاستغاثة بالقبور والنذر له والحلف به ونحو ذلك كشد الرحل إليه ويسمون هذه الزيارة بالزيارة البدعية. وتجد تفصيل الكلام على الزيارة الشرعية وما جاء فيها من الأحاديث في "أحكام الجنائز وبدعها".
(2) 102):قلت:فيه إشارة إلى أن رزقهم المذكور ليس في القبر وإنما عند ربهم وذلك صريح في حديث مسروق قال:سألنا عبد الله (ابن مسعود) عن هذه الآية: { ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون } ؟ قال:أما إنا قد سألنا عن ذلك ؟ فقال:أرواحهم في جوف طير خضر لها قناديل معلقة بالعرش تسرح من الجنة حيث شاءت ثم تأوي إلى تلك القناديل..." الحديث. رواه مسلم وغيره. وهو مخرج في "الصحيحة" (2633).(13/77)
"العقد"(1):
"أخرج أبو يعلى والبيهقي وصححه(2) عن أنس رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:
{ الأنبياء أحياء في قبورهم يصلون } . وأخرج الإمام أحمد ومسلم في "صحيحه" والنسائي(3) عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: { مررت ليلة أسري بي على موسى قائما يصلي في قبره } قال المناوي(4):"أي يدعو ويثني عليه ويذكره فالمراد الصلاة اللغوية وهي الدعاء والثناء وقيل: المراد الشرعية وعليه القرطبي. ولا تدافع بين هذا وبين رؤيته إياه تلك الليلة في السماء السادسة لأن للأنبياء عليهم والسلام مسارح أو لأن أرواح الأنبياء بعد مفارقة البدن في الرفيق الأعلى ولها إشراف على البدن وتعلق به وبهذا التعلق رآه يصلي في قبره ورآه في السماء فلا يلزم كون موسى عليه السلام عرج به من قبره
__________
(1) 103):يعني "العقد الثمين في بيان مسائل الدين" (ص163-164). مختصر بتصرف يسير. ومؤلفه علي بن محمد بن سعيد العباسي السويدي من علماء الحديث في العراق ولد في بغداد ومات في دمشق سنة (1237).
(2) 104):قلت:لنظر أين صححه ؟ فإنه لما أخرجه في "حياة الأنبياء" أعله بتفرد الحسن بن قتيبة وهو كما قال الذهبي: هالك لكنه لم يتفرد به كما حققته في "الأحاديث الصحيحة"(621) وبينت فيه صحة الحديث ووهم من طعن في أحد رواته فراجعه فإنه بحث مفيد عزيز قلما تراه في كتاب.
(3) 105):قلت:وزادا لهما في رواية لهما: { عند الكثيب الأحمر } .وكذلك أخرجه أحمد وغيره وهو مخرج عندي في "الصحيحة" رقم (2627).
(4) 106):أي في "فيض القدير" باختصار يسير (5/519-520) والزيادة الآتية بين المعكوفتين منه ولا يستقيم المعنى بدونها فالظاهر أنها سقطت من الناسخ.(13/78)
]ثم رد إليه بل ذلك مقام روحه واستقرارها وقبره مقام بدنه[ (1) واستقراره إلى يوم معاد الأرواح إلى الأجساد كما أن روح نبينا - صلى الله عليه وسلم - بالرفيق الأعلى وبدنه الشريف في ضريحه المكرم يرد السلام على من يسلم عليه(2) ومن غلظ طبعه عن إدراك هذا فلينظر إلى السماء في علوها وتعلقها وتأثيرها في الأرض وحياة النبات والحيوان وإذا تأملت في هذه الكلمات علمت أن لا حاجة إلى التكلفات البعيدة التي منها أن هذا كان رؤية منام أو تمثيلا أو اخبارا عن وحي لا رؤية عين". وفي "المواهب اللدنية"(3):
__________
(1) 107):سقطت من الأصل واستدركتها من "فيض القدير".
(2) 108):كما في حديث أبي داود الآتي قلت:وبالجملة فحياة الأنبياء بعد الموت حياة برزخية ولنبينا - صلى الله عليه وسلم - فيها من الخصائص ما ليس لغيره كهذه الخصوصية وغيرها مما يأتي ولكن لا يجوز التوسع في ذلك بالأقيسة والأهواء كما جاء في آخر "مراقي الفلاح" تحت "فصل زيارة النبي - صلى الله عليه وسلم -" ما نصه:
"ومما هو مقرر عند المحققين أنه - صلى الله عليه وسلم - حي يرزق بجميع الملاذ والعبادات غير أنه حجب عن أبصار القاصرين".
(3) 109):الجزء الثاني المقصد الخامس ص 24 مختصرا.(13/79)
"اختلف في رؤية نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - لهؤلاء الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فحمل ذلك بعضهم على رؤية أرواحهم إلا عيسى عليه السلام فيحتمل أن يكون عليه الصلاة والسلام عاين كل واحد منهم في قبره في الأرض على الصورة التي أخبر بها من الموضع الذي ذكر أنه عاينه فيه فيكون الله عز وجل قد أعطاه من القوة في البصر والبصيرة ما أدرك به ذلك ويشهد له رؤيته - صلى الله عليه وسلم - الجنة والنار في عرض الحائط والقدرة صالحة لكليهما إلى آخر ما قال".انتهى ما في "المواهب وشرحه" وتمام البحث فيه وأن أجسام الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لا تأكلها الأرض كما ورد بالحديث بخلاف غيرهم. وقد روى في "المواهب" عن أبي داود بلفظ
{ إن الأرض لا تأكل أجساد الأنبياء } (1) من خصائص نبينا عليه الصلاة والسلام أن الله تعالى وكل ملكا يبلغه صلاة المصلين والمسلمين عليه(2). وورد أيضا: { ما من أحد يسلم
__________
(1) 110):(3/119) لكن لفظ الحديث فيه: { إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء } . وعزاه للنسائي أيضا وقال:"وصححه ابن خزيمة وابن حبان والدارقطني". قلت:وصححه آخرون. وهو مخرج في "صحيح أبي داود" برقم (962).
(2) 111):يشير إلى حديث ابن مسعود مرفوعا: { إن لله ملائكة سياحين في الأرض يبلغوني من أمتي السلام } وهو صحيح الإسناد مخرج في "المصدر السابق" برقم (924) وفي "فضل الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم -" لإسماعيل القاضي (21) وانظر "المواهب" (1/421).(13/80)
علي إلا رد الله علي روحي فرددت عليه } (1). فلا تغفل.
النعيم والعذاب في القبر للروح والبدن
وأما كون العذاب والنعيم للروح والبدن فأمر مسلم عند الجمهور ولا ينافي عدم السماع على قول الأئمة الحنفية ومن وافقهم فهذا النائم يرى الرؤيا فتلتذ روحه وبدنه أو تغتم روحه ويتألم ويضطرب بدنه وإذا تكلم عنده شخص وهو في تلك الحالة لا يسمع وقد وردت به الأخبار فاعتقدته ذوو الأبصار قال ابن وهبان(2) الحنفي في منظومته الشهيرة:
وحق سؤال القبر ثم عذابه وكل الذي عنه النبيون أخبروا
حساب وميزان صحائف نشرت جنان ونيران صراط ومحشر
__________
(1) 112):أخرجه أبو داود أيضا وغيره باللفظ المذكور إلا أنه قال: { ... روحي حتى أرد عليه السلام } وإسناده حسن كما بينته في "الصحيحة" (2266). وأما قول مؤلف "تتمة الأضواء" (8/576):"جاء في الصحيح { ما من أحد يسلم... } فخطأ مزدوج عند العلماء فإن الحديث إنما هو حسن فقط كما ذكرنا وقوله:"في الصحيح" يراد به في عرفهم أن الحديث في "صحيح البخاري" أو "صحيح مسلم" وليس هو عند أحدهما وإن أراد مطلق الصحة فليس الأمر كذلك فتنبه.
وأما حديث "من صلى علي عند قبري سمعته ومن صلى علي نائيا أبلغته" فهو موضوع كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" (27/241) وقد خرجته في "الضعيفة" (203). ولم أجد دليلا على سماعه - صلى الله عليه وسلم - سلام من سلم عند قبره وحديث أبي داود ليس صريحا في ذلك فلا أدري من أين أخذ ابن تيمية قوله (27/384):أنه - صلى الله عليه وسلم - يسمع السلام من القريب وحديث ابن مسعود المتقدم مطلق. والله أعلم.
(2) 113):هو عبد الوهاب بن أحمد بن وهبان القاضي أبو محمد الدمشقي فقيه أديب ولي قضاء حماه. وكان مشكور السيرة توفي سنة (768) في نحو الأربعين من عمره ومنظومته في ألف بيت.(13/81)
وقال شارحها ابن الشحنة(1):
اشتمل البيتان على مسائل:
الأولى: سؤال منكر ونكير(2) وهما ملكان يدخلان القبر فيسألان العبد عن دينه ونبيه وهو مما يجب الإيمان به لأنه أمر ممكن أخبر به الصادق المعصوم - صلى الله عليه وسلم - والأحاديث فيها ثابتة صحيحة أي مثل ما رواه البخاري(3) عن أنس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: { إن العبد إذا وضع في قبره وتولى عنه أصحابه وإنه ليسمع قرع نعالهم أتاه ملكان فيقعدانه فيقولان: ما كنت تقول في هذا الرجل ؟ لمحمد - صلى الله عليه وسلم - فأما المؤمن فيقول: أشهد أنه عبد الله ورسوله فيقال ]له[: انظر مقعدك من النار قد أبدلك الله تعالى به مقعدا من الجنة فيراهما ]جميعا[ وأما المنافق والكافر فيقال له: ما كنت تقول في هذا الرجل؟ فيقول: لا أدري كنت أقول ما يقول الناس فيقال: لا دريت ولا تليت ويضرب بمطارق من حديد ضربة فيصيح صيحة يسمعها من يليه غير الثقلين } . انتهى.
__________
(1) 114):هو عبد البر بن محمد محب الدين بن محمد أبو البركات الحلبي القاهري يعرف كسلفه بابن الشحنة مؤلف "الذخائر الأشرفية في الألغاز الحنفية" تولى قضاء حلب ثم القاهرة. مات سنة (912).
(2) 115):ثبت ذكرهما باسميهما في حديث أبي هريرة مرفوعا وهو مخرج في "الجنائز" (ص 156) وله شاهد من حديث البراء المتقدم (ص 72) عند البيهقي في "الشعب" (1/181) وآخر موقوف على ابن عباس رواه الطبراني في "الأوسط"
(1/82/1 مجمع البحرين) وحسن إسناده الهيثمي في "مجمع الزوائد" (3/54) وفيه عبد الله بن كيسان المروزي وهو صدوق يخطئ. وآخران:عن أبي الدرداء موقوفا وعطاء بن يسار مرسلا عند الآجري (366-367).
(3) 116):قلت:رواه مسلم أيضا كما تقدم (ص55) وكذا الآجري في "الشريعة" ص (365) وغيره.(13/82)
الثانية: عذاب القبر للكافرين وبعض عصاة المؤمنين وتنعيم أهل الطاعة في القبر بما يعلمه الله تعالى ويريده والنصوص في ذلك صحيحة كثيرة يبلغ معناها حد التواتر قال المصنف(1): "ومن أكلته السباع والحيتان فغاية أمره أن يكون بطن ذلك قبرا له". باقتصار (2).
نعم إن بعض العلماء ذهب إلى عدم إعادة الروح إلى البدن وقت السؤال وأن السؤال للروح
فقط وكذا التعذيب أو التنعيم ومنهم أبو محمد بن حزم الظاهري الشهير فإنه قال في كتابه
"الملل والنحل"(3) من كلام طويل ما لفظه:
وأيضا فإن جسد كل إنسان لا بد له من العود إلى التراب يوما كما قال عز وجل: { مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى } فكل من ذكرنا من مصلوب أو غريق
أو محرق أو أكيل سبع أو دابة بحر أو قتيل لم يقبر فإنه يعود رمادا أو رجيعا أو يتقطع فيعود إلى الأرض ولا بد وكل مكان استقرت فيه النفس إثر خروجها فهو لها قبر إلى يوم القيامة وأما من ظن أن الميت يحيى في قبره ]قبل[ يوم القيامة فخطأ (4) لأن الآيات التي ذكرناها تمنع من ذلك ولو كان ذلك لكان تعالى قد أماتنا ثلاثا ]وأحيانا ثلاثا[ وهذا باطل وخلاف القرآن
__________
(1) 117):يعني ابن وهبان صاحب المنظومة المتقدم.
(2) 118):كذا الأصل ولعل الصواب:"انتهى باختصار".
(3) 119):(4/67-68) ولو قال المؤلف:"وما لفظه مختصرا" لكان أقرب إلى الواقع لا سيما وفيه بعض الألفاظ التي أضافها المؤلف بيانا منه ليست في الأصل.
(4) 120):قلت:بل هذا على إطلاقه هو الخطأ وسيأتي بيانه من المؤلف نقلا عن ابن القيم رحمه الله (ص87- 88).(13/83)
إلا من أحياه الله تعالى آية لنبي من الأنبياء عليهم السلام كـ (1) { الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ } و { الَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ } ]ومن خصه نص[ وكذلك قوله تعالى: { اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمّى } فصح نص القرآن أن أرواح سائر من ذكرنا لا ترجع إلى جسده إلا إلى الأجل المسمى وهو يوم القيامة وكذا أخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه رأى الأرواح ليلة أسري به عند سماء الدنيا عن يمين آدم عليه السلام أرواح أهل السعادة وعن شماله أرواح أهل الشقاوة وأخبر - صلى الله عليه وسلم - يوم بدر إذ خاطب الموتى وأخبر أنهم قد وجدوا ما وعدهم به حقا قبل أن يكون لهم قبور(2) فقال له المسلمون: يا رسول الله أتخاطب أقواما قد جيفوا ؟ فقال - صلى الله عليه وسلم -: { ما أنتم بأسمع لما أقول منهم } فلم ينكر - صلى الله عليه وسلم - على المسلمين قولهم "قد جيفوا" وأعلمهم ]أنهم[ سامعون فصح أن ذلك لأرواحهم فقط بلا شك وأما الجسد فلا حس له ]قال الله عز وجل: { وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ } فنفى عز وجل السمع
__________
(1) 121):الأصل تبعا لأصله "الملل”:(و) والتصويب من "الروح" (ص42). والزيادة الآتية بين المعكوفتين [ ] منه نقلا عن "الملل" وليست في نسختنا المطبوعة منها ولعلها سقطت منها فإنها في"المحلى"لابن حزم (1/22) بلفظ:"وكل من جاء فيه بذلك نص".
(2) 122):قلت:نفي ابن حزم هذا يخالف قوله المتقدم آنفا:"ومكان استقرت فيه النفس إثر خروجها فهو لها قبر" فتأمل.(13/84)
عمن في القبور وهي الأجساد بلا شك. ولا يشك مسلم في أن الذي نفى الله عز وجل عنه السمع هو غير الذي أثبت له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - السمع فهذا هو الحق وأما ما خالف هذا فخلاف لله عز وجل ولرسوله - صلى الله عليه وسلم - مكابرة للعقل وللمشاهدة[ (1) ولم يأت قط عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في خبر يصح أن أرواح الموتى ترد ]إلى[ أجسادهم عند المساءلة ولو صح ذلك عنه - صلى الله عليه وسلم - لقلنا له فإذا لم يصح فلا يحل لأحد أن يقوله وإنما انفرد بهذه الزيادة من رد الأرواح في القبور إلى الأجساد المنهال بن عمرو وحده وليس بالقوي (2)
__________
(1) 123و125):ما بين المعكوفتين لا وجود له في هذا المكان من "الملل" فلعله في بعض النسخ أو في مكان آخر منه نقله المؤلف إلى هنا أو هو حاشية كانت على الهامش فنقلها الناسخ إلى هنا وهما منه. وما ذكر في الزيادة الثانية عن الضبي في ثبوت عنه نظر كما في "التهذيب"والله أعلم.
(2) 124):قلت:هذه دعوى مردودة بل هي من مجازفاته المعروفة فالحديث صحيح من حديث البراء بن عازب له طرق كثيرة كما قال القرطبي في "التذكرة"(ق84/2) وتبعه ابن القيم في "الروح"(ص46) والسيوطي في "شرح الصدور"(ص22) وصححه غيرهم من أئمة الحديث المتقدمين كما تراه في "الجنائز" (ص159) و"الصحيحة" (1391) ومنهم البيهقي في "شعب الإيمان" (1/281) وله عنده طريق أخرى وقد ساقه ابن القيم مع طرقه الأخرى فليرجع إليه من شاء التوسع (ص 82- 83). = = = = = = = =
= = وأما قوله في المنهال:"وليس بالقوي" فقد رده ابن القيم وغيره كابن القطان كما تراه في "تهذيب التهذيب" ويكفي في رد ذلك أنه من رجال البخاري.(13/85)
]تركه شعبة وغيره وقال فيه المغيرة بن مقسم الضبي- وهو أحد الائمة-:"ما جازت قط للمنهال بن عمرو شهادة في الإسلام على باقة بقل"[(1) وسائر الأخبار الثابتة على خلاف ذلك وهذا الذي قلنا هو الذي صح أيضا عن الصحابة رضي الله تعالى عنهم عنهم لم يصح عن أحد منهم غير ما قلنا كما حدثنا محمد بن سعيد بن نبات حدثنا إسماعيل بن إسحاق البصري(2): نا عيسى بن حبيب(3):حدثنا عبد الله بن عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله بن يزيد المقرئ عن جده محمد بن عبد الله عن سفيان ابن عيينة عن منصور بن صفية عن أمه صفية بنت شيبة قالت: دخل ابن عمر المسجد فأبصر ابن الزبير مطروحا قبل أن يصلب فقيل له: هذه أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنها فمال ابن عمر إليها فعزاها وقال إن هذه الجثث ليست بشيء وإن الأرواح عند الله عز وجل. فقالت أسماء: وما يمنعني(4) وقد أهدي رأس زكريا(5)
__________
(2) 126):انظر "الشذرات" (2/178) و"تذكرة الحفاظ ".
(3) 127):لم أعرفه ومثله شيخه عبد الله بن عبد الرحمن وقد ذكره في " التهذيب " في الرواة عن جده محمد بن عبد الله لكن وقع فيه مقلوبا بالنسبة لما هنا فقال في ترجمة محمد هذا:" وعنه... ابن ابنه عبد الرحمن بن عبد الله بن محمد " ولعله من أجل الجهالة المشار إليها أشار الحافظ ابن كثير في تاريخه"البداية"(8/346) إلى تضعيف هذه القصة بقوله:"وقيل:إن ابن عمر دخل...".فتصحيح ابن حزم لها مردود. والله أعلم.
(4) 128):قلت:تعني من الصبر وقد جاء هذا البيان في صلب الرواية في "كتاب الأهوال" (ق180/1) وفي تاريخ"البداية ".
(5) 129):كذا في الأصل تبعا لأصله المنقول عنه وكذا وقع في "المحلي" لابن حزم أيضا (1/22) وعلق عليه الشيخ أحمد شاكر رحمه الله بقوله:"هنا بهامش الأصل ما نصه:المعروف في كتب التفسير والآثار أن يحيى هو الذي أهدي رأسه إلى البغي وأما زكريا فإنه نشر بالمنشار في باطن الشجرة فكأنه سقط لفظ (يحيى) وأن الأصل يحيى بن زكريا ".
قلت:وهكذا على الصواب وقع في "الأهوال" و"البداية".(13/86)
إلى بغي من بغايا بني إسرائيل. و: نا محمد بن سعيد بن نبات: نا أحمد
بن عون الله: نا قاسم بن أصبغ: نا محمد بن عبد السلام الخشني: نا أبو موسى محمد بن المثنى الزمن: نا عبد الرحمن بن مهدي: نا سفيان الثوري عن أبي اسحاق السبيعي عن أبي الأحوص عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه في قول الله عز وجل: { قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ } ]قال[: هي التي في (البقرة): { وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } (1). فهذا ابن مسعود وأسماء بنت أبي بكر الصديق وابن عمر رضي الله تعالى عنهم ولا مخالف لهم من الصحابة رضي الله تعالى عنهم تقطع أسماء وابن عمر على أن الأرواح باقية عند الله تعالى وأن الجثث ليست بشيء ويقطع ابن مسعود بأن الحياة مرتان والوفاة كذلك وهو قولنا وبالله تعالى التوفيق. وقد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - انه رأى موسى عليه السلام تلك الليلة في السماء السادسة أو السابعة(2)
__________
(1) 129):قلت:وأخرجه ابن جرير في "تفسيره" (24/31):حدثنا ابن بشار:ثنا عبد الرحمن به. وأخرجه الحاكم (2/437) من طريق آخر عن أبي إسحاق به. وقال:"صحيح على شرط الشيخين" ووافقه الذهبي وهو كما قالا. وأورده في "الدر"(5/374) بزيادة في آخره بلفظ:"كانوا أمواتا في أصلاب آبائهم ثم أخرجهم فأحياهم ثم يميتهم ثم يحييهم بعد الموت". وعزاه للفريابي وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني. وقال ابن كثير عقبه: "وكذا قال ابن عباس والضحاك وقتادة وأبو مالك وهذا هو الصواب الذي لا شك فيه ولا مرية". وبه جزم في "شرح الطحاوية" (ص446- الطبعة الرابعة).
(2) 130):كذا على الشك وكذا قال ابن القيم في "الروح" (ص45) وسبب الشك اختلاف الروايات ففي بعضها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى موسى في السماء السادسة وفي أخرى:السابعة وقد حاول الحافظ ابن حجر التوفيق بينهما فراجع شرحه للحديث في أول "كتاب الصلاة" من "البخاري".(13/87)
وبلا شك أنه رأى روحه وأما الجسد فموارى في التراب بلا شك فعلى هذا إن كل موضع روح يسمى قبرا له فتعذب الأرواح حينئذ وتسأل حيث هي. وبالله تعالى التوفيق". انتهى كلام ابن حزم بحروفه. ولا تنس توقف الإمام الأعظم في ذلك.
وقد رده العلامة ابن القيم في "كتاب الروح"(1) بعد أن نقل بعضه بقوله:
"قلت ما ذكره أبو محمد فيه حق وباطل أما قوله:"من ظن أن الميت يحيا في قبره فخطأ" فهذا فيه إجمال إن أراد به الحياة المعهودة في الدنيا التي يقوم فيها الروح بالبدن وتدبره وتصرفه ويحتاج معها ]إلى[ الطعام والشراب واللباس فهذا خطأ كما قال والحس والعقل يكذبه كما يكذبه النص وإن أراد به حياة أخرى غير هذه الحياة بل تعاد الروح إليه إعادة غير الإعادة المألوفة في الدنيا ليسأل ويمتحن في قبره فهذا حق ونفيه خطأ".
إلى أن قال ابن القيم(2):"إن الروح بالبدن لها خمسة أنواع من التعلق متغايرة الأحكام:
أحدها: تعلقها به في بطن الأم جنينا.
الثاني: تعلقها به بعد خروجه إلى وجه الأرض.
الثالث: تعلقها به في حال النوم فلها به تعلق من وجه ومفارقة من وجه.
الرابع: تعلقها به في البرزخ فإنها وإن فارقته وتجردت عنه فإنها لم تفارقه فراقا كليا بحيث لا يبقى لها التفات إليه البتة.
الخامس: تعلقها به يوم بعث الأجساد وهو أكمل أنواع تعلقها بالبدن ولا نسبة لما قبله من أنواع التعلق إليه إذ هو تعلق لا يقبل البدن معه موتا ولا نوما ولا فسادا" انتهى. وأطال في البحث كما هي عادته فمن أراده فليرجع إليه.
وتبين أيضا مما نقلناه عن أبي محمد بن حزم أنه موافق للحنفية أيضا في مسألة عدم سماع الموتى وإن خالفهم في غيره وهو من أجل علماء مذهب داود الظاهري المجتهد المشهور.
تتمه:
__________
(1) 131):(ص43).
(2) 132):يعني في "كتاب الروح" (ص43-44). ومثله في "شرح العقيدة الطحاوية" لابن أبي العز (ص451) وكأنه نقله عن ابن القيم فإنه متأخر الوفاة عنه ب (41) سنة.(13/88)
قال العلامة أبو الحسن علي سيف الدين الآمدي الأشعري(1) في كتابه "أبكار الأفكار" ما عبارته:
"الفصل الثالث في عذاب القبر ومسألة منكر ونكير:
وقد اتفق سلف الأمة قبل ظهور الخلاف وأكثرهم بعد ظهوره على إ ثبات إحياء الموتى في قبورهم ومساءلة الملكين لهم وتسمية أحدهما منكرا والآخر نكيرا وعلى إثبات عذاب القبر للمجرمين والكافرين وذهب أبو الهذيل(2) وبشر بن المعتمر(3) إلى أن من ليس بمؤمن فإنه
لا يسأل ويعذب فيما بعد النفختين أيضا وذهب الصالحي(4) من المعتزلة وابن جرير الطبري وطائفة من الكرامية إلى تجويز ذلك(5)
__________
(1) 133):هو علي بن محمد بن سالم التغلبي سيف الدين الآمدي أبو الحسن أصولي باحث له نحو عشرين مصنفا منها كتابه المعروف:"الإحكام في أصول الأحكام" وقد كان نفي من دمشق لسوء اعتقاده وصح عنه أنه كان يترك الصلاة. نسأل الله العافية. مات سنة (631).
(2) 134):هو محمد الهذيل العلاف من أئمة المعتزلة له كتب كثيرة في مذهبهم وكان سريع الخاطر قوي الحجة توفي سنة (235) وقيل غير ذلك.
(3) 135):كوفي ويقال:بغدادي من كبار المعتزلة وخالفهم في مسألة القدر مات سنة (210).
(4) 136):عرف بهذه النسبة قال السمعاني:"وكان يزعم أنه يجوز وجود الجوهر اليوم خاليا عن الأعراض ثم حدثت فيها الأعراض وأن العلم والقدرة والإرادة والسمع والرؤية يصح وجودها كلها في الميتة وعلى هذه يتصور أن يكون سائر الناس أمواتا" هذا كل ما ذكر في ترجمته.
(5) 137):يعني العذاب (على الموتى في قبورهم) يعني على أجسادهم دون إعادة الأرواح إليها كما سيوضحه جواب الآمدي نفسه الآتي (ص 90).
قال الحافظ ابن رجب (ق 81/1):"وممن ذكر ذلك من أصحابنا ابن عقيل في "كتاب الإرشاد" له وابن الزاغوني وحكي عن ابن جرير الطبري أيضا..." لكن أنكره الجمهور كما قال ابن القيم (ص50).(13/89)
على الموتى في قبورهم وذهب بعض المتكلمين إلى أن الآلام تجتمع في أجساد الموتى وتتضاعف من غير حس بها فإذا حشروا أحسوا بها دفعة واحدة وذهب ضرار بن عمرو(1) وبشر المريسي(2) وأكثر المتأخرين من المعتزلة إلى إنكار ذلك كله وأنكر الجبائي(3) وابنه والبلخي(4) تسمية الملكين منكرا ونكيرا مع الاعتراف بهما(5) وإنما المنكر ما يصدر من الكافر عند تلجلجه إذا سئل والنكير تقريع الملكين له.
__________
(1) 138):هو القاضي. قال الذهبي:"معتزلي جلد له مقالات خبيثة" قال ابن حزم:(كان ضرار ينكر عذاب القبر) قلت:ومثله اليوم كثير ممن يشككون في الأحاديث الصحيحة الصريحة في عذاب القبر ويدفعونها بزعمهم أنها أحاديث آحاد وأن القاعدة أنه لا تثبت بها عقيدة وقد بينت بطلان هذه القاعدة في رسالتين مطبوعتين:"الحديث حجة بنفسه في العقائد والأحكام" و"وجوب الأخذ بحديث الآحاد في العقيدة".
(2) 139):بفتح الميم وكسر الراء نسبة إلى (مريسة) بالصعيد والمشهور بالخفة وضبطها الصغاني بتثقيل الراء وهو فقيه معدود في فقهاء الحنفية ومن تلامذة الإمام أبي يوسف رحمه الله ولكن هذا كان يذمه ويعرض عنه لضلاله مع أنه كان ذا ورع وزهد. مات سنة (228).
(3) 140):بضم الجيم نسبة إلى (جبى) قرية في البصرة واسمه محمد بن عبد الوهاب أبو علي من أئمة المعتزلة. توفي سنة (303) وله ثمان وستون سنة.
(4) 141):هو عبد الله بن أحمد البلخي أبو القاسم الكعبي كان داعية إلى الاعتزال وله تصنيف يدل عليه كثرة اطلاعه وتعصبه توفي سنة (319).
(5) 142):لثبوت ذكرهما في الأحاديث الصحيحة بدون تسمية حتى بلغت مبلغ التواتر وقد ساقها السيوطي في "شرح الصدور" (ص 48-59) وأما التسمية فهي ثابتة في حديث أبي هريرة والبراء كما تقدم (ص 81) فمن أنكرها بعد ثبوتها فقد جهل!(13/90)
والدليل على إحياء الموتى في قبورهم قبل الحشر قبل الحشر قوله تعالى: { رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ } والمراد بالإماتتين ما بين الموتة التي قبل مزار القبور والموتة التي بعد مساءلة منكر ونكير والمراد بالحياتين:الحياة الأولى والحياة لأجل المساءلة على ما قاله المفسرون(1).
فإن قيل: لا نسلم أن المراد بالإماتتين والحياتين ما ذكرتموه وما ذكرتموه عن المفسرين فهو معارض بما يناقضه من قول غيرهم من المفسرين أيضا فإنه قد قيل: إن المراد بالإماتتين الموتة الأولى في أطوار النطفة قبل نفخ الروح فيها والثانية: التي قبل مزار القبور والمراد بالحياتين:الحياة التي قبل مزار القبور والمراد بالحياتين: الحياة التي قبل مزار القبور والحياة لأجل الحشر وليس أحد القولين أولى من الآخر بل هذا القول أولى لأنه لو كان كذلك فيكون على وفق المفهوم من قوله تعالى: { وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ } حيث يدل بمفهومه على نفي حياة ثالثة وما ذكرتموه يلزم منه أن يكون الإحياء ثلاث مرات:الإحياء الأول قبل مزار القبور والإحياء الثاني للمسألة والإحياء ]الثالث ] للحشر وهو خلاف المفهوم(2).
قلنا بل ما ذكرناه أولى لوجهين:
الأول: أنه الشايع المستفيض بين أرباب التفسير وما ذكرتموه نقول شذوذ لا يؤبه له.
__________
(1) 143):ليس في التفسير بالمأثور شيء من ذلك بل المروي عن ابن مسعود وغيره خلافه كما سبق (ص 86) فلا تعبأ بترجيح الآمدي له كما يأتي فإنه خلاف علم أصول التفسير. انظر (ص95- 102) من "مقدمة ابن تيمية في أصول التفسير" و"فصل في الإرشاد إلى طريق المعرفة لصحيح التفسير" (ص156- 158) من "إيثار الحق على الخلق" لأبي عبد الله اليماني رحمه الله.
(2) 144):قلت:ولذلك أبطله ابن حزم كما تقدم في كلامه المنقول في الكتاب (ص82-83) لكن ذلك لا ينافي الحياة الخاصة في البرزخ كما سبق بيانه من كلام ابن القيم رحمه الله (ص 87).(13/91)
الثاني: أنه حمل الإماتة على حالة أطوار النطفة مخالف للظاهر فإن الإماتة لا تطلق إلا بعد سابقة الحياة".
ثم إنه أطال(1) في الأجوبة إلى أن قال في الكلام على عذاب القبر وأدلة من يقول بنفيه:
"ومنها قوله تعالى حكاية عن الكفار إذا حشروا: { يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا } فإنه دليل على أنهم لم يكونوا معذبين قبل ذلك. ومنها قوله تعالى: { لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى } وهي خلاف قول من قال بأن الميت يحيى للمسائلة ثم يموت ". إلى أن قال:
__________
(1) 145):يعني الآمدي في كتابه السابق الذكر:"الأبكار".(13/92)
"والجواب: أما ما ذكروه من الشبهة الأولى فقد اختلف المتكلمون في جوابها فمنهم من قال بالتزام الثواب والعقاب في حق الموتى من غير حياة كما حكاه عن الصالحي وابن جرير الطبري وبعض الكرامية وأما أصحابنا(1) فقد اختلفوا فمنهم من قال ترد الحياة إلى بعض أجزاء البدن وأخصها منها بذلك والمسائلة والعذاب. وقال القاضي أبو بكر: لا يبعد أن ترد الحياة وان كنا نحن لا نشعر بها كما قال (صاحب السكة) "(2)
__________
(1) 146):يعني الأشاعرة.
(2) 147):قلت:لعله يشير إلى ما أخرجه ابن أبي الدنيا في كتاب "من عاش بعد الموت" من طريق أبي أيوب اليماني عن رجل من قومه يقال له عبد الله أنه ونفرا من قومه ركبوا البحر وأن البحر أظلم عليهم أياما ثم انجلت عنهم تلك الظلمة وهم قرب قرية قال عبد الله:فخرجت ألتمس الماء فإذا أبواب مغلقة تجأجأ عنها الريح فهتفت فيها فلم يجيبني أحد فبينما أنا على ذلك إذ طلع علي فارسان تحت كل فارس منهما قطيفة بيضاء فسألاني عن أمري فأخبرتهما بالذي أصابنا في البحر وأني خرجت أطلب الماء فقالا لي:يا عبد الله اسلك في هذه السكة فإنك ستنتهي إلى بركة فيها ماء فاستق منها ولا يهولنك ما ترى فيها. قال:فسألتهما عن تلك البيوت المعلقة التي تجأجأ فيها الريح ؟ فقالا:هذه بيوت فيها أرواح الموتى قال:فخرجت حتى انتهيت إلى البركة فإذا رجل معلق مقلوب على رأسه يريد أن يتناول الماء بيده وهو لا يناله فلما رآني هتف بي وقال:يا عبد الله اسقني. قال:فعرفت بالقدح لأناوله فقبضت يدي فقال لي:بل العمامة ثم ارم بها إلي قال:فبللت العمامة لأرمي بها إليه فقبضت يدي ؟ فقلت يا عبد الله غرفت بالقدح لأناولك فبضت يدي ثم بللت العمامة لأرمي بها إليك فقبضت يدي فاخبروني ما أنت ؟ فقال:أنا ابن آدم ؟ أنا أول من سفك الدماء في الأرض.
نقلته من "كتاب الأهوال" لابن رجب (ق 122/1-123/1) وسكت عنه وهي قصة غريبة عجيبة وعبد الله هذا راويها لم أعرفه وكذا أبو أيوب اليماني الراوي عنه.ثم رأيت في النسختين البغداديتين"السكتة" بدل "السكة" ولم أدر وجهه.(13/93)
.انتهى.
و أطال في الأجوبة فإن أردته فارجع إليه.
وتبين أيضا منه موافقة ابن جرير الطبري المجتهد وغيره للحنفية في عدم السماع لأنه لما نفى الحياة فمن الأولى أن ينفي السماع أيضا كما لا يخفى على كل ذي فهم غير متعصب فلا تغفل.
] زيارة القبور[
وأما مشروعية زيارة المقابر فاسمع ما قالته الأئمة الحنفية في كتبهم المرضية قال الشرنبلالي(1) في"مراقي الفلاح":"(فصل في زيارة القبور.ندب زيارتها) من غير أن يطأ القبور (للرجال والنساء وقيل تحرم على النساء) والأصح أن الرخصة ثابتة للرجال والنساء فتندب لهن أيضا(على الأصح) (2).
والسنة زيارتها قائما والدعاء عندها(3) قائما كما كان يفعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الخروج إلى البقيع ويقول السلام ]عليكم [ دار قوم مؤمنين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون أسأل الله لي ولكم العافية" (4).
(ويستحب) للزائر (قراءة) سورة (يس) لما ورد" انتهى(5).
__________
(1) 148):نسبة إلى (شبرى بلولة) ب (المنوفية) من (مصر) وهو حسن بن عمار بن علي المصري من فقهاء الحنفية مكثر من التصنيف مات سنة (1069).
(2) 149):انظر "أحكام الجنائز" (ص180).
(3) 150):قلت:لعله يعني الدعاء لها عندها بدليل الحديث الآتي وإلا فقصد القبر للدعاء عنده تبركا به لا يشرع بل هو من الشركيات والوثنيات التي ابتلي بها كثير من المسلمين كما شرحه شيخ الإسلام ابن تيمية في كتبه.
(4) 151):أخرجه مسلم وغيره عن أبي هريرة. انظر "أحكام الجنائز" (ص190).
(5) 152):يعني كلام "المراقي" (ص117) وتمامه:"عن أنس رضي الله عنه أنه قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:"من دخل المقابر فقرأ سورة ]يس[ خفف الله عنهم يومئذ وكان له بعدد ما فيها حسنات ".
قلت:وسكت عليه الطحطاوي في "حاشيته" (ص610) ولم يخرجه وهو حديث موضوع كما بينته في "الضعيفة" برقم
(1291) ومثله حديث "من مر بالمقابر فقرأ ]قل هو الله أحد[ أحد عشر مرة..." وبيانه في المصدر السابق (1290).(13/94)
وقال محشيه الطحطاوي(1):"(قوله " للرجال " ويقصدون بزيارتها وجه الله تعالى وإصلاح القلب(2) ونفع الميت بما يتلى عنده ]من القرآن ولا يمس القبر ولا يقبله(3) فإنه من عادة[(4) أهل الكتاب ولم يعهد الاستلام إلا للحجر الأسود والركن اليماني خاصة. وتمامه في الحلبي".
وقال الغزالي في "الإحياء"(5):"إن ذلك من عادة النصارى قوله:(وقيل: تحرم على النساء) وسئل القاضي عن جواز خروج النساء إلى المقابر؟ فقال: لا تسأل عن الجواز والفساد في مثل هذا وإنما تسأل عن مقدار ما يلحقها من اللعن فيه" وقال بعد أسطر:
__________
(1) 153):(ص610) من "الحاشية".
(2) 154):يعني بتذكرة الآخرة كما في قوله - صلى الله عليه وسلم -: { ... فزوروها فإنها ترق القلب وتدمع العين وتذكر الآخرة. ولا تقولوا هجرا } .انظر"أحكام الجنائز"(ص180).
(3) 155):ونحوه في"حاشية الباجوري على ابن قاسم"ونصه(1/277):"ويكره تقبيل القبر واستلامه ومثله التابوت الذي يجعل فوقه وكذلك الأعتاب عند الدخول لزيارة الأولياء".ثم استثنى مخربا بيده لما بنى فقال:"إلا إن قصد به التبرك بهم فلا يكره" قلت: وهل البلاء كله إلا من مثل هذا التبرك الموصل إلى الشرك ؟
(4) 156):سقطت من الأصل واستدركتها من "الحاشية".
(5) 157):في آخره (4/419) وقال في مكان آخر منه (1/232):"وليس ذلك من السنة".(13/95)
"إن مسألة القراءة على القبر ذات خلاف قال الإمام(1): تكره لأن أهلها جيفة ولم يصح فيها شيء عنده عنه - صلى الله عليه وسلم - (2).وقال محمد: تستحب". انتهى المقصود منه بلفظه.
قلت: وتعبير الإمام عن الميت ب (الجيفة) مأخوذ مما رواه أبو داود مرفوعا عنه - صلى الله عليه وسلم -:
"لا ينبغي لجيفة مسلم أن تبقى بين طهراني أهله". فافهم.
وقال أيضا:"فللإنسان أن يجعل ثواب عمله لغيره (3) عند أهل السنة والجماعة صلاة كان أو صوما أو حجا أو صدقة أو قراءة للقرآن أو الأذكار أو غير ذلك من أنواع البر ويصل ذلك إلى الميت وينفعه. قال الزيعلي(4) في "(باب الحج عن الغير)". انتهى(5).
ومثله من أبحاث الزيارة في "رد المحتار" وغيره من كتب المذهب. وكذا مسائل القراءة ونحوها المسطورة في كتب سائر المذاهب تركناها خشية التطويل إذ كان المقصود من تحرير هذه الرسالة بيان قول الأئمة الحنفية أن الميت لا يسمع عندهم وعند جملة من علماء المذاهب الأخر فأثبتنا ولله الحمد صحة نقلنا عنهم وما تلقيناه منهم.
__________
(1) 158):يعني أبا حنيفة رحمه الله وهو مذهب الجمهور ومنهم الإمام مالك والشافعي وأحمد كما تراه منقولا عنهم في "أحكام الجنائز"(191-192)وراجع لهذا رسالة العلامة البركوي في"زيارة القبور"(ص322- 323 هامش شرعة الإسلام).
(2) 159):قلت:وهذا التعليل الثاني هو المعتمد بخلاف الأول فإنه مما لا دليل عليه حتى ولو صح الحديث الذي استدل به المؤلف فيما يأتي فكيف وهو غير صحيح كما هو مبين في "أحكام الجنائز" (ص13).
(3) 160):في هذا الإطلاق نظر بينته في المصدر السابق تحت عنوان:"ما ينتفع به الميت" (ص168-178) فراجعه فإن فيه تحقيقا قلما تراه في كتاب آخر.
(4) 161):يعني في "شرح الكنز" (1/112).
(5) 162):يعني كلام الطحطاوي.(13/96)
فإن قيل: إذا كان مذهب الحنفية وكثير من العلماء المحققين على عدم السماع فما فائدة السلام على الأموات وكيف صحة(1) مخاطبتهم عند السلام ؟
قلت: لم أجد فيما بين يدي الآن من كتبهم جوابهم عن ذلك ولا بد أن تكون لهم أجوبة عديدة فيما هنالك والذي يخطر في الذهن ويتبادر إلى الخاطر والفهم أنهم لعلهم أجابوا بأن ذلك أمر تعبدي وبأنا نسلم سرا في آخر صلاتنا إذا كنا مقتدين وننوي بسلامنا الحفظة
والإمام وسائر المقتدين مع أن هؤلاء القوم لا يسمعونه لعدم الجهر به فكذا ما نحن
فيه(2).
على أن السلام هو الرحمة للموتى وننزلهم منزلة المخاطبين السامعين وذلك شائع في العربية كما لا يخفى على العارفين فهذه العرب تسلم على الديار وتخاطبها على بعد المزار(3)
__________
(1) 163):كذا الأصل ولعل الصواب "صحت".
(2) 164):قلت:ومن هذا القبيل قول الضرير في حديثه المشهور: { يا محمد إني توجهت بك إلى ربي... } الحديث وهو مخرج في رسالتي "التوسل" (ص67-68). وهذا إذا افترض أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان بعيدا أو غائبا عنه لا يسمعه وأما إذا كان ذلك في حضوره - صلى الله عليه وسلم - فلا إشكال.
(3) 165):قلت:ومن ذلك مخاطبة النبي - صلى الله عليه وسلم - الهلال حين يراه بقوله: { ... ربنا وربك الله } ونحوه مما جاء في عدة أحاديث مخرجة في "المشكاة" (2428و2451) و"الكلم الطيب" (ص91/161) و"الصحيحة" (1816). و"الضعيفة"
(1506). ومثله ما روي عن ابن عمر مرفوعا:"كان إذا سافر فأقبل الليل قال:يا ارض ربي وربك الله أعوذ بالله من شرك وشر ما فيك..."الحديث وقد صححه بعضهم لكن في إسناده جهالة كما بينته في "الكلم الطيب" (99/180) و"المشكاة" (3439- التحقيق الثاني).
وفي ذلك كله رد قوي على قول ابن القيم في "الروح" (ص8) وقد ذكر السلام على الأموات:
"فإن السلام على من لا يشعر ولا يعلم بالمسلم محال" قال:"وهذا السلام والخطاب والنداء لموجود يسمع ويخاطب ويرد". وكأنه رحمه الله لم يستحضر خطاب الصحابة للنبي - صلى الله عليه وسلم - في التشهد:" السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته " خلفه في المدينة وبعيدا عنه في سائر البلاد بحيث لو خاطبوه بذلك جهرا لم يسمعهم - صلى الله عليه وسلم - فضلا عن جمهور المسلمين اليوم وقبل اليوم الذي يخاطبونه بذلك أفيقال:إنه يسمعهم ؟ أو أنه من المحال السلام عليه وهو لا يشعر بهم ولا يعلم ؟ وكذلك لم يستحضر رحمه الله قول شيخ الإسلام ابن تيمية في توجيه هذا السلام ونحوه فقال في "الاقتضاء" (ص416) وقد ذكر حديث الأعمى المشار إليه آنفا:"وقوله:"يا محمد" هذا وأمثاله نداء يطلب به استحضار المنادي في القلب فيخاطب لشهوده بالقلب كما يقول المصلي: "السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته" والإنسان يفعل هذا كثيرا يخاطب من يتصوره في نفسه وإن لم يكن في الخارج من سمع الخطاب".(13/97)
.
وبعد أن حررت هذه الكلمات رأيت في "شرح الزرقاني على موطأ الإمام مالك" في
"فصل جامع للوضوء"(1) في الكلام على حديث أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج إلى المقبرة فقال: { السلام عليكم دار قوم مؤمنين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون } (2) ما لفظه:
"قال الباجي(3) وعياض(4):يحتمل أنهم أحيوا له حتى سمعوا كلامه كأهل القليب ويحتمل أن يسلم عليهم مع كونهم أمواتا لامتثال أمته ذلك بعده. قال الباجي(5): وهو الأظهر "(6).
__________
(1) 166):(ج 1ص63) والزرقاني نسبة إلى (زرقان) من قرى منوف بمصر وهو محمد بن عبد الباقي المصري الأزهري المالكي توفي سنة (1122).
(2) 167):أخرجه مسلم أيضا وغيره وقد سقت الحديث بتمامه وخرجته في "أحكام الجنائز" (ص190).
(3) 168):نسبة إلى (باجة) بالأندلس واسمه سليمان بن خلف أبو الوليد القرطبي فقيه مالكي كبير من رجال الحديث. مات سنة (474).
(4) 169):هو عياض بن موسى القاضي أبو الفضل عامل المغرب وإمام أهل الحديث في وقته وكان من أعلم الناس بكلام العرب وأنسابهم وأيامهم توفي بـ (مراكش) سنة (544).
(5) 170):في"المنتفى"(1/69).
(6) 171):قلت:كل من الاحتمالين غير قوي عندي أما الأول فلأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يخاطب الموتى بالسلام المذكور كلما زار القبور كما في حديث عائشة رضي الله عنها:"كان - صلى الله عليه وسلم - كلما كان ليلتها من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخرج من آخر الليل فيقول:السلام عليكم دار قوم مؤمنين..." الحديث. رواه مسلم وغيره وهو مخرج في "أحكام الجنائز" (ص189) فهل كانوا يجيبونه كلما سلم عليهم ؟.
وأما الآخر فهو أضعف منه لأنه يعود السؤال السابق:لماذا خاطبهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك ؟ اللهم إلا أن يكون مراده أن الأمر تعبدي محض. والله أعلم.(13/98)
]ورأيت أيضا في "حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح" في "باب الصلاة على الجنائز"(1) ما عبارته:"قوله:(وينوي بالتسليمتين الميت مع القوم) وجزم في "الظهيرية" بأنه لا ينوي الميت ومثله لقاضي خان. وفي "الجوهرة":قال في "البحر":وهو الظاهر لأن الميت لا يخاطب بالسلام لأنه ليس أهلا للخطاب. قال بعض الفضلاء:وفيه نظر. لأنه ورد أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يسلم على ]أهل[ القبور انتهى. على أن المقصود منه الدعاء لا الخطاب" انتهى بلفظه.
وكذلك في "حاشية ابن عابدين" على "الدر المختار"(2).
وقال في "البحر"(3) ما نصه:
"وفي "الظهيرية": ولا ينوي الإمام الميت في تسليمتي الجنازة بل ينوي من على يمينه في التسليمة الأولى ومن على يساره في التسليمة الثانية. انتهى. وهو الظاهر لأن الميت لا يخاطب بالسلام ]عليه[ حتى ينوى به إذ ليس أهلا له". انتهى ما في "البحر"؟ بحروفه.
فتبين لك من كلام الفقهاء المشهورين أن الميت لا ينوي بالسلام ولا يخاطب وأن القصد بسلامه الدعاء. وهذا كله مطابق لما قدمناه. والحمد لله رب العالمين.
إذا علمت ما مضى من النقول الصحيحة وأقوال أهل المذهب الحنفي وغيرهم الرجيحة تبين لك ما في الرسالة المسماة ب "المحنة الوهبية" من الخبط والخلط والكذب وسوء الفهم والتلبيس وإطالة اللسان على القائلين بعدم السماع بما لفظ بعضه:"فيلزم من قوله هذا أن الذي ينكر سماع الكفار يكفر لأن جاحد المعلوم من الدين بالضرورة يكفر". انتهى.
فنعوذ بالله من الخذلان وتكفير المسلمين والجدال الباطل في الدين[(4).
فافهم ما قلناه وكن من الشاكرين.
الخاتمة
__________
(1) 172):(341 ـ الطبعة الأزهرية).
(2) 173):(ج 1/817).
(3) 174):(ج 2/197).
(4) 175):ما بين المعكوفتين من الصفحة (97) إلى هنا زيادة استدركناها من النسختين البغداديتين.(13/99)
- ونسأل الله تعالى حسنها إذا بلغت الروح المنتهى - في بيان الخلاف في مستقر الأرواح بعد مفارقتها البدن إلى يوم القيامة والبعث ]ونتبعها بمسائل[.
قال الحافط ابن القيم في "كتاب الروح"(1):"هذه مسألة عظيمة تكلم فيها الناس واختلفوا فيها وهي إنما تتلقى من السمع فقط واختلف في ذلك.
فقال قائلون: أرواح المؤمنين عند الله تعالى في الجنة شهداء كانوا أم غير شهداء إذا
لم يحبسهم عن الجنة كبيرة ولا دين ويلقاهم ربهم بالعفو عنهم وهذا مذهب أبي هريرة
وعبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما (2).
]وقالت طائفة: هم بفناء الجنة على بابها يأتيهم من روحها ونعيمها ورزقها[ .
وقالت: طائفة الأرواح على أفنية القبور.
وقال الإمام مالك: بلغني أن الروح مرسلة تذهب حيث شاءت.
وقال الإمام أحمد في رواية ابنه عبد الله:أرواح الكفار في النار وأرواح المؤمنين في الجنة(3)
__________
(1) 176):(ص90-117).
(2) 177):قلت:وهو الصحيح من الأقوال الآتية لأن غيره مما لا دليل عليه في السنة أو في أثر صحيح تقوم به الحجة كما سترى وهو الذي جزم به شيخ الإسلام ابن تيمية في"الفتاوى"(24/365) وقال:"ومع ذلك فتتصل بالبدن متى شاء الله وذلك في اللحظة بمنزلة نزول الملك وظهور الشعاع في الأرض وانتباه النائم ".
وللحافظ ابن رجب تفصيل جيد في ذلك في كتابه"الأهوال"(ق95 ـ 113/3)ولولا خشية الإطالة لنقلته برمته فاكتفيت بالإشارة.
(3) 178):قلت:الذي في"مسائل عبد الله لوالده أحمد"(ص129 ـ مخطوطة الظاهرية):"سألت أبي عن أرواح الموتى أتكون في أفنية قبورها أم في حواصل طير أم تموت كما تموت الأجساد؟ فقال:(فذكر حديث مالك الآتي قريبا (ص 104) ثم قال:وقد روي عن عبد الله بن عمرو قال:إن أرواح المؤمنين في أجواف طير خضر كالزاير(كذا) يتعارفون فيها ويرزقون من ثمرها. وقال بعض الناس:أرواح الشهداء في أجواف طير خضر تأوي إلى قناديل في الجنة معلقة بالعرش".(13/100)
وقال أبو عبد الله بن منده: قال طائفة من الصحابة والتابعين: إن أرواح المؤمنين
بـ (الجابية)(1) وأرواح الكفار بـ (برهوت):بئر بـ (حضرموت).
وقال صفوان بن عمرو(2): سألت عامر بن عبد الله أبا اليمان:هل لأنفس المؤمنين مجتمع؟ فقال: إن الأرض التي يقول الله تعالى: { وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ } هي الأرض التي يجتمع إليها أرواح المؤمنين حتى يكون البعث.
وقال: هي الأرض التي يورثها الله المؤمنين في الدنيا(3).
وقال كعب: أرواح المؤمنين(4) في عليين في السماء السابعة وأرواح الكفار في سجين في الأرض السابعة تحت خد إبليس .
__________
(1) 179):قرية من ناحية الجولان شمالي حوران وباب الجابية بدمشق منسوب إلى هذا الموضع قلت:وهذا الأثر خرجه ابن القيم (106ـ107) عن جمع وليس فيها ما يثبت إسناده.
(2) 180):في النسخ الثلاث "عمر"بدون الواو" والتصويب من كتب الرجال ومن "الأهوال"(ق122/1).
(3) 181):قال الحافظ ابن رجب:"خرجه ابن منده وهو غريب جدا وتفسير الآية بذلك ضعيف". والصحيح في تفسيرها قول ابن عباس:أنها الدنيا التي فتحها الله على أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - كما قال ابن القيم في "الروح" (ص107) ونحوه في كتابه "شفاء العليل" (ص39).
(4) 182):كعب هذا هو ابن ماتع الحميري أبو إسحاق المعروف بكعب الأحبار وهو ثقة مخضرم كان من أهل اليمن فسكن الشام مات في خلافه عثمان وقد زاد على المائة له في مسلم رواية لأبي هريرة عنه كما قال الحافظ ابن حجر في "التقريب" وهو بالنظر لكونه كان قبل إسلامه حبرا من أحبار اليهود فهو كثير الرواية للإسرائيليات لكن قسم كبير منها لا يصح السند به إليه ومنها هذا الأثر فلا قيمة له أخرجه المروزي في زوائد "الزهد" لابن المبارك (1223). وراجع لإسرائيلياته كتاب "فضائل دمشق للربعي" بتخريجي إياه.(13/101)
وقالت طائفة: أرواح المؤمنين ببئر (زمزم)(1) وأرواح الكفار ببئر (برهوت).
وقال سلمان الفارسي: أرواح المؤمنين في برزخ من الأرض(2) تذهب حيث شاءت وأرواح الكفار في سجين. وفي لفظ عنه:نسمة المؤمن (أي روحه) تذهب في الأرض حيث شاءت(3).
وقالت طائفة: أرواح المؤمنين عن يمين آدم وأرواح الكفار عن شماله(4).
وقالت طائفة أخرى منهم ابن حزم: مستقرها حيث كانت قبل خلق أجسادها(5).
__________
(1) 183):هذا رده ابن القيم بنفسه بقوله (ص108):بأنه لا دليل عليه في الكتاب والسنة ولا في قول صاحب يوثق به. وأما فقرة أرواح الكفار فلم ترد في حديث مرفوع وإنما هي آثار موقوفة ساقها ابن القيم (106ـ1079 وكلها ضعيفة الإسناد نعم وقع مرفوعا في مؤلف لأبي سعيد الخراز كما في "مجموع الفتاوى" لابن تيمية (4/221) لكن الخراز هذا صوفي مشهور بيد أنه في الرواية غير معروف أنظر "الضعيفة"(2/209).
(2) 184):قال ابن القيم:"كأنه أراد بها أرضا بين الدنيا والآخرة مرسلة هناك تذهب حيث تشاء".
(3) 185):علقه ابن القيم (91) عن سلمان فلم يسق إسناده وما أراه يصح لكن قوله:"إن أرواح الكفار في سجين" فيه روايات كثيرة مرفوعة وموقوفة تراها في "الدر المنثور"(6/324 ـ325) وذكر في"شرح الصدور"(ص26ـ27) حديثا مرفوعا عن أبي هريرة من رواية البزار وابن مردويه ورأيته أنا في "مصنف عبد الرزاق" (3/569) موقوفا عليه وسنده حسن. وفي"الروح"(ص99) حديث آخر عن ضمرة بن حبيب مرسلا.
(4) 186):قلت:هذا معنى طرف من حديث أبي ذر الطويل في الإسراء عند الشيخين ولكن لا يدل ذلك على تعادلهم في اليمين والشمال بل يكون هؤلاء عن يمينه في العلو والسمعة وهؤلاء عن يساره في السفل والسجن كما قال ابن القيم (ص 108).
(5) 187):قلت:وهذا مما لا دليل عليه وقد رده ابن القيم في فصل خاص عقده لذلك (ص109ـ110) وتبعه الحافظ ابن رجب (ق127/1) باختصار.(13/102)
وقال أبو عمر بن عبد البر: أرواح الشهداء في الجنة وأرواح عامة المؤمنين على أفنية
القبور(1) وروى عبد الله ابن أبي يزيد أنه سمع [ ابن ] عباس يقول: أرواح الشهداء تجول في أجواف طير خضر تعلق في ثمر الجنة(2) .
وعن عبد الله ابن عمر: أرواح الشهداء في طير كالزرازير يتعارفون ويرزقون من ثمر
الجنة (3).وفي "مسلم":"في أجواف طير خضر" (4) وقال قتادة: بلغنا أن أرواح الشهداء في صور طير بيض تأكل من ثمار الجنة. وقال ابن المبارك: عن ابن جريح فيما قرىء عليه: عن مجاهد: ليس هي في الجنة ولكن يأكلون من ثمارها ويجدون ريحها(5). وذكر معاوية بن صالح عن سعيد بن سويد(6)
__________
(1) 188):وهذا على إطلاقه خطأ فإن أرواح المؤمنين أيضا في الجنة كما في حديث مالك الآتي فإذا بأن ذلك في بعض الأوقات أو بأن لها إشرافا على القبور استقام الكلام. راجع "الروح"(ص100).
(2) 189):رواه بقي بن مخلد وفي إسناده يحيى بن عبد الحميد كما في"الروح" (ص96) وهو الحماني. وفيه ضعف لكن يقويه أنه صح ذلك عنه مرفوعا في حديث له في "المشكاة"(3853) و"صحيح الجامع" رقم 5081).
(3) 190):أخرجه عبد الله بن المبارك في"الزهد"(446) وإسناد صحيح.
(4) 191):في"مسلم" كما تقدم (ص39ـ40) بلفظ "جوف" وكذا في حديث ابن عباس المشار إليه آنفا.
(5) 192):ذكره هكذا ابن رجب في"الأهوال"(100/1) وسنده صحيح وهو في"تفسير مجاهد"(ص92) وعنه ابن جرير في
"تفسيره" (2317و2318) من طرق أخرى عن ابن أبي نجيح به نحوه.
(6) 193):هو الكلبي روى عن العرباض بن سارية وعمير بن سعد صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعمر بن عبد العزيز وعبد الأعلى بن هلال. روى عنه أبو بكر ابن أبي مريم أيضا كما في"الجرح والتعديل"(2/1/29) ولم يذكر فيه جرحا
ولا تعديلا. وذكره ابن حبان في"الثقات"فهو مجهول الحال. وهذا الأثر في "كتاب الروح"(ص92) كما نقله المؤلف
ولم يتكلم على إسناده بشيء. وفيه بعده أثر مجاهد الآتي معلقا بغير إسناد.(13/103)
أنه سأل ابن شهاب عن أرواح المؤمنين ؟ فقال: بلغني أن أرواح الشهداء كطير خضر معلقة بالعرش تغدو وتروح إلى رياض الجنة تأتي ربها كل يوم تسلم عليه. وعن مجاهد: الأرواح على أفنية القبور سبعة أيام من يوم دفن الميت لا تفارق ذلك.
(قال ابن القيم)(1): ولا تنافي بين هذه الأقوال الشرعية والأحاديث النبوية لأن الأرواح متفاوتة في مستقرها في البرزخ أعظم تفاوت فمنها في أعلى عليين وهي أرواح الأنبياء عليهم السلام وهم متفاوتون في منازلهم ومنها في حواصل طير ومنها من يكون محبوسا على باب الجنة ومنها من يكون مقره بباب الجنة ومنها من يكون محبوسا في الأرض لم تعل روحه إلى الملأ الأعلى فإنها كانت روحا سفلية ومنها أرواح تكون في تنور الزناة وأرواح تكون في نهر الدم تسبح. وليس للأرواح شقيها وسعيدها مستقر واحد بل روح في أعلى عليين وروح أرضية
سفلية لا تصعد عن الأرض. وأنت إذا تأملت السنن والآثار في هذا الباب وكان لك فضل
اعتناء عرفت حجة ذلك. ولا تظن أن بين الآثار الصحيحة في هذا الباب تعارضا". إلى آخر ما قال.
والمفهوم منه أن مستقرها يتفاوت بتفاوت حال صاحبها إيمانا وكفرا وصلاحا وفسقا وأنت تعلم اختلاف العلماء فيما قال وما رواه الإمام مالك في"الموطأ": { إنما نسمة المؤمن(2)
__________
(1) 194):أي ملخصا وإلا فليس هو لفظ ابن القيم رحمه الله ولا سياقه وهو في (ص115ـ116) منه.
(2) 195):أي روحه (طير) أي كطير (يعلق) أي يأكل. وكان الأصل (معلق) فصححته من"الموطأ"(1/238) وغيره. قال ابن القيم في شرح الحديث (ص112):"يحتمل أن يكون هذا الطائر مركبا للروح كالبدن لها ويكون لبعض المؤمنين والشهداء ويحتمل أن يكون الروح في صورة طائر وهذا اختيار ابن حزم وابن عبد البر".
قلت:ومن الملاحظ أن لفظ الحديث هنا (المؤمن طير) وفي الشهداء "في أجواف طير" كما تقدم قريبا فمن العلماء من جعلهما حديثا واحدا وحمل حديث مالك على هذا ومنهم من جعلهما حديثين كان القيم وغيره فقال ابن كثير في "تفسيره"(1/427):"وفي هذا الحديث أن روح المؤمن تكون على شكل طائر في الجنة"وأما أرواح الشهداء فكما تقدم" في حواصل طير خضر" فهي كالكواكب بالنسبة إلى أرواح عموم المؤمنين فإنها تطير بأنفسها".
ونحوه في"شرح العقيدة الطحاوية"لابن أبي العز (ص455ـ456).طبع المكتب الإسلامي.(13/104)
طير يعلق في شجر الجنة حتى يرجعه الله تعالى إلى جسده يوم يبعثه } (1). والله تعالى أعلم.
وقالت فرقة: مستقرها العدم المحض. وهذا قول من يقول: إن النفس عرض من أعراض البدن كحياته وإدراكه فتعدم بموت البدن كما تعدم سائر الأعراض المشروطة بحياته وهذا قول مخالف لنصوص القرآن والسنة وإجماع الصحابة والتابعين(2) والمقصود أن عند هذا الفرقة المبطلة مستقر الأرواح بعد الموت العدم المحض.
وقالت فرقة: مستقرها بعد الموت أبدان أخر تناسب أخلاقها وصفاتها التي اكتسبها في حال حياتها فتصير كل روح إلى بدن حيوان يشاكل تلك الأرواح فتصير النفس السبعية إلى أبدان السباع والكلبية إلى أبدان الكلاب والبهيمية إلى أبدان البهائم والدنية السفلية إلى أبدان الحشرات. وهذا قول التناسخية منكري المعاد وهو قول خارج عن أقوال أهل الإسلام كلهم.
قلت: وإن ما تقوله اليهود الآن قريب من هذا فإن عندهم أن الميت تنتقل روحه إلى غيره إلى ثلاث مرات أي تنتقل من شخص إلى آخر ثم إذا مات تنتقل إلى آخر ثم إلى ثالث ثم إلى ما شاء الله تعالى من الأماكن على ما ذكر لي أحد علمائهم.
مسائل:
الأولى: هل أرواح الموتى تتلاقى وتتزاور وتتذاكر أم لا ؟
__________
(1) 196):قال ابن كثير:"إسناده صحيح عزيز عظيم اجتمع في ثلاثة من الأئمة الأربعة فإن الإمام أحمد رواه عن الإمام الشافعي وعن الإمام مالك عن الزهري عن عبد الرحمن ابن كعب بن مالك عن أبيه مرفوعا.
قلت:وهو مخرج في"الصحيحة"(995).
(2) 197):وقد بين ذلك وشرحه شرحا مبسطا في"مجموع الفتاوى"(4/262ـ270) وصرح في مكان آخر(4/292):"أن الروح تبقى بعد مفارقة البدن خلافا لضلال المتكلمين وأنها تصعد وتنزل خلافا لضلال الفلاسفة".(13/105)
وجوابها على ما في "كتاب الروح"(1):
"إن الأرواح قسمان:أرواح معذبة وأرواح منعمة فالمعذبة في شغل بما هي فيه من العذاب عن التزاور والتلاقي والأرواح المنعمة المرسلة غير المحبوسة تتلاقى وتتزاور وتتذاكر ما كان منها في الدنيا وما يكون من أهل الدنيا فتكون كل روح مع رفيقها الذي هو على مثل عملها.
الثانية: هل تتلاقى أرواح الأحياء وأرواح الأموات ؟
وجوابها: نعم قال الله تعالى: { اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا
فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } روى أبو عبد الله بن منده بسنده (2) إلى ابن عباس في هذه الآية قال: بلغني أن أرواح الأحياء والأموات تلتقي في المنام فيتساءلون بينهم فيمسك الله تعالى أرواح الموتى ويرسل أرواح الأحياء إلى أجسادها.
__________
(1) 198):(ص17) وقد ساق لها أدلة كثيرة من الكتاب والسنة والآثار عن الصحابة والتابعية لكن الأحاديث التي أوردها ليس فيها ما يحتج به من قبل إسناده وقد فاته حديث أبي هريرة وفيه: { ... وإن المؤمن يصعد بروحه إلى السماء فتأتيه أرواح المؤمنين فيستخبرونه عن معارفهم من أهل الأرض... } الحديث. وسنده حسن وصححه السيوطي وقد خرجته في"الصحيحة"(2628).
(2) 199):قلت:فيه جعفر بن أبي المغيرة الخزاعي وهو صدوق يهم كما قال الحافظ ابن حجر.(13/106)
والقول الثاني في الآية: أن الممسك والمرسل في الآية كلاهما توفي وفاة النوم فمن استكملت أجلها أمسكها عنده فلا يردها إلى جسدها ومن لم تستكمل أجلها ردها إلى جسدها لتستكمله(1).
الثالثة: هل الروح تموت أم الموت للبدن وحده ؟
وجوابها: أن الناس اختلفوا في ذلك فقالت طائفة:تموت وتذوق الموت لأنها نفس والنفس ذائقة الموت. قالوا وقد دلت الأدلة على أنه لا يبقى إلا الله وحده قال الله تعالى: { كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ } وقال تعالى: { كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ } قالوا:وإذا كانت الملائكة تموت فالنفوس البشرية أولى بالموت(2)
__________
(1) 200):قلت:وقد واجه ابن القيم (ص20ـ21) كلا من القولين:وذكر أن شيخ الإسلام ابن تيمية اختار القول الثاني.. ثم رجح هو القول الأول ثم أفاد من التحقيق أن الآية تتناول النوعين:الوفاة الكبرى وهي الموت والوفاة الصغرى وهي النوم فراجع كلامه إن شئت التفصيل وبذلك فسر الآية ابن كثير ثم قال (4/55):"فيه دلالة على أنها تتجمع في الملأ الأعلى كما ورد بذلك الحديث المرفوع الذي رواه ابن منده وغيره".
(2) 201):قال ابن رجب (31/2):"وقد احتج بعضهم على فناء الأرواح وموتها بما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان إذا دخل المقابر قال:السلام عليكم أيتها الأرواح الفانية والأبدان البالية... الحديث خرجه ابن السني ولا يثبت وعبد الوهاب ابن جابر التيمي لا يعرف وشيخه حبان بن علي ضعيف". = = =
= = = قلت:وهو مخرج في (الضعيفة) (4186) ومن المؤسف أن يورده في جزء صغير انتخبه من (الجامع الصغير) كأنه لم يجد فيه من الأحاديث الصحيحة ما يملأ فراغ جزئه متى لجأ إلى مثله ولكنه الجهل بهذا العلم الشريف. والله المستعان.
قلت:والمراد بالفناء والهلاك المذكورين في الآيتين بالنسبة للأرواح إنما هو خروجها من أبدانها. وليس عدمها مطلقا فإنها لا تفنى كالجنة والنار ونحوهما. وقد جمعها ابن القيم فقال في"الكافية الشافية"(1/97 ـ شرح
ثمانية حكم البقاء يعمها من الخلق والباقون في حيز العدم
هي العرض والكرسي ونار وجنة وشجب وأرواح كذا اللوح والقلم
وذكره النار فيها وأنها باقية لا تفنى هو الصواب من قوله كما بينته في مقدمتي لكتاب "رفع الأستار لإبطال أدلة القائلين بفناء النار" للعلامة الصنعاني وسيقدم للطبع قريبا.(13/107)
.
وقال آخرون: لا تموت الأرواح فإنها خلقت للبقاء وإنما تموت الأبدان. قالوا:وقد دل على هذا الأحاديث الدالة على نعيم الأرواح وعذابها بعد المفارقة إلى أن يرجعها الله تعالى في أجسادها ولو ماتت الأرواح لا نقطع عنها النعيم والعذاب وقال الله تعالى: { وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ } هذا مع القطع بأن أرواحهم قد فارقت أجسادهم وقد ذاقت الموت. وقد نظم أحمد بن الحسين الكندي(1) ذلك في قوله:
تنازع (2) الناس حتى لا اتفاق لهم إلا على شجب والخلف في الشجب
فقيل تخلص نفس المرء سالمة وقيل تشرك جسم المرء في العطب
الرابعة: اختلف الناس في حقيقة الروح من سائر الطوائف وكذا اختلفوا في أنها هل هي
النفس أو غيرها؟ وهل هي جزء من أجزاء البدن أو عرض من أعراضه أو جسم مساكن
له مودع فيه أو جوهر مجرد وهل الأمارة واللوامة والمطمئنة نفس واحدة لها هذه الصفات أم [ هي ] ثلاث أنفس؟ وهل الروح هي الحياة أو غيرها؟ وهل هي مخلوقة قبل الأجساد أم بعدها؟
__________
(1) 202):نسبة إلى "كندة" محلة بالكوفة ولد فيها وهو أبو الطيب المتنبي الشاعر المشهور. توفي سنة (354).
(2) 203):كذا في النسخ الثلاثة وفي"ديوان المتنبي":(تخالف). وقال شارحه العكبري (1/59) ما ملخصه:"(الشجب): الهلاك والحزن.والمعنى:أن الناس يتخالفون في كل شيء والإجماع على الهلاك فكلهم يقولون:إن منتهى الناس الموت فيهلكون ثم تخالفوا في الموت فقال قوم:هل تموت النفس بموت الجسم أم تبقى حية لقوله تعالى: { كل شيء هالك إلا وجهه } ؟ وقال قوم:هل نبعث إذا متنا ؟ والخلف في الموت كثير وهم قد أجمعوا عليه بغير خلاف والخلاف فيه كثير وقد بينه فيما بعده بقوله:فقيل تخلص نفس المرء... ويعني بالنفس:الروح ويشير إلى قول المؤمنين:إن الروح تسلم من العطب وهو الهلاك بخلاف الدهريين الذين يقولون بأن الروح تفنى كالجسد.(13/108)
أما مسألة تقدم خلق الأرواح على الأجساد وتأخرها عنها فللعلماء فيها قولان معروفان وممن ذهب إلى من تقدم خلقها محمد بن نصر المروزي وأبو محمد بن حزم وحكاه
إجماعا؟(1) و[ من ] أدلتهم(2) قوله تعالى في سورة الأعراف: { وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ } .قالوا: وهذا الاستنطاق والإشهاد إنما كان لأرواحنا ولم تكن الأبدان حينئذ موجودة وقوله - صلى الله عليه وسلم -:"إن الله خلق أرواح العباد قبل العباد بألفي عام فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف" (3).
وأجاب عن ذلك من يقول بتأخر خلق الروح عن البدن بأجوبة مطولة والعلامة
__________
(1) 204):في"الملل"(4/70ـ71).
(2) 205):الأصل (أدلتهم) والتصويب من النسخة الثالثة.
(3) 206):رواه ابن منده بإسناده عن عمرو بن عنبسة مرفوعا كما في"الروح"(ص160) ثم قال (ص172)"لا يصح إسناده فيه عتبة بن السكن قال الدارقطني:متروك. وأرطأة ابن المنذر قال ابن عدي:بعض أحاديثه غلط".
قلت:وهو البصري وأما أرطأة بن المنذر الحمصي فثقة. لكن فوقهما عطاء بن عجلان وهو متروك أيضا فهو حديث ضعيف جدا إن لم يكن موضوعا اللهم إلا قوله:"فما تعارف...."فهو طرف من حديث صحيح معروف. لكن في المسألة أحاديث أخرى كثيرة تغني عن هذا الحديث من أصرحها حديث ابن عباس مرفوعا: { إن الله أخذ الميثاق من ظهر آدم بـ (نعمان) يوم عرفة وأخرج من صلبه كل ذرية ذرأها فنثرهم بين يديه كالذر ثم كلمهم قبلا قال: { ألست بربكم قالوا:بلى } } وهو حديث صحيح بل هو متواتر المعنى كما بينته في"الصحيحة"(1623).(13/109)
البيضاوي(1) حمل الآية على التمثيل في"تفسيره" (2)
__________
(1) 207):نسبة إلى (بيضاء):بلدة من بلاد فارس ـــ قرب شيراز. وهو العلامة عبد الله بن محمد الشيرازي أبو سعيد أو أبو الخير ناصر الدين وهو قاض مفسر مشهور مات سنة (685). رحمه الله تعالى.
(2) 208):وهو المعروف ب "أنوار التنزيل وأسرار التأويل"(3/33) قال في معنى الآية:"نزل تمكين بني آدم من العلم بربوبيته بنصب الدلائل وخلق الاستعداد فيهم وتمكنهم من معرفتها والإقرار بها منزلة الإشهاد والاعتراف تمثيلا وتخييلا فلا قول ثم ولا شهادة حقيقة". وقد تعقبه جماعة منهم العلامة علي القاري في"المرقاة" فقال (1/140):
"وفيه أن هذا يرجع إلى مذهب المعتزلة". ومنهم الخطيب الكازروني في حاشيته عليه رد عليه تأويله المذكور بكلام قوي. ومما قاله:"إن الواجب على المفسر المحقق أن لا يفسر القرآن برأيه إذا وجد نقلا معتمدا عن السلف فكيف بالنص القاطع من النبي - صلى الله عليه وسلم - ؟". فراجعه فإنه منهم.
ومنهم الإمام الشوكاني في"فتح القدير"(2/250ـ252). وصديق حسن خان في"فتح البيان"(3/404ـ409) وكتابه"الدين الخالص"(1/391). و"أضواء البيان"(2/335ـ338) للشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمهم الله تعالى.(13/110)
وفي "شرحه للمصابيح" على تأخر خلقها بأدلة مفصلة منها قوله عليه الصلاة والسلام: { إن خلق ابن آدم يجمع في بطن أمه أربعين يوما ثم يكون علقه مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح } (1). واستدلوا أيضا بغير هذا مما هو مفصل في كتاب الروحين "روح المعاني" لوالدنا المبرور (2) [نور الله تعالى روضته] (3) و"الروح" (4) لابن القيم فراجعهما إن شئت.
__________
(1) 209):أخرجه الشيخان والأربعة وغيرهم من حديث ابن مسعود رضي الله عنه مرفوعا وهو مخرج عندي في تخريج "السنة" لابن أبي عاصم (175ـ176) ولا حجة فيه لما استدلوا به عليه كما هو ظاهر.
(2) 210):قلت:وقد أطال النفس فيه جدا (ص155ـ160 ج 3) ورد فيه تأويل البيضاوي المذكور وقال:"يأبى عنه كل الإباء حديث ابن عباس" (يعني الذي ذكرته آنفا). ثم ذكر أن المعتزلة ينكرون أخذ الميثاق التالي المشار إليه في الأخبار ويقولون:إنه من جملة الآحاد فلا يلمنا أن نترك ظاهر الكتاب وطعنوا في صحتها بمقدمات عقلية مبنية على قواعد فلسفية على ما هو دأبهم في أمثال هذه المطالب. ثم سرد كلماتهم في ذلك وردها كلها.
(3) 211):زيادة في النسخة الأولى.
(4) 212):(ص 156ـ175).(13/111)
أما [الكلام على] بقية المسائل فقد قال ابن القيم(1):"والذي دل عليه الكتاب والسنة وإجماع الصحابة وأدله العقل والفطرة أنه جسم حادث مخالف بالماهية لهذا الجسم المحسوس وهو جسم نوراني علوي خفيف حي متحرك ينفذ في جوهر الأعضاء ويسري فيها سريان الماء في الورد والدهن في الزيتون والنار في الفحم فما دامت هذه الأعضاء صالحة لقبول الآثار الفائضة عليها من هذا الجسم اللطيف بقي هذا الجسم اللطيف متشابكا لهذه(2) الأعضاء وأفادها هذه الآثار من الحس والحركة والإدارة وإذا فسدت هذه الأعضاء بسبب استيلاء الأخلاط الغليظة عليها وخرجت عن قبول الآثار فارق الروح البدن وانفصل بأمر الله تعالى إلى عالم الأرواح قال الله تعالى: { يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي } ".
وإن أردت استقصاء أبحاثها فعليك بكتاب"الروح" فإنه يهب لك روحا وينيلك فيما ترجوا نجحا وإن شئت أن ترد قالا وقيلا فتذكر قوله تعالى: { وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً } .
[هذا] وأصخ بفكرك نحو ما قلته وتدبر جميع ما زبرته وتأمله تأمل طالب للحق غير كاتم للقول الصدق ولا تنظر بعين الحاسد فتلفى لضوء الشمس جاحد(3) إذ لم يبق والفضل لله سبحانه مجال لإنكار المكابرين ولا حجة بعد هذا للمعاندين وغير المطلعين.
__________
(1) 213):في كتابه"الروح"(ص178ـ179) ومثله في"شرح العقيدة الطحاوية".
(2) 214):في"شرح الطحاوية""ساريا في هذه الأعضاء"وسواء كان هذا أو ذاك فإن تعليل الموت بهذا السبب يشبه الفلسفة عندي لأنه لا دليل عليه من نقل أو عقل بل كم من شخص مات فجأة وأعضاؤه سليمة قوية في عز المنعة والقوة.
(3) 215):كذا في النسخ الثلاثة ومحله النصب وسكن على لغة طيء. والله أعلم.(13/112)
فلنكتف بهذا المقدار لئلا يطول الكتاب على ذوي الأنظار ويكفي لكل ذي رأي سديد من القلادة ما أحاط بالجيد ولا سيما وقد تكفلت بتفصيل هذه المسائل كتب العلماء المتقدمين والأئمة المحققين الأفاضل والله سبحانه الهادي إلى صوب الصواب والمسمع للجماد كلام الأحياء إذا شاء كما أسمع سارية كلام أمير المؤمنين عمر بن الخطاب(1).
والحمد لله رب العالمين وصلاته وسلامه على جميع الأنبياء والمرسلين وعلى أشرفهم نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين الطيبين الطاهرين.
قلت: جاء في آخر الأصل المطبوع عنه ما نصه:"وقد كملت هذه الرسالة تأليف شيخنا العلامة الحبر البحر الفهامة فريد عصره ووحيد مصره مؤيد سنة سيد المرسلين وقامع المبتدعين خاتمة المحققين مولانا السيد نعمان خير الدين أفندي آلوسي زاده رئيس المدرسين ببغداد حماه الله تعالى من كيد الحساد وأدام به نفع العباد آمين.
__________
(1) 216):يشير إلى ما رواه عبد الله بن وهب عن ابن عجلان عن نافع عن ابن عمر أن عمر وجه جيشا ورأس عليهم رجلا يقال له:(سارية) قال:فبينما عمر يخطب فجعل ينادي:يا سارية الجبل يا سارية الجبل (ثلاثا) ثم قدم رسول الجيش فسأله عمر؟ فقال:يا أمير المؤمنين هزمنا فبينما نحن كذلك إذ سمعنا مناديا:يا سارية الجبل (ثلاثا) فأسندنا ظهورنا بالجبل فهزمهم الله.قال:فقيل لعمر:إنك كنت تصيح بذلك. وهذا إسناد جيد حسن كما قال ابن كثير في "البداية"(7/131) ومن هذا الوجه رواه البيهقي في"الدلائل"(3/181/1).وكل ما يروى عن عمر في هذه القصة سوى هذا فلا يثبت مثل ما جاء في "روض الرياحين"(ص25)أنه كشف لعمر عن حال سارية وأصحابه من المسلمين وحال العدو فإنه لا أصل له وإنما هو من ترهات الصوفية لدعم كشوفاتهم المزعومة.نسأل الله السلامة.وصلى الله على محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم.
وسبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك.
دمشق /20 ربيع الأول سنة 1398 محمد ناصر الدين الألباني.(13/113)
في 8 ربيع الثاني سنة 1329".
وهو يشعر بأنه منقول عن أصل نسخ في حياة المؤلف رحمه الله تعالى.
مباحث الكتاب ومسائله
مقدمة الطبعة الثالثة ... 1
مقدمة محقق الكتاب، وقصة الحصول على صورة منه. ... 12
البدء بقراءتها في الطائرة ووصف المصورة والمنهج في التحقيق. ... 13
الحصول على مصورتين لنسختين أخريين منه، ووصفهما. ... 15
بيان علاقة موضوع الرسالة بالتوحيد وموقف الأحزاب الإسلامية من الدعوة إليه بما ينافيه، وأن الاستعانة بالموتى سببه الاعتقاد بأن الموتى يسمعون. ... 17
ضلالة الاعتقاد بالمتصرفين والمدَّرَّكين من الأولياء وكلام السيد رشيد رضا في ذلك. ... 18-19
كلام العلامة صديق حسن خان في جهل المستغيثين بغير الله وعكوفهم على القبور، وسكوت العلماء عنهم! ... 19
بيان أن المشركين كانوا يدعون الله في الشدائد، وكثير من المسلمين يدعون الميتين!! وذكر حكاية طريفة في ذلك. ... 21
كلام الإمام الآلوسي في ذلك ووصفه الناس في استغاثتهم بمن لا يرى ولا يسمع كالخضر وغيره، وشكواه من تعذر الأمر بالمعروف. ... 22
بيان أن الغرض من هذه المقدمة هداية الذين يطلبون من الموتى ما كان بإمكانهم في حياتهم كالدعاء لاعتقادهم بأنهم يسمعون، فإذا تبين لهم أن الموتى لا يسمعون أقلعوا عن مناداتهم. ... 23
حديث عرض الأعمال وأنه ضعيف. ... 23
بيان أن الطلب من الموتى ضلال مهما كان القصد، وكلام ابن تيمية في ذلك، وبيان الفرق بين دعاء الميت ودعاء الحي. ... 24
دعاء من لا يسمع باطل بداهة، وذكر آيات في ذلك واحتجاج ابراهيم بقوله: { لم تعبد ما لا يسمع... } . ... 26
تنبيه المبتلى بدعاء الأولياء بالفرق بين اعتقاده فيهم السماع وعدمه، وأنه
لا فرق بين ادعاء السماع لهم أو الصبر والبطش مثلاً! ... 27(13/114)
تحقيق أن الموتى لا يسمعون وبيان أن آيتي نفي السماع عنهم وإن كانتا على المجاز فهما دليل على النفي المذكور من جهة تشبيه أحياء الكفار بهم. وذكر أربعة أدلة مؤيدة لذلك. ... 28
الدليل الأول: { ولا تُسمع الصم الدعاء... } وتفسير قتادة وابن جرير والقرطبي لها بأن الميت لا يسمع. ... 30
الدليل الثاني: { ...إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم } وبيان أن المدعوين هم الموتى الصالحون الممثلون في الأصنام لا الأصنام نفسها، وكلام ابن القيم في ذلك وذكره الأسباب التي تلاعب بها الشيطان بالمشركين. ... 31
تأييد ما تقدم بتمام الآية { ويوم القيامة يكفرون بشرككم } والجواب عما يخالف ذلك من أقوال المفسرين. ... 31
الاستشهاد على ذلك بكلام الشيخ عبد الرحمن ابن الشيخ وتصريحه بعدم سماع المدعوين من دون الله تعالى. ... 34
الدليل الثالث: حديث قليب بدر، وذكر روايتين له وبيان وجه الاستدلال به من وجهين. ... 35
قول قتادة والمفسر ابن عطية أن سماع كفار القليب كان خرق عادة ومعجزة له - صلى الله عليه وسلم - ، وانظر ( ص، و) الآيات البينات). ... 36
إقراره - صلى الله عليه وسلم - الصحابة على ما يشعر أن الموتى لا يسمعون. ... 37
رواية صريحة في احتجاج عمر على ذلك بآية { إنك لا تسمع الموتى } وإقرار الرسول إياه. ... 38
من الفقه الاعتناء بتتبع ما اقره - صلى الله عليه وسلم - خشية الضلال في الفهم والمثال حديث القليب، وذكر مثالين آخرين. ... 39
المثال الأول: حديث لا يدخل النار أصحاب الشجرة، واستدلال حفصة وإقرار الرسول - صلى الله عليه وسلم - إياها وما فيه من الفقه. ... 40-41
المثال الآخر: حديث غناء الجاريتين في بيته - صلى الله عليه وسلم - وقول أبي بكر: مزمار الشيطان في بيت رسول الله ! وإقراره - صلى الله عليه وسلم - اياه، وما يستنبط منه من تحريم آلات الطرب وتفصيل القول في ذلك. ... 41(13/115)
الرد على ابن حزم في زعمه أنه - صلى الله عليه وسلم - أنكر على أبي بكر قوله المتقدم، واستدلاله بالحديث على إباحة آلات الطرب في كل وقت، وقول ابن القيم بخلافه وبيان أن الحديث يدل على التحريم إلا الدف في العيد فقط. ... 42
الدليل الرابع: حديث: { إن لله ملائكة سياحين... } وبيان وجه دلالته. ... 43-44
أدلة المخالفين، ومناقشتها. ... 44
الاول: حديث القليب! ... 45
الآخر: حديث: { إن الميت ليسمع قرع نعالهم... } والإشارة إلى أحاديث أخرى ضعيفة، واستدلال ابن القيم على السماع بتسمية المسلم عليهم زائراً، وبالسلام عليهم، والرد عليه بأمرين. ... 45
الأمر الأول: زيارته - صلى الله عليه وسلم - للبيت ولقباء!! ... 46
الأمر الآخر: قول الصحابة في التشهد: "السلام عليك أيها النبي...". ... 46
خلاصة البحث والتحقيق. ... 47
ترجمة المؤلف . ... 49-50
صورة الوجه الأخير من نسخة الأصل. ... -
صورة الوجه الأخير من النسخة البغدادية الأولى. ... -
صورة الوجه الأخير من النسخة البغدادية الأخرى. ... -
مقدمة المؤلف وإشارته إلى سبب تأليف الرسالة. ... 53
الفصل الأول ... 54
في نقل كلام الأئمة الحنفية في ذلك، نص كلام الحصْكفي في ذلك. ... 54
نص الطحطاوي في "حاشية الدر" وحديث قليب بدر، وجوابهم عنه، وموقف عائشة منه. ... 54
جوابهم عن حديث عائشة، وبيان ما فيه والجواب الصحيح. (ت). ... 55
أثر علي في السلام على الموتى...والكلام عليه. (ت). ... 55
حديث خفق النعال وتخريجه. (ت) . ... 56
نص كلام ابن عابدين في ذلك وجوابه عما يشكل عليه، مع التعليق. ... 56
نص كلام ابن الهمام، وحديث تلقين المحتضر، وفيه رأيه في التلقين بعد الدفن والتعليق عليه. ... 57
طرف من حديث التلقين، وأنه لا يصح. (ت). ... 58
سبب تأويل حديث المحتضر عند الحنفية أن الميت لا يسمع، وجوابهم عن حديث القليب. ... 58(13/116)
الجواب الاصح عن حديث القليب، واستظهار أن منادة الكفار بعد هلاكهم تقريعاً سنة قديمة من الأنبياء. (ت). ... 59
جواب ابن الهمام عن حديث قرع النعال، ورأيه في التلقين بعد الموت. ... 59-60
كلام الطحطاوي في حاشية "المراقي" والعيني في "شرح الكنز". ... 60
نص كلام ابن نجيم في "البحر" وابن ملك في "المبارق" وتنبيه على وهم. (ت) ... 61
اتفاق نصوصهم على أن الميت لا يسمع كما قالت عائشة. ... 61
تتمة في التلقين بعد الدفن. ... 62
أقوال الحنفية فيه، وهي ثلاثة، احدها للشافعية. ... 62
الرد على من قوى حديث التلقين بالشواهد، وتأييد قول ابن عبد السلام بأنه بدعة ومالك بأنه مكروه. (ت). ... 63
حديث قراءة (يس) عند الميت، وبيان وضعه. (ت). ... 63
اختلاف الحنابلة في التلقين وترجيح المرادي منهم عدمه، (ت) وهو مذهب ابن حزم. (انظر(ص-). ... 63-64
الفصل الثاني ... 65
في النقل عمن وافق الحنفية في عدم السماع من المذاهب الثلاثة وغيرهم. ... 65
قول المارزي وغيره من المالكية. ... 65
عبارة السفاريني الحنبلي في ذلك. ... 65
قول ابن رجب وغيره من الحنابلة وجوابهم عن حديث القليب. ... 66
ما احتج من أجاز السماع في الجملة وحديث شهداء أحد وأنهم يردون السلام، والجواب عنه، وبيان ضعفه (ت). ... 67
حديث آخر في رد الموتى السلام، وبيان أنه منكر. (ت). ... 67
حديث:"ما من أحد يمر بقبر أخيه..." وتضعيف ابن رجب إياه، وحديث آخر بمعناه فيه وضاع. (ت). ... 67
نص حديث عائشة في توهيمها لابن عمر في روايته لحديث القليب، وجواب السهيلي عن توهيمها. ... 68
الاختلاف في المراد بآية { إنك لا تسمع الموتى } وقول الحافظ أن عائشة حملتها على الحقيقة وأنه قول الأكثر. ... 69
بيان أنه لا دليل على ما ذكر الحافظ في عائشة. (ت). ... 69
توفيق ابن التين بين حديث ابن عمر وحديث عائشة. ... 69
ذكر الخلاف في السؤال في القبر، وما ثبت منه في الحديث. ... 70(13/117)
الإشارة إلى حديث البراء الطويل، وتصحيحه. (ت). ... 70
نص قول الحافظ ابن حجر في طريق الجمع بين الحديثين السابقين وبيان ما فيه. (ت). ... 70
توفيق المناوي والطيبي بين حديث القرع وآية عدم سماع الموتى. ... 71
تعجب المؤلف من أحد الحنفية لزعمه أن السماع مجمع عليه وانه مذهب أبي حنيفة ورده عليه. ... 72
أمثلة من الأحاديث الصحيحة لم يأخذ بها أبو حنيفة لأنها مؤولة عنده
فلا يُنسب إليه القول بها لقوله: إذا صح الحديث فهو مذهبي، وبيان أن هذا ليس على عمومه. ... 72
بيان متى ينسب إلى الإمام القول بحديث مخالف لمذهبه. (ت). ... 73
الفصل الثالث ... 74
في حياة الأنبياء البرزخية، وفي أن النعيم للروح والبدن، وزيارة القبور. ... 74
حياة الأنبياء البرزخية، وبيان أن رزق الشهداء ليس في القبر. (ت). ... 74
حديث: { الأنبياء أحياء في قبورهم } وأنه صحيح. (ت). ... 75
حديث: { مررت ليلة أسري بي على موسى ... } وشرح المناوي له. ... 75
لا يجوز التوسع في حياة الأنبياء البرزخية بالأقيسة. (ت). ... 75
الاختلاف في كيفية رؤية النبي - صلى الله عليه وسلم - للأنبياء ليلة الإسراء. ... 76
أجسام الأنبياء لا تأكلها الأرض، وأن السلام عليه - صلى الله عليه وسلم - يبلغه، وذكر نص الحديثين في ذلك، وتخريجهما. (ت). ... 76
متى يقال جاء في "الصحيح" وما المراد به اصطلاحاً وخطأ من أطلق ذلك على حديث: { ما من أحد يسلم علي... } (ت). ... 77
حديث "من صلى علي عند قبري سمعته..." وبيان وضعه، وأنه لا دليل في سماعه - صلى الله عليه وسلم -، وقول ابن تيمية في ذلك. (ت). ... 77
النعيم والعذاب في القبر للروح والبدن. ... 77
سؤال منكر ونكير حق ثابت في الحديث الصحيح، وذكر شواهد له. (ت). ... 78
حديث: { إن العبد إذا وضع في قبره... } وتخريجه. (ت). ... 78(13/118)
عذاب القبر للكافر والعاصي أي للروح والبدن عن الجمهور خلافاً لابن حزم وسياق كلامه في ذلك المتضمن عدم سماع الميت. ... 78
نفي ابن حزم صحة خبر أن أرواح الموتى ترد عند المسائلة وطعنه في رواية المنهال بن عمرو والرد عليه في ذلك. ... 79
إسناد قصة تعزية ابن عمر لأسماء في ابنها الزبير، وبيان ما فيه من الجهالة، وإشارة ابن كثير إلى تضعيفها. (ت). ... 81
تصحيح خطأ وقع في متن القصة. (ت). ... 81
تفسير ابن مسعود لآية { ربنا أمتنا اثنتين... } وتخريجها. (ت). ... 82
رؤيته - صلى الله عليه وسلم - لموسى في السماء السادسة أو السابعة، وبيان سبب الشك المذكور. (ت). ... 82
رد ابن القيم على ابن حزم في كلامه المتقدم وبيانه ما فيه من حق وباطل، وتحقيقه القول في الحياة البرزخية. ... 83
أنواع تعلق الروح بالبدن خمسة وبيانها. ... 83
تتمة: كلام الآمدي في عذاب القبر وسؤال منكر ونكير، والحياة البرزخية، والخلاف في ذلك، واضطراب المعتزلة فيه، وميله إلى نفي الحياة بعد السؤال. ... 84
استدلاله على الحياة البرزخية بآية (الإماتتين)وبيان أنه خلاف التفسير المأثور. ... 85
قصة صاحب السكة وما فيها من الغرائب، وبيان أن في سندها من لا يعرف. (ت). ... 87
زيارة القبور. ... 88
نص الشرنبلالي في "المراقي" فيها، وفي بعض آدابها. ... 88
حديث: قراءة { يس } عند الزيارة وبيان أنه موضوع كحديث قراءة { قل هو الله أحد } . (ت). ... 88
كراهة مس القبر وتقبيله وأنه من عادة الكفار، والرد على من أجاز ذلك للتبرك!! (ت). ... 89
الخلاف في القراءة على القبر، والجمهور على الكراهة. ... 89
حديث:"لا ينبغي لجيفة مسلم..." ضعيف والنظر في إهداء الثواب لغيره. (ت). ... 89-90
المقصود من هذه الرسالة بيان قول الحنفية أن الميت لا يسمع عندهم ولا عند غيرهم، وجواب المؤلف عن سؤال كيف يصح مع ذلك مخاطبة الأموات بالسلام. ... 90
أحاديث فيها مخاطبة من لا يسمع. (ت). ... 91(13/119)
الرد على ابن القيم في قوله:"السلام على من لا يشعر ولا يعلم بالمسلمّ محال! ونقضه بسلام الصحابة على النبي - صلى الله عليه وسلم - في التشهد! وتوجيه ابن تيمية لهذا السلام بما ينافي كلام ابن القيم. ... 91
جواب الباجي وعياض عن السؤال السابق، والنظر فيه. (ت). ... 92
جواب الحنفية عن السؤال وتبني المؤلف إياه. ... 92-93
الخاتمة في الخلاف في مستقر الأرواح في البرزخ. ... 94
ترجيح أن أرواح المؤمنين عموماً في الجنة. (ت). ... 94
أثر في أن أرواحهم بـ (الجابية) ...! ... 95
آثار أخرى. ... 95
قول ابن حزم في ذلك ورده وتفريق ابن عبد البر بين الشهداء وعامة المؤمنين، وبيان ما فيه. (ت). ... 96
أثر ابن عباس وابن عمر في أرواح الشهداء وتخريجهما. (ت). ... 96
حديث مسلم في ذلك، وبعض الآثار. ... 97
توفيق ابن القيم بين الأحاديث والآثار. ... 97
حديث: { نسمة المؤمن طير... } وشرحه. ... 98
أقوال أخرى غير إسلامية. ... 98-99
مسائل: الأولى: في تلاقي الأرواح، وفيها حديث حسن. (ت). ... 99
الثانية: هل تتلاقى أرواح الأحياء وأرواح الأموات؟ وتفسير آية: { الله يتوفى الأنفس... } ، وأثر ابن عباس وفيه نظر. ... 99-100
الثالثة: هل الروح تموت؟ والخلاف في ذلك وشعر المتنبي فيه. ... 100
احتجاج بعضهم على موتها بحديث ضعيف! (ت). ... 100
الدليل على أن الروح لا تموت، وشرح شعر المتنبي في ذلك. (ت). ... 101
الرابعة: الاختلاف في حقيقة الروح وفي غيرها. ومسألة تقدم خلق الأرواح على الأجساد، ومن حكى الإجماع فيه. ... 101-102
آية أخذ الميثاق، وحديث خلق الأرواح قبل الأجساد وتخريجه وبيان ضعفه الشديد.وذكر حديث آخر صحيح يغني عنه. (ت). ... 102
تأويل البيضاوي لآية الميثاق، والرد عليه من جمع من العلماء وبيان ما يجب على المفسر المحقق من التزام تفسير السلف. ... 103(13/120)
حديث تطور الجنين في الرحم، وتخريجه، ورد الألوسي (الوالد) على تأويل البيضاوي السابق وعلى المعتزلة. (ت). ... 103
ماهية الروح في الكتاب والسنة. ... 104
إشارة المؤلف إلى قصة عمر مع سارية، وسوفها بتمامها من الوجه الثابت، وأنها لا أصل لها من غيره. (ت). ... 105(13/121)
الأبعاد الخفية
لمصطلح الحشوية والمشبهة والوهابية
…المقدمة
بسم الله ، والحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وآله وصحبه ومن والاه ، وبعد :
إن صراعا ساخنا يدور في الأوساط الثقافية الدينية حول مدلول مصطلح ( الحشوية ، و المشبهة ، و المجسمة ، و الوهابية ) ، فمن يا ترى المقصود بهؤلاء في كثير من الاطروحات المعاصرة التي لا زالت تخوض معترك صراع الألقاب هذا ؟ ، والإجابة على هذا السؤال يجب أن تسبقه إجابة على أسئلة أخرى بين يديه ومن خلفه لا يتضح المقصود إلا بها ، وهي بدون أي مقدمات :
من الذي يضخ هذه المصطلحات في المجتمع ؟
وماذا يهدف من وراء ذلك ؟
وما هي حقيقة هذا الصراع ؟
فإذا عرف القارئ الكريم من الذي يلقي هذه الألقاب فإنه سوف يضع قدمه – بلا شك – على أول الطريق في سبيل معرفة حقيقة هذا الصراع وأهدافه .
{ولتعرفنهم في لحن القول . . . } [سورة محمد آية 3 ](14/1)
لقد تأملت في أسماء قائمة من الكتب والمنشورات والمجلات التي تعمل على طرح هذه الألقاب في الساحة الإسلامية ، ونظرت في السير الذاتية لمؤلفيها والقائمين عليها ، ممن تحلى منهم بالشجاعة العلمية فذكر اسمه الحقيقي على كتابه أو نشرته ولم يلبس برقع الغدر ، وإذا بهم مجموعة من غلاة أهل البدع ، وإنما قلت ( غلاة ) وأنا أقصد ما أقول ، لأني لا زلت أعتقد وأومن أن في المنتسبين إلى هذه الفرق عقلاء وعلماء يطلبون الحق ، وأقول : إنهم أخطؤوه ، و لكن من طلب الحق فأخطأه ليس كمن طلب الباطل فأصابه ، وفجر في خصومته ، وغلا في بدعته ، ومشى بالفساد في الأرض ، والله – جل ذكره - يقول : ( تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين ) [سورة القصص آية 83 ] ، وقد كان إمام أهل السنة أحمد بن حنبل – رضي الله عنه – يدعو في سجوده ويقول : ( اللهم من كان من هذه الأمة على غير الحق وهو يظن أنه على الحق ، فرده إلى الحق ليكون من أهله ) (1)
ولك أيها القارئ الكريم أن تتحقق من ذلك بنفسك أي من السير الذاتية لهؤلاء الغلاة ، ولولا خشية الإطالة والإملال لبينت لك حال كل واحد منهم ، وذلك من خلال أقوالهم ، وتقريراتهم ، وسلوكهم العقدي ومنهجهم الكتابي .. .
__________
(1) طبقات الحنابلة لابن أبي يعلى ( 2/ 307 ).(14/2)
هذه الشرذمة من الغلاة الذين أشرنا إليهم – أخي العزيز – تجمعهم أصول مشتركة ، وغايات موحدة !!..ويكفي هذا لأن يجمعهم خندق واحد في حربهم ضد من يسمونهم بالحشوية ، والمجسمة والمشبهة ، والوهابية ، الذين سنعرفك بمن يقصدون بهذه الألقاب بعد حين ، ومع أن هؤلاء الغلاة يوجد بين أعضاء اتحادهم من الشروخ العقائدية ، والتناقضات المنهجية ، ما يكفل معه انهيار ألفتهم ، ولكنهم يتجاوزونها ليكون الهمّ همّا واحدا كما اجتمع همّ النصارى واليهود والشيوعيين والبوذيين وأهل الملل التائهة عن الله تعالى على حرب الإسلام وأهله ، على شدة تباين ما بين هذه الطوائف من المعتقدات الردية وتناقضها ، وهاهنا يجتمع فئام من أهل البدع ، ويتجاوزون ما بينهم من مفارقات عقائدية ، وتناقضات منهجية ، تحقيقا للمصلحة المشتركة بينهم وهي القضاء على من يسمونهم بالحشوية والمشبهة والمجسمة والوهابية ، وحسبنا الله ونعم الوكيل .. .
وأعداء الإسلام من يهود ونصارى ، ومن شايعهم من العلمانيين ، يغذون هذا الصراع ، ويحمدون لهؤلاء المبتدعة حربهم السافرة ضد من يسمونهم بالحشوية .. ، كما قال الله تعالى : ( وإخوانهم يمدونهم في الغي ثم لا يقصرون ) [سورة الأعراف آية 202 ] ، وعلاقة هؤلاء بأولئك وأهدافهم لا تخفى على ذي لب فلا نطيل الحديث فيها الآن .
وأهل الشهوات – أيضا - ، والمنافقون ، ومرضى القلوب ، يصطادون في الماء العكر ، قال الله – تعالى - : ( ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما ) [ سورة النساء آية 27 ] .
الإجابة على السؤال . . . ؟؟(14/3)
من خلال دراستك – أخي القارئ الكريم – لتأريخ هذا المصطلح [ الحشوية ، المشبهة ، المجسمة ، الوهابية ] سوف تعرف من المقصود به عند إطلاقه ، سيما إذا اجتمعت هذه الألقاب في قالب واحد ، وسوف تدرك – يقينا – تبعا لذلك أن الحرب إذا اتجهت عليه : من المعني بها ؟ !! ، حيث أن هذا المصطلح ليس مصطلحا جديدا اخترعه هؤلاء المعاصرون من كتاب المقالات كما يظنه بعض البسطاء ، وإنما هو مصطلح قديم .
وحتى تكون على بينة من الأمر ، وتتضح لك: جلية الحال ، وتعرف المقصود بهذه الألقاب والمسميات ، وتعرف قدمها ، فإني أتركك مع شيخ الإسلام ، الإمام ، أبي عثمان إسماعيل بن عبد الرحمن الصابوني الشافعي (373-449 ) من علماء القرن الرابع والخامس الهجري – رحمه الله – الذي قال عنه الإمام عبد الوهاب السبكي – رحمه الله – في كتاب [ طبقات الشافعية الكبرى ](3/291 ) : ( كان مجمعا على دينه ، وسيادته ، وعلمه ، لا يختلف عليه أحد من الفرق ) حيث قال شيخ الإسلام الصابوني في رسالته التي ألفها في [السنة ] :
( وعلامات البدع على أهلها ظاهرة بادية ، وأظهر علاماتهم : شدة معاداتهم لحملة أخبار النبي – صلى الله عليه وسلم - ، واحتقارهم لهم ، وتسميتهم إياهم حشوية ، وجهلة ، وظاهرية ، ومشبهة ، اعتقادا منهم في أخبار رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أنها بمعزل عن العلم ، وأن العلم ما يلقيه الشيطان إليهم ، من نتائج عقولهم الفاسدة ، ووساوس صدورهم المظلمة ، ، وهواجس قلوبهم الخالية من الخير ، العاطلة ، وحججهم – بل شبههم – الداحضة الباطلة : ( أولئك الذين لعنهم الله ، فأصمهم وأعمى أبصارهم )[سورة محمد الآية 33 ] ، ( ومن يهن الله فما له من مكرم ) [ سورة الحج الآية 18 ] ) .(14/4)
ثم ذكر – رحمه الله تعالى – بإسناده بعض الآثار في شرف أهل الحديث ، وفيها الإشارة إلى ما يروجه المبتدعة عنهم من قالة السوء ، ثم قال – رحمه الله – في هذا السياق (1) :
( سمعت الأستاذ أبا منصور محمد بن عبدالله حمشاد ، العالم الزاهد يقول : سمعت أبا القاسم جعفر بن أحمد المقري الرازي ، يقول : قرىء على أبى عبدالرحمن بن أبي حاتم الرازي ، وأنا أسمع : سمعت أبي يقول – عنى به الإمام في بلده أباه أبا حاتم محمد بن إدريس الحنظلي ، يقول :
" علامة أهل البدع : الوقيعة في أهل الأثر (2) .
وعلامة الزنادقة : تسميتهم أهل الأثر حشوية ، يريدون بذلك إبطال الآثار .
وعلامة القدرية : تسميتهم أهل السنة مجبرة .
وعلامة الجهمية : تسميتهم أهل السنة مشبهة .
وعلامة الرافضة : تسميتهم أهل الأثر نابتة وناصبة .
قلت : وكل ذلك عصبية ، ولا يلحق أهل السنة إلا اسم واحد ، وهو أصحاب الحديث " (3) .
__________
(1) لقد آثرت ترك الترجمة للأعلام – إلا قليلا - إيثارا للاختصار ، ولأن أكثر هؤلاء الأعلام أئمة يسهل على أي باحث الوقوف على تراجمهم .
(2) قال الإمام السفاريني في ( لوامع الأنوار البهية ) ص 64 : " أهل الأثر هم : الذين يأخذون عقيدتهم عن الله جل شأنه في كتابه ، أو في سنة النبي صلى الله عليه وسلم ، أو ما ثبت وصح عن السلف الصالح من الصحابة الكرام والتابعين دون زبالات أهل الأهواء والبدع ، ونخالات أصحاب الآراء " أ.هـ بتصرف .
(3) هذا الأثر عن ابن أبي حاتم رواه أيضا الإمام اللالكائي في " شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة "( 1 /179 ، 1/182 ، 3/533 ) .(14/5)
قلت - أي شيخ الإسلام أبو عثمان الصابوني - : أنا رأيت أهل البدع في هذه الأسماء التي لقبوا بها أهل السنة سلكوا معهم مسالك المشركين مع رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم – فإنهم اقتسموا القول فيه : فسماه بعضهم ساحرا ، وبعضهم كاهنا ، وبعضهم شاعرا ، وبعضهم مجنونا ، وبعضهم مفتونا ، وبعضهم مفتريا مختلقا كذابا ، وكان النبي – صلى الله عليه وآله وسلم – من تلك المعائب بعيدا بريئا ، ولم يكن إلا رسولا مصطفى نبيا ، قال الله - عز وجل - : ( أنظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا )[سورة الإسراء الآية 48 ]
كذلك المبتدعة - خذلهم الله – اقتسموا القول في حملة أخباره ، ونقلة آثاره ، ورواة أحاديثه ، المقتدين بسنته ، فسما هم بعضهم حشوية ، وبعضهم نابتة ، وبعضهم ناصبة ، وبعضهم جبرية ؛ وأصحاب الحديث عصامة من هذه المعائب برية ، نقية زكية تقية ، وليسوا إلا أهل السنة المضية ، والسيرة المرضية ، والسبل السوية ، والحجج البالغة القوية ، قد وفقهم الله – جل جلاله – لاتباع كتابه ، ووحيه وخطابه ، والإقتداء برسوله في أخباره ، التي أمر فيها أمته بالمعروف من القول والعمل ، وزجرهم عن المنكر فيها ، وأعانهم على التمسك بسيرته ، والاهتداء بملازمة سنته ، وشرح صدورهم لمحبته ، ومحبة أئمة شريعته ، وعلماء أمته ، ومن أحب قوما فهو منهم بحكم قول رسول الله _ صلى الله عليه وسلم - :" المرء مع من أحب " (1) .
وإحدى علامات أهل السنة : حبهم لأئمة السنة وعلمائها ، وأنصارها وأوليائها ، وبغضهم لأئمة البدع ، الذين يدعون إلى النار ، ويدلون أصحابهم إلى دار البوار ، وقد زين الله - سبحانه – قلوب أهل السنة ونورها بحب علماء السنة ، فضلا منه – جل جلاله – ومنة .
__________
(1) أخرجه الشيخان من حديث عبد الله بن مسعود – رضي الله عنه - .(14/6)
أخبرنا الحاكم أبو عبدالله الحافظ- أسكنه الله وإيانا الجنة – ثنا محمد بن إبراهيم بن الفضل المزكي ، ثنا أحمد بن سلمة ،قرأعلينا أبو رجاء قتيبة بن سعيد في كتاب (الإيمان ) له ، فكان في آخره : " فإذا رأيت الرجل يحب سفيان الثوري ، ومالك بن أنس ، والأوزاعي ، وشعبة ، وابن المبارك ، وأبا الأحوص ، وشريكا ، ووكيعا ، ويحيى بن سعيد ، وعبدالرحمن بن مهدي ، فاعلم أنه صاحب سنة " .
قال أحمد بن سلمة _ رحمه الله - : " فألحقت بخطي تحته : ويحيى بن يحيى ، وأحمد بن حنبل ، وإسحاق بن راهوية " ، فلما انتهى إلى هذا الموضع نظر إلينا أهل نيسابور وقال : هؤلاء يتعصبون ليحيى بن يحيى ، فقلنا له : يا أبا رجاء ما يحيى بن يحيى ؟ قال : رجل صالح ، إمام المسلمين ، وإسحاق بن إبراهيم إمام ، وأحمد بن حنبل أكبر ممن سميتهم كلهم .
وأنا ألحقت بهؤلاء الذين ذكرهم قتيبة – رحمه الله – أن من أحبهم فهو صاحب سنة من أئمة الحديث الذين يقتدون بهم ، ويهتدون بهديهم ، ومن جملتهم ومتبعيهم وشيعتهم أنفسهم يعدون ، وفي اتباعهم آثارهم يجدون ، جماعة آخرين :
منهم : محمد بن إدريس الشافعي المطلبي ، الإمام المقدم ، والسيد المعظم ، العظيم المنة على الإسلام والسنة ، الموفق الملقن ، الملهم المسدد، الذي عمل في دين الله وسنة رسول الله من النصر لهما والذب عنهما مالم يعمله أحد من علماء عصره ومن بعدهم .
ومنهم : الذين كانوا قبل الشافعي – رحمه الله – كسعيد بن جبير ، والزهري ، والشعبي ، والتميمي ( يقصد أبا المعتمر ) .
ومن بعدهم : كالليث بن سعد ، والأوزاعي ، والثوري ، ووسفيان بن عيينة الهلالي ، وحماد بن سلمة ، وحماد بن زيد ، ويونس بن عبيد ، وأيوب ، وابن عون ، ونظرائهم .
ومن بعدهم : مثل يزيد بن هارون ، وعبدالرزاق ، وجرير بن عبد الحميد .(14/7)
ومن بعدهم : مثل محمد بن يحيى الذهلي ، ومحمد بن إسماعيل البخاري ، ومسلم بن الحجاج القشيري ، وأبي داود السجستاني ، وأبي زرعة الرازي ، وابن أبي حاتم ، وابنه ، ومحمد بن مسلم بن واره ، ومحمد بن أسلم الطوسي ، وعثمان بن سعيد الدارمي ، ومحمد بن إسحاق بن خزيمة _ الذي كان يدعى إمام الأئمة في وقته - ، وأبي يعقوب إسحاق بن إسماعيل البستي . . . )
ومضى شيخ الإسلام أبو عثمان الصابوني – رحمه الله – يعدد أئمة الهدى ، ويذكر أسماءهم الواحد تلو الآخر ، إلى أن قال :
( .. وغيرهم من أئمة السنة الذين كانوا متمسكين بها ، ناصرين لها داعين إليها ، دالين عليها ) انتهى لفظ شيخ الإسلام الإمام الصابوني – رحمه الله – نقلا من رسالته في [ اعتقاد السلف وأصحاب الحديث ] ،
وهو من الوضوح بمكان ، حتى إنه ليستغني ببيانه عن التعليق عليه ، وكفى بهذا الإمام حجة في نقله عن أئمة السنة هذه الشهادة التي حفظها الله –عز وجل لنا بهذه الأسانيد الصحيحة لتكشف لنا امتداد خط المبتدعة الذين كانت لهم طريق سابلة منذ قديم الزمان في تشويه صورة أهل السنة والجماعة ، حملة الحديث ، ونقلة الآثار ، وأتباع السلف الصالح من الصحابة والتابعين ، وتابعيهم بإحسان ، ووصفهم بأسماء مخترعة ، ونعوت باطلة ، لتنفير الناس عنهم ، واستلاب قلوب ضعاف العلم والإيمان بالأصوات التي تنفخ في أبواق الباطل .. ( ليطفئوا نور الله بأفواههم ) [سورة التوبة آية 32] فيسمون أهل السنة بالحشوية والمشبهة والنابتة والوهابية وغيرها من الألقاب .
وليأذن لي القارئ الكريم أن أقف به على شهادة العلم الحافظ ، والإمام ، أحمد بن حجر العسقلاني – رحمه الله – (773-852 ) حيث قال في كتابه العجاب [ فتح الباري ] ( 13/418 ) في معرض تقريره لصفة الاستواء لربنا الأعلى ، وهو يحكي ما أسنده الإمام البيهقي الحافظ – رحمه الله – حيث قال ما نصه :(14/8)
( ومن طريق أبي بكر الضبعي قال : مذهب أهل السنة في قوله " الرحمن على العرش استوى " [ سورة طه آية 5] قال :بلاكيف ، والآثار فيه عن السلف كثيرة ، وهذه طريقة الشافعي وأحمد بن حنبل ) .
ثم قال – رحمه الله - : ( وقال الترمذي في الجامع عقب حديث أبي هريرة في النزول : وهو على العرش كما وصف نفسه في كتابه ، كذا قال غير واحد من أهل العلم في هذا الحديث وما يشبهه من الصفات ، وقال في باب فضل الصدقة : قد ثبتت هذه الروايات فنحن نؤمن بها ، ولا نتوهم ، ولا يقال كيف ، كذا جاء عن مالك وابن عيينة وابن المبارك : أنهم أمروها كما جاءت بلا كيف ، وهذا قول أهل العلم من أهل السنة والجماعة ، وأما الجهمية فأنكروها وقالوا : هذا تشبيه . . ) .
ثم قال – رحمه الله - : ( قال ابن عبد البر : أهل السنة مجمعون على الإقرار بهذه الصفات الواردة في الكتاب والسنة ، ولم يكيفوا شيئا منها ، وأما الجهمية والمعتزلة والخوارج فقالوا : من أقر بها فهو مشبه ، فسماهم من أقر بها معطلة ) .
فهذا هو الحافظ ابن حجر – رحمه الله – ينقل عن الإمام الترمذي ، وعن الإمام الحافظ ابن عبد البر – رحمهما الله – وأقرهم على أن الجهمية والمعتزلة والخوارج منذ عهد قديم كانوا يسمون أهل السنة والجماعة [مشبهة ] زورا وبهتانا ( وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد ) [سورة البروج آية 8] فيثبتون لله ما أثبته لنفسه من صفات الجلال والكمال ، والمقصود أن هذه المصطلحات لم يخترعها كتاب المقالات المعاصرون من المبتدعة الغالين وإنما هو مصطلح قديم يستخدمه المبتدعة يموهون به على عامة المسلمين ويقصدون به { أهل السنة والجماعة } .(14/9)
وإن شئت – أيها القارئ الكريم – شاهدا آخر على صدق ما حررناه لك هاهنا فانظر – رحمك الله – إلى ما قاله الإمامان الجليلان : الشيخ عبد القادر الجيلاني ، والإمام ابن قتيبة _ رحمهما الله - فمن ذلك ما قاله الإمام عبد القادر الجيلاني في كتاب ( الغنية لطالبي الحق ص 80 ) :
( واعلم أن لأهل البدع علامات يعرفون بها ، فعلامة أهل البدعة الوقيعة في أهل الأثر ، وعلامة الزنادقة ، تسميتهم أهل الأثر بالحشوية ، ويريدون إبطال الآثار ، … وعلامة الجهمية تسميتهم أهل السنة مشبهة ، ولا اسم لهم إلا اسم واحد وهو أصحاب الحديث ، ولا يلتصق بهم ما لقبهم به أهل البدع ، كما لم يلتصق بالنبي – صلى الله عليه وسلم – تسمية كفار مكة ساحرا ، وشاعرا ومجنونا ومفتونا وكاهنا ولم يكن اسمه عند الله وعند ملائكته وعند إنسه وجنه وسائر خلقه إلا رسولا نبيا ، بريا من العاهات كلها .. )أ.هـ
وانظر كتاب " تأويل مختلف الحديث " للإمام ابن قتيبة صفحة 55 ، بل .. وانظر شهادة الإمام القاري بذلك في كتاب " شرح الفقه الأكبر " صفحة 13 ] .
فماذا سوف يقول مبتدعة عصرنا في جميع هؤلاء ؟؟؟ ، هل سيقولون إنهم – جميعا – حشوية ، مشبهة ، وهابية ؟؟
لئن قالوا ذلك فإنهم حينئذ سوف يحكمون على أنفسهم في ملأ المسلمين . !! بماذا ؟؟ ، بأنهم مبتدعة !!! .
قلت : ولا غرابة أن يقولوا ذلك ؛ فإن أول من تكلم بمصطلح [ حشوية ] – كما يذكر المؤرخون – هو عمرو بن عبيد المعتزلي ، فقد قال : كان عبد الله بن عمر حشويا ، فأطلق المعتزلة هذا الاسم على أهل السنة تبعا لإطلاقهم له على هذا الصحابي الجليل – رضي الله عنه وأرضاه - .. ! ! .(14/10)
نعم .. من الإنصاف أن نقول : لقد كانت مصطلحات زنادقة القرون الأولى ومبتدعتهم في التنفير من أهل السنة والجماعة [ حشوية ، مشبهة ، مجسمة ، نابتة ، جبرية . . . الخ ، وهي ذاتها المصطلحات التي يرددها المعاصرون منهم بدون خوف من الله ولا حياء ، وإنما أضاف المعاصرون مصطلحا واحدا لم يبتكره قدماؤهم ، وهو مصطلح [ وهابية !!] ويقصدون لمز أهل السنة بعالم من علمائهم ، وهو الإمام : محمد بن عبد الوهاب التميمي الحنبلي المتوفى سنة (1206 هـ ) (1) ، وذلك لكثرة ما روج أهل الفساد والإلحاد من دعايات باطلة تشوه صورة هذا الإمام العظيم آنذاك .. .
قال الزركلي في كتابه الموسوعة ( الأعلام 6/257 ) :
( محمد بن عبد الوهاب : زعيم النهضة الدينية الإصلاحية الحديثة في جزيرة العرب ، … كان ناهجا منهج السلف الصالح ، داعيا إلى التوحيد الخالص ، ونبذ البدع ، وتحطيم ما علق به من أوهام ، .. وكانت دعوته الشعلة الأولى لليقظة الحديثة في العالم الإسلامي كله : تأثر بها رجال الإصلاح في الهند ومصر والعراق والشام وغيرها … ، سماهم خصومهم بالوهابيين ، وشاعت التسمية الأخيرة عند الأوربيين ، فدخلت معجماتهم الحديثة ، وأخطأ بعضهم فجعلها مذهبا جديدا في الإسلام تبعا لما افتراه خصومه ) انتهى كلامه .
__________
(1) الإمام محمد بن عبد الوهاب من علماء أهل السنة والجماعة المجددين وقد تميزت دعوته بمحاربة مظاهر الشرك في الجزيرة العربية التي كانت يومها ذاك تعج بكثير من صوره التي كان علماء المسلمين آنذاك يتنادون إلى محاربتها والتحذير منها ، وقد روج دعاة الفتنة وأعداء أهل السنة كثيرا من الافتراءات على الشيخ ودعوته (أنظرها في كتاب " دعاوى المناوئين لدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب عرض ونقض " لعبد العزيز بن محمد بن علي ) .(14/11)
فهل قال الزركلي هذا لأنه وهابي ، حشوي ، مشبه ؟ أم ماذا ؟ إنه إنصاف التاريخ – أخي القارئ الكريم – وقد قرر الزركلي في كلامه هذا أمورا أهمها :
- أن الإمام محمد بن عبد الوهاب – رحمه الله – داعية من دعاة الإصلاح في العصر الحديث على منهج السلف الصالح من أهل السنة والجماعة وقد تميزت دعوته بالدعوة إلى التوحيد الخالص ، والدعوة إلى نبذ البدع ، وتحطيم ما علق بالإسلام من أوهام .
- أن من دعايات المبتدعة لأجل التنفير من دعاة الإصلاح من أهل السنة وصفهم وتسميتهم بالوهابيين ، والتدليس على الناس بمحاولة إيهام العامة أن ( الوهابية !! ) مذهب جديد خارج عن مذاهب أهل السنة والجماعة !!! ، وهذا من أعظم البهتان ، وأفدح الأخطاء ، وهي من افتراءات الخصوم المبتدعة.
- أن تسمية أهل السنة ( بالوهابيين !!) شاعت عند الأوربيين ، ودخلت معاجمهم الحديثة ، ونقول : بل إن المستقرئ لتأريخ هذا المصطلح – ربما – يثبت له أن أصله كان من اختراع أعداء الإسلام الصليبيين الحاقدين ، والكفار المبغضين ، فقد كان أعداء الإسلام ؛ هؤلاء (الأوربيين ) يراقبون الدعوة الإصلاحية في مجتمعات أهل السنة التي قام بها الإمام محمد بن عبد الوهاب – رحمه الله –في القرن الثاني عشر منذ نشأتها ، وقد كتبوا في ذلك كتبا ، ومن هذه الكتب التي كتبت عن دعوة هذا الإمام كتاب {DES WAHABIS HISTOIRE} [ تأريخ الوهابية ] طبع في باريس بعد وفاة الشيخ بثمانية عشر عاما ، وكذلك كتاب { THE WAHABIS } [ الوهابيون ] للقسيس زويمر ،وكل صياحهم في كتاباتهم هذه على ما يتهدد الكفر وأهله من استمرار دعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب ، وما يترتب على ذلك من عودة الإسلام بأصالته إلى الحياة العامة وانحسار ما كان يروج له دعاة الإلحاد وأذنابهم في مجتمعات المسلمين مما يضعف الإسلام وأهله !! .(14/12)
( أنظر الأعلام للزركلي 6/357 ، وكتاب موسوعة أهل السنة 2 /1219 ففيه ما يؤيد ما قرره الزركلي مما هو مشار إليه أعلاه ) .
ثم إن مبتدعة عصرنا لو تأملوا – قليلا – في هذا المصطلح الذي اخترعه لهم النصارى الصليبيون فربما عدلوا – لو كانت لهم أحلام ، أو في قلوبهم لله خشية – عن المجازفة بإطلاق هذا اللقب على أحد من الناس ؛ إذ أن { الوهاب } من أسماء الله الحسنى التي لا يجوز أن يشتق منه اسم لفرقة من الفرق ، وتنبز به على وجه التشنيع والتحقير ، ومعلوم أن الإمام محمد بن عبد الوهاب – رحمه الله – لم يقل أنا الوهاب !! وإنما كان اسمه ( محمد بن عبد الوهاب ) ، فكما أنه لا يجوز أن يشتق من اسم ( عبد الرحمن ) اسم لفرقة تسمى على وجه الانتقاص والتحقير ( الرحمانيون ) لأن الرحمن اسم من أسماء الله – سبحانه وتعالى – فكذلك لا يجوز هذا في اسم ( الوهاب ) لأنه من الإلحاد في الأسماء الحسنى لربنا العظيم – جل ثناؤه ، وتقدست أسماؤه – وقد توعد الله في كتابه هؤلاء الملحدين في أسمائه فقال – سبحانه - : ( وذروا الذين يلحدون في أسمائه ، سيجزون ما كانوا يعملون ) [ سورة الأعراف آية 108 ]، وهذا مثل اسم { الله }، -جل جلاله – لا يجوز أن يشتق منه أحد اسما لفرقة أو جماعة تنتقص به !!!(14/13)
فليت شعري .. هل يعقل هؤلاء البسطاء المتعالمون ذلك ، فيرعوون عن الإلحاد في أسماء الله – تعالى – الحسنى ، وينزجرون عن التنابز بالألقاب ، واتخاذ اسم من أسمائه الحسنى سبة لأهل السنة والجماعة ؟؟!! ، مع أن أهل السنة يقولون : إن هذه النسبة إلى { الوهاب } نسبة فيها تشريف عظيم فهي نسبة إلى الله – تعالى – كما تقول للقوم : ( أنتم ربانيون ) نسبة إلى الرب – سبحانه وتعالى - ، ومع هذا وذاك فأهل السنة والجماعة لا يلحقهم من هذه الألقاب على كثرتها إلا اسم واحد وهو النسبة إلى السنة والجماعة ، وهم أهل الحديث والأثر كما قال أئمة الهدى – رضوان الله عليهم – فيما نقلناه آنفا عنهم .
والمقصود أن هؤلاء المبتدعة المعاصرون لم يضيفوا جديدا في حربهم السافرة على السنة والإسلام وأهله فوق ما كاد به أسلافهم سوى هذا المصطلح الذي اخترعه لهم النصارى الحاقدون على الإسلام وأهله ، وحسبهم من الشر أن أئمتهم فيه هؤلاء الكفار الذين أجمعت الأمة على كفرهم ، أم انهم – يا ترى – سوف يدافعون عن كفر النصارى ليغيظوا الحشوية ، المشبهة ، الوهابية أعني أهل السنة والجماعة !!!
ما أراهم إلا فاعلين ذلك ولو بعد حين ! ! .. .
وأخيرا .. أيها القارئ المبارك : أعد التأمل فيما نقلناه لك عن أئمة المسلمين من القرون الأولى المفضلة عن تأريخ هذه المصطلحات ، وأنصف – ولو على نفسك إن كنت من المخالفين - فإن الله عدل يحب العدل ، فتأمل شهادة الإمام أبي حاتم الرازي (195- 277 )،من علماء القرن الثالث الهجري ، نقلها أئمة الإسلام الأعلام شاهدين بها ، مقرين لها ، مؤكدين عليها ، يتبين لك من المقصود بهذه الألقاب !! ، ومن الذي يقف وراءها ، ويتولى كبر إذاعتها في المجتمع المسلم والترويج لها !!(14/14)
وتأمل معه كلام الحافظ ابن حجر – رحمه الله – الذي نقله عن أئمة الدين ، السابقين النبلاء ، والسادة العلماء الأتقياء ، لكي ترى من خلال ذلك كله شمس الحقيقة تشرق في قلبك ، وتعلم بيقين حقيقة هذا الصراع بين من ، ومن ؟؟ .
{فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة } [ سورة الحجرات آية 6 ]
لقد بقيت فترة من الزمن أقلب النظر وأعيده فيما كان يسود به أهل البدع صحائف مقالاتهم التي ينشرونها ، وماذا تراهم يقصدون بأسلوبهم هذا في الكتابة الذي يعتمدون فيه على تعمية الحقائق ، وقلب المفاهيم ، وتوعير الطريق في الوصول إلى الحق ؟
فرأيتهم في عامة ما يكتبون يسعون لأمرين :(14/15)
( الأول ) : تعمية الحقائق على الرجال العقلاء من مذاهبهم ، فيتحرون الكذب ينمقونه لهم ، ويغرونهم به ، معتمدين في ذلك على ثقة هؤلاء فيهم – ربما –لأجل منصبهم ، أو جاههم الاجتماعي ، حتى إن هؤلاء العقلاء – هداهم الله تعالى- لا يكلفون أنفسهم عناء المراجعة وراء سدنتهم ، ومن يظنون فيهم أنهم " علماء " !! وليتهم يفعلون ذلك ويمحصون المعلومات ، ويدققون فيما ينقله هؤلاء الكاتبون إليهم فإنهم لو فعلوا ذلك لكشفوا عوار هؤلاء الغلاة ، واكتشفوا زيف بهرجهم المصطنع ،وقطعوا الطريق على كل من يريد أن يحول بينهم وبين الحقيقة النقية ، فإن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم يقول : ( كفى بالمرء إثما أن يحدث بكل ما سمع ) [ رواه مسلم في صحيحه ] ، وفي حادث الإفك الذي تولى كبره المنافقون على عهد رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم - ووقع فيه بعض ذوي النيات الحسنة من المسلمين فكان من شأنهم ما خلد الله جل وتعالى ذكره في قرآن يتلى إلى يوم القيامة ( من الآية 11 الى الآية 26 من سورة النور المباركة ) ما فيه بلاغ لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد ، وحسب المؤمن الكيس منها قوله جل وتعالى :" إذ تلقونه بألسنتكم ، وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم ، ولولا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم ) [ سورة النور أية 15/16]
فجدير بالعاقل أن ينتبه لنفسه ولا يعتمد على أمور لا واقع لها، ونقول زائفة في أحكامه على عباد الله تعالى؛ وخاصة إذا كان لحكمه هذا أثر في الحياة العامة، نسأل الله أن يوفقنا وسائر المسلمين إلى ما يحب ويرضى، إنه سميع مجيب .(14/16)
( الثاني ) : من الأمور التي يسعى إليها هؤلاء المفترون فصل علماء أهل السنة والجماعة عن جمهور أهل السنة ؛ عوامهم ومثقفيهم ممن يقل نصيبه من العلم الشرعي ، وذلك باستخدام ذات الوسيلة المعتمدة على قلب الحقائق ، والكذب الرخيص ، فيسمون علماء ودعاة أهل السنة بالحشوية ، والوهابية والمشبهة ، ويوهمون جمهور أهل السنة من العامة والمثقفين بأنهم غير مقصودين على ( قاعدة فرق تسد ) ، وحتى يتسنى لهم القضاء على السنة – زعموا – إذ يسهل عليهم اقتناص العامة واستيعابهم والقضاء عليهم بعد الإجهاز على علمائهم ودعاتهم ، والمتعلمين منهم على ما سيأتي بيانه .. خابوا وخسروا فيما قصدوا !!! .
وقد عرفناك على لسان أئمة الحديث وعلماء السنة بداية من القرون المفضلة إلى يوم الناس هذا من هم الحشوية – في نظرهم – الذين يحاربونهم ، فتذكر ذلك جيدا ولا يعزبن عن بالك – رعاك الله - .. .
هذا ولأجل تحقيق هذين الغرضين – ربما – سعوا لتخويف جمهرة المخالفين لمنهج أهل السنة ، بل – ربما – وعوام أهل السنة – أيضا - وذلك بالترسيخ في عقولهم أن المذهب الحشوي ( ويقصدون أهل السنة !!) يكفر كل مخالف له ولو في مسائل الفروع البسيطة ، ويستحل دمه وماله !!!
ويرفعون عقيرتهم بحشر اسم كل عدو للسنة أو جاهل مغرر به ، يتكثرون بهم لتأييد دعواهم الباطلة هذه ، مع أن عكس ذلك تماما هو الصحيح ، فما عرفنا _ ويشهد الله على هذا – طائفة تنتسب إلى الإسلام تنصف مخالفيها أكثر من أهل السنة والجماعة الذين شرفهم الله عز وجل باتباع منهج رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم – وصحابته الكرام في الأصول والفروع ، فهم – بحق – يمثلون الإسلام النقي الذي جاء به نبي الهدى ، وإمام المتقين .(14/17)
ولا يقولنَّ مخالف عن كلامي هذا : " سني شهد لنفسه : " ، فإن أسعد الناس بالحق أوجدهم للدليل ، فهذا كتاب الله تعالى يشهد بذلك ، وهذه السنة الغراء على صاحبها صلوات الله وسلامه ، وهذا التاريخ أعظم برهان ، وهذه مصنفات أئمتنا وكتبنا ، وتلك كتب غيرنا من أهل البدع والأهواء الذين انحرفوا عن الجادة واتبعوا السبل .. .
وعودا على بدء ، فإني لست في مقام تتبع مغالطات هؤلاء القوم الحاقدين على أهل السنة واستقصاء كذبهم وافتراءاتهم التي يختلقونها من قلوبهم المريضة فهو كثير ، وأتمثل هاهنا بقول الإمام أبي العباس بن سريج الشافعي – رحمه الله – حيث كان يقول :
ولو كلما كلب عوى ملت نحوه أجاوبه ، إن الكلاب كثير
ولكن مبالاتي بمن صاح أو عوى قليل فإني بالكلاب بصير
وحسبي في هذه العجالة كشفا لعوارهم أن أوضح للقارئ الكريم – مخالفا أو موافقا – شيئا يسيرا عن حقيقة هذا الصراع وذلك عن طريق التنبيه على أصول عامة في اعتقاد أهل السنة والجماعة من أئمة السلف الصالح _ رضوان الله تعالى عليهم أجمعين - ، فهذه الكلمات رسالة موجزة إلى :
* جمهور أهل السنة ومثقفيهم تجلي لهم الحقيقة حتى لا يغرر بهم العدو ، فينخدعوا بأراجيفه .. إنها تنبيه للغافل ، وتذكير للعاقل .
* ثم هي – أيضا – لعقلاء أهل الفرق والمذاهب الأخرى ، وطالبي الحق منهم ، فالحق أحق ما قيل ، والصدق أولى ما آثره ذو السبيل ، والرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل .. مع محبتنا وتقديرنا لكل منصف .
مسائل تحت المجهر
لقد مارس هؤلاء المخالفون من غلاة أهل البدع الذين وصفناهم كثيرا من الشغب على أهل السنة والجماعة في مسائل كثيرة ، بعضها في أصول الديانة ، وهي المسائل العقائدية بزعمهم أن من يسمونهم بالحشوية والوهابية والمشبهة هم غير الأئمة الأربعة الذين تلقتهم الأمة بالقبول وأتباعهم .(14/18)
ثم يلصقون تهمة الحشو والتشبيه بكل سني يدعو إلى السنة ويعلمها للناس ، خاصة إذا اختلف هذا الداعية مع أحد هؤلاء المبتدعة في أصل أو فرع ليخلق – بزعمه – حاجزا نفسيا يحول بين طلاب الحق ، ومحبي السنة النبوية من النظر بتجرد وإخلاص في آراء الدعاة إلى السنة الذين يمثلون المنهج النبوي النقي المتمثل في قوله – عليه الصلاة والسلام - : ( عليكم بسنتي ، وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي ، عضوا عليها بالنواجذ ) (1)، والذين هم – في الحقيقة – امتداد حي للقرون الفاضلة المشهود لها بالخيرية ، وهيهات أن يفلح أعداء الله ورسوله ، فإن للحق نورا ، وللسنة ضياءا ، ( والله متم نوره ولو كره الكافرون ) [سورة الصف آية 8 ] .
أما المسائل العقائدية فإنهم أخذوا يثيرونها ، ويقررون من خلال ذلك عقائدهم المخالفة لكتاب الله تعالى وسنة نبيه محمد – صلى الله عليه وآله وسلم – وعقيدة سلف هذه الأمة من صحابة وتابعين – رضوان الله عليهم أجمعين – فأحيوا مذهب الاعتزال وآراءه البالية ووصفوها بأنها هي السنة وبالتالي يقررون أن من نحا منحى المعتزلة والخوارج في العقيدة هم أهل السنة !!! ، ويعيبون منهج أهل الحديث الذين هم أهل السنة بالحق والصدق ممن ذكرناهم لك في الفصل الأول من الأئمة الأربعة – رضي الله عنهم – وغيرهم من أئمة الإسلام الأعلام من السابقين الأولين ، ويصورونهم بأنهم حشوية ومشبهة ومجسمة ووهابية كما سبق وأن بينا شهادة الأئمة على ذلك .
ومن أهم هذه المسائل التي يكثر شغبهم من خلالها :
- رؤية المومنين لربهم في الجنة .
- مسألة خلق القرآن .
- إثبات الصفات لله – تعالى – على الوجه اللائق .
- تكفير المخالفين من أهل القبلة .
- إثبات شفاعة الرسول – صلى الله عليه وآله وسلم – لأهل الكبائر من الموحدين ، وعدم خلودهم في النار
__________
(1) رواه الترمذي عن العرباض بن سارية ، كما رواه عنه أيضا أبو داود وابن ماجة وأحمد والدارمي .(14/19)
- عدالة الصحابة الكرام _ رضي الله عنهم - .
وسوف نقرر – إن شاء الله تعالى – ما هو الحق من مذهب أهل السنة والجماعة في ذلك بعد حين .
وأما المسائل الفقهية فعبث المخالفين فيها لا يحصى ، فهم يركضون على غير هدى كالذي يتخبطه الشيطان من المس ، لأجل التشويش على مصداقية علماء أهل السنة والجماعة ، والتشويش على صدق أهل الحديث في نقلهم لأحكام الإسلام ، وذلك عن طريق التشنيع على العلماء والمجتهدين ببعض الآراء الاجتهادية في بعض مسائل الفروع التي أجمعت الأمة على أن للإجتهاد فيها مسرح وأن المخالف لا يضلل في شيء منها ، بل إن المجتهد إذا اجتهد فأصاب فله أجران ، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر الإجتهاد ، كما ثبت ذلك عن النبي – صلى الله عليه وآله وسلم في صحيح الإمام البخاري – رحمه الله تعالى - .
إن التشنيع على العلماء بفتاواهم في فروع الأحكام ونوازل الأيام مما اجتهدوا فيه فأصابوا أو أخطؤوا نوع من التردي في أغوار بعيدة من الجهل ، وسوء أدب الغاية منه تشجيع عامة الناس ودهمائهم على الوقوع في أعراض العلماء ، ونزع مصداقيتهم وتوقيرهم من صدور المسلمين ، ثم بعد ذلك يبقى العامة مفصولين عن علمائهم – كما أشرنا سابقا – فيستأسد عليهم هؤلاء المبتدعة وإخوانهم من شياطين الإنس والجن فيجتالونهم عن دينهم ، وهذه الرسالة أضيق من أن تتسع لمناقشة المسائل الفقهية محور شغب المخالفين ، وحسبي هنا أن أضع القارئ الكريم على هدف هؤلاء من إثارة هذه المسائل بهذه الصورة ، مع أنها مما يسع فيه الخلاف ، وليست مدارا للتضليل بين الأمة ، والله المستعان .
المسائل العقائدية(14/20)
ما نحن بصدده في هذا المبحث تقرير قول سلفنا الصالح من الصحابة الكرام ، والتابعين لهم بإحسان من أئمة الهدى ، كالأئمة الأربعة ، مالك بن أنس ، وأبي حنيفة النعمان ، ومحمد بن إدريس ، وأحمد بن حنبل ، وغيرهم من أعلام أهل الحديث _ رضي الله عنهم أجمعين _ ، وليس غرضنا تتبع شبه المخالفين لأهل السنة لأجل الرد عليها ، فذاك شأن يطول ويخرج بنا عن مقصد هذه الرسالة ، غير أننا قد نشير إلى ما يقتضيه المقام مما يتعلق به إيضاح المقصود من الردود والله الموفق .
{ المسألة الأولى } : رؤية المؤمنين لربهم – جل ثناؤه ، وتقدست أسماؤه – في الجنة :
( 1 ) : قال الله تعالى : ( وجوه يومئذ ناضرة ، إلى ربها ناظرة ) [ سورة القيامة آية 22 ، 23 ]
قال ابن عباس – رضي الله عنهما - :" تنظر إلى وجه ربها – عز وجل – " (1) .
قال عكرمة – رحمه الله - : " تنظر إلى ربها نظرا " (2) .
وقال الحسن – رحمه الله - :" تنظر إلى الخالق ، وحق لها أن تنضر "(3)
وقال رجل للإمام مالك بن أنس – رضي الله عنه - : يا أبا عبد الله ، قول الله تعالى ( إلى ربها ناظرة ) ،يقول قوم إلى ثوابه ؟!!
فقال الإمام مالك : " كذبوا ، فأين هم عن قوله تعالى ( كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون ) [سورة المطففين الآية 15].
( 2 ) : قال الله تعالى : ( للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ) [ سورة يونس آية 26] .
الحسنى هي : الجنة ، والزيادة هي : النظر إلى وجهه الكريم _ جل وتعالى - ، فسرها بذلك رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم – والصحابة من بعده :
__________
(1) شرح الطحاوية لابن أبي العز الحنفي ص 155 .
(2) أخرجها الإمام محمد بن جرير الطبري بإسناد صحيح كما قال الحافظ في الفتح ( 13/434 ) .
(3) أخرجه أبو العباس السراج في تاريخه ، وحكاه عنه الحافظ في الفتح (13/ 435 ) .(14/21)
روى الإمام مسلم – رحمه الله – في صحيحه ، عن صهيب – رضي الله عنه - ، عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال : ( إذا دخل أهل الجنة الجنة نودوا : يا أهل الجنة ، إن لكم عند الله موعدا يريد أن ينجزكموه ، فيقولون : ما هو ؟، ألم يثقل موازيننا ، ويبيض وجوهنا ، ويدخلنا الجنة ، ويجرنا من النار ؟ ، فيكشف الحجاب ، فينظرون إليه ، فما أعطاهم الله شيئا أحب إليهم من النظر إليه ، ثم تلا : ( للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ) (1).
وكذلك فسرها الصحابة الكرام – رضي الله عنهم - ، روى ذلك الإمام محمد بن جرير الطبري – رحمه الله في تفسيره ، عن جماعة من الصحابة منهم : أبي بكر الصديق ، وحذيفة ، وأبي موسى الأشعري ، وابن عباس رضي الله عنهم أجمعين(2).
( 3 ) : قال الله تعالى : ( كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون ) [سورة المطففين آية 15] قال الربيع بن سليمان : كنت ذات يوم عند الشافعي ، وجاءه كتاب من الصعيد ، يسألونه عن قوله عز وجل :( كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون ) ، فكتب : لما حجب قوما بالسخط دل على أن قوما يرونه بالرضا . قلت : أو تدين بهذا يا سيدي ؟ . فقال : " والله لو لم يوقن محمد بن إدريس أنه يرى ربه في المعاد لما عبده في الدنيا " (3) .
( 4 ) : قال الله تعالى : ( لهم ما يشاؤون فيها ولدينا مزيد ) [سورة ق آية 3] .
قال الحافظ عماد الدين ابن كثير – رحمه الله - : ( وقوله تعالى " ولدينا مزيد " كقوله عز وجل " للذين أحسنوا الحسنى وزيادة "وقد تقدم في صحيح مسلم عن صهيب بن سنان الرومي أنها النظر إلى وجه الله الكريم ) (4/290)
__________
(1) رواه مسلم في كتاب : الإيمان ، باب : " إثبات رؤية المؤمنين ربهم سبحانه وتعالى " .
(2) تفسير الطبري ( 11/73-76 )
(3) طبقات الشافعية الكبرى (2/ 81 ) ، ومناقب الشافعي للبيهقي (1/419) ، وانظر تفسير الطبري وتفسير الحافظ ابن كثير .(14/22)
( 5 ) : وأما الاحاديث عن النبي – صلى الله عليه وآله - الدالة على الرؤية ، الصريحة فيها فمتواترة ، رواها أصحاب الصحاح والمسانيد والسنن ، منها :
( 1 ) : حديث جرير بن عبد الله – رضي الله عنه - : قال : كنا جلوسا عند النبي – صلى الله عليه وسلم – إذ نظر إلى القمر ليلة البدر ، قال : ( إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته ، فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس ، وصلاة قبل غروب الشمس فافعلوا ) [ أخرجاه في الصحيحين ] .
( 2 ): حديث أبي هريرة ، وأبي سعيد الخدري _ رضي الله عنهما - : أن ناسا قالوا : يا رسول الله : هل نرى ربنا يوم القيامة ؟ فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – : (هل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر ؟ ) . قالوا : لا يا رسول الله . قال : ( فهل تضارون في الشمس ليس دونها سحاب ؟ ) قالوا : لا يا رسول الله . قال : ( فإنكم ترونه كذلك ) [ أخرجاه في الصحيحين بطوله ] .
( 3 ) : حديث صهيب – رضي الله عنه – المتقدم في تفسير الزيادة ، في الفقرة الثانية من هذا المبحث .
( 4 ) : حديث أبي موسى الأشعري في الصحيحين ، وحديث عدي بن حاتم في صحيح الإمام البخاري – رحمه الله - ، وغيرها كثير حتى إن علماء الحديث صرحوا أنه قد روى أحاديث الرؤية اكثر من ثلاثين صحابيا .
( 6 ) :قال العلامة المحدث الفقيه : أبو عبد الله محمد بن جعفر الكتاني في كتاب " نظم المتناثر من الحديث المتواتر ( ص 238 – 240 ) عند الكلام على الحديث رقم ( 307 ) : ( إنكم سترون ربكم – يعني يوم القيامة – كما ترون القمر … ) ، قال – رحمه الله - :(14/23)
( ذكره السعد في شرح النسفية ، وقال : هو حديث مشهور ، رواه واحد وعشرين من أكابر الصحابة – رضي الله عنهم – " أ.هـ وقد نقله الشيخ قاسم بن قطلوبغا الحنفي في حواشيه على " المسايرة " لشيخه ابن الهمام ، وقال عقبه ما نصه : " قلت : أخذ هذا من الكفاية ، قال فيها : وذكر الشيخ أبو عبد الله محمد بن علي الحكيم الترمذي – رحمه الله – في تصنيف له ، قال : على صحة حديث الرؤية عدة من أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – كلهم أئمة منهم :
1 – ابن مسعود 2 – ابن عمر 3 – ابن عباس 4 - وصهيب
5 – وأنس 6 – وأبو موسى 7 – وأبو هريرة 8 – وأبو سعيد الخدري
9 – وعمار بن ياسر 10- وجابر بن عبد الله 11- ومعاذ بن جبل 12- وثوبان
13- وعمارة بن رويبة الثقفي 14- وحذيفة 15- وأبو بكر الصديق
16- وزيد بن ثابت 17- وجرير بن عبد الله اليمني 18- وأبو أمامة الباهلي
19- وبريدة الأسلمي 20- وأبو برزة الأسلمي 21- وعبد الله بن الحارث بن جزء الزبيدي
- رضوان الله عليهم أجمعين ، فهم واحد وعشرون من مشاهير الصحابة وكبرائهم ، نقلوه عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – واتفقوا على ثبوته ، ولم يشتهر عن غيرهم خلاف ذلك ، فكان إجماعا " أ.هـ
ثم ذكر الشيخ قاسم من خرج أحاديثهم من الأئمة ثم عد أيضا ممن رواه :
22- أبا رزين العقيلي 23- وعبادة بن الصامت 24- وكعب بن عجره 25- وفضالة بن عبيد 26- وأبي بن كعب 27-وعبد الله بن عمرو 28- وعائشة
فانظره .
وقال ابن أبي شريف في شرحها – أيضا - : أحاديث الرؤية متواترة معنى ، فقد وردت بطرق كثيرة عن جمع كثير من الصحابة ، ذكرنا عدة منها في حواشي شرح العقائد أ.هـ
وقال اللقاني في شرح جوهرته : أحاديث رؤية الله تعالى في الآخرة بلغ مجموعها مبلغ التواتر مع اتحاد ما تشير إليه وإن كان تفاصيلها آحاد أ.هـ .(14/24)
وقال الدميري في " حياة الحيوان " في مبحث العلق لما ذكر أن رؤيته تعالى في الدنيا والدار الآخرة جائزة بالأدلة العقلية ما نصه : وأما النقلية فمنها … إلى أن قال : ومنها ما تواترت به الأحاديث من إخباره – صلى الله عليه وسلم – برؤية الله تعالى في الدار الآخرة ، ووقوع ذلك كرامة للمؤمنين أ.هـ .
وفي المواهب في الكلام على الإسراء : تواترت الأخبار عن أبي سعيد وأبي هريرة وأنس وجرير وصهيب وبلال وغير واحد من الصحابة عن النبي – صلى الله عليه وسلم أن المؤمنين يرون الله تعالى في الدار الآخرة في العرصات وفي روضات الجنات جعلنا الله منهم) . انتهى نص ما جاء في كتاب الإمام الكتاني " نظم المتناثر من الأحاديث المتواتر" .
وممن نص على تواتر أحاديث الرؤية – أيضا - فوق من ذكر :
الحافظ عماد الدين بن كثير في تفسير القرآن العظيم (4/578 ) فقد قال ما نصه : ( وقد ثبتت رؤية المؤمنين لله عز وجل في الدار الآخرة في الأحاديث الصحاح من طرق متواترة عند أئمة الحديث لا يمكن دفعها ولا منعها ) ثم قال : ( وهذا بحمد الله مجمع عليه بين الصحابة والتابعين وسلف هذه الأمة ، كما هو متفق عليه بين أئمة الإسلام ، وهداة الأنام )أ.هـ .
والإمام ابن حزم في كتابه " الفصل في الملل والأهواء والنحل (3/3 ) .
والإمام الحافظ ابن القيم في " حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح ( ص 231 ) .
وغير هؤلاء كثير ممن لا يعد فيحصى ، ولا يحصر فيستقصى !!! .(14/25)
( 7 ) : قال الأستاذ أبو القاسم القشيري : سمعت أبا بكر بن فورك يقول : سئل الأستاذ أبو سهل (1) ، عن جواز رؤية الله تعالى من طريق العقل ، فقال : الدليل عليه شوق المؤمنين إلى لقائه ، والشوق إرادة مفرطة ، والإرادة لا تعلق بالمحال . فقال السائل : ومن الذي يشتاق إلى لقائه ؟ فقال الأستاذ أبو سهل : " يشتاق إليه كل حر مؤمن ، فأما من كان مثلك فلا يشتاق "(2) .
( 8 ) : قال الإمام مالك بن أنس – رضي الله عنه - : " الناس ينظرون إلى الله تعالى بأعينهم يوم القيامة " (3) .
( 9 ) : قال الإمام أحمد بن حنبل – رضي الله عنه - : " من قال إن الله لا يرى في الآخرة فهو كافر " (4) .
__________
(1) هو الإمام النحرير ، والأستذ الكبير ، محمد بن سليمان أبو سهل الصعلوكي ، أجمع أهل عصره على أنه بحر العلم ، ولد سنة 296هـ وتوفي 369هـ شيخ الشافعية في زمانه .( طبقات الشافعية الكبرى للسبكي 3/167) .
(2) طبقات الشافعية الكبرى للسبكي ( 3/172 ) .
(3) رواه الآجري في " الشريعة " ص 254، والحافظ عبد الغني المقدسي في " الاقتصاد " ص 129 برقم29 .
(4) رواه الآجري في " الشريعة " ص 254 ، وفي كتاب " التصديق بالنظر إلى الله تعالى في الآخر’ " ص 46 ، وذكره الحافظ عبد الغني المقدسي في " الاقتصاد" ص 130 .برقم 30 .(14/26)
( 10 ) : قال الوليد بن مسلم (1) ، : " سألت الأوزاعي ، وسفيان ، ومالك بن أنس ، عن هذه الأحاديث في الصفات والرؤية فقالوا : ( أمروها كما جاءت بلا كيف ) ، وفي لفظ ( أمضها بلا كيف ) وفي ثالث ( . . بلا كيفية ) (2).
__________
(1) الوليد بن مسلم هو أبو العبس أحد الأعلام ، وعلامة أهل الشام ، له مصنفات حسنة ولد عام 119هـ وتوفي عام 195هـ ثقة ثبت ، ( سير أعلام النبلاء 9/211 ، وتهذيب التهذيب 11/151 ) وغيرها .
(2) رواه اللالكائي في " شرح أصول اعتقاد أهل السنة " (3/527)، والإمام البيهقي في " الأسما والصفت " ص 453 ، وفي كتاب " الاعتقاد " له ص 118 ، والإمام البغوي في " شرح السنة " (1/171) ، والحافظ ابن عبد البر في " جامع بيان العلم وفضله (2/96 ) ، والإمام الصابوني في " رسالة السنة " ص 249 .(14/27)
( 11 ) : روى يزيد بن هارون (1) في مجلسه حديث جرير بن عبد الله في الرؤية وقول رسول الله _ صلى الله عليه وسلم - : ( إنكم تنظرون إلى ربكم كما تنظرون إلى القمر ليلة البدر ) فقال رجل في مجلسه : يا أبا خالد ! ما معنى هذا الحديث ؟ ، فغضب وحرد ، وقال : " ما أشبهك بصبيغ (2)، وأحوجك إلى مثل ما فعل به ، ويلك !!! ، ومن يدري كيف هذا ؟ ومن يجوز له أن يجاوز هذا القول الذي جاء به الحديث أو يتكلم فيه بشيء من تلقاء نفسه إلا من سفه نفسه ، واستخف بدينه ؟!!! ، إذا سمعتم الحديث عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فاتبعوه ولا تبتدعوا فيه ، فإنكم إن اتبعتموه ولم تماروا فيه سلمتم ، وإن لم تفعلوا هلكتم " [ ذكره شيخ الإسلام الصابوني في " عقيدة السلف وأصحاب الحديث " ص 237].
( 12 ) : قال الإمام إسماعيل بن يحيى المزني المتوفى سنة 264هـ - وهو من أخص تلامذة الإمام الشافعي رضي الله عنهم أجمعين – في رسالته " شرح السنة " في عقيدة أهل السنة والجماعة ص82 :( وأهل الجنة يومئذ في الجنة يتنعمون ، وبصنوف اللذات يتلذذون ، وبأفضل الكرامات يحبرون ، فهم حينئذ إلى ربهم ينظرون ، لا يمارون في النظر إليه ، ولا يشكون ، فوجوههم بكرامته ناضرة ، وأعينهم بفضله إليه ناظرة ، في نعيم دائم مقيم …)
__________
(1) يزيد بن هارون أبو خالد السلمي بالولاء الحافظ الإمام القدوة ، ولد عام 117هـ وقيل 118هـ وكان رأسا في العلم والعمل ، ثقة حجة كبير الشأن ، كما قال الذهبي ، مات في بيع الأول سنة206هـ( سير أعلام النبلاء 9/358 ، تهذيب التهذيب 11/366).
(2) أنظر قصة صبيغ في تفسير الحافظ ابن كثير ( 4/232-233) ، وفي الإصابة للحافظ ابن حجر ( 3/359) وفي تهذيب تاريخ دمشق للحافظ ابن عساكر (6/386) .(14/28)
ولما قال المزني : سمعت إبراهيم بن هرم القرشي يقول : سمعت الشافعي يقول في قوله تعالى : ( كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون ) [ المطففين 15 ] : فلما حجبهم في السخط كان هذا دليل على أنهم يرونه في الرضا ، قال أبو النجم القزويني للإمام المزني : يا أبا إبراهيم : به تقول ؟ قال : نعم ، وبه أدين . فقام إليه عصام فقبل رأسه ، وقال : يا سيد الشافعيين اليوم بيضت وجوهنا .
أورده هكذا المقريزي في كتاب " المقفى الكبير " ( 5/346 ) وأورده مختصرا جدا البيهقي في " مناقب الشافعي " ( 2/353 )
{ المسألة الثانية } : مسألة خلق القرآن :
( 1 ) : قال علي بن أبي طالب – رضي الله عنه - في القرآن : ( ليس بخالق ولا مخلوق ، ولكنه كلام الله ، منه بدأ ، وإليه يعود ) (1).
( 2 ) : قال عبدالله بن عباس ، وعبدالله بن مسعود – رضي الله عنهم - : ( القرآن كلام الله ، منه بدأ وإليه يعود ) (2).
( 3 ) : قال سفيان بن عيينه – رحمه الله - : "سمعت عمرو بن دينار يقول : " أدركت مشايخنا والناس منذ سبعين سنة يقولون : ( القرآن كلام الله ، منه بدأ ، وإليه يعود ) " (3) .
( 4 ) : كان مالك بن أنس – رضي الله عنه – يقول : ( من قال القرآن مخلوق يوجع ضربا ، ويحبس حتى يموت ) [ أخرجه عبدالله بن الإمام أحمد في كتاب " السنة " ( 1/106-107 ) بسند صحيح ] .
__________
(1) رواه اللالكائي في " شرح أصول اعتقاد أهل السنة " رقم 374 ( 1/229-230 ) .
(2) رواه اللالكائي في " شرح أصول اعتقاد أهل السنة " رقم 376 (1 /230-231 )ورواه أيضا البيهقي عن ابن عباس في كتاب " الأسماء والصفات" ص 312 ، وأورده البغوي في " شرح السنة " (1 / 186 ) .
(3) رواه البيهقي في كتاب " الأسماء والصفات " ص 315 ، والدارمي في " الرد على الجهمية " ص 88 .(14/29)
( 5 ) : عن سفيان الثوري – رحمه الله – قال : " من قال :إن ( قل هو الله أحد ) [ سورة الإخلاص آية 1-2] مخلوق فهو كافر " [ أخرجه عبد الله بن الإمام أحمد في كتاب " السنة " (1/107-108) بسند حسن ] .
( 6 ) : عن محمد بن أعين – رحمه الله – قال : سمعت النظر بن محمد يقول : " من قال ( إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني ) [ سورة طه الآية 14] ، مخلوق فهو كافر . قال : فأتيت ابن المبارك ، فقلت له : ألا تعجب من أبي محمد قال كذا وكذا ، قال : " وهل الأمر إلا ذلك ؟ ، وهل يجد بدا من أن يقول هذا ؟ " [ أخرجه عبدالله بن الإمام أحمد في كتاب " السنة " (1/110) ، وأبو داود في " مسائله " ص 267، بسند حسن ] .
