أدلة معتقد أبي حنيفة في أبوي الرسول عليه الصلاة والسلام
الحمد لله الذي خص من شاء من عباده في عالم القضاء بالإيمان وهداه بجوده إلى معرفة نور وجوده وظهور شهوده في مقام العرفان ومرام الإحسان والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على سيدنا وسندنا محمد من أولاد عدنان وآله الكرام وأصحابه الفخام إلى يوم القيام وعلى أتباعه خلاصة أهل الأديان
أما بعد: فيقول أحقر عباد الله الباري علي بن سلطان محمد القاري.
عبارة الإمام أبي حنيفة والتعليق عليها
قد قال الإمام الأعظم والهمام الأقدم في كتابه المعتبر المعبر بالفقه الأكبر ما نصه: ((ووالدا رسول الله ماتا على الكفر))
فقال شارحه: هذا رد على من قال بأن والدي رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإيمان.
وعلى من قال: ماتا على الكفر ثم أن الله أحياهما وأسلما ثم ماتا على الإيمان.
فأقول وبحوله أصول: إن هذا الكلام من حضرة الإمام لا يتصور في هذا المقام لتحصيل المرام إلا أن يكون قطعي الدراية لا ظني الرواية لأنه في باب الاعتقاد لا يعمل بالظنيات ولا يكتفي بالآحاد من الأحاديث الواهيات والروايات الوهميات إذ من المقرر والمحرر في الأصل المعتبر أنه ليس لأحد من أفراد البشر أن يحكم على أحد بأنه من أهل الجنة ولا بأنه من أهل العقوبة إلا بنقل ثبت بنص من الكتاب أو تواتر من السنة أو إجماع علماء الأمة بالإيمان المقرون بالوفاة أو بالكفر المنضم إلى آخر الحياة.
فإذا عرفت ذلك فنستدل على مرام الإمام بحسب ما اطلعنا عليه في هذا المقام بالكتاب والسنة واتفاق أئمة الأنام
الأدلة من الكتاب
أما الكتاب فقوله تعالى: {إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا ولا تسأل عن أصحاب الجحيم}
فقراءة الجمهور على المجهول في النفي وقراءة نافع على المعلوم بالنهي.(1/1)
وقد أخرج وكيع وسفيان بن عيينة وعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن محمد بن كعب القرظي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( ليت شعري ما فعل أبواي)). فنزلت {إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا ولا تسأل عن أصحاب الجحيم} فما ذكرهما حتى توفاه الله تعالى.
وفيه دليل واضح على المدعى وتنبيه نبيه على أن هذا حكم لم ينسخ بالإحياء كما لا يخفى.
قال العلامة السيوطي: هذا مرسل ضعيف الإسناد.
قلت: المرسل حجة عند الجمهور من العلماء في الأصول والاعتقاد والطرق المتعددة للحديث ترفع الضعف وتوصله إلى الحسن أو الصحة عند الكل في الاعتماد.
وأخرج ابن جرير عن داود بن أبي عاصم رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم: ((أين أبواي)) فنزلت.
قال السيوطي: والآخر معضل الإسناد ضعيف.
قلت: المعضل عندنا حجة وضعفه يتقوى بالتعدد ولا سيما وقد تعلق به اجتهاد المجتهد فدل على صحته ولو حديث ضعف بالنسبة إلينا في روايته ويكتفى بمثل ذلك في أسباب النزول كما هو معقول عند أرباب النقول.
وأخرج ابن المنذر عن الأعرج أنه قرأ {ولا تسأل عن أصحاب الجحيم} أي أنت يا محمد كما في الدر المنثور.
وفي تفسير العماد بن كثير: قال عبد الرزاق أنبأ الثوري عن موسى بن عبيدة عن محمد بن كعب القرظي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ليت شعري ما فعل أبواي ، ليت شعري ما فعل أبواي ثلاث مرات)). فنزل {إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا} فما ذكرهما حتى توفاه الله عز وجل.
وهذا يؤيد ما قدمناه فتدبر وتأمل.
ورواه ابن جرير عن أبي كريب عن وكيع عن موسى بن عبيدة ، مثله وذكر الحديث الآخر بسنده كما تقدم.
ثم قال ابن كثير: وقد رد ابن جرير هذا القول المروي عن محمد بن كعب وغيره في ذلك لاستحالة الشك من الرسول صلى الله عليه وسلم في أمر أبويه واختار القراءة الأولى.(1/2)
يعني النفي قال: وهذا الذي سلكه ها هنا فيه نظر لاحتمال أن هذا كان في حال استغفاره لأبويه قبل أن يعلم أمرهما فلما علم ذلك تبرأ منهما وأخبر عنهما أنهما من أهل النار كما ثبت هذا في الصحيح ولهذا أشباه كثيرة ونظائر ولا يلزم ما ذكره ابن جرير. انتهى كلام ابن كثير
وقال محيي السنة في تفسيره معالم التنزيل: قال عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم: ((ليت شعري ما فعل أبواي)) فنزلت هذه الآية.
أقول وهذا النقل من ابن عباس حبر الأمة كاف في الحجة لا سيما وهو من أهل بيت النبوة ولو كان هناك ترددا في القضية لما ذكر مثل هذه القصة المستلزمة المغصة.
وكذا نقل الواحدي عن ابن عباس رضي الله عنهما ثم قال: وهذا على قراءة من قرأ {ولا تسأل عن أصحاب الجحيم} جزماً.
وقال البيضاوي: قرأ نافع ويعقوب ولا تسأل على أنه نهى للرسول عن السؤال عن حال أبويه انتهى
والحاصل أن عامة المفسرين كالمجمعين على أن هذا سبب نزول الآية.
ومن المقرر في علم الأصول أن نقل الصحابي في سبب النزول ولو كان موقوفاً فهو في حكم المرفوع الموصول فكيف وقد ثبت رفعه بطرق متعددة وأسانيد مختلفة.
هذا وقد قال جمع من أئمة التفسير كصاحب التيسير: ولما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بتبشير المؤمنين وإنذار الكافرين كان يذكر عقوبات الكفار فقام رجل وقال: يا رسول الله أين والدي.؟ فقال: ((في النار. فحزن الرجل. فقال: عليه الصلاة والسلام: إن والداك ووالدي ووالد إبراهيم في النار)).
فنزل قوله تعالى {ولا تسأل عن أصحاب الجحيم} فلم يسألوا بعد ذلك وهو قوله تعالى: {لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم}
وفيه تنبيه على أن قراءة النفي أيضا تدل على المدعى ، فتبين ما ذكره العلماء من المفسرين والقراء من أن الأصل في القراءتين أن يتفق حالهما ويجتمع مآلهما ثم تفطن لما في الحديث من تصريح ذكر والد إبراهيم في هذا المقام الفخيم(1/3)
الأدلة من السنة:
وأما السنة فما رواه مسلم عن أنس أن رجلاً قال يا رسول الله أين أبي.؟ فقال: ((في النار فلما قفى دعاه ، فقال: إن أبي وأباك في النار)).
وكذا ما رواه البزار من أنه أراد أن يستغفر لأمه فضرب جبريل صدره وقال: تستغفر لمن مات مشركاً.
وكذا ما رواه الحاكم في مستدركه وصححه ، أنه قال لابني مليكة: ((أمكما في النار فشق عليهما فدعاهما فقال إن أمي مع أمكما)).
وتعقب الذهبي له بكون عثمان بن عمير ضعفه الدارقطني لم يخرجه عن كونه ثابتاً حسناً قابلاً للاستدلال ، إما على الاستقلال ، وإما مع غيره لتقوية الحال.
وكذا ما أخرجه الإمام أحمد في مسنده عن أبي رزين العقيلي رضي الله عنه قال: قلت يا رسول الله أين أمي.؟ قال: ((أمك في النار)) قلت: فأين من مضى من أهلك.؟ قال: أما ترضى أن تكون أمك مع أمي)).
وكذا ما روى ابن جرير عن علقمة بن مرثد عن سليمان بن بريدة عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قدم مكة أتى رسم قبر فجلس إليه فجعل يخاطب ثم قام مستعبراً فقلنا يا رسول الله إنا رأينا ما صنعت . قال: ((إني استأذنت ربي في زيارة قبر أمي فأذن لي ، واستأذنته في الاستغفار لها فلم يأذن لي)). فما رؤي باكيا أكثر من يومئذ.
وسيأتي سبب بكائه منصوصاً عن بعض العلماء ، والله أعلم
وكذا حديث مسلم وأبي داود عن أبي هريرة رضي الله عنه : ((أنه استأذن في الاستغفار لأمه فلم يؤذن له)).
وأما القول بأنه ثم استأذنه ثانيا وأذن له فيحتاج إلى دليل صريح ونقل صحيح.
ثم لا ينافي الحديث الأول ما ورد من طريق آخر ولم يذكر فيه إن أبي وأباك في النار بل قال: ((إذا مررت بقبر كافر فبشره بالنار)).
فإنه يفيد التعميم والأول يدل على التخصيص فذكره أولا تسلية له وثانيا لئلا يتقيد بالحكم المذكور بل يعم من هو بالكفر مشهور كما يدل عليه رواية ابن ماجه من طريق إبراهيم بن سعد عن الزهري عن سالم عن أبيه قال(1/4)
وجاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إن أبي كان يصل الرحم وكان وكان فأين هو.؟ قال: ((في النار)) قال فكأنه وجد من ذلك فقال: يا رسول الله فأين أبوك.؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((حيثما مررت بقبر مشرك فبشره بالنار)). قال فأسلم الأعرابي بعد وقال لقد كلفني رسول الله صلى الله عليه وسلم تعباً ما مررت بقبر كافر إلا بشرته بالنار.
وفي هذا التعميم دلالة واضحة وإشارة لائحة بأن أهل الجاهلية كلهم كفار إلا ما خص منهم بالأخبار عن النبي المختار صلى الله عليه وسلم.
ومما ثبت في الكتاب والسنة ما أخرجه ابن جرير عن قتادة قال: ذكر لنا أن رجالا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: يا نبي الله إن من آبائنا من كان يحسن الجواد ويصل الأرحام ويفك العاني ويوفي بالذمم أفلا نستغفر لهم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((والله لأستغفرن لأبي كما استغفر إبراهيم لأبيه)) فأنزل الله {ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين . .} الآية ثم عذر الله إبراهيم عليه الصلاة والسلام فقال: {وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه . .} إلى قوله: تبرأ منه.
وذكر لنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال أوحي إلي كلمات قد دخلن في أذني ووقرن في قلبي أمرت أن لا أستغفر لمن مات مشركا ومن أعطى فضل ماله فهو خير له ومن أمسك فهو شر له ولا يلوم الله على كفاف.
وتأويل السيوطي أن المراد بأبيه عمه أبو طالب وأبي إبراهيم عمه آزر في غاية السقوط
فتدبر وسيأتي زيادة الكلام للرد عليه بالوجه الآخر.
وأخرج ابن جرير من طريق عطية العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله ما كان للنبي والذين آمنوا الآية قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد أن يستغفر لأمه فنهاه الله عن ذلك قال: فإن إبراهيم عليه السلام قد استغفر لأبيه فنزل {وما كان استغفار إبراهيم لأبيه}. الآية(1/5)
قال السيوطي: هذا الأثر ضعيف معلول فإن عطية ضعيف وهو مخالف لرواية علي بن أبي طلحة عن ابن عباس السابقة وتلك أصح وعلي ثقة جليل.
قلت عطية مختلف فيه ولو سلم أنه ضعيف فيتقوى بانضمام غيره إليه
ثم لا مخالفة بين الروايتين لإمكان الجمع بين القضيتين بتعدد الواقعة في الحالتين ، وقد نقله الحافظ عماد الدين في تفسيره عن العوفي عن ابن عباس وسكت عليه وهذا دليل ثبوته عنده
وقد أخرج ابن أبي حاتم والحاكم وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً إلى المقابر فاتبعناه فجاء حتى جلس إلى قبر منها فناجاه طويلا ثم بكى فبكينا لبكائه ثم قام فقام إليه عمر فدعاه ثم دعانا فقال: ((ما أبكاكم.؟
قلنا: بكينا لبكائك. قال إن القبر الذي جلست عنده قبر آمنة وإني أستأذنت ربي في زيارتها فأذن لي ، وإني استأذنت ربي بالاستغفار لها فلم يأذن لي ، وأنزل علي {ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى} فأخذ في ما يأخذ الولد للوالدة من الرأفة فذلك الذي أبكاني)).
وكذا ذكره الواحدي في أسباب نزوله بإسناده عن مثله.
ورواه الطبراني عن ابن عباس رضي الله عنهما نحوه كما ذكره القسطلاني.
قال القاضي عياض: وبكاؤه عليه الصلاة والسلام على ما فاتها من إدراك أيامه والإيمان به.(1/6)
وأخرج ابن مردويه عن بريدة رضي الله عنه قال: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم إذ وقف على عسفان فنظر يمينا وشمالا فأبصر قبر أمه آمنة فورد الماء فتوضأ ثم صلى ركعتين فلم يفجأنا إلا بكاؤه فبكينا ببكائه ثم قام فصلى ركعتين ودعا فلم يفاجأ إلا وقد علا بكاؤه فعلا بكاؤنا لبكائه ثم انصرف إلينا فقال: ((ما الذي أبكاكم.؟ قالوا: بكيت فبكينا يا رسول الله. قال: وما ظننتم.؟ قالوا: ظننا أن العذاب نازل علينا بما نعمل. قال: لم يكن من ذلك شيء. قالوا: فظننا أن أمتك كلفت من الأعمال ما لا يطيقون فرحمتها.؟ قال لم يكن من ذلك شيء ، ولكن مررت بقبر آمنة أمي فصليت ركعتين ثم استأذنت أن أستغفر لها فنهيت ، فبكيت ثم عدت فصليت ركعتين فاستأذنت ربي أن أستغفر لها ، فزجرت زجراً فعلا بكائي ثم دعا براحلته فركبها فما سار إلا هنيهة حتى قامت الناقة لثقل الوحي فأنزل الله {ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين} الآيتين(1/7)
وأخرج الطبراني وابن مردويه من طريق عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم لما اقبل من غزوة تبوك اعتمر فلما هبط من ثنية عسفان أمر أصحابه أن يستندوا إلى العقبة حتى أرجع إليكم فذهب فنزل على قبر آمنة فناجى ربه طويلا ثم بكى فاشتد بكاؤه فبكى هؤلاء لبكائه فقالوا ما بكى نبي الله هذا البكاء إلا وقد حدث في أمته شيء لم تطقه فلما بكى هؤلاء قام فرجع إليهم فقال ما يبكيكم قالوا يا نبي الله ما هذا البكاء إلا وقد حدث في أمتك شيء لم تطقه قال لا وقد كان بعضه لكنني نزلت على قبر أمي فدعوت الله ليأذن لي في شفاعتها يوم القيامة فأبى أن يأذن لي فرحمتها وهي أمي فدعوت ربي أن يرفع عن أمتي أربعا فرفع عنهم اثنتين وأبى أن يرفع عنهم اثنتين دعوت ربي أن يرفع عنهم الرجم من السماء والغرق من الأرض وأن لا يلبسهم شيعا وأن لا يذيق بعضهم بأس بعض فرفع الله عنهم الرجم من السماء والغرق من الأرض وأبى أن يرفع عنهم القتل والهرج
قال إنما عدل إلى قبر أمه لأنها كانت مدفونة تحت كدى وكانت عسفان لهم وبها ولد النبي صلى الله عليه وسلم أي على قول.
وقد أخرج العماد ابن كثير هذا الحديث بسند الطبراني المتصل إلى ابن عباس رضي الله عنهما مع تغيير قليل وزاد في أخره
ثم جاء جبريل وقال وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه فتبرأ من أمك كما تبرأ إبراهيم من أبيه فرحمتها وهي أمي ودعوت ربي . . . إلى آخره
وأخرج ابن المنذر والطبراني والحاكم وصححه عن ابن مسعود رضي الله عنه قال
وجاء ابنا مليكة وهما من الأنصار فقالا يا رسول الله إن أمنا كانت تحفظ على البعل وتكرم على الضيف وقد وأدت في الجاهلية فأين أمنا قال أمكما في النار فقاما وقد شق ذلك عليهما فدعا رسول الله فرجعا فقال ألا إن أمي مع أمكما في النار.
وأخرج ابن سعد عن الكلبي وأبي بكر بن قيس الجعفي نحوه وفي المعالم(1/8)
قال أبو هريرة وبريدة رضي الله عنهما لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم أتى إلى قبر أمه آمنة فوقف عليه حتى حميت الشمس رجاء أن يؤذن له فيستغفر لها فنزلت ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين
ثم بإسناده المتصل إلى مسلم بن الحجاج عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: زار النبي صلى الله عليه وسلم أمه فبكى وأبكى من حوله فقال استأذنت ربي في أن أستغفر لها فلم يأذن لي واستأذنته في أن أزور قبرها فأذن لي فزوروا القبور فإنها تذكر الموت.
الإجماع
وأما الإجماع فقد اتفق السلف والخلف من الصحابة والتابعين والأئمة الأربعة وسائر المجتهدين على ذلك من غير إظهار خلاف لما هنالك والخلاف من اللاحق لا يقدح في الإجماع السابق سواء يكون من جنس المخالف أو صنف الموافق
الرد على السيوطي
والعجب من الشيخ جلال الدين السيوطي مع إحاطته بهذه الآثار التي كادت أن تكون متواترة في الأخبار أنه عدل عن متابعة هذه الحجة وموافقة سائر الأئمة وتبع جماعة من العلماء المتأخرين وأورد أدلة واهية في نظر الفضلاء المعتبرين
منها أن الله سبحانه أحيى به أبويه حتى آمنا به مستدلا بما أخرجه ابن شاهين في الناسخ والمنسوخ والخطيب البغدادي في السابق واللاحق والدارقطني وابن عساكر كلاهما في غرائب مالك بسند ضعيف عن عائشة رضي الله عنها قالت: حج بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة الوداع فمر بي على عقبة الحجون وهو باك حزين مغتم فنزل فمكث عني طويلا ثم عاد إلي وهو فرح فتبسم فقلت له فقال ذهبت لقبر أمي فسألت الله أن يحييها فآمنت بي وردها الله عز وجل.
وهذا الحديث ضعيف باتفاق المحدثين كما اعترف به السيوطي.
وقال ابن كثير: إنه منكر جدا ورواته مجهولون(1/9)
فقول الشيخ ابن حجر المكي في شرح الهمزية هو حديث صحيح صححه غير واحد من الحفاظ مردود عليه بل كذب صريح وعيب قبيح مسقط للعدالة وموهن للرواية لأن السيوطي مع جلالته وكمال إحاطته ومبالغته في رسائل متعددة من تصنيفاته ذكر الاتفاق على ضعف هذا الحديث فلو كان له طريق واحد صحيح لذكره في معرض الترجيح.
ومن المعلوم أن بعده لم يحدث غير واحد من المحدثين الذين يصح كونهم من المصححين ومن ادعى فعليه البيان في معرض الميدان
هذا وقد قال الحافظ ابن دحية كما نقله العماد ابن كثير عنه:
إن هذا الحديث موضوع يرده القرآن والإجماع قال الله تعالى ولا الذين يموتون وهم كفار انتهى
والمعنى أنه ثبت كفرهما بما سبق من دلالة الآية السابقة المنضمة إلى رواية السنة المتقوية بإجماع الأمة مع قوله تعالى ولا الذين يموتون وهم كفار أي ليست التوبة صحيحة ممن مات وهو كافر لأن المعتبر هو الإيمان الغيبي لقوله تعالى فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا
والحاصل انه لم يثبت إحياؤهما وإيمانهما والدليل على انتفائهما عدم استشهارهما عند الصحابة لا سيما والواقعة في حجة الوداع والخلق الكثير في خدمته بلا نزاع مع منافاته للقواعد الشرعية من عدم قبول الإيمان بعد مشاهدة الأحوال الغيبية بالإجماع
ثم دعوى الخصوصية يحتاج إلى إثبات الأدلة القوية فمن ادعى هذا الديوان فعليه البيان
وأما الاستدلال بالقدرة الإلهية وقابلية الخصوصية للحضرة النبوية فأمر لا ينكره أحد من أهل الملة الحنيفية وإنما الكلام في إثبات هذا المرام بالأدلة على وجه النظام لا بالاحتمال الذي لا يصلح للاستدلال خصوصا في معارضة نصوص الأقوال
وأما قول القرطبي فليس إحياؤهم يمتنع عقلا ولا شرعا فلا شبهة في إمكانه أصلا وفرعا وإنما الكلام في ثبوته أولا ونفيه ثانيا
وبهذا يندفع ما أورده السهيلي في الروض الأنف بسند فيه جماعة مجهولون: إن الله أحيى له أباه وأمه فآمنا به.(1/10)
ثم قال بعد إيراده: الله قادر على كل شيء وليس تعجز رحمته وقدرته عن شيء ونبيه أن يخصه بما شاء من فضله وأن ينعم بما شاء من كرامته.
قلت ولو صح هذا الإحياء لأظهرهعلى الأعداء فضلا عن الأحباء من أكابر الصحابة ولم يكتف بذكره لعائشة من بين أحبابه
على أن رواية عائشة رضي الله عنها لو صحت لانتشر عنها إلى التابعين وغيرهم وشاعت فإنه لو صح إحياء أبويه وإيمانهما لكان من آظهر معجزاته وأكبر كراماته
فتبين من هذا أن هذا من موضوعات الرافضة وإنما نسبوا الحديث إلى عائشة تبعيدا عن الظن بوضعهم وتأكيدا للقضية في ثقة إثباتهم.
وأغرب القرطبي حيث قال: لا تعارض بين حديث الإحياء وحديث النهي عن الاستغفار لهما بدليل حديث عائشة رضي الله عنها أن ذلك كان في حجة الوداع ولذلك جعله ابن شاهين ناسخا لما ذكر من الأخبار انتهى
ولا يخفى وجه الغرابة فإن الحديث إذا كان ضعيفا باتفاق المحدثين وموضوعا عند المحققين ومخالفا للكتاب عند المفسرين كيف يصلح أن يكون معارضا لحديث مسلم في الصحيح ومناقضا لما سبق مما كاد أن يكون متواترا في التصريح أو كيف يمكن أن يكون ناسخا والنسخ لا يجوز في الأخبار عند علماء الأعلام وإنما هو من مختصات الإنشاء والأحكام وإلا فيلزم الخلف في أخباره ويتوجه البداء في آثاره وهو متعال عن ذلك علوا كبيرا
ومنها قول السيوطي إنهما ماتا قبل البعثة وإنهما كانا من أصحاب الفترة
وهذا كما لا يخفى معارضة لما ثبت في الكتاب والسنة ومناقضة لما صرح بإشتراكهما فيما سبق من صاحب النبوة فما ذكره من تطويل البحث وتكثير الأدلة غير مفيد له في هذه القضية مع ظهور التناقض في كلامه لتحصيل مرامه فإنهما لو كانا من أهل الفترة لما احتاج إلى الإحياء والإيمان بالنبوة بناء على أنهما من أهل النجاة في الفطرة(1/11)
ثم هذه المسألة فيها خلاف المعتزلة وأكثر أهل السنة حتى قال بعض المحققين لا يوجد صاحب الفترة إلا من ولد في مفازة خالية عن سماع بعثة صاحب النبوة بالكلية على خلاف في أنه هل هو مكلف بالعقل توحيد الرب وشكر نعمته ووجوب النظر في صنعته أم لا
ومما يتفرع عليه ما ذكره البغوي في التهذيب
أما من لم تبلغه الدعوة فلا يجوز قتله قبل أن يدعى إلى الإسلام فإن قتل قبل أن يدعى إلى الإسلام وجب في قتله الدية والكفارة وعند أبي حنيفة رضي الله عنه لا يجب الضمان بقتله
وقال الغزالي في البسيط: من لم تبلغه الدعوة يضمن بالدية والكفارة لا بالقصاص على الصحيح لأنه ليس مسلما على التحقيق وإنما هو في معنى المسلم قال ابن الرفعة في الكفاية لأنه مولود على الفترة ولم يظهر منه عناد انتهى
ولا يخفى ما فيه من الدلالة على أن أهل الفترة هو الذي يكون على اصل الفطرة من التوحيد ولم يظهر منه من الكفر ما ينافي التفريد كما يدل عليه قوله سبحانه فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله
وكما ورد في حديث: كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه. ... الحديث
وفيه دليل على أن كل مولود في حال عقله وكمال حالة إذا خلي هو من طبعه اختار التوحيد لله في الذات والتفريد له في الصفات كما يدل عليه قصة الميثاق الذي وقع عليه الاتفاق على ما هو مقرر في محله الأليق(1/12)
ولهذا قال الإمام فخر الدين: من مات مشركا فهو في النار وإن مات قبل البعثة لأن المشركين كانوا قد غيروا الحنيفية دين إبراهيم واستبدلوا بها الشرك وارتكبوه وليس معهم حجة ولم يزل معلوما من دين الرسل كلهم من أولهم إلى آخرهم قبح الشرك والوعيد عليه في النار وأخبار عقوبات الله لأهله متدوالة بين الأمم قرنا بعد قرن فلله الحجة البالغة على المشركين في كل وقت وحين ولو لم يكن إلا ما فطر الله عباده عليه من توحيد ربوبية وأنه يستحيل في كل فطرة وعقل أن يكون معه إله آخر وإن كان سبحانه لا يعذب بمقتضى هذه الفطرة وحدها فلم تزل دعوة الرسل إلى التوحيد في الأرض معلومة لأهلها فالمشرك مستحق للعذاب في النار لمخالفته دعوى الرسل وهو مخلد فيها دائما كخلود أهل الجنة في الجنة انتهى
ولا يخفى أن ما ورد عنهفي حق بعض أرباب الفترة من التعذيب يدل دلالة صريحة للرد على ما عليه بعض الشافعية من أن أهل الفترة لا يعذبون مطلقا قال
وأصله أنه عندهم محجوح عليه بعقله وعندنا هو غير محجوج عليه قبل بلوغ الدعوة إليه
ومنها قول السيوطي
إنه ورد في أهل الفترة أحاديث أنهم يمتحنون يوم القيامة بأن ترفع لهم نار فيقال لهم ادخلوها فيدخلها من كان في علم الله سعيدا لو أدرك العمل ويمتنع من دخولها من كان في علم الله شقيا لو أدرك العمل فيقول تبارك وتعالى إياي عصيتم فكيف برسلي بالغيب
ولا يخفى أن هذا على تقدير صحته وقوته لمعارضة مخالفته وإنما يكون فيمن مات من أهل الفترة ولم يعلم حاله من إحداث الشرك أو التوحيد على الفطرة وأما من ثبت كفره بالكتاب والسنة واتفاق الأئمة فلا وجه لإدخاله في أصحاب الأمتحان للطاعة كورقة بن نوفل وقس بن ساعدة وغيرهما ممن ثبت توحيدهما ولا نحو صاحب المحجن
وغيره ممن ثبت شركهما(1/13)
وأغرب من هذا أنه استدل بقول الحافظ ابن حجر العسقلاني في بعض كتبه الظن بآله صلى الله تعالى عليه وسلم يعني الذين ماتوا قبل البعثة أنهم يطيعون عند الامتحان إكراما لهلتقر بهم عينه انتهى
ووجه الغرابة أن هذه القضية بالطريقة الظنية في أهل الفترة الحقيقية المبهمية لا تفيد في المسألة العينية
وكذا من العجيب ما نسب إلى العسقلاني في قوله
ونحن نرجو أن يدخل عبد المطلب وآل بيته في جملة من يدخل طائعا فينجو إلا ابا طالب فإنه أدرك البعثة ولم يؤمن وثبت في الصحيح أنه في ضحضاح من نار انتهى
ولا يخفى أن إدخال عبد المطلب في القصة خارج عن الصحة لما ورد في صحيح البخاري ومسلم وغيرهما
أن رسول الله على أبي طالب عند موته وعنده أبو جهل وابن أبي أمية قائلين أترغب عن ملة عبد المطلب فلم يزل رسول الله يعرضها عليه ويعيدانه بتلك المقالة حتى قال أبو طالب آخر ما كلمهم أنا على ملة عبد المطلب وأبى أن يقول لا إله إلا الله فنزل إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء
فهذا يقتضي أن عبد المطلب مات على الشرك بلا شك
ومما يقويه ويؤكده ما في مسند البزار وكتاب النسائي من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما
أن رسول اللهقال لفاطمة رضي الله عنها وقد عزت قوما من
الأنصار عن ميتهم لعلك بلغت معهم الكدى فقال: لو كنت بلغت معهم الكدى ما رأيت الجنة حتى يراها جد أبيك
وقد أخرجه أبو داود أيضا إلا أنه لم يذكر فيه حتى يراها جد أبيك
وفي هذا تهديد شديد ووعيد أكبر على مرتكب المعصية ولو كان صاحبها من أعلى أهل بيت النبوة
وأما ما ورد في قوله
أنا النبي لا كذب ... أنا ابن عبد المطلب.
فمحمول على أنه ليس من باب الافتخار في الانتساب بالأباء الكفار بل لإظهار الجلادة والشجاعة والاشتهار كما بينته في شرح الشمائل للترمذي(1/14)
وأما ما حكاه ابن سيد الناس أن الله أحياه بعد بعثه النبي صلى الله عليه وسلم حتى آمن به ثم مات فهو مردود لأنه لا دليل عليه من حديث ضعيف ولا غيره وإنما حكوه عن بعض الشيعة وخلافهم غير معتبر عند أهل السنة
وكذا قول القرطبي على ما ذكره العماد ابن كثير عنه في تفسيره إن الله أحيى ابا طالب حتى آمن باطل موضوع بإجماع أهل الحديث ومخالف لمذهب الحق
على أنه سبق أنه لا ينفع الإيمان بعد العيان بل أقول لا يتصور هذا البيان إذ قال الله تعالى ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون ولا خلف في إخباره سبحانه
ومنها قول السيوطي
وإن ابن جرير ذكر في تفسيره عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى ولسوف يعطيك ربك فترضى قال من رضى محمد أن لا يدخل أحد من أهل بيته النار
وفيه أن هذا قول صحابي من قبل رأيه وعلى تسليم صحته ودلالته فأهل بيته لا يتناول أقاربه المتقدمين من الكفار بالإجماع
نعم يفيد أن من كان نسبه ثابتا إلى صاحب النبوة يرجى له حسن الخاتمة وحصول الشفاعة أو توفيق التوبة عن المعصية إذا كان من أهل الملة لما أخرجه أبو سعيد في شرف النبوة والملا في السيرة عن عمران بن حصين قال قال رسول الله
سألت ربي أن لا يدخل النار أحدا من أهل بيتي فأعطاني ذلك.
على أنه يمكن أن يقال المراد بالنفي دخول الآباء فيكون بشارة إلى موت أهل البيت على الإسلام ودخولهم دار السلام ولو كان بعد مضي الأيام
وأما ما أخرج تمام الرازي في فوائده بسند ضعيف عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا كان يوم القيامة شفعت لأبي وأمي وعمي أبي طالب وأخ لي كان في الجاهلية ـ أي بالرضاعة ـ كما في رواية فهو حجة لنا لا علينا لإدراجه أبويه مع عمه أبي طالب المجمع على كفره فالحديث إن ثبت فهو محمول على ما ورد في الصحيح من تخفيف العذاب عنهم بشفاعته والله سبحانه أعلم(1/15)
ثم أغرب السيوطي في قوله: ومما يرشح ما نحن فيه ما أخرجه ابن أبي الدنيا عن ابي هريرة رضي الله عنه مرفوعا قال سألت ربي أبناء العشرين من أمتي فوهبهم لي
ثم قال: ومما ينضم إلى ذلك وإن لم يكن صريحا في الحق ما أخرجه الديلمي عن ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعا أول من أشفع يوم القيامة أهل بيتي ثم الأقرب فالأقرب . . . الحديث
فذكر هذا وأمثاله مما لا يناسب حاله إذ الكلام ليس في أهل بيته من أهل الإسلام
وكذا قال النووي في شرح مسلم عند حديث إن أبي واباك في النار فيه
وإن من مات كافرا فهو في النار لا تنفعه قرابة الأقربين
وتعقبه السهيلي بما ظاهره من البطلان البديهي وهو قوله
ليس لنا أن نقول ذلك فقد قال لا تؤذوا الأحياء بسب الأموات وقال تعالى إن الذين يؤذون الله ورسوله ولعله يصح ما جاء أنه سأل الله سبحانه فأحيى له أبويه ورسول الله فوق هذا ولا يعجز الله سبحانه شيئا
ثم أورد قول النووي
إن من مات في الفترة على ما كانت عليه العرب من عبادة الأوثان فهو في النار وليس هذا من التعذيب قبل بلوغ الدعوة لأنه بلغتهم دعوة إبراهيم وغيره من الرسل انتهى
وهو في غاية من البهاء كشمس الضحى وبدر الدجى لكن مع هذا تعقبه بما هو كالبهاء في الهواء من المناقشة في العبارة على توهم المناقضة بين كلام النووي معترضا عليه بقوله
إن من بلغته الدعوة لا يكون من أهل الفترة
ورفعه سهل فإن مراد النووي من أهل الفترة من كان قبل بعثة نبينا بالجاهلية
ومنها قول السيوطي
إنهما لم يثبت شرك عنهما بل كانا على الحنيفية دين جدهما إبراهيم عليه الصلاة والسلام
قلت وهذا يعارضه ما صح في صحيح مسلم عنه عليه الصلاة والسلام كما سبق عليه الكلام
وهذا المسلك ذهبت إليه طائفة منهم الإمام فخر الدين الرازي فقال في كتابه أسرار التنزيل ما نصه(1/16)
قيل إن آزر لم يكن والد إبراهيم عليه السلام بل كان عمه واحتجوا عليه بوجوه منها أن آباء الأنبياء عليهم السلام ما كانوا كفارا ويدل عليه وجوه منها قوله تعالى الذي يراك حين تقوم وتقلبك في الساجدين قيل معناه أنه كان ينقل نوره من ساجد إلى ساجد فبهذا التصدير فالآية دالة على أن جميع آباء محمدكانوا مسلمين وحينئذ يجب القطع بأن والد إبراهيم عليه السلام ما كان من الكافرين إنما ذاك عمه
أقصى ما في الباب أن يحمل قوله تعالى وتقلبك في الساجدين على وجوه أخرى وإذا وردت الرواية بالكل ولا منافاة بينهما وجب حمل الآية على الكل ومتى صح ذلك ثبت أن والد إبراهيم عليه السلام ما كان من عبدة الأوثان
ثم قال
ومما يدل على أن آباء محمدما كانوا مشركين قوله لم
أزل أنقل من أصلاب الطاهرين إلى أرحام الطاهرات وقال تعالى إنما المشركون نجس فوجب أن لا يكون من أجداده مشركا
قال السيوطي
هذا كلام الإمام فخر الدين بحروفه وناهيك به إمامة وجلالة فإنه إمام أهل السنة في زمانه والقائم بالرد على الفرق المبتدعة والناصر لمذاهب الأشاعرة في عصره وهو العالم المبعوث على رأس المئة السادسة ليجدد لهذه الأمة أمر دينها انتهى
ولا يخفى مع معارضة كلامه لما سبق من الكتاب والسنة وأتفاق الأئمة وما هو صريح في صحيح مسلم من كلام صاحب النبوة أنه قال تعالى في كلامه القديم ما يدل على كفر أبي إبراهيم والأصل في حمل الكلام على الحقيقة ولا يعدل عنه إلى المجاز إلا حال الضرورة عند دليل صريح ونقل صحيح يضطر منه إلى ارتكاب المجاز
فبمجرد قول إخباري تاريخي يهودي أو نصراني كما عبر عنه
ب قيل إن آزر لم يكن والد إبراهيم عليه السلام بل كان عمه كيف يعدل عن آيات مصرحة فيها إثبات الأبوة
منها قوله تعالى
وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر
وهو عطف بيان أو بدل بناء على أنه لقب له أونعت بلسانهم ونحو ذلك
ومنها قوله تعالى(1/17)
ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولى قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم
وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه وفي قراءة شاذة أباه
ومنها قوله تعالى حكاية عن إبراهيم يا أبت مكررا
ومنها قوله تعالى قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا براء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك
وما أملك لك من الله من شيء
وأقول زيادة على ذلك وهو أنهكان مبينا للكتاب وممهدا الطريق الصواب فلو كان المراد بأبي إبراهيم عمه لبينه ولو في حديث للأصحاب ليحملوا الأب على عمه بطريق المجاز في هذا الباب
ثم دعوة أن آباء الأنبياء عليهم السلام لم يكونوا كفارا تحتاج إلى برهان واضح ودليل لائح فاستدلاله بقوله تعالى وتقلبك في الساجدين بناء على قيل في غاية من السقوط كما يعلم من قول سائر المفسرين في الآية
فقد ذكر البيضاوي وغيره في تفاسيرهم أن معنى الآية وترددك في تصفح أحوال المتهجدين كما روي أنه لما نسخ فرض قيام الليل طاف تلك الليلة بيوت أصحابه لينظر ما يصنعون حرصا على كثرة طاعاتهم فوجدها كبيوت الزنابير لما سمع لها من دندنتهم بذكر الله تعالى
ونقل الإمام أبو حيان في البحر عند تفسير قوله تعالى وتقلبك في الساجدين أن الرافضة هم القائلون إن آباء النبي صلى الله عليه وسلم كانوا مؤمنين مستدلين بقوله تعالى ونقلبك في الساجدين وبقوله عليه الصلاة والسلام لم أزل انقل من أصلاب الطاهرين . . . الحديث
الرد على ابن حجر المكي(1/18)
وأما قول ابن حجر المكي فلك رد قول أبي حيان بأن مثله إنما يرجع إليه في علم النحو وما يتعلق به فظاهر البطلان للإجماع على قبول شهادة النحويين وروايتهم عن المحدثين إذا لم يكن فيه ضعف في الدين كيف وله ثلاثة من التفاسير وله في السير كتاب كبير مع أن الشيعة بأجمعهم مقرون بأن هذا قاعدة مذهبهم
وله أن يعارضها ويقول وأنت فقيه صرف لم تعرف إلا رؤوس المسائل الفقهية المتعلقة بالخصومات العرفية
وبهذا يظهر أيضا بطلان قول ابن حجر وأما من أخذه كالبيضاوي وغيره فقد تساهل واستروح انتهى
فكيف يصح قول الراوي إن جميع آباء محمد كانوا مسلمين مع حديث مسلم وإجماع جمهور المسلمين
ثم أغرب في قوله: وحينئذ يجب القطع بأن والد إبراهيم عليه السلام ما كان من الكافرين انتهى
ولا يخفى أنه لم يثبت به الظن فضلا عن القطع بل إنما هو في مرتبة الشك أو الوهم
ثم الاستدلال على أن آباء محمد ما كانوا مشركين بقوله ولم أزل أنقل من أصلاب الطاهرين إلى أرحام الطاهرات إلى آخر ما ذكره مردود عليه بما أشرنا إليه وبأن المراد بالحديث ما ورد من طرق متعددة
منها ما أخرجه البيهقي في دلائل النبوة عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما افترق الناس فرقتين إلا جعلني الله تعالى في خيرهما ، فأخرجت من بين أبوين فلم يصبني شيء من عهر الجاهلية ، وخرجت من نكاح ولم أخرج من سفاح ، من لدن آدم عليه السلام حتى انتهيت إلى أبي وأمي ، فأنا خيركم نفسا ـ أي روحا وذاتا ـ وخيركم أبا)) ـ أي نسبا وحسبة.
ومنها ما أخرجه أبو نعيم في دلائل النبوة من طرق عن ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعا
((لم يلتق أبواي قط على سفاح لم يزل الله عز وجل يتقلبني من الأصلاب الطيبة والأرحام الطاهرة صافيا مهذبا لا يتشعب شعبتان إلا كنت في خيرهما))
ومنها ما أورده البيهقي في سننه ((ما ولدني من سفاح الجاهلية شيء ما ولدني إلا نكاح كنكاح الإسلام)).(1/19)
وأما ما ذكر ابن حجر المكي تبعا للسيوطي من أن الأحاديث مصرحة لفظا في أكثره ومعنى في كله أن آباء النبي صلى الله عليه وسلم غير الأنبياء وأمهاته إلى آدم وحواء ليس فيهم كافر لأن الكافر لا يقال في حقه إنه مختار ولا كريم ولا طاهر فمردود عليه إذ ليس في الأحاديث لفظ صريح يشير إليه وأما المعنى فكأنه أراد به لفظ المختار و الكريم والأطهار وهو لا دلالة فيه على الإيمان أصلا وإلا فيلزم منه أن تكون قبيلة قريش كلهم مؤمنين لحديث
إن الله اصطفى بني كنانة من ولد إسماعيل واصطفى قريشا من كنانة
ولم يقل به أحد من المسلمين ، وكذا حديث: ((فاختار منهم العرب)).
ولا يصح عموم إيمانهم قطعا بل لو استدل بمثل هذا المبنى لزم أن لا يوجد كافر على وجه الأرض لقوله تعالى ولقد كرمنا بني آدم . . . إلى أن قال وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا
فتأمل فإنه موضع زلل ومقام خطل واحذر أن تكون ضالا مضلا في الوحل ثم ما أبعد قوله في حديث مسلم ((إن أبي وأباك في النار))
وقصد بذلك تطييب خاطر ذلك الرجل خشية أن يرتد إن قرع سمعه أولا أن أباه في النار انتهى
وهذا نعوذ بالله وحاشاهأن يخبر بغير الواقع ويحكم بكفر والده لأجل تألف واحد يؤمن به او لا يؤمن فهذه زلة عظيمة وجرأة جسيمة حفظنا الله عن مثل هذه الجريمة
عود الرد على السيوطي
ومنها استدلال السيوطي على إيمان جميع آبائه بما ذكره عبد الرزاق في المصنف عن معمر عن ابن جريح قال قال ابن المسيب قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه لم يزل على وجه الأرض في الدهر سبعة مسلمون فصاعدا ولولا ذلك هلكت الأرض ومن عليها.
وهذا إسناد صحيح على شرط الشيخين ومثله لا يقال من قبل الرأي فله حكم الرفع
وأطال في ذكر أمثاله من الأخبار والآثار مما ليس له مناسبة في هذا الباب وإنما هو تسويد الكتاب عند من لم يميز بين الخطإ والصواب(1/20)
هذا وما أخرج ابن أبي حاتم بسند ضعيف عن ابن عباس رضي الله عنهما من أن ابا ابراهيم لم يكن اسمه آزر وإنما كان اسمه تارخ
فلا دلالة منه على المدعى لأنا نقول ولو سلم أن اسمه تارخ ولقبه آزر لا يلزم أن أباه لم يكن مشركا
وكذا ما أخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم من طرق بعضها صحيح عن مجاهد قال ليس آزر أبا إبراهيم
يعني اسمه بل لقبه لما سبق جمعا بين الأدلة
ويؤيده ما أخرجه ابن أبي حاتم بسند صحيح عن السدي أنه قيل له اسم أبي إبراهيم آزر فقال
بل اسمه تارخ
يعني ولقبه آزر
وكذا ما أخرجه ابن المنذر بسند صحيح عن ابن جريج في قوله تعالى وإذا قال إبراهيم لأبيه آزر
وليس آزر بأبيه يعني بل لقبه وإنما هو إبراهيم بن تيرخ أو تارخ بن شاروخ بن ناحور بن فالخ
هذا ولم يذكر أحد من هؤلاء الأعلام أن آزر عم إبراهيم عليه السلام فثبت أن ذلك القيل من القول العليل
وقد أخرج ابن أبي حاتم بسند صحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ((ما زال إبراهيم يستغفر لأبيه حتى مات فلما تبين له أنه عدو الله فلم يستغفر له)).
وأخرج عن محمد بن كعب وقتادة ومجاهد والحسن وغيرهم قالوا: كان يرجو إيمانه في حياته فلما مات على شركه تبرأ منه. وقد قدمنا هذا المبحث مستوعبا
ومنها استدلاله بقوله تعالى وجعلها كلمة باقية في عقبه حيث قال: أخرج عبد بن حميد في تفسيره عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: لا إله إلا الله باقية في عقب إبراهيم عليه السلام
أقول أي في ذريته ولا يلزم منه عمومهم ويكفي وجوده في بعض منهم إذ الإجماع منعقد على أن جميع ذرية إبراهيم من أولاد إسماعيل وإسحاق عليهم السلام لم يكونوا مؤمنين ولهذا قال قتادة رضي الله عنه: ولا يزال في ذريته من يقولها من بعده ، وفي رواية: من يوحد الله عز وجل ويعبده
وقال ابن جريج: فلم يزل بعد من ذرية إبراهيم عليه السلام من يقول لا إله إلاالله.(1/21)
ومنها استدلاله بقوله تعالى {وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا البلد آمنا واجنبني وبني أن نعبد الأصنام} حيث قال: أخرج ابن جرير في تفسيره عن مجاهد في هذه الآية قال فاستجاب الله تعالى لإبراهيم عليه السلام دعوته في ولده فلم يعبد أحد من ولده صنما بعد دعوته واستجاب الله له وجعل هذا البلد آمنا ورزق أهله من الثمرات وجعله إماما وجعل من ذريته من يقيم الصلاة . انتهى
ولا يخفى أنه لا يصح حمل ولده على عموم ذريته للإجماع على أن في أولاد إسماعيل وإسحاق كفرة مشركين من العرب واليهود والنصارى فيجب حمله على أن المراد بولده أولاد صلبه كما هو ظاهر كلامه تعالى حكاية عنه بقوله وبني
قال البغوي: فإن قيل قد كان إبراهيم معصوما عن عبادة الأصنام فكيف يستقيم السؤال وقد عبد كثير من بنيه الأصنام فإن الإجابة قبل الدعاء في حق إبراهيم عليه السلام لزيادة العصمة والتثبيت وإما دعاؤه لبنيه فأراد بنيه من صلبه ولم يعبد أحد منهم الصنم وقيل إن دعاءه لمن كان مؤمنا من بنيه أي ذريته
وبهذا اندفع ما أخرجه ابن أبي حاتم عن سفيان بن عيينه أنه سئل هل عبد أحد من ولد إسماعيل الأصنام قال: ألا تسمع قوله تعالى {واجنبني وبني أن نعبد الأصنام} قيل: فكيف لم يدخل ولده إسحاق وسائر ولد إبراهيم عليه السلام.؟ قال لأنه دعا لأهل هذه البلد أن لا يعبدوا إذا أسكنهم إلا إياه فقال اجعل هذا البلد آمنا ولم يدع لجميع البلدان بذلك فقال واجنبني وبني أن نعبد الأصنام فيه وقد خص أهله وقال ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة
قال السيوطي: فانظر إلى هذا الجواب من سفيان بن عيينة وهو أحد الأئمة المجتهدين وهو شيخ إمامنا الشافعي(1/22)
قلت انظر إلى ما قال ولا تنظر إلى من قال ليتبين لك حقيقة الحال فإن الاتفاق على أن العرب من نسل إسماعيل عليه السلام وهم سكان حول البيت الحرام وكانوا يعبدون الأصنام في جميع الليالي والأيام وأن الأوثان داخل البيت وخارجه في مكة كانت في غاية من الكثرة إلى أن غلب عليهم يوم الفتح فكسرها وأخرجها قائلا جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا أي مضمحلا من نفسه وفي رواية في جميع أوقاته كقوله تعالى كل شيء هالك إلا وجهه وكقول لبيد
ألا كل شيء ما خلا الله باطل
قال البيضاوي: واجنبني وبني بعدني وإياهم أن نعبد الأصنام وهو بظاهره لا يتناول أحفاده وجميع ذريته وزعم ابن عيينة أن أولاد إسماعيل عليه السلام لم يعبدوا الصنم محتجا به وإنما كانت لهم حجارة يدورون بها ويسمونها الدوار ويقولون البيت حجر فحيثما نصبنا حجرا فه بمنزلته . . انتهى
وبطلانه ظاهر مما قدمناه كما لا يخفى
ومنها استدلاله بقوله تعالى: {رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي}
وقد أخرج ابن المنذر عن ابن جريج أنه قال: فلن يزال من ذرية إبراهيم عليه السلام ناس على الفطرة يعبدون الله.
قلت هذا كلام صحيح ودلالته على التبعيض صريح
وأما ما ورد عن ابن عباس وغيره من أنه كان عدنان ومعد وربيعة مضر وخزيمة وأسد على ملة إبراهيم فلا تذكروهم إلا بخير. فلا دلالة فيه على تقدير صحته إلا على أن هؤلاء كانوا على التوحيد وإنما أشرك أولادهم من بعدهم بخروجهم عن حيز التوفيق والتأييد
ومنها أنه قد ثبت عن جماعة كانوا في زمن الجاهلية أنهم تحنفوا وتدينوا بدين إبراهيم عليه السلام وتركوا الشرك فما المانع من أن يكون أبوا النبي صلى الله عليه وسلم سلكوا سبيلهم في ذلك(1/23)
قلت بعدما كان مستدلا قاطعا رجع فصار مانعا وهذا مسلكه أهون من بيت العنكبوت ولا يصلح أن يقال مثل هذا إلا في البيوت إذ حديث مسلم ينادي على خلاف ذلك وبقية ما ذكرنا من الدلالات في الآيات والأحاديث يرد احتمال خلاف ما هنالك لأن الحافظ أبا الفرج ابن الجوزي ذكر في التلقيح تسمية من رفض عبادة الأصنام في الجاهلية أبو بكر الصديق زيد بن عمرو بن نفيل عبيد الله بن جحش عثمان بن الحويرث ورقة بن نوفل رياب بن البراء الشمني أمية بن أبي الصلت أسعد بن كرب الحميري قس بن ساعدة الإيادي أبو قيس بن صرمة . . . انتهى
ولو كانا من هذا القبيل لكان ذكرهما أولى في مقام التعليل هذا وقد روى ابن إسحاق وأصلحه في الصحيح تعليقا عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت لقد رأيت زيد بن عمرو بن نفيل مسندا ظهره إلى الكعبة يقول يا معشر قريش ما أصبح منكم أحد على دين إبراهيم غيري ثم يقول اللهم إني لو أعلم أحب الوجوه إليك عبدتك به ولكني لا أعلم
وهذا يدل على ما حررناه وفيما تقدم قررناه من أن جميع ذرية إسماعيل عليه السلام لم يثبتوا على دين إبراهيم عليه السلام من التوحيد
وأخرج أبو نعيم في دلائل النبوة عن عمرو بن عبسة السلمي قال: رغبت عن آلهة قومي في الجاهلية ورأيت أنها الباطل يعبدون الحجارة
وأخرج أبو نعيم والبيهقي كلاهما في الدلائل من طريق الشعبي عن شيخ من جهينة: أن عمير بن حبيب الجهيني ترك الشرك في الجاهلية وصلى لله تعالى وعاش حتى أدرك الإسلام
هذا وقد أظهر السيوطي مجادلته مع كل من الحنفي والمالكي والشافعي والحنبلي في عدولهم من الحديث الصحيح لما قام عندهم من الدليل الصريح الصارف عن العمل بذلك الحديث والأخذ به مع أن أدلة كل من المذاهب مذكورة في مؤلفاتهم ومسطورة في مطولاتهم وليس في قواعدهم أن يتركوا الحديث الصحيح ويأخذوا بالحديث الضعيف في مقام الترجيح على أن الشافعي قال: إذا صح الحديث فاتركوا قولي(1/24)
ثم قال: وإن كان المجادل ممن يكتب الحديث ولا فقه عنده يقال له فقد قال الأقدمون المحدث بلا فقه كعطار غير طبيب فالأدوية حاصلة في دكانه ولا يدري لماذا تصلح والفقيه بلا حديث كطبيب ليس بعطار يعرف ما تصلح له الأدوية إلا أنها ليست عنده وإني بحمد الله قد اجتمع عندي الحديث والفقه والأصول وسائر الآلات من العربية والمعاني والبيان وغير ذلك وأنا أعلم كيف أتكلم وكيف أقول وكيف استدل وكيف أرجح وأما أنت يا أخي وفقني الله تعالى وإياك فلا يصلح لك ذلك لأنك لا تدري الفقه والأصول ولا شيئا من الآلات.