( 7 ) : وعن غياث بن جعفر قال : سمعت سفيان بن عيينة يقول : " القرآن كلام الله – عز وجل - ، ومن قال مخلوق فهو كافر ، ومن شك في كفره فهو كافر " . [ أخرجه عبدالله في " السنة " (1/112) ، بسند حسن ، وأخرجه أبو داود في " مسائله " مختصرا ] .
( 9 ) : عن شاذ بن يحيى ، قال : حلف لي يزيد بن هارون في بيته : " والله الذي لا إله إلا هو ، عالم الغيب والشهادة ، الرحمن الرحيم ، من قال إن القرآن مخلوق فهو زنديق " . [ أخرجه عبد الله في " السنة " (1/122) ، وأبو داود في " مسائله " ص 268 وسنده حسن ] .
( 10 ) : عن أبي داود قال : " كتبت ورقة ، وأرسلت بها إلى أبي عبدالله – يعني الإمام أحمد بن حنبل – وهو يومئذ متوار . . ، وفيها قوله ( القرآن ليس بمخلوق ) . [ أخرجه أبو داود في " مسائله " ص 265 ] .
( 11 ) : أخرج أبو داود في " مسائله " عن الإمام أحمد –رحمه الله – ص 262 قال : سمعت أحمد ذكر له رجل أن رجلا قال : إن أسماء الله مخلوقة ، والقرآن مخلوق ؟ ، قال أحمد : ( كفر بين ) .(14/30)
( 12) : عن الربيع بن سليمان : أن حفصا الفرد سأل الشافعي عن القرآن ، فاحتج عله الشافعي ، وطالت المناظرة ، فأقام الشافعي الحجة عليه بأن القرآن كلام الله غير مخلوق ، وكفر حفصا الفرد . قال الربيع : فلقيت حفصا الفرد في المجلس بعد فقال : أراد الشافعي قتلي . [ أخرجه ابن أبي حاتم في " آداب الشافعي" ص 194- 195 ، وسنده صحيح ].
(13 ) : عن أبي يعقوب البويطي – رحمه الله - ، صاحب الإمام الشافعي ، قال : ( من قال القرآن مخلوق فهو كافر ) [ أخرجه أبو داود في " مسائله " ص 268 ، بسند صحيح ] .
( 14 ) : قال الإمام أبو الحسن الأشعري ( 260 – 324 ) – رحمه الله - ، في كتابه " الإبانة " ص ( 63-85 ) ما نصه : ( "الباب الثاني " : الكلام في أن القرآن كلام الله تعالى غير مخلوق …) فأورد الأدلة الدامغة لشبه المعتزلة والجهمية الذين كانوا يرفعون لواء القول بخلق القرآن في عهده – رحمه الله – فكان مما قال : ( .. وزعمت الجهمية كما زعمت النصارى أن كلمته تعالى حواها بطن مريم – رضي الله عنها - ، وزادت الجهمية عليهم ، فزعمت أن كلام الله مخلوق حل في شجرة ، كانت الشجرة حاوية له ، فلزمهم أن تكون الشجرة بذلك الكلام متكلمة ، ووجب عليهم أن مخلوقا من المخلوقين كلم موسى _ صلى الله عليه وسلم - ، وأن الشجرة قالت : ( يا موسى إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني ) .(14/31)
فلو كان كلام الله مخلوقا في شجرة ، لكان المخلوق قال ( يا موسى إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني ) ، وقد قال تعالى : ( ولكن حق القول مني لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين ) [ سورة السجدة الآية 13 ] وكلام الله من الله تعالى ، فلا يجوز أن يكون كلامه الذي هو منه مخلوقا في شجرة مخلوقة ، كما لا يجوز أن يكون علمه الذي هو منه مخلوقا في غيره تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا . ) ثم قال : ( ..دليل آخر : ومما يبطل قولهم إن الله قال مخبرا عن المشركين انهم قالوا ( إن هذا إلا قول البشر ) [ سورة المدثر آية 25] يعني القرآن ، فمن زعم أن القرآن مخلوق فقد جعله قولا للبشر ، وهذا ما أنكره الله على المشركين ..) .
كما أثبت – رحمه الله – في كتابه " اللمع " ص 22 وما بعدها ( ط بيروت 1952 ) : أن الله لم يزل متكلما ، وأبطل قول من قال أنه خلق الكلام في نفسه أوفي غيره .
( 15 ) : قال شيخ الإسلام أبو عثمان إسماعيل بن عبد الرحميم الصابوني (373- 449 ) في رسالته التي ألفها في عقيدة أهل السنة والحديث ما نصه (ص 165 ) :
(.. ويشهد أهل الحديث ويعتقدون أن القرآن كلام الله ، وكتابه ، ووحيه ، وتنزيله ، غير مخلوق ، ومن قال بخلقه واعتقده فهو كافر عندهم ) ثم فصل القول ، وذكر أدلته ، وقال بعد ذلك بإسناده عن الإمام محمد بن إسحاق بن خزيمة – رحمه الله – أنه قال : " القرآن كلام الله غير مخلوق ، فمن قال أن القرآن مخلوق فهو كافر بالله العظيم ، لا تقبل شهادته ، ولا يعاد إن مرض ، ولا يصلى عليه إن مات ، ولا يدفن في مقابر المسلمين ، يستتاب فإن تاب وإلا ضربت عنقه " .
وقد نقل قول الإمام ابن خزيمة هذا – أيضا – الإمام الحافظ شمس الدين الذهبي في كتابه الموسوعة " سير أعلام النبلاء " (14/374 ) عند ترجمته لإمام الأئمة ابن خزيمة – رحمهم الله جميعا - .(14/32)
( 16 ) : قال الإمام المحدث العلامة أبو جعفربن محمد الطحاوي ( 239-321 ) في عقيدة أهل السنة والجماعة التي ألفها ، وقال في مقدمتها : ( هذا ذكر بيان اعتقاد أهل السنة والجماعة على مذهب فقهاء الملة أبي حنيفة النعمان بن ثابت الكوفي ، وأبي يوسف يعقوب بن إبراهيم البجلي ، وأبي عبدالله محمد بن الحسن الشيباني – رضي الله عنهم – وما يعتقدون في أصول الدين ، ويدينون به لرب العالمين ) ثم قال بعد فصول : ( ولا نجادل في القرآن ، ونعلم أنه كلام رب العالمين ، نزل به الروح الأمين فعلمه سيد المرسلين ، محمد – صلى الله عليه وسلم ، وعلى آله أجمعين – وكلام الله تعالى لا يساويه شيء من كلام المخلوقين ، ولا نقول بخلقه ولا نخالف جماعة المسلمين ) ا. هـ ص 15 .
( 17 ) : قال الحافظ الإمام عبد الغني المقدسي في رسالته " الاقتصاد في الاعتقاد " ص 136 : ( وأجمع أئمة السلف ، والمقتدى بهم من الخلف على أنه غير مخلوق ، ومن قال مخلوق فهو كافر ) .
( 18 ) : نقص عليك – أيها القارىء الكريم – في هذا الفصل خبر محنة أئمة أهل السنة ، وثباتهم على معتقد أهل السنة والجماعة في القول بعدم خلق القرآن إلى الموت ، وتصريحهم بأنها عقيدة لا تقبل المساومة ، ولا تحتمل المقايضة ولو كان الثمن هو الحياة :
يجود بالنفس إن ضن البخيل بها ... والجود بالنفس أقصى غاية الجود
- خبر محنة الإمام أحمد بن حنبل الشيباني – رحمه الله - .
- خبر محنة الإمام أحمد بن نصر الخزاعي – رحمه الله - .
- خبر محنة الإمام أبو يعقوب يوسف بن يحي البويطي – رحمه الله - .
{ الفرع الأول } : ملخص محنة الإمام أحمد بن حنبل – رضي الله عنه – من كلام أئمة السنة ، منقولة من نص قول الحافظ عماد الدين ابن كثير – رحمه الله – في كتابه التأريخي العظيم " البداية والنهاية"( 10/ 346-349):
قال – رحمه الله - : ( ملخص الفتنة والمحنة من كلام أئمة السنة :(14/33)
قد ذكرنا فيما تقدم أن المأمون كان قد استحوذ عليه جماعة من المعتزلة فأزاغوه عن طريق الحق إلى الباطل ، وزينوا له القول بخلق القرآن ونفي الصفات عن الله عز وجل . قال البيهقي : ولم يكن في الخلفاء قبله من بني أمية وبني العباس إلا على مذهب السلف ومنهاجهم ، فلما ولي هو اجتمع عليه هؤلاء فحملوه على ذلك وزينوه له ، واتفق خروجه إلى طرسوس لغزو الروم فكتب إلى نائبه ببغداد إسحاق بن إبراهيم بن مصعب يأمره أن يدعو الناس إلى القول بخلق القرآن ، واتفق له ذلك آخر عمره قبل موته بشهور من سنة ثماني عشرة ومائتين .
فلما وصل الكتاب – كما ذكرنا – استدعى جماعة من أئمة الحديث فدعاهم إلى ذلك فامتنعوا ، فتهددهم بالضرب وقطع الأرزاق فأجاب أكثرهم مكرهين ، واستمر على الامتناع من ذلك الإمام أحمد بن حنبل ، ومحمد بن نوح الجند النيسابوري ، فحملا على بعير وسيرا إلى الخليفة عن أمره بذلك ، وهما مقيدان متعادلان في محمل على بعير واحد ، فلما كانا ببلاد الرحبة جاءهما رجل من الأعراب من عبادهم ، يقال له جابر بن عامر ، فسلم على الإمام أحمد ، وقال له : " يا هذا إنك وافد الناس فلا تكن شؤما عليهم ، وإنك رأس الناس اليوم فإياك أن تجيبهم إلى ما يدعونك فيجيبوا ، فتحمل أوزارهم يوم القيامة ، وإن كنت تحب الله فاصبر على ما أنت فيه ، فإنه ما بينك وبين أن تدخل الجنة إلا أن تقتل ، وإنك إن لم تقتل تمت ، وإن عشت عشت حميدا ، " .(14/34)
قال الإمام أحمد : " وكان كلامه مما قوى عزمي على ما أنا فيه من الامتناع من ذلك الذي يدعونني إليه " . فلما اقتربا من جيش الخليفة ، ونزلوا دونه بمرحلة جاء خادم وهو يمسح دموعه بطرف ثوبه ويقول : يعز علي يا أبا عبدالله ؛ إن المأمون قد سل سيفا لم يسله قبل ذلك ، وأنه يقسم بقرابته من رسول الله _ صلى الله عليه وسلم – لئن لم تجبه إلى القول بخلق القرآن ليقتلنك بذلك السيف . قال : فجثا الإمام أحمد على ركبتيه ورمق بطرفه إلى السماء وقال : " سيدي غر حلمك هذا الفاجر حتى تجرأ على أوليائك بالضرب والقتل ، اللهم فإن يكن القرآن كلامك غير مخلوق فاكفنا مؤنته " .
قال : فجاءهم الصريخ بموت المأمون في الثلث الأخير من الليل . قال أحمد : ففرحنا ، ثم جاء الخبر بأن المعتصم قد ولي الخلافة وقد انضم إليه أحمد بن أبي دؤاد ، وأن الأمر شديد ، فردونا إلى بغداد في سفينة مع بعض الأسرى ، ونالني منهم أذى كثير ، وكان في رجليه القيود ، ومات صاحبه محمد بن نوح في الطريق ، وصلى عليه أحمد ، فلما رجع أحمد إلى بغداد دخلها في رمضان ، فأودع في السجن نحوا من ثمانية وعشرين شهرا ، وقيل : نيفا وثلاثين شهرا ، ثم أخرج إلى الضرب بين يدي المعتصم ، وقد كان أحمد وهو في السجن هو الذي يصلي في أهل السجن والقيود في رجليه .
ذكر ضربه _ رضي الله عنه – بين يدي المعتصم(14/35)
لما أحضره المعتصم من السجن زاد في قيوده ، قال أحمد : " فلم أستطع أن أمشي بها فربطتها في التكة وحملتها بيدي، ثم جاؤوني بدابة فحملت عليها فكدت أن أسقط على وجهي من ثقل القيود وليس معي أحد يمسكني ، فسلم الله حتى جئنا دار المعتصم ، فأدخلت في بيت وأغلق علي وليس عندي سراج ، فأردت الوضوء فإذا إناء فيه ماء فتوضأت منه ، ثم قمت ولا أعرف القبلة ، فلما أصبحت إذا أنا على القبلة ولله الحمد . ثم دعيت فأدخلت على المعتصم ، فلما نظر إلي وعنده ابن أبي دؤاد قال : أليس قد زعمتم أنه حدث السن ، وهذا شيخ مكهل ؟
فلما دنوت منه وسلمت قال لي : ادنه ، فلم يزل يدنيني حتى قربت منه ، ثم قال : اجلس ، فجلست ، وقد أثقلني الحديد ، فمكثت ساعة ثم قلت : يا أمير المؤمنين إلى ما دعا إليه ابن عمك رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ؟ قال : إلى شهادة أن لا إله إلا الله . قلت : فإني أشهد أن لا إله إلا الله . قال : ثم ذكرت له حديث ابن عباس في وفد عبد القيس ثم قلت : فهذا الذي دعا إليه رسول الله – صلى الله عليه وسلم - .
قال : ثم تكلم ابن أبي دؤاد بكلام لم أفهمه ، وذلك أني لم أتفقه كلامه ، ثم قال المعتصم : لولا أنك كنت في يد من كان قبلي لم أتعرض إليك .ثم قال : يا عبد الرحمن ألم آمرك أن ترفع المحنة ؟ ، قال أحمد : فقلت : الله أكبر ، هذا فرج للمسلمين .
ثم قال : ناظره يا عبد الرحمن ، كلمه ، فقال لي عبد الرحمن : ما تقول في القرآن ؟ ، فلم أجبه ، فقال المعتصم : أجبه ، فقلت : وما تقول في العلم ؟ فسكت ، فقلت : القرآن من علم الله ، ومن زعم أن علم الله مخلوق فقد كفر بالله ، فسكت ، فقالوا فيما بينهم : كفرك وكفرنا ، فلم يلتفت إلى ذلك: ، فقال عبد الرحمن : كان الله ولا قرآن ، فقلت : كان الله ولا علم ؟ ، فسكت . فجعلوا يتكلمون من هاهنا وهاهنا ، فقلت : يا أمير المؤمنين ، اعطوني شيئا من كتاب الله أوسنة رسوله حتى أقول به !! .(14/36)
فقال ابن أبي دؤاد : وأنت لا تقول إلا بهذا وهذا ؟ فقلت : وهل يقوم الإسلام إلا بهما .
وجرت منظرات طويلة ، واحتجوا عليه بقوله : ( ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث ) [ سورة الأنبياء الآية 2 ] ، وبقوله : ( الله خالق كل شيء ) [ سورة الرعد الآية 16 ] ، وأجاب بما حاصله أنه عام مخصوص بقوله : ( تدمر كل شيء بأمر ربها ) [ سورة الأحقاف الآية 25 ] ، فقال ابن أبي دؤاد : هو والله يا أمير المؤمنين ضال مضل مبتدع ، وهنا قضاتك والفقهاء فسلهم ، فقال لهم : ما تقولون ؟ فأجابوا بمثل ما أجاب به ابن أبي دؤاد ، ثم أحضروه في اليوم الثاني ، وناظروه في اليوم الثالث ، وفي ذلك كله يعلو صوته عليهم ، وتغلب حجته حججهم . قال : فإذا سكتوا فتح الكلام عليهم ابن أبي دؤاد ، وكان من أجهلهم بالعلم والكلام ، وقد تنوعت بهم المسائل في المجادلة ولا علم لهم بالنقل ، فجعلوا ينكرون الآثار ويردون الاحتجاج بها ، وسمعت منهم مقالات لم أكن أظن أن أحدا يقولها ، وقد تكلم معي ابن غوث بكلام طويل ذكر فيه الجسم وغيره بما لا فائدة فيه ، فقلت : لا أدري ما تقول ، إلا أني أعلم أن الله أحد صمد ليس كمثله شيء ، فسكت عني .
وقد أوردت لهم حديث الرؤية في الدار الآخرة فحاولوا أن يضعفوا إسناده ، ويلفقوا عن بعض المحدثين كلاما يتسلقون به إلى الطعن فيه ، وهيهات ، وأنى لهم التناوش من مكان بعيد ؟!
وفي غبون ذلك كله يتلطف به الخليفة ويقول : يا أحمد أجبني إلى هذا حتى أجعلك من خاصتي وممن يطأ بساطي . فأقول : يا أمير المؤمنين ، يأتوني بآية من كتاب الله ، أو سنة عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم _ حتى أجيبهم إليها !! .(14/37)
واحتج أحمد عليهم حين أنكروا الآثار بقوله تعالى : ( يا أبت لم تعبد مالا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا ) [ سورة مريم الآية 42 ] ، وبقوله : ( وكلم الله موسى تكليما ) [ سورة النساء الآية 163 ] ، وبقوله : ( إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني ) [ سورة طه الآية 14 ] ، وبقوله : ( إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون ) [ سورة النحل الآية 40 ] ونحو ذلك من الآيات .
فلما لم يقم لهم معه حجة عدلوا إلى استعمال جاه الخليفة ، فقالوا : يا أمير المؤمنين هذا كافر مضل . وقال له إسحاق بن إبراهيم نائب بغداد : يا أمير المؤمنين ، ليس من تدبير الخلافة أن تخلي سبيله ويغلب خليفتين ، فعند ذلك حمي واشتد غضبه ، وكان ألينهم عريكة وهو يظن أنهم على شيء . قال أحمد : فعند ذلك قال لي : لعنك الله ، طمعت فيك أن تجيبني فلم تجبني !! ، ، ثم قال خذوه واخلعوه واسحبوه !!! . قال أحمد : فأخذت وسحبت ، وخلعت ، وجيء بالعاقبين والسياط وأنا أنظر ، وكان معي شعرات من شعر النبي – صلى الله عيه وسلم – مصرورة في ثوبي ، فجردوني منه وصرت بين العقابين ، فقلت : يا أمير المؤمنين ، الله الله ، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( لا يحل دم امرىء مسلم يشهد أن لا إله إلا الله إلا بإحدى ثلاث ..) وتلوت الحديث ، وأن رسول الله – صلى الله عليه وسلم قال : ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ، فإذا قالوها فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم ) ، فبم تستحل دمي ولم آت شيئا من هذا ؟
يا أمير المؤمنين اذكر وقوفك بين يدي الله كوقوفي هذا بين يديك ، فكأنه أمسك .(14/38)
ثم لم يزالوا يقولون له : يا أمير المؤمنين ، إنه ضال مضل كافر ، فأمر بي ، فقمت بيت العقابين وجيء بكرسي فأقمت عليه ، وأمرني بعضهم أن آخذ بيدي أي الخشبتين ، فلم أفهم ، فتخلعت يداي ، وجيء بالضرابين ومعهم السياط ، فجعل أحدهم يضربني سوطين ، ويقول له – يعني المعتصم - : " شد قطع الله يديك " ، ويجيء الآخر فيضربني سوطين ، ثم الآخر كذلك ، فضربوني أسواطا فأغمي علي ، وذهب عقلي مرارا ، فإذا سكن الضرب يعود علي عقلي ، وقام المعتصم إلي يدعوني إلى قولهم ، فلم أجبه ، وجعلوا يقولون : ويحك الخليفة على رأسك فلم أقبل ، وأعادوا الضرب ، ثم عاد إلي فلم أجبه ، فأعادوا الضرب ، ثم عاد إلي الثالثة ، فدعاني فلم أعقل ما قال من شدة الضرب ، ثم أعادوا الضرب ، فذهب عقلي فلم أحس بالضرب ، وأرعبه ذلك من أمري ، وأمر بي فأطلقت ، ولم أشعر إلا وأنا في حجرة من بيت وقد أطلقت الأقياد من رجلي وكان ذلك في اليوم الخامس والعشرين من رمضان في سنة احدى وعشرين ومائتين .
ثم أمر الخليفة بإطلاقه إلى أهله ، وكان جملة ما ضرب نيفا وثلاثين سوطا ، وقيل : ثمانبن سوطا ، لكن كان ضربا مبرحا شديدا جدا ، وقد كان الإمام أحمد رجلا طوالا رقيقا أسمر اللون ، كثير التواضع – رحمه الله - .
ولما حمل من دار الخلافة إلى دار إسحاق بن إبراهيم وهو صائم ، أتوه بسويق ليفطر من الصوم ، فامتنع من ذلك وأتم صومه ، وحين حضرت صلاة الظهر ، صلى معهم ، فقال له ابن سماعة القاضي : وصليت في دمك ! ! ، فقال له أحمد : قد صلى عمر وجرحه يثعب دما ، فسكت . ويروى أنه لما أقيم ليضرب انقطعت تكة سراويله ، فخشي أن يسقط سراويله فتكشف عورته ، فحرك شفتيه ، فدعا الله فعاد سراويله كما كان ، ويروى أنه قال : يا غياث المستغيثين ، يا إله العالمين ، إن كنت تعلم أني قائم لك بحق فلا تهتك لي عورة .(14/39)
ولما رجع إلى منزله جاءه الجرايحي فقطع لحما ميتا من جسده ، وجعل يداويه ، والنائب في كل وقت يسأل عنه ، وذلك أن المعتصم ندم على ما كان منه إلى أحمد ندما كثيرا ، وجعل يسأل النائب عنه ، والنائب يستعلم خبره ، فلما عوفي فرح المعتصم والمسلمون بذلك ، ولما شفاه الله بالعافية ظل مدة وإبهاماه يؤذيهما البرد ، وجعل كل من آذاه في حل إلا أهل البدعة ، وكان يتلوا في ذلك قوله تعالى : ( وليعفوا وليصفحوا . . . الآية ) [سورة النور الآية 22 ] ، ويقول : ماذا ينفعك أن يعذب أخوك المسلم بسببك ؟ ، وقد قال تعالى : ( فمن عفا وأصلح فأجره على الله إنه لا يحب الظالمين ) [ سورة الشورى الآية 40 ] ، وينادي المنادي يوم القيامة ،: " ليقم من أجره على الله ، فلا يقوم إلا من عفا " ، وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله _ صلى الله عيه وسلم - : ( ثلاث أقسم عليهن : ما نقص مال من صدقة ، وما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا ، ومن تواضع لله رفعه الله ) . ) أ . هـ ، كلام الحافظ ابن كثير بنصه .
{ الفرع الثاني } : ملخص خبر محنة الإمام أحمد بن نصر الخزاعي – رحمه الله - :
الإمام أحمد بن نصر هذا قال عنه الحافظ عماد الدين ابن كثير – رحمه الله – : " بأنه كان من أهل العلم والديانة ، والعمل الصالح والاجتهاد في الخير ، وكان من أئمة السنة الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر ، وممن يدعو إلى القول بأن القرآن كلام الله منزل غير مخلوق ، وكان الواثق [ أي الخليفة العباسي 196-232 ] من أشد الناس في القول بخلق القرآن ، يدعو إليه ليلا ونهارا ، وسرا وجهارا ، اعتمادا على ما كان عليه أبوه قبله ، وعمه المأمون ، من غير دليل ولا برهان ، ولا حجة ولا بيان ، ولا سنة ولا قرآن " [ البداية والنهاية 10/ 317 ] .
وقال عنه في موضع آخر : " وقد كان أحمد بن نصر هذا من أكابر العلماء العاملين ، القائمين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .. "(14/40)
قام الإمام أحمد بن نصر – رحمه الله – يدعو إلى الله ، وإلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، والقول بأن القرآن كلام الله منزل غير مخلوق ، فأحضره الواثق ، وأوقفه بين يديه ، بحضور جماعة من أعيان المبتدعة منهم القاضي المعتزلي رأس المبتدعة في عصره أحمد بن أبي دؤاد .
فقال الواثق للإمام أحمد : ما تقول في القرآن ؟
فقال الإمام أحمد : هو كلام الله .
قال الواثق : أمخلوق هو ؟
قال الإمام أحمد : هو كلام الله .
وكان الإمام أحمد قد استقتل ، وباع نفسه ، وحضر وقد تحنط وتنور ، وشد على عورته ما يسترها ، فقال له الواثق : فما تقول في ربك ، أتراه يوم القيامة ؟
فقال الإمام أحمد : يا أمير المؤمنين : قد جاء القرآن والأخبار بذلك ، قال الله تعالى : ( وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة ) [ سورة القيامة الآية 22-23 ] ، وقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم : ( إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته ) (1) ، فنحن على الخبر .
قال الحافظ عماد الدين ابن كثير : " وزاد الخطيب : قال الواثق : ويحك ! أيرى كما يرى المحدود والمتجسم ؟، ويحويه مكان ، ويحصره الناظر ؟ ، أنا أكفر برب هذه صفته !!! "
__________
(1) رواه البخاري ومسلم من حديث جرير بن عبد الله – رضي الله عنه - .(14/41)
قال الحافظ ابن كثير – رحمه الله - : " قلت : ما قاله الواثق لا يجوز ، ولا يلزم ، ولا يرد به هذا الخبر الصحيح ، والله أعلم " ، ثم قال الإمام أحمد بن نصر للواثق : وحدثني سفيان بحديث يرفعه : ( إن قلب ابن آدم بين أصبعين من أصابع الله يقلبه كيف يشاء ) (1)، وكان النبي – صلى الله عليه وسلم – يقول : ( يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك ) (2)، وبعد حوار، قال بعض قضاة المبتدعة : هو حلال الدم ، وقال آخر : من أصحاب أحمد بن أبي دؤاد : اسقني دمه يا أمير المؤمنين !! ، فقال الواثق : لا بد أن يأتي ما تريد !! ، ثم قال أحمد بن أبي دؤاد : هو كافر يستتاب ، لعل به عاهة ، أو نقص عقل ، فقال الواثق : ما أراه إلا مؤديا لكفره ، قائما بما يعتقده منه . ثم نهض إليه بسيفه المسمى بالصمصامة ، وقال : إذا قمت إليه فلا يقومن أحد معي ، فإني أحتسب خطاي إلى هذا الكافر الذي يعبد ربا لا نعبده ، ولا نعرفه بالصفة التي وصفه بها " ، ثم أمر بالنطع ، فأجلس عليه ، وهو مقيد ، وأمر أن يشد رأسه بحبل ، وأمرهم أن يمدوه ، فلما انتهى إليه ضربه بالسيف على عاتقه ، ثم ضربه أخرى على رأسه ، ثم طعنه في بطنه ، فسقط صريعا – رحمه الله – على النطع ، فإنا لله وإنا إليه راجعون ، ثم قام إليه أحد رؤوس المبتدعة ويسمى [ سيما الدمشقي ] فضرب بسيفه عنق الإمام أحمد ، وحز رأسه ، ثم حمل جسده الطيب – رحمه الله - فصلب ،وفي رجليه زوج قيود ، وعليه سراويل وقميص ، وحمل رأسه إلى بغداد ، فنصب في الجانب الشرقي أياما ، وفي الغربي أياما ، وعنده حرس في الليل والنهار ، وفي أذنه رقعة مكتوب فيها : ( هذا رأس الكافر المشرك الضال ، أحمد بن نصر الخزاعي ، ممن قتل على يدي عبد الله هارون الإمام الواثق بالله أمير المؤمنين بعد أن أقام عليه الحجة في خلق
__________
(1) رواه مسلم من حديث عبد الله بن عمر – رضي الله عنه - .
(2) رواه الترمذي وأحمد من حديث أنس بن مالك – رضي الله عنه - .(14/42)
القرآن ، ونفي التشبيه ، وعرض عليه التوبة ، ومكنه من الرجوع إلى الحق فأبى إلا المعاندة والتصريح ، فالحمد لله الذي عجله إلى ناره ، وأليم عقابه بالكفر ، فاستحل بذلك أمير المؤمنين دمه ولعنه )
فتدبروا يا أهل السنة ! ! : إن الحرب قديمة من المبتدعة على خلق القرآن ، ونفي رؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة ، ورمي من أثبت الرؤية وصفات الله تعالى على الوجه اللائق به بالتشبيه والتجسيم والشرك والكفر والضلال ، فالله المستعان ! ! ! ..
قال جعفر بن محمد الصائغ : بصرت عيناي وإلا فقئتا ، وسمعت أذناي وإلا فصمَّتا أحمد بن نصر الخزاعي حين ضربت عنقه ، يقول رأسه : ( لا إله إلا الله ) ، وقد سمعه بعض الناس وهو مصلوب على الجذع ورأسه يقرأ : ( ألم ، أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ) [ سورة العنكبوت الآية ]، قال : فاقشعر جلدي . ورآه بعضهم في النوم فقال له : ما فعل بك ربك ؟ فقال : " ما كانت إلا غفوة حتى لقيت الله عز وجل ، فضحك إلي " .
وذكره يوما يحيى بن معين فترحم عليه وقال : قد ختم الله له بالشهادة ، وأثنى عليه جدا . وذكره الإمام أحمد ابن حنبل يوما فقال : رحمه الله ، ما كان أسخاه بنفسه لله ، لقد جاد بنفسه له .
هذا ولم يزل رأس الإمام أحمد بن نصر منصوبا ، وجثته مصلوبة ما يزيد على ست سنين ، وفي خلافة المتوكل العباسي أمر بدفنه ، وجمع بين رأسه وجثته ، ودفن في الجانب الشرقي من بغداد .(14/43)
ثم إن الإمام عبد العزيز بن يحيى الكناني دخل على الخليفة العباسي المتوكل فقال له : يا أمير المؤمنين ! ما رؤي أعجب من أمر الواثق ! ، قتل أحمد بن نصر وكان لسانه يقرأ القرآن إلى أن دفن . قال : فوجد المتوكل من ذلك ، وساءه ما سمعه في أخيه الواثق ، إذ دخل عليه وزيره محمد بن عبد الملك الزيات [ وكان أحد المحرضين للواثق على قتل الأمام أحمد بن نصر ]، فقال له الواثق : يا ابن عبد الملك في قلبي من قتل أحمد بن نصر ! ! . فقال ابن عبد الملك : يا أمير المؤمنين ، أحرقني الله بالنار إن قتله أمير المؤمنين إلا كافرا . ثم دخل عليه هرثمة [ وكان أحد المحرضين للواثق على قتله ] ، فقال له الواثق مثل مقالته لابن عبد الملك ، فقال هرثمة : يا أمير المؤمنين ، قطعني الله إربا إربا إن قتله أمير المؤمنين الواثق إلا كافرا . ثم دخل عليه ابن أبي دؤاد ن فقال له المتوكل مثل ما قال لصاحبيه ، وكان رأس البدعة في عصره - كما قلنا - ، فقال ابن أبي دؤاد : يا أمير المؤمنين ، ضربني الله بالفالج إن قتله الواثق إلا كافرا . قال المتوكل : فأما ابن الزيات فأنا أحرقته بالنار ، وأما هرثمة ، فإنه هرب فاجتاز بقبيلة خزاعة فعرفه رجل من الحي فقال : يا معشر خزاعة هذا الذي قتل ابن عمكم أحمد بن نصر فقطعوه ، فقطعوه إربا ، إربا ، وأما ابن أبي دؤاد فقد سجنه الله في جلده – يعني بالفالج – ( وهو الشلل ) ، ضربه الله به قبل موته بأربع سنين ، وصودر ماله ، وصار في الأذلين ، و صدق الله تعالى إذ يقول : ( إن الله يدافع عن الذين آمنوا ، إن الله لا يحب كل خوان كفور ) [ سورة الج الآية 38 ] .
انظر ترجمة الإمام أحمد بن نصر الخزاعي في البداية والنهاية للحافظ عماد الدين ابن كثير (10/ 316، 320 ) ، وطبقات الشافعية الكبرى للإمام السبكي (2/51 ، 54 ) ، وغيرها .
{ الفرع الثالث } : ملخص خبر محنة الإمام البويطي تلميذ الإمام الشافعي – رضي الله عنهم(14/44)
ملخصا من كتاب " طبقات الشافعية الكبرى للسبكي – رحمه الله – ( 2 / 162 – 165 ) :
هو الإمام الجليل أبو يعقوب يوسف بن يحيى البويطي ، من أكابر أصحاب الإمام الشافعي – رضي الله عنهم - ، كان إماما جليلا ، عابدا زاهدا ، فقيها عظيما ، مناظرا ، جبلا من جبال العلم والدين ، غالب أوقاته الذكر والتشاغل بالعلم ، وغالب ليله التهجد والتلاوة ، سريع الدمعة .
قال أبو عاصم : كان الشافعي – رضي الله عنه – يعتمد عليه في الفتيا ، ويحيل عليه إذا جاءته مسألة ، واستخلفه على أصحابه بعد موته ، فتخرجت على يديه أئمة تفرقوا في البلاد ، ونشروا علم الشافعي في الآفاق .
كان – رحمه الله – متنوعا في صنائع المعروف ، كثير التلاوة ، لا يمر عليه يوم وليلة – غالبا- حتى يختم .
كتب ابن أبي دؤاد - وزير الواثق - إلى والي مصر أن يمتحنه في القول بخلق القرآن ، فامتحنه فلم يجب إلى ما أرادوه ، وكان الوالي حسن الرأي فيه ، فقال له : قل فيما بيني وبينك ! ! ، فقال – رحمه الله - : " إنه يقتدي بي مائة ألف ، ولا يدرون المعنى " .
وكان الواثق قد أمر أن يحمل إلى بغداد في أربعين رطل من الحديد إن هو لم يجب إلى القول بخلق القرآن !!.
قال الربيع : كان البويطي أبدا يحرك شفتيه بذكر الله ، وما أبصرت أحدا أنزع بحجة من كتاب الله من البويطي ، ولقد رأيته على بغل ، وفي عنقه غل ، وفي رجليه قيد ، وبين الغل والقيد سلسلة حديد ، وهو يقول : " إنما خلق الله الخلق بكن ، فإذا كانت ( كن ) مخلوقة فكأن مخلوقا خلق بمخلوق ، ولئن أدخلت عليه لأصدقنه ، - يعني الواثق - ، ولأموتن في حديدي هذا ، حتى يأتي قوم يعلمون أنه قد مات في هذا الشأن قوم في حديدهم " .
الله أكبر . . إنها رسالة إليكم يا أهل السنة في كل زمان ومكان !! : " انه قد مات في هذا الشأن قوم . .
" وأي قوم هم ؟؟(14/45)
إنهم سادة الدنيا ، زين الأمكنة ، وسرج الأمكنة ! ! ، ( فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله ، وما ضعفوا ، وما استكانوا ، والله يحب الصابرين ) [ سورة آل عمران الآية 146] .
فماذا أنتم فاعلون يا أهل السنة .. عامة ، وعلماء ، شيوخا ، وشبابا ؟؟؟ أسائرون على طريق أسلافكم أم ناكصون – وحاشاكم – على أعقابكم ؟؟ ، نسأل الله العافية والثبات لنا ولكم ! ! .
قال أبو يعقوب البويطي – رحمه الله - : " خلق الله الخلق بـ ( كن ) ، أفتراه خلق مخلوقا بمخلوق ؟ ، والله يقول بعد فناء النار ( لمن الملك اليوم ) ولا مجيب ولا داعي ، فيقول تعالى : ( لله الواحد القهار ) ، فلو كان مخلوقا مجيبا لفني حتى لا يجيب "
وكان يقول – رحمه الله - : " من قال القرآن مخلوق فهو كافر " .
قال الإمام السبكي – رحمه الله - : " قلت : يرحم الله أبا يعقوب ، لقد قام مقام الصديقين " ، ثم قال : " قال الساجي : كان البويطي وهو في الحبس يغتسل كل جمعة ، ويتطيب ، ويغسل ثيابه ، ثم يخرج إلى باب السجن إذا سمع النداء ، فيرده السجان ، ويقول : ارجع – رحمك الله - . فيقول البويطي : " اللهم إني أجبت داعيك فمنعوني " .
قال أبو عمرو المستملي : حضرنا مجلس محمد بن يحيى الذهلي فقرأ علينا كتاب البويطي إليه ، وإذا فيه : " والذي أسألك أن تعرض حالي على إخواننا أهل الحديث ، لعل الله يخلصني بدعائهم ، فإني في الحديد ! ! ، وقد عجزت عن أداء الفرائض من الطهارة والصلاة ! ! " ، فضج الناس بالبكاء والدعاء له " .(14/46)
قال الإمام السبكي – رحمه الله - : " قلت : انظر إلى هذا الحبر – رحمه الله – لم يكن أسفه إلا على أداء الفرائض ، ولم يتأثر بالقيد ، ولا بالسجن ، فرضي الله عنه ، وجزاه عن صبره خيرا ، .. وما كان أبو يعقوب إلا ليموت في الحديد ! ! ، كيف وقد أخبر الربيع : أن الإمام الشافعي قال له : أنت تموت في الحديد . قال الربيع : فدخلت على البويطي أيام المحنة ، فرأيته مقيدا إلى أنصاف ساقيه ، مغلولة يداه إلى عنقه " .
مات – رحمه الله عنه – في شهر رجب سنة احدى وثلاثين ومائتين ، في سجن بغداد ، في القيد والغل ، نص على ذلك الحافظ عماد الدين ابن كثير – رحمه الله – في كتابه ( البداية والنهاية 10 / 321 ) .
قال الحافظ عماد الدين ابن كثير في الكتاب المذكور (10 / 349 ) : " وكان الذين ثبتوا على الفتنة فلم يجيبوا بالكلية أربعة (1) : أحمد بن حنبل وهو رئيسهم ، ومحمد بن نوح بن ميمون الجند النيسابوري ومات في الطريق ، ونعيم بن حماد الخزاعي وقد مات في السجن ، وأبو يعقوب البويطي وقد مات في سحن الواثق على القول بخلق القرآن وكان مثقلا بالحديد ، وأحمد بن نصر الخزاعي .. " .
{ المسألة الثالثة }: إثبات الصفات لله تعالى على الوجه اللائق به – جل وعز - :
إن زبدة اعتقاد أهل السنة والجماعة في هذا الباب ما لخصه شيخ الإسلام أبو عثمان الصابوني _ رحمه الله – في رسالته التي ألفها في عقيدة أهل السنة ، حيث افتتحها – بعد حمد الله والصلاة على رسوله – صلى الله عليه وآله – بقوله :
__________
(1) كذا قال – رحمه الله – وقد عدهم خمسة كما ترى ، وهو الصحيح .(14/47)
( قلت – وبالله التوفيق - : أصحاب الحديث – حفظ الله أحياءهم ، ورحم أمواتهم – يشهدون لله تعالى بالوحدانية ، وللرسول – صلى الله عليه وسلم – بالرسالة والنبوة ، ويعرفون ربهم – عز وجل – بصفاته التي نطق بها وحيه وتنزيله ، أو شهد له بها رسول الله – صلى الله عليه وسلم – على ما وردت الأخبار الصحاح به ، ونقلت العدول الثقات عنه ، ويثبتون له جل جلاله ما أثبته لنفسه في كتابه ، وعلى لسان رسوله – صلى الله عليه وسلم - ، ولا يعتقدون تشبيها لصفاته بصفات خلقه ، فيقولون إنه خلق آدم بيديه ، كما نص – سبحانه – عليه ، في قوله – عز من قائل - : ( قال يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي ) [ سورة ص الآية 75 ] ، ولا يحرفون الكلم عن مواضعه بحمل اليدين على النعمتين أو القوتين تحريف المعتزلة الجهمية – أهلكهم الله – ولا يكيفونهما بكيف أو شبهها بأيدي المخلوقين تشبيه المشبهة – خذلهم الله - .
وقد أعاذ الله تعالى أهل السنة من التحريف والتشبيه والتكييف ، ومن عليهم بالتعريف والتفهيم ، حتى سلكوا سبيل التوحيد والتنزيه ، وتركوا القول بالتعطيل والتشلبيه ، واتبعوا قول الله – عز وجل - : ( ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ) [ سورة الشورى الآية 11 ] ) .
إلى أن قال – رحمه الله - :(14/48)
( وكذلك يقولون في جميع الصفات التي نزل بذكرها القرآن ، ووردت به الأخبار الصحاح من السمع والبصر والعين والوجه واعلم والقوة والقدرة والعزة والعظمة والإرادة والمشيئة والقول والكلام والرضى والسخط والحب والبغض والفرح والضحك وغيرها من غير تشبيه لشيء من ذلك بصفات المربوبين المخلوقين ، بل ينتهون فيها إلى ما قاله الله – تعالى - ، وقاله رسوله – صلى الله عليه وسلم ، من غير زيادة عليه ، ولا إضافة إليه ، ولا تكييف له ولا تشبيه ، ولا تحريف ولا تبديل ولا تغيير ، ولا إزالة للفظ الخبر عما تعرفه العرب وتضعه عليه ، بتأويل منكر مستنكر ، ويجرون على الظاهر ، ويكلون علمه إلى الله تعالى ، ويقرون بأن تأويله لا يعلمه إلا الله كما أخبر الله عن الراسخين في العلم أنهم يقولونه في قوله تعالى : ( والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا ، وما يذكر إلا أولوا الألباب ) [ سورة آل عمران الآية 7 ] ) أ . هـ من لفظ شيخ الإسلام أبي عثمان الصابوني ( ص 160-165 ) .
وتفصيل أقوال أئمة أهل السنة والجماعة في هذا الباب يطول ، وحسبنا هنا أن ندلل على ذلك بذكر بعض أقوالهم فمنها :
( 1 ) الإمام محمد بن إدريس الشافعي – رضوان الله تعالى عليه - :
روى شيخ الإسلام أبو الحسن الهكاري ، والحافظ أبو محمد المقدسي ، إلى أبي ثور ، وأبي شعيب ، كلاهما عن الإمام محمد بن إدريس الشافعي ناصر الحديث – رضي الله عنه – قال :(14/49)
( القول في السنة التي أنا عليها ، ورأيت عليها الذين رأيتهم مثل سفيان ومالك وغيرهما ، الإقرار بشهادة أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله ، وأن الله على عرشه ، في سمائه ، يقرب من خلقه كيف شاء ، وينزل إلى سماء الدنيا كيف شاء ، .. وذكر سائر الاعتقاد ) (1) .
وبإسناده إلى يونس بن عبد الأعلى قال : سمعت أبا عبدالله الشافعي يقول – وقد سئل عن صفات الله تعالى وما يؤمن به ؟ - فقال :
( لله أسماء وصفات جاء بها كتابه ، وأخبر بها نبيه – صلى الله عيه وسلم - أمته ، لا يسع أحدا قامت عليه الحجة ردها ، لأن القرآن نزل بها ، وصح عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم القول بها – فإن خالف ذلك بعد ثبوت الحجة عليه فهو كافر ، فأما قبل ثبوت الحجة فمعذور بالجهل ، لأن علم ذلك لا يدرك بالعقل ولا يالرؤية والفكر ، ولا نكفر بالجهل بها أحدا إلا بعد انتهاء الخبر إليه بها ، ونثبت هذه الصفات ، وننفي عنها التشبيه ، كما نفاه عن نفسه فقال ( ليس كمثله شيء وهو السميع البصير )[ سورة الشورى الآية 13] ) (2).
قال شيخ الإسلام أبو عثمان الصابوني – رحمه الله - :
__________
(1) عون المعبود ( 13 / 41 و 47 ) وساقه ابن أبي يعلى في طبقات الحنابلة بإسناده المتصل إلى الشافعي ( 1 / 283 ) وهو في " العلو للعلي الغفار " للذهبي برقم ( 196 المختصر ) .
(2) سير أعلام النبلاء للحافظ الذهبي ( 10 / 79 – 80 ) وذكره في العلو للعلي الغفار ص 202 وقال : " ورواه الهكاري وغيره بإسناد كلهم ثقات " ، وانظر فتح الباري للحافظ ابن حجر ( 13/ 407 ) .(14/50)
( وإمامنا أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي – رضي الله عنه- احتج في كتابه المبسوط (1) في مسألة إعتاق الرقبة المؤمنة في الكفارة وأن غير المؤمنة لا يصح التكفير بها بخبر معاوية بن الحكم ، وأنه أراد أن يعتق الجارية السوداء لكفارة ، وسأل رسول الله – صلى الله عليه وسلم – عن إعتاقها إياها ، فامتحنها رسول الله – صلى الله عليه وسلم - ، فقال – صلى الله عليه وسلم – لها : ( من أنا ؟ ) فأشارت إليه وإلى السماء ، يعني أنك رسول الله الذي في السماء ، فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم - : ( أعتقها فإنها مؤمنة ) (2)
فحكم رسول الله – صلى الله عليه وسلم – باسلامها وإيمانها لما أقرت بأن ربها في السماء وعرفت ربها بصفة العلو والفوقية ، وإنما احتج الشافعي – رحمة الله عليه – على المخالفين في قولهم بجواز إعتاق الرقبة الكافرة في الكفارة بهذا الخبر لاعتقاده بأن الله فوق خلقه ، وفوق سبع سماواته على عرشه ، كما هو معتقد المسلمين من أهل السنة والجماعة ؛ سلفهم وخلفهم ، إذ كان – رحمه الله – لا يروي خبرا صحيحا ثم لا يقول به ) أ . هـ المقصود منقولا بنصه من كتاب " عقيدة السلف وأصحاب الحديث للصابوني" ص188 .
(2 ) قول الإمام أبي حنيفة النعمان بن ثابت – رضي الله عنه - :
__________
(1) انظر كتاب " الأم " للإمام الشافعي ( 5 / 266 – 267 )
(2) أخرجه بهذا اللفظ عن أبي هريرة – رضي الله عنه - : أبو داود في سننه (3/588) كتاب الأيمان والنذور باب الرقبة المؤمنة ، والإمام أحمد في مسنده (2/291 ) ، وابن خزيمة في كتاب التوحيد وإثبات صفات الرب ص 123 .
وقد أخرجه مسلم في صحيحه عن معاوية بن الحكم السلمي (1/382) كتاب المساجد ومواضع الصلاة ، باب تحريم الكلام في الصلاة بلفظ : " فقال لها : أين الله ؟ قالت : في السماء . قال : من أنا ؟ قالت : أنت رسول الله … " وهو اللفظ الوارد في كتاب الأم للشافعي .(14/51)
قال – رحمه الله – في كتابه " الفقه الأكبر " : ( وما ذكر الله تعالى في القرآن من ذكر الوجه واليد والنفس فهو له صفات بلا كيف ، ولا يقال إن يده قدرته ونعمته لأن فيه إبطال الصفة ، وهذا قول أهل القدر والاعتزال ، ولكن يده صفته بلا كيف ، وغضبه ورضاه صفتان من صفاته بلا كيف ) أ . هـ ص 2 ، طبع حيدر آباد ، الهند .
( 3 ) قال الإمام مالك بن أنس – رضي الله عنه - : ( الله في السماء ، وعلمه في كل مكان ، لا يخلو من علمه مكان ) (1).
( 4 ) أقوال الإمام أبي الحسن الأشعري – رضي الله عنه - :
قال – رحمه الله – في رسالته إلى أهل الثغر ص 76 : ( وأجمعوا على وصف الله تعالى بجميع ما وصف به نفسه ووصفه به نبيه من غير اعتراض فيه ، ولا تكييف له ، وأن الإيمان به واجب ، وترك التكيف له لازم ) أ . هـ .
وقال – أيضا – في الرسالة ذاتها – قبل هذا الكلام – ص 72 : ( وأجمعوا على أنه – عز وجل – يسمع ويرى وأن له تعالى يدان مبسوطتان ، وأن الأرض جميعا قبضته يوم القيامة ، والسماوات مطويات بيمينه ، من غير أن يكون جوازا ، وأن يديه تعالى غير نعمته ، ، وقد دل على ذلك تشريفه لآدم حيث خلقه بيده ، وتقريعه لإبليس على الاستكبار عن السجود مع ما شرفه به بقوله :( ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي ) [ سورة ص الآية 75 ] ) أ . هـ
__________
(1) رواه الآجري ف] " الشريعة " ص 289 ، وعبدالله بن الإمام أحمد في كتاب " السنة " رقم 11 ( 1/107 ) ، وابن قدامة في " إثبات صفة العلو " رقم 76 ص 186 ، واللالكائي في " شرح أصول اعتقاد أهل السنة رقم 673 ( 2/401 ، والحافظ عبد الغني المقدسي في كتاب " الإقتصاد في الاعتقاد " ص 94 رقم 11 .(14/52)
ورسالته هذه هي المعروفة باسم " أصول أهل السنة والجماعة " وهي واحدة من أشهر ثلاثة كتب قد صنفها هذا الإمام المبجل – رحمه الله – بعد رجوعه إلى مذهب أهل السنة والحديث ، وهي كتاب " الإبانة من أصول الديانة " و"مقالات الإسلاميين " ورسالته هذه المشار إليها .
وقال – رحمه الله – في كتاب " الإبانة " ص 60-61 ما نصه :
( ونصدق بجميع الروايات التي يثبتها أهل النقل من النزول إلى السماء الدنيا ، وأن الرب عز وجل يقول : ( هل من مستغفر ) ، وسائر ما نقلوه وأثبتوه ، خلافا لما قاله أهل الزيغ والتعطيل ، ونعول فيما اختلفنا فيه على كتاب ربنا – تبارك وتعالى - ، وسنة نبينا محمد – صلى الله عليه وسلم - ، وإجماع المسلمين وما كان في معناه ، ولا نبتدع في دين الله بدعة لم يأذن بها الله ، ولا نقول على الله ما لا نعلم .
ونقول : إن الله – عز وجل – يجيء يوم القيامة ، كما قال : ( وجاء ربك والملك صفا صفا ) [ سورة الفجر الآية 22]، وأن الله عز وجل – يقرب من عباده كيف شاء كما قال : ( ونحن أقرب إليه من حبل الوريد ) [ سورة ق الآية 16] ، وكما قال : ( ثم دنا فتدلى ، فكان قاب قوسين أو أدنى ) [سورة النجم الآية 8-9] ) أ . هـ .
وقال – رحمه الله – في كتاب " مقالات الإسلاميين " ص 295 : ( ويصدقون – أي أهل السنة – بالأحاديث التي جاءت عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أن الله – سبحانه – ينزل إلى السماء الدنيا فيقول : ( هل من مستغفر ) كما جاء في الحديث عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم - ، ويأخذون بالكتاب والسنة كما قال الله – عز وجل - : ( فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول ) [ سورة النساء الآية 59] ، ويرون اتباع من سلف من أئمة الدين ، وأن لا يبتدعوا في دينهم ما لم يأذن به الله ) أ.هـ .(14/53)
وكان قد قال – رحمه الله – قبل ذلك في هذا الكتاب ص 290 ما نصه : ( حكاية جملة قول أصحاب الحديث وأهل السنة أن الله – سبحانه – على عرشه كما قال : ( الرحمن على العرش استوى ) [ سورة طه الآية 5 ] ، وأن له يدين بلا كيف ، كما قال : ( لما خلقت بيدي ) [ سورة ص الآية 75 ] ، وكما قال : ( بل يداه مبسوطتان ) [ سورة المائدة الآية 64 ] وأن له عينين كما قال : ( تجري بأعيننا ) [ سورة القمر الآية 14 ] وأن له وجها كما قال : ( ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام ) [ سورة الرحمن الآية 27 ] ) أ . هـ .
( 5 ) أقوال متفرقة لأئمة الإسلام ، وحفاظ السنة على مر العصور :
[ 1 ] : قال إمام الأئمة محمد بن إسحاق بن خزيمة - رحمه الله – في كتاب " التوحيد ، وإثبات صفات الرب " ص 29 :
( فنحن وجميع علمائنا من أهل الحجاز واليمن والعراق والشام ومصر ، مذهبنا : أنا نثبت لله ما أثبته لنفسه ، نقر بذلك بألسنتنا ، ونقر بذلك بقلوبنا من غير أن نشبه وجه خالقنا بوجه أحد من المخلوقين ، وعز ربنا أن نشبهه بالمخلوقين ، وجل ربنا عن مقالة العاطلين ، وعز أن يكون كما قاله المبطلون ) أ.هـ
وقد بسط هذا الإمام الحبر في كتابه هذا ( التوحيد ) عقيدة أهل السنة في باب ( الصفات ) ، وأورد الدلائل عليها من الكتاب والسنة وآثار الصحابة الكرام ، ومن بديع قوله – رحمه الله - :(14/54)
( وزعمت الجهمية (1) أن أهل السنة ومتبعي الآثار القائلين بكتاب ربهم وسنة نبيهم – صلى الله عليه وسلم المثبتين لله عز وجل من صفاته ما وصف به نفسه في محكم تنزيله ، المثبت بين الدفتين ، وعلى لسان نبيه – صلى الله عليه وسلم – بنقل العدل عن العدل موصولا إليه مشبهة !!! جهلا منهم بكتاب ربنا وسنة نبينا – صلى الله عليه وسلم )
ومضى – رحمه الله يبسط معتقد أهل السنة والأدلة عليه من الكتاب والسنة وإجماع المسلمين ،إلى أن قال : ( فإن كان علماء الآثار الذين يصفون الله بما وصف به نفسه في كتابه وعلى لسان نبيه – صلى الله عليه وسلم – على زعم الجهمية [ أي مشبهة ] فكل أهل القبلة إذا قرؤوا كتاب الله فآمنوا به بإقرار اللسان وتصديق القلب ، وسموا الله عز وجل بهذه الأسامي وسموا المخلوقين بها ، فجميع أهل التوحيد مشبهة !!! ) أ.هـ .
[ 2 ] : قال إمام أهل المغرب الحافظ ابن عبد البر – رحمه الله - : ( أهل السنة مجمعون على الإقرار بهذه الصفات الواردة في الكتاب والسنة ، ولم يكيفوا شيئا منها ، وأما الجهمية والمعتزلة والخوارج فقالوا : من أقر بها فهو مشبه ، فسماهم من أقر بها معطلة ) [ فتح الباري 13 / 407 ].
[ 3 ] : قال الخطيب البغدادي – رحمه الله - : ( أما الكلام في الصفات فإن ماروي منها في السنن الصحاح مذهب السلف – رضي الله عنهم – إثباتها وإجراؤها على ظاهرها ونفي الكيفية والتشبيه عنها ، والأصل في هذا أن الكلام في الصفات فرع عن الكلام في الذات ، ويحتذي في ذلك حذوه ومثاله ، فإذا كان معلوما أن إثبات رب العالمين – عز وجل – إنما هو إثبات وجود لا إثبات تحديد وتكييف ، فكذلك إثبات صفاته إنما هو إثبات وجود لا إثبات تحديد وتكييف ،
__________
(1) الجهمية هي فرقة تنتسب إلى جهم بن صفوان أحد المبتدعة الكبار ، والجهمية يردون الأحاديث الثابتة وينفون صفات الله تعالى وينفون الرؤية ولهم عقائد أخرى مخالفة لعقيدة أهل السنة والجماعة .(14/55)
فإذا قلنا : لله – تعالى – يد ، وسمع ، وبصر ، إنما هو إثبات صفات أثبتها الله تعالى لنفسه ، ولا نقول إن معنى اليد القدرة ، ولا أن معنى السمع والبصر العلم ، ولا نقول : أنها جوارح ولا نشبهها بالأيدي والأسماع والأبصار التي هي جوارح وأدوات الفعل، ونقول : إنما وجب إثباتها لأن التوقيف ورد بها ، ووجب نفي التشبيه عنها لقوله تبارك وتعالى : ( ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ) [ سورة الشورى الآية 13] ، وقوله عز وجل : ( ولم يكن له كفوا أحد ) [ سورة الإخلاص الآية 4 ] ) أ . هـ [ من كتاب "ذم التأويل" لابن قدامة المقدسي ص 569 ضمن مجموعة كتب ].
[ 4 ] : قال الحافظ شمس الدين الذهبي – رحمه الله – بعد أن ذكر بالإسناد إلى أبي عبيد القاسم بن سلام وذكر الباب الذي يروي فيه الرؤية والكرسي وموضع القدمين وضحك ربنا وأين كان ؟ فقال :
( هذه أحاديث صحاح حملها أصحاب الحديث والفقهاء بعضهم عن بعض ، وهي عندنا حق لا نشك فيها ، ولكن إذا قيل كيف يضحك ؟ وكيف وضع قدمه ؟ قلنا : لا نفسر هذا ولا سمعنا أحدا يفسره (1) .
فأنت ترى أهل العلم والسنة أصحاب الأثر قد أجمعوا على التسليم للكتاب والسنة ، وحذروا من الخوض فيها بتأويل أو تحريف ، وأن ما جاء في الكتاب والسنة حق ليس فيه تشبيها ولا تجسيما ، وإنما وقع التحريف والتكييف عند أصحاب العقول الزمنة ،
و ما أحسن قول نعيم بن حماد الذي سمعناه – بأصح إسناد – عن محمد بن إسماعيل الترمذي ، أنه سمعه يقول : " من شبه الله بخلقه فقد كفر ، ومن أنكر ما وصف الله به نفسه فقد كفر ، وليس ما وصف الله به نفسه ولا رسوله تشبيها "
__________
(1) ذكره الذهبي عنه في ترجمته وهو أبو عبيد القاسم بن سلام بن عبد الله الإمام الحافظ المجتهد ذو الفنون الكثيرة .(14/56)
قلت – أي الذهبي - : أراد أن الصفات تابعة للموصوف ، فإذا كان الموصوف – تعالى – ( ليس كمثله شيء ) في ذاته المقدسة فكذلك صفاته لا مثل لها ، إذ لا فرق بين القول في الذات والقول في الصفات ، وهذا هو مذهب السلف ) [سير أعلام النبلاء 13 / 299 – 300 ]
وقال – رحمه الله – في ( السير 10/ 505-506 ) :
( قلت : قد فسر علماء السلف المهم من الألفاظ وغير المهم ، وما أبقوا ممكنا ، وآيات الصفات وأحاديثها لم يتعرضوا لتأويلها ، أًلا وهم أهل الدين ، فلو كان تأويلها سائغا أو حتما لبادروا إليه ، فعلم قطعا أن قراءتها وإمرارها على ما جاءت هو الحق لا تفسير لها غير ذلك ، فنؤمن بذلك ، ونسكت اقتداء بالسلف ، معتقدين أنها لا تشبه صفات المخلوقين كما أن ذاته المقدسة لا تماثل ذوات المخلوقين ، فالكتاب والسنة نطق بها ، والرسول – صلى الله عليه وسلم – بلغ ، وما تعرض لتأويله مع كون الباري قال : ( لتبين للناس ما نزل إليهم ) [ سورة النحل الآية 44 ] فعلينا الإيمان والتسليم للنصوص ، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ) أ . هـ .
وقال – رحمه الله - في موضع آخر ( السير 9 / 499 ) وقوله هذا - بحق – كما قيل فيه :" من عجائب بيانه ، ولطف الله به وإلهامه " :
( قد صار الظاهر اليوم ظاهرين : أحدهما حق ، والثاني باطل .
فالحق أن يقول أنه سميع بصير مريد متكلم حي عليم ، كل شيء هالك إلا وجهه ، خلق آدم بيده ، وكلم موسى تكليما ، واتخذ إبراهيم خليلا ،وأمثال ذلك ، فنمره على ما جاء ونفهم منه دلالة الخطاب كما يليق به تعالى ، ولا نقول له تأويل يخالف ذلك .والظاهر الآخر وهو الباطل والضلال : أن تعتقد قياس الغائب على الشاهد ، وتمثل البارئ بخلقه تعالى الله عن ذلك .
بل صفاته كذاته فلا عدل له ، ولا ضد له ، ولا نظير له , ، ولا مثل له ، ولا شبيه له ، وليس كمثله شيء ، لا في ذاته ولا في صفاته ، وهذا أمر يستوي فيه الفقيه والعامي والله أعلم ) أ . هـ(14/57)
[ 5 ] : يقول الحافظ عماد الدين ابن كثير – رحمه الله – في رسالته " العقائد " :
( فإذا نطق الكتاب العزيز ، ووردت الأخبار الصحيحة ، بإثبات السمع والبصر والعين والوجه والعلم والقوة والقدرة والعظمة والمشيئة والإرادة والقول والكلام والرضى والسخط والحب والبغض والفرح والضحك ، وجب اعتقاد حقيقته من غير تشبيه بشيء من ذلك بصفات المربوبين المخلوقين ، والإنتهاء إلى ما قاله الله – سبحانه وتعالى – ورسوله محمد – صلى الله عليه وسلم – من غير إضافة ولا زيادة عله ، ولا تكييف له وتشبيه ، ولا تحريف ، ولا تبديل ، ولا تغيير ، ولا إزالة لفظ عما تعرفه العرب وتصرفه عليه ، والإمساك عما سوى ذلك ) أ . هـ (1) .
[6] : قال الإمام الترمذي في " السنن " ( 3 / 50 – 51 ) :
( وقد قال غير واحد من أهل العلم في هذا الحديث [ ويقصد حديث نزول الله إلى السماء الدنيا كل ليلة ] وما يشبه هذا من الروايات في الصفات ، ونزول الرب تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا . قالوا : قد تثبت الروايات في هذا ، ويؤمن بها ولا يتوهم ، ولا يقال كيف ، هكذا روي عن مالك وسفيان بن عيينة وعبدالله بن المبارك أنهم قالوا في هذه الأحاديث : أمروها بلا كيف . وهكذا قول أهل العلم من أهل السنة والجماعة .
وأما الجهمية : فأنكرت هذه الروايات ، وقالوا : هذا تشبيه . وقد ذكر الله عز وجل في غير موضع من كتابه ( اليد والسمع والبصر ) فتأولت الجهمية هذه الآيات ففسروها على غير ما فسر أهل العلم ، وقالوا : إن الله لم يخلق آدم بيده . وقالوا : إن معنى اليد ها هنا القوة .
وقال إسحاق بن إبراهيم [ يعني ابن راهوية ] : إنما يكون التشبيه إذا قال : يد كيد ، أو مثل يد ، أو سمع كسمع ، أو مثل سمع . فإذا قال : سمع كسمع أو مثل سمع فهذا تشبيه .
__________
(1) مخطوط (ق 4 / 2) نقلا عن " علاقة الإثبات والتفويض بصفات رب العالمين " للدكتور / رضا بن نعسان معطي .(14/58)
وأما إذا قال كما قال الله تعالى : يد وسمع وبصر ، ولا يقول كيف ، ولا يقول مثل سمع ، ولا كسمع ، فهذا لا يكون تشبيها . وهو كما قال الله تعالى في كتابه : ( ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ) [ سورة الشورى الآية 13 ] ) أ . هـ .
[7] : وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى ( 5 / 195 ) :
( ومذهب سلف الأمة وأئمتها : أن يوصف الله بما وصف به نفسه وبما وصفه به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، من غير تحريف ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل . فلا يجوز نفي صفات الله تعالى التي وصف بها نفسه ، ولا يجوز تمثيلها بصفات المخلوقين ، بل هو سبحانه : ( ليس كمثله شيء ، وهو السميع البصير ) [ سورة الشورى الآية 11 ] ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله ) أ.هـ .
[8] : إن تعداد من فصَّل القول في هذا الباب وذكرِ مصنفاتهم وسرد أقوالهم بحر لا ساحل له ، وحسبك أن تقرأ رسالة : " النصيحة في صفات الرب جل وعلا " للشيخ الإمام أحمد بن إبراهيم الواسطي الشافعي المعروف بابن شيخ الحزاميين المتوفى سنة ( 711هـ ) ، أو كتاب "الاعتقاد ، الخالص من الشك والانتقاد " للشيخ ابن العطار الشافعي ، وقد كان من أخص تلاميذ الإمام محيي الدين النووي - رحمهم الله جميعا - ، أو كتاب " الحجة ، في بيان المحجة " للشيخ أبي إسماعيل الأصفهاني المتوفى سنة ( 535 هـ ) – رحمه الله – فقد نقل في هذا السفر العجاب كثيرا من عقائد الأئمة بأسانيدها إليه على نحو ما قررناه عنهم فيما سبق فليرجع القارئ الكريم إليه – غير مأمور - .
[9] : وأخيرا :
قال عباد بن عوام – رحمه الله - : قدم علينا شريك بن عبد الله منذ نحو خمسين سنة ، فقلنا يا أبا عبد الله : إن عندنا قوما من المعتزلة ينكرون هذه الأحاديث : ( إن الله ينزل إلى السماء الدنيا ) ، و : ( إن أهل الجنة يرون ربهم ) ، فحدثني شريك بنحو من عشرة أحاديث في هذا ثم قال :(14/59)
" أما نحن فأخذنا ديننا عن أبناء التابعين عن الصحابة ، فهم عمن أخذوا ؟ ؟ ! ! " (1) .
أقول : فهل هؤلاء ياترى – أيضا – حشوية ، مشبهة ، نابتة ، وهابية ؟ ! !
قال الإمام أبو إسماعيل الأصفهاني – رحمه الله – في كتابه المشار إليه آنفا " الحجة في بيان المحجة " ( 2 / 540 ) :
( . . وإذا رأيت الرجل يسمي أهل الحديث حشوية أو مشبهة أو ناصبة ) قلت : أو وهابية ( فاعلم أنه مبتدع ، وإذا رأيت الرجل ينفي صفات الله أو يشبهها بصفات المخلوقين فاعلم أنه ضال . قال علماء أهل السنة : ليس في الدنيا مبتدع إلا وقد نزع حلاوة الحديث من قلبه ) أ . هـ .
وقال الزبيدي في كتابه " إتحاف السادة المتقين 9 / 407 " :
( وسمت المعتزلة أهل السنة مشبهة بواسطة قياس الشاهد على الغائب الذي هو عين التشبيه ) أ.هـ .
وقال الدهلوي في كتابه " حجة الله البالغة ص 64 " :
( . . واستطال هؤلاء الخائضون على معشر أهل الحديث ، وسموهم مجسمة ومشبهة ، وهم المتسترون بالبلكفة (2) ، وقد وضح لي وضوحا بينا أن استطالتهم هذه ليست بشيء ، وأنهم مخطئون في مقالتهم رواية ودراية ، وخاطئون في طعنهم في أئمة الهدى ) أ.هـ .
وقال الإمام الكبير ، عبد الله بن المبارك – رحمه الله - : ( من قال لك يا مشبه ، فاعلم أنه جهمي ) (3)
{ المسألة الرابعة } : تكفير المخالفين :
إن هذا الباب – أعني باب التكفير وعدم التكفير – هو كما وصفه العلامة ابن أبي العز – رحمه الله - :" باب عظمت الفتنة والمحنة فيه ، وكثر فيه الافتراق ، وتشتت فيه الأهواء والآراء " ، ومع هذا فعجبي لا يكاد ينقضي من هذه الفرية التي ليست فيها مرية ، فلم يبق إلا المبتدعة من خوارج ومعتزلة ورافضة وغيرهم يصمون أهل السنة بتكفير المخالفين !!! .. .
__________
(1) أخرجه الخطيب في التاريخ (9/145) ، وابن مندة في التوحيد بإسناد صحيح .
(2) أي : بلا كيف .
(3) رواه الإمام ابن مندة في " شرح حديث النزول " ص 53(14/60)
لست في مجال استعراض عقائد الفرق في هذا الباب وإلا لأطلعتُ القارىء الكريم على طامات المخالفين لأهل السنة في هذا الباب ، وإنما أكتفي هنا بعرض منهج أهل السنة فقط من خلال محورين اثنين :
( الأول ): استعراض لنقول من كلام علماء أهل السنة .
و ( الثاني ) : تلخيص لنتائج هذا المبحث ، وعرض موجز لمنهج أهل السنة في هذا الباب مستوحى من جملة النصوص المعروضة .
[ المحور الأول ] : استعراض لنقول من كلام علماء أهل السنة والجماعة في مسألة التكفير :
( 1 ) : يقول العلامة ابن أبي العز الحنفي – رحمه الله – في كتابه " شرح العقيدة الطحاوية " ص 298- 300 "ما نصه :
(..والمقصود هنا : أن البدع هي من هذا الجنس ، فإن الرجل يكون مؤمنا باطنا وظاهرا ، لكن تأول تأويلا أخطأ فيه ، إما مجتهدا وإما مفرطا مذنبا ، فلا يقال : إن إيمانه حبط لمجرد ذلك ، إلا أن يدل على ذلك دليل شرعي ، بل هذا من جنس قول الخوارج والمعتزلة ، ولا نقول : لا يكفر ، بل العدل هو الوسط ، وهو :
أن الأقوال الباطلة المبتدعة المحرمة المتضمنة نفي ما أثبته الرسول – صلى الله عليه وسلم ، أو إثبات مانفاه ، أو الأمر بما نهى عنه ، أو النهي عما أمر به ، يقال فيها الحق ، ويثبت لها الوعيد الذي دلت عليه النصوص ، ويبين أنها كفر ، ويقال من قالها فهو كافر ، ونحو ذلك ، كما يذكر من الوعيد في الظلم في النفس والأموال ، وكما قد قال كثير من أهل السنة المشاهير بتكفير من قال بخلق القرآن ، وأن الله لا يرى في الآخرة ، ولا يعلم الأشياء قبل وقوعها ، وعن أبي يوسف – رحمه الله – : أنه قال : ناظرت أبا حنيفة – رحمه الله – مدة ، حتى اتفق رأيي ورأيه أن من قال بخلق القرآن فهو كافر (1) .
__________
(1) أخرجه الإمام الذهبي في " العلو" (ص140) ، و البيهقي في " الأسماء والصفات "(ص251) وقال : رواة هذا كلهم ثقات .(14/61)
وأما الشخص المعين إذا قيل : هل تشهدون أنه من أهل الوعيد وأنه كافر ؟ ، فهذا لا نشهد عليه إلا بأمر تجوز معه الشهادة ، فإنه من أعظم البغي أن يشهد على معين أن الله لا يغفر له ولا يرحمه بل يخلده في النار ، فإن هذا حكم الكافر بعد الموت .
ولهذا ذكر أبو داود في سننه في كتاب الأدب :" باب النهي عن البغي " . وذكر فيه عن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال : سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول :
( كان رجلان في بني إسرائيل متواخيين ، فكان أحدهما يذنب ، والآخر مجتهد في العبادة ، فكان لا يزال المجتهد يرى الآخر على الذنب ، فيقول : أقصر ، فوجده يوما على ذنب ، فقال له : أقصر ، فقال : خلني وربي ، أبعثت علي رقيبا ؟ ، فقال : والله لا يغفر الله لك !! ، أو لا يدخلك الله الجنة !! ، فقبض أرواحهما ، فاجتمعا عند رب العالمين ، فقال لهذا المجتهد : أكنت بي عالما ؟ أو كنت على مافي يدي قادرا ؟ وقال للمذنب : اذهب فادخل الجنة برحمتي ، وقال للآخر : اذهبوا به إلى النار ) وقال أبو هريرة : ( والذي نفسي بيده لتكلم بكلمة أوبقت دنياه وآخرته ) وهو حديث حسن (1) .
__________
(1) أخرجه أبو داود (1094) في الأدب ، باب : في النهي عن البغي ، وسنده حسن كما قال الإمام ابن أبي العز – رحمه الله - .(14/62)
ولأن الشخص المعين يمكن أن يكون مجتهدا مخطئا مغفورا له ، أو يمكن أن يكون ممن لم يبلغه ما وراء ذلك من النصوص ، ويمكن أن يكون له إيمان عظيم وحسنات أوجبت له رحمة الله ، كما غفر للذي قال :( إذا مت فاسحقوني ثم ذروني ، ثم غفر الله له لخشيته)(1) ، وكان يظن أن الله لا يقدر على جمعه وإعادته ، أو شك في ذلك . لكن هذا التوقف في أمر الآخرة لا يمنعنا أن نعاقبه في الدنيا لمنع بدعته ، وأن نستتيبه ، فإن تاب وإلا قتلناه . ثم إذا كان القول في نفسه كفرا قيل : إنه كفر ، والقائل له يكفر بشروط وانتفاء موانع ، ولا يكون ذلك إلا إذا صار منافقا زنديقا ، فلا يتصور أن يكفر أحد من أهل القبلة المظهرين للإسلام إلا من يكون منافقا زنديقا ، وكتاب الله يبين ذلك ؛ فإن الله صنف الخلق فيه ثلاثة أصناف : كفار من المشركين ومن أهل الكتاب ، وهم الذين لا يقرون بالشهادة ، وصنف المؤمنون باطنا وظاهرا ، وصنف أقروا به ظاهرا لا باطنا ، وهذه الأقسام الثلاثة مذكورة في أول سورة البقرة ،وكل من ثبت أنه كافر وكان مقرا بالشهادتين فإنه لا يكون إلا زنديقا ، والزنديق : هو المنافق .
__________
(1) قطعة من حديث أخرجه البخاري (3478)و(6481)و(7508) ، ومسلم (2757) (27) وأحمد 3/13و17و77 ، من حديث أبي سعيد الخدري ، وفي الباب عن حذيفة بنحوه عند البخاري (3452) و (3479) و (6470) ، و النسائي 4/113 .(14/63)
وهنا يظهر غلط الطرفين ، فإنه من كفر كل من قال القول المبتدع في الباطن ، يلزمه أن يكفر أقواما ليسوا في الباطن منافقين ، بل هم في الباطن يحبون الله ورسوله ، ويؤمنون بالله ورسوله وإن كانوا مذنبين ، كما ثبت في صحيح البخاري ، عن أسلم مولى ابن عمر – رضي الله عنه – عن عمر : ( أن رجلا كان على عهد النبي – صلى الله عليه وسلم - ، كان اسمه عبد الله ، وكان يلقب [حمارا ] ، وكان يضحك رسول الله – صلى الله عليه وسلم- ، وكان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قد جلده من الشراب ، فأتي به يوما ، فأمر به فجلد ، فقال رجل من القوم : اللهم العنه !! ، ما أكثر ما يؤتى به !! ، فقال رسول االله – صلى الله عليه وسلم - : ( لا تلعنوه ، فوالله ما علمت إلا أنه يحب الله ورسوله ) . (1)، وهذا أمر متيقن في طوائف كثيرة ، وأئمة في العلم والدين ، وفيهم بعض مقالات الجهمية أو المرجئة أو القدرية أو الشيعة أو الخوارج ، ولكن الأئمة في العلم والدين لا يكونون قائمين بجملة تلك البدعة ، بل بفرع منها ، ولهذا انتحل أهل هذه الأهواء لطوائف من السلف المشاهير . فمن عيوب أهل البدع تكفير بعضهم بعضا ، ومن ممادح أهل العلم أنهم يخطئون ، ولا يكفرون ) أ. هـ .
( 2 ) :قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية الحراني – قدس الله روحه ، ونور ضريحه - في كتاب " الرد على البكري " ص 256-260 :
__________
(1) أخرجه البخاري (6780 )، و البغوي في " شرح السنة " ( 2606) .(14/64)
( وأئمة السنة والجماعة ، وأهل الإيمان ، فيهم : العلم ، والعدل ، والرحمة . فيعلمون الحق الذي يكونون موافقين به للكتاب والسنة ، سالمين من البدعة ، ويعدلون على من خرج منها ولو ظلمهم ، كما قال الله – تعالى - : ( كونوا قوامين لله ، شهداء بالقسط ، ولا يجرمنكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا ، اعدلوا هو أقرب للتقوى ) [ سورة المائدة الآية 8 ] ، ويرحمون الخلق ، فيريدون لهم الخير والهدى والعلم ، ولا يقصدون لهم الشر ابتداء ، بل إذا عاقبوهم وبينوا خطأهم وجهلهم وظلمهم كان قصدهم بذلك بيان الحق ، ورحمة الخلق ، والأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، وأن يكون الدين كله لله ، وأن تكون كلمة الله هي العليا .
فالمؤمنون أهل السنة أعمالهم خالصة لله – تعالى - ، موافقة للسنة ، وأعمال مخالفيهم لا خالصة ولا صواب ، بل بدعة واتباع الهوى ، ولهذا يسمون " أهل البدع والأهواء " ، فلهذا كان أهل العلم والسنة لا يكفرون من خالفهم وإن كان ذلك المخالف يكفرهم ، ؛ لأن الكفر حكم شرعي ، فليس للإنسان أن يعاقب عليه ، كمن كذب عليك ، وزنى بأهلك ، ليس لك أن تكذب عليه ، وتزني بأهله ، لأن الكذب والزنا حرام ؛ وكذلك التكفير حق لله ، فلا يكفر إلا من كفره الله ورسوله .
وأيضا فإن تكفير الشخص المعين ، وجواز قتله موقوف على أن تبلغه الحجة النبوية التي يكفر من خالفها ، وإلا فليس كل من جهل شيئا من الدين يكفر ، ولهذا كنت أقول للجهمية من الحلولية والنفاة الذين نفوا أن الله تعالى فوق العرش لما وقعت محنتهم : " أنا لو وافقتكم كنت كافرا ، لأني أعلم أن قولكم كفر ، وأنتم عندي لا تكفرون لأنكم جهال " ، وكان هذا خطابا لعلمائهم وقضاتهم ، وشيوخهم وأمرائهم ) أ.هـ كلامه – رحمه الله -.
وقال – رحمه الله – في بعض فتاواه ( مجموع الفتاوى 3 / 282) :
( ولا يجوز تكفير المسلم بذنب فعله ، ولا بخطأ أخطأ فيه كالمسائل التي تنازع فيها أهل القبلة ) أ.هـ(14/65)
وقال – رحمه الله – في بعضها ( مجموع الفتاوى 3/229 –230 ) :
( هذا مع أني دائما ومن جالسني يعلم ذلك مني ، أني من أعظم الناس نهيا عن أن ينسب معين إلى تكفير ، وتفسيق ، ومعصية ؛ إلا إذا علم أنه قد قامت عليه الحجة الرسالية التي من خالفها كان كافرا تارة ، وفاسقا أخرى ، وعاصيا أخرى ، وإني أقرر أن الله قد غفر لهذه الأمة خطأها ؛ وذلك يعم الخطأ في المسائل الخبرية القولية ، والمسائل العملية ..) .
إلى أن قال – رحمه الله - :
( وكنت أبين لهم أنما نقل لهم عن السلف والأئمة من إطلاق القول بتكفير من يقول كذا وكذا فهو أيضا حق ؛ لكن يجب التفريق بين الإطلاق والتعيين )
ثم قال – بعد قليل - :
( لقد كنت أذكر دائما الحديث الذي في الصحيحين في الرجل الذي قال : ( إذا أنا مت فاحرقوني ثم اسحقوني ثم ذروني في اليم ، فوالله لئن قدر الله علي ليعذبني عذابا ما عذبه أحدا من العالمين ، ففعلوا به ذلك ، فقال الله له : ما حملك على ما فعلت ؟ ، قال : خشيتك !! ، فغفر له )
قال : ( فهذا رجل شك في قدرة الله ، وفي إعادته إذا ذري ، بل اعتقد أنه لا يعاد ، وهذا كفر باتفاق المسلمين ، لكن كان جاهلا لا يعلم ذلك ، وكان مؤمنا يخاف أن يعاقبه الله ، فغفر له بذلك )
قال : ( والمتأول من أهل الاجتهاد ، الحريص على متابعة الرسول – صلى الله عليه وسلم – أولى بالمغفرة من مثل هذا ) .
هذه نقول من كلام بعض المحققين من علماء أهل السنة ، وإنما أثبتنا كلام الأئمة المتأخرين من أهل السنة دون المتقدمين لأن الفرية في باب التكفير إنما يوجهها المبتدعة على متأخري علماء أهل السنة ، وكلام أئمتنا في تقرير ذلك أوسع من أن نحصره في هذه العجالة ، وبالجملة فالمنهج واحد ، وإنما قعد المتأخرون ما قرر السلف الماضون – رضي الله عنهم أجمعين - .
[ المحور الثاني ] : عرض موجز لمنهج أهل السنة في هذا الباب مستوحى من جملة النصوص المعروضة :(14/66)
إن التكفير عند أهل السنة تتلخص ضوابطه – والله أعلم –فيما يلي :
( القاعدة الأولى ) : إن التكفير حكم شرعي ، فكل ما قام الدليل من الكتاب والسنة على اعتباره كفرا من الأقوال أو الأفعال أو العقائد فهو كذلك ، وهذا يعني أنه لا يجوز لمسلم أن يرد النصوص إن دلت على شيء من ذلك مجاملة للخلق ، و فرارا – زعم – من أن يرميه جهلتهم بأنه يكفر مخالفيه أو نحو ذلك ، كما أن هذا الأمر بمقدار ما يحتاج فيه العبد إلى العلم الصحيح القائم على الكتاب والسنة ، فإنه يحتاج فيه إلى مزيد من التجرد لله تعالى والإخلاص له وحده ، وقصد النصح للمسلمين ، وإحياء شعائره .
( القاعدة الثانية ) : أن كل عمل من أعمال الكفر لا يكفر أهل السنة صاحبه به إلا إن كان وراءه كفر اعتقادي ، وإلا فهو كفر عملي لا يوجب خروج صاحبه من الملة بمجرده ، وعلى هذا جرى اتفاق السلف ، ودليله قول الله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء . .. الآية ) [ سورة الممتحنة الآية 1 ] ، وفي سبب نزولها قصة الصحابي الجليل حاطب ابن أبي بلتعة – رضي الله عنه – وأصل قصته في الصحيح ، وغير ذلك من الأدلة مما ليس هذا موضع بسطه .(14/67)
( القاعدة الثالثة ) : أنه لا يكفر بالكفر الاعتقادي إلا باستيفاء شروط وانتفاء موانع ، بمعنى أنه لا يمكن أن نحكم على معين بالكفر الاعتقادي إلا بعد التأكد التام من أنه لا يقوم بالشخص المقصود مانع من موانع تكفيره كبعض أنواع الحهل ، أو التأويل ، أو الإكراه ، وقد تجتمع في الشخص الواحد عدة موانع تمنع إطلاق الكفر عليه ، ومثال ذلك : استحلال الصحابي البدري قدامة بن مظعون للخمر هو وأصحابه ، متأولين في ذلك قول الله – تبارك وتعالى - : ( ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا … الآية ) [ سورة المائدة الآية 93 ] ،حيث ظن أنه لا جناح عليه أن يشرب الخمر إذا ما اتقى وآمن وعمل الصالحات !! ، ومعلوم أن تحريم الخمر ثابت في القرآن ، وأن من استحله بعد علمه بتحريمه فقد كفر ، وكان قدامة يعلم هذا التحريم في القرآن ، ومع ذلك لم يحكم الصحابة بكفره وأصحابه لوجود مانع وهو التأويل ،فإنه لما بلغ عمر خبر قدامة وأصحابه ، اتفق هو وعلي وسائر الصحابة على أنهم إذا اعترفوا بالتحريم جلدوا ، لأن الحد حق لله ، وإن أصروا على استحلالها قتلوا _ يعني للكفر _ ، وقال عمر لقدامة " أخطأت ، أما إنك لو اتقيت وآمنت ، وعملت الصالحات لم تشرب الخمر " ، ثم أقيم عليه ، وعلى من معه الحد .
ثم إن عمر – رضي الله عنه – بلغه بعد ذلك أن قدامة أيس من التوبة ، فكتب إليه عمر يقول : " أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو ، ( غافر الذنب ، وقابل التوب ، شديد العقاب ) ، ما أدري أي ذنبيك أعظم : استحلالك المحرم أولا ؟ أم يأسك من رحمة الله ثانيا ؟ " .(14/68)
وها هو الإمام أحمد يحكم على من قال : ( إن القرآن مخلوق ) بالكفر ، وكان المأمون يقول بخلق القرآن ويلزم الناس كلهم بهذا القول ، بل وكان يعذب ويسجن العلماء الذين لا يقولون بذلك ، ومع هذا لم يكفره الإمام أحمد – رحمه الله – بل كان يدعو له بخير ، ويرى إمامته ، ويحث على نصرته في فتوحاته ، ولم ير الخروج عليه لأنه اغتر بقول ابن أبي دؤاد من المعتزلة ، ولم يكن يعلم حقيقة ما يؤول إليه هذا القول ، وكذلك الواثق والمعتصم من الخلفاء العباسيين . [ موسوعة أهل السنة 2/1174 بتصرف ] .
( القاعدة الرابعة ) : أن المنع من تكفير المعين لا يمنع من إعطاء الحكم الشرعي الذي تدل عليه النصوص عن الفعل ذاته ، فإذا كان الفعل كفرا فيقال عنه كفر ، ولا يستلزم هذا تكفير الفاعل ، فإن الفاعل قد يكون جاهلا أو مخطئا أو متأولا ؛ قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – في ( المسائل الماردينية ص 71):
( وحقيقة الأمر في ذلك أن القول قد يكون كفرا ، فيطلق القول بتكفير صاحبه ، فيقال : من قال كذا فهو كافر ، لكن الشخص المعين الذي قاله لا يحكم بكفره حتى تقوم عليه الحجة التي يكفر بها ) أ.هـ .(14/69)
وهذه قاعدة دلائلها مشهورة ، وهي مبسوطة في غير هذا الموضع فلتراجع من مظانها ، وهي قاعدة متفق عليها بين أهل العلم إلا من أعمى الله بصيرته من أهل البدع والأهواء ، ولا تكاد تجد فرقة من الفرق الإسلامية إلا وتطلق العمل بهذه القاعدة ، ولو لا خشية الإطالة لدللنا بنقولات عنها جميعا ، غير أن أمرا من الأهمية بمكان ينبغي أن يتفطن له القاريء الكريم وهو أنه وإن اتفقت الفرق والمذاهب على العمل بهذه القاعدة إلا أن فرقا جوهريا عظيما بينها وأهل السنة والجماعة ، فأهل السنة كما لا يكفرون المخالف لهم (المعين ) ، فإنهم يقررون ما قرره الله في كتابه من أنه قد غفر لهذه الأمة خطأها وهذا عام في المسائل الخبرية والعملية على حد سواء ، على ما هو مفصل فيما نقلناه عن أئمتنا في صدر هذا المبحث فإذا اجتمع مع هذا ما هو مقرر في معتقد أهل السنة من عدم خلود أصحاب الكبائر في النار على ما سيأتي بيانه وإثبات شفاعة الرسول – صلى الله عليه وسلم – لهم فإنك سوف تبصر الفرق واضحا بين أهل السنة والجماعة وغيرهم من الفرق في هذا الباب الذي يقابله موقف أهل البدع والأهواء الذي يقطعون فيه بالهلاك الأبدي والعذاب السرمدي لكل مخالف لهم ، ويحلفون على ذلك الأيمان المغلظة ، وأنه خالد مخلد في نار جهنم – أعاذنا الله ووالدينا وسائر المسلمين منها – باعتباره فاسقا مصرا على فسقه ، ومات على ذلك كما هو معتقدهم في أصحاب الكبائر ، فهم وإن لم يحكموا على المخالف بالخروج من الملة إلا أنهم يسوون بينه والكافر الملي في حكم الدار الآخرة ، وهذا أعظم خطرا – ولا شك – مما حاولوا الفرار منه في الحياة الدنيا ، نسأل الله العافية من شر كل ذي شر .
{ المسألة الخامسة } : إثبات شفاعة الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم – لأهل الكبائر من الموحدين ، وعدم خلودهم في النار :(14/70)
الشفاعة يوم القيامة أنواع منها ماهو متفق عليه بين الأمة ، ومنها ما خالف فيه أهل البدع كالمعتزلة والخوارج .
أما النوع الأول من الشفاعة المتفق عليها بين الأمة فهي شفاعة نبينا محمد – صلى الله عليه وآله وسلم – في أهل الموقف حتي يقضى بينهم بعد أن يتراجع الأنبياء : آدم ، ونوح ، وإبراهيم ، وموسى ، وعيسى بن مريم عن الشفاعة حتى تنتهي إليه – عليه الصلاة والسلام ، وهذه ليست هي محور بحثنا هنا ، وإنما المقصود بالحديث هي شفاعته عليه الصلاة والسلام لأهل الكبائر من الموحدين ، وإخراجهم من النار ، وعدم تخليدهم فيها مع سائر الكفار والمشركين .
قال شيخ الإسلام أبو عثمان الصابوني – رحمه الله – ( عقيدة السلف ، وأصحاب الحديث ص 258) :
( ويؤمن أهل الدين والسنة بشفاعة الرسول – صلى الله عليه وسلم – لمذنبي أهل التوحيد ، ومرتكبي الكبائر كما ورد به الخبر الصحيح عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم ) .
ثم ساق بإسناده الصحيح إلى أنس بن مالك – رضي الله عنه – عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال : ( شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي ) (1) .
__________
(1) رواه عن أنس الترمذي في السنن كتاب صفة يوم القيامة رقم الحديث (2435) ، وأبو داود في كتاب السنة باب الشفاعة ، وأحمد بن حنبل في المسند (2/213) والحاكم في المستدرك (1/69) ، وابن خزيمة في التوحيد ص(270) ، والبيهقي في الإعتقاد ص( 202) ، وابن أبي عاصم في السنة (2/399 برقم 831) وأبو نعيم في حلية الأولياء (7/261) ، والآجري في الشريعة ص(238) ، ورواه عن جابر – أيضا – الترمذي برقم ( 2436) وابن خزيمة ، وغيرهم .(14/71)
ثم ساق بإسناده – أيضا – إلى عبد الله بن عمر – رضي الله عنهما – قال : قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم - : ( خيرت بين الشفاعة ، وبين أن يدخل شطر من أمتي الجنة فاخترت الشفاعة ؛ لأنها أعم وأكفى ، أترونها للمؤمنين المتقين ، لا ، ولكنها للمذنبين المتلوثين الخطائين ) (1) .
ثم ساق بإسناده – أيضا – إلى أبي هريرة – رضي الله عنه – أنه قال : يا رسول الله من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة ؟ ، فقال : ( لقد ظننت أن لا يسألني عن هذا الحديث أحد أول منك ، لما رأيت من حرصك على الحديث ، إن أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة ، من قال لا إله إلا الله خالصا من قبل نفسه ) (2).
وقال الحافظ أبو محمد عبد الغني بن عبد الواحد بن سرور المقدسي في رسالة ( الاقتصاد في الاعتقاد ص 164 ) :
( ويعتقد أهل السنة ويؤمنون أن النبي – صلى الله عليه وسلم – يشفع يوم القيامة لأهل الجمع كلهم شفاعة عامة ، ويشفع في المذنبين من أمته ، فيخرجهم من النار بعدما احترقوا ) أ.هـ .
وأقوال أئمة أهل السنة والجماعة في هذا الباب كثيرة وفيرة ، فهم بحمد الله مجمعون على ذلك ، متفقون عليه ، كيف لا ، وهم يعلمون – يقينا – أن نبيهم – عليه الصلاة والسلام – قد قال فيما رواه الشيخان عن عمران بن حصين – رضي الله عنهم جميعا – عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال :
( يخرج قوم من النار بشفاعة محمد – صلى الله عليه وسلم – فيدخلون الجنة ، يسمون الجهنميين )
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد عن ابن عمر في المسند (2/75) ، وابن ماجة عن أبي موسى الأشعري (2/1441) في كتاب الزهد باب الشفاعة برقم (4311) والبيهقي في الإعتقادص(202) وقال عنه الهيثمي في مجمع الزوائد (10/378) :" رواه أحمد والطبراني .. ورجال أحمد رجال الصحيح غير النعمان بن قراد وهو ثقة " .
(2) رواه البخاري عن أبي هريرة كتاب الرقاق باب صفة الجنة والنار برقم 6570 وفي كتاب العلم باب الحرص على الحديث برقم 99 .(14/72)
فأي مسلم يستجيز أن يشغب على رسول الله – صلى الله عليه وآله – ويقول :
" لا ، لا يخرج أحد من النار !!! ، والنبي – عليه صلاة الله وسلامه – لا يشفع لأحد !!! "، وكأنه – عياذا بالله من ذلك – يكذب رسول الله فيما أخبر عن ربه عز وجل ، والله المستعان !!!
إن الأحاديث في إثبات هذه الشفاعة متواترة ، قد نص على ذلك جمع من الحفاظ ، وقد أنكر الخوارج والمعتزلة هذه الشفاعة المحمدية ، كعادتهم في رد السنن الثابتة عن النبي – صلى الله عليه وسلم – اعتمادا على عموم نصوص الوعيد ، هذا وقد انبرى الصحابة الكرام – رضوان الله عليهم – وهم أعلم الناس بما أنزل الله على نبيه – صلى الله عليه وسلم - ، فردوا على أوهام الخوارج بالسنة المتواترة عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم - .
قال الحافظ ابن حجر _ رحمه الله – ( فتح الباري 11 / 434 ) في شرح حديث عمران بن حصين سالف الذكر :
( وعند سعيد بن منصور ، وابن أبي عمر ، عن سفيان عن عمرو ، فيه سند آخر ، أخرجاه من رواية عمرو عن عبيد بن عمير ، فذكره مرسلا وزاد : " فقال له رجل – يعني لعبيد بن عمير – وكان الرجل يتهم برأي الخوارج [ أي إنكار الشفاعة المحمدية لأهل الكبائر ] ويقال له هارون أبو موسى : يا أبا عاصم ! ما هذا الذي تحدث به ؟ ، فقال : إليك عني ، لو لم أسمعه من ثلاثين من أصحاب محمد – صلى الله عليه وسلم – لم أحدث به "(14/73)
قلت – أي الحافظ ابن حجر - : وقد جاء بيان هذه القصة من وجه آخر ، أخرجه مسلم من طريق يزيد الفقير _ بفاء ثم قاف وزن عظيم ، ولقب بذلك لأنه كان يشكو فقار ظهره لا أنه ضد الغنى – قال : " خرجنا في عصابة نريد أن نحج ، ثم نخرج على الناس [ أي نقتلهم كما هو شأن الخوارج المعروف في استحلال دماء المخالفين ] فمررنا بالمدينة ، فإذا رجل يحدث ، وإذا هو قد ذكر الجهنميين ، . فقلت له : ما هذا الذي تحدثون به !! ، والله يقول : ( إنك من تدخل النار فقد أخزيته ) [ سورة آل عمران الآية 192 ] ، و : ( كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها ) [ سورة الحج الآية 22 ] ،
قال : أتقرأ القرآن ؟ ، قلت : نعم .
قال : أسمعت بمقام محمد الذي يبعثه الله ؟ ، قلت : نعم .
قال : فإنه مقام محمد المحمود الذي يخرج الله به من النار بعد أن يكونوا فيها . ثم نعت الصراط ، ومد الناس عليه ،
قال : فرجعنا وقلنا : أترون هذا الشيخ يكذب على رسول الله – صلى الله عليه وسلم - ؟ ، فوالله ماخرج منا غير رجل واحد "
وحاصله أن الخوارج الطائفة المشهورة المبتدعة كانوا ينكرون الشفاعة ، وكان الصحابة ينكرون إنكارهم ، ويحدثون بما سمع من النبي – صلى الله عليه وسلم – في ذلك .
فأخرج البيهقي في البعث من طريق شبيب بن أبي فضالة :
ذكروا عند عمران بن حصين الشفاعة فقال رجل : إنكم لتحدثوننا بأحاديث لا نجد لها في القرآن أصلا ، فغضب وذكر له ما معناه : " أن الحديث يفسر القرآن "
وأخرج سعيد بن منصور بسند صحيح عن أنس قال : " من كذب بالشفاعة فلا نصيب له فيها " .
وأخرج البيهقي في البعث من طريق يوسف بن مهران عن ابن عباس : خطب عمر فقال : " إنه سيكون في هذه الأمة قوم يكذبون بالرجم ، ويكذبون بالدجال ، ويكذبون بعذاب القبر ، ويكذبون بالشفاعة ، ويكذبون بقوم يخرجون من النار " .
ومن طريق أبي هلال عن قتادة قال :(14/74)
قال أنس : " يخرج قوم من النار ، ولا نكذب بها كما يكذب بها أهل حروراء " _ يعني الخوارج - .
قال ابن بطال : أنكرت المعتزلة والخوارج الشفاعة في إخراج من أدخل النار من المذنبين ، وتمسكوا بقوله تعالى : ( فما تنفعهم شفاعة الشافعين ) وغير ذلك من الآيات ، وأجاب أهل السنة بأنها في الكفار ، وجاءت الأحاديث في إثبات الشفاعة المحمدية متواترة ، ودل عليها قوله تعالى : ( عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا ) [ سورة الإسراء الآية 79 ] والجمهور على أن المراد به الشفاعة ، وبالغ الواحدي فنقل فيه الإجماع ) أ.هـ كلام الحافظ ابن حجر – رحمه الله –
ومن خلاله يتضح للقارئ الكريم أن الصحابة الكرام هم الذين تولوا الرد على من أنكر هذه الشفاعة التي يثبتها أهل السنة والجماعة ، فهل هؤلاء الصحابة حشوية ، وهابية ؟؟
نعم إنهم كذلك في نظر المعتزلة والخوارج !! ، ولكن هذا لن يغير في واقع الأمر شيئا ، فأهل السنة والجماعة هم أتباع صحابة رسول الله – صلى الله عليه وسلم - ، ويعتزون بذلك ، والله عند لسان كل قائل وقلبه ، فليقل ما شاء ، والله الموعد !!! .
{المسألة السادسة } : عدالة الصحابة _ رضوان الله عليهم - :
إن هذه المسألة كغيرها من المسائل التي تقدمتها من محاسن أهل السنة والجماعة التي تميزوا بها عن سائر الفرق المبتدعة ، فبينما تجد كل فرقة من فرق أهل البدع والأهواء توالي فريقا من الصحابة وتعادي وتبرأ من فريق آخر ، تجد أن أهل السنة والجماعة يوالون جميع أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم بدون استثناء ، ويثنون عليهم بما هم له أهل من الثناء ، ويمسكون عما شجر بينهم من فتن وحروب .(14/75)
إن لأهل البدع شغبا كثيرا في هذا الباب على أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم – وسوء أدب في التعامل معهم ، كثيرا ما تجده مبثوثا في بطون الكتب ، أو منشورا في رسائل تشهد على مؤلفيها وناشريها بسوء المعتقد ، وفساد الدين ، أو مرقوما على الوسائل الحديثة كشبكة الاتصالات العالمية [ الإنترنت ] ، يعلنون على رؤوس الأشهاد اليوم ما كانوا يستخفون منه بالأمس ، وقد اشترطت على نفسي في صدر هذه الرسالة أن أكتفي فيها بسرد معتقد أهل السنة والجماعة ، وعرضه موثقا بإشراقه وبهائه ، وجماله الذي تطمئن إليه نفوس المؤمنين ، ويزداد به المبتدعة رجسا إلى رجسهم ، دون التعرض لبسط عقائد المخالفين فهذا له مجال غير هذا المكان .
وسوف أقتصر في هذا المقام على إيراد أقوال بعض أئمة وعلماء أهل السنة والجماعة دون التعرض للأدلة من الآيات والأحاديث لأن هذا بحر لا ساحل له ، فالآيات والأحاديث في تقرير فضل الصحابة – دون استثناء بين واحد وآخر – كثيرة جدا ، ومن الصعوبة بمكان استقصاؤها حتى أن بعضهم أفردها ببحوث ورسائل مستقلة مثل كتاب ( إتحاف ذوي النجابة ، بما في القرآن والسنة من فضائل الصحابة ) لمؤلفه الشيخ محمد بن العربي التباني ، ومثل كتاب ( منزلة الصحابة في القرآن ) للشيخ محمد صلاح الصاوي ، وكتاب ( صحابة رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم – في الكتاب والسنة) لعيادة أيوب الكبيسي ، وغيرها من البحوث والرسائل التي أحيل القارئ عليها للإستزادة في هذا الباب ، ومن أجمع ما ألف في ذلك كتاب الدكتور : ناصر بن علي عائض حسن الشيخ المسمى ( عقيدة أهل السنة والجماعة في الصحابة الكرام – رضي الله عنهم - ) ، وقد صرح فيه بأن الأحاديث في فضلهم متواترة ، وهو كما قال – وفقه الله - ، وقد صرح بذلك شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – كما في ( مجموع الفتاوى 4 / 430 ) .
فمن أقوال أئمتنا أهل السنة والجماعة في تقرير فضل الصحابة وعدالتهم :(14/76)
( 1 ) : قال السيوطي – رحمه الله - : وأخرج أبو الشيخ ، وابن عساكر ، عن أبي صخر حميد بن زياد ، قال : قلت لمحمد بن كعب القرظي : أخبرني عن أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم - ، وإنما أريد الفتن ؟ ، فقال : ( إن الله قد غفر لجميع أصحاب النبي – صلى الله عليه وسلم - وأوجب لهم الجنة في كتابه ، محسنهم ومسيئهم ) ، فقلت له : وفي أي موضع أوجب لهم الجنة في كتابه ؟ ، قال : ( ألا تقرأ : ( والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار ، والذين اتبعوهم بإحسان ، رضي الله عنهم ورضوا عنه ، وأعد لهم جنات تجري من تحتها الأنهار ، خالدين فيها أبدا ، ذلك الفوز العظيم ) [ سورة التوبة الآية 100 ] ، أوجب لجميع أصحاب النبي – صلى الله عليه وسلم – الجنة والرضوان ، وشرط على التابعين شرطا لم يشترطه فيهم ) ، قلت : وما اشترط عليهم ؟ ، قال : ( اشترط عليهم أن يتبعوهم بإحسان ، يقول : يقتدون بهم في أعمالهم الحسنة ، ولا يقتدون بهم في غير ذلك ) قال أبو صخر : لكأني لم أقرأها قبل ذلك ، وما عرفت تفسيرهاحتى قرأها علي محمد بن كعب . [ الدر المنثور ، في التفسير بالمأثور للسيوطي 4 / 272 ] .
( 2 ) : روى الإمام أحمد بإسناده إلى قتادة بن دعامة السدوسي ، أنه قال :
( أحق من صدقتم أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – الذين اختارهم الله لصحبة نبيه ، وإقامة دينه ) [ المسند 3 / 134] .
( 3 ) : قال أيوب السختياني – تابعي كبير ، وسيد فقهاء عصره ، رحمه الله - :
( من أحب أبا بكر فقد أقام الدين ، ومن أحب عمر فقد أوضح السبيل ، ومن أحب عثمان فقد استنار بنور الله ، ومن أحب عليا فقد استمسك بالعروة الوثقى ، و من قال الحسنى في أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقد برىء من النفاق ) [ البداية والنهاية للحافظ ابن كثير 8 / 13 ]
( 4 ) : روى الحافظ ابن عبد البر – رحمه الله – بإسناده إلى بقية بن الوليد قال : قال لي الأوزاعي :(14/77)
( يا بقية : العلم ما جاء عن أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم - ، وما لم يجيء عن أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم –فليس بعلم ، يا بقية : لا تذكر أحدا من أصحاب نبيك محمد – صلى الله عليه وسلم – إلا بخير ، ولا أحدا من أمتك ، وإذا سمعت أحدا يقع في غيره فاعلم أنه إنما يقول : أنا خير منه ) . [ جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر 2 / 36 ] .
( 5 ) : قال الإمام أبو جعفر أحمد بن محمد الطحاوي ناقلا مذهب الإمام أبي حنيفة النعمان بن ثابت الكوفي ، وصاحبيه أبي يوسف ، وأبي محمد – رحمهم الله جميعا – في عقيدته المشهورة ، فقال من ضمن قوله فيما يعتقدونه ، ويدينون به لله رب العالمين من أصول الدين :
( ونحب أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ولا نفرط في حب أحد منهم ، ، ونبغض من يبغضهم ، وبغير الخير يذكرهم ، ولا نذكرهم إلا بخير ، وحبهم دين وإيمان وإحسان ، وبغضهم كفر ونفاق وطغيان ) [ العقيدة الطحاوية مع شرحها لابن أبي العز ص 528] .
( 6 ) : قال الإمام مالك بن أنس – رحمه الله - :
( من يبغض أحدا من أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وكان في قلبه عليهم غل ، فليس له حق في فيء المسلمين )
ثم قرأ قول الله – سبحانه وتعالى - : ( ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى ) إلى قوله : ( والذين جاؤوا من بعدهم … الآية ) [ سورة الحشر الآية 7-10 ] .
وذكر بين يديه رجل ينتقص أصحاب رسول الله – صلىالله عليه وسلم – فقرأ مالك هذه الآية : ( محمد رسول الله ، والذين معه أشداء على الكفار ) إلى قوله : ( ليغيظ بهم الكفار ) [ سورة الفتح الآية 29 ] ، ثم قال : ( من أصبح من الناس في قلبه غل على أحد من أصحاب النبي – عليه الصلاة والسلام – فقد أصابته الآية ) . [ شرح السنة للإمام البغوي 1/ 229 ، وتفسير القرآن للحفظ ابن كثير 6/ 365 ] .
( 7 ) : قال الإمام أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل _ نضر وجهه ، ورفع درجته - :(14/78)
( ومن السنة الواضحة الثابتة ، البينة المعروفة ذكر محاسن أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أجمعين ، والكف عن ذكر ما شجر بينهم ، فمن سب أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم أو أحدا منهم ، أو تنقصه ، أو طعن عليهم ، أو عرض بعيبهم ، أو عاب أحدا منهم فهو مبتدع ، رافضي خبيث ، مخالف ، لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا ، بل حبهم سنة ، والدعاء لهم قربة ، والاقتداء بهم وسيلة ، والأخذ بآثارهم فضيلة ، وخير هذه الأمة بعد النبي – صلى الله عليه وسلم – أبو بكر ، وعمر بعد أبي بكر ، وعثمان بعد عمر ، وعلي بعد عثمان ، ووقف قوم على عثمان ، وهم خلفاء راشدون مهديون ، ثم أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بعد هؤلاء الأربعة خير الناس ، ، لا يجوز لأحد أن يذكر شيئا من مساوئهم ، ولا يطعن على أحد منهم بعيب ولا بنقص ، فمن فعل ذلك فقد وجب على السلطان تأديبه وعقوبته ، ليس له أن يعفو عنه ، بل يعاقبه ويستتيبه ، فإن تاب قبل منه ، وإن ثبت أعاد عليه العقوبة ، وخلده في الحبس حتى يموت أو يراجع ) . [ طبقات الحنابلة 1/30 ، كتاب السنة للإمام أحمد ص 17 ] .
(8) : قال ابن أبي زيد القيرواني في مقدمة رسالته المشهورة :
( وأن خير القرون الذين رأوا رسول الله – صلى الله عليه وسلم - ,آمنوا به ، ثم الذين يلونهم ، ثم الذين يلونهم ، وأفضل الصحابة الخلفاء الراشدون المهديون أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي – رضي الله عنهم أجمعين – وأن لا يذكر أحد من صحابة رسول الله – صلى الله عليه وسلم إلا بأحسن ذكر ، والإمساك عما شجر بينهم ، وأنهم أحق الناس أن يلتمس لهم حسن المخارج ، ويظن بهم أحسن المذاهب ) [ الرسالة مع شرحها الثمر الداني في تقريب المعاني ص 22-23 ] .
( 9 ) : قال أبو عثمان الصابوني – شيخ الإسلام - :(14/79)
( ويرون – أي أهل السنة – الكف عما شجر بين أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وتطهير الألسنة عن ذكر ما يتضمن عيبا لهم ، ونقصا فيهم ، ويرون الترحم على جميعهم ، والموالاة لكافتهم ) [ عقيدة السلف وأصحاب الحديث ص ] .
(10 ) : نقل الحافظ ابن حجر –رحمه الله - : عن أبي المظفر السمعاني ( 426-489) وهو من كبار علماء التفسير والحديث ، أنه قال في كتابه " الاصطلام " :
( التعرض إلى جانب الصحابة علامة على خذلان فاعله ، بل هو بدعة وضلالة ) . [ فتح الباري للحفظ ابن حجر 4 / 365 ] .
( 11 ) : قال يحيى بن أبي بكر العامري – وهومن أكابر علماء اليمن ومحدثيها توفي سنة 893 ، رحمه الله - :
( وينبغي لكل صين متدين مسامحة الصحابة فيما صدر بينهم من التشاجر ، والإعتذار عن مخطئهم ، وطلب المخارج الحسنة لهم ، وتسليم صحة إجماع ما أجمعوا عليه على ما علموه ، فهم أعلم بالحال ، والحاضر يرى ما لا يرى الغائب ، وطريقة العارفين الاعتذار عن المعايب ، وطريقة المنافقين تتبع المثالب ، وإذا كان اللازم من طريقة الدين ستر عورات عامة المسلمين ، فكيف الظن بصحابة خاتم النبيين !! ، مع اعتبار قوله – صلى الله عليه وسلم - : ( لا تسبوا أحدا من أصحابي ) (1)، وقوله : ( من حسن إسلام المرء تركه مالا يعنيه ) (2)، هذه طريقة صلحاء السلف ، وما سواها مهاو وتلف ) . [ الرياض المستطابة في جملة ما روي عن الصحابة ص 300-301 ]
هذه بعض نقول انتقيناها من كلام أئمة أهل السنة تعبر عن معتقدهم في أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وما تركنا أكثر ، وفي هذا بلاغ لمسترشد ، وكفاية لكيس ، ، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم .
آفاق في عقيدة أهل السنة والجماعة
قال الإمام أبو جعفر الطحاوي – رحمه الله – في عقيدة أهل السنة :
__________
(1) صحيح البخاري 2/292 ، وصحيح مسلم 4/1967 ، .
(2) رواه الترمذي وابن ماجة من حديث أبي هريرة – رضي الله عنه - .(14/80)
( ونرى الصلاة خلف كل بر وفاجر من أهل القبلة ، ولا ننزل أحدا منهم جنة ولا نارا ، ولا نشهد عليهم بكفر ولا بشرك ولا نفاق ما لم يظهر منهم شيء من ذلك ، ونذر سرائرهم إلى الله ، ولا نرى السيف على أحد من أمة محمد – صلى الله عليه وسلم – إلا من وجب عليه السيف ، ولا نرى الخروج على أئمتنا وولاة أمورنا ؛ وإن جاروا وظلموا ، ولا ندعو عليهم ، ولا ننزع يدنا من طاعتهم ، ونرى طاعتهم من طاعة الله تعالى فريضة ، وندعو لهم بالصلاح والمعافاة ، ونتبع السنة والجماعة ، ونجتنب الشذوذ والخلاف والفرقة ، ونحب أهل العدل والأمانة ، ونبغض أهل الجور والخيانة … )
( .. وعلماء السلف من السابقين والتابعين ومن بعدهم من أهل الخير والأثر وأهل الفقه والنظر لا يذكرون إلا بالجميل ، ومن ذكرهم بسوء فهو على غير السبيل …)
وقال شيخ الإسلام أبو عثمان الصابوني فيما يحكي من عقيدة أهل السن والجماعة :
( ويرى أصحاب الحديث الجمعة والعيدين وغيرهما من الصلوات خلف كل إمام مسلم ، برا كان أو فاجرا .
ويرون جهاد الكفرة معهم ، وإن كانوا جورة فجرة .
ويرون الدعاء لهم بالصلاح والتوفيق والصلاح .
ولا يرون الخروج عليهم بالسيف ، وإن رأوا منهم العدول عن العدل إلى الجور والحيف … )
(… ويتواصون بقيام الليل للصلاة بعد المنام ، وبصلة الأرحام ، وإفشاء السلام ، وإطعام الطعام ، والرحمة على الفقراء والمساكين والأيتام ، والاهتمام بأمور المسلمين ، والتعفف في المأكل والمشرب والمنكح والملبس ، والسعي في الخيرات ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، والبدار إلى فعل الخيرات أجمع ، واتقاء سوء عاقبة الطمع ، ويتواصون بالحق والصبر .(14/81)
ويتحابون في الدين ،ويتباغضون فيه ، ويتقون الجدال في الله ، والخصومات فيه ، ويجانبون أهل البدع والضلالات ، ويعادون أصحاب الأهواء والجهالات ، ويقتدون بالنبي – صلى الله عليه وسلم – وبأصحابه الذين هم كالنجوم بأيهم اقتدوا اهتدوا ، كما كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقوله فيهم ، ويقتدون بالسلف الصالحين ، من أئمة الدين ، وعلماء المسلمين ، ويتمسكون بما كانوا به متمسكين من الدين المتين ، والحق المبين .
ويبغضون أهل البدع الذين أحدثوا في الدين ما ليس منه ، ولا يحبونهم ولا يصحبونهم ، ولا يسمعون كلا مهم ولا يجالسونهم ، ولا يجادلونهم في الدين ولا يناظرونهم ، ويرون صون آذانهم عن سماع أباطيلهم التي إذا مرت بالآذان وقرت في القلوب ضرت ، وجرت إليها من الوساوس والخطرات الفاسدة ما جرت ، وفيه أنزل الله عز وجل قوله : ( وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره ) [ سورة الأنعام الآية 68 ] .
وقال الإمام إسماعيل بن يحيى المزني – رحمه الله – في رسالة " شرح السنة " ص 84 وهو يشرح عقيدة أهل السنة :
( .. والطاعة لأولي الأمر فيما كان عند الله عز وجل مرضيا ، واجتناب ما كان عند الله مسخطا . وترك الخروج عند تعديهم وجورهم ، والتوبة إلى الله عز وجل كيما يعطف بهم على رعيتهم ) .
ماذا ينقمون ؟!!
قد طالعت معي – أخي القارئ الكريم – ما يسر الله عرضه من عقيدة أهل السنة والجماعة ، وعشت في آفاقها ، فماذا ينقم علينا فيها أهل البدع والأهواء أكثر من تعظيمنا لكتاب الله – سبحانه وتعالى – وسنة نبيه محمد – صلى الله عليه وسلم – وتتبعنا لآثار السادة الأبرار ، أصحاب رسول الله – عليه صلاة الله وسلامه – والتابعين لهم بإحسان ؟ !! ..
· ينقمون علينا :
اتباع آثار رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم – ظاهرا وباطنا ..
واتباع سبيل السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار ..(14/82)
واتباع وصية رسول الله – صلى الله عليه وسلم – حيث قال : ( عليكم بسنتي ، وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي ، تمسكوا بها ، وعضوا عليها بالنواجذ ، وإياكم ومحدثات الأمور ، فإن كل بدعة ضلالة ) (1)..
· ينقمون علينا :
أنا علمنا أن أصدق الكلام كلام الله ، وخير الهدي هدي محمد – صلى الله عليه وسلم – فنحن نؤثر كلام الله – تعالى – على كلام غيره من أصناف الخلق ، ونقدم هدي رسوله على هدي كل أحد ..!!
أنا نحمل في صدورنا محبة الإسلام لكل مسلم ، ورحمته للخلق أجمعين ، تجلت آثار هذه المحبة ، وبرد تلك الرحمة ترجمة حية في واقع الحياة ، تستمد سلطانها من عقيدة تغذيها في قلوب المؤمنين آيات بينات في الكتاب العزيز ، وآثار مشرقات بنور النبوة في السنة المطهرة ..!!
لذا لم يكن لنا اسم في يوم من الأيام غير الإسلام ، وما تميزنا إلا بالكتاب والسنة بين الأنام ، فنحن أهل السنة والجماعة ، وأهل الحديث والأثر ، وما هو بضائرنا اليوم شيئا أن ينبزنا جهول أو حاقد بكيت وكيت من الألقاب كما لم يضر ذلك أسلافنا الذين مضوا ، وسوف يظل أهل السنة والجماعة يمثلون هذا الدين القويم ، والإسلام العظيم وإن رغمت أنوف من ساءهم ذلك ، وسوف يظلون يمثلون القطاع الواسع – وبلا حدود – من هذه الأمة ، ويشغلون بقاع المعمورة ، ترتفع من فوق مآذنهم ، ومنابرهم ، كلمة الحق الخالدة ، ( وكانوا أحق بها ، وأهلها ) [ سورة الفتح الآية26 ] ، بدمائهم نشر الله هذا الدين في الأصقاع ، وبجهادهم وجهودهم كانت كلمة التوحيد تطهر الأرض من رجس الشرك والإلحاد ، والتاريخ شاهد ، فسلوه : أي دور كان لأهل السنة في الفتوحات ؟ وأي دور لأهل البدع والأهواء - كان ولا يزال – في تمزيق شمل هذه الأمة ، والكيد لها ، والنيل من حرماتها ومقدساتها ؟ !!
__________
(1) رواه الترمذي وأبو داود وابن ماجة وأحمد والدارمي ، عن العرباض بن سارية .(14/83)
نسأل الله أن يحيينا ما أحيانا على السنة والجماعة ، وأن يقبضنا عليها غير فاتنين ولا مفتونين ، وأن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا ، وأن يهب لنا من لدنه رحمه إنه هو الوهاب .
ورحم الله الشيخ : ملا عمران ، إذ يقول :
إذا كان تابع أحمد متوهبا فأنا المقر بأنني وهابي
أنفي الشريك عن الإله فليس لي رب سوى المتفرد الوهاب
لا قبة ترجى ، ولا وثن ، ولا قبر له سبب من الأسباب
كلا ولا حجر ، ولا شجر ، ولا عين (1) ، ولا نصب من الأنصاب
- أيضا – ولست معلقا لتميمة أو حلقة أو ودعة أو ناب
لرجاء نفع ، أو دفع بلية الله ينفعني ويدفع ما بي
والابتداع وكل أمر محدث في الدين ينكره ألوا الألباب
أرجو بأني لا أقاربه ولا أرضاه دينا ، وهو غير صواب
وأعوذ من جهمية (2) عنها عتت بخلاف كل مؤول مرتاب
والاستواء (3) فإن حسبي قدوة فيه مقال السادة الأنجاب
الشافعي ومالك وأبي حنيـ فة وابن حنبل التقي الأواب
وبعصرنا من جاء معتقدا به صاحوا عليه : مجسم وهابي !!!
جاء الحديث بغربة الإسلام فلـ يبك المحب لغربة الأحباب
فالله يحمينا ، ويحفظ ديننا من شر كل معاند سباب
ويؤيد الدين الحنيف بعصبة متمسكين بسنة وكتاب
لا يأخذون برأيهم وقياسهم ولهم إلى الوحيين خير مآب
قد أخبر المختار عنهم أنهم غرباء بين الأهل والأحباب
سلكوا طريق السالكين إلى الهدى ومشوا على منهاجهم بصواب
من أجل ذا أهل الغلو تنافروا عنهم ، فقلنا ليس ذا بعجاب
نفر الذين دعاهم خير الورى إذ لقبوه بساحر كذاب
مع علمهم بأمانة وديانة فيه ، ومكرمة وصدق جواب
__________
(1) عين ماء يغتسلون بها للتبرك والشفاء .
(2) الجهمية : فرقة ضالة ، ترد النصوص النبوية في مجال صفات الله تعالى ، وتنكر الرؤية ، ولها انحرافات عقائدية خطيرة .
(3) الاستواء هو : العلو والارتفاع ، وأهل السنة والجماعة يثبتون لله استواء يليق بجلاله _ على ما هو مفصل في مبحث الصفات – ( ليس كمثله شي وهو السميع البصير ) .(14/84)
صلى عليه الله ما هب الصبا وعلى جميع الآل والأصحاب .. أ.هـ .
{ الخاتمة } : خلاصة و .. رأي !!!
[ إجمال لأهم النتائج التي تم استعراضها في الرسالة ]
أخي : وبعد هذه النظرات العجلى في آفاق عقيدة أهل السنة والجماعة – كما يقررها أئمة أهل السنة وعلماؤهم ، لا كما ينقله أعداؤهم والمغرضون عنهم – أقف معك في نهاية المطاف لأجمع لك في هذه الأسطر أهم ما عرضناه من معان ، عبر عناوين هذه الرسالة ؛ حتى يسهل عليك تأملها والتدبر فيها ، ثم أهمس في أذنك بسر لا أحرج عليك في البوح به لمن تشاء ..!!
فإليك – أولا – هذه الخلاصة في نقاط معدودة :
[ 1 ] : إن الذين يلقون بهذه الألقاب ( حشوية ، مشبهة ، وهابية .. ) في المجتمع ضد أهل السنة والجماعة إنما هم شرذمة من غلاة أهل البدع والأهواء ، يسعون لإيقاد نار الفتنة بين المسلمين على اختلاف مذاهبهم ، وتنوع مناهجهم ، تحقيقا لأهداف الماسونية العالمية ، ويسعى في ركابهم مرضى القلوب ، ويصفق لهم من لا يدري ما يقولون ، قال الله تعالى : ( كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله ، ويسعون في الأرض فسادا ، والله لا يحب المفسدين ) [ سورة المائدة الآية 64] .
[ 2 ] : على عقلاء الطوائف ، وعلماء المذاهب الإسلامية – جميعا – أن يرتفعوا بأنفسهم فوق المستوى الذي يريد هؤلاء " الغلاة " أن ينزلوهم فيه ، وذلك بأن :
- يتحروا الصدق قيما يقولون وينقلون ، ومدلول كلمة ( يتحروا ) فوق معنى ( يصدقوا ) فضرورة التفتيش عن الحق والصدق ، ونقد الخطأ ، وتمحيص المعلومات المرفوعة بدقة ، وعدم تعريض النفس للوقوع في شباك أصحاب الأغراض الرديئة عن طريق الغفلة الساذجة ، أو عن طريق الثقة فيمن ليسوا بأهل للثقة فيهم ، كل ذلك من مدلول التحري للصدق .. .(14/85)
الحذر من الظلم وأسبابه ، مهما كانت مبرراته ، فهو شؤم على صاحبه في الدنيا والآخرة ، والتاريخ عبر ، والسعيد من اتعظ بغيره ، ولا يدفع عن الرجل وهو يمارس الظلم أن يوصف به إذا علقه على ( شماعة المظالم ) فيقول : " قال الناس ، قال فلان ، كتب علان " ،فهي مطية سوء لا تنجي صاحبها من مصير الظالمين ، فالنبي – صلى الله عليه وسلم – يقول : ( بئس مطية الرجل زعموا !!! ) (1)، إشارة إلى هذا ..
ثم احذر أن تكون مطية للظالمين أيها المسلم ، أو ( إذاعة بلا ثمن ) ، وإن أعطاك الظالمون دنياهم ، فخسارتك بينة ، لأنك حينئذ تكون قد فرطت في آخرتك !!! .. .
سيما في هذا كله من كان بيده قرار ضر أو نفع ، أو شهادة ضر أو نفع ، لمسلم أو عليه ، في مال أو بدن أو عرض ، او دين .. فليتق الله !! وليمسك عليه لسانه ، وليعلم : " أنا إلى ديان يوم الدين نمضي ، وعند الله تجتمع الخصوم " .
[ 3 ] : قرر أئمة الإسلام وحفاظ التأريخ على مختلف العصور بداية من القرن الثاني للهجرة أن أعداء أهل السنة والجماعة وأهل البدع والأهواء كانوا يسمون أهل السنة بالحشوية والمشبهة ، والنابتة وغيرها من الألقاب ، ويقصدون بها الصحابة والتابعين ، وتابعيهم من الأئمة الأربعة ، ومقلديهم بإحسان وغيرهم ، والتاريخ شاهد لا يكذب إذا نقلته أيد أمينة كالتي نقلنا لك عنها ما أثبتناه هنا .
__________
(1) رواه الإمام أحمد وأبو داود عن حذيفة – رضي الله عنه – وصححه العلامة المحدث الألباني في الصحيحة برقم 866 وهو في صحيح الجامع له - حفظه الله – برقم 2846 .(14/86)
[ 4 ] : مصطلح ( وهابية ) اخترعه الكفار من نصارى ومستشرقين ، وأطلقوه على بعض أهل السنة ، فتلقفه عنهم غلاة أهل البدع وجهلتهم لينبزوا به أهل السنة والجماعة على وجه التنفير منهم والتشنيع عليهم ، وهذا إلحاد في أسماء الله تعالى إذ هو نسبة إلى ( الوهاب ) ، ولئن اجترأ على ذلك النصارى والكفرة ، فعجب أن يجترىء عليه مسلمون ، يوحدون الله ، ويخافون اليوم الآخر – كما يزعمون - !!
[ 5 ] : الغرض من إطلاق هذه الألقاب على أهل السنة تنفير عقلاء المذاهب الأخرى عن النظر في عقائد أهل السنة حتى لا يتأثروا بما فيها من بيان مقنع ، ونور يسطع ، وهي محاولة لإشاعة الفرقة بين عامة أهل السنة وعلمائهم ودعاتهم ليكون بأس أهل السنة بينهم ، ويضعف تأثيرهم في المجتمع ، مما يترتب عليه قوة المبتدعة في ترويج عقائدهم المخالفة للكتاب والسنة ، والتلبيس على العامة من المسلمين وإيهامهم أن السنة والكتاب يدلان عليها ، ( و يأبى الله إلا أن يتم نوره ) [ سورة التوبة الآية 32] .
[ 6 ] : أهل البدع – دائما – لا ينقلون عقيدة أهل السنة بأمانة ، فهم يشوهونها ، وينقلونها ممسوخة كدرة ، لأجل التنفير منهم ، فينبغي على المسلم الصادق ، أن لا يأخذ عقائد أهل السنة إلا من علمائهم ، أو كتبهم مباشرة ، وعدم قبول الإحالات بأرقام الصفحات ، فقد عودنا المبتدعة أنهم يكذبون ؛ لأنهم يعتقدون أن القارئ لن يراجع ما ينقلونه – ربما – لأجل الثقة فيهم ، أو لعدم توفر الكتب بين أيدي عامة الناس .(14/87)
وكذلك المسائل الفقهية التي يشنع بها المبتدعة على علماء أهل السنة ، القول فيها هو ما قلناه في العقائد من ضرورة عدم تصديق المبتدعة في نقولاتهم ، و ضرورة التحري للصدق ، مع مراعاة قاعدة عظيمة ، وهي أن مسائل الفروع الاجتهادية لا يشنع فيها على المخالف إذا اجتهد وإن أخطأ كما هو معتقد أهل السنة والجماعة ، أما المبتدعة الذين يكفرون الناس بكل ذنب ، وبالخطأ ، فإنما يفعلون ذلك : [( ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ، ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم ، ألا ساء ما يزرون ) [سورة النحل الآية 25] .
[ 7 ] : أهل السنة والجماعة يشهدون أن المؤمنين يرون ربهم تبارك وتعالى بأبصارهم في الجنة ، وينظرون إليه ، على ما وردت به الأخبار المتواترة عن سيدنا رسول الله – صلى الله عليه وسلم - ، مبينة لما أنزله الله في كتابه العظيم ، وقرآنه الكريم ، حيث قال جل ذكره : ( وجوه يومئذ ناضرة ، إلى ربها ناظرة ) [ سورة القيامة الآية 22-23 ] .
[ 8 ] : ويشهدون أن القرآن كلام الله ، و وحيه ، وتنزيله ، غير مخلوق ، وقد شهد بهذا أئمتنا ، وثبتوا في الوقت الذي كانت تجلد فيه ظهورهم ، وتقطع أرزاقهم ، ويفصلون من وظائفهم ، ويحبسون ويقيدون ، وتقطع رقابهم ، ويمثل بأجسادهم بعد موتهم ، فلم يتنازلوا عن ذلك ، وهم أعلم الخلق ، وأفضلهم في زمانهم ، وقد كانوا يسجلون بذلك رسالة إلينا معاشر أهل السنة في كل زمان ومكان ، مفادها : ( أن هذا الشأن مات فيه قوم في الحديد فلا تتخاذلوا ) ، وقد انتقم الله ممن ظلمهم ، وأحل بهم بأسه الذي لا يردعن القوم الظالمين : ( وما يعلم جنود ربك إلا هو ، وما هي إلا ذكرى للبشر ) [ سورة المدثر الآية 31] .(14/88)
[ 9 ] : ويثبتون لله – تعالى – ما أثبته لنفسه من صفات الجلال والكمال ، وما أثبته له رسوله الكريم – صلى الله عليه وآله وسلم – ولا يعتقدون تشبيها لصفاته بصفات خلقه ( ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ) [ سورة الشورى الآية 13 ] ، فهم يؤمنون بما جاء عن الله ورسوله في هذا الباب على مراد الله ورسوله ، من غير تحريف ولا تأويل ، ولا تمثيل ولا تعطيل .. .
[ 10 ] : أهل السنة والجماعة من أبعد أهل المذاهب الإسلامية عن تكفير المخالفين ، فهم وسط في هذا الباب كما أنهم وسط في سائر أبواب الدين – أصوله وفروعه _ وكتبهم خير شاهد على ذلك ، بل ومعاملتهم مع الخلق ، ورحمتهم للعباد .. .
[ 11 ] : يشهد أهل السنة والجماعة أن الرسول – صلى الله عليه وسلم – يشفع يوم القيامة لأهل الكبائر من الموحدين فيخرجهم من النار إلى الجنة بفضل الله تعالى وكرمه ، وهذا هو المقام المحمود الذي وعده ربه ، وهي الشفاعة التي ينكرها أهل البدع ، مع أن الأحاديث في إثباتها متواترة ، وقد كان الصحابة والتابعون يردون على المنكرين لها ، المكذبين بها بالسنة ، لا يزيدونهم على ذلك ، وقد شهد الصحابي الجليل أنس بن مالك – رضي الله عنه أن من أنكرها حرمه الله منها يوم القيامة ، وهذا وإن كان موقوفا على صحابي إلا أن له حكم الرفع على قواعد السادة المحدثين ، إذ أنه مما لا يدرك بالرأي ، وما يكون لأنس – رضي الله عنه – على جلالة قدره أن يتفوه به لولا أنه سمع فيه خبرا عن رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم .(14/89)
[ 12 ] : ويدينون بحب أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ولا يفرطون في حب أحد منهم ، ويعوذون بالله أن يتبرؤوا من أحد منهم ، بل يبغضون من يبغضهم ، ومن بغير الخير يذكرهم ، ولا يذكرون الصحابة إلا بخير ، ويعتقد أهل السنة أن حب الصحابة دين وإيمان وإحسان ، ، وبغضهم كفر ونفاق وطغيان ، فهم يحتسبون في الدفاع عنهم ، والذب عن أعراضهم ، نسأل الله أن يحشرنا في زمرتهم ، وينفعنا بعلومهم ، ويتجاوز لنا ببركة ذلك عن تقصيرنا وآثامنا – برحمته - .
[ 13 ] : أهل السنة يرون الصلاة خلف كل بر وفاجر من أهل القبلة ، ويصلون على من مات منهم ، ولا يرون السيف على أحد من أمة محمد – صلى الله عليه وسلم – إلا من وجب عليه السيف بحكم الشرع الشريف في حد من الحدود أو حكم من الأحكام ، ولا يرون الخروج على الأئمة وولاة أمورهم وحكامهم وإن جاروا وظلموا ، ويدعون لهم بالصلاح والمعافاة .
[ 14 ] : ماذا ينقم المسلم الصادق في هذا المعتقد الذي حررناه ونقلناه ؟ ، بالإجابة على هذا السؤال سوف يتضح للقارئ أن الذي ينقم فيه شيئا إنما ينقمه على أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم – وتابعيهم بإحسان .. فليراجع نفسه قبل فوات الأوان !!! ، فيندم.. ولات ساعة مندم !!! .
.. ورأي !!
أخي القارئ الكريم : إذا علمت هذه المعاني التي بيناها لك عن معتقد أهل السنة ، وحقيقة هذا الصراع وأهدافه ، فلتأذن لي أن أهمس في أذنك بهذا السر الخطير الذي لا أحرج عليك – كما قلت – قي أن تبوح به لمن تشاء ..!!(14/90)
إن من تسلط الشيطان على العبد أن يزين له بسط قلمه ولسانه للوقيعة في أولياء الله تعالى بالتعيير والسخرية ، والهمز واللمز ، والفحش والسوء والكذب والبهتان ، وقد يصور له فعله هذا على أنه جهاد في الوقت الذي يزين له فيه الدفاع عن نحلة الشيطان الخاسرة ، والذب عن عقائد السوء التي يشهد كتاب الله تعالى ، وسنة نبيه محمد – صلى الله عليه وسلم – على بطلانها ، فيطوي ليالي الحياة دراكا مقيما على ماكره .. ثم لا يلبث أن يفيق .. ولكن : أين ؟ ، في معسكر الأموات !! حيث طويت صحائف الأعمال ، وختمت ، لتنشر عليه في يوم : ( لا ينطقون ، ولا يؤذن لهم فيعتذرون ) [ سورة المرسلات الآية 35-36 ] .
والحق لا يشتبه على صادق إذا أخلص في طلبه ، وإن من الإخلاص في طلبه أن يعلم أن هذا الحق الذي ينشده لن يكون إلا في كتاب الله – عز وجل – بأفصح عبارة ، وأوضح بيان ، ولن يمون إلا في السنة المشرفة على صاحبها أفضل الصلاة والسلام - ، ولن يخطئ الحق أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – والتابعون ، ثم تهتدي إليه فلول الخوارج ، وأسراب الاعتزال !! .
الحق .. في تعظيم القرآن ؛ وذلك بالإيمان به كله ، واتباعه كله ، لا بمعارضته بعقليات الفلا سفة ، ونظريات الملحدين ، وشبهات الموسوسين .
الحق .. في توقير السنة المشرفة ، وقبوله كلا لا يتجزأ ، والتسليم لخبر الصادق المصدوق فيما وسعه فهمك ، أو ضاق عن دركه عقلك ، ونبا عنه علمك ، وليس بالتحايل على ردها تارة : بالمكابرة في الطعن في صحيحها ، وأخرى : بالتفريق بين آحاديها و متواترها ، و ثالثة : بدعوى مخالفتها للمعقول !!!! .. .(14/91)
الحق .. في ما اعتقده حملة هذه السنة ، ودانوا به لله رب العالمين ، من صحابة وتابعين من أهل القرون الأولى الذين عاصروا نزول القرآن ، وأخذوا معتقدهم عن الذي لا ينطق عن الهوى ، إن هو إلا وحي يوحي ، ولم تدخل عليهم وتغزهم قواعد علم الكلام الملوث بالأهواء ، والتعويل في ذلك على ما صح عنهم في دواوين السنة العتيقة التي شهد لها حفاظ السنة وأئمة الجرح والتعديل ، ولا يجدي المرء أن ينحاز إلى الشاذ من المؤلفات في ذلك مما لا يعرف له أئمة المسلمين أصلا ولا فصلا ، بل ربما كان يتعارض مع ما صح عنهم من ضرورات الدين ومسلماته ..
الحق .. في العدل في المعاملة ، مع القريب أو البعيد ، الموافق أو المخالف ..
هذا الحق ليس به خفاء فدعك من ثنيات الطريق !! .
هذا السر الذي أردت أن أوحي به إليك أيها الطيب ، وهي وصيتي لك أن تطلب الحق وتتأمله ، وإنما سميت هذا المعنى ( سرا ) مع شيوعه ، وربما علمك به ؛ لخفائه على كثير من الخلق إلا من رحم الله عز وجل ، ومن لم يخف عليه لفظه خفيت عليه حقيقته ومعناه ، فلم يهتد إلى تطبيقه في واقع الحياة ، وهذا نوع من الحرمان ، وضرب من ضروب الخذلان – نسأل الله العافية - ، وصورة من صور عدم الانتفاع بالهدى الذي أنزله الله .
قال تعالى : ( ألم ، ذلك الكتاب لا ريب فيه ، هدى للمتقين ، الذين يؤمنون بالغيب ، ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون ، والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك ، وبالآخرة هم يوقنون ، أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون ) [ سورة البقرة الآية 1-5 ]
وقال تعالى : ( وذكر فإن الذكري تنفع المؤمنين ) [ سورة الذاريات الآية 55 ] ،
وقال سبحانه : ( وذكر إن نفعت الذكرى سيذكر من يخشى ، ويتجنبها الأشقى ، الذي يصلى النار الكبرى ، ثم لا يموت فيها ولا يحيى ) [ سورة الأعلى الآية 9-13 ] .
وحسبي أيها القارئ الكريم ما بينته لك في هذه الخلاصة التي ما آلوت أن أنصح لك فيها جهدي .(14/92)
وأخيرا ..
الرأي لك وحدك .. ( كل نفس بما كسبت رهينة ) [ سورة المدثر 38 ] ، ( قل إنما أعظكم بواحدة ، أن تقوموا لله مثنى وفرادى ، ثم تتفكروا .. ) [ سورة سبأ الآية 46 ] ، فهل أنتم معاشر القراء ، قابلون من الله – جل جلاله – هذه الموعظة العظيمة البليغة ؟
ليس عندي أدنى شك في ذلك ..
إذن تفكروا : فأهل السنه والجماعة ، ليسوا بحشوية ، ولا مشبهة ، ولا مجسمة ، ولا نابتة ، ولا وهابية ، ولا ناصبة .. وإنما : " أصحاب الحديث عصامة من هذه المعايب برية ، نقية زكية تقية ، وليسوا إلا أهل السنة المضية ، والسيرة المرضية ، والسبل السوية ، والحجج البالغة القوية ، قد وفقهم الله – جل جلاله – لاتباع كتابه ، و وحيه وخطابه ، والاقتداء برسول الله – صلى الله عليه وسلم – في أخباره ، التي أمر فيها أمته بالمعروف من القول والعمل ، وزجرهم فيها عن المنكر منها ، وأعانهم على التمسك بسيرته ، والاهتداء بملازمة سنته ، وشرح صدورهم لمحبته ، ومحبة أئمة شريعته ، وعلماء أمته "
سبحانك اللهم وبحمدك ، نشهد أن لا إله إلا أنت ، نستغفرك ، ونتوب إليك .
وصلى الله على عبده ورسوله محمد ، وعلى آله ، وصحبه ، والتابعين أجمعين ، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .(14/93)
الأدلة الزكية
في بيان أقوال الجفري الشركية
تأليف
أبي عبد الرحمن: يحيى بن علي الحجوري
حفظه الله تعالى
إعادة تنسيق الكتاب
أبو عمر الدوسري
المقدمة
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهديه الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:
?يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً?[النساء:1].
?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً?[الأحزاب: 70-71].
أما بعد:
فيقول الله عز وجل في كتابه الكريم: ? ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ ?[محمد:4].(15/1)
ويقول سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: ?وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ?[محمد:31]، ويقول سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: ?أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ?[آل عمران:142]، ويقول الله في كتابه الكريم: ?وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللهِ مَا لا يَرْجُونَ?[النساء:104]. ويقول الله عز وجل: ?هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُوسِهِمُ الْحَمِيمُ * يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ * وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ?[الحج: 19-21].
فمن هذه الأدلة يُعلم، أنه لا بد أن يكون بين الحق والباطل صراع، وأنه لا يخلو زمن من الأزمان، ولا حقبة من الحقب، ولا فترة من الفترات من وجود من يعبد الله، ومن يعبد غير الله، ومن يدعو الله، ومن يدعو غير الله، ومن يوحد الله، ومن يشرك بالله إلى قيام الساعة، كما يقول الله سبحانه: ? وَاللهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ?[البقرة:220].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي: »أنت الجنة رحمتي، أرحم بك من أشاء، وأنت النار عذابي أعذب بك من أشاء ولكليكما عليّ ملؤها«.(15/2)
والنار وقودها الناس والحجارة، ? وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ?[البقرة:24]، وبعد هذا فإننا نلاحظ ونسمع، شركاً صريحاً وغلواً قبيحاً، وفتنة واضحة، ودعوة إلى الوثنية، من أوباش الصوفية، في هذه الأزمنة، وهم من حيث الجملة، الصوفية أموات بمعاصيهم، وأموات بشركياتهم، وأموات ببدعهم وخرافاتهم، وإن كانوا يعيشون يأكلون ويشربون، لكن كما قيل:
ليس من مات فاستراح بميت ** إنما الميت ميت الأحياء
إنما الميت من يعيش كئيباً ** كاسف باله قليل الرجاء
وهذا لا شك أنه يعيش في نكد المعاصي، ?وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ?[يونس:27]، وقد استجرى بهم الشيطان، وركب كواهلهم إلى الغلو الشديد، فيما يسمونهم بالأولياء، والإطراء الشديد في حق من يعتقدون فيهم الولاية، فأشركوهم ونددوهم بالله سبحانه وتعالى، وقد علمتهم أن هذه الخصلة من الرافضة والصوفية تعتبر نظير فعل اليهود والنصارى.
فالغلو هو شأن اليهود والنصارى كما هو مذكور في كتاب الله عز وجل، وفي سنة رسول الله صلى الله علي وسلم، يقول الله سبحانه وتعالى: ?يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ ?[النساء:171]، فذم الله أهل الكتاب، الذين ذكرهم الله في هذه الآية بغلوهم، وقال سبحانه: ?قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ?[المائدة:77].(15/3)
وأبان الله سبحانه غلوهم فقال: ?لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرائيلَ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ * لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ * قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً وَاللهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ?[المائدة: 72-76].
فأبان الله عز وجل، أن هذه تعتبر من أهل الكتاب عبادة لغير الله سبحانه، هذا الغلو الذي غلوه في عيسى عليه الصلاة والسلام، يعتبر عبادة من دون الله، قال الله تعالى: ?اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ * يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ?[التوبة: 31-33].(15/4)
فأبان الله سبحانه في هذه الآيات، أن اتخاذهم الأحبار والرهبان أربابًا من دون الله، وأن غلوهم في أولئك الأشخاص، من الأنبياء عليهم صلوات الله وسلامه، أو من غيرهم، أن هذا يعتبر شركاً منهم بالله سبحانه وتعالى، فحملهم غلوهم هذا على الشرك والتنديد، والضلال البعيد، ولهذا ترى رسول الله صلى الله عليه وسلم يحذر من الغلو، قال: »لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم، فإنما أنا عبد الله رسوله، فقولوا: عبد الله رسوله«، والحديث في الصحيح، وهكذا قال رجل: يا سيدنا، وابن سيدنا، ويا خيرنا وابن خيرنا، قال عليه الصلاة والسلام: »أيها الناس، قولوا بقولكم الأول ولا يستجرينكم الشيطان، إنما أنا عبد الله ورسوله، فقولوا: عبد الله ورسوله«.
وكفى شرفاً بمقام العبودية لله عز وجل، فقد وصف الله سبحانه وتعالى، أنبياءه بالعبودية في أشرف المقامات، قال سبحانه: ?سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى?[الإسراء:1]، ففي مقام الإسراء، وهو يصفه بالعبودية لله سبحانه وتعالى، وأنه عبد الله، ?وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً?[الجن:19].
وفي مقام الدعاء قال: ?وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ * إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ * وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ?[صّ:45-47].
وقال تعالى: ?إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً?[مريم: 93-95].(15/5)
فما من إنسان في هذه الحياة الدنيا من جن أو إنس، إلا وإن الله سبحانه وتعالى خلقه لعبادته، قال الله سبحانه: ?وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ?[الذاريات: 56-58].
وقال سبحانه: ?وَاعْبُدُوا اللهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً?[النساء:36].
وقال: ?يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ?[البقرة: 21-22].
وقال تعالى: ?قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً?[الأنعام:151] إلى آخر الآيات.
وفي سورة الفاتحة: ?الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ * إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ * اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ?[الفاتحة: 2-7]، ?إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ?[الفاتحة:5].
وما أرسل الله رسله، ولا أنزل كتبه إلا لتوحيده، وللدعوة إلى توحيده، وبيان توحيده سبحانه وتعالى، والتحذير من الشرك به.(15/6)
يقول الله: ?وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ?[الانبياء:25].
ويقول الله سبحانه وتعالى: ?وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ?[الاحقاف:21].
ويقول الله سبحانه وتعالى: ?وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ?[النحل:36]، فخلقنا الله سبحانه وتعالى لعبادته، لا عبادة البشر، ولا للشرك به والتنديد به، ولكن هؤلاء القوم غلوهم أدى بهم إلى مكان سحيق من الضلال، حتى اعتقدوا أن الولي يتصرف في الكون، كما سيمر بنا في بعض هذه الفقرات، التي يقولها علي الجفري، والذي له رواج نخشى صولته الضالة، وفتنه العمياء على عوام الناس ودهمائهم، وهذا والله من المنكر الذي لا يجوز السكوت عليه، لا من المسئولين، ولا من العلماء، ولا من أي غيور على دين الله الحق، فإن هذا هو شرك قريش الذين كانوا يدعون إليه نفس الفكر، بل إن المشركين الذين كانوا على شرك بالله سبحانه وتعالى: كانوا يجأرون في الشدائد إلى غير الله، إلى الحبيب فلان، والولي فلان، والله المستعان، قال تعالى: ? ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ?[النحل:53].(15/7)
وهذه عدة نقاط موثقة، من روابطها من شبكات الانترنت، وقد سمعت صوته بأذني وهو يقول هذه الفقرات، اكتفينا بالعزو إلى الروابط المذكورة من الشبكة (الانترنت) التي نشرت كلام هذا الفاجر الأثيم، وهو علي الجفري، وأيضاً نظير أقواله، أقوال عمر بن حفيظ، له كلام يبيح فيه دعاء غير الله سبحانه وتعالى، وعندي شريط في ذلك من أقواله، وله كلام في رسالة صغيرة تسمى بالتوحيد، وهو عن التوحيد بعيد، يقول فيها: إن القرآن لا يوصف بأنه عربي، والله عز وجل يقول: ?بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ?[الشعراء:195]، ويقول: ?إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ?[يوسف:2]، ويقول: ?وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ?[إبراهيم:4]، ورسول الله صلى الله عليه وسلم عربي، وإلى بيان هذه الفقرات، الظالم أهلها:
السؤال الأول
السائل: يقول في موقع:
(http://www.geocities.com/abdullah_moslm/g3.ra)،
الجفري يقول: أنه لا يستغرب خروج روح الميت لكي تنفع من يستغيث بها بإذن الله؟
الجواب: هذا الكلام فيه ثلاث ضلالات
الأولى: يقول: لا يستغرب خروج روح الميت بعد موته، لكي تنفع بإذن الله من يستغيث به، وهذا فيه دعوة إلى الاستغاثة بالأموات.
والاستغاثة بالأموات: هي دعاء غير الله سبحانه وتعالى، مع تلهف أيضاً، قال الله عز وجل: ?إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ?[الأنفال:9]، فالاستغاثة لا تكون إلا بالله سبحانه وتعالى، لا تكون بالأموات؛ فإن الأموات لا يستطيعون أن يغيثوا في شيء من الأشياء بعد موتهم، لقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: ?فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ?[يّس:50].(15/8)
ولقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: ?قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً إِلَّا مَا شَاءَ اللهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ?[الأعراف:188]، ولقول الله سبحانه وتعالى: ?فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ?[الروم:52] ولقوله سبحانه: ?وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ?[فاطر:22] ولقول الله سبحانه: ?وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ?[يونس:107].
الضلالة الثانية: أن هذا قول بالرجعة وربنا سبحانه وتعالى يقول: ?حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ * فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ?[المؤمنون: 99-103].(15/9)
ويقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: ?وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ * فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ?[الملك: 10-11]، ففي هذه الآية أنهم ليس لهم رجوع، وليس لهم إلا السحق، ويقول: ?أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ * أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ * أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ * أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ * بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ * وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ?[الزمر: 56-60].
فهذه الآيات تدل على أنه ليس بعد الموت كرة رجوع، وقال تعالى عن أهل النار: ?قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ? [غافر:11]، وقال عن أهل النار: ?وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ? [الزخرف:77]، وقال تعال: ?فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ? [يّس:50].
وقال الصديق رضي الله عنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم لما مات: بأبي أنت وأمي، أما الموتة الأولى فقد ذقتها، ولن تذوق بعدها موتة أخرى.(15/10)
لا رجوع بعد الموت، وبعد مفارقة الروح للجسد، النبي صلى الله عليه وسلم يقول: »ما أحد يموت فيدخل الجنة، يتمنى أن يعود إلى الدنيا وله مثل الدنيا عشر مرات، إلا الشهيد، فإنه يتنمى أن يعود إلى الدنيا فيقتل عشر مرات لما يرى من الكرامة«. يتمنى أن يعود فلا يعود إلى الدنيا، فاعتقاد الرجعة، اتفق فيها الصوفية والروافض؛ ولذلك صار من ضلال الرافضة أن بعض آل البيت يرجعون إلى الحياة ثم يقتلون من ولي الخلافة، من غير آل البيت، فهذا اعتقاد الرجعة، والصوفية هم أحفاد الرافضة، وأحفاد الرهابين في هذه الأفكار، جمعوا بين ضلال النصارى، فإن ديدن الصوفية، نفس ديدن النصارى والرهابين في البدع والخرافات.
قال الله عن النصارى: ?وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ ? [الحديد:27]، يذكر أهل العلم أنهم أخذوا دينهم عن الرافضة؛ في كثير من البدع والخرافات، والشركيات، يتفقون فيها.
الضلالة الثالثة: أن الأموات من المسلمين بحاجة إلى الدعاء، النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا مر بالمقابر قال: »السلام عليكم دار قوم مؤمنون، وإن شاء الله بكم لاحقون، ونسأل الله لنا ولكم العافية«، أما القول أن الميت هو الذي يرجع، أو روحه ترجع، ويغيث الأحياء، فهذه دعوة إلى الشرك والوثنية، وإلى دعاء غير الله سبحانه وتعالى يقول الله في كتابه الكريم: ?وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللهِ إِلَهاً آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ?[المؤمنون:117]، ويقول: ?وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ * وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ? [الاحقاف:5-6].
السؤال الثاني
السؤال: وهناك في موقع:
http://www.geocities.com/abdullah_moslm/g4.ra))،(15/11)
الجفري يقول: أن الأموات يغيثون بأرواحهم، من يستغيث بهم، ولا يمنع في اعتقاده أن يخرج جسد من قبره؟
الجواب: هذا باطل، وهذا كذب، وهذا معاندة للقرآن والسنة، مما قد تلونا ومن قول النبي صلى الله عليه وسلم: »إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك«، ومن قول النبي صلى الله عليه وسلم: »ما من ميت إلا ويعرض عليه مكانه، من الجنة أو النار، فيقال: هذا مكانك من النار، أو هذا مكانك في الجنة إلى يوم القيامة«، الحديث أخرجه الشيخان عن ابن عمر، وثبت من حديث أوس بن أوس، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: »أكثروا عليّ يوم الجمعة من الصلاة، فإن صلاتكم معروضة عليّ« قالوا: يا رسول الله، كيف نصلي عليك وقد أرمت، أي بليت، قال: »فإن الأرض لا تأكل أجساد الأنبياء«.
والشاهد من هذا أنها حياة برزخية تختلف عن الحياة الدنيا، وأيضاً الشاهد من هذا »أرمت« أي: بليت، وسائر الأموات بعد موته بأيام ينفطر وتتقطع أوصاله، وتتمزق أشلاؤه، ولا يبقى إلا عجب الذنب منه يركب الإنسان إذا نفخ في الصور، كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وكما قال الله عز وجل: ?وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ?[الزمر:68].
أما أن يعتقد أنهم ينفعون أو يضرون، أو أنهم كذلك يجيبون الأحياء، وينفعونهم، فهذا باطل لا دليل عليه، وهو من عقيدة أهل الضلال من الصوفية وأضرابهم، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
السؤال الثالث
السؤال: وهناك في الموقع:
(http://www.geocities.com/abdullah_moslm/g5.ra)
الجفري يصرح بأن هناك من الأولياء من فوضهم الله في إدارة أمور الكون، وأن عندهم أذن مسبق في التصرف، وأنه بإمكانهم الرزق والإحياء والإماتة؟
الجواب: قوله: (يتصرفون في الكون)، وقوله: (بإمكانهم الرزق، وبإمكانهم الإحياء والإماتة)، هذه ثلاث مسائل كلها شرك في الربوبية.(15/12)
المسألة الأولى: يعتقد أنه يمكن أن الولي يتصرف في الكون، والله سبحانه يقول: ?قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى اللهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ * أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ * أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَاراً وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنْهَاراً وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزاً أَإِلَهٌ مَعَ اللهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ * أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ * أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللهِ تَعَالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ * أَمَّنْ يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ * بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ?[النمل: 59-66].(15/13)
ويقول سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: ?فَسُبْحَانَ اللهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ * وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيّاً وَحِينَ تُظْهِرُونَ * يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ * وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ * وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ * وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ * وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ * وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمْ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنَزِّلُ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِ بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ?[الروم: 17-24].(15/14)
ويقول سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: ?حم * تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنْ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ * مَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ * قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنْ الأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَوَاتِ اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ * وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ?[الأحقاف: 1-6]، الآيات.
ويقول الله سبحانه وتعالى: ?قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ أَرَادَنِي اللهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِي اللهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ?[الزمر:38].
ويقول الله سبحانه وتعالى: ?قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمْ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنْ الأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَاباً فَهُمْ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً إِلاَّ غُرُوراً * إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً?[فاطر: 40-41].(15/15)
فمن الذي يستطيع أن يتصرف في الكون غير الله سبحانه وتعالى: ?بسم الله الرحمن الرحيم * الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ * إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ?[الفاتحة: 1-5]، ? لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ?[الروم:4]، ? لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ?[غافر:16]، ?حم * تَنزِيلٌ مِنْ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ * وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ * قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ?[فصلت: 1-6]، رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يتصرف في الكون ولا غيره من المرسلين: قال الله تعالى: ?قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ?[فصلت:6].
ويقول الله سبحانه وتعالى: ?وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ * تَدْعُونَنِي لأَكْفُرَ بِاللهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ * لا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلا فِي الآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ * فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللهِ إِنَّ اللهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ?[غافر: 41-44].(15/16)
ويقول سبحانه وتعالى: ? وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ * إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ?[فاطر: 13-14]، هذا القطمير؛ اللفافة القشرة التي على التمرة لا يملكونها فضلاً عن أن يتصرفوا في الكون، ويقول سبحانه وتعالى: ?يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوْ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمْ الذُّبَابُ شَيْئاً لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ * مَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ?[الحج: 73-74].
والله هؤلاء المشركون من أمثال الجفري، ما قدروا الله حق قدره، ويقول سبحانه: ?لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلاَّ كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ?[الرعد:14].
مثل ذلك، كإنسان في غاية من العطش، على بئر يمد يده يقول: اصعد يا ماء أريد أن أشرب، لا يصعد الماء، ويبقى في غاية العطش، ويقول الله سبحانه وتعالى: ?يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ * إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ * وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ?[فاطر: 15-17].(15/17)
ويقول الله في كتابه الكريم: ?فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً?[هود:57]، ويقول سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: ? وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ?[محمد:38].
وفي »صحيح مسلم« من حديث أبي ذر رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم كما يروي عن ربه عز وجل أنه قال: »يا عبادي إني حرمت الظلم... « -إلى أن قال-: »يا عبادي إنكم لم تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني، يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أفيكم أياها، فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه«.
المرسلون عليهم الصلاة والسلام، ما أحد يتصرف في الكون، ولا الملائكة، ?قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ?[النمل:65]، ?عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً?[الجن:26]، ?وَمَا كَانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ?[آل عمران:179].
وقال سبحانه في كتابه الكريم: ?ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ?[التحريم:10]. وقال الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم، لما قال نوح: ?رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ?[هود:45]، قال الله له: ? يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ?[هود:46].(15/18)
ولما دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم على أناس من المشركين قال الله عز وجل: ?لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ?[آل عمران:128]، ولما سأل ربه عز وجل في ثلاثة، قال: »سألت ربي ثلاثاً فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة«، فلم يستجب سبحانه كل دعاءه ذلك، قال الله تعالى: ?لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ?[الروم:4]، وقال تعالى: ?الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ * هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمّىً عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ * وَهُوَ اللهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ?[الأنعام: 1-3].
ويقول سبحانه وتعالى: ?قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ?[الأنعام:19].(15/19)
نحن نبرأ إلى الله من الجفري، ومن أقوال الجفري، ومن أفعال الجفري وابن حفيظ، نبرأ إلى الله منهم، ونشهد الله على ضلالهم، ونقول كما قال الله سبحانه: ?بَرَاءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ وَأَنَّ اللهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ * وَأَذَانٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ?[التوبة: 1-3]، وهكذا يقول الله سبحانه وتعالى، عن نبيه إبراهيم عليه الصلاة والسلام: قل إن ?قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ *?[الأنعام: 162-163].
ويقول: ?فَلَمَّا رَأى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ?[الأنعام: 78-79]،
فهذه براءة من الله سبحانه وتعالى، ويجب أن يتبرأ كل مسلم من هذه الأقوال والأفعال، وأن يحذروا ضلال هؤلاء الزائغين، دعاة الشرك والوثنية في هذه الأزمنة، وهم يقولون: (ما في شرك)، هذا عين الشرك الأكبر الذي أنتم فيه.
أنتم تنددون، أنتم تشركون، ثبت من حديث قتيلة رضي الله عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: حين سمعهم قالوا: والكعبة، وقالوا: ما شاء الله وشئت، قال: »إنكم تشركون، إنكم تنددون، تقولون: والكعبة، وتقولون: محمد«،(15/20)
الجفري، وابن حفيظ، ومرعي صاحب الحديدة، وأمثالهم مشركون شركًا أكبر، ويغطون على شركهم؛ بأنه ما هناك شرك، هذا ما أنتم فيه عين شرك المشركين، ووثنية الوثنيين، وزندقة الزنادقة، وفلسفة الفلاسفة، وضلال الضالين، وبُعد البعداء، وزيغ الزائغين، وهلوسة المهلوسين، ودجل الدجاجلة، فما بالكم تموّهون عما أنتم تعلمون.
السؤال الرابع
السائل: وفي موقع:
(http://www.geocities.com/abdullah_moslm/g6.ra)،
الجفري يقول: يمكن للولي الميت أن يدعو للحي، وأن كرامات الأولياء لا حد لها إلا في مسألتين، وهما: أن ينزل عليه كتاب من الله.
الجواب: قوله: (كرامات الأولياء لا حد لها):
أولاً: أن كرامات الصوفية مدّعاة، الصوفية دجاجلة، واقرأوا تلبيس إبليس فيما يصنع الصوفية من ادعاء الكرامات، فقد ذكر ابن الجوزي رحمة الله عليه من تلبيس الشيطان على هؤلاء الدجاجلة، أن بعضهم يكون تارك صلاة ما يصلي، وبعد ذلك يقول لهم: أنا أخطو إلى مكة، وأصلي وأرجع وأنتم ما قد صليتم، وذكر أن بعضهم: أنه أصبح في مزبلة، يعبث به الشيطان.
وهكذا الحلاج الذي يقول: (أنا الله بلا شك، فسبحانك سبحاني، وتوحيدك توحيدي، وعصيانك عصياني)، يدعي أنه عنده كرامة، ويتمالأ مع مريديه، أي: مع طلابه، والصحيح (أنهم المردة)، يتمالأ مع المردة، ويذهبون إلى أماكن يخبئون الحلوى واللحم والماء البارد، وإذا أصبح قالوا: نريد رحلة إلى بلد كذا، أنأخذ ماء، أنأخذ طعاماً يا حبيب؟ قال: لا هذا يخرم التوكل.