والكلام في الحديث والاستدلال به ليس بالهين ولا يحل الإقدام على التكلم فيه لمن لم يجمع هذه العلوم فاقتصر على ما آتاك الله تعالى وهو أنك إذا سئلت عن حديث تقول ورد أو لم يرد وصححه الحفاظ أو حسنوه أو ضعفوه لا يحل لك في الإفتاء سوى هذا القدر وخل ما عدا ذلك والله أعلم
لا تحسب المجد تمرا أنت آكله ... ولن تبلغ المجد حتى تلعق الصبرا . انتهى
وقد أطنب الشيخ رحمه الله في منقبته وهو كذلك في حد ذاته وصفاته مع اسحقاق زيادة في تزكيته لأنه صنف في كل صنف من العلوم الشرعية كالتفسير والحديث والفقه والآلات العربية إلا أنه في هذه الرسالة عمل عمل العطارين في تكبير النوالة وتكثير الحوالة ولم إلى الكلام العلماء المتقدمين وأئمة المعتبرين الذين هم الأطباء والحكماء في نظر الخواص والعوام أجمعين
نصب ميدان جدلي مع السيوطي رحمه الله تعالى
ثم أقول له بطريق المجادلة على أسلوب الجدل هل يعارض حديث مسلم المجمع على صحته الدال على كفر أبويه بحديث إحيائهما وإيمانهما به بعد بعثهما والحال أنه ضعيف باتفاق المحدثين بل موضوع باطل لا أصل له عند المحققين مع أنه مخالف للآيات السابقة والأحاديث اللاحقة ولكلام الأئمة الأربعة وغيرهم من أكابر هذه الأمة وعلماء أهل السنة والجماعة وإنما هو على الأصول الباطلة للطائفة الرافضة(1/25)
أو نقول إذا صح الحديث عن الرسول وتلقته الأمة بالقبول فهل يحل لأحد من أرباب الفضول أن يرد عليه ويقول إنهما ماتا في الفترة قبل البعثة أو يمتحنان يوم القيامة
أفليس هذا معارضة بالتعليل في مقابلة النص من الدليل ما ذكر أرباب الأصول في الحديث والفقه الجامعون بين المنقول والمعقول أن الحديث إذا ثبت في الصحيحين أو أحدهما فلا يعارضه حديث غيرهما ولو صح من طريقهما وإن كان من بقية صحاح الست
فكيف إذا أخرجه أصحاب الكتب غير المعتبرة من الطرق غير المشهورة وصرح الحفاظ بضعف طرقه كلها بل بوضعها والحال أنه لم يقل بهذه الرواية إلا جمع من المقلدين لم يصلوا إلى مرتبة المجتهدين كابن شاهين والخطيب البغدادي والسهيلي والقرطبي والمحب الطبري وابن المنير وأمثالهم
وهل يحل لأحد من الحنفية وغيرهم أن يقلدوا هؤلاء المذكورين ويتركوا الاقتداء بأئمتهم المعتبرين مع ظهور أدلة الجمهور من علماء الأمة لا سيما والمسألة من الاعتقاديات التي لا بد لها من الأدلة اليقينية لا من الفروع الفقهية التي تغلب مدارها على القواعد الظنية. انتهى ما تعلق بزبدة كلامه وخلاصة مرامه وعدلنا عن التعرض لما ذكره من التطويل الذي لا يفيد التعليل في مقام التحصيل وإنما هو بيان قال وقيل والله هو الهادي إلى سواء السبيل
وبهذا يتبين أنه كحاطب ليل وخاطب ويل فتارة يقول إنهما مؤمنان من أصلهما فإنهما من أهل الفترة أو لكونهما من آباء أرباب النبوة وأخرى يقول إنهما كانا كافرين لكنهما أحياهما الله وآمنا ومرة يقول ما كانا مؤمنين وما كانا كافرين بل كانا في مرتبة المجانين جاهلين فيمتحنان يوم القيامة وبالظن يحكم أنهما ناجيان
فانظر إلى هذه المعارضات الواضحة والمناقضات اللائحة فهل تثبت المسائل الاعتقادية بأمثال هذه الاحتمالات العقلية(1/26)
فدلت تصانيفه في هذه القضية بأنه أقل العطارين بالنسبة إلى إمام الحكماء المعتبرين فإنه رحمه الله أعلم علماء الشافعية في زمانه وتفوق على جميع أقرانه وأنا الفقير الحقير من أقل علماء الحنفية بينت خطأه بما أخذته غالبا من الكتب التفسيرية والحديثية ولكن ذلك الفضل من الله ولا حول ولا قوة إلا بالله
وفيه الدلالة على أن باب الفيض مفتوح على هذه الأمة وأنه لا بد في الوجود من يكشف الغمة مما اختلفت فيه الآئمة ويميز بين الحق والباطل ويبين المزين من العاطل
الرد على القائلين بأن ابا إبراهيم عليه السلام لم يكن كافرا
ثم اعلم أن ما اختاره الفخر الرازي وتبعه السيوطي في أن أبا ابراهيم عليه السلام لم يكن كافرا فساد عظيم في الدين وتشكيك لعقيدة أرباب اليقين وإن كان كل واحد منهما يدعي أنه من المجددين بل يصح أن يقال إنهما من المحدثين لما ورد أنه من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد من بين المجتهدين(1/27)
وبيانه أن المسلمين من أهل الشرق والغرب أجمعين يقرؤون القرآن العظيم ويتلون الفرقان الكريم فإذا رأوا فيه نصا على انتساب الكفر إلى أبي إبراهيم عليه التحية والتسليم فهم يؤمنون ويعتقدون ذلك حيث لم يكن صارف عن حمله على الحقيقة هنالك ولا يدرون أن إخباريا يهوديا أو نصرانيا ذكر أن المراد بأبيه عمه قاصدا بذلك الطعن في دين النبي صلى الله عليه وسلم وكتاب ربه فهل يحكم ببطلان هذا القول الذي هو مخالف لظاهر الكتاب ومعارض لما قدمناه في هذا الباب أو بحكم بفساد اعتقاد جميع المسلمين من أهل البر والبحر أجمعين إلا من اعتقد اعتقاد الرازي والسيوطي مع أنهما قبل وصول هذا القول الباطل إليهما لم يكونا شاكين في أن ابا إبراهيم عليه السلام ما كان على الدين القويم والطريق المستقيم فلما حققا ذلك وصنفا بيان ما هنالك رجعا عن اعتقادهما الباطل على زعمهما إلى الاعتقاد الحق عندهما حتى قلدهما ابن حجر المكي وبالغ حتى قال: وهذا هو الحق فماذا بعد الحق إلا الضلال ، والله سبحانه يصلح الأحوال
ثم انظر إلى ما قاله السيوطي من الاستدلال السقوطي وهو أنه قد وجه من حيث اللغة بأن العرب تطلق لفظ الأب على العم إطلاقا شائعا وإن كان مجازاً
ففي التنزيل {أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق} صلى الله عليهم
فأطلق على إسماعيل لفظ الأب وهو عم يعقوب عليه السلام كما أطلق على إبراهيم عليه السلام وهو جده
أخرج أبن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله عنهما: أنه كان يقول الجد أب ويتلو نعبد إلهك وإله آبائك الآية
وأخرج عن أبي العالية في قوله تعالى وإله آبائك إبراهيم عليهما السلام قال: سمى العم أبا.
وأخرج عن محمد بن كعب القرظي قال: الخال والد والعم والد وتلا هذه الآية
فهذه أقوال السلف من الصحابة والتابعين في ذلك(1/28)
قلت: هذه طنطنة مضرية ليس تحتها فائدة قوية إذ نفس الآية الشريفة يستفاد منها عند كل عاقل للإنباء أنه لا يصح إطلاق جمع الآباء حقيقة بالنسبة إلى واحد من الأبناء لا شرعا ولا عرفا على عموم الجزاء بأن يقال المراد بالآباء الأسلاف كما قاله الأئمة الحنفية أو على استعمال اللفظ بالاشتراك بين الحقيقة والمجاز كما اختاره الشافعية
فإذا عرفت ذلك فهل ترى أن تكون هذه الآية نظير الآيات الدالة على أن المراد بأبي إبراهيم أبوه حقيقة ولا يصح أنه أراد عمه مجازا حيث لا دليل من جهة العقل الصريح ولا من طريقة النقل الصحيح ما يصلح أن يكون مانعا من إرادة الحقيقة وباعثا على قصد المجاز
الرد على رسالة لابن كمال الباشا في أبوي النبي صلى الله عليه وسلم
ثم رأيت رسالة في هذه المسألة لابن كمال باشا فيها ما لا ينبغي من الأشياء
منها قوله: وإن السلف اختلفوا ، والحال أنه لا يصح الخلف إلا في الخلف
ومنها نقله عن الحافظ ابن دحية ما قدمناه أنه قال: فمن مات كافرا لم ينفعه الإيمان بعد الرجعة بل لو آمن عند المعانية فكيف بعد الإعادة.
وتعقبه بأنه مدفوع بما ورد من أن أصحاب يبعثون الكهف في آخر الزمان ويحجون ويكونون من هذه الأمة تشريفا لهم بذلك أخرجه ابن عساكر في تاريخه
وأخرجه ابن مردويه في تفسيره من حديث ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعا: ((أصحاب الكهف أعوان المهدي)) انتهى
ولا يخفى بطلان هذا التعقب لأن أصحاب الكهف ماتوا مؤمنين بإجماع المسلمين وإنما الكلام في قبول توبة الأموات من المشركين
ثم قال: ولا بدع أن يكون الله كتب لأبوي النبي صلى الله عليه وسلم ثم قبضهما قبل استيفائه ثم أعادهما لاستيفاء تلك اللحظة الباقية وآمنا فيها فيعتد به انتهى
ولا يخفى أن البحث ليس في إمكان القدرة لأنها قابلة للطرفين وشاملة للصنفين وإنما الكلام في صحة وقوع أي الشقين(1/29)
ثم قال: وأما قوله بل لو آمن عند المعاينة فكيف بعد الإعادة فمردود بأن الإيمان عند المعاينة إيمان بأس فلا يقبل بخلاف الإيمان بعد الإعادة وقد دل على هذا قوله تعالى ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه
أقول الكمال لله وإلا فمثل هذا الفاضل في مقام الأقصى كيف يغفل عن البرهان الأولى فإن الإيمان إذا لم يقبل عند مشاهدة بعض أحوال الآخرة الذي هو عين اليقين فكيف يقبل بعد خروجه من الدنيا وتحققه بأمور العقبى الذي يسمى حق اليقين على أن المطلوب من العبد أن يؤمن بالغيب الذي هو علم اليقين مع أن الله تعالى نص على الحالتين بقوله وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن وهو حال الغرغرة ولا الذين يموتون وهم كفار وهو بعد الإعادة
ثم من أعجب العجائب وأغرب الغرائب قوله
ويبتني على هذا قوله تعالى ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه فإنه دل عليه صحيحا لكن على رده صريحا لأنهم إذا عادوا لما نهوا عنه من الكفر والمعصية فلا يتصور منهم وجود الإيمان مع الطاعة
وأما ما ذكره ابن الكمال تبعا للسيوطي من أنه سئل القاضي أبو بكر بن العربي أحد المالكية عن رجل قال إن أبا النبي صلى الله عليه وسلم في النار فأجاب بأنه ملعون لأن الله تعالى يقول إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة قال: ولا أذى أعظم من أن يقال عن أبيه إنه في النار. محمول على من قصد أذى النبي عليه الصلاة والسلام بإطلاق هذا الكلام فإنه ملعون بل كافر مطعون وأما من أخبره لما ثبت عنه عليه الصلاة والسلام واعتقده كأبي حنيفة وغيره من علماء الأعلام فحاشاهم من نسبة الطعن إليهم ويحرم اللعن عليهم
ثم نقله تبعا له عن السهيلي: ليس لنا أن نقول ذلك في أبويه صلى الله عليه وسلم ، لقوله عليه السلام: ((لا تؤذوا الأحياء بسب الأموات)) كما رواه الطبراني ، فدفعه ظاهر على من عنده علم باهر وعقل قاهر.(1/30)
ثم قال ابن الكمال: وبالجملة هذه المسألة ليست من الاعتقاديات فلا حظ للقلب منها وأما اللسان فحقه أن يصان عما يتبادر على دفعه وتداركه
قلت ما ثبت بالكتاب والسنة يجب اعتقاده مجملا ومفصلا نعم لو لم يخطر ببال مؤمن هذا المبحث لا نفيا ولا إثباتا لا يضره ككثير من المسائل المذكورة في كتب العقائد المسطورة
ثم هذه المسألة لو لم تكن في الجملة من المسائل الإعتقادية لما ذكرها الإمام المعظم المعتبر في ختم فقه الأكبر وكان هذا من علامة ولايته رضي الله عنه حيث كوشف له هذا المعنى أن يقع الاختلاف في هذا المبنى
ثم لا عبرة بالعوام فهم كالأنعام في عقائدهم الفاسدة وتأويلاتهم الكاسدة وإنما المراد المرد على كلام الخواص من العلماء الأعلام الذين هم قدوة أهل الإسلام.
واقعة غريبة:
ثم من الوقائع الغريبة في الأزمنة القريبة أن بعض علماء الحنفية مع انه بلع الغاية القصوى في مرتبة الفتوى أفتى تبعا للسيوطي وجمع من الشافعية مع اطلاعه على عقيدة إمام الملة الحنيفية حيث قال: المشهور عند العلماء ما ذكره الإمام الأعظم ولم يرجع عنه غير أن العلامة السيوطي أخرج بسنده حديثا يصلح التمسك به مضمونه أن الله أحيى أبويه فآمنا به.
ثم قال في أخره: وهو الذي نعتقده وندين الله به.
ثم إنه تعارض حديث ابن مسعود وحديث ابن عباس رضي الله عنهما وأمكن الجمع بينهما بأنه منع من الاستغفار أولا وهو مضمون حديث ابن مسعود ثم أذن له ثانيا وهو مضمون حديث ابن عباس الذي أخذ به الجلال السيوطي انتهى ملخصاً
وأنت عرفت أن الحديث الأول الذي تمسك به السيوطي ليس بإسناده ولا يصح بالاتفاق بل هو ضعيف كما اعترف به السيوطي أو موضوع كما صرح به غيره
وأما ما نسبه إلى ابن عباس فلا أصل له لا عند السيوطي ولا عند غيره والله أعلم.
وكان الواجب عليه حيث لا دليل قدامه أن يقتفي إمامه ولا يعتدي أمامه تصديقا لقول القائل:
إذا قالت حذام فصدقوها ... فإن القول ما قالت حذام(1/31)
حكم من طعن في نسب النبي صلى الله عليه وسلم.
ثم قال ابن الكمال: لا خفاء في أن إثبات الشرك في أبويه إضلال ظاهر بشرف نسبه الطهر
قلت: هذا القول ليس له دخل في نسبه الطاهر بل إثبات لما أثبته عليه الصلاة والسلام بنفسه الطاهر.
نعم من قذف أم النبي صلى الله عليه وسلم قتل ، مسلماً كان أو كافرا ، كما قاله الإمام موفق الدين بن قدامه الحنبلي في المقنع ونقله عنه السيوطي.
وإنما خصت الأم بالذكر لثبوت أحاديث دلت على أنه عن أمه نكاحا غير سفاح فإنكار ما يثبت عنه كفر فلا يرد أن حكم القاذف الحد المعروف.
ثم قوله كافرا فيه بحث من جهة إطلاقه لأن الحربي لا كلام فيه والمستأمن لا يجوز قتله والذمي ظاهرة القتل لأن له ما لنا وعليه ما علينا إلا ما خص بدليل
وأما ما ذكره الكردري في المناقب من أنه من مات على الكفر أبيح لعنه إلا والدي رسول الله صلى الله عليه وسلم لثبوت أن الله تعالى أحياهما له حتى آمنا به ففيه ما سبق من التنبيه أنه أثبت كفر والديه ومنع لعنهما بشبهة الحديث المذكور ولو لم يصح نقلا ولا شرعا غايته أنه يجوز عقلا فلا شك أن الأحوط لصاحب الدين أن لا يلعن أحداً فإن الاشتغال بذكر المولى في كل حال هو الأولى.
ثم ظهر لي وجه آخر في منع اللعن وهو ما قاله صلى الله عليه وسلم: ((لا تؤذوا الأحياء بسب الأموات)).
فعلى هذا لا يجوز لعن والدي عمر رضي الله عنه ولا آباء الصحابة ولا آباء بقية المسلمين إذ لا فائدة في اللعن وقد تتفرع عليه الطعن وينجر إلى الفساد فيما بين العباد على الخصوص بالنسبة إلى والديه أب للأمة وله كمال في الحرمة ولولا النفي المتضمن لمنعنا من الاستغفار لهما ولأمثالهما في الآية لكنا دعونا لهما بالمغفرة فلا يناسب أن ندعو عليهما باللعن والطرد من الرحمة بل ربما يجوز لنا أن ندعو لهما بتخفيف العذاب عنهما ونسلم الأمر إلى خالقهما فيما قضى عليهما وكان أمر الله قدرا مقدورا و كان ذلك في الكتاب مسطورا(1/32)
وهذه مسألة تحيرت فيها العقول واضطربت فيها النقول وليس لأحد الوصول إلى حقيقة هذا المحصول إلا أن يقول كما قال تعالى ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون
واقعة أخرى غريبة
ثم من الواقعة الغريبة في الحال القريبة أن الفاضل العصامي مفتي مذهب الشافعي أنكر على الحنفية في قولهم إن ذا أب مسلم لا يكون كفوا لمن لم يكن له أب مسلم معترضا بأنه يلزم منه أن لا يكون النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها.
وإنما نشأ هذا منه بناء على جهله بالقواعد الحنفية فإنهم قالوا قريش بعضهم كفوا لبعض والعرب كذلك وإنما اعتبروا إيمان الآباء فيما عدا العرب من الأعجام والأروام وسائر الأنام في مسألة الأكفاء.
الحكمة من موت أبوي الرسول على الكفر
هذا وفيه بيان لكمال قدرته في خلقه وأمره وتبيان لسر قضائه وقدره ورد على الحكماء والفلاسفة والطبيعية في بناء أمر النبوة والمعرفة على الأمور النسبية والأحوال الكسبية لا على المواهب الإلهية السبحانية والجذبات الربانية الصمدانية كما أشار الله سبحانه إلى هذا المعنى في رد ذلك المبنى بقوله: {يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي} فأخرج الله سبحانه المؤمن من الكافر والكافر من المؤمن كابن نوح عليه السلام فإنه كافر بإجماع أئمة الإسلام وكقابيل قاتل هابيل من بني آدم عليه السلام فإنه كافر باتفاق علماء الأعلام
ولما رأى عليه الصلاة والسلام عكرمة بن أبي جهل بعد الإسلام قرأ {يخرج الحي من الميت}
وفي هذا بيان عظيم إلى أن الإيمان إنعام جسيم لا يصل إليه إلا نبي أو ولي كريم ممن سبقت لهم الحسنى بالوصول إلى المقام الأسنى
فنسأل الله تعالى حسن الخاتمة الدالة على سبق العناية بتعلق الإرادة لتحقق السعادة داعين ربنا توفنا مسلمين وألحقنا بالصالحين وأدخلنا الجنة آمين غير خزايا ولا مفتونين آمين
وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.(1/33)
أضواء على الرسالة المنسوبة إلى الحافظ الذهبي
النصيحة الذهبية لابن تيمية
وتحقيق في صاحبها
تأليف
محمد عبدالله أحمد
أبو الفضل القونوي
قام بنشرها أبو عمر الدوسري
www.frqan.com
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إإإه إلاّ الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمّداً عبده ورسوله.
أما بعد فهذه دراسة جديدة لرسالة اشتهرت باسم «النصيحة الذهبية لابن تيمية» ونُسبت غلطاً ـ أوقصداً ـ إلى الإمام الحافظ مؤرخ الإسلام؛ أبي عبد الله الذهبي (ت 748 هـ) رحمة الله عليه، صاحب التصانيف البارعة التي خدم بها الحديث النبوي والعلوم الإسلامية، وحسبك دلالة على علو قدره في العلم؛ أن الحافظ ابن حجر العسقلاني (ت852هـ)«قد شرب ماء زمزم لنيل مرتبته، والكيل بمعيار فطنته»(1).
ومنذ أن ظهرت هذه «النصيحة» إلى عالم المطبوعات قبل خمسٍ وسبعين سنة،وهي موضع جدال بين أهل الاختصاص فمن مُسَلّم بأن الذهبي أنشأها، ومن دافع في صدر هذا الزعم، مشككٍ فيه، قائل بتزويره عليه، ولا ريب عندي: أن الذهبي بريء من إرسالها براءة الذئب من دم يوسف عليه السلام.
إلا أن حديث التزوير والتنحُّل على مؤرخ الإسلام قد تراجع في دراستي هذه إلى الاحتمال الأخير، وتراجع معه الاحتمال المفظع، ألا وهو رمي واحد من نساخها الأعلام الثقات بتكذُّبها واختلاقها، وذلك بعد أن بدا لي واضحاً (البطائحي) الذي كتبها ـ تَبَّت يده ـ وأرسلها إلى شيخ الإسلام، في كثير من نمطها أغلب الظن، وإن شئت أن تشاركني الرأي فاقرأ ثم احكم.(2/1)
ولقد أحسن من سبقني إلى دراستها وألف في ذلك (التوضيح الجلي في الرد على النصيحة الذهبية)، أعني: الأستاذ محمد بن إبراهيم الشيباني الكويتي، ولكن يُطمع من فاضل مثله أن يعيد النظر في دراسته، مع التأمُّل في ما ذهبت إليه، لعله يفيدني بعض ما ندّ عني صوابه.
وأخيراً فهذا جهد المُقل، فاللّهمّ إن كان صواباً فأَعظِم لي الأجر، وإن كان خطأً فاشملني بعفوك، فإني ما رُمْتُ إلا جلاء الحقّ الذي يُرضيك، وإلا نصر أوليائك، والذبّ عن دعاة هدي نبيك صلى الله عليه وسلم، اللّهم واجمعني مع سلف الأمة الطيّب تحت لواء سيد ولد آدم، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم، والحمد لله أولاً وآخراً.
وكتب أبو الفضل محمد بن عبد الله القونوي
15/1/1423 هـ
المدينة المنورة
الباعث على دراسة «النصيحة»
ب666/ب66
كان كتاب (جامع كرامات الأولياء) للنبهاني (ت 1350 هـ) من مصادري التي رجعت إليها في دراستي عن القلندرية وتاريخها(1)، فكان أن لفت انتباهي في مقدمته التي ذكر فيها مصادره قوله: «... وتفاح الأرواح، لكمال الدين محمد بن أبي الحسن على السراج، الرفاعي القرشي الشافعي، من أهل القرن الثامن، كان معاصراً للسبكي وابن تيمية، وكتابه هذا مجلدان في كرامات الأولياء، وقع لي منه المجلد الأول فقط...»(1).
فقلت لنفسي: هذا رفاعي معاصر لشيخ الإسلام فلا يستبعد أن يعرض بالذكر له ولمن كان أبو العباس رحمه الله تعالى مسلطاً عليهم ـ بتعبير الصفدي ـ(1) أعني زمر القلندرية، ولكن أين أقع على كتابه؟
وكانت لي سفرة إلى الرياض، فلما جئتها قصدت أحد صروح المعرفة بها، وهو: (مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية)، فخطر ببالي أن أسأل قسم المخطوطات به عن (تفاح الأرواح) هذا، فكانت المفاجأة الأولى قول الموظف القاعد على المحساب: «هو بمكتبة الملك فهد الوطنية».(2/2)
فلما حصلت على مصورة:(تفاح الأرواح) وطالعته، ألفيته أكثر أهمية مما تخيلت وعلمت أن الذي لم يقف عليه النبهاني هو:(تشويق الأرواح) فأرسلت إلى المحقق وخبير المخطوطات التركي، الأستاذ: يوسف أوزبك أسأله أن يفتش عنه (باصطمبول) ولقد كانت المفاجأة الأخرى إذ هتفتُ به بعد أيام فقال لي: (وجدت تشويق الأرواح..) فلما أن جاءتني نسخة منه، عرفت أني أدركت كنزاً في الموضوع الذي أنا بصدده وزيادة.
وكان مما تَبين لي حينها؛ أن مؤلف ذين الجزأين هو الرجل الذي تتجه إليه أصابع الاتهام بإنشاء: «النصيحة الذهبية» وإرسالها إلى أبي العباس بن تيمية رحمة الله عليه للقرائن التي في الكتاب بجزأيه، ولِما تحتويه «النصيحة».
فعزمتُ على دراسة «النصيحة» وكلام ابن السراج في مؤلفه، وطلبتُ النسخة التي هي بخط ابن قاضي شهبة، وعلقت عليها بعض التعليقات، وفق الذي جدّ في المسألة، أبتغي بذلك تأكيد براءة الحافظ الذهبي منها.
مخطوطة «النصيحة» وناشرها الأول
ذكر الدكتور بشار عواد معروف البغدادي(1) أن النسخة التي هي بخط ابن قاضي شهبة (ت851 هـ) في دار الكتب المصرية ورقمها (18823 ب) وقال إن منها نسخة بدار الكتب الظاهرية، ورقمها (1347)، ولم يتبين لي إن كان يعني أنها بخط ناسخ آخر، أو أنها صورة عن الأولى.
وقد حصلت على التي بدار الكتب المصرية وهي التي كان يملكها الكوثري (ت 1371 هـ) وعليها كان اعتماده لمّا نشرها سنة: 1347 هـ ثم أهداها إلى دار الكتب المذكورة، ولم ينس أن يلحق بها كلمة زاد بها وضر «النصيحة» وضراً، وأنا أسوقها لأمانة العلم:
«كلمة في الرسالة التي بعث بها الحافظ الذهبي
إلى الشيخ أحمد بن تيمية الحراني تحذيراً له عن
الإصرار في الشذوذ عن جماعة أهل العلم
في مسائل خطرة (!!)
بسم الله الرحمن الرحيم(2/3)
الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا محمد رسول الله وآله وصحبه أجمعين، وبعد: فدونك رسالة بعث بها الذهبي إلى أحمد بن تيمية الحراني ينصحه فيها، ويحذره عواقب إصراره على الشذوذ عن جماعة أهل العلم في مسائل اعتقادية وعملية خطرة (!!).
كنت ظفرت بتلك الرسالة، منقولة بخط التقي بن قاضي شهبة، ضمن دشت(1) عرضه الأستاذ السفرجلاني(1) للبيع، فبادرت إلى شرائها بثمن يتناسب مع قيمة هذه الوثيقة الثمينة حتى تم عرضها لأنظار الفاحصين بنشرها مع (زغل العلم) للذهبي.
ثم ارتأيت إهداء الأصل إلى دار الكتب العربية الكبرى الملكية بمصر، ليحفظ بها حتى يتمكن الباحثون من الاطلاع عليها متى شاؤوا ذلك.
وقد ذكر ابن قاضي شهبة في صدر الرسالة: أنه نقلها من خط البرهان بن جماعة، المنقول من خط الحافظ أبي سعيد صلاح الدين بن العلائي، المكتوب من خط مرسلها الشيخ شمس الدين الذهبي، ولا ريب في جلالة قدر هؤلاء العلماء.
وثمة عدة كتب بخط ابن قاضي شهبة، بالخزانة الظاهرية بدمشق، وبدار الكتب العربية الكبرى بمصر، ففي إمكان الباحث أن يقارن خط هذه الرسالة بخط تلك الكتب، إن لم يكن من الذين مارسوا خطوط العلماء الأقدمين.
وقد ذكر ابن قاضي شهبة نفسه في (طبقات الشافعية) في ترجمة البرهان ابن جماعة: إني رأيت مجاميع بخط البرهان المذكور فنقلت منها فوائد(1).
وأشار الحافظ السخاوي في (الإعلان بالتوبيخ) إلى هذه الرسالة، حيث قال في صدد الدفاع عن الذهبي، رداً على من ينسبه لفرط التعصب: «ورأيت له رسالة كتبها لابن تيمية هي في دفع نسبته لمزيد تعصبه مفيدة» بعد أن نقل السخاوي قول الذهبي في (زغل العلم) في حق ابن تيمية: «... وما دفع الله عنه وعن أتباعه أكثر، وما جرى عليهم إلا بعض ما يستحقون...» و«... ثم صار مظلماً مكسوفاً عليه قتمة عند خلائق من الناس، ودجالاً أفاكاً كافراً عند أعدائه ومبتدعاً فاضلاً محققاً بارعاً عند طوائف من عقلاء الفضلاء..»(1).(2/4)
وكان أحمد بن تيمية الحراني تمكن من اجتلاب ثقة شيوخ مصره إليه، وثنائهم عليه، بحسن سمته، وطلاقة لسانه، وسيلان قلمه، ثم بدأ يذيع آراءً مستبشعة في المعتقد وفي الفروع، عاماً بعد عام، حتى عيل صبر العلماء الذين كانوا أطروه بأول الأمر، فتخلوا عنه واحداً إثر واحد، بعد أن ذاقوا مرارة تسرعهم في إطرائه قبل أن يختبروه اختباراً كافياً.
وكان في جملة المتسرعين في إطرائه ـ اغتراراً منهم بمظهره في بادىء الأمر ـ الجلال القزويني صاحب (الإيضاح) و(التلخيص)، والكمال الزملكاني، وقاضي القضاة الحريري، وقاضي القضاة القونوي، وأبو الحجاج المزي، والذهبي.
ولما استفحل أمر فِتَنِ ابن تيمية على تعاقب السنين، وأصبح علماء السنة إلباً واحداً ضده، ولم يبق معه سوى شيعته؛ من الحشوية كان الذهبي يسعى في تهدئة الفتنة بأن يعتب تارة أضداده على تشددهم في ابن تيمية، ويدعوهم إلى تخفيف اللهجة نحوه، مراعاة لسعة علمه، كما فعل مع التقي السبكي برسالة أرسلها إليه، على ما أشار إليها الحافظ ابن ناصر الدين الدمشقي، حيث ذكر صدر جواب السبكي عنها(1).
وبأن يرسل مرة أخرى هذه الرسالة إلى ابن تيمية نفسه، ينصحه فيها كما ترى، فها هو الأصل في ورقتين بقطع الثمن في صفحتين وثلث صفحة، بخط التقي بن قاضي شهبة، وحيث إن الأصل صعب القراءة لكثير من القراء ارتأيت أن أكتب صورة الأصل، بعد الورقتين المذكورتين.والله هو الهادي.
في 7 شوال سنة 1354 هـ».