أخزاكم الله يا أيها الصوفية، العمل بالسبب يخرم التوكل، وأنبياء الله كانوا يعملون بالسبب، أأنتم أفضل أم أنبياء الله، أليس نبي الله صلى الله عليه وسلم لبس المغفر، أليس الله قد أخبر أن ما نبي إلا وقد جعل له أزواجاً وذرية، وهذا من العمل بالسبب من إنجاب الأولاد، أليس الله يقول لمريم: ?وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً?[مريم:25].(15/21)
وهذا عمل بالسبب، امرأة ما عساها تعمل في النخلة، أليس الله يقول: ? اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ?[الشعراء:63]، ما عسى العصا تفعل بالبحر، ولكنه سبب من الأسباب، أليس النبي صلى الله عليه وسلم يقول: »لو توكلتم على الله حق توكله؛ لرزقكم كما يرزق الطير، تغدوا خماصاً وتروح بطاناً«.
هذا من العمل بالأسباب، ويقول سبحانه وتعالى: ? فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ?[الملك:15]، إلى آخره، وهؤلاء يقولون: هذا يخرم التوكل، ثم ذهبوا وقالوا: جعنا يا حبيب، عطشنا يا حبيب، قال: مكانكم، ويذهب يحفرها ويطلع اللحم، ويطلع الماء الذي قد خبأه من الأمس، ويقول لهم: اشربوا، كرامة!! كرامة!! دجل.
ذكر ابن الجوزي وغيره في ترجمة الحلاج على أن هذا الرجل، كان عنده بركة داخل بيته قد ملأها بالأسماك، وملأها بالطين الحمأة، أي الطين الأسود يعيش فيه الأسماك، وربى له أسماك في البركة، وجاء رجل وقال له: نحن اشتقنا للحم السمك، قال: مكانك، أنا آتيك بالسمك الآن، وذهب وكأنه نزل في بحر من البحور، وأتى به من بحر كذا، وأخرج السمكة من البركة حقه، وأتى بها وما زالت ترتعش، وقال له: من أين أتيت بها؟ قال: هذه من الكرامة، كُل؟ ثم ذهب وكأنه يريد أن يقضي الحاجة، ثم رأى البركة، قال: فنزل وأتى بسمكة أكبر من تلك، فجاء بها، ثم قال له الحلاج: من أين أتيت بها؟ قال: من البحر التي أتيت بالسمكة الأولى منه.
الصوفية عبثوا بنساء المسلمين، وبعقول المسلمين، بأفكار المسلمين، بأموال المسلمين، وقد أثبت عليهم من عايشهم وعرفهم: أنهم كانوا يبتكرون بنساء بعض البلداء، يعتبرونه يباركها بركة، إذا لم تمر بالولي، وتبيت عنده ليلة أو ليلتين تعتبر ما فيها بركة، هذا كرامة.(15/22)
ويذكرون أن واحداً كان عنده كبش، يريد أن يضحي به، فقال له: أين تريد بهذا الكبش، أعطني وإلا جعلته كلباً؟ قال صاحب الكبش: لا تجعله كلباً، وإنما أجعله كبشين، واحد لي وواحد لك.
ومما يذكرون أن أحدهم يعمل الفاحشة بالأتان –أنثى الحمار- فيقولون: ما لك يا حبيب، كيف تفعل هذا؟! يقول: أنا على حقيقة لا تعلمونها، ما هذه الحقيقة؟ قال: لو نزعت لغرقت سفينة في بحر كذا وكذا، وأنا أسد الخرق من هنا، متى يعقل المجتمع زندقة الصوفية، غلاة الصوفية كفرة، لا يمتري في ذلك اثنان ولا تنتطح في ذلك عنزان، واسمع إلى ما يقول الشعراني:
مريدي تمسك بي وكن بي واثقاً ** أحميك في الدنيا ويوم القيامة
فقالوا: أيا هذا تركت صلاتك ** وما علموا أني أصلي بمكة
والله سبحانه وتعالى يقول: ?وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ?[الحجر:99]، يتأولون الآية: يقولون: اليقين أن ينحب فإذا إغمي عليه ارتفع عنه القلم، لا تحسب عليه سيئات، والحقيقة أن هذا اليقين، يقع في يقين الكفر، في ترك الصلاة، وفي ترك التكليف، حتى قال بعضهم: هم معشر حلوا النظام، واخترقوا الاسياج، فلا فرض لديهم ولا نفل.
مجانين غير أن جنونهم ** عزيزاً عند يسجد العقل
هذا يا أخي، قليل من كثير من ضلال هؤلاء الناس، ومن أقوالهم: أنه يمكن للولد أن يخرج من ظهر أبيه صبيًا من غير زواج ولا حمل!.
وقوله: إن كرامات الأولياء لا حد لها إلا في مسألتين.
الجواب: أعظم كرامة: دوام الاستقامة، وأنتم تتكلفون الكذب، وتتكلفون الدجل، فليس لكم كرامة، إن الكريم هو المؤمن المتقي لله سبحانه وتعالى، ?يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ?[الحجرات:13].(15/23)
قال: أتقاكم، ولم يقل: أكرمكم عند الله مشرككم، ولم يقل: ضلالكم، فمن أين لكم التقوى وأنتم تشركون، وأنتم تنددون، وأنتم تفجرون، وأنتم تضلون وتضلون، ما لكم كرامة، بل أنتم مهانون، أهانكم الله بالبدع، يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: ?وَمَنْ يُهِنِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ?[الحج:18].
ويقول سبحانه: ?الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ?[الأنعام:82]، وأنتم أظلم الظلم عندكم؛ لأن الشرك أظلم الظلم، قال الله سبحانه مخبراً عن لقمان: ? يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ?[لقمان:13].
أنتم واقعون في ظلم عظيم، وفي أفرى الفرى على سبحانه وتعالى، فمن أين لكم كرامة، والله سبحانه يقول: ?إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَبذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ?[الأعراف:152].
فمن أين لكم كرامة بعد ذلك كله، دعوكم من التلبيس، لقد لبس زنادقة كثير، مثل الحلاج، ومثل ابن عربي، الذي كان يعتقد أنه الله، يقول: ما في الجبة إلا الله.
وابن سبعين الذي يسمع الشاة تيعر، أو الكلب ينبح، ويقول: سبحانك يا أرحم الراحمين، يعتقد أن الأشياء الموجودة كلها الله سبحانه، والبسطامي كان يقول: سبحاني سبحاني، ما أعظم شاني، الجنة لعبة صبياني.
والذي يقول: أن الكون يتصرف فيه بعض الأولياء، هذا الكلام زندقة، ومثل هؤلاء الزنادقة، أرى أن عندهم نفحة من الحلول.(15/24)
ذكر الغزالي في «إحياء علوم الدين»، الذي ما أجدره بالتحريق: كما أفتى بذلك غير واحد من أهل العلم، أن هذا الكتاب جدير بالتحريق؛ فإن في ذلك الكتاب الكفر الصريح، يقول بعضهم البارحة رأيت الله، قال: يا مسكين أنا رأيت ابن سبعين، والنظر إلى ابن سبعين أفضل من النظر إلى الله سبعين مرة، هذا موجود في »إحياء علوم الدين«، فالناس في غفلة عن ضلال الصوفية، والله ما ضلالهم عن ضلال المكارمة ببعيد، ولا عن ضلال الرافضة ببعيد، كلهم فلاسفة، يختلفون في بعض المسائل، وإلا فالمؤدى واحد، فهل من مدكر، وهل من منكر، وهل من غيور على دين الله عز وجل، هؤلاء ناس يعبثون بعقول المسلمين.
يا حكام المسلمين، الله يقول في كتابه الكريم: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ?[التحريم:6]، ويقول في كتابه الكريم: ?وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ?[آل عمران:104]، فلا فلاح لنا ولكم ولا لسائر الأمة: إلا بإنكار البدع، وهذه المنكرات الفاشية الضارة بالشعوب، كل شر بسبب الذنوب، وما أعظم الذنوب والشرك والبدع، قال تعالى: ?وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ?[الشورى:30]، وقال: ?ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ?[الروم:41].(15/25)
فواجبكم إنكار البدع والمنكرات، يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: ?الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ?[الحج:41]، أنا والله اعتقد أن ذلك جناية على الإسلام والمسلمين، أن يمكن هؤلاء من بث فتنهم وشركياتهم، وبدعهم، وخرفاتهم، في تشويش عقول المساكين، وغشهم وإبعادهم عن الصراط المستقيم، وفي تشويه رونق وجمال الإسلام الحنيف، قال النبي صلى الله عليه وسلم : »بعثت بالحنيفية السمحة«.
والله سبحانه وتعالى يقول في كتابه الكريم: ?وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ?[البينة:5]، وهؤلاء يريدون أن يردوا المجتمعات إلى الشرك، والوثنية، وإن كانوا يصلون، فالصلاة وسائر الأعمال لا تقبل ولا تنفع مع الشرك، قال الله تعالى: ?وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ? [الأنعام:88]، وقال: ?وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ? [الزمر:65]، وقال: ?وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً? [الفرقان:23].(15/26)
الإسلام له نواقض، ولا إله إلا الله لها نواقض، والتوحيد له نواقض إذا حصل شرك انتقض، يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: ? وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ?[البقرة:217]، والردة إنكار وجودها ردة، ارتد أناس من مشركي العرب بعد أن أسلموا، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: »من بدل دينه فاقتلوه«، وقال عليه الصلاة والسلام: »لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة«، فقد يترك الإنسان دينه بكلمة.
قال الله عز وجل: ? وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا?[التوبة:74]، الذي يقول: ما في ردة! وما في شرك! هذا كذاب أشر، الذي يقول: ما في ردة، ما في شرك في هذه الأزمان، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: »لا تقوم الساعة حتى تضطرب أليات نساء دوس على ذي الخلصة«، متفق عليه من حديث أبي هريرة، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم : »لا تقوم الساعة إلا على شرار الخلق«، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم : »لا تذهب الدنيا حتى يمر الرجل بقبر الرجل فيقول: يا ليتني مكانه، وما به إلا الفتن«، ومن أعظم الفتن الشرك بالله، قال الله تعالى: ?وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ?[لأنفال:39]، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم : »لا يأتي عام إلا والذي بعده شر منه، حتى تلقوا ربكم«، أخرجه البخاري من حديث أنس، وهؤلاء الخراصون يلبسون على الناس أنه ما في شرك.(15/27)
والحزبي يقول: ما في حزبية، المشرك يقول: ما في شرك، والزنديق يقول: ما في زندقة، وكثير من المرتدين يقولون: ما في ردة، وكل صاحب باطل يحاول أن يبعد الناس عن إنكار ما هو عليه، وكما يقال:
شكونا إليهم خراب العراق ** فعابوا علينا لحوم البقر
فصرنا كما قيل فيما مضى ** أريها السهى وتريني القمر
هذا حالهم تقول: أنت مشرك، قال: لا، لا يوجد مشرك، الناس الآن يصلون، ويصومون، ويحجون، المنافقون الاعتقاديون كانوا يصومون ويصلون، ويحجون ?إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرا * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً?[النساء: 145-146].
?إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللهَ إِلَّا قَلِيلاً * مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً?[النساء: 142-143] هذا شأنهم.
وقوله: (إن كرامات الأولياء لا حد لها إلا في مسألتين وهما: أن ينزل عليه كتاب من الله).
أولاً: إن كرامات الأولياء لا تتكلف، وتكلفها من شأن الصوفية، ومعنى ذلك أن الله قد يكرم المسلم بالاستقامة، فإذا هداك الله، فاعلم أنه قد هداك الله، على ما دلت عليه الآية: ?أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ?[يونس: 62-63].
فوالله لستم بمكرمين، والله لستم بأولياء، بل أنتم أردياء، وإن كنتم أولياء فليس لله، بل للشيطان.(15/28)
قال الله سبحانه وتعالى: ? وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ?[البقرة:257]، فسائر الكافرين، والمشركين، أولياؤهم الطاغوت، كل من دعى مع الله إله آخراً، فليعلم أن هذا منه كفر؛ قال الله تعالى: ?وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللهِ إِلَهاً آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ?[المؤمنون:117]، ولاحظ قوله: ?إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ? .
باطل! باطل! أن يسكت على شركيات الرافضة والصوفية، حتى لا يقول الجهال: أنت تكفر الناس، الذي يقول: إن واحداً يتصرف في الكون دون الله سبحانه وتعالى هو كافر، مشرك، زنديق، قال الله تعالى: ?قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ * اللهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ?[الإخلاص: 1-4].
السؤال الخامس
السؤال: الجفري يقول: إن مسألة خلق الطفل، من غير أب خلافية بين العلماء، (أي الصوفية)، وأن الولي يمكن أن تخرج روحه من الروضة يتنعم فيها ليغيث من استغاث به؟
الجواب: أما مسألة الاستغاثة فقد سبق بيانها، ولكن نقول: هنيئاً لكنّ أيها البغايا هذه الفتوى، تلفلف لها من الشارع وتقول: هذا خلقه الولي بغير أب، وما أحسن ما قاله ذلك الشاعر:
وقد سمعت بابن قطرة السماء ** خرافة تجلب للقلب العمى
يقال: أن واحداً يقال له ابن قطرة السماء، وكان هناك دجال من الدجاجلة الذين يدعون أنه يمكن أن يخلق طفلاً من غير سبب من الأسباب: (زواج، أو من غير جماع)، أتته امرأة بلبن، فقالت: إن اللبن وقعت فيه قطرة من السماء، قال: اشربيه فإن فيه بركتك، فشربته وحملت بذلك الولي الذي يقال له: ابن قطرة السماء، والله لعل تلك الجارية حملت منه، ثم أدعى بعد ذلك أنها قطرة من السماء، نزلت فحملت تلك المرأة من قطرة.
انظروا يا إخوان على تلاعب بعقول الناس:(15/29)
وقد سمعت بابن قطرة السماء ** خرافة تجلب للقلب العمى
يا أخي، هؤلاء يعبثون بعقول الناس، الله عز وجل هو الذي: ?يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ * أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ?[الشورى: 49-50]، وقال سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: ?وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ?[المؤمنون: 12-14]، وقال: ?ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ?[المؤمنون:16]، ?يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ?[الحج:5].
وفي «الصحيحين»: عن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: »ثم ينفخ فيه الروح، فيأمر بأربع كلمات، بكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أو سعيد، فو الله الذي لا إله إلا هو إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة، حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار، حتى لا يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها«.
وبنحوه في حديث حذيفة بن أسيد، عند مسلم كل هذا يدل على أنه لا يستطيع أحد أن يخلق، قال تعالى: ?أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ?[الطور: 35-36].(15/30)
وقال تعالى: ?أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ * أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ * نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ?[الواقعة: 58-60].
وهذا من ضلال هذا الرجل، أنه يعتقد أنه يمكن أن يخلق الإنسان طفلاً، وهذا لا يمكن لأحد من دون الله أبدًا، قال الله عز وجل: ?أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ?[الأعراف:54]، فهذه من خصائص رب العالمين عز وجل.
قال تعالى: ?وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ?[الزمر:38]، فليس ذلك لأحدٍ من دون الله سبحانه وتعالى ولو ذباباً: ?يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ?[الحج:73].
وفي حديث ابن عباس رضي الله عنهما: »احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك، لن ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك«. (مجرد النفع، فضلاً أنه يخلق)، » ولو اجتمعوا على أن يضروك لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف«، وهكذا قال النبي صلى الله عليه وسلم : »رفع القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يبلغ، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يفيق«.
والشاهد منه: أن هذه أمور عليها كتابة، وموكل فيها ملائكة، وليس كل من جاء خلق من هؤلاء الفجرة، الزائغين الدجاجلة.
فحاصله: أن هذا شرك في الربوبية، عند هذا الرجل شرك في الربوبية، في مسألة الخلق، وفي مسألة الرزق، والله سبحانه وتعالى يقول: ?وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ * فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُون?[الذريات: 22-23].(15/31)
وأما قول الله سبحانه: ?وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً?[النساء:8] أي: أعطوهم، ولن يستطيع أحد أن يرزق أحداً من دون الله، بما لم يرزق الله سبحانه وتعالى، ففي الصحيحين، من حديث معاوية رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: »إنما أنا قاسم والله معطي«، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : »اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد«، ?فَمَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً?[النساء:78]، حقًا إنهم ?صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ?[البقرة:171]، فبذنوبهم طبع الله على قلوبهم، فالرجل كما سمعتم يقول: ممكن للولي أن يخلق طفلاً من غير أب!.
السؤال السادس
قال السائل: وهناك في الموقع:
(http://www.geocities.com/abdullah_moslm/g7.ra):
الجفري يقول: إن العلماء اختلفوا في مسألة أن يخلق الولي الطفل من غير أب، وأن السبب الذي جعل من يقول بامتناع ذلك هو التحّرز على الإنسان، حتى لا تأتي امرأة حامل من الزنا وتقول: من غير أب.
الجواب: أي الجفري ممكن يخلق أولادًا لكن الذي يتورع منه الجفري؛ أنه قد يحصل من البغايا أن تأتي لها بطفل وتقول: هذا خلقه الجفري، وهذا خلقه ابن حفيظ، ?أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ?[الانبياء:67].
السؤال السابع
قال السائل: هناك في الموقع:
(http://www.geocities.com/abdullah_moslm/g9.ra)،
الجفري يقول: بإمكانية رؤية الرسول صلى الله عليه وسلم ، ولكن بعين البصيرة، وأن هناك من الأولياء -أي الأحيا- من يجتمع بالرسول صلى الله عليه وسلم بعد موته يقظة.(15/32)
فأجاب الشيخ: ? إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ?[غافر:56]، هؤلاء الناس بلغ بهم الكبر، على أنه يمكن أن يلتقوا برسول الله صلى الله عليه وسلم بعد موته وهم أحياء، حصلت فتن في زمن علي رضي الله عنه، وفي زمن معاوية رضي الله عنه، وزمن زوجته صلى الله عليه وسلم عائشة رضي الله عنها، حصلت فتن، ما أحد منهم قال: إنه يمكن أن ينادي رسول الله صلى الله عليه وسلم ويراه، أنتم أكرم عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟!! ما رأوا هذا القول، ونعوذ بالله.
الصوفية من هذا أنهم يعتقدون أنه يمكن للولي أن يشافه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويتكلم معه يقظةً، بعين البصيرة، هكذا بالبصر، يقظة يتكلم معه وهذا كلام باطل كما سمعت: قال تعالى: ?إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُون?[الزمر: 30-31].
ويقول الله سبحانه وتعالى: ?وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ?[آل عمران:144].
ويقول الله سبحانه وتعالى: ?كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ?[الرحمن: 26-27]، ويقول الله سبحانه وتعالى: ?كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ?[آل عمران:185].(15/33)
وكم من الأدلة الدالة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد مات، وأنه لا يمكن للميت أن يشافه أو يتكلم مع الأحياء يقظة، فهذا باطل، والله المستعان، ضلالات هؤلاء الناس لا تتناهى، وكفى بضلالاتهم الشرك بالله سبحانه، فلماذا الصحابة يختلفون وكان يكفيهم أن يقولون: يا رسول الله، هات لنا خبر كذا وكذا، والله عزوجل يقول: ?فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ? [يّس:50]، وفي »الصحيحين« أنه يقال للنبي صلى الله عليه وسلم يوم القيامة: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، حتى من ضلالاتهم يقولون في المولد:
مرحبا بك مرحباً ** جد الحسيني مرحبا
وعملوا ذلك (التداخين)، ويقومون يتراقصون، ويزملون ويرحبون برسول الله صلى الله عليه وسلم، بالله ما هذه العقول يا إخوان؟! التي باض فيها الشيطان وفرخ، واحد في المغرب يرحب بالنبي صلى الله عليه وسلم، وواحد في أندونيسيا، بل مئات الناس عندهم موالد، آلاف المساجد عندهم موالد، في اليمن ومصر يرحبون بالنبي صلى الله عليه وسلم تلك الليلة، وآلاف المساجد في السودان، والصومال، وأثيوبيا، وليبيا، وموريتانيا وفي سائر بلدان العالم، وكل واحد يقول: مرحبا بك مرحبا، وهذا مرحبا بك مرحبا، رسول الله صلى الله عليه وسلم واحد بشر، فما هذه العقول؟!.
يأتي عندك أو يأتي عند صاحب أندونيسيا، أو صاحب هذا المسجد، أو عند صاحب هذا المسجد، عقولهم عشعشت عليها المعاصي يقول الله سبحانه وتعالى: ?فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ?[الحج:46]، ويقول: ?أَيُشْرِكُونَ مَا لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ * وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ * وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لا يَسْمَعُوا وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ?[الأعراف: 191-198].(15/34)
ويقول الله: ?وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَاباً مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ * لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ?[الحجر: 14-15].
ويقول الله تعالى في كتابه الكريم عن ضلالهم: ?وَإِذْ قَالُوا اللهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ?[الأنفال:32].
ويقول الله سبحانه: ?إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ * إِنَّ وَلِيِّيَ اللهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ?[الأعراف: 194-196].
ومن ضلال هذا الرجل قوله: (ممكن لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يغيث في اللحظة الواحدة ملايين الناس، وهو ميت)، والله لو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حياً لجاهد أمثال هؤلاء الناس، فقد جاهد المشركين على أقوالهم وأفعالهم تلك التي قالوها مثل هذا القول، والله لو كان علي بن أبي طالب رضي الله عنه حياً لجاهدهم كما جاهد ابن سبأ الذي قال: (أنت الله)، أله علي بن أبي طالب، واعتقد عبد الله بن سبأ، وجماعة عبد الله بن سبأ، أنه إله، فحفر الخنادق وأوقد النيران فيها، وأتى بهم فألقاهم في تلك النيران، وجاء أنه قال:
لما رأيت الأمر أمراً منكراً ** أججت ناري ودعوت قنبرا(15/35)
نسأل الله السلامة والعافية، قلنا هذا: ليهلك من هلك عن بينة وإن الله لسميع عليم، ?هَذَا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ? [إبراهيم:52]، ? فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ?[يونس:32] ?بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ?[الأنبياء:18]، ?وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً?[الإسراء:81].
ونبرأ إلى الله من الشرك، والمشركين، والحمد لله رب العالمين.(15/36)
الأدلة الزكية
في بيان أقوال الجفري الشركية
تأليف
أبي عبد الرحمن: يحيى بن علي الحجوري
حفظه الله تعالى
إعادة تنسيق الكتاب
أبو عمر الدوسري
المقدمة
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهديه الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:
?يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً?[النساء:1].
?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً?[الأحزاب: 70-71].
أما بعد:
فيقول الله عز وجل في كتابه الكريم: ? ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ ?[محمد:4].(16/1)
ويقول سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: ?وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ?[محمد:31]، ويقول سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: ?أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ?[آل عمران:142]، ويقول الله في كتابه الكريم: ?وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللهِ مَا لا يَرْجُونَ?[النساء:104]. ويقول الله عز وجل: ?هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُوسِهِمُ الْحَمِيمُ * يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ * وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ?[الحج: 19-21].
فمن هذه الأدلة يُعلم، أنه لا بد أن يكون بين الحق والباطل صراع، وأنه لا يخلو زمن من الأزمان، ولا حقبة من الحقب، ولا فترة من الفترات من وجود من يعبد الله، ومن يعبد غير الله، ومن يدعو الله، ومن يدعو غير الله، ومن يوحد الله، ومن يشرك بالله إلى قيام الساعة، كما يقول الله سبحانه: ? وَاللهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ?[البقرة:220].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي: »أنت الجنة رحمتي، أرحم بك من أشاء، وأنت النار عذابي أعذب بك من أشاء ولكليكما عليّ ملؤها«.(16/2)
والنار وقودها الناس والحجارة، ? وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ?[البقرة:24]، وبعد هذا فإننا نلاحظ ونسمع، شركاً صريحاً وغلواً قبيحاً، وفتنة واضحة، ودعوة إلى الوثنية، من أوباش الصوفية، في هذه الأزمنة، وهم من حيث الجملة، الصوفية أموات بمعاصيهم، وأموات بشركياتهم، وأموات ببدعهم وخرافاتهم، وإن كانوا يعيشون يأكلون ويشربون، لكن كما قيل:
ليس من مات فاستراح بميت ** إنما الميت ميت الأحياء
إنما الميت من يعيش كئيباً ** كاسف باله قليل الرجاء
وهذا لا شك أنه يعيش في نكد المعاصي، ?وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ?[يونس:27]، وقد استجرى بهم الشيطان، وركب كواهلهم إلى الغلو الشديد، فيما يسمونهم بالأولياء، والإطراء الشديد في حق من يعتقدون فيهم الولاية، فأشركوهم ونددوهم بالله سبحانه وتعالى، وقد علمتهم أن هذه الخصلة من الرافضة والصوفية تعتبر نظير فعل اليهود والنصارى.
فالغلو هو شأن اليهود والنصارى كما هو مذكور في كتاب الله عز وجل، وفي سنة رسول الله صلى الله علي وسلم، يقول الله سبحانه وتعالى: ?يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ ?[النساء:171]، فذم الله أهل الكتاب، الذين ذكرهم الله في هذه الآية بغلوهم، وقال سبحانه: ?قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ?[المائدة:77].(16/3)
وأبان الله سبحانه غلوهم فقال: ?لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرائيلَ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ * لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ * قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً وَاللهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ?[المائدة: 72-76].
فأبان الله عز وجل، أن هذه تعتبر من أهل الكتاب عبادة لغير الله سبحانه، هذا الغلو الذي غلوه في عيسى عليه الصلاة والسلام، يعتبر عبادة من دون الله، قال الله تعالى: ?اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ * يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ?[التوبة: 31-33].(16/4)
فأبان الله سبحانه في هذه الآيات، أن اتخاذهم الأحبار والرهبان أربابًا من دون الله، وأن غلوهم في أولئك الأشخاص، من الأنبياء عليهم صلوات الله وسلامه، أو من غيرهم، أن هذا يعتبر شركاً منهم بالله سبحانه وتعالى، فحملهم غلوهم هذا على الشرك والتنديد، والضلال البعيد، ولهذا ترى رسول الله صلى الله عليه وسلم يحذر من الغلو، قال: »لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم، فإنما أنا عبد الله رسوله، فقولوا: عبد الله رسوله«، والحديث في الصحيح، وهكذا قال رجل: يا سيدنا، وابن سيدنا، ويا خيرنا وابن خيرنا، قال عليه الصلاة والسلام: »أيها الناس، قولوا بقولكم الأول ولا يستجرينكم الشيطان، إنما أنا عبد الله ورسوله، فقولوا: عبد الله ورسوله«.
وكفى شرفاً بمقام العبودية لله عز وجل، فقد وصف الله سبحانه وتعالى، أنبياءه بالعبودية في أشرف المقامات، قال سبحانه: ?سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى?[الإسراء:1]، ففي مقام الإسراء، وهو يصفه بالعبودية لله سبحانه وتعالى، وأنه عبد الله، ?وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً?[الجن:19].
وفي مقام الدعاء قال: ?وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ * إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ * وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ?[صّ:45-47].
وقال تعالى: ?إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً?[مريم: 93-95].(16/5)
فما من إنسان في هذه الحياة الدنيا من جن أو إنس، إلا وإن الله سبحانه وتعالى خلقه لعبادته، قال الله سبحانه: ?وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ?[الذاريات: 56-58].
وقال سبحانه: ?وَاعْبُدُوا اللهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً?[النساء:36].
وقال: ?يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ?[البقرة: 21-22].
وقال تعالى: ?قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً?[الأنعام:151] إلى آخر الآيات.
وفي سورة الفاتحة: ?الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ * إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ * اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ?[الفاتحة: 2-7]، ?إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ?[الفاتحة:5].
وما أرسل الله رسله، ولا أنزل كتبه إلا لتوحيده، وللدعوة إلى توحيده، وبيان توحيده سبحانه وتعالى، والتحذير من الشرك به.(16/6)
يقول الله: ?وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ?[الانبياء:25].
ويقول الله سبحانه وتعالى: ?وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ?[الاحقاف:21].
ويقول الله سبحانه وتعالى: ?وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ?[النحل:36]، فخلقنا الله سبحانه وتعالى لعبادته، لا عبادة البشر، ولا للشرك به والتنديد به، ولكن هؤلاء القوم غلوهم أدى بهم إلى مكان سحيق من الضلال، حتى اعتقدوا أن الولي يتصرف في الكون، كما سيمر بنا في بعض هذه الفقرات، التي يقولها علي الجفري، والذي له رواج نخشى صولته الضالة، وفتنه العمياء على عوام الناس ودهمائهم، وهذا والله من المنكر الذي لا يجوز السكوت عليه، لا من المسئولين، ولا من العلماء، ولا من أي غيور على دين الله الحق، فإن هذا هو شرك قريش الذين كانوا يدعون إليه نفس الفكر، بل إن المشركين الذين كانوا على شرك بالله سبحانه وتعالى: كانوا يجأرون في الشدائد إلى غير الله، إلى الحبيب فلان، والولي فلان، والله المستعان، قال تعالى: ? ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ?[النحل:53].(16/7)
وهذه عدة نقاط موثقة، من روابطها من شبكات الانترنت، وقد سمعت صوته بأذني وهو يقول هذه الفقرات، اكتفينا بالعزو إلى الروابط المذكورة من الشبكة (الانترنت) التي نشرت كلام هذا الفاجر الأثيم، وهو علي الجفري، وأيضاً نظير أقواله، أقوال عمر بن حفيظ، له كلام يبيح فيه دعاء غير الله سبحانه وتعالى، وعندي شريط في ذلك من أقواله، وله كلام في رسالة صغيرة تسمى بالتوحيد، وهو عن التوحيد بعيد، يقول فيها: إن القرآن لا يوصف بأنه عربي، والله عز وجل يقول: ?بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ?[الشعراء:195]، ويقول: ?إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ?[يوسف:2]، ويقول: ?وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ?[إبراهيم:4]، ورسول الله صلى الله عليه وسلم عربي، وإلى بيان هذه الفقرات، الظالم أهلها:
السؤال الأول
السائل: يقول في موقع:
(http://www.geocities.com/abdullah_moslm/g3.ra)،
الجفري يقول: أنه لا يستغرب خروج روح الميت لكي تنفع من يستغيث بها بإذن الله؟
الجواب: هذا الكلام فيه ثلاث ضلالات
الأولى: يقول: لا يستغرب خروج روح الميت بعد موته، لكي تنفع بإذن الله من يستغيث به، وهذا فيه دعوة إلى الاستغاثة بالأموات.
والاستغاثة بالأموات: هي دعاء غير الله سبحانه وتعالى، مع تلهف أيضاً، قال الله عز وجل: ?إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ?[الأنفال:9]، فالاستغاثة لا تكون إلا بالله سبحانه وتعالى، لا تكون بالأموات؛ فإن الأموات لا يستطيعون أن يغيثوا في شيء من الأشياء بعد موتهم، لقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: ?فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ?[يّس:50].(16/8)
ولقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: ?قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً إِلَّا مَا شَاءَ اللهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ?[الأعراف:188]، ولقول الله سبحانه وتعالى: ?فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ?[الروم:52] ولقوله سبحانه: ?وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ?[فاطر:22] ولقول الله سبحانه: ?وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ?[يونس:107].
الضلالة الثانية: أن هذا قول بالرجعة وربنا سبحانه وتعالى يقول: ?حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ * فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ?[المؤمنون: 99-103].(16/9)
ويقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: ?وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ * فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ?[الملك: 10-11]، ففي هذه الآية أنهم ليس لهم رجوع، وليس لهم إلا السحق، ويقول: ?أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ * أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ * أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ * أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ * بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ * وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ?[الزمر: 56-60].
فهذه الآيات تدل على أنه ليس بعد الموت كرة رجوع، وقال تعالى عن أهل النار: ?قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ? [غافر:11]، وقال عن أهل النار: ?وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ? [الزخرف:77]، وقال تعال: ?فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ? [يّس:50].
وقال الصديق رضي الله عنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم لما مات: بأبي أنت وأمي، أما الموتة الأولى فقد ذقتها، ولن تذوق بعدها موتة أخرى.(16/10)
لا رجوع بعد الموت، وبعد مفارقة الروح للجسد، النبي صلى الله عليه وسلم يقول: »ما أحد يموت فيدخل الجنة، يتمنى أن يعود إلى الدنيا وله مثل الدنيا عشر مرات، إلا الشهيد، فإنه يتنمى أن يعود إلى الدنيا فيقتل عشر مرات لما يرى من الكرامة«. يتمنى أن يعود فلا يعود إلى الدنيا، فاعتقاد الرجعة، اتفق فيها الصوفية والروافض؛ ولذلك صار من ضلال الرافضة أن بعض آل البيت يرجعون إلى الحياة ثم يقتلون من ولي الخلافة، من غير آل البيت، فهذا اعتقاد الرجعة، والصوفية هم أحفاد الرافضة، وأحفاد الرهابين في هذه الأفكار، جمعوا بين ضلال النصارى، فإن ديدن الصوفية، نفس ديدن النصارى والرهابين في البدع والخرافات.
قال الله عن النصارى: ?وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ ? [الحديد:27]، يذكر أهل العلم أنهم أخذوا دينهم عن الرافضة؛ في كثير من البدع والخرافات، والشركيات، يتفقون فيها.
الضلالة الثالثة: أن الأموات من المسلمين بحاجة إلى الدعاء، النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا مر بالمقابر قال: »السلام عليكم دار قوم مؤمنون، وإن شاء الله بكم لاحقون، ونسأل الله لنا ولكم العافية«، أما القول أن الميت هو الذي يرجع، أو روحه ترجع، ويغيث الأحياء، فهذه دعوة إلى الشرك والوثنية، وإلى دعاء غير الله سبحانه وتعالى يقول الله في كتابه الكريم: ?وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللهِ إِلَهاً آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ?[المؤمنون:117]، ويقول: ?وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ * وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ? [الاحقاف:5-6].
السؤال الثاني
السؤال: وهناك في موقع:
http://www.geocities.com/abdullah_moslm/g4.ra))،(16/11)
الجفري يقول: أن الأموات يغيثون بأرواحهم، من يستغيث بهم، ولا يمنع في اعتقاده أن يخرج جسد من قبره؟
الجواب: هذا باطل، وهذا كذب، وهذا معاندة للقرآن والسنة، مما قد تلونا ومن قول النبي صلى الله عليه وسلم: »إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك«، ومن قول النبي صلى الله عليه وسلم: »ما من ميت إلا ويعرض عليه مكانه، من الجنة أو النار، فيقال: هذا مكانك من النار، أو هذا مكانك في الجنة إلى يوم القيامة«، الحديث أخرجه الشيخان عن ابن عمر، وثبت من حديث أوس بن أوس، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: »أكثروا عليّ يوم الجمعة من الصلاة، فإن صلاتكم معروضة عليّ« قالوا: يا رسول الله، كيف نصلي عليك وقد أرمت، أي بليت، قال: »فإن الأرض لا تأكل أجساد الأنبياء«.
والشاهد من هذا أنها حياة برزخية تختلف عن الحياة الدنيا، وأيضاً الشاهد من هذا »أرمت« أي: بليت، وسائر الأموات بعد موته بأيام ينفطر وتتقطع أوصاله، وتتمزق أشلاؤه، ولا يبقى إلا عجب الذنب منه يركب الإنسان إذا نفخ في الصور، كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وكما قال الله عز وجل: ?وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ?[الزمر:68].
أما أن يعتقد أنهم ينفعون أو يضرون، أو أنهم كذلك يجيبون الأحياء، وينفعونهم، فهذا باطل لا دليل عليه، وهو من عقيدة أهل الضلال من الصوفية وأضرابهم، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
السؤال الثالث
السؤال: وهناك في الموقع:
(http://www.geocities.com/abdullah_moslm/g5.ra)
الجفري يصرح بأن هناك من الأولياء من فوضهم الله في إدارة أمور الكون، وأن عندهم أذن مسبق في التصرف، وأنه بإمكانهم الرزق والإحياء والإماتة؟
الجواب: قوله: (يتصرفون في الكون)، وقوله: (بإمكانهم الرزق، وبإمكانهم الإحياء والإماتة)، هذه ثلاث مسائل كلها شرك في الربوبية.(16/12)
المسألة الأولى: يعتقد أنه يمكن أن الولي يتصرف في الكون، والله سبحانه يقول: ?قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى اللهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ * أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ * أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَاراً وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنْهَاراً وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزاً أَإِلَهٌ مَعَ اللهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ * أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ * أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللهِ تَعَالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ * أَمَّنْ يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ * بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ?[النمل: 59-66].(16/13)
ويقول سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: ?فَسُبْحَانَ اللهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ * وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيّاً وَحِينَ تُظْهِرُونَ * يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ * وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ * وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ * وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ * وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ * وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمْ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنَزِّلُ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِ بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ?[الروم: 17-24].(16/14)
ويقول سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: ?حم * تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنْ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ * مَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ * قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنْ الأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَوَاتِ اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ * وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ?[الأحقاف: 1-6]، الآيات.
ويقول الله سبحانه وتعالى: ?قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ أَرَادَنِي اللهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِي اللهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ?[الزمر:38].
ويقول الله سبحانه وتعالى: ?قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمْ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنْ الأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَاباً فَهُمْ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً إِلاَّ غُرُوراً * إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً?[فاطر: 40-41].(16/15)
فمن الذي يستطيع أن يتصرف في الكون غير الله سبحانه وتعالى: ?بسم الله الرحمن الرحيم * الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ * إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ?[الفاتحة: 1-5]، ? لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ?[الروم:4]، ? لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ?[غافر:16]، ?حم * تَنزِيلٌ مِنْ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ * وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ * قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ?[فصلت: 1-6]، رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يتصرف في الكون ولا غيره من المرسلين: قال الله تعالى: ?قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ?[فصلت:6].
ويقول الله سبحانه وتعالى: ?وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ * تَدْعُونَنِي لأَكْفُرَ بِاللهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ * لا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلا فِي الآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ * فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللهِ إِنَّ اللهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ?[غافر: 41-44].(16/16)
ويقول سبحانه وتعالى: ? وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ * إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ?[فاطر: 13-14]، هذا القطمير؛ اللفافة القشرة التي على التمرة لا يملكونها فضلاً عن أن يتصرفوا في الكون، ويقول سبحانه وتعالى: ?يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوْ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمْ الذُّبَابُ شَيْئاً لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ * مَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ?[الحج: 73-74].
والله هؤلاء المشركون من أمثال الجفري، ما قدروا الله حق قدره، ويقول سبحانه: ?لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلاَّ كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ?[الرعد:14].
مثل ذلك، كإنسان في غاية من العطش، على بئر يمد يده يقول: اصعد يا ماء أريد أن أشرب، لا يصعد الماء، ويبقى في غاية العطش، ويقول الله سبحانه وتعالى: ?يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ * إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ * وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ?[فاطر: 15-17].(16/17)
ويقول الله في كتابه الكريم: ?فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً?[هود:57]، ويقول سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: ? وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ?[محمد:38].
وفي »صحيح مسلم« من حديث أبي ذر رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم كما يروي عن ربه عز وجل أنه قال: »يا عبادي إني حرمت الظلم... « -إلى أن قال-: »يا عبادي إنكم لم تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني، يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أفيكم أياها، فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه«.
المرسلون عليهم الصلاة والسلام، ما أحد يتصرف في الكون، ولا الملائكة، ?قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ?[النمل:65]، ?عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً?[الجن:26]، ?وَمَا كَانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ?[آل عمران:179].
وقال سبحانه في كتابه الكريم: ?ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ?[التحريم:10]. وقال الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم، لما قال نوح: ?رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ?[هود:45]، قال الله له: ? يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ?[هود:46].(16/18)
ولما دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم على أناس من المشركين قال الله عز وجل: ?لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ?[آل عمران:128]، ولما سأل ربه عز وجل في ثلاثة، قال: »سألت ربي ثلاثاً فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة«، فلم يستجب سبحانه كل دعاءه ذلك، قال الله تعالى: ?لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ?[الروم:4]، وقال تعالى: ?الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ * هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمّىً عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ * وَهُوَ اللهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ?[الأنعام: 1-3].
ويقول سبحانه وتعالى: ?قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ?[الأنعام:19].(16/19)
نحن نبرأ إلى الله من الجفري، ومن أقوال الجفري، ومن أفعال الجفري وابن حفيظ، نبرأ إلى الله منهم، ونشهد الله على ضلالهم، ونقول كما قال الله سبحانه: ?بَرَاءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ وَأَنَّ اللهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ * وَأَذَانٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ?[التوبة: 1-3]، وهكذا يقول الله سبحانه وتعالى، عن نبيه إبراهيم عليه الصلاة والسلام: قل إن ?قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ *?[الأنعام: 162-163].
ويقول: ?فَلَمَّا رَأى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ?[الأنعام: 78-79]،
فهذه براءة من الله سبحانه وتعالى، ويجب أن يتبرأ كل مسلم من هذه الأقوال والأفعال، وأن يحذروا ضلال هؤلاء الزائغين، دعاة الشرك والوثنية في هذه الأزمنة، وهم يقولون: (ما في شرك)، هذا عين الشرك الأكبر الذي أنتم فيه.
أنتم تنددون، أنتم تشركون، ثبت من حديث قتيلة رضي الله عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: حين سمعهم قالوا: والكعبة، وقالوا: ما شاء الله وشئت، قال: »إنكم تشركون، إنكم تنددون، تقولون: والكعبة، وتقولون: محمد«،(16/20)
الجفري، وابن حفيظ، ومرعي صاحب الحديدة، وأمثالهم مشركون شركًا أكبر، ويغطون على شركهم؛ بأنه ما هناك شرك، هذا ما أنتم فيه عين شرك المشركين، ووثنية الوثنيين، وزندقة الزنادقة، وفلسفة الفلاسفة، وضلال الضالين، وبُعد البعداء، وزيغ الزائغين، وهلوسة المهلوسين، ودجل الدجاجلة، فما بالكم تموّهون عما أنتم تعلمون.
السؤال الرابع
السائل: وفي موقع:
(http://www.geocities.com/abdullah_moslm/g6.ra)،
الجفري يقول: يمكن للولي الميت أن يدعو للحي، وأن كرامات الأولياء لا حد لها إلا في مسألتين، وهما: أن ينزل عليه كتاب من الله.
الجواب: قوله: (كرامات الأولياء لا حد لها):
أولاً: أن كرامات الصوفية مدّعاة، الصوفية دجاجلة، واقرأوا تلبيس إبليس فيما يصنع الصوفية من ادعاء الكرامات، فقد ذكر ابن الجوزي رحمة الله عليه من تلبيس الشيطان على هؤلاء الدجاجلة، أن بعضهم يكون تارك صلاة ما يصلي، وبعد ذلك يقول لهم: أنا أخطو إلى مكة، وأصلي وأرجع وأنتم ما قد صليتم، وذكر أن بعضهم: أنه أصبح في مزبلة، يعبث به الشيطان.
وهكذا الحلاج الذي يقول: (أنا الله بلا شك، فسبحانك سبحاني، وتوحيدك توحيدي، وعصيانك عصياني)، يدعي أنه عنده كرامة، ويتمالأ مع مريديه، أي: مع طلابه، والصحيح (أنهم المردة)، يتمالأ مع المردة، ويذهبون إلى أماكن يخبئون الحلوى واللحم والماء البارد، وإذا أصبح قالوا: نريد رحلة إلى بلد كذا، أنأخذ ماء، أنأخذ طعاماً يا حبيب؟ قال: لا هذا يخرم التوكل.
أخزاكم الله يا أيها الصوفية، العمل بالسبب يخرم التوكل، وأنبياء الله كانوا يعملون بالسبب، أأنتم أفضل أم أنبياء الله، أليس نبي الله صلى الله عليه وسلم لبس المغفر، أليس الله قد أخبر أن ما نبي إلا وقد جعل له أزواجاً وذرية، وهذا من العمل بالسبب من إنجاب الأولاد، أليس الله يقول لمريم: ?وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً?[مريم:25].(16/21)
وهذا عمل بالسبب، امرأة ما عساها تعمل في النخلة، أليس الله يقول: ? اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ?[الشعراء:63]، ما عسى العصا تفعل بالبحر، ولكنه سبب من الأسباب، أليس النبي صلى الله عليه وسلم يقول: »لو توكلتم على الله حق توكله؛ لرزقكم كما يرزق الطير، تغدوا خماصاً وتروح بطاناً«.
هذا من العمل بالأسباب، ويقول سبحانه وتعالى: ? فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ?[الملك:15]، إلى آخره، وهؤلاء يقولون: هذا يخرم التوكل، ثم ذهبوا وقالوا: جعنا يا حبيب، عطشنا يا حبيب، قال: مكانكم، ويذهب يحفرها ويطلع اللحم، ويطلع الماء الذي قد خبأه من الأمس، ويقول لهم: اشربوا، كرامة!! كرامة!! دجل.
ذكر ابن الجوزي وغيره في ترجمة الحلاج على أن هذا الرجل، كان عنده بركة داخل بيته قد ملأها بالأسماك، وملأها بالطين الحمأة، أي الطين الأسود يعيش فيه الأسماك، وربى له أسماك في البركة، وجاء رجل وقال له: نحن اشتقنا للحم السمك، قال: مكانك، أنا آتيك بالسمك الآن، وذهب وكأنه نزل في بحر من البحور، وأتى به من بحر كذا، وأخرج السمكة من البركة حقه، وأتى بها وما زالت ترتعش، وقال له: من أين أتيت بها؟ قال: هذه من الكرامة، كُل؟ ثم ذهب وكأنه يريد أن يقضي الحاجة، ثم رأى البركة، قال: فنزل وأتى بسمكة أكبر من تلك، فجاء بها، ثم قال له الحلاج: من أين أتيت بها؟ قال: من البحر التي أتيت بالسمكة الأولى منه.
الصوفية عبثوا بنساء المسلمين، وبعقول المسلمين، بأفكار المسلمين، بأموال المسلمين، وقد أثبت عليهم من عايشهم وعرفهم: أنهم كانوا يبتكرون بنساء بعض البلداء، يعتبرونه يباركها بركة، إذا لم تمر بالولي، وتبيت عنده ليلة أو ليلتين تعتبر ما فيها بركة، هذا كرامة.(16/22)
ويذكرون أن واحداً كان عنده كبش، يريد أن يضحي به، فقال له: أين تريد بهذا الكبش، أعطني وإلا جعلته كلباً؟ قال صاحب الكبش: لا تجعله كلباً، وإنما أجعله كبشين، واحد لي وواحد لك.
ومما يذكرون أن أحدهم يعمل الفاحشة بالأتان –أنثى الحمار- فيقولون: ما لك يا حبيب، كيف تفعل هذا؟! يقول: أنا على حقيقة لا تعلمونها، ما هذه الحقيقة؟ قال: لو نزعت لغرقت سفينة في بحر كذا وكذا، وأنا أسد الخرق من هنا، متى يعقل المجتمع زندقة الصوفية، غلاة الصوفية كفرة، لا يمتري في ذلك اثنان ولا تنتطح في ذلك عنزان، واسمع إلى ما يقول الشعراني:
مريدي تمسك بي وكن بي واثقاً ** أحميك في الدنيا ويوم القيامة
فقالوا: أيا هذا تركت صلاتك ** وما علموا أني أصلي بمكة
والله سبحانه وتعالى يقول: ?وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ?[الحجر:99]، يتأولون الآية: يقولون: اليقين أن ينحب فإذا إغمي عليه ارتفع عنه القلم، لا تحسب عليه سيئات، والحقيقة أن هذا اليقين، يقع في يقين الكفر، في ترك الصلاة، وفي ترك التكليف، حتى قال بعضهم: هم معشر حلوا النظام، واخترقوا الاسياج، فلا فرض لديهم ولا نفل.
مجانين غير أن جنونهم ** عزيزاً عند يسجد العقل
هذا يا أخي، قليل من كثير من ضلال هؤلاء الناس، ومن أقوالهم: أنه يمكن للولد أن يخرج من ظهر أبيه صبيًا من غير زواج ولا حمل!.
وقوله: إن كرامات الأولياء لا حد لها إلا في مسألتين.
الجواب: أعظم كرامة: دوام الاستقامة، وأنتم تتكلفون الكذب، وتتكلفون الدجل، فليس لكم كرامة، إن الكريم هو المؤمن المتقي لله سبحانه وتعالى، ?يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ?[الحجرات:13].(16/23)
قال: أتقاكم، ولم يقل: أكرمكم عند الله مشرككم، ولم يقل: ضلالكم، فمن أين لكم التقوى وأنتم تشركون، وأنتم تنددون، وأنتم تفجرون، وأنتم تضلون وتضلون، ما لكم كرامة، بل أنتم مهانون، أهانكم الله بالبدع، يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: ?وَمَنْ يُهِنِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ?[الحج:18].
ويقول سبحانه: ?الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ?[الأنعام:82]، وأنتم أظلم الظلم عندكم؛ لأن الشرك أظلم الظلم، قال الله سبحانه مخبراً عن لقمان: ? يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ?[لقمان:13].
أنتم واقعون في ظلم عظيم، وفي أفرى الفرى على سبحانه وتعالى، فمن أين لكم كرامة، والله سبحانه يقول: ?إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَبذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ?[الأعراف:152].
فمن أين لكم كرامة بعد ذلك كله، دعوكم من التلبيس، لقد لبس زنادقة كثير، مثل الحلاج، ومثل ابن عربي، الذي كان يعتقد أنه الله، يقول: ما في الجبة إلا الله.
وابن سبعين الذي يسمع الشاة تيعر، أو الكلب ينبح، ويقول: سبحانك يا أرحم الراحمين، يعتقد أن الأشياء الموجودة كلها الله سبحانه، والبسطامي كان يقول: سبحاني سبحاني، ما أعظم شاني، الجنة لعبة صبياني.
والذي يقول: أن الكون يتصرف فيه بعض الأولياء، هذا الكلام زندقة، ومثل هؤلاء الزنادقة، أرى أن عندهم نفحة من الحلول.(16/24)
ذكر الغزالي في «إحياء علوم الدين»، الذي ما أجدره بالتحريق: كما أفتى بذلك غير واحد من أهل العلم، أن هذا الكتاب جدير بالتحريق؛ فإن في ذلك الكتاب الكفر الصريح، يقول بعضهم البارحة رأيت الله، قال: يا مسكين أنا رأيت ابن سبعين، والنظر إلى ابن سبعين أفضل من النظر إلى الله سبعين مرة، هذا موجود في »إحياء علوم الدين«، فالناس في غفلة عن ضلال الصوفية، والله ما ضلالهم عن ضلال المكارمة ببعيد، ولا عن ضلال الرافضة ببعيد، كلهم فلاسفة، يختلفون في بعض المسائل، وإلا فالمؤدى واحد، فهل من مدكر، وهل من منكر، وهل من غيور على دين الله عز وجل، هؤلاء ناس يعبثون بعقول المسلمين.
يا حكام المسلمين، الله يقول في كتابه الكريم: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ?[التحريم:6]، ويقول في كتابه الكريم: ?وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ?[آل عمران:104]، فلا فلاح لنا ولكم ولا لسائر الأمة: إلا بإنكار البدع، وهذه المنكرات الفاشية الضارة بالشعوب، كل شر بسبب الذنوب، وما أعظم الذنوب والشرك والبدع، قال تعالى: ?وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ?[الشورى:30]، وقال: ?ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ?[الروم:41].(16/25)
فواجبكم إنكار البدع والمنكرات، يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: ?الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ?[الحج:41]، أنا والله اعتقد أن ذلك جناية على الإسلام والمسلمين، أن يمكن هؤلاء من بث فتنهم وشركياتهم، وبدعهم، وخرفاتهم، في تشويش عقول المساكين، وغشهم وإبعادهم عن الصراط المستقيم، وفي تشويه رونق وجمال الإسلام الحنيف، قال النبي صلى الله عليه وسلم : »بعثت بالحنيفية السمحة«.
والله سبحانه وتعالى يقول في كتابه الكريم: ?وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ?[البينة:5]، وهؤلاء يريدون أن يردوا المجتمعات إلى الشرك، والوثنية، وإن كانوا يصلون، فالصلاة وسائر الأعمال لا تقبل ولا تنفع مع الشرك، قال الله تعالى: ?وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ? [الأنعام:88]، وقال: ?وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ? [الزمر:65]، وقال: ?وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً? [الفرقان:23].(16/26)
الإسلام له نواقض، ولا إله إلا الله لها نواقض، والتوحيد له نواقض إذا حصل شرك انتقض، يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: ? وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ?[البقرة:217]، والردة إنكار وجودها ردة، ارتد أناس من مشركي العرب بعد أن أسلموا، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: »من بدل دينه فاقتلوه«، وقال عليه الصلاة والسلام: »لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة«، فقد يترك الإنسان دينه بكلمة.
قال الله عز وجل: ? وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا?[التوبة:74]، الذي يقول: ما في ردة! وما في شرك! هذا كذاب أشر، الذي يقول: ما في ردة، ما في شرك في هذه الأزمان، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: »لا تقوم الساعة حتى تضطرب أليات نساء دوس على ذي الخلصة«، متفق عليه من حديث أبي هريرة، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم : »لا تقوم الساعة إلا على شرار الخلق«، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم : »لا تذهب الدنيا حتى يمر الرجل بقبر الرجل فيقول: يا ليتني مكانه، وما به إلا الفتن«، ومن أعظم الفتن الشرك بالله، قال الله تعالى: ?وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ?[لأنفال:39]، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم : »لا يأتي عام إلا والذي بعده شر منه، حتى تلقوا ربكم«، أخرجه البخاري من حديث أنس، وهؤلاء الخراصون يلبسون على الناس أنه ما في شرك.(16/27)
والحزبي يقول: ما في حزبية، المشرك يقول: ما في شرك، والزنديق يقول: ما في زندقة، وكثير من المرتدين يقولون: ما في ردة، وكل صاحب باطل يحاول أن يبعد الناس عن إنكار ما هو عليه، وكما يقال:
شكونا إليهم خراب العراق ** فعابوا علينا لحوم البقر
فصرنا كما قيل فيما مضى ** أريها السهى وتريني القمر
هذا حالهم تقول: أنت مشرك، قال: لا، لا يوجد مشرك، الناس الآن يصلون، ويصومون، ويحجون، المنافقون الاعتقاديون كانوا يصومون ويصلون، ويحجون ?إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرا * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً?[النساء: 145-146].
?إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللهَ إِلَّا قَلِيلاً * مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً?[النساء: 142-143] هذا شأنهم.
وقوله: (إن كرامات الأولياء لا حد لها إلا في مسألتين وهما: أن ينزل عليه كتاب من الله).
أولاً: إن كرامات الأولياء لا تتكلف، وتكلفها من شأن الصوفية، ومعنى ذلك أن الله قد يكرم المسلم بالاستقامة، فإذا هداك الله، فاعلم أنه قد هداك الله، على ما دلت عليه الآية: ?أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ?[يونس: 62-63].
فوالله لستم بمكرمين، والله لستم بأولياء، بل أنتم أردياء، وإن كنتم أولياء فليس لله، بل للشيطان.(16/28)
قال الله سبحانه وتعالى: ? وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ?[البقرة:257]، فسائر الكافرين، والمشركين، أولياؤهم الطاغوت، كل من دعى مع الله إله آخراً، فليعلم أن هذا منه كفر؛ قال الله تعالى: ?وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللهِ إِلَهاً آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ?[المؤمنون:117]، ولاحظ قوله: ?إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ? .
باطل! باطل! أن يسكت على شركيات الرافضة والصوفية، حتى لا يقول الجهال: أنت تكفر الناس، الذي يقول: إن واحداً يتصرف في الكون دون الله سبحانه وتعالى هو كافر، مشرك، زنديق، قال الله تعالى: ?قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ * اللهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ?[الإخلاص: 1-4].
السؤال الخامس
السؤال: الجفري يقول: إن مسألة خلق الطفل، من غير أب خلافية بين العلماء، (أي الصوفية)، وأن الولي يمكن أن تخرج روحه من الروضة يتنعم فيها ليغيث من استغاث به؟
الجواب: أما مسألة الاستغاثة فقد سبق بيانها، ولكن نقول: هنيئاً لكنّ أيها البغايا هذه الفتوى، تلفلف لها من الشارع وتقول: هذا خلقه الولي بغير أب، وما أحسن ما قاله ذلك الشاعر:
وقد سمعت بابن قطرة السماء ** خرافة تجلب للقلب العمى
يقال: أن واحداً يقال له ابن قطرة السماء، وكان هناك دجال من الدجاجلة الذين يدعون أنه يمكن أن يخلق طفلاً من غير سبب من الأسباب: (زواج، أو من غير جماع)، أتته امرأة بلبن، فقالت: إن اللبن وقعت فيه قطرة من السماء، قال: اشربيه فإن فيه بركتك، فشربته وحملت بذلك الولي الذي يقال له: ابن قطرة السماء، والله لعل تلك الجارية حملت منه، ثم أدعى بعد ذلك أنها قطرة من السماء، نزلت فحملت تلك المرأة من قطرة.
انظروا يا إخوان على تلاعب بعقول الناس:(16/29)
وقد سمعت بابن قطرة السماء ** خرافة تجلب للقلب العمى
يا أخي، هؤلاء يعبثون بعقول الناس، الله عز وجل هو الذي: ?يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ * أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ?[الشورى: 49-50]، وقال سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: ?وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ?[المؤمنون: 12-14]، وقال: ?ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ?[المؤمنون:16]، ?يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ?[الحج:5].
وفي «الصحيحين»: عن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: »ثم ينفخ فيه الروح، فيأمر بأربع كلمات، بكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أو سعيد، فو الله الذي لا إله إلا هو إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة، حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار، حتى لا يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها«.
وبنحوه في حديث حذيفة بن أسيد، عند مسلم كل هذا يدل على أنه لا يستطيع أحد أن يخلق، قال تعالى: ?أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ?[الطور: 35-36].(16/30)
وقال تعالى: ?أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ * أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ * نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ?[الواقعة: 58-60].
وهذا من ضلال هذا الرجل، أنه يعتقد أنه يمكن أن يخلق الإنسان طفلاً، وهذا لا يمكن لأحد من دون الله أبدًا، قال الله عز وجل: ?أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ?[الأعراف:54]، فهذه من خصائص رب العالمين عز وجل.
قال تعالى: ?وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ?[الزمر:38]، فليس ذلك لأحدٍ من دون الله سبحانه وتعالى ولو ذباباً: ?يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ?[الحج:73].
وفي حديث ابن عباس رضي الله عنهما: »احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك، لن ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك«. (مجرد النفع، فضلاً أنه يخلق)، » ولو اجتمعوا على أن يضروك لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف«، وهكذا قال النبي صلى الله عليه وسلم : »رفع القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يبلغ، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يفيق«.
والشاهد منه: أن هذه أمور عليها كتابة، وموكل فيها ملائكة، وليس كل من جاء خلق من هؤلاء الفجرة، الزائغين الدجاجلة.
فحاصله: أن هذا شرك في الربوبية، عند هذا الرجل شرك في الربوبية، في مسألة الخلق، وفي مسألة الرزق، والله سبحانه وتعالى يقول: ?وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ * فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُون?[الذريات: 22-23].(16/31)
وأما قول الله سبحانه: ?وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً?[النساء:8] أي: أعطوهم، ولن يستطيع أحد أن يرزق أحداً من دون الله، بما لم يرزق الله سبحانه وتعالى، ففي الصحيحين، من حديث معاوية رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: »إنما أنا قاسم والله معطي«، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : »اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد«، ?فَمَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً?[النساء:78]، حقًا إنهم ?صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ?[البقرة:171]، فبذنوبهم طبع الله على قلوبهم، فالرجل كما سمعتم يقول: ممكن للولي أن يخلق طفلاً من غير أب!.
السؤال السادس
قال السائل: وهناك في الموقع:
(http://www.geocities.com/abdullah_moslm/g7.ra):
الجفري يقول: إن العلماء اختلفوا في مسألة أن يخلق الولي الطفل من غير أب، وأن السبب الذي جعل من يقول بامتناع ذلك هو التحّرز على الإنسان، حتى لا تأتي امرأة حامل من الزنا وتقول: من غير أب.
الجواب: أي الجفري ممكن يخلق أولادًا لكن الذي يتورع منه الجفري؛ أنه قد يحصل من البغايا أن تأتي لها بطفل وتقول: هذا خلقه الجفري، وهذا خلقه ابن حفيظ، ?أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ?[الانبياء:67].
السؤال السابع
قال السائل: هناك في الموقع:
(http://www.geocities.com/abdullah_moslm/g9.ra)،
الجفري يقول: بإمكانية رؤية الرسول صلى الله عليه وسلم ، ولكن بعين البصيرة، وأن هناك من الأولياء -أي الأحيا- من يجتمع بالرسول صلى الله عليه وسلم بعد موته يقظة.(16/32)
فأجاب الشيخ: ? إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ?[غافر:56]، هؤلاء الناس بلغ بهم الكبر، على أنه يمكن أن يلتقوا برسول الله صلى الله عليه وسلم بعد موته وهم أحياء، حصلت فتن في زمن علي رضي الله عنه، وفي زمن معاوية رضي الله عنه، وزمن زوجته صلى الله عليه وسلم عائشة رضي الله عنها، حصلت فتن، ما أحد منهم قال: إنه يمكن أن ينادي رسول الله صلى الله عليه وسلم ويراه، أنتم أكرم عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟!! ما رأوا هذا القول، ونعوذ بالله.
الصوفية من هذا أنهم يعتقدون أنه يمكن للولي أن يشافه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويتكلم معه يقظةً، بعين البصيرة، هكذا بالبصر، يقظة يتكلم معه وهذا كلام باطل كما سمعت: قال تعالى: ?إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُون?[الزمر: 30-31].
ويقول الله سبحانه وتعالى: ?وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ?[آل عمران:144].
ويقول الله سبحانه وتعالى: ?كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ?[الرحمن: 26-27]، ويقول الله سبحانه وتعالى: ?كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ?[آل عمران:185].(16/33)
وكم من الأدلة الدالة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد مات، وأنه لا يمكن للميت أن يشافه أو يتكلم مع الأحياء يقظة، فهذا باطل، والله المستعان، ضلالات هؤلاء الناس لا تتناهى، وكفى بضلالاتهم الشرك بالله سبحانه، فلماذا الصحابة يختلفون وكان يكفيهم أن يقولون: يا رسول الله، هات لنا خبر كذا وكذا، والله عزوجل يقول: ?فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ? [يّس:50]، وفي »الصحيحين« أنه يقال للنبي صلى الله عليه وسلم يوم القيامة: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، حتى من ضلالاتهم يقولون في المولد:
مرحبا بك مرحباً ** جد الحسيني مرحبا
وعملوا ذلك (التداخين)، ويقومون يتراقصون، ويزملون ويرحبون برسول الله صلى الله عليه وسلم، بالله ما هذه العقول يا إخوان؟! التي باض فيها الشيطان وفرخ، واحد في المغرب يرحب بالنبي صلى الله عليه وسلم، وواحد في أندونيسيا، بل مئات الناس عندهم موالد، آلاف المساجد عندهم موالد، في اليمن ومصر يرحبون بالنبي صلى الله عليه وسلم تلك الليلة، وآلاف المساجد في السودان، والصومال، وأثيوبيا، وليبيا، وموريتانيا وفي سائر بلدان العالم، وكل واحد يقول: مرحبا بك مرحبا، وهذا مرحبا بك مرحبا، رسول الله صلى الله عليه وسلم واحد بشر، فما هذه العقول؟!.
يأتي عندك أو يأتي عند صاحب أندونيسيا، أو صاحب هذا المسجد، أو عند صاحب هذا المسجد، عقولهم عشعشت عليها المعاصي يقول الله سبحانه وتعالى: ?فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ?[الحج:46]، ويقول: ?أَيُشْرِكُونَ مَا لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ * وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ * وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لا يَسْمَعُوا وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ?[الأعراف: 191-198].(16/34)
ويقول الله: ?وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَاباً مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ * لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ?[الحجر: 14-15].
ويقول الله تعالى في كتابه الكريم عن ضلالهم: ?وَإِذْ قَالُوا اللهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ?[الأنفال:32].
ويقول الله سبحانه: ?إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ * إِنَّ وَلِيِّيَ اللهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ?[الأعراف: 194-196].
ومن ضلال هذا الرجل قوله: (ممكن لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يغيث في اللحظة الواحدة ملايين الناس، وهو ميت)، والله لو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حياً لجاهد أمثال هؤلاء الناس، فقد جاهد المشركين على أقوالهم وأفعالهم تلك التي قالوها مثل هذا القول، والله لو كان علي بن أبي طالب رضي الله عنه حياً لجاهدهم كما جاهد ابن سبأ الذي قال: (أنت الله)، أله علي بن أبي طالب، واعتقد عبد الله بن سبأ، وجماعة عبد الله بن سبأ، أنه إله، فحفر الخنادق وأوقد النيران فيها، وأتى بهم فألقاهم في تلك النيران، وجاء أنه قال:
لما رأيت الأمر أمراً منكراً ** أججت ناري ودعوت قنبرا(16/35)
نسأل الله السلامة والعافية، قلنا هذا: ليهلك من هلك عن بينة وإن الله لسميع عليم، ?هَذَا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ? [إبراهيم:52]، ? فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ?[يونس:32] ?بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ?[الأنبياء:18]، ?وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً?[الإسراء:81].
ونبرأ إلى الله من الشرك، والمشركين، والحمد لله رب العالمين.(16/36)
الأنوار الرحمانية
لهداية الفرقة التيجانية
بقلم
الشيخ عبد الرحمن بن يوسف الأفريقي
مدير دار الحديث بالمدينة النبوية سابقًا
راجعه
أحمد فهمي أحمد
وكيل جماعة أنصار السنة المحمدية بالقاهرة
1412هـ
بسم الله الرحمن الرحيم
{هَذَا بَلاَغٌ لِّلنَّاسِ وَلِيُنذَرُواْ بِهِ وَلِيَعْلَمُواْ أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ} [إبراهيم: 52].
{قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [آل عمران: 31].
{فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا} [النساء: 65].
{قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف: 158].
{ مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَن تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا } [النساء: 80].
وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: "لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعًا لما جئت به". (1)
بسم الله الرحمن الرحيم
قال الله عز وجل: { وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا } [الإسراء: 81].
سبب تأليف هذا الكتاب
اعلم أيها المسلم ، أنه لا ينبغي للعاجز التعرض لمركب صعب إلا إذا تعذّر عليه وجود مسلك إلا ذلك. فليستعن بالله ، إنه هو المعين.(17/1)
وذلك : أن طائفة من الإخوان وقعت بيني وبينهم مذاكرة علمية حتى ذكرنا البدعة. فقلت: جميع ما لم يكن دينًا في الصدر الأول لا يكون اليوم دينًا، فطلبوا مني الدليل على ذلك ، وخاصة على إنكار أهل السنة على التيجانية. ولما رأيت الطلب قد توجه إليّ تطفلت تحت دوح علماء السنة بذكر أقوالهم في تفسير بعض الآيات و الأحاديث في ذم البدعة وأهلها.
وأقول كما قال المحدث العلامة الشيخ محمد بن عبد العزيز الفارسي الجاركي في التحفة المكية حيث قال :
أجبته محتسبًا للأجر ... مع أنني لست لذاك الخطر
تطفلاً بالعلماء الفضلا ... مقتفيًا آثارهم و السبلا
فقلت : فاعلم أيها الخل الودود ... حماك ربي من بوائق الحسود
من يرد الله به خيرًا يُرى ... متمسكًا بهدي سيد الورى
ألهمه الله لكل الطاعة ... حياته ، ألزمه القناعة
يرزقه تفقهًا في الدين ... عضَّده بالصدق واليقين
وإلا فليس أتعرض ولا أرتقي إلى هذا المحل المنيف لأني لم أكن لذاك و لا أقل منه بأهل .
وأسأل الله سبحانه و تعالى أن يجعلها خالصة لوجهه الكريم ، نافعة لجميع الإخوان المؤمنين و المسلمين ، إنه الهادي إلى الصراط المستقيم .
عبد الرحمن بن يوسف الأفريقي
10/6 سنة 1356هـ .
بسم الله الرحمن الرحيم
نحمده ونصلي على رسوله الكريم(17/2)
الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون.. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك و له الحمد ، وهو على كل شيء قدير ، القائل في كتابه العزيز { وَ مَن يُطِعِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ وَ يَخْشَ اللَّهَ وَ يَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ } [النور: 52] وأشهد أن محمدًا عبده و رسوله المنزل عليه من الله عز وجل { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَ أَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُواْ أَعْمَالَكُمْ } [محمد: 33] أي بمخالفتكم سنة نبيه الذي سنّها لكم ، وبارتكابكم المنكرات و البدع و على آله وصحبه أجمعين إلى يوم الدين .
أما بعد : فيا أخي المحترم ، قد وصلت إلى وثيقتكم ، و قرأتها و فهمت ما ذكرتموه . وها أنا أكتب لكم جوابها إن شاء الله تعالى . و به نستعين .
قواعد الإسلام(17/3)
اعلموا أن الله تعالى قرر القواعد لكل مسلم وقال: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُواْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الحشر: 7] وقال: {وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ} [النساء: 14] وقال: {وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} [الجن: 23] وقال: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63] وقال: {فَلاَ وَ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَ يُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا} [النساء: 65] ولذا قال رسول الله صلّى الله عليه و سلّم: "و الذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعًا لما جئت به" رواه البغوي في شرح السنة و النووي في الأربعين بسند صحيح.(2)
المسلم الحقيقي(17/4)
عُلم بتلك الآيات القرآنية والأحاديث النبوية: أن المسلم لا يكون مسلمًا ولا مؤمنًا إلا إذا اعتصم بالكتاب والسنة، في العقائد والفرائض والسنن والأقوال والأعمال والأفعال والأذكار، على وجه التسليم والرضا والإخلاص، ظاهرًا وباطنًا، خاصة عند المعارضة والمقابلة يقدم قول النبي صلّى الله عليه وسلّم على أقوال جميع أهل الأرض كائنًا من كان، وأذكاره صلّى الله عليه وسلّم على جميع الأذكار الواردة عن المشايخ أهل الطرق وغيرهم، ويعرض تلك الأوراد على الكتاب والسنة فإن وافقتهما عمل بها، وإلا فلا. ويقف على الأذكار الواردة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم فحينئذ يكون المسلم مسلمًا حقيقيًّا طائعًا لله و رسوله. قال تعالى: { اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَ لاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ } [الأعراف: 3] و قال تعالى: { وَ مَن يَعْتَصِم بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } [آل عمران: 101].
تعريف السنة والبدعة
من ضروريات الدين: أن يعلم المسلم صفة السنة والبدعة والفرق بينهما. فليعلم الأخ الكريم أن السنة لغة: الطريق، وشرعًا: هي ما بيّن وفسّر بها النبي صلّى الله عليه وسلّم كتاب الله تعالى قولاً وفعلاً وتقريرًا وما سوى ذلك بدعة.
والسنة هي الطريق المتبع، وهي دين الإسلام، التي لا يزيغ عنها إلا جاهل هالك مبتدع.(17/5)
والبدعة أصل مادتها الاختراع على غير مثال سابق ومنه قوله تعالى: { بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ } أي مخترعهما من غير مثال سابق وهذا لا يليق في الدين إلا من الله تعالى. لأنه فعّال لما يريد وهو الذي شرع لنا الدين. قال تعالى: {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا} [الشورى: 13] وأما البدعة شرعًا: فهي الحدث في الدين بعد الإكمال، أي بعد النبي صلّى الله عليه وسلّم وخلفائه الراشدين، وقد جعلها أهل البدع دينًا قويمًا، لا يجوز خلافها، كما في زعم التيجانيين وغيرهم.
تقسيم البدعة
والبدعة تنقسم إلى دينية ودنيوية. فكل بدعة في الدين ضلالة، كما نص عليه الرسول صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه رضي الله عنهم أجمعين ، فلا يجوز لمسلم أن يغيّر ويؤول ما قاله الرسول صلّى الله عليه وسلّم، أو يعمل عملاً، أو يقول قولاً أو يأخذ وردًا ليس عليه أمره صلّى الله عليه وسلّم أو يدخل في طريق غير طريق النبي صلّى الله عليه وسلّم فذلك كله بدعة ضلالة، وصاحبها في النار بلا شك، بدليل ما أخبر به النبي صلّى الله عليه وسلّم حيث يقول: "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو ردّ" رواه مسلم عن عائشة، وقال أيضًا: "كل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار" أي صاحبها.
وأما البدعة في المصالح الدنيوية: فلا حرج في ذلك، ما دامت نافعة غير ضارة في الدين، ولا فيها ارتكاب محرم، أو هدم أصل من أصول الدين، لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم في حديث رافع بن خديج الذي رواه مسلم، قال في آخره: "إنما أنا بشر إذا أمرتكم بشيء من أمر دينكم فخذوه، وإذا أمرتكم بشيء من رأيي فإنما أنا بشر".
ورد التيجانية وما شاكلها بدعة(17/6)
الآن يا أخي تأمّل في أيّ قسم تجعل ورد التيجانية؟ فإن جعلتها في القسم الأول – وهو المتبادر عندكم – فقد قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا} [المائدة: 3] وما لم يكن يومئذ دينًا لم يكن اليوم دينًا. قال ابن الماجشون: سمعت مالكًا رحمه الله يقول: (من ابتدع بدعة في الإسلام يراها حسنة فقد زعم أن محمدًا صلّى الله عليه وسلّم خان الرسالة) ذكره الشاطبي.
وقال صلّى الله عليه وسلّم: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردّ" رواه مسلم. أي ردّ على الرسول عليه السلام بأن دينه ناقص، وأن المبتدع هو أتمه ببدعته، أو أنه مردود على صاحبه. وقال صلّى الله عليه وسلّم: "ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، كلهم في النار إلا ملّة واحدة قالوا: من هي يا رسول الله؟ قال: ما أنا عليه اليوم وأصحابي" رواه أحمد وأبو داود وغيرهما.
ومعلوم بالضرورة: أن الطريقة التيجانية وما شاكلها: لم تكن في زمن النبي صلّى الله عليه وسلّم، ولا في زمن الخلفاء الراشدين. وكل من عبد الله بشيء غير ما جاءت به النبوة، فهو داخل في الفرق النارية بلا شك بدليل ما أخبر به النبي صلّى الله عليه وسلّم حيث قال: "من يعش منكم فسيرى اختلافًا كثيرًا – أي طرقًا كثيرة – فعليكم بسنتي – أي طريقي – وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي تمسكوا بها، وعضّوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور – أي الطرق المحدثة – فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار" رواه أبو داود والنسائي وغيرهما.
إن الله لا يقبل عمل صاحب بدعة حتى يدعها
اعلم يا أخي، أن البدعة لا يقبل الله معها عبادة، من صلاة وصيام وحج وزكاة وغير ذلك، ويخرج صاحبها من الدين كما تخرج الشعرة من العجين، ومُجالس صاحبها تنزع منه العصمة، ويوكل إلى نفسه، والماشي إليه وموقره معين على هدم الإسلام. كذا ذكر الشاطبي في الاعتصام.(17/7)
وروي عن الأوزاعي أنه قال: كان بعض أهل العلم يقول: لا يقبل الله من ذي بدعة صلاة ولا صيامًا ولا حجًّا ولا عمرة ولا صدقة ولا صرفًا ولا عدلاً. وقد رواه ابن ماجه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم فروى عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: "أبى الله أن يقبل عمل صاحب بدعة حتى يدع بدعته" وذكر مثل هذه الأحاديث الشيخ عبد القادر الجيلاني البغدادي في كتاب "غنية الطالبين" وكان أيوب السختياني يقول: ما ازداد صاحب بدعة اجتهادًا إلا ازداد بعدًا من الله. وفي صحيح مسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه "ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم – الحديث".
فتأملوا كيف جعل ترك السنة ضلالة. وفي رواية "لو تركتم سنة نبيكم صلّى الله عليه وسلّم لكفرتم" وهو أشدّ في التّحذير. وفي رواية أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: "إنّي تارك فيكم ثقلين، أولهما كتاب الله، فيه الهدى والنور من استمسك به وأخذ به كان على الهدى، ومن أخطأه ضل" وفي رواية "من اتبعه كان على الهدى ومن تركه كان على ضلالة". وقال أبو هريرة رضي الله عنه: إن الرسول صلّى الله عليه وسلّم قال: "سيكون في أمتي دجالون كذّابون، يأتونكم ببدع من الحديث لم تسمعوه أنتم ولا آباؤكم، فإياكم وإياهم، لا يفتنونكم" وفي الترمذي: أنه عليه الصلاة والسلام قال: "من أحيا سنة من سنتي قد أميتت بعدي فإن له من الأجر مثل أجر من عمل بها، من غير أن ينقص ذلك من أجورهم شيئًا، ومن ابتدع بدعة ضلالة لا ترضي الله ولا رسوله كان عليه مثل وزر من عمل بها، لا ينقص ذلك من أوزارهم شيئًا" قال الترمذي حديث حسن.
وفي حديث معاذ مرفوعًا "إذا حدث في أمتي البدع، وشُتم أصحابي فَلْيُظْهِرِ العَالِمُ علمه، فمن لم يفعل فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين" ذكره الآجري من طريق الوليد بن مسلم في كتاب السنة. وعن الحسن قال: صاحب البدعة لا يزداد اجتهادًا – صيامًا وصلاة – إلا ازداد من الله بعدًا.(17/8)
وقال الفضيل بن عياض: اتبع طريق الهدى، ولا يضرك قلة السالكين، وإياك وطرق الضلالة ولا تغتر بكثرة الهالكين.
وعن أبي قلابة: ما ابتدع رجل بدعة إلا استحل السيف. وخَرَّجَ ابن وهب عن سفيان قال: كان رجل فقيه، يقول ما أحب أني هديت الناس كلهم وأضللت رجلاً واحدًا.
وقال ابن سيرين: أسرع الناس ردّة أهل الأهواء.
وعن يحيى بن أبي كثير قال: إذا لقيت صاحب بدعة في طريق فخذ في طريق آخر.
وعن بعض السلف: من جالس صاحب بدعة نزعت منه العصمة و وكّل إلى نفسه.
وقال الفضيل بن عياض: من جلس مع صاحب بدعة لم يعط الحكمة.
كذا ذكر الشاطبي في كتابه "الاعتصام" عنهم.
والبدعة: هي السبب في إلقاء العداوة والبغضاء بين الناس، لأن كل فريق يرى أن طريقته خير من طريقة صاحبه، ويبغض بعضهم بعضًا حتى قال التيجانيون: لا يجوز زيارة من ليس على طريقتهم. وأنكروا في ذلك قول الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10] وأنكروا الأحاديث الواردة في زيارة الإخوان. أفنترك العمل بالآية الكريمة والأحاديث الواردة في ذلك لقول أحد كائنًا من كان؟ اللهم لا. والفرقة من أخسّ أوصاف المبتدعة ولوازمها. لأنه خروج عن حكم الله، و تفريق لجماعة أهل الإسلام.
صاحب البدعة ملعون وممنوع من الشفاعة المحمدية
والنبي صلّى الله عليه وسلّم بريء منه، لما روي أنه صلّى الله عليه وسلّم قال: "حلّت شفاعتي لأمتي، إلا صاحب بدعة" ذكره الشاطبي في الاعتصام. والبدعة رافعة للسنن التي تقابلها، ليس لصاحبها توبة. لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: "إن الله حجر التوبة عن كل صاحب بدعة" كذا في الشاطبي. وهو ملعون شرعًا، لقوله صلّى الله عليه وسلّم: "من أحدث حدثًا أو آوى مُحدثًا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين" ذكره الشاطبي عن مالك.(17/9)
ومعلوم لكل ذي لب: أن هذه الطرق كلها محدثة لأن ما لم يكن في زمن النبي صلّى الله عليه وسلّم دينًا فهو بدعة باتفاق السلف والخلف، ويبعد صاحبها عن حوض النبي صلّى الله عليه وسلّم لحديث رواه مالك في الموطأ ولفظه "فليذادن رجال عن حوضي كما يذاد البعير الضال، أناديهم: ألا هلمّ هلم، فيقال: إنهم قد بدّلوا بعدك. فأقول: فسحقًا، فسحقًا فسحقًا".
وقد تبرأ الله ورسوله من أصحاب البدعة، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} [الأنعام: 159] وفي الحديث "أنا بريء منهم، هم براء مني" ذكره الشاطبي في الاعتصام.
وعن يحيى بن أبي عمر الشيباني قال: كان يقال: يأبى الله لصاحب بدعة بتوبة، وما انتقل صاحب بدعة إلا إلى شر منها . و قال عمر بن عبد العزيز: "سنّ رسول الله صلّى الله عليه و سلّم سننًا، و سنّ ولاة الأمر من بعده سننًا، الأخذ بها تصديق لكتاب الله و استكمال لطاعة الله وقوة على دين الله. ليس لأحد تغييرها ولا تبديلها، ولا النظر في شيء خالفها. من عمل بها مهتد، ومن انتصر بها منصور، ومن خالفها اتبع غير سبيل المؤمنين، وولاه الله ما تولى وأصلاه جهنم وساءت مصيرًا". ومما يعزى لأبي إلياس الألباني: "ثلاث لو كتبن في ظفر لوسعهن. وفيهن خير الدنيا والآخرة: اتبع لا تبتدع: اتضع لا ترتفع. و من ورع لا يتسع". كذا في الشاطبي عنهم و الآثار هنا كثيرة جدًّا.
و حاصله: أن صاحب البدعة لا توبة له. لأنه إذا خرج عنها إنما يخرج إلى ما هو شرّ منها، كما في حديث أبي ذر رضي الله عنه : أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: "سيكون من أمتي قوم يقرءون القرآن لا يجاوز حلاقيمهم، يخرجون من الدين كما يخرج السهم من الرمية ثم لا يعودون فيه هم شرّ الخلق والخليقة".(17/10)
فهذه شهادة: أن المبتدع لا توبة له، وسبب بعده عن التوبة: أن الدخول تحت أوامر الشريعة صعب على النفس: لأنه أمر يخالف الهوى، ويصد عن سبيل الشهوات فيثقل عليها جدًّا، لأنّ الحق ثقيل، والنفس إنما تنشط بما يوافق هواها لا بما يخالفه. وكل بدعة فللهوى فيها مدخل، لأنها راجعة إلى نظر مخترعها، لا إلى نظر الشارع. فكيف يمكنه الخروج عن ذلك، ودواعي الهوى تُحَسِّنُ له ما تمسك به، فتراه منهمكًا في أوراده ليلاً ونهارًا، لا يفتر عن ذلك، ومع ذلك فمثواه النار. قال تعالى : { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ ، عَامِلَةٌ نَّاصِبَة ٌ، تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً } [الغاشية: 2، 3، 4] وقال: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً، الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [الكهف: 103، 104] وما ذاك إلا لخليقة يجدونها في ذلك الالتزام، ويرى أن أعماله أفضل من أعمال غيره، أفيفيد البرهان مطلبًا؟ { كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ } [المدثر: 31].
عُلم مما تقدّم أن المبتدع لا توبة له، وحينئذ يُخَافُ عليه سوء الخاتمة والعياذ بالله، لأنه مرتكب إثمًا، عاصٍ الله تعالى، فيُخْشى عليه عند موته أن يستفزه الشيطان، ويغلبه على قلبه، حتى يموت على التغيير والتبديل حيث كان مطيعًا له فيما تقدّم من زمانه.
فلنقتصر على ما ذكرنا و بالله التّوفيق .
قد أتم الله هذا الدين قبل الطريقة التيجانية وغيرها(17/11)
قال تعالى: { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ و َأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي و رَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا } [المائدة: 3] وقال صلّى الله عليه وسلّم: "تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما: كتاب الله وسنة رسوله" رواه مالك في الموطأ. وقال الإمام مالك رحمه الله: "قبض رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقد تمّ هذا الدين واستكمل، وإنما ينبغي أن نتبع آثار رسول الله" ذكره الشاطبي في الاعتصام.
فكل من أحدث بدعة – وكان ممن يعقل – يعلم علمًا ضروريًّا أنه ما آمن بقول الله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ...} الآية، إذ لو آمن بها ما ابتدع.
و ذكر ابن وهب عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: "سيكون من أمتي دجالون كذابون ، يأتونكم ببدع من الأحاديث لم تسمعوه أنتم ولا آباؤكم . فإياكم و إياهم لا يفتنونكم" رواه ابن وضاح.
و عن عائشة رضي الله عنها قالت: "من أتى صاحب بدعة فقد أعان على هدم الإسلام" وروى مسلم نحو الأول.
وعن ابن مسعود رضي الله عنه "أنه رأى جماعة يجلسون في المسجد و بينهم رجل يقول لهم : سبحوا الله كذا و كذا ، واحمدوا الله كذا و كذا ، و كبروا الله كذا و كذا . فقال لهم : و الله لقد جئتم ببدعة ظلمًا ، أو فقتم محمدًا و أصحابه علمًا". إنكارًا عليهم. رواه الدارمي.
وهذا عين الطريقة التيجانية وغيرها من الطرق الصوفية، إنما أنكر عليهم لأنهم اشتقوا لأنفسهم صفة في الذكر لم تكن في زمن النبوة.(17/12)
فعليكم باتباع نبيكم، وترك كل ما أحدثه المحدثون. لأن الإيمان لا يكمل إلا بالقول، ولا قول إلا بالعمل، ولا عمل إلا بالنية. فلا إيمان ولا قول ولا عمل ولا نية إلا بموافقة السنة النبوية، كما قال ابن أبي زيد القيرواني في رسالته، فسبحان الله العظيم، تقرءون في الرسالة ليلاً ونهارًا ولا تفهمون معناها. بماذا تفسرون قوله: "وترك كل ما أحدثه المحدثون" وبماذا تفسرون قوله: "إلا بموافقة السنة"؟ وهل هذه الطريقة التيجانية كانت في زمن النبي صلّى الله عليه وسلّم؟ فإن لم تكن في زمنه كانت مما أحدثه المحدثون. ومن ادعى أنها كانت في زمان النبوة فليأت بالبرهان. وتاريخ موت صاحبها الذي ابتدعها لدينا محفوظ، وإن الله لم يكلف نبيه صلّى الله عليه و سلّم بعد الموت بشيء ما، ولم يترك شيئًا مما أمر بتبليغه إلا بَلَّغَهُ في حياته. انظر تفسير سورة النصر. لا كما يزعم التيجانيون.
تبرؤ أهل البدع بعضهم من بعض يوم القيامة
قال تعالى: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ} [البقرة: 166] معناه: تبرأ الذين كانوا يزعمون أنهم يتبعونهم في الدنيا لما رأوا العذاب، وتقطعت بهم الأسباب، يعني المحبة التي كانت بينهم في الدنيا – كذا قاله ابن عباس. فلما رأوا ذلك قالوا: {لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً} أي رجعة في الدنيا {فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّؤُواْ مِنَّا}.
أيها الإخوان: انبذوا هذه الطريقة التيجانية وغيرها وراء ظهوركم قبل نزول هذه الندامة، التي قال الله في أصحابها {وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} لأن كل من اتبع أحدًا في شيء ما أنزل الله به من سلطان – أي من حجة – تبرأ المتبوع منه يوم القيامة، وأنى لهم الكَرَّة ؟ هيهات هيهات.(17/13)
أخبر الله سبحانه وتعالى عن قوم، يوم القيامة {وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلاْ، رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا} [الأحزاب: 67، 68] قال الشوكاني في تفسيره: المراد بالسادة والكبراء، هم الرؤساء والقادة الذين كانوا يمتثلون أمرهم في الدنيا ويقتدون بهم. اهـ. وفيه وعيد صريح لكل من يتبع أحدًا في البدع والضلالات، لأن قولهم هذا لا ينفعهم يوم القيامة.
إخواني: أنعموا النظر، واستعملوا عقولكم في معنى هذه الآية. ولا أظن أنه يفهم معناها عالم غيور في دينه راغب في سنة نبيه ثم يتمسك ببدعة، مستدلاً بقوله: لو كانت باطلة ما فعلها فلان وفلان، وهذا عين قوله تعالى: {وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا} الآية، ولا نفع لهم في ذلك، والعالم الحقيقي لا يأخذ بقول أحد إلا بعد عرض ما يأخذه على الكتاب والسنة.
قال ابن كثير، عند تفسير هذه الآية: قال طاوس: سادتنا يعني أمراءنا، وكبراءنا يعني علماءنا. رواه ابن أبي حاتم، أي اتبعنا السادة، وهم الأمراء والكبراء من المشيخة، وخالفنا الرسول واعتقدنا أن عندهم شيئًا وأنهم على شيء، فإذا هم ليسوا على شيء {رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ} أي بكفرهم وإغوائهم إيانا {وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا}.
الامتثال للعلماء في غير أمر الله ! عبادة لهم(17/14)
قال الله تعالى: {اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ} [التوبة: 31] قاله ردًّا على اليهود والنصارى، وكل من فعل فعلهم. فالآية حجة عليهم. وجاء في تفسيرها في الحديث عن عدي بن حاتم رضي الله عنه "أنه سمع النبي صلّى الله عليه وسلّم يقرأ هذه الآية، فقال للنبي صلّى الله عليه وسلّم: إنا لسنا نعبدهم. قال عليه الصلاة والسلام: أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه ويحلون ما حرم الله فتحلونه ؟ فقلت: بلى. قال: فتلك عبادتهم" رواه أحمد والترمذي.
تفكروا يا إخواني في معنى هذه الآية، فإنها عبرة لكل من اتبع سادته وكبراءه في حدث وباطل. فلا بد من التفكير والتفقه في الدين "من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين"، وهو نظير قوله تعالى: {فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ} [الأنعام: 125] أي يفهمه أمور دينه ليفرق بين السنة والبدعة {وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} [الأنعام: 125] أي يجعل على قلبه أكنة لا يقبل شيئًا من أمور الإسلام الصحيح.
و الذي نرشدكم إليه هو صراط الله المستقيم . جعلنا الله و إياكم ممن سمع الحق و اتبعه . آمين .
الشروع في تفصيل ما ينكره أهل السنة على التيجانية وغيرها
سأذكر لكم يا إخواني بعض ما أنكرناه في هذه الطريقة التيجانية مع بيان مأخذ كل مقال، والإشارة إلى رقم الصحيفة من كتب التيجانية، ليتبين لكل مسلم غيور على دينه كفريات التيجانية و بدعهم و ضلالاتهم و جميع ما أنقله من كتبهم : إما كفر، أو كذب على الله و على النبي صلّى الله عليه وسلّم. والعياذ بالله من الخذلان و عمى البصيرة .
العقيدة الأولى(17/15)
قال في جواهر المعاني: (إن هذا الورد ادخره رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لي و لم يُعَلِّمْهُ لأحد من أصحابه) – إلى أن قال -: (لعلمه صلّى الله عليه وسلّم بتأخير وقته، وعدم وجود من يظهره الله على يديه). وكذا في الجيش (ص91).
ففي قوله: ادخره لي ولم يعلمه لأحد من أصحابه ردّ على قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ } [المائدة: 67]. ومعلوم أن الكتمان محال على الأنبياء والرسل، لأنه خيانة للأمانة. وقال ابن عاشر المالكي في توحيده:
يجب للرسل الكرام الصدق ... أمانة تبليغهم يحق
محال الكذب و المنهي ... كعدم التبليغ يا ذكي
ولا شك أن نسبة الكتمان إليه صلّى الله عليه وسلّم كفر بإجماع العلماء. وفي قوله: عدم وجود من يظهره الله على يديه تفضيل لنفسه على أبي بكر الصديق رضي الله عنه، حيث لا يقدر أن يحمل هذا الورد. وهذا كلام في غاية الفساد، بل في غاية الوقاحة.
العقيدة الثانية
قال في جواهر المعاني: (إن المرة الواحدة من صلاة الفاتح تعدل كل تسبيح وقع في الكون، وكل ذكر، وكل دعاء كبير أو صغير، وتعدل تلاوة القرآن ستة آلاف مرة) "ص96" طبع مطبعة التقدم العلمية الطبعة الأولى.
وهذا كفر وردّة، وخروج عن الملّة الإسلامية. وهل يبقى في الدنيا مسلم لا يكفر قائل هذا القول ؟ بل من لم ينكر عليه ورضي به فهو كافر في نفسه، يستتاب. فإن تاب وإلا قتل .
أليس قد جعل الله لكم عقولاً تعقلون بها ؟ أفلا تتفكرون ؟ و أي شيء يكون أفضل من القرآن ؟ وهل ينزل الله على رجل شيئًا بعد النبي صلّى الله عليه وسلّم فضلاً أن يكون خيرًا من القرآن ؟ إن هذا لشيء عجاب.
و أظن قائل هذا القول ما درى بمحمد صلّى الله عليه وسلّم، وما درى بما جاء به محمد. ولم يدر لِمَ بُعِثَ محمد صلّى الله عليه و سلّم!!.(17/16)
فداك أبي وأمي يا رسول الله. لقد أديت الأمانة، وبلغت الرسالة، وجاهدت في الله حتى أتاك اليقين. جزاك الله عنا أفضل ما جزى نبيًّا عن أمته. أشهد أنك خاتم الأنبياء، وشريعتك ناسخة لكل شريعة ولن تُنْسَخَ إلى يوم القيامة، ولم يأت بعدك أحد قط بمثل ما جئتَ به، وأشهد أن من ادعى أن هناك وحيًا ينزل، أو يوحى إليه فقد أعظم الفرية على الله { إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [النحل: 116، 117].
أفلا تعظمون كتاب ربكم ؟
أيها الناس اتركوا هذه الطريقة الكفرية التي هي أفضل من القرآن في زعم قائلها. فنعوذ بالله من كل شيطان مارد ، آمِرٍ بمثل هذا. وهل أنتم تعبدون الله بشيء أفضل من القرآن، إذن والله فقد فضلتم على النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه، لأنهم ما عبدوا الله بشيء أفضل من القرآن، ولقد كان صلّى الله عليه وسلّم يجعل لنفسه وردًا كل ليلة من القرآن، وهكذا أصحابه رضوان الله تعالى عليهم أجمعين وقال صلّى الله عليه وسلّم: "أفضل ما قلته أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله – الحديث" إلخ: وقد ثبت أنه قال: "فضل كلام الله على كلام الخلق كفضل الله على خلقه" رواه الترمذي وغيره.
أليس هذا صدًّا للجهال العوام عن القرآن ؟ وهل يتمسك بهذه الطريقة بعد ما سمع أنها أفضل من القرآن إلا جاهل بكتاب الله و سنة رسوله ؟.
و هل يستقر في عقل صحيح كون مرة واحدة من صلاة الفاتح أفضل من ذكرٍ واحدٍ وَرَدَ عن النبي صلّى الله عليه و سلّم، فضلاً عن جميع الأذكار التي وقعت في الكون ؟ أفلا تعقلون ؟؟.
تالله لقد جمعت هذه الطريقة كل جهول غبي بعيد عن الدين.
أيها الناس: أما كان آدم ونوح وموسى وعيسى ومحمد عليهم الصلاة والسلام أجمعين يذكرون الله ؟ وهل يكون مبتدعُ هذه الطريقة أفضل من هؤلاء الأنبياء ؟ كلا وحاشا ، فإنا لله وإنا إليه راجعون .
العقيدة الثالثة(17/17)
قال في الإفادة: (من لم يعتقد أنها – أي صلاة الفاتح – من القرآن لم يصب الثواب فيها) "ص80".
ونحن نقول: من اعتقد أنها من القرآن فقد كفر كفرًا ظاهرًا. لأن الله لا ينزل الوحي إلا على الأنبياء، وهذه الصلاة لم نجدها في كتاب الله، ولا حتى في حديث موضوع عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. فهل الذي نزلت عليه صلاة الفاتح نبي أو ولي ؟ فإن كان وليًّا فالولي لا ينزل عليه الوحي.
و الناس في هذه الطريقة فرقتان : فرقة إن اعتقدت أنها من القرآن خرجت عن الملة الإسلامية ، والثانية : إن اعتقدت أنها ليست من القرآن ، خرجت عن طريقتهم ، لأنها ليس لها ثواب فيها.
العقيدة الرابعة
قال في الإفادة الأحمدية "ص74" : (يوضع لي منبر من نور يوم القيامة ، وينادي منادي حتى يسمعه كل من في الموقف : يا أهل الموقف هذا إمامكم الذي كنتم تستمدون منه من غير شعوركم) و ذكره أيضًا في كتابهم بغية المستفيد "ص173".
وهذا القائل قد نصب نفسه في مقام النبوة ، لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم هو خطيبهم يوم القيامة ، كما ذكره الترمذي عن أنس بن مالك. و في قوله تصريح بأن الأنبياء و الرسل كانوا يستمدون منه ، لأنهم شملهم الموقف ، و هذا محال ، و لا يقوله إلا من ادعى الربوبية .
العقيدة الخامسة
قال في جواهر المعاني "ص105": (لا تقرأ جوهرة الكمال إلا بالطهارة المائية).
أقول : هذا كتاب الله تجوز قراءته بالطهارة وبغيرها كما كان صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه يقرءون القرآن على غير وضوء.
وهذا تشريع جديد لم يأذن به الله تعالى و لا رسوله صلّى الله عليه و سلّم. وفساد هذا القول يغني عن الخوض فيه .
العقيدة السادسة
قال في الإفادة الأحمدية "ص57": ( نهاني رسول الله صلّى الله عليه و سلّم عن التوجه بالأسماء الحسنى ، و أمرني بالتوجه بصلاة الفاتح )!!(17/18)
و هذا عين الضلال والكفر ، إذ كيف ينهى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن شيء أمره الله تعالى به في قوله: { و َلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا } وهذا أيضًا كذب على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وجرأة على الشريعة المحمدية.
العقيدة السابعة
قال في جواهر المعاني "ص145 ج2": ( إن وليًّا – وذكر اسمه – كان كثيرًا ما يلقى النبي صلّى الله عليه وسلّ ، و يعلمه الشعر ). كيف ؟ و قد قال الله تعالى: { وَ مَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَ مَا يَنبَغِي لَهُ } [يس: 69] و هذا كذب على رسول الله صلّى الله عليه و سلّم و افتراء عليه .
العقيدة الثامنة
قال في جواهر المعاني "ص170": ( من حصل له النظر فينا يوم الجمعة أو الاثنين يدخل الجنة بغير حساب و لا عقاب ). وفي بغية المستفيد: ( و لو كان كافرًا يختم له بالإيمان ). انظر يا أخي إلى سخافة هذا القول وجرأته قال تعالى: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 144] إنه جعل نفسه أفضل من الأنبياء، و لقد قعد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مع عمه أبي طالب سنين ومع ذلك مات كافرًا، و نظر أبو جهل إلى رسول الله صلّى الله عليه و سلّم و مع ذلك مات كافرًا. و مات ابن نوح عليه السلام كافرًا، و مات أبو إبراهيم عليه السلام كافرًا، و لم ينفع أحدًا منهم نظر و لا صحبة.
وقال في الإفادة الأحمدية (ص40) ما نصه: (طائفة من أصحابنا لو اجتمع أكابر أقطاب هذه الأمة ما وزنوا شعرة من أحدنا).
وفي شرح منية المريد (ص172):
طائفة من صحبة لو اجتمع ... أقطاب أمة النبي المتبع
ما وزنوا شعرة من فرد ... منها. فكيف بالإمام الفرد ؟(17/19)
انظر يا أخي إلى القول الشنيع والجرأة العظيمة، حيث فضّل أصحابَ بدعته على أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم أكابر هذه الأمة. نعم لا يقول هذا إلا جاهل بقدر أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أئمة الهدى ومصابيح الأنام. رضي الله تعالى عنهم أجمعين.
العقيدة التاسعة
قال صاحب الرماح، الذي بهامش جواهر المعاني، في الفصل الثاني والعشرين (ص152) ما نصه:
(إنهم لا ينطقون إلا بما يشاهدون، ويأخذون عن الله ورسوله الأحكام، الخاص للخاصة لا مدخل فيها للعامة لأنه صلّى الله عليه وسلّم كان يلقي إلى أمته الأمر الخاص). قال شيخنا أحمد التيجاني كما في جواهر المعاني.
تبًّا لهذه المقالة، وبئس قائلها ومفتريها. وسواد ظلامها يغني عن الخوض فيها.
أقول: تفكر أيها العالم في هذه المقالة: هل أهل الطرق كانوا أنبياء؟ وانظر إلى التناقض في كلامهم – لأنهم – بزعمهم الكاذب بعدما أخذوا عن الله تعالى لا يحتاجون إلى الرسول لوجود التساوي بينهم في الدرجة أو يزيدون على الأنبياء – بزعمهم – لأن الرسل كانوا يأخذون عن الله تعالى بالوحي. وأَرْبَابُ الطرق يأخذون من الله – بزعمهم – بغير واسطة. لوجود من يقول منهم: إنه ينظر إلى اللوح المحفوظ إذا أراد أن يأخذ حكمًا من الأحكام، وما ذلك إلا لوح الشيطان {يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا} [الأنعام: 112].
وقال في الرماح في الفصل المذكور: (إن الكامل منهم ينزل عليه المَلَكُ بالأمر والنهي).(17/20)
أقول: أما كان يكفيهم أوامر القرآن ونواهيه؟ والله سبحانه وتعالى يقول: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنَزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَ لْمَلآئِكَةُ بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ و كُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ} [الأنعام: 93].
العقيدة العاشرة
قال في الرماح، الفصل الثاني والثلاثون (ص211): (إن الشرط في طريقتهم أن لا يلقن لمن له ورد من أوراد المشايخ إلا إن تركه وانسلخ عنه لا يعود إليه أبدًا) – إلى أن قال: (فلا بد له من هذا الشرط ولا خوف عليه من صاحبه أيًّا كان من الأولياء الأحياء والأموات وهو آمن من كل ضرر يلحقه في الدنيا والآخرة، لا يلحقه ضرر لا من شيخه ولا من غيره، ولا من الله ولا من رسوله بوعد صادق لا خلف فيه).(17/21)
أقول: تفكر يا أخي واستعمل قريحتك في فهم هذا الكلام لأن فيه التحريض على الأمن من مكر الله، وقد قال تعالى: {أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ اللَّهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف: 99] ومعناها كما قال ابن كثير في تفسيره {أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ اللَّهِ} أي بأسه ونقمته وقدرته عليهم وأخذه إياهم في حال سَهْوِهِمْ وغفلتهم { َلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُون } ولهذا قال الحسن رحمه الله تعالى: المؤمن يعمل بالطاعات وهو مشفق وَجِل خائف. والفاجر يعمل بالمعاصي وهو آمن. وفيه أيضًا الحثّ على التفريق بين المسلمين، والحال أن ربهم واحد، ونبيهم واحد، وكتابهم واحد ففيم التفريق؟ وقد نهاهم الله عنه في قوله تعالى: {وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [آل عمران: 105] انظر يا أخي إلى هذا التشريع الجديد، والافتراء على الله بما لا مزيد، والمسارعة إلى نار عذابها شديد، ومن ذلك يوقنون أن القصد من ذلك الاختلاف دخول الجنة بغير حساب، ولا عقاب. قال تعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ و لِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا} [الكهف: 106].
وتفسيرها كما في الجلالين:(17/22)
قوله تعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً، الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} بطل أعمالهم {وَهُمْ يَحْسَبُونَ} يظنون {أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} عملاً يجازون عليه {أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ} بدلائل توحيده من القرآن وغيره {وَلِقَائِهِ} أي وبالبعث والحساب والثواب والعقاب {فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ} بطلت {فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا} أي لا نجعل لهم قدرًا {ذَلِكَ} أي الأمر الذي ذكرت من حبوط أعمالهم وغيره {جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُواْ و اتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا} أي مهزوءًا بهما. قال الشاطبي في الاعتصام (ج1 ص94) قال الله تعالى: { قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَ هُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا } وما ذلك إلا لخفة يجدونها في ذلك الالتزام، ونشاط بداخلهم يستسهلون به الصعب بسبب ما دخل النفس من الهوى. وإذا بدا للمبتدع ما هو عليه رآه محبوبًا عنده لاستعباده للشهوات، وعمله من جملتها، ورآه موافقًا للدليل عنده، فما الذي يصده عن الاستمساك به، والازدياد منه، وهو يرى أن أعماله أفضل من أعمال غيره، واعتقاداته أوفق و أعلا، أفيفيد البرهان مطلبًا {فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ} [فاطر: 8]، وقال صلّى الله عليه وسلّم: "الدين النصيحة قلنا: لمن ؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم" رواه مسلم.(17/23)
إخواني : لا تستبعدوا التوبة ، ولا تأنفوا من الاستغفار ، فقد كان صلّى الله عليه وسلّم يستغفر كل يوم مائة مرة. وشروط التوبة مذكورة في قوله تعالى {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} [طه: 82] ، وقال تعالى: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات: 55] وما جمعت هذه العجالة إلا رغبة في أن يهدي الله تعالى بها ولو فردًا من المسلمين لقوله صلّى الله عليه وسلّم لعلي رضي الله عنه: "لأن يهدي الله بك رجلاً واحدًا خير لك من حمر النعم". وما توفيقي إلا بالله ، عليه توكلت وإليه أنيب . وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
وهذا حاصل ما جمعته لكم من كتبهم نصيحة لكم والسلام.(17/24)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله الله تعالى بالهدى ودين الحق فبلغ الرسالة وأدى الأمانة، ونصح الأمة وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، وترك أمته على محجة بيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك؛ بيّن فيها ما تحتاجه الأمة في جميع شئونها حتى قال أبو ذر رضي الله عنه: «ما ترك النبي صلى الله عليه وسلّم طائراً يقلب جناحيه في السماء إلا ذكر لنا منه علماً». وقال رجل من المشركين لسلمان الفارسي رضي الله عنه: علمكم نبيكم حتى الخراة ـ آداب قضاء الحاجة ـ قال: «نعم، لقد نهانا أن نستقبل القبلة بغائط أو بول أو أن نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار، أو أن نستنجي باليمين أو أن نستنجي برجيع أو عظم».(18/1)
* وإنك لترى هذا القرآن العظيم قد بين الله تعالى فيه أصول الدين وفروع الدين فبين التوحيد بجيمع أنواعه، وبين حتى آداب المجالس والاستئذان، قال تعالى: {يأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُواْ فِى الْمَجَلِسِ فَافْسَحُواْ يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انشُزُواْ فَانشُزُواْ يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ دَرَجَتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ }. وقال تعالى: {يأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُواْ وَتُسَلِّمُواْ عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * فَإِن لَّمْ تَجِدُواْ فِيهَآ أَحَداً فَلاَ تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمُ وَإِن قِيلَ لَكُمْ ارْجِعُواْ فَارْجِعُواْ هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ}. حتى آداب اللباس قال الله تعالى: {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَآءِ الَّلَتِى لاَ يَرْجُونَ نِكَاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَن يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَتِ بِزِينَةٍ وَأَن يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَّهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عِلِيمٌ }. {يأَيُّهَا النَّبِىُّ قُل لاَِزْوَجِكَ وَبَنَتِكَ وَنِسَآءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَبِيبِهِنَّ ذلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً وَنِسَآءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَبِيبِهِنَّ ذلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً }. {وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ وَتُوبُواْ إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا(18/2)
يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ وَتُوبُواْ إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ وَتُوبُواْ إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ }. {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَن تَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَبِهَا وَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ }.. إلى غير ذلك من الايات الكثيرة التي يتبين بها أن هذا الدين شامل كامل لا يحتاج إلى زيادة كما أنه لا يجوز فيه النقص، ولهذا قال الله تعالى في وصف القرآن: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَبَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَىْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ }، فما من شيء يحتاج الناس إليه في معادهم ومعاشهم إلا بينه الله تعالى في كتابه إما نصّاً أو إيماء وإما منطوقاً وإما مفهوماً.(18/3)
* أيها الأخوة: إن بعض الناس يفسر قول الله تعالى: {وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِى الاَْرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَلُكُمْ مَّا فَرَّطْنَا فِى الكِتَبِ مِن شَىْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ }. يفسر قوله: {مَّا فَرَّطْنَا فِى الكِتَبِ مِن شَىْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ } على أن الكتاب القرآن، والصواب أن المراد بالكتاب هنا اللوح المحفوظ. وأما القرآن فإن الله تعالى وصفه بأبلغ من النفي وهو قوله: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَبَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَىْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ } فهذا أبلغ وأبين من قوله: {مَّا فَرَّطْنَا فِى الكِتَبِ مِن شَىْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ }. ولعل قائلاً يقول أين نجد أعداد الصلوات الخمس في القرآن؟ وعدد كل صلاة في القرآن؟ وكيف يستقيم أننا لا نجد في القرآن بيان أعداد ركعات كل صلاة والله يقول: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَبَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَىْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ }؟
والجواب على ذلك أن الله تعالى بين لنا في كتابه أنه من الواجب علينا أن نأخذ بما قاله الرسول صلى الله عليه وسلّم وبما دلنا عليه {مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَن تَوَلَّى فَمَآ أَرْسَلْنَكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً }، {وَمَآ ءَاتَكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَكُمْ عَنْهُ فَانتَهُواْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ }، فما بينته السنة فإن القرآن قد دل عليه لأن السنة أحد قسمي الوحي الذي أنزله الله على رسوله وعلمه إياه كما قال الله تعالى: {وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَبَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً عَظِيماً }، وعلى هذا فما جاء في السنة فقد جاء في كتاب الله عز وجل.(18/4)
* أيها الأخوة: إذا تقرر ذلك عندكم فهل النبي صلى الله عليه وسلّم توفي وقد بقي شيء من الدين المقرب إلى الله تعالى لم يبينه؟
أبداً فالنبي عليه الصلاة والسلام بين كل الدين إما بقوله، وإما بفعله، وإما بإقراره إما ابتداءاً أو جواباً عن سؤال، وأحياناً يبعث الله أعرابياً من أقصى البادية ليأتي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم يسأله عن شيء من أمور الدين لا يسأله عنه الصحابة الملازمون لرسول الله صلى الله عليه وسلّم ولهذاكانوا يفرحون أن يأتي أعرابي يسأل النبي صلى الله عليه وسلّم عن بعض المسائل. ويدلك على أن النبي صلى الله عليه وسلّم ما ترك شيئاً مما يحتاجه الناس في عبادتهم ومعاملتهم وعيشهم إلا بينه يدلك على ذلك قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ الأِسْلاَمَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِى مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }.(18/5)
* إذا تقرر ذلك عندك أيها المسلم فاعلم أن كل من ابتدع شريعة في دين الله ولو بقصد حسن فإن بدعته هذه مع كونها ضلالة تعتبر طعناً في دين الله عز وجل، تعتبر تكذيباً لله تعالى في قوله: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ الأِسْلاَمَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِى مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } لأن هذا المبتدع الذي ابتدع شريعة في دين الله تعالى وليست في دين الله تعالى كأنه يقول بلسان الحال إن الدين لم يكمل لأنه قد بقي عليه هذه الشريعة التي ابتدعها يتقرب بها إلى الله عز وجل. ومن عجب أن يبتدع الإنسان بدعة تتعلق بذات الله عز وجل وأسمائه وصفاته ثم يقول إنه في ذلك معظم لربه، إنه في ذلك منزه لربه، إنه في ذلك ممتثل لقوله تعالى: {فَلاَ تَجْعَلُواْ للَّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ }، إنك لتعجب من هذا أن يبتدع هذه البدعة في دين الله المتعلقة بذات الله التي ليس عليها سلف الأمة ولا أئمتها ثم يقول إنه هو المنزه لله وإنه هو المعظم لله وإنه هو الممتثل لقول الله تعالى: {فَلاَ تَجْعَلُواْ للَّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ } وأن من خالف ذلك فهو ممثل مشبه أو نحو ذلك من ألقاب السوء.
كما أنك لتعجب من قوم يبتدعون في دين الله ما ليس منه فيما يتعلق برسول الله صلى الله عليه وسلّم ويدعون بذلك أنهم هم المحبون لرسول الله صلى الله عليه وسلّم وأنهم المعظمون لرسول الله صلى الله عليه وسلّم وأن من لم يوافقهم في بدعتهم هذه فإنه مبغض لرسول الله صلى الله عليه وسلّم إلى غير ذلك من ألقاب السوء التي يلقبون بها من لم يوافقهم على بدعتهم فيما يتعلق برسول الله صلى الله عليه وسلّم.(18/6)
ومن العجب أن مثل هؤلاء يقولون نحن المعظمون لله ولرسوله، وهم إذا ابتدعوا في دين الله وفي شريعته التي جاء بها رسوله صلى الله عليه وسلّم ما ليس منها فإنهم بلا شك متقدمون بين يدي الله ورسوله وقد قال الله تعالى: {يأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تُقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَىِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ عَلِيمٌ }.
* أيها الأخوة: إني سائلكم ومناشدكم بالله عز وجل وأريد منكم أن يكون الجواب من ضمائركم لا من عواطفكم، من مقتضى دينكم لا من مقتضى تقليدكم. ما تقولون فيمن يبتدعون في دين الله ما ليس منه سواء فيما يتعلق بذات الله وصفات الله وأسماء الله، أو فيما يتعلق برسول الله صلى الله عليه وسلّم ثم يقولون نحن المعظمون لله ولرسول الله أهؤلاء أحق بأن يكونوا معظمين لله ولرسول الله؟ أم أولئك القوم الذين لا يحيدون قيد أنملة عن شريعة الله، يقولون فيما جاء من الشريعة آمنا وصدقنا فيما أخبرنا به وسمعنا وأطعنا فيما أمرنا به أو نهينا عنه، ويقولون فيما لم تأت به الشريعة أحجمنا وانتهينا وليس لنا أن نتقدم بين يدي الله ورسوله، وليس لنا أن نقول في دين الله ما ليس منه. أيهما أحق أن يكون محبّاً لله ورسوله ومعظماً لله ورسوله؟ لا شك أن الذين قالوا آمنا وصدقنا فيما أخبرنا به وسمعنا وأطعنا فيما أمرنا به، وقالوا كففنا وانتهينا عما لم نؤمر به، وقالوا نحن أقل قدراً في نفوسنا من أن نجعل في شريعة الله ما ليس منها، أو أن نبتدع في دين الله ما ليس منه؛ لا شك أن هؤلاء هم الذين عرفوا قدر أنفسهم وعرفوا قدر خالقهم، هؤلاء هم الذين عظموا الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلّم وهم الذين أظهروا صدق محبتهم لله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلّم.(18/7)
لا أولئك الذين يبتدعون في دين الله ما ليس منه في العقيدة أو القول او العمل، وإنك لتعجب من قوم يعرفون قول رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «إياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار». ويعلمون أن قوله «كل بدعة» كلية عامة شاملة مسورة بأقوى أدوات الشمول والعموم «كل» والذي نطق بهذه الكلية صلوات الله وسلامه عليه يعلم مدلول هذا اللفظ وهو أفصح الخلق، وأنصح الخلق للخلق لا يتلفظ إلا بشيء يقصد معناه. إذن فالنبي صلى الله عليه وسلّم حينما قال: «كل بدعة ضلالة» كان يدري ما يقول، وكان يدري معنى ما يقول، وقد صدر هذا القول منه عن كمال نصح للأمة.
وإذا تم في الكلام هذه الأمور الثلاثة ـ كمال النصح، والإرادة، وكمال البيان والفصاحة وكمال العلم والمعرفة، دل ذلك على أن الكلام يراد به ما يدل عليه من المعنى أفبعد هذه الكلية يصح أن نقسم البدعة إلى أقسام ثلاثة، أو إلى أقسام خمسة؟ أبداً هذا لا يصح، وما ادعاه بعض العلماء من أن هناك بدعة حسنة. فلا تخلوا من حالين:
1 ـ أن لا تكون بدعة لكن يظنها بدعة.
2 ـ أن تكون بدعة فهي سيئة لكن لا يعلم عن سوئها.
فكل ما ادُعي أنه بدعة حسنة فالجواب عنه بهذا. وعلى هذا فلا مدخل لأهل البدع في أن يجعلوا من بدعهم بدعة حسنة وفي يدنا هذا السيف الصارم من رسول الله صلى الله عليه وسلّم «كل بدعة ضلالة». إن هذا السيف الصارم إنما صنع في مصانع النبوة والرسالة، إنه لم يصنع في مصانع مضطربة، لكنه صنع في مصانع النبوة وصاغه النبي صلى الله عليه وسلّم هذه الصياغة البليغة فلا يمكن لمن بيده مثل هذا السيف الصارم أن يقابله أحد ببدعة يقول إنها حسنة ورسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول: «كل بدعة ضلالة».(18/8)
وكأني أحس أن في نفوسكم دبيباً يقول ما تقول في أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه الموفق للصواب حينما أمر أبي ابن كعب وتميماً الداري أن يقوما بالناس في رمضان فخرج والناس على إمامهم مجتمعون فقال: «نعمت البدعة هذه والتي ينامون عنها أفضل من التي يقومون».
© فالجواب عن ذلك من وجهين:
الوجه الأول: أنه لا يجوز لأحد من الناس أن يعارض كلام الرسول صلى الله عليه وسلّم بأي كلام لا بكلام أبي بكر الذي هو أفضل الأمة بعد نبيها، ولا بكلام عمر الذي هو ثاني هذه الأمة بعد نبيها، ولا بكلام عثمان الذي هو ثالث هذه الأمة بعد نبيها، ولا بكلام علي الذي هو رابع هذه الأمة بعد نبيها، ولا بكلام أحد غيرهم لأن الله تعالى يقول: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَلِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }، قال الإمام أحمد رحمه الله «أتدري ما الفتنة؟ الفتنة الشرك لعله إذا رد بعض قول النبي صلى الله عليه وسلّم أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك». اهـ.
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: «يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء أقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم وتقولون قال أبو بكر وعمر».(18/9)
الوجه الثاني: إننا نعلم علم اليقين أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه من أشد الناس تعظيماً لكلام الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلّم وكان مشهوراً بالوقوف على حدود الله تعالى حتى كان يوصف بأنه كان وقافاً عند كلام الله تعالى. وما قصة المرأة التي عارضته ـ إن صحت القصة ـ في تحديد المهور بمجهولة عند الكثير حيث عارضته بقوله تعالى: {وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَقاً غَلِيظاً غَلِيظاً } فانتهى عمر عما أراد من تحديد المهور. لكن هذه القصة في صحتها نظر. لكن المراد بيان أن عمر كان وقافاً عند حدود الله تعالى لا يتعداها، فلا يليق بعمر رضي الله عنه وهو من هو أن يخالف كلام سيد البشر محمد صلى الله عليه وسلّم وأن يقول عن بدعة «نعمة البدعة». وتكون هذه البدعة هي التي أرادها رسول الله صلى الله عليه وسلّم بقوله: «كل بدعة ضلالة» بل لابد أن تنزل البدعة التي قال عنها عمر إنها «نعمت البدعة» على بدعة لا تكون داخلة تحت مراد النبي صلى الله عليه وسلّم في قوله: «كل بدعة ضلالة» فعمر رضي الله عنه يشير بقوله «نعمت البدعة هذه» إلى جمع الناس على إمام واحد بعد أن كانوا متفرقين، وكان أصل قيام رمضان من رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقد ثبت في الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلّم قام في الناس ثلاث ليال وتأخر عنهم في الليلة الرابعة وقال: «إني خشيت أن تفرض عليكم فتعجزوا عنها». فقيام الليل في رمضان جماعة من سنة الرسول عليه الصلاة والسلام، وسماها عمر رضي الله عنه بدعة باعتبار أن النبي صلى الله عليه وسلّم لما ترك القيام صار الناس متفرقين يقوم الرجل لنفسه ويقوم الرجل ومعه الرجل والرجل ومعه الرجلان والرهط والنفر في المسجد فرأى أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه برأيه السديد الصائب أن يجمع الناس على إمام واحد فكان هذا الفعل(18/10)
بالنسبة لتفرق الناس من قبل بدعة فهي بدعة اعتبارية إضافية وليست بدعة مطلقة إنشائية أنشأها عمر رضي الله عنه؛ لأن هذه السنة كانت موجودة في عهد الرسول صلى الله عليه وسلّم فهي سنة لكنها تركت منذ عهد الرسول عليه الصلاة والسلام حتى أعادها عمر رضي الله عنه، وبهذا التقعيد لا يمكن أبداً أن يجد أهل البدع من قول عمر هذا منفذاً لما استحسنوه من بدعهم.
* وقد يقول قائل: هناك أشياء مبتدعة قبلها المسلمون وعملوا بها وهي لم تكن معروفة في عهد النبي صلى الله عليه وسلّم كالمدارس وتصنيف الكتب، وما أشبه ذلك وهذه البدعة استحسنها المسلمون وعملوا بها ورأوا أنها من خيار العمل فكيف تجمع بين هذا الذي يكاد أن يكون مجمعاً عليه بين المسلمين وبين قول قائد المسلمين ونبي المسلمين ورسول رب العالمين صلى الله عليه وسلّم: «كل بدعة ضلالة».(18/11)
فالجواب: أن نقول هذا في الواقع ليس ببدعة بل هذا وسيلة إلى مشروع، والوسائل تختلف باختلاف الأمكنة والأزمنة، ومن القواعد المقررة أن الوسائل لها أحكام المقاصد فوسائل المشروع مشروعة، ووسائل غير المشروع غير مشروعة، بل وسائل المحرم حرام. والخير إذا كان وسيلة للشر كان شرّاً ممنوعاً واستمع إلى الله عز وجل يقول: {وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّواْ اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَّرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ }، وسب آلهة المشركين ليس عدواً بل حق وفي محله لكن سب رب العالمين عدو وفي غير محله وعدوان وظلم، ولهذا لما كان سب آلهة المشركين المحمود سبباً مفضياً إلى سب الله كان محرماً ممنوعاً، سقت هذا دليلاً على أن الوسائل لها أحكام المقاصد فالمدارس وتصنيف العلم وتأليف الكتب وإن كان بدعة لم يوجد في عهد النبي صلى الله عليه وسلّم على هذا الوجه إلا أنه ليس مقصداً بل هو وسيلة والوسائل لها أحكام المقاصد. ولهذا لو بنى شخص مدرسة لتعليم علم محرم كان البناء حراماً ولو بنى مدرسة لتعليم علم شرعي كان البناء مشروعاً.
* فإن قال قائل: كيف تجيب عن قول النبي صلى الله عليه وسلّم: «من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة». وسن بمعنى «شرع».(18/12)
* فالجواب: أن من قال «من سن في الإسلام سنة حسنة» هو القائل: «كل بدعة ضلالة» ولا يمكن أن يصدر عن الصادق المصدوق قول يكذب له قولاً آخر، ولا يمكن أن يتناقض كلام رسول الله صلى الله عليه وسلّم أبداً، ولا يمكن أن يرد على معنى واحد مع التناقض أبداً، ومن ظن أن كلام الله تعالى أو كلام رسوله صلى الله عليه وسلّم متناقض فليعد النظر، فإن هذا الظن صادر إما عن قصور منه، وإما عن تقصير. ولا يمكن أن يوجد في كلام الله تعالى أو كلام رسوله صلى الله عليه وسلّم تناقض أبداً.
وإذا كان كذلك فبيان عدم مناقضة حديث «كل بدعة ضلالة» لحديث «من سن في الإسلام سنة حسنة» أن النبي صلى الله عليه وسلّم يقول: «من سن في الإسلام» والبدع ليست من الإسلام، ويقول «حسنة» والبدعة ليست بحسنة، وفرق بين السن والتبديع.
* وهناك جواب لا بأس به: أن معنى «من سن» من أحيا سنة كانت موجودة فعدمت فأحياها، وعلى هذا فيكون «السن» إضافياً نسبيّاً كما تكون البدعة إضافية نسبية لمن أحيا سنة بعد أن تركت.
* وهناك جواب ثالث يدل له سبب الحديث وهو قصة النفر الذين وفدوا إلى النبي صلى الله عليه وسلّم وكانوا في حالة شديدة من الضيق، فدعا النبي صلى الله عليه وسلّم إلى التبرع لهم فجاء رجل من الأنصار بيده صرة من فضة كادت تثقل يده فوضعها بين يدي الرسول صلى الله عليه وسلّم فجعل وجه النبي عليه الصلاة والسلام يتهلل من الفرح والسرور وقال: «من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة» فهنا يكون معنى «السن» سن العمل تنفيذاً وليس سن العمل تشريعاً، فصار معنى «من سن في الإسلام سنة حسنة» من عمل بها تنفيذاً لا تشريعاً لأن التشريع ممنوع «كل بدعة ضلالة».
* وليعلم أيها الأخوة أن المتابعة لا تتحقق إلا إذا كان العمل موافقاً للشريعة في أمور ستة:(18/13)
* الأول: السبب فإذا تعبد الإنسان لله عبادة مقرونة بسبب ليس شرعيّاً فهي بدعة مردودة على صاحبها، مثال ذلك أن بعض الناس يحيي ليلة السابع والعشرين من رجب بحجة أنها الليلة التي عرج فيها برسول الله صلى الله عليه وسلّم فالتهجد عبادة ولكن لما قرن بهذا السبب كان بدعة؛ لأنه بنى هذه العبادة على سبب لم يثبت شرعاً. وهذا الوصف ـ موافقة العبادة للشريعة في السبب ـ أمر مهم يتبين به ابتداع كثير مما يظن أنه من السنة وليس من السنة.
* الثاني: الجنس فلابد أن تكون العبادة موافقة للشرع في جنسها فلو تعبد إنسان لله بعبادة لم يشرع جنسها فهي غير مقبولة، مثال ذلك أن يضحي رجل بفرس، فلا يصح أضحية؛ لأنه خالف الشريعة في الجنس، فالأضاحي لا تكون إلا من بهيمة الأنعام، الإبل، البقر، الغنم.
* الثالث: القدر فلو أراد إنسان أن يزيد صلاة على أنها فريضة فنقول: هذه بدعة غير مقبولة لأنها مخالفة للشرع في القدر، ومن باب أولى لو أن الإنسان صلى الظهر مثلاً خمساً فإن صلاته لا تصح بالاتفاق.
* الرابع: الكيفية فلو أن رجلاً توضأ فبدأ بغسل رجليه، ثم مسح رأسه، ثم غسل يديه، ثم وجهه فنقول: وضوءه باطل؛ لأنه مخالف للشرع في الكيفية.
* الخامس: الزمان فلو أن رجلاً ضحى في أول أيام ذي الحجة فلا تقبل الأضحية لمخالفة الشرع في الزمان. وسمعت أن بعض الناس في شهر رمضان يذبحون الغنم تقرباً لله تعالى بالذبح وهذا العمل بدعة على هذا الوجه لأنه ليس هناك شيء يتقرب به إلى الله بالذبح إلا الأضحية والهدي والعقيقة، أما الذبح في رمضان مع اعتقاد الأجر على الذبح كالذبح في عيد الأضحى فبدعة. وأما الذبح لأجل اللحم فهذا جائز.(18/14)
* السادس: المكان فلو أن رجلاً اعتكف في غير مسجد فإن اعتكافه لا يصح؛ وذلك لأن الاعتكاف لا يكون إلا في المساجد ولو قالت امرأة أريد أن أعتكف في مصلى البيت. فلا يصح اعتكافها لمخالفة الشرع في المكان. ومن الأمثلة لو أن رجلاً أراد أن يطون فوجد المطاف قد ضاق ووجد ما حوله قد ضاق فصار يطوف من وراء المسجد فلا يصح طوافه لأن مكان الطواف البيت قال الله تعالى لإبراهيم الخليل: {وَطَهِّرْ بَيْتِىَ لِلطَّآئِفِينَ وَالْقَآئِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ لِلطَّآئِفِينَ وَالْقَآئِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ }.
فالعبادة لا تكون عملاً صالحاً إلا إذا تحقق فيها شرطان:
الأول: الإخلاص ـ الثاني: المتابعة، والمتابعة لا تتحقق إلا بالأمور الستة الانفة الذكر.
* وإنني أقول لهؤلاء الذين ابتلوا بالبدع الذين قد تكون مقاصدهم حسنة ويريدون الخير إذا أردتم الخير فلا والله نعلم طريقاً خيراً من طريق السلف رضي الله عنهم.
* أيها الأخوة عضوا على سنة الرسول صلى الله عليه وسلّم بالنواجذ واسلكوا طريق السلف الصالح وكونوا على ما كانوا عليه وانظروا هل يضيركم ذلك شيئاً؟
وإني أقول ـ وأعوذ بالله أن أقول ما ليس لي به علم ـ أقول إنك لتجد الكثير من هؤلاء الحريصين على البدع يكون فاتراً في تنفيذ أمور ثبتت شرعيتها وثبتت سنيتها فإذا فرغوا من هذه البدع قابلوا السنن الثابتة بالفتور، وهذا كله من نتيجة أضرار البدع على القلوب، فالبدع أضرارها على القلوب عظيمة، وأخطارها على الدين جسيمة فماابتدع قوم في دين الله بدعة إلا أضاعوا من السنة مثلها أو أشد، كما ذكر ذلك بعض أهل العلم من السلف.
لكن الإنسان إذا شعر أنه تابع لا مشرع حصل له بذلك كمال الخشية والخضوع والذل والعبادة لرب العالمين، وكمال الاتباع لإمام المتقين، وسيد المرسلين، ورسول رب العالمين محمد صلى الله عليه وسلّم.(18/15)
إنني أوجه نصيحة إلى كل إخواني المسلمين الذين استحسنوا شيئاً من البدع سواءً فيما يتعلق بذات الله، أو أسماء الله، أو صفات الله أو فيما يتعلق برسول الله صلى الله عليه وسلّم وتعظيمه أن يتقوا الله ويعدلوا عن ذلك، وأن يجعلوا أمرهم مبنيّاً على الاتباع لا على الابتداع، على الإخلاص لا على الإشراك، على السنة لا على البدعة، على ما يحبه الرحمن لا على ما يحبه الشيطان، ولينظروا ماذا يحصل لقلوبهم من السلامة، والحياة، والطمأنينة، وراحة البال والنور العظيم.
وأسأل الله تعالى أن يجعلنا هداة مهتدين، وقادة مصلحين، وأن ينير قلوبنا بالإيمان والعلم، وأن لا يجعل ما علمنا وبالاً علينا، وأن يسلك بنا طريق عباده المؤمنين، وأن يجعلنا من أوليائه المتقين وحزبه المفلحين. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(18/16)
قطوف
من روائع السيرة الذهبية
( 3 )
لأول مرة
الإسراء والمعراج
الرِّوَايَةُ المتَكَامِلَةُ الصَّحِيْحَةُ الوَحِيْدَةُ
تأليف
الشيخ / محمدُ بنُ رِزْقٍ بنِ طُرْهُونِيْ
دار فواز للنشر والتوزيع
الإحساء
المقدمة
الحمدُ لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضلَّ له ، ومن يضلل فلا هاديَ له ، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله .
أما بعد :
فقد وعدتك أيها القارئ العزيز في رسالة ( النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - كأنَّك تراه ) وهي الجزءُ الثاني من مجموعة القطوف التي وقع الاختيارُ عليها من كتابي صحيحِ السيرةِ النبويةِ والذي سميته [ السيرة الذهبية ] بإخراج قصة الإسراءِ والمعراجِ الصحيحةِ في وقتٍ لاحق . وها أنا ذا أوفي بما وعدتُ به ، متعجلاً وصولَ هذه المعلوماتِ إليك ، ومشوقاً لك إلى المجلد الثاني من السيرةِ المتضمن في حناياه هذه الرسالةَ الصغيرة ، وأتركُ لخيالِك المجالَ لتتصورَ مايحويه هذا المجلدُ المنتظرُ من سائرِ المباحثِ والوقائعِ إلى هجرتِه - صلى الله عليه وسلم - على غرارِ المنهج الذي تراه في هذا الجزء .
وقد ذكرت في الجزء الأول المتعلق بتحديدِ تاريخِ مولِده - صلى الله عليه وسلم - الدافعَ الذي دفعني لإفرادِ تلكَ المباحثِ في أجزاءٍ مستقلة .(19/1)
أما حادثةُ الإسراءِ والمعراجِ فقد كثر الخلافُ حولها بين السلف والخلف ؛ هل كانت يقظةً أم مناماً ؟ وهل كانت بالروحِ أم بالجسدِ والروح ؟ وهل وقعَ المعراجُ بالروحِ والإسراءُ بالجسد ؟ وهل كانت قبل البعثة أم بعدها ؟ وهل كانت قبلَ الهجرة أم بعدها ؟ وهل وقع الإسراءُ أولاً أم المعراجُ ؟ وهل تكرر الإسراءُ والمعراجُ ؟ وهل وقع بعضُه مناماً وبعضًه يقظة ؟ وهل .... وهل ... أمورٌ كثيرةٌ حدثَ الخلافُ حولها ، وسيتبينُ لك أيها القارئ خلاصةَ بحثِ هذه الخلافاتِ بالسياقِ المذكورِ في هذه الرسالة .
أما المباحثُ التي سبقت ما سُطِرَ هنا فمنها ما هو مكذوبٌ صراحةً مثل ما اشتهر بين الناس بما يسمى بـ( معراج ابن عباس ) ، ومنها مالم يحظَ بالدراسة والتمحيصِ فخلط الغثَّ بالسمين ، ومنها ما هو نقل لبعض الروايات الواردة المتكرر ألفاظها مع ترك البعض الآخر ، وأما هنا فقد حرصت على إدماج الروايات الصحيحة الثابتة فقط في سياقٍ واحدٍ يعيش معه القارىء في أحداثِ القصة ، وجعلت دراسة الرواياتِ في آخر الجزء حسب الأرقام المذكورة .
ويلاحَظُ أن الرقمَ الأساسيَّ لروايةِ الإسراء والمعراج في الكتاب الأم هو رقم (501 ) ويتضمن تحته تخريجَ الزياداتِ من الزيادة بين القوسين (1) ، (1) إلى الزيادة بين القوسين (42) ، (42) وكلُّها مذكورةٌ في هذهِ الرسالة , وأما تحديدُ تاريخِ الإسراءِ والمعراج فهو في نفس الرواية التي حددتْ المولدَ وقد ذكرتها في الجزء الأول من هذه القطوف .
كما أزفُّ إلى جميع القراء البشرى مرةً ثانية بقرب صدورِ المجلد الثاني من السيرةِ الصحيحة ، وآمل من الجميع التماس العذرِ لي فيما يلاحظونه من بعض التأخر في إخراجِ هذا العمل ، ولا بدَّ لي من ذكر بعضِ أسبابه وأذكر على سبيلِ المثال سببين :
الأول : وهو واضحٌ لكل قارىء ، ويتضمن صعوبةَ هذا العمل وضخامتَه ومسئوليتَه التي يحجم عنها الحاجمون وتقصر دونها الهمم .(19/2)
الثاني : أن هذا العملَ قائمٌ على جهدي الخاص علمياً ومادياً ، فلم أتلقَّ أيَّ دعمٍ ماديٍّ له ، وليس في مقدوري الاستعانة حتى ولو بكاتب يوفر علي شيئاً من الوقت ، في حين تُوَفَّرُ الملايينُ لمثلِ هذا العمل نفسِه عندَ عدةٍ من الجهاتِ وأسأل الله أن يوفقَ الجميعَ لخدمةِ هذا الدين ، وبالأخصِّ سيرة الحبيب - صلى الله عليه وسلم - , وأذكر في هذا المقامِ قولَ الشاعر الذي طالما ردده أحدُ مشايخنا الفضلاء في التفسير :
وكم في الخدر أبهى من عروس ولكن للعروس الدهر يوما
وقد تمنيتُ كثيرا أن يتبنى هذا العملَ جهةٌ رسميةٌ تساعدُ على سرعةِ إنجازِه ، ولكن لم يتيسرْ شيءٌ من ذلكَ ، وعلى الله التكلان .
هذان سببان ظاهران ، وما خفي كان أعظم ! ولذا فإني أطلبُ منهم الدعاءَ لي أن يوفقني الله تعالى في إكمالِ هذا الطريق الشاق ، وأن يسددَ قلمي وينير بصيرتي ، وأن يجعل عملي خالصا له وحده لا شركَ فيه لأحدٍ كائنا من كان .
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين ، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
المؤلف
محمد بن رزق بن طرهوني
المدينة المنورة 1412هـ
ص.ب 1783
[ قصة الإسراء والمعراج ]
(41) ( وفي يوم الاثنين الثاني عشر من شهر ربيع الأول ) (41)
بينما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الحطيم عند البيت ، مضطجعاً بين النائمِ واليقظان ، إذ سمع قائلاً يقول : أحد الثلاثة بين الرجلين (18)( فجاءه ثلاثةُ نفر قبلَ أن يوحى إليه وهو نائم في المسجد الحرام ، فقال أولهُّم : أيهم هو ؟ فقال أوسطهم : هو خيرُهم , فقال آخرُهم : خذوا خيرَهم . فكانت تلكَ ليلة ، فلم يرهم حتى أتَوْهُ ليلةً أخرى فيما يرى قلبُه وتنامُ عينُه ولا ينامُ قلبُه ، وكذلك الأنبياءُ تنام أعينُهم ولا تنامُ قلوبهم )(18) .(19/3)
(35) ( وذلكَ بعد ما صلى لأصحابِه صلاةَ العتمة بمكة معتماً ) (35) . قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( فُرِجَ عن سقف بيتي وأنا بمكة ، فنزل جبريل ) (12) ( فإذا أقربُ من رأيتُ به شبهاً دِحيةُ بنُ خليفة ) (12) .
(3) ( فانطلقوا بي إلى زمزم ) (3) (18) ( فلم يُكلِّموه حتى احتملوه فوضعوه عند بئرِ زمزم )(18) قال : وأتاني ( جبريل ففرج صدري ) فشق ما بينَ هذه إلى هذه ؛ يعني : من ثغرةِ نحره إلى شعرتِه إلى مراق البطن ، (18) ( حتى فرغ من صدرِه وجوفِه فغسله بماءِ زمزم بيده حتى أنقى جوفَه )(18) . قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : فاستخرج قلبي فغُسل بماء زمزم ثم أُتيت بطست من ذهب (18) ( فيه تَوْرٌ من ذهب )(18) مملوءة ( حكمة ) وإيمانا ( فأفرغه في صدري ) فغسل قلبي . ثم حشى (18) ( به صدرَه ولغاديدَه )(18) ثم ( أطبقه ) (24) ( فلما شقَّ جبريلُ بطنه قال : قلبٌ وكيعٌ - أي شديد- فيه أذنان سميعتان وعينان بصيرتان ، محمد رسول الله المقفي الحاشر ، خُلُقُكَ قيِّمٌ ولسانُك صادقٌ ونفسُك مطمئنة )(24) .
قال - صلى الله عليه وسلم - : (28) ( فبينا أنا نائمٌ إذ جاء جبريلُ عليه السلام فوكز بين كتفي فقمت إلى شجرةٍ فيها كوكري الطير فقعد في أحدهما وقعدت في الآخر فسَمَتْ وارتفعت حتى سدَّت الخافِقَين وأنا أقلب طرفي ولو شئتُ أن أمسَّ السماءَ لمسستُ )(28) ( ثم أخذ بيدي ) فانطلق بي جبريلُ حتى أتى السماءَ الدنيا .(19/4)
(18) ( فضرب بابا من أبوابها ) فاستفتح جبريل - صلى الله عليه وسلم - ( قال جبريلُ لخازنِ السماءِ : افتح ) فقيل من هذا ؟ قال : جبريل , قيل ومن معك ؟ قال : محمد - صلى الله عليه وسلم - , قيل : وقد أُرسِلَ إليه ؟ قال : نعم , قيل : مرحباً به (18) ( وأهلاً به )(18) فنعم المجيء جاء (18) يستبشر به أهلُ السماءِ لا يعلمُ أهلُ السماءِ بما يريدُ الله به في الأرض حتى يُعلِمهم )(18) ففتح لنا . فلما خلصت ( علَوْنا السماءَ الدنيا ) فإذا فيها آدمُ - صلى الله عليه وسلم - ( رجلٌ قاعدٌ ، على يمينه أسودة وعلى يساره أسودة إذا نظر قِبَلَ يمينه ضحك وإذا نظر قبل يساره بكى ) ( قلت لجبريل : من هذا ؟) فقال : هذا أبوك آدم ( - صلى الله عليه وسلم - وهذه الأسودة عن يمينه وشماله نَسمُ بنيه فأهل اليمين منهم أهلُ الجنة والأسودة التي عن شماله أهلُ النار فإذا نظر عن يمينه ضحك وإذا نظر قبل شماله بكى ) فسلِّمْ عليه ، فسلمت عليه فرد السلامَ ثم قال : مرحبا بالابن الصالح والنبي الصالح (18) ( نعم الابن أنت )(18) (3) ( ودعا لي بخير )(3) . ثم صعد بي حتى أتى السماء الثانية فاستفتح ( فقال لخازنها : افتح )(18) ( فقالت الملائكة له مثلَ ما قالت له الأولى )(18) قيل من هذا ؟ قال : جبريل , قيل ومن معك ؟ قال : محمد , قيل : وقد أرسل إليه ؟ قال : نعم , قيل : مرحبا به (18) ( وأهلا وسهلا )(18) فنعم المجيء جاء ، ففتح لنا فلما خلصت إذا بيحيى وعيسى وهما ابنا خالة ( قلت : من هذا ؟) قال : هذا يحيى وعيسى فسلم عليهما ، فسلمتُ فردّا ثم قالا : مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح (3) ( ودعوا لي بخير )(3) ، ثم صعد بي إلى السماء الثالثة فاستفتح (18) ( فقالوا له مثلَ ما قالت الأولى والثانية )(18) قيل من هذا ؟ قال : جبريل , قيل ومن معك ؟ قال : محمد - صلى الله عليه وسلم - , قيل : وقد أرسل إليه ؟ قال : نعم , قيل : مرحبا به فنعم المجيء جاء ، ففتح لنا(19/5)
فلما خلصت فإذا أنا بيوسف (3) ( صلى الله عليه وسلم وإذا هو قد أعطي شطر الحسن )(3) قال : هذا يوسفُ فسلِّم عليه فسلمتُ عليه فرد ثم قال : مرحباً بالأخ الصالح والنبي الصالح (3) ( ودعا لي بخير )(3) , ثم صعد بي حتى أتى السماء الرابعةَ فاستفتح (18) ( فقالوا له مثل ذلك )(18) قيل : من هذا ؟ قال : جبريل , قيل : ومن معك ؟ قال : محمد , قيل : وقد أرسل إليه ؟ قال : نعم , قيل : مرحبا به فنعم المجيء جاء ، ففتح لنا فلما خلصت فإذا إدريس ( قلت : من هذا ؟) قال : هذا إدريسُ فسلِّم عليه فسلَّمتُ عليه فرد ثم قال : مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح (3) ( ودعا لي بخير . قال الله - عز وجل - : ? ???????????????? ?????????? ?????????? ?(3) . ثم صعد بي حتى أتى السماءَ الخامسةَ فاستفتح (18) ( فقالوا له مثل ذلك ) قيل : من هذا ؟ قال : جبريل , قيل : ومن معك ؟ قال : محمد , قيل : وقد أرسل إليه ؟ قال : نعم , قيل : مرحبا به فنعم المجيء جاء ، ففتح لنا فلما خلصت فإذا أنا بهارون (3) ( صلى الله عليه وسلم )(3) قال : هذا هارون فسلِّم عليه فسلمتُ عليه فردَّ ثم قال : مرحباً بالأخ الصالح والنبي الصالح (3) ( ودعا لي بخير )(3) ، ثم صعد بي حتى أتى السماءَ السادسةَ فاستفتح (18) ( فقالوا له مثل ذلك )(18) قيل : من هذا ؟ قال : جبريل , قيل : ومن معك ؟ قال : محمد , قيل : وقد أرسلَ إليه ؟ قال : نعم , قيل : مرحبا به فنعم المجيء جاء ، ففُتِح لنا فلما خلصت فإذا أنا بموسى (3) ( صلى الله عليه وسلم )(3) (18) ( بتفضيل كلامِ الله له ، فقال موسى : رب لم أظن أن يُرفعَ عليَّ أحد )(18) ( قلت من هذا ؟) قال : هذا موسى فسلِّم عليه فسلمت عليه فردَّ ثم قال : مرحباً بالأخ الصالح والنبي الصالح (3) ( ودعا لي بخير )(3) , فلما تجاوزت بكى قيل له : مايبكيك ؟ قال : أبكي لأن غلاماً بُعِثَ بعدي يدخل الجنة من أمته أكثر ممن يدخلها من أمتي (36) ( قلت : من(19/6)
يعاتب ؟ قال : يعاتب ربَّه فيك , قلت : فيرفع صوتَه على ربه !؟ قال : إن الله قد عرف له حدته )(36) ثم صعد بي حتى أتى السماء السابعة فاستفتح (18)( فقالوا له مثل ذلك )(18) قيل : من هذا ؟ قال : جبريل , قيل : ومن معك ؟ قال : محمد (3) صلى الله عليه وسلم )(3) , قيل : وقد أرسل إليه ؟ قال : نعم , قيل : مرحباً به فنعم المجيء جاء ، ففُتِح ، فلما خلصت فإذا أنا بإبراهيمَ (3) ( صلى الله عليه وسلم مسنداً ظهرَه إلى البيت المعمور )(3) (19)( شيخ جليل مهيب ) ( قلت : من هذا ) قال : هذا أبوك ( إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - ) فسلِّمْ عليه ، فسلمتُ عليه فردَّ السلامَ ثم قال : مرحباً بالابنِ الصالحِ والنبيِّ الصالحِ . ثم رفع لي البيت المعمور (3) ( في السماء السابعة )(3) (13) يقال له : الضراح ؛ وهو بحيال الكعبة من فوقِها ، حرمتُه في السماءِ كحرمةِ البيت في الأرض )(13) فقلت : يا جبريل ما هذا ؟ قال : هذا البيتُ المعمورُ يدخلُه كلَّ يومٍ (13) ( يصلي فيه )(13) سبعون ألف ملك إذا خرجوا منه لم يعودوا فيه (13) ( أبدا )(13) آخر ما عليهم (3)( حتى تقوم الساعة )(3) (25) ( وما مرَّ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بملأٍ من الملائكة إلا أمروه بالحجامةِ وقالوا : يا محمد مُرْ أمَّتَكَ بالحِجامة )(25) .(19/7)
(18)( ثم علا به فوقَ ذلك بما لا يعلمه إلا الله - عز وجل - حتى جاء سدرة المنتهى )(18) قال : ثم رُفِعَت لي سدرةُ المنتهى (6)( وهي في السماء )(6) (2)( السابعة )(2) (31)( صبر الجنة )(31) (6)( إليها ينتهي ما يُعرَجُ به من الأرض فيُقبَضُ منها وإليها ينتهي ما يُهبَطُ به من فوقها فيقبض منها )(6) فإذا نَبَقُها مثلُ قِلال هجر ، وإذا ورقُها مثلُ آذان الفِيَلَةِ (39)( يسير الراكبُ في ظلِّ الفننِ منها مائة سنةٍ يستظِلُّ بالفَنَنِ منها مائةُ راكبٍ )(39) قال : هذه سِدرةُ المنتهى وإذا أربعةُ أنهارٍ تخرج من أصلِها (2)( من ساقها )(2) : نهران باطنان ونهران ظاهران , فقلت : ما هذان يا جبريل ؟ قال : أما النهران الباطنان فنهران في الجنة ، وأما الظاهران فالنيل والفرات , ثم أُتيت بإناء من خمرٍ وإناءٍ من لبن وإناءٍ من عسلٍ فأخذت اللبن فقال : أصبتَ أصابَ الله بكَ هي الفطرةُ التي أنتَ عليها وأمتُك ( ثم أدخلت الجنة فإذا فيها جنابذ اللؤلؤ وإذا ترابها المسك ) (19)( فسمع من جانبها وجسا قال : يا جبريل ما هذا ؟ قال : هذا بلال )(19) (38)( قال : فسمعت خشفة فقلت ما هذه الخشفة ؟ فقيل : الرميصاء بنتُ ملحان امرأةُ أبي طلحة , وبينما أنا أسير في الجنة إذا أنا بقصرٍ أبيضَ فقلت : لمن هذا يا جبريل ؟ ورجوت أن يكون لي , فقال : لعمر بن الخطاب , ثم سرت هنيهة فرأيت قصراً هو أحسنُ من القصرِ الأول ؛ من ذَهَبٍ ، مربعاً يُسمع فيه ضوضاءٌ ، بفَنائه جاريةٌ تتوضأُ إلى جانبِ القصرِ فقلت : لمن هذا القصر يا جبريل ؟ ورجوت أن يكون لي ؟ فقالوا : لرجلٍ من أمةِ محمد , قلت : فأنا محمد ، لمن هذا القصرُ ؟ قالوا : لرجلٍ من العرب , قلت : أنا عربيٌّ لمن هذا القصر ؟ قالوا : لشابٍ من قريش , قال : فظننت أني أنا هو ، فقلت : أنا قرشي ، لمن هذا القصر , قالوا : لعمرَ بنِ الخطاب وإن فيه من الحور العين ، فأردتُ أن أدخلَه فأنظرَ إليه فذكرتُ غيرتَه ،(19/8)
فوليتُ مُدبِراً )(38) (29)( وإذا بنهرٍ أشدُّ بياضاً من اللبن وأحلى من العسل ، حافتاه قبابُ اللؤلؤ المجوف ، عليه قصرٌ من لؤلؤ وزبرجد فقلت : ما هذا يا جبريل ؟ قال : هذا الكوثرُ الذي أعطاك ربك . فضرب الملَك بيده فإذا طينُه مسكٌ إذفر ، فضربت بيدي إلى تربته في مجرى الماء فإذا مسكةٌ ذفرة وإذا حصاه اللؤلؤ )(29) (21)( ومرَّ برائحةٍ طيبةٍ فقال : ما هذه الرائحةُ يا جبريل ؟ قال : هذه رائحةُ ماشطةَ بنتِ فرعونَ وأولادها ، قال : وماشأنها ؟ قال : بينا هي تمشط ابنةَ فرعونَ إذ سقطتْ المدري من يديها فقالت : باسم الله , قالت لها بنتُ فرعونَ : أبي؟ قالت : لا ، ولكن ربي وربُّك وربُّ أبيك , قالت : أَوَ لكِ ربٌّ غيرُ أبي ؟ قالت : نعم , ربي وربك وربُّ أبيك الله , قالت : أقول له إذاً ؟ , قالت : قولي له , فدعاها فقال لها : يا فلانة أو لك رب غيري ؟ قالت : نعم ربي وربك الله - عز وجل - الذي في السماء , فأمر ببقرةٍ من نحاسٍ فأحميتْ ثم أمر بها لتلقى هي وأولادها فيها , فقالت : إن لي إليكَ حاجة , قال : وما هي ؟ قالت : أن تجمعَ عظامي وعظامَ ولدي في ثوبٍ واحدٍ وتدفننا , قال : ذلك لكِ علينا لما لكِ علينا من الحق , فأمرَ بأولادِها فأُلقوا في البقرة بين يديها واحداً واحداً ، إلى أن انتهى ذلك إلى صبيٍّ لها مرضع ، وكأنها تقاعَسَتْ من أجله , فقال : يا أمَّهْ ، قَعِي ولا تقاعسي ، اصبري فإنك على الحق ، اقتحمي فإن عذابَ الدنيا أهونُ من عذابِ الآخرة . ثم ألقيت مع ولدها .
فكان هذا من الأربعة الذين تكلموا وهم صبيان )(21) .(19/9)
(19)( فنظر في النار فإذا قومٌ يأكلون الجِيَفَ فقال : من هؤلاء يا جبريل ؟ قال : هؤلاء الذين يأكلون لحومَ الناس , ورأى رجلاً أحمرَ أزرقَ جعداً شعثاً إذا رأيتَه , قال : من هذا يا جبريل ؟ قال : هذا عاقرُ الناقة )(19) (20)( ولما عُرِج برسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - ليلةَ أسري به مرَّ على قومٍ تُقرَضُ شفاهُهم وألسنتهم بمقاريض من نار , فقال : من هؤلاء يا جبريل ؟ قال : هؤلاءِ خطباءُ أمتك ،الذين يقولون ما لا يفعلون الذين يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم وهم يتلون الكتاب أفلا يعقلون ؟)(20) (22)( وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لما عَرَجَ بي ربي - عز وجل - مررتُ بقومٍ لهم أظفارٌ من نحاس يخمشون وجوهَهم وصدورَهم ، فقلت من هؤلاء يا جبريل ؟ قال : هؤلاء الذين يأكلون لحومَ الناس ويقعون في أعراضهم )(22) (8)( فرأى النبي - صلى الله عليه وسلم - مع جبريلَ الجنةَ والنارَ ووَعْدَ الآخرةِ أجمع )(8) قال : (1)( ثم عُرِج بي حتى ظَهَرْتُ لمستوى أسمع فيه صريفَ الأقلامِ )(1) (28)( ومررت بالملأ الأعلى )(28) (40)( عند سدرة المنتهى عندها جنة المأوى إذ يغشى السدرة ما يغشى )(40) (3)( فلما غَشِيَها من أمرِ الله ما غشي تغيَّرَتْ فما أحدٌ من خلقِ الله يستطيعُ أن ينعَتَها من حُسنِها )(3) (31)( عليها السُّندُسُ والإستبرق )(31) ( وغشيها ) (6)( الملائكةُ فَراشٌ من ذهبٍ )(6) (14)( وتحولتْ ياقوتاً أو زمرداُ أو نحو ذلك )(14) ( وألوانٌ لا أدري ما هي ) (28)( فالتفت إلى جبريلَ عليه السلام كأنه حِلْسٌ لاطٍ فعرفتُ فضلَ عِلمِه بالله عليَّ ، وفُتِحَ لي بابٌ من أبوابِ السماءِ فرأيتُ النورَ الأعظمَ وإذا دونَ الحجابِ رفرفُ الدُّرِّ والياقوت )(28) (30) ( وسمعتُ تسبيحاً في السموات )(30) (18)( ودنا الجبارُ ربُّ العزة فتدلى حتى كان منه قابَ قوسين أو أدنى )(18) قال : ثم فُرِضَتْ عليَّ الصلاةُ خمسينَ صلاةً كلِّ يوم (3)((19/10)
فأوحى الله إلي ما أوحى )(3) (32)( ثم رَفَعَ جبريلُ رأسَه ، فرأيتُه في خَلْقِه الذي خُلِقَ عليه عندَ سدرةِ المنتهى في صورته ؛ له ستمائة جناحٍ في حلة رفرف قد سدَّ الأفق ، ينفض من ريشه التهاويلِ والدُّرِّ والياقوتِ ما الله به عليم ، في خضر رجلاه كالدر مثل القطر على البقل )(32) (34)( ووجَدَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - اسمَه مكتوباً في السماءِ محمدٌ رسولُ الله )(34) (3)( قال : فنزلت )(3) فرجعت فمررت على موسى (3)( صلى الله عليه وسلم )(3) (18)( فاحتبسَه موسى )(18) فقال : (18)( يا محمد )(18) بما أُمِرْتَ ؟ قلت : أمرتُ بخمسينَ صلاةً في اليوم (18)( والليلة )(18) قال : إني عالجتُ بني إسرائيلَ قبلَكَ ، وإنَّ أمَّتَكَ لا تَستطيعُ خمسينَ صلاةً في اليوم ، وإني والله قد جَرَّبتُ الناسَ قبلَكَ ، وعالجت بني إسرائيلَ أشدَّ المعالجةِ ، فارجِعْ إلى ربك فاسأله التخفيفَ لأمتك (18)( فالتَفَتَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - إلى جبريلَ كأنه يستشيرُه في ذلك فأشارَ إليه جبريلُ : أن نعم إن شئتَ ، فَعَلا به إلى الجبارِ تعالى )(18) قال : فرجعت (3)( إلى ربي فقلت : يا ربِّ خفِّفْ على أمتي )(3) (18)( فإن أمتي لا تستطيعُ هذا )(18) (3)( فحَطَّ عني خمساً ، فرجعت إلى موسى , فقلت : حطَّ عني خمساً قال : إن أمتَكَ لا يطيقون ذلك فارجِعْ إلى ربك فاسأله التخفيفَ )(3) فوضع عني عشراً فرجعت إلى موسى فقال : بما أمرتَ ؟ قلتُ : أمرتُ بأربعين صلاة , قال : إني قد خبرتُ الناسَ قبلَك وعالجتُ بني إسرائيلَ أشدَّ المعالجةِ ، فارجع إلى ربِّكَ فسَلْهُ التخفيفَ لأمتِكَ , قال : فرجعت فوضع عني عشراً قال : فرجعت إلى موسى فقال : بما أمرت ؟ فقلت : بثلاثينَ صلاةً , قال : إن أمتك لا تستطيعُ ثلاثينَ صلاةً وإني قد خَبَرْتُ الناسَ قبلَكَ ، وعالجت بني إسرائيلَ أشدَّ المعالجةِ فارجع إلى ربك فسله التخفيفَ لأمتك , قال : فرجعت فوضع عني(19/11)
عشراً , قال : فرجعت إلى موسى فقال : بما أُمِرْتَ ؟ فقلت : أمرتُ بعشرينَ صلاةً فقال : إن أمتك لا تستطيع ذلك ، وإني قد خبرت الناسَ قبلَك وعالجتُ بني إسرائيلَ أشدَّ المعالجةِ : فارجع إلى ربك فسلْهُ التخفيفَ . قال : فرجعت فأُمِرْتُ بعشرِ صلواتٍ كلَّ يومٍ قال : فرجعت إلى موسى فقال : بما أمرتَ ؟ فقلت : أمرتُ بعشرِ صلواتٍ , قال : إن أمتَكَ لا تستطيعُ عشرَ صلواتٍ وإني قد خبرت الناس قبلَكَ وعالجت بني إسرائيل أشدَّ المعالجة (18)( والله لقد راودتُ بني إسرائيلَ قومي على أدنى من هذا فضعُفوا فتركوه فأمتُكَ أضعفُ أجساداً وقلوباً وأبداناً وأبصاراً وأسماعاً )(18) ارجع إلى ربك فسلْهُ التخفيفَ لأمتك . (18)( كلُّ ذلك يلتفتُ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - إلى جبريلَ ليشيرَ عليه ولا يكرَهُ ذلك جبريلُ ، فرفَعَهُ فقال : يا رب إن أمتي ضعفاء أجسادُهم وقلوبهم وأسماعُهم وأبدانهم فخفِّفْ عنا )(18) قال : فرجعت فأُمِرْتُ بخمسِ صلواتٍ كلَّ يومٍ (3)( قال يا محمد )(3) (18)( قال : لبيك وسعديك , قال : )(18) (3)( إنهن خمس صلوات كلَّ يوم وليلة لكلِّ صلاةٍ عشرٌ فذلك خمسون صلاة )(3) ( هي خمسٌ وهي خمسون لا يُبَدَّلُ القولُ لديَّ ) (18)( كما فُرضَتْ عليك في أمِّ الكتاب ، كلُّ حسنةٍ بعشرِ أمثالها فهي خمسونَ في أمِّ الكتاب وهي خمسٌ عليك )(18) (3)( ومن همَّ بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة فإن عملها كتبت له عشراً ، ومن هم بسيئة فلم يعملها لم تكتبْ شيئاً ، فإن عملها كتبت سيئة واحدة )(3) قال : (3)( فنزلت حتى انتهيت )(3) إلى موسى فقال : بما أمرت ؟ قلت : (18)( خَفَّفَ عنا أعطانا بكلِّ حسنةٍ عشرَ أمثالها )(18) أمِرْتُ بخمس صلواتٍ كلَّ يومٍ ، قال : إن أمَّتَكَ لا تستطيعُ خمسَ صلواتٍ كلَّ يومٍ ، وإني قد جربت الناس قبلَك وعالجتُ بني إسرائيلَ أشدَّ المعالجة فارجِع إلى ربك فاسأله التخفيفَ لأمتك , قلت : سألتُ ربي حتى استحييتُ ولكن(19/12)
أرضى وأسلِّمُ , فلما جاوزتُ نادى منادٍ : أمضيت فريضتي وخففتُ عن عبادي وجعلت الحسنةَ بعشرِ أمثالها . (18)( قال : فاهبط باسمِ الله فاستيقظَ وهو في المسجد الحرام )(18) .
(6)( فأعطيَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاثاً لم يُعطَهُنَّ نبيٌّ قبلَه ؛ أعطِيَ الصلواتِ الخمسَ ، وجُعِلَتْ بخمسينَ صلاة ، وأُعطِيَ خواتيمَ سورةِ البقرة ، وغُفِرَ لمن ماتَ لم يشرِكْ بالله من أمته شيئاً المقحمات )(6) .
قال : ثم أُتيتُ بدابةٍ دونَ البغلِ وفوقَ الحمارِ (8)( طويل الظَّهرِ ممدود )(8) أبيض هو البراقُ يضع خطوه عند أقصى طرفه (11)( أتي به إليه - صلى الله عليه وسلم - مسرجاً ملجماً ليركبَه وكانت تُسَخَّرُ للأنبياءِ قبلَه فاستصعبَ عليه فقال له جبريلُ : ما يحمِلُكَ على هذا ؟ أبمحمدٍ تفعلُ هذا ؟ فوالله ما ركِبَكَ أحدٌ قطُّ أكرمُ على الله - عز وجل - منه ، فارفَضَّ عَرَقاً )(11) . قال - صلى الله عليه وسلم - : فحُملْتُ عليه (16)( حتى أتينا أرضاً ذاتَ نخلٍ فأنزلني فقال : صلِّ فصليتُ ثم ركِبْنا فقال : أتدري أين صليتَ ؟ قلت : الله أعلم , قال : صليتَ بيثربَ ، صليتَ بطيبةَ ، وإليها المهاجَرُ, فانطلقَتْ تهوي بنا يقعُ حافرَها حيث أدركَ طرفُها حتى بلغنا أرضاً فقال : انزلْ فنزلتُ , ثم قال : صلِّ ، فصليت ، ثم ركبنا فقال : أتدري أين صليتَ ؟ قلت : الله أعلم , قال : صليتَ عند شجرةِ موسى عليه السلام حيث كلَّم الله موسى )(16) (23)( قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : مررتُ ليلةَ أُسرِيَ بي على موسى فرأيتُه قائماً يصلي في قبرِه عند الكثيبِ الأحمرِ )(23) قال : (16)( ثم انطلقت تهوي بنا يقع حافرُها حيث أدرك طرفها , ثم قال : انزل فنزلت فقال : صل , فصليت ، ثم ركبنا قال : أتدري أين صليت ؟ قلت : الله أعلم , قال : صليتَ ببيت لحم حيث وُلِدَ عيسى عليه السلام )(16) (3)( فركبته فسار حتى أتيت بيتَ المقدس )(3) (15)( فقال جبريلُ(19/13)
بأصبعه فخرق بها الحجر وشد به البراق )(15) (3)( فربطته بالحلقة التي يربط فيها الأنبياءُ ثم دخلتُ المسجدَ )(3) (10)( ووضعتُ قدمي حيث تُوضَعُ أقدامُ الأنبياءِ من بيتِ المقدس )(10) (5)( فرأيتني في جماعةٍ من الأنبياء فإذا موسى )(5) (4)( بن عمران عليه السلام )(4) (5)( قائمٌ يصلي فإذا رجلٌ )(5) (4)( آدم طوال )(4) (9)( أسحم آدم كثير الشعر شديد الخلق )(9) (5)( ضرب جعد كأنه من رجال شنوءة وإذا عيسى ابن مريم عليه السلام قائم يصلي فإذا ربعة أحمر )(5) (4)( جعد مربوع الخلق إلى الحمرة والبياض سبط الرأس )(4) (9)( شاباً أبيضَ جعد الرأس حديد البصر مبطن الخلق )(9) (5)( كأنما خرج من ديماس أقرب الناس به شبهاً عروة بن مسعود الثقفي وإذا إبراهيم عليه السلام قائم يصلي أشبه الناس به صاحبكم ، يعني نفسه )(5) (9)( فلا أنظر إلى إرب من آرابه إلا نظرت إليه مني )(9) .(19/14)
(7)( ولما لقي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إبراهيم ليلةَ أسري به قال : يا محمد أقرئ أمَّتَكَ مني السلامَ وأخبرهم أن الجنةَ طيبةُ التربةِ عذبةُ الماء وأرضُها واسعةٌ ، وأنها قيعانٌ ، غراسُها سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله )(7) (26)( ولقي النبي - صلى الله عليه وسلم - ليلةَ أسري به إبراهيمَ وموسى وعيسى فتذاكروا أمرَ الساعة فردّوا أمرَهم إلى إبراهيمَ ، فسألوه عنها فقال : لا علمَ لي بها ، فردوا الأمرَ إلى موسى ، فقال : لا علمَ لي بها ، فردوا الأمرَ إلى عيسى ، فقال : أما وجبتُها فلا يعلمُها أحدٌ إلا الله , ذلك وفيما عهد إلى ربي - عز وجل - أن الدَّجالَ خارجٌ ، قال : فأهبط ومعي قضيبان فإذا رآني يذوب كما يذوب الرصاصُ فأقتله ، قال : فيهلكُه الله حتى إن الحجرَ والشجرَ ليقول : يا مسلم ، إن تحتي كافراً فتعالَ فاقتُلْهُ ، قال : فيهلكهم الله ، ثم يرجع الناس إلى بلادِهم وأوطانهم ، قال : فعند ذلك يخرج يأجوجُ ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون ، فيطؤون بلادَهم ، لا يأتون على شيء ، إلا أهلكوه ، ولا يمرون على ماء إلا شربوه ، ثم يرجع الناس إلي ، فيشكونهم فأدعو الله عليهم فيدعون الله ، فيهلكهم الله ويميتهم ، حتى تجوى الأرض من نَتَنِ ريحِهم ، فتجأر الأرض إلى الله من نتن ريحهم ويجأرون إلي , قال : فأدعو الله فينزل الله - عز وجل - المطرَ فتجرف أجسادَهم ، حتى يقذفهم في البحر , ثم تُنسف الجبال ، وتُمدُّ الأرضُ مدَّ الأديم , قال : ففيما عهد إلي ربي - عز وجل - أن ذلك إذا كان كذلك فإن الساعة كالحامل المتم ، التي لايدري أهلها متى تفجؤهم بولادها ليلا أو نهارا )(26) قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (5)( فحانت الصلاةُ )(5) (42)( فأذن مؤذن )(42) (5)( فأممتُهم )(5) ، فتقدم رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إلى القبلة فصلى ، قال : (3)( فصليت فيه ركعتين )(3) (19)((19/15)
فالْتَفَتَ ثم الْتَفَتَ فإذا النبيون أجمعون يصلون معه )(19) (5)( فلما فرغ من الصلاة )(5) (27)( رأى من حائطِ بيتِ المقدس الشرقيِّ جهنمَ في الوادي الذي بالمدينة ورأى ملَكاً يُقَلِّبُ جمراً كالقطف وإذا جهنم تنكشف مثل الزرابي )(27) (9)( قال جبريل عليه السلام )(9) (5)( يا محمد ، هذا مالكٌ صاحبُ النار فسلِّمْ عليه ، فالتفت إليه )(5) (37)( فإذا رجلٌ عابسٌ يُعرَفُ الغضبُ في وجهه )(37) (5)( فبدأني بالسلام )(5) (9)( فسلمْتُ عليه )(9) (4)( فأُري مالكاً خازنَ النار والدجالَ في آيات أراهن الله إياه )(4) (9)( رأى الدجالَ في صورته رؤيا عينٍ ليسَ رؤيا منامٍ ، فيلمانياً أقمرَ هجاناً ، إحدى عينيه قائمة كأنها كوكبٌ دريٌّ ، كأن شعرَ رأسه أغصانُ شجرة )(9) (33)( وقال : رأيتُ ليلةَ أسري بي عموداً أبيضَ كأنه لؤلؤ تحمله الملائكة ، قلت : ما تحملون ؟ قالوا : نحمل عمود الإسلام ، أُمِرْنا أن نضعًه بالشام )(33) (3)( قال : ثم خرجت فجاءني جبريل عليه السلام بإناءٍ من خمرٍ وإناء من لبنٍ وإناء من عسل )(3) (5)( فقيل لي : خُذْ أيَّها شئت ، فنظرت إليها )(5) (3)( فاخترتُ اللَّبَنَ )(3) (5)( فشربته )(5) (3)( فقال جبريلُ - صلى الله عليه وسلم - : اخترت الفطرة )(3) (5)( الحمد لله الذي هداك للفطرة ، أما إنك لو أخذت الخمرَ غَوَت أمتُك )(5) (16)( ثم انصرف بي ، فمررنا بعيرٍ لقريشٍ بمكان كذا وكذا (16) (17) ( فنفرت فقالوا : يا هؤلاء ما هذا ؟ قالوا : ما نرى شيئاً ، ما هذه إلا ريح )(17) (16)( فأضلُّوا بعيراً لهم فجمعه فلانٌ )(16) (501 ) .(19/16)
(1)( ولما أصبح النبي - صلى الله عليه وسلم - بمكة فَظَعَ بأمره وعرف أن الناسَ مكذبوه )(1) ، وأصبح النبي - صلى الله عليه وسلم - يتحدث بذلك ، فارتدَّ ناسٌ ممن كانوا آمنوا به وصدقوه ، وسَعَوْا بذلك إلى أبي بكر رضي الله عنه ، فقالوا : هل لك إلى صاحبك يزعم أنه أسري به الليلة إلى بيت المقدس , قال : أو قال ذلك ؟ قالوا : نعم , قال : لئن كان قال ذلك لقد صدق , قالوا : أو تصدقه أنه ذهب الليلةَ إلى بيت المقدس وجاء قبل أن يصبح ؟ قال : نعم ، إني لأصدقه فيما هو أبعد من ذلك ، أصدقه بخبر السماء في غدوةٍ أو روحةٍ . فلذلك سمي أبو بكر الصديق . (1)( وقعد - صلى الله عليه وسلم - معتزلاً حزيناً ، فمر به عدوُّ الله أبو جهل ، فجاء حتى جلس إليه فقال له كالمستهزىء : هل كان من شيء ؟ فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : نعم , قال : وما هو ؟ قال : إني أسري بي الليلة , قال : إلى أين ؟ قال : إلى بيتِ المقدس , قال : ثم أصبحت بين ظهرانينا ؟ قال : نعم , فلم يُرِهِ أنه يكذبه مخافةَ أن يجحدَه الحديثَ إذا دعا قومَه إليه . فقال : أرأيتَ إن دعوتُ قومَك أتحدثهم بماحدثتني ؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : نعم , قال : هيا معشر بني كعبِ بنِ لؤي هلم . فانتفضت إليه المجالسُ وجاءوا حتى جلسوا إليهما ، قال : حدِّثْ قومَك بما حدثتني , فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إني أسري بي الليلة , فقالوا : إلى أين ؟ قال : إلى بيت المقدس , قالوا : ثم أصبحت بين ظهرانينا ؟ قال : نعم , فمن بين مصفق ، ومن بين واضع يده على رأسه متعجبا للكذب - زعم - قالوا : وتستطيع أن تنعت لنا المسجد ؟ - وفي القوم من قد سافر إلى ذلك البلد ورأى المسجد - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : )(1) (2)(فلما كذبتني قريش قمتُ في الحجر )(2) ( وقريش تسألني عن مسراي ) (1)( فذهبت أنعت فما زلت أنعت حتى )(1) سألتني عن أشياءَ من بيت المقدس لم(19/17)
أثبتها فكربت كربة ما كربت مثله قط ، قال : (2)( فأثنيت على ربي وسألته أن يمثِّلَ لي بيتَ المقدس فجلا الله لي بيت المقدس )(2) ( فرفعه الله لي أنظر إليه ) (1)( حتى وضع دون دار عقيل )(1) ( ما يسألوني عن شيءٍ إلا أنبأتُهم به ) (2)( فطفقت أخبرُهم عن آياتِه وأنا أنظر إليه )(2) (1)( فقال القوم : أما النعت فوالله لقد أصاب )(1) ، (3)( فكان عليُّ بنُ أبي طالب يحلف أن الله أنزلَ اسمَ أبي بكر من السماء الصديق )(3) (503 ) .
فقال : إن من آية ما أقول لكم أني مررت بعيرٍ لكم بمكان كذا وكذا قد أضلوا بعيراً لهم ، فجمعه فلان ، وإن مسيرَهم ينزلون بكذا ثم بكذا ويأتونكم يوم كذا وكذا ، يقدمهم جمل آدم عليه مِسحٌ أسود وغرارتان سوداوان ( فحدثهم بمسيره وبعلامة بيت المقدس وبعيرهم ) فلما كان اليوم أشرفَ الناسُ ينتظرون حتى كان قريب من نصف النهار حتى أقبلت العير يقدمهم ذلك الجمل الذي وصفه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ( فقال ناسٌ : نحن لا نصدق محمداً بما يقول فارتدوا كفاراً ، فضربَ الله رقابَهم مع أبي جهل ) (537 ) .
ولما ذكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - البراق ، قال أبو بكر : صفها لي . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : هي كذه وذه . فقال : أشهد أنك رسول الله , وكان أبو بكر قد رآها ( 538 ) .
الحواشي
( 407 ) أخرجه الدارمي 1/28-29 عن عبد الرحمن بن غنم الأشعري بإسناد حسن وصحابيه مختلف في صحبته ، ومعناه له شواهد كثيرة ، والراوي عن عبد الرحمن من كبار التابعين ، وهو أبو إدريس الخولاني لو أرسله لقبله جمع كبير فكيف بشيخه ؟
والحديث في الإسراء لا شك ، لأن ما قاله جبريل لا يصلح أن يقال للطفل إلا مجازاً باعتبار ما سيكون ، والشق إنما حصل مرتين فقط عند التحقيق ؛ مرة عند طفولته وقد تقدمت ، ومرة عند الإسراء . وهذا الحديث فيها ، والله أعلم .(19/18)
( 501 ) أخرجه البخاري 7/201 ، ومسلم 1/150 وابن أبي شيبة 14/305 والترمذي باختصار 5/443 والنسائي مطولاً 1/217-221 وأبو عوانة 1/116- 124 وأحمد 4/207-208 ، 208-210 وابن خزيمة 1/153 وابن جرير 15/3 ، 27/53 والفاكهي 2/25 والبيهقي في الدلائل 2/373 وابن عساكر 566-570/1 عن أنس بن مالك ، عن مالك بن صعصعة ، مرفوعا . وهو أصل الحديث .
ـ وما بين القوسين غير المرقمين من حديث أنس بن مالك عن أبي ذر مرفوعا عند البخاري 1/458 وانظر رقم 1636 ، 3342 ، ومسلم 1/148 ، وأخرجه أيضا أبو عوانة 1/133-134-135 وأبو يعلى 6/297 والبيهقي في الدلائل 2/379 والبغوي في شرح السنة 3754 وابن عساكر 571/1 والذهبي في السيرة ص168 .
ـ وما بين القوسين (1) ، (1) من حديث ابن عباس وأبي حبة الأنصاري عند البخاري 1/459 ، 6/374 ، ومسلم 1/149 والحاكم 3/633 والفاكهي 2/24 وغيرهم .
ـ وما بين القوسين (2) ، (2) مما أخرجه أحمد 3/164 والحاكم 1/81 من طريق معمر عن قتادة عن أنس وإسناده صحيح , وقال الحاكم : صحيح على شرط الشيخين وسكت الذهبي . وأخرجه أيضاً البخاري تعليقاً والطبراني في الصغير2/131 والحاكم 1/81 من طريق إبراهيم بن طهمان عن شعبة عن قتادة عن أنس , وانظر الصحيحة 112 .
وأخرجه ابن طهمان في مشيخته وأبو يعلى 5/460. وانظر تخريج الزيادة (11) ، (11) .
وأخرج البيهقي في الدلائل 2/7 شق الصدر من طريق سعيد عن قتادة عن أنس .
وأخرج الترمذي 5/316 وأحمد من طريق قتادة عن أنس من حديث المعراج رؤيته - صلى الله عليه وسلم - لإدريس في السماء الرابعة , وقال : حسن .(19/19)
ـ وما بين القوسين (3) ، (3) من حديث أنس بن مالك من رواية ثابت البناني عنه عند مسلم 1/146وابن أبي شيبة 14/302 وأحمد 3/148-149، 153 ، وأبي عوانة 1/126-128 وأبي يعلى 6/109 ، 165 ،216 والحاكم 2/468 والبيهقي في الدلائل 1/147 ،2 /382 والبغوي في شرح السنة 3763 وابن عساكر 1/573-574 وابن جرير 27/54 وعبد بن حميد وابن مردويه وتمام . ولم يخرج البخاري رواية ثابت لأنها من رواية حماد بن سلمة عنه وليس على شرطه قاله ابن الديبع بنحوه , وبعضها عند البخاري 1/458 وابن ماجه 1/448 وأحمد 3/161 والفاكهي 2/26 من طريق الزهري عنه , وأخرج ابن جرير 27/54 بعضه من طريق سليمان بن المغيرة عن أنس بنحوه .
ويلاحظ أنه في جزء عرض الآنية عند بيت المقدس لم تذكر هذه الرواية العسل فأضفته أنا من مجموع روايتي ابن عباس من طريق أبي ظبيان وحديث ابن مسعود ، ويأتي ذكرهما وتصحيح العلماء لهما، وجعلت الضمير في الزيادة التي بعدها متوافقا مع ذلك . فثبت عرض الآنية الثلاثة في كل من المعراج والإسراء , ولم يثبت عرض الماء وإنما جاء في روايات ضعيفة ، ولعل ذلك لأمور منها مراعاة الوتر ومنها أن المقصود الضيافة وليس الماء مما يضاف به غالبا .
ـ وما بين القوسين (4) ، (4) فمن حديث ابن عباس عند مسلم 1/151،152 ، وأحمد 1/245 ، 342 والبيهقي في الدلائل 2/386 وهو في الصحيحين باختصار أيضا .
ومابين القوسين (5) ، (5) فمن حديث أبي هريرة عند البخاري 6/428 ،476 مسلم 1/154 ، وأحمد 2/282 ، 512 ، والترمذي 5/300 ، وأبي عوانة 1/129-130 ، 131 والدارمي 2/110 وابن جرير 15/15 والبيهقي في الدلائل 2/357 ، 358 ، 387 وله شاهد من حديث ابن عباس المخرج في رقم 514 .(19/20)
ـ وما بين القوسين (6) ، (6) فمما أخرجه مسلم وأبو عوانة وغيرهما عن ابن مسعود . وانظر موسوعة فضائل سور وآيات القرآن . وله شاهد عن ابن عباس من طريق جويبر عن الضحاك عنه أخرجه ابن جرير 27/56 وعند أبي يعلى والحكيم الترمذي ( انظر الدر 6/125 ) وقال الهيثمي : رواه أبو يعلى وفيه جويبر وهو ضعيف ( المجمع 7/114 ) ، وآخر عنه عند ابن إسحق والبيهقي في الأسماء والصفات ( انظر الدر 6/124 ) ، وعن أنس عند ابن مردويه وآخر عن أسماء عنده أيضا وعند ابن جرير وغيره وسيأتي ( انظر الخصائص 1/156 ، 177 ) وآخر عن أم الطفيل امرأة أبي بن كعب عند الخطيب 13/311 ومراسيل عن مجاهد وإبراهيم ويعقوب بن زيد وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم .
وأما لفظة ملائكة فمن مجموع روايات منها رواية أبي هريرة الطويلة ويأتي تخريجها ورواية ابن عباس عند عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه ( انظر الدر 6/116 ) . ورواية الربيع المرسلة عند الطبري 27/56 وكذا رواية ابن زيد عنده أيضا , ورواية سلمة بن وهرام المرسلة عند عبد بن حميد . ولاشك أنها ملائكة في صورة فراش من ذهب حيث إن هذا المكان لايصله مخلوق ضئيل مثل الفراش وإنما هو مكان المقربين والخصوص من الملائكة .(19/21)
ـ وما بين القوسين (7) ، (7) جاء في عدة أحاديث منها عن ابن مسعود عند الترمذي والطبراني في الصغير 1/196 والخطيب في التاريخ 2/292 وقال الترمذي : حسن غريب , وقال الألباني : حسن ( صحيح الترمذي 3/160 ) وعزاه السيوطي أيضا لابن مردويه ( انظر الخصائص 1/163 ) وعن أبي أيوب الأنصاري عند أحمد 5/418 والطبراني وابن حبان 2/133 وابن أبي حاتم وابن مردويه ( انظر الخصائص 1/166 ) وقال الهيثمي : رجال أحمد رجال الصحيح غير عبد الله بن عبد الرحمن بن عبد الله بن عمر بن الخطاب وهو ثقة لم يتكلم فيه أحد ووثقه ابن حبان ( المجمع 10/97 ) وحسنه المنذري وعن ابن عمر عند الطبراني وغيره وقال الهيثمي : فيه عقبة بن علي وهو ضعيف ( المجمع 10/98 ) وعن ابن عباس عند ابن مردويه من طريق شهر بن حوشب عنه ( انظر الخصائص 1/160-161 ) ( وانظر الصحيحة 105 )
ـ وما بين القوسين (8) ، (8) فمن حديث حذيفة بتصرف يسير , أخرجه أحمد 5/387 ، 392 ، 394 وابن أبي شيبة 11/460 ، 14/306 والحاكم 2/359 والحميدي 1/213 والطيالسي ص55 والترمذي 5/307 وابن جرير 15/15 والنسائي في التفسير وابن حبان ( الموارد 39 ) والبيهقي في الدلائل 2/364 بإسناد حسن . وقال الترمذي : حديث حسن صحيح وقال الحاكم : صحيح الإسناد ولم يخرجاه وسكت الذهبي .
ـ وما بين القوسين (9) ، (9) فمن حديث ابن عباس المخرج في رقم 514 , وقد أخرج البخاري وغيره عن ابن عباس تفسير وماجعلنا الرؤيا التي أريناك بأنها رؤيا عين وسيأتي تخريجها وشواهدها في كلامنا على نزول سورة الإسراء .
ـ وما بين القوسين (10) ، (10) فمن حديث أبي هريرة عند أحمد 2/528 وابن مردويه( انظر الخصائص 1/176 ) وإسناده حسن وأصله في الصحيحين وقد تقدم .(19/22)
ـ وما بين القوسين (11) ، (11) فمما أخرجه أحمد 3/164 ، والترمذي 5/301 وأبو يعلى 5/459 وابن جرير 15/15 والبيهقي في الدلائل 2/362-363 من طريق قتادة عن أنس ، وإسناده صحيح . وقال الترمذي : هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث عبد الرزاق . وقال ابن حجر : وصححه ابن حبان ا.هـ ، ورواه ابن إسحاق عن قتادة مرسلاً بنحوه ( انظر الفتح 7/207 ) وله شاهد عند ابن سعد وابن عساكر عن ابن عمر وأم سلمة وعائشة وأم هانىء وابن عباس في حديث عنهم جميعا ( انظر الدر 4/149 ) .
ولبعضه شاهد عند البزار وابن أبي حاتم والبيهقي في الدلائل وغيرهم عن شداد بن أوس .
ولبعضه أيضا شاهد عند البزار عن علي ( انظر الدر 4/140، 154 ) . وعزاه السيوطي لعبد بن حميد وابن جرير وابن مردويه وأبي نعيم في الدلائل ( الدر 4/149 ) وقوله : وكانت تسخر للأنبياء قبله زيادة عند النسائي وابن مردويه وانظر رقم 108 فلها شواهد هناك .
ـ وما بين القوسين (12) ، (12) فمن حديث جابر عند مسلم 1/153 ط.فؤاد ، وأبي عوانة 1/129، 130
ـ وما بين القوسين (13) ، (13) فمن حديث علي عند ابن جرير 27/11 من طريق خالد بن عرعرة عنه ، وإسناده صحيح . وقد سبق الكلام عن خالد في رقم 173 . وله طريق ثانية عن علي عند ابن جرير أيضا وفيها ضعف .
وله شاهد مرسل عن قتادة بإسناد صحيح عنده كذلك ( وانظر الصحيحة 477(
ـ وما بين القوسين (14) ، (14) فمما أخرجه أحمد 3/128 وابن أبي عاصم في السنة 1/262 وابن أبي شيبة 11/472 ، 14/309 من طريق حميد عن أنس , وقال الألباني في رواية ابن أبي عاصم : إسناد جيد على شرط مسلم ، وقال في رواية أحمد : إسناد صحيح على شرط الشيخين .(19/23)
ـ وما بين القوسين (15) ، (15) فمن حديث بريدة عند الترمذي 5/301 والبزار وابن حبان ( الموارد 39 ) والحاكم 2/360 . وقال الترمذي : حسن غريب . وقال الحاكم : صحيح الإسناد وأبو تميلة والزبير مروزيان ثقتان , وسكت الذهبي . وفيها أن جبريل خرق صخرة بيت المقدس بأصبعه وشد فيها البراق , وهي من طريق أبي تميلة عن الزبير بن جنادة عن عبد الله بن بريدة عن أبيه , ورجاله ثقات إلا أن الزبير قال فيه الحافظ : مقبول , وقد وثقه ابن حبان والحاكم ، وقال أبو حاتم : شيخ ليس بالمشهور وحسن له الترمذي وروى عنه جماعة من الثقات ، فحديثه حسن إن شاء الله تعالى .
وله شاهد من حديث أنس عند ابن أبي حاتم من طريق يزيد بن أبي مالك بنحوه ( انظر تفسير ابن كثير 5/11 ) ويشهد له ما يأتي بعده من ذكر الربط في الحلقة . وقال السهيلي : وهو حديث صحيح وقد رواه غير بريدة . ووقع في حديث الحارث بن أبي أسامة من طريق أنس ومن طريق أبي سعيد أعني ربطه للبراق في الحلقة التي كانت تربط فيها الأنبياء ، غير أن الحديث يرويه داود بن المحبر وهو ضعيف ( الروض الأنف 2/151 ) ويشهد له أيضا ما جاء في مرسل محمد بن كعب القرظي بنحوه وسيأتي .(19/24)
ـ وما بين القوسين (16) ، (16) من حديث شداد بن أوس أخرجه الطبراني 7/328 وابن أبي حاتم ( انظر تفسير ابن كثير 5/25 ) والبيهقي في الدلائل 2/355-357 وقال : هذا إسناد صحيح ، وروي ذلك مفرقا في أحاديث غيره , فتعقبه الذهبي في السيرة بقوله : ابن زبريق تكلم فيه النسائي وقال أبو حاتم شيخ ا.هـ وقال الهيثمي : رواه البزار والطبراني في الكبير ، وفيه إسحق بن إبراهيم وثقه يحيى بن معين وضعفه النسائي ( المجمع 1/74 ) . وقال ابن كثير : لاشك أن هذا الحديث أعني الحديث المروي عن شداد بن أوس مشتمل على أشياء منها ما هو صحيح كما ذكره البيهقي ، ومنها ما هو منكر كالصلاة في بيت لحم وسؤال الصديق عن نعت بيت المقدس وغير ذلك والله أعلم ( التفسير 5/25 ) وابن زبريق لا ينزل حديثه عن الحسن إن شاء الله تعالى . وفي الإسناد عمرو بن الحارث قال الحافظ : مقبول .
والحديث يشهد له ما أخرجه النسائي 1/221 وابن أبي حاتم في تفسيره ( انظر تفسير ابن كثير ) من طريقين عن يزيد بن أبي مالك عن أنس ، ويأتي الكلام عليه إن شاء الله تعالى . وقد أثبت ما اتفقت عليه الروايتان ، ومما يشهد لصلاته بسيناء - وقد استنكره بعض أهل العلم - حديث مروره بموسى وهو يصلي في قبره عند الكثيب الأحمر فإن ذلك يقتضي أنه مر بسيناء وهي ليست في طريقه . ويشهد لذلك أيضا ما جاء في حديث عبد الله بن شداد الآتي وفيه : ثم سار إلى مصر ( وانظر ما كتبته في جمع الفوائد ص 106 ) وجملتا ( وإليها المهاجر ) و ( حيث كلم الله موسى ) من حديث أنس , وأما قصة العير فشواهدها كثيرة سأنبه عليها عند مواضعها ومنها حديث عبد الله بن شداد وحديث ابن عباس المخرج برقم 514 ، وحديث ابن عباس وابن مسعود عند ابن أبي حاتم وسيأتي .
ـ وما بين القوسين (17) ، (17) فمن حديث عبد الله بن شداد بإسناد صحيح أخرجه ابن أبي شيبة 11/461 ، 14/308 وابن جرير 15/15 وعبد الله صحابي صغير .(19/25)
ـ وما بين القوسين (18) ، (18) فمن حديث أنس من رواية شريك عنه عند البخاري 13/478 ومسلم والفاكهي 2/26 ،114 وابن جرير 15/3-4 ، 27/45 والبيهقي في الدلائل وابن عساكر 1/575-577 ، ولكل جزء منه شواهد كثيرة , وقد استنكر بعضه جماعة من الحفاظ لعدم وقوفهم على شواهده ( انظر كمثال تفسير ابن كثير 5/6 ) ، ووجه ذلك الحافظ ابن حجر فسأذكر من كلامه ما يحتاج إليه وسأزيد على ما ذكر بعض الشيء وبالله التوفيق .
ـ أما بداية الحديث وما كان من نومه وإتيان الملائكة له فقد ذكر الحافظ متابعة ميمون بن سياه لشريك عن أنس عند الطبراني على ذلك .
ـ وأما قوله قبل أن يوحى إليه فذكر الحافظ متابعة كثير بن خنيس له عند الأموي في مغازيه وأزيد أنها عند ابن جرير وابن مردويه كما سيأتي , ويمكن توجيهها بحمل قوله قبل أن يوحى إليه على الوحي إليه بأنه سيقوم بهذه الرحلة لدلالة نفس رواية شريك والروايات الأخرى على عدم صحة حملها على بدء الوحي من أساسه ( وانظر كلام الحافظ في الفتح 13/485(
ـ وأما قوله ( ودنا الجبار ... ) الخ فقد ذكر الحافظ متابعة رواية ميمون بن سياه له على ذلك ، وذكر رواية ابن عباس الآتية وقال : وهو شاهد قوي لرواية شريك .
وأزيد على ماذكر في هذه المسألة : أنه في رواية البيهقي لحديث حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس من نفس طريق مسلم : فدنا فتدلى فأوحى إلى عبده ما أوحى , وقال الذهبي : أخرجه مسلم دون قوله فدنا فتدلى وذلك ثابت في رواية حجاج بن منهال وهو ثبت في حماد بن سلمة ( السيرة 174) .
وأخرج الطبراني في السنة والحكيم عن أنس مرفوعاً رأيت النور الأعظم ولط دوني بحجاب الرفرف والياقوت فأوحى الله إلي ما شاء أن يوحي .(19/26)
وأخرج ابن جرير 27/45 ،52 وابن حبان ( الموارد 40 ) مختصراً بإسناد حسن عن ابن عباس قال : دنا ربه فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى فأوحى إلى عبده ما أوحى . قال ابن عباس : قد رآه النبي - صلى الله عليه وسلم - , وعلقه الذهبي وقال : إسناده حسن ( انظر السيرة 164) . وعزاه الحافظ للأموي في مغازيه ومن طريقه البيهقي وقال : وهذا سند حسن ( انظر الفتح 13/484 ) . وعزاه السيوطي لابن مردويه وهو عند الترمذي عن الأموي 5/395 وقال الترمذي : حديث حسن ا.هـ وأخرجه أيضا الحاكم مختصراً 1/65 وصححه . ويؤيده ما رواه ابن جرير من طريق آخر 27/47 عن ابن عباس وإسناده صحيح في قوله فأوحى إلى عبده ماأوحى قال : عبده محمد - صلى الله عليه وسلم - ما أوحى إليه ربه . وأخرج أيضا 27/48 من طريق ثالث عن ابن عباس وفيه : رأيت ربي في أحسن صورة ، فذكر الحديث وقال فيه : فذلك قوله في كتابه يحدثكموه ثم دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى فأوحى إلى عبده ما أوحى ما كذب الفؤاد ما رأى فجعل بصري في فؤادي فنظرت إليه بفؤادي , إلا أن فيه خلطاً بين المنام الذي وضع فيه رب العزة يده بين كتفيه - صلى الله عليه وسلم - وبين المعراج ، ولعله قصد أن هذه هي المرة الثانية ، والله أعلم . وسيأتي قصة هذا المنام إن شاء الله تعالى بعد الهجرة .
وقال السيوطي : أخرج ابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه عن ابن عباس دنا فتدلى إلى ربه عز وجل قال الهيثمي : رواه الطبراني وفيه عطاء بن السائب وقد اختلط ( المجمع 7/114 ) ، وقال السيوطي أيضا : أخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عنه قال : كان بينه وبينه مقدار قوسين .
وعن ابن عباس مرفوعا : فارقني جبريل فانقطعت عني الأصوات فسمعت كلام ربي يقول : ليهدأ روعك ادن يا محمد ادن ( ذكره ابن الديبع في حدائق الأنوار 1/397 ولم يعزه لأحد )(19/27)
وأخرج ابن مردويه نحو رواية شريك من طريق كثير بن خنيس عن أنس وفيه فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى فأوحى إلى عبده ماأوحى , ( انظر الدر 6/139 ) إلا أن فيه أن الكوثر في السماء السابعة على الصواب , وقد أخرجه ابن جرير 27/47 من طريقه مختصرا وفيه : فدنا ربك فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى فأوحى إلى عبده ما أوحى . وأخرجه أيضا الأموي في مغازيه كما تقدم .
وأخرج الخطيب 5/130 من طريق حميد عن أنس مرفوعاً لما أسري بي إلى السماء قربني ربي تعالى حتى كان بيني وبينه كقاب قوسين أو أدنى لا بل أدنى ... الحديث . وأخرجه أيضاً ابن عساكر ( انظر الخصائص 2/193، والدر المنثور ) .
وأخرج الخطيب أيضا 10/135 من طريق عبد الله بن محمد بن اليسع - قال الأزهري : ليس بحجة - عن لوين عن سويد بن عبد العزيز عن حميد عن أنس مرفوعا : ... انتهيت فرأيت ربي عز وجل بيني وبينه حجاب بارز فرأيت كل شيء منه حتى رأيت تاجاً مخوصاً من لؤلؤ .
وأخرج ابن جرير 27/46 عن محمد بن كعب القرظي عن بعض أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - : قلنا يا نبي الله هل رأيت ربك ؟ قال : لم أره بعيني ورأيته بفؤادي مرتين ثم تلا ثم دنا فتدلى .
وفي مرسل شريح ابن عبيد الذي أخرجه ابن سنجر ( انظر الروض الأنف 2/157 ) وأبو الشيخ وأبو نعيم في الدلائل ( انظر الدر 6/124 ) قال : فأوحى إلى عبده ما أوحى ، فلما أحس جبريل بدنو الرب خر ساجدا ...حتى قضى الله إلى عبده ما قضى ... الخ ,
وفي رواية ابن مسعود عند أحمد وابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني وأبي الشيخ في العظمة عن ابن مسعود بإسناد حسن وسيأتي قال : ثم دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى فأوحى إلى عبده ما أوحى قال : فلما أحس جبريل ربه عاد في صورته ... الخ .
وفي رواية علي عند البزار حتى انتهى إلى الحجاب الذي يلي الرحمن وستأتي .(19/28)
و في حديث أبي سعيد الخدري وسيأتي : فتغشى لي فكان بيني وبينه قاب قوسين أو أدنى . وفي لفظ عند ابن المنذر وابن مردويه : اقترب من ربه فكان قاب قوسين أو أدنى ( انظر الدر 6/123 ) .
وفي حديث هبار بن الأسود الذي أخرجه أبو نعيم وابن عساكر أن عتبة بن أبي لهب قال : والله لأنطلقن إلى محمد ولأوذينه في ربه فانطلق فقال : يا محمد هو يكفر بالذي دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : اللهم ابعث إليه كلباً من كلابك , وسيأتي ذكره في محله إن شاء الله تعالى .
وفي حديث الأعرج عن أبي هريرة عند الخطيب 5/13 وفيه : انتهى بي جبريل إلى سدرة المنتهى فغمسني في النور غمسة ثم تنحى فقلت : حبيبي جبريل أحوج ما كنت إليك تدعني وتتنحى ، قال : يا محمد إنك في موقف لا يكون نبي مرسل ولا ملك مقرب يقف ها هنا ، أنت من الله أدنى من القاب إلى القوس . فأتاني الملك فقال : إن الرحمن يسبح نفسه فسمعت الرحمن يقول : سبحان الله ما أعظم الله لا إله إلا الله ... الحديث ، قال الخطيب : هذا حديث منكر ورجال إسناده كلهم معروفون بالثقة إلا إبراهيم بن عيسى القنطري فإنه مجهول ا.هـ
وعن مجاهد عند آدم بن أبي إياس والفريابي والبيهقي في الأسماء والصفات في قوله قاب قوسين قال حيث الوتر من القوس يعني ربه , وعن مجاهد وعكرمة عند ابن المنذر كان بينه وبينه مثل مابين كبدها إلى الوتر ( انظر الدر 6/123) .
ويشهد لذلك الروايات التي جاءت في قوله إذ يغشى السدرة ما يغشى وأن المراد نور الرب . ومن ذلك ما أخرجه ابن جرير 27/56 من طريق العوفيين عن ابن عباس قال : غشيها الله , وعن الربيع قال : غشيها نور الرب ، وعن أبي هريرة من حديث أبي جعفر الرازي عنه وسيأتي : فغشيها نور الخلاق . ويشهد لذلك أيضا الروايات التي تدل على رؤيته - صلى الله عليه وسلم - لربه ولتنظر في موضعها من الكتاب .(19/29)
وأما قضية النوم والاستيقاظ فأرى والله أعلم أن شريكاً قد ضبطها وقد توبع على أولها في عدة روايات ، وشريك لم يذكر في روايته غير المعراج فليس هناك أي مجال لتوهيمه فيما ذكر ، فإن كثيراً من الروايات تؤيد وقوع المعراج مناماً بالروح فقط ، سواء الروايات التي جاءت في قصة الإسراء والمعراج أو الروايات الأخرى المشابهة ، والقول بذلك وجه مشهور عند أهل العلم ، وأراه جامعا بين الاختلافات المتباينة في تلكم المسألة الهامة أضف إلى ذلك تقدم المعراج على الإسراء وهو الذي صرحت به بعض الروايات وهاكم التفصيل :(19/30)
ـ إن العلماء عندما رأوا الاختلافات الشديدة بين الروايات لجأ كثير منهم إلى حملها على التعدد هرباً من التوفيق لصعوبته ، خاصة مع عدم الاقتصار على الروايات الصحيحة والنظر في ضبط الرواة ؛ فمن أهل العلم من قال بتكرر الإسراء وتكرر المعراج عدة مرات ، ومنهم من قال بحدوثهما مناماً ثم حدوثهما يقظة ، وغير ذلك . وبحمد الله تعالى بعد دراستي للروايات دراسة ممحصة متعمقة من جهة الأسانيد أولا ثم من جهة المتون ثانيا ثم من جهة موافقة العقل للنقل ثالثا تبين لي ما جعل الروايات كلها تلتئم وهو القول بكون المعراج الذي حدث في ليلة الإسراء كان بالروح فقط أثناء النوم توطئة وتمهيداً لرحلة الإسراء بالجسد والروح معاً ، وأن المعراج بالروح مناماً تكرر ولا مانع من ذلك ، وقد يكون مرة وقد يكون عدة مرات حيث إنه لا يعدو أن يكون انطلاقة للروح ، وهو أمر غير مستبعد تكرره لغير الأنبياء فكيف بالأنبياء ؟ فمثلاً حديث سمرة في المعراج مناماً وحديث أبي أمامة وحديث أبي موسى الأشعري كلها تدل على تكرر المعراج ، وكما أنها كانت بالاتفاق مناماً فشبيهها يكون مثلها مناما عند النظر , وقد فرق ابن القيم وابن كثير وغيرهما بين العروج بالروح وبين المنام المحض ، وقوى ابن القيم القول بالعروج بالروح ونقل عن موسى بن عقبة عن الزهري قوله : عرج بروح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ...الخ ( انظر زاد المعاد 3/40، والبداية 3/114 ) ونص ابن كثير على احتمال كون رواية شريك توطئة لما وقع يقظة . ( انظر التفسير 5/6 ) . وعلى القول بعدم التكرار كما رجحت يمكن توجيه ذلك بأن ما رآه في المعراج حالة نومه كان توطئة لما رآه في الإسراء حالة يقظته من رؤية للأنبياء ورؤية للنار ونحو ذلك ,(19/31)
ورد في بعض روايات المعراج مايشبه ماجاء في حديث سمرة وغيره مما يؤكد ما قلناه . وورد في بعض الروايات الضعيفة ما يشهد لذلك وهو التنصيص فيها أن المعراج هو ما تعرج به الأرواح عندما يموت الميت . وورد في بعض الروايات التقاؤه - صلى الله عليه وسلم - بأرواح الأنبياء ، ووردت في رواية لحديث ابن مسعود أن سدرة المنتهى إليها ينتهي مايعرج به من الأرواح وورد في أحاديث كثيرة التعبير بالعروج للروح وكذا في قوله تعالى : تعرج الملائكة والروح إليه .
وعلى القول الذي بينته ينتهي الاستشكال في رؤية النبي - صلى الله عليه وسلم - لربه ، وينتهي استشكال الدنو والتدلي ، ويتضح موافقة ذلك لقوله سبحانه ما كذب الفؤاد ما رأى .
وعلى هذا القول ينتهي الاستشكال المتعلق بالروايات التي تكلمت عن المعراج فقط ولم تذكر الإسراء والتي عكست الأمر فبعضها ذكر مالم يذكر الآخر .
وعليه أيضا ينتهي إشكالات الروايات التي رويت عن معاوية وعائشة والحسن في كونه بالروح والروايات الأخرى التي تدل على عكس ذلك والروايات التي صرحت بالمنام والروايات التي صرحت باليقظة .
ولا تعارض بين هذا القول وبين قوله تعالى : ? ???????????? ????????? ?????????? ???????????? ??????? ????? ???????????? ????????????? ?????? ???????????? ????????????? ?، وكون الآية نصت على الإسراء فقط وجعلت غايته المسجد الأقصى دليلٌ قوي وصريح في تعلق المعجزة بذلك ، وهذا هو القدر الذي بينا أنه كان بالجسد والروح معاً بخلاف المعراج الذي لا إعجاز فيه وكان توطئة وتمهيداً للإسراء .
يتضح مماذكرناه لماذا لم يذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - للمشركين معراجه على سبيل التحدي كما قال في الإسراء ولماذا اقتصرت جميع الروايات التي تكلمت عن تكذيب قريش وتصديق أبي بكر على ذكر الإسراء فقط ,(19/32)
هذا القول يحل لنا الإشكالات الواردة من مجيء بعض الروايات في قصة المعراج ثم مجيئها مرة أخرى في قصة منام كقصر عمر ونهر الكوثر وغير ذلك مما لايحوجنا إلى الحمل على التعدد الذي يمله العقل ويظهر فيه التكلف للهروب من المشكلة .
كذلك يوجه هذا القول صنيعَ كثير من أهل العلم الذين فرقوا في تبويبهم بين الإسراء والمعراج ، ولم يجمعوهما في باب واحد كابن إسحق والبخاري والذهبي وابن حزم وغيرهم .
وهذا القول يريحنا من عناء توجيه كيف صعد النبي - صلى الله عليه وسلم - بجسده في طبقات السماء ، وكيف نزل ، وكيف تحمل جسده ذلك ، وكيف رأى في النار أناساً ولم تقم القيامة بل لم يموتوا بعد كخطباء أمته الذين يقولون ما لا يفعلون ، وكيف رأى في الجنة من لم يمت بعد كبلال ، وكيف تم اللقاء بين جسد وأرواح في طباق السماء ، فالمعلوم أن أجساد الأنبياء في قبورهم في الأرض ، ولاشك أن نزول الروح إلى الأرض أقرب إلى الواقع من صعود الجسد إلى السماء , أما الإسراء فأمره لا يتعدى وجود دابة سريعة تقطع المسافات في وقت قصير ، ويقوي ذلك رؤية الصديق لها ونفور الدواب منها وما روي في بعض الطرق الضعيفة من كلامه - صلى الله عليه وسلم - مع القافلة بل وشربه من مياههم , وهذا الآن أصبح في إمكان البشر وإنما كان في وقته من المعجزات .(19/33)
قال الحافظ ابن حجر : وذهب بعضهم إلى أن الإسراء كان يقظة والمعراج كان في المنام أو أن الاختلاف في كونه يقظة أو مناما خاص بالمعراج لا بالإسراء ، ولذلك لما أخبر به قريشاً كذبوه في الإسراء واستبعدوا وقوعه ولم يتعرضوا للمعراج ، وأيضا فإن الله سبحانه وتعالى قال ? ???????????? ????????? ?????????? ???????????? ??????? ????? ???????????? ????????????? ?????? ???????????? ????????????? ? فلو وقع المعراج في اليقظة لكان أبلغ في الذكر فلما لم يقع ذكره في هذا الموضع مع كون شأنه أعجب وأمره أغرب من الإسراء بكثير دل على أنه كان مناما 0( الفتح 7/197 ) .
وقال السهيلي : ووقع في كتاب العلم للمازري قول رابع في الجمع بين الأقوال ، قال : كان الإسراء بجسده في اليقظة إلى بيت المقدس فكانت رؤيا عين ثم أسري بروحه إلى فوق سبع سموات ، ولذلك شنع الكفار قوله : وأتيت المقدس في ليلتي هذه ولم يشنعوا قوله فيما سوى ذلك ( الروض 2/150) ونقله عنه ابن سيد الناس ( انظر عيون الأثر 1/181) ، ونقل هذا القول أيضا ابن كثير ( انظر البداية 3/115 ) وقد رجح هذا القول الشيخ محمد أبو زهرة واستدل له ببيان القرآن وبعض النصوص فراجعه ( انظر خاتم النبيين 1/569-571 ) .
وأرى والله أعلم أن الإمام أبو محمد بن حزم يميل إلى ذلك أيضا ؛ فإنه لما تكلم عن الإسراء نص على كونه بالجسد ولم يفعل ذلك عندما تكلم عن المعراج ( انظر جوامع السير ص68 ) .(19/34)
ـ وأما ترتيب المعراج قبل الإسراء فقد جاء التصريح به في حديث ابن عباس من طريق قابوس عن أبيه عنه وجاء كذلك في حديث ابن مسعود من طريقيه وقد تقدم تصحيح أهل العلم لهما ووجود ثم في بعض الروايات التي في الإسراء عن أنس لا تدل على الترتيب ، وقد وقع في رواية أنس عن مالك بن أبي صعصعة وفي روايته عن أبي ذر ورواية شريك وثابت عنه بالتصريح بالمعراج بعد شق الصدر مباشرة ، إذا اعتبرنا ثم للترتيب ، وهذا القول يحل لنا الإشكالات الآتية :
ـ كيف عرج بروحه كما سبق تقريره وهو نائم بعد أن استيقظ وذهب إلى المسجد الأقصى بجسده وروحه ؟
ـ كيف يسأل عن الأنبياء وقد التقى بهم وصلى بهم وتحدث معهم ؟
ـ كيف يجزم حذيفة بأنه هو وجبريل ما زايلا ظهر البراق حتى رأى ما رأى لو كان عرج به بعد ما ترك البراق ؟
ـ كيف يكون العروج لرؤية ملكوت السموات مع مافيه من التشريف من بيت المقدس ويترك الأفضل وهو المسجد الحرام .
ـ وكيف يعرج به من المكان غير المسامت للبيت المعمور ويترك المكان المسامت له ، والذي يجعل العروج مستوياً بغير اعوجاج ؟ وقد أشار إلى ذلك الحافظ ابن حجر في الفتح 7/197 ,
ـ وكيف يقول فحانت الصلاة ويرجح ابن كثير وغيره أنها صلاة الفجر وهو لم يعرج به بعد ؟
ـ وكيف يصلي بهم الفجر ولم تفرض الصلاة بعد على قول الجمهور ؟
وغير ذلك من الإشكالات التي حدت ببعض أهل العلم إلى القول بالتقائه بالأنبياء مرتين ودخوله المسجد مرتين وصلاته فيه مرتين وهلم جراً ، مرة قبل المعراج ومرة بعد المعراج ، ومع ذلك لم يخلص من كل ما تقدم من الإشكالات .
وقد بوب جماعة من أهل العلم المعراج قبل الإسراء ، وجزم الواقدي بذلك وفرق بينهما بزمان ( انظر الطبقات وسيرة الذهبي ) ، وقال المناوي : اختلف في المعراج والإسراء هل كانا في ليلة واحدة أو ليلتين وأيهما كان قبل وهل كان يقظة أو مناماً بجسده أو بروحه مرة أو أكثر على أقاويل لاتكاد تحصى ( العجالة السنية ص65 ) .(19/35)
وقال ابن كثير : ثم اختلفوا في اجتماعه بالأنبياء وصلاته بهم أكان قبل عروجه إلى السماء كما دل عليه ما تقدم أو بعد نزوله منها كما دل عليه بعض السياقات وهو أنسب( انظر البداية 3/111 (
وأما باقي الانتقادات الموجهة إلى شريك فواضح توجيهها ويكفي كلام الحافظ فيها ولا مانع من حمل بعضها على عدم الضبط أو على تقدير محذوف والله تعالى أعلم .
ـ وما بين القوسين (19) ، (19) أخرجه أحمد 1/257 رقم 2324 وأبو نعيم في الدلائل والضياء في المختارة وابن مردويه عن ابن عباس بإسناد حسن , وقال السيوطي : بسند صحيح ( انظر الدر 4/151، الخصائص 1/159 ) وقال ابن كثير : إسناد صحيح ولم يخرجوه ( التفسير 5/26 ) وصححه الضياء وقال أحمد شاكر : إسناده صحيح ا.هـ وفيه ترتيب الإسراء بعد المعراج .
ولجزء بلال شواهد كثيرة منها :
ـ عن وحشي بن حرب مرفوعاً : لما أسري بي في الجنة سمعت خشخشة فذكر نحوه . قال الهيثمي : رواه الطبراني ورجاله ثقات ( المجمع 9/299 ) .
ـ ومنها بلفظ دخلت الجنة أو أدخلت الجنة بدون التصريح بكونه ليلة الإسراء عن سهل بن سعد عند الطبراني في الكبير والأوسط وعن أبي أمامة عنده فيهما أيضا وفي الصغير وعند أحمد 5/259 والخطيب 14/78 ( وانظر المجمع 9/299 ، والمعجم الكبير 8/254،281 ) .
ـ وله شواهد في الصحيحين وغيرهما مثل الحلية لأبي نعيم 1/150 عن جابر وبريدة بدون التصريح بأنه ليلة الإسراء وانظر ما يأتي في الزيادة ( 38) ، (38) .
ـ وما بين القوسين ( 20) ، (20) يأتي تخريجه برقم 633 .
ـ وما بين القوسين ( 21) ، (21) يأتي تخريجه برقم 502 .
ـ وما بين القوسين (22) ، (22) أخرجه أحمد 3/224 والخطيب 5/116 من طريق عبد الرحمن بن جبير وراشد بن سعد عن أنس بإسناد صحيح ، وأخرجه أبو داود موصولاً ومرسلاً 4/269. وقال العراقي : المسند أصح ( تخريج الإحياء 3/125) وقال الألباني : صحيح ( صحيح أبي داود 4082 ) .(19/36)
ومابين القوسين (23)،(23) أخرجه مسلم 7/102 وأحمد 3/120،148 ، 5/59 ،362 وعبد الله في زوائد الزهد ص74 وابن أبي شيبة 14/308 والنسائي 3/215 ،216 وأبو يعلى 6/71 ، 7/126 -127 وابن حبان ( الموارد 50 ) وأبو نعيم في الحلية 6/253 ، 8/333 من طرق عن أنس . وفي بعض الطرق عن أنس عند أبي يعلى وغيره قال : حدثني بعض أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - .
وله شاهد عن ابن عباس عند الطبراني وآخر عن أبي سعيد عند ابن مردويه من طريق أبي نضرة عنه وثالث عن أبي هريرة عند ابن مردويه من طريق سليمان التيمي عن أنس عنه ( انظر الخصائص 1/161،169 ، 176 ) .
ـ وما بين القوسين (24) ، (24) تقدم تخريجه برقم 407.
ـ وما بين القوسين (25) ، (25) من رواية لحديث مالك بن صعصعة المتقدم في بداية التخريج في الصحيحين ، أخرجه الطبراني في الكبير 19/274 وقال الهيثمي : رواه الطبراني في الأوسط والكبير ورجاله رجال الصحيح ( المجمع 5/91 ) .(19/37)
ـ وله شواهد كثيرة منها ما أخرجه أحمد 1/354 والترمذي 4/391 وابن ماجه 3477 وأبو عبيد في الغريب 1/234 وابن أبي شيبة وعبد بن حميد 572 وأحمد بن منيع ( انظر الحجامة للبوصيري ص41) والطبراني والحاكم 4/209 ،409 وابن غيلان في الغيلانيات ق33/ب وابن الجوزي في العلل الواهية وابن مردويه من طريق عباد بن منصور عن عكرمة عن ابن عباس ( وانظر الخصائص 1/164) . وقال الترمذي : حسن غريب , وقال الحاكم : صحيح الإسناد ولم يخرجاه وسكت الذهبي . وقال أحمد شاكر : إسناده صحيح , وقال الألباني : صحيح ( صحيح ابن ماجه 2/259، صحيح الجامع 5345 ) وعباد فيه ضعف , وله طريق آخر عن ابن عباس أخرجه ابن عدي 6/2049 من طريق فرات بن السائب عن ميمون بن مهران عنه . وقال ابن عدي : أحاديث فرات عن ميمون مناكير . وله طريق ثالث عند الطبراني 11/ 162 وعلقه ابن حبان في المجروحين 3/59 وفيه أبو هرمز الجمال . وعن أنس أخرجه ابن ماجه 3479 وابن عدي في الكامل 6/2084 وفيه كثير وجبارة ضعيفان وقال الألباني : صحيح . وله طريق آخر عند ابن سعد 1/448 وفيه سلام الطويل ويزيد الرقاشي .
ومنها عن ابن مسعود أخرجه الترمذي 4/490 وفيه أبو شيبة الواسطي ، وقال الترمذي : حسن غريب من حديث ابن مسعود , وقال الألباني : صحيح ( صحيح سنن الترمذي 2/204 ) .
ومنها عن ابن عمر أخرجه البزار ( كشف الأستار 3020 ) وإسناده لابأس به وفيه زيادة لم أثبتها لكونها تحتمل أن تكون من قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لا من قول الملائكة له , وأخرج ابن عدي 3/1187 ، 5/1884 وابن مردويه عن علي نحوه ( انظر الخصائص 1/164) وفي إسناديه عند ابن عدي ضعف شديد , وعن أبي سعيد الخدري أخرجه الحارث بن أبي أسامة وفيه الواقدي .
وجملة ( وقالوا يا محمد .... ) الخ من مجموع بعض الطرق المذكورة ومنها حديث ابن عمر .(19/38)
ـ وما بين القوسين (26) ، (26) أخرجه أحمد 3556 ، وابن ماجه رقم 4081 والحاكم 2/384 من طريق العوام بن حوشب عن جبلة بن سحيم عن مؤثر بن عفازة عن ابن مسعود به ، وأخرجه الحاكم وقال : صحيح الإسناد ولم يخرجاه ، وأما مؤثر فليس بمجهول روى عن ابن مسعود والبراء بن عازب روى عنه جماعة من التابعين , وسكت الذهبي . ومؤثر قال الحافظ : مقبول , وذكر في التهذيب 10/331 توثيق ابن حبان له ( وانظر الثقات 5/463 ) ونقل قول الحاكم : روى عنه جماعة من التابعين , وفاته توثيق العجلي له فقد قال في الثقات ص443 : من أصحاب عبد الله ثقة , ويضاف إلى ذلك ذكر كل من ابن أبي حاتم له 4/429 والبخاري 4/63 والبسوي في المعرفة والتاريخ 3/118ويحيى بن معين رواية الدوري 2/591 وابن الجنيد 236 والدولابي في الكنى 1/106ولم يذكره أحد منهم بجرح ولا تعديل ، فمثله يحسن حديثه على أقل تقدير ، فكيف ولغالبه شواهد في الصحيح , وقد سمع هذا الحديث في مجلس واحد من هشيم كل من الإمام أحمد ويحيى بن معين وإسحاق بن الطباع وحجاج ، وكان حجاج يكتب ولا يلحق ثم عدله بعد المجلس ( وانظر العلل لأحمد 1/298 ،393، 2/245 ) . والحديث قال فيه البوصيري : إسناده صحيح رجاله ثقات , وقال أحمد شاكر : إسناده صحيح ( وانظر مرويات ابن ماجة في التفسير ص 289 رقم 564 ) . وقد عزاه السيوطي في الدر لابن جرير وابن المنذر وابن أبي شيبة وسعيد ابن منصور وجماعة .
ـ وما بين القوسين (27) ، (27) مجموع من عدة روايات :
أولها ما أخرجه الذهبي في السيرة ص160 ( انظر الحاشية ) عن عبادة بن الصامت أنه كان يبكي عند حائط بيت المقدس ويقول : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأى منه ملَكاً يقلب جمراً كالقطف . وقال الذهبي : إسناده جيد وهو كما قال .(19/39)
ثانيها : ما أخرجه ابن عساكر 299/7 من طرق عن سعيد بن عبد العزيز التنوخي عن زياد بن أبي سودة عن عبادة بن الصامت بنحوه ، وفيه أنه السور الشرقي وقال : من ها هنا أخبرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه رأى جهنم , وإسناده صحيح .
ثالثها : حديث شداد بن أوس المذكور آنفا وفيه : ثم انطلق بي حتى أتينا الوادي الذي في المدينة فإذا جهنم تنكشف مثل الزرابي ، فقلنا : يا رسول الله كيف وجدتها ؟ قال : مثل الحمة الساخنة .
رابعا : ما أخرجه الطبراني في الكبير عن صهيب وفيه : لو أخذت الخمر لغويت وغويت أمتك وكنت من أهل هذه وأشار بيده إلى الوادي الذي يقال له وادي جهنم ، فنظرت إليه فإذا هو يلتهب , قال الهيثمي : فيه ابن لهيعة ( انظر المجمع 1/78 ) وأخرجه أيضا ابن مردويه( انظر الخصائص 1/158) . خامسها : ما أخرجه ابن إسحق 1/37 قال : وحدثني بعض أهل العلم عمن حدثه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ... في رؤيته مالكاً خازن النار وأنه قال لجبريل ألا تأمره أن يريني النار ؟ فقال : بلى ، يا مالك أَرِ محمداً النار ، فكشف عنها غطاءها ففارت وارتفعت ...الحديث .(19/40)
ـ وما بين القوسين (28) ، (28) فمن حديث الحارث بن عبيد عن أبي عمران الجوني عن أنس الذي أخرجه البزار ( انظر تفسير ابن كثير 5/8 ) والبيهقي في الدلائل 2/368 ،389 وابن عساكر 579/1 وعزاه السيوطي أيضا لابن سعد وابن مردويه ( الخصائص 1/157 ) وقال البزار : تفرد به الحارث بن عمير وكان بصريا مشهورا , قال ابن حجر : قلت : وهو من رجال البخاري ( الفتح 8/609 ) . وقال الهيثمي : رواه البزار والطبراني في الأوسط ورجاله رجال الصحيح ( المجمع 1/75 ) . وقال الذهبي : إسناده جيد حسن والحارث من رجال مسلم ( السيرة 161 ) . وقال ابن حجر : رجاله لا بأس بهم إلا أن الدارقطني ذكر له علة تقتضي إرساله ( الفتح 7/198 ) ، وأظن الحافظ يشير إلى ما علقه البيهقي من طريق حماد بن سلمة عن أبي عمران فجعله عن محمد بن عمير بن عطارد مرسلا , ولعله عند أبي عمران من الوجهين لا سيما ولفظ محمد بن عمير يختلف عن لفظ حديث أنس , والقول ما قال الحافظ الذهبي والله أعلم . قال ابن كثير ( التفسير 7/420 ) بعد أن ذكر أقوال بعض المضعفين للحارث : فهذا الحديث من غرائب رواياته فإن فيه نكارة وغرابة ألفاظ ولعله منام ا.هـ وقد صرح لفظه بأنه منام إلا أن المتن الذي ساقه ابن كثير ليس بهذا اللفظ , وقال ابن كثير أيضا ( التفسير 5/8 ) : وهذا إن صح يقتضي أنها واقعة غير ليلة الإسراء فإنه لم يذكر فيها بيت المقدس ولا الصعود إلى السماء فهي كائنة غير ما نحن فيه والله أعلم , وأقول : أما قوله لم يذكر بيت المقدس فهذا في غيره من الأحاديث التي اكتفت بذكر المعراج في الصحيحين وغيرهما ، وأما كونه لم يذكر الصعود فمن باب القصور في الرواية كما حصل لغيره أيضا . وغاية ما في الأمر تقدير جزء محذوف كما يظهر من سوقي للرواية في المتن , وهذا حاصل في جميع الروايات ومنها رواية الصحيحين التي ذكرت البراق ومنه إلى العروج مباشرة مع حذف الإسراء كلية , وقد ذكره في قصة المعراج كل من ابن(19/41)
عساكر والهيثمي وغيرهما , وللحديث شواهد منها في جزئه الأخير ما أخرجه الطبراني في الأوسط عن جابر مرفوعا قال : مررت ليلة أسري بي بالملأ الأعلى وجبريل كالحلس البالي من خشية الله , قال الهيثمي : رجاله رجال الصحيح ( المجمع1/78 ) ، وعزاه السيوطي لابن مردويه أيضا وقال : بسند صحيح ( انظر الخصائص 1/158 وانظر الدر أيضا ) وقد أدمجت بعضه في المتن . وله شاهد من مرسل شريح بن عبيد عند ابن سنجر وقد تقدم وفيه : فلما أحس جبريل بدنو الرب خر ساجداً فلم يزل يسبح ... حتى قضى الله إلى عبده ما قضى ثم رفع رأسه فرأيته في خلقه الذي خلق عليه ...الخ .
ـ وما بين القوسين (29) ، (29) فمجموع من عدة روايات عن أنس مطولة مصرح في بعضها أنه في ليلة الإسراء ولم يصرح في البعض الآخر ؛ أخرجه البخاري 4964 ،6581 والترمذي 3356 وابن ماجه 4305 وأبو داود 4748 وأحمد 3/103 ، 115 ، 152 ، 164 ، 191 ، 207 ، 247 ، 263، 289 ، 324 ، 323 وأبو يعلى 5/257 ،462 ، 6/46 ، 237 ، 384 ، 440 وابن المبارك في الزهد 561 والطيالسي 2813 وابن عدي 5/1797 والخطيب 11/45 . وانظر أيضا تخريج رواية شريك عن أنس ورواية يزيد بن أبي مالك عن أنس كذلك . وعزاه السيوطي لابن مردويه ( انظر الدر 6/153 ) . وأخرجه البخاري ومسلم وأحمد والترمذي والنسائي وأبو يعلى وأبو عوانة وابن حبان وغيرهم باختصار من طريق قتادة عن أنس . وله شاهد عن أبي نضرة عن أبي سعيد الخدري عند ابن مردويه ( انظر الخصائص 1/169 ) .
ـ وما بين القوسين (30) ، (30) فمن مجموع عدة روايات منها :
ـ رواية عبد الرحمن بن قرط مطولة أخرجها سعيد بن منصور ( انظر تفسير ابن كثير 5/30 ) والطبراني وأبو نعيم في الحلية وفي المعرفة وابن مردويه والبيهقي في الأسماء والصفات ( انظر الخصائص 1/164) . وقال الهيثمي : رواه الطبراني في الكبير والأوسط وفيه مسكين بن ميمون ذكر له الذهبي هذا الحديث وقال إنه منكر ( المجمع 1/78 ) .(19/42)
ـ رواية سهل بن سعد عند ابن عساكر ( انظر الخصائص 1/158 ) .
ـ ورواية شريح بن عبيد عند ابن سنجر المتقدم ذكرها ، وفيها أن المسبِّح كان جبريل حتى قضى الله ماقضى . ويشهد لذلك آيات قرآنية وأحاديث أخرى كثيرة على رأسها حديث : إذا قضى الله أمراً سبح حملةُ العرش . وقد تقدم ذكره في بدء الوحي , ولاشك أن فرض الصلوات مما قضاه الله سبحانه فلا بد معه من التسبيح والله أعلم .
ـ وما بين القوسين (31) ، (31) فمن رواية الهزيل بن شرحبيل عن ابن مسعود عند ابن جرير 27/54 بإسناد صحيح .
ـ وما بين القوسين (32) ، (32) فأصله حديث ابن مسعود المخرج في رقم ( 504 ) ، وقد حذفت أقواس الزيادات منه هنا وبدأته بلفظ مرسل شريح بن عبيد الذي حدد وقت الرؤية ، وتشهد له الآيات وهو الموافق للسياق ، حيث إنه قد ثبت أن جبريل أصبح كالحلس ، فلابد أن ينهض مرة ثانية ورؤيته إياه عند سدرة المنتهى في البداية كان أمرها طبيعياً حيث لم يأت الجبار جل وعلا بعد ولم يغش السدرة ما غشاها ولم يتغير حال جبريل ؛ فالطبيعي أن ما حصل له كان بعد هذه التغيرات ، وهو الذي نص عليه مرسل شريح , والله أعلم . وأخرج أحمد 1/407 رقم 3864 وابن جرير وابن أبي حاتم ( انظر تفسير ابن كثير 7/419 ) ، والطبراني وأبو الشيخ في العظمة عن ابن مسعود في رؤيته - صلى الله عليه وسلم - لجبريل مرتين قال : ثم دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى فأوحى إلى عبده ما أوحى ، قال : فلما أحسَّ جبريلُ ربه عاد في صورته وسجد . وإسناده حسن . وقال أحمد شاكر : إسناده صحيح لولا الشك في وصله عن ابن مسعود ا.هـ وهو كما قال على الشك في المسند وابن كثير ، إلا أن السيوطي ذكره مجزوماً بوصله فلعله في المصادر الأخرى على الجزم .
وقد أخرج مسلم والبيهقي في الدلائل 2/371 عن أبي هريرة موقوفاً في قوله : ? ???????? ??????? ????????? ?????????? ? : رأى جبريل عليه السلام .(19/43)
ـ وما بين القوسين (33) ، (33) من حديث عبد الله بن حوالة عند ابن أبي حاتم والربعي في فضائل الشام ودمشق ( انظر تخريج أحاديثه ص28 ) وابن عساكر والطبراني . وقال الهيثمي : رجاله رجال الصحيح غير صالح بن رستم وهو ثقة ( المجمع 10/58 ، 59 ) ، وفي بعض المصادر زيادات . وقال الألباني في هذا الجزء : حديث صحيح ا.هـ وقال الحافظ ابن حجر : إسناده حسن ( الفتح 12/403 ) وللحديث شواهد كثيرة في موضوعِ عمود الإسلام ووضعه بالشام . وانظر لها ما كتبه الحافظ في الفتح . ومابين القوسين (34) ، (34) فمجموع من عدة أحاديث منها :
ـ عن ابن عباس أخرجه الخطيب في التاريخ 5/445 وصوبه بإسناد رجاله ثقات إلا أن فيه عنعنة الأعمش وليس فيه علة غيرها إن حاولنا تعليله ، ونصه : ما مررت بسماء إلا رأيت فيها مكتوباً محمد رسول الله أبو بكر الصديق . ولكن قال فيه الذهبي : باطل ما أدري من يغش فيه ، فإن هؤلاء ثقات ( الميزان 3/610 ) . واحتراما لقول الذهبي لم أثبت إلا الجزء الأول منه لشواهده . وقد روى الخطيب الحديث بلفظ أبو بكر الصديق من خلفي من رواية أبي سعيد الخدري وقال : تفرد به محمد بن عبد الله المهري إن كان محفوظا عنه عن الحسن بن عرفة ، ونراه غلطاً وصوابه ... فذكر الحديث السابق . وقال الذهبي أيضا : باطل ا.هـ وكذا رواه الخطيب من حديث أبي هريرة بنحو حديث أبي سعيد وفي إسناده عبد الله بن إبراهيم الغفاري قال الذهبي : متهم بالكذب ا.هـ وقال ابن حجر فيه : متروك ورماه ابن حبان بالوضع .
وقد أخرجه أيضا من حديث أبي هريرة : الحسن بن عرفة في جزئه 6 وابن عدي في الكامل 4/1507 وأبو يعلى والطبراني في الأوسط . وقال الهيثمي : وفيه عبد الله بن إبراهيم الغفاري وهو ضعيف ( انظر المجمع 9/41 ) .
وفيه عن ابن عمر بنحو رواية ابن عباس قال الهيثمي : رواه البزار وفيه عبد الله بن إبراهيم الغفاري وهو ضعيف ( المجمع 9/41 ) .(19/44)
ولحديث ابن عباس لفظ آخر عند الخطيب 5/4 من طريق علي بن جميل عن جرير عن ليث عن مجاهد عنه بلفظ : ما في الجنة شجرة إلا مكتوب على كل ورقة ... الحديث , وذكره ابن عدي من طريق علي بن جميل ومعروف بن أبي معروف عن جرير به وقال : والحديث المعروف هو هذا ، وهذا أيضا ليس بصحيح ( الكامل 5/1691 ) ، وأخرجه أيضا الخطيب 7/337 من طريق الحسن بن عبد الرحمن عن جرير به . والحسن هذا قال فيه ابن عدي : منكر ، يسرق الحديث عن الثقات ولا يشبه حديثه حديثَ أهل الصدق , وعزاه السيوطي لأبي نعيم في الحلية ( انظر الخصائص 1/7 ) .
ولحديث ابن عباس لفظ آخر : على باب الجنة : أخرجه الخطيب 1/259 وفيه رجل يسمى محمد بن إسحق قال الخطيب : حديثه كثير المناكير , وقال في حديثنا هذا : منكر بهذا الإسناد ، وعلي بن حماد مستقيم الحديث لا يحتمل مثل هذا .
وعن ابن عباس شاهد أخرجه الحاكم وصححه ، وقال الذهبي : في سنده عمرو بن أوس لا يدرى من هو . ا.هـ في كتابة لا إله إلا الله محمد رسول الله على العرش .
وعن علي بلفظ على العرش أخرجه الخطيب 10/265 من طريق عبد الرحمن بن عفان الصوفي عن محمد بن مجيب عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جده , وقال يحيى في الصوفي : كذاب يكذب , وعزاه السيوطي أيضا لابن عساكر ( انظر الخصائص 1/7 ) .
وعن أنس بلفظ : على ساق العرش أخرجه الخطيب 11/173 من طريق الحسين بن إبراهيم البابي عن حميد عن أنس . وقال الخطيب في الحسين : مجهول من أهل الباب والأبواب , وأخرجه ابن عدي وابن عساكر ( انظر الخصائص 1/ 7 ) .
وعن أبي الحمراء بلفظ مكتوبا على ساق العرش : أخرجه الطبراني قال الهيثمي فيه عمرو بن ثابت وهو متروك ( المجمع 9/121 ) . وله لفظ مشابه عند أبي نعيم في الحلية 3/27 وقال : غريب من حديث يونس بن عبيد عن سعيد بن جبير لم نكتبه إلا من هذا الوجه .(19/45)
وعن أبي الدرداء بلفظ في العرش أخرجه الدارقطني في الأفراد ومن طريقه الخطيب في التاريخ 11/204 من طريقين عن محمد بن فضيل عن ابن جريج عن عطاء عن أبي الدرداء به وأخرجه أيضا ابن عساكر ( انظر الخصائص 1/7 ) ، وقال الدارقطني : تفرد به ابن فضيل عن ابن جريج ، لا أعلم حدث به غير هذين - يعني الراويين عن ابن فضيل وهما السري بن عاصم وعمر بن إسماعيل بن مجالد .
وعن جابر بلفظ على باب الجنة أخرجه ابن عساكر ( انظر الخصائص 1/ 7 ) .
وله شاهد عن عمر فيه كتابتها على العرش أخرجه الحاكم والبيهقي والطبراني في الصغير وأبو نعيم وابن عساكر وفي إسناده عبد الرحمن بن زيد بن أسلم وهو ضعيف جدا .
وله شاهد عن كعب الأحبار عند ابن عساكر وفيه كتابتها على العرش وفي السموات وفي الجنة ( وانظر الخصائص 1/6 ) .
وفيه حديث سهل بن سعد عند ابن عساكر بلفظ على العرش .
ـ وأما مابين (35) ، (35) فمن حديث شداد بن أوس الذي صححه البيهقي وقد تقدم . وله شاهد من حديث أم هانىء من طرقه الآتي ذكرها وفي حديث أبي سعيد الخدري ما قد يشهد له وهو قوله : نام عشاء .
ـ وأما مابين (36) ، (36) فمن طريقي حديث ابن مسعود الآتي ذكره ويشهد له الروايات الثابتة عن أنس بكلام موسى معاتبا ربه فراجعها .(19/46)
ـ وما بين القوسين (37) ، (37) فمن حديث عمر بن الخطاب عند ابن مردويه ( انظر الخصائص 1/164 ) ، وهذا لفظه . ويشهد له رواية خالد بن يزيد بن أبي مالك عن أبيه عن أنس عند ابن أبي حاتم ويأتي الكلام عليها . ويشهد لذلك أيضا ماذكره ابن إسحق في السيرة بدون إسناد . وأخرج نعيم بن حماد في زيادات الزهد لابن المبارك ص 92 والجوزجاني عن أبي الخليل قال : ليلة أسري بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ... فذكر نحو القصة إلا أن فيها ولكنه خازن من خزان جهنم . وقد أخرج أحمد في المسند وفي الزهد 1/80 من حديث أنس بن مالك ما يشهد لذلك إلا أنه في ميكائيل وليس في مالك ، وفي إسناده إسماعيل بن عياش وروايته عن المدنيين فيها ضعف وهذه منها ، وبقية رجاله ثقات . كذا قال الهيثمي ( انظر المجمع 10/385 ) ، فلعله وهم في الاسم .
وروى ابن أبي الدنيا عن أبي فضالة عن أشياخه وعن بكر العابد عن أبي الحسن ما يشهد لذلك أيضا . وفي مرسل ضعيف عن الحسن وصف خزنة جهنم بما يشهد لما ذكرناه ( انظر التخويف من النار ص38 ، 39 ، 174 ) . وفي حديث سمرة الطويل عند البخاري في قصة المنام ما يشهد لوصف مالك هنا فراجعه , وأصل ذلك قوله تعالى : ? ????????? ???????????????? ???????? ???????? ? .(19/47)
ـ وأما مابين القوسين (38) ، (38) فمما أخرجه البخاري 7/40، 9/320 ، 12/415 ، 417 ومسلم 4/1863 وأحمد 2 / 339 ، 3/106 ، 107 ، 125 ، 179 ، 191 ، 239 ، 263 ، 268 ، 269 ، 309 ، 372 ، 389 ، 5/333 ، 354 ، 360 وفي فضائل الصحابة وزياداته 1/275 ، 323 ، 429 ، 445 ، 446 والحميدي 1235والطيالسي والترمذي 5/619 ، 620 وابن حبان ( الموارد 536 ) وأبو يعلى 3/467 ، 4/13 ، 51 ، 6/223 ، 390 ، 440، 461 ، 7/196 وهناد في الزهد 1/104، 105وأبو نعيم في الحلية 6/334-335 ، 7/259 ، 309 والطبراني والحاكم ( وانظر المجمع 9/74 ، حدائق الأنوار 1/400 ) عن أنس وجابر وأبي هريرة وبريدة ومعاذ وعن الزهري وأبي سلمة مرسلا . وهذا مجموع لفظهم بشرط الثبوت وقد ثبت من حديث جابر عند البخاري وغيره أن قصة بلال والرميصاء وعمر كلها في آن واحد مما يثبت أن ذلك في المعراج . وانظر ما تقدم في الزيادة رقم (19) ، (19) وقد وقع في طرقه ما يصرح أحياناً ويلمح أحياناً بكونه مناماً ، وهو ما رجحناه فيما سبق .
وقد يقول قائل كيف رأى الرميصاء ولعلها لم تكن أسلمت بعد ؟ فالجواب أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حكى ذلك بعد ما هاجر ولم يكن يعرفها وقت الإسراء ، فلما طابق الواقع القدر أعلمهم بذلك . والله أعلم . وعلى القول بأن الإسراء كان قبل الهجرة بعام فلا حاجة إلى هذا التأويل لأنها تكون قد أسلمت قبل ذلك . وبالنسبة لقصة عمر فكأني أذكر أنه في بعض الطرق الضعيفة في قصة الإسراء صرح بذلك ولا أستحضرها الآن ولكن في حديث أبي سعيد ما يشهد لذلك أيضا ففيه أنه - صلى الله عليه وسلم - رأى جارية فسأل لمن هذه فقيل : لزيد بن حارثة فلعله وهم في الاسم والله أعلم .(19/48)
ـ وما بين القوسين (39) ، (39) من حديث أسماء عند الترمذي 4/680 وابن جرير 27/55 وهناد في الزهد رقم 115 والحاكم 2/469 وابن مردويه وسبق الإشارة إليه ، وقال الترمذي : حسن غريب , وقال الحاكم صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه وسكت الذهبي . والحديث إسناده حسن وقد صرح ابن إسحق بالتحديث عند هناد . وهذا الجزء له شواهد في الصحيحين بدون النص على كون هذه الشجرة هي سدرة المنتهى ولفظه : إن في الجنة شجرة يسير الراكب فيها مائة عام لا يقطعها .
ـ وما بين القوسين (40) ، (40) من سورة النجم .
ـ وما بين القوسين (41) ، (41) تقدم تخريجه في رقم ( 119 ) من حديث ابن عباس وجابر عند ابن أبي شيبة والجوزقاني بإسناد صحيح على شرط البخاري .
ـ وما بين القوسين (42) ، (42) فمما أخرجه ابن أبي حاتم وغيره عن أنس من رواية خالد بن يزيد بن أبي مالك عن أبيه عنه ، وليس فيها إلا ضعف من قبل حفظ خالد ، وقد توبع على أصلها . وسيأتي الكلام عليها بعد قليل .
وأما هذا الجزء الذي ذكرناه ؛ فله شواهد ، منها : عن علي عند البزار ، وعنه أيضاً عند ابن مردويه ، وكذا عن ابن الحنفية عند أبي نعيم في الدلائل ، وعن عائشة عند ابن مردويه ، وعن ابن عمر عند الطبراني في الأوسط . ويأتي الكلام عليها كلها إن شاء الله تعالى . وتقدم الإشارة إلى بعضها . ( وانظر الخصائص 1/8 ، 164 ، والدر المنثور 4/154 ) . وقد يشكل ذكر الأذان لما ثبت من كونه بدأ بالمدينة ؛ والجواب أن الأذان معناه الإعلام ، ولا ضرورة أن يكون بما ثبت بعد الهجرة ، وعلى فرض اتحادهما كما جاء في بعض الشواهد المذكورة فيقال : إنه وقعت رؤية الصحابي مطابقة لما رآه النبي - صلى الله عليه وسلم - في الإسراء فأمضاها النبي - صلى الله عليه وسلم - لذلك ، وهو أقوى لا سيما إذا ثبت تأخر الإسراء إلى قبيل الهجرة .
وقد جاء حديث الإسراء من طرق أخرى كثيرة كلها تشهد لما ذكرناه ، فمن ذلك :(19/49)
ـ رواية عبد الرحمن بن هاشم بن عتبة بن أبي وقاص عن أنس بالحديث مطولاً : أخرجه ابن جرير 15/6 والبيهقي في الدلائل 2/362 وابن عساكر 1577 وقال ابن كثير : وفي بعض ألفاظه نكارة وغرابة ( التفسير 5/ 10 ) .
ـ رواية أنس عن أبي بن كعب بمثل روايته عن أبي ذر تماما ، وأراها وهماً من أحد الرواة , أخرجها عبد الله بن أحمد في زوائد المسند 5 / 122 ، 143 ، 144 وأبو يعلى مختصراً 6/295 وابن عساكر 1/572 . وأظن الوهم فيها من يونس بن يزيد الأيلي . وقال الهيثمي : رجال رجال الصحيح ( المجمع 1/65-66 ) ، ثم وقفت على قول السيوطي : وأخرج عبد الله بن أحمد في زوائد المسند وابن مردويه وابن عساكر من طريق يونس عن الزهري عن أنس عن أبي بن كعب مثله ـ أي مثل حديث أبي ذر ـ سواء حرفاً بحرف ، فعده جماعة من مسند أبي بن كعب . وذكر الحافظ ابن حجر أنه وقه فيه تحريف وأنه كان في الأصل عن أبي ذر فسقط من النسخة لفظة ذر فظن أن أبي أبياً فأدرج في مسند أبي بن كعب غلطاً والله أعلم ( انظر الخصائص 1/167 ) . وبنحوه قال أبو حاتم وغيره ( انظر العلل 1/116-117 ، 315-316 ، المسند المعتلي 1/7 ) .
ـ رواية أنس عن أبي بن كعب مرفوعاً : دخلت الجنة فرأيت فيها خياماً من لؤلؤ ترابها المسك فقلت : لمن هذا يا جبريل ؟ فقال : للمؤذنين والأئمة من أمتك يا محمد . أخرجه الفاكهي في تاريخ مكة 4/144 وإسناده ضعيف . وعزاه السيوطي في الجامع الكبير1/521 لأبي يعلى وأبي الشيخ في الأذان وقال ابن كثير وابن حجر في أطرافه غريب جداً ( انظر حاشية المحقق ) .
ـ وعن أبي أيضا في أرض الجنة أخرجه ابن مردويه ( انظر الدر ) .(19/50)
ـ رواية يزيد بن أبي مالك عن أنس أخرجها النسائي 1/221 من طريق مخلد بن الحسين عن سعيد بن عبد العزيز عنه به . ورجالها ثقات إلا أنني وقفت لها على علة ؛ فقد روى ابن عساكر 304/7 من طريق الدوري عن ابن معين قال أبو مسهر : كان سعيد بن عبد العزيز قد اختلط قبل موته وكان يعرض عليه قبل موته وكان يقول لا أجيزها ، ثم روى من طريق أبي زرعة قال سمعت أبا مسهر قال : رأيت أصحابنا يعرضون على سعيد بن عبد العزيز حديث المعراج عن يزيد بن أبي مالك عن أنس ، فقلت : يا أبا محمد أليس قد حدثتنا عن يزيد بن أبي مالك ؟ قال : حدثنا أصحابنا عن أنس بن مالك قال : نعم إنما يقرءون على أنفسهم ا.هـ فهذه الرواية تدل على وجود واسطة بين يزيد وأنس ، وعلى الرغم من كونهم جماعة فإن في النفس منها شيء ، ولذا لم أثبت منها إلا ما شهدت له الروايات الأخرى .
ـ ومنها رواية شداد بن أوس التي ذكرناها قبل هذا , وقال ابن كثير في هذا الحديث : فيه غرابة ونكارة جدا ( التفسير 5/10 ) .
وله طريق آخر عن يزيد عن أنس أخرجه ابن أبي حاتم من طريق خالد بن يزيد بن أبي مالك عن أبيه به مطولاً ، وتفرد بأشياءٍ . وخالد ضعيف ولكنه قد توبع على أصلها بالرواية السابقة , وقال ابن كثير : هذا سياق فيه غرائب عجيبة ( التفسير 5/11-13 ) وفيه غمز الحجر وربط البراق ونهر الكوثر وقصة العير وتصديق أبي بكر وغير ذلك , وقد أخرج ابن ماجه وأبو نعيم في الحلية 8/333 من هذه الطريق رؤية النبي - صلى الله عليه وسلم - على باب الجنة أجر القرض وأنه أكثر من الصدقة .
وأخرج الخطيب 2/330 ، 11/242 من طريق محمد بن عبيد الله بن مرزوق الخلال عن عفان عن حماد عن ثابت عن أنس مرفوعاً رؤيته خيلاً مسرجة ذوات أجنحة لمحبي أبي بكر وعمر ... الحديث وقال الخطيب في محمد بن عبيد الله : له عن عفان أحاديث كثيرة عامتها مستقيمة غير حديث واحد فذكر حديثنا .(19/51)
وعن أنس أيضا عند ابن مردويه في ريح النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد الإسراء كريح عروس ( انظر الدر ) .
ـ عن عمر بن الخطاب عند أحمد 1/38 قال الهيثمي : فيه عيسى بن سنان القسملي وثقه ابن حبان وغيره وضعفه أحمد وغيره وبقية رجاله ثقات ( المجمع 4/6 ) . وقال أحمد شاكر : إسناده حسن , وانظر مرويات أحمد في التفسير 3/38 . وفيها إثبات صلاته - صلى الله عليه وسلم - ببيت المقدس . وجملة ( فتقدم إلى القبلة فصلى ) منه ، ويشهد لها كونه إمامهم وروايات أخرى صرحت بذلك أيضا .
ولابن مردويه رواية عن عمر أيضا من طريق المغيرة بن عبد الرحمن عن أبيه عن عمر وفيه الصلاة في مقدم المسجد ( انظر الخصائص 1/164، الشفا 1/116، حدائق الأنوار 1/401 ) .
ـ رواية أبي هريرة عند ابن أبي حاتم وابن الأعرابي والواحدي وغيرهم وقد نص على كون البيت المعمور حيال الكعب ( وانظر الصحيحة 477 ) .
وروايته عند ابن جرير 15/6-11 والبيهقي في الدلائل 2/397 وابن أبي حاتم والحاكم من طريق أبي جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية أو غيره عن أبي هريرة مطولاً جداً . وقال ابن كثير : أبو جعفر الرازي قال فيه أبو زرعة الرازي يهم في الحديث كثيراً ، وقد ضعفه غيره أيضاً ووثقه بعضهم . والأظهر أنه سيء الحفظ ففيما تفرد به نظر ، وهذا الحديث في بعض ألفاظه غرابة ونكارة شديدة وفيه شيء من حديث المنام من رواية سمرة بن جندب في المنام الطويل عند البخاري ويشبه أن يكون مجموعاً من أحاديث شتى أو منام وقصة أخرى غير الإسراء ( انظر تفسير ابن كثير 5/36 ) . وقال الذهبي : تفرد به أبو جعفر الرازي وليس هو بالقوي والحديث منكر يشبه كلام القصاص ، وإنما أوردته للمعرفة لاللحجة ( السيرة 182 ) . وقال الهيثمي : رواه البزار ورجاله موثقون إلا أن الربيع بن أنس قال عن أبي العالية أو غيره فتابعيه مجهول ( المجمع 1/72 ) .(19/52)
وروايته عند أحمد 2/353 ، 363 وابن ماجه 2/763 وابن أبي شيبة 14/307 وابن أبي حاتم ( انظر تفسير ابن كثير 5/37 ) والذهبي في السيرة ص164 ، 165 من طريق حماد بن سلمة عن علي بن زيد بن جدعان عن أبي الصلت عن أبي هريرة . قال ابن كثير : علي بن زيد بن جدعان له منكرات ( التفسير 3/519 ) . وقال البوصيري : هذا إسناد ضعيف لضعف علي بن زيد ( مصباح الزجاجة 2/23 ) ، وقال الذهبي : أبو الصلت مجهول ا.هـ وقال الهيثمي : فيه أبو الصلت لا يعرف ولم يرو عنه غير علي بن زيد ا.هـ وعزاه السيوطي لابن مردويه ( انظر الدر 4/152-153 ) .
وروايته من طريق أبي وهب مولى أبي هريرة عنه أخرجها سعيد بن منصور ثنا أبو معشر عن أبي وهب به ( انظر سيرة الذهبي 161 ) وأخرجها أيضا ابن سعد 3/120 والطبراني في الأوسط وابن مردويه من طريق أبي معشر به ( انظر الخصائص 1/176 ) وفيه : لما رجع ليلة أسري به قال : يا جبريل إن قومي لا يصدقوني قال يصدقك أبو بكر وهو الصديق , وقال الهيثمي : في أحد إسناده أبو وهب ولم أعرفه وبقية رجاله ثقات(المجمع 9/41)
وروايته من طريق راشد بن سعد المقدامي عن أبي هريرة أخرجها ابن مردويه والبيهقي في شعب الإيمان ( انظر الدر 6/392 ) .
ـ رواية ابن عباس عند الطبراني والواحدي وابن مردويه ، وإسناده ضعيف وقد نصَّ على كون البيت المعمور حيال الكعبة ( وانظر الصحيحة 477 ) ، وروايته عند أحمد ونص على فرضية الصلوات خمسين وتخفيفها إلى خمس وعند الطبراني ونص على سدرة المنتهى ونبقها .
وحديثه من طريق مجاهد والضحاك عنه وفي إسناده إسحق بن بشر قال البيهقي : وإسحق بن بشر متروك لا يفرح بما ينفرد به ( الدلائل 2/404 ) . وقال الذهبي : وروى في المعراج إسحق بن بشر حديثاً وليس بثقة عن ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس ( السيرة 182 ) .
ولابن عباس رواية موضوعة تسمى بمعراج ابن عباس وهي رواية مكذوبة عليه فلينتبه لذلك .(19/53)
ـ عن أبي سعيد الخدري رواه عنه مطولاً أبو هارون العبدي أخرجه ابن إسحق وابن جرير 15/11-14 والبيهقي في دلائل النبوة 2/390 وابن أبي حاتم وابن عدي 6/2123 وابن عساكر 581-584 وعزاه السيوطي أيضا لابن المنذر وابن مردويه ( انظر الخصائص 1/167) والعبدي متروك . وقال ابن كثير معقباً على رواية ابن أبي حاتم : ذكره بسياق طويل حسن أنيق أجود مما ساقه غيره على غرابته وما فيه من النكارة , وقال : عن أبي هارون العبدي واسمه عمارة بن جوين وهو مضعف عند الأئمة وقال : وإنما سقنا حديثه ها هنا لما في حديثه من الشواهد لغيره ولما رواه البيهقي فذكر مناماً رآه يزيد بن أبي حكيم مفاده أنه سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن حديث أبي هارون فأثبته ( انظر التفسير 5/23 ، 24 ) . والمنام عند البيهقي 2/405 ومثله لا يحتج به ولا بأس أن يستأنس به إن صحت الرؤيا . وقال ابن كثير إنه من غرائب الأحاديث وفي إسناده ضعف ( انظر البداية 3/111) . وقال الذهبي : هذا حديث غريب عجيب حذفت نحو النصف منه ثم قال : عن أبي هارون عمارة بن جوين وهو ضعيف شيعي , وقال : وبسياق مثل هذا الحديث صار أبو هارون متروكاً ( السيرة 181 ) ، وفيه ما يشهد لكون الأنبياء كانت تركبه قبله ، وفيه معاتبة موسى لربه ، وفيه قصة العير وتكذيب قريش ، وفيه شواهد لأجزاء أخرى كثيرة من الحديث .
وحديث أبي سعيد أخرجه أيضاً ابن مردويه مختصراً من طريق علقمة عنه وفيه رؤيته لإبراهيم .
وأخرجه الخطيب 4/279 من طريق أبي جعفر الرازي عن زنيج عن جرير عن الأعمش عن عطية عن أبي سعيد بقصة الحوراء وجعلها لعلي وانظر ما يأتي عن عقبة بن عامر .(19/54)
ـ عن أم هانئ وله طرق عنها ؛ أخرجه ابن إسحق حدثني الكلبي عن أبي صالح عنها وأخرجه ابن جرير15/2 من طريقه . وقال ابن كثير : الكلبي متروك ساقط لكن رواه أبو يعلى عن محمد بن إسماعيل الأنصاري عن ضمرة بن ربيعة عن يحيى بن أبي عمرو السيباني عن أبي صالح عن أم هانىء فليكتب هنا وروى أبو القاسم الطبراني من حديث عبد الأعلى بن أبي المساور عن عكرمة عن أم هانىء فذكر الحديث ( التفسير 5/39 ) . وحديث أبي يعلى أخرجه ابن عساكر ( انظر الخصائص 1/178 ) والذهبي في السيرة 157 وابن سيد الناس 1/174 من طريق أبي يعلى به . وقال الذهبي : وهو حديث غريب ، الوساوسي ضعيف تفرد به - يعني محمد بن إسماعيل الأنصاري – ا.هـ وفيه أيضا أبو صالح مولى أم هانىء , وقد سكت عليه البوصيري . وقال الحافظ في الإصابة في ترجمة نبعة : هذا أصح من رواية الكلبي ا.هـ باختصار .
وحديث الطبراني أخرجه أيضا ابن مردويه من نفس الطريق ( انظر الخصائص 1/177 ) وقال الهيثمي : رواه الطبراني في الكبير وفيه عبد الأعلى بن أبي المساور متروك كذاب ( المجمع 1/76 ، 9/42 ) . وله طريق آخر عنها وهو ما أخرجه ابن سعد عن الواقدي بإسناده عنها , وقال ابن كثير بعد كلامه المتقدم في حديث أبي سعيد : وكذا في حديث أم هانىء ا.هـ وفيه قصة العير والجمل الأورق والغراراتان وربط البراق بالحلقة وتسمية الصديق وغير ذلك .
ـ رواية ابن مسعود عند ابن عرفة في جزئه رقم 69 وأبي نعيم في الحلية 10/386 وابن عساكر 580/1 من طريق أبي عبيدة عن أبيه ولم يسمع منه شيئاً وفيه أيضاً قنان النهمي قال الحافظ : مقبول , وباقي رجاله ثقات , وقال الذهبي : هذا حديث حسن غريب ( السيرة 175 ) . وقال ابن كثير : وفيه غرابة وقال : إسناد غريب ولم يخرجوه ، ثم ذكر بعض غرائبه . وفيه ربط البراق ومعاتبة موسى لربه ونهر الكوثر وغير ذلك . وقد روي بعضه من حديث ابن عمر وهو خطأ وسيأتي .(19/55)
ورواية الطبراني 10/84 والحارث بن أبي أسامة وأبي يعلى ( انظر المطالب العالية 4/204 ، 205 ) وأبي نعيم ( انظر الخصائص 1/163) وابن عساكر 579/1 وعلقه الذهبي في السيرة ص155 من طريق حماد بن سلمة ثنا أبو حمزة عن إبراهيم عن علقمة عن ابن مسعود ثم قال : هذا حديث غريب وأبو حمزة هو ميمون ضعيف ( السيرة ص156) وسكت عليه البوصيري وقال الهيثمي : رواه البزار وأبو يعلى والطبراني ورجاله رجال الصحيح ( المجمع 1/74 )على الرغم من تضعيفه عدة أحاديث بأبي حمزة وفيه أيضا ربط البراق وتذمر موسى .
وقد روى ابن إسحق بعضه في الإسراء فقط بلاغاً عن ابن مسعود .
ـ عن ابن عباس وابن مسعود أخرجه ابن أبي حاتم من طريق السدي عن أبي مالك وأبي صالح عن ابن عباس ومرة الهمداني عن ابن مسعود وفيه أمر العير والبعير الذي ند ( انظر الدر 4/157 ) .
ـ عن سمرة بن جندب أخرجه ابن مردويه وهو قطعة من حديث المنام الطويل ونص على كونه في الإسراء ( انظر الخصائص 1/158 ) ، وإسناده صحيح ، ولكن أكثر الرواة لم ينصوا على ذلك ، فلعله خلط من بعض رواته أو أنه أراد إسراء آخر وهو ما وقع بعد ذلك مناماً . ويلاحظ تعبير بعض الرواة عن المعراج بالإسراء لأنه سرى بالليل أيضاً . وألفاظ الروايات الأخرى عند البخاري وأحمد وابن حبان وغيرهم تدل على وقوع ذلك مناماً بعد إسلام سمرة بعد الهجرة بزمان .
ـ عن ابن عمر أخرجه الطبراني في الأوسط مقتصراً على تعليمه الأذان ليلة أسري به وقال الهيثمي : فيه طلحة بن زيد ونسب إلى الوضع ( المجمع 1/329 ) .
ـ وعن ابن عمر أيضاً أخرجه الخطيب 5/297 وفيه قصة تفاحة انفلقت فخرجت منها حوراء لعثمان بن عفان , وقال الخطيب : منكر بهذا الإسناد وكل رجاله ثقات سوى محمد بن سليمان بن هشام والحمل فيه عليه والله أعلم .(19/56)
ـ وعن ابن عمر أيضاً عند أبي نعيم في الحلية 10/385-386 من طريق أحمد بن شاذهرمز عن زيد بن أخرم عن أبي داود عن شعبة عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر بنحو حديث أبي عبيدة عن ابن مسعود مختصراً . وقال أبو نعيم : هذا من حديث شعبة منكر وأبو داود وزيد ثبتان لا يحتملان هذا ولعل أدخل لابن شاذهرمز حديثاً في حديث عبد الله بن مسعود .
ـ عن أبي عبيدة بن الجراح أخرجه الطبراني في السنة ومن طريقه الخطيب في التاريخ 8/151 وفيه خلط بقصة المنام الذي رأى فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ربه فوضع يده بين كتفيه ( وانظر الدر 5/320 ) .
ـ وعن عدي بن حاتم عند ابن مردويه نحو حديث أبي عبيدة أيضاً ( انظر الدر 5/320 ) ، وقد خالفهما رواياتٌ عديدةٌ تقتضي وقوع ذلك بالمدينة في منام آخر غير قصة المعراج . وتفسير الآية المشهور في اختصام الملأ الأعلى المراد به اختصامهم في أمر آدم ولا مانع من تكرر اختصامهم . وكذا فإن لفظ الحديث لا يساعد على كونه وقع في المعراج حيث أن فيه أموراً شرعية لم تكن شرعت بعد والله أعلم .
ـ عن عقبة بن عامر في رؤيته - صلى الله عليه وسلم - ليلة الإسراء في الجنة الحوراء العيناء المرضية التي أشفار عينيها كمقاديم أجنحة النسور للخليفة بعده , قال الهيثمي : أخرجه الطبراني في الكبير والأوسط عن شيخه بكر بن سهل ، قال الذهبي : مقارب الحديث ، عن عبد الله بن سليمان العبدي ، وثقه ابن حبان ، وبقية رجاله رجال الصحيح ( المجمع 9/46 ) ، وأخرجه الخطيب من طريق عبد الله بن سليمان عن الليث بن سعد عن يزيد بن أبي حبيب عن أبي الخير عن عقبة فجعله للخليفة المقتول ظلماً . وقال الخطيب : حدث عن الليث حديثاً منكراً فذكره ( انظر التاريخ 9/464 ) وفي حديث أبي سعيد جعلها لعلي فراجعه .
وأخرج الخطيب 1/409 من طريق يحيى بن شبيب عن حميد عن أنس نحوه لعثمان .(19/57)
وأظن كل ما تقدم في قصة هذه الحوراء مرجعه حديث المرأة التي رآها النبي - صلى الله عليه وسلم - لعمر ، وما خالف ذلك فمن ضعف الرواة . ويشهد لذلك أيضاً ما جاء في بعض روايات حديث أنس من رؤيته - صلى الله عليه وسلم - للحور .
ـ رواية الخطيب 8/166 من طريق أحمد بن نصر عن حميد بن الربيع عن قتيبة عن مالك عن حميد عن أنس في رؤيته المرزنجوش تحت العرش وقال الخطيب : موضوع المتن والإسناد ، وحميد مجهول وأحمد بن نصر غير ثقة .
ـ عن أبي بن كعب عند ابن مردويه وفيه دخوله الجنة وترابها المسك .
ـ عن أبي ليلى : أخرجه الطبراني في الأوسط وابن مردويه من طريق محمد بن عبد الرحمن عن أخيه عيسى بن عبد الرحمن عن أبيه عبد الرحمن بن أبي ليلى عن أبي ليلى ( كذا في الخصائص ) ، وقال الهيثمي : رواه الطبراني هكذا مرسلا ( يعني عن ابن أبي ليلى ) ، وقال : لا يروى عن ابن أبي ليلى إلا بهذا الإسناد , ومع الإرسال فيه محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى وهو ضعيف ( المجمع 1/77 ) .
ـ عن عبد الله بن أسعد بن زرارة أو سعد بن زرارة : وفيه لما عرج بي ، وفيه ذكر قصر من لؤلو فيه فراش من ذهب ...الخ قال الهيثمي : رواه البزار وفيه هلال الصيرفي عن أبي كثير الأنصاري ولم أر من ذكرهما ( المجمع 1/78 ) ، وسكت عليه البوصيري . وأخرجه أيضا ابن قانع وابن عدي والبغوي وابن عساكر ( انظر الدر 1/163) ، وقال الحافظ ابن حجر في الإصابة : معظم الرواة في هذه الأسانيد ضعفاء والمتن منكر جداً .
ـ عن علي بن أبي طالب عند البزار من طريق الحسين عن أبيه وقال الهيثمي : فيه زياد بن المنذر مجمع على ضعفه ( المجمع 1/329 ) ، وعند ابن مردويه من طريق زيد بن علي عن آبائه عن علي ( انظر الخصائص 1/8 ، 164 ) . وعند ابن عدي 2/753 من طريق موسى بن جعفر عن آبائه عن علي مرفوعا وفيه نبت الورد من عرقه في المعراج , وقال ابن عدي : موضوع على أهل البيت .(19/58)
ـ عن علي وابن عباس وابن مسعود والضحاك بن مزاحم حديث طويل فيه غرائب أخرجه البيهقي في الدلائل 2/404-405 وذكر طرفه وفيه في بيت أم هانىء وصلاته العشاء الآخرة ولم يذكر باقي المتن وقال : راويه مجهول وإسناده منقطع .
ـ عن عائشة أخرجه ابن مردويه من طريق هشام بن عروة عن أبيه عنها مرفوعا أذن جبريل فصليت بالملائكة ( انظر الخصائص 1/176 ) .
ـ عن عائشة أيضاً : في دخوله الجنة ليلة الإسراء وأكله منها وتكون نطفة فاطمة ؛ أخرجه الطبراني من طريق هشام بن عروة عن أبيه عنها ( انظر الخصائص ) وأخرجه الخطيب 5/87 من طريق محمد بن الخليل البلخي عن شجاع بن الوليد عن هشام به وقال الخطيب : محمد بن الخليل مجهول .
ـ وعن سعد بن أبي وقاص بنحو حديث عائشة هذا ؛ أخرجه الحاكم وقال : غريب ، وفي سنده شهاب بن حرب مجهول وعلق عليه الذهبي بأن فاطمة ولدت قبل النبوة فضلاً عن الإسراء .
ـ وعن معاوية أخرجه ابن إسحق ومن طريقه ابن جرير 15/16 وفيه قوله أنه رؤيا من الله صادقة وهو منقطع .
ـ وعن عائشة أن الإسراء كان بالروح فقط أخرجه ابن إسحق أيضاً ومن طريقه ابن جرير 15/16 وفيه مبهم .
وقد أنكر البعض شرحَ صدره - صلى الله عليه وسلم - ليلة الإسراء . وقد رده الذهبي فقال : إنما ذكرت هذا ليعرف أن جبريل شرح صدره مرتين في صغره ووقت الإسراء به ( السيرة ص22 ) ، وقد قدمت في شرح صدره في صغره بعضاً مما قيل في شرح الصدر وقد أوصله بعضهم إلى ست مرات ولا يثبت سوى ما ذكرناه والله أعلم .(19/59)
ـ وفي الباب روايات مرسلة عن سعيد بن المسيب وعن أبي سلمة بن عبد الرحمن عند ابن جرير 15/5 والبيهقي في الدلائل 2/359-360 وفيه البراق وقصة العير والبعير ذي الغرارتين والقدحين زاد ابن المسيب رؤيته الأنبياء وارتداد ناس بعد ما أسلموا , وفي لفظ : كانوا قد صلوا معه ( انظر سيرة الذهبي 158) وزاد أبو سلمة تكذيب قريش وتصديق أبي بكر , وعن الحسن البصري عند ابن جرير 15/3 ، 110 وفيه أن جبريل أيقظه ثم خرج به إلى باب المسجد الحرام , وفيه تكذيب قريش وتصديق أبي بكر , وعن قتادة عند ابن جرير 15/15،111 وفيه أن البراق شمس وقول جبريل له وتكذيب الكفار وارتداد البعض وتصديق أبي بكر , وعن السدي عند البيهقي في الدلائل 2/404 وفيه قصة العير , وعن ابن جريج عند ابن جرير 15/111 وفيه تكذيب قريش وفرض الصلوات في نفس الليلة , وعن ابن زيد عند ابن جرير 15/111 وفيه افتتان ناسٌ كثيرٌ ، وشموس البراق وتكذيب قريش وتمثل بيت المقدس أمامه وتصديق أبي بكر . وعن الضحاك عند ابن جرير 15/112 وفيه كونه فتنة . وعن عروة عند أبي نعيم وفيه قصة الناقة . وعن أبي بكر بن أبي سبرة وغيره عند ابن سعد وابن عساكر ( انظر الخصائص 1/180) وفيه عن محمد بن كعب القرظي في قصة أبي سفيان مع هرقل أخرجه أبو نعيم في الدلائل من طريق الواقدي ( انظر تفسير ابن كثير 5/41 والخصائص 1/170-171 ) . وعن محمد بن الحنفية عند أبي نعيم ( انظر الخصائص 1/164) . وعن كعب الأحبار عند الواسطي في فضائل بيت المقدس وفيه الإسراء والمعراج . وعن الوليد بن مسلم عن بعض أشياخه بالإسراء فقط . وعن الحسن بن الحسين عند ابن إسحق وابن جرير وابن المنذر بركوب البراق فقط ( انظر الدر 4/157) . وعن نافع بن جبير عند عبد الرزاق في المصنف بالإسراء وفرض الصلوات ( انظر الدر 4/158) . وفيه أيضا عن الحسن بن يحيى الخشني عند الربعي في فضائل الشام وابن عساكر في الإسراء وصلاته في مسجد دمشق , وقال الألباني :(19/60)
ضعيف معضل ( تخريج أحاديث الربعي ص40 ) .
هذا وقد جاء من طرق كثيرة ما يدل على كون الإسراء والمعراج قد وقعا في ليلة واحدة ، ومن ذلك : ـ ما جاء عن أنس من طرق عدة وعن ابن عباس وعن ابن مسعود وعن عبد الرحمن بن قرط وعن أبي بن كعب وعن أبي سعيد وعن سهل بن سعد وعن ابن عمر وعن علي وعن جابر وغيرهم وقد تقدمت مواضع أحاديثهم .
قال البيهقي : وفي هذا السياق ـ يعني رواية ثابت عن أنس ـ دليل على أن المعراج كان ليلة أسري به عليه الصلاة والسلام من مكة إلى بيت المقدس , قال ابن كثير : وهذا الذي قاله هو الحق الذي لا شك فيه ولا مرية ( انظر التفسير 5/7 ) .(19/61)
( 502 ) أخرجه أحمد رقم 2822، 2823، 2824، 2825 وقال أحمد شاكر : إسناده صحيح , وأخرجه ابن حبان ( الموارد 39 ، 40 ) ، والحاكم 2/496 والبيهقي في الدلائل 2/389 والذهبي في السيرة ص176 وقال الحاكم : صحيح الإسناد ولم يخرجاه وسكت الذهبي . وقال ابن كثير : إسناده لابأس به ولم يخرجوه ( التفسير 5/27 ) ، وقال الذهبي : حديث حسن ا.هـ وصححه ابن حبان وقال الهيثمي : رواه أحمد والبزار والطبراني في الكبير والأوسط وفيه عطاء بن السائب وهو ثقة ولكنه اختلط ( المجمع 1/65 ) ، وتعقبه أحمد شاكر بقوله : فات الحافظ الهيثمي أن حماد بن سلمة سمع من عطاء قبل اختلاطه , وهو كما قال شاكر . وانظر الكواكب النيرات ص 327 , وعزاه السيوطي إلى النسائي وأبي نعيم وابن مردويه أيضا وقال : بسند صحيح ( انظر الدر 4/150 ، والخصائص 1/160 ) ، وله شاهد عند ابن ماجه عن أبي بن كعب من رواية ابن عباس عنه وفيه ضعف ( انظر السنن رقم 4030 ، ومرويات ابن ماجه في التفسير ص 261 ، 262 رقم 524 ) ، وذكره السيوطي باختصار عند ابن مردويه من طريق قتادة عن مجاهد عن ابن عباس عن أبي بن كعب ( انظر الخصائص 1/157) وله شاهد عن ابن عباس وابن مسعود أخرجه ابن أبي حاتم من طريق السدي عن أبي مالك وأبي صالح عن ابن عباس ومرة الهمداني عن ابن مسعود وفيه أنه مر بواد يفوح مسكاً فقال : من هؤلاء يا جبريل ؟ قال : أهل بيت من المسلمين حرقوا بالنار ( انظر الدر 4/157 ) .
( 503 ) أخرجه أبو نعيم في المعرفة 1/157-158 والحاكم 3/62 ، 77 والبيهقي في الدلائل 2/360 عن عائشة ( انظر تفسير ابن كثير 5/38 ) وعزاه السيوطي أيضا لابن مردويه ( الخصائص 1/176) وقال الحاكم : صحيح الإسناد ولم يخرجاه وسكت الذهبي , وقال في الموضع الثاني : صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ، فإن محمد بن كثير الصنعاني صدوق ا.هـ وفي إسناده محمد بن كثير الصنعاني فيه كلام يسير وللحديث شواهد كثيرة منها :(19/62)
ـ عن شداد بن أوس مرفوعاً بحديث الإسراء وقد تقدم الكلام عليها في رقم ( 501 ) .
ـ وله شاهد مرسل عن سعيد بن المسيب وعن أبي سلمة بن عبد الرحمن عند ابن جرير 15/5 والبيهقي في الدلائل 2/359-360 أيضاً .
ـ وآخر عند ابن سعد 3/120 وغيره من طريق أبي معشر عن أبي وهب مولى أبي هريرة وإسناده ضعيف , وقد تقدم ذكره في شواهد ( 501 ) .
وروى الحاكم 3/62 عن علي نزول تسمية أبي بكر صديقاً من السماء وقال : لولا مكان محمد بن سليمان العبدي من الجهالة لحكمت لهذا الإسناد بالصحة , ثم ذكر له شاهداً من طريق آخر عن علي , وفيه العلاء بن هلال . قال : الذهبي متعقبا للحاكم : منكر الحديث , ( وانظر السلسلة الصحيحة رقم 306 ) . وقال ابن حجر : رواه الطبراني ورجاله ثقات ( انظر الفتح 7/9 ) . وقال الهيثمي : رواه الطبراني : ورجاله ثقات ( المجمع 9/41 ) . وقد أخرجه أبو نعيم في المعرفة 1/155 ، 156 من طريقين عن أبي تحيى - بمثناة - عن علي بنحوه . ومابين القوسين (3) ، (3) من هذا الحديث , ويشهد له أيضاً ماورد في كون اسمه مكتوباً في السماء : الصديق ، وقد تقدمت الرواية بذلك في رقم ( 501 ) فراجعها ، وكذا من حديث أم هانئ في قصة الإسراء وقد تقدم هناك أيضا .
ـ وما بين القوسين (1) ، (1) من حديث ابن عباس عند أحمد 1/309 رقم 2820 وابن أبي شيبة 11/461 ، 14/306 والنسائي والبيهقي في الدلائل 2/363 وإسناده صحيح ( وانظر تفسير ابن كثير 5/28) ، وقال الهيثمي : رواه أحمد والبزار والطبراني في الكبير والأوسط . ورجال أحمد رجال الصحيح ( المجمع 1/65 ) . وقال الحافظ ابن حجر : إسناده حسن ( الفتح 7/199) . وعزاه السيوطي لأبي نعيم أيضاً وقال : إسناده صحيح ( انظر الخصائص 1/160 ) ، وعزاه كذلك لابن مردويه والضياء في المختارة وقال : بسند صحيح ( انظر الدر 4/155 ) ، وقال أحمد شاكر : إسناده صحيح .(19/63)
ـ وما بين القوسين غير المرقمين أخرجه مسلم وأبو عوانة وغيرهما عن أبي هريرة وانظر رقم (501 ) الزيادة (5) ، (5) ومابين القوسين (2) ، (2) من حديث جابر عند البخاري 7/196 ومسلم 1/156 ، 157 وأحمد 3/377 والترمذي 5/301 وأبي عوانة 1/124-125 ، 131 والبيهقي في الدلائل 2/359 .
( 537 ) مابين القوسين من الحديث المخرج برقم ( 514 ) عن ابن عباس . والباقي من حديث شداد بن أوس المخرج في رقم ( 501 ) الزيادة ( 16) ، (16) . وله شاهد من حديث يزيد بن أبي مالك عن أنس وغيره ، وقد نبهت على شواهده في الرقم المشار إليه فراجعه .
( 538 ) أخرجه أبو يعلى 7/126 – 127 وقال محققه : إسناده صحيح . وعن أبي يعلى نقله ابن كثير في التفسير 5/8 ، وأخرجه أيضاً البيهقي في الدلائل 2/361 وهو مختلف في اللفظ ، وفيه كأن أبا بكر قد رآها . وعلقه الذهبي في السيرة 159 عن أنس عن بعض أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - مختصراً .
وقد أخرجه أيضاً ابن النجار ( انظر الدر 4/157 ) فجعل السائل النبي - صلى الله عليه وسلم - والمسؤول أبا بكر فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : صدقت قد رأيتها يا أبا بكر .(19/64)
وله شاهد في سؤال أبي بكر النبي - صلى الله عليه وسلم - عن صفة بيت المقدس ، والمشهور أن السائل غير أبي بكر ، فلعل الراوي خلط في موضوع السؤال . ( انظر حديث شداد بن أوس في رقم 105 ) . وقد يقول قائل : كيف رآها أبو بكر ؟ والجواب : أنه ورد في بعض روايات الحديث أن أبا بكر كان في الرفقة التي مر بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو في طريقه إلى الشام ، فلعله لمحها وظنها خيالاً تخيل له ، أو لعل الله أراه إياها وهي تنتظر النبي - صلى الله عليه وسلم - عند الحرم ، أو لعله رآها في صورة من الصور التي عند النصارى في الشام كما ورد رؤية صور الأنبياء فيما ذكرنا في المجلد الأول من السيرة . وقد نقله السيوطي 4/150 وعزاه لابن مردويه أيضاً بلفظ يحتمل معنى آخر ، ففيه : فأوثقت الفرس ـ أو قال : الدابة ـ بالحلقة ، فقال أبو بكر : صفها لي ... الحديث . فإذا رجع الضمير للحلقة يكون الأمر لا إشكال فيه غير أن ذلك مستبعد لا سيما وقد قال البيهقي بعد روايتنا : وفي رواية أخرى : كريمة وديمة .ا.هـ وهذه صفة للدابة .
( 633 ) أخرجه أبو نعيم في الحلية 2/386 ، 8/43 ، 44 موصولاً ومعلقاً ، وابن حبان ( الموارد 39 ) وأبو يعلى 7/180 وابن أبي حاتم 1/151 ، 152 وابن مردويه ( انظر تفسير ابن كثير 1/122 ) من طريقين عن مالك بن دينار عن ثمامة ، وهذا إسناد صحيح . وللحديث طريق أخرى عند أحمد في المسند 3/120 ، 180 ، 231 ، 239 وابن أبي شيبة 14/308 وأبي يعلى 7/69 ، 72 وابن المبارك في الزهد 819 والخطيب 6/199 ، 12/47 وعبد بن حميد في مسنده وابن مردويه ( انظر تفسير ابن كثير ) من طريق حماد بن سلمة عن علي بن زيد بن جدعان عن أنس ، وقد رواه ابن مردويه من طريق عمر بن قيس عن علي بن جدعان فقال : عن ثمامة عن أنس ، وعلى كلٍ فهو شاهد قوي ، فعلي بن زيد فيه كلام .(19/65)
وأخرجه أبو يعلى مختصراً 7/118 وأبو نعيم في الحلية 8/172-173 من طريق سليمان التيمي عن أنس ، وإسناده صحيح . وقال أبو نعيم : مشهور من حديث أنس رواه عنه عدة ، وحديث سليمان عزيز . وعزاه السيوطي لابن مردويه من طريق قتادة وسليمان التيمي وثمامة وعلي بن زيد عن أنس ( انظر الخصائص 1/156 ) ، وله طريق أخرى عن خالد بن سلمة عنه عند الواحدي في الوسيط ( وانظر السلسة الصحيحة رقم 291 ) .(19/66)
بسم الله الرحمن الرحيم
الإنصاف في حقيقة الأولياء وما لهم من الكرامات والألطاف
تأليف
الأمير محمد بن إسماعيل الصنعاني
تحقيق
عبد الرزاق بن عبد المحسن البدر
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة معالي مدير الجامعة الإسلامية
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين، وعلى آله وأصحابه والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد: فإن أشرف ما تتجه إليه الهمم العالية هو طلب العلم، والبحث والنظر فيه، وتنقيح مسائله، وسلوك طريقه، لأن ذلك هو الذي يوصل إلى السعادة، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: [من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة]. وقال الله تعالى: ((إِنَّمَا يَخْشَى الله مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ)) [فاطر:28].
وأول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو وحي الله إليه بالعلم ((اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْأِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْأِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ)) [العلق:1-5] وقال تعالى يخاطبه: ((فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الله وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ..)) [محمد:19]. وقال تعالى: ((وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً)) [طه:114].
وما قامت الحياة السعيدة في الحياة الدنيا والآخرة إلا بالعلم النافع.(20/1)
ولذا كان التعليم هو الهدف الأعظم لمؤسس المملكة العربية السعودية الملك عبد العزيز رحمه الله، ولأبنائه كذلك من بعده، ففي عهد خادم الحرمين الشريفين، أول وزير للمعارف بلغت مسيرة التعليم مستوى عالياً، وازدهر التعليم العالي وارتقت الجامعات، ومن هذه الجامعات العملاقة، الجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية، فهي صرح شامخ، يشرف بأن يكون إحدى المؤسسات العلمية والثقافية، التي تعمل على هدى الشريعة الإسلامية، وتقوم بتنفيذ السياسة التعليمية بتوفير التعليم الجامعي والدراسات العليا، والنهوض بالبحث العلمي والقيام بالتأليف والترجمة والنشر، وخدمة المجتمع في نطاق اختصاصها.
ومن هنا، فعمادة البحث العلميِ بالجامعة تضطلع بنشر البحوث العلمية، ضمن واجباتها، التي تمثل جانباً هاماً من جوانب رسالة الجامعة ألا وهو النهوض بالبحث العلمي والقيام بالتأليف والترجمة والنشر.
ومن ذلك كتاب ((الإنصاف في حقيقة الأولياء وما لهم من الكرامات والألطاف)) تأليف الإمام محمد بن إسماعيل الصنعاني، دراسة وتحقيق د/عبد الرزاق بن عبد المحسن بن حمد البدر. نفع الله بذلك ونسأله سبحانه أن يرزقنا العلم النافع والعمل الصالح.
وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد بن عبد الله وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
مدير الجامعة الإسلامية
د/صالح بن عبد الله العبود
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:(20/2)
فإن من أصول أهل السنة والجماعة الإيمان بكرامات الأولياء وإثباتَها والتصديقَ بها واعتقاد أنها حق، وذلك (باتفاق أئمة أهل الإسلام والسنة والجماعة، وقد دل عليها القرآن في غير موضع، والأحاديث الصحيحة، والآثار المتواترة عن الصحابة والتابعين وغيرهم)(1).
ولذا أودع أهل السنة والجماعة رحمهم الله هذا الأصل العظيم في كتب المعتقد، ليُدرس ويُتعلم في ضمن أصول أهل السنة، بل أن من الأئمة من أفرده بالتصنيف كأبي بكر الخلال وابن الأعرابي وابن أبي الدنيا واللالكائي وغيرهم.
وقد انقسم الناس في هذا الأصل إلى أقسام ثلاثة طرفين ووسط(2):
1- فقسم غلوا في شأن الكرامة وأفرطوا وتجاوزوا فيها الحد -وهم المتصوفة- حيث ادعوا باسم الكرامة للأولياء ما هو من خصائص الله وحده؛ كقول بعضهم: أن لله عباداً لو شاءوا من الله ألا يقيم القيامة لما أقامها، وقول بعضهم: إنه يعطى في أي شيء أراده قول كن فيكون، وقول بعضهم: لا يعزب عن قدرته ممكن كما لا يعزب عن قدرة ربه محال إلى غير ذلك من الضلالات الواضحة والكفريات الظاهرة، التي يدعيها هؤلاء باسم الكرامة.
2- قسم جفوا في شأنها وفرطوا، فقالوا بإنكار الكرامة، ونفوا وقوعها -وهم المعتزلة ومن تأثر بهم- وزعموا أن الخوارق لو جاز ظهورها من الأولياء لالتبس النبي بغيره إذ فرق ما بينهما -عندهم- إنما هو المعجزة، وبنوا على ذلك أنه لا يجوز ظهور خارق إلا لنبي.
3- قسم أهل وسط واعتدال، وهم الخيار العدول؛ لتوسطهم بين الطرفين المذمومين، حيث ارتفعوا عن تقصير المفرطين، و لم يلحقوا بغلو المعتدين، وهم أهل السنة والجماعة، فأثبتوا الكرامات للأولياء على ضوء النصوص ووَفقِ الأدلةِ دون غلو أو جفاء أو إفراط أو تفريط.
__________
(1) مختصر الفتاوى المصرية (ص:600).
(2) ولي في هدا رسالة بعنوان (كرامات الأولياء بين الغلو والجفاء) يسر الله إكمالها ونشرها.(20/3)
وفي هذا الموضوع المهم كتب الإمام الصنعاني رحمه الله هذه الرسالة التي بين أيدينا والتي أسماها (الإنصاف في حقيقة الأولياء وما لهم من الكرامات والألطاف) صنفها رحمه الله رداً على عصري له غلا في شأن الأولياء وكرامتهم، وادعى أن لهم ما يريدون، وأنهم يقولون للشيء كن فيكون، وأنهم يخرجون من القبور لقضاء الحاجات، وإنهم في قبورهم يأكلون ويشربون وينكحون، إلى أمور أخرى عجيبة تمجها الأسماع، وتقذفها الأفهام، وينكرها من لديه بالشرع أدنى اطلاعة أو إلمام.
وقد بين الصنعاني رحمه الله في رده هذا ما في كلام هذا المبطل من تناقض، وأوضح ما فيه من غلو في الأولياء المزعومين أمن أوتاد وأنجاب وأقطاب وأغواث وما خالف فيه بهذه البدعة من أدلة الكتاب والسنة. وإن كان رحمه الله قد جنح في كتابه هذا إلى قول أبي إسحاق الإسفرايني ومن قبله المعتزلة من أن الكرامة إنما تكون في غير الأمر الخارق للعادة، وهو قول مخالف للحق والصواب، وسيأتي الكلام عليه ومناقشته وبيان بطلانه في الدراسة الآتية عن موضوع الكتاب.
ولم يكن هذا مانعاً -فيما أرى- من الإفادة من مادة الكتاب العلمية الجيدة في الرد على المتصوفة وأضرابهم ممن غلوا في الأولياء، مع التنبيه في هامشه إلى ما يحتاج إلى تنبيه.
وقد كنت بادئ الأمر متردداً في تحقيق ونشر هذا الكتاب نظراً لما فيه من أخطاء ومخالفات ليست باليسيرة غير أنه دفعني لذلك أمران:
الأول: اشتماله على ردود جيدة ومناقشات مفيدة مع المتصوفة الذين غلوا في الأولياء. وكراماتهم غلواً شديداً.
الثاني: خشية أن تقوم بعض دور النشر بطبعه على علاته وأخطائه دون تنبيه على ما فيه أو كشف لخوافيه، اعتماداً على مكانة مؤلفه.(20/4)
هذا وقد جعلت بين يدي الكتاب دراسة موجزة للمؤلف وأخرى للكتاب نبهت فيها على جوانب مهمة في الموضوع، راجياً من الله الكريم القبول والتوفيق، كما أرجوه سبحانه أن يغفر لمؤلفه ومحققه وقارئه ووالدينا وجميع المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات، إنه سميع الدعاء، وأهل الرجاء، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
دراسة موجزة عن المؤلف
1- نسبه:
هو محمد بن إسماعيل بن صلاح بن محمد بن علي بن حفظ الدين ابن شرف الدين بن صلاح بن الحسن بن المهدي بن محمد بن إدريس بن على بن محمد بن أحمد بن يحيى بن حمزة بن سليمان بن حمزة بن الحسن بن عبد الرحمن بن يحيى بن عبد الله بن الحسين بن القاسم بن إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-.
الكحلاني ثم الصنعاني المعروف بالأمير، ويكنى بأبي إبراهيم.
2- مولده:
ولد ليلة الجمعة نصف جمادى الآخرة سنة (1099هـ) بكحلان، ثم انتقل مع والده إلى مدينة صنعاء سنة (1107هـ)، وأخذ عن علمائها.
3- شيوخه:
أخذ الصنعاني العلم عن شيوخ كثيرين منهم:
1- زيد بن محمد بن الحسن.
2- صلاح بن الحسين الأخفش.
3- عبد الله بن علي الوزير.
4- علي بن محمد العنسي.
4- رحلاته:
رحل إلى مكة والمدينة وقرأ الحديث على العلماء فيهما.
5- مؤلفاته:
له رحمه الله من التصانيف ما يربو على المائتين، منها:
1- سبل السلام شرح بلوغ المرام.
2- منحة الغفار على ضوء النهار.
3- العدة شرح العمدة.
4- التنوير شرح الجامع الصغير.
5- قصب السكر نظم نخبة الفكر.
6- تطهير الاعتقاد عن أدران الإلحاد.
7- إيقاظ الفكرة لمراجعة الفطرة.
وقد اعتنى غير واحد بجمع مؤلفات الصنعاني رحمه الله، منهم الدكتور عبد الله شاكر الجنيدي في تحقيقه لكتاب ((إيقاظ الفكرة...)) وبلغ عدة ما ذكر (229) مؤلفاً.
6- تلاميذه:
تلقى العلم على الصنعاني رحمه الله جمع غفيرٌ من طلاب العلم منهم:
1- عبد القادر بن أحمد.(20/5)
2- أحمد بن محمد قاطن.
3- أحمد بن صالح بن أبي الرجال.
4- الحسن بن إسحاق بن المهدي.
5- محمد بن إسحاق بن المهدي. وغيرهم.
7- ثناء العلماء عليه:
وأكتفي هنا بإيراد نقلين:
أ- قال الشوكاني رحمه الله: (الإمام الكبير المجتهد المطلق صاحب التصانيف... برع في جميع العلوم وفاق الأقران وتفرد برئاسة العلم في صنعاء)(1).
2- قال الشيخ عثمان بن بشر: (... فريد عصره في قطره، عالم صنعاء وأديبها الشيخ المحقق محمد بن إسماعيل -رحمه الله تعالى- وكان ذا معرفة في العلوم الأصلية والفرعية، صنف عدة كتب في الرد على المشركين المعتقدين في الأشجار والأحجار والرد على أهل وحدة الوجود وغير ذلك من الكتب النافعة...)(2).
8- عقيدته:
كان رحمه الله على عقيدة السلف الصالح، وهذا أمر معروف مشهور عنه رحمه الله، في بلائه الحسن وجهوده الكبيرة التي قام بها نصرة للسنة وذوداً عن حماها ورداً للبدع والأهواء.
وخير شاهد على ذلك كتبه العديدة التي أفردها في هذا الباب العظيم، ولاسيما كتابه العظيم (تطهير الاعتقاد عن أدران الإلحاد) الذي فند فيه شبه القبوريين وزيف فيه باطلهم، ونصر الحق وبينه أحسن بيان، بل لقد لقي في سبيل ذلك الأذى الشديد من قومه وعشيرته، وجرت له معهم محنٌ وخطوب، فقد وشوا به إلى السلطان غير مرة، وتآمروا على قتله، وتسببوا في سجنه، ورموه بالنصب لكونه عاكفاً على الأمهات وسائر كتب الحديث عاملاً بما فيها(3).
قال رحمه الله:
وكم رام أقوام وهموا بسفكهم……دمي فأبى الرحمن نيلي بالضر(4)
إلا أنه مضى في دعوته صابراً محتسباً ينشر العقيدة الصحيحة ويحذر من البدع والأهواء، ويحث الناس على لزوم الكتاب والسنة، ومن جميل شعره في هذا قوله:
وقد أخذ الرحمن جل جلاله…على من حوى علم الرسول وعلما
__________
(1) البدر الطالع (2/133).
(2) عنوان المجد (1/53).
(3) انظر تفاصيل ذلك في البدر الطالع للشوكاني (2/133-137).
(4) ديوان الأمير (ص:205).(20/6)
بنصح جميع الخلق فيما ينوبهم…ولا سيما فيما أحل وحرما
ولاسيما علم العقيدة إنها الأ…ساس عليه ينبني العبد كلما(1)
فصحح أساساً للبناء فكم ترى…على جرف هار بناءاً تهدما
وناصح بني الدنيا بترك ابتداعهم…فقد صيروا نور الشريعة مظلما
وقد فتحوا باب العداوات بينهم…على بدع كل بها قد تحكما
فجانب مهاوي الابتداع متابعاً…لما سنّه المختار فينا مسلماً
فما الحق إلا ما أتى عن محمد…فصلى عليه الله عز وسلما(2)
ومع هذا الخير العظيم الذي كان عليه رحمه الله والجهد البالغ في نصرة العقيدة ونشر السنة ورد البدع والأهواء، إلا أنه لم يسلم من الوقوع في بعض ضلالات أهل البدع، وقد يكون السبب في ذلك نشأته في مجتمع الزيدية، ومن أمثلة ذلك:
1- قوله في ديوانه مخاطباً رسول الله صلى الله عليه وسلم:
ويا سيد الرسل الكرام شفاعة…أفز بها في يوم حشري والنشر(3)
وقوله أيضاً:
يا خاتم الرسل الكرام إغاثة…تطفي من القلب التهاب غليله
وشفاعةً في يوم يبدو كل ما…كسب الفتى بدقيقه وجليله(4)
وقوله أيضاً:
فيا رب بالمختار من آل هاشم…أقِلْ عثرات لا تكاد تقال(5)
وقوله أيضاً:
شفيع الخلق أولهم وجوداً……ختامهم فبورك من ختام(6)
2- ومن ذلك قوله في مسألة عدالة الصحابة: (واعلم أن الذي نختاره أنَ الأصل عدالة الصحابة إلا من ظهر اختلالها منه بارتكاب مفسق، وهم قليل كما أفاده النظم، وهذا الذي ذهب إليه أئمة أهل البيت والمعتزلة، واختاره المهدي في شرح المعيار، وهو كلام الباقلاني من الأشعرية...)(7).
__________
(1) كذا في الأصل ولعلها (يبتغي العبد سلما).
(2) ديوان الأمير (ص:340-341).
(3) ديوان الأمير (ص:312).
(4) ديوان الأمير (ص:310).
(5) ديوان الأمير (ص-: د.33).
(6) ديوان الأمير (ص:205).
(7) إجابة السائل شرح بغية الآمل للصنعاني (ص:130-131)، وانظر أيضاً: ثمرات النظر للصنعاني (106-116).(20/7)
3- وموقفه من الصحابي الجليل معاوية بن أبي سفيان -رضي الله عنه- كما في كتابه ثمرات النظر(1)، وكما في ديوانه إذ فيه أبيات قبيحة مشتملة على ثلب لهذا الصحابي الجليل(2)، وإن كان بعض الباحثين قد جزم بعدم صحة نسبتها إليه(3).
4- وكذلك موقفه كما في هذه الرسالة التي بين أيدينا من كرامات الأولياء في الأمور الخارقة للعادة، حيث جحد ذلك وأنكره كقول المعتزلة سواء، وسيأتي بيان ذلك عند دراسة موضوع الكتاب.
5- قوله في ديوانه:
لقد سار الإمام أبو المعالي…طريقاً سارها ذوو الاعتزال
ووافقهم بلا قصد وطالع…حوافل كتبهم بالاحتفال
ووافقه على ما قال قوم…جهابذة من الأمم الخوالي
أبو العباس أوحدهم ذكاء…وتابعهم أولو الهمم العوالي
وسمى بعض من تأثر بأبي المعالي ثم قال:
ولكن آل بحثهم جميعاً……إلى ما قاله ذوو الاعتزال
فراجع كتبهم تجده……بلا شك مقال أبي المعالي(4)
__________
(1) ص:113، 114).
(2) انظر: ديوان الأمر (ص:127).
(3) انظر: كتاب (الصنعاني وكتابه توضيح الأفكار) للدكتور أحمد محمد العليمي (ص:102).
(4) انظر: ديوان الأمر (ص:310).(20/8)
ومراده بأبي العباس أي: شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وكل عدل منصف يعلم أن شيخ الإسلام هو خير من فند أصول المعتزلة ونقض باطلهم، وباطل من تأثر بهم كأبي المعالي الجويني وغيره، فكيف يحشر في زمرتهم ويعد من المتأثرين بهم؟! هذا وإن من الملاحظ على الأبيات المتقدمة ولا سيما في الفقرة الأولى شدة بعدها عن الحق مما يتنافى مع مكانة هذا العالم وعلمه بالكتاب والسنة وعقيدة سلف الأمة وبخاصة مع ما قرره في كتابه تطهير الاعتقاد، وكتابه هذا الذي بين أيدينا وغيرهما من كتبه، ومن ذلك قوله في هذا الكتاب: (... وكذلك أصحابه من بعده لا يعلم عن أحد منهم أنه استغاث به صلى الله عليه وسلم بعد موته، ولا يمكن أحدٌ أن يأتي بحرف واحد عن الصحابة في أنه قال: يا رسول الله ويا محمد مستغيثاً به عند شدة نزلت به بل كلٌ يرجع عند الشدائد إلى الله تعالى...)(1)، ولهذا تشكك بعض مشايخنا من صحة نسبة هذه الأبيات إليه، وعلى كل فإن الديوان الذي جمع فيه شعره بعد وفاته يحتاج إلى تحر دقيق وتوثيق متقنٍ لتحقيق صحة نسبة جميع ما فيه للصنعاني رحمه الله.
9- موقفه من دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله:
لا يخفى على كل عدل منصف فضل الدعوة المباركة التي قام بها الإمام المجدد شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله وعظم عائدتها على المسلمين في تصحيح المعتقد وإظهار السنة ومحاربة الشرك وقمع البدع والأهواء؟ ولهذا فإن من الحسن هنا معرفة موقف الإمام الصنعاني رحمه الله من هذه الدعوة لاسيما وهو من المعاصرين لها في بدايتها.
__________
(1) ص:105-106).(20/9)
يقول ابن بشر رحمه الله: (ولما بلغه ظهور الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى وما دعا إليه من التوحيد وعبادة الله وحده لا شريك له، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كتب إليه قصيدة يمدحه فيها عن القيام بالتوحيد وإقامة شرائع الإسلام، ويذكر ما عليه الناس من الجهل والضلال والتبرك بالقبور والأشجار والأحجار، ويذكر ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتابعون من بعدهم ويمدح أهل الحديث ويذم البدع وأهلها، وذكر أهل وحدة الوجود وإنه أكفر أهل الأرض، وهى قصيدة نحو سبعين بيتاً...) ومطلعها:
قفي واسألي عن عالم حل سوحها……به يهدي من ضل عن منهج الرشد
محمد الهادي لسنة أحمد……فيا حبذا الهادي ويا حبذا المهدي
لقد أنكرت كل الطوائف قوله……بلا صدر في الحق منهم ولا ورد
على أنه ذُكر أنَ الصنعاني رحمه الله كتب بعد هذه بوقت قصيدة أخرى أعلن فيها رجوعَه عن الذي قاله في مدح الشيخ، قال في مطلعها:
رجعت عن القول الذي قلت في النجدي……فقد صح لي عنه خلاف الذي عندي
وهذا الذي وصفه رحمه الله بأنَه صح عن الشيخ عنده لا يزيد على وشاية ألقاها إليه بعض المغرضين من أعداء الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، ذكروا فيها أن من حال الشيخ (سفكه الدماء، ونهبه الأموال، وتجاريه على قتل النفوس ولو بالاغتيال، وتكفيره الأمة المحمدية في جميع الأقطار)(1).
ولهذا فإن الصنعاني أعلن في أثناء هذه القصيدة عن عدم تحوله عن معتقده السابق في نظمه الذي مدح فيه الشيخ وعقيدته، وبين أن انتقاده على الشيخ إنما هو في تجاريه على سفك الدماء وتكفيره أهل الأرض استناداً على تلك الوشاية، ولذا يقول:
نعم واعلموا أنّي أرى كل بدعة…ضلالاً على ما قلت في ذلك العقد
ولا تحسبا أنّي رجعت عن الذي…تضمنه نظمي القديم إلى نجد
__________
(1) من مقدمة الصنعاني لقصيدته التي رجع فيها عن مدح الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمهما الله. انظر: ديوان الأمير (ص:134، 135).(20/10)
بلى كل ما فيه هو الحق إنَّما…تجاريك في سفك الدماء ليس من قصدي
وتكفير أهل الأرض لست أقوله…كما قلته لا عن دليل به تهدي(1)
والمتأمل بعدلٍ وإنصافٍ في دعوة شيخ الإسلام رحمه الله يجد أن كل هذا من الكذبَ والبهتان والافتراء على هذا الإمام المجدد رحمه الله، فقد تبرأ من ذلك شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في حياته، وبرأه منه كل عدلٍ منصفٍ عرف الشيخ حقيقة وعرف دعوته، سوى من تلقفتهم الوشايات المغرضة، وأبعدكم الأراجيف الكاذبة.
يقول شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في التبرؤ من هذا الذي ألصقه به أعداؤه كذباً وزوراً: (وأما ما ذكره الأعداء عني أني أكفر بالظن وبالموالاة، أو أكفر الجاهل الذي لم تقم عليه الحجة فهذا بهتان عظيم، يريدون به تنفير الناس عن دين الله ورسوله... إلى أن قال: وزعموا أني أكفر أهل الإسلام وأستحل أموالهم...)(2).
وأقواله في هذا كثيرة، وهي مبثوثة في كتبه ورسائله رحمه الله. وإذا كانت هذه الوشاية المغرضة قد أثرت في مثل هذا العلم رحمه الله، فكيف الأمر بمن هو دونه في العلم والفهم والحذق؟! والله المستعان. هذا إن صحت نسبتها إليه، وإلا فإن من العلماء من يرى عدم صحة ثبوت رجوع الصنعاني عن قصيدته، وأن القصيدة المبدوءة بـ(رجعت عن النظم الذي قلت في النجدي...) ليست للصنعاني محمد بن إسماعيل، وإنما هي لغيره، كما حقق ذلك الشيخ العلامة سليمان بن سحمان رحمه الله في كتابه (تبرئة الشيخين من تزوير أهل الكذب والمين) حيث جزم فيه بأن القصيدة وشرحها كلاهما مكذوب موضوع على الأمير محمد بن إسماعيل الصنعاني.
__________
(1) ديوان الأمير (ص:137).
(2) مجموع مؤلفاته (5/25، 26).(20/11)
قال في أولها: (وذلك أن اعتراضه على الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى بذلك اعتراض جاهلٍ يتمعلم يصان عنه كلام الأمير محمد بن إسماعيل الصنعاني لعلو قدره، وعظم فضله وإمامته، وتمام رغبته في اتباع السنة وذم البدع وأهلها، فكيف جوز أن ينسب إليه مثل هذا الكلام الذي لا يقوله إلا جاهل لا يعرف الأدلة الشرعية، والأحكام المعلومة النبوية، وهل يقول مثل هذا الاعتراض إلا جاهل، فلو لم يكن عن الأمير محمد قولٌ يناقض هذا لعلمنا أنه لا يقوله، لأنه يناقض ما ذكره في (تطهير الاعتقاد) وفي غيره من كتبه.
وقد بلغني أن الذي وضع هذا النظم وشرحه رجل من ولد ولده، وهو اللائق به؛ لعدم معرفته ورسوخه في العلم، فاستعنت الله على رد إفكه وعدوانه وكذبه وظلمه وبهتانه؛ ليعلم الواقف علينها براءة الأمير محمد بن إسماعيل منها، وأنها موضوعة مكذوبة عليه). اهـ(1).
ثم أطال رحمه الله في تفنيد ما في القصيدة وشرحها من باطل وتناقض يتنافى مع مكانة الصنعاني رحمه الله، وعلو قدره، وسعة علمه، وإمامته، وورعه، وحسن معتقده، كما في كتابه (تطهير الاعتقاد) وغيره من كتبه.
ويقول الشيخ محمد بن عبد العزيز بن مانع كما في مقدمة ديوان الصنعاني: (والمصنف رحمه الله من أئمة التوحيد، وقد أثنى عليه الشيخ سليمان بن سحمان وعبر عنه بالإمام، وبين أن القصيدة الدالية التي مطلعها: (رجعت ى القول الذي قلت في النجدي) ليست للأمير، وإنما هي وشرحها لأحد أولاده فنسبها لأبيه كذباً وافتراء).
وهذا الذي ذهب إليه العلامة سليمان بن سحمان وحققه، وكذلك العلامة محمد بن مانع هو الحري بمثل هذا الإمام والأليق بمكانته وقدره.
10- وفاته:
توفي رحمه الله في يوم الثلاثاء ثالث شهر شعبان سنة (1182) للهجرة، رحمه الله، وغفر له، وأسكنه الجنة، وجزاه عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء.
دراسة عن الكتاب
__________
(1) تبرئة الشيخين الإمامين من تزوير أهل الكذب والمين (ص:82، 83).(20/12)
أولاً: عنوان الكتاب:
أثبت في أول الكتاب في أول صفحة منه في نسخة (أ) قبل البسملة اسم الكتاب [الإنصاف في حقيقة الأولياء وما لهم من الكرامات والألطاف] وأما النسخة (ب) فقد كتبت في أولها بخط مغاير لخط ناسخها [سؤال في شأن الأولياء من الأحياء والأموات وكراماتهم].
ثانياً: توثيق نسبته للمؤلف:
لا ريب في ثبوت نسبة هذا الكتاب لمؤلفه الصنعاني رحمه الله لأمور عديدة أهمها أن المؤلف أحال فيه في مواطن عديدة إلى كتبه المعروفة، وفيما يلي ذكر ما سمى المؤلف في هذا الكتاب من مؤلفاته:
1- جمع الشتيت شرح أبيات التثبيت. أحال إليه في ثلاثة مواطن.
2- تطهير الاعتقاد عن أدران الإلحاد. أحال إليه في موطنين.
3- التنوير شرح الجامع الصغير. أحال إليه في موطن واحد.
4- الأنفاس الرحمانية في الأبحاث على الإفاضة المدنية. أحال إليه في موطن واحد.
5- ثمرات النظر في علم الأثر. أحال إليه في موطن واحد.
ثم إن اسم المؤلف الصنعاني رحمه الله قد أثبِت في أول النسختين الخطيتين للكتاب.
ثالثاً: سبب تأليفه:(20/13)
لقد أوضح الصنعاني رحمه الله سبب تأليفه لهذا الكتاب، حيث ذكر في مقدمته أنه وقف على رسالة تضمنت جواب سؤال عن شأن الأولياء، الأحياء منهم والأموات، وما لهم من الأحوال والكرامات، غلا فيها مؤلفها في شأن الأولياء، وزعم أن لهم ما يريدون، وأنهم ممن يقول للشيء كن فيكون؛ وأنهم يخرجون من قبورهم لقضاء الحوائج ومجاهدة الكفار، وتدريس العلم إلى غير ذلك من الخرافات العجيبة والخزعبلات الغريبة، فتصدى رحمه الله إلى إبطال ما فيه ونقض مبانيه وتزييف باطله، وكما يقول رحمه الله: (... فرأيته يتعين إبانة الصواب وبيان حقيقة ما افتراه من الأوتاد والأنجاب والأقطاب، وما خالف فيه بهذه البدعة من أدلة السنة والكتاب، أرجو ببيان ذلك الإثابة من الرب الوهاب، والهداية لمن هو من أولي الألباب، وأما من غلب عليه الابتداع وخالف طريقة من هم للكتاب والسنة أتباع فإنه يسد عما نلقيه الأسماع، والواجب علينا هو البلاغ المبين، وأما الهداية والتوفيق فمن رب العالمين).
و لم يتبين لي من هو هذا المردود عليه، إذ لم يسمه الصنعاني رحمه الله، و لم يتيسر معرفته من خلال كتب التراجم إلا أنه رحمه الله ذكر كما في خاتمة النسخة (ب) أنها (ردٌ على رسالة وصلت من مصر فيها عجائب وغرائب تنافي الشريعة المحمدية).
رابعاً: أهمية موضوع الكتاب:
لا ريب أن موضوع هذا الكتاب في غاية الأهمية؛ لأنه يعالج جانباً خطيراً من الانحراف يتمثل في غلو فئة كبيرة من الناس. ممن يعتقدون فيهم الولاية، بسبب ما قد يرونه يجري على أيديهم من أمور وأحوال خارقة للعادة.(20/14)
على أن العادة قد تنخرق بفعل الساحر والمنجم والمشعوذ والكاهن؛ إذ هؤلاء قد يكون لأحدهم القرين من الشياطين فيخبره ببعض الأمور المغيبة مما يسترقه من السمع، ومن هؤلاء من يأتيه الشيطان بأطعمة وفواكه وحلوى وغير ذلك مما لا يكون في ذلك الموضع، ومنهم من يطير به الجني إلى مكة أو بيت المقدس أو غيرهما، ومنهم من تحمله عشية عرفة ثم تعيده من ليلته، ومنهم من يستغيث بمخلوق إما حي أو ميت سواء كان ذلك المخلوق مسلماً أو نصرانياً أو مشركاً فيتصور الشيطان بصورة ذلك المُستغاث به، ويقضي بعض حاجته، ومن هؤلاء من يتصور له الشيطان ويقول له: أنا الخضر، وربما أخبره ببعض الأمور، وأعانه على بعض المطالب، ومنهم من يموت لهم الميت فيأتي الشيطان بعد موته على صورته وهم يعتقدون أنه ذلك الميت، ويقضي الديون ويرد الودائع ويفعل أشياء تتعلق بالميت، ومنهم من يرى عرشاً في الهواء وفوقه نور ويسمع من يخاطبه ويقول: أنا ربك، ومنهم من يرى أشخاصاً في اليقظة يدعي أحدهم أنه نبي أو صديق أو شيخ من الصالحين، ويكون من الشياطين، ومنهم من يرى ذلك عند قبر الذي يزوره، فيرى القبر قد انشق وخرج إليه صورة، فيعتقدها الميت وإنما هو جني تصور بتلك الصورة إلى أمثال هذه الأمور الكثيرة التي يطول وصفها، والإيمان بها إيمان بالجبت والطاغوت(1) ؛ إذ كلها من طريق الشيطان وبواسطته.
وعلى هذا (فإن كانت الخوارق دليلاً على ولاية الله، فلتكن دليلاً على ولاية الساحر والكاهن والمنجم والمتفرس ورهبان اليهود والنصارى وعباد الأصنام، فإنهم يجري لهم من الخوارق ألوف، ولكن هي من قِبَل الشياطين؛ فإنهم يتنزلون عليهم لمجانستهم لهم في الأفعال والأقوال)(2).
__________
(1) انظر: الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان لابن تيمية (ص:322-332).
(2) تيسير العزيز الحميد للشيخ سليمان بن عبد الله آل الشيخ (ص:396).(20/15)
ولما كان الأمر بهذه المثابة وعلى هذا الوصف التبس الحال على كثير من الناس، وضلوا في هذا الباب ضلالاً بعيداً، بل ظن بعض الناس و (استقر عند العامة أن خرق العادة يدل على أن من وقع له ذلك من أولياء الله تعالى، وهو غلط ممن يقوله؟ فإن الخارق قد يظهر على يد المبطل من ساحر وكاهن وراهب، فيحتاج من يستدل بذلك على ولاية أولياء الله تعالى إلى فارق، وأولى ما ذكروه أن يختبر حال من وقع له ذلك، فإن كان متمسكاً بالأوامر الشرعية والنواهي كان ذلك علامة ولايته، ومن لا فلا)(1).
وهذا ضابطٌ دقيق، وميزانٌ مُحكمٌ يميز به المسلمُ الخبيثَ من الطيب، والباطلَ من الحق، وقد فصله شيخ الإسلام أجمل تفصيل في كتابه الفذ (الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان).
هذا وإن ممن ضل في هذا الباب الخطير مؤلفَ هذا الجواب الذي رد عليه الصنعاني رحمه الله في هذه الرسالة التي بين أيدينا، والتي اعتنى فيها رحمه الله بإبطال ضلال هذا المردود عليه، وبيان زيف ما تعلق به من شُبَهٍ، وإيضاح فساد ما أتى به من تلبيس، مما سيقف عليه القارئ لهذه الرسالة.
إلا أن الصنعاني رحمه الله يؤخذ عليه في رسالته هذه ميولُه إلى القول بإنكار الكرامة إذا كانت من قبيل الخارق للعادة، وقد أحس بذلك رحمه الله، فهو يقول في رسالته هذه: (ولا يقول قائل إن هذا منا إنكار للكرامات، إنا قد قدمنا أنه لا ينكرها بإجابة الدعوات وتيسير المطلوبات ودفع المحذورات إلا جاهل بالحقائق... إلى أن قال: ولا نعرف من الكرامات إلا إجابة الدعوات بعافية المريض والسلامة من المخاوف والتيسير للمطالب ونحو ذلك...).
ولا ريب أن إنكار الكرامة في الأمور الخارقة للعادة والذي مال إليه الصنعاني في هذه الرسالة قولٌ باطلٌ يخالف الأدلة الصريحة في الكتاب والسنة، ويخالف النقول الثابتة المأثورة عن سلف الأمة.
ولذا قال السفاريني رحمه الله في درته المضية:
__________
(1) فتح الباري، لابن حجر (7/383).(20/16)
وكلّ خارق أتى عن صالح…من تابع لشرعنا وناصح
فإنَّها من الكرامات التي…بها نقول فاقف للأدلة
ومن نفاها من ذوي الضلال…فقد أتى في ذاك بالمحال
فإنَّها شهيرة ولم تزل…في كلّ عصر يا شقا أهل الزلل(1)
وأما ما ذكره الصنعاني رحمه الله من عدم إنكاره للكرامة بمعنى إجابة الدعوة وتيسير المطلوب ونحو ذلك، فهذا لا يخالف فيه أحد، وهو موضع اتفاقٍ بين المسلمين، حتى المعتزلة الذين ينكرون كرامات الأولياء لا ينكرون هذا ولا يخالفون فيه.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (والذين ذكر عنهم إنكار كرامات الأولياء من المعتزلة وغيرهم كأبي إسحاق الإسفرايني وأبي محمد ابن أبي زيد، وكما ذكر ذلك أبو محمد بن حزم لا ينكرون الدعوات المجابة ولا ينكرون الرؤيا الصادقة فإن هذا متفقٌ عليه بين المسلمين)(2). ولهذا فإن المؤلف رحمه الله قد غلط غلطاً كبيراً في رسالته هذه عندما قال بنفي الكرامة في الأمر الخارق للعادة؛ إذ هذا ليس من قول أهل السنة والجماعة، وإنما هو متلقى عن المعتزلة ومن تأثر بهم في هذا الباب كأبي إسحاق الإسفرايني وغيره.
وليت أن الصنعاني رحمه الله أخلى مؤلفه من هذا القول؛ ليكون على وفق مسماه، إذ ليس من الإنصاف في شيء إنكار الكرامة بالمعنى المتقدم؛ لثبوته وكثرة أدلته، وإنكار ذلك هو في الحقيقة جفاء وتفريط، وهو شأن المتكلمين، كما أنه أيضاً ليس من الإنصاف في شيء رفعها فوق قدرها وجعلها فوق حدها، إذ هذا غلو وإفراط وهو شأن المتصوفة (وخيار الأمور أوساطها، لا تفريطها ولا إفراطها)(3)، وهو قول أهل السنة والجماعة والحق والاستقامة، الذين توسطوا بين الطرفين المذمومين: (الإفراط) و (التفريط)، فهم أهل النمط الأوسط الذين يلحق بهم المقصر، وإليهم يرجع الغالي.
__________
(1) وانظر شرحه لهذه الأبيات في كتابه لوامع الأنوار البهية (2/392).
(2) النبوات (ص:405).
(3) الاقتباس لمعرفة الحق من أنواع القياس للصنعاني (ص:24).(20/17)
إذ من أصولهم الثابتة وأسسهم الراسخة (التصديق بكرامات الأولياء، وما يجري الله على أيديهم من خوارق العادات في أنواع العلوم والمكاشفات وأنواع القدرة والتأثيرات، كالمأثور عن سالف الأمم في سورة الكهف وغيرها، وعن صدر هذه الأمة من الصحابة والتابعين وسائر قرون الأمة، وهي موجودة فيها إلى يوم القيامة)(1) ومن ذلك:
1- ما ثبت في البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه: (أن رجلين خرجا من عند النبي صلى الله عليه وسلم في ليلة مظلمة وإذا نور بين أيديهما حتى تفرق النور معهما)(2).
2- وقصة أبي بكر الصديق مع أضيافه الثلاثة -وهي مخرجة في الصحيحين- لما ذهب بهم إلى بيته، فكانوا لا يأكلون لقمة إلا ربا من أسفلها أكثر منها حتى شبعوا جميعاً، وصارت أكثر مما كانت قبل ذلك، فنظر إليها أبو بكر فإذا هي كما هي أو أكثر، فقال لامرأته: ما هذا؟! قالت: لا، وقرة عيني لهي الآن أكثر منها قبل ذلك بثلاث مرار، قال فأكل منها أبو بكر، ثم حملها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأصبحت عنده، قال: وكان بيننا وبين قوم عقد فمضى الأجل، فعرفنا اثنا عشر رجلاً مع كل رجل منهم أناس الله أعلم كم مع كل رجل، فأكلوا منها أجمعون(3).
__________
(1) العقيدة الواسطية [ضمن مجموع الفتاوى:3/56].
(2) البخاري (7/124 فتح).
(3) البخاري (2/76فتح)، ومسلم (3/1628).(20/18)
3- وفي الصحيحين عن أبي سعيد الخدري أن أسيد بن حضير بينما هو ليلة يقرأ في مربده إذ جالت فرسه فقرأ، ثم جالت أخرى فقرأ، ثم جالت أيضاً، قال أسيد: فخشيت أن تطأ يحيى فقمت إليها، فإذا مثل الظلة فوق رأسي فيها أمثال السرج عرجت في الجو حتى ما أرها قال: فغدوت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله بينما أن البارحة من جوف الليل أقرأ في مربدي إذ جالت فرسي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اقرأ ابن حضير) قال: فقرأت ثم جالت أيضاً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اقرأ ابن حضير) قال: فقرأت ثم جالت أيضاً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اقرأ ابن حضير) قال: فانصرفت، وكان يحيى قريباً منها خشيت أن تطأه فرأيت مثل الظلة فيها أمثال السرُج عرجت في الجو حتى ما أراها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تلك الملائكة كانت تستمع لك، ولو قرأت لأصبحت يراها الناس ما تستتر منهم)(1).
4- وفي البخاري في قصة أسر المشركين لخُبيب الأنصاري رضي الله عنه، وسياقها طويل، وفيها تقول ابنة الحارث بن عامر الذي لبث خبيب عندهم أسيراً: والله ما رأيت أسيراً قط خيراً من خبيب، والله لقد وجدته يوماً يأكل من قطف عنب في يده، وإنه لموثق في الحديد وما بمكة من ثمر، وكانت تقول: إنه لرزق من الله رزقه خبيباً(2).
فهذه بعض الأمثلة و (تعداد هذا مثل المطر)(3)، وقد ذكر جملةً كبيرةً منها شيخ الإسلام في كتابه الفرقان وغيره من كتبه، وكأنك من أفرد هذا الموضوع -من أهل السنة- بالتصنيف، كالخلال وابن الأعرابي وابن أبي الدنيا واللالكائي وغيرهم، وهو أمر متقرر لا نزاع فيه. لكن قد يُعتذر للمؤلف رحمه الله في غلطه في هذا الباب بأمرين:
__________
(1) البخاري (9/63 فتح) ومسلم (1/548).