قلت: ولا بدّ من تعليق مختصر على كلام الكوثري عدو نفسه: فأنت ترى أنه قد فرح بوقوعه على هذه «النصيحة» حين عبَّر عن ذلك بأنه ظفر بها، فبادر إلى شرائها بثمن يتناسب مع قيمة هذه الوثيقة الثمينة، وهي فرحة يشاركه فيها (الكوثريون) إلى يومنا هذا وقد آن أن تردّ تَرْحَةً عليهم.(2/5)
لقد خان الكوثري أمانة العلم، في مواضع يطول ذكرها، وأنت ههنا أمام أنموذج يدلك على شنشنته مع إمام كبير، وقدوة عَلَم كابن تيمية، هذا المجتهد الورع، والعبقري المقدام، وشيخ الإسلام بحق، يروم الكوثري حطّه عن رتبته فلم يزده ذلك إلا رفعة وقبولاً في قلوب الأمة الإسلامية، وباء شانئه بالخسار، والله الموعد.
وإن من مكر هذا (الكوثري) استغلاله عبارة للسخاوي (ت902هـ) رحمه الله، جاءت في سياق موهم، فإن عبارته هذه: «وقد رأيت له عقيدة مجيدة، ورساله كتبها لابن تيمية، هي لدفع نسبته لمزيد تعصبه مفيدة، وقال مرة فيه... الخ». ثم أورد كلاماً من (زغل العلمِ) هذه العبارة وهذا السياق يوهم أنه رأى «النصيحة»، و(زغل العلم). والذي أراه: أن الكوثري اهتبلها فرصة وأعمل حيلته، فزعم للقارىء أن (الرسالة) التي وردت في كلام السخاوي غير (زغل العلم)(1).
والأظهر من كلام السخاوي أنه يعني بالرسالة (زغل العلم) وليس «النصيحة» ألا ترى أنه لم ينقل فقرة واحدة من «النصيحة» وهي في بشاعتها أكثر دلالة على دفع تعصب الذهبي لشيخ الإسلام، مما في (زغل العلم) بكرات ومرات(1).
وأخرى أنه ـ وأعني الكوثري ـ حَرَّف ترتيب كلام السخاوي في خفاء لم يَنتبه له من خُدع به فهو ينقل قول السخاوي: «وقد رأيت له عقيدة مجيدة، ورسالة كتبها لابن تيمية»(1) ثم يضيف قائلاً: «بعد أن نقل السخاوي قول الذهبي في (زغل العلم) في حق ابن تيمية...» والواقع العكس فإن «بعد» هذه ليست سبق قلم من مثل الكوثري، وإنما كانت منه ليستقيم له الزعم بأن السخاوي اطلع على «النصيحة».
أما كلامه على الذهبي بخاصة فهو الدليل الكبير، في كلمته هذه على أنه كان ألعوبة للهوى والشيطان، إن لم يكن لحقه حمق صوفيته. أكان الذهبي ـ يا عديم الإنصاف ـ في مثل بذاءتك، حتى ينصح شيخه بالسباب والشتائم ؟ وبالأسلوب الذي لم نشهده منه، حتى في خطابه للفلاسفة والملاحدة والوجودية؟!(2/6)
أيدعو أبو عبد الله الذهبي أضداد شيخ الإسلام؛ ابن تيمية، إلى تخفيف لهجتهم نحوه، ثم يبعث إليه برسالة صخرية اللهجة، عنيفة الوقع، سوقية العبارات، أكثر خصومه تورعوا عن مثلها؟!
ولقد عرف كل طالب علم منصف كذبك، وتحريفك للحقيقة، وبَتْرك المعلومة، حتى تلج إلى مبتغاك الخبيث، كقولك هنا: «إنَّ أناساً من العلماء تسرعوا في إطرائه، ثم إنهم ذاقوا مرارة ذلك»، ألا فلا مُرَّ إلا ما ستلقى إن شاء الله تعالى(1).
وأستحسن أن أنقل لك شهادة من طبع «النصيحة»، وتلمذ للكوثري مدة من الزمان، ثم قلاه وتبرأ منه، أعني: محمد حسام الدين القدسي (ت1400 هـ)،قال في مقدمة كتاب:(الانتقاء) للإمام ابن عبد البر رحمه الله: «... هذا، وقد كان الشيخ محمد زاهد الكوثري، يصحح الكتاب ويعلق عليه، ثم أوقفت ذلك في الصفحة (88)، لما اطلعت عليه من دخلة في علمه وعمله، دفعتني إلى النظر في تعليقاته، على النزر من مطبوعاتي، بغير العين التي كانت لا تأخذ منه إلاّ عالماً مخلصاً.
فرأيته في بعضها باحثاً بمادة واسعة، وتوجيه لم يسبق إليه، وهو شطر السبب في إعجابي به، بما تأتّى إليه من عدم النفاذ إلى أغراضه، وفي بعضها يحاول الارتجال في التاريخ، تعصباً واجتراء، والباقي تعليق ككل تعليق وكلام ككل كلام.
وخيفة أن أشاركه في الإثم إذا سكتُّ عن جهله، بعد علمه، سقت هذه الكلمة الموجزة، معلناً براءتي مما كان من هذا القبيل...»(1).
الرأي في سبب انخداع بعض العلماء بـ«النصيحة»
لا يخالجني شك في أن لمكر الكوثري بقرائه،وإيحائه لهم بأن السخاوي قصد بالرسالة التي رآها هذه: «النصيحة» حتى كرر ذلك غير مرة في المطبوع منها وفي كلمته السابقة التي ألحقها بالمخطوطة،وفي غير ذلك من تعليقاته، دخلاً في تورط محققين فاضلين، بالقول بصحة نسبة «النصيحة» للذهبي فناديا بإثباتها ولم يُعرِّجا على الشك بها، وهو ماثل أمامهما بسبيل مقيم.(2/7)
أما أحدهما فهو الدكتور المحقق صلاح الدين المنجد الذي ألحق «النصيحة» بكتابه: (شيخ الإسلام ابن تيمية سيرته وأخباره عند المؤرخين) ثم قال معلقاً عليها: «شك بعضهم في نسبة هذه النصيحة للذهبي، ولا شك عندنا أنها له، فقد نقلت مخطوطاتها من خط الذهبي، ولم ينكرها أحد من العلماء الذين نقلوها كتقي الدين بن قاضي شهبة وغيره. ثم إن هذا هو أسلوب(1) الذهبي عندما يُهاجم، ويبدو أنه كتبها في آخر عمره. ولم يثن أحد على الشيخ كثناء الذهبي عليه، لكنه انتقده بعد ذلك في بعض الأمور حباً له، وإشفاقاً عليه»(1).
وأما الآخر فهو الدكتور المحقق بشار عواد معروف،الذي قال في كتابه: (الذهبي ومنهجه في كتابه تاريخ الإسلام) وهو يتحدث عن انفراد السخاوي بذكر بعض آثار الذهبي: «... وهو الوحيد الذي أشار إلى رسالة الذهبي إلى ابن تيمية، مما وثق نسبتها إليه لا سيما وقد شك فيها غير واحد...».
ثم أوردها في عداد آثاره، ونقل كلام السخاوي الذي سقته لك آنفاً وقال: «وذهب بعضهم إلى القول بأنها مزورة، ولا عبرة بذلك» وكرر ذلك في مقدمته على (سير أعلام النبلاء) قائلاً: «.. وأرسل إليه نصيحته الذهبية التي يلومه وينتقد بعض آرائه وآراء أصحابه بها..»(1).
وليس بخافٍ على مثل المحققين الفاضلين أن كون هذه «النصيحة» بخط ابن قاضي شهبة وأنه نقلها من خط البرهان بن جماعة (ت 790 هـ) وأن هذا نقلها من خط العلائي (ت 761 هـ)، وهو من خط الذهبي، لا يعني بحال انعدام احتمالات تبرىء الذهبي عن إنشائها فإنه يرد من ذلك ما لا نحتاج معه إلى مخالفة الأقرب إلى المعقول أو النيل من عرض أحد هؤلاء ونحت أثلته.
وهذه بعض الاحتمالات، التي كان من الممكن أن يُورداها تبرئة للذهبي رحمه الله تعالى، واعتذاراً عن ابن قاضي شهبة، وابن جماعة، والعلائي، وذلك قبل وقوفي على كتاب؛ محمد بن السراج الدمشقي:(2/8)
1ـ يحتمل أن تكون من وضع أحد أعداء ابن تيمية ـ وما أكثرهم ـ وأن واضعها قلد خط الذهبي تقليداً محكماً ثم جعلها حيث يقع نظر العلائي عليها.
2ـ ويحتمل أن الذي زورها قلد خط العلائي، وأوقف البرهان بن جماعة عليها.
3ـ ويحتمل أن الخط المزور هو خط ابن جماعة، وأن الواهم هو ابن قاضي شهبة.
ثم ألم يلحظا أن هؤلاء الأعلام ـ فضلاً عن غيرهم ممن اطلع على النصيحة ـ لم يُعرف عنهم الإشارة إليها مستشهدين بها على تناقض حكم إمام في الجرح والتعديل؛ كالذهبي في الرجال الذين عاصرهم وجالسهم ؟ فالنَّقَدَةُ من أقرانه وتلاميذه متوافرون، ولو أن عبد الوهاب السبكي (ت 771 هـ) وأمثاله وقعت إليهم لأعظموا الوَلْوَال.
هذا الحافظ العلائي رحمه الله، ينقد الذهبي عندما ترجم للأمير تنكز (ت 741 هـ) قائلاً: «لقد بالغ المصنف، وتجاوز الحدّ في ترجمته تنكز، وأين مثله؟ وأعرض عن محاسنه الطافحة..» ثم قال: «ذنب تنكز أنه كان يحط كثيراً على ابن تيمية»(1) فلو أنه نسخ «النصيحة» لما أخلاها من تعليق مناسب، نقله ابن جماعة ومن بعده. أما شكّا هنيهة من سكوت السخاوي عن نقل فقرات منها في أي كتاب له على افتراض أنه قد رآها ؟
تفسيري لما أفترضُ أنه وقع، والعلم عند الله تعالى:
بعد أن عثرت على كتاب ابن السراج الدمشقي، الذي أتهمه بكتابة «النصيحة»، ودرست كلامه، وتأملت «النصيحة»، خلصت إلى هذا التفسير الذي يقبله العقل، ولا تردُّه العادة.(2/9)
لقد تأملت في كلمة وردت في نهاية مخطوطة «النصيحة» وهي هذه: «آخر الرسالة الذهبية نصيحة منه لابن تيمية» فظهر لي أنها مكمن الظن الخاطىء، الذي أدى إلى رمي الذهبي بإنشائها، وذلك أنه يُفهم من كتاب (التشويق) و(التفاح) لابن السراج أنه كان مولعاً بالسجع جداً، وأنه كان يُصدِّر رسائله بعناوين مسجوعة، وأنه في رسالته هذه، سار على المعهود من أمره، فكتب هذا العنوان (الرسالة الذهبية إلى ابن تيمية)، أو لعله كتب (رسالة ذهبية إلى ابن تيمية) على أن مراده من لفظ (الذهبية) الذهب المعروف، أي أنها في قيمة هذا المعدن الثمين فلما وقعت هذه الرسالة إلى الحافظ العلائي، حسب أن نسبة الذهب فيها إلى شيخه الحافظ الذهبي، وأداه المتبادر إلى الذهن، من هذه اللفظة إلى الذهول عن أن الخط ليس لشيخه، فاستنسخ منها لنفسه ثم تابعه من نسخها عنهُ.
ويمكن أن يكون الذهبي قد نسخها حين رآها بخط ابن السَّرَّاج، لمقصد عنده، كما يفعل المؤرخ المجمّع لمادته العلمية على أن يقول فيها رأيه بعد، ثم لم يتيسر له ذلك، وبقيت بخطه حتى عثر عليها العلائي.
وعلى هذا فما كُتِبَ بأول الرسالة من قبل أحد النساخ ـ وأظنه الحافظ العلائي ـ من قوله: «رسالة نصيحة من الذهبي لابن تيمية عفا الله عنهما» هو من اجتهاده وفهمه، إذ رأى في صدر الرسالة ما رأى.
مكانة ابن تيمية عند الذهبي
قال الإمام الحافظ مؤرخ الإسلام؛ أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي، في كتابه (ذيل تاريخ الإسلام): «ابن تيمية، الشَّيخ، الإمام العالم، المُفسّر، الفقيه، المجتهد، الحافظ، المحدِّث، شيخ الإسلام، نادرة العصر، ذو التَّصانيف الباهرة والذكاء المفرط، تقي الدين، أبو العبَّاس، أحمد، ابن العالم المفتي شهاب الدين عبد الحليم(1) ابن الإمام شيخ الإسلام مجد الدين أبي البركات، عبد السَّلام مؤلف «الأحكام»، ابن عبد الله ابن أبي القاسم الحَرَّاني، ابن تَيْميَّة، هو لقب لجده الأعلى.(2/10)
مولده في عاشر ربيع الأوَّل، سنة إحدى وستين وست مئة، بحرَّان، وتحول به أبوه وأقاربه إلى دمشق في سنة سبع وستين، عند جور التَّتار؛ منهزمين في الليل؛ يجرون الذرية والكتب على عجلة؛ فإنَّ العدو ما تركوا في البلد دواب سوى بقر الحرث، وكلَّت البقر من ثقل العجلة، ووقف الفرار، وخافوا من أن يدركهم العدو، ولجأوا إلى الله، فسارت البقر بالعجلة، ولطف الله تعالى، حتَّى انحازوا إلى حد الإسلام.
فسمع من: ابن عبد الدائم، وابن أبي اليُسر، والكمال بن عبد، وابن أبي الخير، وابن الصيرفي، والشَّيخ شمس الدين، والقاسم الإربلي، وابن علان، وخلق كثير، وأكثر وبالغ.
وقرأ بنفسه على جماعة وانتخب، ونسخ عدة أجزاء، و«سنن أبي داود»، ونظر في الرجال والعلل، وصار من أئمة النقد، ومن علماء الأثر، مع التدين والنبالة، والذكر، والصيانة.
ثمَّ أقبل على الفقه ودقائقه وقواعده وحججه، والإجماع والاختلاف؛ حتَّى كان يقضى منه العجب إذا ذكر مسألة من مسائل الخلاف، ثمَّ يَستدل ويُرجّح ويجتهد، وحُقَّ له ذلك، فإنَّ شروط الاجتهاد كانت قد اجتمعت فيه؛ فإنني ما رأيت أحداً أسرع انتزاعاً للآيات الدالة على المسألة التي يوردها منه، ولا أشد استحضاراً لمتون الأحاديث، وعزوها إلى الصحيح، أو إلى المسند، أو إلى السنن منه؛ كأن الكتاب والسنن نصب عينيه، وعلى طرف لسانه، بعبارة رشيقة، وعين مفتوحة، وإفحام للمخالف. وكان آية من آيات الله تعالى في التفسير، والتوسع فيه، لعله يبقى في تفسير الآية المجلس والمجلسين.
وأما أصول الديانة، ومعرفتها، ومعرفة أحوال الخوارج والروافض والمعتزلة وأنواع المبتدعة؛ فكان لا يُشق فيه غباره، ولا يلحق شأوه.
هذا مع ما كَانَ عليه من الكرم الَّذي لم أشاهد مثله قط، والشجاعة المفرطة الَّتي يضرب بها المثل، والفراغ عن ملاذّ النفس، من اللباس الجميل، والمأكل الطيب، والراحة الدنيوية.(2/11)
ولقد سارت بتصانيفه الركبان، في فنونٍ من العلم وألوان، لعلَّ تواليفه وفتاويه في الأصول، والفروع، والزهد، والتفسير، والتوكل، والإخلاص، وغير ذلك، تبلغ ثلاث مائة مجلد، لا بل أكثر.
وكان قوَّالاً بالحق، نهّاءً عن المنكر، لا تأخذه في الله لومة لائم، ذا سطوة وإقدام، وعدم مداراة الأغيار. ومن خالطه وعرفه؛ قد ينسبني إلى التقصير في وصفه، ومن نابذه وخالفه؛ ينسبني إلى التغالي فيه، وليس الأمر كذلك. مع أنني لا أعتقد فيه العصمة، كلا! فإنه مع سعة علمه، وفرط شجاعته، وسيلان ذهنه، وتعظيمه لحرمات الدين، بشرٌ من البشر تعتريه حدّة في البحث، وغضب وشظف للخصم؛ تزرع له عداوة في النفوس، ونفوراً عنه.
وإلا والله فلو لاطف الخصوم، ورفق بهم، ولزم المجاملة وحسن المكالمة؛ لكان كلمة إجماع؛ فإنَّ كبارهم وأئمتهم خاضعون لعلومه وفقهه، معترفون بشفوفه وذكائه، مقرّون بندور خطئه.
لست أعني بعض العلماء الَّذين شعارهم وهجِّيراهم الاستخفاف به، والازدراء بفضله، والمقت له، حتَّى استجهلوه وكفَّروه ونالوا منه، من غير أن ينظروا في تصانيفه، ولا فهموا كلامه، ولا لهم حظ تام من التوسع في المعارف، والعالم منهم قد ينصفه، ويرد عليه بعلم.
وطريق العقل السكوت عما شجر بين الأقران ـ رحم الله الجميع ـ(1).
وأنا أقلّ من أن ينبّه على قدره كلمي، أو أن يوضّح نبأه قلمي؛ فأصحابه وأعداؤه خاضعون لعلمه، مقرُّون بسرعة فهمه، وأنَّه بحر لا ساحل له، وكنز لا نظير له، وأن جُوده حاتمي، وشجاعته خالدية.(2/12)
ولكن قد يَنْقِمون عليه أخلاقاً وأفعالاً؛ منصفُهم فيها مأجور، ومقتصدهم فيها معذور، وظالمهم فيها مأزور، وغاليهم مغرور، وإلى الله ترجع الأمور، وكل أحد يؤخذ من قوله ويترك، والكمال للرسل، والحجة في الإجماع. فرحم الله امرأً تكلم في العلماء بعلم، أو صمت بحلم، وأمعن في مضايق أقاويلهم بتؤدة وفهم، ثمَّ استغفر لهم، ووسَّع نطاق المعذرة، وإلاَّ؛ فهو لا يدري ولا يدري أنَّه لا يدري.
وإن أنت عذرت كبار الأئمة في معضلاتهم، ولا تعذر ابن تَيْميَّة في مفرداته؛ فقد أقررت على نفسك بالهوى، وعدم الإنصاف !
وإن قلت: لا أعذره، لأنَّه كافر، عدوّ لله تعالى ورسوله! قال لك خلقٌ من أهل العلم والدين: ما علمناه والله إلاَّ مؤمناً محافظاً على الصلاة، والوضوء، وصوم رمضان، معظِّماً للشريعة ظاهراً وباطناً. لا يؤتى من سوء فهم، بل له الذكاء المفرط، ولا من قلة علم، فإنه بحر زخَّار، بصير بالكتاب والسنة، عديم النظير في ذلك، ولا هو بمتلاعب بالدين؛ فلو كان كذلك؛ لكان أسرع شيء إلى مداهنة خصومه، وموافقتهم، ومنافقتهم.
ولا هو يتفرد بمسائل بالتشهّي، ولا يفتي بما اتفق، بل مسائله المفردة يحتج لها بالقرآن، أو بالحديث، أو بالقياس، ويبرهنها ويناظر عليها، وينقل فيها الخلاف، ويطيل البحث؛ أُسوةَ مَنْ تقدمه من الأئمة، فإن كانَ قد أخطأ فيها؛ فله أجر المجتهد من العلماء، وإن كانَ قد أصاب؛ فله أجران.
وإنَّما الذم والمقت لأحد رجلين: رجل أفتى في مسألة بالهوى، ولم يُبْدِ حجة، ورجل تكلَّم في مسألة بلا خميرةٍ من علم، ولا توسُّعٍ في نقل؛ فنعوذ بالله من الهوى والجهل.(2/13)
ولا ريب أنه لا اعتبار بذم أعداء العالم؛ فإن الهوى والغضب يحملهم على عدم الإنصاف والقيام عليه. ولا اعتبار بمدح خواصه والغلاة فيه؛ فإن الحب يحملهم على تغطية هناته، بل قد يعدوها محاسن. وإنما العبرة بأهل الورع والتقوى من الطرفين، الذين يتكلمون بالقسط، ويقومون لله، ولو على أنفسهم وآبائهم.
فهذا الرجل لا أرجو على ما قلته فيه دنيا ولا مالاً ولا جاهاً بوجه أصلاً، مع خبرتي التامة به، ولكن لا يسعني في ديني، ولا عقلي أن أكتم محاسنه، وأدفن فضائله، وأبرز ذنوباً له مغفورة في سعة كرم الله تعالى وصفحه، مغمورة في بحر علمه وجوده، فالله يغفر له، ويرضى عنه، ويرحمنا إذا صرنا إلى ما صار إليه.
مع أني مخالفٌ له في مسائل أصلية وفرعية، قد أبديت آنفاً أن خطأه فيها مغفور، بل قد يثيبه الله تعالى فيها على حسن قصده، وبذل وسعه، والله الموعد. مع أني قد أوذيت لكلامي فيه من أصحابه وأضداده؛ فحسبي الله!.
وكان الشيخ أبيض، أسود الرأس واللحية، قليل الشيب، شعره إلى شحمة أذنيه، كأن عينيه لسانان ناطقان، رَبْعَة من الرجال، بعيد ما بين المنكبين، جهْوَري الصوت، فصيحاً، سريع القراءة. تعتريه حدَّه، ثم يقهرها بحلم وصفح، وإليه كان المنتهى في فرط الشجاعة، والسماحة، وقوة الذكاء. ولم أرَ مثله في ابتهاله واستغاثته بالله تعالى، وكثرة توجهه. وقد تعبت بين الفريقين: فأنا عند محبه مُقصِّر، وعند عدوّه مُسرف مُكثر، كلا والله!
توفي ابن تيمية إلى رحمة الله تعالى معتقلاً بقلعة دمشق، بقاعة بها، بعد مرض جَدَّ أياماً، في ليلة الاثنين، العشرين من ذي القعدة، سنة ثمان وعشرين وسبع مئة.(2/14)
وصُلِّي عليه بجامع دمشق عقيب الظهر، وامتلأ الجامع بالمصلين كهيئة يوم الجمعة، حتى طلع الناس لتشييعه من أربعة أبواب البلد، وأقلُّ ما قيل في عدد من شهده خمسون ألفاً، وقيل أكثر من ذلك، وحُمل على الرؤوس إلى مقابر الصوفية، ودفن إلى جانب أخيه الإمام شرف الدين، رحمهما الله تعالى وإيّانا والمسلمين»(1).
وقال في (تذكرة الحفاظ):
«ابن تيمية الشيخ الإمام العلامة الحافظ الناقد الفقيه المجتهدُ المفسّرُ البارعُ شيخ الإسلام، عَلَم الزُّهَّاد، نادرةُ العصر، تقي الدين أبو العباس أحمد بن المفتي شهاب الدين عبد الحليم بن الإمام المجتهد شيخ الإسلام مجد الدين عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم الحرَّاني. أحد الأعلام.
ولد في ربيع الأول سنة إحدى وستين وست مئة، وقدم مع أهله سنة سبع، فسمع من ابن عبد الدائم، وابن أبي اليُسر، والكمال بن عبد، وابن الصيْرَفي، وابن أبي الخير، وخلق كثير. وعُني بالحديث، ونَسَخ الأجزاء، ودار على الشيوخ، وخَرَّج، وانتقى، وبرع في الرجال وعلل الحديث وفقهه، وفي علوم الإسلام وعلم الكلام وغير ذلك.
وكان من بحور العلم، ومن الأذكياء المعدودين، والزُّهاد الأفراد، والشُّجعان الكبار، والكرماء الأجواد. أثنى عليه الموافِقُ والمُخالف، وسارت بتصانيفه الركبان، لعلها ثلاث مئة مجلد.
حدَّث بدمشق، ومصر، والثغر. وقد امتُحن وأُوذيَ مرات، وحُبس بقلعة مصر والقاهرة والاسكندرية، وبقلعة دمشق مرتين. وبها توفي في العشرين من ذي القعدة سنة ثمان وعشرين وسبع مئة، في قاعة، معتقلاً. ثم جُهِّز وأخرج إلى جامع البلد، فشهده أُمم لا يُحْصَون، فحُزروا بستين ألفاً. ودُفن إلى جنب أخيه الإمام شرف الدين عبد الله، بمقابر الصوفية، رحمهما الله تعالى.(2/15)
ورُئيت له منامات حسنة، ورُثي بعدة قصائد. وقد انفرد بفتاوى نيل من عرضه لأجلها، وهي مغمورة في بحر علمه. فالله تعالى يُسامحه ويرضى عنه. فما رأيتُ مثله. وكل أحدٍ من الأُمَّة فيؤخذ من قوله ويُترك. فكان ماذا ؟!»(1).
وقال عنه في (معجم الشيوخ):
«... شيخنا الإمام تقي الدين أبو العباس الحَرَّاني. فريد العصر عِلْماً ومعرفةً وذكاءً وحفظاً وكرماً وزهداً، وفرطَ شجاعةٍ وكثرةَ تآليف والله يصلحه ويسدِّده، فلسنا بحمد الله ممن نَغْلُو فيه، ولا نجفو عنه، ما رُئي كاملاً أئمةُ التَّابعين وتابعيهم، فما رأيته إلاّ ببطن كتاب».
ثم قال: «ولم يخلف بعده مثله في العلم، ولا من يقاربه»(1).
وقال في (المعجم المختص):
«... وبرع في علوم الآثار والسُّنَنِ، ودَرَّس وأفتى وفسَّر وصَنَّف التصانيف البديعة وانفرد بمسائل فَنيلَ من عِرْضِه لأجلها، وهو بَشرٌ له ذنوبٌ وخطأٌ ومع هذا فوالله ما مَقَلَتْ عيني مثله ولا رأى هو مِثْل نَفْسه. كان إماماً مُتبحّراً في علوم الديانة صحيح الذّهن، سريع الإدراك، سَيَّال الفَهْم، كثير المحاسن، موصوفاً بفَرْط الشجاعة والكرم، فارغاً عن شهوات المأكل والملْبَس والجماع، لا لذَّة له في غير نَشْر العلم وتدوينه والعمل بمقُتضاه.
ذكره أبو الفتح اليَعْمَري في «جواب سؤالات أبي العباس بن الدمياطي الحافظ» فقال: «ألْفَيتُهُ ممن أدرك من العلوم حَظَّاً، وكادَ يستوعبُ السُّنن والآثار حفظاً، إن تكلَّم في التفسير فهو حامل رايته، أو أفتى في الفقه فهو مُدْرك غايته، أو ذاكر بالحديث فهو صاحب عِلمه وذُو روايته، أو حاضَر بالنِّحَل والمِلَل لم يُرَ أوسَعُ من نِحلته ولا أرفعُ من درايته، برز في كل فن على أبناء جنسه، لم ترَ عيني مثله ولا رأتْ عينُهُ مثل نَفْسِه».(2/16)
قلتُ: قد سُجن غير مرةٍ ليفْتر عن خُصومِه ويُقْصِر عن بَسْطِ لسانه وقلمه، وهو لا يرجع ولا يلوي على ناصح، إلى أن توفي معتقلاً بقلعة دمشق في العشرين من ذي القعدة سنة ثمان وعشرين وسبعمائة.
وشَيَّعه أُممٌ لا يُحْصَون إلى مقبرة الصُّوفية، غَفَر الله له ورحمه آمين»(1).
وقال فيما نقله عنه العلامة ابن رجب الحنبلي (ت 795 هـ) في: (الذيل على طبقات الحنابلة): «قال الذهبي في معجم شيوخه: أحمد بن عبد الحليم ـ وساق نسبه ـ الحراني، الدمشقي، الحنبلي أبو العباس، تقي الدين، شيخنا وشيخ الإسلام، وفريد العصر علماً ومعرفة، وشجاعة وذكاء، وتنويراً إإإهياً وكرماً ونصحاً للأمة، وأمراً بالمعروف ونهياً عن المنكر.