(2) البخاري (6/166 فتح).
(3) هذه عبارة شيخ الإسلام قالها عقب ذكره جملةً من الكرامات. انظر: الفتاوى (11/318).(20/19)
الأول: ما شهده من غلو فظيع في أمر الكرامة والأولياء، بلغ حد الشرك والإلحاد والزندقة، والعياذ بالله، فتصدى رحمه الله لنقض هذا الباطل ونسفه وبيان فساده، وهو -بلا ريب- محمود فيما ردة من الباطل وقاله من الحق، إلا إنه تجاوز في رده، بحيث جحد بعض الحق وقال ببعض الباطل، فيكون بذلك قد رد بدعة ببدعة ورد باطلاً بباطل، ومثل هؤلاء كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: (إذا لم يجعلوا ما ابتدعوه قولاً يفارقون به جماعة المسلمين، يوالون عليه ويعادون، كان من نوع الخطأ، والله سبحانه وتعالى يغفر للمؤمنين خطأهم في مثل ذلك)(1).
فهو نوع من الخطأ وقع فيه -رحمه الله- ولم يكن تعصباً لمذهب باطل، أو انتصاراً وحميةً لعقيدة فاسدة يوالي عليها ويعادي.
الثاني: نشأته في مجتمع على مذهب الزيدية، ومعلوم أن الزيدية في المعتقد على طريقة المعتزلة، وإن كان المؤلف رحمه الله بجهاده الصادق في تحري الحق وإصابته قد وفق في التحرر من هذه العقيدة الفاسدة والفكاك من هذا المذهب الباطل، يقول رحمه الله في كتابه (الأنفاس الرحمانية): (... وإنما قدمت هذا لئلا يظن الناظر أني أذهب إلى قول فريق من الفريقين المعتزلة والأشعرية، فإن الكل قد ابتدعوا في هذا الفن الذي خاضوا فيه)(2).
فهو مخالف للمعتزلة والأشعرية ولا يقول بقولهما، بل يرى أن كلا منهما قد ابتدع في الدين في هذا الفن الذي خاضوا فيه، لكنه مع ذلك لم يسلم من بعض شبههم، ولم ينفك من بعض باطلهم في أمور قليلة معدودة، منها قول المعتزلة في هذا الباب.
__________
(1) الفتاوى (3/349).
(2) الأنفاس الرحمانية (ق:27/أ) نقلاً عن مقدمة تحقيق كتاب إيقاظ الفكرة (1/80).(20/20)
وقد كان رحمه الله صاحب جهاد صادق ومنافحة عظيمة عن العقيدة الصحيحة عقيدة أهل السنة والجماعة، ولاسيما في كتابه (تطهير الاعتقاد عن أدران الإلحاد) وغيره من كتبه النافعة التي اجتهد فيها في نشر السنة وذم البدع والخرافات، ولا يخفى هذا الأمر على المطلع على كتبه رحمه الله.
وقد أبلى في ذلك بلاءً عظيماً في مجتمع كان يعج بالاعتزال والتصوف، وكان يظن رحمه الله إنه وحيد عصره في هذه الدعوة حتى بلغته جهود الإمام المجدد شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب، فسُر بها سروراً عظيماً، وكتب قصيدته المشهورة في مدح الشيخ ودعوته، وأما رجوعه عن مدح الشيخ فهذا ثبوته محل نظر كما تقدم، ثم هو إن صح فهو ناشئ عن وشاية مغرضة ودعاية كاذبة نمت إليه، ورحم الله من قال: (يفسد النمام في ساعة ما لا يفسد الساحر في سنة).
وعلى كل فمثل هذا العالم الجليل إذا وقع في بعض الأخطاء لا ينبغي أن تهدر جهوده وينتقص قدره، بل تحفظ الجهود ويعرف القدر، والباطل مردود، أما من أسس مذهبه على الباطل، وبناه على الأهواء فشأنه آخر.
ونسأل الله أن يتولاَنا والمؤلف وجميع المسلمين بعفوه وصفحه ورحمته.
خامساً: التعريف بالنسخ الخطية المعتمدة:
وقفت على نسختين خطيتين لهذا الكتاب:
إحداهما: مصورة في قسم المخطوطات بالجامعة الإسلامية تحت رقم (9/8607) عن مكتبة الجامع الكبير بصنعاء، وهي فيه ضمن مجموع برقم (58) يشمل رسائل عديدة، منها:
- سؤال عن الاستعاذة من الهدم والغرق والحرق مع ثبوت أن منها ما هو شهادة وأنها مطلوبة.
- بحث في ما النكتة في تنوع عبارات الخضر في قوله ((فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا)) [الكهف:79]، ((فَأَرَدْنَا)) [الكهف:81]، ((فَأَرَادَ رَبُّكَ)) [الكهف:82].
- مسألة هل الكفار مخاطبون بفروع الشريعة.
- المسائل المهمة فيما تعم به البلوى.
- إرشاد النقاد إلى تيسير الاجتهاد.
- الإشاعة في بيان من نهي عن فراقه من الجماعة.
- غاية البيان لخصائص رمضان.(20/21)
- شفاء الصدور بنكتة تقديم الرحيم على الغفور.
وغيرها من الرسائل.
ويقع كتاب (الإنصاف...) ضمن هذا المجموع في اثنتين وعشرين صفحة (597-619)، في كل صفحة سبعة وعشرون سطراً تقريباً، وهو بخط النسخ المعتاد، وقد ذكر في آخر المجموع أن ناسخه هو محمد بن عبد الكريم بن حسين، وقد تم نسخ كتاب (الإنصاف...)) كما ذكر في آخره في يوم الأربعاء من شهر ربيع الأول عام (1299هـ). وقد رمزت لها بالحرف (أ).
الثانية: مصورة عن دار المخطوطات اليمنية تحت رقم (659)، وهي تقع في (37) صفحة، في كل صفحة (17) سطراً تقريباً، كتب عليها في صفحة الغلاف بخط مغاير: (سؤال في شأن الأولياء من الأحياء والأموات وكرامتهم)، وهي بخط النسخ، وناسخها هو عبد الله بن محمد العدوي سنة (1332)، وقد نسخها عن نسخة منقولة من خط المؤلف ناسخها هو سعيد بن حسن العنسي في (1177). وقد رمزت لها بالحرف (ب).
وقد حصلت على هذه النسخة مؤخراً هديةً من الأخ الفاضل النبيل الشيخ عبد العزيز بن مرزوق الطريفي وفقه الله وشكر له وجزاه خير الجزاء، وقد أفدت منها كثيراً في استدراك جملة من التصويبات لأخطاء واقعة في النسخة الأولى.
سادساً: عملي في الكتاب:
لقد كان عملي في الكتاب على النحو التالي:
1- نسخ الكتاب، ومقابلة المنسوخ على الأصلين الخطيين، وأثبت في المتن عند الاختلاف ما رأيته صحيحاً صواباً، مع الإشارة في الحاشية إلى ما في النسخة الأخرى، وأما الأخطاء الواضحة كسقط كلمة أو حرف أو نحو ذلك فلم أر حاجة في أثقال الحواشي بذكرها.
2- عزو الآيات الكريمة إلى أماكنها، وتخريج الأحاديث والآثار مع نقل كلام أهل العلم عليها صحة وضعفاً ما أمكن ذلك.
3- التعريف بالأعلام غير المشهورين تعريفاً موجزاً.
4- التعليق على ما يحتاج إلى تعليق.
5- توثيق النقول التي يوردها المؤلف بالإحالة إلى مصادرها.
6- الإشارة إلى نهاية الصفحات في المخطوطة من النسخة (أ).(20/22)
7- تقديم دراستين موجزتين، الأولى عن المؤلف، والثانية عن الكتاب المحقق.
8- وضع بعض الفهارس العلمية [للآيات، والأحاديث، والأعلام، والموضوعات] وذلك لتيسير الإفادة من الكتاب.
سابعاً: نماذج من النسختين الخطيتين:
بداية النص المحقق
بسم الله الرحمن الرحيم
التحذير من الإحداث في الدين:
الحمد لله الذي له الملك والملكوت، الحي الجبار الذي لا يموت، الذي لم يتخذ صاحبةً ولا ولداً ((إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً)) [مريم:93]، فليس للعبد تصرفٌ مع مولاه، ولا له تقدمٌ بين يديه، ولا شفاعة، ولا غيرها إلا بإذنه ورضاه، والصلاة والسلام على من تركنا على الواضحة البيضاء ليلها كنهارها، وأشرقت شمس نبوته فامتلأت الأرض بأنوارها.
أخرج ابن ماجه عن جبير بن نفير عن أبي الدرداء قال: (خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ونحن نتذاكر الفقر ونتخوفُه، فقال: آلفقر تخافون؟ والذي نفسي بيده لتُصبن عليكم الدنيا صباً، حتى قال: لقد تركتكم على البيضاء ليلها ونهارها سواء)(1)، [قال أبو الدرداء: صدق والله رسول الله، لقد تركنا على مثل البيضاء ليلها ونهارها سواء](2). وعلى آله الذين بهديه يهدون، وبه يقتدون.
__________
(1) سنن ابن ماجه (1/4) قال حدثنا هشام بن عمار الدمشقي حدثنا محمد بن عيسى بن سميع حدثنا إبراهيم بن سليمان الأفطس عن الوليد بن عبد الرحمن الجريش عن جبير بن نفير عن أبي الدرداء فذكره.
ورواه ابن أبي عاصم في السنة (1/26) عن هشام بن عمار به.
قال الألباني حفظه الله في تخريجه: (حديث صحيح، رجاله ثقات على ضعف في إبراهيم بن سليمان الأفطس وهشام بن عمار، لكنه ينجبر بالحديث الذي بعده)؟.
أي ما رواه ابن أبي عاصم وغيره عن العرباض بن سارية قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لقد تركتكم على مثل البيضاء، ليلها كنهارها لا يزيغ بعدي عنها إلا هالك).
(2) زيادة من نسخة (ب).(20/23)
واعلم إنه صلى الله عليه وآله وسلم قد حذر أمته من الابتداع لما أعلمه الله من أن أمته تأتي من الابتداع(1) بأجناس وأنواع، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (شر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة)(2)، وقال: (خير الأمور كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة)(3)، وقال: (لا يقبلُ الله لصاحب بدعة صوماً، ولا صلاة ولا صدقة ولا حجاً ولا عمرةً، ولا جهاداً، ولا صرفاً، ولا عدلاً، يخرج من الإسلام كما تخرج الشعرةُ من العجين)(4)، أخرج هذه الأحاديث ابن ماجه وغيُره.
الإحداث في الدين كالرد لقوله: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ):
__________
(1) في (أ) "بالابتداع" والتصويب من (ب).
(2) جزء من حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه، وقد رواه الإمام أحمد في المسند (4/126) والترمذي (5/45) وأبو دواد (5/13) والدارمي (1/44) والبغوي في شرح السنة (1/205) والحاكم (1/96) وابن حبان (الإحسان:1/104) وابن أبي عاصم في السنة (1/19). وقال الترمذي: ((حديث حسن صحيح)) وصححه ابن حبان، وقال الحاكم: ((صحيح على شرط الشيخين)). وصححه الألباني في الإرواء (8/107).
(3) جزء من حديت رواه مسلم في صحيحه (2/592) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه.
(4) رواه ابن ماجه في سننه (1/19) قال حدثنا داود بن سليمان العسكري ثنا محمد بن على أبو هاشم بن أبي خداش الموصلي قال حدثنا محمد بن محصن عن إبراهيم بن أبي عبلة عن عبد الله بن الديلمي عن حذيفة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكره. وفي إسناده محمد بن محصن قال الحافظ في التقريب: (كذبوه).
ولذا حكم عليه الألباني حفظه الله في السلسلة الضعيفة (3/684) بأنه موضوع.(20/24)
قلت: ووجه عظمة الابتداع في الدين أنه كالرد على قول الله ((الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً)) [المائدة:3] فالابتداع بزيادة(1) في الدين أو نقصان منه، فلهذا عظم شأن البدعة في الدين، وخرج(2) بها صاحبها من الدين كما تخرج الشعرة من العجين.
سبب تأليف الكتاب:
وبعد:
فإني وقفتُ على رسالة جواب سؤال عن شأن الأولياء الأحياء منهم والأموات، وما هو لهم من الأحوال والكرامات، فقضى الجواب فيها أن للأولياء ما يريدون، وأنهم ممن يقول لأي شيء أرادوه كن فيكون، وأنهم من القبور لقضاء الحوائج يخرجون، وأنهم لمواقف جهاد الكفار يحضرون، وأن العلماء منهم بعد الموت للعلوم يدرسون، وأن الخضر أخذ عن أبي حنيفة علوم الشريعة بعد أن ضمه الرخام، ولازم قبره خمسة عشر من الأعوام(3)، وأنهم ينكحون في القبور، ويأكلون، ويشربون، ويطعمون، ولهم ما يشتهون، ومن هذا الكلام الذي تمجه الأسماعُ، وتقذفه الأفهامُ.
فتعين إيقاظُ أهل الغفلة والمنام من القاصرين والعوام ببيان حقيقة الولي، وما ورد في صفته من الآثار، وبيانه من الكتاب والسنة والأخبار، ثم بيان رد ما أورده المجيب من الهذيان، وإنه جعل الأولياء من جملة الأصنام والأوثان، ووصفهم بأنهم كالإله تقدس وتعالى يقولون للشيء كن فكان.
__________
(1) في نسخة (ب): "من زيادة".
(2) في (أ): "شأن البدعة الذي خرج بها.. " والتصويب من (ب).
(3) في (ب) "ولازم بين خمسة عشر من الأعوام" وهو تصحيف.(20/25)
فرأيته يتعين إبانة الصواب، وبيان حقيقة ما افتراه من الأوتاد والأنجاب والأقطاب، وما خالف فيه هذه البدعة من أدلة السنة والكتاب، أرجو ببيان ذلك الإثابة من الرب الوهاب، والهداية لمن هو من أولي الألباب، وأما من غلب عليه الابتداع، وخالف طريقة من هم للكتاب والسنة أتبِاع، فإنه يسد عما نلقيه الأسماع، والواجب علينا(1) هو البلاغ المبين، وأما الهداية والتوفيق فمن رب العالمين.
تعريف المردود عليه للأولياء والرد عليه:
فنقول:
قوله: (نعم أولياء الله، وهم العارفون به حسبما يمكن، المواظبون على الطاعات، والمعرضون عن الانهماك في اللذات والشهوات).
أقول: هذا رسم(2) لحقيقة(3) الأولياء، وهذا اللفظ نقله من شرح المحلي على جمع الجوامع(4)، إلا أنه فاته(5) قوله: (المجتنبون للمعاصي) وهو قيد لا بد منه اتفاقاً، فكأنه وقع من سقط القلم.
والانهماك يقال: همكه في الأمر فانهمك لَججَهُ فلج، كما في القاموس(6)، وفسر اللجاجة بالخصومة(7). ولا يظهر مناسبتها لما هنا، وهي عبارة المحلي.
تلاقي تفسير الولي مع تفسير العدل:
__________
(1) في (ب) "عليها" وهو تصحيف.
(2) الرسم: في علم المنطق هو: تعريف الشيء بخصائصه. انظر: المعجم الوسيط (1/345).
(3) في (أ) "بحقيقة".
(4) جمع الجوامع في أصول الفقه وهو من تأليف عبد الوهاب بن علي ابن السبكي المتوفى سنة (771هـ)، وله شروحات كثيرة منها: الشرح المذكور لجلال الدين محمد بن أحمد المحلي الشافعي المتوفى سنة (864هـ). وانظر: جمع الجوامع مع شرحه للمحلي (2/420).
(5) في (أ) "إلا أنه حذف منه".
(6) القاموس المحيط (ص:1237).
(7) القاموس المحيط (ص:261).(20/26)
ثم هذا التفسير للولي هو الذي يفسرون به العدل، فإنه قال ابن حجر في شرح النخبة أن العدل: (من له مَلَكَةٌ تحمِلُهُ على ملازمة التقوى والمروءة، والمراد بالتقوى: اجتناب الأعمال السيئة من شرك أو فسق أو بدعة)(1) انتهى بلفظه، وقد فاته أيضاً فيه قيد لا بد منه في تفسير التقوى، وهو الإتيان بالواجبات، فإنه لا يكفيه فيه اجتناب السيئة(2)، ولكنه كأنه لما قال: (من شرك أو فسق أو بدعة) علم إنه لو لم يأت بالواجبات ما صدق عليه اجتناب السيئات، وأي: سيئة أعظم من ترك الواجبات.
وإذا عرفت هذا علمت أن الولي عند العلماء هو العدل؟ لتلاقي التفسيرين، بل تعريف العدل أضيق، لإنه أخذ فيه الملكة، وأخذ فيه عدم التلبس ببدعة، وقد أوضحنا ما في تفسيرهم العدالة. مما ذكر في مؤلفاتنا(3) كثمرات النظر في علم الأثر(4) وغيرها.
تعريف الولي من خلال قوله تعالى: (أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ الله لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ):
__________
(1) انظر نزهة النظر شرح نخبة الفكر في مصطلح أهل الأثر لابن حجر (ص:29).
(2) ولهذا فإن أحسن وأجمع ما عرفت به التقوى هو قول طلق بن حبيب رحمه الله حيث قال: (هي العمل بطاعة الله على نور من الله رجاء ثواب الله، وترك معاصي الله على نور من الله مخافة عذاب الله). ذكره الذهبي في السير (4/601) ثم قال: (أبدع وأوجز، فلا تقوىَ إلا بعمل، ولا عمل إلا بترو من العلم والاتباع، ولا ينفع ذلك إلا بالإخلاص لله، لا ليقال: فلانِ تارك للمعاصي بنور الفقه، إذ المعاصي يفتقر اجتنابها إلى معرفتها ويكون الترك خوفاً من الله، لا ليمدح بتركها، فمن داوم على هذه الوصية فقد فاز). وقال ابن القيم في أول الرسالة التبوكية (ص:13): (وهذا من أحسن ما قيل في حد التقوى).
(3) في (ب) "مؤلفنا".
(4) انظر: ثمرات النظر في علم الأثر للمؤلف (53 وما بعدها).(20/27)
وأقول: اعلم أن الله تعالى قد عرفنا بأوليائه في كتابه العزيز فقال: ((أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ الله لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ)) [يونس:62] ثم فسرهم(1) تعالى بقوله: ((الَّذِينَ آمَنُوا...)) [يونس:63] الآية، فإنها مستأنفة استئنافاً بيانياً كأنه قيل: من هم؟ فقال: ((الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ)) [يونس:63].
يدل على ذلك(2) ما أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن زيد: (في قوله ((أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ الله لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ)) [يونس:62] قيل: من هم يا رب؟ قال: ((الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ)) [يونس:63](3)، وفسر النبي صلى الله عليه وآله وسلم الإيمان في حديث جبريل الذي أخرجه مسلم من حديث عمر حين جاء يسأله عن الإيمان، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره)(4) والحديث مأخوذ من قوله تعالى: ((آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِالله وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ)) [البقرة:285] و لم يذكر في الآية إلا أربعة أركان والحديث ستة(5)، لأن من آمن بكتب الله ورسله فقد آمن باليوم الآخر، وبالقدر، أي: سَبقُ تقدير كل كائن، وإنما الحديثُ فَصلَ والآية أَجملت بعض الإجمال، لإنه تعالى قال لرسوله: ((لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ))
__________
(1) في (ب) "بشرهم".
(2) في (ب) "يدل لذلك".
(3) جامع البيان (7/132) قال ابن جرير رحمه الله: (ولي الله هو من كان بالصفة التي وصفه الله بها وهو الذي آمن واتقى كما قال الله (الذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتقُونَ))).
(4) صحيح مسلم (1/37).
(5) بل الركن الخامس أشير إليه في الآية بقوله في تمامها (وإليك المصير) أي: المرجع والمآل، وهو اليوم الآخر.(20/28)
[النحل:44] فبين بزيادة التفصيل لأركان الإيمان، وقد ذكر تعالى المؤمنون حقاً بقوله: ((إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ الله وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً)) [الأنفال:2-4] ففسرهم بإنهم مَنِ اتصف بهذه الست الصفات، وأما المتقون فإن الله تعالى بين مَن هم وفسرهم في صدر سورة البقرة حيث قال: ((هُدىً لِلْمُتَّقِينَ)) [البقرة:2] كإنه قيل من هم؟ قال: ((الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ)) [البقرة:2-3] فوصفهم بإنهم من اتصف بهذه الصفات الست، وهي صفاتٌ مركبة من أجزاء الإسلام ومن أجزاء الإيمان، كما أن آية الأنفال حيث ذكر الله تعالى صفات المؤمنين حقاً مركبة من أجزاء النوعين، وذلك إنه صلى الله عليه وآله وسلم قال في حديث جبريل الذي تقدمت الإشارةُ إليه(1)، وقد قال له: ما الإسلام يا محمد؟ قال: (أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً) الحديث. فجعل إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة من أجزاء الإسلام.
__________
(1) ص:42).(20/29)
فالآيتان أشارتا بذكر بعض أجزاء الإسلام وهما إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة إلى اعتبار الإسلام بجميع أفراده، إلا إنهما خصتا أعظم أجزائهما البدنية والمالية، وتعلم الصوم والحج بالسنة التي وردت بياناً للقرآن، فإن بيانه بتفصيل مجمله، وتقييد مطلقه، وتفسير مبهمه وغير ذلك، وأشارتا بالإيمان وزيادته إلى اعتبار الإيمان بأجزائه، فأفادتا إنه لا يكون العبد مؤمناً إلا باستكماله لخصال الإسلام والإيمان، وأشارت آيةُ البقرة إلى أن المتقين هم الجامعون بين الإسلام بقوله: ((الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ)) [البقرة:3] والإيمان بقوله: ((وَالذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ)) الآية.
وإذا عرفت هذا فقد بين القرآن أولياء الله بياناً شافياً إنهم الذين جمعوا بين الإيمان والتقوى، ثم بين تعالى الإيمان وأجزاءه، والتقوى وأجزاءها.
رتبة الإيمان تتفاوت وكذلك التقوى:
ثم بعد تقرير هذا فلا ريب أن رتبة الإيمان تتفاوت(1) إلى زيادة ونقصان حتى ينتهي الإيمان إلى مقدار مثقال الخردلة، كما وردت به الأحاديث النبوية الثابتة الصحيحة(2)، وقد قرر في مجاله، كما أن رتبة(3) التقوى تتفاوت.
__________
(1) في (ب): "أن رتب الإيمان متفاوتة".
(2) انظر بسط هذه الأدلة في كتاب (زيادة الإيمان ونقصانه وحكم الاستثناء فيه) لعبد الرزاق البدر.
(3) في (ب) "رتب".(20/30)
فقد أخرج أحمد في الزهد وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن وهب قال: (قال الحواريون يا عيسى بن مريم من أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون؟ قال عيسى عليه السلام: الذين نظروا إلى باطن الدنيا حين نظر الناس إلى ظاهرها، والذين نظروا إلى آجل الدنيا حين نظر الناس إلى عاجلها، فأماتوا فيها ما يخشون أن يميتهم، وتركوا ما علموا إنه سيتركهم، فصار استكثارهم منها استقلالاً، وذكرهم إياها فواتاً(1)، وفرحهم. مما أصابوا منها حزنا، وما عارضهم من نائلها رفضوه، وما عارضهم من رفعتها بغير الحق وضعوه، خَلِقَت الدنيا عندهم فليسوا يجددونها، وخربت بينهم فليسوا يعمرونها وماتت في صدورهم فليسوا يحيونها، يهدمونها فيبنون بها آخرتهم، ويبيعونها ويشترون بها ما يبقى لهم، رفضوها فكانوا برفضها الفرحين، وباعوها فكانوا ببيعكها المربحين، ونظروا إلى أهلها صرعى، وقد خلت منهم المثلات، فأحيوا ذكر الموت، وأماتوا ذكر الحياة، يحبون الله تعالى، ويستضيئون بنوره، ويضيئون به، لهم خبر عجيب، وعندهم خبر عجيب، بهم قام الكتاب وبه قاموا، وبهم نطق وبه نطقوا، وبهم علم الكتاب وبه علموا، ليسوا يرون نائلاً مع ما نالوا، ولا أماني دون ما يرجون، ولا خوفاً دون ما يحذرون)(2) انتهى.
__________
(1) في (أ): "موتا".
(2) الزهد للإمام أحمد (ص:100)، ورواه أبو نعيم في الحلية (1/10) وابن أبي الدنيا في الأولياء (ص:40) وانظر الدر المنثور للسيوطي (4/370) وهو من الإسرائيليات، ووهب بن منبه رحمه الله كما يقول الذهبي-: (إنما غزارة علمه في الإسرائيليات، ومن صحائف أهل الكتاب) السير (4/545).
وفي شأن الإسرائيليات عموماً يقول شيخ الإسلام: ((يجوز أن يروي منها ما لم يعلم أنه كذب للترغيب والترهيب فيما يعلم أن الله تعالى أمر به في شرعنا ونهى عنه في شرعنا، فأما أن يثبت شرعنا بمجرد الإسرائيليات التي لم تثبت فهذا لا يقوله عالم) الفتاوى (1/251).(20/31)
وأخرج الطبراني وأبو الشيخ وابن مردويه والضياء في المختارة عن ابن عباس مرفوعاً وموقوفاً: ((أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ الله لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ)) [يونس:62] [قال: (هم:] الذين إذا رؤوا يذكر الله لرؤيتهم)(1).
حديث (لا يتسحق العبد صريح حق الإيمان حتى يحب الله...) وشرح المؤلف له:
وأخرج أحمد والحكيم الترمذي عن عمرو بن الجموح إنه سمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (لا يستحق العبد صريح حق الإيمان حتى يحب لله ويبغض لله، فإذا أحب لله وأبغض لله فقد استحق الولاية من الله، وإن أوليائي من عبادي وأحبائي من خلقي الذين يذكرون بذكري وأذكر بذكرهم)(2).
وهذا المعنى كثيرٌ(3) في الأحاديث كثرة واسعة. والمراد من قوله: (يحب لله) أي: يحب الطاعة؛ لأن الله يحبها، ويبغض المعصية؛ لأن الله يبغضها.
قال تعالى: ((وَلَكِنَّ الله حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْأِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ)) [الحجرات:7]، وفي الحديث: (المؤمن من سرته حسنته، وساءته سيئته)(4)
__________
(1) رواه الطبراني في المعجم الكبير (12/13) عن شيخه الفضل بن أبي روح. قال الهيثمي في المجمع (7/36): (ولم أعرفه، وبقية رجاله ثقات) وانظر الدر المنثور للسيوطي (4/370)، وما بين المعكوفتين زيادة من المصادر.
(2) المسند (3/430)، نوادر الأصول (ص:141)، ورواه ابن أبي الدنيا في الأولياء (ص:41). قال الهيثمي في المجمع (1/89): (وفيه رشدين بن سعد وهو منقطع ضعيف).
(3) في (أ): "كثيراً" وهو خطأ.
(4) قطعة من حديث عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه. رواه الترمذي (4/465) وأحمد (1/18) والحاكم (1/114) وصححه، ووافقه الذهبي، وقال الترمذي: (هذا حديث حس صحيح غريب من هذا الوجه).
وله شاهد من حديث أبي أمامة. أخرجه أحمد (5/251) والحاكم (1/14)، وصححه الألباني. انظر السلسلة الصحيحة (2/83).(20/32)
، وكذلك يبغض العاصي لعصيانه ويحب التقي لتقواه، فهذا هو الحب لله والبغض له.
وقوله: (الذين يذكرون بذكري) يحتمل المراد الذين يذكرون(1) بسبب ذكرهم إياي، أي: أن ذكرهم [لله](2) تعالى كان سبباً لذكره تعالى لهم، من باب قوله تعالى: ((فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ)) [البقرة:152]، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم حاكياً عن الله: (إن العبد إذا ذكره في ملأ ذكره الله تعالى في ملأ خير من ملئه، وإن ذكره في نفسه ذكره تعالى في نفسه)(3).
ويحتمل أن يراد الذين يذكرون بسبب ذكري إياهم، أي إنه تعالى إذا ذكرهم في الملأ الأعلى ذكروا الله فبسبب ذكر الله لهم ذكروا، وأذكرهم، أي: بسبب ذكرهم إياي إذا ذكروني(4)، فهم يذكرون العباد بالله وبنعمه ونقمه، فيذكرون الله عند ذلك.
ويحتمل أن المراد يذكرون الله بالأذكار الشريفة من التسبيح والتقديس والتهليل فيذكر الله العباد بذلك بسبب تذكرهم إياي(5).
إذا عرفت هذا عرفت أولياء الله، وأن صفاتهم الخوف من الله، والإقبال على ما يرضاه، والإعراض عن كل ما سواه، ويعرف بطلان ما يأتي من تفسير القوم للأقطاب والأوتاد والأنجاب بإنهم الذين لهم التصرف في الأكوان، وإنهم الذين يقولون للشيء كن فكان، وغير ذلك من الافتراء والبهتان والهذيان مما لا يقبله من في قلبه مثقال ذرة من إيمان، ممن جعل إمامه القرآن وكلام سيد ولد عدنان صلى الله عليه وآله وسلم ما اختلف الملوان.
__________
(1) في (ب): "يحتمل أن يراد الذين يذكرون".
(2) زيادة يقتضيها السياق.
(3) رواه البخاري (13/384 فتح) ومسلم (4/2061) من حديت أبي هريرة رضي الله عنه. ولفظه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يقول الله عز وجل: أنا عند ظن عبدي، وأنا معه حين يذكرني، إن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم..). الحديث.
(4) في (ب): "إذا ذكروا بي".
(5) في (ب): "بسبب تذكيرهم إياهم".(20/33)
الأحاديث الواردة في بقاء الطائفة المنصورة إلى يوم القيامة:
قوله: (موجودون إلى يوم القيامة، لعموم قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق حتى تقوم الساعة)). أقول: هو خبر قوله: أولياء الله؟ أي: أولياؤه تعالى(1) موجودون إلى يوم القيامة واستدل بحديث: (لا تزال طائفة...) الحديث، أخرجه أئمة الحديث.
فأخرج الشيخان البخاري ومسلم عن المغيرة إنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين حتى يأتيهم أمر الله وهم ظاهرون)(2).
وأخرج مسلم والترمذي وابن ماجه عن ثوبان عنه صلى الله عليه وآله وسلم إنه قال: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك)(3).
وأخرج مسلم عن عقبة(4) بن عامر إنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: (لا تزال عصابة من أمتي يقاتلون على أمر الله قاهرين لعدوهم لا يضرهم من خالفهم حتى تأتيهم الساعة وهم كذلك)(5).
وأخرج أحمد وأبو داود وابن ماجه والحاكم عن عمران بن حصين أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: (لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين على من ناوأهم حتى يقاتل آخرهم الدجال)(6).
وأخرج مسلم عن جابر بن سمرة عنه صلى الله عليه وآله وسلم إنه قال: (لن يبرح هذا الدين قائماً يقاتل عنه عصابة من المسلمين حتى تقوم الساعة)(7).
__________
(1) في (ب): "أن أولياء الله...".
(2) البخاري (13/293 فتح) ومسلم (3/1523).
(3) مسلم (3/1523) سنن الترمذي (4/504) سنن ابن ماجه (1/5).
(4) في الأصل (عبيد) وهو خطأ.
(5) مسلم (3/1525).
(6) المسند (4/429) سنن أبي داود (3/504) المستدرك (4/450) وقال الحاكم: ((صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه)). ولم أجده عند ابن ماجه.
(7) مسلم (3/1524).(20/34)
وأخرج أبو داود الطيالسي وعبد بن حميد عن زيد بن أرقم عنه صلى الله عليه وآله وسلم إنه قال: (لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق حتى يأتي أمر الله)(1).
وأخرج أبو داود أيضاً والحاكم عن عمر مرفوعاً إنه قال: ((لا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورين حتى يأتي أمر الله))(2).
وأخرج الطبراني في الكبير عن جابر بن سمرة عنه صلى الله عليه وآله وسلم: (لا يبرح هذا الدين قائماً يقاتل عليه(3) عصابة من المسلمين حتى تقوم الساعة)(4).
وأخرج مسلم وأحمد عن جابر عنه صلى الله عليه وآله وسلم إنه قال: (لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة فينزل عيسى فيقول أميرهم: صل بنا. فيقول: لا. إن بعضكم على بعض أمير تكرمة [الله](5) لهذه الأمة)(6) والأحاديث في هذا كثيرةٌ شهيرةٌ.
من هم الطائفة المنصورة؟
وقد اختلف العلماء في هذه الطائفة من هم؟ فذهب طائفة من العلماء إلى أنهم أئمة الحديث(7)
__________
(1) مسند الطيالسي (689) المنتخب من مسند عبد بن حميد (ص:115). ورواه أحمد (4/369)
(2) مسند أبي داود الطيالسي (38) المستدرك (4/449)، وقال الحاكم: (صحيح الإسناد ولم يخرجاه).
(3) في (ب): "عنه".
(4) المعجم الكبير (2/217) وهو عند مسلم.
(5) ما بين المعكوفتين زيادة من مصادر التخريج.
(6) صحيح مسلم (1/137) المسند (3/345).
(7) نص: على أن هذه الطائفة هم أهل الحديث غيرُ واحد من أهل العلم، منهم الإمام أحمد وغيره كما بسط ذلك الخطيب في كتابه (شرف أصحاب الحديث).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله (الفتاوى:4/95): (ونحن لا نعني بأهل الحديث المقتصرين على سماعه أو كتابته أو روايته، بل نعني بهم كل من كان أحق بحفظه ومعرفته وفهمه ظاهراً وباطناً، واتباعه باطناً وظاهراً، وكذلك أهل القرآن، وأدنى خصلة في هؤلاء محبة القرآن والحديث والبحث عنهما وعن معانيهما، والعمل بما علموه من موجبهما).(20/35)
، وذهبت طائفة أخرى إلى أن المراد بهم أهل الإجماع وهم العلماء المجتهدون، وعليه بنى الحسين بن الإمام في شرح الغاية(1) في بحث الإجماع وفي بحث الاجتهاد.
والحق ما قاله جماعة من العلماء أن المراد هم المجاهدون في سبيل الله لتصريح الأحاديث بقوله: (يقاتلون) و (ينصرون) ونحوه(2)، وما أطلق فهو محمول على ما قيد. كيف وقد صرح بإنه ينزل عيسى عليه السلام، وهؤلاء الذين ينزل فيهم هم الذين يقاتلون الدجال، وهو واضح من لفظ الأحاديث في غير موضع.
نعم الأولياء وهم المؤمنون العدول باقون حتى تقوم الساعة على القول بإنه لا تخلو الأرض من(3) مؤمن، وإلا فقد ثبت في الأحاديث إنها: (لا تقوم الساعة حتى لا يعبد الله في الأرض، ولا يقال الله)(4).
تعريف الأبدال وذكر غلو أهل الباطل في ذلك:
قوله: (كالأبدال).
__________
(1) هو الحسين بن الإمام القاسم بن محمد، من علماء الزيدية، من مؤلفاته غاية السول في علم الأصول، وشرحه المسمى هداية العقول إلى غاية السول، توفي سنة (1050هـ). البدر الطالع (1/226).
وكتابه الهداية يوجد منه نسحة خطية في مكتبة جامعة أم القرى برقم (308).
(2) لا وجه للتقييد بهذا الوصف، بل يجوز أن هذه الطائفة مفرقة بين أنواع المؤمنين منهم شجعان مقاتلون، ومنهم فقهاء، ومنهم محدثون، ومنهم زهاد وآمرون بالمعروف وناهون عن المنكر، ومنهم أهل أنواع أخرى من الخير، ولا يلزم أن يكونوا مجتمعين في مكان واحد، بل قد يكونون متفرقين في أقطار الأرض. راجع في ذلك شرح صحيح مسلم للنووي (13/67)، وفتح المجيد (ص:234)، وإتحاف الجماعة للشيخ حمود التويجري (1/268 وما بعدها).
(3) ي (أ) "عن".
(4) أخرجه مسلم (1/131) من حديث أنس رضي الله عنه.(20/36)
أقول: في القاموس: (الأبدال: قوم بهم يقيم الله عز وجل الأرض، وهم سبعون: أربعون بالشام وثلاثون بغيرها، لا يموت أحدهم(1) إلا قام مقامه واحدٌ من سائر الناس)(2) انتهى.
وفي النهاية من حديث علي: (الأبدال بالشام وهم الأولياء والعُباد. الواحد منهم بدل كجمل. سموا بذلك لإنه كلما مات منهم واحد بُدل بآخر)(3).
وفي التعريف للمناوي: (أن الأبدال سبعة(4) لا يزيدون ولا ينقصون، يحفظ الله بهم الأقاليم السبعة فكل بدل له إقليم(5) فيه ولايته، منهم واحد على قدم الخليل وله الإقليم الأول، والثاني على قدم الكليم، والثالث على قدم هارون، والرابع على قدم إدريس، والخامس على قدم يوسف، والسادس على قدم عيسى، والسابع على قدم آدم. على ترتيب الأقاليم، وهم عارفون. مما أودع الله في الكواكب السيارة من الأسرار والحركات والمنازل وغيرها، ولهم من الأسماء أسماء الصفات، وكل واحد بحسب ما يعطيه حقيقة ذلك الاسم الإلهي من الشمول والإحاطة)). انتهى(6).
قلت: وهذا افتراء على الله فإنه لم يأت عنه تعالى ولا عن رسله حرفٌ واحدٌ من هذه الأقوال في هؤلاء السبعة، ولم يأت في الأبدال(7) إلا ما سنذكره لك قريباً من الأحاديث، وفي كل منها مقال.
الأوتاد عند المتصوفة وعددهم وخصائصهم:
__________
(1) في (ب) "أحد".
(2) القاموس المحيط للفيروزآبادي (ص:1247).
(3) النهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير (1/107). ولفظه: (الواحد بدل كحمل وأحمال، وبدل كجمل).
(4) في التوقيف على مهمات التعاريف للمناوي: (وهم عند القوم سبعة).
(5) في التوقيف: (لكل بدل إقليم).
(6) التوقيف على مهمات التعاريف للمناوي (ص:36).
(7) في (ب): "في الآية" وهو تصحيف.(20/37)
ومن عجائب ما في التعريفات أن (الأوتاد أربعة في كل زمان، لا يزيدون ولا ينقصون، أحدهم(1) يحفظ الله به المشرق وولايته فيه، والآخر المغرب، والآخر الجنوب، والآخر الشمال، ويعبر عنهم بالجبال لحكمهم في العالم حكم الجبال في الأرض، وألقابهم في كل زمن: عبد الحي، وعبد العظيم(2)، وعبد القادر وعبد المريد)(3).
القطب وقد يسمى غوثاً وخصائصه عند المتصوفة:
وفي التعريفات أيضاً القطب، وقد يسمى غوثاً باعتبار التجاء الواحد(4) إليه، عبارة عن الواحد الذي هو موضع نظر الله في زمانه(5)، أعطاه الله الطلسم الأعظم من لدنه، وهو يسري في الملكوت(6) وأعيانه الباطنة والظاهرة سريان الروح في الجسد، بيده قسطاس الفيض(7) الأعم، وزنه يتبع علمه، وعلمه يتبع علم الحق، وعلم الحق يتبع الماهيات الغير المجعولة، [فهو] يفيض روح الحياة على الكون الأعلى والأسفل، وهو [على] قلب إسرافيل من حيث حصته الملكية الكاملة(8) مادة الحياة [والإحساس، لا] من حيث الإنسانية(9)، وحكم جبريل فيه كحكم النفس الناطقة في النشأة الإنسانية، وحكم ميكائيل فيه كحكم القوة الجاذبة(10) فيها، وحكم عزرائيل فيه كحكم القوة الواقعة فيها(11)(12).
النجباء وعددهم وخصائصهم عند المتصوفة:
__________
(1) في التوقيف: (ولا ينقصون، قال ابن عربى: رأيت رجلاً منهم بمدينة فاس ينخل الحناء، بالأجرة اسمه ابن جعد وأن أحدهم... الخ).
(2) في التوقيف (عبد العليم) بدل (عبد العظيم). وفي (ب) "عبد العالم".
(3) التوقيف في مهمات التعاريف للمناوي (ص:66).
(4) والتوقيف: (الملهوف).
(5) في التوقيف: (في كل زمان).
(6) في التوقيف: ((في الكون)).
(7) في (ب) "القبض".
(8) في التوقيف: (الحاملة).
(9) في التوقيف: (من حيث إنسانيته).
(10) في (ب): "الحادثة".
(11) في التوقيف: (الدامعة فيها).
(12) التوقيف على مهمات التعاريف للمناوي (ص:273) وما بين المعكوفتين زيادة منه.(20/38)
وقال في التعريفات: (النجباء ثمانية في كل زمان لا يزيدون ولا ينقصون عليهم أعلام القبول في أحوالهم، ويغلب عليهم الحال بغير اختيارهم، هم أهل علم الصفات الثمانية، ومقامهم الكرسي لا يتعدونه ماداموا نجباء، ولهم القدم الراسخ في علم تسيير الكواكب كيفاً(1) واطلاعاً لا من جهة طريقة علماء هذا الشأن، والنقباء(2) هم الذين حازوا علم الفلك التاسع))(3) انتهى كلامه.
بيان مجانبة أقوال هؤلاء لما جاءت به الرسل ولما وردت به الكتب:
وإنما نقلناه بألفاظه ليعلم من يقف عليه ممن له بقية نظر لدينه ولإيمانه بالله ورسله وما جاءت به الرسل أن هذه النقولات كلها مجانبةٌ لما جاءت به الرسل ولما وردت به كتب الله تعالى المنزلة، وأن هذه كلها نقطةٌ من نقطات(4) المعطلين لله ولرسله، وإنها من كلمات العُباد للعباد، وأن هذا عائدٌ إلى قول من يقول بإلهية الأفلاك والكواكب، وانظر تلعبه بملائكة الله، بل إنكارهم وهزوهم(5) نعوذ بوجه الله من الخذلان.
__________
(1) في التوقيف: (كشفاً).
(2) في (أ): (والنجباء).
(3) التوقيف على مهمات التعاريف للمناوي (ص:322).
(4) في (ب): "نبطة من نبطات".
(5) في (أ) "هروبهم".(20/39)
فهؤلاء أولياء الله عند هؤلاء المبتدعة؟ بل المعطلة. وانظر بالله عليك إن كان فيك بقية من عقلٍ كم بين وصف عيسى عليه السلام لأولياء الله الذي سقت حديثه في أول هذه الرسالة من الخشوع والعبادة والزهادة وبين وصف هؤلاء لمن وصفوه لمشاركة الله في التصرف في العالم، بل أن العالم قد استغنى بهم عن الله، وانظر في كلام رسل الله فإن نوحاً يقول لقومه: ((وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ الله وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ)) [هود:31] ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم يقول له الله: ((قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ الله [وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ] وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ)) [الأنعام:50](1) وهؤلاء الضلال جعلوا الملائكة الأربعة أبعاضاً لهؤلاء الأقطاب.
بيان أن هذه الألفاظ مبتدعة محدثة إلا الأبدال فقد وردت فيه أحاديث:
وكل هذه الألفاظ من الأقطاب وغيرها مبتدعةٌ اصطلاحيةٌ لم تأت سنةٌ بها ولا كتابٌ ولا لغةٌ، إلا الأبدال(2) كما أفاده القاموس والنهاية؛ لإنه قد روى في ذلك أحاديث(3).
ذكر الأحاديث الواردة فيه:
__________
(1) ما بين المعكوفتين ساقط من الأصل.
(2) قال شيخ الإسلام: ((كل حديث يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم في عدة (الأولياء) و (الأبدال) و (النقباء) و (النجباء) و (الأوتاد) و (الأقطاب) مثل أربعة أو سبعة أو اثني عشر أو أربعين أو سبعين أو ثلاثمائة وثلاثة عشر، أو القطب الواحد، فليس في ذلك شيء صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولم ينطق السلف بشيء من هذه الألفاظ إلا بلفظ (الأبدال) وروى فيهم حديث إنهم أربعون رجلاً وأنهم بالشام وهو في المسند من حديث علي رضي الله عنه، وهو حديث منقطع ليس بثابت). الفتاوى (11/167).
وقال ابن الجوزي في الموضوعات (3/152) بعد أن أورد جملة من الأحاديث الواردة في الأبدال: (وليس في هذه الأحاديث شيء يصح).
(3) في (أ) "قد روي ذلك على أحاديث".(20/40)
فأخرج أحمد عن عبادة بن الصامت مرفوعاً: (الأبدال في هذه الأمة ثلاثون رجلاً، قلوبهم على قلب إبراهيم خليل الرحمن، كلما مات رجلٌ أبدل الله مكانه رجلاً)(1).
وأخرج الطبراني عن عبادة أيضاً مرفوعاً: (الأبدال في أمتي ثلاثون بهم تقوم الأرض، وبهم يمطرون، وبهم ينصرون)(2).
وأخرج الطبراني عن عوف بن مالك مرفوعاً: (الأبدال في أهل الشام وهم أربعون رجلاً، كلما مات رجل أبدل الله مكانه رجلاً يسقى بهم الغيث، وينتصر بهم على الأعداء، ويصرف عن أهل الشمام بهم العذاب)(3).
__________
(1) المسند (5/322) وقال الإمام أحمد عقبه: (هو منكر).
وانظر تفصيل القول فيه في السلسلة الضعيفة للألباني (2/340) وقد حكم عليه بأنه منكر.
(2) ذكره الهيثمي في المجمع (10/63) وقال: (رواه الطبراني من طريق عمر والبزار عن عنبسة الحواص: وكلاهما لم أعرفه) وانظر السلسلة الضعيفة للألباني (2/340).
(3) روى الطبراني (18/65) عن عوف بن مالك إنه قال: (لا تسبوا أهل الشام فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: منهم الأبدال وبهم تنصرون وبهم ترزقون). قال الهيثمي في المجمع (10/63): (فيه عمرو بن واقد ضعفه جمهور الأئمة ووثقه محمد بن المبارك الصوري، وشهر اختلفوا فيه، وبقية رجاله ثقات).
وأما اللفظ الذي أورده المصنف فقد أحرجه الإمام أحمد في المسند (1/112) عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه. قال ابن القيم في المنار المنيف (ص:133): (ولا يصح أيضاً فإنه منقطع)، وقال أحمد شاكر في تحقيق المسند (2/171): (إسناده ضعيف لانقطاعه...).(20/41)
وأخرج الخلال في كرامات الأولياء والديلمي في مسند الفردوس عن أنس مرفوعاً: (الأبدال أربعون رجلاً وأربعون امرأة، كلما مات رجل أبدل الله مكانه رجلاً، وكلما ماتت امرأة أبدل الله مكانها امرأة)(1).
بيان أنّ في صحتها عند أهل الحديث مقالاً:
فهذه الأحاديث في الأبدال وفي صحتها عند أئمة الحديث(2) مقالٌ، وإن سلمنا صحة الأحاديث في ذلك فإنه لم يجعل الله لهم علامةً يعرفون بها بأعيانهم اتفاقاً، فلا يعرف أن الشخص من الأبدال حتى يعتقد إنه ولي الله الولاية الخاصة التي يزعمون، وإلا فالمؤمنون المتقون أولياء الله قال الله تعالى: ((إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ)) [الأنفال:34] على أحد الوجهين في الآية كما في البيضاوي(3)، فهذا مثل آية يونس التي قدمناها، وإنما هذه حصرت أولياءه على المتقين، فالمتقي هو الولي، وغير المتقي لا يكون ولياً، والمتقي هو المؤمن الآتي بالواجبات والمجتنب للمقبحات، والذي يصدق عليه كلامُ المجيب في حده للولي، ولكن المجيبَ وأشباهه يريدون بالولي غير هذا.
جعل بعض المتصوفة الولاية قسيماً للنبوة وبيان فساد ذلك:
ولقد كبرت كلمةٌ قالها شيخ شيخنا إبراهيم الكردي(4)
__________
(1) مسند الفردوس (1/119). وأورده ابن الجوزي في الموضوعات (3/152) وذكر له طريقين، قال: (وأما حديث أنس ففيه العلاء بن زيدك قال ابن المديني: كان يضع الحديث، وقال أبو داود والدارقطني: متِروك الحديث، وقال ابن حبان: روى عن أنس نسخة موضوعة لا يحل ذكره إلا تعجباَ، وأما الطريق الثانية ففيه مجاهيل).
(2) في (أ): "أهل الحديث".
(3) تفسير البيضاوي (1/383).
(4) هو إبراهيم بن حيدر بن أحمد الكردي الصفوي الشافعي توفي سنة (1151هـ).
انظر ترجمته في معجم المؤلفين (1/27).
وشيخ شيخ المصنف المشار إليه هو: إبراهيم بن حسن الكوراني الكردي الشافعي له مصنفات كثيرة منها: (قصد السبيل إلى توحيد الحق الوكيل) توفي سنة (1101هـ).
انظر: إيضاح المكنون للبغدادي (4/227) ومعجم المؤلفين لكحالة (1/21).(20/42)
في كتابه (قصد السبيل) فإنه قال في خطبته: (إن معرفة الله التي وراء طور العقول مما لا تستقل العقول بإدراكها بطريق الفكر وترتيب المقدمات وإنما يدرك بنور النبوة والولاية)(1) ولم يزل هكذا يجعل الولاية قسيماً للنبوة كإنه يريد أن الولي غيرُ داخلٍ تحت الدعوة النبوية، ولا من الأمة المحمدية، بل هو قسيمٌ له، وهذا من الجهل أولاً بدعوى أن الولي غيرُ المؤمن التقي، بل له رتبةٌ غير هذه الرتبة، ثم دعوى أنه يستمد من غير واسطة الرسول، وهم كذا يصرحون بذلك.
قول البيضاوي أن التقوى ثلاث مراتب:
واعلم أن البيضاوي وغيره يقسمون التقوى(2) ثلاث مراتب: (التقي صفة مشبهة من قولهم وقاه الله فاتقى، والوقاية فرط الصيانة، وهي في عرف الشرع اسم لمن صان نفسه عما يضره في الآخرة، ولها ثلاثُ مراتب:
الأولى: التقوى عن العذاب المخلد بالتبري عن الشرك، وعليه قوله: ((وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى)) [الفتح:26].
والثانية: التجنب عما يؤثم من فعل أو ترك حتى الصغائر عند قوم، وهو المتعارف باسم التقوى في الشرع وهو المعني بقوله تعالى: ((وَلَوْ أَنَّ [أَهْلَ] الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا)) [الأعراف:96](3).
والثالثة: أن يتنزه عما يشغل سره عن الحق ويقبل لله بشراشره(4)، وهو التقوى الحقيقي المطلوب بقوله: ((اتَّقُوا الله حَقَّ تُقَاتِهِ)) [آل عمران:102](5) انتهى.
والشراشر بالشين المعجمة والراء المهملة مكررتين بينهما ألف هي النفس هنا(6).
تعقب المصنف عليه:
__________
(1) انظر: قصد السبيل إلى توحيد الحق الوكيل لإبراهيم الكوراني (ق:16/أ).
(2) في (أ): (يفسرون التقوى).
(3) ما بين المعقوفتين ساقط من (أ).
(4) في (ب): (وتبتل لله شراره).
(5) تفسير البيضاوي (1/16).
(6) انظر: القاموس المحيط (ص:532).(20/43)
وهذا التقسيم اصطلاحي ليس عليه دليلٌ من لغةٍ ولا شرع، وكلمة التقوى هي لا إله إلا الله كما في التفاسير الأثرية، والضمير في (ألْزَمَهُمْ) له صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابهِ، وهذه هي كلمة التقوى لكل مؤمن. قال ابن عباس: (وَأَلْزَمَهُمْ كلِمَةَ التقْوَى) هي: (شهادة أن لا إله إلا الله وهي رأسُ كل تقوى)(1) حتى رأس الثلاثة الأقسام وغيرها.
وقد قدمنا لك أن التقوى تزيد وتنقص كالإيمان، وأما حصره في ثلاث أو أقل أو أكثر فلا دليل عليه.
وقد فسر السلف قوله: (حَق تُقَاتِهِ) بقول بعضهم: (وهو استفراغ الوسع بالقيام بالواجب والاجتناب عن المحارم)(2) كقوله: ((فَاتَّقُوا الله مَا اسْتَطَعْتُمْ)) [التغابن:16]. وعن ابن مسعود (وهو أن يطاع فلا يعصى، ويشكر فلا يكفر، ويذكر فلا ينسى)(3) انتهى.
قول المردود عليه (وكراماتهم ثابتة، وتصرفهم باقٍ إلى يوم القيامة):
قوله: (وكراماتهم ثابتة، وتصرفهم باقٍ إلى يوم القيامة، ولا تنقطع بالموت؛ لأن مرجع الكرامة -كالمعجزة- إلى قدرة الله تعالى التامة العامة المحيطة المتعلقة بجميع الممكنات بأسرها إيجاداً وإعداماً، على وَفقِ الإرادة الأزلية التي يترجح بها حصول الممكن على مقابله، ولا يمتنع شيٌ منها على قدرته وإرادته).
نقله عن المعتزلة وكذلك أبي إسحاق الإسفرايني عدم إثبات وقوع الخوارق من الأولياء:
__________
(1) رواه ابن جرير في تفسيره (13/105).
(2) نظير هذا قول الحسن البصري رحمه الله: (المتقون اتقوا ما حرم الله عليهم وأدوا ما افترض الله عليهم) أورده ابن رجب في جامع العلوم والحكم (ص:149).
(3) رواه ابن جرير الطبري في تفسيره (3/28).(20/44)
أقول: في (جمع الجوامع) لابن السبكي وشرحه للمحلي ما لفظه: (وكرامات الأولياء حق؛ أي: جائزةٌ وواقعةٌ). قال القشيري: (ولا ينتهون إلى نحو ولد بلا والد، وقلب جماد بهيمة)(1). قال المصنف وهذا حق يخصص قول غيره: ما جاز أن يكون معجزةً لنبي جاز أن يكون كرامة لولي، لا فارق بينهما إلا التحدي. قال: ومنع أكثر المعتزلة الخوارق من الأولياء وكذلك الأستاذ أبو إسحاق الإسفرايني(2) قال: (كلما جاز تقديره معجزة للنبي لا يجوز أن يكون ظهور مثله كرامة لولي، وإنما مبالغ الكرامات إجابة دعوته أو موافاة ماء في بادية في غير موقع المياه، أو نحو ذلك مما ينحط عن خرق العادات) انتهى(3)
__________
(1) انظر: الرسالة للقشيري (ص:160).
(2) هو أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن إبراهيم بن مهران الإسفرايني الأصولي الشافعي، صاحب التصانيف الكثيرة. توفي سنة (418هـ). انظر ترجمته في السير (13/353-356).
وقوله الذي يشير إليه المصنف ذكره القشيري في الرسالة، قال: كان الإمام أبو إسحاق الإسفرايني رحمه الله يقول: (المعجزات دلالات صدق الأنبياء، ودليل النبوة لا يوجد مع غير النبي، كما أن العقل المحكم لما كان دليلاً في كونه عالماً لم يوجد إلا ممن يكون عالماً، وكان يقول: الأولياء لهم كرامات شبه إجابة الدعاء فأما جنس ما هو معجزة الأنبياء فلا). الرسالة للقشيري (ص:158).
قال الذهبي في السير (13/355): (وحكى أبو القاسم القشيري عنه إنه كان ينكر كرامات الأولياء، ولا يجوزها، وهذه زلة كبيرة).
(3) انظر: جمع الجوامع مع شرحه للمحلي (2/420). وهذا الذي نقله المصنف عن المعتزلة وأشار إلى قول الإسفرايني به قول باطل، وسبب إنكار هؤلاء حصول الخوارق للأولياء هو اعتقادهم أن نبوة النبي إنما تثبت بالمعجزات؛ لأجل هذا التزموا إنكار خرق العادات لغير الأنبياء.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في شرح العقيدة الأصفهانية (ص:88): (هذه الطريقة هي من أتم الطرق عند أهل الكلام والنظر حيث يقررون نبوة الأنبياء بالمعجزات، ولا ريب أن المعجزات دليل صحيح لتقرير نبوة الأنبياء، لكن كثير من هؤلاء بل كل من بنى إيمانه عليها يظن أن لا تعرف نبوة الأنبياء إلا بالمعجزات، ثم لهم في تقرير دلالة المعجزة على الصدق طرق متنوعة، وفي بعضها من التنازع والاضطراب ما سننبه عليه، والتزم كثير من هؤلاء إنكار خرق العادات لغير الأنبياء حتى أنكروا كرامات الأولياء والسحر ونحو ذلك).
وقال في كتابه النبوات (ص:150): (والمعتزلة... ظنوا أن مجرد كون الفعل خارقاً للعادة هو الآية على صدق الرسول، فلا يجوز ظهور خارق إلا لنبي، والتزموا طرداً لهذا إنكار أن يكون للسحر تأثير خارج عن العادة مثل أن يموت ويمرض بلا مباشرة شيء، وأنكروا الكهانة وأن تكون الجن تخبر ببعض المغيبات وأنكروا كرامات الأولياء).(20/45)
.
تقريره أن إعطاء المؤمن الكرامات بإجابة الدعوات وتيسر الطلبات أمر لا شك فيه:
واعلم أن إعطاء الله المؤمن الكرامات بإجابة الدعوات وتيسير الطلبات [وتسهيل المتعسرات وتخفيف المشقات] أمر [حق] لا شك فيه، [ولا يخالف فيه مؤمن، إذ كل مؤمن قد جرب من إجابة الدعوات وتيسير الطلبات أمر لا شك فيه](1) ولكن هذا لا يختص به طائفةٌ معينةٌ، بل هو حاصلٌ للمؤمنين إذا أخلصوا النيات، وأقبلوا على الله تعالى إقبال صدق وثبات ووثوق بتيسير المطلوبات، ومراعاةً لمواقع الإجابات(2)، فإنه تعالى خاطب جميع المؤمنين بقوله: ((ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ)) [غافر:60]، وبقوله: ((وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ..)) [البقرة:186] الآية، لكن إعطاؤه تعالى للمطلوب وتفريجه عن المكروب يتوقف على مشيئته وحكمته، فقد لا يُعَجل للعبد ما أراده، إذ قد يكون فيه هلاكه في دينه أو في دنياه قال تعالى: ((عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ)) [الإسراء:18] وثبت في الأحاديث أن للدعوة ثلاث حالات:
__________
(1) ما بين المعكوفتين زيادة من (ب).
(2) في (أ) (الإحسان).(20/46)
إما أن يعجلها الرب، أو يدخرها لعبده ليوم القيامة، أو يعطيه خيراً مما سأل. وفي رواية: أو يكفر عنه بها(1).
موافقة المصنف لأبي إسحاق والمعتزلة في المنع من إثبات الخارق للأولياء وعدة ذلك توسطاً:
فإن أريد بالكرامات ما ذكره أبو إسحاق الإسفرايني فهو حق لا ريب فيها، ولا يخالف فيها إلا جاهل. أعني نفي الكرامة بهذا المعنى، فمن أنكرها بهذا المعنى قد فرط، كما أن من ادعى إثبات الخوارق قد أفرط، والحق التوسط بين الطرفين، كما يقوله أبو إسحاق وغيره(2).
__________
(1) روى الإمام أحمد (3/18) والحاكم في المستدرك (1/493) عن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من مسلم يدعو بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم إلا أعطاه الله إحدى ثلاث: إما أن تعجل له دعوته وإما أن يدخرها له في الآخرة وإما أن يصرف عنه من السوء مثلها، قالوا: إذاً نكثر، قال: الله أكثر). وصححه الحاكم ووافقه الذهبي. وأورده الهيثمى في المجمع (10/148) ثم قال: (رواه أحمد وأبو يعلى بنحوه والبزار والطبراني في الأوسط، ورجال أحمد وأبي يعلى وأحد إسنادي البزار رجاله رجال الصحيح غير علي بن علي الرفاعي وهو ثقة).
(2) بل الذي قاله أبو إسحاق ومن قبله المعتزلة ليس من التوسط في شيء بل هو جفاء وتفريط، وإنما التوسط حقاً هو قول أهل السنة والجماعة الذين آمنوا بكرامات الأولياء بلا إفراط ولا تفريط، فتوسطوا في ذلك بين غلو المتصوفة وجفاء المعتزلة.(20/47)
وأما قولهم: (إن كل معجزة لنبي تصح أن تكون كرامةً لولي) فهذه دعوى لا دليل عليها، وقد نقل أقوامٌ عوامٌ كذبات لقومٍ من الصالحين تجاوزوا حد الإعجاز(1) كما في حلية أبي نعيم أنه قال قائل لأبي يزيد البسطامي بلغني أنك تمر في الهواء. قال: وأي أعجوبة في هذا! الطير يأكل الميتة ويمر في الهواء، والمؤمن أشرف من طير)(2). انتهى.
ولا يقول هذا عارفٌ؛ فإن الله تعالى جعل من آياته مرور الطير في جو السماء ((أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الله إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)) [النحل:79] وقال: ((وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ)) [النور:41] ونحوها من الآيات، ولا يعاب الطير بأنه يأكل من الميتة، بل هي رزقه، و لم تحرم عليه كما أنها حرمت الزكاة على الغني وأحلت للفقير، والله سبحانه لما أسرى برسوله صلى الله عليه وآله وسلم لم يطر في السماء، بل أرسل إليه البراق ثم صعد إليها على المعراج(3). فما هذا الكلام الفارغ الذي ينقلونه عن أبي يزيد، إن صح فهو من شطحات هؤلاء المتهوكة.
الإشارة إلى كتاب السيوطي (تطورات الولي) وبيان ما فيه من باطل:
__________
(1) في (ب) (وقد نقل أقوام عوام كذبات القوم، من أن الصالحين تجاوزوا حد الإعجاز).
(2) حلية الأولياء (10/35).
(3) والحديث متفق عليه من حديث أنس رضي الله عنه، البخاري (6/302) ومسلم (1/145).(20/48)
ولقد راجت هذه الدعاوى الفارغة على جماعة من علماء الإسلام صاروا كالعامة في قبول المحالات، فلقد ألف الحافظ السيوطي رسالة سماها: (المنجلي في تطورات الولي)(1)، وأتى فيها بحكايات باطلة، وأقوال عن الأدلة عاطلة، حتى كأنه ما عرف السنة والكتاب، ولا ملأ الدنيا بمؤلفاته التي أتى فيها بكل عجاب، فلا يغتر الناظر بنقل ما يخالف السنة والكتاب، وإن حكاه من العلماء بحرُ علمٍ عبابِ.
نقل مطول عن ابن الجوزي من كتابه صيد الخاطر في التحذير من قبول الباطل اعتماداً على منزلة قائله في النفس:
__________
(1) قال الصنعاني في رسالته جمع الشتيت (ص:129): (... ثم إن الجلال السيوطي قائل بأن التطورات كائنة مقدورة غيرُ محالةٍ على بني آدم، والكون في مكانين في آن واحد غير محال عنده، وفيه ألف رسالته المعروفة (القول المنجلي في تطورات الولي) وإن كنا نرى بطلان ما قاله من التطورات، ورددنا عليه رسالته التي ما كانت تليق بعلومه ومعرفته السنن النبوية، ويحتمل إنها مكذوبة عليه). أ.هـ، وهي مطبوعة ضمن كتاب الحاوي لفتاوى السيوطي (2/264).(20/49)
وما أحسن ما قاله ابنُ الجوزي في كتابه صيد الخاطر قال: (واعلم أن اَلمحقق لا يهوله اسمٌ معظمٌ، كما قال رجل لعلي رضي الله عنه: أتظن أنا نظن أن طلحة والزبير كانا على باطل؟ فقال له علي (عليه السلام)(1): (إن الحق لا يعرف بالرجال، اعرف الحق تعرف أهله) ولعمري إنه قد وقر في النفوس تعظيم أقوام، فإذا نقل عنهم شيءٌ فسمعه الجاهلُ بالشرع قبله لتعظيمهم في نفسه.
حلف أبي يزيد البسطامي أن لا يشرب الماء سنة:
كما ينقل عن أبي يزيد أنه قال: ((تراعنت عليّ نفسي فحلفت أنْ لا أشرب الماء سنة))(2).
بيان ما في ذلك من باطل ومخالفة للسنة:
__________
(1) في صيد الخاطر: (فقال له: إن الحق...). فقوله: (علي عليه السلام) زيادة ليست موجودة في صيد الخاطر، والمؤلف أحياناً يقول عند ذكر علي رضي الله عنه (عليه السلام) ولست أدري أهو منه أو من الناسخ، وتخصيص: علي رضي الله عنه هذا دون سائر الصحابة غير صواب، يقول الحافظ ابن كثير في تفسيره (6/468): (قلت: وقد غلب هذا في عبارة كثير من النُساخ للكتب، أن يفرد علي رضي الله عنه بأن يقال: (عليه السلام) من دون سائر الصحابة، أو (كرم الله وجهه) وهذا وإن كان معناه صحيحاً، لكن ينبغي أن يُساوى بين الصحابة في ذلك، فإن هذا من باب التعظيم والتكريم، فالشيخان وأمير المؤمنين عثمان أولى بذلك منه، رضي الله عنهم أجمعين).
(2) ذكره القشيري في الرسالة (ص:14) قال: (وقيل لأبي يزيد ما أشد ما لقيت في سبيل الله فقال: لا يمكن وصفه، فقيل له: ما أهون ما لقيت نفسك منك، فقال: أما هذا فنعم دعوتها إلى شيء من الطاعات فلم تجبني فمنعتها الماء سنة).(20/50)
وهذا إذا صح عنه كان خطئاً قبيحاً، وزلةً فاحشةً، لأن الماء ينفذ الأغذية إلى البدن، ولا يقوم مقامه شيء، وإذا لم يشرب فقد سعى في أذية بدنه، وقد كان يُستعذب الماءُ لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم(1)، أفترى هذا فعل من يعلم أن نفسه ليست له، وأنه لا يجوز التصرف فيها إلا بإذن من مالكها، وكذلك ينقلون عن بعض الصوفية إنه قال: (سرت إلى مكة على طريق التوكل حافياً فكانت الشوكة تدخل في رجلي فأحكها بالأرض ولا أرفعها، وكان علي مسحٌ، فكانت عيني). إذا آلمتني أدلكها بالمسح، فذهبت إحدى عيني. وأمثال هذا كثيرٌ، وربما حملها القصاص على الكرامات وعظموها عند العوام فتخايل لهم أن فاعل هذا أعلى مرتبة من الشافعي وأحمد.
__________
(1) عقد البخاري في كتاب الأشربة (10/174 فتح) باباً بعنوان (استعذاب الماء) ساق فيه بسنده عن أنس بن مالك قال: (كان أبو طلحة أكثر أنصاري بالمدينة مالاً من نخل، وكان أحب ماله إليه بيرحاء، وكانت مستقبل المسجد، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخلها، ويشرب من ماء فيها طيب...) الحديث.
وروى أبو داود في كتاب الأشربة من سننه (3/340) عن عائشة رضي الله عنها (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يُستعذب له الماء من بيوت السقيا). قال الحافظ في الفتح (10/74): (بسند جيد وصححه الحاكم).
وفي الباب أحاديث أخرى عديدة انظرها في الفتح.(20/51)
ولعمري إن هذا من أعظم الذنوب وأقبح العيوب، فإن الله تعالى قال: ((وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ)) [النساء:29]، وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (إن لنفسك عليك حقاً)(1)، (وقد طلب أبو بكر للنبي صلى الله عليه وآله وسلم في طريق الهجرة ظلاً حتى رأى صخرة ففرش له في ظلها)(2). قلت: وفي هذا الحديث أيضاً أنه حلب له صلى الله عليه وآله وسلم أبو بكر كُثبة من لبن ثم صب عليها الماء لتبرد، ثم أسقاها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
وكم ينقلون عن ذي النون أنه لقي امرأة في السياحة فكلمها وكلمته(3)، وينسون ما في الأحاديث الصحاح: (لا يحل لامرأة أن تسافر يوماً وليلة إلا بمحرم)(4).
وكم ينقلون أن أقواماً مشوا على الماء(5) وقد قال إبراهيم الحربي: (لا يصح أن أحداً يمشي على الماء قط). فإذا سمعوا هذا قالوا تنكرون كرامات الأولياء فنقول: لا ننكرها؛ بل نتبع ما صح، والصالحون هم الذين يتبعون الشرع ولا يتعبدون بآرائهم.
لا يحتج بأسماء الرجال وإنما يحتج بالرسول صلى الله عليه وسلم:
قال: (واسمع مني بلا محاباة: لا تحتجن علي بأسماء الرجال، وتقول قد قال إبراهيم بن أدهم، قد قال بشر الحافي من احتج برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبأصحابه رضي الله عنهم أقوى حجة).
قول ابن الجوزي: إن فقيهاً واحداً أفضل من ألوف يتمسح العوام بهم تبركاً:
__________
(1) جزء من حديث رواه البخاري (3/38 فتح) ومسلم (2/815) عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.
(2) رواه البخاري (6/566 فتح) عن البراء بن عازب رضي الله عنه.
(3) انظر على سبيل المثال حلية الأولياء (9/344، 348، 356).
(4) رواه البخاري (2/566 فتح) ومسلم (2/977) عن أبى هريرة رضي الله عنه.
(5) انظر على سبيل المثال الرسالة للقشيري (ص:162، 356).(20/52)
إلى أن قال: (ومن تأمل هذه الأشياء علم أن فقيهاً واحداً وإن قل أتباعه وخفت إذا مات أشياعه أفضلُ من ألوفٍ يتمسح العوام بهم تبركاً، ويشيع جنائزهم مالا يحصى.
وهل الناس إلا صاحباً أثر يتبعه أو فقيهٌ يفهم مراد الشرع ويفتي به؟! نعوذ بالله من الجهل وتعظيم الأسلاف تقليداً لهم بغير دليل.
من ورد المشرب الأول رأى سائر المشارب كدرة:
فإن من ورد المشرب الأول رأى سائر المشارب كدرة، والمحنة العظمى مدائح العوام(1)، فكم غرت كما قال علي رضي الله عنه: (ما أبقى خفق النعال وراء الحمقى من عقولهم شيئاً)(2).
بيان أن علماء المتصوفة أتباع للعوام يروجون لهم الباطل:
انتهى من فصل طويل أردت بنقله إعلاماً للناظرين أن أكثر الكرامات التي شاعت بين العوام وحازت على عقول الخواص كذب من العوام الذين هم فتنة دين الإسلام أتباع كل ناعق لم يستضيئوا بنور العلم وهم الهمج الرعاع كما قال أمير المؤمنين علي رضي الله عنه في كلامه لكميل بن زياد(3)
__________
(1) في (أ) و (ب) (العموم) وهو خطأ، والمثبت من صيد الخاطر.
(2) صيد الخاطر (ص:28-33) نقله المصنف باختصار وتصرف يسير في بعض المواطن.
(3) رواه أبو نعيم في الحلية (1/79) ولفظه: (يا كميل بن زياد القلوب أوعية فخيرها أوعاها، احفظ ما أقول لك: الناس ثلاثة: فعالم رباني، ومتعلم على سبيل نجاة وهمج رعاع أتباع كل ناعق...).
وفي إسناده: ثابت بن أبي صفية الثمالي، قال الحافظ في التقريب: (ضعيف رافضي).
وقد اعتنى ابن القيم بشرح هذا الأثر في كتابه مفتاح دار السعادة (1/321-153).(20/53)
ولكنه نفذ سهام العوام فصار العلماء لهم أتباعاً ولأقوالهم أشياعاً يؤلفون ترويجاً لما يروونه من الكذبات وينحلون(1) لهم في التصانيف بوارد الدلالات كما قدمناه عن (تطورات الولي)(2) وكهذه الرسالة التي نحن الآن بصدد الرد على ما فيها وكم وكم ولا إله إلا الله ما أشد ضرر العالم المعروف بين الأنام إذا روج لهم الأباطيل وزخرف لهم باطل الأقاويل ويحاول إجراءها على سنن السنة وتنزيلها التنزيل(3) فيصدق الكذب المحال عقلاً وشرعاً ويؤلف في صحتها ليكون لمن يأتي بعده أصلاً متبعاً، فإذا أراد العالم بالكتاب والسنة أن يبين بطلان تلك الأساطير صدمه الجاهل ورد عليه بقوله: قد قال بصحة هذا السيوطي وابن حجر الهيتمي وفلان الرملي(4) وفلان وفلان. فأين يقع من هؤلاء الأعيان وقد يسخر(5) به العوام ويقولون أنكر كرامات الصالحين الأعلام ولله الكلمة العلوِية (اعرف الحق تعرف أهله) لكن أين مَن يتأهل للخطاب ويسمع ويعقل(6)، إن هم إلا كالدواب.
رده على المردود عليه في قوله: إن كرامات الأولياء لا تنقطع بموتهم:
قوله: (ولا ينقطع) أي: تصرفهم وكراماتهم بالموت. لم يعلل هذه الدعوى إلا بأن مرجع الكرامة إلى قدرة الله تعالى، وأنه لا يمتنع شيء على قدرته وإرادته).
__________
(1) في (ب): (ويتخيلون).
(2) للسيوطى، وقد تقدمت تحت عنوان: الإشارة إلى كتاب السيوطي (تطورات الولي) وبيان ما فيه من باطل.
(3) في (ب): (وينزلها على التتريل).
(4) هو شهاب الدين أبو العباس أحمد بن حسين بن أرسلان الرملي المقدسي الشافعي الصوفي، ولد برملة فلسطين توفي سنة (844هـ). شذرات الذهب لابن العماد (7/248-250).
(5) في (أ): (سخر).
(6) في (أ): (أو يعقل).(20/54)
أقول: علل وقوع الكرامة للأولياء بعد موتهم بعموم قدرة الله تعالى المتعلقة بجميع الممكنات، وقدرة الله على جميع الممكنات مما لا نزاع فيه بين المسلمين، فإنه قد علم من ضرورة الدين أن الله على كل شيء قدير، ولكن ما كل مقدورٍ واقعٌ اتفاقاً وقطعاً عقلاً وسمعاً، قال الله تعالى: ((إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ)) [فاطر:16] قال: ((وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ)) [الزخرف:60] ((إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ)) [الشعراء:4] وفي بعضها بين الله تعالى الحكمةَ التي اقتضت عدم إيجاده المقدور، كقوله: ((وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ)) [الزخرف:33] الآية، وجميع ما تمدح به تعالى من هذه الأمور المقدورة لم يقع، والبحث عن وقوع المقدور لا في إمكانه(1).
استدلال المردود عليه لذلك بأن الله قادر على كل الممكنات:
وما قوله(2): أن الكرامات للأموات واقعة، لأنه تعالى قادر على كل الممكنات إلا نظير قولك لجبل من الجبال هذا ذهب، لأن الله تعالى قادر على أن يجعله ذهباً. فيقال: صدق نصف هذا الكلام وكذب نصفه، فإن قولك إنه ذهب كاذب وقولك أن الله قادر على أن يجعله ذهباً صادق، لكن لا ينفع صدقه في مدعاك(3).
نقده الأشاعرة في تسميتهم أنفسهم أهل السنة:
قوله: (وهذا أمرٌ قطعي لا مرية فيه البتة عند أهل السنة والجماعة).
__________
(1) في الأصل: (إلا في إمكانه) وهو خطأ.
(2) في (أ): (وأما قوله).
(3) قال شيخ الإسلام في شرح العقيدة الأصفهانية (ص:92): (فليس كل ما علم إمكانه جوز وقوعه، فإنا نعلم أن الله قادر على قلب الجبال ياقوتاً والبحار دماً، ونعلم أنه لا يفعل ذلك...).(20/55)
أقول: إن أراد كونه تعالى على كل شيء قدير، وأنه لا يمتنع شيء عن قدرته فهذا يقوله جميع فرق المسلمين؟ بل وأهل الكتابين بلا نزاع فيه لمن أثبت الرب تعالى، وإن أراد بالإشارة ثبوت الكرامات للأموات وتصرفهم كما قاله، فهذا أبو إسحاق الإسفرايني من أئمة أهل السنة بلا نزاع(1) وقد ثبت نزاعه معهم(2) في الكرامات للأحياء فضلاً عن الأموات. وهب أنه يقول أهل السنة والجماعة(3) بذلك فلا دليل في ذلك إذ ليسوا بأهل الإجماع حتى يكون قولهم دليلاً وقد أطلنا الكلام على تسميتهم أنفسهم بأهل السنة والجماعة في مؤلفنا (الأنفاس الرحمانية في الأبحاث على الإفاضة المدنية)(4).
قوله: (قال شيخ الإسلام... إلى آخره).
أقول: دليل شيخ الإسلام هو الدليل الأول وهو كونه تعالى على كل شيء قدير ولا نزاع في الدليل لكنه لا يدل(5) على مدعاه، وليس له إلى إثباته سبيل.
قوله: (تارة بدعائهم وتارة بفعلهم واختيارهم).
أقول: هذا يتم في الأحياء دون الأموات.
قوله: (وتارة بغير قصدٍ ولا شعورٍ ولا اختيارٍ منهم).
أقول: فما وجه نسبتها إليهم فإنه إنما ينسب إلى الإنسان ماله فيه اختيار وإلا فهو وغيره فيه سواء.
رد المصنف قول المردود عليه بأن الكرامات للأولياء قد أثبتها علماء الإسلام قاطبة:
قوله: (فقد أثبت علماء الإسلام قاطبة).
اعتماد المصنف مخالفة المعتزلة وأبي إسحاق الإسفرايني:
__________
(1) بل هو من أئمة الأشاعرة. وانظر: درء التعارض لابن تيمية (7/36).
(2) في (أ): (وقد ثبت معه نزاعهم).
(3) يقصد الأشاعرة، وسيأتي بيان نقده لهم في تسميتهم أنفسهم بأهل السنة والجماعة.
(4) وانظر ما سيأتي عند المصنف في تعريف أهل السنة بأنهم (الذين كانوا على طريقة المصطفى وأصحابه الذين لم يبتدعوا بدعة في الدين ولا خالفوا طريقة سيد المرسلين).
(5) في (أ): (ما يدل).(20/56)
أقول: في القاموس (قاطبة: جميعاً. لا تستعمل إلا حالاً)(1). انتهى، ولا يخفى ما في هذه الدعوى، فإن المعتزلة من علماء الإسلام عند العلماء جميعاً، منهم أهل السنة والجماعة لأنهم لا يخرجون أحداً من أهل الإسلام ولا يكفرونه، فعلماء المعتزلة غيرُ داخلين فيما ذكره، وكذلك الأستاذ أبو إسحق من علماء الإسلام بلا مرية وقد خالف هو والمعتزلة في وقوع الخوارق من الأولياء(2) فكيف يجازف المجيب هذه المجازفة ويذكر الاتفاق عن علماء الإسلام قاطبة، والواجب على من يريد أن يتكلم أن يتحرى الصدق في مقاله، سيما في مسائل العلم والنسبة إلى العلماء.
شروط المعجزة عند المصنف والتعقب عليه:
__________
(1) القاموس المحيط للفيروز آبادي (ص:162).
(2) ولكن لا قيمة لمخالفة هؤلاء، وكما قال شيخ الإسلام رحمه الله فإن (النزاع الحادث بعد إجماع السلف خطأ قطعاً، كخلاف الخوارج والرافضة والقدرية والمرجئة، ممن قد اشتهرت لهم أقوال خالفوا فيها النصوص: المستفيضة المعلومة وإجماع الصحابة...). الفتاوى (13/26).(20/57)
ثم تعليله لهذه الدعوى بأن معجزات نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم لا تنحصر، ومنها كرامات الأولياء. فجعل الكرامات بعضها من المعجزات، وهذا جهل أو تجاهل بحقيقة المعجزة، فإن للمعجزة شروطاً خمسة(1): ثالثها أن تكون عقيب دعوى المدعي للنبوة(2) وهذا معلوم قطعاً أن لا يكون شرطاً في الكرامة، إذن لكان الولي نبياً(3)، والغرض إنه ولي، وكأنه يريد أن الكرامة كالمعجزة من حيث إنها دلت على صدق الرسول حيث وقعت على يد بعض من اتبعه فدلت على صدقه كما قال: الدال على صحة نبوته. وهذه الدلالة لا أدري لمن تكون، إن كانت للولي الذي حصلت له الكرامة فالغرض أنه قد آمن بالرسول صلى الله عليه وآله وسلم وصارت نبوته عنده قطعية وصحتها لديه ضرورية وإلا فما قد كمل الإيمان فضلاً عن الولاية، وإن أراد أنها تكون دالة لمن لم يدخل في الإسلام ويصدق نبوة سيد الأنام فهذا أعجب(4)
__________
(1) في (أ) (خمساً).
(2) بل هذا الاشتراط لا دليل عليه ولا أصل له، يقول شيخ الإسلام رحمه الله: ((والذين قالوا من شرط الآيات أن تقارن دعوى النبوة غلطوا غلطاً عظيماً، وسبب غلطهم أنهم لم يعرفوا ما يخص: الآيات، ولم يضبطوا خارق العادة بضابط يميز بينها وبين غيرها، بل جعلوا ما للسحرة والكهان هو أيضاً من آيات الأنبياء إذا اقترن بدعوىَ النبوة، ولم يعارضه معارض، وجعلوا عدم المعارض هو الفارق بين النبي وغيره، وجعلوا دعواه النبوة جزءاً من الآية فقالوا: هدا الخارق إن وُجد مع دعوى النبوة كان معجزة، وإن وُجد بدون دعوى النبوة لم يكن معجزة، فاحتَاجوا لذلك أن يجعلوه مقارناً للدعوى..) النبوات (ص:322)، وانظر أيضاً النبوات (ص:151 وما بعدها).
(3) وعلى هذا بنى هؤلاء إنكار كرامات الأولياء؛ إذ هذه الطريقة عند المتكلمين هى أتم الطرق التي يقررون بها نبوة الأنبياء، ولأجلها التزموا إنكار كرامات الأولياء؛ لظنهم أن النبوة لا تُعرف إلا بالمعجزة.
(4) في (ب) (فهذا عجيب).(20/58)
، فإن الكافر لم يصدق بالمعجزة الحقيقية، فكيف بالكرامة وهذا القرآن باق ببقاء الأزمان وسائر المعجزات الواقعة في عصره صلى الله عليه وآله وسلم قد تواترت لمن له أذنان(1).
ولا يقول قائل: أن هذا منا إنكارٌ للكرامات. فإنا قد قدمنا أنه لا ينكرها بإجابة الدعوات وتيسر المطلوبات ودفع المحذورات إلا جاهلٌ بالحقائق(2)، لكنا لا نخصها بفريق معين مثل هؤلاء الذين ينصون عليهم من الشيخ أحمد البدوي(3) وغيره(4)، بل نقول عطاء ربنا غير محصور، فإنه أَمَرَ بالدعاء جميع عباده ووعد بالإجابة، فقال: ((ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ)) [غافر:ة60] ((وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ)) [البقرة:186] ولا نعرف من الكرامات إلا إجابة الدعوات بعافية المريض والسلامة من المخاوف والتيسير للمطالب ونحو ذلك، وهذا عامٌ للمؤمنين، لا يمنع الإجابة إلا ما عُرف من أكل الحرام أو الدعاءِ بالقطيعة والآثام؛ بل قد أخبر الله تعالى بأنه يجيب دعوة المظلوم وإن كان كافراً، بل قال تعالى في خطاب المشركين: ((وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْأِنْسَانُ كَفُوراً)) [الإسراء:67] وهذه للمشركين
__________
(1) والحق أن هذا تقرير لاطائل وراءه إلا إنكار الكرامة في الأمور الخارقة للعادة لأولياء الله المتقين، وهى ثابتة لهم بلا ريب، وتقع لهم إما لحجةٍ في الدين أو لحاجةٍ بالمسلمين.
(2) تقدم التنبيه على أن هذا لا ينكره حتى المعتزلة القائلين بإنكار كرامات الأولياء.
(3) هو أحمد بن على بن محمد بن أبي بكر البدوي، من شيوخ الصوفية الضلال، له خزعبلات وترهات كثيرة يسميها أتباعه كرامات. توفي سنة (675هـ). انظر ترجمته في شذرات الذهب لابن العماد (5/345).
(4) في (أ): (لكنا نخصها بفريق معين مثل هؤلاء الذين ينصون عليهم مثل من الشيخ أحمد البدوي وغيره).(20/59)
كما قال ((ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ)) [الإسراء:67] وقال تعالى: ((وَإِذَا مَسَّ الْأِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَائِماً فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)) [يونس:12] إنما وسع القاصرون نطاق الكرامة قالوا: كلما كان معجزة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم جاز أن يكون كرامة لولي، وأنه يقلب العصا حية ويخرج الناقة العشراء من الصخرة الصماء(1)، فهذا لا نقوله ولا كرامة، ولا دليل عليه ولا يقول الإمام أبو إسحاق الإسفرايني، وقد قال ابن السبكي إنه يستثنى مثل هذا ويقيد به الإطلاق.
قوله: (قال شيخ مشايخنا أحمد الرملي) إلى آخره.
أقول: ليس في نقل كلامه فائدة فإنه ليس إلا أنه أخبر عن اعتقاده ونحن نطالبه في دليل هذه العقيدة.
مسألة حياة الأنبياء في قبورهم:
قوله: (أما الأنبياء فلإنهم أحياءٌ في قبورهم يأكلون ويشربون ويصلون ويحجون، بل وينكحون كما وردت بذلك الأخبار).
__________
(1) والتحقيق في هذا أنه ليس كل ما كان من آيات الأنبياء يكون كرامة للصالحين، بل إن آيات الأنبياء عليهم السلام التي دلت على نبوتهم هي أعلى مما يشتركون فيه هم وأتباعهم مثل الإتيان بالقرآن، ومثل الإخبار بأحوال الأنبياء المتقدمين وأممهم، والإخبار بما يكون يوم القيامة وأشراط الساعة، ومثل إخراج الناقة من الأرض، ومثل قلب العصا حية، وشق البحر، ومثل أن يخلق من الطين كهيئة الطير فينفخ فيه فيكون طيراً بإذن الله، وتسخير الجن لسليمان. انظر: النبوات لابن تيمية (ص:169).(20/60)
أقول: الذي وردت به الأخبار: حياة الأنبياء عليهم السلام في قبورهم وقد ألف فيما ورد في ذلك الحافظُ السيوطي رسالة سماها (إنباه الأذكياء بحياة الأنبياء)(1) وسبقه إلى ذلك البيهقي فجمع كتاباً لطيفاً في حياة الأنبياء عليهم السلام(2) ذكره ابن حجر في فتح الباري وسرد أحاديث لا تقوى على هذا الأصل وذهب أنهم أحياء في القبور(3)، والكلام في الأولياء، وأصل السؤال فيهم مع أنه لا يمكن دعوى معجزة للنبي تحصل بعد موته لما عرفت من حقيقتها ولإنه قد ثبت إنه (إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صاع يدعو له) أخرجه البخاري في الأدب ومسلم في الصحيح وأبو داود والترمذي والنسائي(4) ووردت أحاديث فيها خصال أخرى انتهت إلى عشر وقد سردناها منظومة في (جمع الشتيت شرح أبيات التثبيت)(5) وهذا لفظ يعم كل إنسان، وسلمنا أنه يخص الأنبياء عليهم السلام بالصلاة في قبورهم، فالأولياء أين الدليل على حياتهم فيها؟ ثم لا يعزب عنك أن في ذكره حياة الأنبياء عليهم السلام في القبور ما يشعر أن الكرامات لا تثبت عنده إلا للأحياء وإلا فمالنا وللخوض في حياة الأنبياء عليهم السلام في القبور على أنه قد أخرج أبو داود والبيهقي عن أوس بن أوس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (من أفضل أيامكم يوم الجمعة فأكثروا علي من الصلاة فيه، فإن صلاتكم تعرض علي. فقالوا: يا رسول
__________
(1) وقد طبعت ضمن مجموع الرسائل التسع للسيوطي ط دار إحياء العلوم بيروت.
(2) وقد طبع حديثاً بتحقيق الدكتور أحمد عطية الغامدي.
(3) انظر: فتح الباري لابن حجر (6/444).
(4) الأدب المفرد (ص:30) مسلم (3/1255) أبو داود (3/117) الترمذي (3/660) النسائي (6/251).
(5) سردها المصنف رحمه الله في كتابه (تأنيس الغريب وبشرى الكئيب بلقاء الحبيب) الذي جعله كالذيل لجمع الشتيت. ونظمها أيضاً نظماً آخر في ستة أبيات. انظرها في ديوانه (ص:15، 16).(20/61)
الله: كيف تعرض عليك صلاتنا وقد أرمت -يعني: بليت-؟ قال: أن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء)(1)، وهذا ظاهر في إنه صلى الله عليه وآله وسلم كغيره من الأموات إلا أن جسده لا تأكله الأرض ولو كان صلى الله عليه وآله وسلم حياً في قبره لقال إني حي في قبري، وقد بين هذا الغرض وإدراكه صلى الله عليه وآله وسلم لما يعرض ما أخرجه أحمد في مسنده وأبو داود والبيهقي في شعب الإيمان من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (ما من أحد يسلم علي إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام)(2) ولا ريب أن هذا دالٌ على إنه صلى الله عليه وآله وسلم تفارقه روحه، وقد تكلف السيوطي من القائلين بحياة الأنبياء عليهم السلام إلى تأويل هذا الرد وهو قوله: (إلا رد الله على روحي). مما هو مردودٌ(3)، وقد حقق ابنُ القيم أن للأرواح بعد مفارقتها الأبدان اتصالٌ(4) بالأبدان بسببه يعرف الميت زائره كما ثبتت به الأحاديث في كل مؤمن، وبسببه يرد السلام على من يسلم عليه وهو مع ذلك ميت مفارق لروحه(5) وقد نقلنا كلامه في (جمع الشتيت)(6) وبسطناه في (أوائل التنوير شرح الجامع الصغير) في حديث الإسراء.
قول المردود عليه عن الأنبياء عليهم السلام بأنهم (يأكلون ويشربون ويصلون ويحجون بل وينكحون) ومناقشة المصنف له:
__________
(1) سنن أبي داود (1/275) السنن الكبرى للبيهقي (3/248) وقال الألباني في تخريج المشكاة (1/430): (وإسناده صحيح، وقد صححه جماعة).
(2) المسند (2/527) سنن أبي داود (2/218) شعب الإيمان (2/117). قال الألباني في تخريج المشكاة: (وإسناده حسن).
(3) انظر: إنباه الأذكياء في حياد الأنبياء عليهم السلام (ص:255، 256) ضمن جموع الرسائل التسع.
(4) كذا في الأصل، والصواب: اتصالاً.
(5) انظر: الروح لابن القيم (ص:84 وما بعدها).
(6) انظر: جمع الشتيت (صر:163 وما بعدها).(20/62)
وأما قوله: (يأكلون، ويشربون، ويصلون، ويحجون، بل وينكحون) فلم يأت خبر هذه من الأخبار التي ادعاها(1)، ولا رأينا ما يدل عليها إلا ما ورد عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مر بقبر موسى عليه السلام وهو قائم يصلى فيه(2).
وأخرج أبو يعلى في مسنده والبيهقي في كتاب حياة الأنبياء عن أنس أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (الأنبياء أحياءٌ في قبورهم يصلون)(3). أخرجه أبو نعيم في الحلية(4). فهذا الذي ورد في موسى عليه السلام وفي عموم الأنبياء أنهم يصلون في قبورهم على أن طرق هذه
__________
(1) في (أ): (ادعها).
(2) أخرجه مسلم (4/1845) من حديث أنس رضي الله عنه.
(3) رواه أبو يعلى (6/147 رقم:3425) ومن طريقه البيهقي في حياة الأنبياء (ص:72) عن أبي الجهم الأزرق بن علي ثنا يحيى بن أبي بكر ثنا المستلم بن سعيد، عن الحجاج عن ثابت البناني عن أنس رضي الله عنه. قال الألباني في السلسلة الصحيحة (2/189): (وهذا إسناد جيد، رجاله كلهم ثقات، غير الأزرق هذا قال الحافظ في التقريب: (صدوق يغرب)، و لم يتفرد به، فقد أخرجه أبو نعيم في أخبار أصبهان (3/83) من طريق عبد الله بن إبراهيم بن الصباح عن عبد الله بن محمد بن يحيى بن أبي بكير ثنا يحيى بن أبي بكير به، أورده في ترجمة ابن الصباح هذا، ولم يذكر فيه جرحاً ولا تعديلاً، وعبد الله بن محمد بن يحيى بن أبي بكير، فترجمه الخطيب (10/8) وقال: (سمع جده يحيى بن أبي بكير قاضي كرمان... وكان ثقة) فهذه متابعة قوية للأزرق، تدل على أنه قد حفظ ولم يغرب، وكأنه لذلك قال المناوي في فيض القدير بعدما عزاه أصله لأبي يعلى: (وهو حديث صحيح). اهـ.
(4) لم أجده في الحلية، وقد أخرجه أبو نعيم في أخبار أصبهان (2/38) من طريق عبد الله بن إبراهيم بن الصباح عن عبد الله بن محمد بن يحيى بن أبي بكير ثنا يحيى بن أبي بكير به، أورده في ترجمة ابن الصباح هذا، ولم يذكر فيه جرحاً ولا تعديلاً.(20/63)
الأحاديث مظلمة(1)، إذ ليس رجالها لنا بمعروفين ولئن قلنا بصحتها فأين أدلة أنهم يأكلون ويشربون ويحجون وينكحون، فإن هذا الحافظ السيوطي ألف كتاباً في حياتهم و لم يأت بحرف واحد في أنهم يفعلون شيئاً غير الصلاة وهو أكثر الآخرين اطلاعاً وأوسعهم تأليفاً.
حياة الشهداء في قبورهم الحياة البرزخية وذكر الأدلة عليها:
__________
(1) تقدم معنا أن الحديث صحيح، كما حقْقه العلامة الألباني حفظه الله، بل قد قال الصنعاني نفسه رحمه الله في جمع الشتيت (ص:158): (ثبت في الأخبار بأنهم يصلون في قبورهم، فأخرج أبو يعلى والبيهقي عن أنس رضي الله عنه) فذكر الحديث. ولا يلزم من إثباته إثبات ما ذكر من أنهم يأكلون ويشربون وينكحون، قال العلامة الألباني حفظه الله: (اعلم أن الحياة التي أثبتها هذا الحديث للأنبياء عليهم الصلاة والسلام، إنما هي حياة برزخية، ليست من حياة الدنيا في شيء، ولذلك وجب الإيمان بها، دون ضرب الأمثال لها ومحاولة تكييفها وتشبيهها. مما هو المعروف عندنا في حياة الدنيا، هذا هو الموقف الذي يجب أن يتخذه المؤمن في هذا الصدد: الإيمان بما جاء في الحديث دون الزيادة عليه بالأقيسة والآراء كما يفعل أهل البدع الذين وصل الأمر ببعضهم إلى ادعاء أن حياته صلى الله عليه وسلم في قبره حياة حقيقية! قال: يأكل ويشرب ويجامع نساءه!! وإنما هي حياة برزخية لا يعلم حقيقتها إلا الله سبحانه وتعالى). السلسلة الصحيحة (2/190، 191).
ويلزم من القول بأنها حياة حقيقية أن يكون الصحابة رضي الله عنهم دفنوا نبيهم وهو حي، وإذا عُلِم فساد اللازم عُلِم فساد الملزوم.(20/64)
نعم ثبت نص القرآن أن الشهداء الذين قتلوا في سبيل الله أحياء عند ربهم يرزقون فرحين بما آتاهم الله من فضله، بل نهى الله عن تسميتهم أمواتاً فقال: ((وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ الله أَمْوَاتٌ(1) بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ)) [البقرة:154] وثبت في الأحاديث أن أرواح الشهداء في [جوف](2) طير خضر ترعى في رياض الجنة ثم يكون مأواها إلى قناديل معلقة بالعرش(3)، وأرواحهم في قباب بيض من قباب الجنة(4)، وورد أنهم يرزقون من ثمار الجنة ويجدون ريحها ولا يدخلونها(5)، والأحاديث في هذا كثيرة(6). وكأنهم أنواع وكل منهم له رزقٌ ونعيمٌ، فالثابت بلا شك حياتهم، وأنهم يرزقون.
__________
(1) في (أ): (أمواتاً) وهو خطأ.
(2) ليست في الأصل.
(3) روى مسلم في صحيحه (3/1502) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أرواحهم في جوف طير خضر، لها قناديل معلقة بالعرش، تسرح من الجنة حيث شاءت ثم تأوي إلى تلك القناديل).
(4) روى ابن جرير في تفسيره (2/40) عن الأفريقى عن ابن بشار السلمي أو أبي بشار شك أبو جعفر قال: (أرواح الشهداء في قباب بيض من قباب الجنة...).
(5) روى ابن جرير (2/39) عن مجاهد في قوله: (((بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبهِمْ يُرْزَقُونَ)) [آل عمران:169] من ثمر الجنة ويجدون ريحها، وليسوا فيها).
(6) انظر: الدر المنثور للسيوطي (2/371-375).(20/65)
وقد كان صلى الله عليه وآله وسلم من الشهداء كما قاله ابن مسعود رضي الله عنه: (لأن أحلف تسعاً أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قتل قتلاً أحب إلي من أن أحلف يميناً واحدة إنه لم يقتل)(1)، وذلك أن الله اتخذه نبياً واتخذه شهيداً، أخرجه أحمد وأبو يعلى والطبراني والحاكم في المستدرك والبيهقي في دلائل النبوة.
__________
(1) رواه الإمام أحمد (1/381) والحاكم (3/58) وقال الحاكم: (هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه) ووافقه الذهبي. وأورده الهيثمي في المجمع (9/34) وقال: (رواه أحمد، ورجاله رجال الصحيح).(20/66)
وأخرج البخاري والبيهقى عن عائشة قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول في مرضه الذي توفي فيه: لم أزل أجد ألم الطعام الذي أكلت بخيبر فهذا أوان انقطاع أبهري من ذلك السم)(1) وحينئذ فيكون صلى الله عليه وآله وسلم شهيداً، وبهذا استدل السيوطي على حياته صلى الله عليه وآله وسلم في قبره(2)، إلا أن هذه الشهادة سماها العلماء شهادة الأخرى؛ كالمبطون والمطعون فلهم حكم الشهداء في الآخرة، ولهذا غسل صلى الله عليه وآله وسلم وصلي عليه صلاة الجنازة، ثم لا يخفى بعد هذا كله أن هذا الخوض في الأنبياء عليهم السلام خوض أجنبي لا يتعلق به سؤال السائل(3)؟ بل سؤاله عن الأولياء وكراماتهم، لا عن الأنبياء ومعجزاتهم، ولكنه تدرج بذكرهم إلى إلحاق الأولياء بهم في حياتهم بعد الموت وكراماته وهو استدلالٌ باطلٌ وقياسٌ فاسد، فإن النبوة رتبةٌ عاليةٌ، والمعجزات منهم مطلوبةٌ عند التحدي، فلا يلحق أحد بالأنبياء عليهم السلام في لوازم النبوة بالاتفاق، إذ من شرط القياس مشاركة الفرع للأصل في علة الحكم(4)، والحكم هنا ثبوت المعجزات، والعلة النبوة والتحدي، والولي ليس له نبوةٌ اتفاقاً فلا معجزة، والكرامةٌ بإجابة الأدعية ونحوها ثابتة بأدلة القرآن والسنة،
__________
(1) رواه البخاري تعليقاً (8/131) قال الحافظ: (وصله البزار والحاكم والإسماعيلي من طريق عنبسة بن خالد عن يونس بهذا الإسناد، وقال البزار تفرد به عنبسة عن يونس، أي: بوصله وإلا فقد رواه موسى بن عقبة في المغازي عن الزهري لكن أرسله...) ثم أورد له بعض الشواهد.
(2) انظر: إنباه الأذكياء في حياة الأنبياء للسيوطي (ص:252) ضمن مجموع الرسائل التسع له.
(3) في (ب): (لا تعلق له بسؤال السائل).
(4) انظر في الكلام على هذا الشرط البحر المحيط للزركشي (5/146)، وانظر: رسالة الصنعاني (الاقتباس لمعرفة الحق من أنواع القياس) (ص:36 وما بعدها) وهي مقتبسة من إعلام الموقعين لابن القيم.(20/67)
وغيرُها من الخوارق ممنوعٌ صدوره عن الأولياء كما تقدم نقله عن ابن السبكي والقشيري والأستاذ أبي إسحاق الإسفرايني الذي قال الأسنوي في وصفه: (أبو إسحاق إبراهيم بن محمد الإسفرايني صاحب العلوم الشرعية والعقلية واللغوية والاجتهاد في العبادة والورع)(1) وأثنى عليه ثناء كثيراً. ذكره في طبقات الشافعية. إذا عرفت هذا فإنه لم يثبت دليلٌ على ما ادعاه من أن الأنبياء(2) عليهم السلام يأكلون ويشربون وينكحون. غاية ما في ذلك أنه ثبت للشهيد منهم الرزق الذي ذكره الله تعالى ولا ينفعه هذا جميعه في جواب السؤال.
مناقشة المردود عليه في قوله: (والشهداء أيضاً أحياء عند ربهم شوهدوا نهاراً وجهاراً يجاهدون الكفار):
قوله: (والشهداء أيضاً أحياءٌ عند ربهم شوهدوا نهاراً وجهاراً يجاهدون الكفار).
أقول: يكذب هذه الدعوى ما أخرجه الحاكم وصححه عن جابر رضي الله عنه إنه قال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (يا جابر أن الله أحيا أباك وكلمه كفاحاً، قال: ألا تمنى؟ قال: أتمنى أن ترد روحي وتنشئ خلقي كما كان وترجعني إلى نبيك فأقاتل، فأقتل في سبيل الله مرة أخرى، قال إني قضيت أنهم إليها لا يرجعون)(3)
__________
(1) طبقات الشافعية للأسنوي (1/59).
(2) في (ب): (الأولياء).
(3) مستدرك الحاكم (2/120)، وفي إسناده أبو حماد المفضل بن صدقة، نقل الذهبي في تلخيص: المستدرك عن النسائي إنه قال: (متروك)، والحديث رواه ابن ماجه (1/68) وابن أبي عاصم في السنة (1/267) من طريق موسى بن إبراهيم بن كثير، قال: سمعت طلحة بن خراش قال: سمعت جابر بن عبد الله، وذكره بلفظ قريب من هذا. قال الألباني: (إسناده حسن، رجاله صدوقون على ضعف في موسى بن إبراهيم بن كثير).
وله طريق أخرى في السنة لابن أبي عاصم: عن صدقة أبي معاوية عن عياض بن عبد الله عن جابر. قال الألباني: (حديث صحيح وإسناده ضعيف، رجاله ثقات غير صدقة، وهو ابن عبد الله السمين أبو معاوية، وهو ضعيف كما في التقريب، لكن الحديث صحيح يشهد له ما قبله).(20/68)
.
وأخرج عبد الرزاق والفريابي وسعيد بن منصور وهناد وعبد بن حميد ومسلم والترمذي وابن ماجه وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني والبيهقي في الدلائل عن مسروق قال: (سألنا عبد الله ابن مسعود عن هذه الآية ((وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ الله...)) [آل عمران:169] الآية. وفيه: أنه تعالى اطلع على الشهداء اطلاعة فقال: هل تشتهون شيئاً؟ قالوا: أي شيء نشتهى ونحن نسرح من الجنة حيث نشاء، ففعل بهم ذلك ثلاث مرات فلما رأوا أنهم لم يتركوا من أن يسألوا قالوا: يا رب نريد أن ترد أرواحنا في أجسادنا حتى نقتل في سبيلك مرة أخرى. فلما رأى أن ليس لهم حاجةٌ تركوا)(1).
وأخرج أحمد والنسائي والحاكم عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (يؤتى بالرجل من أهل الجنة فيقول له الله يا ابن آدم كيف وجدت منزلك؟ فيقول: أي رب خيرُ منزل. فيقول له: سل وتمنه. فيقول: ما أسألك وأتمنى: أسألك أن تردني إلى الدنيا فأقتل في سبيلك عشر مرات. لما رأى من فضل الشهادة)(2).
__________
(1) رواه عبد الرزاق (5/263) وهناد في الزهد (1/120) ومسلم (3/1502) والترمذي (5/231) وابن ماجه (2/936) وابن جرير (3/172) والطبراني في الكبير (9/237) والبيهقي في الدلائل (3/303)، وقد أورده السيوطي في الدر المنثور (2/373) وعزاه لجميع المصادر التي أوردها المؤلف عدا ابن ماجه.
(2) رواه أحمد في المسند (3/208) والنسائي (6/36) والحاكم (2/75) واللفظ له وقال الحاكم: (هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه)، وصححه الألباني في صحيح سنن النسائي (2/664).(20/69)
وأخرج أحمد والنسائي عن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (ما من نفس تموت ولها عند الله خيرٌ تحب أن ترجع إليكم إلا القتيل في سبيل الله فإنه يحب أن يرجع فيقتل مرة أخرى)(1).
وأخرج أحمد وعبد بن حميد والبخاري ومسلم وغيرهم عن أنس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (ما من أحد من أهل الجنة أحدٌ يسره أن يرجع إلى الدنيا وله عشرة أمثالها إلا الشهيد فإنه ود لو رُد إلى الدنيا عشر مرات فاستشهد لما يرى من فضل الشهادة)(2). والأحاديث كثيرةٌ بأن الشهداء لا يرجعون إلى الدنيا ولا يقاتلون ولا يقتلون؟ بل يحبون ذلك وأجاب الله بأنهم إليها لا يرجعون. فأعجب لدعوى المجيب، ثم أي حاجة له إلى إثبات عود الشهداء إلى الدنيا يقاتلون فيها مع أن الكرامة عنده ثابتة للموجود والميت المفقود.
قوله: (وأما الأولياء.. إلى قوله: والدليل على جوازها أنها أمورٌ ممكنةٌ).
أقول: قدمنا لك أن إمكان الشيء ودخوله تحت القدرة الإلهية لا يستدل أحدٌ به بوقوع الممكن فما كل ممكن واقع، وقدمنا لك الأدلة على هذا فلا نعيدها.
الاستدلال على كرامات الأولياء بقصة مريم:
قوله: (وعلى الوقوع).
__________
(1) رواه أحمد (5/318) والنسائي (6/35) عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه، وصححه الألباني، انظر: السلسلة الصحيحة (5/269).
(2) رواه أحمد (3/251) والبخاري (6/14 فتح) ومسلم (3/1498) واللفظ لأحمد. وقع في الأصل: ((من أخذ من أهل الجنة يسر أن يرجع...)) وهو تصحيف.(20/70)
أقول: أي: والدليل على وقوع الكرامة للأولياء قصة مريم، وأن الله كان يأتيها بفاكهة الشتاء في الصيف وفاكهة الصيف في الشتاء وهذا قد نطق به التتريل فكذلك ما ذكره من القصص الواقعة للصحابة(1).
__________
(1) قال شيخ الإسلام: (وكرامات الصحابة والتابعين بعدهم وسائر الصالحين كثيرة جداَ... وأطال في ذكر جملة منها ثم قال: وهذا باب واسع، وقد بسط الكلام على كرامات الأولياء في غير هذا الموضع، وأما ما نعرفه نحن عياناً ونعرفه في هذا الزمان فكثير). الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان (ص:300-320). وقد بسط رحمه الله في كتابه هذا القول في الفرق بين الكرامات الإيمانية وبين الأحوال الشيطانية مما يميز به المرء المسلم بين الخبيث والطيب، والهدى والضلال، وهو كتاب عظيم القدر جليل الفائدة ينبغي قراءته لمن أراد معرفة الحق والصواب في هذا الباب.(20/71)
والجواب: أن هذا أولاً في حق الأحياء، وكلامه في الأحياء والأموات، ثم إنه قال القرطبي: (الصحيح أن مريم نبية)(1)، وبهذا فليست قصتها من محل النزاع، ثم إن أراد أنا نثبت الكرامات لمن ادعاها؟ لأجل أنها قد وقعت لمن ذكر فهذا غير صحيح؟ لإنه إثبات لها بالقياس، وإثبات الكرامات بالقياس ما يقوله أحدٌ من أهل الإسلام لا من العلماء ولا العوام، لأن الكرامة إنما هي فضلٌ من الله يؤتيه من يشاء لا من نشاء نحن، والقياس لا يُحكم به على الرب عز وجل؛ فيقال كما أحدث كرامة لمريم يحدثها لفلان هذا هذيان وتحكم على جناب الله الرحمن، وإن كان المراد إنها وقعت لا ننكرها فقد قدمنا لك عدم إنكار غير الخارق وأما الخارق فهو محل النزاع، ولا يتم الاستدلال بقصة مريم فإن الله اختصها بخوارق لم تكن لغيرها؟ مثل الإتيان بولد من غير أب، ونطق ولدها في المهد فدل أن لها رتبةً ومزية ليست لغيرها.
قصة أبي بكر مع أضيافه وتكثير الطعام له:
__________
(1) الجامع لأحكام القرآن (4/53). والتحقيق أنها ليست نبية، فالذكورية شرط في الرسالة، كما قال الله تعالى: ((وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلا رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ)) [يوسف:109]، وهذا قول جمهور أهل العلم، ولهذا قال شيخ الإسلام في كتابه النبوات (ص:169): (ومريم عليها السلام لم تكن نبية، وكانت تؤتى بطعام)، وانظر تفسير ابن كثير (2/496).(20/72)
وأما قصة أبي بكر(1) فهي من إحداث البركة في الطعام، ولا يُنكر فقد أخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن صلة الأرحام سبب لزيادة الأرزاق والأعمار(2) وكذلك كثير من أنواع الخير أسبابٌ لحصول كثيرٍ من أنواع الخيرات(3) أمرٌ لا يُنكر(4). فعله الله من باب الأسباب والمسببات لا يختص به الولي؟ بل أخبر أن طعام الواحد يكفي الاثنين لحصول البركة(5).
قصة سارية مع عمر:
__________
(1) يشير إلى ما ثبت في الصحيحين عن عبد الرحمن بن أبي بكر، وفيه (أن أبا بكر رضي اللَه عنه ذهب بثلاثة أضياف معه إلى بيته، وجعل لا يأكل لقمة إلا ربا من أسفلها أكثر منها فشبعوا وصارت أكثر مما هي قبل ذلك). البخاري (2/75 فتح) ومسلم (3/1628).
(2) أخرج البخاري (4/301 فتح) ومسلم (4/1982) عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من سره أن يبسط له في رزقه أو ينسأ له في أثره فليصل رحمه). قال ابن أبي العز: (أي: هي سبب طول العمر، وقد قدر الله أن هذا يصل رحمه، فيعيش بهذا السبب إلى هذه الغاية، ولولا ذلك السبب لم يصل إلى هذه الغاية). شرح العقيدة الطحاوية (ص:128). وانظر كتابه (جمع جهود الحفاظ النقلة بتواتر روايات زيادة العمر بالبر والصلة) للطفي بن محمد بن يوسف الصغير.
(3) انظر في هذا رسالة (حصول الرفق بأصول الرزق) للسيوطي.
(4) في (أ): (لا ننكرها).
(5) أخرج مسلم (3/1630) عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (طعام الواحد يكفي الاثنين، وطعام الاثنين يكفي الأربعة، وطعام الأربعة يكفي الثمانية).(20/73)
وأما قصة سارية مع عمر فلم يسندها ولم نجدها مسندة(1) ومثلها لو كان لشاع وكان متواتراً، وهذا مما يقول أهل الأصول أنه إذا انفرد الواحد بخبر توفر الدواعي على نقله فإنه يرد خبره ومثلوه بقتل خطيب على المنبر، وهذه نقلها لا بد من تواترها(2).
ادعاء المردود عليه أن الولي يقول للشيء كن فيكون، وإبطال المصنف ذلك:
قوله: (فأجاب بأنه ما قاله صحيح).
أقول: أي من أن الولي هو يقول للشيء كن فيكون.
__________
(1) أسندها غير واحد من أهل العلم منهم الحافظ اللالكائي في شرح الاعتقاد (2/1330) من طريق ابن وهب عن يحيى بن أيوب عن ابن عجلان عن نافع عن ابن عمر أن عمر بن الخطاب، وذكر القصة. قال ابن كثير في تاريخه (7/131): (وهذا إسناد جيد حسن)، وقال الحافظ ابن حجر في الإصابة (2/3): (أخرجها البيهقي في الدلائل، واللالكائي في شرح السنة، والزين عاقولي في فوائده، وابن الأعرابي في كرامات الأولياء) وذكر الإسناد، ثم قال: (وهو إسناد حسن)، وقد أورد لها الحافظ ابن كثير طرقاً أخرى، ثم قال: (فهذه طرق يشد بعضها بعضاً).
(2) انظر هذه القاعدة مع مثالها في البحر المحيط للزركشى (4/251)، وشرح الكوكب المنير لابن النجار (2/356) وقصة عمر ثبتت بإسناد جيد، وليست هذه القاعدة بمسوغة انكارها.(20/74)
قلت: سبحانك هذا بهتان عظيم، بينما المجيب يخوض في إثبات الكرامة لولي صار الكلام في إثبات خواص الإلهية له(1)، والحال أن الرسل الذين هم الهداة للأمم وباتباع شعاع أنوارهم صار الولي ولياً إذا قالت لهم الأمم يأتون بآية يقولون: إنما الآيات عند الله، ويأمر أفضل رسله صلى الله عليه وآله وسلم أن يقول: ((قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرّاً وَلا نَفْعاً إِلَّا مَا شَاءَ الله)) [الأعراف:188] ونهاه أن يقول لشيء إني فاعل ذلك غداً إلا أن يشاء الله. وهؤلاء يقولون أمر الولي بين الكاف والنون، وهذا غلو كغلو النصارى في المسيح أو نوع من الجنون، وقد اختلفت أئمة الأصول هل يجوز أن يفوض الله إلى رسوله صلى الله عليه وآله وسلم حكماً من الأحكام الشرعية(2) فكيف إطلاق التصرف في الأكوان إيجاداً أو إعداماً في الأمور الكونية، وبالجملة فرد هذا الهذيان لا يحتاج إلى دليل من سنة ولا قرآن، إنما يحتاج إلى عقل يفرق بين خالق الأكوان وبين الإنسان.
__________
(1) قال شيخ الإسلام: (لكن من الناس من يُدعى له من الكرامات ما لا يجوز أن يكون للأنبياء، كقول بعضهم: إن لله عباداً لو شاءوا من الله أن لا يقيم القيامة لما أقامها، وقول بعضهم: أنه يعطى كن، أي شيء أراده قال له كن فيكون، وقول بعضهم: لا يعزب عن قدرته ممكن، كما لا يعزب عن قدرة ربه محال، فإنه لما كثر في الغلاة من يقول بالحلول والاتحاد وإلهية بعض البشر كما قاله النصارى في المسيح، صاروا يجعلون ما هو من خصائص: الربوبية لبعض البشر، وهذا كفر). النبوات (ص:405، 406).
(2) انظر في هذه المسألة: البحر المحيط للزركشي (6/214 وما بعدها)، وشرح الكوكب المنير لابن النجار (4/474 وما بعدها).(20/75)
قوله: (قال شيخ الإسلام أحمد بن علي: ما يقع من العامة من قولهم عند الشدائد: يا شيخ فلان.. إلى قوله: فأجاب بأن الاستغاثة بالأنبياء والمرسلين والأولياء والعلماء والصالحين جائزة وعلله بأن معجزات الأنبياء وكرامة الأولياء لا تنقطع بموتهم)(1).
أقول: هذا الكلام كما يقال: لحم جمل غث على جبل وعر لا سمينٌ فينتقى ولا سهل فيرتقى.
أما قوله: (المعجزات لا تنقطع بالموت بمعنى أن الله يحدثها للنبي عليه السلام بعد موته فقد عرفت أن المعجزة من شرطها مقارنة التحدي عند دعوى النبوة(2) والميت لا يدعي النبوة ولا يتحدى باتفاق العقلاء وكتبِ الله ورسله، قال عيسى عليه السلام ((وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ)) [المائدة:117] وقال تعالى: ((وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ)) [آل عمران:144] فأي دعوى للنبوة بعد الموت، وأي تحدي، وأي معجزة، ثم هذه الاستغاثة معلوم يقيناً أنها بدعة(3)، فلم يعلم أنه صلى الله عليه وآله وسلم استغاث برسول من أولي العزم ولا غيرهم عند الشدائد التي لاقاها؛ بل كان أعظم ما لاقاه منها يوم الطائف فكان دعاؤه الدعاء المعروف واللجأ إلى الله تعالى(4)
__________
(1) انظر الفتاوى الكبرى الفقهية لأحمد بن علي الهيتمى (2/24).
(2) وتقدم التنبيه على أن هذا الاشتراط لا دليل عليه، لكن يبقى على المدعي أن الكرامة لا تنقطع بموت الأنبياء أو الأولياء ذكر الدليل على دعواه ثم مع ذلك فيقال: ما صلة ثبوت الكرامة لهم بعد موتهم بجواز الاستغاثة بهم ودعائهم مع اللْه؟!.
(3) بل شرك بالله العظيم.
(4) حديث ذكر شدة ما لقيه صلى الله عليه وسلم من قومه يوم الطائف ثابت في الصحيحين [البخاري (6/312 فتح) ومسلم (3/1420) ] من حديث عائشة رضي الله عنها، أما الدعاء المشهور الذي يشير إليه الصنعاني، وهو قوله: (اللهم إليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس...) فلم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من طريق صحيحة، وانظر تفصيل القول في ذلك في كتاب (دفاع عن الحديث النبوي والسيرة...) للألباني (ص:19).(20/76)
.
لا يعلم عن أحد من الصحابة أنه استغاث به صلى الله عليه وسلم بعد موته:
وكذلك أصحابه من بعده لا يعلم عن أحد منهم أنه استغاث به صلى الله عليه وآله وسلم بعد موته، ولا يمكن أحدٌ يأتي بحرفٍ واحدٍ عن أصحابه أنه قال: يا رسول الله ويا محمد مستغيثاً به عند شدة نزلت به؛ بل كل يرجع عند الشدائد إلى الله تعالى(1)، حتى عُباد الأصنام إذا مسهم الضر في البحر ضل من يدعون إلا إياه(2)، وهذا خليل الله إبراهيم لما أرمي به إلى النار لاقاه جبريل في الهواء فقال له: هل من حاجة؟ قال: أما إليك فلا(3). وهذه الأدعية النبوية المأثورة قد ملأت كتب الحديث ليس منها حرفٌ واحدٌ فيه استغاثة بمخلوق وسؤال بحقه. وقد ذكر ابن القيم في مدارج السالكين أنه ورد في أثرٍ إسرائيلي أن داود عليه السلام قال: (يا رب أسألك بحق آبائي عليك، فأوحى الله إلى داود، يا داود أي حق لآبائك علي، ألستُ أنا الذي هديتهم ومننت عليهم واصطفيتهم فلي الحق عليهم)(4).
الاستغاثة بالأموات بدعة بل هي بقية من عبادة الأصنام:
__________
(1) راجع في هذا: قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة لابن تيمية (ص:256 وما بعدها).
(2) يشير إلى قوله تعالى: ((وَإِذَا مَسكُمُ الضر فِي الْبَحْرِ ضَل مَنْ تَدْعُونَ إِلا إِياهُ)) [الإسراء:67].
(3) قال ابن كثير في تفسيره (5/345): (وذكر بعض السلف أنه عرض له جبريل وهو في الهواء فقال: ألك حاجة؟ فقال: أما إليك فلا، وأما من الله فبلى). وقد رواه ابن جرير الطبري في تفسيره (10/45) عن معتمر بن سليمان التيمي عن بعض أصحابه.
(4) لم أجده في مدارج السالكين لابن القيم، وقد ذكره شيخ الإسلام في (التوسل والوسيلة) (ص:281) وعزاه إلى الحلية لأبي نعيم.(20/77)
فهذه البدعة وهي الاستغاثة بالأموات وإنزال الحاجات بهم والتوسل إنما هو بقية من عبادة الأصنام؟ فإن الجاهلية كانوا يستغيثون بهم ويطلبون الحاجات منهم، وكل بدعة ضلالة، كما ثبت في الأحاديث(1)، وأي ضلالةٍ أعظم من عبدٍ يُنزل حاجاته بالأموات ويعرض عن باري البريات.
وقد ثبت أنه صلى الله عليه وآله وسلم بايعه جماعه من الصحابة على أن لا يسألوا الناس شيئاً، فكان أحدهم إذا سقط سوطه وهو على راحلته لم يسأل من يناوله، بل ينزل بنفسه(2)، كل هذا لتفرد الله بالسؤال وطلب الحاجات.
إن قال المستغيث بالقبور لم أعرض عن الله إنما تقربت بهم إليه، يقال: هذا بعينه هو الذي قاله المشركون:
وإن قال: لم أعرض عن الله، إنما تقربت بهم إليه. فيقال: هذا بعينه هو الذي قاله من قال إنه لا يعبد الأصنام إلا لتقربه إلى الله زلفى، غاية الفرق أن صنمه من حجارة أو خشب وصنمك من سلالة من طين، وأما التوسل وطلب الحاجات فهو العبادة بل هو مخ العبادة كما ثبت في الأحاديث(3).
لو كان التوسل بالأموات جائزاً أو مندوباً لعلمه الرسول صلى الله عليه وسلم أمته:
__________
(1) تقدم تخريج بعض الأحاديث في هذا المعنى في صدر هذه الرسالة.
(2) أخرجه مسلم في صحيحه (2/721) من حديث عوف بن مالك رضي الله عنه.
(3) ثبت في مسند الإمام أحمد (4/267) وسنن الترمذي (5/211) وسنن ابن ماجه (2/1258) ومستدرك الحاكم (1/491) وغيرها عن النعمان بن بشير أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الدعاء هو العبادة).
وقال الحاكم: (صحيح الإسناد) ووافقه الذهبي، وقال الترمذي: (حديث حسن صحيح)، وقال الحافظ في الفتح (1/49): (وإسناده حسن).
وأما حديث (الدعاء مخ العبادة) فقد أخرجه الترمذي (5/456) من حديث أنس بن مالك، وقال: (حديث غريب من هذا الوجه لا نعرفه إلا من حديث ابن لهيعة). لكن معناه صحيح؟ لحديث النعمان المتقدم.(20/78)
ولو كان التوسل بالأموات جائزاً أو مندوباً لعلم رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم أمته ذلك فإنه قد علمهم كل خير ونهاهم عن كل شر، فإنه علمهم صلاة الاستخارة، وأذكار الصباح والمساء والدعوات عند العوارض من الهم والغم والأخواف(1) ؛ بل قال لهم: (من أصيب بمصيبة فليذكر مصيبته بي)(2) الحديث، فعلمهم التأسية عند المصايب، ولم يأت عنه حرفٌ إنه قال: من نزل به أمر فليستغث بي. وقد نهى العلماء عن هذه البدعة والضلالة وبينوا أنها حرامٌ.
قول أبي حنيفة: (لا ينبغي لأحد أن يدعو الله إلا به..):
__________
(1) ينظر في هذا كتب الأذكار؛ كالأذكار للنووي، والكلم الطيب لابن تيمية، والوابل الصيب لابن القيم، وتحفة الذاكرين للشوكاني وغيرها.
(2) روى ابن سعد في الطبقات (2/275) والدارمي في السنن (1/43) عن عطاء بن أبي رباح مرفوعاً: (إذا أصيب أحدكم بمصيبة فليذكر مصيبته بي فإنها أعظم المصائب). وصححه الألباني. انظر: السلسلة الصحيحة (3/97).
ورواه ابن السني في عمل اليوم والليلة (ص:275) من حديث بريدة رضي الله عنه باللفظ الذي ذكره المصنف.
وقد نظم أحدهم هذا المعنى ببيت من الشعر فقال:
وإذا ذكرت مصيبة تسلو بها…فاذكر مصابك بالنبي محمد(20/79)
قال أبو حنيفة: (لا ينبغي لأحد أن يدعو الله إلا به، فلا يقول أسألك بفلان وفلان وبملائكتك أو بأنبيائك أو نحو ذلك لإنه لاحق للمخلوق على خالقه)(1). قال ابن عبد السلام: إنه لا يجوز سؤال الله بشيء من مخلوقاته لا الأنبياء ولا غيرهم إلا أنه توقف في نبينا صلى الله عليه وسلم لاعتقاده أنه جاء فيه حديثٌ، ولا يعرف صحته(2).
نقل عن شيخ الإسلام ابن تيمية في أن الأمور المبتدعة عند القبور مراتب:
قال ابن القيم: (قال شيخنا- يريد ابن تيمية-: هذه الأمور المبتدعة عند القبور مراتبُ أبعدها عن الشرع أن يسأل الميت حاجته ويستغيث به فيها كما يفعله كثير من الناس، قال: وهؤلاء من جنس عُباد الأصنام، ولهذا قد يتمثل لهم الشيطان في صورة الميت أو الغائب كما يتمثل لعُباد الأصنام، وكذلك السجود للقبر والتمسحُ به وتقبيلُه.
الثانية: أن يسأل الله به وهذا يفعله كثير من المتأخرين وهو بدعة باتفاق المسلمين.
الثالثة: أن يسأله بعينه.
الرابعة: أن يظن أن الدعاء عند القبر مجاب، أو إنه أفضل من الدعاء
__________
(1) انظر النص: مع التعليق عليه في قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة لابن تيمية (ص:82 وما بعدها).
(2) انظر النص: مع التعليق في قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة لابن تيمية (ص:285). والحديث المشار إليه هو ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (قل اللهم إني أقسم عليك بنبيك محمد صلى الله عليه وسلم نبي الرحمة).
قال ابن أبي العز في فتاويه (ص:126) وقد ذكر هذا الحديث: (وهذا الحديث إن صح فينبغي أن يكون مقصوراً على رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه سيد ولد آدم...).
وانظر في الكلام على هذا الحديث سنداً ومتناً (قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة) لابن تيمية (ص:186 وما بعدها).(20/80)
في المسجد فيقصد زيارته والدعاء عنده؟ لأجل طلب حوائجه، وهذا أيضاً من المنكرات المبتدعة باتفاق المسلمين، وهي محرمةٌ وما علمت في ذلك نزاعاً بين أئمة الدين، وإن كان كثيرٌ من المتأخرين يفعل ذلك))(1) انتهى.
رد استدلالهم بقوله صلى الله عليه وسلم: (وحق العباد على الله) وبيان المراد بحقهم عليه:
فإن قلت: قد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لمعاذ بن جبل رضي الله عنه: أتدري ما حق الله على العباد. قال: الله ورسوله أعلم. قال: حقه عليهم أن يعبدوه فلا يشركوا به شيئاً. أتدرىِ ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك؟ قلت: الله ورسوله أعلم. قال حقهم عليه أن لا يعذبهم بالنار(2).
قلتُ: هذا الحق الذي أثبته لعباده على نفسه هو الإثابة لهم بإفراده بالعبادة، ولا دليل أنا نسأله بحقهم، وكذلك كما قيل:
ما للعباد عليه حقٌّ واجب…كلا ولاسعيٌ لديه ضايع
إن عذبوا فبعدله أو نعموا……فبفضله وهو الكريم الواسع(3)
معنى ما روي في الحديث (وبحق السائلين عليك):
وورد في دعاء الصلاة(4): (وبحق السائلين عليك)(5)
__________
(1) انظر: إغاثة اللهفان (1/235، 236) وفي النقل تصرف يسير.
(2) رواه البخاري (13/347 فتح) ومسلم (1/59).
(3) قال ابن القيم رحمه الله في مدارج السالكين (2/338): (فالرب سبحانه ما لأحدٍ عليه حق، ولا يضيع لديه سعى) ثم أنشد البيتين.
(4) في (ب): (الصباح) وهو خطأ.
(5) جزء من حديث رواه الإمام أحمد (3/21) وابن ماجه (1/256) وغيرهما.
قال شيخ الإسلام: (وهذا الحديث هو من رواية عطية العوفي عن أبي سعيد وهو ضعيف بإجماع أهل العلم). قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة (ص:215) ثم قال: (ولفظه لا حجة فيه فإن حق السائلين عليه أن يجيبهم وحق العابدين أن يثيبهم...).(20/81)
. أي: بما وعدت به إجابة السائلين، فهو توسل إلى الله بإجابة السائلين الذي جعله(1) على نفسه حقاً لهم بقوله: ((ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ)) [غافر:60] فهو نظير قول زكريا عليه السلام: ((وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيّاً)) [مريم:4] أو المراد: بحقك الواجب على المسلمين(2) من الإخبات وإنزالهم الحاجات بك ورفع الأكف إليك فهذا حق لله على السائلين أن يفعلوه لقوله ادعوني، فقد أمر بالدعاء فصار حقاً له، فالإضافة في حق السائلين إضافة إلى المفعول؛ أي: بحقك على السائلين، ثم حذف حرف الجر بعد حذف فاعل المصدر وأضيف إلى مفعوله وهذا الأخير أقوى.
حديث توسل آدم عليه السلام بحق محمد صلى الله عليه وسلم وبيان عدم صحته:
__________
(1) في (أ) و (ب): فعله.
(2) في (أ) (الواجب على السائلين أن يفعلوه المسلمين).(20/82)
فإن قلت: قد أخرج الطبراني في المعجم الصغير والحاكم وأبو نعيم والبيهقي [كلاهما](1) في الدلائل وابن عساكر عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (لما أذنب آدم الذنب الذي أذنبه رفع رأسه إلى العرش فقال: أسألك بحق محمد إلا غفرت لي، فأوحى الله إليه ومن محمد؟ فقال: تبارك اسمك لما خلقتني رفعتُ رأسي إلى عرشك فإذا فيه مكتوبٌ لا إله إلا الله محمد رسول الله، فعلمت أن ليس أحدٌ أعظم عندك قدراً ممن جعلت اسمه مع اسمك، فأوحى الله: يا آدم إنه آخر النبيين من ذريتك ولولاه ما خلقتك)(2).
__________
(1) زيادة من الدر المنثور.
(2) رواه الطبراني في الصغير (ص:182) والحاكم (2/615) والبيهقى في الدلائل (5/489) وأورده السيوطي في الدر المنثور (1/142) وعزاه إلى الطبراني في الصغير والحاكم وأبي نعيم والبيهقي كلاهما في الدلائل، وابن عساكر في تاريخه، وفي إسناده عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، قال البيهقي في الدلائل: (تفرد به عبد الرحمن بن زيد بن أسلم وهو ضعيف)، قال شيخ الإسلام: (عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ضعيف باتفاقهم يغلط كثيراً، ضعفه أحمد بن حنبل وأبو زرعة وأبو حاتم والنسائي والدارقطني وغيرهم، وقال أبو حاتم بن حبان: كان يقلب الأخبار وهو لا يعلم حتى كثر ذلك من روايته من رفع المراسيل وإسناد الموقوف فاستحق الترك). التوسل والوسيلة (ص:167)، وتعقب الذهبي تصحيح الحاكم له بقوله: (بل هو موضوع، وعبد الرحمن واهٍ).(20/83)
قلتُ: بعد صحة الحديث فيختص هذا بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم وحده، ولكني لا أدري كيف صحته، ولعله الذي توقف فيه ابن عبد السلام لعدم معرفته بصحته، ويحتمل أن الذي توقف فيه حديث صلاة الحاجة فإن فيه يا محمد أتشفعُ بك إلى الله الحديث وفيه مقال(1)، كما في الحديث الذي أخرجه ابن النجار من حديث ابن عباس، قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن الكلمات التي تلقاها آدم من ربه فتاب عليه؟ سأله بحق محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين(2) انتهى.
__________
(1) تقدم معنا كلام ابن عبد السلام تحت عنوان: قول أبي حنيفة: (لا ينبغي لأحد أن يدعو الله إلا به..).
(2) أورده السيوطي في اللآلئ (1/404) والشوكاني في الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة (ص:394) والفتني في تذكرة الموضوعات (ص:98). قال الدار قطني: تفرد به عمرو بن ثابت، وقد قال يحيى (إنه لا ثقة ولا مأمون)، وقال النسائي: (متروك الحديث)، وقال أبو داود: (رافضي)، وقال ابن حبان: (كان ممن يروي الموضوعات لا يحل ذكره إلا على سبيل الاعتبار). انظر: المجروحين لابن حبان (76/2) والضعفاء والمتروكين لابن الجوزي (2/224)، والمغني في الضعفاء للذهبي (62/2).(20/84)
والحاصل أن سؤال الله بحق غيره عليه أمرٌ عظيمٌ لا يؤخذ فيه إلا بأحاديث صحيحة؛ لإنه خطابٌ للرب عز وجل وإثبات لحق المخلوقين عليه وكيف جزم به القائل والله تعالى أمر عباده أن يدعوه بأسمائه الحسنى، فقال ((وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا)) [الأعراف:180] وقد ثبتت الأحاديث وصحت إنه لا يجوز الحلف إلا بالله، وأن من حلف بغيره فقد أشرك(1)، وذلك لما فيه من تعظيم المخلوق به، فالاستغاثة والإقسام على الله بحقه إذا لم يكن أعظم من الحلف به كان مثله في أنه شرك، وقد وسعنا الكلام في هذا في رسالتنا (تطهير الاعتقاد عن أدران الإلحاد).
نقل المردود عليه عن ابن الشِّحنة أنه ينبغي الدعاء عند القبور، وإبطال المصنف ذلك:
قوله: (في جواب ابن الشحنة(2) وينبغي الدعاء عندها).
__________
(1) منها ما ثبت في المسند (2/86) وسنن أبي داود (3/223) وغيرها عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك). وفي الباب أحاديث عديدة.
(2) هو أبو الوليد محمد بن محمد بن محمد بن محمود بن غازي بن أيوب بن الشحنة محمود، يعرف بابن الشحنة نسبة إلى جده الأعلى محمود، التركي الاْصل، الحلبي، الحنفي. (ت:815هـ). انظر: شذرات الذهب لابن العماد (7/113).(20/85)
أقول: هذا بدعة قطعاً فالزيارة النبوية التي كان يفعلها صلى الله عليه وآله وسلم عند زيارة الصالحين كعمه حمزة وسائر الشهداء وغيرهم أن يقولوا (السلام عليكما دار قوم مؤمنين ورحمة الله وبركاته) وفي بعضها (نسأل الله لنا ولكم العافية)(1)، فالدعاء بطلب الحاجات عند قبر الميت كلام في غير محل السؤال، فإن محله التوسل وهذا شيء آخر هو أن محل قبره(2) مما يستجاب فيه الدعاء.
زيارة الأموات التي شرعها الله لعباده تكون بثلاثة أمور:
والحاصل أن زيارة الأموات التي شرعها الله لعباده تكون بثلاثة أمور:
الأول: تذكر الآخرة والاعتبار والاتعاظ كما أفاده قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (زوروا القبور فإنها تذكر بالآخرة)(3).
والثاني: الإحسان إلى الميت كما يحسن إلى الحي بزيارته فإنه إذا زاره وأهدى إليه هدية من صدقة أو دعاء واستغفار سر به وفرح، ولذا كان صلى الله عليه وآله وسلم يسلم عليهم ويدعو لهم بالعافية والرحمة كما يسر الحي ويفرح به إذا زاره وأهدى إليه هدية.
الثالث: إحسان الزائر إلى نفسه باتباع السنة والمتابعة له صلى الله عليه وآله وسلم فيما فعله واقتداؤه به فيما قاله فهذه الزيارة النبوية بلا زيادة.
الطواف بالقبور وتقبيلها وسؤال الحاجات منها هي عبادة المشركين:
وأما طواف الزائر بقبر الميت وتقبيلُه الأركان وسؤالُ الحاجات منه وعنده فهي عبادة المشركين لأصنامهم كما قررناه في تلك الرسالة.
__________
(1) روى مسلم في صحيحه (2/671) عن بريدة رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمهم إذا خرجوا إلى المقابر، فكان قائلهم يقول: السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين وإنا إن شاء الله بكم للاحقون، أسأل الله لنا ولكم العافية).
(2) في (ب) (أن محله غيره) وهو تصحيف.
(3) رواه مسلم في صحيحه (2/671) وابن ماجه (1/500) عن أبي هريرة رضي الله عنه، واللفظ لابن ماجة.(20/86)
قول المردود عليه: (وقد اشتهر عند أهل بغداد إجابة الدعاء عند قبر معروف الكرخي) ومناقشة المصنف له:
قوله: (وقد اشتهر عند أهل بغداد: إجابة الدعاء عند قبر الشيخ معروف الكرخي)(1).
أقول: قال بعض المحققين: أن العبد إذا وقف على قبر من يستعظمه حصل له رقة وخشوع وإقبالُ قلب وإخلاصٌ في الدعاء فقد يجاب فيظن إنه ببركة صاحب القبر(2)، والمعلوم أن صاحب القبر طالبٌ من الزائر أن يدعو له ويستغفر له فهو في برزخ قد انقطع عن الأعمال. يفرح بما يهدى إليه من الأحياء، لا إنه بصدد قضاء حاجات الأحياء. وعلى الجملة هب أن الدعاء عند قبور الأولياء مندوبٌ كما قال: (ينبغي)، فالندب حكمٌ لا بد له من دليل ثم هذا غيرُ محل السؤال قطعاً(3).
احتجاج المردود عليه بتوسل عمر بالعباس وبيان المصنف لمعناه الصحيح:
قوله: (وقد توسل عمر بالعباس).
أقول: هذا غير محل السؤال فإن عمر إنما جعل العباس إماماً يدعو لهم ويستسقي ويسأل الله(4)، لاعتقاد عمر إنه مجاب الدعوة لقرابته من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، لا أنه توسل به كما يتوسل القبوريون بالأموات، ولا قال عمر: أسألك بحق العباس، بل هو مثل طلب الصحابة النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يستسقي لهم، فهذا غير محل النزاع.
قوله: (لأن الطلب إنما هو من الله).
__________
(1) هو أبو محفوظ معروف بن فيروز الكرخي البغدادي، أحد الزهاد، توفي سنة (200هـ). انظر ترجمته في السير للذهبي (1/339).
(2) انظر إغاثة اللهفان لابن القيم (1/234).
(3) انظر: الفتاوى لابن تيمية (1/246 و350) و(27/172-179).
(4) والحديث رواه البخاري في صحيحه (2/494 فتح).(20/87)
أقول: هذا هو الحق لكن التوسل إليه بالمخلوقين شيء لم يأذن الله لعباده به فهو بدعة، وهو تهجم على الجناب العلي بما لم يأت به شرع؛ بل هو طريقة عُباد الأوثان القائلين إنهم يعبدونها لتقربهم إلى الله زلفى، والذي أمر الله به عباده في كتابه بقوله: ((وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)) [الفاتحة:5] أي: نخصك بالاستعانة فلا نستعين إلا بك كما عرف في علم البيان أن تقديم المفعول هنا أفاد الاختصاص(1) سيما وقد قدم قوله: ((إِيَّاكَ نَعْبُدُ)) [الفاتحة:5] أي: نخصك بالعبادة فكما أنه مختصٌ بالعبادة لا يُعبَدُ سواه بالاتفاق، فهو مختصٌ بأن لا يستعان بغيره، والتوسل بالمخلوقين استعانةٌ بهم، ثم إنه تعالى يقول ((مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ)) [البقرة:255] ويقول: ((وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى)) [الأنبياء:28] فمن أين للمتوسل بالمخلوقين أن الله تعالى قد أذن لهم بالشفاعة للسائل في قضاء حاجاته؟ ثم قد قرر آنفاً هذا المجيبُ أن لهؤلاء الأولياء أن يقول للشيء كن فيكون. فأي حاجةٍ إلى التوسل بهم؟ بل منهم تُطلب الحاجات وتسأل الحياة والممات، وقد صيرهم آلهة يفعلون ما يريدون وتنقاد لهم الأكوان وما فيها كما يشاؤن، وربنا جلِ جلاله يقول لأشرف مخلوقاته: ((قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرّاً وَلا نَفْعاً إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ)) [يونس:49] ويقول له أن يقول: ((قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ(2) عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ)) [الأنعام:50]، وهؤلاء الجهلة قالوا: الولي يقول للشيء كن فيكون فزاد على رتبة الملائكة ورتبة الأنبياء وصاروا أرباباً؛ بل جعلوا الملائكة الأربعة أبعاضاً للقطب كما أسلفنا الإشارة إليه(3).
__________
(1) انظر: رصف المباني شرح حروف المعاني للمالقي (ص:138) والدر المصون للسمين الحلبي (1/55).
(2) لكم) ساقطة من الأصل.
(3) ص: (54).(20/88)
التوسل بالمخلوقين إلى رب العالمين هي طريقة الصائبة:
واعلم أن التوسل بالمخلوقين إلى رب العالمين هي طريقة الصابئة -أحد الفرق الست التي عدهم الله في سورة الحج حيث قال: ((إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا)) [الحج:17] وذكرهم الله في آيات تضمهم إلى أهل الكتاب -كما حققه الأئمة من أهل الملل والنحل كعبد الكريم الشهرستاني(1) وغيره.
التوسل المشروع ثلاثة أنواع:
__________
(1) ومن ذلك ما نقله الشهرستاني في الملل والنحل (2/32) عن الصابئة إنهم قالوا: (طريقنا في التوسل إلى حضرة القدس ظاهر، وشرعنا معقول، فإن قدماءنا من الزمان الأول لما أرادوا الوسيلة عملوا أشخاصاً في مقابلة الهياكل العلوية على نسب وإضافات راعوا فيها جوهراً وصورة، وعلى أوقات وأحوال وهيئات أوجبوا على من يتقرب بها إلى ما يقابلها من العلويات: تختم ولباساً، وتبخراً ودعاء وتعزيماً، فتقربوا إلى الروحانيات، فتقربوا إلى رب الأرباب، ومسبب الأسباب، وهو طريق متبع، وشرع ممهد، لا يختلف بالأمصار والمدن، ولا يتسخ بالأدوار والأكوار. ونحن تلقينا مبدأه من عاذيمون وهرمس العظيمين، فعكفنا على ذلك دائمين).(20/89)
والمعروف كتاباً وسنة أن نسأل الله تعالى بأسمائه وصفاته وهذا هو أحد التأويلين في قوله تعالى: ((وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا)) [الأعراف:180] مثل الدعاء المأثور الصحيح إنه قال: (ما أصاب عبداً قط هم ولا حزن فقال: اللهم إني عبدك، وابن عبدك، وابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماضٍ في حكمك، عدلٌ في قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبي، وشفاء صدري، وجلاء حزني، وذهاب همي وغمي إلا أذهب الله تعالى همه وغمه، وأبدل مكانه فرحاً)(1) وهذا أحد ثلاثة أنواع شرعت في الدعاء.
الثاني: أن تدعوه متوسلاً بفقرك وحاجتك نحو أن تقول: أنا العبد الفقير الخائف المستجير، ومنه قول أبي البشر ((رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ)) [الأعراف:23] فتوسل بظلمه(2) أن جعله عنوان سؤاله، ومثله الدعاء الذي علمه صلى الله عليه وآله وسلم أبا بكر وقد سأله أن يعلمه دعاءً يدعو به في صلاته، فقال: (قل: اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً...)(3) الحديث صحيح.
والثالث: أن تدعو الله طالباً لحاجتك غير متوسل باسم من أسمائه(4)، ولا بحاجتك وفقرك، وأما التوسل بالمخلوقين في الأدعية فهو بدعة وكل بدعة ضلالة ولا يقبل لصاحب بدعة صرفاً ولا عدلاً.
كلام المصنف على (عمارة المشاهد):
قوله: (أو عمارة مشهده).
__________
(1) أخرجه أحمد (1/391) والحاكم (1/509) وغيرهما. قال الهيثمي في جمع الزوائد (10/136): (رواه أحمد وأبو يعلى والبزار إلا إنه قال: (وذهاب غمي) مكان (همي) والطبراني، ورجال أحمد وأبي يعلى رجال الصحيح غير الجهني، وقد وثقه ابن حبان). اهـ.
(2) في (أ): (لظلمه).
(3) رواه البخاري (2/317 فتح) ومسلم (4/2078).
(4) في (أ) (أسمائك) وهو تصحيف.(20/90)
أقول: هذا هو مسألة النذر على القبور وقد أشبعنا الكلام عليه في رسالتنا (تطهير الاعتقاد) وَأَبَنا أن الواجب هدم ما يعمرونه في القبور ويسمونه مشهداً عملاً بأمره صلى الله عليه وآله وسلم لأمير المؤمنين علي (عليه السلام) حين بعثه إلى اليمن أن لا يدع قبراً مشرفاً إلا هدمه وسواه بالأرض والحديث أخرجه مسلم(1).
من هم أهل السنة والجماعة:
قوله: (وقال العلامة ابن حجر: الحق أن أهل السنة والجماعة من الفقهاء والمحدثين والأصوليين.. إلى آخر كلامه).
أقول: فيه أولاً أبحاث:
الأول: أن أهل السنة هم الذين كانوا على طريقة المصطفى وأصحابه الذين لم يبتدعوا بدعة في الدين ولا خالفوا طريق سيد المرسلين وهؤلاء الذين أرادهما ابن حجر من أهل الابتداع لمسائل الكلام وغيرها وأعظمها بدعة عبادة القبور والتسريج عليها والنذور، فإن قلنا أن البدعة لا تضرهم في تسميتهم أهل السنة فإنها لا تضر المعتزلة وأشباههم؛ بل والخوارج لأن لكل نسبة في الجملة إلى السنة.
الثاني: اشترط في الأولياء السلامة من الهفوات والزلل، فإنه شرط لم يأت به المجيب في أول كلامه ولا يقوله أحدٌ فإن بني آدم كلهم خطاءون كما في الحديث، وخيرُ الخطائين التوابون(2).
__________
(1) صحيح مسلم (2/666).
(2) رواه أحمد (3/198) والترمذي (4/659) وابن ماجه (2/1420) والبغوي في شرح السنة (5/92) وقال الألباني في تخريج المشكاة (2/725): (وإسناده حسن).(20/91)
الثالث: ذكر إنه يخرج الولي من قبره ويقضي حوائج الناس، والآيات القرآنية والأحاديث النبوية والمعلوم من الضرورة الدينية أن من واراه القبر لا يخرج منه إلا في المحشر. قال الله تعالى: ((مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى)) [طه:55] ولم يقل تارات أخر. وقال تعالى: ((ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ * ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ)) [عبس:21-22] قال الله تعالى ((أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ)) [يس:31] وأما الأحاديث النبوية فإنها متواترة أن من أدخل قبره لا يخرج منه إلا عند النفخة الثانية في الصور وقد سردها السيوطي في شفاء الصدور في أحوال الموتى والقبور(1)، وقد ذكرنا من ذلك عدة أحاديث صحيحة في كتابنا (جمع الشتيت)(2).
وبالجملة فالقول بخروج الميت من قبره وبروزه بشخصه لقضاء أغراض الأحياء قول مخالف للعقل والنقل، وهو غير محل النزاع، فإن النزاع إنما هو في حصول الكرامة للميت لا في خروجه من قبره.
مناقشة المردود عليه في قوله: (إن الخضر كان يحضر مجلس فقه أبي حنيفة يتعلم علم الشريعة):
الرابع: قوله: (إن الخضر كان يحضر مجلس فقه أبي حنيفة يتعلم علم الشريعة).
__________
(1) انظر: شرح الصدور بشرح حال الموتى والقبور للسيوطي (ص:100 وما بعدها).
(2) انظر: جمع الشتيت (ص:57 وما بعدها).(20/92)
أقول: أولاً أن أئمة العلم من المحققين قائلون بعدم حياة الخضر ولم يأت حديثٌ صحيحٌ أنه حيٌ، ولا أتى حديث صحيح(1) أنه لقي نبينا محمداً صلى الله عليه وآله وسلم. قال الحافظ ابن حجر: الذي جزم به البخاري وإبراهيم الحربي وابن العربي وطائفة عدهم من الأئمة أنه قد مات، وذكر أدلة القائلين بحياته والقائلين بوفاته وأطال في ذلك وقوى وفاته(2)، والجواب لا يتسع لها. هذا الجواب، ثم سلمنا أنه حي(3)، أما كان له في التعلم للشريعة المحمدية من الآتي بها محمد بن عبد الله في حياته كفاية يأخذ عنه كما أخذ عنه الصحابة، ثم هلا أخذها عن الصحابة من بعده صلى الله عليه وآله وسلم، ولم تأخر أخذه لها إلى عصر أبي حنيفة وصبر على الجهل بها هذه المدة الطويلة، ثم ماذا كان يأخذ منه؟ هل علم درايته وفروعه التي قاسها، أم علم روايته؟
الأول لا يحتاج إليه إلا من يقلد أبا حنيفة، وللفرض(4) أن الخضر نبي لا يجوز له التقليد، وإن كان الثاني فأبو حنيفة ليس من المكثرين في علم الرواية.
__________
(1) في (أ) (حديثاً صحيحاً). وهو تصحيف.
(2) انظر: فتح الباري (6/434) وقد أفرد ابن حجر في الخضر رسالة مستقلة أسماها (الزهر النضر في نبأ الخضر).
(3) أي: جدلاً على وجه التنزل مع الخصم.
(4) في (ب): (والغرض).(20/93)
والعجب من هزوهم بالأنبياء ونيلهم من قصور همة الخضر كيف لم يأخذ عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم علم الشريعة ولا عن علي(1) ولا عن أحد من الصحابة، وكأنه أخذ عن أبي حنيفة فروعه الفقهية طمعاً في أن يتولى القضاء في بلاد الحنفية ولعله أدرك فتاوى القاضي خان(2) وغيره من حنفية الزمان فإن لم يكن هذا القول من أقوال أهل الجنون وإلا فلا جنون في الأكوان، وأعجب من هذا قول السيوطي: (أن من كرامة الولي أن يرى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويجتمع به في اليقظة ويأخذ عنه ما قسم من مذاهب ومعارف).
قال: (وممن نص على ذلك من أئمة الشافعية الغزالي والسبكي واليافعي، ومن المالكية القرطبي وابن أبي حمزة وابن الحاج في المدخل). قال: (وحكي عن بعض الأولياء أنه حضر مجلس فقيه فروى ذلك الفقيه حديثاً، فقال له الولي: هذا الحديث باطل. فقال له الفقيه: من أين لك هذا؟ قال: هذا النبي واقفٌ على رأسك يقول: إني لم أقل هذا الحديث. وكُشف للفقيه فرآه. وقال الشيخ أبو الحسن الشاذلي: لو حجب عني النبي صلى الله عليه وآله وسلم طرفة عين ما عددت نفسي من المسلمين)(3).
__________
(1) لا وجه لتخصيص: علي رضي الله عنه بالذكر من بين الخلفاء رضي الله عنهم.
(2) هو أبو المحاسن حسن بن منصور بن محمود البخاري الحنفي الأوزجندي، من مؤلفاته الفتاوى، وقد طبع منه بعض الأجزاء، توفي سنة (592هـ). انظر ترجمته في السير للذهبي (21/231).
(3) انظر: نزول عيسى بن مريم آخر الزمان للسيوطي (ص:44-46).
وقول الشاذلي هذا إن صح عنه فهو ضلال وباطل، وهو مردود بما جاء في ترجمته في شذرات الذهب لابن العماد (5/279) أنه قال: (كل علم تسبق إليك فيه الخواطر وتميل النفس وتلتذ به فارم به وخذ بالكتاب والسنة). وبقوله هذا يرد كل ضلاله وأباطيله المخالفة للكتاب والسنة.(20/94)
وهذا استدل به السيوطي على أن عيسى بن مريم إذا نزل من السماء آخر الزمان فإنه يأخذ علم شريعة النبي محمد عنه صلى الله عليه وآله وسلم وهو في قبره(1).
وأما الخضر فقالوا: أخذ عن أبي حنيفة خمسة عشر سنة بعد موته، وفيه دلالة على بلادة الخضر عندهم وقلة فهمه حيث بقي هذه المدة يأخذ العلم.
والحاصل: أن هذا كلام لا تجري به أقلام من لهم عقول فضلاً عمن يعرف آثارة(2) من علم معقول أو منقول، وقد ثبت أن أبا بكر الصديق وعمر الفاروق كانا يتمنيان لو سألا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن مسائل من علم الدين، وهذا أبو بكر يقول للجدة لما جاءت تطلب ميراثها من ابن ابنها أو ابن بنتها. ما أجد لك في الكتاب شيئاً ولا سمعت من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شيئاً وسأسأل الناس العشية، فلما صلى الظهر أقبل على الناس فقال: أن الجدة أتتني تسألني ميراثها. إلى أن قال: فهل سمع أحدٌ منكم من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شيئاً؟ فقام المغيرة بن شعبة فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقضى لها بالسدس فقال: هل سمع ذلك معك أحد فقام محمد بن سلمة فقال: كقول المغيرة(3).
__________
(1) ذكر السيوطى في رسالته: (نزول عيسى بن مريم آخر الزمان) (ص:29-43) أنْ معرفة عيسى لأحكام هذه الشريعة يمكن أن يكون من أربعة طرق، والرابع منها هذا الذي أشار إليه المصنف هنا؟!
(2) في (ب) (بارقة).
(3) رواه الترمذي (4/419) وأبو داود (3/121) وابن ماجه (2/909). قال الألباني في الإرواء: (6/124) (ضعيف).(20/95)
ومثله قصة عمر في الاستئذان(1) ورجوعه إلى أمير المؤمنين علي (عليه السلام) في عدة وقائع(2)، وكم من مسائل اجتهد فيها الصحابة وهم في الحجرة النبوية وفي المدينة الطيبة. فكيف ساغ لهم الاجتهاد مع إمكان وجود النص وأخذه عن لسان المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم. وكم وكم من قضايا حار فيها الصحابة فرجعوا إلى الرأي وبعضهم كان لا يعلم الحديث في القضية التي حار فيها حتى يرويها له بعض الصحابة، ولا حاجة إلى التطويل لذلك.
__________
(1) روى هذه القصة البخاري (11/27 فتح) ومسلم (3/1694) عن أبي سعيد الخدري قال: (كنت في مجلس من مجالس الأنصار، إذ جاء أبو موسى كأنه مذعور، فقال: استأذنتُ على عمر ثلاثاً فلم يؤذن لي فرجعت، فقال: ما منعك؟ قلت: استأذنتُ ثلاثاً فلم يؤذن لي فرجعت، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا استأذن أحدكم ثلاثاً فلم يؤذن له فليرجع. فقال: والله لتقيمن عليه بينة. أمنكم أحد سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم؟ فقال أبي بن كعب: والله لا يقوم معك إلا أصغر القوم، فكنت أصغر القوم، فقمت معه فأخبرت عمرَ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك).
(2) لو قال: ورجوع الصحابة بعضهم إلى بعض في عدة وقائع لكان أولى.(20/96)
فيا عجباه لعقول تقبل هذا الهذيان، ومن قوم يعدون أنفسهم من العلماء الأعيان، ثم يصيرون كعبدة الأوثان يعتقدون في القبور والموتى بما لم يأتوا عليه ببرهان، وينسون ما قاله سيد ولد عدنان صلى الله عليه وسلم وعلى آله ما اختلف الملوان حيث يقول: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ)(1)، ويقول: (خير القرون قرني)(2) ثم تأتي هذه الحثالة هذه الجهالة بعد مضي القرون الفاضلة وذهاب الأمم الفاضلة فيجعلون القبور أوثاناً، وأموالهم لها نذراً وقرباناً، وينبذون وراء ظهورهم سنة وقرآنا، ويأتون هذه البدع التي تقشعر منها الجلود وبهذه الكذبات على عباد الله التي ضمتهم بطون اللحود؛ كقولهم أن هذا الحنفي قال في مرض موته: إنهم يأتون لحاجتهم إلى قبره وإنه لا يحجبه عنهم ذراع من تراب فإن كان هذا كذباً عليه فقد خاب من افترى، وإن كان قاله فما على المريض حرج، فإنه يحصل الهذيان للمرضى، ويأتون من الأقوال والأفعال بما لا يُرضى.
ويا عجباه هذا رسول الله محمد بن عبد الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول يوم القيامة وهو على حوضه ورأى جماعة من أصحابه يذادون عن الحوض فيقول أصحابي! أصحابي! فيقال له: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك. فيقول سحقاً سحقاً. لمن بدل بعدي(3)، فلم يعرف صلى الله عليه وآله وسلم تبديل من بدل إلا يوم القيامة وهؤلاء يقولون: لا يحجب الولي عن أصحابه ذراع من تراب، بل يعلم بأصحابه ويقضى حوائجهم. وأحاديث إنه يذاد عن الحوض أقوامٌ من أصحابه صحيحة متواترة.
__________
(1) جزء من حديث العرباض بن سارية.
(2) رواه البخاري (7/3 فتح) ومسلم (4/1963) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، ولفظه: (خير الناس قرني...).
(3) رواه البخاري (13/3 فتح) ومسلم (4/1793) من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه، وفي الباب أحاديث أخرى عديدة عن أنس وأبي هريرة وأبي سعيد الخدري وغيرهم.(20/97)
مناقشة المصنف لقول المردود عليه بتقبيل توابيت الأولياء وأعتابهم:
قوله: (وأما تقبيل توابيت الأولياء وأعتابهم فلا خلاف في جوازه ولا كراهة).
أقول: التقبيل للجمادات لم يثبت إلا في تقبيل الحجر الأسود، كما أخرجه النسائي من حديث عمر. عن ابن عباس قال: رأيت عمر قبل الحجر ثلاثاً ثم قال: إنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قبلك ما قبلتك(1). قال الطبري: ((إنَّما قال عمر ذلك لأنَّ النَّاس كانوا حديثي عهد بعبادة الأصنام فخشي عمر أن يظن الجهال أن تقبيل الحجر من باب تعظيم بعض الأحجار كما كانت العرب تفعل في الجاهلية فأراد أن يبين لهم أنَّ ما فعله اتباعاً لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا لأن الحجر يضر أو ينفع(2)))(3) انتهى.
__________
(1) حديث ابن عباس أنه قال: (رأيت عمر بن الخطاب قبل الحجر ثلاثاً قال: إنك حجر لا تنفع ولا تضر، ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبلك ما قبلتك) رواه النسائي (5/227) وفي زيادة: (ثم قال عمر رأيت رسول الله فعل مثل ذلك). قال الألباني في ضعيف سنن النسائي (ص:106) (ضعيف الإسناد، منكر بهذا السياق) لكن قول عمر بن الخطاب موقوفاً عليه: (إنى أعلم أنك حجر لا تنفع ولا تضر، ولولا أني رأيت رسول الله صلى قبلك ما قبلتك) صحيح ثابت. رواه البخاري (3/462 فتح) ومسلم (2/925).
(2) في الأصل (تضر أو تنفع).
(3) نقله الحافظ في الفتح (3/463).(20/98)
فهذا الذي ورد في تقبيل الجماد ولا يقاس على الحجر الأسود غيرها(1) ؛ لإنها اختصت بخصائص ليست لشيء من الجمادات؛ ولأن تقبيلها لحكمة تختص بها فإنه أخرج الحاكم من حديث أبي سعيد أن عمر لما قال هذا قال له علي بن أبي طالب: إنه يضر وينفع، وذكر أن الله لما أخذ الميثاق على ولد آدم كتب ذلك في رق وألقمه الحجر الأسود. قال: وقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (يؤتى يوم القيامة بالحجر الأسود وله لسانٌ ذلقٌ يشهد لمن استلمه بالتوحيد)(2). انتهى. فهذه خاصة بالحجر الأسود ولا يلحق بها غيرها؟ إذ من شرط القياس الاشتراك في العلة اتفاقاً، وبهذا يعلم بطلان ما نقله الحافظ ابن حجر في فتح الباري من أنه استنبط بعضهم من تقبيل الحجر الأسود تقبيلَ كل من يستحق التعظيم(3) فإنه استنباطٌ باطلٌ، ولو سلمنا صحته فقد عارضه مفسدةٌ عظيمةٌ وهي أن تقبيل القبور والأخشاب التي تنحت عليها ويقال لها التوابيت هو بعينه التي كانت تفعله عباد الأوثان لأوثانهم وهي من جملة عبادتها(4)، إذ كل تعظيم فهو من العبادة، وتعظيم جماد لا يضر ولا ينفع منهي عنه؛ لأن التعظيم من خاصية المعبود بحق فلا تعظيم إلا له تعالى بالعبادة بكل جارحة من الجوارح ومن أذن لنا بأن نعظمه من الأحياء من الأنبياء والمرسلين والعلماء العاملين ونحو ذلك.
وأما قوله: (أنه أفتى بجواز ذلك الرملي).
فمجرد فتواه لا يحق باطلاً ولا يحلل محرماً ولا يحرم حلالاً حتى يأتي بالدليل وعليه يدور القال والقيل.
__________
(1) تكرر عند المصنف هنا وفيما سيأتي إعادة الضمير على الحجر الأسود بضمير التأنيث وهو خطأ.
(2) رواه الحاكم (1/457) وفي إسناده أبو هارون العبدي، قال الذهبي في تلخيص المستدرك: (وأبو هارون ساقط)، وقال ابن حجر وقد أورد الحديث في الفتح (3/462): (وفي إسناده أبو هارون وهو ضعيف جدا).
(3) انظر: فتح الباري (3/475).
(4) في (أ): (وهم من جملة عبادها).(20/99)
والعجب قوله آخراً: (وهذا كله ظاهرٌ غنيٌ عن طلب دليل) كأنه جعله من ضروريات الدين. نعم هو من ضروريات الدين دين الجاهلين عُباد القبور المغفلين الذين يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون، بل التحقيق أنهم ما عرفوا ظاهر الحياة حيث قَبلوا بالأفواه وعفروا الجباه لمن لا ينفعهم شيئاً ولا يضرهم، أفٍ لهم ولما يعبدون، فإن من عرف الظاهر من الدنيا يحرص على أن لا يبذل مقالاً ولا مالاً ولا قُبلةً ولا استلاماً إلا إذا كان لأمر يعود عليه نفعه في دينه أو دنياه، ولقد عقل هذا المشركون عُباد الأصنام لما قال لهم الخليل: ((قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَاماً فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ * قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ * أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ * قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ)) [الشعراء:70-74] فانظر كيف أجابوا بإنها لا تسمع ولا تضر ولا تنفع، بل أثبتوا عبادتها لإنهم ألفوا آباءهم ضالين فهم على آثارهم يهرعون، فلقد عقل المشركون(1) مالا يعقله الجاهلون من هذه الأمة فإن هؤلاء الجهلة قالوا بنفع هؤلاء الأموات وتقبيل القبور لما فيها من العظام النخرة الرفات وهذا ليس وراءه ضلال، وليس لإبليس بعده في الغواية مجال، إذ ابتدع هؤلاء القبوريون هذه الابتداعات من العمارة على القبور وإضاعة الأموال في رص الأحجار عليها والصخور وتسميتها بالقباب والمشاهد وإقرار عين إبليس هذه البدع التي هي للشريعة أعظم مضادة، ثم جعل عليه التابوت وكسوته بنفيس الثياب، وهذا هو والله بعينه الذي كانت تصنعه عُباد الأوثان والكلاب ثم الكتب عليه وإيقاد الشموع والقنديل والمصباح وهذا هو الذي لعن المصطفى فاعله في الأحاديث الصحاح.
نقل مطول عن ابن القيم رحمه الله في أن أصل تعظيم القبور مأخوذ من عبّاد الأصنام:
__________
(1) في (أ): (المشركين) وهو خطأ.(20/100)
قال ابن القيم في إغاثة اللهفان: (أصل تعظيم القبور مأخوذ من عُباد الأصنام فإنهم قالوا: الميت المعظم الذي لروحه قرب من الله تعالى ومزية لا تزال تأتيه الألطاف من الله وتفيض على روحه الخيرات، فإذا علق الزائر روحه به وأدناها منه فاض من روح المزور على روح الزائر من تلك الألطاف(1) بواسطتها؟ كما ينعكس الشعاع من المرآة الصافية والماء ونحوه على الجسم المقابل له. قالوا: فحق الزيارة(2) أن يتوجه الزائر بروحه وبقلبه إلى الميت ويعكف همته عليه ويوجه قصده كله وإقباله عليه بحيث لا يبقى فيه التفات إلى غيره، وكلما كان جَمعُ الهمة والقلب عليه كان أعظمَ لانتفاعه به(3)، وذكر هذه الزيارة على هذا الوجه ابن سينا والفارابي وغيرهما، وصرح بها عُباد الكواكب في عبادتها، قالوا: إذا تعلقت النفس الناطقة بالأرواح العُلوية فاض عليها منها النور، وهذا السر عُبدت الكواكبُ، واتخذت لها الهياكلُ، وصُنعت(4) لها الدعواتُ، واتَخذت الأصنام المتخذة(5) لها وهذا بعينه هو الذي أوجب لعُباد القبور اتخاذها أعياداً، وتعليق الستور عليها وإيقاد السرج عليها، وبناء المساجد عليها، وهذا هو الذي قصد صلى الله عليه وآله وسلم إبطاله بالكلية، وسد الذرائع المفضية إليه، فوقف المشركون في طريقه وناقضوه من قصده، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في شق وهؤلاء في شق، وهذا الذي ذكره هؤلاء في زيارة القبور هي الشفاعة التي ظنوا أن آلهتهم تنفعهم بها وتشفع لهم عند الله [قالوا: فإن العبد إذا تعلقت روحه بروح الوجيه المقرب عند الله](6) وتوجه بهمته
__________
(1) في الأصل: (من روح المزور فاض من روح الزائر من تلك الألطاف) والتصويب من الإغاثة.
(2) في الإغاثة: (فتمام الزيارة).
(3) في الإغاثة: (وكلما كان جمع الهمة والقلب عليه أعظم كان أقرب إلى انتفاعه به).
(4) في (ب) (وصيغت) وفي الإغاثة: (وصُنفت).
(5) في الإغاثة: (المجسدة).
(6) زيادة من الإغاثة.(20/101)
إليه وعكف قلبه عليه صار بينهم وبينه اتصال يفيض به عليه [منه] نصيب مما يحصل له من الله وشبهوا ذلك بمن يخدم ذا جاه وحظوة وقرب من السلطان فهو شديد التعلق به فما حصل لذلك من السلطان من الإفضال والإنعام فإنه ينال ذلك المتعلق به بحسب تعلقه.
فهذا سر عبادة الأصنام وهو الذي بعث الله رسله وأنزل كتبه بإبطاله وتكفير أصحابه ولعنهم وأباح أموالهم ودماءهم وسبى ذراريهم وأوجب لهم النار، والقرآن من أوله إلى آخره مملوء من الرد على أهله وإبطال مذهبهم.(20/102)
قال تعالى: ((أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ * قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)) [الزمر:42-44] فأخبر أن الشفاعة لمن له ملك السموات والأرض وهو الله وحده، والشفاعة له، والذي يشفع إنما يشفع بإذنه له وأمره بعد شفاعته سبحانه إلى نفسه وهي إرادته من نفسه أن يرحم عبده وهذا ضد الشفاعة الشركية التي أثبتها هؤلاء المشركون ومن وافقهم وهي التي أبطلها سبحانه وتعالى في كتابه بقوله: ((وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ)) [البقرة:123] وقوله: ((مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ)) [البقرة:254] وقوله: ((وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ)) [الأنعام:51] وقال تعالى: ((اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ)) [السجدة:4] فأخبر سبحانه إنه ليس للعباد شفيع من دونه؟ بل إذا أراد تعالى رحمة عبده أذن هو لمن يشفع فيه كما قال تعالى: ((مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ)) [يونس:3] وقال تعالى: ((مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ)) [البقرة:255] فالشفاعة بإذنه ليست شفاعته من دونه، فالشفاعة التي أبطلها شفاعة الشريك، والشفاعة التي أثبتها شفاعة العبد المأمور الذي لا يشفع ولا يتقدم بين يدي مالكه حتى يأذن له ويقول: اشفع في فلان إذا كان المشفوع له ممن ارتضاه سبحانه لقوله:(20/103)
((وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى)) [الأنبياء:28] وقال ((يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً)) [طه:109] فأخبر تعالى أنها لا تحصل يومئذ شفاعة تنفع إلا بعد رضاه قول المشفوع له وإذنه للشافع فيه، وسر هذا كله أن الأمر كله بيده وحده فليس لأحد معه من الأمر شيء، وأعلى الخلق وأفضلهم وأكرمهم عنده هم الرسل والملائكة المقربون وهم عبيدٌ لا يسبقونه بالقول ولا يتقدمون بين يديه ولا يفعلون شيئاً إلا بعد إذنه وأمره.
وأما قياس رب العالمين على الكبراء حيث يتخذ الرجل من خواصه وأوليائه من يشفع عنده في الحوائج فهذا قياسٌ فاسدٌ والفرق بينهما هو الفرق بين الخلق والخالق والرب والعبد والمالك والمملوك والغني والفقير والذي لا حاجة له إلى أحد قط، والمحتاج من كل وجه إلى غيره))(1)، فأي قياس أبطل في الوجود من هذا القياس مع مخالفته للنصوص القرآنية والسنة الإلهية والطريقة الإيمانية.
نهاية الرسالة:
وقد انتهى ما أردت بطلانه لوجوب ذلك علي، ووجوب بيانه، حذراً من اغترار الجهال بهذه الضلالات من الأقوال، لعموم الجهال وعدم العلماء العاملين الناصحين للأمة بالأقوال والأفعال وحسبنا الله ونعم والوكيل، عليه لا على غيره الاتكال وصلى الله على سيدنا محمد وآله خير آل.
__________
(1) إغاثة اللهفان لابن القيم (1/237-239)، وفي النقل حذف في عدة مواطن، وتصرف يسير، وقد أضفت من الإغاثة إلى النقل ما يلزم إضافته، وجعلته بين معكوفتين.(20/104)
انتهت الرسالة الجليلة والحمد لله كثيراً، فرغت من نقلها يوم الأربعاء من بواقي ربيع الأول عام(1).
فهرس المصادر والمراجع
إتحاف الجماعة بما جاء في الفتن والملاحم وأشراط الساعة: للشيخ حمود التويجري، طبع مطابع الرياض، الأولى (1394هـ).
إجابة السائل شرح بغية الأمل: للصنعاني، تحقيق حسين السياغي، والدكتور حسن الأهدل، مؤسسة الرسالة، بيروت، ومكتبة الجيل الجديد، صنعاء، الأولى (1406هـ).
الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان: لعلاء الدين علي بن بلبان، تحقيق شعيب الأرناؤوط، مؤسسة الرسالة، الأولى (1408هـ).
أخبار أصفهان: لأبي نعيم، طبعة مطبعة بريل، ليدن.
الأدب المفرد: للبخاري، عالم الكتب، بيروت، الأولى (1404هـ).
إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل: للألباني، المكتب الإسلامي، بيروت، الأولى (1399هـ).
الإصابة في تمييز الصحابة: لابن حجر، دار إحياء التراث العربي، بيروت.
__________
(1) هذا ما ختمت به النسخة (أ)، وأما النسخة (ب) فقد كان في خاتمتها ما يلي: (فرغ من نقلها ليلة ثمان يوم من شهر جمادى الآخرة سنة (1177)، قال في الأصل المنقول منها هذه النسخة من خط العلامة الزاهد ضياء الإسلام سعيد بن حسن العنسي تلميذ المؤلف والمجاز له في مؤلفاته، وعلى ظهر النسخة المنقول منها بخط المؤلف السيد محمد بن إسماعيل الأمير ما لفظه: (هذا الفتاة رداً على رسالة وصلت من مصر فيها عجائب وغرائب تنافي الشريعة المحمدية فوجب بيان ما يجب بيانه مما هو مخالف للكتاب والسنة بل وللعقل كما يعرفه من يقف عليه) انتهى وكتبها لنفسه الفقير إلى الله سعيد بن حسن العنسي وفقه الله، وحرر هذه النسخة من الأصل المذكور (...) شهر جمادى الأولى سنة (1332) بخط الفقير إلى الله عبد الله بن محمد العدوي وفقه الله) انتهى.
وهذا آخر ما أردت تعليقه على هذا الكتاب، والله وحده الموفق للصواب، له الحمد لا شريك له.(20/105)
إغاثة اللهفان: لابن القيم، تحقيق محمد الكيلاني، مطبعة مصطفى البابي الحلبي، القاهرة.
الاقتباس لمعرفة الحق من أنواع القياس: للصنعاني، تحقيق عبد الله بن محمد الحاشدي، مكتبة السوادي، الأولى (1416هـ).
الأولياء: لابن أبي الدنيا، تحقيق مجدي السيد إبراهيم، مكتبة القرآن، القاهرة.
إيضاح المكنون في الذيل على كشف الظنون: لإسماعيل باشا، الفيصلية، مكة.
إيقاظ الفكرة لمراجعة الفطرة: للصنعاني، تحقيق عبد الله شاكر محمد الجنيدي، رسالة علمية مقدمة في الجامعة الإسلامية لنيل درجة الدكتوراه.
البحر المحيط: للزركشي، نشر وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بالكويت، الثانية (1413هـ).
البداية والنهاية: لابن كثير، مكتبة المعارف، بيروت، الثانية (1397هـ).
البدر الطالع. محاسن من بعد القرن السابع: للشوكاني، مطبعة السعادة، القاهرة، الأولى (1348هـ).
تبرئة الشيخين الإمامين من تزوير أهل الكذب والمين: لسليمان بن سحمان، طبعة دار العاصمة، الرياض، الثانية (1410هـ).
تذكرة الموضوعات: لمحمد بن طاهر الهندي الفتني، نشر أمين دمج، بيروت.
تفسير البيضاوي المسمى أنوار التنزيل وأسرار التأويل: دار الكتب العلمية، بيروت، الأولى (1408هـ).
تفسير القرآن العظيم: لابن كثير، طبعة الشعب، القاهرة.
تقريب التهذيب: للحافظ ابن حجر، تحقيق أبي الأشبال صغير أحمد شاغف، دار العاصمة، الرياض، الأولى (1416هـ).
التوقيف على مهمات التعاريف: للمناوي، تحقيق الدكتور عبد الحميد صاع حمدان، عالم الكتب، القاهرة، الأولى (1410هـ).
تيسير العزيز الحميد: للشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبدالوهاب، المكتب الإسلامي، بيروت، الثالثة (1397هـ).
ثمرات النظر في علم الأثر: للصنعاني، تحقيق رائد بن صبري بن أبي علفة، دار العاصمة، الرياض، الأولى (1417هـ).
جامع البيان عن تأويل آي القرآن: لابن جرير الطبري، دار الفكر (1405هـ).
جامع العلوم والحكم: لابن رجب، دار المعرفة، بيروت.(20/106)
الجامع لأحكام القرآن: للقرطبي، دار الكتب العلمية، بيروت، الأولى (1408) حص.
جمع الجوامع: لابن السبكي مع شرحه للمحلي، طبعة مصطفى البابي الحلبي، القاهرة، الثانية (1356هـ).
جمع الشتيت في شرح أبيات التثبيت: للصنعاني، مطبعة القادر، كراتشي، الثانية (1398هـ).
جمع جهود الحفاظ النقلة بتواتر روايات زيادة العمر بالبر والصلة: للطفي بن محمد بن يوسف الصغير، أضواء السلف، الرياض، الأولى (1418هـ).
حصول الرفق في أصول الرزق: للسيوطي، تحقيق أبي الفضل الحويني دار الصحابة للتراث، الأولى (1410هـ).
حلية الأولياء وطبقات الأصفياء: لأبي نعيم، دار الكتاب العربي، بيروت، الثانية (1387هـ).
حياة الأنبياء صلوات الله عليهم بعد وفاتهم: للبيهقي، تحقيق الدكتور أحمد عطية الغامدي، مكتبة العلوم والحكم، المدينة، الأولى (1414هـ).
الدر المصون في علوم الكتاب المكنون: للسمين الحلبي، تحقيق د. أحمد الخراط، دار القلم، دمشق، الأولى (1406هـ).
درء تعارض العقل والنقل: لابن تيمية، تحقيق د. محمد رشاد سالم، نشر جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، الأولى (1399هـ).
دفاع عن الحديث النبوي والسيرة: للألباني، مؤسسة الخافقين، دمشق.
دلائل النبوة: للبيهقي، تحقيق د. عبد المعطي قلعجي، دار الكتب العلمية، بيروت، الأولى (1405هـ).
ديوان الأمير الصنعاني: مطبعة المدني، القاهرة، الأولى (1384هـ).
الرسائل التسع: للسيوطي، دار إحياء العلوم، بيروت، الأولى (1405هـ).
الرسالة التبوكية: لابن القيم، تحقيق طارق السعود، مكتبة المنار ودار الهجرة، الثالثة (1405هـ).
الرسالة القشيرية: لأبي القاسم عبد الكريم القشيري، دار الكتاب العربي، بيروت.
رصف المباني في شرح حروف المعاني: لأحمد المالقي، تحقيق د. أحمد الخراط، مطبوعات مجمع اللغة العربية بدمشق.
الروح: لابن القيم، دار الكتاب العربي، الثالثة (1408هـ).(20/107)
الزهد: للإمام أحمد، تحقيق محمد زغلول، دار الكتاب العربي، بيروت، الأولى (1406هـ).
الزهد: لهناد بن السري، تحقيق عبد الرحمن الفريوائى، دار الخلفاء للكتاب الإسلامي، الكويت، الأولى (1406هـ).
زيادة الإيمان ونقصانه وحكم الاستثناء فيه: لعبد الرزاق البدر، دار القلم والكتاب، الرياض، الأولى.
سلسلة الأحاديث الصحيحة: للألباني، المكتب الإسلامي، بيروت، الثالثة (1403هـ).
سلسلة الأحاديث الضعيفة: للألباني، المكتب الإسلامي، بيروت، الرابعة (1398هـ).
السنة: لابن أبي عاصم، المكتب الإسلامي، بيروت، الثانية (1405هـ).
سنن أبي داود: تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، دار إحياء السنة النبوية.
سنن ابن ماجه: تحقيق محمد فؤاد عبد الباقى، دار إحياء الكتب العربية.
سنن الترمذي: تحقيق أحمد شاكر وآخرين، دار إحياء التراث العربي.
سنن الدارمي: تحقيق عبد الله هاشم يماني، شركة الطباعة الفنية المتحدة، (1386هـ).
السنن الكبرى: للبيهقي، دار المعرفة، بيروت.
سنن النسائي بشرح السيوطي: دار إحياء الكتاب العربي، بيروت، الأولى (1348هـ).
سير أعلام النبلاء: للذهبي، مؤسسة الرسالة، بيروت، الثانية (1401هـ).
شذرات الذهب: لابن العماد، دار المسيرة، بيروت، الثانية (1399هـ).
شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة: لأبي القاسم اللالكائي، تحقيق د. أحمد سعد حمدان الغامدي، دار طيبة للنشر، الرياض.
شرح السنة: للبغوي، تحقيق زهير الشاويش وشعيب الأرناؤوط، المكتب الإسلامي، بيروت، الأولى (1390هـ).
شرح الصدور بشرح حال الموتى والقبور: للسيوطي، مطابع الرشيد، المدينة، (1403هـ).
شرح العقيدة الأصفهانية: لابن تيمية، تحقيق حسنين محمد مخلوف، دار الكتب الحديثة، القاهرة.
شرح العقيدة الطحاوية: تحقيق د. عبد الله التركى وشعيب الأرناؤوط، مؤسسة الرسالة، الثانية (1413هـ).(20/108)
شرح الكوكب المنير: لابن النجار، تحقيق الدكتور محمد الزحيلي والدكتور نزيه حماد، نشر مركز البحث العلمى بجامعة أم القرى.
شرح صحيح مسلم: للنووي، المطبعة المصرية، القاهرة.
صحيح سنن النسائي: للألباني، نشر مكتب التربية العربي لدول الخليج، الأولى (1409هـ).
صحيح مسلم: تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء التراث العربي، بيروت.
الصنعاني وكتابه توضيح الأفكار: للدكتور أحمد محمد العليمي، دار الأمة، دبي ودار الكتب العلمية بيروت، الأولى (1408هـ).
صيد الخاطر: لابن الجوزي، المكتبة العلمية، بيروت.
ضعيف سنن النسائي: للألباني، المكتب الإسلامى، بيروت، الأولى (1411هـ).
طبقات الشافعية: للأسنوي، تحقيق عبد الله الجبوري، مطبعة الإرشاد، بغداد (1390هـ).
الطبقات الكبرى: لابن سعد، دار صادر، بيروت.
عمل اليوم والليلة: لابن السني، تحقيق بشير عيون، مكتبة دار البيان، دمشق، الأولى (1407هـ).
عنوان المجد في تاريخ نجد: لعثمان بن بشر، مكتبة الرياض الحديثة.. الفتاوى الكبرى الفقهية: لابن حجر الهيتمي، نشر المكتبة الإسلامية، ديار بكر، تركيا.
فتح الباري بشرح صحيح البخاري: لابن حجر، دار المعرفة، بيروت.
الفردوس بمأثور الخطاب: للديلمي، دار الباز، مكة، الأولى (1406هـ).
الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان: لابن تيمية، تحقيق الدكتور عبد الرحمن بن عبد الكريم اليحيى، طبعة دار طويق للنشر والتوزيع، الأولى (1414هـ).
الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة: للشوكاني، تحقيق عبدالرحمن المعلمي، مطبعة السنة المحمدية، القاهرة، الأولى (1380هـ).
قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة: لابن تيمية، تحقيق الدكتور ربيع بن هادي مدخلي، مكتبة لينة، الأولى (1409هـ).
القاموس المحيط: للفيروزآبادي، مؤسسة الرسالة، بيروت، الثانية (1457هـ).
قصد السبيل إلى توحيد الحق الوكيل: نسخة مصورة في قسم المخطوطات بالجامعة الإسلامية برقم (590 فلم).(20/109)
اللآلئ المصنوعة في الأحاديث الموضوعة: للسيوطي، دار المعرفة، بيروت، الثانية فى (1395هـ).
لوامع الأنوار البهية: للسفاريني، مطبعة المدني، القاهرة.
المجروحين: لابن حبان، تحقيق محمود إبراهيم زايد، دار الوعي، حلب، الأولى (1306هـ).
مجمع الزوائد ومنبع الفوائد: للهيثمي، دار الكتاب العربي، بيروت، الثالثة (1402هـ).
مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية: جمع وترتيب عبد الرحمن بن محمد بن قاسم، مكتبة المعارف، الرباط.
مجموع مؤلفات الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب: نشر جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية.
مختصر الفتاوى المصرية: لشيخ الإسلام ابن تيمية، اختصار أبي عبد الله محمد بن علي البعلي، دار نشر الكتب الإسلامية، لاهور. مدارج السالكين: لابن القيم، تحقيق محمد حامد الفقي، دار الكتاب العربي، بيروت (1392هـ).
المستدرك على الصحيحين: للحافظ أبي عبد الله الحاكم، دار المعرفة، بيروت.
المسند: للإمام أحمد، المكتب الإسلامي، بيروت، الخامسة (1405هـ)..
المسند: للإمام أحمد، تحقيق أحمد شاكر، دار المعارف، مصر (1373هـ).
مسند أبي يعلى الموصلي: تحقيق حسين سليم أسد، دار المأمون للتراث، بيروت، الثانية (1410هـ).
مسند الطيالسي: دار المعرفة، بيروت.
مشكاة المصابيح: للخطيب التبريزي، تحقيق محمد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي، بيروت، الثالثة (1405هـ).
المصنف: للإمام عبد الرزاق، تحقيق حبيب الرحمن الأعظمي، المكتب الإسلامي، بيروت، الثانية (1403هـ).
المعجم الصغير: للطبراني، تحقيق محمد شكور محمود الحاج أمرير، المكتب الإسلامي، بيروت، ودار عمار بعمان، الأولى (1405هـ).
المعجم الكبير: للطبراني، تحقيق حمدي السلفي، الدار العربية للطباعة، بغداد.
معجم المؤلفين: لعمر رضا كحالة، دار إحياء التراث العربي، بيروت.(20/110)
المعجم الوسيط: لعدد من المؤلفين، دار إحياء التراث العربي، الثانية.. المغني في الضعفاء للذهبي، نشر إدارة إحياء التراث الإسلامي، قطر.. مفتاح دار السعادة: لابن القيم، دار الكتب العلمية، بيروت.
الملل والنحل: للشهرستاني، تحقيق محمد سيد كيلاني، دار المعرفة، بيروت (1404هـ).
المنار المنيف في الصحيح والضعيف: لابن القيم، تحقيق عبد الفتاح أبي غدة، نشر مكتبة المطبوعات الإسلامية، الثانية (1403هـ).
المنتخب من مسند عبد بن حميد: للحافظ أبي محمد عبد بن حميد، تحقيق صحبي السامرائى ومحمود الصعيدي، عالم الكتب، بيروت، الأولى (1408هـ).
الموضوعات: لابن الجوزي، تحقيق عبد الرحمن محمد عثمان، المكتبة السلفية، المدينة، الأولى (1386هـ).
النبوات: لابن تيمية، دار الكتب العلمية، بيروت (1402هـ).
نزهة النظر شرح نخبة الفكر في مصطلح أهل الأثر: لابن حجر، المكتبة العلمية.
نزول عيسى بن مريم آخر الزمان: للسيوطي، تحقيق محمد عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية، بيروت، الأولى (1405هـ).
النهاية في غريب الحديث والأثر: لابن الأثير، تحقيق طاهر أحمد الزاوي ومحمود محمد الطناحى، دار الباز، مكة.
نوادر الأصول في معرفة أحاديث الرسول: للحكيم الترمذي، دار صادر، بيروت.
الفهرس
مقدمة معالي مدير الجامعة الإسلامية…2
المقدمة…4
دراسة موجزة عن المؤلف…6
1- نسبه:…6
2- مولده:…6
3- شيوخه:…6
4- رحلاته:…6
5- مؤلفاته:…6
6- تلاميذه:…7
7- ثناء العلماء عليه:…7
8- عقيدته:…8
9- موقفه من دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله:…10
10- وفاته:…13
دراسة عن الكتاب…14
أولاً: عنوان الكتاب:…14
ثانياً: توثيق نسبته للمؤلف:…14
ثالثاً: سبب تأليفه:…14
رابعاً: أهمية موضوع الكتاب:…15
خامساً: التعريف بالنسخ الخطية المعتمدة:…19
سادساً: عملي في الكتاب:…20
سابعاً: نماذج من النسختين الخطيتين:…21
بداية النص المحقق…22
التحذير من الإحداث في الدين:…22(20/111)
الإحداث في الدين كالرد لقوله: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ):…23
سبب تأليف الكتاب:…23
تعريف المردود عليه للأولياء والرد عليه:…24
تلاقي تفسير الولي مع تفسير العدل:…24
تعريف الولي من خلال قوله تعالى: (أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ الله لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ):…25
رتبة الإيمان تتفاوت وكذلك التقوى:…26
حديث (لا يتسحق العبد صريح حق الإيمان حتى يحب الله...) وشرح المؤلف له:…27
الأحاديث الواردة في بقاء الطائفة المنصورة إلى يوم القيامة:…28
من هم الطائفة المنصورة؟…29
تعريف الأبدال وذكر غلو أهل الباطل في ذلك:…30
الأوتاد عند المتصوفة وعددهم وخصائصهم:…31
القطب وقد يسمى غوثاً وخصائصه عند المتصوفة:…31
النجباء وعددهم وخصائصهم عند المتصوفة:…32
بيان مجانبة أقوال هؤلاء لما جاءت به الرسل ولما وردت به الكتب:…32
بيان أن هذه الألفاظ مبتدعة محدثة إلا الأبدال فقد وردت فيه أحاديث:…33
ذكر الأحاديث الواردة فيه:…33
بيان أنّ في صحتها عند أهل الحديث مقالاً:…34
جعل بعض المتصوفة الولاية قسيماً للنبوة وبيان فساد ذلك:…34
قول البيضاوي أن التقوى ثلاث مراتب:…34
تعقب المصنف عليه:…35
قول المردود عليه (وكراماتهم ثابتة، وتصرفهم باقٍ إلى يوم القيامة):…35
نقله عن المعتزلة وكذلك أبي إسحاق الإسفرايني عدم إثبات وقوع الخوارق من الأولياء:…35
تقريره أن إعطاء المؤمن الكرامات بإجابة الدعوات وتيسر الطلبات أمر لا شك فيه:…36
موافقة المصنف لأبي إسحاق والمعتزلة في المنع من إثبات الخارق للأولياء وعدة ذلك توسطاً:…37
الإشارة إلى كتاب السيوطي (تطورات الولي) وبيان ما فيه من باطل:…37
نقل مطول عن ابن الجوزي من كتابه صيد الخاطر في التحذير من قبول الباطل اعتماداً على منزلة قائله في النفس:…38
حلف أبي يزيد البسطامي أن لا يشرب الماء سنة:…38
بيان ما في ذلك من باطل ومخالفة للسنة:…38(20/112)
لا يحتج بأسماء الرجال وإنما يحتج بالرسول صلى الله عليه وسلم:…39
قول ابن الجوزي: إن فقيهاً واحداً أفضل من ألوف يتمسح العوام بهم تبركاً:…39
من ورد المشرب الأول رأى سائر المشارب كدرة:…39
بيان أن علماء المتصوفة أتباع للعوام يروجون لهم الباطل:…40
رده على المردود عليه في قوله: إن كرامات الأولياء لا تنقطع بموتهم:…40
استدلال المردود عليه لذلك بأن الله قادر على كل الممكنات:…41
نقده الأشاعرة في تسميتهم أنفسهم أهل السنة:…41
رد المصنف قول المردود عليه بأن الكرامات للأولياء قد أثبتها علماء الإسلام قاطبة:…42
اعتماد المصنف مخالفة المعتزلة وأبي إسحاق الإسفرايني:…42
شروط المعجزة عند المصنف والتعقب عليه:…42
مسألة حياة الأنبياء في قبورهم:…44
قول المردود عليه عن الأنبياء عليهم السلام بأنهم (يأكلون ويشربون ويصلون ويحجون بل وينكحون) ومناقشة المصنف له:…45
حياة الشهداء في قبورهم الحياة البرزخية وذكر الأدلة عليها:…46
مناقشة المردود عليه في قوله: (والشهداء أيضاً أحياء عند ربهم شوهدوا نهاراً وجهاراً يجاهدون الكفار):…47
الاستدلال على كرامات الأولياء بقصة مريم:…48
قصة أبي بكر مع أضيافه وتكثير الطعام له:…49
قصة سارية مع عمر:…50
ادعاء المردود عليه أن الولي يقول للشيء كن فيكون، وإبطال المصنف ذلك:…50
لا يعلم عن أحد من الصحابة أنه استغاث به صلى الله عليه وسلم بعد موته:…51
الاستغاثة بالأموات بدعة بل هي بقية من عبادة الأصنام:…52
إن قال المستغيث بالقبور لم أعرض عن الله إنما تقربت بهم إليه، يقال: هذا بعينه هو الذي قاله المشركون:…52
لو كان التوسل بالأموات جائزاً أو مندوباً لعلمه الرسول صلى الله عليه وسلم أمته:…52
قول أبي حنيفة: (لا ينبغي لأحد أن يدعو الله إلا به..):…53
نقل عن شيخ الإسلام ابن تيمية في أن الأمور المبتدعة عند القبور مراتب:…53(20/113)
رد استدلالهم بقوله صلى الله عليه وسلم: (وحق العباد على الله) وبيان المراد بحقهم عليه:…53
معنى ما روي في الحديث (وبحق السائلين عليك):…54
حديث توسل آدم عليه السلام بحق محمد صلى الله عليه وسلم وبيان عدم صحته:…54
نقل المردود عليه عن ابن الشِّحنة أنه ينبغي الدعاء عند القبور، وإبطال المصنف ذلك:…55
زيارة الأموات التي شرعها الله لعباده تكون بثلاثة أمور:…56
الطواف بالقبور وتقبيلها وسؤال الحاجات منها هي عبادة المشركين:…56
قول المردود عليه: (وقد اشتهر عند أهل بغداد إجابة الدعاء عند قبر معروف الكرخي) ومناقشة المصنف له:…56
احتجاج المردود عليه بتوسل عمر بالعباس وبيان المصنف لمعناه الصحيح:…57
التوسل بالمخلوقين إلى رب العالمين هي طريقة الصائبة:…57
التوسل المشروع ثلاثة أنواع:…58
كلام المصنف على (عمارة المشاهد):…58
من هم أهل السنة والجماعة:…59
مناقشة المردود عليه في قوله: (إن الخضر كان يحضر مجلس فقه أبي حنيفة يتعلم علم الشريعة):…60
مناقشة المصنف لقول المردود عليه بتقبيل توابيت الأولياء وأعتابهم:…62
نقل مطول عن ابن القيم رحمه الله في أن أصل تعظيم القبور مأخوذ من عبّاد الأصنام:…64
نهاية الرسالة:…65
فهرس المصادر والمراجع…66
الفهرس…71(20/114)
الاحتفال بالمولد النبوي
يحيى بن موسى الزهراني
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، ولا عدوان إلا على الظالمين ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي المؤمنين ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله النبي الأمين ، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين ، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين . . . أما بعد :
فلقد كان العالم يغط في ظلام عميق ، وجهل سحيق ، فكان القتل ، والظلم ، وكثير من الكبائر والعظائم التي لا تجد من ينكرها ، أو يبطلها ، لقد أنت الشعوب قبل الإسلام أنيناً شديداً ، وجار العدوان والطغيان ، وأقيمت الحدود على الفقراء والضعفاء ، ونجا منها الأغنياء والأقوياء ، وبقي الناس على ذلك المر والعلقم حتى رحم الله البشرية ، بإرسال أفضل الرسل وخاتمهم وأرحمهم بأمته ، وهو نبينا وحبيبنا محمد صلى اله عليه وسلم ، وبعد مولده وشبابه ، ونضوجه ونبوته عادت البسمة للناس من جديد ، فقد أمر بالمعروف ونهى عن المنكر ، وحطم أسس الشرك ، وقضى على معالم الوثنية ، واستأصل شأفتها ، واجتث جرثومتها ، حتى أقيمت الحدود على الطغاة والبغاة ، واخذ الحق من الظالم ، وأعيد للمظلوم ، وهكذا عاشت الأمة في خير وهناء .
فقبل الشروع في المولد النبوي ، وقبل تفنيد ما فيه من الباطل ، يحسن بنا أن نتطرق إلى بعض الأمور التي قد يغفل عنها كثير من المسلمين ، وهي مما يتعلق به عليه الصلاة والسلام ، والتي ينبغي على المكلف معرفتها والاهتمام بها حتى يعرف أمر نبيه صلى الله عليه وسلم عليه ومن هذه الأمور :
أولا ً : النبي صلى الله عليه وسلم رحمة :
فهو - صلى الله عليه وسلم - رحمة على أمته رحيم رؤوف بهم مشفق عليهم ، قال تعالى : [ لقد جاء كم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليهم بالمؤمنين رؤوف رحيم ] ( التوبة 128 ) ، وقال تعالى : [ وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ] ( الأنبياء 107)(21/1)
وقد حث أمته على التراحم فيما بينهم والتعاطف والشفقة من بعضهم على بعض وأن يكونوا كالجسد الواحد يساعد بعضهم بعضا ويقف بعضهم مع بعض فهو كما وصفه ربه سبحانه رحيم بالمؤمنين قال - صلى الله عليه وسلم - : (( أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا )) وأشار بالسبابة والوسطى [ البخاري وأبو داود والترمذي ] ، وقال تعالى : [ فأما اليتيم فلا تقهر ] ( الضحى 9 ) .
وكذلك من الرحمة التي أوصى بها النبي- صلى الله عليه وسلم - العناية بالأرملة والمسكين وذوي الحاجات فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : (( الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله )) [ البخاري ومالك ] ، وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رجلاً شكا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قسوة قلبه فقال : (( امسح رأس اليتيم وأطعم المسكين )) [ رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح].
ومن رحمته - صلى الله عليه وسلم - بالفقراء قال فيهم : (( بئس الطعام طعام الوليمة يُدعى إليها الأغنياء ويترك الفقراء )) [ في الصحيحين ] ، وقد أوصى - صلى الله عليه وسلم - بالإحسان إلى البنات والنساء والضعفاء وما ذاك إلا من رحمته وشفقته على أمته .(21/2)
فعن أنس رضى الله عنه ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : (( من عال جاريتين حتى تبلغا جاء يوم القيامة أنا وهو كهاتين )) [ رواه مسلم ] وجاريتين أي بنتين ، وقال - صلى الله عليه وسلم - : (( اللهم إني أحرَّج حق الضعيفين اليتيم والمرأة )) [ رواه النسائي بإسناد جيد ] ومعنى أحرج أي أنه يُلحق الإثم بمن ضيع حق اليتيم والمرأة ، وقال - صلى الله عليه وسلم - : ( هل تُنصرون وتُرزقون إلا بضعفائكم )) [ رواه البخاري مرسلا وأورده بمعناه النسائي في صحيح سنن النسائي 2/669 برقم ( 2978) ] ، وقال - صلى الله عليه وسلم - : (( من لا يرحم الناس لا يرحمه الله )) [ متفق عليه ] ، وقال - صلى الله عليه وسلم - : (( من لا يَرحم لا يُرحم )) [ متفق عليه].
ومن رحمته - صلى الله عليه وسلم - أنه أوصى بالرحمة بالحيوان فقال عليه الصلاة والسلام : (( إن الله كتب الإحسان على كل شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبح وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته)) [ ابن حبان ومسلم والدارمي وغيرهم ] .
وصور رحمته - صلى الله عليه وسلم - بأمته وشفقته عليهم كثيرة جداً ، فعليه الصلاة والسلام.
ثانياً : مولده صلى الله عليه وسلم :
ولد عليه الصلاة والسلام يوم الاثنين الثاني عشر من ربيع الأول عام الفيل ، قال أبو قتادة الأنصاري : سأل رجل أعرابي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : ما تقول في صوم يوم الاثنين ؟ قال : [ ذاك يوم ولدت فيه ، وفيه أوحي إلي ] ( مسلم ) .
وعن قيس بن مخرمة بن عبد المطلب ، قال : ولدت أنا ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام الفيل ] ( الترمذي وإسناده حسن ) انظر سير أعلام النبلاء 1/33 .
ثالثاً : بشريته صلى الله عليه وسلم :(21/3)
فهو - صلى الله عليه وسلم - بشر مثل بقية البشر قال تعالى : [ قل سبحان ربي هل كنت إلا بشراً رسولاً ] ( الإسراء 93) ، وقال تعالى : [ محمد رسول الله .....] ( الفتح29 ) وقال - صلى الله عليه وسلم - : (( إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلي )) [ متفق عليه ] ، وهي دلالة على أن محمداً - صلى الله عليه وسلم - رسول الله إلى الناس كافة بل إلى الثقلين ـ الجن والإنس ـ وقال الله جل وعلا: [ شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً والذين أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى …..] ( الشورى13 ) والمذكورون في هذه الآية هم أولو العزم من الرسل فهم بشر ولكن الله أكرمهم بالرسالة وغفر لهم جميعاً ، وقال الله جل وعلا : [ إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ….] ( آل عمران59 ) ، فهذه الآيات تدل دلالة قاطعة لاشك فيها أن الأنبياء بشر والله هو خالقهم ، ولكنه اصطفاهم برسالاته عن بقية البشر، فلا يُعبدون من دون الله ويحرم الغلو فيهم أو التوسل بهم بعد موتهم ، لأن ذلك من الشرك الأكبر المنافي للتوحيد والمخرج من ملة الإسلام والنبي محمد - صلى الله عليه وسلم - من أولئك الأنبياء الذين بعثهم الله عز وجل للعباد مبشرين ومنذرين قال تعالى: [ وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل ] ( آل عمران144 ) ، فلا يجوز الغلو فيه أو التوسل به بعد موته أو طلب العون أو المدد منه ، فإنه بشر مثل كل البشر فقد قال - صلى الله عليه وسلم - : (( سددوا وقاربوا وأبشروا فإنه لن يدخل الجنة أحداً عمله ، قالوا : ولا أنت يارسول الله ، قال : ولا أنا ، إلا أن يتغمدني الله منه برحمة )) [ البخاري ومسلم ] .(21/4)
فمن ذلك عُلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بشر ولد وعاش ومات ، قال تعالى : [ وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإين مات أوقتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين ] ( آل عمران144 ) ، وقال تعالى : [ إنك ميت وإنهم ميتون ] ( الزمر30 ) ، والخطاب للنبي عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام .
فالواجب على المؤمن أن يؤمن برسالة النبي - صلى الله عليه وسلم - ورسالة جميع الأنبياء والرسل عليهم أفضل الصلاة وأزكى التسليم ، لأن ذلك ركن من أركان الإيمان ، الذي لو سقط لضعف إيمان المرء معه وقد يهوي إلى الهاوية والعياذ بالله .
رابعاً : فضله على جميع الخلائق :
عن أبي هريرة رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ، وأول من ينشق عنه القبر، وأول شافع وأول مشفع )) [ مسلم ] .
وقيل أن السيد : هو الذي يفوق قومه في الخير، وقيل : هو الذي يُفزع إليه في النوائب والشدائد فيقوم بأمرهم ويتحمل عنهم مكارههم ويدفعها عنهم .
وهو - صلى الله عليه وسلم - أفضل البشر على الإطلاق ، وهو أفضل الأنبياء والمرسلين وخاتمهم ، قال - صلى الله عليه وسلم -: (( مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بنياناً فأحسنه وأجمله إلا موضع لبنة من زاوية من زواياه فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له ويقولون هلا وضعت هذه اللبنة قال فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين )) [ مسلم ] ، فهو سيد ولد آدم في الدنيا والآخرة ، ففي يوم القيامة يظهر سؤدده لكل أحد ولا يبقى منازع ولا معاند له ، بخلاف الدنيا فقد نازعه في سيادته ملوك الكفار وزعماء المشركين ، وقوله - صلى الله عليه وسلم - أنا سيد ولد آدم لم يقله فخراً ، بل إنه صرح بنفي الفخر فقال عليه الصلاة والسلام : (( أنا سيد ولد آدم ولا فخر )) [ الترمذي ](21/5)
وقوله أنا سيد ولد آدم ، كما قلنا لم يقلها مفاخرة بها وإنما قال ذلك لسببين:
الأول : امتثالاً لأمر ربه سبحانه عندما قال جل من قائل عزيز سبحانه : [ وأما بنعمة ربك فحدث ] ( الضحى11 ) .
الثاني : أنه من البيان الذي يجب عليه تبليغه لأمته ليعرفوه ويوقروه ويعتقدوه ويعملوا بمقتضى ذلك الاعتقاد ويوقروه بما تقتضيه مرتبته .
فهو الذي يطلب من ربه ويسأله سبحانه يوم القيامة للفصل بين العباد وهو أول من يُشفع يوم القيامة ، فلهذا فهو أفضل الخلائق على الإطلاق ، صلوات ربي وسلامه عليه .
خامساً : معنى شهادة أن محمداً رسول الله :
معناها: طاعته فيما أمر ، وتصديقه فيما أخبر ، واجتناب مانهى عنه وزجر، وأن لا يُعبد الله إلاّ بما شرع.
فطاعته - صلى الله عليه وسلم - من طاعة الله عز وجل ، قال تعالى : [ قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم ] ( آل عمران 331 ) .
وقال تعالى : [ قل أطيعوا الله والرسول ] ( آل عمران 32 ) ، وقال تعالى : [ من يطع الرسول فقد أطاع الله ] ( النساء 80 ) ، وتصديقه - صلى الله عليه وسلم - في الأخبار الماضية والمستقبلية مما كان من أمور الغيب التي أطلعه الله عليها ، وتصديقه في ذلك من أوجب الواجبات .
ومن مقتضى شهادة أن محمداً رسول الله اجتناب مانهى عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فكل مانهى عنه يجب اجتنابه وذلك مصداقاً لقوله تعالى : [ وما أتاكم الرسول فخذوه ومانهاكم عنه فانتهوا ] ( الحشر 7 ) ، وقال - صلى الله عليه وسلم - : (( ما أمرتكم من أمر فأتوا منه ما استطعتم وما نهيتكم عنه فاجتنبوه )) [ مسلم ] .
سادساً : عبوديته صلى الله عليه وسلم :(21/6)
فالنبي - صلى الله عليه وسلم - عبد من عباد الله وهو مملوك لله عز وجل ووصفه الله تعالى بالعبودية الخاصة كما قال تعالى : [ أليس الله بكافٍ عبده ] ( الزمر 26 ) ، فأعلى مراتب العبد العبودية الخاصة والرسالة فهو - صلى الله عليه وسلم - أكمل الخلق في هاتين الصفتين الشريفتين قال تعالى : [ تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ] ( الفرقان1 ) ، فهو عبد لله تعالى ، أما الربوبية والإلهية فهما حق لله تعالى وحده لا يشركه في شي منهما أحد ، لا ملك مقرب ولا نبي مرسل فالنبي - صلى الله عليه وسلم - كما قلنا عبد الله ورسوله كما قال هو عن نفسه (( إنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله )) [ ابن حبان ] .
فلا يُرفع فوق منزلته عليه الصلاة والسلام ولا يكون له خصيصة من خصائص الألوهية فهو عليه الصلاة والسلام لا يعلم الغيب إلا ما أطلعه الله عز وجل عليه من الأمور الغيبية قال تعالى : [ قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله ] ( النمل65 ) ، وقال تعالى : [ عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحداً إلا من ارتضى من رسول ] ( الجن 26 ، 27 ) ، فقد أطلع الله عز وجل نبيه محمداً - صلى الله عليه وسلم - على بعض الأمور الغيبية ، لذلك فهو لا يعلم الغيب من تلقاء نفسه ، ودليل ذلك أنه عندما سأله جبريل عليه السلام عن الساعة قال : (( ما المسؤول عنها بأعلم من السائل )) وقد علم - صلى الله عليه وسلم - مما أطلعه الله عليه أن ذلك السائل هو جبريل عليه السلام قال تعالى : [ تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا ] ( هود49 ) ، وقال تعالى : [ ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ أجمعوا أمر وهم يمكرون ] ( يوسف 102 ) .(21/7)
وكذلك فهو - صلى الله عليه وسلم - لا ينفع ولا يضر بنفسه ، ولا يُعتقد فيه أي أمر من أمور الألوهية أو الربوبية ولقد وصفه الله بالعبودية في أشرف المقامات فقال جل من قائل سبحانه [ سبحان الذي أسرى بعبده ] ( الإسراء 1 ) .
فهو - صلى الله عليه وسلم - عبد الله ورسوله فلا يعطى ولا يرفع فوق منزلته هذه ، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله لا يلقى الله بهما عبد غير شاك فيهما إلا دخل الجنة )) [مسلم].
فهو عبد الله ورسوله ، وصلوات ربي وسلامه عليه .
سابعاً : حاجة الناس إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :
لما عاش الناس قبل بعثته - صلى الله عليه وسلم - في جاهلية جهلاء وظلمة دهماء خصوصاً بعدما حرفوا وبدلوا في الكتب المنزلة على أنبيائهم ، لذلك كله أحوج الله الخلائق كلهم إلى من يزيل عنهم تلك الغمة ، ويعيدهم إلى عبادة الله الخالق الواحد القهار ، فأرسل الله نبيه محمداً - صلى الله عليه وسلم - ليخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم سبحانه وتعالى .
فأما حاجتهم إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - في الدنيا فهي أشد من حاجتهم إلى الطعام والشراب والنفس ، لأنه مبشرهم بالجنان ومنذرهم من النيران ، وأما حاجتهم إليه في الآخرة فإنهم يستشفعون بالرسل إلى الله ليفصل بين الخلائق ، فكلهم يتأخر عن الشفاعة ، فيشفع لهم النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - ، وهو الذي يستفتح لهم باب الجنة .
فلهذا كانت حاجة الناس إلى النبي- صلى الله عليه وسلم - حاجة ماسة وأكيدة في الدنيا والآخرة .
ثالثاً : الاحتفال بمولد النبي صلى الله عليه وسلم :
قبل الحديث عن المولد النبوي الكريم ، نتحدث عن فرقة من فرق الضلالة والتي بسببها وجدت مثل هذه البدع المنكرة والمكفرة ، فمن هذه الفرق :
الصوفية :(21/8)
وأحسن ما قيل فيها أنها فرقة منسوبة إلى الصوف ، وأول ما ظهرت هذه الفرقة في البصرة ، وكانوا يبالغون في الزهد والعبادة والخوف ، ولبسوا الصوف تشبهاً بالمسيح بن مريم ، فلذلك أطلق عليهم الصوفية . وليس طريقهم مقيداً بلبس الصوف ، ولا هم أوجبوا ذلك ولا علقوا الأمر به ، لكن أضيفوا إليه لكونه ظاهر حالهم . ولكنهم بعد ذلك تشعبوا وتنوعوا ، وقيل أن التصوف تسرب إلى بلاد المسلمين ، من الديانات الأخرى كالديانة الهندية ، والرهبانية النصرانية .
يقول الشيخ / عبدالرحمن الوكيل :
إن التصوف أدنأ وألأم كيداً ، ابتدعه الشيطان ليسخر معه عباد الله في حربه لله ولرسله . [ مصرع التصوف ] .
ويقول الشيخ / صالح الفوزان :
الصوفية دخيلة على الإسلام ، ويظهر ذلك في ممارسات المنتسبين إليها ، من ممارسات غريبة على الإسلام وبعيدة عن هديه ، وخصوصاً المتأخرين منهم ، الذين كثرت شطحاتهم ، وعظمت غلطاتهم ، وأما المتقدمون منهم فكانوا على جانب من الاعتدال ، كالفضيل بن عياض ، والجنيد ، وإبراهيم بن أدهم وغيرهم .
موقف الصوفية من العبادة والدين :
لقد تفاقم الوضع في هذه الأزمنة في عبادة الصوفية ، حتى أصبحت المنكرات ظاهرة للعيان ، كوضوح الشمس في رابعة النهار ، وكل ذلك من باب الزهد كما يدعونه ، وحبهم المفرط في النبي صلى اله عليه وسلم إلى غير ذلك من توافه الأمور ، ولقد اتخذ أهل التصوف وخصوصاً المتأخرين منهم صنوفاً من أصناف العبادة المبتدعة ، وتتلخص بدعهم فيما يلي :
1- قصرهم العبادة على المحبة :(21/9)
يبنون عبادتهم لله على جانب المحبة ، ويهملون الجوانب الأخرى ، وهي جوانب عظيمة يعتمد عليها الدين اعتماداً كبيراً ، كجانب الخوف والرجاء ، وقد قال بعضهم : أنا لا أعبد الله طمعاً في جنته ، ولا خوفاً من ناره ، ولا شك أن هذا من الضلال ، فمن هو الذي لا يطمع في الجنة ، ومن هو الذي لا يخاف من النار ، وقد جاءت الآيات والأحاديث المشتهرة بذلك ، والذي لا يطمع في الجنة ، فبماذا يطمع إذن ، قال تعالى : " سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والأرض " ، وقال تعالى : " فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز " ، وقد أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن نستعيذ بالله من أربع ، من عذاب جهنم ، ومن عذاب القبر ، ومن فتنة الدجال ، ومن فتنة المحيا والممات . [ رواه مسلم ] ، فكيف يقول قائل بعد ذلك ، أنه لا يطمع في الجنة ولا يخاف من النار ، بل نقول نحن : اللهم إنا نسألك الجنة ، ونعوذ بك من النار .
فالعبادة ليست مقصورة على جانب واحد فقط ، قال شيخ الإسلام بن تيمية رحمه الله : العبادة : اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة .
ولهذا يقول بعض السلف :
من عبد الله بالحب وحده : فهو زنديق ، ومن عبده بالرجاء وحده : فهو مرجئ ، ومن عبده بالخوف وحده : فهو حروري ، ومن عبده بالحب والرجاء والخوف : فهو مؤمن موحد . ولهذا قال تعالى : " تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفاً وطمعاً ومما رزقناهم ينفقون "
وقال تعالى : " أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذوراً " ، في هذه الآية أعظم دليل على كذب الصوفية وأهلها ، لأن كل إنسان يرجو رحمة ربه ويخاف عذابه .
2- عدم الرجوع للكتاب والسنة :(21/10)
في غالب أمر الصوفية انهم لا يرجعون إلى الكتاب والسنة في دينهم وعبادتهم ، وغنما يرجعون على أذواقهم وما يرسمه لهم شيوخهم من الطرق المبتدعة ، والأذكار والأوراد الخاطئة الكاذبة ، وربما يستدلون بالحكايات والمنامات والأحاديث الموضوعة المكذوبة على النبي صلى الله عليه وسلم ، ويتشبثون بها ، ومن المعلوم أن العبادة لا تكون صحيحة إلا إذا كانت مبنية على ما جاء في الكتاب والسنة الصحيحة المحتج بها .
قال شيخ الإسلام : صراط الله واحد ، لا انقسام فيه ولا اختلاف عليه ، وما عداه فهو سبل متفرقة تتفرق بمن سلكها ، وتبعده عن صراط الله المستقيم ، وهذا ينطبق على كل فرق الصوفية ، فإن كل فرقة لها طريقة خاصة تختلف عن طريقة الفرقة الأخرى ، ولكل فرقة شيخ يسمونه شيخ الطريقة ، يرسم لها منهاجاً يختلف عن منهاج الفرق الأخرى ، ويبتعد بهم عن الصراط المستقيم ، ويزعم هذا الشيخ انه يتلقى الأوامر من الله مباشرة ، ولا يخفى على كل ذي لب وعقل من الناس أن الرسالة قد انقطعت بموت النبي صلى الله عليه وسلم ، فهو آخر الأنبياء والرسل ، وانقطع الوحي كذلك بموته عليه الصلاة والسلام ، ولهذا قال تعالى : " وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحياً أو من وراء حجاب أو يرسل رسولاً فيوحي بإذنه ما يشاء " ، قال القرطبي رحمه الله : ومعناه : وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا أن يوحي أو يرسل . 16/48 ،
يقول الشيخ / محمد بن صالح العثيمين رحمه الله تعالى : هناك قاعدة مهمة يجب على كل طالب علم معرفتها ، وأقول : لأنها تضع النقاط على الحروف ، وتزيل كثير من الران الذي غطى قلوب كثير من المبتدعة ، وتجعل طالب العلم قادراً بإذن الله تعالى على مجابهة مثل أولئك المبتدعة وأهل الضلالة .
والقاعدة تقول :
كل شيء كان سببه موجوداً في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ولم يفعله ، ففعله بعده بدعة .
وقاعدة أخرى :(21/11)
الأصل في العبادات الحظر ، فلا يشرع منها إلا ما شرعه الله ورسوله ، والأصل في العادات الإباحة ، فلا يمنع منها إلا ما حرمه الله ورسوله .
مما سبق يتبين لنا أن مولد النبي صلى الله عليه وسلم كان سببه موجوداً في عهد العهد النبوي ، ولكن لم يحتفل بمولده أحد من البشر في قرنه وفي القرون المفضلة من بعده ، وهي ثلاثة قرون ، فقد قال صلى الله عليه وسلم : " خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ، ثم الذين يلونهم " ، قال شيخ الإسلام بن تيمية رحمه الله : أما لفظ الصوفية فإنه لم يكن مشهوراً في القرون الثلاثة ، وإنما اشتهر التكلم به بعد ذلك " .(21/12)
مما سرى في المسلمين في هذا العصر وما سبقه من الأعصار من التشبه بالكفار ، التشبه بالنصارى في عمل ما يسمى بالاحتفال بالمولد النبوي ، يحتفل جهلة المسلمين أو العلماء المضلين في ربيع الأول من كل سنة بمناسبة مولد الرسول محمد صلى الله عليه وسلم ، فمنهم من يقيم هذا الاحتفال في المساجد ومنهم من يقيمه في البيوت أو الأمكنة المعدة لذلك ويحضره جموع كثيرة من دهماء الناس وعوامهم ، يعملون ذلك تشبهاً بالنصارى في ابتداعهم الاحتفال بمولد المسيح عليه السلام . ولا ريب أن الله سبحانه وتعالى بعث نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق ، وهى العلم النافع والعمل الصالح ، ولم يقبضه إليه حتى أكمل له ولأمته الدين وأتم عليهم النعمة كما قال سبحانه وتعالى : [ اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً ] "المائدة3 " فبين الله سبحانه وتعالى بهذه الآية الكريمة أن الدين قد كمل والنعمة قد أتمت ، فمن زعم أن يُحدث حدثاً يزعم أنه مشروع وأنه ينبغي للناس أن يهتموا به ويعملوا به فلازم قوله أن الدين ليس بكامل بل هو محتاج إلى مزيد وتكميل ، ولا شك أن ذلك باطل ، بل من أعظم الفرية على الله سبحانه والمصادمة لهذه الآية الكريمة ، ولو كان الاحتفال بيوم المولد النبوي مشروعاً لبينه الرسول صلى الله عليه وسلم لأمته لأنه أنصح الناس لهم ، وليس بعده نبي يبين ما سكت عنه من حقه ، لأنه صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين ، وقد أبان للناس ما يجب له من الحق كمحبته واتباع شريعته والصلاة والسلام عليه وغير ذلك من حقوقه الموضحة في الكتاب والسنة ولم يذكر لأمته أن الاحتفال بيوم مولده أمر مشروع حتى يعملوا بذلك ولم يفعله صلى الله عليه وسلم طيلة حياته ، ثم الصحابة رضي الله عنهم أحب الناس له وأعلمهم بحقوقه لم يحتفلوا بهذا اليوم لا الخلفاء الراشدون ولا غيرهم ، ثم التابعون لهم بإحسان في القرون الثلاثة المفضلة لم يحتفلوا(21/13)
بهذا اليوم .
أفتظن أن هولاء كلهم جهلوا حقه أو قصروا فيه حتى جاء المتأخرون فأبانوا هذا النقص وكملوا هذا الحق ؟ لا والله ، ولن يقول هذا عاقل يعرف حال الصحابة وأتباعهم بإحسان .
وإذا عُلم أن الاحتفال بيوم المولد النبوي لم يكن موجوداً في عهده صلى الله عليه وسلم ولا في عهد أصحابه الكرام ولا في عهد أتباعهم في الصدر الأول ، ولا كان معروفاً عندهم . عُلم أن ذلك بدعه محدثة في دين الله لا يجوز فعلها ولا إقرارها ولا الدعوة إليها ، بل يجب إنكارها والتحذير منها عملاً بقوله صلى الله عليه وسلم في خطبة الجمعة : { خير الكلام كلام الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة } ، وقوله عليه الصلاة والسلام : { عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهدين من بعدي تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة } ، وقوله عليه الصلاة والسلام : { من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد } ، وقوله صلى الله عليه وسلم :{ من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد } ، فكل عمل ليس عليه أمر الشارع فهو رد ومردود على صاحبه وعليه النكال وله الويل من الخالق سبحانه ، فمن كان عمله خارجاً عن الشرع المطهر وليس متقيداً به فهو مردود ولا يزيد صاحبه إلا بُعداً عن الله تعالى ، ولا يزيده إلا مقتاً وخساراً ، ويذهب ذلك العمل هباءً منثوراً لمخالفته الواضحة لدين الله تعالى ، والله جل وعلا قد تكفل بدينه وحفظه : [ إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ] " الحجر9 " .
فمن شرع لأولئك الفئام من الناس هذا الدين الذي ابتدعوه ؟ أهو الهوى ؟ أم الشيطان ؟ أم لهم شركاء وآلهة أخرى غير الله تُشرع لهم ديناً غير دين الله تعالى فتُحلل وتُحرم لهم ؟(21/14)
قال تعالى : [ أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله ] "الشورى 21 " ، وقد ختم الله جل وعلا هذه الآية بقوله : [ وإن الظالمين لهم عذاب أليم ] ، فهؤلاء ظلمة ، ظلمة لأنفسهم ، ظلمة لدينهم ، ظلمة لا خوانهم المسلمين الذين يأتون من بعدهم ، ويجدون تلك البدع والخرافات ، والأهواء والمنكرات ؟ فإن الله جلت قدرته قد حرم الظلم على نفسه وجعله بين عباده محرماً .
فمن أشد الظلم وأقبحه وأشنعه أن يتعدى الإنسان على ربه ، بأن يُشرّع للناس عبادة لم يأذن بها الله عز وجل ، ليحذر أولئك من شديد عقابه ، وأليم عذابه ، فالنبي صلى الله عليه وسلم ترك هذه الأمة على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك ، وقد أوضح صلى الله عليه وسلم لهذه الأمة قبل موته عليه الصلاة والسلام أنه ترك فيها ما إن تمسكت به فلن تَضل أبداً ، كتاب الله عز وجل وسنته صلى الله عليه وسلم ، فمن أراد أن يزيد في الدين ما ليس منه ، فالدين بريء منه وزيادته مردودة عليه ، وهو مأزور غير مأجور آثم ببدعته تلك .
قال صلى الله عليه وسلم : { تركتكم على بيضاء نقية ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك } ( الترمذي وأبوداود والحاكم ) .
وقال أبو ذر رضي الله عنه : توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وما طائر يحرك جناحيه في السماء إلا وقد ذكر لنا منه علماً .
وقال العباس رضي الله عنه : والله ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ترك السبيل نهجاً واضحاً وأحل الحلال وحرم الحرام ، ونكح وطلق وحارب وسالم . ولو تصفحنا كتاب الله عز وجل صفحة صفحة وسطراً سطراً ، لمَا وجدنا آية فيه تدل على أنه يُحتفل بمولد النبي صلى الله عليه وسلم ، وكذلك في السنة لا يوجد حديث ولا أثر صحيح يُعتمد عليه يدل على ذلك .
فمن أين جاء أولئك الناس بهذا الاحتفال المبتدع في دين الله .(21/15)
فكثرة وقوع الحوادث التي لا أصل لها في الكتاب ولا في السنة ، إنما هو من ترك الاشتغال بأوامر الله وأوامر رسوله صلى الله عليه وسلم وكذلك ترك اجتناب النواهي ، فلو أن من أراد أن يعمل عملاً في الدين سأل العلماء الربانيين ، علماء أهل السنة والجماعة ، عما شرعه الله في ذلك فامتثله وأطاعه ورضي به وانتهى عما فيه نهي ، لوقعت كل الأعمال مقيدة بالكتاب والسنة .
ولكن المصيبة والطامة الكبرى أن العامل يعمل بمقتضى رأيه وهواه ، فتقع الحوادث مخالفة لما شرع الله .
فمن امتثل أمر الله تعالى وأمر نبيه صلى الله عليه وسلم واشتغل بذلك عما سواه حصلت له النجاة في الدنيا والآخرة ، ومن خالف ذلك واشتغل بخواطره وهواه وانقاد وراء المخططات الصهيونية والنصرانية وغيرها من مخططات أعداء الدين وقع فيما حذر منه النبي صلى الله عليه وسلم من حال أهل الكتاب ـ اليهود والنصارى ـ الذين هلكوا بكثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم وعدم انقيادهم وطاعتهم لرسلهم ، وابتداعهم في دينهم ، فكانوا فريسة وصيداً سهلاً في أيدي المسلمين آنذاك .
فهل نحذوا حذوهم ، ونقتفي أثرهم ، وهم على الباطل والضلال ، والزيغ والانحلال ؟ لا والله ؟ لا ينبغي هذا . بل الواجب التمسك بالدين الإسلامي الحنيف ، الذي لا نُصرة للمسلمين إلا بتمسكهم به ، ولا رِفعة لهم إلا بتقيدهم به ، وأن نترك الابتداع في دين الله عز وجل .
فأمور الأعياد المخالفة للشرع والاحتفالات المصادمة للدين ليست من شعار المسلمين بل أن : { من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه } ( الترمذي وهو حسن ) ، ويبتعد عن الشبهات ، ومن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه .(21/16)
فأمر ليس في كتاب الله وليس في سنة نبيه صلى الله عليه وسلم لا يعنينا الاهتمام به ، ولا حتى النظر إليه ، ولا التفكير فيه ، فمن أراد عمله عليه قبل ذلك أن يسأل أهل العلم عن ذلك ، حتى يكون على بصيرة من دينه ، قال تعالى : [ فسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون ]" النحل 43" .
والسؤال هنا :
ماذا يحدث في هذا المولد ؟
إن غالب هذه الاحتفالات مع كونها بدعة مخالفة للدين فهي لا تخلوا من اشتمالها على منكرات أخرى مثل :
1ـ اختلاط الرجال بالنساء ، مما قد يُفضي إلى أمور محرمة بين الجنسين ، بل إن ذلك يحصل غالباً في هذه الأعياد المبتدعة المنكرة وكيف يدعي أولئك حُب النبي صلى الله عليه وسلم وهم يخالفون أمره ، فيحصل الاختلاط بين الرجال والنساء ، وقد حذر عليه الصلاة والسلام من الدخول على النساء غير المحارم حتى أنه قال في الحمو : الحمو الموت .
فكيف يدّعون حبهم واحتفالهم بمولد النبي صلى الله عليه وسلم وهم يُقدّمون في هذا الاحتفال كل ما فيه معصية له صلى الله عليه وسلم . فليتب أولئك من هذه الخرافات والخزعبلات قبل أن يحل بهم هادم اللذات ، وهم غرقى في الذنوب والشهوات ، ثم بعد ذلك لا تنفع الآهات والويلات .
2ـ ذبح ذبائح في مثل هذه الموالد والأعياد المزيفة ولا شك ولا ريب أن الذبح لغير الله شرك قال صلى الله عليه وسلم : { لعن الله من ذبح لغير الله } (مسلم ) ، واللعن : هو الطرد والإبعاد من رحمة الله عز وجل ، وإن الله عز وجل قد أمر بأن يكون الذبح له سبحانه ، في قوله تعالى : [ قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين * لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين ] " الأنعام 162، 163 " وقال تعالى : [ فصل لربك وانحر ] " الكوثر 2 "
فالذبح لغير الله في الأضرحة والقبور وغيرها شرك أكبر ومن فعل ذلك فهو ملعون لما جاء في الحديث السابق ، وحكم هذه الذبائح حكم الميتة ولو ذكر اسم الله عليها ، لأنها لم تكن لله عز وجل .(21/17)
3ـ ضرب الدفوف والطبول واستعمال الأغاني والمعازف والله جل وعلا قد حرم المعازف والغناء المصحوب معها سواءً كان ما جناً أم غير ماجن ، قال تعالى : [ ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزواً أولئك لهم عذاب مهين ] " لقمان 6 " وقد أقسم عبد الله بن مسعود رضي الله عنه الصحابي المعروف عن المقصود بلهو الحديث ، فقال : { والله الذي لا إله إلا هو إنه الغناء } . وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم : { ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير والخمر والمعزف } ( البخاري ) ، إنه والله لأمر تأسف له النفوس ، وتضيق له القلوب ممن لا ينطبق عملهم على قولهم ، بل عملهم يكذب قولهم ولا يصدقه يقولون نحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحتفل بمولده ، ثم في ذات الوقت يعصونه ولا يطيعونه يرتكبون ما نهى عنه ، ويجتنبون ما أمر به فأي حب هذا ؟ وأي اتباع له صلى الله عليه وسلم الذي يدعيه أولئك المبتدعة ؟
4ـ شرب الخمور والمسكرات والدخان وأكل القات ، وغير ذلك من المشروبات المحرمات .
والله تعالى حذرهم ونهاهم عنها ، فقال جل وعلا : [ يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون * إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العدواة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون ] ، ثم ختم الله عز وجل هذه الآيات بالآية الدالة على طاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم لأن في طاعتهما الفلاح والنجاح ، وفي معصيتهما الخسران والحرمان ، فقال تعالى : [ وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول واحذروا فإن توليتم فاعلموا أنما على رسولنا البلاغ المبين ] " المائدة 90،91 ،92" .(21/18)
5ـ يعتقد من يحتفل بالمولد النبوي أن الرسول صلى الله عليه وسلم يحضر المولد ، ولهذا يقومون له محيين ومرحبين ، وهذا من أعظم الباطل وأقبح الجهل ، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يخرج من قبره قبل يوم القيامة ، ولا يتصل بأحد من الناس ، ولا يحضر اجتماعهم ، بل هو مقيم في قبره ولا يخرج إلى يوم القيامة وروحه في أعلى عليين عند ربه في دار الكرامة كما قال تعالى :[ ثم إنكم بعد ذلك لميتون * ثم إنكم يوم القيامة تبعثون ] " المؤمنون 15 ،16 " وقال عليه الصلاة والسلام : { أنا أول من ينشق عنه القبر يوم القيامة ، وأنا أول شافع وأول مشفع } ( مسلم ) .
فهذا قول الله تعالى يقول عن نبيه صلى الله عليه وسلم : [ إنك ميت وإنهم ميتون ] " الزمر " فلا إله إلا الله ـ أين عقول أولئك الناس عن قول الله عز وجل ، وقول نبيه صلى الله عليه وسلم . ولقد كان الصحابة رضوان الله عليهم يستشفعون بالنبي صلى الله عليه وسلم إذا أجدبوا واحتبس عنهم المطر ، فإنهم يطلبون من نبيهم أن يدعو الله لهم ، فكان يفعل ، ولكن بعد موته عليه الصلاة والسلام ، لم ينقل عن أحد منهم أنه كان يدعو النبي في قبره ويستغيث به ، بل كما جاء عن عمر بن الخطاب أنه دعا العباس عم رسول الله ، فقال : الهم إنا كنا نستشفع بنبينا فتسقينا ، فها نحن نستشفع بعم نبينا فأسقنا ، فقال : قم يا عباس فادع الله لنا ، ولم يستشفع بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد موته ، لأنه عرف أنه لم يعد يملك لهم شيئاً بعد موته .(21/19)
6ـ ما يحدث في هذه الموالد من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم أو الغلو فيه والتوسل به أو الغلو في الأولياء ، وهذا هو الشرك الأكبر المحبط للأعمال والمدخل للنيران ـ أعاذنا الله من ذلك ـ فيحصل فيها دعاء النبي صلى الله عليه وسلم والاستعانة والاستغاثة به ، أو طلب المدد منه عليه الصلاة والسلام ، واعتقاد أنه يعلم الغيب ، ونحو ذلك من الأمور الكفرية التي يفعلها الكثير من الناس حين احتفالهم بمولد النبي صلى الله عليه وسلم أو غيره ممن يسمونهم بالأولياء .
وإن الله تعالى قد حرم الدعاء لغيره سبحانه ، فالدعاء حق من حقوقه تعالى فلا يُصرف إلا لله ، قال تعالى : [ وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحداً ] " الجن 18 " وقال تعالى : [ إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم فادعوهم فليستجيبوا لكم إن كنتم صادقين ] " الأعراف 194" ، وإلى أصحاب العقول والأفهام هذه الآية التي تبطل كل المزاعم من أن الأموات يسمعون دعاء الغير ، هذه الآية قاطعة وجازمة بأن الميت لا يسمع ولا ينفع ولا يضر ، قال تعالى : [ والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير * إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم ويوم القيامة يكفرون بشرككم ولا ينبئك مثل خبير ] " فاطر 13 ـ 14 " ، فمن دعا غير الله عز وجل بجلب نفع أو دفع ضر أو غير ذلك فقد أشرك بالله شركاً أكبر مخرجاً من الملة ، فلا يُدعى إلا الله عز وجل لأنه سبحانه بيده دفع الضر وكشفه وإسباغ النعمة وإفاضة الخير على عباده وغير ذلك من الأمور التي لا يقدر عليها إلا الله .
وقال جل وعلا : [ ومن أضل ممن يدعوا من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة وهم عن دعائهم غافلون * وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء وكانوا بعبادتهم كافرين ] " الأحقاف 5-6 " ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس رضي الله عنهما : { إذا سألت فسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله } ( الترمذي ) .(21/20)
فلا يسأل الإنسان إلا ربه ، ولا يستعين إلا به ، فهو سبحانه الذي يستطيع النفع والضر وبيده خزائن كل شيء ، لذلك قال تعالى : { وقال ربكم ادعوني استجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين ] " غافر 60" ، وقال تعالى : [ قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلاً ] " الإسراء 56" .
ولو كان أولئك الأموات يملكون نفعاً أو ضراً لنفعوا أنفسهم ولما ما توا ، ولدفعوا عن أنفسهم الموت وما يحصل بهم من ضر ، فكيف ينفعون غيرهم أو يضرونهم ـ فعجباً !! لأولئك الناس الذين تركوا عقولهم سلعة رخيصة يلعب بها شياطين الإنس والجن ، حتى ضلوا عن جادة الصواب ، فعبدوا العباد ، بدلاً من أن يعبدوا رب العباد ، واتجهوا إلى عبادة القبور والأضرحة التي لا تنفع ولا تضر فما هي إلا كومة من تراب ولو قدر الله عز وجل وبعث أحد أولئك الأموات ، ووجد الناس رجالاً ونساءً جماعات وفرادى يطوفون حول قبره ويتبركون به ويطلبون المدد منه ويذبحون تقرباً إليه ، والله لما وسعه إلا أن يدعوهم إلى عبادة الله ولبين لهم أنه إنسان مثلهم لا ينفع ولا يضر وإلا لنفع نفسه قبل ذلك ، ولو وجدهم على حالهم هذه لسخر منهم واستهزأ بهم ولتبرأ إلى الله مما يفعلون ، فالله عز وجل أنعم عليهم بنعم شتى ، فوهبهم العقل والسمع والبصر ، ومع ذلك فنهم كالأنعام بل هم أضل سبيلا ، يعرفون الباطل فلا يجتنبونه ، ويعرفون الحق فلا يتبعونه وقد قال لهم ربهم : [ وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ] " الذاريات 56 " .
وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { من مات وهو يدعو لله نداً دخل النار } ( أحمد والبخاري ) ، وفي رواية مسلم : { من لقي الله لا يشرك به شيئاً دخل الجنة ، ومن لقيه يشرك به شيئاً دخل النار } .(21/21)
وقد نهى صلى الله عليه وسلم عن تعظيمه فقال : { لا تعظموني كما يعظم الأعاجم بعضها بعضا } ( مسلم وأبو داود وابن ماجة ) ، وقال صلى الله عليه وسلم : { لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد } ( في الصحيحين ) ، قالت عائشة رضي الله عنها : {يحذر ما صنعوا ولولا ذلك لأبرز قبره ولكن خشي أن يتخذ مسجداً } . وقال عليه الصلاة والسلام : { ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنها كم عن ذلك } ( مسلم ) ، وفي صحيح مسلم أنه صلى الله عليه وسلم : { لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها } . وروى أهل السنن عن بن عباس رضي الله عنهما قال : { لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج } ، وذكرت أم سلمة رضي الله عنها لرسول الله صلى الله عليه وسلم كنيسة رأتها بأرض الحبشة وما فيها من الصور ، فقال : { أولئك إذا مات فيهم الصالح أو العبد الصالح بنوا على قبره مسجداً وصوروا فيه تلك الصور أولئك شرار الخلق عند الله } ( البخاري ومسلم ) .
وقال صلى الله عليه وسلم : { ولا تجعلوا قبري عيداً } ( أبو داود ) وروى مالك في الموطأ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { اللهم لا تجعل قبري وثناً يُعبد ، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد } وقال صلى الله عليه وسلم : { لا تطروني كما أطرت النصارى بن مريم ، إنما أنا عبد ، فقولوا عبد الله ورسوله } ( البخاري ) .(21/22)
فيحرم الغلو في النبي صلى الله عليه وسلم أو التوسل به أو دعاؤه أو طلب المدد منه صلى الله عليه وسلم فهو ميت وقد قال تعالى : [ إنك ميت وإنهم ميتون } " الزمر30 " وقال تعالى : [ وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفأين مت فهم الخالدون ] " الأنبياء34 " ، فإذا كان هذا يحرم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فغيره من باب أولى ، لأنهم لا ينفعون ولا يضرون فيحرم الطواف حول قبور أولئك الأموات ويحرم الذبح عندها أو التقريب لها ، أو طلب المدد منها أو التبرك بها والتمسح بها أو غير ذلك من الأمور المحرمة ، فكل من فعل ذلك فهو داخل في قوله تعالى : [ إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر مادون ذلك لمن يشاء ] " النساء 116 " وقوله تعالى : [ وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباءً منثوراً ] " الفرقان 23" ، وقوله تعالى : [ الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً ] " الكهف 104" ، لأنهم خالفوا ما خلقوا من أجله وهو عبادة الله وحده لا شريك له .
فاجتماع الناس لإحياء ليلة المولد وقراءة قصته صلى الله عليه وسلم بدعة محدثة منكرة في دين الله عز وجل ، ومن أباطيلهم وكذبهم أن النبي صلى الله عليه وسلم يحضر هذه المجالس ، فالنبي صلى الله عليه وسلم قد توفي وغسل وكفن وصلي عليه صلاة الجنازة ودفن كغيره ، وهو أول من يبعث يوم القيامة من قبره .
ومن البدع المنكرة التي يجب إنكارها ، الاحتفال بالنصف من شعبان ، وعيد الميلاد ، وبلوغ الشخص 21سنة وعيد الأم وغير ذلك من البدع التي أحدثها أعداء الله ليشوشوا على المسلمين عقيدتهم ويبعدوهم عن دينهم فيقعوا فريسة لأهواء الأعداء ، فأين أفئدتهم وأبصارهم .(21/23)
فقد نقل الصحابة رضوان الله عليهم ، عن نبيهم صلى الله عليه وسلم كل شئ تحتاجه الأمة ولم يفرطوا في شئ من الدين ، بل هم السابقون إلى كل خير فلو كان الاحتفال بمولده مشروعاً لكانوا أسبق الناس إليه ، والنبي صلى الله عليه وسلم أنصح الناس ، وقد بلغ البلاغ المبين ، ولم يترك طريقاً يوصل إلى الجنة ، ويباعد من النار إلا بينه للأمة ، كما قال صلى الله عليه وسلم : { ما بعث الله من نبي إلا كان حقاً عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم ، وينذرهم شر ما يعلمه لهم } ( مسلم ) وقال تعالى : [ لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجوا الله واليوم الأخر وذكر الله كثيراً ] " الأحزاب 21" وقال تعالى : [ والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً ذلك الفوز العظيم ] " التوبة 100 " .
وقال صلى الله عليه وسلم : { إياكم والغلو في الدين فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين } . فلو كان تعظيم هذا المولد والاحتفال به من دين الله ، لفعله النبي صلى الله عليه وسلم ولم يكتمه ، فلما لم يقع شئ من ذلك ، عُلم أن الاحتفال بهذا المولد وتعظيمه ليس من الإسلام في شئ فهو بدعة منكرة في دين الله عز وجل ما أنزل الله بها من سلطان ، ولم يأذن بها الله تعالى ، فقد أكمل الله تعالى الدين وأتم النعمة على عباده : [ اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً ] " المائدة 3 " ، وقال تعالى : [ أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله ولولا كلمة الفصل لقضي بينهم وإن الظالمين لهم عذاب أليم } " الشورى 21 ".(21/24)
وقال صلى الله عليه وسلم : { من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد } ( متفق عليه ) ، وقال عليه الصلاة والسلام : { من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد } ( مسلم ) وفي صحيح مسلم ، قال صلى الله عليه وسلم في خطبة الجمعة : { أما بعد : فإن خير الحديث كتاب الله ، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم ، وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة } وزاد النسائي بسند جيد : { وكل ضلالة في النار } . وعن العرباض بن سارية رضي الله عنه أنه قال : وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة بليغة وجلت منها القلوب وذرفت منها العيون ، فقلنا : يا رسول الله كأنها موعظة مودع ، فأوصنا : { أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة ، وإن تأمر عليكم عبد ، فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً ، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهدين من بعدي ، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ ، وإياكم ومحدثات الأمور ، فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة } ( أحمد وغيره ) .
فلقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وأصحابه والسلف الصالح التحذير من البدع ، والترهيب منها ، وذلك لأنها زيادة في دين الله عز وجل ، وفي البدع تشبه بأعداء الله من اليهود والنصارى في زيادتهم وابتداعهم في دينهم زيادة لم يأذن بها الله ، ففي ذلك من الفساد العظيم والمنكر الشنيع ما لا يعلم إلا به الله .
وفي تلك البدع والاحتفالات مصادمة لكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم .
أسأل الله تعالى أن يمن علينا بالعلم النافع ، والعمل الصالح ، وأن يجنبنا البدع الظاهرة والباطنة ، وأن يتم علينا نعمة الدين المستقيم ، دين الإسلام الحنيف ، إنه ولي ذلك والقادر عليه .
والحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف الخلق أجمعين ، نبينا محمد الأمين .(21/25)
البدع الحولية
إعداد
عبد الله بن عبد العزيز بن أحمد التويجري
هذا الكتاب رسالة علمية تقدم بها المؤلف لنيل درجة الماجستير في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية قسم العقيدة ، ومنح صاحبها درجة الماجستير بتقدير ممتاز عام 1406هـ
www.saaid.net
المقدّمَة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ، ونستغفره ونتوب إليه ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ، ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين ، وسلم تسليماً كثيراً .
أما بعد :
فإنه لا يشك مسلم في أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفارق الدنيا ويلتحق بالرفيق الأعلى إلا بعد أن أكمل الله هذا الدين الحنيف ، قال تعالى :{ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِيناً }(1)، وجعل رسوله صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين ، قال تعالى :{ مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً }(2) . وأن هذا الدين المؤسس على كتاب الله الكريم ، وسنة نبيه عليه أتم الصلاة وأزكى التسليم ،صالح لكل زمان ومكان ، كفيل بكل ما يحتاجه البشر ، ولذلك أمرنا الله باتباعه فقال تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}(3).
__________
(1) - سورة المائدة: الآية3.
(2) - سورة الأحزاب:40.
(3) - سورة الأنعام:153.(22/1)
وأمرنا أن نطيع رسوله صلى الله عليه وسلم فقال عز من قائل : { وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}(1).وأمرنا برد كل ما يقع فيه النزاع إليه سبحانه وتعالى وإلى رسول صلى الله عليه وسلم ، فقال عز وجل : { فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً}(2).
فما دام أن الدين كامل ، وليس في حاجة إلى زيادة ، فلا حاجة إذن لإحداث البدع في الدين ، والتقُّرب بذلك إلى رب العالمين ، ومن أحدث بدعة واستحسنها فقد أتى بشرع زائد ،واتهم الشريعة بالنقص ،وكأنه استدرك على الله- سبحانه وتعالى - وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم ، وكفى بذلك قبحاً .ولكن أعداء الإسلام، ومن يغيظهم انتشاره،حسَّنُوا لبعض الناس البدع، وأظهروها بمظاهر براقة خادعة ، وكسوها بمظهر الزهد،والتقرب إلى الله ،ومحبة النبي صلى الله عليه وسلم ، وقصدهم كله إفساد دينهم ، ومزاحمة المشروع بالمبتدع ، حتى تكون السنن مستغربة ، والبدع تقوم مقامها !.
وقد روَّج لهذه البدع بعضُ علماء السوء ، وأرباب الطرق(3) الذين جعلوا من ذلك سبيلاً إلى رئاسة الناس ،وكسب الأموال، حتى انتشرت في العالم الإسلامي انتشار النار في الهشيم ، وصار عامة الناس يعدونها أموراً مشروعة يجب المحافظة عليها ، مع تركهم لكثير من السنن المشروعة !.
ولزوم السنة ومحاربة البدعة من الأمور التي تجب على عامة المسلمين ، وعلى العلماء وطلاب العلم خاصة.
والبدع من المنكرات التي يجب تغييرها على حسب القدرة : إما باليد ، أو باللسان ، أو بالقلب .
__________
(1) - سورة الحشر: الآية7.
(2) - سورة النساء: الآية59.
(3) - المراد : أرباب الطرق الصوفية .(22/2)
ومن هذا المنطلق ، فقد اخترت الكتابة في هذا الموضوع وهو [ البدع الحولية ] – والمراد بها : البدع التي تتكرر كل حول في وقت معين منه – أداءً لهذا الواجب على حسب قدرتي واطلاعي المحدود ، لاسيما وأن كثيراً من البدع قد تفشى في كثير من البلدان الإسلامية في الوقت الحاضر .
والحمد لله الذي حفظ هذه البلاد من كثير من البدع والضلالات بفضله سبحانه وتعالى،ثم بفضل الشيخ محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله تعالى – الذي كان لدعوته كبير الأثر في محاربة البدع ، ورجوع الناس إلى العقيدة الصحيحة .
أسباب اختيار الموضوع :
بما أني أحد الدارسين بكلية أصول الدين بالرياض ، قسم العقيدة والمذاهب المعاصرة ، وكان نظام الدراسات العليا في هذه الكلية ينص على أن الطالب يدرس سنة تمهيدية يقدم بعدها بحثاً علمياً يتناول جانباً من جوانب الحياة في مجال تخصصه ، فقد بذلت جهدي في العثور على موضوع يكون ذا فائدة علمية ، فوقع اختياري على موضوع (البدع الحولية ) . وعلى الرغم مما وجدته من صعوبة في البحث عن هذه البدع ولم شتاتها ، فقد اخترت هذا الموضوع لعدة أسباب ، منها :
انتشار كثير من البدع في البلاد الإسلامية ، بل إن بعض الناس في تلك البلدان اعتبر بعض البدع سنناً يجب المحافظة عليها ، كاحتفالهم بالمولد النبوي ونحوه .
أن من أهم أسباب انتشار البدع هو سكوت العلماء وطلاب العلم عن إنكار هذه البدع ، واختياري الكتابة في هذا البحث من باب المشاركة في إنكار هذه المنكرات .
ولما كانت هذه البدع منتشرة ومتفرقة في بطون الكتب ، أحببت جمعها وتحقيقها ، وتقريبها لذهن القارئ ، مسلسلة حسب أزمانها ، والاستشهاد بكلام العلماء في حكمهم على هذه الأمور المحدثة بأنها بدع منكرة .
وكذلك تحقيق الخلاف في بعض الأمور التي اختلف العلماء في حكمها : كعتيرة رجب،والتعريف يوم عرفة ،ونحو ذلك .(22/3)
الإشارة إلى بعض الاحتفالات المبتدعة ، والتي صار لها رواج بين المسلمين ،إلا من عصم الله ، ولم يذكرها أغلب العلماء ممن صنفوا في هذا المجال ، كالاحتفال بأعياد الميلاد ، ورأس السنة الهجرية ، وغير ذلك من الاحتفالات المحدثة .
الرغبة في الإلمام قدر الاستطاعة بما صنفه العلماء حول هذا الموضوع .
وقد سرت في إعداد البحث على خطة تشمل على :
مقدمة ، وتمهيد ، وتسعة فصول ، وخاتمة .
أما المقدمة :
فقد تناولت فيها أهمية الموضوع ، وأسباب اختياري له ، والمنهج الذي سأسلكه – إن شاء الله تعالى – في معالجة موضوعاته .
وأما التمهيد :
فقد تكلمت فيه عن البدع :
أولاً : تعريف البدع لغة واصطلاحاً .
ثانياً : حكم البدع في الإسلام .
ثالثاً : أسباب نشأة البدع .
رابعاً : أول بدعة ظهرت في الإسلام .
خامساً : أسباب انتشار البدع .
سادساً : آثار البدع على المجتمع .
سابعاً : وسائل الوقاية من البدع .
ثامناً : البدع الحولية .
ثم تسعة فصول على النحو التالي :
الفصل الأول :
شهر المحرم : ويشتمل على ثلاثة مباحث:
المبحث الأول : بعض الآثار الواردة فيه .
المبحث الثاني : البدعة الحزن فيه عند الرافضة .
المبحث الثالث : بدعة الفرح فيه عند النواصب .
الفصل الثاني :
شهر صفر : ويشتمل على مبحثين :
المبحث الأول : بعض الآثار الواردة فيه .
المبحث الثاني : بدعة التشاؤم به .
الفصل الثالث :
شهر ربيع الأول : بدعة الاحتفال بالمولد النبوي : ويشمل على ستة مباحث :
المبحث الأول : أول من أحدث هذه البدعة .
المبحث الثاني : حالة المجتمع في ذلك العصر .
المبحث الثالث : بعض الشبه التي عرضت للقائلين بهذه البدعة والجواب عنها .
المبحث الرابع : طريقة إحياء المولد .
المبحث الخامس : حقيقة محبته صلى الله عليه وسلم .
المبحث السادس : موقف أهل السنة من هذه البدعة .
الفصل الرابع :
شهر رجب : ويشتمل على خمسة مباحث :
المبحث الأول : بعض الآثار الواردة فيه .(22/4)
المبحث الثاني : ويحتوي علي مطلبين .
* المطلب الأول : تعظيم الكفار لشهر رجب .
* المطلب الثاني : عتيرة رجب .
المبحث الثالث : بدعة تخصيصه بالصيام أو القيام وحكم العمرة فيه والزيارة الرجبية .
المبحث الرابع : بدعة صلاة الرغائب .
المبحث الخامس : بدعة الاحتفال بليلة الإسراء والمعراج .
الفصل الخامس :
شهر شعبان ، ويشتمل على ثلاثة مباحث :
المبحث الأول : بعض الآثار الواردة فيه .
المبحث الثاني : بدعة الاحتفال بليلة النصف من شعبان .
المبحث الثالث : بدعة الصلاة الألفية .
الفصل السادس :
شهر رمضان : ويشتمل على مبحثين :
المبحث الأول : فضل هذا الشهر وما ورد فيه .
المبحث الثاني : بعض البدع التي تقام في هذا الشهر .
أولاً : قراءة سورة الأنعام .
ثانياً : بدعة صلاة التراويح بعد المغرب .
ثالثاً : بدعة صلاة القدر .
رابعاً :بدعة القيام عند ختم القرآن في رمضان بسجدات القرآن كلها في ركعة .
خامساً : بدعة سرد آيات الدعاء .
سادساً : بدعة الذكر بعد التسليمتين من صلاة التراويح .
سابعاً : بعض بدع ليلة ختم القرآن .
ثامناً : بدعة التسحير .
تاسعاً : البدع المتعلقة برؤية هلال رمضان .
عاشراً : بدعة حفيظة رمضان .
أحد عشر : بدعة قرع النحاس آخر الشهر .
اثنا عشر : بدعة وداع رمضان .
ثلاثة عشر : بدعة الاحتفال بذكرى غزوة بدر .
الفصل السابع :
شهر شوال ، ويشتمل على ثلاثة مباحث :
المبحث الأول : بعض الآثار الواردة فيه .
المبحث الثاني : بدعة التشاؤم من الزواج فيه
المبحث الثالث : بدعة عيد الأبرار .
الفصل الثامن :
شهر ذي الحجة، ويشتمل على ثلاثة مباحث :
المبحث الأول : بعض الآثار الواردة فيه .
المبحث الثاني : بدعة التعريف .
المبحث الثالث : بدعة عيد غدير خم .
الفصل التاسع :
مشابهة المسلمين للكفار في أعيادهم . ويشتمل على ثمانية مباحث :
المبحث الأول : الاحتفال بعيد ميلاد المسيح .
المبحث الثاني : الاحتفال بالنيروز.(22/5)
المبحث الثالث : الاحتفال بأعياد الميلاد.
المبحث الرابع : الاحتفالات والأعياد المحدثة .
المبحث الخامس : الاحتفال برأس السنة الهجرية .
البحث السادس : الاحتفال برأس القرن الهجري.
المبحث السابع : الاحتفال بذكرى بعض العلماء.
المبحث الثامن : مشروعية مخالفة أهل الكتاب .
الخاتمة :
وذكرت فيها أهم النتائج التي توصلت إليها من خلال هذا البحث .
منهجي في إعداد البحث .
أفردت كل شهر بفصل خاص ،ذكرت في مقدمته بعض الآثار الواردة فيه،وأشرت في بعض الأشهر إلى بعض الأحاديث الموضوعة ، وهناك بعض الأشهر لم أعثر فيما اطلعت عليه من كتب السنة على آثار في فضله كشهر ربيع الأول .
ذكرت أشهر البدع التي تحدث في كل شهر من شهور السنة الهجرية مستشهداً بكلام الأئمة الأعلام ، وبعض العلماء ، على كون هذه الأمور مبتدعة ، ليس لها أصل من الكتابة أو السنة أو الإجماع . وهناك بعض الأشهر لم أجد-حسب اطلاعي المحدود- أحداً من العلماء ذكر فيها شيئاً من البدع-كشهر ربيع الثاني ، وشهري جماد الأولى والثاني ، وشهر ذي القعدة - .
حققت الخلاف – قدر استطاعتي – في بعض الأمور التي اختلف العلماء فيها كعتيرة رجب ، وليلة النصف من شعبان ، والتعريف يوم عرفة ، وذكرت ما ترجح لي في الحكم على هذه الأمور .
ذكرت بعض الاحتفالات المحدثة ، التي أصلها التشبّه بأهل الكتاب وغيرهم ، في احتفالاتهم الباطلة ثم عقبت ذلك بذكر بعض الأدلة من الكتاب والسنة والآثار والاعتبار على النهي عن التشبه بأهل الكتاب عموماً ، وعن مشابهتهم في احتفالاتهم وأعيادهم خصوصاً .
قمت بتخريج الآيات والأحاديث والآثار على النحو التالي :
بالنسبة للآيات : أذكر رقم الآية والسورة التي وردت فيها .
وبالنسبة للأحاديث والآثار : فإني أذكر راوي الحديث أو الأثر ، واسم الكتاب ، والجزء ورقم الصفحة ،ورقم الحديث إن وجد .(22/6)
وبالنسبة للأحاديث المتفق على صحتها : اقتصرت على رواية الشيخين لها فقط دون غيرهما .
قمت بتفسير الكلمات الغريبة التي مرَّت في البحث ، وذلك بالرجوع إلى الكتب التي تعني بتفسير غريب الحديث والأثر ، وكذلك كتب اللغة .
ترجمت لجميع الأعلام الذين ورد ذكرهم في هذا البحث بشكل مختصر وذلك بذكر اسم المترجم له ، وتاريخ ولادته ، ووفاته ، وبعض صفاته ، وبعض مؤلفاته- إذا كانت له مؤلفات - . ووضعت ذلك كله في الهامش ليكون أسهل عند الرجوع إليه ، ورجعت في ذلك إلى كتب التراجم المعتمدة ، وهناك بعض الأعلام لم أعثر على ترجمة لهم فأشرت إلى ذلك في الهامش(1) .
قمت بعمل فهارس شاملة لهذه الرسالة : فوضعت فهرساً للآيات ، وفهرساً للأحاديث والآثار ، وفهرساً للأعلام ، وفهرساً للأماكن والبلدان ، وفهرساً للفرق ، وفهرساً لمصادر البحث ، وفهرساً للموضوعات . وكل ذلك تم عمله في أصل الرسالة ، ولكني اكتفيت هنا – خشية الإطالة – بذكر فهرس مصادر البحث وكذا فهرس الموضوعات .
واتبعت في هذا الطرق التي يجري اتباعها في عمل مثل هذه الفهارس ، ووضحت في بداية كل فهرس الطريقة المتبعة فيه لتسهل الاستفادة منه(2).
التزمت بما ورد في خطة البحث المشار إليها سابقاً ، وحاولت أن أوفي كل موضوع حقه قدر الإمكان ، حتى استدعى ذلك الإطالة في بعض الموضوعات .
بذلت جهدي ، واستفرغت طاقتي في صياغة أسلوب هذا البحث ، ليكون سهل العبارة ، متناسق التركيب ، واضح المعنى .وأشرت في كل مبحث إلى المراجع التي اعتمدت عليها ليسهل على القارئ الرجوع إليها .
وبعد :
فإنني أجزم بأنني لو أعدت النظر في هذا البحث مرة بعد أخرى لوجدت فيه ما يحتاج إلى تعديل أو تبديل ، أو تقديم أو تأخير ، ولكني أقول :
__________
(1) - يراجع : أصل الكتاب (( البدع الحولية ))
(2) - يراجع : أصل الكتاب (( البدع الحولية ))(22/7)
هذا جهد المقل ، فما كان فيه من صواب فمن الله سبحانه وتعالى وأحمده على ذلك ، وما كان فيه من خطأ فمني ومن الشيطان وأستغفر الله من الخطأ والزلل ، فالكمال لله وحده ، والعصمة لأنبيائه ورسله ، وكل كتاب لا يخلوا من هذا سوى كتاب الله فهو الذي {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ}(1) .وقال عز من قائل : {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيرا}(2). فلا شك أن النقص مستول على جملة البشر إلا من عصم الله .
وأنه من باب الاعتراف بالجميل ، وإرجاع الفضل إلى أهله ،لا يفوتني أن أشكر الله العلي القدير على ما يسر لي من سبل البحث، ثم أشكر كل من مدَّ لي يد العون والمساعدة بتوجيهات وإرشاداته خلال إعدادي لهذا البحث .
وأخص بالشكر فضيلة الشيخ / فهد بن حمين الفهد ، المشرف على هذه الرسالة ، والأستاذ بكلية أصول الدين ، الذي منحني الكثير من وقته وجهده وعلمه ، رغم كثرة مشاغله ،فقد وجدت من فضيلته كل تعاون وتوجيه ، مع رحابة صدر وتواضع جم، فكان لي – بعد الله – خير مرشد ومعين وموجه إلى طريقة البحث السليم ، فالله أسأل أن يجزيه عني خير الجزاء وأن يجزل له المثوبة والأجر ، وأن ينفع به الإسلام والمسلمين .
كما أخص بالشكر فضيلة الشيخ / عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ الأستاذ بكلية الشريعة بالرياض الذي عرضت عليه خطة البحث قبل تقديمها للكلية ، وأبدى بعض الملاحظات القيمة عليها ، وجعل مكتبته الخاصة رهن إشارتي ، ولم يبخل عليَّ بعلمه ومشورته ووقته أيضاً ، رغم كثرة التزاماته ، فجزاه الله عني وعن المسلمين خير الجزاء .
__________
(1) - سورة فصلت:42.
(2) - سورة النساء: الآية82.(22/8)
كما أتقدم بالشكر والتقدير لكلية أصول الدين ، ولعموم الأساتذة الأفاضل أعضاء قسم العقيدة والمذاهب المعاصرة الذين كان لتوجيهاتهم الطيبة أكبر الأثر في خروج هذا البحث على هذا الشكل .
وختاماً :
أرجو المعذرة مرة أخرى عما يحصل في هذا البحث من خطأ أو تقصير أو نقص ، وأسأله سبحانه وتعالى أن يجعل عملي هذا خالصاً لوجهه الكريم ، وأن ينفع به إنه ولي ذلك والقادر عليه .
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم
المؤلف
************************************************
التمهيد
البدع
أولاً : تعريف البدع لغة واصطلاحاً .
ثانياً : حكم البدع في الإسلام .
ثالثاً : أسباب نشأة البدع .
رابعاً : أول بدعة ظهرت في الإسلام .
خامساً : أسباب انتشار البدع .
سادساً : آثار البدع على المجتمع .
سابعاً : وسائل الوقاية من البدع .
ثامناً : البدع الحولية .
أولاً : تعريف البدعة.
1- البدع لغة:
قال ابن منظور : (( بدع الشيء يبدعه بدعاً وابتدعه : أنشأه وبدأه . وبدع الركيَّة : استنبطها وأحداثها ... والبديع والبدع : الشيء الذي يكون أولاً )).
وفي التنزيل : { قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ}(1) أي : ما كنت أول من أُرسِل ،قد أرسل قبلي رسلٌ كثير....
وفلان بدع في هذا الأمر أي أول لم يسبقه أحد .... وأبدع وابتدع وتبدَّع : أتى ببدعةٍ ، قال الله تعالى :{وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا}(2).
قال رؤبة :
إن كنت للهِ التقيّ الأطوعا فليس وجه الحقِّ أن تبدعا
وبدّعه : نسبة إلى البدعةِ .
والبديع : المحدث العجيب ، والبديع : المبدع .
وأبدعت الشيء : اخترعته لا على مثال .
__________
(1) -سورة الاحقاف: الآية9.
(2) -سورة الحديد: الآية27 .(22/9)
والبديع : من أسماء الله تعالى لإبداعهِ الأشياء وإحداثه إياها . وهو البديع الأول قبل كل شيءٍ ، ويجوز أن يكون بمعنى مبدع ، أو يكون من بدع الخلق أي بدأه ، والله تعالى كما قال سبحانه : {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}(1) . أي : خالقها ومبدعها ، فهو سبحانه الخالق المخترع لا عن مثال سابق ...
وسقاء بديع : أي جديد ....
وأبدعت الإبل : بركت في الطريق من هزال أو داء أو كلال .
وأبدعت هي : كلت أو عطبت ، وقيل : لا يكون الإبداع إلا بظلع .
وأبدع وأبدع به وأبدع : كلَّت راحلته أو عطبت وبقي منقطعاً به ، وحسر عليه ظهره أو قام به أي وقف به. وفي الحديث: أن رجلاً أتي النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ! إني أبدع بي فاحملني(2) . أي : انقطع بي لكلال راحلتي .... كأنه جعل انقطاعها عما كانت مستمرة عليه من عادة السير إبداعاً أي إنشاء أمر خارج عما أعتيد منها(3).
فتبين لنا مما تقدَّم أن معنى (بدع ) يقصد به غالباً الإحداث والاختراع على غير مثال سابق .
وإبداع الإبل – أي تعبها وكللها – أمر حادث أيضاً ، فالمعتاد منها الاستمرار في السير .
فالبدعة : اسم هيئة من الابتداع ، كالرفعة من الارتفاع ، وهي كل شيء أحدث على غير مثال سابق(4).
2- البدعة في الاصطلاح :
اختلف العلماء في تحديد معنى البدعة في الاصطلاح ، فمنهم من جعلها مقابل السنة ، ومنهم من جعلها عامة تشمل كل ما حدث بعد عصر الرسول صلى الله عليه وسلم سواء كان محموداً أو مذموماً ، ونبين ذلك فيما يلي :
القول الأول :
__________
(1) -سورة البقرة: الآية117.
(2) - رواه مسلم في صحيحه (3/1506) ، كتاب الإمارة ، حديث رقم (1893) .
(3) - يراجع : لسان العرب ، لابن منظور : مادة (بدع ) (8/6- 8) .
(4) - يراجع : كتاب البدعة ، للدكتور عزة عطية ص (157) .(22/10)
أن كل ما حدث بعد عصر الرسول الله صلى الله عليه وسلم فهو بدعة ، سواء كان محموداً أو مذموماً . وقال به الشافعي ، والعز بن عبد السلام ، والقرافي ، والغزالي في الإحياء ، وابن الأثير في النهاية في غريب الحديث والأثر(1) ، والنووي في شرح صحيح مسلم(2).
قال الإمام الشافعي – رحمه الله – فيما روي عن حرملة بن يحي قال : سمعت الإمام الشافعي – رحمه الله – يقول : ( البدعة بدعتان : بدعة محمود وبدعة مذمومة ، فما وافق السنة فهو محمود ، وما خالف السنة فهو مذموم )(3) .
وقال العز بن عبد السلام في تعريف البدعة هي: ( فعل ما لم يعهد في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم )(4) .
وقد اعتمدوا في ذلك على ما ورد عن عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – حيث قال في صلاة التراويح : ((نعم البدعة هذه ))(5).
القول الثاني :
أن البدعة لا تطلق على ما خالف السنة
و به قال الشاطبي ،وابن حجر العسقلاني ،وابن حجر الهيتمي ، وابن رجب الحنبلي ، وشيخ الإسلام ابن تيمية ، والزركشي .
__________
(1) - يُراجع النهاية في غريب الحديث والأثر (1/106،107) .
(2) - يُراجع : شرح مسلم للنووي (6/154 ، 155) .
(3) - يُراجع : حلية الأولياء ، لأبي نعيم (9/113) ، ويراجع – أيضاً - : فتح الباري (13/253) .
(4) - يراجع : قواعد الأحكام (2/113) .
(5) - رواه البخاري في صحيحه المطبوع مع فتح الباري (4/250) كتاب صلاة التراويح ، حديث (2010) . ورواه مالك في الموطأ (1/114) بلفظ : نعمت البدعة هذه )) .(22/11)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله -: ( وقد قررنا في قاعدة السنة والبدعة : أن البدعة في الدين هي ما لم يشرعه الله ورسوله ، وهو ما لم يأمر به أمر إيجاب ولا استحباب ، فأما ما أمر به أمر إيجاب أو استحباب ، وعلم الأمر به بالأدلة الشرعية : فهو من الدين الذي شرعه الله ،وإن تنازع أولو الأمر في بعض ذلك .وسواء كان هذا مفعولاً على عهد النبي صلى الله عليه وسلم أو لم يكن . فما فعل بعده بأمره ؛ من قتال المرتدين ، والخوارج(1) المارقين ، وفارس ، والترك ، والروم ،وإخراج اليهود والنصارى من جزيرة العرب ، وغير ذلك – هو من سنته(2).
وقال الشاطبي في تعريف البدعة : ( البدعة طريقة في الدين مخترعة تضاهي الشرعية ، يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد لله سبحانه ) .
وهذا على رأي من لا يدخل العادات في معنى البدعة ، وإنَّما يخصّها بالعبادات .
وأما على رأي من أدخل الأعمال العادية في معنى البدعة فيقول : ( البدعة طريقة في الدين مخترعة تضاهي الشرعية ، يقصد بالسلوك عليها ما يقصد بالطريقة الشرعية )(3).
أدلة أصحاب القول الثاني :
أ- من السنة:
__________
(1) - الخوارج : هم أول من فارق جماعة المسلمين من أهل البدع المارقين ، القائلون بتكفير عثمان وعلي –رضي الله عنهما - ، ويقدمون ذلك على كل طاعة ، وكذلك تكفير الحكمين ، وكل من رضي بالتحكيم ، ويكفّرون أصحاب الكبائر ، ويرون الخروج على الإمام إذا خالف السنة حقاً واجباً ، وينقسمون إلى عدة فرق .
يُراجع : الفرق بين الفرق للبغدادي ص (55) ، والملل والنحل للشهرستاني ص(114- 137) ، ومجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (3/349) .
(2) - يُراجع : مجموعة الفتاوى (4/107، 108) .
(3) - يُراجع : الاعتصام للشاطبي (1/37) .(22/12)
ما رواه جابر بن عبد الله – رضي الله عنهما- قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خطب احمرت عيناه، وعلا وصوته ، واشتد غضبه ، حتى كأنه منذر جيش يقول ((صبحكم ومساكم )) ، ويقول : ((بعثت أنا والساعة كهاتين ))، ويقرن بين أصبعيه السبابة والوسطى ، ويقول : (( أما بعد : فإن خير الحديث كتاب الله ،وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها ، وكل بدعة ضلالة )) ، ثم يقول : (( أنا أولى بكل مؤمن من نفسه ، من ترك مالاً فلأهله، ومن ترك ديناً أو ضياعاً فإلي وعلي))(1) .
ما رواه ابن مسعود – رضي الله عنه – مرفوعاً وموقوفاً أنه كان يقول : (( إنما هما اثنتان الكلام والهدي ،فأحسن الكلام كلام الله ، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم ألا وإياكم ومحدثات الأمور ، فإن شر الأمور محدثاتها ، وكل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلاله ))(2)
ما رواه العرباض بن سارية - رض الله عنه - قال :صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم ، ثم أقبل علينا فوعظنا موعظة بليغة ذرفت منها العيون ، ووجلت منها القلوب ، فقال قائل : يا رسول الله ! كأن هذه موعظة مودع فماذا تعهد إلينا ؟ فقال : (( أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة ، وإن عبداً حبشياً ، فإنه من يعش منكم فسير اختلافاً كثيراً فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين ، تمسكوا بها ، وعضُّو عليها بالنواجذ ، وإياكم ومحدثات الأمور ، فإن كل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة ))(3)
__________
(1) - رواه مسلم في صحيحه المطبوع مع شرح النووي (6/153-154) ، كتاب الجمعة . ورواه النسائي في سننه (3/189) ، كتاب صلاة العيدين . ورواه ابن ماجه في سننه (1/17) ، المقدمة .
(2) - رواه ابن ماجه في سننه مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم (1/18) المقدمة . وفي سنده عبيده بن ميمون الدني ، قال ابن حجر : مستور . تقريب التهذيب (1/545) .
(3) - رواه الإمام أحمد في مسنده (4/126، 127) .
ورواه أبو داود في سننه المطبوع مع شرحه عون المعبود (12/358- 360) كتاب الفتن ، واللفظ له .
ورواه الترمذي في سننه المطبوع مع شرحه تحفة الأحوذي (7/ 438-442). وقال هذا حديث حسن صحيح ، باب الأخذ بالسنة واجتناب البدعة .
ورواه ابن ماجه في سننه (1/ 15، 16 ) ، المقدمة .…(22/13)
ب- ومن الآثار :
ما ورد عن ابن العباس – رضي الله عنهما – أنه قال : ((ما أتى على الناس عام ، إلا أحدثوا فيه بدعة ، وأماتوا فيه سنَّة، حتى تحيا البدع وتموت السنن ))(1).
وورد عن ابن مسعود – رضي الله عنه – أنه قال : (( اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كُفيتم ))(2).
فما تقدم من الأحاديث والآثار ، يدلُّ على أنَّ البدعة لم ترد في الشرع إلا مذمومة .
فالراجح- والله أعلم – أن البدعة لا تطلق إلا على ما خالف السنة ، فليس في البدع محمود .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله - : ( واعلم أن هذه القاعدة وهي : الاستدلال بكون الشيء بدعة على كراهته ، قاعدة عامة عظيمة ، وتمامها بالجواب عما يعارضها ، وذلك أن من الناس من يقول : البدع تنقسم إلى قسمين : حسنة ، وقبيحة . بدليل قول عمر رضي الله عنه – في صلاة الترويح : ((نعمت البدعة هذه ))(3).
وهؤلاء المعارضون يقولون : ليست كل بدعة ضلالة .
والجواب : أما القول ((أن شر الأمور محدثاتها ،وأن كل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار))، والتحذير من الأمور المحدثات: فهذا نصُّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلا يحل لأحد أن يدفع دلالته على ذمّ البدع ، ومن نازع في دلالته فهو مراغم .....
__________
(1) - قال الهيثمي في مجمع الزوائد : (( رواه الطبراني في الكبير ورجاله موثقون )). مجمع الزوائد (1/188) ، باب في البدع والأهواء . ورواه ابن وضَّاح في كتاب البدع ص(39) .
(2) - قال الهيثمي في مجمع الزوائد : (( رواه الطبراني في الكبير ورجاله رجال الصحيح)). مجمع الزوائد (1/181)، باب الاقتداء بالسلف .
(3) - رواه البخاري في صحيحه المطبوع مع فتح الباري (4/250) كتاب صلاة التراويح ، حديث (2010) . ورواه مالك في الموطأ (1/114) بلفظ : نعمت البدعة هذه )) .(22/14)
(ولا يحلُّ لأحد أن يقابل هذه الكلمة الجامعة من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهي قوله : ((كل بدعة ضلالة )). بسلب عمومها ، وهو أن يقال : ليست كل بدعة ضلالة ، فإن هذا إلى مشاقة رسول الله صلى الله عليه وسلم أقرب منه إلى التأويل )(1).
فأمَّا صلاة الترويح فليست بدعة في الشريعة ، بل سنة بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم وفعله في الجماعة .ولا صلاتها في الجماعة بدعة ، بل هي سنة في الشريعة ، بل قد صلاَّها رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجماعة ،في أول شهر رمضان ثلاث ليال ،وقال في الرابعة : (( أمَّا بعد: فإنه لم يخف على مكانكم ،ولكني خشيت أن تفرض عليكم فتعجزوا عنها))(2).
فعلَّل صلى الله عليه وسلم عدم الخروج بخشية الافتراض ، فعلم بذلك أن المقتضي للخروج قائم ، وأنه لولا خوف الافتراض لخرج إليهم ، فلما كان في عهد عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – جمعهم على قارئ واحد(3)، وأسرج المسجد ، فصارت هذه الهيئة ، وهي اجتماعهم في المسجد وعلى إمام واحد مع الإسراج عملاً لم يكونوا يعملونه من قبل ، فسُمِّي بدعة ؛ لأنَّهُ في اللغة يسمى بذلك ، ولم يكن بدعة شرعية ؛ لأنَّ السنَّة اقتضت أنه عمل صالح ، لولا خوف الافتراض ، وخوف الافتراض زال بموته صلى الله عليه وسلم ، فانتفى المعارض(4).
__________
(1) - يُراجع : اقتضاء الصراط المستقيم ، لشيخ الإسلام ابن تيمية (2/582-588)
(2) - رواه البخاري في صحيحه المطبوع مع فتح الباري (4/251) كتاب صلاة التراويح ، حديث (2012) وفي مواضع أخرى .
ورواه مسلم في صحيحه( 1/524) ، كتاب صلاة المسافرين ، حديث رقم (761) (178) .
(3) - وهو : الصحابي الجليل أبي بن كعب . يراجع : الموطأ (1/114) .
(4) - يُراجع : اقتضاء الصراط المستقيم ، لشيخ الإسلام ابن تيمية (2/588-591)(22/15)
وأما قولُ عمر- رضي الله عنه- : (( نعمت البدعة هذه )) فأكثر المحتجِّين بهذا لو أردنا أن نثبت حكماً بقول عمر – رضي الله عنه- الذين لم يُخالف فيه ، لقالوا : قول الصاحب ليس بحجة ، فكيف يكون حجة لهم في خلاف قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن اعتقد أن قول الصاحب حجَّة ، فلا يعتقده إذا خالف الحديث .
وتسمية عمر - رضي الله عنه- صلاة التراويح بدعة، تسمية لغوية ، لا تسمية شرعية ؛ لأن البدعة في اللغة تعم كل ما فعل ابتداءً من غير مثال سابق .
وأما البدعة الشرعية : فما لم يدل عليه دليل شرعي . فإذا كان نص رسول الله صلى الله عليه وسلم قد دلَّ على استحباب فعل ، أو إيجابه بعد موته ، أو دلَّ عليه مطلقاً ، ولم يعمل به إلا بعد موته ككتاب الصدقة الذي أخرجه أبو بكر – رضي الله عنه - ، فإذا عمل ذلك العمل بعد موته ، صحَّ أن يسمى بدعة في اللغة ؛ لأنَّه عمل مبتدأ ، وكذلك صلاة التراويح ، ومثلها جمع القرآن الكريم ، ونفي عمر – رضي الله عنه – ليهود خيبر(1) ونصارى نجران(2)
__________
(1) - وهي ناحية على ثمانية برد من المدينة لمن يريد الشام ، يطلق هذا الاسم على الولاية وهي مشتملة على سبعة حصون ومزارع ونخل كثير ، وخبير بلسان اليهود : الحصن ، وقد فتحها النبي صلى الله عليه وسلم في سنة سبع أو ثمان للهجرة ، وفي خلافة عمر – رضي الله عنه - ، نفى أهلها إلى الشام . يُراجع : معجم البلدان (2/409- 410) ، وهي الآن تابعة لإمارة المدينة النبوية .
(2) - - نجران من مخاليف اليمن من ناحية مكة ، وسمي بذلك نسبة إلى نجران بن يعرب بن قحطان ؛ لأنه أول من عمرها ، وبها واد عظيم ، وكان بها على زمن النبي صلى الله عليه وسلم كعبة وبها أساقفة وهم الذين دعاهم صلى الله عليه وسلم للمباهلة . وبها خُد الأخدود ولا زالت آثاره باقية .
وهي الآن تابعة للمملكة العربية السعودية ، وبها إمارة خاصة بمنطقة نجران وتبعد عن الرياض حوالي تسعمائة كيلوا متر عن طريق وادي الدواسر ، وتشتهر بالزراعة . يراجع : معجم البلدان (5/266 – 270 ).(22/16)
، ونحوهما من جزيرة العرب(1).
ثانياً : حكم البدع في الإسلام :
يختلف حكم البدعة باختلاف تقسيمها ، فالعلماء الذين قسَّمُوا البدعة إلى خمسة أقسام بحسب الأحكام التكليفية- كالعز بن عبد السلام وغيره-لا إشكال عندهم- رحمهم الله- في حكم البدعة، فهي عندهم تنقسم إلى بدعة واجبة وبدعة مندوبة ، وبدعة مباحة وبدعة مكروهة وبدعة محرمة.
فالبدعة الواجبة حكمها الوجوب،والبدعة المندوبة حكمها الندب...وهكذا باقي أقسام البدعة عندهم.
وأما على قول من قال إن البدع كلها مذمومة - وهو القول الراجح من أقوال العلماء -فإنهم قالوا بأن البدع حرام ، ولكنها تتفاوت في التحريم :
أ- فمنها ما هو كفر لا يحتمل التأويل ، كبدعة الجاهلية التي نبَّه عليها القرآن ، كقوله تعالى : {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيباً فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا}(2).
وقوله تعالى : {وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ}(3) .
وقوله تعالى : { َا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حَامٍ}(4) .
وكذلك بدعة المنافقين في اتخاذ الدين ذريعة لحفظ النفس والمال...وما أشبه ذلك من أنواع الكفر
__________
(1) - يُراجع : اقتضاء الصراط المستقيم (2/589-592) .
(2) - سورة الأنعام: الآية136.
(3) - سورة الأنعام: الآية139.
(4) -سورة المائدة: الآية103.(22/17)
ب- ومنها ما هو من المعاصي التي ليست بكفر ، أو مختلف فيها هل هي كفر أم لا ؟ ؛ كبدعة الخوارج ، والقدرية(1)، والمرجئة(2) ، ومن أشبههم من الفرق الضَّالة .
ج- ومنها ما هو معصية ؛ كبدعة التبتل ، والصيام قائماً في الشمس ، والخصاء بقصد قطع شهوة الجماع .
د-ومنها ما هو مكروه ، كبدعة التعريف – وهو اجتماع الناس في المساجد للدعاء عشية عرفة – وذكر السلاطين في خطبة الجمعة ، ونحو ذلك .
فهذه البدع ليست في رتبة واحدة ، وليس حكمها واحد .
__________
(1) - القدرية : فرقة ضالة تنفي صفات الله الأزلية كالعلم والقدرة والحياة والسمع والبصر وأنه ليس لله اسم ولا صفة ، وأن الله لا يُرى ، وأن كلام الله حادث مخلوق ، وأن الله غير خالق لأكساب الناس ، وأن الناس هم الذين يقدرون كسبهم ، فهم ينكرون القدر فلذلك سمُّو قدرية .وبدعتهم هذه حدثت في آخر عصر الصحابة وكان أكثرهم في الشام والبصرة وفي المدينة أيضاً ، وأصل هذه البدعة أحدثها مجوسي من البصرة ثم تلقَّاها عنه معبد الحهني . وقد أنكر الصحابة عليهم ذلك.
يراجع : الفرق بين الفرق ص(93- 94) ، ومجموع الفتاوى (7/384- 386) ، وكذلك (13/36،37) .
(2) - المرجئة : من الفرق الضَّلَّة التي تقوم : لا يضر مع الإيمان معصية ، كما لا ينفع مع الكفر طاعة ، والإرجاء هو : التأخير ، وسمُّوا مرجئة لتأخيرهم العمل عن النية ، أو لتأخير حكم صاحب الكبيرة إلى يوم القيامة ، ويقولون : إنَّ الإيمان لا يزيد ولا ينقص . وإنه يكون في القلب واللسان .
يراجع : الفرق بين الفرق (190- 195) ، والملل والنِّحل للشهرستاني ص(139-146) .(22/18)
وكما أن المعاصي منها ما هو صغيرة ، ومنها ما هو كبيرة ويعرف ذلك بكونها واقعة في الضروريات أو الحاجيات أو التكميليات - التحسينات - فإن كانت الضروريات- وهي الدين ، والنفس ، والنسل ، والعقل ، والمال - فهي أعظم الكبائر ، وإن وقعت في التحسينات فهي أدنى رتبة بلا إشكال ، وإن وقعت في الحاجيات فمتوسطة بين الرتبتين .
والبدع من جملة المعاصي ، وقد ثبت التفاوت في المعاصي ، فكذلك يتصور مثله في البدع :
فمنها ما يقع في الضروريات ، ومنها ما يقع في الحاجيات ، ومنها ما يقع في التحسينات .
وما يقع في رتبة الضروريات : منه ما يقع في الدين أو النفس أو النسل أو العقل أو المال .
فمثال وقوعه في الدين : ما تقدم من اختراع الكفار ، وتغييرهم ملة إبراهيم - عليه السلام – من نحوه قول تعالى: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حَامٍ}(1) .
قال سعيد بن المسيب- رحمه الله-: البحيرة : التي يمنح درّها للطواغيت ،فلا يحلبها أحد من الناس.
والسَّائبة : كانوا يسبونها لآلهتهم فلا يحمل عليها شيء .
والوصيلة : الناقة البكر ، تُبكّر في أول نتاج الإبل بأنثى ، ثم تثنى بعد بأنثى ، وكانوا يُسيبونها لطواغيتهم إن وصلت إحداهما بالأخرى ، ليس بينهما ذكر .
والحام : فحل الإبل يضرب الضراب المعدود ، فإذا قضى ضرابه ، ودعوه للطواغيت ، وأعفوه من الحمل فلم يُحمل عليه شيء ، وسموه الحامي(2) .
ففي الآية السابقة نفي لفعل أهل الجاهلية وتغييرهم ملة إبراهيم – عليه السلام- ، حيث اخترعوا أشياء من أنفسهم ، ونسبوه إلى الدين ، وجعلوها من شعائرهم .
__________
(1) -سورة المائدة: الآية103.
(2) - رواه البخاري في صحيحه المطبوع مع فتح الباري (2/283) ، كتاب التفسير ، حديث (4623) .(22/19)
ومثال ما يقع في النفس : ما ذكر من نحل الهند في تعذيبها أنفسها بأنواع العذاب الشنيع والقتل بالأصناف التي تفزع منها القلوب ، كل ذلك على استعجاب الموت لنيل الدرجات العلى بزعمهم . ومنها قتل العرب أولادهم في الجاهلية خشية الفقر أو العار ، قال تعالى : { وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ }(1).
وقال تعالى {وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ*بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ }(2).
ومثال ما يقع في النسل : نكاحات الجاهلية ، فجاء عن عائشة أم المؤمنين – رضي الله عنها -: (( أن النكاح في الجاهلية كان على أربعة أنحاء : فنكاح منها نكاح الناس اليوم ، يخطب الرجل إلى الرجل وليّته أو ابنته فيصدقها ثم ينكحها .ونكاح آخر: كان الرجل يقول لامرأته إذا طهرت من طمثها : أرسلي إلى فلان فاستبضعي منه ، ويعتزلها زوجها ولا يمسها أبداً حتى يتبين حملها من ذلك الرجل الذي تستبضع منه ،فإذا تبين حملها أصابها زوجها إذا أحب، وإنَّما يفعل ذلك رغبة في نجابة الولد ،فكان هذا النكاح نكاح الاستبضاع . ونكاح آخر : يجتمع الرهط ما دون العشرة ، فيدخلون على المرأة كلهم يُصيبها ، فإذا حملت ووضعت ومرّ ليال بعد أن تضع حملها أرسلت إليهم ، فلم يستطع رجل منهم أن يمتنع ، حتى يجتمعوا عندها ، تقول لهم : قد عرفتم الذي كان من أمركم ، وقد ولدت فهو ابنك يا فلان ، تُسمي من أحبت باسمه ، فيلحق به ولدها ، لا يستطيع أن يمتنع به الرجل . ونكاح الرابع : يجتمع الناس الكثير فيدخلون على المرأة لا تمنع من جاءها ، وهنَّ البغايا ،كن ينصبن على أبوابهن رايات تكون علماً، فمن أرادهن دخل عليهنَّ ، فإذا حملت إحداهن ، ووضعت حملها ،ج معوا لها ودعوا لهم القافة ، ثم ألحقوا ولدها بالذي يرون فالتاطته به(3)
__________
(1) -سورة الاسراء: الآية31.
(2) -سورة التكوير:الآيتان 8،9.
(3) - فالتاطته به : أي استلحقته به ، وأصل اللوط – بفتح اللام - : اللصوق .
يراجع : النهاية لابن الأثير (4/277) باب اللام مع الواو ، وفتح الباري (9/185) .(22/20)
ودعي ابنه لا يمتنع من ذلك . فلما بُعث محمد صلى الله عليه وسلم بالحق هدم نكاح الجاهلية كله ، إلا نكاح الناس اليوم))(1) .
ومثال ما يقع في العقل : أن الشريعة بَّينت أن حكم الله على العباد لا يكون إلا بما شرع في دينه على ألسِنة أنبيائه ورسله ، ولذلك قال تعالى{فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ}(2).
وقال تعالى : { إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ}(3).
فخرجت أقوام عن هذا الأصل فزعموا أن العقل له مجال في التشريع وأنه مُحسن ومُقبح ، فابتدعوا في دين الله ما ليس فيه .
ومثال ما يقع في المال : أ الكفار قالوا :{ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا}(4).
فإنهم لما استحلوا العمل به احتجُّوا بقياس فاسد ، فقالوا : إذا فسخ العشرة التي اشترى بها إلى شهر في خمسة عشر إلى شهر ، فهو كما لو باع بخمسة عشر إلى شهرين فأكذبهم الله تعالى ورد عليهم فقال : {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا}(5) ؛ أي : ليس البيع مثل الربا ، فهذه محدثة أخذوا بها مستندين إلى رأي فاسد ، فكان من جملة المحدثات كسائر ما حدثوا في البيوع الجارية بينهم المبنية على الخطر والغرر.
ومن ذلك أيضاً ما شرعوه في الأموال كالحظوظ التي كانوا يخصُّون بها الأمير ، وسموها بأسماء مختلفة بينها شاعرهم بقول :
__________
(1) - رواه البخاري في صحيحه المطبوع مع فتح الباري (9/182، 183)، كتاب النكاح ، حديث رقم (5127) ، ورواه أبو داود في سننه (2/702) كتاب الطلاق ، حديث رقم (2272).
(2) -سورة النساء: لآية59.
(3) -سورة الأنعام: الآية57.
(4) - سورة البقرة: الآية275.
(5) - سورة البقرة: الآية275.(22/21)
لك المرباع فيها والصفايا وحكمك والنشيطة والفضول(1)
فلما أنزل الله القرآن بقسمة الغنيمة في قوله تعالى : {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ}الآية(2) ،ارتفع حكم هذه البدعة(3) .
ويرى الشاطبي أن البدعة لا تكون صغيرة إلا إذا توفرت فيها عدة شروط ؛ منها :
1- أن لا يداوم عليها ، فإنَّ الصغيرة من المعاصي لمن داوم عليها تكبر بالنسبة إليه ؛لأن ذلك ناشئ عن الإصرار عليها، والإصرار على الصغيرة يُصيِّرها كبيرة .
2- أن لا يدعو المبتدع إلى بدعته ، فإن البدعة قد تكون صغيرة بالإضافة ثم يدعو مبتدعها إلى القول بها والعمل على مقتضاها ، فيكون إثم ذلك كله عليه .
3- أن لا يفعلها في المواضع التي هي مجتمعات الناس أو المواضع التي تقام فيها السنن ، وتظهر فيها أعلام الشريعة ، فأما إظهارها في المجتمعات ممن يُقتدى به أو ممن يحسن الظن به، فذلك من أضر الأشياء على سنة الإسلام ؛ لأنه إما أن يقتدي العوام بصاحبها فيها ، وإذا اقتدى بصاحب البدعة الصغيرة كبرت بالنسبة إليه ، أو أن يتوهم الناس أن ما أظهره هو من شعائر الإسلام فكأنه بإظهاره لها يقول : هذه سنة فاتبعوها .
4-أن لا يستصغرها ولا يستحقرها،فإن ذلك استهانة بها،والاستهانة بالذنب أعظم من الذنب فكان ذلك سبباً لعظم ما هو صغير
فإذا تحققت هذه الشروط ، فإن ذلك يرجى أن تكون صغيرتها صغيرة ، فإذا تخلف شرط منها أو أكثر ، صارت كبيرة ، أو خيف أن تكون كبيرة ، كما أن المعاصي كذلك(4).
__________
(1) - المرباع : ربع المغنم . والصفايا : ما يصفيه الأمير لنفسه من المغنم . والنشيطة : ما يغنمه الغزاة في الطريق . والفضول : ما عجز عن أن يُقسم لقتله وخص به .
يراجع : لسان العرب (8/101) ، مادة (ربع ) .
(2) - سورة لأنفال: الآية41.
(3) - يراجع : الاعتصام للشاطبي (2/37-48) .
(4) - يراجع : الاعتصام للشاطبي (2/65- 72) .(22/22)
وبعد أن تكلمنا عن حكم البدع نورد بشكل موجز موقف السلف الصالح من البدع عموماً وتحذيرهم منها ، فمن ذلك :
قول ابن مسعود -رضي الله عنه - :(( الاقتصاد في السنة ، أحسن من الاجتهاد في البدعة ))(1).
وقول ابن عباس- رضي الله عنهما -: (( ما أتى على الناس عام إلا أحدثوا فيه بدعة ، وأماتوا فيه سنة حتى تحيا البدع ، وتموت السنن ))(2).
وكذلك قول ابن مسعود -رضي الله عنه - : ((اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كُفيتم ))(3).
وقال معاذ بن جبل – رضي الله عنه - : (( إن من ورائكم فتناً يكثر فيها المال ، ويفتح فيها القرآن ، حتى يأخذه المؤمن والمنافق ، والرجل والمرأة والصغير والكبير ، والعبد والحر ، فيوشك قائل أن يقول : ما للناس لا يتبعوني وقد قرأت القرآن ؟ ما هم بمتبعي حتى أبتدع لهم غيره . فإياكم وما ابتدع ، فإن ما ابتدع ضلالة ، وأحذركم زيغة الحكيم(4) ، فإن الشيطان قد يقول كلمة الضلالة على لسان الحكيم ، وقد يقول المنافق كلمة الحق ))(5).
__________
(1) - رواه الحاكم في مستدركه (1/103) كتاب العلم . وقال : هذا حديث مسند صحيح على شروطهما ولم يخرجاه . ووافقه الذهبي في تلخيصه .
(2) - قال الهيثمي في مجمع الزوائد (1/188) : رواه الطبراني في الكبير ورجاله موثّقون . ورواه ابن وضاح في كتابه البدع والنهي عنها ص (38) .
(3) - رواه الدارمي في سننه (1/69) . وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (1/181) ، وقال : رواه الطبراني في الكبير رجال الصحيح .
(4) - أي انحراف العالم عن الحق ، فإذا انحرف العالم عن الحق فلا يُتبع . يراجع : عون المعبود (12/364) ، باب لزوم السنة .
(5) - رواه أبو داود في سننه (5/17)، كتاب السنة موقوفاً على معاذ .(22/23)
فموقف السلف من البدع صريح وواضح ،وهو التحذير من البدع والحرص الشديد على التمسك بالسنة والاعتصام بها، ولهذا قال أئمة الإسلام؛ كسفيان الثوري وغيره ،أن البدع أحب إلى إبليس من المعصية ؛لأن البدعة لا يتاب منها ،والمعصية يتاب منها.
ومعنى قولهم أن البدعة لا يتاب منها :أن المبتدع الذي يتخذ ديناً لم يشرعه الله ولا رسوله ،قد زين له سوء عمله فرآه حسناً، فهو لا يتوب ما دام يراه حسناً لأن أول التوبة العلم بأن فعله سيئ ليتوب منه أو بأنه ترك حسناً مأموراً به أمر إيجاب أو استحباب ليتوب ويفعله ، فما دام يرى فعله حسناً وهو سيء في نفسه الأمر فإنه لا يتوب .
ولكن التوبة منه ممكنة وواقعة ، بأن يهديه الله ويرشده حتى يتبين له الحق كما هدى سبحانه وتعالى من هدى من الكفار والمنافقين ، وطوائف من أهل البدع والضلال(1).
وسئل الإمام أحمد بن حنبل – رحمه الله - : ( الرجل يصوم ويعتكف أحب إليك ، أو يتكلم في أهل البدع ؟ فقال : إذا قام وصلى واعتكف فإنما هو لنفسه ، وإذا تكلم في أهل البدع فإنما هو للمسلمين هذا أفضل )(2) .
وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – ( أن تحذير الأمة من البدع والقائلين بها واجب باتفاق المسلمين )(3).
وقال أيضاً – رحمه الله - : (إن أهل البدع شر من أهل المعاصي الشهوانية بالسنة والإجماع ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقتال الخوارج ونهى عن قتال أئمة الظلم ، وقال في الذي يشرب الخمر : ((لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله ))(4) .
__________
(1) - يراجع : مجموعة فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (28/231) .
(2) - يراجع : مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (28/231) .
(3) - يراجع مجموعة الفتاوى (28/231) .
(4) - رواه البخاري في صحيحه المطبوع مع فتح الباري (12/75) كتاب الحدود ، حديث رقم (6780) . ولفظه (( لا تلعنوه ، فوالله ما علمت أنه يحب الله ورسوله ))(22/24)
وقال في ذي الخويصرة : (( يخرج من ضئضيء هذا أقوام يقرأون القرآن لا يجاوز حناجرهم ، يمرقون من الدين- وفي رواية : ((من الإسلام )) - كما يمرق السهم من الرمية ، يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم ، وصيامه مع صيامهم ، وقراءته مع قراءتهم ، أينما لقيتموهم فاقتلوهم ، فإن في قتلهم أجراً عند الله لمن قتلهم يوم القيامة ))(1)........
ثم إن أهل المعاصي ذنوبهم : فعل بعض ما نُهوا عنه : من سرقة ، أو زنا ، أو شرب خمر ، أو أكل مال بالباطل .
وأهل البدع ذنوبهم : ترك ما أمروا به من اتباع السنة وجماعة المؤمنين ، فإن الخوارج أصل بدعتهم أنهم لا يرون طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم واتباعه فيما خالف ظاهر القرآن عندهم ، وهذا ترك واجب . وكذلك الرافضة(2) لا يرونه عدالة الصحابة ومحبتهم ، والاستغفار لهم ، وهذا ترك واجب ...) (3).
ثالثاً : أسباب نشأة البدع :
__________
(1) - رواه البخاري مع اختلاف بسيط في بعض الألفاظ في صحيحه المطبوع مع فتح الباري (6/376) ، كتاب الأنبياء ، حديث (3344) . ورواه مسلم في صحيحه المطبوع مع شرح النووي (7/160-167) بألفاظ وطرق مختلفة .
(2) - الرافضة : فرقة من فرق الضلال تقول إن النبي صلى الله عليه وسلم نص على خلافة علي نصاً قاطعاً للعذر ، وأنه إمام معصوم ، ومن خالفه كفر وأن المهاجرين والأنصار كتموا النص ، واتبعوا أهواءهم ، وبدلوا الدين وغيروا الشريعة ، وكفروا الصحابة ، وقالوا : إن أبا بكر وعمر – رضي الله عنهما – ما زالا منافقين ، أو آمنوا ثم كفروا – والعياذ بالله- . والرافضة توالي النصارى واليهود والمشركين على جمهور المسلمين ، ومنهم ظهرت أمهات الزندقة والنفاق كزندقة بعض القرامطة والباطنية وأمثالهم ، ولا ريب أنهم شر من الخوارج . وهم فرق عدة .
يراجع : مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (3/356،357) ، والفرق بين الفِرَق ص (15- 17) .
(3) - يراجع : مجموعة الفتاوى (20/ 103-105 ) .(22/25)
الابتداع هو الإحداث في الدين ، والإحداث في الدين له أسباب عدة ، منها :
الجهل بأدوات الفهم .
الجهل بالمقاصد .
تحسين الظن بالعقل .
اتباع الهوى .
القول في الدين بغير علم وقبول ذلك من قائله .
الجهل بالسنة ، ويشمل :
الجهل بالتمييز بين الأحاديث المقبولة وغيرها .
الجهل بمكانة السنة من التشريع .
7. اتباع المتشابه .
الأخذ بغير ما اعتبره الشارع طريقاً لإثبات الأحكام.
الغلو في بعض الأشخاص .
وقد تجتمع هذه الأسباب ، وقد تنفصل ، فإذا اجتمعت ،فتارة يجتمع منها اثنان ،وتارة يجتمع ثلاثة.
وبذلك تتحدد الأسباب المؤدية إلى حدوث البدعة ، وهي :
السبب الأول : الجهل بأدوات الفهم .
لقد أنزل الله سبحانه وتعالى القرآن عربياً،جار في ألفاظه ومعانيه وأساليبه على لسان العرب،وقد أخبر الله بذلك فقال سبحانه : {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً }(1) ،وقال تعالى:{قُرْآناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِي عِوَجٍ}(2)،وقال تعالى:{نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ*عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ*بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ}(3)وقال تعالى :{وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ}(4).
فمن هذا نعلم أن القرآن نزل عربياً على رسول عربي لينذر العرب أولاً ، ثم ينذر الأمم كافة ، وأن الشريعة لا تفهم إلا إذا فهم اللسان العربي ، ويعبر عن هذا قول الله تعالى : {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْماً عَرَبِيّاً...... }(5).
__________
(1) - سورة يوسف ، الآية : 2 .
(2) -سورة الزمر: الآية28.
(3) - سورة الشعراء ، الآيات : 193-195 .
(4) - سورة النحل ، الآية :103.
(5) - سورة الرعد ، الآية 37.(22/26)
وإن كان الرسول صلى الله عليه وسلم بعث للناس كافة فإن الله جعل جميع الأمم ، وعامة الألسنة في هذا الأمر ، تبعاً للِّسان العربي ، وإذا كان كذلك ، فلا يُفهم كتاب الله تعالى إلا من الطريق الذي نزل عليه ، وهو اعتبار ألفاظها ومعانيها وأساليبها .
وأنها فيما فطرت عليه من لسانها ، لها دلالات وأدوات لفهم أدوات المقاصد والمعاني ، وهي :
الخطاب بالعام يرادُ به الظاهر ، مثاله :قوله تعالى :{وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا}(1). فهذا من العام الظاهر الذي لا خصوص فيه .
الخطاب بالعام يراد به العام من وجه والخاص من وجه ، مثاله : قوله تعالى :{يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا}(2). فهذا عام لم يخرج عن أحد من الناس ؛ لأنَّ كل إنسان خلق من ذكر وأنثى ، عدا عيسى – عليه السلام- . ثم قال الله تعالى بعد ذلك : { إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ }(3)، فهذا خاص ؛ لأنَّ التقوى إنما تكون من المكلف العاقل ، فكان في الآية عام وهو خلق الناس والشعوب والقبائل ، وكان فيها خاص وهو إن أكرمكم عند الله أتقاكم .
الخطاب بالعام يُراد به الخاص ، ومثاله قوله تعالى :{الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ}(4). فالمراد بالناس الآخرين الخصوص لا العموم ، وإلا فالمجموع لهم الناس ناس أيضاً ، وهم قد خرجوا ، لكن لفظ الناس يقع على ثلاثة منهم ، وعلى جميع الناس ، وعلى ما بين ذلك .
__________
(1) - سورة هود: الآية6.
(2) - سورة الحجرات: الآية13.
(3) -سورة الحجرات: الآية13.
(4) - سورة آل عمران: الآية173.(22/27)
الخطاب بالظاهر يًُراد به غير الظاهر ، مثاله : قوله تعالى : {وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً}(1)، فإنهُ لمَّا قال :{كَانَتْ ظَالِمَةً} دلَّ على أن المراد أهلها .
فإذا ثبت هذا ، فيجب على الناظر في الشريعة والمتكلم فيها أصولاً وفروعاً أمران :
أحدهما :…
أن لا يتكلم في شيء من ذلك حتى عربياً أ و كالعربي ، عالماً بلسان العرب بالغاً فيه ما بلغ العرب،أو ما بلغ أئمة اللغة المتقدمون(2)، وليس المراد أن يكون حافظاً كحفظهم وجامعاً كجمعهم ، وأنَّما المراد أن يصير فهمه عربياً في الجملة .
ثانيهما :
إذا أشكل عليه لفظ في الكتاب أو في السنة ، فلا يقدمُ على القول فيه دون أن يستظهر بغيره ، ممن له علم بالعربية ، فقد يكون إماماً فيها ولكنه يخفى عليه الأمر في بعض الأوقات ، فالأولى في حقه الاحتياط ؛ إذ قد يذهب على العربي المحض بعض المعاني الخاصَّة حتى يسأل عنها ، كما خفي على ابن عباس – رضي الله عنهما – معنى : { فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ} حتى قال أحد الأعراب في خصومة في بئر : أنا فطرتها ، أي : أنا ابتدأتها(3) .
ومن الأمثلة على تحريف المعاني القرآنية للقصور في اللغة وفي فهم أساليها :
__________
(1) - سورة الانبياء: الآية11.
(2) - مثل الخليل بن أحمد ، وسيبويه ، والكسائي ، والفرَّاء .
(3) - يراجع : تفسير ابن كثير (3/546) ،تفسير سور فاطر .(22/28)
قول من زعم أنه يجوز للرجل نكاح تسع من الحلائل ، مستدلاً بقوله تعالى : { فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ }(1)،حيث جمع أربعة إلى ثلاثة إلى اثنين فنتج تسعاً ولم يشعر بمعنى فعال ومفعل في كلام العرب وأن معنى الآية:(فانكحوا إن شئتم اثنتين أو ثلاثاً أو أربعاً(2).(3)
السبب الثاني : الجهل بالمقاصد .
مما يجب على الناظر في الشريعة الإسلامية أمران :
الأمر الأول :
أن يعتقد فيها الكمال لا النقصان،وأن يرتبط بها ارتباط طاعة وثقة وإيمان في عباداتها وعاداتها ومعاملاتها، وأن لا يخرج عنها؛ لأن الخروج عنها مروق من الدين ، لأنه قد ثبت كمالها وتمامها ، فالزائد عليها أو المنقص منها هو المبتدع .
فالشريعة قد جاءت كاملة ، والدين قد أتمه الله ورضية لنا ، قال تعالى : {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلام دِيناً}(4).
__________
(1) - سورة النساء ، الآية : 3.
(2) - يراجع : تفسير ابن كثير (1/450) ، تفسير سورة النساء .
(3) - يراجع : الاعتصام للشاطبي (2/293- 304) ، ويراجع : البدعة والمصالح المرسلة ص (125- 131) .
(4) -سورة المائدة: الآية3.(22/29)
والرسول صلى الله عليه وسلم هو خاتم النبيين ، قال تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ}(1). وقد جاء بالرسالة الجامعة الخاتمة ، فيستحيل أن يترك الله الناس بغير بيان ، وبغير مرشد وهو القائل سبحانه :{...مَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً}(2).إلا إذا كان شرعه باقياً صالحاً كافياً كاملاً ، حجَّة على هذه الدهور إلى يوم القيامة ، وقد صرح سبحانه وتعالى بحفظه للرسالة ، حتى تكون الحجة سليمة بعيدة عن الشكوك والريب والظنون ، وتظل تعاليمها صافية ناصعة ، لا تمسها يد الإنسان ولا فكره السقيم وهواه الشارد ، فقال سبحانه :{ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}(3).
فبعد هذا كله ، يجب الانقياد لهذه الشريعة والاعتقاد الجازم بكمالها ووفائها بما تتطلبه الحياة دائماً وأبدأً إلى ما شاء الله . واعتقاد غير هذا ضرب من المروق والابتداع .
الأمر الثاني :…
أن القرآن لا تضاد بين آياته ولا بين الأحاديث النبوية ، ولا بين أحدهما مع الآخر ، بل الجميع يصدر من نبع واحد ، ويخرج من مشكاة واحدة ، وينتظمه شرع واحد ، وغاية واحدة . فإذا جهل إنسان هذا ، أداة جهله إلى الشذوذ والخروج والابتداع ، وبيان ذلك :
أن الكفار وهم أهل الفصاحة والبلاغة ، وأرباب البيان واللسان ، والمتربصين برسول الله صلى الله عليه وسلم لمحاولة إثبات أن ما جاء به من القرآن هو من عنده قد حاورا في بيان القرآن وسبكه ، وقد أخبر الله سبحانه عن ذلك فقال : {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً}(4).
__________
(1) -سورة الأحزاب: الآية40.
(2) - سورة الاسراء: الآية15.
(3) - سورة الحجر:9.
(4) - سورة النساء:82.(22/30)
وكذلك ما أخرجه البخاري عن سعيد بن جبير – رحمه الله – قال : قال رجل لابن عباس – رضي الله عنهما - : إني أجد في القرآن أشياء تختلف عليَّ ، قال -قوله تعالى-:{ فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ}(1)، قوله تعالى{وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ}(2)،قوله تعالى {...وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً}(3)، قوله تعالى{رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ}(4). فقد كتموا في هذه الآية، وقال تعالى : {....أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا}(5)إلى قوله :{وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا}(6). فذكر خلق السماء قبل خلق الأرض ، ثم قال: {...َإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ....}(7)إلى قوله : {.... طَائِعِينَ }(8). فذكر في هذه خلق الأرض قبل خلق السماء ، وقال تعالى : {...وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً}(9)، {....عَزِيزاً حَكِيماً}(10)، {....سَمِيعاً بَصِيراً}(11). فكأنه كان ثم مضى . فقال ابن عباس – رضي الله عنهما - : { فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ}(12)، في النفخة الأولى ثم ينفخ في الصور ، فصعق من في السموات ومن الأرض ، إلا من شاء الله ، فلا أنساب بينهم عند ذلك ، ولا يتساءلون . ثم في النفخة الآخرة أقبل بعضهم على بعض يتساءلون .
__________
(1) - سورة المؤمنون: الآية101
(2) -سورة الصافات:27.
(3) - سورة النساء ، الآية : 42.
(4) -سورة الأنعام: الآية23.
(5) -سورة النازعات: الآية27.
(6) -سورة النازعات:30.
(7) - سورة فصلت: من الآية9.
(8) - سورة فصلت: الآية11.
(9) - سورة النساء: الآية96.
(10) -سورة النساء: الآية165.
(11) - سورة النساء: الآية134.
(12) - سورة المؤمنون: الآية101(22/31)
وأما قوله :{مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} ،وقوله :{ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً}: فإن الله يغفر لأهل الإخلاص ذنوبهم ، وقال المشركون: تعالوا نقول لم نكن مشركين ، فخُتم على أفواههم ، فتنطق أيديهم ، فعند ذلك عُرِف أن الله لا يُكتمُ حديثاً ،وعنده {.....يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً}(1).
وخلق الأرض في يومين ، ثم خلق السماء ، ثم استوى إلى السماء فسواهن في يومين آخرين ، ثم دحا الأرض ، ودحوها أن أخرج منها الماء والمرعى ، وخلق الجبال والجمال والآكام وما بينهما في يومين آخرين ، فذلك قوله { دَحَاهَا}وقوله :{ خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ}، فجعلت الأرض وما فيها من شيء في أربعة أيام ، وخلقت السموات في يومين .
{ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً } : سمى نفسه ذلك قوله ، أي لم يزل كذلك ، فإن الله لم يرد شيئاً إلا أصاب به الذي أراد ، فلا يختلف عليك القرآن ، فإن كلا من عند الله(2) .ا.هـ(3) .
السبب الثالث : تحسين الظن بالعقل :
من أسباب حدوث البدع تحسين الظن بالعقل ، وبيان ذلك من ثلاثة وجوه :
الوجه الأول :
أن الله جعل للعقول في إدراكها حدّاً تنتهي إليه لا تتعداه،ولم يجعل لها سبيلاً إلى الإدراك في كل مطلوب ،ولو كانت كذلك لاستوت مع الباري سبحانه وتعالى في إدراك جميع ما كان وما يكون وما لا يكون ؛ إذ لو كان كيف يكون ؟
__________
(1) - سورة النساء: الآية42.
(2) - يراج : صحيح البخاري المطبوع مع فتح الباري (8/555- 559) ، كتاب التفسير . وقد رواه البخاري تعليقاً ، ثم قال في آخره : (حدثني يوسف بن عدي حدثنا عبيد الله بن عمرو ، عن زيد بن أبي أنيسة عن المنهال بهذا ) – ورواه المنهال عن سعيد بن جبير عن ابن عباس - .
(3) - يراجه : الاعتصام للشاطبي (2/304- 317) ، وكذلك البدعة والمصالح المرسلة ص (133- 142) .(22/32)
فعلم الله لا ينتهي ، وعلم العبد ينتهي ، وما ينتهي لا يساوي ما لا ينتهي .
وقد دخل في هذه الكلية ذوات الأشياء جملة وتفصيلاً ، وصفاتها وأحوالها ، وأفعالها وأحكامها ، جملة وتفصيلاً .
فالشيء الواحد من جملة الأشياء يعلمه الباري تعالى على التمام والكمال ،بحيث لا يعزب عن علمه مثقال ذرة لا في ذاته ولا في صفاته ، ولا في أحواله ولا في أحكامه ، بخلاف العبد ؛ فإنَّ علمه بذلك الشيء قاصر ناقص ، وهذا في الإنسان أمر مشاهد محسوس لا يرتاب فيه عاقل .
إن المعلومات عند العلماء تنقسم إلى ثلاثة أقسام :
1- قسم ضروري : لا يمكن التشكيك فيه كعلم الإنسان بوجوده ، وأن الواحد أكثر من الاثنين .
2- وقسم لا يعلمه البتة إلا أن يُعلم به ، أو يجعل له طريق إلى العلم به : وذلك كعلم المغيبات عنه ، سواء كانت قريبة منه أو بعيدة عنه .
3- قسم نظري : يمكن أن يعلمه وممكن أن لا يعلمه ،وتلك هي الممكنات التي تدرك بواسطة لا بنفسها إلا أن يعلم بها إخباراً .
وقد زعم أهل العقول أنفسهم أن النظريات لا يمكن الاتفاق عليها عادة ؛ لاختلاف القرائح والأنظار ،وإذا وقع الخلاف فيها، كان لابد من مخبر يأتي بالحق أو مجتهد يُبين الصواب ، وقد تعارضت الأدلة لتعارض العقول ؛ إذ لابد أن يكون أحد المجتهدين مصيباً والآخر على شبهة ، فلابد إذاً من إخبار يكون صادقاً لا يحتمل الكذب أو الضلال ، ولا يكون هذا إلا في الوحي والعلم الإلهي الذي يكون على يد رسول .
إذن ، لا وثوق بالعقل ، ولا مناص من الرجوع إلى الوحي الإلهي .
الوجه الثاني :(22/33)
لما ثبت قصور العقل في الإدراك والعلم ، ثبت أنه قد يحيط بشيء دون آخر ؛ لأن علمه غير محيط وشامل ، فما ادَّعى علمه لم يخرج عن تلك الأحكام الشرعية التي زعم أنه أدركها ؛لإمكان أن يدركها من وجه دون وجه ، وعلى حال دون حال،والدليل على ذلك : أحوال أهل الفترات فإنهم وضعوا أحكاماً على العباد بمقتضى السياسات ، لا تجد فيها أصلاً منتظماً ، وقاعدة مطردة على الشرع بعد ما جاء ، بل استحسنوا أموراً تجد العقول بعد تنويرها يالشرع تنكرها ، وترميها بالجهل والضلال ،مع الاعتراف بأنهم أدركوا بعقولهم أشياء قد وافقت وجاء الشرع بإقرارها وتصحيحها ، ومع أنهم كانوا أهل عقول باهرة ، وأنظار صافية وتدبيرات لدنياهم شاملة ، لكنها بالنسبة إلى ما لم يصيبوا فيه قليلة ، فلأجل هذا كله وقع الإعذار والإنذار ، وبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين ، لئلا يكون للناس على الله حجَّةً بعد الرسل ، والله الحجة البالغة ، والنعمة السابغة .
فالإنسان مهما ظن أنه أتقن وأجاد وأبدع في أمر من الأمور إلا ويتبين له قصوره ، ويتمنى أن يعيد هذا العمل ويلحظ فيه ما غاب عنه ، وهذا يدل على القصور الذي يعتري العقل ، ولكن الشرع بخلاف ذلك ؛ لأنه من عند الحكيم الخبير ، الذي أحاط بكل شيء علماً ، وكل شيءٍ عنده بمقدار ، عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال .
الوجه الثالث :(22/34)
أن ما ندري علمه في الحياة ينقسم كما تقدم إلى : بدهي ، وضروري ،وغيره وهو النظر الكسبي ، والنظري لا يعرف إلا من طريق ضروري ، إما بواسطة أو بغير واسطة؛إذ قد اعترف الجميع أن العلوم المكتسبة لابد في تحصيلها من توسط مقدمتين معترف بهما، فإن كانتا ضروريتين فذاك، وإن كانتا مكتسبتين ، فلا بد في اكتساب كل واحدة منهما من مقدمتين ، وينظر فيهما كما تقدم،وكذلك إن كانت واحدة ضرورية وأخرى مكتسبة ،فلابد للمكتسبة من مقدمتين ، فإن انتهينا إلى ضرورتين فهو المطلوب، وإلا لزم التسلسل أو الدور وكلاهما محال . فإذاً ، لا يمكن أن نعرف غير الضروري إلا منهما مما عقلنا وعلمنا من مشاهدة باطنة كالألم واللذة ، أو بديهي للعقل كعلمنا بوجودنا ، وما أشبه ذلك مما هو معتاد لنا في هذه الدار ؛ لأننا لم يتقدم لنا علم إلا بما هو معتاد في هذه الدار . أما الشيء غير المعتاد ، فقبل النبوات لم يكن لنا به علم ولا معرفة ، فلما جاءت النبوات بما ليس لنا به علم ولا عادة لم نحل ما لم نعرف إلا على ما عرفنا ، ولذلك أنكر الناس هذا لأنهم لم يعرفوه ، كقلب العصا ثعباناً ، وفرق البحر .
وعلى هذا ينبغي إدراك أمرين :
الأول : أن العقل ما دام على هذه الصورة لا يجعل حاكماً بإطلاق ، وقد ثبت عليه حاكم بإطلاق وهو الشرع ، بل الواجب على العاقل أن يقدم ما حقه التقديم وهو الشرع ، ويؤخر ما حقه التأخير وهو نظر العاقل القاصر ؛لأنه لا يصح تقديم الناقص على الكامل ؛ لأنه خلاف المعقول والمنقول.
الثاني : إذا وجد الإنسان في الشرع إخباراً يقتضي ظاهراً خرق العادة المألوفة التي لم يعرفها ولم يسبق له أن رآها ، أو علم بها علماً صحيحاً يصدق به ، فلا يجوز أن يقدم لأول وهلة الإنكار بإطلاق ، بل أمامه أحد أمرين :(22/35)
إما أن يصدق به حسب ما جاء به،ويكل العلم فيه إلى عالمه،وهو ظاهر قوله تعالى{وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا}(1).
أن يتأوله على ما يمكن حمله عليه مع الإقرار بمقتضى الظاهر .
والأمثلة على خوارق العادات كثيرة منها :
وزن الأعمال ، وعذاب القبر ، وإنطاق الجوارح شاهدة على صاحبها ، ورؤية الله في الآخرة(2).
فالحاصل : أنه لا ينبغي للعقل أن يتقدم بين يدي الشرع فإنه من التقدم بين يدي الله ورسوله(3).
السبب الرابع : اتباع الهوى .
يطلق الهوى على هوى النفس ،وهوى النفس : إراداتها ،والجمع : أهواء ،والهوى : محبة الإنسان الشيء وغلبته على قلبه . قال تعالى :{ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى}(4) ، أي : نهاها عن شهواتها ، وما تدعو إليه من معاصي الله عز وجل ، والهوى على إطلاقه لا يكون إلا مذموماً(5).
ولذلك سمي أهل البدع ، أهل الأهواء ؛ لأنهم اتبعوا أهواءهم ،فلم يأخذوا الأدلة الشرعية مأخذ الافتقار إليها ،والتعويل عليها، حتى يصدروا عنها ، بل قدموا أهواءهم ، واعتمدوا على آرائهم ، ثم جعلوا الأدلة الشرعية منظوراً فيها من وراء ذلك(6) .
واتباع الهوى يتجلى في مظاهر عدة نتائجها عظيمة الخطر ، من هذه المظاهر :
__________
(1) -سورة آل عمران: الآية7.
(2) - يراجع : الاعتصام (2/328-331 ).
(3) - يراجع : الاعتصام (2/318-337 ).
(4) -سورة النازعات: الآية40.
(5) - يراجع : لسان العرب (15/372/373) ، مادة (هوا) .
(6) - يراجع : الاعتصام (2/176) .(22/36)
الانحراف عن الصراط المستقيم ، يؤيد هذا قول الحق تبارك وتعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم : {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ}(1)، وقول تعالى :{وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ}(2) ، وقال تعالى : {وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ}(3).