سمع الحديث، وأكثر بنفسه من طلبه، وكتب وخرّج، ونظر في الرجال والطبقات وحصّل ما لم يحصّله غيره، وبرع في تفسير القرآن، وغاص في دقيق معانيه بطبع سيّال، وخاطر إلى مواقع الإشكال ميّال، واستنبط منه أشياء لم يسبق إليها.
وبرع في الحديث وحفظه، فقل من يحفظ ما يحفظه من الحديث معزوّاً إلى أصوله وصحابته، مع شدة استحضاره له وقت إقامة الدليل، وفاق الناس في معرفة الفقه واختلاف المذاهب، وفتاوى الصحابة والتابعين، بحيث إنه إذا أفتى لم يلتزم بمذهب، بل بما يقوم دليله عنده.(2/17)
وأتقن العربية أصولاً وفروعاً، وتعليلاً واختلافاً، ونظر في العقليات وعرف أقوال المتكلمين، وردّ عليهم، ونبّه على خطئِهم، وحذّر منهم ونصر السنّة بأوضح حجج وأبهر براهين. وأوذي في ذات الله من المخالفين، وأخيف في نصر السنّة المحضة، حتى أعلى الله مناره، وجمع قلوب أهل التقوى على صحبته والدعاء له، وكبت أعداءه، وهدى به رجالاً من أهل المِلَلِ والنِّحَل، وجبل قلوب الملوك والأمراء على الانقياد له غالباً، وعلى طاعته، وأحيى به الشام بل والإسلام بعد أن كاد ينثلم، بتثبيت أولي الأمر لما أقبل حزب التتر والبغي في خيلائهم، فظنت بالله الظنون، وزلزل المؤمنون، واشرأب النفاق وأبدى صفحته.
ومحاسنه كثيرة، وهو أكبر من أن ينبّه على سيرته مثلي، فلو حلفت بين الركن والمقام لحلفت: إني ما رأيت بعينيّ مثله، وأنّه ما رأى مثل نفسه».
ثم نقل عن كتاب للذهبي سمّاه (التاريخ الكبير) قال فيه: «وله خبرة تامة بالرجال، وجرحهم وتعديلهم، وطبقاتهم ومعرفة بفنون الحديث، وبالعالي والنازل، والصحيح والسقيم مع حفظه لمتونه الذي انفرد به، فلا يبلغ أحد في العصر رتبته، ولا يقاربه، وهو عجيب في استحضاره، واستخراج الحجج منه، إليه المنتهى في عَزْوِه إلى الكتب الستة والمسند، بحيث يصْدق عليه أن يقال: كل حديث لا يعرفه ابن تيمية فليس بحديث»(1).
ونقل عنه قوله: «.. وغالب حطه على الفضلاء والمتزهدة فبحق، وفي بعضه هو مجتهد، ومذهبه توسعة العذر للخلق، ولا يكفّر أحداً إلا بعد قيام الحجّة عليه».(2/18)
وقال: «ولقد نصر السنّة المحضة، والطريقة السلفية، واحتجّ لها ببراهين ومقدمات، وأمور لم يُسبق إليها، وأطلق عبارات أحجم عنها الأوّلون والآخرون وهابوا، وجَسَر هو عليها، حتى قام عليه خلق من علماء مصر والشام قياماً لا مزيد عليه، وبدعوه وناظروه وكابروه، وهو ثابت لا يداهن ولا يحابي، بل يقول الحق المرَّ الذي أداه إليه اجتهاده وحدّة ذهنه، وسعة دائرته في السنن والأقوال مع ما اشتهر عنه من الورع، وكمال الفكر، وسرعة الإدراك، والخوف من الله، والتعظيم لحرمات الله.
فجرى بينه وبينهم حملات حربية،ووقعات شاميّة ومصرية،وكم من نوبة قد رموه عن قوس واحدة فينجيه الله،فإنه دائم الابتهال،كثير الاستغاثة والاستعانة به، قوي التوكل، ثابت الجأش، له أوراد وأذكار يدمنها بكيفية وجمعية.
وله من الطرف الآخر محبّون من العلماء والصُّلحاء، ومن الجند والأمراء، ومن التجّار والكبراء، وسائر العامة تحبّه، لأنه منتصب لنفعهم ليلاً ونهاراً، بلسانه وقلمه.
وأما شجاعته: فبها تضرب الأمثال، وببعضها يتشبّه الأبطال، ولقد أقامه الله تعالى في نوبة قازان، والْتقى أعباء الأمر بنفسه، وقام وقعد وطلع ودخل وخرج، واجتمع بالملك ـ يعني قازان ـ مرّتين وبقطلوشاه وبولاي، وكان قبجق يتعجب من إقدامه وجراءته على المغول.
وله حدّة قويّة تعتريه في البحث، حتى كأنه ليث حَرِب، وهو أكبر من أن ينبّه مثلي على نعوته، وفيه قلّة مداراة، وعدم تُؤدة غالباً، والله يغفر له، وله إقدام وشهامة، وقوّة نفس تُوْقعه في أمور صعبة، فيدفع الله عنه.
وله نظم قليل وسط، ولم يتزوّج،ولاتَسَرّى، ولا له من المعلوم إلا شيء قليل وأخوه يقوم بمصالحه،ولايطلب منهم غداء ولاعشاء في غالب الوقت.(2/19)
وما رأيت في العالم أكرم منه، ولا أفرغ منه عن الدينار والدرهم، لايذكره ولا أظنه يدور في ذهنه، وفيه مروءة، وقيام مع أصحابه، وسعي في مصالحهم وهو فقير لامال له، وملبوسه كآحاد الفقهاء: فرجية ودَلق وعمامة تكوّن قيمة ثلاثين درهماً، ومداس ضعيف الثمن، وشَعْره مقصوص.
وهو ربع القامة، بعيد ما بين المنكبين، كأنّ عينيه لسانان ناطقان، ويصلّي بالناس صلاة لا يكون أطول من ركوعها وسجودها، وربما قام لمن يجيء من سفر أو غاب عنه، وإذا جاء فربما يقومون له، الكل عنده سواء، كأنه فارغ من هذه الرسوم، ولم ينحن لأحد قط، وإنما يسلّم ويصافح ويبتسم، وقد يعظّم جليسه مرة ويهينه في المحاورة مرات»(1).
قلت:يَفهم مما سبق أن الذهبي ـ رحمة الله عليه ـ كان يستعظم من مزاج هذا الطودالعلمي والإمام الربّاني أن يظهر كل هذه الحدة والثوران،وصك المخالف المحاور له بحادّ القول وإبَرِه، ويبدو أنه رأى من تلك الحوارات وشهد من تلك المناظرات ما أداه لهذا الرأي، ولعلّه نصحه في ذلك في جملة من نصحه (1).
وقد قال الذهبي في (تاريخ الإسلام) ـ وكان تأليفه في حياة ابن تيميةـ عند ذكره قيام متعصّبة الأشاعرة على أبي العباس بشأن (الحموية): «.. وكان قد لحقهم حسد للشيخ وتألّموا منه بسبب ماهو المعهود من تغليظه وفظاظته وفجاجة عبارته،وتوبيخه الأليم المبكي المنكي المثير للنفوس،ولوسلم من ذلكلكان أنفع للمخالفين لا سيما عبارته في هذه الفُتيا الحموية،وكان غضبه فيها للهولرسوله باجتهاده،فانتفع بها أناس وانفصم بها آخرون ولم يحملوها..»(1).(2/20)
وأوضح مثال على كلام الذهبي هذا،ماوقع لأبي حيان الأندلسي (ت745هـ) مع شيخ الإسلام، فقد كان أبو حيان معجباً به حتى جمعهما مجلس فتحاورا في مسألة من العربية، فلما أورد أبو حيان كلام سيبويه (ت180هـ) كأنه يحتج به، قال له أبو العباس رحمه الله: «يفشر سيبويه، ما كان سيبويه نبي النحو، ولا كان معصوماً، بل أخطأ في (الكتاب) في ثمانين موضعاً ما تفهمها أنت»،ء(1) ولكن يبدو لي أن أبا حيان قد برَّر انتكاس موقفه من شيخ الإسلام بعد هذه الحادثة بسبب يُرضي أَنَفَته، فزعم أنه إنما طرء عليه هذا التغيير لمّا وقف على ما تضمّنه (كتاب العرش) لأبي العباس»(1).
وكان أمر مزاجه الحادِّ مما تناقله أصحابه وعرفوه به، فقد حكى ابن قيم الجوزية (ت 751 هـ) للمؤرخ الصفدي من ذلك حكاية، وخلاصتها أنه تحاور مع بعضهم في مسألة وهو صغير وكان في يده كتاب علم فلما أغضبوه ألقى المجلد من يده غيظاً، فلما أنكروا عليه ذلك ذكَّرهم بقصة موسى عليه السلام حين ألقى الألواح(1). وأقول: كأن أبا العباس ـ سقى الله قبره شآبيب الرحمةـ كان يعتذر عن وجود هذه الخصلة لديه عندما روى لتلميذه الذهبي: أن جدّه المجد بن تيمية (ت652هـ) كانت فيه حدّة(1). والذي يعنينا أنه رحمه الله كان يقهر حدّته هذه بحلم وصفح.
لقد كان الإمام الذهبي كما يظهر من كلامه السابق محبّاً لشيخ الإسلام، وكان هذا الحب معتدلاً كما ينتظرمن إمام منصف عالم بأقدار الرجال،وليس فيما اطّلعت عليه عبارات سيئة فيه اللّهم إلافي (بيان زغل العلم)و«النصيحة».
أما «النصيحة» فقد ازددنا علماً ببراءة الذهبي منها، بعد العثور على المتهم الرئيس بإرسالها، وأما (زغل العلم) فقد مرّت بك قبيح كلماتها، ونازل تعبيراتها في حق شيخ الإسلام، مما يدعو إلى النظر فيها بريبة، وتغليب احتمال كونها منحولة عليه أيضاً، أو أن تلك العبارات قد أقحمت إقحاماً في الكتاب، ولعلّ الله تعالى يوفّق أحد الدارسين إلى كشف جديد بشأنها.(2/21)
لقد دافع الذهبي في كل كتبه، المؤكّد ثبوتها عنه، عن شيخ الإسلام، وعلمنا من نقل ابن رجب الحنبلي، رحمه الله، أنه أرسل إلى أحد مناوئيه، وهو تقي الدين السبكي (ت756هـ) رسالة يعاتبه فيها على كلامه الذي صدر عنه في أبي العباس، وكان كلام السبكي ممّا يُذكّر بقول الشاعر:
وشمائل شهد العدو بفضلهاوالفضل ما شهدت به الأعداء(1)ولو عُرف عن الذهبي أنه كان يصرّح في مجالسه الخاصة،أو العامة،بغير مارأيت من كلامه السابق عنه لتلقّفته الشافعية سريعاً،ولبلغ ذلك عبدالوهاب السبكي فكان ذلك سبباً في تخفيف سلاطة لسانه نحو شيخه الذهبي.
وإني لأعتب على المحقّق الفاضل الدكتور بشار عواد معروف ـ بارك الله في عمره ـ إذ يرى أن السبكي قد أسفَّ إسفافاً كثيراً، وأقذع في شتم الذهبي لما ذكره في (تاريخ الإسلام) في ترجمة أبي الحسن الأشعري (ت324هـ)، ولا يرى في «النصيحة» التي نُسِبَتْ إلى الذهبي، وصدَّقها هو، إلا نصحاً فيه لومٌ ونقدٌ وتقريعٌ لا عبرة بقول من أكبر الذهبي عن كتبها فهلاّ أجرى على الذهبي قسطاسه(1).!!
نقل ابن ناصر الدين الدمشقي، هذه المنظومة عن أبي عبد الله الذهبي يرثي بها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:
يا موت خذ من أردت أو فدعمحوت رسم العلوم والورعِأخذت شيخ الإسلام وانفصمتعرى التقى واشتفى أولوا البدعِغيّبت بحراً مفسراً جبلاًحبراً تقياً مجانب الشيعِفإن يُحدّث فمُسلِم ثقةوإن يناظر فصاحب «اللمعِ»وإن يخض نحو سيبويه يفهبكل معنى من الفن مخترعِوصار عالي الإسناد حافظهكشعبة أو سعيد الضبعيوالفقه فيه فكان مجتهداًوذا جهاد عارٍ من الجزعِوجوده الحاتمي مشتهروزهده «القادري» في الطمعأسكنه الله في الجنان ولازال علياً في أجمل الخلعمع مالك الإمام وأحمدوالنعمان والشافعي والخلعيمضى ابن تيمية وموعدهمع خصمه يوم نفخة الفزعِ(1)
محمد بن السَّرَّاج الدمشقي
(المتهم بإرسال النصيحة)(2/22)
اسمه: محمد بن علي بن عبد الرحمن بن عمر بن عبد الوهاب بن محمد بن طاهر بن السَّرَّاج القرشي الدمشقي الشافعي،عز الدين،أبو عبدالله.حياته:
لم أقع على مصدر يترجم له سوى ابن رافع السَّلاَّمي (ت774هـ) في (الوفيات)(1) وعنه نقل ابن قاضي شهبة، وابن حجر العسقلاني(1) ولم يذكره ابن كثير في (البداية والنهاية) ولا غيره من أودّاء ابن تيمية أو أضداده فكان ذلك عجباً بحق، ولا أصحاب طبقات الشافعية، أو الصوفية، إلا النبهاني الذي وقف على جزء من كتاب ابن السَّرَّاج، وذكر معاصرته لابن تيمية في مقدمة الكتاب، ولم يزد بشيء.
فكان لزاماً عليّ أن أستخلص ترجمة له من مصنَّفه، وهي ملامح لا بأس بها في إعطاء تصور جيّد عن الرجل. وإن قُدّر العثور على كتبه الأخرى فستزداد معرفتنا بتفاصيل عن حياته(1).
هو دمشقي من أسرة يبدو أنها قديمة السكنى بدمشق، يفهم ذلك من حديثه عن قلندري سكن دمشق ومات بها، هو يوسف القميني (ت657هـ)، قال عنه: «... وهذا الشيخ وقع نظره على أبي وجدّي ـ رحمهم الله تعالى ـ فأفلحا به غاية الفلاح...» ولا يعني هذا أنهما من العامة، بل كان أبوه قاضياً ويحتمل أن جدّه كان كذلك.
تعرفت أسرة ابن السَّرَّاج على الأسرة المهاجرة حديثاً من حرَّان إلى دمشق سنة: 667 هـ، تلك الأسرة التي كان منها صبي لم يجاوز الثامنة من عمره كتب الله تعالى أن يكون من مجدّدي هذه الأمّة، وأحد أعاظم أئمة الدين، بل أحد عباقرة الدنيا. إنه: أحمد بن عبد الحليم الحراني النميري (ت728هـ).
نشأت صداقة الطفولة بين محمد بن السَّرَّاج وأحمد بن تيمية، وكانا متقاربي السن إلا أن ابن تيمية يكبره قليلاً فيكون مولد ابن السَّرَّاج بعد سنة 661 هـ بقليل.
قال ابن السَّرَّاج: «.. كان بيننا وبين هذا الفاضل أنس عظيم، ومجاورة بالأهل والعيال، بالبلد والبساتين من حين الصغر، واللعب المعتاد بين الصغار..»(1).(2/23)
ويفهم على هذا أنَّ أسرة ابن السَّرَّاج كانت تسكن بحي القصّاعين لأن والد أبي العباس نزل بها(1)، وكان هذا الإمام يخرج بأولاده إلى البساتين على سبيل التنزّه، ونستنتج: أن أسرة ثالثة هي: أسرة الإمام؛ تاج الدين الفزاري المعروف (بالفركاح) ربما خرجت معهم، لأن ابنه البرهان الفزاري كان صديقاً لابن تيمية منذ صغره(1).
ويبدو أن صداقة ابن السَّرَّاج لابن تيمية استمرّت إلى مرحلة الشباب، لم يشبها مُعَكِّر، إذ كانت شخصية أبي العباس في طور تكاملها. قال ابن السرّاج: «.. ولما اشتغلنا بالعلم الشريف، كنا أكثر الأوقات مجتمعين، وفي محافل تحصيله ملتئمين..».
وعلى هذا فليس ببعيد أنهما اجتمعا في مجالس السماع الصوفي التي ربما حضر ابن تيمية بعضها ـ على مضض ـ في أوائل عمره(1).
ولما أنهى ابن السَّرَّاج تحصيله، العلمي وتأهّل لنيل وظيفة كأمثاله، جرت أمور لم يتضح لي كنهها، إلاّ أنني أظن أنه أغضب عليه بعض أمراء المماليك، فعيّن قاضياً في الأطراف، عند آخر حدود الدولة المملوكية في البيرة، وبهسنى، وقلعة المسلمين، وكختا، وجميعها الآن في جنوب تركية، وسيأتي سبب ظني هذا لاحقاً.
ويفهم من كلام ابن السرّاج أنّ له خصوماً كان يبادلهم العداء وذلك بيِّن في غير ما موضع من كتابه،من ذلك قوله:«من جُملة المناوئين لنا،والمترجحين علينا في العاجلة»،وهؤلاء الخصوم هم في الأغلب خصوم(أوليائه)من فقراء القلندرية،وقد قال معبّراً عن شعوره نحوهم:«..ولذلك وأمثاله أحببنا كيف أمكن اعتزالهم،وكرهنا منازلتهم،وأبغضنا نزالهم،فليس في صحبتهم صلاح،ولا في قربهم فلاح، ولا في نجواهم نجاح. أبعد الله بيننا وبينهم المدى، وابتلى بجهالتهم العدى، وجعلنا ممن تاب وآمن وعمل صالحاً ثم اهتدى».(2/24)
وقال: «فإن قلت لم ذكرت ذلك ومثله وأكثر العالم ينكرونه ويتسلطون على عرضك؟..»، ولا يتردد بين الحين والحين في مدح نفسه، كما قال في موضع من كتابه: «.. فإن قلت: لم باشرت الحكم بالبيرة وقلعة المسلمين وبهسنى المحروسات؟ ومن يصلح لمباشرة الثلاث لا يصلح للعلم بين يديك لفظاً ومعنى بل يستحق أن يشتغل عليك ثلاثين حجة، وإن كانت معرفته بعد ذلك بالنسبة إلى معرفتك لقاسية فجة؟ قلت: إن في ذلك لحكمة كما قدّمناه آنفاً، قد علمها أهل الباطن والتصريف، وأخّروا المستحق عن مناصبه، لما يجهله أهل الباطل والتحريف..»(1).
شيوخه:
1 ـ أحمد بن شيبان الصالحي (ت 685 هـ) سمع منه (الأربعين) للقشيري (ت465هـ)(1)، وقد سمع منه ابن تيمية أيضاً والمزي (ت742هـ)، والبرزالي (ت737هـ)وغيرهم(1).
2 ـ عبد الرحمن بن إبراهيم بن سباع الفزاري، تاج الدين (ت690هـ) وكان اشتغاله عليه سنة 684هـ، وهو ممّن سمع منه ابن تيمية، والمِزّي، والذهبي الذي أثنى عليه وذكر أنّ معظم فقهاء دمشق وما حولها، وقضاة الأطراف تلامذته(1). وقد مدحه ابن السّرّاج مدحاً عظيماً من ذلك قوله: «.. وأرجو أن ينفعني الله تعالى ببركته، وقد نفع نفعاً بالغاً، وجرى له معي أحوال بعد وفاته، وقد رأيته مراراً في المنام، وأشار إليّ بما لا يذكر، وبيني وبينه اتّحاد من جهة أعرفها، فإنه كان قابلاً للعلم الباطن»(1).
3 ـ أبوه علي بن عبد الرحححن بن عمر بن السّرّاج القرشي الدمشقي (مات قبل سنة715هـ) كان قاضياً.
4 ـ أدرك الإمام محيي الدين النووي (ت676هـ) وهو دون العاشرة، فذكر أنه من شيوخ أبيه وأنه كان يتردد إليه معه فسمع منه أشياء وأقرأه أشياء انتخبها بخطه في كراريس، قال: «ثم حجبني القدر عنه».
5 ـ محمد بن إبراهيم بن سعد الله بن جماعة، بدر الدين (ت733هـ).
6ـ عبد الله بن مروان الفارقي، زين الدين (ت703هـ).
7 ـ محمد بن أبي البركات، تقي الدين، المعروف بابن القرشية (ت724هـ).(2/25)
8 ـ محمد بن سالم بن واصل، جمال الدين الحموي (ت697هـ).
9 ـ أحمد بن محسِّن بن مَلِي الأنصاري البعلبكي، نجم الدين (ت699هـ) قال عنه الذهبي: «.. يخلُّ بالصلوات ويتكلّم في الصحابة نسأل الله السلامة» و «... بلغني عنه عظائم»(1).
ولا يستبعد أنه أخذ عن غير هؤلاء ممن أخذ عنهم أقرانه من طلاب العلم بدمشق. أما شيوخه من الصوفية والقلندرية والمولّهين، فكثير كما يفهم من كلامه، من أبرزهم:
1ـ علي بن محمد بن أحمد الرفاعي أخذ عنه سنة 708 هـ إجازة الرفاعية وقال إنه لبس الخرقة من غيره مراراً.
2ـ عمر السنجاري (كان عمره سنة 715 هـ تسعين عاماً).
3ـ براق بابا (ت 707 هـ) الحيدري.
4ـ محمد المرستاني الحيدري وأظن أنه أخذ الحيدرية عنه(1).
مذهبه:
كان شافعياً في الفروع، أشعرياً في الأصول، قلندرياً رفاعياً في تصوّفه.
مؤلفاته:
1ـ «روضة الرواة وقدوة الهداة» اختصر فيه كتاب معرفة علوم الحديث لابن الصلاح (ت643هـ). ألفه سنة 690 هـ بدمشق.
2ـ «الالتماس لمزيل الالتباس» قال ابن رافع: «فيه حديث وتفسير»، ألّفه سنة 697هـ بدمشق.
3ـ «البحث المشاع في حكم السماع» ألّفه سنة 698هـ بدمشق.
4ـ «صفوة النظر في الاختصار لمحك النظر والافتكار».
5ـ «الصافي»، وهذا والذي قبله مختصر «محك النظر» و«المستصفى» للغزالي (ت505هـ). قال: «وكان اختصارنا لهما أواخر سنة 687هـ، وكان مبدأ اشتغالنا الثاني في سن الحداثة سنة 684هـ، فتكون مدة الاشتغال إلى حين التأهل لتصنيف ذلك وغيره من الفنون، نحو ثلاث سنين».
6ـ «مجاز الوصول إلى حقيقة المحصول» اختصر فيه جلَّ (المحصول) كما قال، و(المحصول) مؤلف للفخر الرازي (ت606هـ) وذلك سنة 688هـ بدمشق.
7ـ «كفاية العَجول في علم الأصول» ألّفها بعد الكتب الثلاثة المارة الذكر بقليل. قال: «ولم نجعل أكثر كتبنا اختصاراً، إلا طلباً للبركة والتشرّف بالأئمة الماضين، يعلم ذلك ذو اللب».(2/26)
8ـ «منقذ الفقهاء من جهلة السفهاء» مختصر يتعلق بخلق السسسوات والأرض وعجائبهما.
9ـ «نادر التشبيه في اختصار التنبيه» ألّفه سنة 709هـ ويبدو أنه كتبه في بعض الثغور الشمالية.
10ـ «غائظ الشيطان الرجيم من فيض بسم الله الرحمن الرحيم» مختصر.
11ـ «ثمرة الآراب من شجرة الآداب» فيه قصائد من نظمه.
12ـ «تشويق الأرواح والقلوب إلى ذكر علام الغيوب».
13ـ «تفاح الأرواح ومفتاح الأرباح» وهما اللذان وقفت عليهما.
14ـ وقد ضمن التشويق كتابه «النور الهادي المثبت من كرامات الأولياء ما يرغم الأعادي، الشاهد بصدقه من المؤمنين الرائح والغادي».
15ـ ومثله: «السراج الوهاج في مقتل عثمان بن عفان، والحسين بن علي، وحال الحجاج» ويبدو أنه أفضل كتبه، وما أظن ما فيه من صواب إلاّ مأخوذاً من ابن تيمية. وفي الكتاب نقول نادرة لاعتقادات النصيرية وغلاة الرافضة من نظم ونثر.
16ـ وذكر البغدادي باشا (ت1339هـ) في ذيله على (كشف الظنون) كتاباً له في الأدب اسمه «زواهر الفكر وجواهر الفقر» قال: إنه فرغ منه سنة 721 هـ(1).
ويحتمل أن له كتباً أخرى لم يرها البغدادي كما لم ير الكتب التي ذكرتها لك نقلاً عن (التشويق) الذي ألفه سنة 715 هـ. وقد وهم البغدادي لما ظن أن ابن السَّرَّاج يُعرف بابن المرابط، وأرى أنه لقب أحد النساخ هذا إن لم يكن الناسخ هو: محمد بن عثمان أبو عمرو بن المرابط (ت752هـ)، الذي هو من مشرب ابن السَّرَّاج فيما يبدو، وذلك لأنه حطَّ على الحافظ الإمام الذهبي وترجمه ترجمة أفرط في ذمّه فيها(1).
وفاته:(2/27)
عاش ابن السَّرَّاج متذمّراً، متشكّياً من أناس يعرفهم، وذلك بادٍ في كتابه: (التشويق) و(التفاح)، ولم يرض عن حاله فيما يبدو لي طوال السنوات التي عاشها بعيداً عن دمشق. ويبدو أن شيخوخته انقضت بين البيرة وبهسنى وكختا، إلى أن أصيب بالفالج في حدود سنة743هـ تقريباً، وعانى من مرضه ثلاث سنوات وثمانية أشهر إلى أن مات (بكختا) في الثاني من شهر ربيع الآخرة سنة 747هـ، وقد أخطأ ابن رافع فعدّه من المتوفين في ذي الحجة، من تلك السنة.
وقد ذُكر تاريخ وفاته في آخر مخطوطة (التشويق)، وأظن أن مريداً له أو ابناً هو الذي كتبها، ثم كتب هذه الأبيات، وذكر أن المؤلف نظمها في مرضه بالفالج، وهي تعكس امتداد معاناة ابن السَّرَّاج في منفاه:
يعزّ على قلبي أراني مقلّباًبأيدي النسا والروح تُطوى وتُنشرُمن الفالج المقضي علي بلاؤهولله حمد دائم ليس يحصرعلى أنني أرجو الرضا بقضائهولست بأقوى يا ليالي فأصبروأسأله عفواً ولطفاً ورحمةلعلّي أن أحظى بذاك وأظفروإن كان تكثيراً لأجرٍ فحبّذاوإن كان عن ذنب عظيم يكفّروإن كانت الأخرى فللّه درّهاتريح فؤاداً ميتاً ليس يحصرهموم وأحزان وصحبة معشرٍ(...) من خير وفي الشر تنذريعانون أوصافاً من الشرّ والدَّهاخيارهم في الشرّ من هو أمكرتراهم إذا ما الشرّ أطلع رأسهسعاة إليه كالطيور تنفرإإإه السماء امنن بتفريق شملهمفلطفك بالمسلمين أحرى وأجدرفبثّ المساوي العبد أولى بتركهولكن بعض الشرّ يحكى وينذرفيا ربّ خلّصني فإنك عالمبنيّاتِ عبدٍ كالهباء وأحقرعلى أنني قاضٍ بذنبي مطلقاًوما فيّ من وصف رضا فهو مهدروإن عذابي ليس شيئاً لديكموما أنا جبار يقال يصغّر(1)
بعض كلمات ابن السَّرَّاج في شيخ الإسلام ابن تيمية
كنت قد ذكرت لك أن ابن السَّرَّاج أشعري رفاعي، والرفاعية ضرب من القلندرية الذين هم أسوأ أصناف الصوفية، فعلى هذا ليس بغريب أن يكون موقف ابن السَّرَّاج عدائياً، بل شديد العداوة من شيخ الإسلام.(2/28)
لكن المعرفة الشخصية بينهما(1)، وصداقة الطفولة، والفتوّة الأولى، ومجالس طلب العلم، إلى آخر ما هنالك، جعلت هذه العداوة من طراز آخر ـ كما يبدو ـ فلا مقاطعة كاملة بينهما، بل يستنتج؛ أنهما كانا يتناصحان هذا وأعني شيخ الإسلام يدعوه إلى الحق وإلى صراط مستقيم، وذاك يدعوه إلى ما ظنه حقاً وهو عنه بمعزل.