فقد أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يتبع الشريعة ولا يتبع الهوى ،ولا يركن إلى أهواء الناس ،فإنه إذا مال إلى أهوائهم انحرف عن الصراط المستقيم .
اتباع المتشابه وترك المحكم ؛ لأنَّ في المتشابه طلبتهم من التأويل ،وإرضاء ما في قلوبهم من شهوة ومرض وفتنة وفساد ، قال تعالى: {...فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ}(4)
التقيد بالشهوات والعمل لها ، والسير وراء مظاهر الحياة الزائفة وترك ما أمرهم الله سبحانه وتعالى به ، قال تعالى : {.....إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى}(5).
صاحب الهوى أعمى أصم أبكم ، لا يرى خيراً ولا يسمع نصحاً ، ولا ينطق خيراً ، قال تعالى : {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ....}(6).
__________
(1) - سورة الجاثية ، الآية :18.
(2) -سورة الشورى: الآية15.
(3) - سورة الأنعام: الآية150.
(4) -سورة آل عمران: الآية7.
(5) - سورة لنجم: الآية23.
(6) - سورة الجاثية: الآية23.(22/37)
أن صاحب الهوى منافق ؛ لأنه يميل حيث يميل هواه فيظهر بمظهر الجد والحزم أمام الناس ، ولكنه يفعل ما يمليه عليه هواه ، وقد أحسن الله وصف أهل الأهواء بقوله تعالى :{وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفاً أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ}(1).
لهذا ، فإن صاحب الهوى معرض لكل هذه المظاهر الخطيرة مهلك لنفسه ولغيره ، ومن أجل ذلك ورد التحذير من اتباع الهوى في الكتاب والسنة(2).
والأمثلة كثيرة على كون الإعراض عن الدليل والاعتماد على أصحاب الهوى سبب في حدوث البدع ، والخروج عن منهج الصحابة والتابعين والسلف الصالح ، فإنهم لما اتبعوا أهواءهم بغير علم ضلوا عن سواء السبيل .
ومن هذه الأمثلة- وهو أشدها - :قول من جعل اتباع الآباء في أصل الدين ، هو المرجوع إليه دون غيره ، حتى ردُّوا بذلك براهين الرسالة ، وحجَّة القرآن ، ودليل العقل ، فقالوا :{إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ }(3).
__________
(1) - سورة محمد:16.
(2) - يراجع : الاعتصام (2/337- 346) ، والبدعة والمصالح المرسلة ص (149، 150) .
(3) - سورة الزخرف: الآية22.(22/38)
فحين نُبِّهُوا على وجه الحجَّة بقوله تعالى :{أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ }(1)،لم يكن لهم جواب إلاَّ الإنكار، اعتماداً على اتباع الآباء ، واطراحاً لما سواه ولم يزل مثل هذا مذموماً في الشرائع ، كما حكي الله سبحانه وتعالى عن قوم نوح عليه السلام بقوله تعالى : {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ}(2). وعن قوم إبراهيم-عليه السلام- بقوله تعالى : {قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ*أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ* قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ}(3) . إلى آخر ذلك مما في معناه ، فكان الجميع مذمومين حين اعتبروا واعتقدوا أن الحقَّ تابع لهم ، ولم يلتفتوا إلى أنَّ الحق هو المقدَّمُ(4).
السبب الخامس : القول في الدين بغير علم وقبول ذلك من قائله .
لقد حذَّر الله سبحانه وتعالى من القول بغير علم ، وجعل ذلك من المحرمات ، بل من أكبرها ، فقال في كتابه العزيز :{ قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْأِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ}(5). فقد عطف الله سبحانه وتعالى القول بغير علم على الإشراك بالله وكفى بذلك ذمّاً وترهيباً .
__________
(1) - سورة الزخرف: الآية24.
(2) -سورة المؤمنون: الآية24.
(3) - سورة الشعراء:الآيات 72 - 74 .
(4) - يراجع : الاعتصام (2/347) .
(5) -سورة لأعراف:33.(22/39)
وقال تعالى :{ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ...}(1). فالقول بغير علم كذب ، والكذب حرام ، واستجابة لدعوة الشيطان . وقد حذرنا الله تعالى من اتباعه فقال جل من قائل : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ *إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ}(2).
وقد وردت أحاديث تحذر من الفتوى أو الحكم بغير علم ، وخاصة فيها يتعلق بأمور الدين . قال صلى الله عليه وسلم:(( من أفتي بغير علم كان إثمه على من أفتاه ))(3). وقال عليه أفضل الصلاة والسلام : (( القضاة ثلاثة : واحد في الجنة ، واثنان في النار . فإما الذي في الجنة فرجل عرف الحق فقضى به ، ورجل عرف الحق فجار في الحكم فهو في النار ، ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار ))(4).
__________
(1) - سورة الأنعام: الآية144.
(2) - سورة البقرة:168- 169.
(3) - رواه أبو داود في سننه (4/66) كتاب العلم ، حديث رقم (3657) . ورواه الحاكم في المستدرك (1/126) كتاب العلم ، وقال : على شرطهما ووافقه الذهبي في تلخيصه . ورواه غيرهما .
(4) - رواه أبو داود في سننه (4/5) ، كتاب الأقضية ، حديث رقم (3573) . ورواه ابن ماجه في سننه (2/776) ، كتاب الأحكام ، حديث رقم (2315) . وذكره السيوطي في الجامع الصغير (2/264) رقم (6189) وأشار إلى أنه صحيح .(22/40)
والقولُ في الدِّين بغير علم إضلال،وعلى من أضلَّ إثمُ من وقع في الضلال بسبب إضلاله ، فضلاً عن إثمه ؛ لوقوعه في الضلال، قال تعالى:{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ * لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ }(1).
فيجب على من لا يعلم أن يقول : لا أدري ، أو أن يسأل غيره ، ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أُسْوةٌ حسنة، فعندما سُئِل عن شرِّ البقاع ، قال : (( لا أدري ))(2) .
وقال عليه الصلاة والسلام : (( ما أدري أتُبَّعٌ لعين هو أم لا ، وما أدري أعزير نبي هو أم لا ))(3) .
ولَمَّا سُئِل ابن عمر- رضي الله عنهما - عن مسألة فقال : (( لا علم لي بها ، فلما أدبر الرجل قال ابن عمر :نِعْم ما قال ابن عمر : سئِل عما لا يعلم فقال : لا علم لي به ))(4) .
__________
(1) - سورة النحل:24، 25.
(2) - رواه أحمد في مسنده (1/81) ، ورواه الحاكم في المستدرك (1/89) ، وقال : قد احتجا جميعاً برواة هذا الحديث إلا عبد الله بن محمد بن عقيل . وسكت عنه الذهبي . ورواه الطبراني في المعجم الكبير (2/128) ، رقم (1545، 1546) . ورواه الخطيب في الفقيه والمتفقه (2/170) . وذكر الهيثمي في مجمع الزوائد :أنه رواه أحمد وأبو يعلى والطبراني والبزار ، ورجال أحمد وأبي يعلى والبزار رجال الصحيح خلا عبد الله بن محمد بن عقيل وهو حسن وفيه كلام . يراجع : مجمع الزوائد (4/76) .
(3) - رواه أبو داود في سننه (5/34، 35) . حديث رقم (4674) .
(4) - رواه الحاكم في المستدرك (3/561) كتاب معرفة الصحابة ، ولم يعلق عليه . وكذلك الذهبي . ورواه الدارمي في سننه (1/63). ورواه ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله (2/52).(22/41)
فإذا مارس الجاهلُ العلم ، وأفتى في الدِّين ،وقع في البدعة قاصداً أو غير قاصد ،وكان مبتدعاً بادِّعائهِ العلم أولاً ،وبما استحدثه مما خالف الشرع بعد ذلك ، وانتشار ذلك سبب في قبض العلم ، وفشو الجهل والظلام ، قال صلى الله عليه وسلم : (( إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من العباد ، ولكن يُقبضُ العلم بقبض العلماء ، حتى إذا لم يبق عالماً اتخذ الناس رؤوساً جهالاً فسُئِلُوا فأفتُوا بغير علم فضلُّوا وأضلًّوا ))(1)
على أن الجهل ليس قاصراً على من ليس عنده علم مطلقاً ، فإنه يشمل من عنده علم كثير ، ولكنه يتجاوز ما يعلم إلى ما لا يعلم ويتجرأ على ما لا يعرف ، بلا دليل واضح ، أو اجتهاد مقبول .
وألوان الجهل كثيرة ، وكلهما تؤدي إلى إحداث البدع ؛
فمنها : الجهل بأساليب اللغة .
ومنها : الجهل بالسنَّةِ ، وسنتكلم عنه في السبب التالي من أسباب الابتداع .
السبب السادس : الجهل بالسنة :
ويشمل :
أ- الجهل بالتمييز بين الأحاديث المقبولة وغيرها .
ب- الجهل بمكانة السنة من التشريع .
أ- الجهل بالتمييز بين الأحاديث المقبولة وغيرها .
ومعنى ذلك :الجهل بمصطلح الحديث،وعدم التفريق بين الأحاديث الصحيحة وبين الأحاديث الضعيفة والموضوعة أيضاً،ونتيجة لهذا الجهل اعتمد المبتدعة على الأحاديث المكذوبة على رسول الله صلى الله عليه وسلم والضعيفة ،كمصدر من مصادر التشريع، والحكم على الأمور المحدثة بأنها سنن .
وقد اتفق العلماء على عدم الأخذ بالأحاديث الموضوعة على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعدم اعتبارها ، لا في فضائل الأعمال ولا غيرها ؛ لأنها ليست من الشرع ، وكذلك لما ورد في ذلك من الآثار .
__________
(1) -رواه البخاري في صحيحه المطبوع مع فتح الباري (1/194) كتاب العلم ، حديث (100) . ورواه مسلم في صحيحه المطبوع مع شرح النووي (16/223، 224) كتاب العلم . وفي رواية مسلم : حتى إذا لم يترك عالماً )) .(22/42)
قال تعالى : {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ....}(1)، وقال تعالى: {إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ}(2)، وقال صلى الله عليه وسلم : (( من كذب عليَّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار ))(3)، وقال-عليه السلام- : (( لا تكذبوا على فإنَّهُ من كذب على فليلج النار ))(4).
وقد شدَّد العلماء في النكير على ذلك : قال الشيخ أبو محمد الجويني الشافعي: ( يكفر من تعمد الكذب على الرسول صلى الله عليه وسلم ولو لم يستحله ، والجمهور على أنه لا يكفر بذلك ،ولكنه يفسق وتُردّ رواياته كلها،ويبطل الاحتجاج بجميعها)(5).
فكثير من البدع التي أُحدثت ، قد اعتمد محدثوها على أحاديث ضعيفة بل أكثرها موضوع ، كالذين اخترعوا أذكاراً وأدعية خاصة لبعض الشهور ، وتخصيص بعض الشهور بالصيام أو العمرة ، والتوسيع على أهل البيت في عاشوراء والاكتحال فيه والاختضاب ، وغير ذلك من البدع التي هي موضوع بحثنا هذا . فلو كان لهم علم بالسنة ، ما اعتمدوا على هذه الأحاديث الموضوعة التي سبق وذكرت أنه لا يعتمد عليها أبداً لا في الفضائل ولا في غيرها .
__________
(1) - سورة الاسراء: الآية36.
(2) -سورة البقرة:169.
(3) - رواه البخاري في صحيحه المطبوع مع فتح الباري (1/202) كتاب العلم ، حديث (110) . ورواه مسلم في صحيحه المطبوع مع شرح النووي (1/67، 68) المقدمة .
(4) - رواه البخاري في صحيحه المطبوع مع فتح الباري (1/199) كتاب العلم ، حديث (106) . ورواه مسلم في صحيحه المطبوع مع شرح النووي (1/66) المقدمة .
(5) - يراجع : شرح النووي على صحيح مسلم (1/69) ، المقدمة(22/43)
أما من دعا إلى هذه البدع ، معتمداً على هذه الأحاديث الموضوعة مع علمه بأنها موضوعة، فهذا من أصحاب الهوى المتّبع الذين تقدم ذكرهم ومن المتبعين للمتشابه ، القاصدين هدم الإسلام ومحاربة أهله ، والتشويش على الناس في دينهم متخذين في ذلك أساليب مُقنَّعة ، ومن ثم تركهم للسنن ثم الواجبات ، مكتفين بما أحدث من هذه البدع .
ب- الجهل بمكانة السنة من التشريع .
إذا كان الجهل بقواعد الحديث- التي يتم على أساسها الحكم عليه بالقبول أو الردّ- قد أدّى إلى الوضع ،ودخول ما ليس من السنة فيها ، ومعارضة ما ثبت منها به ، فإن الجهل بمكانة السنة من الشرع قد أدَّى إلى الخروج عن حد الاتباع ، الذي وجهت الآيات القرآنية والأحاديث الصحيحة إليه ، تحت دعوى موافقة العقل ونحو ذلك .
ومن أظهر المواقف الشائعة فيما يتصل بهذا الموضوع – موضوع إنكار ما ثبت بالسنة الصحيحة صريحاً واضحاً تحت زعم موافقة العقل – إنكار من أنكر رؤية الله في الآخرة ، أو نزول المسيح آخر الزمان ، أو عذاب القبر ونحو ذلك .
وانقسم المبتدعة في موقفهم من السنة كأساس تشريعي إلى قسمين :
1- قسم أنكر ما عدا القرآن جملة وتفصيلاً .
2- وقسم أنكر أخبار الآحاد .
أما القسم الأول : فقد استدلُّوا لما قالوا بـ :
أن في القرآن بياناً لكل شيء ولا حاجة معه إلى سواه ، قال تعالى :{وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ }(1) ، قال تعالى :{ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ}(2).
قوله تعالى : {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}(3)، ولو كانت السنة حجة لتكفَّل الله بحفظها ، ولما حصر الحفظ في القرآن بتقديم الجار والمجرور .
__________
(1) -سورة النحل: الآية89.
(2) -سورة الأنعام: الآية38.
(3) - سورة الحجر:9.(22/44)
أدلة منكري خبر الواحد(1):
وما استدلُّوا به واهٍ لا حجة فيه؛ ذلك لأنَّ السنة إنما هي بيان للقرآن ، قال تعالى:{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ}(2)
والعمل بالسنة ليس إلا عملاً بالقرآن ، واتباعاً لتوجيهه في الأخذ بها ، ثم إن السنة توضح في أحيان كثيرة ما يُراد من الآيات القرآنية ، وبدونها لا يمكن فهم المراد من القرآن وبالتالي لا يتيسر العمل بها .
ومثال ذلك : ورد في القرآن الأمر بإقامة الصلاة على العموم ، وقد أخرجت السنة من ذلك النساء الحيض ، وحددت عدد الركعات ، وكيفية الأداء .... ونحو ذلك .
وجاء القرآن بأحكام الميراث بين المسلمين عامة ، ومنعت السنة أن يرث قاتل ممن قتله .
وفي الحديث الصحيح عن عبد الله بن مسعود-رضي الله عنه- قال :((لما نزلت {وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ }(3)، قال الصحابة: وأينا لم يظلم ؟! فنزلت : { إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}(4) ))(5) .
وقال عبد الله بن مسعود – رضي الله عنه - : (( لعن الله الواشمات والمستوشمات(6)، والمتنمصات(7)
__________
(1) - ذكر هذه الأدلة : الآمدي في كتابه الإحكام (2/67-71) ، ويراجع كذلك : كتاب السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي ص(168) .
(2) -سورة النحل: الآية44.
(3) - سورة الأنعام: الآية82.
(4) - سورة لقمان: الآية13.
(5) - رواه البخاري في صحيحه المطبوع مع فتح الباري (8/294) كتاب التفسير ، حديث (4629) .
(6) - الواشمات والمستوشمات : الوشم : أن يُغرز الجلد بإبرة ، ثم يحشى بكحل أو نيل ، فيزرق أثره ، أو يخضر .
يراجع : النهاية في غريب الحديث والأثر (5/189) .
(7) - المتنمصات : النامصة : التي تنتف الشعر من وجهها ، والمتنمصة : التي تأمر من يفعل بها ذلك .
يراجع : النهاية في غريب الحديث والأثر (5/119) .(22/45)
والمتفلجات(1)للحسن المغيرات خلق الله تعالى ، فقالت امرأة كانت تقرأ القرآن – أي تحفظه – تسمى أم يعقوب(2): ما هذا ؟ فقال عبد الله : ومالي لا ألعن من لعنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في كتاب الله ؟ قالت :والله لقد قرأت ما بين اللوحين فما وجدته ،فقال عبد الله : والله لئن قرأتيه وجدتيه : { وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}(3) ))(4) .
وعن الحسن قال : بينما عمران بن حصين يحدث عن سنة نبينا صلى الله عليه وسلم إذ قال له رجل : يا أبا نجيد ! حدثنا بالقرآن ، فقال له عمران : أنت وأصحابك يقرؤون(5)القرآن ، أكنت محدثي عن الصلاة وحدودها ؟ أكتب محدثي عن الزكاة في الذهب والإبل والبقر وأصناف المال ، ولكن قد شهدتُ وغبت ، ثم قال : فرض علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الزكاة كذا وكذا . فقال الرجل : أحييتني أحياك الله . قال الحسن : فما مات ذلك الرجل حتى صار من فقهاء المسلمين .......))(6).
__________
(1) - المتفلجات : الفلج : فرجة ما بين الثنايا والرباعيات ، والمتفلجات : النساء اللاتي يفعلن ذلك بأسنانهن رغبة في التحسين .
يراجع : النهاية في غريب الحديث والأثر (5/468) .
(2) - قال ابن حجر العسقلاني : لا يُعرف اسمها . يراجع : فتح الباري (8/630 ).
(3) - سورة الحشر: الآية7.
(4) - رواه البخاري في صحيحه المطبوع مع الفتح الباري (8/630)، كتاب التفسير ، حديث رقم (4886) . ورواه مسلم في صحيحه المطبوع مع شرح النووي (14/105-107) كتاب اللباس والزينة .
(5) - وهكذا وردت في المستدرك للحاكم (1/109) . لعل صحة الكلمة – والله أعلم - : تقرؤون .
(6) - رواه الحاكم في المستدرك (1/109-110) كتاب العلم ، وصححه ، وسكت عنه الذهبي . ورواه أبو داود بنحوه(2/211)كتاب الزكاة ،حديث (1561).(22/46)
وكان طاوس يصلي ركعتين بعد العصر ، فقال له ابن عباس : (( اتركهما . فقال : إنَّما نهى عنهما أن تُتخذا سُلَّما يوصل إلى الغرور ، فقال ابن عباس : فإنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قد نهى عن صلاة بعد العصر ، وما أدري أتعذب عليها أم تؤجر ؟ لأنَّ الله تعالى يقول :{ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ..}(1))(2).
وقد ورد تحذير الرسول صلى الله عليه وسلم من هذه البدعة ، وتنفيره منها :
فعن أبي رافع – رضي الله عنه – أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال والناس حوله : (( لا أعرفن أحدكم يأتيه أمر من أمري قد أمرت به أو نهيت عنه ، وهو متكئ على أريكته ، فيقول : ما وجدنا في كتاب الله عملنا به وإلا فلا ))(3).
وأما ما استدلَّ به القائلون بهذه البدعة – إنكار السن – من الآيات ، فلا يفيد ما ادعَّوه ؛ لأنَّ بيان الكتاب لكل شيء إنما هو بحسب ما أشار إليه من أصول الأدلة ، التي يمكن معها فهم ما أجمله القرآن ، ومعرفة حكم ما لم يرد النص القرآني بحكمه صراحة . وأول هذه الأصول : السنة النبوية الشريفة .
__________
(1) -سورة الأحزاب: الآية36.
(2) - رواه الحاكم في المستدرك (1/110) كتاب العلم .وقال :صحيح على شرط الشيخين .ووافقه الذهبي في تلخيصه . ورواه الشافعي في الرسالة ص(443) وابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله (2/189).
(3) - رواه أبو داود في سننه (5/12) كتاب السنة ، وقال :حديث (4605) . رواه الترمذي في سننه (4/144) أبواب العلم ، حديث (2800) ، وقال : حديث حسن . ورواه بعضهم مرسلاً . ورواه الحاكم في المستدرك (1/108) كتاب العلم ، وقال : صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ، ووافقه الذهبي في تلخيصه . ورواه الآجري في كتاب الشريعة ص(50) .(22/47)
والمراد بالكتاب في قوله تعالى :{مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ }(1) : هو اللوح المحفوظ(2) .
والحصر في قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}(3)، ليس حقيقاً ؛ لأنّ الله حفظ أشياء غير القرآن ، وقال تعالى:{يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا}(4)،قال تعالى:{وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ}(5) ، أي : يحفظك.
وأما استدلُّوا به من أدلة منكري خبر الواحد : فأدلة المنكرين لخبر الواحد والرد عليها تطول في مقامنا هذا ، ولاسيما أنه لا علاقة له بموضوع بحثنا ، ولكن من باب الفائدة نذكر خلاصة الرد عليهم :
* قال الخطيب البغدادي : ( وعلى العمل بخبر الواحد كان كافة التابعين ، ومن بعدهم من الفقهاء الخالفين ، في سائر أمصار المسلمين إلى وقتنا هذا ، ولم يبلغنا عن أحد منهم إنكار لذلك ، ولا اعتراض عليه فثبت أن من دين جميعهم وجوبه ؛ إذ لو كان فيهم من كان لا يرى العمل به لنقل إلينا الخبر عنه بمذهبه فيه ، والله أعلم )(6) ا.هـ .
ومن الجهل بمكانة السنة من التشريع :
تقديم غيرهم مما لا يثبت إلا بها عليها ، أو معارضتها به ، كالقياس والاستحسان ونحو ذلك ، أي: تقديم الرأي على النص .
والاجتهاد في الشريعة الإسلامية لابد من اعتماده على النصِّ وتقديمه على كل ما سواه ، فإذا ما وجد نص في مسألة وجب المصير إليه .
__________
(1) - سورة الأنعام: الآية38.
(2) - يراجع : الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (6/420) .
(3) - سورة الحجر:9.
(4) - سورة البقرة: الآية255.
(5) -سورة المائدة: الآية67.
(6) - يراجع : الكفاية في علم الرواية ص(72).(22/48)
وقد أرشدت الآيات القرآنية والأحاديث النبوية وكذلك الآثار عن السلف الصالح إلى هذا الأمر . قال تعالى:{وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ}(1)وقال تعالى:{فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}(2) وقال تعالى:{فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}(3).
وفي الحديث : (( لم يزل أمر بني إسرائيل معتدلاً حتى بدا فيهم أبناء سباياً الأمم ، فأفتوا بالرأي فضلُّوا وأضلُّوا ))(4).
وعن ميمون بن مهران قال : كان أبو بكر الصديق – رضي الله عنه – إذا ورد عليه حكم نظر في كتاب الله تعالى ،فإن وجد فيه ما يقضي به قضى به،وإن لم يجد في كتاب الله نظر في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ،فإن وجد فيها ما يقضي به قضى، فإن أعياه ذلك سأل الناس :هل علمتم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى فيه بقضاء ؟ فربما قام إليه القوم فيقولون : قضى فيه بكذا وكذا .فإن لم يجد سنة سنها النبي صلى الله عليه وسلم ،جمع رؤساء الناس فاستشارهم ، فإذا اجتمع رأيهم على شيء قضى به ، وكان عمر – رضي الله عنه – يفعل ذلك ، فإذا أعياه أن يجد ذلك في الكتاب والسنة سأل : هل كان أبو بكر قضى فيه بقضاء ؟ فإن كان لأبي بكر قضاء قضى به ، وإلا جمع علماء الناس واستشارهم ، فإذا اجتمع رأيهم على شيء قضى به(5) .
__________
(1) - سورة المائدة: الآية44.
(2) - سورة المائدة: الآية45.
(3) - سورة المائدة: الآية47.
(4) - رواه ابن ماجه (1/21) المقدمة ، حديث (56) ، قال في الزوائد : إسناده ضعيف . يُراجع : مصباح الزجاجة في زوائد ابن ماجه (1/11) .
وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (1/180) ، باب في القياس والتقليد : رواه البزار وفيه قيس بن الربيع ، وثقة شعبة والثوري ، وضعفه جماعة . وقال ابن القطان : هذا إسناد حسن .ا.هـ .
(5) - رواه الدارمي في سننه (1/58) باب الفتيا وما فيه من الشدة . ويراجع أيضاً : إعلام الموقعين (1/62) .(22/49)
وفي حديث قبض العلم قال صلى الله عليه وسلم : ((... فيبقى ناس جهال يُستفتون فيفتون برأيهم فيضلون ويضِلون ))(1).
وقال ابن مسعود – رضي الله عنه - : (( لا يأتي عليكم زمان إلا وهو شر من الذي قبله ، أما إني لا أقول أمير خير من أمير ولا عام أخصب من عام ، ولكن فقهاؤكم يذهبون ثم لا تجدون منهم خلفاً ويجيء قوم يقيسون الأمور برأيهم ))(2) .
وقد اختلف العلماء في الرأي المقصود إليه بالذمِّ في الآثار المتقدمة فقالت طائفة : هو القول في الاعتقاد بمخالفة السنن ؛ لأنهم استعملوا آراءهم وأقيستهم في ردِّ الأحاديث،حتى طعنوا في المشهور منها الذي بلغ التواتر ؛كأحاديث الشفاعة ،وأنكروا أن يخرج أحد من النار بعد أن يدخلها،وأنكروا الحوض ، والميزان ، وعذاب القبر.....إلى غير ذلك من كلامهم في الصفات والعلم والنظر.
وقال أكثر أهل العلم : الرأي المذموم الذي لا يجوز النظر فيه ولا الاشتغال به ، هو ما كان في نحو ذلك من ضروب البدع .
__________
(1) - رواه البخاري في صحيحه المطبوع مع فتح الباري ( 13/282) كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة ، حديث رقم (7307). ورواه مسلم بنحوه في صحيحه المطبوع مع شرح النووي (16/225) كتاب العلم.
(2) - رواه الدارمي في سننه (1/65) باب تغير الزمان . ورواه ابن عبد البر في بيان العلم (2/135) باب ذم القول في دين الله بالرأي والظن والقياس .
وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (1/180) : (( رواه الطبراني في الكبير وفيه مجالد بن سعيد وقد اختلط )) ا.هـ .
ورواه البخاري أوله مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم في صحيحه المطبوع مع فتح الباري (13/19) كتاب الفتن ، حديث (7068) .(22/50)
قال أحمد بن حنبل – رحمه الله - : ( لا تكاد ترى أحداً نظر في الرأي إلا وفي قلبه دغل )(1).
وقال جمهور أهل العلم : الرأي المذموم في الآثار المذكورة ، هو القول في الأحكام بالاستحسان ، والتشاغل بالأغلوطات ، ورد الفروع بعضها إلى بعض ، دون ردّها إلى أصول السنن . والنظر في عللها واعتبارها ، فاستعمل فيها الرأي قبل أن تنزل وفرعت وشققت قبل أن تقع ، وتكلم فيها قبل أن تكون بالرأي المضارع للظن .
ففي الاشتغال بهذا والاستغراق فيه تعطيل للسنن والبعث على جهلها ، وترك الوقوف على ما يلزم الوقوف عليه منها ومن كتاب الله عز وجل ومعانيه(2) .
السبب السابع : اتباع المتشابه :
من أسباب الابتداع القوية : اتباع المتشابه ابتغاء الفتنة من العلماء المبتدعين ، وابتغاء تأويله من الجهلة المتعالمين .
والأصل في بيان هذا السبب قوله تعالى :{هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ}(3) .
وقسَّم الشاطبيّ المتشابه إلى قسمين :
__________
(1) - الدغل – بالتحريك - : الفساد . والداغل : الذي ينبغي أصحابه الشر ، يدغل لهم الشر ، أي يبغيهم الشر ويحسبونه يريد لهم الخير . يراجع : لسان العرب (11/244، 245) مادة ( دغل ) .
(2) - يراجع :بيان العلم وفضله (2/138-139) النهي عن كثرة المسائل .وذكره ابن حجر في فتح الباري (13/289، 290) كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة.
(3) - سورة آل عمران:7.(22/51)
1- حقيقي : وهو المراد بقوله تعالى :{مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ}. وهو ما لم يجعل لنا سبيل إلى فهم معناه ، ولا نصب لنا دليل على المراد منه ،فإذا نظر المجتهد في أصول الشريعة وتقصاها وجمع أطرافها لم يجد فيها ما يحكم له معناه ، ولا ما يدل على مقصوده ومغزاه، ولا يكون إلا فيما لا يتعلق به تكليف سوى مجرد الإيمان به .
2- إضافي: وتشابهه من جهة أن الناظر قصر في الاجتهاد أو زاغ عن طريق البيان، اتباعاً للهوى فلا يصحّ أن ينسب الاشتباه إلى الأدلة،وإنَّما ينسب إلى الناظرين التقصير أو الجهل بمواقع الأدلة، فيطلق عليهم أنهم متبعون للمتشابه؛ لأنهم إذا كانوا على ذلك مع حصول البيان فما الظن بهم مع عدمه
ومن هؤلاء : المعتزلة(1) ، والخوارج(2) ، وغيرهم(3) .
__________
(1) - المعتزلة : هم القائلون بأن الله تعالى قديم ، والقدم أخص وصف لذاته ، ونفوا الصفات القديمة أصلاً ، فقالوا : هو عالم بذاته قادر بذاته حيٌّ بذاته ، لا بعلم ولا قدرة ولا حياة ، وهي صفات قديمة ومعان قائمة به لأنَّه لو شاركته الصفات في القدم لشاركته في الإلهية . وقالوا بأن كلام الله محدث مخلوق ، وما في المصحف حكاية عنه . وسُمُّوا بهذا الاسم ؛ لأنهم اعتزلوا مجلس الحسن البصري بعد قولهم بالمنزلة بين المنزلتين . يراجع : الملل والنِّحل للشهرستاني ص (43-48) .
(2) - - الخوارج:هم أول من فارق جماعة المسلمين من أهل البدع المارقين ، القائلون بتكفير عثمان وعلي –رضي الله عنهما -،ويقدمون ذلك على كل طاعة ، وكذلك تكفير الحكمين ، وكل من رضي بالتحكيم ، ويكفّرون أصحاب الكبائر ،ويرون الخروج على الإمام إذا خالف السنة حقاً واجباً ،وينقسمون إلى عدة فرق.
يُراجع : الفرق بين الفرق للبغدادي ص (55) ، والملل والنحل للشهرستاني ص(114- 137) ، ومجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (3/349) .
(3) - يراجع : الموافقات (3/55، 56) .(22/52)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله - : ( والذي اقتضى شهرة القول عن أهل السنة ، بأن المتشابه لا يعلم تأويله إلا الله ظهور التأويلات الباطلة من أهل البدع ؛ كالجهمية(1) ، والقدرية(2)من المعتزلة وغيرهم ، فصار أولئك يتكلمون في تأويل القرآن برأيهم الفاسد ، وهذا أصل معروف لأهل البدع ، أنهم يفسرون القرآن برأيهم العقلي ، وتأويلهم اللغوي ، فتفاسير المعتزلة مملوءة بتأويل النصوص المثبتة للصفات والقدر على غير ما أراده الله ورسوله فإنكار السلف والأئمة هو لهذه التأويلات الفاسدة ،كما قال الإمام أحمد بن حنبل في ما كتبه في الرد على الزنادقة والجهمية فيما شكَّت فيه من متشابه القرآن وتأوَّلته على غير تأويله ، فهذا الذي أنكره السلف والأئمة من التأويل .
__________
(1) - الجهمية : أتباع جهم بن صفوان الذي قال بالإجبار والاضطرار إلى الأعمال ، وأنكر الاستطاعات كلها ، وزعم أن الجنة والنار تبيدان وتفنيان ، وأن الإيمان هو المعرفة بالله فقط ، والكفر الجهل به ، وقال : لا فعل ولا عمل لأحد غير الله تعالى ، وإنما تنسب الأعمال إلى المخلوقين على المجاز ، وأن علم الله حادث ، وأنكر صفات الله ، وأن كلام الله حادث . يراجع : الفرقُ بين الفِرق ص (199، 200 ) .
(2) - القدرية : فرقة ضالة تنفي صفات الله الأزلية كالعلم والقدرة والحياة والسمع والبصر وأنه ليس لله اسم ولا صفة ، وأن الله لا يُرى ، وأن كلام الله حادث مخلوق ، وأن الله غير خالق لأكساب الناس ، وأن الناس هم الذين يقدرون كسبهم ، فهم ينكرون القدر فلذلك سمُّو قدرية .وبدعتهم هذه حدثت في آخر عصر الصحابة وكان أكثرهم في الشام والبصرة وفي المدينة أيضاً ، وأصل هذه البدعة أحدثها مجوسي من البصرة ثم تلقَّاها عنه معبد الحهني . وقد أنكر الصحابة عليهم ذلك.
يراجع : الفرق بين الفرق ص(93- 94) ، ومجموع الفتاوى (7/384- 386) ، وكذلك (13/36،37) .(22/53)
فجاء بعدهم قوم انتسبوا إلى السنة بغير خبرة تامة بها ، وبما يخالفها ظنُّوا أن المتشابه لا يعلم معناها إلا الله ، فظنُّوا أن معنى التأويل هو معناه في اصطلاح المتأخرين ، وهو : صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى المرجوح ، فصاروا في موضع يقولون وينصرون أن المتشابه لا يعلم تأويله إلا الله ثم يتناقضون في ذلك من وجوه :
أحدهما :أنهم يقولون :النصوص تجري على ظواهرها ،ولا يزيدون على المعنى الظاهر منها ،ولهذا يبطلون كل تأويل يخالف الظاهر ، ويقرون المعنى الظاهر ،ويقولون مع هذا ،إنَّ له تأويلاً لا يعلمه إلا الله ، والتأويل عندهم ما يناقض الظاهر ، فكيف يكون له تأويل يخالف الظاهر ، وقد قرر معناه الظاهر ؟! .
ومنها :أنا وجدنا هؤلاء كلهم لا يحتج عليهم بنص يخالف قولهم ، لا في مسألة أصلية ، ولا فرعية ، إلا تأوَّلُوا ذلك النص بتأويلات متكلفة مستخرجة من جنس تحريف الكلم عن مواضعه ، من جنس تأويلات الجهمية والقدرية للنصوص التي تخالفهم ، فأين هذا من قولهم : لا يعلم معاني النصوص المتشابهة إلا الله تعالى ؟!.(22/54)
وهذا أحمد بن حنبل إمام أهل السنة الصابر في المحنة . لما صنف كتابه في الرد على الزنادقة والجهمية ، فيما شكَّت فيه من متشابه القرآن ، وتأولته على غير تأويله ، تكلِّم على معاني المتشابه ، الذي اتبعه الزائغون ، ابتغاء الفتنة ، وابتغاء تأويله ، آية آية ، وبين معناها ، وفسَّرها ليبين فساد تأويل الزائغين، واحتجَّ على أن الله يُرى، وأن القرآن غير مخلوق، وأن الله فوق العرش، بالحجج العقلية والسمعية ، ورد ما احتجَّ به النفاة من الحجج العقلية والسمعية ، وبين معاني الآيات التي سمَّاها هو متشابهة ، وفسرها آية آية ، وحديثاً حديثاً، وبين فساد ما تأولها عليه الزائغون، وبين هو معناها، ولم يقل أحمد- رحمه الله-: أن هذه الآيات والأحاديث لا يفهم معناها إلا الله، ولا قال أحد له ذلك،بل الطوائف كلها مجتمعة على إمكان معرفة معناها، لكن يتنازعون في المراد كما يتنازعون في آيات الأمر والنهي .....(22/55)
وكان الإمام أحمد-رحمه الله-ينكر طريقة أهل البدع الذين يفسِّرون القرآن برأيهم وتأويلهم من غير استدلال بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقوال الصحابة، والتابعين، الذين بلَّغهم الصحابة معاني القرآن، كما بلَّغُوهم ألفاظه، ونقلوا هذا كما نقلوا هذا، لكن أهل البدع يتأوَّلُون النصوص بتأويلات تخالف مراد الله ورسوله، ويدعون أن هذا هو التأويل الذي يعلمه الراسخون ، وهم مبطلون في ذلك ، لاسيما تأوّلات القرامطة والباطنية(1)
__________
(1) - القرامطة والباطنية : من الفرق الخارجة عن الإسلام ، وعقيدتهم أن أحد الصانعين قديم هو الإله الفاعل ، والإله خلق النفس ، فالإله هو الأول والنفس هو الثاني وهما مدبرا هذا العالم ، وربما سموهما العقل والنفس ، ثم إنهم قالوا إنهما يدبران العالم بتدبير الكواكب السبعة والطبائع الأولى ، وقولهم هذا بعينه قول المجوس ؛ لأنَّ مؤسس الباطنية مجوسي وهو ميمون بن ديصان المعروف بالقداح – جد العبيديين - . وممن استجاب لدعوته : حمدان قرمط ، وإليه تنسب القرامطة فهم من الباطنية .
وهؤلاء المجوس كانوا مائلين إلى دين أسلافهم ولم يجسروا على إظهاره خوفاً من سيوف المسلمين ، فكانوا يظهرون الإسلام ويبطنون الكفر وأسسوا مذهبهم على أمور سموها (السابق ) و (التالي) و (الأساس) و(الحجج) و (الدعاوى) ... وأمثال ذلك من المراتب ، وترتيب الدعوة سبع درجات ، آخرها البلاغ الأكبر والناموس الأعظم ، وتأوَّلُوا آيات القرآن والأحاديث على هذه الأسس ، وكذلك تأولوا أحكام الشريعة على وجوه تؤدي إلى رفع الشريعة أو إلى مثل أحكام المجوس ، فأباحوا لأتباعهم نكاح البنات والأخوات وشرب الخمر وجميع اللذات ، ويدَّعُون أن الملك سيزول عن المسلمين ويرجع إلى المجوس ، فهم ينتظرون رجوعه إليهم ، ووجدوا أن أسهل الطرق لاستمالة المسلمين لاتباعهم هو إظهار التشيع لآل البيت فكان منهم حكام مصر وهم العبيديين الذين يزعمون أنهم من سلالة فاطمة بنت الرسول صلى الله عليه وسلم . فغرض الباطنية هو الدعوة إلى دين المجوس بتأويلات يتأولون عليها القرآن والسنة .
يُراجع : مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (35/ 120-144) ، والفرق بين الفرق ص(265-299) ، وفضائح الباطنية ص (11-14) .(22/56)
الملاحدة ، وكذلك أهل الكلام المحدث من الجهمية والقدرية وغيرهم.
ولكن هؤلاء يعترفون بأنهم لا يعلمون التأويل ، وإنما غايتهم أن يقولوا : ظاهر هذه الآية غير مراد، ولكن يحتمل أن يُراد كذا، وأن يُراد كذا . ولو تأولها الواحد منهم بتأويل معين ، فهو لا يعلم أنه مُراد الله ورسوله ، بل يجوز أن يكون مراد الله ورسوله عندهم غير ذلك ؛ كالتأويلات التي يذكرونها في نصوص الكتاب والسنة كما يذكرونه في قوله تعالى :{وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً}(1)، و{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى}(2) ، و{ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً}(3) ، و { وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ }(4) . وقوله صلى الله عليه وسلم : (( وينزل ربنا ))(5) )(6).
السبب الثامن : الأخذ بغير ما اعتبره الشرع طريقاً لإثبات الأحكام :
ومن أسباب حدوث البدع ، الأخذ بغير ما اعتبره الشرع طريقاً لإثبات الأحكام ، ويتمثل هذا في الاستناد إلى رؤيا الرسول صلى الله عليه وسلم في النوم ، وأخذ الأحكام عنه، ونشرها بين الناس ، أو العمل بها دون نظر إلى موافقتها للشريعة أو عدم الموافقة ، وهذا خطأ؛ لأنَّ الرؤيا من غير الأنبياء لا يحكم بها شرعاً على حال، حتى تعرض على ما في أيدينا من الأحكام الشرعية، فإن سوغتها ،عُمِل بمقتضاها، وإلا وجب تركها والإعراض عنها،وإنَّما فائدتها البشارة أو النذارة خاصة،وأما استفادة الأحكام فلا
__________
(1) - سورة الفجر:22.
(2) -سورة طه:5.
(3) - سورة النساء:164.
(4) - سورة الفتح: الآية6.
(5) - رواه البخاري في صحيحه المطبوع مع فتح الباري (3/29) كتاب التهجد ، حديث رقم (1145)، ورواه مسلم في صحيحه (1/521) كتاب صلاة المسافرين وقصرها ، حديث (758) .
(6) - يُراجع : مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (17/ 412-416) .(22/57)
فإن قيل : إن الرؤيا من أجزاء النبوة ، فلا ينبغي أن تهمل ، وأيضاً إن المخبر في المنام قد يكون النبي صلى الله عليه وسلم، وهو قد قال : (( من رآني في المنام فقد رآني ، فإن الشيطان لا يتمثل بي ))(1). وإذا كان كذلك ، فإخباره في النوم كإخباره في اليقظة .
فالجواب على ذلك بما يأتي : إن كانت الرؤيا من أجزاء النبوة فليست إلينا من كمال الوحي ، بل جزء من أجزائه ، والجزء لا يقوم مقام الكل في جميع الوجوه ، بل إنما يقوم مقامه في بعض الوجوه ، وقد صرفت إلى وجه البشارة والنذارة وهذا كاف .
وأيضاً : فإنَّ الرؤيا التي هي جزء من أجزاء النبوة من شروطها أن تكون صالحة من الرجل الصالح ، وحصول الشرط مما ينظر فيه ، فقد تتوفر وقد لا تتوفر .
وأيضاً : فهي منقسمة إلى الحلم ، وهو من الشيطان ، وإلى حديث النفس ، وقد تكون سبب هيجان بعض أخلاط ، فمتى تتعين الصالحة حتى يحكم بها ، وتترك غير الصالحة ؟ .
ويلزم أيضاً على ذلك أن يكون تجديد وحي بحكم بعد النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو منهي عنه بالإجماع (2).
قال النووي – رحمه الله – في معنى حديث ((من رآني في المنام فقد رآني )):
معنى الحديث : أن رؤيته صحيحة، وليست من أضغاث الأحلام وتلبيس الشيطان، ولكن لا يجوز إثبات حكم شرعي بها؛ لأن حالة النوم ليست حالة ضبط وتحقيق لما يسمعه الرائي ،وقد اتفقوا- جمهور المحدثين- على أن من شرط من تُقْبَلْ روايته وشهادته أن يكون متيقظاً ، لا مغفلاً ولا سيء الحفظ ، ولا كثير الخطأ ، مختلّ الضبط ، والنائم ليس بهذه الصفة فلم تقبل روايته، لاختلال ضبطه .هذا كله في منام يتعلق بإثبات حكم على خلاف ما يحكم به الولاة .
__________
(1) - رواه البخاري في صحيحه المطبوع مع فتح الباري (12/383) كتاب التعبير ، حديث (6994) . ورواه مسلم في صحيحه (4/260، 261) .
(2) - يراجع : الاعتصام للشاطبي (1/260، 261) .(22/58)
أما إذا رأى النبي صلى الله عليه وسلم يأمره بفعل ما هو مندوب إليه ، أو ينهاه عن منهي عنه ، أو يرشده إلى فعل مصلحة ، فلا خلاف في استحباب العمل على وفقه ؛ لأنَّ ذلك ليس حكماً بمجرد المنام ،بل بما تقرر من أصل ذلك الشيء ، والله أعلم(1).
فمما يجب الحذر منه ما يقع لبعض الناس وهو أن يرى النبي صلى الله عليه وسلم في منامه ، فيأمره بشيء أو ينهاه عن شيء فينتبه من نومه فيُقْدمِ على فعله أو تركه بمجرد المنام دون أن يعرضه على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وعلى قواعد السلف – رحمهم الله – قال تعالى : {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ}(2). ومعنى قوله :{فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ} أي : إلى كتاب الله ، ومعنى قوله : { وَالرَّسُولِ} ، أي : إلى الرسول في حياته ، وإلى سنته بعد وفاته، على ما قاله العلماء – رحمهم الله -، وإن كانت رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم حقاً لا شك فيها لقوله عليه الصلاة والسلام: ((من رآني في المنام فقد رآني ،فإن الشيطان لا يتمثل بي))(3).لكن لم يكلف الله تعالى عباده بشيء مما يقع لهم في منامهم .قال عليه الصلاة والسلام :((رُفِع القلم عن ثلاثة..))(4)وعدَّ فيهم النائم حتى يستيقظ؛ لأنَّه إذا كان نائماً فليس من أهل التكليف،فلا يعمل بشيء يراه في
__________
(1) - يُراجع : شرح النووي على صحيح مسلم (1/115) المقدمة .
(2) - سورة النساء: الآية59.
(3) - رواه البخاري في صحيحه المطبوع مع فتح الباري (12/383) كتاب التعبير ، حديث (6994) . ورواه مسلم في صحيحه (4/260، 261) .
(4) - رواه الإمام أحمد في مسنده (6/100) عن عائشة – رضي الله عنها - . ورواه أبو داود في سننه (4/558) كتاب الحدود ، حديث (4398) عن عائشة . ورواه الترمذي في سننه (2/438) أبواب الحدود ، حديث (1446) عن علي ، وقال حديث حسن غريب . ورواه ابن ماجه في سننه (1/658) كتاب الطلاق ، حديث (2041) عن عائشة .(22/59)
نومه وجهٌ.
الوجه الثاني : أن العلم والرواية لا يؤخذان إلا من متيقظ حاضر العقل ، والنائم ليس كذلك .
الوجه الثالث : أن العمل بالمنام مخالف لقول صاحب الشريعة صلى الله عليه وسلم : ((تركتُ فيكم الثقلين لن تضلوا ما تمسكتم بهما : كتاب الله وسنتي ))(1). فجعل – عليه السلام – النجاة من الضلالة في التمسك بهذين الثقلين فقط لا ثالث لهما، ومن اعتمد على ما يراه في نومه فقد زاد لهما ثالثاً .
فعلى هذا من رأى النبي صلى الله عليه وسلم في منامه وأمَرهُ بشيءٍ أو نهاهُ عن شيءٍ فيتعين عليه عرض ذلك على الكتاب والسنة؛ إذ أنه عليه الصلاة والسلام إنما كلف أمته باتباعهما .فإذا عرض رؤياه على شريعته صلى الله عليه وسلم فإن وافقتها علم أن الرؤيا حق ، وأن الكلام حق وتبقى الرؤيا تأنيساً له ،وإن خالفتها، عَلِم أن الرؤيا حق ، وأن الكلام الذي وقع له فيها ألقاه الشيطان له في ذهنه والنفس الأمارة ؛ لأنهما يوسوسان له في حال يقظته ، فكيف في حال نومه ! .
ولو كان المنام مما يتعبد به لبيَّنهُ صلى الله عليه وسلم ، أو نبَّه عليه أو أشار إليه ولو مرة واحدة كما فعل في غيره(2) .
__________
(1) - رواه الحاكم في المستدرك (1/93) كتاب العلم ، وسكت عنه ولم يعلق عليه الذهبي . ورواه ابن عبد البر في بيان العلم وفضله (2/24) باب معرفة أصول العلم . ولم ترد في روايتيهما كلمة (الثقلين ) . ورواه مالك في الموطأ يلاغاً (2/899) كتاب القدر . وقال الألباني – رحمه الله - : صحيح . يراجع : صحيح الجامع الصغير (3/ 39) حديث (2934) ، وسلسلة الأحاديث الصحيحه (4/355- 361) ، حديث (1761) .
(2) - يراجع : المدخل لابن الحاج (4/286-288) .(22/60)
ويحكى أن شُريك بن عبد الله القاضي ، دخل على المهدي ، فلما رآه قال : علي بالسيف والنطع ، قال :ولِم يا أمير المؤمنين؟ قال : رأيت في منامي كأنك تطأ بساطي وأنت معرض عني ، فقصصت رؤياي على من عبرها، فقال لي: يُظهر لك طاعة ويضمر معصية ، فقال له شُريك : والله ما رؤياك برؤيا إبراهيم الخليل- عليه السلام- ولا أن معبرك بيوسف الصديق -عليه السلام - ، فبالأحلام الكاذبة تضرب أعناق المؤمنين ؟ فاستحيا المهدي ، وقال : اخرج عني(1).
السبب التاسع : الغلو في بعض الأشخاص .
ومن أسباب الابتداع أيضاً التغالي في تعظيم الشيوخ والأشخاص إلى درجة إلحاقهم بما لا يستحقونه ، فيزعم بعض الناس أنه لا ولي لله أعظم من فلان ، وربما أغلقوا باب الولاية دون سائر الأمة إلا هذا المذكور، وهذا باطل محض ، وبدعة فاحشة ؛ لأنَّهُ لا يمكن أن يبلغ المتأخرون أبداً مبالغ المتقدمين ،فخير القرون الذين رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وآمنوا به ، ثم الذين يلونهم ، وهكذا يكون الأمر أبداً إلى قيام الساعة ، فأقوى ما كان أهل الإسلام في دينهم وأعمالهم ويقينهم وأحوالهم في أول الإسلام ، ثم لا زال ينقص شيئاً فشيئاً إلى آخر الدنيا ، لكن لا يذهب الحق جملة ، بل لابد من طائفة تقوم به وتعتقده ، وتعمل بمقتضاه على حسبهم في إيمانهم لا ما كان عليه الأولون من كل وجه ؛ لأنه لو أنفق أحد المتأخرين وزن أُحُد(2)ذهباً ما بلغ مدّ أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا نصيفه ،وإذا كان كذلك في المال فكذلك في سائر شُعب الإيمان .
__________
(1) - يراجع : الاعتصام (1/261، 262) .
(2) - اسم الجبل الذي وقعت عنده غزوة أحد المشهور سنة 3هـ ، وهو جبل أجمر ، وبينه وبين المدينة قرابة ميل في شماليها . يراجع : معجم البلدان (1/109) .(22/61)
ومن الناس من يزعم أن فلاناً من الناس مساوٍ للنبي صلى الله عليه وسلم ، إلا أنه لا يأتيه الوحي ومن هؤلاء الشيعة الإمامية(1)
__________
(1) - هم القائلون باتباع الاثنى عشر إماماً ، ويدخل في عمومهم أكثر مذاهب الشيعة في العالم الإسلامي ، ويقولون إن الإمامة ثبتت لعلي بن أبي طالب – رضي الله عنه – بالنص ، وكذلك نص علي على الحسن ، والحسن على الحسين ، وهكذا ... كل إمام ينص على من بعده ، وتفرقوا إلى حوالي أربع وعشرين فرقة ، والإمامة عندهم ركن من أركان الإسلام وهي منصب إلهي كاختيار الله سبحانه للرسالة من يشاء من عباده ، ويعتقدون أن الإمام معصوم عن الخطأ والنسيان والمعاصي في الظاهر والباطن ، ويجوزون أن تجري خوارق العادات على يد الإمام ، وأن الإمام أحاط علماً بكل شيء ، ويزعمون أنه أكثر الصحابة ضلُّوا بتركهم الاقتداء بعد النبي صلى الله عليه وسلم فهم كفار وبعض فرقهم تعتقد ألوهية علي – رضي الله عنه - ، وأنه يسكن السحاب ، وأن الرعد صوته ، فإذا سمعوا الرعد قالوا : عليك السلام يا أمير المؤمنين . وبعض فرقهم خرجت عن الإسلام كالسبأية والبنانية والحطابية وغيرهم .
يُراجع : اعتقادات فرق المسلمين والمشركين ص (52- 66) ، والفرق بين الفِرق ص(38- 54) ، والملل والنحل للشهرستاني ص(162-173) .(22/62)
. ولولا الغلو في الدين والتكالب على نصر المذهب ، والتهالك في محبة المبتدع ، لما وسع ذلك عقل أحد ، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( لتتبعن سنن من كان قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع...))(1)الحديث . فهؤلاء غلوا كما غلت النصارى في عيسى- عليه السلام - ، حيث قالوا : إن الله هو المسيح ابن مريم ، فقال الله تعالى : { قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ}(2).
__________
(1) - رواه البخاري في صحيحه المطبوع مع فتح الباري ( 13/300) كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة ، حديث (732). ورواه مسلم في صحيحه المطبوع مع شرح النووي (16/219) كتاب العلم واللفظ له . .
(2) - سورة المائدة:77.(22/63)
وقال صلى الله عليه وسلم:(( لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم، ولكن قولوا: عبد الله ورسوله ))(1) .فالغلو في الأشخاص هو الذي جعل النصارى تقول إن عيسى هو الله أو ابن الله أو ثالث ثلاثة. قال تعالى : { لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ}(2) قال تعالى:{اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ}(3) قال تعالى : {وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ}(4) قال تعالى:{لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ}(5).والغلو هو الذي جعل اليهود تقول عزير ابن الله ، قال تعالى : { وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ}(6)،الغلو والتغالي في الأشخاص من أسباب حدوث البدع ظهرت سابقاً وما زالت حتى عصرتنا الحاضر(7)
رابعاً : أول بدعة ظهرت في الإسلام :
وأمَّا أوّل التفرق والابتداع في الإسلام ، فكان بعد مقتل عثمان بن عفان-رضي الله عنه-، وافتراق المسلمين ، فلما اتفق علي بن أبي طالب ومعاوية- رضي الله عنهما-على التحكيم، أنكرت الخوارج، وقالوا: لا حكم إلا الله، وفارقوا جماعة المسلمين، فأرسل إليهم ابن عباس- رضي الله عنهما- فناظرهم فرجع نصفهم، والآخرون أغاروا على ماشية الناس ، واستحلوا دماءهم ، فقتلوا ابن خباب ، وقالوا:كنا قتله ، فقاتلهم على- رضي الله عنه-.
__________
(1) - رواه البخاري في صحيحه المطبوع مع الفتح الباري (6/478)، كتاب الأنبياء ، حديث (3445) ورواه الإمام أحمد في مسنده (1/23، 24، 55). ورواه الدارمي في سننه (2/320) كتاب الرقائق . ورواه البغوي في شرح السنة (13/246) كتاب الفضائل ، وقال :هذا حديث صحيح .
(2) -سورة المائدة: الآية72.
(3) -سورة التوبة: الآية31.
(4) - سورة التوبة: الآية30.
(5) -سورة المائدة: الآية73.
(6) -سورة التوبة: الآية30.
(7) - يراجع : الاعتصام (1/258، 259) .(22/64)
وأصل مذهبهم –الخوارج – تعظيم القرآن وطلب اتباعه ، لكن خرجوا عن السنة والجماعة ، فهم لا يرون اتباع السنة ، التي يظنون أنها تخالف القرآن ، كالرجم ونصاب السرقة وغير ذلك .... فضلُّوا ، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم أعلم بما أنزل الله عليه ، والله قد أنزل عليه الكتاب والحكمة ، وجوزوا على النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون ظالماً، فلم ينقادوا لحكم النبي صلى الله عليه وسلم ،ولا لحكم الأئمة بعده ، بل قالوا : إن عثمان وعلياً ومن والاهما قد حكموا بغير ما أنزل الله{وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ}(1) فكفَّروا المسلمين بهذا وبغيره ، وتكفيرهم وتكفير سائر أهل البدع مبني على مقدمتين باطلتين:
إحداهما : أن هذا يخالف القرآن .
والثانية : أن من خالف القرآن يكفر ، ولو كان مخطئاً ، أو مذنباً معتقداَ للوجوب والتحريم ، وبإزاء الخوارج ظهرت الشيعة . غلوا في الأئمة وجعلوهم معصومين ، يعلمون كل شيء ، وأوجبوا الرجوع إليهم في جميع ما جاءت به الرسل ، فلا يعرجون لا على القرآن ولا على السنة ، بل على قول من ظنوه معصوماً .
وانتهى الأمر إلى الائتمام بإمام معدوم لا حقيقة له ، فكانوا أضل من الخوارج .فإن أولئك يرجعون إلى القرآن وهو حق وإن غلطوا فيه ، وهؤلاء لا يرجعون إلى شيء بل إلى معدوم لا حقيقة له ، ثم إنما يتمسكون بما ينقل لهم عن بعض الموتى ، فيتمسكون بنقل غير مصدق ، عن قائل غير معصوم ، ولهذا كانوا أكذب الطوائف.
والخوارج صادقون فحديثهم من أصح الحديث ، وحديث الشيعة من أكذب الحديث(2)
خامساً : أسباب انتشار البدع :
انتشار البدع له أسباب عدة ، منها :
__________
(1) - سورة المائدة: الآية44.
(2) - يراجع : مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (13/208، 209) ، وكتاب الفرقان بين الحق والباطل لابن تيمية ص(226،227) .(22/65)
1- سكوت كثير من العلماء على تلك المبتدعات الضآلة ، والعوام إذا رأوا سكوت العالم على أمر حسبوا أن ذلك الأمر لا يخالف الشرع .
وأدهى من ذلك ، أن بعض العلماء الذين فسدت نياتهم ، آثروا الدنيا على الآخرة ، فأخذوا يروِّجون تلك البدع ويحسنونها للمسلمين ، لينالوا الشهرة بينهم ، وتكون هذه الشهرة طريقاً لجمع المال وتحصيله منهم من طرق عدة ، ومن ثم الوصول إلى رئاستهم على أولئك المغفلين السذَّج الذين يحسبون أن كل بيضاء شحمة ، وكل سوداء تمرة .
2- عمل العالم بالبدعة وتقليد الناس له ، لوثوقهم بأنه لا يفعل إلا ما فيه الصواب ، وربما كان عمله على وجه المخالفة ، فيظن الناس أن ذلك مشروعاً . ولذلك قيل : لا تنظر إلى عمل العالم ،ولكن سله يصدقك .
3- تبني الحكام للبدعة ، وتأييدهم لها ، وعملهم على انتشارها ، لموافقتها أهواءهم ، كما حدث من المأمون ومن بعده في القول بخلق القرآن؛ وذلك أن المأمون كان قد استحوذ عليه جماعة من المعتزلة فأزاغوه عن طريق الحق إلى الباطل، وزيَّنُوا له القول بخلق القرآن،ونفي الصفات عن الله عز وجل،ولم يكن في الخلفاء قبله من بني أمية،وبني العباس خليفة إلا على مذهب السل ومنهاجهم.
فقد قال الخليفة هارون الرشيد : ( بلغني أن بشراً المريسي زعم أن القرآن مخلوق ، عليَّ إن أظفرني الله به لأقتلنه قتلةً ما قتلتها أحداً قط )(1) .
فكان بشر متوارياً أيام هارون نحواً من عشرين سنة حتى مات هارون ، فظهر ودعا إلى الضلالة ،وكان من المحنة ما كان(2) .
__________
(1) - يراجع : مناقب الإمام أحمد بن حنبل ص (385) ، والمنهج الأحمد (1/81) .
(2) - يراجع : مناقب الإمام أحمد بن حنبل ص (385) .(22/66)
فلما ولي المأمون الخلافة ، اجتمع بجماعة من المعتزلة منهم بشر بن غياث المريسي ، فخدعوه وأخذ عنهم المذهب الباطل ، ودعا إليه ،وحمل الناس عليه قهراً ،فاستدعى نائبه(1) ببغداد جماعة من أئمة الحديث، فدعاهم إلى ذلك فامتنعوا ، فتهددهم بالضرب وقطع الأرزاق، فأجاب أكثرهم مكرهين ، واستمر على الامتناع عن ذلك الإمام أحمد بن حنبل ومحمد بن نوح الجند يسابوري ، فحملا على بعير وسُيِّرا إلى الخليفة عن أمره بذلك وهما مقيدان متعادلان في محمل على بعير واحد،فلما كانا ببلاد الرحبة(2) جاءهما رجل من الأعراب من عُبَّادهم، فسلم على الإمام أحمد وقال له:يا هذا ! إنك وافد الناس فلا تكن شؤماً عليهم ،وإنك رأس الناس اليوم، فإياك أن تحبيبهم إلى ما يدعونك إليه فيجيبوا ، فتحمل أوزارهم يوم القيامة ، وإن كنت تحب الله فاصبر على ما أنت فيه ، فإنه ما بينك وبين الجنة إلا أن تقتل ، وإنك إن لم تقتل تمت ، وإن عشت عشت حميداً . قال أحمد – رحمه الله - : وكان كلامه مما قوَّى عزمي على ما أنا فيه من الامتناع عن ذلك الذي يدعونني إليه .
__________
(1) - وهو إسحاق بن إبراهيم بن مصعب ، وكان من الدعاة إلى القول بخلق القرآن ، فهو الذي كان يمتحن الناس ويرسلهم إلى المأمون. توفي سنة 235هـ
يُراجع : البداية والنهاية (10/356).
(2) - وتسمى رحبة مالك بن طوق بينها وبين دمشق ثمانية أيام ، ومن حلب خمسة أيام ، وإلى بغداد مائة فرسخ ، وهي بين الرقة وبغداد على شاطئ الفرات ، والذي أحدثها هو مالك بن طوق بن عتاب التغلبي على عهد المأمون ، والرحاب هي المواضع المتواطئة ليستنقع الماء فيها وما حولها مشرف عليها ، وهي أسرع الأرض نباتاً .
يراجع : معجم البلدان (3/34، 35) .(22/67)
فلما اقتربا من جيش الخليفة ونزلوا دونه بمرحلة ، جاء خادم وهو يمسح دموعه بطرف ثوبه ، ويقول: يعز علي يا أبا عبد الله، إن المأمون قد سلّ سيفاً لم يسله قبل ذلك،وإنه يقسم بقرابته من رسول الله صلى الله عليه وسلم لئن لم تجبه إلى القول بخلق القرآن ، ليقتلنك بذلك السيف ، قال : فجثى الإمام أحمد – رحمه الله – على ركبتيه ورمق بطرفه إلى السماء وقال : سيدي غرَّ حلمك هذا الفاجر حتى تجرأ على أوليائك بالضرب والقتل ، اللهم فإن يكن القرآن كلامك غير مخلوق فاكفنا مؤنته ، قال : فجاءهم الصريخ بموت المأمون في الثلث الأخير من الليل، قال أحمد : أحمد : ففرحنا . واستمرت هذه المحنة واستمر دعمها من قبل الخليفة المعتصم بل قد أسرف في تعذيب الإمام أحمد بن حنبل ، وأوجعه ضرباً إلى درجة فقدان الوعي ، كل ذلك لأجل أن يوافقه على القول بخلق القرآن .
واستمرت هذه المحنة حتى ولي المتوكل على الله الخلافة ، فاستبشر الناس بولايته ؛ لأنَّه كان محباً للسنة وأهلها ، ورفع المحنة عن الناس ، وكتب إلى الآفاق أن لا يتكلم أحد في القول بخلق القرآن(1) .
فلولا تبني هؤلاء الخلفاء لهذه البدعة لما وصلت إلى ما وصلت إليه ، ولما وصل الأمر إلى تعذيب الأئمة الأعلام بسب إنكارهم لهذه البدعة .
__________
(1) - يراجع : البداية والنهاية (10/374-385) .(22/68)
وأمثال هؤلاء الخلفاء كثير قديماً(1) وحاضراً ، ممن جعلوا تبني البدع طريقاً لإبعاد الناس عن دينهم الصحيح ، ومن ثم الرئاسة عليهم . ونشر مذاهبهم وعقائدهم الباطلة .
4- تحول البدع إلى عادة يصعب الانصراف عنها إلا بعد جهد كبير .
5- موافقة البدعة لأهواء النفوس وغرائز الناس التي حرص الدين على تنظيمها ، والحد من الانطلاق معها ، وعدم وجود مقاومة فعالة تمنع من انتشارها ، وامتداد أخطارها وتغلغلها في النفوس(2) .
فهذه بعض أسباب انتشار البدع . ذكرناها على وجه الإيجاز ؛ لأن القصد الإشارة وليس الاستيعاب . والله أعلم .
سادساً : آثار البدع على المجتمع :
__________
(1) - ومن هؤلاء : العبيديون الذين أحدثوا من البدع ما لا يحصى من الاحتفالات والموالد إبان حكمهم لمصر ، وكان قصدهم نشر مذهبهم الباطني بين الناس وإشغال الناس عن دينهم ، وكان لدعمهم لهذه البدع مادياً ومعنوياً الأثر الكبير في استمرار هذه البدع ، حتى اعتبرها أكثر الناس والجهال منهم أنها سنن تجب المحافظة عليها ، ومثال ذلك : الاحتفال بالمولد النبوي ، والاحتفالات بأعياد النصارى ... وغير ذلك . فأوّل من فتح الباب على مصراعيه لهذه البدع وتبناها ودعّمها العبيديون ، الذين هم سبب البلاء على الإسلام والمسلمين ، وقد حصل لهم ما يريدون بسبب ضعف إيمان الناس ، وسكوت العلماء عن إنكار هذه البدع .
ولمعرفة ما أحدثوه من البدع والاحتفالات ، وجهودهم في تكل الأمور يحسن الاطلاع على كتاب المقريزي (الخطط والآثار ) .والله أعلم .
(2) - يراجع : البدعة ص(254، 255) ، وتحذير المسلمين ص (21) .(22/69)
لاشك أن للبدع آثار تظهر في المجتمعات التي تُقر تلك البدع ولا تنكرها، وليست هذه الآثار تشمل المجتمع كله، بل تخص من يقرّ بالبدعة أو يعمل بها ، أو يدعو إليها ويرغِّب الناس فيها ، ومن يقبل ذلك منه من الناس ، وتظهر هذه الآثار جليَّة على أفراد المبتدعين ومتبعيهم ، الذين هم جزء من المجتمع ، وعدم الإنكار عليهم ومحاربة بدعهم يجعل هذه الآثار تشمل المجتمع كله .
وهذه الآثار والظواهر منها ما يخص أفراد المبتدعين ، ومنها ما يعم مجتمعهم . وهذه الآثار على سبيل الإيجاز هي :
1- اتباع المتشابه :
لأن المبتدع تفسد طبيعته ، ويترك طريق الصواب إلى طريق الضلال ، ويعرف ذلك من سيرتهم ومن منطقهم ، قال تعالى: {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ}(1).فأول أثر لذلك :اتباع المتشابه ،وقد نَّبه الله سبحانه وتعالى على ذلك بقوله:{فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ}(2)
ومن أمثلة ذلك : استشهاد الخوارج على إبطال التحكيم بقوله تعالى : {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ}(3).
وقد قال صلى الله عليه وسلم : (( فإذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم ))(4).
2- إماتة السنَّة :
ومن الآثار الضارة للبدعة : إماتة السنَّة ؛ لأنَّه ما ظهرت بدعة إلا وماتت سنة من السنن ، لأن البدعة لا تظهر وتشيع إلا بعد تخلي الناس عن السنة الصحيحة ، فظهور البدع علامة دالَّة على ترك السنة .
__________
(1) - سورة محمد: الآية30.
(2) - سورة آل عمران: الآية7.
(3) - سورة الأنعام: الآية57.
(4) - البخاري في صحيحه المطبوع مع فتح الباري (8/209) كتاب التفسير ، حديث (4547) . بلفظ : ((فإذا رأيت )) . ورواه مسلم في صحيحه المطبوع مع شرح النووي (16/217) كتاب العلم ، بلفظ : إذا رأيتم )).(22/70)
قال ابن عباس رضي الله عنهما(( ما أتى على الناس عام إلا أحدثوا فيه بدعة وأماتوا فيه سنة، حتى تحيا البدع وتموت السنن))(1)
3- الجدل :
من الآثار المترتبة على الوقوع في البدع: الجدل بغير حق، والخصومات في الدين،وقد حذََّّر الله سبحانه وتعالى من ذلك بقوله عز وجل :{وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ}(2). فقد نهى سبحانه وتعالى عن الفرقة والاختلاف ، بعد مجيء البينات ، الكتاب والسنة؛ حتى لا نكون كالأمم السابقة التي تفرقت واختلفت بسبب بدعهم وأهواءهم .وقال صلى الله عليه وسلم : (( إن الله يرضى لكم ثلاثاً ويكره لكم ثلاثاً ، فيرضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً ، وأن تعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا ، ويكره لكم : قيل وقال ، وكثرة السؤال ، وإضاعة المال ))(3) .
وقال صلى الله عليه وسلم:((أبغض الرجال إلى الله الألد الخصِم))(4)والألد الخصم:أي شديد الخصومة، واللدد: الخصومة الشديدة(5)
4- اتباع الهوى :
__________
(1) - رواه الطبراني في الكبير ورجاله موثقون . قاله الهيثمي في مجمع الزوائد (1/188)، باب في البدع والأهواء .
(2) - سورة آل عمران: الآية105.
(3) - رواه مالك في الموطأ (2/990) كتاب الكلام ، حديث رقم (20) . ورواه مسلم في صحيحه (3/1340) كتاب الأقضية ، حديث رقم (1715) .
(4) - رواه البخاري في صحيحه المطبوع مع فتح الباري (13/180)كتاب الأحكام ، حديث (7188).رواه مسلم في صحيحه المطبوع مع شرح النووي (4/2054)كتاب العلم حديثرقم (2668). .
(5) - يراجع : النهاية في غريب الحديث والأثر (4/244) ،باب (لدد) .(22/71)
ومن آثار البدع :اتباع أهلها لأهوائهم وعدم التقيد بما شرع الله .ولاشك أن هذا عين الضلال،قال تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ}(1)، وقال تعالى :{أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ}(2) .واتباع الهوى أمر باطن لا يظهر،ولكن يتبين بعرض أعمال صاحبه على الشرع ،فعند عرضها على الشرع نرى أنها لا تمثل إلا هوى صاحبها ، ولا تصدر إلا من مبتدع جاهل ، يقول في الأمور بغير علم ، وخاصة أمور الدين .
5- مفارقة الجماعة :
ومن آثار البدع : مفارقة أهلها الجماعة ، وشق عصا الطاعة على جماعة المسلمين؛ لأنهم اعتمدوا على أهوائهم، ومن اتبع هواه خرج عن جادة الصواب ، وقد حذَّر الله من ذلك بقوله عز وجل:{وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ.....}(3).
وقال تعالى: {وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ}(4)، وقال تعالى: {..وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ}(5)،وقال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ}(6).
__________
(1) - سورة القصص: الآية50.
(2) - سورة الجاثية: الآية23.
(3) - سورة آل عمران: الآية105.
(4) - سورة الأنعام: الآية153.
(5) - سورة الروم: الآية31-32 .
(6) - سورة الأنعام: الآية159.(22/72)
وقال صلى الله عليه وسلم : (( افترقت اليهود على إحدى أو ثنتين وسبعين فرقة ، وتفرقت النصارى على إحدى أو ثنتين وسبعين فرقة وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة ))(1).
وفي رواية : (( كلها في النار ، إلا واحدة : وهي الجماعة ))(2)
فالنبي صلى الله عليه وسلم قد أخبر عن وقوع الفرقة في أمته ، وسبب هذا الافتراق هو مخالفة أهل الأهواء الضالة ؛ كالقدرية ، والخوارج ، و الروافض وأمثالهم ؛ ما اتفق عليه أهل السنة والجماعة في أبواب العدل والتوحيد ، والوعد والوعيد ، والقدر والخير والشر ، والإدارة والمشيئة ، والرؤية والإدراك ، وصفات الله عز وجل وأسمائه .. وغير ذلك ، فسبب مفارقتهم لجماعة المسلمين هو إحداثهم للبدع التي ما أنزل الله بها من سلطان(3) .
6- ضلال الناس :
__________
(1) - رواه الإمام أحمد في مسنده (2/332) . ورواه أبو داود في سننه (5/4) كتاب السنة ، حديث رقم (4596) واللفظ له . ورواه الترمذي في سننه (4/134،135) أبواب الإيمان ، حديث (2778)،وقال : حديث حسن صحيح . ورواه ابن ماجه في سننه (2/1321)كتاب الفتن حديث رقم (3991) مختصراً
(2) - رواه ابن ماجه في سننه (2/1322) ، كتاب الفتن ، حديث رقم (3993) ، وقال في الزوائد : إسناده صحيح ، رجاله ثقات .
(3) - يراجع : الفرق بين الفِرق ص (4-7) .(22/73)
ومن آثار البدع : أن المبتدعة لا يقتصر ضلالهم على أنفسهم ، وإنما يشيعونه بين الناس ، ويدعون إليه قولاً وعملاً ، بالحجة الباطلة والتأويل الزائغ والهوى المتسلط ، فيتحملون إثمهم وإثم من عمل بهذه البدعة إلى يوم القيامة ، قال تعالى:{لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ....}(1)الحديث(2).
والمبتدعة قد ألَّفُوا الفرق وجمعوا الجماعات ، وساروا بهم في بدعهم بغير فهْم ، فأول ما يظهر أهل البدع يكونون أفراد ، ثم بعد ذلك يتجمع الناس حولهم مفتونين بهم ، مدافعين عن ضلالهم ، مشيعين ذلك بين الناس ، وليس ثمة دليل لديهم إلا اتباع الظن وما تهوى الأنفس ، وتقليد أئمتهم المبتدعة .
7- الاستمرار في البدع وعدم الرجوع عنها :
ومن آثار البدع : أن صاحب البدعة إذا أصابه مرضها ، لا يرجع عن بدعته ، بل يستمر فيها ، مبعدة إياه عن طريق الحق ، حتى يصعب عليه الرجوع والتوبة ، إلا من رحم الله ، وقال صلى الله عليه وسلم : (( إن بعدي من أمتي ،- أو سيكون بعدي من أمتي – قوماً يقرأون القرآن ولا يجاوز حلوقهم ، يمرقون من الدين كما يرق السهم من الرمية ، ثم لا يعودون فيه ، هم شرار الخلق والخليقة ))(3) .
فصاحب البدعة لا توبة له عن بدعته ، وإن خرج عنها فإنه يخرج إلى ما هو شر منها ، أو يُظهر الخروج عنها ويصر عليها باطناً ، وعدم توبة صاحب البدعة لها أسباب ، منها :
__________
(1) - سورة النحل: الآية25.
(2) - رواه الإمام أحمد في مسند(4/357، 359) . ورواه مسلم في صحيحه (2/705) كتاب الزكاة ، حديث رقم (1017) . ورواه النسائي في سننه (5/76، 77) ، كتاب الزكاة ، باب التحريض على الصدقة .
(3) - رواه ابن ماجه في سننه (1/60) ، المقدمة ، حديث رقم (170) . وحديث المارقين عن الدين متفق على صحته .(22/74)
أن الدخول تحت التكاليف في الشريعة صعب على الأنفس ؛ لأنه أمر مخالف للهوى ،ومحاد للشهوات، فيثقل عليها جداً، لأن الحق ثقيل ، والنفس إنما تنشط بما يوافق هواها ، لا بما يخالفه ، وكل بدعة للهوى فيها مدخل ؛لأنها راجعة إلى نظر مخترعها وهواه ، لا إلى نظر الشارع وحجته .
أن المبتدع لابد له من تعلق بشبهة دليل ، ينسبها إلى الشارع ، ويدّعي أن ما ذكره هو مقصود الشارع فصار هواه مقصوداً بدليل شرعي في زعمه ، فكيف يمكن الخروج من ذلك ،وداعي الهوى مستمسك بأحسن ما يتمسك به ؟ وهو الدليل الشرعي في الجملة .
أن المبتدع يزيد في الاجتهاد لينال في الدنيا التعظيم والمال والجاه ، وغير ذلك من أصناف الشهوات ، قال تعالى : {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً *الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً}(1) .
وقال تعالى : {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * تَصْلَى نَاراً حَامِيَةً}(2)، فسبب ما داخل أنفسهم من الهوى يجد المبتدعة في ذلك الالتزام والاجتهاد ، خفة ونشاط ، يستسهلون به الصعب ، ويرون أعمالهم أفضل من عمل غيرهم {كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ}(3) ..(4)
سابعاً : وسائل الوقاية من البدع :
للوقاية من البدع وسائل عدة ، نذكر منها على سبيل الإيجاز :
1- الاعتصام بالكتاب والسنة ،- بالإضافة إلى نشر ذلك وتبليغه للناس على أكبر قدر ممكن -:
وقد جاءت أوامر الاعتصام بالكتاب والسنة صريحة في ذلك ، منها :
__________
(1) - سورة الكهف:103،104.
(2) - سورة الغاشية :2- 4
(3) - سورة المدثر: الآية31.
(4) - يراجع : الاعتصام (1/114-125) ، والبدعة والمصالح المرسلة ص(209- 219) .(22/75)
قوله تعالى:{ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا}(1). وحبل الله هو القرآن(2)، وقال تعالى : {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ}(3)، وقال تعالى : {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ}(4)، وقال تعالى : {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا}(5). والآيات كثيرة في هذا الباب وحصرها ليس من السهولة بمكان ، والقصد التنبيه لا الحصر .
وقال صلى الله عليه وسلم : (( لا حسد إلا في اثنتين: رجل علَّمه الله القرآن فهو يتلوه آناء الليل وآناء النهار ، فسمعه جار له فقال : ليتني أوتيت مثلما أوتي فلان فعملت مثل ما يعمل ....)) الحديث(6) .
__________
(1) - سورة آل عمران: الآية103.
(2) - يراجع : تفسير ابن كثير (1/388، 389) .
(3) - سورة صّ:29.
(4) - سورة فاطر:29.
(5) - سورة فاطر:32.
(6) - رواه البخاري في صحيحه المطبوع مع فتح الباري (9/73) كتاب فضائل القرآن ، حديث رقم (5026) . ورواه مسلم في صحيحه المطبوع مع شرح النووي (1/558) كتاب صلاة المسافرين ، حديث رقم (815) .(22/76)
وقال صلى الله عليه وسلم : (( خيركم من تعلم القرآن وعلمه ))(1). وفي رواية: ((إن أفضلكم من تعلم القرآن وعلمه ))(2).
وقال صلى الله عليه وسلم : (( تعاهدوا القرآن ، فو الذي نفسي بيده لهو بيده لهو أشد تفصيا(3)من الإبل في عقولها ))(4) .
وقال صلى الله عليه وسلم : ((ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب، ويتدارسونه بينهم ، إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة ، وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده ....))(5).
وقال تعالى :{ بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ }(6).
__________
(1) - رواه البخاري في صحيحه المطبوع مع فتح الباري (9/74) كتاب فضائل القرآن ، حديث رقم (5027) . ورواه أبو داود في سننه (2/147) كتاب الصلاة ، حديث رقم (1452) . ورواه الترمذي في سننه (4/246) كتاب فضائل القرآن ، حديث رقم (3071)، وقال حديث حسن صحيح .
(2) - رواه البخاري في صحيحه المطبوع مع فتح الباري (9/74) كتاب فضائل القرآن ، حديث رقم (5028) . ورواه الترمذي في سننه (4/246) كتاب فضائل القرآن ، حديث رقم (3072)،وقال : حديث حسن صحيح .
(3) - تفصياً : أي تفلتاً وتخلصاً . يراجع : فتح الباري (9/81) .
(4) - رواه البخاري في صحيحه المطبوع مع فتح الباري (9/79) كتاب فضائل القرآن ، حديث رقم (5033) . ورواه مسلم في صحيحه المطبوع مع شرح النووي (1/545) كتاب صلاة المسافرين ، حديث رقم (791) بلفظ : ((تلفتاً )).
(5) - رواه مسلم في صحيحه (4/ 2074) كتاب الذكر والدعاء ، حديث رقم (2699) . ورواه أبو داود في سننه (2/148، 149) كتاب الصلاة حديث رقم (1455) . ورواه ابن ماجه في سننه (1/82) المقدمة ، حديث رقم (225) .
(6) - سورة النحل: الآية44.(22/77)
والسنة بيان القرآن ، فكما تجب المحافظة على الكتاب – كما تقدم من الأدلة السابقة – فكذلك تجب المحافظة على بيانه . فالسنة – وهي بيان الكتاب – لا تقل أهمية عن القرآن .
وقد بين الرسول صلى الله عليه وسلم وجوب تبليغ السنة ونشرها على أوسع نطاق ممكن ، فقال عليه الصلاة والسلام :
((بلغوا عني ولو آية ، وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج ، ومن كذب عليّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار ))(1).
وقال صلى الله عليه وسلم : (( ليبلغ الشاهد الغائب ))(2).
وقال صلى الله عليه وسلم : (( فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين ، عضوا عليها بالنواجذ ، وإياكم ومحدثات الأمور ، فإن كل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة ))(3).
وقال صلى الله عليه وسلم : (( نضر الله امرءاً سمع منا حديثاً فحفظه حتى يبلغه غيره ))(4).
__________
(1) - رواه الإمام أحمد في مسنده (2/159) . ورواه البخاري في صحيحه المطبوع مع فتح الباري (6/496) كتاب الأنبياء ،حديث رقم (3461) . ورواه الترمذي في سننه (4/147) أبواب العلم ، حديث رقم (2807) .
(2) - رواه البخاري في صحيحه المطبوع مع فتح الباري (1/158) كتاب العلم ، حديث رقم (67) . ورواه مسلم في صحيحه (2/988) كتاب الحج ، حديث رقم (1354) .
(3) - رواه الإمام أحمد في مسنده (4/126) .ورواه أبو داود في سننه (5/13-15) كتاب السنة ،حديث رقم (4607).ورواه الترمذي في سننه (4/149، 150) أبواب العلم ، حديث رقم (2816) ، وقال : حديث حسن صحيح .ورواه ابن ماجه في سننه (1/ 16 ) ، المقدمة ،حديث رقم (42، 43).
(4) - - رواه الإمام أحمد في مسنده (1/437) .ورواه أبو داود في سننه (4/68، 69) كتاب العلم ،حديث رقم (2660).ورواه الترمذي في سننه (4/142) أبواب العلم ، حديث رقم (2795) ، وقال : حديث حسن ننه (1/صحيح .(22/78)
فما تقدَّم من النصوص يدلُّ على وجوب الاعتصام بالكتاب والسنة ، ونشر سنته ، ونشر سنته صلى الله عليه وسلم وتبليغها ؛ لأنَّ في ذلك وقاية من إحداث البدع وظهورها .
2- تطبيق السنة في سلوك الفرد وسلوك المجتمع :
وذلك بتطبيق ما علمه الإنسان من السنة على سلوكه في جميع مجالات الحياة، فتطبيق السنة يجعل البدعة أمراً منكراً في المجتمع، تظهر ملامحها البشعة ومظهرها السيء ، وتدل بنفسها على ما تحمله من قبح وتهديد للإسلام والمسلمين ، فيجعل الناس ينفرون من البدع ، لعدم قبول الناس وموافقتهم لمرتكب البدعة ، ولما كان الصحابة – رضوان الله عليهم – يطبقون السنة في جميع تصرفاتهم وأفعالهم لم تظهر فيهم البدع ، وإذا ظهرت قُضي عليها مباشرة ؛ لأن المبتدع بفعله البدعة قد شذَّ عن المجتمع الذي يعيش فيه ، فتكون مقامته سهلة ، ولكن في آخر الزمان يختلف الوضع ، فيكون المتمسك بدين الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم كالقابض على الجمر ، ويكون حيداً غريباً في مجتمعه ،كما قال عليه الصلاة والسلام : (( بدأ الإسلام غريباً وسيعود كما بدأ غريباً ، فطوبى للغرباء ))(1) .
3- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر :
البدع في بدايتها تكون صغيرة ثم تكبر ، يبدعها فرد وسرعان ما يلتف حوله أهل الأهواء ، لموافقة هذه البدعة أهواءهم وشهوة أنفسهم ، أو أن هذه البدعة تريحهم من بعض تكاليف الشرع . فما هو الموقف الواجب اتخاذه ؟.
__________
(1) - رواه الإمام أحمد في مسنده (1/398) . ورواه مسلم في صحيحه (1/130) كتاب الإيمان ، حديث رقم (145) . ورواه الترمذي في سننه (4/129) أبواب الإيمان ، حديث رقم (2764) ، وقال : حديث حسن غريب صحيح . ورواه ابن ماجه في سننه (2/1319، 1320) كتاب الفتن ، حديث رقم (3986) .(22/79)
الجواب على ذلك هو : الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر . وقد أوجبه الله علينا بقوله تعالى :{وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}(1). فقد أوجب الله علينا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على الكفاية . فلا يجب على كل أحد بعينه ، فإذا لم يقم به يقوم بواجبه ، أثم كل قادر بحسب قدرته ؛ إذ هو واجب على كل إنسان بحسب قدرته ، كما قال صلى الله عليه وسلم :(( من رأى منكم منكراً فليغيره بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه ، وذلك أضعف الإيمان ))(2) .(3)
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من الصفات التي جعل الله بها أمة محمد صلى الله عليه وسلم خير الأمم ، قال تعالى:{ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ..}(4).
__________
(1) - سورة آل عمران:104.
(2) -رواه الإمام أحمد في مسنده (3/10) . ورواه مسلم في صحيحه (1/69) كتاب الإيمان ، حديث رقم (49) . ورواه أبو داود في سننه (1/677، 678) كتاب الصلاة ، حديث رقم (1140) . ورواه الترمذي في سننه (3/317، 318) أبواب الفتن ، حديث رقم (2263) ، وقال : حديث حسن صحيح . ورواه النسائي في سننه (8/111، 112) كتاب الإيمان . ورواه ابن ماجه في سننه (1/406) كتاب إقامة الصلاة ، حديث رقم (1275) .
(3) - يُراجع : مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (28/125، 126) .
(4) - سورة آل عمران: الآية110.(22/80)
قال أبو هريرة – رضي الله عنه - : (({كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ}تأتون بهم في السلاسل في أعناقهم حتى يدخلون في الإسلام ))(1).
وفي قول أبو هريرة- رضي الله عنه- ما يدل على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بمعناهما الشامل ، يدخل فيهما الجهاد في سبيل الله والعمل على تبليغ رسالة الإسلام بشتى الوسائل الممكنة .
وقد جعل الله سبحانه وتعالى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من صفات المؤمنين ، ومما يتميزون به على غيرهم ، كما جعل الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف من صفات المنافقين ومما يميزهم عن غيرهم .
فقال تعالى في وصف المؤمنين {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ}(2).
وقال جل وعلا واصفاً المنافقين :{ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ}(3).
ولا شك أن التحذير من البدع والنهي عنها من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وأن إحداث البدع ودعوة الناس إليها من الأمر بالمنكر الذي هو من خصائص المنافقين ومن تبعهم .
وقد نص الله سبحانه وتعالى على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من خصائص الرسالة المحمدية ، وأهدافها البارزة ، قال تعالى :{ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ......}(4).
__________
(1) - رواه البخاري في صحيحه المطبوع مع فتح الباري (8/224) كتاب التفسير ، حديث رقم (4557) . ورواه الحاكم في المستدرك (4/84) كتاب معرفة الصحابة ، وقال : حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ، وقال الذهبي : صحيح .
(2) - سورة التوبة: الآية71.
(3) -سورة التوبة: الآية67.
(4) -سورة لأعراف: الآية157.(22/81)
وقد أرشد الرسول صلى الله عليه وسلم في عدة أحاديث إلى عموم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وشموله لكل مسلم، فقال-عليه السلام-:((من رأى منكم منكراً فليغيره بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان))(1).
وجعل-عليه الصلاة والسلام- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من واجب الجالسين على الطريق ، وبين أن ذلك من حقوق الطريق ، فقال عليه الصلاة والسلام : (( إياكم والجلوس على الطرقات )) . فقالوا : مالنا بد ، إنَّما هي مجالسنا نتحدث فيها ، قال : فإذا أتيتم إلى المجالس فأعطوا الطريق حقها )) . فقالوا : وما حق الطريق ؟.قال:((غض البصر ، وكف الأذى، وردّ السلام ، وأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ))(2).
وقال صلى الله عليه وسلم :(( إنكم منصورون ومصيبون ومفتوح لكم ، فمن أدرك ذاك منكم فليتق الله وليأمر بالمعروف ولينه عن المنكر ، ومن يكذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار ))(3) .
__________
(1) -رواه الإمام أحمد في مسنده (3/10) . ورواه مسلم في صحيحه (1/69) كتاب الإيمان ، حديث رقم (49) . ورواه أبو داود في سننه (1/677، 678) كتاب الصلاة ، حديث رقم (1140) . ورواه الترمذي في سننه (3/317، 318) أبواب الفتن ، حديث رقم (2263) ، وقال : حديث حسن صحيح . ورواه النسائي في سننه (8/111، 112) كتاب الإيمان . ورواه ابن ماجه في سننه (1/406) كتاب إقامة الصلاة ، حديث رقم (1275) .
(2) - رواه البخاري في صحيحه المطبوع مع فتح الباري (5/112) كتاب المظالم ، حديث رقم (3465) . ورواه مسلم في صحيحه المطبوع مع شرح النووي (3/1675) كتاب اللباس ، حديث رقم (2121) .
(3) - رواه الإمام أحمد في مسنده (1/389) . ورواه الترمذي في سننه (3/357) أبواب الفتن ، حديث رقم (2358) ، وقال : حديث حسن صحيح .(22/82)
وقال عليه الصلاة والسلام : (( مثل القائم على حدود الله ، والمدهن(1) فيها ، كمثل قوم استهموا على سفينة في البحر، فأصاب بعضهم أعلاها ، وأصاب بعضهم أسفلها ، فكان الذين في أسفلها يصعدون فيستقون الماء ، فيصيبون على الذين في أعلاها، فقال الذين في أعلاها :لا ندعكم تصعدون فتؤذوننا ، فقال الذين في أسفلها: فإنا ننقبها في أسفلها فنستقي ، فإن أخذوا على أيديهم فمنعوهم نجوا جميعاً ، وإن تركوهم غرقوا جميعاً ))(2)
ففي هذا الحديث تحذير منه صلى الله عليه وسلم عن عاقبة السكوت عن المنكرات والبدع، وقد مثَّل النبي صلى الله عليه وسلم بركاب السفينة – وما أحسن التمثيل – فإن سكوت المسلمين عن أهل المنكر والمبتدعة ، يؤدي إلى تفشي هذه المنكرات والبدع في المجتمعات ، مما يجعلهم مستحلين للعقوبة ، فإذا نزلت العقوبة شملت الفاعل والراضي بالفعل ، فالأول لمباشرته المنكر ، والثاني لسكوته عن الإنكار .
وقد قال عليه الصلاة والسلام : (( والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ، أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقاباً منه فتدعونه فلا يستجيب لكم ))(3) .
__________
(1) - المدهن – بضم الميم وسكون الدال وكسر الهاء - : المراد به من يرائي ويضيع الحقوق ولا يغير المنكر ، والمدهن والمداهن واحد . يراجع : تحفة الأحوذي (394) ، ولسان العرب (13/162) مادة (دهن) .
(2) - - رواه الإمام أحمد في مسنده (1/268) . ورواه الترمذي في سننه (3/318) أبواب الفتن ، حديث رقم (2264) ،وقال : حديث حسن صحيح .
(3) - رواه الإمام أحمد في مسنده (1/388، 389) . ورواه الترمذي في سننه (3/316، 317) أبواب الفتن ، حديث رقم (2259) ،وقال : حديث حسن .(22/83)
ولكن قد يستدل بعض الناس بقوله تعالى :{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ}(1) ، على أن الإنسان ليس مسئولاً إلا عن نفسه وتصرفاته ، ولا شأن له بالآخرين وما يفعلونه .
فالجواب على ذلك ما قاله أبو بكر الصديق – رضي الله عنه– قال :(( يا أيها الناس ! إنكم تقرأون هذه الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ }(2)، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : (( إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه ))(3).
فما تقدَّم من الآيات والأحاديث يدلُّ على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب على كل شخص ؛ لا بعينه وإنَّما على الكفاية على حسب قدرته وطاقته ، وأنه من خصائص أمة محمد صلى الله عليه وسلم وأن تركه من خصائص المنافقين ، وإذا ترك الناس الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فقد جنوا على أنفسهم ، وصاروا مستحقين للعقوبة .
ولا شك أن البدع من أكبر المنكرات التي يجب النهي عنها ، وأن التهاون في ذلك يساعد على انتشار البدع ، وتمسك الناس بها ، واعتقادهم أن هذه البدع لو كانت أمراً منكراً لنهى عنه الناس عامة والعلماء خاصة، وأن سكوت العلماء عن الإنكار دليل على موافقة هذا الأمر المبتدع للشرع ،إذ لو كان مخالفاً لحصل الإنكار.
__________
(1) -سورة المائدة: الآية105.
(2) -سورة المائدة: الآية105.
(3) - رواه الإمام أحمد في مسنده (1/7).ورواه الترمذي في سننه (4/322) أبواب تفسير القرآن ، حديث رقم (5050)،وقال :حديث حسن صحيح . وقد رواه غير واحد ، عن إسماعيل بن أبي خالد نحو هذا الحديث مرفوعاً ،وروى بعضهم عن إسماعيل عن قيس عن أبي بكر قوله ولم يرفعوه .ورواه أبو داود في سننه (4/509، 510) كتاب الملاحم ، حديث رقم (4338) .(22/84)
فالأمر بالمعروف وهو لزوم الكتاب والسنة ،والنهي عن المنكر من البدع والمعاصي ؛ من أهم أسباب الوقاية من البدع ، وله دور كبير في ذلك . جعلنا الله وإياكم من الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر ، مخلصين ذلك لله وحده ، والله أعلم .
4- القضاء على أسباب البدع :
وأسباب البدع سبق وتكلمنا عنها ، ويكون القضاء عليها بأمور عدة ، منها :
أ- منع العامة من القول في الدين ، وعدم اعتبار آرائهم مهما كانت مناصبهم فيه .
ب- الرد على ما يوجه إلى الدين من حملات ظاهرة أو خفية ، وكشف مظاهر الابتداع ، وتسليط الضوء عليها من القرآن والسنة لمنعها من التغلغل والانتشار .
جـ- الاحتراز من كل خروج عن حدود السنة مهما قلّ أثره أو صغر أمره .
د- صدّ تيارات الفكر العقائدي والتي لا حاجة للمسلم فيها ،بل وردّ النصّ بالتحذير منها ،كآراء غير المسلمين فيها يتصل بالعقيدة ، أو الأمور الغيبة ونحوها .
قال تعالى :{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ}(1)
قال تعالى:{وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ.}(2)
__________
(1) - سورة آل عمران:100.
(2) - سورة البقرة: الآية109.(22/85)
وقال صلى الله عليه وسلم:((لتتبعن سنن من كان قبلكم شبراً شبراً وذراعاً ذراعاً حتى لو دخلوا جحر ضبِّ(1) تبعتموهم)) قلنا: يا رسول!اليهود والنصارى؟.قال:((فمن ؟))(2).فحذر النبي صلى الله عليه وسلم من اتباع سننهم والوقوع فيما وقعوا فيه، وتقليدهم من غير تبصر، وهذا علم من أعلام نبوته.فواقع الحال يشهد بأنا أصبحنا نقلدهم في كثير من الأشياء، حتى صار المسلمون يقيمون الاحتفالات بأعياد النصارى ، ونحو ذلك من التقليد الأعمى في كثير من الأمور، وقد ألف بعض العلماء المعاصرين كتاباً ذكر فيه جملة من الأمور التي وقع فيها المسلمون من مشابهة المشركين(3). فكثير من البدع إنما أحدثت تقليداً لليهود والنصارى وغيرهم(4) .
هـ- الاعتماد على الكتاب والسنة فقط في أمور العقيدة التي لا مجال للاجتهاد والاستحسان والقياس فيها . وعدم الاعتماد على ما يعده بعض أهل الضلال مستنداً كالعقل ونحوه . وما هو أوهى من ذلك كالمنامات ونحوها .
و- ترك الخوض في المتشابه؛ لأن الخوض فيه علامة على أهل الزيغ والبدع . وسبب كل بلاء ومصيبة دخلت على المسلمين .
__________
(1) - الضب : دويبة أحرش الذنب ، خشنُهُ ، مُفقره ، ذو عقد ، ولونه إلى الصُّحْمة ، وهي غُبرة مشربة سواداً ، وإذا سمن اصفر صدره . يُراجع : لسان العرب ( 1/539) مادة (ضبب)
(2) - رواه البخاري في صحيحه المطبوع مع فتح الباري ( 13/300) كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة ، حديث رقم (7320). ورواه مسلم في صحيحه (4/2054) كتاب العلم ، حديث رقم (2669) .
(3) - الكتاب هو : الإيضاح والتبين لما وقع فيه الأكثرون من مشابهة المشركين . ومؤلفه هو : فضيلة الشيخ حمود بن عبد الله التويجري – أثابه الله - . وطبع الطبعة الأولى سنة 1384هـ ، ثم طبع طبعة ثانية مصححة ومنقحة سنة 1405هـ .
(4) - يراجع : البدعة ص (424، 425) .(22/86)
فما ذكرناه هو بعض الأمور التي في اتباعها أثر كبير في القضاء على أسباب البدع ، وهذه الأمور لا تحقيق الهدف لوحدها ، وإنما لا من احتساب العلماء وطلاب العلم وبذل وسعهم ، في تطبيقها والدعوة إليها ، وحثّ على الالتزام بها . لكي تؤدي الغرض المطلوب ، والهدف المقصود ، والله الهادي إلى سواء السبيل .
سابعاً : البدع الحولية :
المراد بالبدع الحولية : هي البدع التي تقام كل حول مرة ، وفي نفس الميعاد ، ولا يمكن أن تتكرر في سنة واحدة . فمثلاً : بدعة الحزن عند الرافضة في يوم عاشوراء – العاشر من محرم – تقام كل سنة في هذا اليوم ولا علاقة لها بفرق الأيام بين سنة وأخرى ، فلا يمكن أن يجعلوا موسمهم هذا يوم التاسع من محرم ولا العشرين منه ، وإنما يقيمونه كل سنة في العشر من محرم .
وكذلك بدعة الاحتفال بليلة النصف من شعبان ، فإنه يحتفل بها في هذه الليلة بالذات من كل عام .
وكذلك بالنسبة لبدعة صلاة الرغائب التي لا تتعلق بتاريخ معين،وإنما هي متعلقة بليلة أول جمعة من رجب، فربما كانت تلك الليلة ليلة اليوم الأول من رجب وربما كانت ليلة الثاني أو الثالث أو الرابع ......من شهر رجب فهي تتكرر كل عام في ليلة أول جمعة من رجب .
والحول والسنة والعام ، معناها واحد . وقد وردت هذه الأسماء الثلاثة في كتاب الله تعالى ، قال تعالى:{لَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَاماً}(1)، فأتى بذكر السنة والعام في آية واحدة ، وقال عز من قائل:{وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ...}(2) .
__________
(1) - سورة العنكبوت: الآية14.
(2) - سورة البقرة: الآية233.(22/87)
وقد تختص بالجدب ، والعام بالخصب ، قال تعالى :{وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ}(1) ، فعبَّر بالسنين عن الجدب . وقال تعالى :{ ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ}(2)، فعبَّر بالعام عن الخصب ، وقد وقع التعبير عن الخصب بالسنين أيضاً في قوله تعالى :{ قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ.........}(3).
أما الحول فإنه يقع على الخصب والجدب جميعاً .
والسنة – الحول – على قسمين : طبيعة ، واصطلاحية .
فالطبيعة : هي القمرية ، وأولها استهلال القمر في غرة المحرم وآخرها سلخ ذي الحجة من تلك السنة . وهي اثنا عشر شهراً هلالياً ،قال تعالى : {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ }(4).
وعدد أيامها : ثلاثمائة وأربعة وخمسون يوماً ، وخمس وسدس يوم تقريباً ، ويجتمع من هذا الخمس والسدس يوم في كل ثلاث سنين ، فتصير السنة ثلاثمائة وخمسة وخمسون يوماً ، ويبقى من ذلك بعد اليوم الذي اجتمع شيء ، فيجتمع منه ومن خمس اليوم وسدسه في السنة السادسة يوم واحد .... وهكذا إلى أن يبقى الكسر أصلاً ، بأحد عشر يوماً عند تمام ثلاثين سنة ، وتسمى تلك السنين كبائس العرب .
والاصطلاحية : هي الشمسية ، وشهورها اثنا عشر شهراً كما في السنة الطبيعية ، إلا أن كل طائفة راعت عدم دوران سنيها ، جعلت في أشهرها زيادة في الأيام إما جملة وإما متفرقة وسمتها نسيئاً .
__________
(1) - سورة لأعراف: الآية130.
(2) - سورة يوسف:49.
(3) -سورة يوسف: الآية47.
(4) - سورة التوبة: الآية36.(22/88)
وعدد أيامها عند جميع الطوائف(1) ، ثلاثمائة يوم وخمسة وستون يوماً وربع يوم ، فتكون زيادتها على العربية-الطبيعة-عشرة أيام وثمانية أعشار يوم ، وخمسة أسداس يوم(2) .
وفي كتابنا هذا سنتطرق للبدع التي تحدث في كل شهر من شهور السنة الهجرية ؛ مبتدئين بشهر محرم إلى شهر ذي الحجة ، وهناك بعض الشهور لم نطلع- حسب وسعنا- فيها على بدع ، فلذلك لم نوردها كشهر ربيع الثاني ، وشهري جمادى الأولى والثانية ، وذي القعدة . فنسأل الله العون والتوفيق ، إنه على كل شيء قدير .
****************************
الفصل الأول
شهر المحرم
المبحث الأول : بعض الآثار الواردة فيه .
المبحث الثاني : البدعة فيه عند الرافضة .
المبحث الثالث : بدعة الفرح فيه عند الناصبة .
…
المبحث الأول
بعض الآثار الواردة فيه
عن أبي بكرة - رضي الله-عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ((إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض ، والسنة اثنا عشر شهراً ، منها أربعة حرم : ثلاث متواليات ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان )) الحديث . متفق عليه(3) .
__________
(1) - المراد بهذه الطوائف : الفرس ، والقبط ، والسريان .
(2) - يراجع : صبح الأعشى (2/396-397). وكذلك : نهاية الأرب (1/164) .
(3) - - رواه البخاري في صحيحه المطبوع مع فتح الباري (10/7) كتاب الأضاحي ، حديث رقم ( 5550) ، ورواه مسلم في صحيحه (3/1305) كتاب القسامة ، حديث رقم (1679).(22/89)
عن أبي هريرة – رضي الله عنه- قال : قال رسول الله : (( أفضل الصيام بعد رمضان ، شهر الله المحرم ، وأفضل الصلاة بعد الفريضة ، صلاة الليل ))(1).
عن عائشة-رضي الله عنها- قالت : كان يوم عاشوراء تصومه قريش(2)
__________
(1) - رواه الإمام أحمد في مسنده ( 2/ 303) . ورواه مسلم في صحيحه (3/821) كتاب الصيام ، حديث رقم (1163) . ورواه أبو داود في سننه (2/ 811) كتاب الصوم ، حديث رقم ( 2429) . ورواه الترمذي في سننه مختصراً (2/12) أبواب الصوم ، حديث رقم (737) .وقال : حديث حسن . ورواه النسائي في سننه (3/206، 207) باب قيام الليل . ورواه ابن ماجه في سننه (1/554) كتاب الصيام ، حديث رقم (1742) .
(2) -هي قبيلة من أشهر قبائل العرب وأقواها ، شرَّفها الله ببعث النبي صلى الله عليه وسلم منهم ، قال – عليه السلام - : (( إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل ، واصطفى قريشاً من كنانة ، واصطفى من قريش بني هاشم ، واصطفاني من بني هاشم )) [رواه مسلم (4/1782) حديث رقم (2276) ].
واختلف العلماء في سبب تسميتهم بهذا الاسم على أقوال كثيرة : قيل نسبة إلى قريش بن بدر بن يخلد بن الحارث بن يخلد بن النضر بن كنانة . وقيل : نسبة إلى النضر بن كنانة سمي قريشاً لوصف قومه له بأنه كالحمل القريش – الشديد - . وقيل : نسبة إلى دابة بالبحر تأكل دواب البحر تدعي القرش ، وقيل : إن النظر بن كنانة كان يقرش عن حاجة الناس فيسدها بماله ، والتقريش : التفتيش ، وقيل : نسبة إلى التقرش وهو التكسب والتجارة ، وقيل : نسبة إلى التقرش وهو التجمع .
والراجح- والله أعلم-أن قريش هو النضر بن كنانة ، فما كان من ولده فهو قرشي ، ومن ليس بولده فليس بقرشي . يُراجع : تاريخ الطبري (2/263-265) ، والبداية والنهاية (2/ 218- 229) .(22/90)
في الجاهلية ،فلما قد المدينة(1) صامه وأمر بصيامه ، فلما فرض رمضان ترك يوم عاشوراء ، فمن شاء صامه ، ومن شاء تركه . متفق عليه(2).
عن ابن عباس – رضي الله عنهما – قال: قدِم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة فرأى اليهود تصوم يوم عاشوراء، فقال: ((ما هذا ؟ )) . قالوا : هذا يوم صالح . هذا يوم نجي الله بني إسرائيل من عدوهم فصامه موسى ، قال:(( فأنا أحق بموسى منكم ، فصامه وأمر بصيامه )) متفق عليه(3) .
__________
(1) - المدينة : وكانت تسمى في الجاهلية : يثرب . وهي مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومهاجره، ورد في فضلها وأنها بلد حرام ، أحاديث كثيرة ، عقد لها البخاري كتاباً في صحيحه وسماه كتاب : فضائل المدينة ، وفيها مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم وقبره ومنبره اللذين ورد في أن ما بينهما روضة من رياض الجنة ، وبها استقر خير أمة محمد عليه والسلام من الخلفاء الراشدين والصحابة وبها ماتوا ودُفنوا. وفي شمالها يقع جبل أحد الذي وقعت عنده الغزوة المشهورة غزوة أحد ، وهي في حرة سبخة الأرض ، وبها نخيل كثيرة ومياه ومزارع . وتقع شمال مكة على نحو عشر مراحل (حوالي 450كم) . يراجع : معجم البلدان (5/82، 88) ، وصحيح البخاري (2/220- 255) كتاب فضائل المدينة .
(2) - رواه البخاري في صحيحه المطبوع مع فتح الباري (4/244) كتاب الصوم، حديث رقم (2002)، واللفظ له . ورواه مسلم في صحيحه (2/792) كتاب الصيام ، حديث رقم (1125). ورواه الترمذي في سننه (2/127) أبواب الصوم ، حديث رقم (750) ، وقال : والعمل على هذا عند أهل العلم ، على حديث عائشة وهو حديث صحيح ، لا يرون صيام عاشوراء واجباً إلا من رغب في صيامه ، لما ذكر فيه من الفضل .
(3) - رواه البخاري في صحيحه المطبوع مع فتح الباري (4/244) كتاب الصوم، حديث رقم (2004)، واللفظ له . ورواه مسلم في صحيحه (2/795) كتاب الصيام ،حديث رقم (1130) .(22/91)
عن أبي موسى-رضي الله عنه- قال:كان يوم عاشوراء تعده اليهود عيداً ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : ((فصوموه أنتم )) متفق عليه(1) .
عن حميد بن عبد الرحمن أنه سمع معاوية بن أبي سفيان – رضي الله عنهما – يوم عاشوراء ، عام حجّ، على المنبر يقول: (( يا أهل المدينة ! أين علماؤكم ؟ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ((هذا يوم عاشوراء ، ولم يكتب الله عليكم صيامه ، وأنا صائم ، فمن شاء فليصم ومن شاء فليفطر )) متفق عليه(2) .
عن ابن عباس – رضي الله عنهما – قال : (( ما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يتحرى صيام يوم فضَّلة على غيره إلا هذا اليوم يوم عاشوراء ، وهذا الشهر – يعني شهر رمضان ))(3).
عن الرُّبّيع بنت معوذ – رضي الله عنها – قالت : أرسل النبي صلى الله عليه وسلم غداة عاشوراء إلى قرى الأنصار : ((من أصبح مفطراً فليتم بقية يومه ، ومن أصبح صائماً فليصم )) قالت: فكنا نصومه بعد ونصوّم صبياننا ونجعل لهم اللعبة من العهن(4)، فإذا بكى أحدهم على الطعام أعطيناه ذاك حتى يكون عند الإفطار . متفق عليه(5) .
__________
(1) - رواه البخاري في صحيحه المطبوع مع فتح الباري (4/244) كتاب الصوم،حديث رقم (2005)،ورواه مسلم في صحيحه (2/796) كتاب الصيام ،حديث رقم (1131).
(2) - رواه البخاري في صحيحه المطبوع مع فتح الباري (4/244) كتاب الصوم،حديث رقم (2003)،ورواه مسلم في صحيحه (2/795) كتاب الصيام ،حديث رقم (1129).
(3) - رواه البخاري في صحيحه المطبوع مع فتح الباري (4/245) كتاب الصوم،حديث رقم (2006)،ورواه مسلم في صحيحه (2/797) كتاب الصيام ،حديث رقم (1132).
(4) - العهن : هو الصوف ، أو الصوف المصبوغ . يُراجع : فتح الباري (4/201) .
(5) -رواه البخاري في صحيحه المطبوع مع فتح الباري(4/200)كتاب الصوم،حديث رقم (1690)،ورواه مسلم في صحيحه(2/798، 799)كتاب الصيام،حديث رقم(1136)(22/92)
عن سلمة بن الأكوع – رضي الله عنه – قال : أمر النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً من أسلم(1) أن أذن في الناس أن من أكل فليصم بقية يومه،ومن لم يكن أكل فليصم ،فإن اليوم يوم عاشوراء.متفق عليه(2).
عن أبي قتادة-رضي الله عنه- :عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ثلاث من كل شهر، ورمضان إلى رمضان، فهذا صيام الدهر كله، صيام يوم عرفة أحتسب على الله أن يكفّر السنة التي قبله، والسنة التي بعده ، وصيام يوم عاشوراء أحتسب على الله أن يكفِّر السنة التي قبله ))(3).
ما رواه عبد بن عمر – رضي الله عنهما – أن أهل الجاهلية كانوا يصومون يوم عاشوراء ، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم صامه والمسلمون ، قبل أن يفترض رمضان ، فلما افترض رمضان قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( إن عاشوراء يوم من أيام الله ، فمن شاء صامه ، ومن شاء تركه ))(4).
__________
(1) - أسلم : بطن من خزاعة ، من القحطانية ، من قراهم : وبرة ، وهي من أعراض المدينة . يُراجع : معجم قبائل العرب (1/26) .
(2) - رواه البخاري في صحيحه المطبوع مع فتح الباري (4/245) كتاب الصوم،حديث رقم (2007) واللفظ له ،ورواه مسلم في صحيحه (2/798) كتاب الصيام ،حديث رقم (1135).
(3) - رواه أحمد في مسنده ( 5/ 296،297) . ورواه مسلم في صحيحه (3/818، 819) كتاب الصيام ، حديث رقم (1163) . ورواه أبو داود في سننه (3/ 818، 819) كتاب الصيام ، حديث رقم ( 3435) . ورواه الترمذي في سننه مختصراً (3/136) أبواب الصوم ، حديث رقم (749) .ورواه ابن خزيمة في صحيحه (3/ 288) أبواب صوم التطوع، حديث رقم (2087) .
(4) - رواه الإمام أحمد في مسنده ( 2/ 57) . ورواه مسلم في صحيحه (2/792، 793) كتاب الصيام ، حديث رقم (1136) . ورواه أبو داود في سننه (3/ 817، 818) كتاب الصوم ، حديث رقم ( 3443) .ورواه ابن خزيمة في صحيحه (3/ 284) أبواب صوم التطوع، حديث رقم (2082) .(22/93)
عن جابر بن سمرة - رضي الله عنهما- قال : (( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا بصيام يوم عاشوراء ، ويحثنا عليه ، ويتعاهدنا عنده ،فلما فرض رمضان ،لم يأمرنا ،ولم ينهنا ،ولم يتعاهدنا عنده ))(1).
عن ابن عمر-رضي الله عنهما- قال : (( صام النبي صلى الله عليه وسلم عاشوراء وأمر بصيامه ، فلما فرض رمضان ترك ، وكان عبد الله لا يصومه إلا أن يوافق صومه ))(2).
ما روي عن ابن عباس – رضي الله عنهما – أنه قال : (( حين صام رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم عاشوراء وأمر بصيامه ، قالوا : يا رسول الله ! إنه يوم تعظمه اليهود والنصارى ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( فإذا كان العام المقبل ، إن شاء الله ، صمنا اليوم التاسع )) . قال : فلم يأت العام المقبل حتى تُوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم . وفي رواية : (( لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع ))(3) .
__________
(1) - رواه الإمام أحمد في مسنده ( 5/ 96) . ورواه مسلم في صحيحه (2/794، 795) كتاب الصيام ، حديث رقم (1138).ورواه ابن خزيمة في صحيحه (3/ 284، 285) حديث رقم (2083) .
(2) -رواه الإمام أحمد في مسنده ( 2/ 4) . ورواه البخاري في صحيحه المطبوع مع فتح الباري (4/102) كتاب الصوم ، حديث رقم (1892).
(3) - رواه الإمام أحمد في مسنده ( 1/ 236) . ورواه مسلم في صحيحه (2/797، 798) كتاب الصيام ، حديث رقم (1134).ورواه أبو داود في سننه (2/818، 819) كتاب الصوم ، حديث رقم (2445) . ورواه ابن ماجه في سننه (1/552) كتاب الصيام ، حديث (1736) .(22/94)
عن الحكم بن الأعرج قال : انتهيت إلى ابن عباس – رضي الله عنهما – وهو متوسد رداءه عند زمزم ، فقلت له : أخبرني عن صوم عاشوراء ؟ فقال : إذا رأيت هلال المحرم فاعدد ، وأصبح يوم التاسع صائماً . قلت : هكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصومه ؟ قال : (( نعم ))(1) .
عن ابن عباس – رضي الله عنهما – قال: (( أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بصوم يوم عاشوراء يوم العاشر))(2).
عن ابن عباس – رضي الله عنهما – قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( صوموا يوم عاشوراء، وخالفوا فيه اليهود ، وصوموا قبله يوماً أو بعده يوماً ))(3).
__________
(1) - رواه أحمد في مسنده ( 5/ 439) . ورواه مسلم في صحيحه (3/797) كتاب الصيام ، حديث (1133) . ورواه أبو داود في سننه (3/ 819، 820)كتاب الصيام، حديث رقم ( 2446) . ورواه الترمذي في سننه (2/127، 128) أبواب الصوم ، حديث رقم (751) .ورواه ابن خزيمة في صحيحه (3/ 291) أبواب صيام ، حديث(2096) .
(2) - رواه الترمذي في سننه (2/128) أبواب الصوم ، حديث رقم (752) ، وقال : حديث ابن عباس حديث حسن صحيح .
(3) - - رواه أحمد في مسنده ( 1/ 241) . .ورواه ابن خزيمة في صحيحه (3/ 290، 291) ،حديث(2095) .ورواه عبد الرزاق في مصنفه (4/287) برقم (7839) موقوفاً على ابن عباس ، ورواه أيضاً البيهقي في سننه (4/287) مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم .(22/95)
قال ابن قيم الجوزية : ( فمن تأمل مجموع روايات ابن عباس ، تبَّين له زوال الإشكال ، وسعة علم ابن عباس – رضي الله عنهما - ، فإنه لم يجعل عاشوراء هو اليوم التاسع ،بل قال للسائل:(( صم اليوم التاسع )) ، واكتفى بمعرفة السائل أن يوم عاشوراء هو اليوم العاشر الذي يعده الناس كلهم يوم عاشوراء ، فأرشد السائل إلى صيام التاسع معه ، وأخبر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصومه كذلك، فإما أن يكون فعل ذلك هو الأولى ، وإما أن يكون حمل فعله على الأمر به ، وعزمه عليه في المستقبل ، ويدل على ذلك أنه هو الذي روى : (( صوموا يوماً قبله ويوماً بعده )) وهو الذي روى : ((أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بصوم يوم عاشوراء يوم العاشر )).
وكل هذه الآثار عنه ، يصدق بعضها بعضاً ، ويؤيد بعضها بعضاً . فمراتب صومه ثلاث : أكملها : أن يُصام قبله يوم وبعده يوم ، ويلي ذلك أن يُصام التاسع والعاشر ، وعليه أكثر الأحاديث ، ويلي ذلك إفراد العاشر وجده بالصوم ، وأما إفراد التاسع فمن نقص فهم الآثار ، وعدم تتبع ألفاظها وطرقها ، وهو بعيد من اللغة والشرع ، والله الموفق للصواب ) ا.هـ (1).
وقال الإمام أحمد بن حنبل – رحمه الله - : ( فإن اشتبه عليه أول الشهر صام ثلاثة أيام ، وإنما يفعل ذلك ليتيقن صوم التاسع والعاشر )(2)
***********************************
…
المبحث الثاني
__________
(1) - يراجع : زاد المعاد (2/75،76) .
(2) - يراجع : المغني (3/174) .(22/96)
بدعة الحزن في شهر محرم عند الرافضة(1)
__________
(1) - الرافضة : فرقة من فرق الضلال تقول إن النبي صلى الله عليه وسلم نص على خلافة علي نصاً قاطعاً للعذر ، وأنه إمام معصوم ، ومن خالفه كفر وأن المهاجرين والأنصار كتموا النص ، واتبعوا أهواءهم ، وبدلوا الدين وغيروا الشريعة ، وكفروا الصحابة ، وقالوا : إن أبا بكر وعمر – رضي الله عنهما – ما زالا منافقين ، أو آمنوا ثم كفروا – والعياذ بالله- . والرافضة توالي النصارى واليهود والمشركين على جمهور المسلمين ، ومنهم ظهرت أمهات الزندقة والنفاق كزندقة بعض القرامطة والباطنية وأمثالهم ، ولا ريب أنهم شر من الخوارج . وهم فرق عدة .
يراجع : مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (3/356،357) ، والفرق بين الفِرَق ص (15- 17) .(22/97)
في اليوم العاشر من شهر محرم، وهو اليوم الذي عرف بـ( عاشوراء) أكرم الله سبحانه وتعالى الحسين بن علي بن أبي طالب - رضي الله عنهما - بالشهادة ، وذلك سنة 61هـ(1) ، وكانت شهادته مما رفع الله بها منزلته ، وأعلى درجته ، فإنه هو وأخوه الحسن سيد ا شباب أهل الجنة(2)، والمنازل العالية لا تنال إلا بالبلاء، كما قال صلى الله عليه وسلم لما سُئِل : أي الناس أشد بلاءً؟ فقال :((الأنبياء ثم الصالحون ثم الأمثل فالأمثل: يبتلى الرجل على حسب دينه ، فإن كان في دينه صلابة زيد في بلائه ، وإن كان في دينه رقّة خفف عنه ، ولا يزال البلاء بالمؤمن حتى يمشي على الأرض ، وليس عليه خطيئة ))(3).
فكان الحسن والحسين-رضي الله عنهما- قد سبق لهما من الله سبحانه وتعالى ما سبق من المنزلة العالية، ولم يكن قد حصل لهما من البلاء ما حصل لسلفهما الطيب، فإنهما ولدا في عز الإسلام، وتربيا في عز وكرامة، والمسلمون يعظمونهما ويكرمونهما، ومات النبي صلى الله عليه وسلم ولم يستكملا سن التمييز، فكانت نعمة الله عليهما أن ابتلاهما بما يلحقها بأهل بيتهما، كما ابتلي من كان أفضل منهما، فإن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- أفضل منهما وقد قُتِلَ شهيداً ، وكان مقتل الحسين مما ثارت به الفتن بين الناس،كما كان مقتل عثمان بن عفان-رضي الله عنه– من أعظم الأسباب التي أوجبت الفتن، وبسببه تفرقت الأمة إلى اليوم.
__________
(1) - يراجع : تاريخ الطبري (5/400) ، والبداية والنهاية (8/215) .
(2) - هذا حديث رواه الترمذي في سننه (5/321) أبواب المناقب ، حديث رقم (3856، 3857) ، وقال : هذا حديث صحيح حسن .
(3) - رواه الإمام أحمد في مسنده (1/172) ، واللفظ له . رواه الترمذي في سننه (4/28) أبواب الزهد ، حديث رقم (2509) ، وقال : هذا حديث حسن صحيح . ورواه الدارمي في سننه (2/320) كتاب الرقاق . ورواه ابن ماجه في سننه (2/1334) كتاب الفتن ، حديث (4023) .(22/98)
فلما قتل عبد الرحمن بن ملجم أمير المؤمنين على بن أبي طالب-رضي الله عنه- وبايع الصحابة للحسن ابنه الذي قال فيه صلى الله عليه وسلم:((إن ابني هذا سيد وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين))(1). فنزل عن الولاية ، وأصلح الله به بين الطائفتين ، ثم إنه مات-رضي الله عنه - ، وقامت طوائف كاتبوا الحسين ووعدوه بالنصر والمعاونة إذا قام بالأمر، ولم يكونوا من أهل ذلك، بل لما أرسل إليهم ابن عمه(2) أخلفوا وعده، ونقضوا عهده ، وأعانوا عليه من عدوه أن يدفعوه عنه ، ويقاتلوه معه.
وكان أهل الرأي والمحبة للحسين كابن عباس وابن عمر وغيرهما، قد أشاروا عليه بأن لا يذهب إليهم، ولا يقبل منهم، ورأوا أن خروجه إليهم ليس بمصلحة ، ولا يترتب عليه ما يسر ، وكان الأمر كما قالوا ، وكان أمر الله قدراً مقدوراً .
فلما خرج الحسين- رضي الله عنه-ورأى أن الأمور قد تغيرت ، طلب منهم أن يدعوه يراجع ، أو يلحق ببعض الثغور ، أو يلحق بابن عمه يزيد ، فمنعوه هذا وهذا ، حتى يستأسر ، وقاتلوه ، فقاتلهم فقتلوه ، وطائفة ممن معه ، مظلوماً شهيداً شهادة أكرمه الله بها ، وألحقه بأهل بيته الطيبين الطاهرين ، وأهان بها من ظلمه ،واعتدى عليه.
__________
(1) - رواه البخاري في صحيحه المطبوع مع فتح الباري (5/306، 307) كتاب الصلح ، حديث رقم (2704).ورواه أحمد في مسنده(5/ 49).رواه أبو داود في سننه (5/48، 49) ) كتاب السنة ، حديث رقم (4662) . رواه الترمذي في سننه (5/323) أبواب المناقب ، حديث رقم (3862) ،وقال حديث حسن صحيح . ورواه النسائي في سننه (3/107) كتاب الجمعة باب (27) .
(2) - وهو : مسلم بن عقيل بن أبي طالب . يراجع : البداية والنهاية (8/164) .(22/99)
فأوجب ذلك شراً بين الناس ، فصارت طائفة جاهلة ظالمة : إمَّا ملحدة منافقة ، وإما ضالَّة غاوية ، تظهر موالاته وموالاة أهل بيته ، تتخذ يوم عاشوراء يوم مأتم وحزن ونياحة ، وتظهر فيه شعار الجاهلية ، من لطم الخدود ، وشق الجيوب ، والتعزي بعزاء الجاهلية (1).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (وصار الشيطان بسبب قتل الحسين – رضي الله عنه- يحدث للناس بدعتين: بدعة الحزن والنوح يوم عاشوراء ، من اللطم والصراخ ، والبكاء ، والعطش ، وإنشاء المراثي، وما يفضي إلى ذلك من سبّ السلف ولعنهم، وإدخال من لا ذنب له مع ذوي الذنوب ، حتى يسب السابقون الأولون ، وتقرأ أخبار مصرعه التي كثير منها كذب ، وكان قصد من سن ذلك ، فتح باب الفتنة والفرقة بين الأمة ، فإن هذا ليس واجباً ولا مستحباً باتفاق المسلمين ، بل إحداث الجزع والنياحة للمصائب القديمة ، من أعظم ما حرمه الله ورسوله ).ا.هـ(2) .
وهذا مخالف لشرع الله ؛ فالذي أمر به الله ورسوله في المصيبة- إن كانت جديدة-إنَّما هو الصبر،والاسترجاع والاحتساب ، كما قال تعالى:{....وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ *الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ* أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ}(3).
وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((ليس منا من لطم الخدود، وشق الجيوب ، ودعا بدعوى الجاهلية))(4).
__________
(1) - يراجع : مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (25/302،307).
(2) - يراجع : منهاج السنة النبوية (2/322، 323) .
(3) - سورة البقرة: الآيات 155- 323.
(4) - صحيح البخاري المطبوع مع فتح الباري (3/163) كتاب الجنائز ، حديث رقم (1294) .(22/100)
وقال صلى الله عليه وسلم : (( أنا برئ من الصالقة والحالقة والشاقة(1) ))(2) . وقال صلى الله عليه وسلم :(( النائحة إذا لم تتب قبل موتها تقام يوم القيامة ، وعليها سربال(3) من قطران(4) ودرع من جرب(5) ))(6).
وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((ما من مسلم يصاب بمصيبة فيقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم أجرني في مصيبتي ، واخلف له خيراً منها ))(7). إلا آجره الله في مصيبته وأخلفه خيراً منها .
__________
(1) - الصالقة : هي التي ترفع صوتها عند المصيبة . والحالقة : التي تحلق شعرها عند المصيبة . والشاقة : التي تشق ثوبها عند المصيبة . هذا هو المشهور الظاهر المعروف . يراجع : شرح النووي على صحيح مسلم (2/110) .
(2) - رواه مسلم في صحيحه (1/100) كتاب الإيمان ، حديث رقم (104) .
(3) - السربال : هو القميص . يراجع : النهاية لابن الأثير (2/ 357) .
(4) - القطران : هو النحاس المذاب شديد الحرارة . تفسير ابن كثير (2/545) ، ولسان العرب (5/105) مادة (قطر) .
(5) - الجرب : داء معروف وهو بثر يعلو أبدان الناس والإبل .يراجع : لسان العرب (1/259) مادة (جرب)
(6) - رواه الإمام أحمد في مسنده (5/342، 343) . ورواه مسلم في صحيحه ( 2/644) كتاب الجنائز ، حديث رقم (934) .
(7) - رواه مالك في الموطأ (1/236) كتاب الجنائز ، حديث رقم (43) . ورواه أحمد في مسنده (6/309) . ورواه مسلم في صحيحه (2/632، 633) كتاب الجنائز ، حديث (918) . ورواه أبو داود في سننه (2/488) كتاب الجنائز ، حديث (3119) .(22/101)
وقال صلى الله عليه وسلم: ((أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن : الفخر بالأحساب ، والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالنجوم(1)، والنياحة على الميت ))(2).
فكيف إذا انظم إلى ذلك ظلم المؤمنين ، ولعنهم وسبهم ، وإعانة أهل الشقاق والإلحاد على ما يقصدونه في الدين من الفساد ، وغير ذلك مما لا يحصيه إلا الله تعالى .
فكان ما زينه الشيطان لأهل الضلال والغي ، من اتخاذ يوم عاشوراء مأتماً ، وما يصنعون فيه من الندب والنياحة ، وإنشاء قصائد الحزن ، ورواية الأخبار التي فيها كذب كثير، والصدق فيها ليس فيه إلا تجديد الحزن والتعصب، وإثارة الشحناء والحرب، وإلقاء الفتن بين أهل الإسلام والتوسل بذلك إلى سب السابقين الأولين ، وكثرة الكذب والفتن في الدين .
__________
(1) - الاستسقاء بالنجوم : أي نسبة إلى السقيا ومجئ المطر إلى النجوم والأنوار . يراجع : تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب التوحيد ص (398) .
(2) - رواه الإمام أحمد في مسنده (5/342، 343) . ورواه مسلم في صحيحه ( 2/644) كتاب الجنائز ، حديث رقم (934) .(22/102)
ولم يعرف المسلمين أكثر كذباً وفتناً، ومعاونة للكفار على أهل الإسلام من هذه الطائفة الضالة الغاوية، فإنهم شر من الخوارج المارقين وأولئك قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم : (( يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان ))(1) . وهؤلاء يعانون اليهود والنصارى والمشركين على أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم ، وأمته المؤمنين كما أعانوا المشركين من أعداء الإسلام(2)
__________
(1) - رواه البخاري في صحيحه المطبوع مع فتح الباري(13/415،416) كتاب التوحيد،حديث(7432).ورواه مسلم في صحيحه(2/741،742)كتاب الزكاة،حديث(1064)
(2) -وهم : التتار الذين دخلوا الشام في المرة الأولى سنة 99هـ ، وأعطوا الناس الأمان ، ثم سبوا من ذراري المسلمين ما يقارب مائة ألف أو يزيدون وبالغوا في القتل والسبي، وفجروا بنساء المسلمين في المساجد وغيرها كالمسجد الأقصى والأموي . وهدموا المساجد ، وكانوا لا يقيمون الصلاة ، وتبعهم الزنادقة والمنافقون وشر أهل البدع من الرافضة والجهمية والاتحادية ، وكانوا يعظمون ملكهم جنكيز خان ويسوونه برسول الله صلى الله عليه وسلم – والعياذ بالله – وهو كافر مشرك من أعظم المشركين ، بل يعتقدون أنه ابن الله ، وأن الشمس حبلت أمه ، ويشكرونه على أكلهم وشربهم ، ويستحلون قتل من عادى ما سنَّه لهم هذا الكافر وأكثر وزرائه فلاسفة يهود انتسبوا للإسلام ، وضموا إلى ذلك الرفض ، وبالجملة فما من نفاق وزندقة وإلحاد إلا وهي داخلة في اتباع التتار .
والرافضة تحب التتار ودولتهم ؛ لأنه يحصل لهم بها من العز ما لا يحصل بدولة المسلمين ، وهم أعظم الناس معاونة لهم على أخذ بلاد الإسلام ، وقتل المسلمين ، وسبي حريمهم ، فقد كان منهم وزراء للتتار كالطوسي وابن العلقمي والرشيد وغيرهم .
يراجع : مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (28/509،530) ، والمنتقى ص (325، 326) .(22/103)
على ما فعلوه(1) ببغداد(2) وغيرها ، بأهل بيت النبوة ، ومعدن الرسالة ، ولد العباس بن عبد المطلب ، وغيرهم من أهل البيت والمؤمنين ، من القتل والسبي وخراب الديار ، وشر هؤلاء وضررهم على أهل الإسلام لا يحصيه الرجل الفصيح في الكلام(3).
وهذه الطائفة هم الرافضة : الذين اشتهروا دون غيرهم من الطوائف بسبِّ الخليفتين الراشدين أبي بكر وعمر – رضي الله عنهما-ولعنهما وبغضهما وتكفيرهما-والعياذ بالله ، ولهذا قيل للإمام أحمد : من الرافضي ؟ قال:( الذي يسبّ أبا بكر وعمر )(4).
وبهذا سميت الرافضة ، فإنهم رفضوا زيد بن علي لما تولى الخليفتين أبا بكر وعمر – رضي الله عنهما – لبغضهم لهما ، فالمبغض لهما هو الرافضي ، وقيل : إنما سموا رافضة لرفضهم أبا بكر وعمر- رضي الله عنهما –.
وأصل الرفض من المنافقين الزنادقة ، فإنه ابتدعه عبد الله بن سبأ الزنديق ، وأظهر الغلو في علي-رضي الله عنه-؛ بدعوى الإمام بالنص ، وادَّعى العصمة له .
__________
(1) - يراجع البداية والنهاية (13/190- 194) ، حوادث سنة 656هـ .
(2) - هي عاصمة العراق قديماً وحديثاً . وتقع على نهر دجلة . أول من جعلها مدينة الخليفة المنصور العباسي سنة 149هـ وأنفق عليها ثمانية عشر ألف ألف دينا ، فبناها مدورة وسورها وجعل داره وجامعها في وسطها ، وجعل لها أربعة أبواب . وقد صنَّف في بغداد وسعتها وعظمها وسعة بقعتها وما ورد فيها وما حدث بها الخطيب أبو بكر البغدادي في كتابه تاريخ بغداد (أربعة عشر مجلداً ) ما فيه الكفاية . يُراجع : معجم البلدان (1/456- 467) ، وتاريخ بغداد للخطيب البغدادي .
(3) - يراجع : مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (25/302،309) .
(4) - يراجع : مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (4/ 435) .(22/104)
ولهذا لما كان مبدأه من النفاق قال بعض السلف : حب أبي بكر وعمر إيمان ، وبغضهما نفاق ، وحب بني هاشم إيمان ، وبغضهم نفاق(1) .
وهذه الفرقة هي التي وصفها شيخ الإسلام ابن تيمية بقوله : ( إن الرافضة أمة ليس لها عقل صريح ، ولا نقل صحيح ، ولا دين مقبول ، ولا دنيا منصورة ، بل هم من أعظم الطوائف كذباً وجهلاً، ودينهم يدخل على المسلمين كل زنديق ومرتد ، كما دخل فيهم النصيرية(2) ، والإسماعيلية(3)
__________
(1) - يراجع : مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (4/ 435) .
(2) - هي فرقة من فرق الباطنية ، وينسبون إلى محمد بن نصر النميري ، وكان من الغلاة الذين يقولون بألوهية على – رضي الله عنه – وهم أكفر من اليهود والنصارى والمشركين ، فهم يتظاهرون بالإسلام والتشيع لآل البيت ، وهم في الحقيقة لا يؤمنون بالله ، ولا برسوله ، ولا بكتابه ، ولا بأمر ولا نهي ، ولا ثواب ولا عقاب ، ولا جنة ولا نار ، ولا بأحد من المرسلين فقصدهم إنكار الإيمان وشرائع الإسلام بكل طريق ، فالصلوات الخمس : معرفة أسرارهم ، والصيام : كتمان أسرارهم ، والحج : زيارة شيوخهم ، وهم يعينون أعداء الإسلام عليه ، فظاهر مذهبهم الرفض ، وباطنه الكفر المحض .
تراجع ترجمتهم في : فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (35/ 145-161) ، والشيعة والتشيع ص (255-258) .
(3) - نسبة إلى محمد بن إسماعيل بن جعفر ، ويزعمون أن دور الإمامة انتهى إليه لأنه سابع ، واحتجُّوا بأن السموات سبع والأرضين سبه وأيام الأسبوع سبعة . وقالوا : بأن محمد بن إسماعيل نسخ شريعة محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم ، وهم أعظم كفراً من الغالية . يقولون بقدم العالم ،وإنكار المعاد ، وإنكار واجبات الإسلام ومحرماته ، وهم من القرامطة الباطنية الذين هم أكفر من اليهود والنصارى ومشركي العرب ، وقولهم مركب من قول الفلاسفة والمجوس ، ويظهرون التشيع نفاقاً ، ومن أشهرهم : العبيديون الذين حكموا مصر والشام فترة طويلة .
تراجع ترجمتهم في : فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (35/ 131-162) ،وتلبيس إبليس ص(102) .(22/105)
وغيرهم ، فإنهم يعمدون إلى خيار الأمة يعادونهم ، وإلى أعداء الله من اليهود والنصارى والمشركين يوالونهم، ويعمدون إلى الصدق الظاهر المتواتر يدفعونه، وإلى الكذب المختلق الذي يعلم فساده يقيمونه، فهم كما قال فيهم الشُّعبي-رحمه الله-وكان من أعلم الناس بهم-:لو كانوا من البهائم لكانوا حمراً، ولو كانوا من الطير لكانوا رخماً(1) ا.هـ.(2).
وأما في الوقت الحاضر : فيستقبل بعض المنتسبين إلى الإسلام في بعض البلدان شهر محرم بالحزن والهم والخرافات والأباطيل ؛ فيصنعون ضريحاً(3)من الخشب ، مزيناً بالأوراق الملونة ويسمونه ضريح الحسين ، أو كربلاء(4) ، ويجعلون فيه قبرين ، ويطلقون عليه اسم ( التعزية ) ، ويجتمع أطفال بملابس وردية أو خضر، ويسمونهم فقراء الحسين .
وفي اليوم الأول من شهر تكنس البيوت وتغسل وتنظف ، ثم يوضع الطعام ، وتقرأ عليه فاتحة الكتاب ، وأوائل البقرة ، وسورة الكافرون ، والإخلاص ، والفلق ، والناس . ثم يصلى على النبي صلى الله عليه وسلم ويوهب ثواب الطعام للموتى .
__________
(1) - الرخمة : طائر أبقع على شكل النسر خلقة ، إلا أنه مبقع بسواد وبياض ، يقال له : الأنوق . والجمع : رخَم ورخم ، وهو موصوف بالغدر والموق ، وقيل : بالقذر ، ومنه قولهم : رخم السقاء إذا أنتن . يراجع : لسان العرب (12/235) مادة (رخم ) .
(2) - تراجع: مجموعة فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (4/ 471-472) ، ويراجع : منهاج السنة النبوية لابن تيمية (1/3-20) ، ويراجع : الفِصَل لابن حزم (4/179-188) .
(3) - الضريح : الشق في وسط القبر ،واللحد في الجانب ،أو القبر كله .وقيل :قبر بلا لحد ،سمي بذلك؛لأنه يشق في الأرض شقاً.يراجع :لسان العرب (2/526) مادة (ضرح ).
(4) - موضع بالعراق من ناحية الكوفة ، وفيه قتل الحسين بن على بن أبي طالب وقبره بمكان من الطف عند نهر كربلاء . يراجع : معجم ما استعجم (4/1123) ، واستشهاد الحسين ص(134) .(22/106)
وفي خلال هذا الشهر تمنع الزينة ، فتضع النساء زينتهن ، ولا يأكل الناس اللحوم ، ولا يقيمون ولائم الأفراح، بل ولا يتم فيه عقود الزواج ، وتمنع الزوجة من زوجها إن كان لم يمض على زواجهما أكثر من شهرين ، ويكثر ضرب الوجوه والصدور ، وشق الجيوب والنياحة ، ويبدأ اللعن على معاوية وأصحابه ويزيد وسائر الصحابة .
وفي العشر الأول من الشهر: تشعل النيران ، ويتواثب الناس عليها ، والأطفال يطوفون الطرقات ، ويصيحون : يا حسين يا حسين . وكل من يولد في هذا الشهر يعتبر شؤماً سيئ الطالع ، وفي بعض المناطق تدق الطبول والدفوف ، وتصدح الموسيقى وتنشر الرايات ، وينصب الضريح ويمر الرجال والنساء والصبيان من تحته، يتمسحون بالرايات ويتبركون، معتقدين أنهم بذلك لا يصيبهم مرض وتطوع أعمارهم .
وفي بعض البلدان يخرج الناس في ليلة عاشوراء معصبين عيني الرجل يطوفون الطرقات ، فإذا ما قاربت الشمس على البزوغ عادوا إلى بيوتهم .
وفي يوم عاشوراء تطهى أطعمة خاصة ، ويخرج أهل القرى والمدائن إلى مكان خاص يسمونه (كربلاء) فيطوفون حول الضريح الذي يقيمونه ويتبركون بالرايات وتدق الطبول وتضرع الدفوف، فإذا غربت الشمس دفن هذا الضريح ، أو ألقي في الماء ، وعاد الناس إلى بيوتهم ، ويجلس بعض الناس على الطرقات بمشروبات يسمونها(السلسبيل)، ويسقونها للناس بدون مقابل ، ويجلس بعض الوعاظ في الأيام العشر الأول فيذكرون محاسن الحسين، ومساوئ ينسبونها لمعاوية،ويزيد، ويصبون عليها وعلى أصحابها اللعنات.
ويروون في فضل عاشوراء وشهر المحرم أحاديث موضوعة وضعيفة وروايات مكذوبة .
وبعد أربعين يوماً من عاشوراء ، يحتفلون يوماً واحداً يسمونه الأربعين : يجمعون فيه الأموال ، ويشترون بها أطعمة خاصة يدعون الناس إليها .(22/107)
وهذه البدع تعمل في الهند والباكستان ، وفي البلدان التي يقطنها الشيعة ولاسيما إيران والعراق والبحرين (1) .
وإقامتهم لحفلات العزاء والنياحة والجزع ، وتصوير الصور، وضرب الصدور، وما أشبه ذلك مما يصدر منهم في يوم عاشوراء وما قبله من شهر محرم، إنما يعتقدون بذلك القربة إلى الله وتكفير السيئات والذنوب التي صدرت منهم في السنة كلها، ولم يعلموا أن فعلهم هذا مما يوجب الطرد والإبعاد عن رحمة الله تعالى .
وصدق الله تعالى القائل في محكم كتابه :{أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ......}(2).
وقال عز وجل من قائل :{ قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً *الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً}(3).
*****************************************
المبحث الثالث
بدعة الفرح في يوم عاشوراء عند النواصب (4)
__________
(1) - يراجع : تحذير المسلمين عن الابتداع والبدع في الدين ص(280، 281) .
(2) -سورة فاطر: الآية8.
(3) - سورة الكهف:103-104
(4) - النواصب: أغلبهم من الخوارج الذين هم أول من فارق جماعة المسلمين من أهل البدع . وهم الذين يكفِّرُون عثمان وعلى وسائر أهل الجماعة ، ويكفِّرون أصحاب الكبائر ويرون الخروج على الإمام إذا خالف السنة حقاً واجباً . يراجع : مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (3/349) ، والْمِلل والنِّحل للشهرستاني ص (114-138) .(22/108)
تقدم في المبحث السابق ، ذكر بدعة الحزن في يوم عاشوراء عند الرافضة ، وفي هذا المبحث سنتكلم - إن شاء الله - عن الذين عارضوا الرافضة ، فجعلوا يوم عاشوراء موسم فرح ، وهم النواصب المتعصبين على الحسين وأهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم ومن الجهَّال الذين قابلوا الفاسد بالفاسد ، والكذب بالكذب ، والشر بالشر ، والبدعة بالبدعة ، فوضعوا الآثار في شعائر الفرح والسرور يوم عاشوراء ؛ كالاكتحال ، والاختضاب ، وتوسيع النفقات على العيال ، وطبخ الأطعمة الخارجة عن العادة ، ونحو ذلك مما يُفعل في الأعياد والمواسم ، فصار هؤلاء يتخذون يوم عاشوراء موسماً كمواسم الأعياد والأفراح (1) .
وكان أول ظهورهم على زمن النبي صلى الله عليه وسلم ، وذلك لما أبو سعيد الخدري – رضي الله عنه – قال : بعث علي -رضي الله عنه- إلى النبي صلى الله عليه وسلم بذهيبة (2) ، فقسمها بين الأربعة : الأقرع بن حابس الحنظلي ثم المجاشعي ، وعيينة بن بدر الفزاري ، وزيد الطائي ، ثم أحد بني نبهان ، وعلقمة بن علاثة العامري ، أحد بني كلاب .
__________
(1) - يراجع : مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (25/309،310)
(2) - ذهبية : تصغير ذهبة . وكانت تبراً – لم تخلص من تراب المعدن – لم يسبك . يراجع : فتح الباري (8/68) كتاب المغازي ، حديث (4351) . وفي رواية مسلم : ذهبة – بدون تصغير - . يراجع : صحيح مسلم (2/741) حديث رقم (1064) .(22/109)
فغضبت قريش والأنصار ، قالوا : يعطي صناديد أهل نجد(1)ويدعنا! . قال : (( إنَّما أتألفهم )) ، فأقبل رجل غائر العينين(2)، مشرف الوجنتين(3)، ناتئ(4) الجبين ، كث اللحية محلوق ، فقال : اتق الله يا محمد ! ، فقال : (( من يطع الله إذا عصيت ؟ أيأمنني الله على أهل الأرض ولا تأمنوني ؟ )) . فسأله رجل قتله – أحسبه خالد بن الوليد – رضي الله عنه- فمنعه ، فلما ولَّى قال : (( إن من ضئضئ هذا – أو في عقب هذا – قوم يقرأون القرآن لا يجاوز حناجرهم ، يمرقون(5) من الدين مروق السهم من الرمية يقتلون أهل الإسلام ، ويدعون أهل الأوثان ، لئن أنا أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد))(6).
__________
(1) - النجد من الأرض : ما صلب منها وأشرف . ونجد – بفتح أوله وسمون ثانيه - : ما ارتفع عن بطن وادي الرمَّة ، أو هي اسم للأرض العريضة التي أعلاها تهامة واليمن وأسفلها العراق والشام ، ويقال : إن نجداً كلها من عمل اليمامة . وتقع في أواسط جزيرة العرب . يراجع : معجم البلدان (5/261-264) .
(2) - أي أن : عينيه داخلتان في محاجرهما . وهو ضد المجحوظ . يراجع : فتح الباري (8/68) .
(3) - أي : بارز الوجنتين وهما العظمتان المشرفان على الخدين . المرجع السابق (8/68) .
(4) - أي : مرتفع الجبين . والنتوء: أي أنه يرتفع على ما حوله . المرجع السابق (8/68) .
(5) - يمرقون من الدين : أي يجوزونه ويخرقونه ويتعدونه ، كما يخرق السهم المرمي به ويخرج منه ، والمروق : الخروج من شيء من غير مدخله ، وكذلك سرعة الخروج من الشيء . يُراجع : لسان العرب (10/ 340، 341) مادة (مرق ) .
(6) - رواه البخاري في صحيحه المطبوع مع فتح الباري (6/376) كتاب الأنبياء ،حديث رقم (3344) . ورواه مسلم في صحيحه المطبوع مع شرح النووي (7/161، 162) كتاب الزكاة .(22/110)
وفي رواية لمسلم : بينما نحن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقسم قسماً ، أتاه ذو الخويصرة -وهو رجل من بني تميم- فقال: يا رسول الله! اعدل! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ويلك ،ومن يعدل إن لم أعدل ، قد خبت وخسرت إن لم أعدل )) فقال عمر بن الخطاب- رضي الله عنه - : يا رسول الله! ائذن لي فيه أضرب عنقه ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( دعه فإن له أصحاباً يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم ، وصيامه مع صيامهم ، ويقرأون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، ينظر إلى نصله(1)فلا يوجد فيه شيء ثم ينظر إلى رصافه(2) فلا يوجد فيه شيء، ثم ينظر إلى نضيه(3)فلا يوجد فيه شيء – وهو القدح – ثم ينظر إلى قذذه(4) فلا يوجد فيه شيء ، سبق الفرث والدم . آيتهم رجل أسود إحدى عضديه مثل ثدي المرأة ، أو مثل البضعة تدردر(5) ، يخرجون على حين فرقة من الناس )) .
__________
(1) - النصل : حديدة السهم . يراجع : شرح النووي على صحيح مسلم (7/165) .
(2) - الرصاف : مدخل النصل من السهم . يراجع السابق (7/165) .
(3) - النضي – بفتح النون وكسر الضاد وتشديد الياء - : وهو القدح ، أي : عود السهم . يراجع السابق (7/165) .
(4) - القذذ – بضم القاف - : هو ريش السهم . يراجع السابق (7/165) .
(5) - تدردر : أي تضطرب وتذهب وتجيء . والبضعة : القطعة من اللحم . يراجع السابق (7/165) .(22/111)
قال أبو سعيد : فأشهد أني سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأشهد أن علي بن أبي طالب-رضي الله عنه- قاتلهم وأنا معه،فأمر بذلك الرجل(1) فالتمس فوجد فأتي به حتى نظرت إليه على نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي نعت(2)
__________
(1) -الرجل المصوف هو : ذو الثدية وهو من عرنة من بجيلة ، وكان أسوداً شديد السواد ، له ريح منتنة ، معروف في العسكر . ويطلق عليه المخدج . يراجع : البداية والنهاية (7/316) .
(2) - رواها مسلم في صحيحه (2/744، 745) كتاب الزكاة ، حديث رقم (1064) (148) .(22/112)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (وكانت الكوفة(1) بها قوم من الشيعة المنتصرين للحسي ، وكان رأسهم المختار بن عبيد الكذاب. وقوم من الناصبة المبغضين لعلي – رضي الله عنه- وأولاده ، منهم الحجاج بن يوسف الثقفي ، وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : (( سيكون في ثقيف كذاب ومبير))(2) . فكان ذلك هو الكذاب وهذا الناصبي هو المبير(3)، فأحدث أولئك الحزن ، وأحدث هؤلاء السرور وهذه بدعة أصلها من المتعصبين بالباطل على الحسين- رضي الله عنه -وتلك بدعة أصلها من المتعصبين بالباطل له ، وكل بدعة ضلالة ، ولم يستحب أحد من الأئمة الأربعة وغيرهم لا هذا ولا هذا ، ولا في شيء من استحباب ذلك حجَّة شرعية(4) .
ولا شك في أن النواصب ،وكذلك الرافضة ،مبتدعون في فعلهم هذا مخطئون ،خارج عن السنة ؛لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال:((عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين،تمسكوا بها، وعضُّو عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور ، فإن كل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة ))(5)
__________
(1) - الكوفة : - الكوفة : المصر المشهور بأرض بابل من سواد العراق ، ويسميها قوم خد العذراء . وسُميت بالكوفة لاستدارتها ، وقيل لاجتماع الناس بها ، وكان تمصيرها في أيام عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – سنة 17هـ. يُراجع : معجم البلدان (490، 494).
(2) - رواه مسلم في صحيحه (4/1971، 1972) كتاب فضائل الصحابة ، حديث رقم (2545) ، ولفظه : (( إن في ثقيف كذاباً ومبيراً )) . وقالت أسماء بنت أبي بكر : فأما الكذاب فرأيناه ، وأما المبير فلا إخالك إلا إياه .
(3) - المبير : المهلك . يراجع : شرح النووي على صحيح مسلم (16/ 100).
(4) - يراجع : منهاج السنة النبوية (3/323) .
(5) - رواه الإمام أحمد في مسنده (4/126، 127) .
ورواه أبو داود في سننه المطبوع مع شرحه عون المعبود (12/358- 360) كتاب الفتن ، واللفظ له .
ورواه الترمذي في سننه المطبوع مع شرحه تحفة الأحوذي (7/ 438-442). وقال هذا حديث حسن صحيح ، باب الأخذ بالسنة واجتناب البدعة .
ورواه ابن ماجه في سننه (1/ 15، 16 ) ، المقدمة .(22/113)
.
ولم يسن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا خلفاؤه الراشدون في يوم عاشوراء شيئاً من هذه الأمور، لا شعائر الحزن والترح، ولا شعائر السرور والفرح ، ولكنه صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة، وجد اليهود تصوم عاشوراء ، فقال : ((ما هذا ؟)).فقالوا: هذا يوم نجَّى الله فيه موسى -عليه السلام- من الغرق فنحن نصومه . فقال :((نحن أحق بموسى منكم)). فصامه وأمر بصيامه(1).
وكانت قريش أيضاً تعظمه في الجاهلية .
واليوم الذي أمر الناس بصيامه كان يوماً واحداً فإنه صلى الله عليه وسلم قدم المدينة في شهر ربيع الأول ، فلما كان في العام القابل ، صام يوم عاشوراء ، وأمر بصيامه ، ثم فرض شهر رمضان ذلك العام فنسخ صوم عاشوراء – أي وجوبه – .
وقد تنازع العلماء : هل كان صوم ذلك اليوم واجباً ، أو مستحباً ؟ على قولين مشهورين ، أصحهما: أنه كان واجباً، ثم إنه بعد ذلك كان يصومه من يصومه استحباباً ، ولم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم العامة بصيامه، بل كان يقول: ((هذا يوم عاشوراء ، وأنا صائم فيه ، فمن شاء صام )) متفق عليه(2) .
وقال عليه الصلاة والسلام : (( صوم يوم عاشوراء يكفر سنة ، وصوم يوم عرفة يكفر سنتين )).
__________
(1) - رواه البخاري في صحيحه المطبوع مع فتح الباري (4/244) كتاب الصوم، حديث رقم (2004)، واللفظ له . ورواه مسلم في صحيحه (2/795) كتاب الصيام ،حديث رقم (1130) .
(2) - رواه البخاري في صحيحه المطبوع مع فتح الباري (4/244) كتاب الصوم،حديث رقم (2003)،ورواه مسلم في صحيحه (2/795) كتاب الصيام ،حديث رقم (1129).(22/114)
ولما كان آخر عمره صلى الله عليه وسلم وبلغه أن اليهود يتخذونه عيداً قال: ((لئن عشت إلى قابل لأصومن التاسع))(1)؛ ليخالف اليهود ولا يشابههم في اتخاذه عيداً .
وكان من الصحابة والعلماء من لا يصومه ، ولا يستحب صومه ، بل يكره إفراده بالصوم ، كما نقل ذلك عن طائفة من العلماء ، ومن العلماء من يستحب صومه .
والصحيح أنه يستحب لمن صامه ، أن يصوم معه التاسع ؛ لأن هذا آخر أمر النبي صلى الله عليه وسلم لقوله :((لئن عشت إلى قابل لأصومن التاسع )) .
فهذا الذي سنَّهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأما سائر الأمور : مثل اتخاذ طعام خارج عن العادة إما حبوب وإما غير حبوب ، أو تجديد لباس ، أو توسيع نفقة ، أو اشتراء حوائج العام ذلك اليوم ، أو فعل عبادة مختصة كصلاة مختصة به . أو قصد الذبح ، أو ادخار لحوم الأضاحي ليطبخ بها الحبوب ، أو الاكتحال ، أو الاختضاب ، أو الاغتسال ، أو التصافح ، أو التزاور ، أو زيارة المساجد والمشاهد ، ونحو ذلك . فهذه من البدع المنكرة التي لم يسنها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا خلفاؤه الراشدون ، ولا استحبها أحد من أئمة المسلمين المشهورين (2).
فيجب على الإنسان ، طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ، واتباع دينه وسبيله ، واقتفاء هداه ودليله . وعليه أن يشكر الله على ما عظمت به النعمة .
__________
(1) - رواه الإمام أحمد في مسنده ( 1/ 236) . ورواه مسلم في صحيحه (2/797، 798) كتاب الصيام ، حديث رقم (1134).ورواه أبو داود في سننه (2/818، 819) كتاب الصوم ، حديث رقم (2445) . ورواه ابن ماجه في سننه (1/552) كتاب الصيام ، حديث (1736) .
(2) - أمثال : أبي حنيفة ، ومالك ، والشافعي ، وأحمد ، والثوري ، والليث بن سعد ، والأوزاعي ، وإسحاق بن راهويه من أئمة المسلمين وعلمائهم . يراجع : مجموعة فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (25/312) .(22/115)
قال تعالى :{لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ}(1).
وقال صلى الله عليه وسلم: ((إن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة))(2).(3).
****************************
الفصل الثاني
شهر صفر
المبحث الأول : بعض الآثار الواردة فيه .
المبحث الثاني : بدعة التشاؤم به .
المبحث الأول
بعض الآثار الواردة فيه
__________
(1) - سورة آل عمران:164.
(2) - رواه مسلم في صحيحه (2/592) كتاب الجمعة ،حديث (867) ، ولفظه : (( خير الحديث كتاب الله .......)) ورواه ابن ماجه (1/17) المقدمة ، حديث رقم (45) ، ولفظه : (( خير الأمور كتاب الله .......))
(3) - يراجع : مجموعة فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (25/310-314 )، ويراجع : زاد المعاد (2/66-77) .(22/116)
عن أبي هريرة – رضي الله عنه- قال : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (( لا عدوى(1) ولاصفر(2) ولا هامة(3) )) ، فقال أعرابي : يا رسول الله ! فما بال إبلي تكون في الرمل كأنها الظباء ، فيأتي البعير الأجرب فيدخل بينها يجربها؟فقال: (( فمن أعدى الأول )) متفق عليه(4)
عن أبي هريرة -رضي الله عنه-عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (( لا عدوى ولا طيرة(5) ولا هامة ولاصفر)) متفق عليه(6).
__________
(1) - لا عدوى : المراد به نفي ما كانت الجاهلية تزعمه وتعتقده أن المرض والعاهة تعدي بطبعها لا بفعل الله تعالى . يراجع : شرح النووي على صحيح مسلم (14/213) .
(2) - لاصفر : قيل : المراد تأخير تحريم المحرم إلى صفر وهو النسيء ، وقيل : داب في البطن . يراجع : شرح النووي على صحيح مسلم (14/214، 215) ، وقيل : التشاؤم بشهر صفر . وسيأتي ذكر ذلك في المتن ص(124) من هذا الكتاب .
(3) - الهامة : قيل : طائر معروف من طير الليل ، وقيل : هي البومة ، وقيل :إن روح الميت تنقلب هامة تطير . يراجع : شرح النووي على صحيح مسلم (14/215) .
(4) - رواه البخاري في صحيحه المطبوع مع فتح الباري (10/171) كتاب الطب ، حديث رقم (5717) ، ورواه مسلم في صحيحه (4/1742، 1743) كتاب السلام ، حديث رقم (2220) .
(5) - الطيرة : نوع من السحر ، قيل : هو ما تتحبب به المرأة إلى زوجها والتطير : التشاؤم ، وأصله الشيء المكروه من قول أو فعل أو مرئي ، وكانوا يتطيرون بالسوانح والبوارح ، وفي الحديث : الطيرة شرك . يراجع : شرح صحيح مسلم للنووي (14/218، 219)
(6) - رواه البخاري في صحيحه المطبوع مع فتح الباري (10/215) كتاب الطب ، حديث رقم (5757) .(22/117)
وفي رواية لمسلم : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( لا عدوى ، ولا غول(1) ، ولا صفر ))(2) .
عن ابن مسعود – رضي الله عنه – قال : قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : (( لا يعدي شيء شيئاً ))، فقال أعرابي : يا رسول الله ! البعير أجرب الحشفة(3) ندبنه(4)فيجرب الإبل كلها ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(( فمن أجرب الأول ؟ لا عدوى ولا صفر ، خلق الله كل نفس فكتب حياتها ورزقها ومصائبها ))(5) .
__________
(1) - ولا غول : كانت العرب تزعم أن الغيلان في الفلوات ، وهي جنس من الشياطين فتتراءى وتتغول تغولاً أي تتلون تلوناً فتضلهم عن الطريق فتهلكهم .يراجع:شرح صحيح مسلم للنووي (14/216، 217)
(2) - رواها مسلم في صحيحه (4/1745) كتاب السلام ، حديث رقم (2222) (108).
(3) - الحشفة : ما فوق الختان وهي رأس الذكر . يراجع : لسان العرب (9/47) مادة (حشف) .
(4) - ندبنه : الدبن : حظيرة الغنم إذا كانت من القصب . يراجع : النهاية لابن الأثير (2/99) ، مادة دبن ) . والمراد هنا : معاطن الإبل .
والمعنى : ندخل البعير أجرب الحشفة في المعاطن فيجرب الإبل كلها . يُراجع : تحفة الأحوذي (6/354) .