وإخال أنك ستوافقني القول، في احتمال كون ابن السَّرَّاج، هو الشخص المعني في كلام ابن شيخ الحزامين (ت711هـ)، الذي ذكر أن أحدهم ألّف في ابن تيمية كرّاسة يذمّه فيها، مع ذكر فضائل له، تعمية لسوء نيّته، وجعل يدور بها على بعض محبي ابن تيمية، ويقرؤها في خلوة عليهم(1)، وسيقوى عندك هذا الاحتمال إن استرسلت في القراءة وتأمّلت كلام ابن السَّرَّاج.
كانت عقلية ابن السَّرَّاج خرافية كما سيتّضح لك من النقول التي سأنقل لك بعضها، وانظر إلى حديثه عن رمز قلندري هو يوسف القميني، فبعد أن ذكر أن هذا الشيخ وقع نظره على أبيه وجدّه فأفلحا به غاية الفلاح،قال: «وخصنا الله تعالى من تلك البركة الموروثة، بما عمّنا بأنواع الرباح، وأوصاف الخير والنجاح ولذلك صار أكثر نصيبنا لما وفقنا الله تعالى لسلوك هذا الطريق الشريف من حال الصغر من المولهين، ولنا معهم أحوال وقضى لنا ببركتهم آمال.».
وقد قال شيخ الإسلام كلاماً ما أظنّه قصد به إلاّ ابن السَّرَّاج وأباه وجَدّه أو أمثالهم: «... فهؤلاء يعمدون إلى الصبيان ويربّونهم على التوَلّه تربية، ويعوّدونهم الخروج عن العقل والدين عادة، كما يعوّد الأنبياء والصالحون أتباعهم ملازمة العقل والدين»(1).(2/29)
وكان يقبل كل ما ورد من خزعبلات أوليائه وإن خالفت العقل والدين، فقد صدَّق أن هناك شجرة إن أكل من ورقها الشيخ الهَرِم عاد شاباً يافعاً، وأن شيخاً صوفياً تحوّل جسده إلى ذهبٍ وهَّاج وأنه أعطى شخصاً قطعة من جسده الذهبي، وأن شيخه تاج الدين الرفاعي نزل مرة إلى نهر دجلة ليغتسل وغاص وبقي في الماء حتى خاف عليه من كان معه، فلما صاحا مستغيثين طلع إليهم وقال: «يا أولادي والله وجدت تحت الماء سبعاً وسبعين طائفة من الجن وشرعت أتوّبهم وأقصّ شعورهم، وأنتم أزعجتموني» وكان في يده كثير من شعور الجن(1) !.
وكان يصدق بوجود الغول، لأن كرامة لأحد أوليائه ورد فيها ذلك(1)، ويسوّغ للقائلين بـ«الشاهد» من الصوفية انحطاطهم الخلقي في تتبع الجمال البشري، والتعبد بذلك، وذلك في قصة يرويها عن شيخه عمر السنجاري وكيف تعرّف على المولّه القلندري مبارك الهندي (ت689هـ)، الذي كان تاجراً في بدء أمره، ثم تولّه لأنه كان يلازم الوقوف والنظر إلى وجه عمر السنجاري، الذي أخبر عن نفسه: أنه كان فائق الحسن والجمال.
والمهم في الأمر؛ أن ابن السَّرَّاج شعر أن هذا الذي حكاه سيُعترض عليه من قِبل أهل الشريعة، فقال: «فإن قيل ما سبب نظره إلى صورة الشيخ عمر السنجاري وخروجه من الدنيا بعد ذلك ؟ قلنا: فيه أسرار، منها: أن الصانع يعرف بمصنوعاته ويستدل عليه بها، ومنها أن الصور مظاهر لمعانٍ، ومنها أن بعض النفوس تجذب إلى الجانب الإإإهي بنظر المحاسن، وبعضها يجذب بسماع المطربات، وبعضها بالمواعد الحسنة، وبعضها يجذب بالتخويف، والتهديد، والاطلاع على أنواع المفزعات، وبعضها يجذب بالابتلاء والامتحان، إلى غير ذلك ولولا خروج الكتاب إلى حد الإطالة لشرحنا ذلك وغيره، ثم انظر خاصية النظر كيف حصل تأثيره في الناظر والمنظور، وكيف كان الاستعداد من الجهتين، ثم إن النظر في ذلك إلى ما يعرفه الخواص المؤيدون بقوة الله تعالى، المبرؤون من ظن السفلة وطعن الجهلة...»(1).(2/30)
وقال وهو يعلل غرام قائل بالشاهد كان مولعاً بالمردان: «إن الصبيان أقرب إلى رؤية النور الإلهي، والإنعمال الكلي، للمعنى الرباني الذي أودعه الله تعالى في أوليائه، وخزنه في قلوب أصفيائه. يعلم ذلك من هداه الله، ويعتقده من أيّده الله»(1).
وكان يبرر أيضاً تجسس بعض الصوفية وأكثر القلندرية للمغول وعمالتهم لهم، قال: «.. فإن قيل:نريد أن نعرف عذر من يخفر غير الإسلام قلنا: من جملة الأعذار بعد: {وما فعلته عن أمري} أنهم مع المشيئة الربانية، وخفراء الإسلام مع المشيئة والشريعة فهم أكمل، وفيه نظر تركناه لعارفه»(1).
وقد نقل قصة في ذلك،عن قلندري يقال له معتوق الباعشقي سكن بغداد وطعم مما أنفقه عليه المغول، قال: «روينا عن شخص من أصحابنا الصُّلحاء، ولم يكن بدمشق مفتٍ سواه يقال له الشيخ شمس الدين محمد بن أحمد بن شبل المالكي، الجزري ثم البغدادي (وهو من قلندرية الحريرية مات سنة713هـ)، قال: توجهنا إلى زيارة الشيخ معتوق ـ وكلاهما ببغداد ـ مع فقيهين آخرين، وقالوا في طريقهم: كيف يأكل الشيخ معتوق مال صاحب الديوان (وهو موظف مغولي)، مع ما هو معلوم فيه من الشبهة والحرام ؟
فلما وصلوا، قال: يا أولادي تقولون عني كذا وكذا، وأعاد الجميع ثم قال: ما لي حيلة، والله لو أطعموني خراج قحبة لأكلته!! فاستحيوا من هيبته واعتذروا كثيراً»(1).
وحكى خبر أحد الرفاعية يقال له ابن قليج الرفاعي (كان حياً سنة699هـ) كان من أمره أنه دخل النار أمام المغول فلما لم تضره أكرموه غاية الإكرام. وكان قد استغاث قائلاً: يا سرَّ سيدي تاج الدين (الرفاعي) !! وأنه أعطي مرسوماً من المغول، مضمونه أنه يكرم، وإن مات في مكان يموت أهل ذلك المكان، فكان كلما حلّ بموضع أكرم ثم سئل الرحيل(1).(2/31)
وقد ذكرت لك آنفاً: أنه جرت لابن السَّرَّاج أمور لم يفصح عنها وذلك قبيل سنة 697هـ أوجبت انتقاله بما يشبه النفي إلى الأطراف بوظيفة قاضٍ على تلك الثغور، لكن المؤكد أن شخصاً أو أشخاصاً قد تسبّبوا في فراقه دمشق التي أحبها، وكتب مناقبها ما سأعرض له لاحقاً. وهذا أمر وارد في كل عصر ومصر. وقد نقل ابن السَّرَّاج قصة عن شيخه البدر بن جماعة، حكى فيها أنه كان في شبابه يؤذى من أناس عملوا على إبعاده عن دمشق(1).
استمع إلى كلامه الذي يحكي فيه خبر تأليفه كتابه (الالتماس): «وهذا الكتاب ألّفناه بدمشق حرسها الله تعالى، أوائل سنة سبع وتسعين وستمئة قبل تاريخ المحنة(1) بما يقارب عامين، وكان من أسباب تأليفنا لهذا الكتاب أن بعض المشايخ الراسخين أخبرنا بدنو فراق دمشق، فاقتضت المصلحة تأليفه لإعلامه لنا، وتحقّقنا من جهته العالية، وإشارته السامية، أن الخروج يكون إلى المناصب القاصية، والبقاع النائية، التي لا تصلح لصغرها لتلميذ يحتاج أن يشتغل علينا عشرين سنة، قولاً جزماً لا مبالغة(1) !!.
وذلك لسلوكنا طريقة وسلوك معاصرينا طريقة، ولذلك كنا بينهم عدة سنين، ولم نزاحمهم على المناصب، طلباً للسلامة في الدارين. مع أن الجهات الدينية لم تجعل إلا شبكة لحصول مثلنا، ومع ذلك يقدم الجهال علينا، ولكنّا بحمد الله تعالى موعودون من الجهة الصادقة بالتمكين المغبوط، والناموس المضبوط، المتكفل بأضعاف الرضا، الجابر بأقله كل كسر مضى، وإنما نحن وأمثالنا مما هو من حجج الله على عباده.
ومن فوائد هذا التأليف؛ أنَّا التمسنا فيه كتابة رؤساء العلماء، وكبراء الفضلاء بالأهلية للتدريسوالإعادة واستحقاق التصدير بجامع دمشق للاشتغال والإفادة
وكان التصدير قبله واقعاً بسنين عديدة تبرعاً، إذ لا نحتاج توجهاً ولا تجوّهاً(1)، وإنما لتكون كتابتهم حج،ة وعضداً ظاهراً لما نبديه في بلاد نسكنها، ونهدي له ونرشد إلى سبيله، من طريق صلاح الدارين.(2/32)
وأن يُعرف لنا ذلك إذ لا بدَّ منه عقلاً ونقلاً، فكتبوا وأحسنوا وابتدأهم شيخنا جمال الدين أبو عبد الله محمد بن سالم بن واصل الشافعي قاضي القضاة بحماة المحروسة،وختمهم شيخنا نجم الدين أبو العباس أحمدبن محسن بن ملي الأنصاري الشافعي مفيد حلب المحروسة أخيراً بعد دمشق المحروسة وناهيك بهما إمامين عظيمين، وإن لم يعرف قدرهما كثير من الخلق..»(1).
ونجد في مقدمة كتابه هذه العبارات: «... وبلغ فينا الحسود آماله، ونال منا العنيد مناله، وظنوا في أنفسهم أنا خسرنا وهم وقد ربحوا، ولم يعلموا أنا بحمد الله قد أفلحنا وهم لم يفلحوا..»(1).
وفي موضع آخر: «.. لم نزاحمهم على المناصب العلمية في الدنيا وإن كنا أقدر(..)(1)،ولاتغتر بشهرتهم دوننا،ولابرفعة مرتبتهم الدنياوية..»(1)
وعند حديثه عن دخول المغول بلاد الشام وكان حينئذ بحلب سنة700هـ سجّل أمراً مهماً في سيرته إذ وصف خروجه من دمشق وكونه بحلب بأنها: «لأسباب وتعصبات من أعداء الدين المدعين أنهم علماء وفضلاء، طهّر الله الأرض منهم» ولما جاء إلى ذكر تولّيه قضاء بهسنى وصف توليه لها بأنه كان «من عجائب الزمان واختلال الأركان بحيث إن قبح ذلك لايوصف أبداً..».
وقال في عرض حديثه عن مساوىء الغيبة والنميمة: «... ولكن قد ابتلي بهما أهل زماننا، ولم يبق يمكن تخلصهم منهما إلا أن يشاء الله. ومما أوجب انفصالنا عن دمشق حرسها الله تعالى، إلى بلاد الأطراف بعد قضاء الله تعالى الغيبة والنميمة المشار إليهما، واستقباحنا لهما، ونفرتنا منهما ومن أهلها، وتجنبنا ذلك ومثله.
على أن أكثر من رَأينا لا يتهيأ لهم مصلحة إلا بهما وبأمثالهما، وبذلك يروج محالهم ويتقوم حالهم، ونحن نسأل الله تعالى لطفه وهدايته، وإرشاده وحمايته، وحفظه وصيانته، لنا ولسائر المسلمين آمين»(1).(2/33)
وقال ناصحاً قرّاءه من الصوفية: «... ولا تغتر بمن يخالفه فهم الجاهلون، وإن كانوا قد شاركوا في بعض أبواب الفقه أو غيره، ولقد ثلب أعراضنا جماعة منهم وبالغوا في إيذائنا بجهالاتهم القبيحة بسبب جهرنا بالذكر(1)، والاعتناء بمحافله والإكثار من مجالسه»، حتى قال: «فيا حسرة على الجهلة ما أخسر صفقتهم المغبونة، وما أفحش ضلالتهم الملعونة. عافانا الله وسائر إخواننا المؤمنين من بلائهم المبين»(1).
وشاهد ما ذهبت إليه من أنه أُبعد عن دمشق من قبل بعض أمراء المماليك وبعض خصومه، ما ذكره عند كلامه عن خصم له لم يسمّه أكبر الظن أنه شيخ الإسلام ابن تيمية، كان يرد كرامات أوليائه المزيّفين على أنها من علم السيمياء (السحر)، قال: «.. أو يقول إن ذلك من فعل الشياطين، كما قد اشتهر عن بعض الفقهاء في زماننا بحيث لم يبق لأحد عقيدة في الصالحين، ولا حسن ظن في المؤمنين، وقد أتيت بما يقوله، وحقّق أن أولياء الإسلام كذّابون زغبلة أو مغرورون شيطانية.
وليس أحد من العلماء يرى أن يقيم نفسه في مقابلته لما قد اشتهر عنه من كثرة المناوآت، وما تحقق عنده من حب المماراة، وقد ارتبط عليه خلق كثير من العوام، وصار له جاه ظاهر عند جماعة من ذوي الأحكام، فمن ناوأه أتعبوه،ومن عارضه أعانوه، جاه الحق ضعيف وقَدُّ الحق سخيف، والوقت يقتضي ظهور ما يجب ستره، وإقامة ما يتعيَّن كسره، ولا قوة إلا بالله»(1).
وحكى أن أميراً مملوكياً كان يناقش الرفاعية بقرية (قَطَنَا) ويقول: «هؤلاء يَدَّعون الحكم على النار، وأنا لا أصدقهم، وأنا على مذهب فلان ـ العالم المعروف ـ الذي لم يبغ منكراً على الأولياء وغيرهم..»(1).(2/34)
وقد علمنا من المصادر التي ترجمت لشيخ الإسلام أن بعض أمراء المماليك كانوا يحبونه ويعظمونه، بل إن السلطان الناصر (ت741هـ) كان يحترمه ويعزه. وتأمل قوله الذي ذكر فيه رواج مصنفاته رحمه الله عند السوقة والسلاطين. وذلك عند حديثه عن أوليائه أيضاً: «... وذلك عكس ما يقوله بعض علماء زماننا إذ قد جعل هؤلاء وأمثالهم من الشياطين، وأكثر في ذلك مصنفات متنوعة راجت عند السوقة والسلاطين، فأقل ما يقول: إني لم أقدح إلا من كان على غير الكتاب والسنة فيُصغي السامع إلى قوله ثم يشرع فيقدح الكل ويتعدى إلى المشايخ الكبار الذين وقع الاتفاق على ولايتهم، وصاروا ربانيين هذه الأمة، وإذا حاققه شخص أخرج لهم ذنباً، واخترع لهم خطأ ليخرجهم عن الكتاب والسنة»(1).
وغني عن القول إن هذا كذب عظيم على شيخ الإسلام فما كان لينقد من الأكابر إلا من أخطأ وهل كانوا معصومين ؟
أما العامة الذين أشار إليهم من محبي شيخ الإسلام، فيقول فيهم في موضع آخر: «... كفانا الله أمرهم، وردَّ عليهم شرّهم. ولقد ابتُلينا بهم كثيراً،ولقينا من جهلتهم وبالاً كثيراً،ونحن إلى الآن (سنة715هـ) لم نخلص من تعدّياتهم، ولم نسْلم من فساد أذهانهم، وغالبهم اليوم ممن يدعي الفقر والسلوك ويحل نفسه في طريقهم محل الملوك..»، ثم دعا عليهم(1).
وقال بعد سرده لكرامات أشياخه التي تخالف العقل والدين: «... واعلم أنه لا موجب لإنكار الحقائق وإهدار المعارف غالباً في هذا العالم إلا كلام من لا يعلم كما قال من قبلنا: لو سكت من لا يعلم لسقط الخلاف.(2/35)
وهؤلاء الذين يكونون على هذه الصفة هم أعداء الحق، وهم موجودون في كل ملّة ومذهب، يجْنون على إخوانهم وعشرائهم ورفقائهم كل جناية أعظم من أختها، ثم إن القوم المجاورين لهم والمناسبين والمصاحبين يعظم عليهم صنيعهم، ويتبرّمون من أفعالهم وأقوالهم لكن في الغالب يحصل النشب ويعز الخلاص، فتلزمهم مساوئهم وتلصق بهم عللهم ولا يستطيعون فكاكاً، فتنسب تلك الأمور إلى القوم وهم لها كارهون..»(1).
ويُفهم أن ابن السَّرَّاج كان يتابع أخبار أبي العباس رحمه الله، ويطلب مصنّفاته وفتاواه، يُفهم ذلك من غير ما موضع من كلامه، من ذلك قوله: «.. لا كالذي يأخذ الأشياء بالعنف والغلظة وعدم الرفق، وكثرة الشقشقة واللقلقة ودعوى التمعلم (كذا) والتحذيق، والفوز بالدرجة العليا، والتقدم على السابقين، والرد على الأئمة السابقين، بغير خبرة ولا دراية تصلح للعارفين، مثل من أنكر على مشهد الحسين، والست نفيسة رضي الله عنهما بالديار المصرية، فلا يلتفت أحد إليه، وكان الصواب معهم...»(1).
وأكثر ما يلفت انتباه المتأمل في (التشويق) و(التفاح) كثرة الجمل الدعائية بالهلاك على شخص لا يسمى في أكثر الأحوال، وعلى أتباعه، والمقصود هو: ابن تيمية وتلاميذه، كما يتضح بأقل تأمل، فعند كلامه على الغزالي، والفخر الرازي، قال:«... فليمت كمداً ضدهما وشانئهما بالرغم والهوان، والذل والخسران، فليس هو من أهل الإمكان ولا الإيمان»(1).(2/36)
وقال تعليقاً على حكاية من حكايات أوليائه: «... وكم لمثل هذه الحكاية من مثل وهم يسمعون ولا يرجعون ويكابرون، وفي المتفقهة وبعض الفضلاء الظاهرية اليوم من قد أعجبته نفسه، وغرته معرفته ببعض(...)(1) فاستهان الأمر، وتعرض لقدح هذه الطائفة الإإإهية وصرح به في وقت، وكله حسد نفساني، ونظر حرماني، والوقت يقتضي ذلك لرذالته وفحش أحواله، فاختفى الفقراء المحققون فيه غالباً، وتسلط عليهم من جهلهم، فأصبح لهم ثالباً، ولِما لا يليق بهم إليهم ناسباً، ولشقاوته بعداوتهم كاسباً. تباً له ولأمثاله، والله يباعد بيننا وبين أشكاله آمين»(1).
وقال: «... ولا تغتر بمن يذكر ذلك ومثله، ويجعله من أفعال الشيطان، فإنه شخص قد الْتبس عليه الأمر، واعتقد أنه ناصح لهذه الأمة، وأنه يزيل عنها كل ما يجب إزالته، ويقرر لها كل ما يمكن تقريره، وهو ـ بالله العظيم ـ معكوس في طريقه، ممكور به قد أضل الخلق حسب طاقته، وفرق كلمتهم حسب قدرته، ولقد عظم ضرره، وتطاير لمن خالفه شرره.
فيا أسفا عليه وعلى أمثاله كيف ضاعت أعمارهم، وخابت مساعيهم، ووضعوا الشيء في غير موضعه، وهلكوا وأهلكوا، ولم يبق للموعظة فيهم مجال، ولا للنصح عندهم محل، إنا لله وإنا إليه راجعون»(1).
وقال تعليقاً على (كرامة) من (كرامات) يوسف القميني: «... ونقول إن مثل هذه الواقعة الغريبة لو جرت عند الكفرة والضُّلاّل من الخلق، لآمنوا بها، واعتقدوا الولاية في الفاعل لذلك وأكرموه وبجلوه ورفعوه، ويكون في بلاد الإسلام أصحاب الدين القيم من يدّعي العلم بيد القطبية، في العلوم الشرعية والعقلية وغيرها، ثم ينكر ذلك ويقول: إنه من المنكرات وإن فاعله ليس بشيء أصلاً.(2/37)
وكان في أيامنا من يشبهه (أي يوسف القميني) في ذلك، ومنهم شخص يقال له: الشيخ إبراهيم المُوَلّه وله أحوال عظيمة، وكرامات ظاهرة، فلا برح إلى أن أهانه وضربه، ومن لزم ذلك الرجل لم يؤاخذه ظاهراً، وحصل عند المؤمنين من ذلك أذى عظيماً، وبالله قد عاب علينا مخالفوا ديننا،ويحق لهم ذلك ولا قوة إلا بالله»(1).
وهذا القلندري الذي ذكره أورده ابن كثير رحمه الله تعالى في تاريخه فقال: «إبراهيم الموله (ت725هـ) الذي يقال له القميني لإقامته بالقمامين..، وربما كاشف بعض العوام، ومع هذا لم يكن من أهل الصلاة وقد استتابه الشيخ تقي الدين بن تيمية وضربه على ترك الصلوات، ومخالطة القاذورات وجمع النساء والرجال حوله في الأماكن النجسة»(1).
وقال ابن السَّرّاج: «... وقد نبغ في زماننا من يدّعي العلم والفضيلة، ونصب نفسه لقدحهم ووصفهم بكل قبيحة ورذيلة، وجعل ما ينقل عنهم من هذه الفضائل أو يروى من محاسنهم مما يتمناه كل سائل إما خيالاً شيطانياً أو محالاً بهتانياً.
هكذا قال بقلمه ولسانه، ثم إنه أولاً كان يشيع بأن ذلك يقوله في قوم لا يتبعون الكتاب والسنة، ثم إنه جعل الجميع على غير الكتاب والسنة، وأخذ هذه الكلمة العظيمة، وجعلها ترساً يهول بها على الخلق، فمن سمع ذلك قال: معذور !!
ولم يعلموا أنه ينسبهم إلى الباطل بزعمه، وأخرجهم عن الحق ببغيه. وكيف لا يكون كما قلناه من جُملة قدحه الشبلي (ت334هـ) ومن والاه. طهّر الله الأرض من أمثاله وأراح العباد والبلاد من فساد أمثاله آمين»(1).(2/38)
وقال عدوّ نفسه: «... ولقد أحسن الشيخ الحافظ أبو نعيم الأصفهاني (ت430هـ) ـ رحمة الله عليه ـ وذكر في كتابه (حلية الأولياء وطبقات الأصفياء) من ذلك شيئاً كثيراً ليس كغيره من هؤلاء النابغين (...)(1) في زماننا المدّعين قطبية العِلْم بل العَالَم، ممن قد أعجبته نفسه الخسيسة حتى قدح علماء الأمة، وخطّأ خلاصة الأئمة، قال عن هذا الحافظ أبي نعيم وأمثاله: إنه لسذوجتهم، وحسن ظنّهم، وقلّة علمهم، وعدم تمكّنهم، غلب عليهم حب شيء فأطنبوا في وصفه بغير تدبر.
ولما كان ممن سبقه بالفضائل؛ مسلم بن الحجاج النيسابوري (ت261هـ) صاحب المسند الصحيح رحمة الله عليه قال:وهل كان إلا رجلاً محدّثاً. إلى غير ذلك مما لا يوصف ولا يحكى. أدرك الله الإسلام بلطفه وعجّل لهم الخلاص من مثل هذا القائل، وزيغه وفحشه وحيفه آمين»(1).
قلت: شيخ الإسلام أعلم بأقدار الرجال من هذا الرفاعي التائه، وهو يعرف الرجال بالحق ولا يعرف الحق بالرجال.
أما أشعريته التي زادت من اضّغانه وحقده وكذبه فظاهرة عند حديثه عن الصفات الإإإهية الواردة في الكتاب والسنة، فقد جرى على طريقة الخلف من إنكار المعاني الظاهرة وحملها على المجاز، ثم قال: «.. ولقد تاه في ذلك خلق كثير، وأضاعوا الزمان فيما لا يفيد، وفرّقوا كلمة المسلمين، وشعثوا سبيل المؤمنين، وادّعى كل منهم العلم والفضل والمزيّة، والتفرّد بالدرجة الفائقة، والرتبة العليّة.
والصواب العدول عن سبيلهم، والتبرؤ من قبيلهم، وخاصة من أشاع مثل ذلك بين العوام، وتلا متشابه سوره على من عساه لا يفهم مراد عشيره من واضح الكلام، وهو يعلم أن ذلك لا يصلح إلا لذوي النهى والأحلام، وكل خبير ناقد من الأعلام.(2/39)
ولقد كنت متوقفاً في بعض أحوال شخص من أقراني، يعاود البحث في ذلك ويعاني، ويزيد عن الحد، ويجعل الولد اللاحق سابقاً على الجد، مع أنه عالم فاضل، سابق ناضل، فيه دين وتقوى، وبه يعتضد العلم ويقوى، وعنده دربة وتمهيد، ولديه تثقيف وتسديد، ولكنه قد أولع بالخلاف المخلّ، وأغري بالمقال الممل، وقارب بمعكوس تدبره سلوك الطريق المضل.
إلى أن رأيت في المنام بدمشق حرسها الله، أوائل سنة (704هـ) أن أخي في السِّنِّ وخدمة العلم الشيخ الإمام العلامة كمال الدين أبي عبد اللهمحمد بن الشيخ علاء الدين أبي الحسن علي بن الزملكي الأنصاري الدمشقي الشافعي (ت727هـ)(1) أيّده الله تعالى قد جاء إلى منزلي، وقال: أُمرت أن آتيك وأدعو الله أنا وأنت، فدعونا واتّفق حصول طيب لا يمكن وصفه ثم سألته فقال: استأذنت الله تعالى في أن أمضي إلى فلان يعني الشخص المشار إليه(1) وأدعو الله أنا وإياه فلم يأذن لي، وقال: إني لست معه ولا عنده ولكن امض إلى فلان ـ يعني العبد الضعيف ـ فإني معه وعنده.
فقلت: هل ذكر لك علة المنع ؟ فقال: قال لي عنه إن ذلك من أجل اعتقاد يعتقده. فعند ذلك علمت أن ذلك الشخص مغرور.
ولقد آلم قلبي ذلك !! ووددتُ نصحه وإعلامه، لكن تحققت أنه لا يفيد فيه القول، بل يحمله على المبالغة في الأذى والتحيل على قلب الرؤيا وردها على الناصح، وجعلها من تلبيس إبليس، إلى غير ذلك مما يشوِّش الباطن والظاهر، ويعكس الأوّل والآخر، كعادة أمثاله ممن قد أعجبته نفسه، وفسد حاله..»(1).