(5) - رواه الإمام أحمد في مسنده (1/440) . ورواه الترمذي في سننه (3/ 305، 306) أبواب القدر ، حديث رقم (2230) . ورواه الطحاوي في شرح معاني الآثار (4/308) بإسناد صحيح . يراجع : سلسلة الأحاديث الصحيحة (3/143) حديث رقم (1152) .(22/118)
عن ابن عباس- رضي الله عنهما – قال : ((كانوا يرون أن العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور في الأرض ، ويجعلون المحرم صفر ، ويقولون : إذا برأ الدبر(1) ، وعفا الأثر(2)، وانسخ صفر ، حلَّت العمرة لمن اعتمر . قدم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه صبيحة رابعة مهلين بالحج فأمرهم أن يجعلوها عمرة ، فتعاظم ذلك عندهم ، فقالوا:يا رسول الله !أي الحل ؟. قال:(( حل كله))(3).
قال أبو داود : قُرئ على الحارث بن مسكين وأنا شاهد : أخبركم أشهب ، قال سُئل مالك عن قوله : (( لا صفر)) قال : إن أهل الجاهلية كانوا يُحلُّون صفر ، يُحلونه عاماً ويُحرمونه عاماً ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ((لا صفر ))(4) .
قال البخاري في صحيحه : باب (( لا صفر )) ، (وهو داء يأخذ البطن )(5) .
*********************************
المبحث الثاني
بدعة التشاؤم بصفر
__________
(1) - الدبر : الجرح الذي يكون في ظهر البعير ، وقيل : هو أن يقرح خف البعير ، والمراد : ما كان يحصل بظهور الإبل من الحمل عليها ، ومشقة السفر، فإنه كان يبرأ بعد انصرافهم من الحج . يراجع : النهاية لابن الأثير (2/97) ، باب الدال مع الباء . ويراجع : فتح الباري (3/ 426) .
(2) - عفا الأثر : أي : درس وانمحى . أي : اندرس أثر الإبل وغيرها في سيرها ، ويحتمل أثر الدبر المذكور وفي سنن أبي داود . (عفا الوبر) أي كثر وبل الذي حلق بالرحال ، يراجع : النهاية لابن الأثير (3/266) ، باب العين مع الفاء ، ويراجع : فتح الباري (3/426) .
(3) - رواه في صحيحه المطبوع مع فتح الباري (3/422) كتاب الحج ، حديث رقم (1564) . ورواه مسلم في صحيحه (2/909، 910) كتاب الحج ، حديث رقم (1240)
(4) - يراجع : سنن أبي داود (4/233) كتاب الطب ، حديث رقم (3914) .
(5) - يراجع : صحيح البخاري المطبوع مع فتح الباري (10/171) كتاب الطب ،باب (25) .(22/119)
ورد في الحديث قوله صلى الله عليه وسلم (( لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولاصفر))(1).
واختلف العلماء في قوله (( لا عدوى )) ، فهل المراد النهي أو النفي ؟.
قال ابن قيم الجوزية:(هذا يحتمل أن يكون نفياً ، أو يكون نهياً ، أي :لا تتطيروا ، ولكن قوله في الحديث : (( لا عدوى ولاصفر ولا هامة)) يدل على أن المراد النفي ،وإبطال هذه الأمور التي كانت الجاهلية تعانيها، والنفي في هذا أبلغ من النهي ؛لأن النفي يدل على بطلان ذلك ، وعدم تأثيره ،والنهي إنما يدل على المنع منه )ا.هـ(2).
وقال ابن رجب : ( اختلفوا في معنى قوله : ((لا عدوى))، وأظهر ما قيل في ذلك : أنه نفي لما كان يعتقده أهل الجاهلية، من أن هذه الأمراض تعدي بطبعها، من غير اعتقاد تقدير الله لذلك، ويدل على هذا قوله صلى الله عليه وسلم:((فمن أعدى الأول))، يشير إلى الأول إنما جرب بقضاء الله وقدره ،فكذلك الثاني وما بعده ) ا.هـ(3).
قال الله تعالى : {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا........ }(4).
وأما قوله صلى الله عليه وسلم : ((ولا صفر )) ، فاختلف في تفسيره :
أولاً : قال كثير من المتقدمين : الصفر داء في البطن . يقال : أنه دود فيه كبار كالحيات ، وهو أعدى من الجرب عند العرب ، فنفى ذلك النبي صلى الله عليه وسلم ، وممن قال بهذا من العلماء : (ابن عيينة ، والإمام أحمد ، والإمام البخاري ، والطبري )(5).
__________
(1) - رواه البخاري في صحيحه المطبوع مع فتح الباري (10/215) كتاب الطب ، حديث رقم (5757) .
(2) - يراجع : مفتاح دار السعادة (2/234) .
(3) - يراجع : لطائف المعارف ص(68) .
(4) - سورة الحديد: الآية22.
(5) - يراجع : لطائف المعارف ص(74) ، وفتح الباري (10/171) .(22/120)
وقيل : المراد بالصفر : الحية ، لكن المراد بالنفي نفي ما كانوا يعتقدون أن من أصابه قتله ، فردّ الشارع ذلك بأن الموت لا يكون إلا إذا فرغ الأجل .
وقد جاء هذا التفسير عن جابر وهو أحد رواة حديث : (( ولاصفر))(1).
ثانياً : وقالت طائفة : بل المراد بصفر هو شهر صفر . ثم اختلفوا في تفسيره على قولين :
أن المراد نفي ما كان أهل الجاهلية يفعلونه في النسيء فكانوا يحلون المحرم، ويحرمون صفر مكانه،وهذا قول الإمام مالك(2)
أن المراد أهل الجاهلية كانوا يستشئمون بصفر ويقولون أنه شهر مشئوم ، فأبطل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك . ورجَّح هذا القول ابن رجب الحنبلي(3).
ويجوز أن يكون المراد هو الدواب التي في البطن ، والتي هي أعدى من الجرب بزعمهم ، وأن يكون المراد تأخير الحرم إلى صفر وهو ما يسمى بالنسيء ، وأن الصفرين جميعاً باطلان لا أصل لهما ، ولا تصريح على واحد منهما .
__________
(1) - يراجع : فتح الباري (10/171) ، وصحيح مسلم (4/1745) كتاب السلام ، حديث رقم (2222) (109) . .
(2) - يراجع : لطائف المعارف ص(74) ، وفتح الباري (10/171) .
(3) - يراجع : لطائف المعارف ص(74) .(22/121)
وكذلك يجوز أن يكون المراد هو نفي التشاؤم بصفر ؛لأن التشاؤم صفر من الطيرة المنهي عنها ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم : (( لا طيرة ))(1) . لقوله صلى الله عليه وسلم : ((طيرة شرك ، طيرة شرك))(2). ويكون قوله : (( ولا صفر ))من باب عطف الخاص على العام ، وخصَّه بالذكر لاشتهاره .
فالنفي- والله أعلم- يشمل جميع المعاني التي فسر العلماء بها قوله صلى الله عليه وسلم (( لا صفر ))والتي ذكرتها ؛ لأنها جميعاً باطلة لا أصل لها ولا تصريح على واحد منها .
فكثير من الجهال يتشاءم بصفر ، وربما ينهى عن السفر فيه ، وقد قال بعض هؤلاء الجهال : ذكر بعض العارفين أنه ينزل في كل سنة ثلاثمائة وعشرون ألفاً من البليات ،وكل ذلك في يوم الأربعاء الأخير من صفر ، فيكون ذلك اليوم أصعب أيام السنة كلها ، فمن صلى في ذلك اليوم أربع ركعات ، يقرأ في كل ركعة فاتحة الكتاب مرة ، وسورة الكوثر سبع عشرة مرة والإخلاص خمس عشرة مرة ، والمعوذتين مرة ، ويدعو بعد السلام بهذا الدعاء ، حفظه الله بكرمه من جميع البليات التي تنزل في ذلك اليوم ولم تحم حوله بلية في تلك السنة ، وهذا هو الدعاء :
__________
(1) - يراجع : شرح النووي على صحيح مسلم (14/215) .
(2) - رواه الإمام أحمد في مسنده (1/440) . ورواه أبو داود في سننه (4/230) كتاب الطب ، حديث رقم (3910) . ورواه الترمذي في سننه (3/84، 85) أبواب السير ، حديث رقم (1663) ، وقال : حديث حسن صحيح . ورواه ابن ماجه في سننه (2/1170) كتاب الطب ، حديث رقم (3538) . ورواه الحاكم في المستدرك (1/17، 18) كتاب الإيمان ، وقال : حديث صحيح سنده ، ثقات رواته ولم يخرجاه ، ووافقه الذهبي في تلخيصه .(22/122)
(( بعد البسملة....... اللهم يا شديد القوة ، ويا شديد المحال ، يا عزيز ، يا من ذلت لعزتك جميع خلقك. اكنفني من شر خلقك ، يا محسن يا مجمل يا متفضل ، يا منعم يا متكرم ، يا من لا إله إلا أنت ، ارحمني برحمتك يا أرحم الراحمين ، اللهم بسر الحسن وأخيه وجده وأبيه وأمه وبنيه(1)، اكفني شر هذا اليوم وما ينزل فيه يا كافي المهمات ويا دافع البليات ، فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم ، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ))(2) .
وكذلك ما يفعله بعض الناس في اجتماعهم في آخر أربعاء من شهر صفر بين العشاءين في بعض المساجد ، ويتحلقون إلى كاتب يرقم لهم على أوراق آيات السلام السبعة على الأنبياء ؛ كقوله تعالى : {سَلامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ}(3) .
ثم يضعونها في الأواني،ويشربون من مائها،ويعتقدون أن سر كتابتها في هذا الوقت،ثم يتهادونها إلى البيوت.
ونظير هذا تشاؤم بعض الناس في بعض الأقطار الإسلامية من عيادة المريض يوم الأربعاء وتطيرهم منه(4) .
ولا شك التشاؤم بصفر أو بيوم من أيامه هو من جنس الطيرة المنهي عنها(5): فقد قال صلى الله عليه وسلم:((لا عدوى، ولا طيرة، ولا هامة ، ولاصفر))(6).
__________
(1) - وهل يتقرب إلى الله بهذه الألفاظ والتوسلات الشركية ؟!.وإنما هذا دليل واضح على بدعية وضلالة هذه الأدعية التي هي من وضع بعض الجهال من الصوفية وأضرابهم.
(2) - يراجع : رسالة روي الضمآن في فضائل الأشهر والأيام ص (4) .
(3) - سورة الصافات:79.
(4) - يراجع : إصلاح المساجد ص (116) .
(5) - يراجع : تيسير العزيز الحميد ص ( 380) .
(6) - رواه البخاري في صحيحه المطبوع مع فتح الباري (10/215) كتاب الطب ، حديث رقم (5757) .(22/123)
وقال صلى الله عليه وسلم (( لا عدوى،ولا طيرة ، ويعجبني الفأل)) قالوا :وما الفأل ؟ قال :(( كلمة طيبة))(1).
وقال عليه الصلاة والسلام ((طيرة شرك ، طيرة شرك))(2).
وقال صلى الله عليه وسلم : (( من ردته الطيرة عن حاجته فقد أشرك )) ، قالوا : فما كفارة ذلك ؟ قال : (( أن تقول: اللهم لا خير إلا خيرك ، ولا طير إلا طيرك ، ولا إله غيرك ))(3).......إلى غير ذلك من الأحاديث الواردة في النهي عن الطيرة .
__________
(1) - رواه البخاري في صحيحه المطبوع مع فتح الباري (10/244) كتاب الطب ، حديث رقم (5776) واللفظ له . ورواه مسلم في صحيحه (4/1746) كتاب السلام ، حديث رقم (2224) .
(2) - رواه الإمام أحمد في مسنده (1/440) . ورواه أبو داود في سننه (4/230) كتاب الطب ، حديث رقم (3910) . ورواه الترمذي في سننه (3/84، 85) أبواب السير ، حديث رقم (1663) ، وقال : حديث حسن صحيح . ورواه ابن ماجه في سننه (2/1170) كتاب الطب ، حديث رقم (3538) . ورواه الحاكم في المستدرك (1/17، 18) كتاب الإيمان ، وقال : حديث صحيح سنده ، ثقات رواته ولم يخرجاه ، ووافقه الذهبي في تلخيصه .
(3) - رواه الإمام أحمد في مسنده (2/220) ، ورواه ابن السني في عمل اليوم والليلة والطبراني وفيه ابن لهيعة ، وحديثه حسن ، وفيه ضعف ، وبقية رجاله ثقات .
قلت : ( ولكن الذي روي عن ابن لهيعة في رواية ابن السني هو عبد الله بن وهب بن مسلم المصري ، قال ابن حبان في معرض كلامه عن ابن لهيعة : وكان أصحابنا يقولون : سماع من يمع منه قبل احتراق كتبه مثل العبادلة – عبد الله بن وهب ، وابن مبارك ، وعبد الله بن يزيد المقرئ ، وعبد الله بن مسلمة القعنبي – فسماعهم صحيح ) ا.هـ .
يراجع : ميزان الاعتدال (2/482) ، فيكون إسناد رواية ابن السني صحيح .(22/124)
وتخصيص الشؤم بزمان دون زمان ؛ كشهر صفر وغيره صحيح ، لأن الزمان كله خلق الله تعالى ، وفيه تقع أفعال بني آدم ، فكل زمان شغله المؤمن بطاعة الله فهو زمان مبارك عليه ، وكل زمان شغله العبد بمعصية الله فهو مشؤم عليه .
فالشؤم في الحقيقة هو معصية الله تعالى ، واقتراف الذنوب، فإنها تسخط الله عز وجل، فإذا سخط على عبده ، شقي في الدنيا والآخرة ، كما أنه إذا رضي عن عبده سعد في الدنيا والآخرة .
فالعاصي مشؤم على نفسه، وعلى غيره، فإنه لا يؤمن أن ينزل عليه عذاب فيعم الناس، خصوصاً من لم ينكر عليه عمله، فالبُعد عنه متعين(1).
أما قوله صلى الله عليه وسلم :(( لا عدوى،ولا طيرة ، والشؤم في ثلاث : المرأة ، والدار ، والدابة ))(2).
فقد اختلف العلماء فيه :
فروي عن عائشة – رضي الله عنها – أنها أنكرت هذا الحديث أن يكون من كلام النبي صلى الله عليه وسلم : إنما قال : (( كان أهل الجاهلية يقولون : الطيرة في المرأة والدار والدابة )) ، ثم قرأت عائشة :{ مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ}(3) .(4)
وقال معمر : سمعت من يفسر هذا الحديث يقول : ( شؤم المرأة إذا كانت غير ولود ، وشؤم الفرس إذا لم يغز عليه في سبيل الله ، وشؤم الدار جار السوء )
__________
(1) - يراجع : لطائف المعارف ص (74-77) .
(2) - رواه البخاري في صحيحه المطبوع مع فتح الباري (10/212) كتاب الطب ، حديث رقم (5753). ورواه مسلم في صحيحه (4/ 1746، 1747) كتاب السلام ، حديث رقم (2225) .
(3) - سورة الحديد:22.
(4) - رواه الإمام أحمد في مسنده (6/246) . ورواه الحاكم في المستدرك (2/479) كتاب التفسير ، وقال : حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ، ووافقه الذهبي في تلخيصه .(22/125)
ومنهم من قال: قد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:((لا شؤم،وقد يكون اليمن في الدار والمرأة والفرس))(1).
والتحقيق :أن يقال في إثبات الشؤم في هذه الثلاث ما ورد في النهي عن إيراد المريض على الصحيح(2)، والفرار من المجذوم(3)، ومن أرض الطاعون(4): أن هذه الثلاث أسباب يقدر الله تعالى بها الشؤم واليمن ويقرنه.
والشؤم بهذه الثلاثة إنما يلحق من تشاءم بها،فسيكون شؤمها عليه ، ومن توكل على الله ولم يتشاءم ولم يتطير ، لم يكن مشؤومة عليه ، ويدلُّ على ذلك حديث أنس – رضي الله عنه - :(( الطيرة على من تطير ))(5).
__________
(1) - رواه الترمذي في سننه(4/209)أبواب الاستئذان والآداب،حديث رقم(2980).ورواه ابن ماجه في سننه (1/642) ، كتاب النكاح ، حديث رقم (1993) . قال البوصيري في الزوائد :إسناده صحيح ،رجاله ثقات ،وليس لمحمد بن معاوية عند ابن ماجه سوى هذا الحديث ، وليس له شيء في الخمسة الأصول . يراجع : مصباح الزجاجة في زوائد ابن ماجه (2/120) . قال ابن حجر : وأما ما أخرجه الترمذي – وذكر هذا الحديث – ففي إسناده ضعف مع مخالفته للأحاديث الصحيحة . يراجع فتح الباري (6/62) .
(2) - في حديث رواه مسلم في صحيحه (4/ 1743، 1744) كتاب السلام ، حديث رقم (2221) .
(3) - رواه البخاري تعليقاً في صحيحه مع فتح الباري (10/ 158) كتاب الطب ، حديث رقم (5707) . قال ابن حجر : وقد وصله أبو نعيم وابن خزيمة في صحيحه .ا.هـ . يراجع : فتح الباري (10/158) .
(4) - رواه البخاري في صحيحه المطبوع مع فتح الباري (10/178، 179) كتاب الطب ، حديث رقم (5728). ورواه مسلم في صحيحه (4/ 1737، 1741) ،حديث رقم (2219) .
(5) - رواه ابن حبان في صحيحه . يُراجع : موارد الظمآن ص( 345، 346) ، حديث رقم ( 1428) . قال ابن حجر : وفي صحته نظر ؛ لأنه من رواية عتبة بن حميد عن عبيد الله بن أبي بكر عن أنس ، وعتبة مختلف فيه . يراجع : فتح الباري (6/63) .(22/126)
وقد يجعل الله سبحانه وتعالى تطير العبد ، وتشاؤمه سبباً لحلول المكروه ، كما يجعل الثقة به ، والتوكُّل عليه وإفراده بالخوف والرجاء من أعظم الأسباب التي يدفع بها الشر المتطير به ، وسر هذا أن الطيرة إنما تتضمن الشرك بالله تعالى ، والخوف من غيره ،وعدم التوكل عليه والثقة به ،فكان صاحبها غرضاً لسهام الشر والبلاء ، فيتسرع نفوذها ؛ لأنّه لم يتدرع بالتوحيد والتوكل ، والنفس لابد أن تتطير ، ولكن المؤمن القوي الإيمان يدفع موجب تطيره بالتوكل على الله ، فإن من توكل على الله وحده كفاه من غيره ، قال تعالى : { فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ *إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ }(1).(2).
__________
(1) - سورة النحل:الآيات 98- 100 .
(2) - يراجع : مفتاح دار السعادة (2/256) .(22/127)
قال ابن الجوزية :(فإخباره صلى الله عليه وسلم بالشؤم أنه يكون في هذه الثلاثة، ليس فيه إثبات الطيرة التي نفاها، وإنما غايته أن الله سبحانه ، قد يخلق منها أعياناً مشؤمة على من قاربها وسكنها وأعياناً مباركة لا يلحق من قاربها منها شؤم ولا شر ،وهذا كما يعطي سبحانه الوالدين ولداً مباركاً ،يريان الخير على وجهه ، ويعطي غيرهما ولداً فكذلك الدار والمرأة والفرس.والله سبحانه خالق الخير والشر من قارنها ، وحصول اليمن له والبركة ، ويخلق بعض ذلك نحوساً يتنحس بها من قارنها ، وكل ذلك بقضائه وقدره ،كما خلق سائر الأسباب ، وربطها بمسبباتها المتضادة والمختلفة ، فكما خلق المسك(1) وغيره من حامل الأرواح الطيبة ، ولذذ بها من قارنها من الناس ، وخلق ضدها وجعلها سبباً لإيذاء من قارنها من الناس ، والفرق بين هذين النوعين يدرك بالحس، فكذلك في الديار والنساء والخيل ، فهذا لون والطيرة الشركية لون آخر(2) .
__________
(1) - المسك : ضرب من الطيب مذكر . يُراجع : لسان العرب (10/487) مادة (مسك) .
(2) - يراجع : مفتاح دار السعادة (2/257) .(22/128)
ولهذا يشرع لمن استفاد زوجة أو أمة أو دابة ، أن يسأل الله تعالى من خيرها ، وخير ما جبلت عليه، ويستعيذ به من شرها وشر ما جبلت عليه ،كما ورد ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم(1)، وكذلك ينبغي لمن سكن داراً أن يفعل ذلك ، وقد أمر صلى الله عليه وسلم قوماً سكنوا داراً فقلَّ عددهم ، وقلَّ مالهم أن يتركوها ذميمة(2).
فترك ما لا يجد الإنسان فيه بركة، من دار أو زوجة أو دابة، منهي عنه، وكذلك من اتّجر في شيء فلم يربح فيه، لقوله صلى الله عليه وسلم : (( إذا كان لأحدكم رزق في شيء فلا يدعه حتى يتغير له أو يتنكر له ))(3).
فالتطير والتشاؤم بوقت أو شخص أو دار أو غير ذلك ، من الشرك كما ثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم في الأحاديث السابق ذكرها .
__________
(1) - رواه أبو داود في سننه (2/616، 617) كتاب النكاح ، حديث رقم (2160) . ورواه ابن ماجه في سننه (1/617، 618) كتاب النكاح ، حديث رقم (1918) . ورواه ابن السني في عمل اليوم والليلة ص(224) حديث رقم (605) . ورواه الحاكم في المستدرك (2/185، 186) كتاب النكاح ، وقال : حديث صحيح ولم يخرجاه ، ووافقه الذهبي في تلخيصه .
(2) - رواه مالك في الموطأ (2/972) كتاب الاستذان ، حديث رقم (23) . ورواه أبو داود في سننه (4/238، 239) كتاب الطب ، حديث رقم (3924) . ورواه البيهقي في سننه (8/140) كتاب القسامة .
(3) - رواه الإمام أحمد في مسنده (6/246) . ورواه ابن ماجه في سننه (2/727) كتاب التجارات ،حديث رقم (2148) . قلت : وهذا الحديث ضعيف ؛ لأنُّ فيه الزبير بن عبيد وهو مجهول . يراجع : تقريب التهذيب (1/258) .(22/129)
والتشاؤم من الاعتقادات الجاهلية التي انتشرت – وللأسف الشديد – بين كثير من جهال المسلمين ، نتيجة جهلهم بالدين عموماً ، وضعف عقيدة التوحيد فيهم خصوصاً ، وسبب ذلك الجهل ،ونقص التوحيد ، وضعف الإيمان ، هو عدم انتشار الوعي الصحيح فيهم ، ومخالطة أهل البدع والضلال ، وقلة من يرشدهم ويبين لهم الطريق المستقيم ، وما يجب اعتقاده ، وما لا يجوز اعتقاده ، وما هو شرك أكبر يخرج المسلم عن الملة الإسلامية وما هو شرك أصغر ،وما هو ذريعة إلى الشرك ينافي كمال التوحيد ، ويوصل الفاعل في النهاية إلى الشرك الأكبر ، الذي لا يغفر الله لصاحبه إن مات ولم يتب ، ويكون مخلداً في النار ، وتحبط جميع أعماله الصالحة ، كما قال تعالى : {..... إنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ}(1) . وقال الله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً}(2). (3) .
ومع ذلك لا زال كثير من الناس يتشاءمون من شهر صفر ، ومن السفر فيه ،فلا يقيمون فيه مناسبة ولا فرحاً ، فإذا جاء في نهاية الشهر ، احتفلوا في الأربعاء الأخير ، احتفالاً كبيراً ،فأقاموا الولائم والأطعمة المخصوصة والحلوى ، خارج القرى والمدن ، وجعلوا يمشون على الأعشاب للشفاء من الأمراض (4).
وهذا لا شك أنه من الجهل الموقع في الشرك – والعياذ بالله – ومن البدع الشركية ، ويتوقف بالدرجة الأولى على سلامة العقيدة . فهذه الأمور لا تصدر إلا ممن يشوب اعتقاده بعض الأمور الشركية ، التي يجر بعضها بعضاً كالتوسلات الشركية ، والتبرك بالمخلوقين ، والاستغاثة بهم .
__________
(1) -سورة المائدة: الآية72.
(2) - سورة النساء:48.
(3) - يراجع : تطهير المجتمعات ص (74، 75) .
(4) - يراجع : تحذير المسلمين ص(281) .(22/130)
أما من أنعم الله عليه بسلامة العقيدة ، وصحتها ، فإنه دائماً متوكِّل على الله ، معتمدٌ عليه ، موقنٌ بأن ما أصابه لم يكن ليخطئه ، وما أخطأه لم يكن ليصيبه ، وأن التشاؤم والطيرة ، واعتقاد النفع أو الضر في غير الله ، ونحو ذلك كله من الشرك الذي هو من أشد الظلم ، قال تعالى : {........ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}(1).
والتشاؤم مما ينافي تحقيق التوحيد ، وتحقيق التوحيد منه ما يكون واجباً ، ومنه ما يكون مندوباً .
فالواجب : تخليصه وتصفيته عن شوائب الشرك والبدع والمعاصي ، فالشرك ينافيه بالكلية ، والبدع تنافي كماله الواجب ، والمعاصي تقدح فيه وتنقص ثوابه .
فلا يكون العبد محققاً التوحيد حتى يسلم من الشرك بنوعيه ويسلم من البدع والمعاصي(2).
والمندوب : تحقيق المقربين(3)، وهو انجذاب الروح إلى الله محبة وخوفاً ، وإنابة وتوكلاً ، ودعاءً وإخلاصاً وإجلالاً وهيبة ، وتعظيماً وعبادةً، فلا يكون في قلبه شيء لغير الله، ولا إرادة لما حرَّم الله، ولا كراهة لما أمر الله، وذلك هو حقيقة لا إله إلا الله(4) .
__________
(1) -سورة لقمان: الآية13.
(2) - تراجع : حاشية الشيخ ابن قاسم على كتاب التوحيد ص(37) .
(3) - الذين قال الله فيهم :{ وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ} [ سورة الواقعة: 10 - 12] .
(4) - يراجع : تيسير العزيز الحميد ص(76) .(22/131)
قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب في كتاب التوحيد – باب من حقق التوحيد دخل الجنة بغير حساب(1)، وذكر فيه حديث ابن عباس – رضي الله عنهما – عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( عرضت على الأمم، فأخذ النبي يمر معه الأمة ، والنبي يمر معه النفر ، و النبي يمر معه العشرة ، و النبي يمر معه الخمسة ،النبي يمر وحده ، فنظرت فإذا سواد كثير ، قلت:يا جبريل! هؤلاء أمتي ؟ قال :لا ولكن انظر إلى الأفق ،فنظرت فإذا سواد كثير قال : هؤلاء أمتك قال : هؤلاء أمتك، وهؤلاء سبعون ألفاً قدّامهم لا حساب عليهم ولا عذاب. قلت : ولِم ؟ قال : كانوا لا يكتوون(2) ، ولا يسترقون(3) ، ولا يتطيِّرون(4) ، وعلى ربهم يتوكلون ........)) الحديث(5) .
فذكر الرسول صلى الله عليه وسلم من صفات الذين يدخلون الجنة بلا حساب ولا عذاب ، الذين لا يتطيرون ، وعلى ربهم يتوكلون ، والتوكل على الله هو الأصل الجامع الذي تفرعت عنه هذه الأفعال .
فخلاصة الكلام أن التشاؤم بصفر وغيره من الأزمنة ونحو ذلك ، من البدع الشركية ، التي يجب تركها والابتعاد عنها ، لما ورد في ذلك من الترغيب والترهيب . والله أعلم .
************************************
الفصل الثالث
__________
(1) - يراجع : كتاب التوحيد بحاشية ابن قاسم ص(37) .
(2) - أي : لا يسألون غيرهم أن يكويهم بالنار ، استسلاماً للقضاء ، وتلذذاً بالبلاء مع أن الكي في نفسه جائز .يراجع :حاشية الشيخ ابن قاسم على كتاب التوحيد ص(45، 86) .
(3) - أي لا يطلبون من يرقيهم استسلاماً للقضاء ،وتلذذاً بالبلاء .والرقية : قراءة القرآن على المريض ونحوه .يراجع :حاشية الشيخ ابن قاسم على كتاب التوحيد ص(45، 86).
(4) - سبق الكلام عن التطير .
(5) - رواه البخاري في صحيحه المطبوع مع فتح الباري (11/405، 406) كتاب الرقاق ، حديث رقم (6541) ، واللفظ له .ورواه مسلم في صحيحه مطولاً(1/ 199، 200) كتاب الإيمان ، حديث رقم (220) .(22/132)
شهر ربيع الأول(1)
بدعة الاحتفال بالمولد النبوي : ويشمل على ستة مباحث :
المبحث الأول : أول من أحدث هذه البدعة .
المبحث الثاني : حالة المجتمع في ذلك العصر .
المبحث الثالث : بعض الشبه التي عرضت للقائلين بهذه البدعة والجواب عنها .
المبحث الرابع : طريقة إحياء المولد .
المبحث الخامس : حقيقة محبته صلى الله عليه وسلم .
المبحث السادس : موقف أهل السنة من هذه البدعة .
المبحث الأول
أول من أحدث هذه البدعة
مضت القرون المفضلة الأولى ، والثاني والثالث ، ولم تسجل لنا كتب التاريخ أن أحداً من الصحابة ، أو التابعين ، أو تابعيهم ومن جاء بعدهم- مع شدة محبتهم للنبي صلى الله عليه وسلم ، كونهم أعلم الناس بالسنة ، وأحرص الناس على متبعة شرعه صلى الله عليه وسلم احتفل بمولد النبي صلى الله عليه وسلم .
__________
(1) * لم أعثر – على حسب اطلاعي المحدد – على آثار تتعلق ببحثنا في شهر ربيع الأول .(22/133)
وأول من أحدث هذه البدعة هم بني عبيد القداح(1) الذين يسمون أنفسهم بالفاطميين ، وينتسبون إلى ولد علي أبي طالب- رضي الله عنه-،وهم في الحقيقة من المؤسسين لدعوة الباطنية ، فجدهم هو ابن ديصان المعروف بالقداح، وكان مولى لجعفر بن محمد الصادق، وكان من الأهواز(2)وأحد مؤسسي مذهب الباطنية، وذلك بالعراق،ثم رحل إلى المغرب،وانتسب في تلك الناحية إلى عقيل بن أبي طالب، وزعم أنه من نسله ، فلما دخل في دعوته قوم من غلاة الرافضة،ادعى أنه من ولد محمد بن إسماعيل بن جعفر بن جعفر الصادق ، فقبلوا ذلك منه، مع أن محمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق مات ولم يعقب ذرية(3)، وممن تبعه: حمدان قرمط، وإليه تنسب القرامطة(4)، ثم لما تمادت بهم الأيام ، ظهر المعروف منهم بسعيد بن الحسين بن أحمد بن عبد الله بن ميمون بن ديصان القداح،فغيَّر اسمه ونسبه وقال لأتباعه:أنا عبيد الله بن الحسن بن محمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق فظهرت فتنته بالمغرب(5) .
قال البغدادي : ( وأولاده اليوم مستولون على أعمال مصر )ا.هـ(6) .
وقال ابن خلِّكان : ( وأهل العلم بالأنساب من المحققين ينكرون دعواه في النسب ) ا.هـ(7) .
__________
(1) - سمي القداح : لأنه كان كحَّالا يقدح العيون إذا نزل فيها الماء . يراجع : وفيات الأعيان (3/118) ، والبداية والنهاية (11/202) ، ولسان العرب (2/556) مادة (قدح).
(2) - الأهواز : سبع كور بين البصرة وفارس ، وسوق الأهواز من مدنها والتي فتحها أبو موسى الأشعري سنة 17هـ ، قيل عن أهلها : أنهم أبخل الناس وأحمقهم وهي كثيرة الحمى . يراجع : معجم البلدان (1/384- 386) .
(3) - يراجع : فضائح الباطنية ص( 16) .
(4) - فرقة من فرق الباطنية . وقد تقدم الكلام عن الباطنية
(5) - يراجع : الفرق بين الفرق ص(266، 267) ، وبيان مذهب الباطنية وبطلانه ص(20 ، 21) .
(6) - يراجع : الفرق بين الفرق ص(267)
(7) - يراجع : وفيات الأعيان (3/117، 118) .(22/134)
وفي سنة 402هـ كتب جماعة من العلماء والقضاء ، والأشراف والعدول والصالحين والفقهاء والمحدثين ، محاضر تتضمن الطعن والقدح في نسب الفاطميين – العبيديين – وشهدوا أن الحاكم بمصر هو : منصور بن نزار الملقب بـ(( الحاكم ))- حكم الله عليه بالبوار والخزي والدمار- ابن معد بن إسماعيل بن عبد الله بن سعيد- لا أسعده الله -،فإنَّهُ لما صار إلى بلاد المغرب تسمى بعبيد الله ، وتلقب بالمهدي ، وأن من تقدم من سلفه أدعياء خوارج ، لا نسب لهم في ولد علي بن أبي طالب- رضي الله عنه- ولا يعلمون أحداً من أهل بيوتات على بن أبي طالب-رضي الله عنه- توقف عن إطلاق القول في أنهم خوارج كذبه ، وقد كان هذا الإنكار لباطلهم شائعاً في الحرمين ، وفي أول أمرهم بالمغرب ، منتشراً انتشاراً يمنع أن يدلس أمرهم على أحد ، أو يذهب وهم إلى تصديقهم فيما ادَّعوه ، وأن هذا الحاكم بمصر- هو وسلفه-كفار فساق فجار ، ملحدون زنادقة ، معطلون ، وللإسلام جاحدون ، ولمذهب المجوسية والوثنية معتقدون ، قد عطَّلُوا الحدود ، وأباحوا الفروج ، وأحلوا الخمر ، وسفكوا الدماء ، وسَبُّوا الأنبياء ، ولعنوا السلف، وادَّعُوا الربوبية،وكتب في سنة اثنتين وأربعمائة للهجرة ، وقد كتب خطه في المحضر خلق كثير(1) ا.هـ.
__________
(1) - منهم :
من العلويين : المرتضى ، والرضى ، وابن الأزرق الموسوي ، وأبو طاهر بن أبي الطيب ، ومحمد بن محمد بن عمرو بن أبي يعلى .
ومن القضاء: أبو محمد بن الأكفاني ، وأبو القاسم الجزري ، وأبو العباس بن الشيورى .
ومن الفقهاء : أبو حامد الإسفراييني ، وأبو محمد بن الكسفلي ، وأبو الحسن القدوري ، وأبو عبد الله الصميري ، وأبو عبد الله البيضاوي ، وأبو علي بن حكمان .
ومن الشهود : أبو القاسم التنوخي . يراجع : البداية والنهاية (11/386-387) .(22/135)
وقد صنَّف القاضي الباقلاني كتاباً في الردِّ على هؤلاء وسماه :(كشف الأسرار وهتك الأستار).بيَّن فيه فضائحهم وقبائحهم، وقال فيهم : هم قوم يظهرون الرفض ، ويبطنون الكفر المحض(1) .
وقد سُئِل شيخ الإسلام ابن تيمية- رحمه الله- عنهم ، فأجاب :( بأنهم من أفسق الناس ، ومن أكفر الناس، وأن من شهد لهم بالإيمان والتقوى ، أو بصحة النسب ، فقد شهد لهم بما لا يعلم ، وقد قال تعالى : { وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ......}(2) . وقال تعالى : {.....إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ }(3) .
وهؤلاء القوم يشهد عليهم علماء الأمة ، وأئمتها ، وجماهيرها ، أنهم كانوا منافقين زنادقة ، يظهرون الإسلام ، ويبطنون الكفر ، فالشاهد لهم بالإيمان ، شاهد لهم بما لا يعلمه ؛ إذ ليس معه شيء يدلّ على إيمانهم ، مثل ما مع منازعيه ما يدل على نفاقهم وزندقتهم .
وكذلك النسب : قد علم أن جمهور الأمة تطعن في نسبهم ، ويذكرون أنهم من أولاد المجوس أو اليهود ، هذا مشهور من شهادة علماء الطوائف من الحنفية ، والمالكية ، والشافعية ، والحنابلة ، وأهل الحديث ، وأهل الكلام ، وعلماء النسب ، والعامة ، وغيرهم . وهذا أمر قد ذكره عامة المصنفين لأخبار الناس وأيامهم ، حتى بعض من قد يتوقف في أمرهم ؛ كابن الأثير الموصلي في تاريخه ونحوه ، فإنَّه ذكر ما كتبه علماء المسلمين بخطوطهم في القدح في نسبهم .
__________
(1) - يراجع : البداية والنهاية (11/387) .
(2) - سورة الاسراء: الآية36.
(3) - سورة الزخرف: الآية86.(22/136)
وأما جمهور المصنفين من المتقدمين والمتأخرين ، حتى القاضي ابن خلكان في تاريخه ، فإنهم ذكروا بطلان نسبهم ، وكذلك ابن الجوزية ، وأبو شامة ،وغيرهم من أهل العلم بذلك.حتى صنَّف العلماء في كشف أسرارهم، وهتك أستارهم؛كالقاضي أبي بكر الباقلاني في كتابه المشهور في كشف أسرارهم وهتك أستارهم،وذكر أنهم من ذرية المجوس، وذكر من مذاهبهم ما بيَّن فيه أن مذاهبهم شر من مذاهب اليهود والنصارى، بل ومن مذاهب الغالية الذين يدَّ إلهية عليّ أو نبوته، فهم أكفر من هؤلاء، وكذلك ذكر القاضي أبو يعلى في كتابه (المعتمد) فصلاً طويلاً في شرح زندقتهم وكفرهم ، وكذلك ذكر أبو حامد الغزالي- رحمه الله- في كتابه الذي سمَّاه ( فضائل المستظهرية ، وفضائح الباطنية ) قال : ( ظاهر مذهبهم الرفض ، وباطنه الكفر المحض )(1) .
وكذلك القاضي عبد الجبار بن أحمد ، وأمثاله من المعتزلة المتشيعة الذين لا يفضلون على عليِّ غيره ، بل يفسِّقون من قاتله ولم يتب من قتاله . يجعلون هؤلاء من أكابر المنافقين الزنادقة ، فهذه مقالة المعتزلة في حقهم ، فكيف تكون مقالة أهل السنة والجماعة ؟!! ، والرافضة الإمامية ، مع أنهم أجمل الخلق ، وأنهم ليس لهم عقل ولا نقل ، ولا دين صحيح ، ولا دنيا منصورة – يعلمون أن مقالة هؤلاء الزنادقة المنافقين ويعلمون أن مقالة هؤلاء الباطنية شرّ من مقالة الغالية الذين يعتقدون إلهية على – رضي الله عنه - .
وأما القدح في نسبهم فهو مأثور عن جماهير علماء الأمة من علماء الطوائف .
__________
(1) - يراجع : فضائح الباطنية ص (37) .(22/137)
وهؤلاء -بنو عبيد القدح-ما زالت علماء الأمة المأمونون علماً وديناً يقدحون في نسبهم ودينهم، لا يذمونهم بالرفض والتشيع ،فإن لهم في هذا شركاء كثيرين ،بل يجعلونهم من القرامطة الباطنية،الذين منهم الإسماعيلية والنصيرية ، وأمثالهم من الكفار المنافقين الذين كانوا يظهرون الإسلام ويبطنون الكفر، والذين أخذوا بعض قول المجوس وبعض قول الفلاسفة. فمن شهد لهم بصحة نسب أو إيمان، فأقل ما في شهاداته أنه شاهد بلا علم، قاف ما ليس له به علم ، وذلك حرام باتفاق الأمة، بل ما ظهر عنهم من الزندقة والنفاق ، ومعاداة ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم : دليل على بطلان نسبهم الفاطمي ، فإن من يكون من أقارب النبي صلى الله عليه وسلم القائمين بالخلافة في أمته ، لا تكون معاداته لدينه كمعادة هؤلاء ، فلم يعرف في بني هاشم ، ولا بني أمية : من كان خليفة وهو معاد لدين الإسلام ، فضلاً عن أن يكون معادياً كمعاداة هؤلاء، بل أولاد الملوك الذين لا دين لهم آدم، الذي بعثه الله بالهدى ودين الحق كيف دينه هذه المعاداة ؟!. ولهذا نجد جميع المأمونين على دين الإسلام باطناً وظاهراً معادين لهؤلاء، إلا من هو زنديق عدو لله ورسوله ، أو جاهل لا يعرف ما بعث به رسوله ، وهذا مما يدل على كفرهم، وكذبهم في نسبهم .ا.هـ(1).
فأوّل من قال بهذه البدعة الاحتفال بالمولد النبوي – هم الباطنية الذين أرادوا أن يُغيِّروا على الناس دينهم ، وأن يجعلوا فيه ما ليس منه ؛ لإبعادهم عمَّا هو من دينهم ، فإشغال الناس بالبدع طريق سهل لإماتة السنة والبُعْد عن شريعة الله السمحة ، وسنته صلى الله عليه وسلم المطهرة .
وكان دخول العبيديين مصر سنة 362هـ ، في الخامس من رمضان(2) ، وكان ذلك بداية حكمهم لها .
__________
(1) - يُراجع : مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (35/ 120-132) .
(2) - يراجع : البداية والنهاية (11/306) .(22/138)
وقيل : يوم الثلاثاء لسبع خلون من شهر رمضان سنة 362هـ(1)، فبدعة الاحتفال بالموالد عموماً ،ومولد النبي صلى الله عليه وسلم خصوصاً ، إنَّما ظهرت في عهد العبيديين ، ولم يسبقهم أحدٌ إلى ذلك .
قال المقريزي : (ذكر الأيام التي كان الخلفاء الفاطميون يتخذونها أعياداً ومواسم تتسع بها أحوال الرعية ، وتكثر نعمهم .
وكان للخلفاء الفاطميين في طول السنة أعياد ومواسم وهي :
موسم رأس السنة ، وموسم أول العام ، ويوم عاشوراء ، ومولد النبي صلى الله عليه وسلم ، ومولد علي بن أبي طالب – رضي الله عنه – ومولد الحسن ، ومولد الحسين عليهما السلام ، ومولد فاطمة الزهراء عليها السلام ، ومولد الخليفة الحاضر ، وليلة أول رجب ، وليلة نصفه ، وليلة أول شعبان ، وليلة نصفه ، وموسم ليلة رمضان ، وغرة رمضان ، وسماط رمضان ، وليلة الختم ، وموسم عيد الفطر ، وموسم عيد النحر ، وعيد الغدير ،وكسوة الشتاء ، وكسوة الصيف ، وموسم فتح الخليج ، ويوم النوروز ، ويوم الغطاس ، ويوم الميلاد ، وخميس العدس ، وأيام الركوبات ).ا.هـ(2) .
ثم تكلم عن كل موسم ، ومراسم الاحتفال فيه .
__________
(1) - يراجع : اتعاظ الحنفا (1/134) .
(2) - يراجع الخطط المقريزية (1/490) .(22/139)
فهذه شهادة ظاهرة واضحة من المقريزي- وهو من المثبتين انتسابهم إلى ولد علي بن أبي طالب-رضي الله عنه- ومن المدافعين عنهم - أن العبيديين هم سبب البلاء على المسلمين ، وهم الذين فتحوا باب الاحتفالات البدعية على مصراعيه ، حتى أنهم كانوا يحتفلوا بأعياد المجوس والمسيحيين كالنوروز ،والغطاس، والميلاد، وخميس العدس، وهذا من الأدلة على بعدهم عن الإسلام، ومحاربتهم له ، وإن لم يجهروا بذلك ويظهروه . ودليل أيضاً على أن إحياءهم للموالد الستة المذكورة-ومنها المولد النبوي-، ليس محبة له صلى الله عليه وسلم وآله كما يزعمون ، وكما يظهرون للعامة والسذَّج من الناس ، وإنما قصدهم بذلك نشر خصائص مذهبهم الإسماعيلي الباطني ، وعقائدهم الفاسدة بين الناس ، وإبعادهم عن الدين الصحيح ، والعقيدة السليمة بابتداعهم هذه الاحتفالات ، وأمر الناس بإحيائها ، وتشجيعهم على ذلك ، وبذل الأموال الطائلة في سبيل ذلك .
فخلاصة ما سبق أن أول من احتفل بالمولد النبوي هم بنو عبيد القداح ( الفاطميون ) ، ويدلُّ على ذلك : ما ذكره المقريزي في خططه – وسبق وذكرته – وما ذكره القلقشندي في صبح الأعشى(1) .
وقد رجع هذا وأخذ به جماعة من العلماء المتأخرين(2) وصرَّحُوا به .
__________
(1) - يراجع : صبح الأعشى (3/498، 499) .
(2) - منهم : محمد بخيت المطيعي في كتابه أحسن الكلام ص(44) ، وعلي محفوظ في كتابه الإبداع ص(251) ، وحسن السندوبي في كتابه تاريخ الاحتفال بالمولد النبوي ص (62) ، وعلي الجندي في كتابه نفح الأزهار ص(185، 186) ، وإسماعيل الأنصاري في كتابه القول الفصل ص (64) ، وغيرهم من المؤلفين في هذا المجال .(22/140)
وأمَّا ما ذكره أبو شامة في كتابه ( الباعث على إنكار البدع والحوادث ): من ثنائه على الاحتفال بالمولد النبوي ، وأنه من أحسن ما ابتدع في زمانه(1)، وأن أول من احتفل بذلك بالموصل(2)، والشيخ عمر بن محمد الملا أحد الصالحين المشهورين ، وبه اقتدى في ذلك صاحب إربل(3): فلا يدلُّ على أن أول من احتفل بالمولد النبوي ، هو صاحب إربل ؛ لأمرين :
أحدهما : أن أبا شامة – رحمه الله – قيَّد هذه الأولوية بقوله : (أول من فعل ذلك بالموصل)(4). فكلامه يدلُّ على أن أول من احتفل بالمولد النبوي في الموصل هو صاحب إربل اقتداءً بالشيخ عمر بن محمد الملا ، وليس فيه دلالة على أن أول من احتفل بالمولد النبوي على الإطلاق هو صاحب إربل .
__________
(1) - ما ذكره أبو شامة هو وغيره من الاستحسان للاحتفال بالمولد النبوي خطأ واضح ، مخالف لما عليه المحققون من علماء هذه الأمة ، ويعتبر من زلات العلماء وأخطائهم ، عفا الله عنا وعنه .
(2) - هي المدينة المشهورة ، ومحط الركبان ، وهي باب العراق ، ومفتاح خرسان وسميت بالوصل ؛لأنها وصلت بين الجزيرة والعراق ، أو بين دجلة والفرات ،وتقع على نهر دجلة ، وأول من عظمها من الخلفاء : مروان بن محمد بن مروان آخر خلفاء بني أمية ، وصفها العلماء بصحة الهواء ، وعذوبة . يراجع : معجم البلدان (5/223-225).
(3) - إربل : - بالكسر ثم السكون ثم ياء مكسورة -: من الربل أو الريبال ، وهو نوع من أنواع النبات ، وهي قلعة حصينة ، ومدينة كبيرة ، على تل عال من التراب وهي من أعمال الموصل ، وبينهما مسيرة يومين ، وقد قام بعمارتها الأمير كوكبوري ، فأقام بها وقامت بمقامه بها – وهو المراد بقول أبي شامة : صاحب إربل – وأكثر أهلها من الأكراد . وتقع في شمال العراق شرقي مدينة الموصل . يراجع : معجم البلدان (5/127-139).
(4) - يراجع : الباعث الحثيث ص(21) .(22/141)
ولكن السيوطي-رحمه الله- أطلق ذلك في كتابه (حُسن المقصد في عمل المولد )- الذي ضمنه كتابه الحاوي- فقال :(وأوَّلُ من أحدث فعل ذلك- الاحتفال بالمولد النبوي- صاحب إربل الملك المظفر أبو سعيد كوكبرى بن زين الدين علي بن بكتكين ، أحد الملوك الأمجاد ).ا.هـ(1) .
وقال الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ :( وهذه البدعة- الاحتفال بالمولد- أول من أحدثها أبو سعيد كوكبوري في القرن السادس الهجري ) .ا.هـ(2) .
وقال الشيخ حمود التويجري : ( إن الاحتفال بالمولد بدعة في الإسلام أحدثها سلطان إربل في آخر القرن السادس من الهجرة ، أو في أول القرن السابع ) .ا.هـ(3) .
فإذا عرفنا ذلك، فلا شكَّ أن العبيديين هم أول من احتفل بالمولد النبوي، حسب ما ورد في كتب التاريخ والسير؛ لأنَّ العبيديين دخلوا مصر وأسسوا ملكهم في النصف الثاني من القرن الرابع الهجري ، واستمرت دولتهم القرن الخامس، ونصف القرن السادس الهجري .
فقد دخل المعز معد بن إسماعيل القاهرة في سنة 362هـ(4) في رمضان ، وكان ذلك بداية حكمهم في مصر(5) . وقيل : في سنة 363هـ(6).
وكان آخر خليفة فيهم هو العاضد ، توفي سنة 567هـ(7).
__________
(1) - يراجع : الحاوي (1/189) الكتاب رقم (24) .
(2) - يراجع : فتاوى ورسائل الشيخ محمد بن إبراهيم (3/59) .
(3) - يراجع : الرد القوي ص(89) .
(4) - يراجع : البداية والنهاية (11/306) ،واتعاظ الحنفا (1/134) .
(5) - أما أول من حكم منهم : فهو المهدي عبيد الله ، وكان ذلك سنة 296هـ وبنى المهدية وذلك في المغرب ، ثم جاء بعده ابنه القائم محمد ثم ابنه المنصور إسماعيل ثم ابنه المعز معد وهو أول من دخل منهم ديار مصر وأول من ملكها منهم .
يراجع : البداية والنهاية (11/283) .
(6) - يراجع : أخبار ملوك بني عبيد ص (88) .
(7) - يراجع : البداية والنهاية (11/280) ،واتعاظ الحنفا (1/324، 332) .(22/142)
وأما مظفر الدين صاحب إربل ، فلولادته كانت في سنة 549هـ . وتوفي سنة 630هـ(1) .
فهذا دليلٌ قاطعٌ على العبيديين سبقوا صاحب إربل – الملك المظفر – بالاحتفال بالمولد النبوي .
فصاحب إربل ليس أول من احتفل بالمولد النبوي ، وإنما سبقه إلى ذلك العبيديون بحوالي قرنين من الزمان ، وهذا لا يمنع أن يكون صاحب إربل هو أول من احتفل بالمولد النبوي في الموصل ؛ لأنَّ احتفالات العبيديين كانت في دولتهم – وهي في مصر كما ذُكِرَ في كتب التاريخ - ، والله أعلم .
********************************
المبحث الثاني
حالة المجتمع في ذلك العصر
كانت سياسة العبيديين موجهة إلى غاية واحد، هي العمل بكل جدِّ وإخلاص لحمل الناس على اعتناق مذهبهم، وجعله سائداُ في كافة أنحاء الديار المصرية ، وغيرها من البلاد التي كانوا يحكمونها ، والمجاورة لهم .
فقد كان عبد العزيز يعطف على النصارى واليهود ، كما كان أبوه – المعز معد أبو تميم – قبله ، ولكن العزيز كان أكثر عطفاً على النصارى ، لِما كان بينه وبينهم من صلة النسب(2) .
ورفع العزيز عيسى بن نسطورس إلى كرسي الوزارة ، كما عيَّن منشأ اليهود ، والياً على الشام ، فأظهر ابن نسطورس ومنشأ محاباة جليَّة لبني ملتهم ، فعينوهم في مناصب الدولة بعد أن أقصوا المسلمين عنها ، فقدم المسلمون الاحتجاجات على تلك المحاباة التي أظهرها الخليفة لغير المسلمين وبلغ من حال هؤلاء الساخطين أن كتبت امرأة إلى العزيز : بالذي أعز اليهود بمنشأ، والنصارى بعيسى بن نسطورس ، وأذل المسلمين بك ألا كشفت ظلامتي(3) .
__________
(1) - يراجع : وفيات الأعيان (4/120) .
(2) - فقد تزوج بنصرانية واستعمل أخويها على بعض الكنائس . يراجع الدولة الفاطمية ص(202) .
(3) - يراجع : البداية والنهاية (11/358) ،والمنتظم (7/190) ،واتعاظ الحنفا (1/297) .(22/143)
فأمر بالقبض على ابن نسطورس، وكتب إلى الشام بالقبض على منشأ وغيره من الموظفين اليهود، وأمر برد الدواوين والأعمال إلى الكتاب المسلمين ، وعيَّن القضاة للإشراف على أعمالهم في جميع أنحاء الدولة، لكن الأمير ست الملك ابنة الخليفة شفعت لابن نسطورس فردّ العزيز الوزارة إليه ثانية،وشرط عليه استخدام المسلمين في الحكومة .
ولقد تقلد أهل الكتاب أرقى المناصب وأعلاها في عهد العزيز (365-376) ، وشغلوا في عهد المستنصر (427-487) ، ومن جاء بعده من الخلفاء ، معظم المناصب المالية في الدولة ، بل تقلَّدُوا الوزارة أيضاً .
ولم تقتصر هذه المعاملة على ما تقدم، فقد ولع بعض الخلفاء العبيديين: كالحافظ مثلاً(524-544هـ)بزيارة أديرة(1) النصارى، وكان الآمر ( 495- 524هـ ) يعطي الرهبان(2) في بعض الأديرة عشرة آلف درهم كلما خرج للصيد ، بل قد ازدادت موارد الكنائس(3) المصرية زيادة عظيمة في عهد العبيديين(4) .
فقد كان العبيديون يعاملون النصارى معاملة تنطوي على العطف والرعاية والمحاباة، فإذا كان هذا موقفهم من اليهود والنصارى فما موقفهم من أهل السنة ؟!
__________
(1) - أديرة : جمع دير ، وهوخان النصارى ، وبيت يتعبد فيه الرهبان ، ويكون في الصحاري ورؤوس الجبال ، وإذا كان داخل المصر فهو كنيسة أو بيعة . يراجع : لسان العرب (4/300، 301) مادة ( دير ) ، ومعجم البلدان (2/495) .
(2) - الراهب : المتعبد في الصومعة ، وأحد رهبان النصارى ، وكانوا يترهبون بالتخلي عن أشغال الدنيا ، وترك ملاذها ، والزهد فيها .يراجع :لسان العرب (4/437، 438).
(3) - الكنائس : جمع كنيسة ، والكنيسة متعبد اليهود أو النصارى أو الكفار . يراجع : القاموس المحيط (2/256) باب السين فصل الكاف .
(4) - يراجع : تاريخ الدولة الفاطمية ص (202-216) .(22/144)
لقد عمل العبيديون على لعن الخلفاء الثلاثة- أبي بكر ، وعمر ، وعثمان -رضي الله عنهم أجمعين- وغيرهم من الصحابة ؛ إذ عدّوهم أعداءً لعلي -رضي الله عنه-، وتفشت فضائل علي وأولاده من بهده على السكة(1) وعلى جدران المساجد، وكان الخطباء يلعنون الصحابة على كافة منابر مصر .
وقد ألزم العبيديون جميع الموظفين المصريين أن يعتنقوا المذهب العبيدي الباطني ، كما حتم على القضاة أن يصدروا أحكامهم وفق قوانين هذا المذهب .
بل إن الحصول على مناصب الدولة مشروط بالتحول إلى المذهب الشيعي ، مما دفع بعض الذميين(2) إلى اعتناق الإسلام ، واتخاذ التشيع مذهباً لهم(3) .
وكان من عدائهم للسنة وأهلها: أن أمر العزيز بقطع صلاة التراويح من جميع البلاد المصرية، وذلك سنة 372هـ. وكذلك في سنة 393هـ قبض على ثلاثة عشر رجلاً، وضربوا وشهروا على الجمال، وحبسوا ثلاثة أيام، من أجل أنهم صلُّوا صلاة الضحى.
وفي سنة 381هـ ضرب رجل بمصر ، وطيف به المدينة من أجل أنه وجد عنده كتاب الموطأ للإمام مالك بن أنس -رحمه الله-.
__________
(1) - السكة : حديدة منقوشة ، يضرب عليها الدراهم ، وتطلق ويُراد بها الدينار والدرهم المضروبين ، سمي كل واحد منهما سكة ؛ لأنه طبع بالحديدة المعلمة له . يراجع : القاموس المحيط (3/316) فصل السين ، باب الكاف ، ولسان العرب (10/440، 441) مادة (سكك) .
(2) - الذميين : نسبة إلى الذمَّة والذمام : وهما بمعنى العهد والأمان والضمان والحركة والحق ، وسمي أهل الذمة لدخولهم في عهد المسلمين وأمانهم ، وهم أهل الكتاب من اليهود والنصارى ، وكذلك المجوس ؛ لأن لهم شبهة كتاب . يراجع : النهاية في غريب الحديث والأثر (2/168) ، والإفصاح لابن هبيرة (2/292) .
(3) - يراجع : تاريخ الدولة الفاطمية ص(218) .(22/145)
وفي سنة 395هـ في شهر صفر كتب على سائر المساجد ، وعلى الجامع العتيق(1)بمصر ،من ظاهره وباطنه، ومن جميع جوانبه ، وعلى أبواب الحوانيت ، والحجر ، وعلى المقابر ، سبّ السلف ولعنهم ، ونقش ذلك ، ولون بالأصباغ والذهب ، وعمل ذلك على أبواب الدور ، والقياسر(2)وأكره الناس على ذلك(3) .
فكان لعن السنيين تفيض به ألسنة الناس من على المنابر في كافة أنحاء مصر طوال الحكم العبيدي تقريباً ، حتى أن العاضد – آخر الخلفاء العبيديين – كان شديد التشيع ، متغالياً في سبّ الصحابة- رضوان الله عليهم- وإذا رأى سنياً استحل دمه(4).
وأشد من ذلك كله أن الحاكم العبيدي قد ادَّعى الألوهية ، فأمر الناس أن يقوموا على أقدامهم صفوفاً إذا ذكر الخطيب على المنبر اسمه ،إعظاماً لذكره ،واحتراماً لاسمه،وقد فُعِل ذلك في سائر ممالكه ،حتى في الحرمين الشريفين ، وكان قد أمر أهل مصر على الخصوص إذا قاموا عند ذكره خروا سجداً له ، حتى أنه ليسجد بسجودهم من في الأسواق من الرعاع وغيرهم ، ممن كان لا يصلي الجمعة ، وكانوا يتركون السجود لله في يوم الجمعة وغيره ، ويسجدون للحاكم ، حتى أن قوماً من الجهال إذا رأوه يقولون له : يا واحدنا يا واحدنا، يا محيي يا مميت .
__________
(1) - ويقع بمدينة فسطاط مصر ، ويقال له : تاج الجوامع ، وجامع عمرو بن العاص ، وهو أول مسجد أسس بديار مصر في الملة الإسلامية بعد الفتح . يراجع : الخطط المقريزي (2/246) .
(2) - القياسر : هي كالخان العظيم تغلق عليها أبواب حديد ، وتطيف بها دكاكين وبيوت بعضها على بعض ، وهي في الواقع مجموعة من المباني العامة على هيئة رواق ، وبها حوانيت ، ومصانع ، ومخازن ، وأحياناً مساكن . يراجع : تاريخ الدولة الفاطمية ص(620) .وقد ذكرها المقريزي في الخطط بشيء من التفصيل في (2/86-91) .
(3) - يراجع : الخطط المقريزي (2/341) .
(4) - يراجع : وفيات الأعيان (3/110) .(22/146)
وأمر السودان أن يحرقوا مصر وينهبوا ما فيها من الأموال ، والمتاع ، والحريم ، فامتثلوا لأمره ، وسبوا النساء ، وفعلوا فيهن الفاحشة ، والمنكرات ، وأحرقوا ثلث مصر ، ونهبوا نصفها(1).
فما تقدَّم يعطي فكرة موجزة عن حالة المجتمع في عهد العبيديين ، الذي هم أول من ابتدع الاحتفال بالموالد ، وسبق وذكرت أن احتفالاتهم تلك ليست نابعة من محبة للرسول صلى الله عليه وسلم وآله؛لأنَّ من بدر منه ما سبق ذكره آنفاً- وإن ادَّعى محبته- صلى الله عليه وسلم ومحبة آله ،فليس صادقاً ولا يعقل أن يصدر منه ذلك.
وإنما كان هدفهم الوحيد هو بلوغ أغراضهم السياسية، ونشر مذهبهم الإسماعيلي الباطني، واستمالة عامة الناس بإقامة الاحتفالات التي تتجلى فيها مظاهر الكرم ، والهدايا النفسية من النقود ، والجوائز للشعراء ، وكتَّاب القصر ، والعلماء ، وكذلك الإحسان للفقراء ، وإقامة الولائم . وكل هذه الأمور جديرة بأن تستميل كثيراً من الناس إلى اعتناق مذهبهم .
وبما أن نفقاتهم تلك على الاحتفالات والولائم كان القصد منها محاربة دين الله ورسوله ، وإبعاد الناس عن العقيدة الصحيحة ، والمنهج السليم ، فقد ابتلاهم الله بالجوع ونقص الأموال والثمرات . فالبرغم من رخاء مصر ، وعظم ثرائها ،والأموال التي كانت تفيض بها خزائن العبيديين ، والتي كانوا ينفقونها على ملذاتهم ، وقصورهم ، وبطانتهم الفاسدة ، واحتفالاتهم وموالدهم البدعية ، فقد حصل لأهل مصر من المجاعة ما تحدثت به كتب التاريخ ، ومن ذلك ما ذكره ابن الجوزي في ( المنتظم) فقال في حوادث سنة 462هـ - وهي من سني خلافة المستنصر -:
__________
(1) - يراجع : البداية والنهاية ( 12/ 10، 11) ، والمنتظم (7/298) .(22/147)
( وفي ذي القعدة ورد من مصر والشام عدد كثير من رجال ونساء ، هاربين من الجرف(1) والغلاء ، وأخبروا أن مصر لم يبق بها كبير أحد من الجوع والموت ، وأن الناس أكل بعضهم بعضاً ، وظُهِرَ على رجل قد ذبح عدة من الصبيان والنساء وطبخ لحومهم وباعها ، وحفر حفيرة دفن فيها رؤوسهم وأطرافهم ، فقتل . وأكلت البهائم فلم يبق إلا ثلاثة أفراس لصاحب مصر – المستنصر -بعد ألوف من الكراع ، وماتت الفيلة ، وبيع الكلاب بخمسة دنانير ، وأوقية(2) زيت بقيراط(3)، واللوز والسكر بوزن الدراهم ، والبضة بعشرة قراريط ، والراوية من الماء بدينار لغسل الثياب ، وخرج وزير صاحب مصر إلى السلطان ، فنزل عن بغلته وما معه إلا غلام واحد لعدم ما يطعم الغلمان ، فدخل ، وشُغِل الركابي(4)عن البلغة لضعف قوته فأخذها ثلاثة أنفس ومضوا بها فذبحوها وأكلوها ، فأنهى ذلك إلى صاحب مصر فتقدم بقتلهم وصلبهم ، فصُلِبُوا ، فلما كان من الغد وجدت عظامهم مرمية تحت خشبهم وقد أكلهم الناس، وباع رجل داراً بمصر كان ابتاعها بتسعمائة ديناراً فاشترى بها دون الكارة(5) من
__________
(1) - الجرف : الأخذ الكثير ، وجرفت الشيء أجرفه أي : ذهبت به كله أو جله وقد جرفه الدهر أي : اجتاح ماله وأفقره . يراجع : لسان العرب (9/25، 26) .
(2) - الأوقية:زنة سبعة مثاقيل ، وزنة أربعين درهماً ، أو نصف سدس الرطل . يراجع : النهاية (5/217) ، باب الواو مع القاف . يراجع : لسان العرب(15/404)مادة (وقى).
(3) - القيراط :جزء من أجزاء الدنيا ،وهو نصف عشره في أكثر البلاد . وأهل الشام يجعلونه جزءاً من أربعة وعشرين.يراجع :النهاية (4/42)،يراجع :لسان العرب(7/375).
(4) - الركابي : نسبة إلى الركاب ، والركاب : هو ما يركب من دابة . يراجع : لسان العرب(1/430) مادة (ركب).
(5) - الكارة : هي من الثياب ما يجمع ويشد ، وهي مقدار أو معلوم من الطعام يحمله الرجل على ظهره . يراجع : الإفصاح في فقه اللغة (2/722) .(22/148)
الدقيق).ا.هـ(1).
فخلاصة الكلام : أن العبيديين لما دخلوا مصر وأرادوا نشر مذهبهم الباطني ، متخذين التشيع ستاراً يحجب أنظار الناس عن حقيقة دعوتهم، استعملوا في سبيل ذلك شتى الوسائل:فأغروا العامة ورعاع الناس بالهدايا والولائم والاحتفالات كأداة من أدوات نشر مذهبهم ، وبالمقابل استعملوا القتل والسجن والأذى لمن عارضهم من أهل السنة المدركين لحقيقة دعوتهم. فعامة الناس كانوا متطلعين إلى هذه الاحتفالات البدعية لحاجتهم لما يُنْفق فيها من الأموال، ولرغبتهم في ترويح أنفسهم، والاستجابة لهواها.والخوف من السلطان ومن يعلم بدعية هذه الاحتفالات وغيرها من المحدثات لا يستطيع الإنكار لما ينتظره من القمع والتعذيب .
فكان مناخاً مناسباً لانتشار البدع ، وتعويد الناس عليها ، وتعليقهم بها ، لما يعلموا من وراء ذلك من الترغيب والترهيب من السلطان الظالم .
بالإضافة إلى أنهم كانوا يشعرون في قرارة أنفسهم -والله أعلم- بأنهم أدعياء على النسب الشريف ، فظنُّوا- وتحقق ظنهم – أن إقامة الموالد للنبي صلى الله عليه وسلم وآله تثبت للناس صحة نسبهم وانتسابهم إلى آل البيت ، فابتدعوا تلك الموالد وأنفقوا عليها الأموال الطائلة ، والله أعلم .
******************************
المبحث الثالث
بعض الشبه التي عرضت للقائلين بهذه البدعة
والجواب عنها .
__________
(1) - يراجع : المنتظم (8/257، 258) . يراجع كذلك : وفيات الأعيان (5/230) ترجمة المستنصر ، البداية والنهاية (12/107) ، واتعاظ الحنفا (1/279، 296- 299) .(22/149)
لما أحدثت بدعة الاحتفال بالمولد النبوي في عهد العبيديين ، وفشت وانتشرت بين الناس لوجود الفراغ الروحي والبدني معاً ، وترك المسلمون الجهاد وتأصلت هذه البدعة في النفوس، وأصبحت جزءاً من عقيدة كثير من أهل الجهل ، لم يجد بعض أهل العلم كالسيوطي -رحمه الله– بُدا من محاربة تبريرها بالبحث عن شبه يمكن أن يُستشهد بها على جواز بدعة المولد هذه ، وذلك إرضاء للعامة والخاصة أيضاً من جهة ، وتبريراً لرضى العلماء بها ، وسكوتهم عن إنكارها لخوفهم من الحكام والعوام من جهة أخرى .
ومن هذه الشبه :
1- الشبهة الأولى :
قال اليسوطي- رحمه الله - :(وقد استخرج له- أي المولد -إمام الحفاظ أبو الفضل أحمد بن حجر- العسقلاني- أصلاً من السنة ، واستخرجت له أنا أصلاً ثانياً .... فقد سُئل شيخ الإسلام حافظ العصر أبو الفضل أحمد بن حجر – العسقلاني – عن عمل المولد ، فأجاب بما نصه :(22/150)
( أصل عمل المولد بدعة لم تنقل عن أحد من السلف الصالح من القرون الثلاثة ، ولكنها مع ذلك قد اشتملت على محاسن وضدها ، فمن تحرى في عملها المحاسن ، وتجنب ضدها كان بدعة حسنة وإلا فلا . قال : وقد ظهر لي تخريجها على أصل ثابت وهو :ما ثبت في الصحيحين من أن النبي صلى الله عليه وسلم قدم المدينة فوجد اليهود يصومون يوم عاشوراء ، فسألهم فقالوا : هو يوم أغرق الله فيه فرعون ، ونجَّى موسى ، فنحن نصومه شكراً لله تعالى(1) ،فُيستفاد منه فعل الشكر لله على ما منَّ به في يوم معين من إسداء نعمة أو دفع نقمة، ويعاد ذلك في نظير ذلك اليوم من كل سنة والشكر لله يحصل بأنواع العبادة كالسجود والصيام والصدقة والتلاوة ، وأي نعمة أعظم من النعمة ببروز هذا النبي نبي الرحمة- عليه السلام - في ذلك اليوم .
وعلى هذا ، فينبغي أن يُتحرى اليوم بعينه حتى يطابق قصة موسى - عليه السلام-في يوم عاشوراء ، ومن لم يلاحظ ذلك لا يبالي بعمل المولد في أي يوم من الشهر، بل توسع قومٌ فنقلوه إلى يوم من السنة وفيه ما فيه، فهذا ما يتعلق بأصل عمله...).ا.هـ(2) .
الجواب عن هذه الشبهة : من وجوه :
الوجه الأول :
أن ابن حجر-رحمه الله- صرح في بداية جوابه أن أصل عمل المولد بدعة لم تنقل عن أحد من السلف الصالح، من القرون الثلاثة، وهذا كافٍ في ذمِّ الاحتفال بالمولد ؛ إذا لو كان خيراً لسبق إليه الصحابة والتابعون ، وأئمة العلم والهدى من بعدهم .
الوجه الثاني :
__________
(1) - رواه البخاري في صحيحه المطبوع مع فتح الباري (4/244) كتاب الصوم ، حديث رقم (2004) . ورواه مسلم في صحيحه (2/796) كتاب الصيام ، حديث رقم (1130) (128) وفيه : (( فصامه موسى شكراً لله )) بدلاً من : (( فنحن نصومه شكراً لله تعالى )) .
(2) - يراجع : الحاوي (1/196) كتاب رقم (24) .(22/151)
أن تخريج ابن حجر في فتواه عمل المولد على حديث صوم عاشوراء ، لا يمكن الجمع بينه وبين جزمه أول تلك الفتوى بأن ذلك العمل بدعة لم تنقل عن أحد من السلف الصالح من القرون الثلاثة ، فإن عدم عمل السلف الصالح بالنص على الوجه الذي يفهمه منه من بعدهم، يمنع اعتبار ذلك الفهم صحيحاً؛ إذا لو كان صحيحاً لم يعزب عن فهم السلف الصالح،ويفهمه من بعدهم.
كما يمنع اعتبار ذلك النص دليلاً عليه ؛ إذا لو كان دليلاً عليه لعمل به السلف الصالح ، فاستنباط ابن حجر الاحتفال بالمولد النبوي من حديث صوم يوم عاشوراء ،مخالف لما أجمع عليه السلف ، من ناحية فهمه، ومن ناحية العمل به ، وما خالف إجماعهم فهو خطأ ؛ لأنهم لا يجتمعون إلا على هدى .
وقد بسط الشاطبي – رحمه الله – الكلام على تقرير هذه القاعدة في كتابه الموافقات في أصول الأحكام(1).
الوجه الثالث :
أن تخريج بدعة المولد على صيام يوم عاشوراء ، إنما هو من التكلُّف المردود ؛ لأنَّ العبادات مبناها على الشرع والاتباع ، لا على الرأي والاستحسان والابتداع(2) .
الوجه الرابع :
أن صيام يوم عاشوراء قد فعله النبي صلى الله عليه وسلم ، ورغب فيه ، بخلاف الاحتفال بمولده ، واتخاذه عيداً ، فإنَّ النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعله ، ولم يرغّب فيه ، ولو كان في ذلك شيء من الفضل لبين ذلك لأمته لأنَّهُ صلى الله عليه وسلم لا خير إلا وقد دلَّهم عليه ، ورغَّبهم فيه، ولا شر إلا وقد نهاهم عنه وحذَّرهم منه، والبدع من الشر الذي نهاهم عنه، وحذرهم منه.
__________
(1) - يراجع : الموافقات (3/41-44) ، المسألة الثانية عشرة من كتاب : الأدلة الشرعية .
(2) - يراجع : الرد القوي ص(32) .(22/152)
قال صلى الله عليه وسلم : (( وإياكم ومحدثات الأمور ، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة))(1) .
قال صلى الله عليه وسلم : (( أما بعد : فإن خير الحديث كتاب الله ، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها ، وكل بدعة ضلالة))(2) . (3) .
2- الشبهة الثانية :
قال السيوطي – رحمه الله – بعد ذكره تخريج ابن حجر عمل المولد على صوم يوم عاشوراء : وقد ظهر لي تخريجه على أصل آخر وهو : ما أخرجه البيهقي عن أنس – رضي الله عنه – أن النبي صلى الله عليه وسلم عق عن نفسه بعد النبوة(4). مع أنه قد ورد أن جده عبد المطلب عق عنه في سابع ولادته ، والعقيقة لا تعاد مرة ثانية ، فُيحمل ذلك على أن الذي فعله النبي صلى الله عليه وسلم إظهار للشكر على إيجاد الله إياه رحمة للعالمين وتشريعاً لأمته ، كما كان يصلي على نفسه ،لذلك فيستحب لنا أيضاً إظهار الشكر بمولده بالاجتماع، وإطعام الطعام ، ونحو ذلك من وجوه القربات ، وإظهار المسرات(5) .
الجواب عن هذه الشبهة :
أن هذا الحديث لم يثبت عند أهل العلم :
__________
(1) - رواه ابن ماجه في سننه مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم (1/18)، المقدمة . وفي سنده عبيد بن ميمون المدني ، قال ابن حجر : مستور . تقريب التهذيب (1/545).
(2) - رواه أحمد في مسنده (3/310)ورواه مسلم في صحيحه (2/592) كتاب الجمعة ، حديث (867). ورواه النسائي في سننه (3/188،189) كتاب صلاة العيدين ، باب كيف الخطبة . ورواه ابن ماجه في سننه (1/17) المقدمة ، حديث (45) .
(3) - يراجع : الرد القوي ص(32) .
(4) - رواه البيهقي في سننه (9/300) كتاب الضحايا ، وقال : قال عبد الرزاق : إنما تركوا عبد الله بن محرر لحال هذا الحديث ، وروي من وجه آخر عن أنس وليس بشيء .
(5) - يراجع : الحاوي (1/196) كتاب رقم (24) .(22/153)
أ-فقد قال عبد الرزاق في مصنفه:أنبأنا عبد الله بن محرر عن قتادة عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم عقَّ عن نفسه بعد النبوة(1)
قال ابن قيم الجوزية بعد إيراده هذا الحديث وعزوه إلى عبد الرزاق في مصنفه قال عبد الرزاق : ( إنَّما تركوا ابن محرر لهذا الحديث )(2) .
ب- وذكر الحافظ ابن حجر في فتح الباري : أن هذا الحديث لا يثبت ، ونسبه للبزار ، وقال : قال البزار : تفرد به عبد الله – محرر – وهو ضعيف(3).
جـ - قال النووي في المجموع شرح المهذب: وأما الحديث الذي ذكره في عق النبي صلى الله عليه وسلم عن نفسه فرواه البيهقي بإسناده عن عبد الله بن محرر- بالحاء المهملة ، والراء المكررة - ، عن قتادة ، عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم عق عن نفسه بعد النبوة . وهذا حديث باطل ، وعبد الله بن محرر ضعيف متفق على ضعفه ، وقال الحفاظ : متروك . والله أعلم(4) .
د- قال الذهبي في ميزان الاعتدال- بعد أن ذكر ترجمة عبد الله بن المحرر ،وكلام الحفاظ فيه ،وأنه متروك، وليس بثقة – ومن بلاياه – عبد الله بن المحرر – روى عن قتادة عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم عق عن نفسه بعدما بُعِث(5).
3- الشبهة الثالثة :
قال السيوطي: ثم رأيت إمام القرَّاء الحافظ شمس الدين ابن الجزري قال في كتابه المسمى (عرف التعريف بالمولد الشريف)ما نصه:
__________
(1) - رواه عبد الرزاق في مصنفه (4/329) حديث رقم (7960) .
(2) - يراجع : تحفة المودود ص(88) . ودكره ابن حجر في فتح الباري (9/595) .
(3) - يراجع : فتح الباري (9/595) .
(4) - يراجع : المجموع شرح المهذب (8/431، 432) .
(5) - يراجع : ميزان الاعتدال (2/500) ترجمة رقم ( 4591) .(22/154)
( قد رؤي أبو لهب بعد موته في النوم ، فقيل له ما حالك ؟ فقال : في النار،إلا أنه يخفف عني كل ليلة اثنين، وأمص بين أصبعي ماء بقدر هذا- وأشار لرأس أصبعه-وأن ذلك بإعتاقي لثويبة ،عندما بشرتني بولادة النبي صلى الله عليه وسلم وبإرضاعها له .فإذا كان أبو لهب الكافر ، الذي نزل القرآن بذمه جوزي في النار بفرحة ليلة مولد النبي صلى الله عليه وسلم به ،فما حال المسلم الموحد من أمة النبي صلى الله عليه وسلم يسر بمولده ، ويبذل ما تصل إليه قدرته في محبته صلى الله عليه وسلم لعمري إنما يكون جزاؤه من الله الكريم أن يدخله بفضله جنات النعيم ) .ا.هـ(1) .
الرد على هذه الشبهة :
__________
(1) - يراجع : الحاوي (1/196، 197) .(22/155)
أن هذا الخبر رواه البخاري مرسلاً في باب :{وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ }(1)، و(( يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب))(2) من صحيحة،بعد أن ذكر الحديث بسنده عن عروة بن الزبير، أن زينب بنت أبي سلمة أخبرته أن أم حبيبة بنت أبي سفيان أخبرتها أنها قالت : يا رسول الله ! انكح أختي بنت أبي سفيان ،فقال : (( أو تحبين ذلك ؟)) .فقلت : نعم ، لست لك بِمُخلية ، وأحب من شاركني في خير أختي . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : (( إن ذلك لا يحل لي )) . قلت : فإنا نُحدَّث أنك تريد أن تنكح بنت أبي سلمة . قال : (( بنت أم سلمة ؟ )) . قلت : نعم . فقال : (( لو أنها لم تكن ربيبتي(3) في حجري ما حلَّت لي ، إنها لابنة أخي من الرضاعة ، أرضعتني وأبا سلمة ثويبة ، فلا تعرضن على بناتكن ولا أخواتكنّ ))(4) .
__________
(1) - سورة النساء: الآية23.
(2) - رواه البخاري في صحيحه المطبوع مع فتح الباري (5/253) كتاب الشهادات ، حديث رقم (2645) ، واللفظ له . ورواه مسلم في صحيحه (2/1071) كتاب الرضاع ، حديث رقم (1447) .
(3) - الربيبة : بنت الزوجة من غير زوجها الذي معها . يراجع : النهاية (2/180) باب الراء مع الباء .
(4) - رواه البخاري في صحيحه المطبوع مع فتح الباري (9/140) كتاب النكاح ، حديث رقم (5101) ، واللفظ له . ورواه مسلم في صحيحه (2/1072) كتاب الرضاع ، حديث رقم (1449) .(22/156)
قال عروة : وثويبة مولاة لأبي لهب ، وكان أبو لهب أعتقها فأرضعت النبي صلى الله عليه وسلم فلما مات أبو لهب أريه بعض أهله بشر حيبة(1) ، قال له : ماذا لقيت ؟ قال : أبو لهب : لم ألق بعدكم ، غير أني سقيت في هذه بعتاقتي ثويبة(2).
قال الحافظ ابن حجر : وفي الحديث دلالة على أن الكافر قد ينفعه العمل الصالح في الآخرة ، لكنه مخالف لظاهر القرآن ، قال تعالى : { وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً}(3).
وأجيب عن هذا من وجوه منها :
أن الخبر مرسل أرسله عروة ولم يذكر من حدثهُ به – كما تقدم - .
وعلى تقدير أن يكون موصلاً ، فالذي في الخبر رؤيا منام فلا حجة فيه ، ولعلَّ الذي رآها لم يكن إذ ذاك أسلم بعد فلا يحتج به(4).
أن ما ورد في مرسل عروة هذا من إعتاق أبي لهب ثويبة كان قبل إرضاعها النبي صلى الله عليه وسلم، وما ذكره ابن الجزري من أنه أعتقها عندما بشرته بولادة النبي صلى الله عليه وسلم(5): يخالف ما عند أهل السير من أن إعتاق أبي لهب إياها كان بعد ذلك الإرضاع بدهر طويل .
__________
(1) - الحيية – بكسر الحاء المهملة وفتح الباء - ، أي : بشر حال ، والحيبة والحوبة : الهم والحزن . يراجع : النهاية (1/466) باب الحاء مع الياء . وقال ابن منظور : أي بحال سوء ، وقيل : إذا بات بشدة ، وحال سيئة لا يقال إلا في الشر . يراجع : لسان العرب (1/339) مادة (حوب ).
(2) - رواه البخاري في صحيحه المطبوع مع فتح الباري (9/140) كتاب النكاح ، حديث رقم (5101).
(3) - سورة الفرقان:23 .
(4) - يراجع : فتح الباري (9/145) .
(5) - وهذا وجه الاستشهاد عند القائلين ببدعة الاحتفال بالمولد النبوي ، وأن ما حصل لأبي لهب كان بسبب فرحه بولادة النبي صلى الله عليه وسلم وإعتاقه لثويبة بشرته بولادة النبي صلى الله عليه وسلم بسبب هذا الفرح . وهذا باطل حقيقة ومعنى .(22/157)
قال ابن سعد : ( وأخبرنا محمد بن عمر – الواقدي – عن غير واحد من أهل العلم ، وقالوا : وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلها وهو بمكة، وكانت خديجة تكرمها ، وهي يومئذٍ مملوكة، وطلبت إلى أبي لهب أن تبتاعها منه لتعتقها، فأبي أبو لهب، فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، أعتقها أبو لهب ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبعث إليها بصلة وكسوة ، حتى جاءه خبرها أنها قد تُوفيت سنة سبع مرجعة من خيبر )(1) .
وقال الحافظ ابن عبد البر في ترجمة النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن ذكره إرضاع ثويبة للرسول صلى الله عليه وسلم : ( وأعتقها أبو لهب بعدما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة )(2) ا.هـ .
وقال ابن الجوزي : ( وكانت ثويبة تدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدما تزوج خديجة فيكرمها رسول الله صلى الله عليه وسلم وتكرمها خديجة ، وهي يومئذٍ أمة ، ثم أعتقها أبو لهب )(3) ا.هـ .
أنه لم يثبت من طريق صحيح أن أبا لهب فرح بولادة النبي صلى الله عليه وسلم ولا أن ثويبة بشرته بولاته ، ولا أنه أعتق ثويبة من أجل البشارة بولادة النبي صلى الله عليه وسلم وتقدم ذلك – فكل هذا لم يثبت ، ومن ادّعى ثبوت شيء من ذلك ، فعليه إقامة الدليل على ما ادَّعاه ، ولن يجد إلى الدليل الصحيح سبيلاً(4) .,
الشبهة الرابعة :
__________
(1) -يراجع : الطبقات (1/108، 109) .
(2) - يراجع : الاستيعاب (1/12) .
(3) - يراجع : الوفا بأحوال المصطفى (1/178، 179) .
(4) - يراجع : الرد القوي ص(57) .(22/158)
ومن الشبه التي استند إليها القائلون بالاحتفال بالمولد النبوي: ما رواه مسلم في صحيحه من حديث أبي قتادة الذي جاء فيه: وسئل عن صوم الاثنين ؟ . قال :(( ذاك يوم ولدت فيه ، ويوم بعثت )) أو (( أنزل عليه فيه ))(1). فقالوا : هذا دليل أنه صلى الله عليه وسلم كان يعظم يوم مولده ، وكان يعبر عن هذا التعظيم بالصوم ، وهذا في معنى الاحتفال به(2) .
الجواب عن هذه الشبهة :
أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يصم يوم ولادته ، وهو اليوم الثاني عشر من ربيع الأول – إن صح أنه كذلك - ، وإنما صام يوم الاثنين الذي يتكرر مجيئه في كل شهر أربع مرات ، وبناء على هذا فتخصيص يوم الثاني عشر من ربيع الأول ، بعمل ما دون يوم الاثنين من كل أسبوع ، يعتبر استدراكاً على الشارع ، وتصحيحاً لعلمه ، وما أقبح هذا إن كان !!!- والعياذ بالله -(3) .
__________
(1) - رواه الإمام أحمد في مسنده (5/297) . ورواه مسلم في صحيحه (2/819، 820) كتاب الصيام ، حديث رقم (1162) (197، 198) . ورواه ابن خزيمة في صحيحة (3/298، 299) حديث رقم (2117) .
(2) - يراجع : المدخل لابن الحاج (2/2، 3) ، وحوار مع المالكي ص(47) ، والرد القوي ص (61) .
(3) - يراجع : الإنصاف للجزائري ص (44) .(22/159)
أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يخص يوم الاثنين بالصيام ، بل كان يتحرى صيام الاثنين والخميس(1)، وقال صلى الله عليه وسلم : (( تُعرض الأعمال يوم الاثنين والخميس ، فأحب أن يعرض عملي وأنا صائم ))(2).
فالاستدلال بصوم يوم الاثنين على جواز الاحتفال ببدعة المولد في غاية التكلف والبعد(3) .
إذا كان المراد من إقامة المولد هو شكر الله تعالى على نعمة ولادة الرسول صلى الله عليه وسلم فيه ، فإن المعقول والمنقول يحتم أن يكون الشكر من نوع ما شكر الرسول صلى الله عليه وسلم ربه به ، وهو الصوم وعليه فلنصم كما صام ، غير أن أرباب الموالد لا يصومونه ؛ لأنَّ الصيام فيه مقاومة لشهوات النفس بحرمانها من لذة الطعام والشراب ، وهم يريدون ذلك-الطعام والشراب- فتعارض الغرضان،فآثارون ما يحبون على ما يحب الله،وهذا بعينه أعظم الزلل عند أهل البصرة(4).
__________
(1) - رواه الإمام أحمد في مسنده (6/80) . ورواه الترمذي في سننه (2/124) أبواب الصوم ، حديث رقم (742) ، وقال : حديث حسن غريب من هذا الوجه . ورواه النسائي في سننه (4/152، 153، 202، 203) كتاب الصيام ، باب (36) ، وباب (70) . ورواه ابن ماجه في سننه (1/553) كتاب الصيام ، حديث رقم (1739) .
(2) - رواه الإمام أحمد في مسنده (5/201) . ورواه أبو داود في سننه (2 /814)كتاب الصوم ، حديث ( 2436) . ورواه الترمذي في سننه (2/124) أبواب الصوم ، حديث رقم (744) ، وقال : حديث حسن غريب. ورواه النسائي في سننه (4/201، 202) كتاب الصيام .
(3) - يراجع : الرد القوي ص(62) .
(4) - يراجع : الإنصاف ص(44)(22/160)
أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يضف إلى الصيام احتفالاً كاحتفال أرباب الموالد ، من تجمعات ومدائح وأنغام وطعام وشراب ، أفلا يكفي الأمة ما كفى نبيها ويسعها ما وسعه ؟ وهل يقدر عاقل أن يقول : لا . وإذن فلم الافتيات على الشارع ، والتقدم بالزيادة عليه ، والله سبحانه وتعالى يقول : {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}(1) .
ويقول تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}(2) ، وقال صلى الله عليه وسلم : ((إياكم ومحدثات الأمور ، فإن كل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلاله))(3).
وقال صلى الله عليه وسلم : (( إن الله حد حدوداً فلا تعتدوها، وفرض لكم فرائض فلا تضيعوها، وحرم أشياء فلا تنتهكوها ، وترك أشياء في غير نسيان ولكن رحمة لكم فاقبلوها ولا تبحثوا عنها ))(4) .
5- الشبهة الخامسة :
__________
(1) - سورة الحشر: الآية7.
(2) - سورة الحجرات:1.
(3) - رواه ابن ماجه في سننه مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم (1/18) المقدمة . وفي سنده عبيده بن ميمون الدني ، قال ابن حجر : مستور . تقريب التهذيب (1/545) .
(4) - رواه البيهقي في سننه (10/12، 13) كتاب الضحايا . مرة موقوفاً ، ومرة مرفوعاً . وذكره النووي في الأربعين وقال : ( حديث حسن رواه الدار قطني وغيره . وقال ابن رجب : وله علتان : إحدهما : أن مكحولاً لم يصح له السماع عن أبي ثعلبة . والثانية : أنه اختلف في رفعه ووقفه على أبي ثعلبة الخشني ) ا.هـ .
يراجع : جامع العلوم والحكم ص (242) الحديث رقم (30) .(22/161)
ومن الشبه التي استند إليها القائلون بالاحتفال بالمولد النبوي قولهم :إن الفرح به صلى الله عليه وسلم مطلوب بأمر القرآن، من قوله تعالى :{ قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا}(1). فالله أمرنا أن نفرح بالرحمة والنبي صلى الله عليه وسلم أعظم الرحمة ، قال تعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ }(2).(3).
الجواب عن هذه الشبهة :
أن الاستدلال بهذه الآية على مشروعية الاحتفال بالمولد النبوي ، من قبيل حمل كلام الله تعالى على ما لم يحمله عليه السلف الصالح، والدعاء إلى العمل به على غير الوجه الذي مضوا عليه، في العمل به ، وهذا أمرٌ لا يليق؛ لما بينه الشاطبي في كتابه (الأدلة الشرعية من الموافقات ) وهو أن الوجه الذي يثبت عن السلف الصالح العمل بالنص عليه ، لا يقبل ممن بعدهم دعوى دلالة النص عليه . قال: إذ لو كان دليلاً عليه لم يعزب عن فهم الصحابة والتابعين ثم يفهمه هؤلاء، فعمل الأولين كيف كان مصادقاً لمقتضى هذا المفهوم، ومعارضاً له ، ولو كان ترك العمل(4)، فما عمل به المتأخرين من هذا القسم مخالف لإجماع الأولين وكل من خالف الإجماع فهو مخطئ ، وأمة محمد صلى الله عليه وسلم لا تجتمع على ضلالة، فما كانوا عليه من فعل أو ترك فهو السنَّة والأمر المعتبر، وهو الهدى ، وليس ثم إلا صواب أو خطأ ، فكل من خالف السلف الأولين فهو على خطأ، وهذا كاف... وكثير ما تجد أهل البدع والضلالة يستدلُّون بالكتاب والسنة يحملونها مذاهبهم ، ويغبرون بمشتبهاتهما في وجوه العامة ، ويظنون أنهم على شيء ، ولذلك أمثلة كثيرة :
__________
(1) -سورة يونس: الآية58.
(2) - سورة الانبياء:107.
(3) - يراجع : القول الفصل ص(32، 33) .
(4) - أي : ولو كان عملهم ترك العمل بمعنى الكف عنه .(22/162)
منها : استدلال التناسخية(1) على صحة ما زعموا بقوله تعالى:{ فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ}(2) .
__________
(1) - التناسخية : فرقة من الفرق الخارجية عن فرق الإسلام ، وهم القائلون بتناسخ الأرواح في الأجساد ، والانتقال من شخص إلى شخص ، وما يلقى من الراحة والتعب فمرتب على ما أسلفه قبل وهو في بدن آخر ، جزاء على ذلك ، وأجازوا أن ينقل روح الإنسان إلى كلب ، وروح الكلب إلى إنسان ، وأن أرواح الصديقين تسري في عمود الصبح إلى النور الذي فوق الفلك في سرور دائم ، وأرواح أهل الضلال ترد إلى السفل ، فتتناسخ في أجسام الحيوانات . وهم جملة من القدرية ، وجملة من الرافضة الغالية . كالبيانية والجناحية والخطابية والراوندية ، وأول من قال بها في دولة الإسلام السبابية من الرافضة ، لدعواهم أن علياً صار إلهاً حين حلَّ روح الإله فيه . وزعمت البيانية أن روح الإله دارت في الأنبياء ثم في الأئمة إلى أن صارت في بيان بن سمعان . يراجع الكلام عنهم في : الفرق بين الفِرق ص(253- 259) .
(2) - سورة الانفطار:8.(22/163)
واستدلال كل من اخترع بدعة ،أو استحسن محدثة لم تكن في السلف الصالح ،بأن السلف اخترعوا أشياء لم تكن في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم : ككتب المصحف ، وتصنيف الكتب ، وتدوين الدواوين ، وتضمين الصناع ، وسائر ما ذكره الأصوليون في أصل المصالح المرسلة ، فخلطوا وغلطوا، واتبعوا ما تشابه من الشريعة ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويلها ، وهو كله خطأ على الدين ، واتباع لسبيل الملحدين، فإن هؤلاء الذين أدركوا هذه المدارك، وعبروا على هذه المسالك ، إما أن يكونوا قد أدركوا من فهم الشريعة ما لم يفهمه الأولون أو حادوا عن فهمها، وهذا الأخير هو الصواب؛ إذ المتقدمون من السلف الصالح كانوا على الصراط المستقيم ، ولم يفهموا من الأدلة المذكورة وما أشبهها إلا ما كانوا عليه ، وهذه المحدثات لم تكن فيهم ، ولا عملوا بها ، فدل على أن تلك الأدلة لم تتضمن هذه المعاني المخترعة بحال ، وصار عملهم بخلاف ذلك دليلاً إجماعياً على أن هؤلاء في استدلالاهم وعملهم مخطئون ومخالفون للسنة ...... الخ(1) .
أن كبار المفسرين قد فسَّرُوا هذه الآية الكريمة ، ولم يكن في تفسيرهم أن المقصود بالرحمة في هذه الآية رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإنما المقصود بالفضل والرحمة المفروح بهما ، ما عنته الآية السابقة لهذه الآية ، وهو قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ * قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ}(2).
__________
(1) - يراجع : الموافقات (3/41-44) .
(2) - سورة يونس ، الآيتان:57 ،58.(22/164)
قال ابن جرير في تفسيره :(القول في تأويل قوله تعالى :{قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} قال أبو جعفر :يقول تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : (( قُلْ)) يا محمد لهؤلاء المكذبين بك، وبما أنزل إليك من عند ربك . ((بِفَضْلِ اللَّهِ)) أيها الناس الذي تفضل به عليكم وهو الإسلام ، فبينه لكم ، ودعاكم إليه . ((وَبِرَحْمَتِهِ)) التي رحمكم بها فأنزلها إليكم فعلَّمكم ما لم تكونوا تعلمون من كتابه ، فبصركم بها معالم دينكم وذلك القرآن (( فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ))يقول: فإن الإسلام الذي دعاهم إليه، والقرآن الذي أنزله عليهم، خير مما يجمعون من حطام الدنيا وكنوزها )(1).ا.هـ.
وقال القرطبي – رحمه الله – في (( الجامع لأحكام القرآن )) : قوله تعالي :{ قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا}. قال أبو سعيد الخدري وابن عباس – رضي الله عنهم - : فضل الله القرآن ، ورحمته الإسلام . وعنهما أيضاً : فضل الله القرآن ، ورحمته أن جعلكم من أهله .
وعن الحسن ، والضحاك ، ومجاهد ، وقتادة : فضل الله الإيمان،ورحمته القرآن - على العكس من القول الأول )(2) ا.هـ .
__________
(1) - يراجع : تفسير ابن جرير الطبري (15/105) .
(2) - يراجع : الجامع لأحكام القرآن (8/353) .(22/165)
وقال ابن كثير – رحمه الله – في تفسير : (يقول الله تعالى ممتناً على خلقه بما أنزله من القرآن العظيم ، على رسوله الكريم : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ} ، أي : زاجر عن الفواحش .{وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ}أي:من الشبه والشكوك، وهو إزالة ما فيها من رجس ودنس .{ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ} أي : يحصل به الهداية والرحمة من الله تعالى ، وإنما ذلك للمؤمنين به والمصدِّقين الموقنين بما فيه ، كقوله تعالى{ وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَاراً}(1)، قوله تعالى{.. قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفَاءٌ..... }(2)، قوله تعالى{ قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ}(3)، أي : بهذا الذي جاءهم من الله من الهدى ودين الحق ، فليفرحوا فإنَّهُ أولى ما يفرحون به )(4)ا.هـ .
وقال ابن قيم الجوزية في تفسير يقوله تعالى{قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ}:(وقد دارت أقوال السلف ، على أن فضل الله ورحمته : الإسلام والسنة)(5) ا.هـ .
وقال ابن عبد الهادي في الصارم المنكي في الرد على السبكي:(...ولا يجوز إحداث تأويل في آية، أو في سنة لم يكن على عهد السلف ولا عرفوه ، ولا بيَّنُوه للأمة ،فإن هذا يتضمن أنهم جهلوا الحق في هذا، وضلوا عنه ، واهتدى إليه هذا المعترض المستأخر فكيف إذا كان التأويل يخالف تأويلهم ويناقضه ؟ .....)(6)ا.هـ .
__________
(1) - سورة الاسراء:82.
(2) -سورة فصلت: الآية44.
(3) - سورة يونس ، الآيتان:57 ،58.
(4) - يراجع : تفسير ابن كثير (2/420، 421) .
(5) - يراجع : اجتماع الجيوش الإسلامية ص(6) .
(6) - يراجع : الصارم المكني ص(427) .(22/166)
والشبه التي استند إليها القائلون بالاحتفال بالمولد النبوي كثيرة ، وليس هذا مجال حصرها ؛ لأن استقصاءها والإحاطة بها ، تحتاج إلى مؤلف منفرد خاص بها ، والقصد هنا هو الإشارة والتنبيه إلى بعض هذه الشبه، وقد ذكرت بشكل موجز ردود العلماء على هذه الشُّبه ، وأنه ليس في أي واحدة منها دليل على جواز الاحتفال بالمولد النبوي .ولكن القائلين بهذه البدعة أرادوا إضفاء الصبغة الشرعية على هذا الأمر المبتدع ، فاستشهدوا بهذه الأدلة، وفسَّرُوها بما يوافق هواهم ، وعقيدتهم الفاسدة، فكانوا كما قال تعالى : {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ}(1) - والله أعلم -.
****************************************
المبحث الرابع
طريقة إحياء المولد
قال المقريزي في (( الخطط )) يصف جلوس الخليفة في الموالد الستة :
(( فإذا كان اليوم الثاني عشر من ربيع الأول ، تقدَّم – الخليفة – بأن يعمل في دار الفطرة(2): عشرون قناطراً من السكر اليابس حلواء يابسة من طرائفها ، وتعبأ في ثلاثمائة صينية من النحاس ، وهو مولد النبي صلى الله عليه وسلم ، فتفرق تلك الصواني في أرباب الرسوم من أرباب الرتب ، وكل صينية في قوارة(3)
__________
(1) - سورة الجاثية:23.
(2) - تقع خارج القصر ، بناها العزيز بالله ، وقرر فيها ما يعمل ، مما يحمل إلى الناس في العيد ، وهي قبالة باب الديلم من القصر ، الذي يدخل منه إلى المشهد الحسيني .
يراجع : الخطط المقريزي (1/425) .
(3) - القوارة : مشتقة من قوارة الأديم والقرطاس ، وهو ما قورت من وسطه ورميت ما حواليه ، كقوارة الجيب إذا قورته وقرته ، وكل شيء قطعت من وسطه خرقاً مستديراً فقد قورته .
يراجع : لسان العرب (5/123) مادة ( قور ) .(22/167)
، من أول النهار إلى ظهره ، فأول أرباب الرسوم قاضي القضاة، ثم داعي الدعاة ، ويدخل في ذلك القراء بالحضرة والخطباء ، والمتصدرون بالجوامع ، وقومة المشاهد ........
فإذا صلَّى الخليفة،ركب قاضي القضاة،والشهود بأجمعهم إلى الجامع الأزهر(1)، ومعهم أرباب تفرقة الصواني، فيجلسون مقدار قراءة الختمة الكريمة ، ثم يستدعى قاضي القضاة ومن معه ، وقد كنست الطريق ، ورشت بالماء رشاً خفيفاً، وفرش تحت المنظرة(2)
__________
(1) - هو أول مسجد أسس بالقاهرة ، والذي أنشأه القائد جوهر الصقلي مولى المعز لدين الله ، لما اختط القاهرة ، وشرع في بنائه سنة 359هـ وكمل بناؤه سنة 361هـ .
يراجع : الخطط المقريزي (2/273) .
(2) - المنظرة : موضع في رأس جبل فيه رقيب ينظر العدو ، والمنظرة المرقبة . يراجع : لسان العرب (5/217) مادة (نظر ) .
والمراد بها هنا : هي الأماكن التي كان يشرف منها الخلفاء العبيديون على الاحتفال ببعض الأعياد . يراجع : تاريخ الدولة الفاطمية ص(634) .(22/168)
الرمل الأصفر ، فيقربون من المنظرة ويترجلون قبل الوصل إليها بخطوات ، فيجتمعون تحت المنظرة دون الساعة الزمانية بسمت وتشوف لانتظار الخليفة، فتفتح إحدى الطاقات(1)،فيظهر منها وجهه-الخليفة-وما عليه من المنديل وعلى رأسه عدة من الأستاذين(2) المحنكين، وغيرهم من الخواص ، ويفتح بعض الأستاذين طاقة ويخرج منها رأسه ويده اليمنى في كمه ويشير به قائلاً : أمير المؤمنين يرد عليكم السلام . فيسلم بقاضي القضاة أولاً بنعوته ، وبصاحب الباب بعده كذلك،وبالجماعة الباقية جملة جملة من غير تعيين أحد،فيستفتح قراء الحضرة بالقراءة، ويكونون قياماً في الصدر، وجوههم للحاضرين ، وظهورهم إلى حائط المنظرة، فيقدم خطيب الجامع الأنور(3)
__________
(1) - الطاقات : جمع طاق ، وهو ما عطف من الأبنية ، هو الذي يعقد بالآجر . يراجع : لسان العرب (10/232، 233).
(2) - هم الخدم والطواشية ، ومنهم أرباب الوظائف المختصون بشئون الخليفة واحتياجاته ، وأعظمهم مكانه الأستاذون المحنكون الذين يديرون عمائمهم على أحناكهم ، وهم أقرب الخدام إلى الخليفة ، ومنهم من يحمل رسائل الخليفة إلى الوزير ، ومن يشرف على إعداد مجلسه ....... الخ . يراجع : صبح الأعشى (3/477) .
(3) - ويقع خارج باب الفتوح – أحد أبواب القاهرة - ، وأول من أسسه العزيز بالله ، وخطب فيه وصلى بالناس الجمعة ، ثم أكمله ابنه الحاكم بأمر الله ، وكان تأسيسه سنة380هـ ، وانتهى بناؤه على يد الحاكم سنة 403هـ .
يراجع : الخطط المقريزي (2/277) .(22/169)
المعروف بجامع الحاكم ، فيخطب كما يخطب فوق المنبر،إلى أن يصل إلى ذكر النبي صلى الله عليه وسلم فيقول : وإن هذا يوم مولده إلى ما من الله به على ملَّة الإسلام من رسالته ،ثم يختم كلامه بالدعاء للخليفة ، ثم يؤخر ، ويقدم خطيب الجامع الأزهر، فيخطب كذلك ، ثم خطيب الجامع الأقمر(1) فيخطب كذلك ، والقراء في خلال خطابة الخطباء ، يقرأون !!! .
فإذا انتهت خطابة ، أخرج الأستاذ رأسه ويده في كمه من طاقته ،وردّ على الجماعة السلام ،ثم تغلق الطاقتان فتنفض الناس، ويجري أمر الموالد الخمسة الباقية على هذا النظام ، إلى حين فراغها على عدتها من غير زيادة ولا نقص ))(2)ا.هـ .
وقال ابن خلكان في وصف احتفال مظفر الدين أبو سعيد كوكبوري صاحب إربل بالمولد النبوي :
__________
(1) - بناه الآمر سنة 519هـ بواسطة وزيره المأمون بن البطائحي ، وكان مكانه دكاكين علافين ، وأول جمعة أقيمت فيه سنة 799هـ بعد أن جدده الأمير أريلبغا أحد المماليك الظاهرية . يراجع : الخطط المقريزي (2/290) .
(2) - يراجع : الخطط المقريزي (1/433) .(22/170)
(( وأما احتفاله بمولد النبي صلى الله عليه وسلم ، فإنَّ الوصف يقصر عن الإحاطة به ،لكن نذكر طرفاً منه: وهو أن أهل البلاد كانوا قد سمعوا بحسن اعتقاده فيه ، فكان في كل سنة يصل إليه من البلاد القريبة من إربل(1)خلق كثير من الفقهاء والصوفية(2) والوعاظ والقراء والشعراء ، ولا يزالون يتواصلون من المحرم إلى أوائل شهر ربيع الأول ، ويتقدم مظفر الدين بنصب قباب من الخشب، كل قبة أربع أو خمس طبقات ،ويعمل مقدار عشرين قبة أو أكثر، منها قبة له ، والباقي للأمراء وأعيان دولته لكل واحد قبة، فإذا كان أول صفر زيَّنُوا تلك القباب بأنواع الزينة الفاخرة المستجملة، وقعد في كل قبة جوق(3)من المغاني، وجوق من أرباب الخيال، ومن أصحاب الملاهي ، ولم يتركوا طبقة من تلك الطباق في كل قبة حتى رتبُوا فيها جوقاً ، وتبطل معايش الناس في تلك المدة ، وما يبقى لهم شغل إلا التفرج والدوران عليهم .....، فكان مظفر الدين ينزل كل يوم بعد صلاة العصر ، ويقف عليها قبة قبة إلى آخرها ، ويسمع غناءهم ، ويتفرج على خيالاتهم، وما يفعلونه في القباب، ويبيت في الخانقاه(4)، ويعمل السماع(5)
__________
(1) - مثل بغداد والموصل والجزيرة وسنجار ونصيبين ، وبلاد العجم وغيرها من النواحي .
(2) - الصوفية: التصوف : طريقة كان ابتداؤها الزهد الكلي ، ثم ترخص المنتسبون إليها بالسماع والرقص ، وهم بين الكفر والبدع ، وتشعبت بهم الطرق حتى فسدت عقائدهم حتى قالوا بالحلول والاتحاد . يراجع : تلبيس إبليس ص(161-169) .
(3) - الجوق : الجماعة من الناس ، وقال ابن سيده : أحسبه دخيلاً . يراجع : لسان العرب (10/37) مادة (جوق) .
(4) - الخناقاه : رباط الصوفية . معرب مولد استعمله المتأخرون . يراجع : شفاء الغليل فيما في كلام العرب من الدخيل ص(113) .
(5) - السماع : ما يتخذه بعض الناس طريقاً ، يجتمع عليه أهل الديانات لصلاح القلوب ، والتشويق إلى المحبوب ، والتخويف من المرهوب ، والتخزين على فوات المطلوب ، فتستنزل به الرحمة ، وتستجلب به النعمة ، وتحرك به مواجيد أهل الإيمان وتستجلي به مشاهد أهل العرفان ، حتى يقول بعضهم : إنه أفضل لبعض الناس أو للخاصة من سماع القرآن من عدة وجوه ، حتى يجعلونه قوتاً للقلوب ، وغذاء للأرواح ، وحادياً للنفوس ، يحدوها إلي السير إلى الله ، ويحثها على الإقبال عليه .
والسماع : أمر محدث حدث في أواخر المائة الثانية ، فأنكره الأئمة ومنهم الشافعي وأحمد ولم يحضره الصالحون كابن أدهم والفضيل ، وقال الشافعي : أنه من إحداث الزنادقة كابن الراوندي ، والفرابي ، وابن سينا ، والمتخذين للسماع هم الصوفية .
يراجع : : مجموعة فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (11/562- 571) ، وتلبيس إبليس ص(242-250) ، ومجموعة الرسائل والمسائل لابن تيمية (1/47- 48) .(22/171)
، ويركب عقيب صلاة الصبح يتصيد ، ثم يرجع إلى القلعة(1) قبل الظهر. هكذا يعمل كل يوم إلى ليلة المولد.وكان يعمله سنة في ثامن الشهر، والسنة في الثاني عشر؛ لأجل الاختلاف الذي فيه ،فإذا كان قبل المولد بيومين أخرج من الإبل والبقر والغنم شيئاً كثيراً زائداً على الوصف، وزفها بجميع ما عنده من الطبول والمغاني والملاهي، حتى يأتي بها إلى الميدان،ثم يشرعون في نحرها، وينصبون القدور ، ويطبخون الألوان المختلفة ، فإذا كانت ليلة المولد عمل السماعات بعد أن يصلي المغرب في القلعة ، ثم ينزل وبين يديه الشموع المشتعلة شيء كثير ، وفي جملتها شمعتان أو أربع -أشك في ذلك- من الشموع الموكبية(2) ، التي تحمل كل واحدة منها على بغل ، ومن ورائها رجل يسندها ،وهي مربوطة على ظهر البغل ، حتى ينتهي إلى الخانقاه . فإذا كان صبيحة يوم المولد أنزل الخلع من القلعة إلى الخانقاه على أيدي الصوفية على يد كل واحد منهم بقجة(3)، وهم متتابعون ، كل واحد وراء الآخر ، فينزل من ذلك شيء كثير لا أتحقق عدده ، ثم ينزل إلى الخانقاه ، وتجتمع الأعيان والرؤساء ، وطائفة كبيرة من بياض الناس ، وينصب كرسي للوعَّاظ ، وقد نصب لمظفر الدين برج خشب له شبابيك إلى الموضع الذي في غاية الاتساع ، ويجتمع فيه الجند ، ويعرضهم ذلك النهار ، وهو تارة ينظر إلى عرض الجند وتارة إلى الناس والوعاظ ، ولا يزال كذلك حتى يفرغ الجند من عرضهم ، فعند يقدم السماط في الميدان للصعاليك ، ويكون سماطاً عاماً فيه من الطعام والخير شيء كثير لا يحد ولا يوصف ، ويمد سماطاً ثانياً
__________
(1) - وهي قلعة إربل المشهورة .
(2) - نسبة إلى الموكب ، والموكب : جماعة من الناس ركباناً ومشاة ، وكذلك القوم الركوب على الإبل للزينة ، وكذلك جماعة الفرسان . يراجع : لسان العرب (1/802) مادة (وكب) .
(3) - بقبجة : من المولد . وهي ظرف من القماش المعروف . . يراجع : شفاء الغليل فيما في كلام العرب من الدخيل ص(79) .(22/172)
في الخانقاه للناس المجتمعين عند الكرسي ، وفي مدة العرض ، ووعظ الوعاظ يطلب واحداً واحداً من الأعيان والرؤساء ، والوافدين لأجل هذا الموسم ، من الفقهاء والوعاظ والقراء والشعراء، ويخلع على كل واحد ، ثم يعود إلى مكانه فإذا تكامل ذلك كله ، حضروا السماط وحملوا منه لمن يقع التعيين على الحمل إلى داره ، ولا يزالون على ذلك إلى العصر أو بعدها ، ثم يبيت تلك الليلة هناك ، ويعمل السماعات إلى بكرة ...... هكذا يعمل في كل سنة ، وقد لخصت صورة الحال، فإن الاستقصاء يطول ، فإذا فرغوا من هذا الموسم ،تجهز كل إنسان للعودة إلى بلده فيدفع لكل شخص شيئاً من النفقة ))(1) ا.هـ .
وقال ابن كثير في ترجمة المظفر كوكبوري : (قال السبط : حكى بعض من حضر سماط المظفر في بعض الموالد ، كان يمد ذلك السماط خمسة آلاف رأس مشوي ، وعشرة آلاف دجاجة ، ومائة ألف زبدية ، وثلاثين ألف صحن حلوى ، قال : وكان يحضر عنده في المولد أعيان العلماء والصوفية فيخلع عليهم،ويطلق لهم، ويعمل للصوفية سماعاً من الظهر إلى الفجر ويرقص بنفسه معهم، وكان يصرف على المولد في كل سنة ثلاثمائة ألف دينار ، وكانت له دار ضيافة للوافدين من أي جهة على أي صفة ، فكان يصرف على هذه الدار في كل سنة مائة ألف دينار )(2) ا.هـ .
__________
(1) - يراجع : وفيات الأعيان (4/117-119) . وكان من ولع الملك المظفر بعمل المولد أن صنف له أبو الخطاب بن دحية مجلداً في المولد النبوي سماه : كتاب التنوير في مولد البشير النذير ، فأجازه على ذلك بألف دينار .
يراجع : وفيات الأعيان (3/449، 450) .
(2) - يراجع : البداية والنهاية (13/131) ، والحاوي للسيوطي (1/189، 190) .(22/173)
وقال السندوبي في وصف الاحتفال بالمولد النبوي في القاهرة(1) سنة 1250هـ- في هذا العهد كان العالم الإنجليزي (ادوارد وليم لين ) يزور القاهرة فشاهد الاحتفال بالمولد النبوي -، فوصفه وصفاً شيقاً ......
(( قال- وليم لين- (( في أول ربيع الأول والشهر الثالث من شهور السنة الهجرية ، يبدأ الاستعداد للاحتفال بمولد النبي صلى الله عليه وسلم ، وأكبر ساحات هذا الاحتفال شأناً : الجزء الجنوبي الغربي المعروف ببركة الأزبكية ، وفي هذه الساحة أقيمت صيوانات(2) كثيرة للدراويش(3)، وفيها يجتمعون كل ليلة للقيام بحلقات الذكر ما دام الاحتفال بالمولد ، وبين هذه الصيوانات ينصب صاري(4) يثبت بالحبال ويعلق فيه من القناديل اثنا عشر أو أكثر ، وحول هذا الصاري تقوم حلقة الذكر ، وهي تتكون عادة من نحو خمسين أو ستين درويشاً .
__________
(1) - هي المدينة الكبيرة التي أحدثها جوهر الصقلي غلام المعز – الخليفة العبيدي – وذلك فور دخوله مصر سنة 358هـ ، وقد فصل ابن تغزي بردي الكلام عنها في بنائها وصفتها وحاراتها وأسواقها فليراجع في كتابه (( النجوم الزاهرة )) (4/34- 54) . وكذلك المقريزي في الخطط والآثار (1/359-380) . وهي الآن عاصمة مصر . ويزيد سكانها عن ثمانية ملايين نسمة . تقع على نهر النيل .
(2) - لم أعثر معنى لهذه الكلمة في المعاجم اللغوية المشهورة ، ولعلها من الدخيل . والذي يتبادر إلى الذهن – والله أعلم – أن الصيوانات جمع صيوان : والصيوان هو الخيمة الكبيرة من الصوف أو القماش ، والتي تستعمل عادة في المناسبات وتضرب عادة خارج المنازل .
(3) - لم أعثر معنى لهذه الكلمة على معنى في الكتب التي اطلعت عليها . ولعل المراد بهم – والله أعلم – عوام الصوفية .
(4) - صاري السفينة :الخشبة المتعرضة في وسطها . وهو دقل السفينة الذي ينصب في وسطها قائماً ، ويكون عليه الشراع . يراجع : لسان العرب (14/460) مادة (صرى) .(22/174)
وفي اليوم الثاني من الشهر ينتهون من إقامة معالم الاحتفال ومعداته – في العادة – ثم يشرعون في اليوم التالي في مظاهر الاحتفال ليلاً ونهاراً إلى الليلة الثانية عشرة من الشهر ، وهي ليلة المولد الكبرى .... ففي النهار يتسلى الناس في الساحة الكبرى بالاستماع إلى الشعراء ، والتفرج على الحواة(1) ونحوه .
أما الغواني فقد أكرهتهن الحكومة من عهد قريب على التوبة وترك مهنتهن من رقص ونحوه ، فلا أثر لهن في احتفال هذه السنة ، وكن في الموالد السابقة من أكثر العالمين في الاحتفال اجتذاباً للمتفرجين !!!.....
أما في الليل فتضاء الشوارع المحيطة بساحة المولد، بقناديل كثيرة، تعلق غالباً في فوانيس من الخشب، ومن دكاكين المأكولات ، ونصبات الحلوى ما يبيت مفتوحاً طوال الليل ، وكذلك القهاري التي قد يكون في بعضها ، وفي غيرها من الأماكن : شعراء ومحدثون ، ينصت إليهم كل من أراد من المارة .
أما في الليلتين الأخيرتين فيكون المولد أكثر زحاماً وأسباب التفرج والمسليات أعظم منها في الليالي السابقة(2) .
__________
(1) - الحواة : جمع حاوي ، وهو الذي يرقي الحيات ويجمعها ، والرجل يقوم بأعمال غريبة (مولد ) والجمع حواة .
يراجع : المعجم الوسيط (1/209) مادة (حوى) .
(2) - يراجع : تاريخ الاحتفال بالمولد النبوي ص(174- 177) .(22/175)
ثم وصف المؤلف الإنجليزي – ادوارد وليم لين – مجلساً كاملاً من مجالس الذكر التي تعمل في الموالد وغيرها فقال : وفي ليلة المولد الكبرى ذهبت إلى الساحة الرئيسة ، فرأيت ذكراً قوامه ستين درويشاً ، حول صاري ، وكان ضوء كافياً لإنارة الساحة ، وكان الدرويش حول الصاري من طوائف مختلفة وكانوا يقولون : [يا الله] ثم يرفعون رؤوسهم ، ويصفقون جميعاً بأيديهم أمام وجوههم ، وكان داخل حلقة الذكر خلق كثير قد جلسوا على الأرض ، ولبث الذكيرة يذكرون على هذا النحو مقدار نصف ساعة، ثم انقسموا جماعات، كل جماعة من خمسة أو ستة، ولكنهم بقوا يكونون حلقة واسعة، ثم أمسك أفراد كل جماعة بعضهم ببعض كل منهم ، ما عدا الأول قد وضع ذراعه اليمنى على ظهر من يليه يساراً ، ويده على الكتف اليسرى – كتف من يليه – ثم اتجهوا إلى النظارة-المتفرجين-خارج الحلقة ، وأخذوا يذكرون (الله) بصوت أجش عميق ، وهم في هذه الحالة يتقدمون إلى الأمام خطوة ، ثم إلى الوراء خطوة ، مع تحرك كل منهم قليلاً إلى اليسار فكانت الحلقة كلها تدور ولكن ببطء شديد ، وكان كل منهم يمد يده اليمنى نحو النظارة خارج الحلقة مشيراً بالتحية ، وهؤلاء أو أغلبهم كانوا يردون السلام على الذكيرة ، وأحياناً كان بعضهم يقبل اليد الممتدة إليه إذا قابلت وجهه متى كانوا قريبين منهم.......، ومن الوائد المتبعة عندهم أن يسكت من في الصواوين من الذكيرة ، متى كان الذكر حول الصاري ))(1) ا.هـ .
وقال السندوبي – أيضاً – في كتابه (( تاريخ الاحتفال بالمولد النبوي )) :
__________
(1) - يراجع : تاريخ الاحتفال بالمولد النبوي ص(188- 189) .(22/176)
(( ومن الليالي الغر التي لا أنساها ما حييت، ليلة الثاني عشر من ربيع الأول سنة 1364هـ الموافق 24فبراير سنة 1945م(1) والتي تُعدُّ بحق مثالاً لما يجب أن يكون عليه الاحتفال بذكرى المولد النبوي الشريف في كل عام : فقد شهدت في ساحة المولد(2) معالم الزينة التي تأخذ بالألباب،ومظاهر الاحتفال التي بدت في شكل فخم، ونظام جليل هناك ،وفي هذا الميدان المترامي الأطراف ، أُقيم السرادق(3) الملكي البديع ، وقد تجلَّى في زخارفه وماس(4)في أستاره ومطارفه(5)، وفرش بالطنافس(6) الثمينة،وصفت في رحابه الأرائك(7)
__________
(1) -أي : في عهد الملك فاروق الأول – آخر ملوك مصر - .
(2) - ذكر السندوبي أنها تقع بصحراء قايتباي – المعروف عند العامة بصحراء الخفير - .
(3) - السرادق : ما أحاط بالبناء ، وقيل : كل ما أحاط بشيء نحو الشقة في المضرب ، أو الحائط المشتمل على الشيء ، وهو كل ما أحاط بشيء من حائط أو مضرب أو خباء .
يراجع : لسان العرب (10/157) مادة (سردق) . والمراد به هنا – والله أعلم - : المخيم الكبير .
(4) - ماس : الميس التبختر ، وماس يميس ميساناً : يراجع واختال .
يراجع : لسان العرب (6/244) مادة (ميس) .
(5) - المطارف : جمع مطرف ، وهي أردية من خز مربعة لها أعلام ، وقيل : المطرف من الثياب : ما جعل في طرفيه أعلام . يراجع : لسان العرب (9/220) مادة (طرف) .
(6) - الطنافس : جمع طنفسة : وهي البساط الذي له خَمْلٌ رقيق . يراجع : لسان العرب (6/127) مادة (طنفس) .
(7) - الأرائك : جمع أريكة : وهي سرير منجد في قبة أو بيت . وقيل : كل ما اتكئ عليه من سرير أو فراش أو منصة .
يراجع : لسان العرب (10/389، 390) مادة (أرك) .(22/177)
المحلاة بالذهب،وانتثرت في جنباته النمارق(1) الموصوفة، واسترسلت في ساحته الكلل(2)الحريرية، ورفعت على سواريه الأعلام الملكية، وعلقت في مداخله المصابيح الباهرة الأنوار ،وفي سماواته الثريات الآخذة بالأبصار ....، كما فُرشت أرض الميدان بالرمل الأصفر والأحمر ، ووقف على أبوابه رجال الحرس الملكي في ملابسهم المزركشة...ووفد على هذه السرادق وزراء الدولة، وشيخ الأزهر ،وطوائف العلماء!!، ووكلاء الوزارات، وكبار الموظفين، وكبراء الأمة، وأعيان الناس، من ذوي المراتب والألقاب، وجميع هؤلاء قد وقف في جلال ووقار، انتظاراً لتشريف حضرة الملك المعظم ، أو من ينتدب للإنابة عنه في حضور الاحتفال.
وقبيل الظهر بساعة بينما هذا الجمع الحاشد في الانتظار .... وصل الركب الملكي الفخم ، وقد أقبل جلالته بوجهه المشرق على هذه الجموع ، مشيراً بيده الكريمة إشارة التحية والسلام ، واستقبله بعد ذلك كبار الشخصيات الموجودة في السرادق.....، وعندما وصلت المركبة الملكية قبالة السرادق الملكي العظيم، سمعت طلقات المدافع تدوي تحية الملك ، وتعالت أصوات قوات الجيش هاتفة بحياته ، ثم أخذت الموسيقى تصدح بأنغامها الشجية بالسلام الملكي ...... ، وبعد الانتهاء من عرض الجيش تقدمت بين يدي الملك مشايخ الطرق الصوفية برجالها ومريديها ،حاملين لأعلامهم وشاراتهم ،وكل شيخ يمر بين يديه يقف هنيهة لقراءة الفاتحة ، وتلاوة بعض الأدعية المأثورة بطريقتهم المعروفة في القراءة والدعاء ،ثم يهتفون جميعاً بحياة الفاروق ثلاثاً.
__________
(1) - النمارق : هي الوسائد ، ومنها ما يفرش تحت الراكب على الراحلة . يراجع : لسان العرب (10/361) مادة (نمرق) .
(2) - الكلل : جمع كلة ، وهي الستر الرقيق يضرب على القبور ، وقيل : هي ما خيط من الستور فصار كالبيت ، وقيل : هي ستر رقيق يخاط كالبيت يتوقى فيه من البعوض . يراجع : لسان العرب (11/595) مادة (كلل) .(22/178)
ولما انتهى مرور أصحاب الطرق ، عاد الملك إلى السرادق الملكي ، حيث قدمت صنوف الحلوى ، وأنواع المرطبات ، فتناول منها جميع الحاضرين وبعد فترة قصيرة بارح جلالته السرادق الملكي قاصداً تشريف سرادق السادة البكرية(1)، وما إن أشرف عليه حتى نهض شيخ مشايخ الطرق الصوفية(2) ، وحوله جماعة من كبار المشايخ لاستقبال جلالته بما يليق بمقامه الكريم ، ثم ألقيت قصة المولد الشريف ، وما إن وصل القارئ إلى ذكر مولده صلى الله عليه وسلم حتى نهض الملك واقفاً إجلالاً وإعظاماً لهذه الذكرى الكريمة وبوقوفه وقف الجمع الحاشد في كمال الخشوع والإكرام ، وعند الانتهاء من إلقاء القصة والدعاء للملك ، بدأ القرَّاء في تلاوة ما يتيسر من القرآن الكريم ، بترتيل حسن ، وتنغيم مطرب جميل!!! وجميع القراء من مشهوري المجودين، ومذكوري الملحنين !!، وأصحاب الأصوات الشجية ، والأنغام العذبة الندية ، ثم تقدم الخدم والفراشون بصواني الحلوى ، وأكواب المرطبات إلى بين يدي الملك ليتناول منها ما يشاء ، كما أديرت بعد ذلك على سائر الحاضرين فتناول كل أحد منهم ما لذَّ وطاب ،وفي أثناء إلقاء القصة الشريفة لم تنقطع المدافع عن دويها المطلق بنظام محكم ، وترتيب بديع ، كما أخذ المذيع بالراديو في ترديد القصة من أبواقه لإسماع الجمهور ، وبعد ذلك نهض الملك وقرأ الفاتحة ، وشاركه في قراءتها جميع الحاضرين))(3) ا.هـ .
وقال السندوبي – أيضاً – في معرض كلامه عن المولد سنة 1366هـ :
__________
(1) - وكان لبيت السادة البكرية في إحياء المولد النبوي الشأن العظيم والقدح المعلى ، والعناية الفائقة منذ دهر . قاله السندوبي في تاريخ الاحتفال بالمولد النبوي ص(190) .
(2) - وهو في ذلك الوقت أحمد مراد البكري . يراجع : تاريخ الاحتفال بالمولد النبوي ص(190) .
(3) - يراجع : تاريخ الاحتفال بالمولد النبوي ص(196- 200) .(22/179)
((وفي صبيحة يوم اثنا عشر من ربيع الأول عطلت أعمال الحكومة في وزاراتها ودواوينها ومصالحها، كما عطلت الأعمال في الدوائر المالية والتجارية احتفالاً بذكرى المولد النبوي الشريف على جاري العادة ))(1) ا.هـ.
فما تقدم من النصوص التي وصفت طريقه إحياء المولد النبوي في عصور مختلفة ، يؤكد لنا أن هذه الاحتفالات ليست إلا تلبية لشهوات ورغبات النفوس المريضة من الناس، ومراسم هذه الاحتفالات من الأكل والشرب وإنشاد القصائد،واختلاط النساء بالرجال، وأعمال اللهو وما يؤول على القائمين على هذه الاحتفالات من الأموال، والعطايا والهدايا، خير شاهد على ما ذكرت.
فليس القصد كما يدعُون تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم والفرح بذكرى مولده ، وإحياء ذكره ، وإثبات محبتهم له صلى الله عليه وسلم بتلك الاحتفالات المبتدعة .
وكون هذه الاحتفالات أمر محدث مبتدع فهذا كاف في ذمِّها ، والتحذير منها، لاسيما وأن من ابتدعها إنما ابتدعها بسوء نية، كما تقدم بيان ذلك(2).
وربَّما شذَّ عن هذه القاعدة أناس فعلوا ذلك عن حسن نية ولكن حسن النية لا يبيح الابتداع في الدين ، فمن قبلنا من الملل كانوا يبتدعون قي دينهم أموراً بقصد التعظيم وحسن النية ،حتى صارت أديانهم غير ما جاءت به رسلهم ، ولو تساهل سلفنا الصالح كما تساهلوا ،وكما تساهل الخلف الذين اتبعوا سننهم شبراً بشبراً وذراعاً بذراع ،لضاع أصل ديننا ، لاسيما وأن هذه الاحتفالات لا تخلو من الشرك الأكبر وهو التوسل بالرسول صلى الله عليه وسلم والاستغاثة به ، ودعاؤه ، واللجوء إليه ، ومن المعلوم أن الشرك الأكبر مُخْرِجٌ من الملة .
__________
(1) - يراجع : تاريخ الاحتفال بالمولد النبوي ص(212) .
(2) - في المبحث الأول من الفصل الثالث في هذا الكتاب .(22/180)
ولكن الله تكفل بحفظ هذا الدين ، وجعل السلف الصالح من تبع نهجهم وآثارهم سبب هذا الدين . ومحبة الرسول صلى الله عليه وسلم الحقيقة والصادقة هي طاعته فيما أمر ، وترك ما نهى عنه وزجر ، وأن لا يعبد الله إلا بما شرع ، وتعظيمه يكون بالصلاة عليه ، والالتزام بسنته ، والعمل بها ، والذبِّ عنها ، كما سنوضح ذلك في المبحث التالي – إن شاء الله – والله أعلم .
*********************************
المبحث الخامس
حقيقة محبته صلى الله عليه وسلم
اختلف الناس في تفسير محبة الله ومحبة النبي صلى الله عليه وسلم وكثرت عباراتهم في ذلك وليست تراجع في الحقيقة إلى اختلاف مقال ، ولكنها اختلاف أحوال :
فقال سفيان : ( المحبة اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم كأنه التفت إلى قوله تعالى :{ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}(1).
وقال بعضهم : محبة الرسول صلى الله عليه وسلم اعتقاد نصرته ، والذب عن سنته ، والانقياد لها ، وهيبة مخالفته .
وقال بعضهم : المحبة دوام الذكر للمحبوب .
وقال آخر : إيثار المحبوب .
وقال بعضهم : المحبة : مواطأة القلب لمراد الرب ، يحب ما أحب ويكره ما كره .
وقال آخر : المحبة : ميل القلب إلى موافق له(2) .
وأكثر العبارات المتقدمة إشارة إلى ثمرات المحبة دون حقيقتها .
__________
(1) - سورة آل عمران:31.
(2) - يراجع : شرح الشفا (2/578،579) .(22/181)
وحقيقة المحبة: الميل إلى ما يوافق الإنسان، وتكون موافقته له إما لاستلذاذه بإدراكه ،كحب الصور الجميلة، والأصوات الحسنة، والأطعمة والأشربة اللذيذة وأشباهها ، مما كل طبع مائل إليها لموافقتها له ، أو لاستلذاذه بإدراكه بحاسة عقله وقلبه معاني باطنة شريفة ، كمحبة الصالحين والعلماء وأهل المعروف ، والمأثور عنهم السير الجميلة والأفعال الحسنة ، فإن طبع الإنسان مائل إلى الشغف بأمثال هؤلاء حتى يبلغ التعصب بقوم ، والتشيع من أمة في آخرين ، ما يؤدي إلى الجلاء عن الأوطان ، وهتك الحرم ، واخترام(1) النفوس .
أو يكون حبه إياه لموافقته له من جهة إحسانه له ، وإنعامه عليه ،وقد جبلت النفوس على حب من أحسن إليها .
فإذا تقرر هذا : نظرت هذه الأسباب كلها في حقه صلى الله عليه وسلم فعلمت أنه صلى الله عليه وسلم جامع لهذه المعاني الثلاثة الموجبة للمحبة: أما جمال الصورة ، والظاهر ، وكمال الأخلاق ، والباطن فهو أعلى الناس فيها قدراً، وأكملهم محاسن وفضلاً(2) .
وأما إحسانه وإنعامه على أمته ، فقد ذكره الله في كتابه العزيز في مواطن عدَّة ، والتي وصفه الله-سبحانه وتعالى- بأمور ، منها:
رأفته بأمته ، ورحمته لهم ، وهدايته إياهم ، وشفقته عليهم ، واستنقاذهم به من النار ، وأنه بالمؤمنين رؤوف رحيم ، ورحمة للعالمين ، ومبشراً ونذيراً ، وداعياً إلى الله بإذنه ،وسراجاً منيراً ويتلوا عليهم آياته، ويزكيهم، ويعلمهم الكتاب والحكمة، ويهديهم إلى صراط مستقيم .
فأي إحسان أجل قدراً ، وأعظم خطراً ، من إحسانه إلى جميع المؤمنين ؟
__________
(1) - اخرمته المنية : أي أخذته ، واخترم فلان : مات وذهب . وخرمته الخوارم : إذا مات . يراجع : لسان العرب (12/172) مادة (خرم) .
(2) - يراجع : الشفا (2/ 79-109) .(22/182)
وأي إفضال أعم منفعة ، وأكثر فائدة من إنعامه – بعد الله – سبحانه وتعالى – على كافة المسلمين ؛ إذ كان ذريعتهم(1) إلى الهداية ، ومنقذهم من العماية(2)، وداعيهم إلى الفلاح ، ووسيلتهم إلى ربهم ، وشفيعهم والمتكلم عنهم والشاهد لهم ، فقد استبان لك أنه صلى الله عليه وسلم مستوجب للمحبة الحقيقية شرعاً ؛ لما ورد في ذلك من النصوص ، كقوله تعالى :{ قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ }(3).
وقوله صلى الله عليه وسلم : (( لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين))(4) .
وقوله صلى الله عليه وسلم:(( ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما...)) الحديث(5)
__________
(1) - الذريعة : الوسيلة ، والجمع : الذرائع . يراجع : لسان العرب (8/96) مادة (ذرع) .
(2) - العماية : الضلال ، وهي فعالة من العمى ، وعماية الجاهلية : جهالتها . يراجع : لسان العرب (15/97، 98) مادة (عمي) .
(3) - سورة التوبة:24.
(4) - - رواه البخاري في صحيحه المطبوع مع فتح الباري (1/ 58) كتاب الإيمان ، حديث رقم (15) .ورواه مسلم في صحيحه المطبوع مع شرح النووي (1/ 67) كتاب الإيمان ، حديث رقم (44) .
(5) - - رواه البخاري في صحيحه المطبوع مع فتح الباري (1/ 60) كتاب الإيمان ، حديث رقم (16) .ورواه مسلم في صحيحه المطبوع مع شرح النووي (1/ 66) كتاب الإيمان ، حديث رقم (43) .(22/183)
وقوله صلى الله عليه وسلم لعمر بن الخطاب – رضي الله عنه- لما قال له عمر : يا رسول الله ! ، لأنت أحبّ إليَّ من كل شيء إلا من نفسي ، فقال صلى الله عليه وسلم: (( لا ، والذي نفسي بيده ، حتى أكون أحب إليك من نفسك )) . فقال عمر : فإنه الآن والله لأنت أحبّ إليَّ من نفسي . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : (( الآن يا عمر ))(1).
وكذلك هو مستوجب للمحبة الحقيقية عادة وجبلة بما ذكرناه آنفاً لإفاضته الإحسان ، وعمومه الإجمال ، فإذا كان الإنسان يحب من منحه في دنياه مرة أو مرتين معروفاً ، أو استنقذه من هلكة أو مضرة- مدة التأذي قليل منقطع - فمن كان سبباً لمنحه ما لا يبيد من النعيم ، وسبباً لوقايته مما لا يفنى من عذاب الجحيم أولى بالحب(2).
وقال ابن بطال والقاضي عياض وغيرهما – رحمه الله عليهم - :( المحبة ثلاثة أقسام: محبة إجلال وإعظام كمحبة الوالد ومحبة شفقة ورحمة كمحبة الولد ، ومحبة مشاكلة(3) واستحسان كمحبة سائر الناس ، فجمع صلى الله عليه وسلم أصناف المحبة في محبته ، قال ابن بطال – رحمه الله - : ومعنى الحديث(4) أن من استكمل الإيمان علم أن حق النبي صلى الله عليه وسلم آكد عليه من حق أبيه وابنه والناس أجمعين ؛ لأن به صلى الله عليه وسلم استنقذنا من النار ، وهدينا من الضلال(5) .
فالصادق في حب النبي صلى الله عليه وسلم من تظهر علامة ذلك عليه ، ومن علامات حبه صلى الله عليه وسلم :
__________
(1) - رواه البخاري في صحيحه المطبوع مع فتح الباري (11/ 523) كتاب الإيمانوالنذور، حديث رقم (6632) .
(2) - يراجع : الشفا للقاضي عياض (2/578-581) .
(3) - المشاكلة : الموافقة ، والشاكلة : الطريقة والمذهب . يراجع : لسان العرب (11/357).
(4) - وقوله صلى الله عليه وسلم : (( لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين))
(5) -يراجع : شرح النووي على صحيح مسلم (2/16،17) .(22/184)
الاقتداء به صلى الله عليه وسلم ، واستعمال سنته ، واتباع أقواله وأفعاله ، وامتثال أوامره ، واجتناب نواهيه ، والتأدب بآدابه ، في عسره ويسره ، ومنشطه ومكرهه ، وشاهد هذا قوله تعالى :{ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}(1).
إيثار ما شرعه عليه الصلاة والسلام ، وحض عليه ، على هوى نفسه ، وموافقة شهواته ، قال تعالى :{ وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالْأِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ... }(2) .
كثرة الذكر له صلى الله عليه وسلم فمن أحب شيئاً أكثر من ذكره ، قال تعالى :{ إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً}(3).
ومن علامات محبته صلى الله عليه وسلم :محبة من أحب النبي- عليه والسلام- من آل بيته وصحابته من المهاجرين والأنصار ، وعداوة من عاداهم ، وبغض من أبغضهم ،فمن أحب شيئاً أحب من يحبه. قال صلى الله عليه وسلم:((الله الله في أصحابي ، لا تتخذوهم غرضاً(4)
__________
(1) - سورة آل عمران:31.
(2) - سورة الحشر: الآية9.
(3) - سورة الأحزاب:56.
(4) - الغرض : شدة النزاع نحو الشيء ، أو الهدف : أي لا تتخذوا أصحابي هدفاً ترموهم بقبيح الكلام كما يرمى الهدف بالسهم .
يراجع : النهاية ( 3/360) مادة (غرض ) . وتحفة الأحوذي (10/365) أبواب المناقب .(22/185)
بعدي ، فمن أحبهم فبحبي أحبهم، ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم ، ومن آذاهم فقد آذاني ، ومن آذاني فقد آذى الله ، ومن آذى الله يوشك أن يأخذه)) (1).
وقال صلى الله عليه وسلم:(( آية الإيمان حب الأنصار ، وآية النفاق بُغض الأنصار))(2).
وقال – عليه الصلاة والسلام - : (( الأنصار لا يحبهم إلا مؤمن ، ولا يبغضهم إلا منافق ، فمن أحبهم أحبه الله ، ومن أبغضهم أبغضه الله ))(3).
ومن علامات محبته صلى الله عليه وسلم : بُغض من أبغض الله ورسوله ومعاداة من عاداه، ومجانبة من خالف سنته ، وابتداع في دينه ، واستثقاله كل أمر يخالف شريعته ، قال تعالى :{ لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ}(4).
ومنها : أن يحب القرآن الذي أُنزل عليه صلى الله عليه وسلم ويحب سنته ويقف عند خدودها ، قال سهل بن عبد الله : ( علامة حب الله حب القرآن ، وعلامة حب القرآن حب النبي صلى الله عليه وسلم ، وعلامة حب النبي صلى الله عليه وسلم حب السنة ، وعلامة حب السنة حب الآخرة ، وعلامة حب الآخرة بُغض الدنيا ، وعلامة بُغض الدنيا ألاَّ يدَّخر منها إلا زاداً وبلغة إلى الآخرة)(5).
__________
(1) - رواه الإمام أحمد في مسنده (5/54، 55) ، ورواه الترمذي في سننه (5/358) أبواب المناقب ،حديث رقم (3954) ، وقال : هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه .
(2) - رواه البخاري في صحيحه المطبوع مع فتح الباري(7/ 113)كتاب مناقب الأنصار،حديث رقم (3784).ورواه مسلم في صحيحه(1/ 85)كتاب الإيمان،حديث رقم(74).
(3) - رواه البخاري في صحيحه المطبوع مع فتح الباري(7/ 113)كتاب مناقب الأنصار،حديث رقم (3783).ورواه مسلم في صحيحه(1/ 85)كتاب الإيمان،حديث رقم(75).
(4) -سورة المجادلة: الآية22.
(5) -يراجع : الشفا (2/571-577) .(22/186)
وإذا استعرضنا هذه العلامات ، وجدنا أن الذين ابتدعوا الاحتفال بالمولد النبوي ، لم تظهر عليهم أي علامة من هذه العلامات ، ولم يتَّصفوا بإحداها ، بل كانوا يتصفون بضدها . فلم يقتدوا به صلى الله عليه وسلم في القول والفعل ، ولم يمتثلوا أمره بلزوم السنة ، ونهيه عن الإحداث في الدين ، بل اطرحوا سنته جانباً ، وقدموا ما تهوى أنفسهم وما يشتهونه على ما أمر الله سبحانه وتعالى رسوله صلى الله عليه وسلم ، واشتغلوا بالمعاصي والملذات عن ذكره صلى الله عليه وسلم ، وسبُّوا صحابته وأنصاره- بل كفَّرُوهم - ، وجاهروا بذلك ، وقرَّبُوا أعداء الله ورسوله ، وأظهروا لهم المودة ، وولوهم أمور المسلمين(1)، فهل يبقى أدنى شك في كذبهم فيما يزعمون من أن إقامتهم للمولد النبوي لأجل محبتهم له صلى الله عليه وسلم، وتعظيم ذكراه؟؟!!؛لأن المحبة الصادقة لرسول الله صلى الله عليه وسلم إنما تكون بطاعته فيما أمر ، والابتعاد عمَّا نهى عنه والانقياد للشرع الذي جاء به ، فلا يعبد الله إلا بما شرع ، وكذلك الإكثار من الصلاة والسلام عليه ، والتمسك بسنته ، والعمل بها ، والاقتداء به صلى الله عليه وسلم في أقواله وأفعاله ، وتقديم قوله على كل قول ، فإنَّهُ لا أحد من الأمة معصوم من الخطأ إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم . فيجب أن يؤخذ قوله كله ولا يُردّ منه شيء ، وأمور الدين إنَّما العمدة فيها كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، ولا مكان للاعتماد على الهوى والاستحسان من غير دليل شرعي .
__________
(1) - يراجع : المبحث الأول والثاني من هذا الفصل في هذا الكتاب(22/187)
قال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً}(1)، والله أعلم
*****************************
المبحث السادس
موقف أهل السنة من هذه البدعة
اتفق العلماء من السلف الصالح-رحمهم الله- على أن الاحتفال بالمولد النبوي وغيره من المواسم غير الشرعية ، أمر محدث مبتدع في الدين ، ولم يؤثر ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا عن أصحابة ، ولا عن التابعين وتابعيهم ، ولا علماء الأمة المشهورين ؛ كالأئمة الأربعة ونحوهم .
وسنذكر فيما يلي بعض أقوال السلف الصالح في هذا الشأن ، ملحقين بها أقوال بعض المتأخرين من علماء الأمة :
*قال شيخ الإسلام ابن تيمية : ( وأما اتخاذ موسم غير المواسم الشرعية كبعض ليالي شهر ربيع الأول ، التي يقال إنها المولد ، أو بعض ليالي رجب ، أو ثامن عشر ذي الحجة ، أو أول جمعة من رجب ، أو ثامن شوال الذي يسميه الجهال عيد الأبرار ، فإنها من البدع التي لم يستحبها السلف ، ولم يفعلوها ، والله سبحانه وتعالى أعلم )(2) ا.هـ .
* وقال – أيضاً – في (( اقتضاء الصراط المستقيم )) : (( فصل . ومن المنكرات في هذا الباب : سائر الأعياد والمواسم المبتدعة ، فإنها من المنكرات المكروهات سواء بلغت الكراهة التحريم، أو لم تبلغه؛ وذلك أن أعياد أهل الكتاب والأعاجم نهي عنها؛ لسببين:
أحدهما : أن فيها مشابهة الكفار .
والثاني : أنها من البدع . فما أحدث من المواسم و الأعياد هو منكر ، وإن لم يكن فيها مشابهة لأهل الكتاب ؛ لوجهين :
__________
(1) - سورة النساء:59.
(2) - يراجع : مجموعة الفتاوى (25/298) .(22/188)
أحدهما : أن ذلك داخل في مسمى البدع والمحدثات ، فيدخل فيما رواه مسلم في صحيحه عن جابر – رضي الله عنهما – قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ خطب احمرت عيناه ، وعلا صوته ، واشتد غضبه ، حتى كأنه منذر جيش يقول صبحكم ومساكم ، ويقول : (( بُعثت أنا والساعة كهاتين – ويقرن بين أصبعيه : السبابة والوسطى – ويقول : (( أما بعد ،فإن خير الحديث كتاب الله ، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها ، وكل بدعة ضلالة ))(1) وفي رواية للنسائي : ((وكل بدعة ضلالة في النار))(2)
وفيما رواه مسلم – أيضاً – في الصحيح عن عائشة – رضي الله عنها – عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : (( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد ))(3). وفي لفظ في الصحيحين :(( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد ))(4).
__________
(1) - رواه مسلم في صحيحه (2/592) كتاب الجمعة ،حديث (867) ، ولفظه : (( خير الحديث كتاب الله .......)) ورواه ابن ماجه (1/17) المقدمة ، حديث رقم (45) ، ولفظه : (( خير الأمور كتاب الله .......))
(2) - رواه النسائي في سننه (3/188،189) كتاب صلاة العيدين ، باب كيف الخطبة .
(3) - ورواه مسلم في صحيحه (3/1343، 1344) كتاب الأقضية ، حديث رقم ( 1718).
(4) - رواه البخاري في صحيحه المطبوع مع فتح الباري(5/301)كتاب الصلح ،حديث رقم(2697).ورواه مسلم في صحيحه(3/1343)كتاب الأقضية ،حديث رقم ( 1718).(22/189)
وفي الحديث الصحيح الذي رواه أهل السنن عن العرباض بن سارية عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (( إنه من يعش منكم فسير اختلافاً كثيراً فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين ،تمسكوا بها، وعضُّو عليها بالنواجذ ، وإياكم ومحدثات الأمور ، فإن كل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة ))(1) .
وهذه قاعدة قد دلت عليها السنة والإجماع ، مع ما في كتاب الله من الدلالة عليها أيضاً . قال الله تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ...}(2). فمن ندب إلى شيء يتقرب به إلى الله أو أوجبه بقوله أو بفعله ، من غير أن يشرعه الله ، فقد شرع من الدين ما لم يأذن به الله ، ومن اتبعه في ذلك فقد اتخذ شريكاً لله ، شرع من الدين ما لم يأذن به الله (3).........
إلى أن قال-والكلام في ذم البدع لما كان مقرراً في غير هذا الموضوع لم نطل النفس في تقريره،بل نذكر بعض أعيان هذه المواسم:
فصل : قد تقدم أن العيد يكون اسماً لنفس المكان ، ولنفس الزمان ، ولنفس الاجتماع ، وهذه الثلاثة قد أحدث منها أشياً :
أما الزمان فثلاثة أنواع ، ويدخل فيها بعض أعياد المكان والأفعال :
__________
(1) - رواه الإمام أحمد في مسنده (4/127) .ورواه أبو داود في سننه (5/13- 15) كتاب السنة والحديث رقم (4607)، ورواه الترمذي في سننه (4/ 149-150). أبواب العلم ،حديث رقم (2816) وقال حديث حسن صحيح ، ورواه ابن ماجه في سننه (1/ 15، 16 ) ، المقدمة حديث رقم (42) . ورواه الحاكم في المستدرك (1/95،96) كتاب العلم ، وقال حديث صحيح ليس له علَّة ، ووافقه الذهبي.
(2) - سورة الشورى: الآية21.
(3) - يراجع : اقتضاء الصراط المستقيم (2/578 ،579) .(22/190)
أحدها : يوم لم تعظمه الشريعة الإسلامية أصلاُ ، ولم يكن له ذكر في السلف ولا جرى فيه ما يوجب تعظيمه ، مثل : أول خميس من رجب ، وليلة تلك الجمعة التي تسمى الرغائب(1).
النوع الثاني : ما جرى فيه حادثة كما كان يجري في غيره ،من غير أن يوجب ذلك جعله موسماً، ولا كان السلف يعظمونه: كثامن عشر ذي الحجة(2) الذي خطب النبي صلى الله عليه وسلم فيه بغدير خم(3)مراجعة من حجة الوداع ..... وكذلك ما يحدثه بعض الناس: إما مضاهاة للنصارى في ميلاد عيسى-عليه السلام-،وإما محبة للنبي صلى الله عليه وسلم، والله قد يثيبهم على هذه المحبة والاجتهاد(4)
__________
(1) - سيأتي الكلام عن بدعة صلاة الرغائب من هذا الكتاب .
(2) - سيأتي الكلام عن بدعة عيد غدير خم من هذا الكتاب .
(3) - غدير خم : يقع بين مكة والمدينة بالجحفة ، سيأتي الكلام عنها من هذا الكتاب .
(4) - قال الشيخ محمد حامد الفقي في تعليقه على اقتضاء الصراط المستقيم لشيخ الإسلام ابن تيمية : (كيف يكون لهم ثواب على هذا ؟ وهم مخالفون لهدى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولهدي أصحابه ، فإن قيل : لأنهم اجتهدوا فأخطأوا ، فنقول :أي اجتهاد في هذا ؟ وهل تركت نصوص العبادات مجالاً للاجتهاد ؟والأمر فيه واضح كل الوضوح، وما هو إلا غلبة الجاهلية وتحكم الأهواء ، حملت الناس على الإعراض عن هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى دين اليهود والنصارى والوثنيين ..... وهل تكون محبة وتعظيم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالإعراض عن هديه وكرهه وكراهية ما جاء به من الحق لصلاح الناس من عند ربه ، والمسارعة إلى الوثنية واليهودية والنصرانية ؟ ومن هم أولئك الذين أحيوا تلك لأعياد الوثنية ؟ .
هل هم أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد ...... أو غيرهم من أئمة الهدى – رضي الله عنهم- ؟ حتى يعتذر لهم ولأخطائهم . كلا . بل ما أحدث هذه الأعياد الشركية إلا العبيديون الذين أجمعت الأمة على زندقتهم وأنهم كانوا أكفر من اليهود والنصارى ، وأنهم كانوا وبالاً على المسلمين ، وعلى أيديهم وبدسائسهم ، ومانفثوا في الأمة من سموم الصوفية الخبيثة انحرف المسلمون عن الصراط المستقيم ، وكلام شيخ الإسلام نفسه يدل على خلاف مل يقول من إثابتهم ...... إلخ . فليراجع.
يراجع : تعليق على اقتضاء الصراط المستقيم لشيخ الإسلام ابن تيمية ص(294، 295) .
وكذلك يراجع : الرد القوي للشيخ حمود التويجري ص(149-153) ، والقول الفصل ص(38، 101 ،104) ، ولعل سبق قلم من الشيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله - ، لاسيما وأنه لا أحد يستطيع إنكار جهود الشيخ في قمع البدع والتحذير منها ومحاربتها باللسان والقلم والسيف ، وأنه من المبرزين في هذا المجال ، والله أعلم .(22/191)
لا على البدع – من اتخاذ مولد النبي صلى الله عليه وسلم عيداً مع اختلاف الناس في مولده ، فإن هذا لم يفعله السلف مع قيام المقتضي له ، وعدم المانع فيه لو كان خيراً ، ولو كان خيراً محضاً أو راجحاً لكان السلف - رضي الله عنهم- أحق به منا ،فإنهم كانوا أشد محبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتعظيماً له منا ،وهم على الخير أحرص،وإنما كمال محبته وتعظيمه في متابعته،وطاعته واتباع أمره، وإحياء سنته باطناً وظاهراً ، ونشر ما بعث به ، والجهاد على ذلك بالقلب واليد واللسان ، فإن هذه طريقة السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار،والذين اتبعوهم بإحسان،وأكثر هؤلاء الذين تجدهم حرَّاصاً على أمثال هذه البدع-مع ما لهم فيها من حُسن القصد والاجتهاد الذي يرجى لهم بهما المثوبة(1)- تجدهم فاترين في أمر الرسول صلى الله عليه وسلم عما أُمروا بالنشاط فيه ، وإنما هم بمنزلة من يزخرف المسجد ولا يصلي فيه ،أو يصلي فيه قليلاً ،وبمنزلة من يتخذ المسابيح والسجادات المزخرفة، وأمثال هذه الزخارف الظاهرة التي لم تُشرع ،ويصحبها من الرياء والكِبْر ،والاشتغال عن المشروع ما يفسد حال صاحبها))(2)ا.هـ .
وقال الشاطبي في((الاعتصام)) بعد أن عرف البدعة بأنها :طريقة في الدين مخترعة تضاهي الشرعية يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد لله سبحانه : (وقوله في الحد : [ تضاهي الشرعية ] ، يعني : أنها : أنها تشابه الطريقة الشرعية ، من غير أن تكون في الحقيقة كذلك ، بل هي مضادة لها من أوجه متعددة ، منها: وضع الحدود كالناذر للصيام قائماً لا يقعد ، ضاحياً لا يستظلّ والاختصاص في الانقطاع للعبادة ، والاقتصاد من المأكل والملبس على صنف من غير علَّة .
__________
(1) - يراجع تعليق الشيخ حمود التويجري في الرد القوي ص(149) .
(2) - يراجع : اقتضاء الصراط المستقيم (2/612 ،616) .(22/192)
ومنها : التزام الكيفيات والهيئات المعينة ، كالذكر بهيئة الاجتماع على صوت واحد ، واتخاذ يوم ولادة النبي صلى الله عليه وسلم عيداً ، وما أشبه ذلك ...... إلخ )(1)ا.هـ .
وقال ابن الحاج في (( المدخل )) : ( فصل في المولد : ومن جملة ما أحدثوه من البدع ، مع اعتقادهم أن ذلك من أكبر العبادات ، وأظهر الشعائر ما يفعلونه في شهر ربيع الأول من المولد ، وقد احتوى على بدع ومحرمات جملة .
فمن ذلك : استعمالهم المغاني ، ومعهم آلات الطرب من الطار المصرصر(2) والشبابة(3) وغيرهم ذلك ، مما جعلوه آلة السماع ...... ، فانظر – رحمنا الله وإياك – إلى مخالفة السنة المطهرة ما أشنعها وأقبحها ، وكيف تجر إلى المحرمات ، ألا ترى أنهم لما خالفوا السنة المطرة ، وفعلوا المولد ، لم يقتصروا على فعله ، بل زادوا عليه ما تقدم ذكره من الأباطيل المتعددة ، فالسعيد السعيد من شدَّ يده على امتثال الكتاب والسنة والطريق الموصلة إلى ذلك ، وهي اتباع السلف الماضين – رضوان الله عليهم أجمعين - ؛ لأنهم أعلم بالسنة منَّا ، إذ هم أعرف بالمقال ، وأفقه بالحال .......)ا.هـ(4) .
وقال الشيخ تاج الدين عمر بن علي اللخمي المشهور بالفاكهاني – بعد حمد الله والثناء عليه بما هو أهل له ، والصلاة والسلام على نبيا محمد عبد الله ورسوله وآله وصحبه أجمعين : ( أما بعد ، فإنه تكرر سؤال جماعة من المباركين عن الاجتماع الذي يعمله بعض الناس في شهر ربيع الأول ويسمونه المولد ، هل له أصل في الشرع ؟ أو هو بدعة وحدث في الدين ؟ وقصدوا الجواب عن ذلك مبيناً ، والإيضاح عنه معيناً ، فقلت وبالله التوفيق :
__________
(1) - يراجع : الاعتصام (1/39) .
(2) - الطار المصرصر : أي المشدود . يراجع : لسان العرب (4/450-455) .
(3) - الشبابة – بالتشديد : قصبة الزمر المعروفة . (مولد ) . يراجع : شفاء الغليل لما في كلام العرب من الدخيل ص(156) .
(4) - يراجع : المدخل (2/2-10) .(22/193)
لا أعلم لهذا المولد أصلاً في الكتاب ولا سنة ، ولا ينقل(1) عمله عن أحد من علماء الأمة ، الذين هم القدوة في الدين ، المتمسكون بآثار المتقدمين ، بل هو بدعة أحدثها البطالون(2)، وشهوة نفس اعتنى بها الأكَّالُون ، بدليل أنا إذا أدرنا عليه الأحكام الخمسة قلنا : إما أن يكون واجباً ، أو مندوباً ، مباحاً ، أو مكروهاً ، أو محرماً ، وليس بواجب إجماعاً ، ولا مندوباً ؛ لأنَّ حقيقة المندوب ما طلبه الشرع من غير ذم على تركه ، وهذا لم يأذن فيه الشرع ، ولا فعله الصحابة ولا التابعون ولا العلماء المتدينون فيما علمت ، وهذا جوابي عنه بين يدي الله تعالى إن عنه سئلت ، ولا جائز أن يكون مباحاً ؛ لأن الابتداع في الدين ليس مباحاً بإجماع المسلمين ، فلم يبق إلا أن يكون مكروهاً أو حراماً وحينئذٍ يكون الكلام فيه في فصلين والتفرقة بين حالين :
* أحدهما : أن يعمله رجل من عين ماله لأهله وأصحابه وعياله ،لا يجاوزون في ذلك الاجتماع على أكل الطعام ،ولا يقترفون شيئاً من الآثام ،وهذا الذي وصنفاه بأنه بدعة مكروهة وشناعة ؛ إذا لم يفعله أحد من متقدمي أهل الطاعة ، الذي هم فقهاء الإسلام ، وعلماء الأنام ، سُرُج الأزمنة، وزين الأمكنة.
__________
(1) - هكذا وردت في كتاب الحاوي (1/190) . لعل صحة العبارة – والله أعلم - : (ولم ينقل ) .
(2) - البطالون : جمع بطال ، ورجل بطال : ورجل بطال : ذو باطل ، وباطل بين البطول . والتبطل : فعل البطالة : وهواتباع اللهو والجهالة . يراجع لسان العرب (11/56) مادة (بطل ) .(22/194)
* والثاني : أن تدخله الجناية ، وتقوى به العناية ، حتى يعطي أحدهم الشيء ونفسه تتبعه ، وقلبه يؤلمه ويوجعه ، لما يجد من ألم الحيف ، وقد قال العلماء : أخذ المال بالحياء كأخذ بالسيف . لاسيما إذا انضاف إلى ذلك شيء من الغناء ، مع البطون الملأى، بآلات الباطل من الدفوف والشبابات ، واجتماع الرجال مع الشباب المرد ، والنساء الفاتنات ، إما مختلطات بهم أو مشرفات ، والرقص بالتثني والانعطاف ، والاستغراق في اللهو ونسيان يوم المخالف ، وكذلك النساء إذا اجتمعن على انفرادهنَّ رافعات أصواتهم بالتهنيك(1)والتطريب في الإنشاد ، والخروج في التلاوة والذكر عن المشروع والأمر المعتاد ، غافلات عن قوله تعالى :{ إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ}(2).
__________
(1) - هكذا وردت في الأصل ، وربما في الكلمة تصحيف أو خطأ مطبعي ، ولعل المراد : التنهيك من النهك : وهو المبالغة في الشيء . يراجع : لسان العرب (10/500، 501) مادة (نهك ) – والله أعلم .
(2) - سورة الفجر:14.(22/195)