وقال في سياق حديثه عن السماع والتواجد: «... وأما في زماننا هذا، فقد رأينا في أيام الجمع وغيرها من يظهر عليه وجد، أو يبدو منه صياح ونحوه في حال الخطبة، أو عند سماع قرآن، أو ذكر، أو غير ذلك، فيبادر إليه المنكرون ويؤذونه، وربما شتموه ولعنوه، ورأيت بعض الفضلاء الظاهريين، يقوم إليه ويعرك أذنيه، ويقرأ قوله تعالى: {آآآ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى ااا تَفْتَرُونَ}(1).(2/40)
ثم قال: «.. فإن قلت: هل رأيت من تأثير فعل هؤلاء وأفكارهم ما ليس بالمنكر شيئاً ؟ قلت: نعم، رأيت من تبعهم في ذلك من جهلة العامة والمتفقّهة والمتفقّرة، ورأيت من بعض أتباعهم أمراء، ونوّاب قلاع حصينة معدودة مذكورة مشهورة، لهم صيت وصَوْلة عظيمة، وزادوا في شنيع الاتباع الذي وافق اعتقاداتهم الرذيلة، وطبائعهم الكفرية، بحيث لم يبق في البلاد التي يحكمون عليها صالح يتجاسر أن يمكن حالاً يطرأ له من ظهور أصلاً، لا عند سماع الخطبة، ولا عند سماع القرآن، ولا الذكر، ولا التسبيح في الأسحار، بل صار كل منهم إما أن يبتعد من ذلك، وإما أن يتقرب ويتمغص بحاله إلى أن يكاد يهلك.
واشتهر ذلك وتفاحش عدة من السنين، اتباعاً لبعض المنكرين من الفضلاء الظاهرية بدمشق،لكونه وافق طبعه الرديء، وقلبه الدنيء، ودينه الفرعوني، حتى إنه لم يبق أحد يقدر أن يسلك سبيل معروف أصلاً، لئلا يُحضره ويستهزىء به أو بمن علّمه، ثم يهينه ويتهدّده ويستتيبه عن الخير جملة. هذا مع ظهور المنكرات في بلده، وتفاحشها والإصرار عليها، والإقبال بكل وجه إليها(1).
وكذلك أيضاً تسلّطوا على الفقراء بأجمعهم(1) وآذوهم وضربوهم ونفوهم وأبعدوهم وأوعدوهم، وحرموا الإحسان إليهم جملة كافية، وأولوهم من بلاياهم أقساماً وافية، وربما أن العبد الضعيف فاوض بعض هؤلاء المقتدين، وذكر له ما جاء في اتباع سبل المعتدين.
فكان الجواب: إنّ كُتب الفاضل الفلاني(1) جاءتنا من دمشق، ومما تضمنت أن أكثر هؤلاء الفقراء اليوم زنادقة يحل قتلهم بالأصالة(1)، فتعب العبد الضعيف كثيراً، إلى أن أزال من ذهنه الشيطاني ذلك أو بعضه، وعرف السامع تعصب ذلك الفاضل وبغضه، وغور قوله وعوره، ونقصه ونقضه، وطول بلاء معتقده وعرضه.(2/41)
فأي فتنة أبلغ من ذلك في الدين،وأي فرصة أشهى منه إلى قلوب المفسدين،فالله تعالى ينظر إلى الإسلام بعينه المتعالية عن المنام، ويريحهم من ذلك وأمثاله الذين قد انثلم الدين بتمعلمهم(كذا) أقبح انثلام، وهم يعتقدون أنهم من أعوانه وأن كلاً منهم بما يعتمده يحقق أمانة إيمانه،تعالى الله عن ذلك أن يكون كذلك بل هم المفسدون المفرقون والمارقون الممزقون..»(1).
وقال بعد كلام طويل عن الرفاعي وكون قبره يُقصد بالزيارة ونيل البركة: «.. وإن أنكر ذلك بعض المدّعين علماً وفضلاً، واستدلّ بظواهر، واعتضد بنقول، فليس بشيء عند التحقيق في ذلك جميعه(!!) وفيه بحث كثير وكلام طويل.
والذي عليه العمل الآن، وقد قال به أئمة الأمصار: الجواز والاستحباب (!!)،فثق بما نقوله ولا تغتر بمخالفته،فليس هو في مخالفته سائر مع الحق، ولا قاصد إلى الصدق، حقّقنا ذلك كشفاً (!!) وعلماً، وأوثقناه حكمة وحكماً»(1).
ولذلك نراه يذكر زياراته لقبور أوليائه، من ذلك أنه زار تربة أحدهم (بكفر طشة) قرب البيرة وقال: «.. ولنا إليها ترداد، وسهرنا فيها ليالي بالذكر والفكر، ولنا منه نصيب وافر في الباطن، وبإحسانه وفضله»، وقال عن تربة أخرى: «ولنا إليها تردد بحمد الله»(1).(2/42)
واتَّهم ابنُ السَّرَّاج شيخَ الإسلام بأنه مثير للخلاف إلى آخر ما هنالك من افتراء مكرر في ثنايا الكتاب،ففي مقدمة (التشويق) يقول: «إنه كثرت الإشارات الباطنة (!!) إلينا في تأليف هذا الكتاب،على ما هو عليه من تقريع المتمعلمين والمتحذلقين(كذا)،واستهجان المتقولين،واستقصاء الحاسدين والحاقدين». ثم وصف ابن تيمية وأصحابه قائلاً: «.. وسبب قولنا في ذلك ومثله؛ أنه قد ظهر في زماننا أقوام قد أغروا بمهلك الخلاف، وسلّوا سيف الفتن من مُحكم الغلاف، وأوسعوا الحيل في تفريق الائتلاف، وبذلوا الجهد في موجب تحقيق التلاف، وأطالوا في إفساد العقائد كلاماً كثيراً وارتكبوا في هدِّ القواعد إثماً كبيراً، ورضوا لأنفسهم تكرار الإهانات سنين عديدة، ولم ينالوا بتوالي العتابات...» ثم حكى أحلاماً تحلَّمها من هم على شاكلته في ذمّ أبي العباس ـ قدس الله روحه ـ ومنهجه وفتاواه(1).
أما قوله: إن الإشارات الباطنة كثرت إليه في تأليف كتابه (التشويق) على ما هو عليه... إلخ، فقد دلّنا كيف تكون الإشارة بذلك عنده، ومنها نفهم كيف يفكر الصوفي قال: «.. ولقد وقع للعبد الضعيف مصنّف هذا الكتاب ـ عفا الله عنه ـ من ذلك شيء كثير، وأضمرت في نفسي عزماً على ما سأفعله من عقد مجلس ذكر أو غيره من أبواب الخير، فأرسل الله تعالى من خاطبني بذلك على ما هو مضمر في نفسي، فأعلمُ وأتحقق أنه مخاطبة معلمة باستحسان ذلك، ومشيرة بفعله، ومرغبة في اصطناعه، وهذا الذي نقوله يعرفه من له ذوق»(1).
قلت: إذن فالمسكين يعدّ وسوسة شيطانه وطلب رفاعية دمشق وقلندرية الأرجاء تأليف كتابه ذاك إشارة تستحسن عزمه الرد على شيخ الإسلام، وكان قد قال في أوائل كتابه:«..ولم نقل شيئاً ولم نؤلف كتباً إلا بإشارة مقبولة»(1)(2/43)
وقد روى ابن السَّرَّاج(ت694هـ) حادثة عساف وكاتبه النصراني التي جرت سنة693هـ ويبدو أنه كان بدمشق يومئذ فقد ذكر بعض التفاصيل التي تهم المؤرخين، بيد أني توقفت عند تعبير استخدمه في كلامه يستنتج منه غيظه على ابن تيمية رحمه الله. قال ـ والقصة عند ابن كثير(1) وغيره ـ: «وأفضى ذلك إلى أن نائب السلطنة الشريفة ملك الأمراء عز الدين أيبك الحموي (ت703هـ) ضرب الشيخ زين الدين الفارقي ضرباً عظيماً، وضرب الشيخ تقي الدين بن تيمية أقل منه، ظلماً وعدواناً..»(1).
فإن كلمة: «أقل منه» تُظهر خبء شعور ابن السَّرَّاج تجاه ابن تيمية في هذه الواقعة أيضاً، وكان ابن السَّرَّاج يعظّم الفارقي لأسباب، منها قول الفارقي في الفقراء؛ أصحاب ابن السَّرَّاج: «.. أعطيت من الله أن مهما ورد عن الفقراء رضي الله عنهم مما تستنكره الضعفاء أستخرج له وجهاً، وأقيم عليه دليلاً وأحل عويصه!!»(1).
كان ابن السَّرَّاج بدمشق سنة704هـ ويحتمل أنه بقي بها إلى سنة705هـ، وحضر المناظرة الكبرى بين شيخ الإسلام ابن تيمية والرفاعية ومن كان معهم من ضروب القلندرية، وقد نقل كلاماً لأبي العباس كأنه سمعه منه حينئذ قال: «.. ثم إنه قال: وإنه يكون بأرض الهند ضرب من الزط يفعلون هذا، وهؤلاء المتولهون والمنتسبون إلى بعض الشيوخ إذا حصل لهم وجد سماعي، كسماع المكاء والتصدية، فمنهم من يصعد في الهواء، ويقف على زج رمح، ويدخل في النار، ويأخذ الحديد المحمى ويضعه على بدنه، ولا يحصل له هذا الحال عند الصلاة ولا عند الذكر، ولا قراءة القرآن، لأن هذه عبادات شرعية إيمانية إسلامية محمدية تطرد الشياطين، وتلك عبادات بدعية شركية شيطانية فلسفية تستجلب الشياطين، (قال ابن السَّرَّاج) إلى كلام طويل يكفي منه هذا الذي حكيناه».(2/44)
وكان قد نقل قبل ذلك (كرامة) قلندري رفاعي يقال له:محمد الرصافي، وكان من أمره: أنه كان يظهر شرب الرصاص المذوّب، ويتمرّغ في النار، ويأخذ ورقة بيضاء أو غير بيضاء ـ كما يروي ابن السَّرَّاج ـ فيضعها في كفه ثم يقرأ عليها فتخرج درهماً فضة صافية، ثم يريهم إياه، ثم يفركه أخرى فيخرج مسكوكاً بسكة الوقت الحاضر.
وقال: «.. فإن قال ضدٍّ لشدة بغضه، وشنيع تعصبه: لم أسمع بهذه الأحوال،ولا أظنها صحيحة فقل:ارجع إلى المشايخ والمقتدين والمدرسين والمعيدين، وأذهب عمرك في التحصيل والتمرين، حتى تعرف ولم تكن من الجاهلين،وامش على قدرك،واعرف منزلتك،ولاتخض مع الخائضين الذين بلغ بهم الحسد لهذه الطائفة الربانية الإإإهية(1) إلى أن قالوا:إنهم سحرة، وإن خيارهم كذّابون مكرة، وإن كراماتهم خزعبلات وحيل الأباطيل الشيطانية. أولم يعلموا أن الفرق المخالفة لاتطيق القدح بأكثر من هذه الأقوال الهذيانية» إلى أن قال: «.. فإن قيل من تكلم في هؤلاء بما لا يليق ؟ ومن الذي أقدم بقدحهم على نار الحريق ؟ فقل: تكلم فيهم بعض المتقدمين، ورأينا بعض فضلاء زماننا تكلم فيهم بقلمه ولسانه منذ عدد من السنين، ولقد والله كان غنياً عن هذه المقالة، ولو لطف الله تعالى به لسأله حسن الإقالة.
وإني ـ والله ـ لأوثر له ولمثله من المسلمين من هذه الأمور السلامة،وأودُّ لهم ـ لله تعالى ـ أن يبعدوا عنهم العتب والملامة، ونحن نحكي بعض أقواله، ونسأل الله تعالى أن يعفو عنا وعنه وعن أمثاله».(2/45)
ثم نقل بعض رأي أبي العباس ـ رحمة الله عليه ـ فيهم، وكلامه عليهم، ثم قال: «... ونحن نقول ونقسم بالله العظيم: إنا نعتقد أن هذا الكلام القبيح الشنيع لا يليق بصغير مبتدىء بين يدي قائله، وإني والله والله والله ـ ثلاثاً ـ الذي لا إإإه إلا هو الرحمن الرحيم لأحزن كل الحزن، وأتأسف كل الأسف على مثل هذا الرجل الفاضل، من أجل صدور مثل هذه الأقوال عنه مع علمه وفضيلته، كيف يرضى لنفسه أن يتكلم في مثل هذه الطائفة التي قد شرّفها الله تعالى يقيناً ؟ وأظهر لها آيات، وأقام على صدقها بيّنات، مع علمه بأنَّ أحداً لا يوافقه على مقالته، ولا يستحل أن يقدم على الحق فيقيم الباطل في قبالته. يا لها من حسرة على الفضلاء الذين خسروا فضائلهم، ولم يأمن الحق وأهله غوائلهم..».
ثم قال بعد تحدٌّ فارغٍ: «... فما بالشقشقة، واللقلقة، والتلفيق، والتزويق تمحو محاسن الإسلام...»(1).
وحين تحدث عن فضائل دمشق، وأتى بكثير مما لا يصح منها، قال: «... ولا تغتر بقول بعض العلماء النابغين في زماننا: لم يثبت من هذه الفضائل شيء ولا أثر لها. فإن مثل ذلك لا يفتقر إلى الثبوت، ومُنكره معاند. وإنما أولئك يريدون محو محاسن دمشق حسداً من عند أنفسهم من بعدما تبيّن لهم الحق»(1).
وقال وهو بصدد إثبات فكرة الأبدال لدى الصوفية: «... ومنها أنهم سمّوا به (بدلاً) لأنه كلما مات رجل أبدل الله مكانه رجلاً. وهذا ردّه بعضهم وقال: لو صحَّ ما نقض الدين. ثم أخذ في تضعيفه، وقال: ليس من أمر الدين ولا أصل له ثابت. وأكثر من ذلك.
ونحن نقول:بل قوله مردود،ولهذا الحديث أصل،وليس في إثباته محذور من نقض قاعدة أو تبديل سنة أو غير ذلك. بل من رده حاسد مبغض لأهل الحق وأصحاب (...)(1) الذي ليس لحاسدهم منه ذرة من النصيب.لايكاد يخفى ذلك ولاعن الحمير!!وإن لم تؤمن بما نقوله فعليك بالمنصف الخبير.(2/46)
وهذا الذي يقول هذه الأقوال، ويسري في هذه السبل قد عرف حاله،وله أحوال معنا يكون حاسداً لأصحاب الفضائل الباطنة والظاهرة، فيأخذ في محو محاسنهم طلباً لإثبات نفسه، ووقتاً يكون طالباً لأن يقال: محقق متقن قد جاء ليجدد لهذه الأمة أمر دينها، وغير ذلك من الأمور المذمومة، ونحن نعرفه، ونعرف أغراضه وما نشأ عليه، وما جُبل عليه، وما هو مُراده وما هو معشوقه من الأحوال والأفعال والاعتقادات، فالله تعالى لا يجعلنا بحاله ولامسلماً غيرنا،وشرح أمره أطوله طويل،وبلاء المسلمين به غير قليل»(1).
وتقع على البذاء في أسلوبه، مثل قوله: «...فاعلم ذلك وثق به، ولا تلتفت إلى حيوان ينكر مثل ذلك ولو ادّعى العلم فليس بعالم، لأن العالم يتصرف بعلمه ويعتمد الواجب،وينظر الأصلح ويفكر في العواقب...»(1).
وقال في بحث (الخضر وحياته) عليه السلام: «.. وإن كان أصحاب الأغراض الخسيسة النفسانية،والمقاصد الخبيثة الشيطانية يقولون غير ذلك، إما لدغل كامن وعداء باطنه لهذه الأمة، وإما لحب التفرد بالرياسة، فيأخذ أحدهم في محو محاسن أهل الباطن حتى يصل إلى الخضر عليه السلام.
ثم إن قدر على إثبات محاسن نفسه، وإلا اكتفى في الأمر بمحو الغير، وتغذّت نفسه وطبعه بذلك ورضي به، فاعلم ما يقول وتحققه، ومن العجب كوننا رأينا من الفضلاء من شحن كتبه بشهادة الأولياء، وهم الجم الغفير، ببقاء الخضر عليه السلام ورؤيته ومحادثته والتعلم منه، إلى غير ذلك، ثم يقول في مكان آخر: إن ذلك باطل وإنه من إلقاء الشيطان بين الناس، فلا حول ولا قوة إلا بالله»(1).
وعرض ذكر الملاحم، والذين ينكرونها ممن سماهم بالمتفقهة، ودافع عنها وقال: إن في هذه الملاحم أسراراً لله تعالى، وحكمة واسعة. ودعا إلى سلوك الأدب معها، ثم قال: «... ولقد رأيت جماعة من المتفقهة ينكرون بخلاف الأئمة الفضلاء والسادة النبلاء، حتى إنهم يكثرون الكلام على الملاحم، ويزعمون أنها من الباطل.(2/47)
ولقد رأيت شخصاً كبيراً منهم يقول: الواقعة الفلانية مذكورة في ملحمة ابن عقب(1) أو غيره وجرت كما ذكر لكني أعلم أنها كتبت فيها بعد وقوعها من فعل بعض الزنادقة، أو المتعصبين للباطل، ويحرم بذلك وينكر أن ابن عقب أو غيره يمكنه أن يتكلم على وقوع شيء قبل كونه ويقول: كيف يتهيأ له ذلك وما يعلم الغيب إلا الله تعالى ؟ فلا زلت حتى وقعتُ على ملحمة كتبها بخطه في صغره، وقد جرى في بسط عمره منها وقائع، فقلت: أليس هذا خطك ؟ وقد جرى ذلك بعد كتابك فأبلس»(1).
قلت: ما كان شيخ الإسلام ممن تنقطع حُجَّته أمام رجل قزم العقل كابن السَّرَّاج، ولئن صَدَق في روايته هذه فما يُظن بأبي العباس أن ينسخ هذا الضرب من الملاحم الخرافية حتى وهو صبي.
أكبر الظن أن ما أشار إليه ابن السَّرَّاج ووجده بخط ابن تيمية هو بعض المبشرات التي رآها الصالحون، وقيّدت في كتاب ووافق بعضها ما قدَّره الله تعالى، كتلك التي أخبر بها شيخ الإسلام السلطان الناصر في رسالة بعثها إليه جاء فيها: «وقد حدثنا أبي رحمه الله أنه كان عندهم كتاب عتيق وقف عليه من أكثر من خمسين سنة،قبل مجيء التتار إلى بغداد،وهو مكتوب من سنين كثيرة، وفي آخره: والتتار يقلعهم المصريون. وقد رأى المسلمون أنواعاً من المبشرات بنصر الله ورسوله، وهذا لا شك فيه إن شاء الله...»(1).(2/48)
وله عبارات شنيعة نفهم منها عميق غيظه وأكيد حسده، وهي كثيرة منها قوله: «... فليعلم ذلك المعترض المتحذلق، وهو بسكوته عما لا يعنيه المتفضل المتصدق»(1). وقوله: «... أين يُتاه بك أيها الغافل الجامد ؟»(1).«.. لا كاعتقاد أعداء الملّة الذين يَدَّعون أنهم علماء وفضلاء ومشايخ الإسلام!!وهم أضرّ على الإيمان من أهل الكفر والطغيان»(1) «.. وقد رأينا من الجهلة قوماً لا يَعرفون، ولا يَعرفون أنهم لا يعرفون، ثم إنهم يستنكرون أمر المحبة، وهؤلاء ـ عندي ـ البهائم خير منهم»(1)، ومن حمقه أنّه بالغ في اتهام من عادى الرفاعية بالحسد فقال: «... فإبليس لعنه الله، لم يبلغ به الحسد لآدم على نبيّنا وعليه السلام، أكثر من ذلك»(1).
وقال: «... واعلم أن هذا الشخص من إخواننا في السن وخدمة العلم الشريف من عهد الصبى بدمشق حرسها الله تعالى، ولما عزم على إبداء المخالفة نهيناه كثيراً، وأشرنا عليه بالاشتغال بما يفيد من إصلاح كتب التفاسير والفقه والأصول وغير ذلك(1).
ولما انتقلنا إلى مباشرة الأطراف بإشارات باطنة من (...)(1) والأشراف، لم نزل نرسل إليه، ونؤكّد عليه، وكان يخالفنا في أشياء ثم يرجع ويقول: عجلتُ. وما جاريناه في أمر إلا ردّه الله إلى قولنا، فلا تغترّ بشهرته وصِيْته، واعلم بأن حزب الله هم الغالبون...»(1).
وأردف عقب هذا قائلاً: «.. ونقول حينئذ: ثم من أعظم البلايا أن العلماء المحققين؛ أحجموا عن مساواة ذلك وأمثاله ومقابلتهم، وصانوا أعراضهم لأسباب عن مباحثتهم ومقاولتهم، ولم يظنوا أن يصل الأمر إلى ما وصل فتتابع وتفاقم إلى أن صار لصد الإسلام بسببه مرامه وحصل.
وكان المحققون من العلماء قادرين على إعدام من كان هذا الخلاف المضل من سلوكه وسننه، ولكنهم خافوا أن يصير قتل العلماء من فروض زمانهم الرذل وسننه. حققنا ذلك عياناً...»(1).(2/49)
قلت: قوله: «ولما عزم على إبداء المخالفة نهيناه كثيراً...» إلخ يقصد بذلك قطعاً ما كان منه قبل سنة698هـ من وضوح نهج السلف الصالح في العقيدة لديه، إلى أن كتب (الحموية)، ونقده أشياخ الصوفية المنحرفة، كابن عربي (ت638هـ) الذي كان يحسن الظن به في مطلع شبابه ثم تبين له حاله (1). وإني ليبدو لي أن إبداء مخالفته كان أقدم من ذلك التاريخ بكثير نفهم هذا من كلامه ـ رحمة الله عليه ـ عندما قال: «... وأغرب من هذا ما قاله لي مرة شخص من هؤلاء الغالطين، في قوله: {ومَا يَعْلَمُ تَأْوِيْلَهُ إلاَّ الله}(1) قال المعنى: وما يعلم تأويل: (هو)، أي اسم: (هو) الذي يقال فيه: هو، هو. وصنف ابن عربي كتاباً في (الهو).
فقلت له ـ وأنا إذ ذاك صغير جداً ـ: لو كان كما تقول، لكُتِبَت في المصحف مفصولة: (تأويل هو)، ولم تكتب موصولة..»(1).
وذكر أنه ناقش رجلاً وابنه من المتعصبين لأهل الكلام وهو صغير قريب العهد من الاحتلام (1).(2/50)
وأَعْظَمَ ابن السَّرَّاج الفِرْية عند قوله: «ثم نقول: وإن أصرَّ منكر ولم يقبل النصيحة بل أحب الفضيحة فقل: رأينا هذا المنكر المبالغ المدعي القطبية يصرح بأنه المهدي الذي وعد به النبي صلى الله عليه وسلم ويقول:أنا الذي أُقِيم الحق،وأَمْحق الباطل،وأنا المتعيّن لكل الوظائف الدينية والدنيوية،إلى كلام كثير من جنس ذلك.فقيل له:الانتماء والنسب غير موافق.قال: ما علينا من ذلك إذا صح المعنى وهو المقصود.ثم قال:وإن لم أكن هو،فأنا مثله،أو نظيره (..)(1)، وهو الذي حمله على ما قاله، وقد قدح العلماء وخالفهم، وألف العامة وحالفهم،ثم تَرَقّى في بغيه إلى أن تعرَّض إلى جناب الرسولصلى الله عليه وسلم(1)، وقال: إن الصرصري(ت656هـ) صاحب الديوان الحسن في مدح الرسول قد أخطأ في مبالغته،وربما كفّره(1)وقال غير ذلك مما اشتهر عنه في فتاويه الخبيثة التي بثَّها شرقاً وغرباً، واستند في ذلك إلى أشياء كل عالم صغير وكبير، ووضيع ورفيع يعرفها من جنس الأحاديث المتضمنة تواضعه صلى الله عليه وسلم وقوله:«لا تطروني كما أطرت النصارى المسيح عليه السلام»، و«لا تعظموني كفعل الأعاجم، يعظم بعضهم بعضاً»، و«لا تفاضلوا بيني وبين الأنبياء»، إلى غير ذلك، وكل ذلك لايقدح ما قدحه، وهو محمول علىحبّه التواضع لله تعالى ليرفعه..»(1).
قلت: أمّا زعمه أن شيخ الإسلام ادَّعى المهدية فافتراء منه عليه بلاريب، وما أظن المصدر الذي نقل عنه الحافظ ابن حجر العسقلاني،قوله: «... ونسبه قوم إلى أنه يسعى في الإمامة الكبرى»، إلا ابن السَّرَّاج وأضرابه، من الحاقدين الشنأة الذين يضعون هذه الكذبة ويشيعونها لتأليب ولاة الأمرعليه.(2/51)
وكان نصر المنبجي (ت719هـ) من حَمَلة هذه الفرية ـ إن لم يكن مصدرها ـ فقد كان يقول لعلي بن مخلوف القاضي (ت718هـ): «قل للأمراء: إن هذا يُخشى على الدولة منه، كما جرى لابن تومرت (ت524هـ) في بلاد المغرب»، فلما جاء مريده الجاشنكير (ت709هـ) إلى السلطة أوهمه المنبجي أن ابن تيمية سيخرجهم من الملك ويقيم غيرهم(1).
وقد نقل لنا تلميذ ابن تيمية العلامة عمر بن علي البزار (ت749هـ) تفصيلاً لهذه التهمة، وذلك أن الناصر المملوكي سأل شيخ الإسلام حين اجتمع به قائلاً: «إنني أُخبرت أنك قد أطاعك الناس، وأن في نفسك أخذ الملك»، فما كان من أبي العباس إلاّ أن قال بصوت عالٍ غير مكترث به: «أنا أفعل ذلك ؟ والله إن ملكك وملك المغول لا يساوي عندي فِلْسين». فتبسم الناصر، وعلم صدقه، وكذّب من وشى به إليه(1).
أما وصفه فتاوى الإمام المجتهد ابن تيمية بالخبيثة فردٍّ عليه، ولَهَوَ وكتابه بالخبث أولى، وأمّا أنه بثَّها شرقاً وغرباً فذلك صدق أطبقت عليه المصادر، وقد جعل الله في الذي بثَّه منها خيراً كثيراً.
ثم قال: «... وبالجملة؛ هذا مخطىء في هذه الإطلاقات، والتلفظ بالألفاظ المستهجنة المستقبحة، التي هي عند كل عارف جامع للعلوم الشرعية والعقلية، وغير ذلك مما تعرفه الفضلاء، وتبحث عنه النبلاء.
ثم اعلم أنَّا رأيناه يسمع الكرامة، وتثبت عنده اضطراراً لموجبات، فيغتم لذلك عظيماً، ثم تحمله النفس الحاسدة، والطبيعة الكدرة المتكبرة كثيراً المتكبرة كبيراً (كذا)، فيأخذ في إبطالها بوجوه الضلال، فإذا عجز أخذ في قدح النقل مهما أمكنه، وإذا سمع القوادح أعجبته وطرب لها، وقرّب الناقل وأكرمه، حتى إن بعض المتفرجين فيه، الضاحكين منه، يحكون له كرامات يتحققونها، ثم يقولون: الله أعلم إن هذه من أفعال الشياطين.(2/52)
فيقول: أحسنتم أنتم على مذهبي واعتقادي، ثم يضمُّ القائل إلى صدره ويقبِّل رأسه أو غيره إظهاراً لترجحه عنده، فيقضون منه العجب. ثم إنه قال: أنا أقدح المبطلين، فجعل لذلك الأكثر مبطلين بمغالبته واجتهاده الخارج.
ثم ترقّى إلى أن يقدح الأكابر، مثل مشايخ الرسالة القشيرية ـ رضي الله عنهم ـ ومن هو أكبر منهم ممن قد حصل الإجماع على ولايتهم، وأنهم كأنبياء بني إسرائيل على نبينا وعليهم الصلاة والسلام بغير شك ولا مرية بين الأمة إلا عند من قد أضله الله وطمس على قلبه وجعل على بصره غشاوة. فإنا لله وإنا إليه راجعون»(1).
وقال: «... ولا تكن كالجهلة أو المتجاهلين الذين يصل أحدهم إلى مسألة الله أعلم كيف وصل إليها فيعتقد أنه العالم الراسخ، والجبل الشامخ، ثم يأخذ في قدح العلوم وأهلها، ويأخذ في سبيل حزن الأمور وتجنب سهلها ظناً منه أن ذلك هو الدين وأن إنكار المعارف زينة العارفين. كلا والله بل طمس الله على قلبه وأعمى بصره وذهب بلبه، فصار عدو الحقائق آتياً بما ليس بلائق، خسر الدنيا والآخرة، وفاز بالكرّة الخاسرة.
قد حرم طريق العلم الواضح، ومنح الحظ الخسيس الفاضح، عكس الولي الناصح، واللبيب الراجح، الفائز بالرأي الصالح..»(1).
وقال وهو يتحدث عن منكري (الكرامات): «... ولكنهم في هذا الزمان لهم بعض العذر، وسببه أنه قد ظهر في العالم من يقدح الأولياء، ويهدر الأصفياء، ويستهتر بالصلحاء، ويستهزىء بالأتقياء، ويضع من أقدارهم، ويقلّل من أنصارهم، وينكر تعصباً ما لا ينكر عليهم، وينسب كل قبيح وشنيع إليهم، ويجعل أحوالهم إذا صدق بها شيطانية، وإذا لم يصدق بها زورية هذيانية، وإذا كذب بها كفرية بهتانية.(2/53)
وليس قصده في ذلك إلا إثبات نفسه الخسيسة، وأنه مختص بالفضائل الفائقة، والمزايا النفيسة. يقدح العلماء حتى يصل إلى الصحابة، ويغلّط الفضلاء حتى جليل الأهل والقرابة، ومن رآه قد تقدم عليه بفضيلة يجتهد على قذفه بكل سخيفة، ورميه بكل عليلة.
وقد ألّف في ذلك ومثله مؤلَّفات، وصنّف في شبهه ومقاربه مصنَّفات، وبثَّها في البلاد، وأفسد بها عقائد العباد، وفرّق كلمتهم، وضلّل دعوتهم، وتحمّل في ذلك إثماً كبيراً، وأحدث بين الناس خلفاً كثيراً، افتياتاً على الله وعلى عباده، وإعانة للشيطان على كيده وعناده، عجّل الله خلاص الإسلام منه ومن أمثاله، وأسرع بفكاك الإيمان منه ومن أشكاله آمين»(1).
ولما عرض لمسألة حياة أوليائه في قبورهم، كحياتهم الدنيا، قال: «... وذلك مما ثبت عندنا وهو من دلائل أنهم أحياء الدارين، عكس ما قد صَمَّم عليه فضلاء زماننا»، ثم قال: «.. وكان ذكره قد شاع بين الخلائق بكثرة خلفه وتنوع جداله، وتنقيته المسائل الخلافية، واشتغاله وإشغاله بها. هذا مع ما يجري له في غضون ذلك في مجالس لا نرتضيها نحن لغلام له أو صغير بين يديه». ثم ذكر أنه كان عكس هذا أولاً وأردف ذلك بدعاء له الله أعلم بنيّته فيه، قال: «عافاه الله تعالى وإيّانا وسائر المسلمين»(1).
وعند ذكره شيخ أشياخه: الحيدري صلطوق (ت697هـ) أورد عجيبة من عجائب الخلق، فقد قال: «... وكان أشقر اللون، رَبع القامة، أكثر نظره إلى السماء، أشبه الناس صورة بأخينا في السن وخدمة العلم، الشيخ العلامة تقي الدين أبي العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية الحراني ثم الدمشقي الحنبلي، لا يخالفه إلا بشقرته، أي ظاهراً، ولنا باطناً، فإنه كله خلافه لشيء قُدّر عليه، وحرمان كلي وصل إليه.(2/54)
ولو كان على اعتقادنا في هؤلاء السادة، لحظي بعظيم السيادة، ونال جميع السعادة، وإنما يقال: محروم الارتفاع، ولو وفقه الله تعالى لسلك سبيل الاتضاع، فإنه طلب التقدم فدحض الأول والآخر، ورام التكبر فقلت: من الساخر إلى الساحر(1)، نسأل الله أن يسلك بنا سبيله، وأن يجنبنا نيته وفعله وتبلبله، فما أحسن من نظر نفسه صغيراً ورأى كلاً من العالم كبيراً حقيقاً. فضيلة ذلك من طرق كثيرة وأعظم كتاب لا يغادره صغيرة ولا كبيرة. فثق بما نقول يكون(1) الله معك والرسول».
ثم جاء بعجيبة أخرى تخص شخصيته ـ أعني ابن السَّرَّاج ـ فرغم عدائه الذي رأيت فإنه لم يقطع حب المراسلة والصحبة القديمةـ كما يقول ـ بينهما، ولا ندري نيته في ذلك أهو صادق في نصحائه كما قد يكون الكفرة والضلاّل أحياناً صادقين في دعوتهم من أسلم أو اهتدى إلى ضلالهم وكفرهم الذي هو الحق عندهم ؟ أم هو يبغي في كل مراسلاته كفَّه عن جهاده لذويه وأمثاله ؟
قال: «ولقد نصحناه في زمن الشبيبة بدمشق كثيراً، وأرسلنا إليه من البلاد الشمالية برسائل لا تحصى، نأمره بالاشتغال بما يفيده، وننهاه عن ضد ذلك لله تعالى ولما بيننا من الصحبة القديمة، ولم يظهر من ذلك اجتراحاً، ولا أنكره أصلاً، ولاحى لشيء قدره الله تعالى، ولقد أجرنا على ذلك(1) وإن لم نعد عنده ويحتمل أنه أفاد مسيراً، ولا يهلك إلا هالك»(1).
وقال: «... ونحن ـ بحمد الله ـ لمّا كنا مقيمين بدمشق ـ حرسها الله تعالى ـ كان بيننا وبين هذا الفاضل أنس عظيم، ومجاورة بالأهل والعيال بالبلد والبساتين من حين الصغر واللعب المعتاد بين الصغار.
ولما اشتغلنا بالعلم الشريف كنا أكثر الأوقات مجتمعين، وفي محافل تحصيله ملتئمين، وكان أكبر مِنَّا في السن قليلاً، وكنَّا(1) ننهاه عن كثير من المخالفات، على سبيل الشفقة والمحبة(!!).(2/55)
ولما قُدّر خروجنا إلى الأطراف بالأمر الرباني، والإشارات الصالحة باطناً، ما زلنا نرسل إليه ونعلمه بأن اشتغاله بأهم مما هو فيه أولى وأحرى، وعيّنا له كتباً في فنون يجب إصلاحها والتنبيه على أماكن منها، مع تجار وغيرهم ممن يدعي أنه من أقاربه من أهل حرَّان، ورأس عين الخابور، ومع أشخاص من أهل البيرة وغيرها، وأعلمناه بهذا الكتاب وغيره أننا قد نقضنا أقواله فيهم(1) وبيّنا غلطه.
وكنا لا نكاتبه بذلك لِما علمنا من حال جماعة من السفهاء، والغوغاء والأطراف حوله، يوجسون خاطره، ويقيمون الفتن بينه وبين الناس، ويقولون: يا سيدي أنت يقول لك فلان كيت وكيت ؟ وهل يقال لمثل مولانا ذلك ؟ إلى فنون من هذا الجنون، ولنا بهم خبرة، وما نعلم أكثر سبب بلاياه إلا هؤلاء الجهلة الحمقى.
ثم أرسل يقول: المصلحة؛ تكتب إلي هذه الأمور حتى أفهم المراد جيداً، فكتبت إليه سبعة فصول في مهمات فلم يجب عنها.
والله العظيم أرسلت إليه مرة ثلاثمئة مسألة من فنون شتى، فقال للرسول ـ وكان اسمه الشيخ حسن الكفرعامري الزيداني ـ:اصبر عليّ أياماً.ثم طالبه بها، فصبّره أياماً، إلى أن كمل لها عنده نصف سنة ثم ادّعى ضياع الأوراق جملة.
وما نقول ذلك إلا لِئَلاّ يعتقد بعض الجهلة أننا نخافه أو نرجوه، أو يتوهم من جهته كما يتوهم غيرنا، فالمتوهمون لتوهمهم أسباب هي مفقودة عندنا بحمد الله تعالى»(1).
وكان قد دفع عن نفسه أن يكون مغلوباً لهواه في ردّه على شيخ الإسلام، فقال: «...فإن قال جاهل: أظنك مضاداً وأريد أن تُعَرّفني من جهالات من أشرتَ إليه شيئاًحتى أعلم أنك محق فأتبعك،وأن ذلك القبيل مبطل فأجتنبه. قلنا: اعلم يا قليل المعرفة، يا كثير الجهالة، يا عديم التوفيق، أنّا إن شاء الله تعالى بريؤون من مضادة الحق، ومن كل ما يشبه ذلك...»(1).(2/56)
وقال وهو يمتدح الرفاعية: «.. وأما من تكلم في هذه الطائفة في زماننا وصنف في الإنكار عليهم مصنفات، وزاد عن الحد، وبالغ في الهدّ، وغلط في العدّ، وأسرف في الشد، فقد وقفنا على أحواله، واطلعنا على منواله، وأحطنا علماً من الصغر بجملة أحواله. ونحن وإياه في السن وخدمة العلم والتربية متقاربون، ولنا به اجتماع كثير في بسيط العمر بمدينتنا دمشق المحروسة، ومجامع علمائها، وبرها وجنانها، وبيننا وبينه من الصحبة والبلدية وغير ذلك ما يعلمه الله تعالى، مع التقوى والعفاف، وهو يحبنا، ونحن نحبه في الله لما ذكرنا، ولكن نكرهه ونبغض اعتماده لله تعالى، لأنه قد أكثر من الخلاف من عهد الصغر، وأفسد القواعد وكان في كل أمره عظيم الضرر، وتفاقم بلاؤه وكان في نكاية الدين إحدى الكبر، مضلاً للبشر. كفى الله الإسلام شرّه وشرّ أمثاله وأطفأ عنهم من شقاشقهم جملة الشرر»(1).
لماذا كان ابن السَّرَّاج المتهم عندي ؟
ربما اعترض معترض وقال: قد سلَّمنا ببراءة الحافظ الذهبي، من هذه الرسالة، وأن مرسلها بعيد عن أخلاقه وأسلوبه، وأنها صادرة من شانىء لابن تيمية وأصحابه، فمن أين لك أن توقع التهمة على محمد بن السَّرَّاج دون غيره، من الأضداد المخالفين، وهم كثير ؟
فأقول: أعلمُ أن المصادر تُجمع على أن أناساً من مخالفيه، قد ناقشوه وناظروه، ومنها الذي يذكر أن بعضهم ردّ عليه في كتاب، وأن آخرين تطاولوا عليه، باللسان وباليد حيناً، ومنهم الذين نصحوه مشافهة، كما فهمتُ من بعض تلك المصادر.
بيد أنّي لم أقف على مصدر، يعرفه الدارسون، يُذكر فيه أن فلاناً من أصحابه أو خصومه، أرسل إليه برسائل لا تحصى (كثرة)، كما رأينا اعتراف ابن السَّرَّاج بذلك في المصدر الذي عثرت عليه.(2/57)
نعم من شبه المؤكد؛ أن أصحابه وتلاميذه كانوا يكتبون إليه حين يُمنعون من زيارته أيام سُجن، وفي سجنته الأخيرة مما لم ينقل إلينا، ولكنها رسائل ودّ وتعظيم واحترام لا كهذه «النصيحة». ويبقى احتمال إرسال المخالفين له برسائل كالتي رأيناها في «النصيحة» احتمالاً لا سند له في المصادر.
وتأمل معي هذا:
1 ـ صداقة ابن السَّرَّاج القديمة مع مخالفته العميقة لأبي العباس بن تيمية في العقيدة والمنهج... إلخ.
2 ـ شخصية ابن السَّرَّاج المتعصبة للرفاعيّة، الراغبة في منازلة ابن تيمية والغلبة عليه، أو كفّه عن الصوفية والفقراء.
3 ـ مشابهة معاني «النصيحة» لمعاني كلماته التي نقلتها لك.
4 ـ وأخيراً تصريحه بكثرة إرساله الرسائل والمسائل العلمية إليه.
ما مصير رسائل ابن السَّرَّاج ؟
لا يُعلم ماذا كان يفعل شيخ الإسلام، بسيل الرسائل التي كان يرسلها ابن السَّرَّاج والتي وصفها بأنها لا تحصى (كثرة) ؟ تلك الرسائل التي يُفهم أنه بدأ في إرسالها بعد سنة698هـ لمَّا فارق دمشق، وأظن أنه استمر في إرسالها إلى سنة726هـ قبل دخول ابن تيمية السجن.
فإما أنه كان يجيبه على ظهر الورقة، التي كتب ابن السَّرَّاج عليها كلامه ـ وهذا معلوم من فعل شيخ الإسلام في الفتاوى التي كانت تَرِد إليه ـ وإما أن يكتب على ورق جديد، وإما أنه قد عرف من صديقه القديم شغبه وهذره فلم يرها أهلاً للإجابة عنها، فيأمر بها، فتُمحى الكتابة عنها ويُفاد من ورقها(1). فإن بقي في بيته منها شيء فلا يُظن بمحبيه وطلابه إلا محوها إن آلت إليهم.
ولكن كيف انسلّت هذه الرسالة الظالمة من مآلها ذاك، ووقعت إلى من وقعت إليه ؟ نعدُّ من الممكنات بعضها فنقول: إما أنها لم تصل ليد شيخ الإسلام أصلاً، إما لإهمال حامل الرسالة في إيصالها حتى تَلَقَّفها فضولي، ذهب بها إلى غير من أرسلت له.(2/58)
أو أنها وصلت إليه وهو في سجنه الأخير وبقيت ضمن أوراقه وكتبه حتى أخرجت في 19/جمادى الآخرة سنة728هـ بأمر سلطاني، وجعلت في خزانة المدرسة العادلية، أو كانت بين أوراقه، التي منها تصانيفه التي فُرِّقت بين الفقهاء والقضاة(1).
صورة «النصيحة» بخط ابن قاضي شهبة
صورة «النصيحة»بخط الكوثري
أنموذج من خط ابن السراج من كتاب (التشويق)
[قال أبو عمر: بأن النماذج كوجدة في الكتاب المطبوع]
نَصُّ الرسالة
) هذا ما وجد بخط ابن قاضي شهبة): «رسالةٌ كَتَبَ بها الشيخ شمس الدين أبو عبد الله الذهبي، إلى الشيخ تقي الدين بن تيمية، كتبتُها من خط قاضي القضاة برهان الدين بن جماعة رحمه الله، وكتبها هو من خط الشيخ الحافظ أبي سعيد بن العلائي، وهو كتبها من خط مرسلها الشيخ شمس الدين(1):
الحمد لله على ذلتي(1) يا رب ارحمني وأقلني عثرتي، واحفظ علي إيماني. واحزناه على قلة حزني، واأسفاه على السنة وذهاب أهلها، واشوقاه إلى إخوان مؤمنين يعاونونني على البكاء، واحزناه على فقد أناس كانوا مصابيح العلم، وأهل التقوى، وكنوز الخيرات، آه على وجود درهم حلال، وأخ مؤنس(1).
طوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس، وتباً لمن شغلته عيوب الناس عن عيبه، إلى كم تمدح نفسك وشقاشقك وعباراتك، وتذم العلماء، وتتبع عورات الناس ؟ مع علمك بنهي الرسول صلى الله عليه وسلم: «لا تذكروا موتاكم إلا بخير فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا»(1).
بلى أعرف أنك تقول لي لتنصر نفسك: إنما الوقيعة في هؤلاء الذين ما شموا رائحة الإسلام، ولا عرفوا ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم وهو جهاد(1).
بلى والله عرفوا خيراً كثيراً مما إذا عمل به العبد فاز، وجهلوا شيئاً كثيراً مما لا يعنيهم و«من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه». يا رجل بالله عليك كفَّ عنا، فإنك محجاج، عليم اللسان لا تقر ولا تنام(1).(2/59)
إياكم والأغلوطات في الدين، كره نبيك صلى الله عليه وسلم المسائل وعابها، ونهى عن كثرة السؤال وقال:«إن أخوف ما أخاف على أمتي كل منافق عليم اللسان».
وكثرة الكلام بغير دليل تقسّي القلب إذا كان في الحلال والحرام، فكيف إذا كان في عبارات اليونسية والفلاسفة، وتلك الكفريات التي تعمي القلوب(1).
والله قد صرنا ضحكة في الوجود، فإلى كم تنبش دقائق الكفريات الفلسفية، لنرد عليها بعقولنا ؟ يا رجل قد بلعت (سموم)(1) الفلاسفة وتصانيفاتهم مرات، وبكثرة استعمال السموم، يُدمن عليها الجسم، وتكمن والله في البدن(1).
واشوقاه إلى مجلس فيه تلاوة بتدبّر، وخشية بتذكّر، وصمت بتفكّر. واهاً لمجلس يذكر فيه الأبرار، فعند ذكر الصالحين تتنزل الرحمة، لا عند ذكر الصالحين يذكرون بالازدراء واللعنة. كان سيف الحجاج ولسان ابن حزم شقيقين فواخيتهما(1).
بالله خلونا من ذكر بدعة الخميس(1) وأكل الحبوب، وجدوا في ذكر بدع كنا نعدها من أساس الضلال قد صارت هي محض السنة، وأساس التوحيد، ومن لم يعرفها فهو كافر أو حمار، ومن لم يكفره فهو أكفر من فرعون(1).
وتعدُّ النصارى مثلنا(1) ؟ والله في القلوب شكوك، إن سلم لك إيمانك بالشهادتين فأنت سعيد. يا خيبة من اتبعك فإنه معرض للزندقة والانحلال، لاسيما إذا كان قليل العلم والدين باطولياً شهوانياً،لكنه ينفعك ويجاهد عنك بيده ولسانه، وفي الباطن عدو لك بحاله وقلبه، فهل معظم أتباعك إلا قعيد مربوط،خفيف العقل أو عامي كذاب،بليد الذهن أو غريب واجم قوي المكر أو ناشف صالح، عديم الفهم، فإن لم تصدقني ففتشهم وزنهم بالعدل(1).
يا مسلم أقدم حمار شهوتك لمدح نفسك. إلى كم تصادقها وتعادي الأخيار ؟ إلى كم تصادقها وتزدري بالأبرار ؟ إلى كم تعظمها وتصغر العباد ؟ إلى متى تخاللها وتمقت الزهاد ؟(1).(2/60)
إلى متى تمدح كلامك بكيفية لا تمدح بها ـ والله ـ أحاديث الصحيحين ؟ يا ليت أحاديث الصحيحين تسلم منك، بل في كل وقت تُغير عليها بالتضعيف والإهدار أو التأويل والإنكار(1).
أما آن لك أن ترعوي ؟ أما حان لك أن تتوب وتنيب؟ أما أنت في عشر السبعين وقد قرب الرحيل(1) ؟ بلى والله ما أذكر أنك تذكر الموت بل تزدري بمن يذكر الموت(1)، فما أظنك تقبل على قولي، ولا تصغي إلى وعظي، بل لك همة كبيرة في نقض هذه الورقة بمجلدات، وتقطع لي أذناب الكلام، ولا تزال تنتصر حتى أقول: والبتة سكت(1).
فإذا كان هذا حالك عندي، وأنا الشفوق المحب الوادِّ(1)، فكيف يكون حالك عند أعدائك ؟ وأعداؤك ـ والله ـ فيهم صلحاء وأخيار، وعقلاء وفضلاء، كما أن أولياءك فيهم فجرة وكذبة، وجهلة وبطلة وعور وبقر!!
قد رضيت منك بأن تسبني علانية، وتنتفع بمقالتي سراً (رحم الله امرأً أهدى إليّ عيوبي)، فإني كثير العيوب، غزير الذنوب، والويل لي إن أنا لا أتوب، ووافضيحتي من علام الغيوب، ودوائي عفو الله ومسامحته وتوفيقه وهدايته. والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد خاتم النبين وعلى آلة وصحبه أجمعين.
آخر الرسالة الذهبية نصيحة منه لابن تيمية»
ثبت المصادر والمراجع
1 ـ الأعلام، الزركلي. بيروت.
2 ـ الأعلام العلية في مناقب شيخ الإسلام ابن تيمية، البزار، بيروت.
3 ـ الإعلان بالتوبيخ لمن ذم التاريخ، السخاوي، بيروت.
4 ـ أعيان العصر وأعوان النصر، الصفدي، دمشق.
5 ـ الانتقاء، الإمام ابن عبد البر، دمشق.
6 ـ البداية والنهاية، ابن كثير، بيروت.
7 ـ بيان زغل العلم والطلب، والنصيحة الذهبية، «الذهبي»، دمشق.
8 ـ تاريخ ابن قاضي شهبة، ابن قاضي شهبة، دمشق.
9 ـ تاريخ الإسلام، الذهبي، بيروت.
10 ـ تاريخ حوادث الزمان وأنبائه، ابن الجزري، بيروت.
11 ـ تذكرة الحفاظ، الذهبي، بيروت.
12 ـ التسعينية، ابن تيمية، الرياض.(2/61)
13 ـ تشويق الأرواح والقلوب إلى ذكر علام الغيوب، ابن السراج الدمشقي، مخطوط.
14 ـ تفاح الأرواح ومفتاح الأرباح، ابن السراج، مخطوط.
15 ـ التوضيح الجلي في الرد على النصيحة الذهبية، محمد بن إبراهيم الشيباني، الكويت.
16 ـ جامع الرسائل، ابن تيمية، القاهرة.
17 ـ جامع كرامات الأولياء، النبهاني، بيروت.
18 ـ الجامع لسيرة شيخ الإسلام ابن تيمية خلال سبعة قرون، جمع محمد عزيز شمس وعلي بن محمد العمران، مكة المكرمة.
19 ـ الدرر الكامنة في أعيان المئة الثامنة، ابن حجر العسقلاني، بيروت.
20 ـ دول الإسلام، الذهبي، بيروت.
21 ـ الذهبي ومنهجه في كتابه تاريخ الإسلام، بشار عواد معروف، القاهرة.
22 ـ ذيل تاريخ الإسلام، الذهبي، الرياض.
23 ـ الذيل التام على دول الإسلام، السخاوي، بيروت.
24 ـ الذيل على طبقات الحنابلة، ابن رجب الحنبلي، بيروت.
25 ـ الرد الوافر، ابن ناصر الدين الدمشقي، بيروت.
26 ـ رسالة إلى السلطان الملك الناصر في شأن التتار، ابن تيمية، بيروت.
27 ـ سير أعلام النبلاء، الذهبي، بيروت.
28 ـ شيخ الإسلام ابن تيمية وأخباره عند المؤرخين، صلاح الدين المنجد، بيروت.
29 ـ طبقات الشافعية، ابن قاضي شهبة، بيروت.
30 ـ العقود الدرية من مناقب شيخ الإسلام ابن تيمية، ابن عبد الهادي، القاهرة.
31 ـ مجموعة الفتاوى، ابن تيمية، السعودية.
32 ـمجموع فيه مصنفات لشيخ الإسلام ابن تيمية، نشر: إبراهيم الميلي،بيروت
33 ـ مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين، ابن قيم الجوزية، دمشق.
34 ـ المعجم المختص، الذهبي، الطائف.
35 ـ معجم الشيوخ، الذهبي، الطائف.
36 ـ مقدمة ابن خلدون، ابن خلدون، بيروت.
37 ـ المُقفَّى الكبير، المقريزي، بيروت.
38 ـ منهاج السنة النبوية، ابن تيمية، الرياض.
39 ـ النصيحة الذهبية لابن تيمية، «ابن السراج الدمشقي»، مخطوط.
40 ـ هدية العارفين، البغدادي باشا، بيروت.
41 ـ الوافي بالوفيات، الصفدي، بيروت.(2/62)
42 ـ الوفيات، ابن رافع السلامي، بيروت.
فهرس الموضوعات
(أرقام الصفحات هنا غير صحيح)
المقدمة3
الباعث على دراسة «النصيحة»5
مخطوطة «النصيحة» وناشرها الأول7
الرأي في سبب انخداع بعض العلماء بـ «النصيحة»14
تفسيري لما افترض أنه وقع والعلم عند الله تعالى16
مكانة ابن تيمية عند الذهبي18
محمد بن السَّرَّاج الدمشقي: (المتهم بإرسال النصيحة):
اسمه32
حياته32
شيوخه35
مؤلفاته37
وفاته39
بعض كلمات ابن السراج في شيخ الإسلام ابن تيمية41
لماذا كان ابن السراج المتهم عندي ؟76
ما مصير رسائل ابن السراج ؟78
صورة من مخطوطة النصيحة وأنموذج لخط ابن السراج79
نص الرسالة83
فهرس الأعلام89
ثبت المصادر والمراجع93
الهوامش:
(1) السخاوي، (الإعلان بالتوبيخ) ص104.
(1) (الصوفية القلندرية، تاريخها وفتوى شيخ الإسلام ابن تيمية فيها)، أبو الفضل القونوي. بيروت.1423هـ.
(1) النبهاني، (جامع الكرامات) 1/10 والذي يظهر أن النبهاني لم يقف على ترجمة لابن السراج فذكر اسمه ناقصاً خطأ.
(1) الصفدي (الوافي بالوفيات) 7/18.
(1) انظر كتابه القيم (الذهبي ومنهجه في كتابه تاريخ الإسلام) ص146.
(1) جملة الورق غير المرتب.
(1) أظنه: أمين بن محمد خليل السفرجلاني (ت 1335 هـ) الفقيه الحنفي الدمشقي. (الأعلام) 2/20.
(1) ابن قاضي شهبة، (طبقات الشافعية) 3/140 قلت: لا يفيد هذا النقل في توثيق ما نحن بصدده شيئاً.
(1) السخاوي، (الإعلان) ص136، 137.
(1) ابن ناصر الدين الدمشقي، (الرد الوافر) ص100.
(1) ومن الغريب أن أعجمياً مستشرقاً هو (فرانز روزنثال) قال كلاماً كالمتوقف في زعم الكوثري هذا، حين قال في تعليقه على «الإعلان» ص136: (ويقول محمد زاهد الكوثري ناشر الكتاب: إن «النصيحة الذهبية» لابن تيمية التي نشرها مع بيان (زغل العلم) هي نفس الرسالة التي أشار إليها السخاوي).
(1) في النفس من ثبوت (زغل العلم) للذهبي شيء.(2/63)
(1) أسقط الكوثري من كلام السخاوي قوله: «عقيدة مجيدة» أو تظن أنه لم يتعمد ذلك؟.
(1) لم أشأ أن أطيل القول في رد أباطيله، وإن شئت أن تقف على كذبه فاقرأ (الرد الوافر) للحافظ ابن ناصر الدين الدمشقي، والكتاب الذي جمعه محمد عزيز شمس وعلي بن محمد العمران وسمياه: (الجامع لسيرة شيخ الإسلام ابن تيمية خلال سبعة قرون).
(1) حسام الدين القدسي، مقدمة (الانتقاء) لابن عبد البر.
(1) كتبت في المطبوعة (الأسلوب).
(1) صلاح الدين المنجد، (شيخ الإسلام ابن تيمية سيرته وأخباره عند المؤرخين) ص14.
(1) بشار عواد معروف، (الذهبي ومنهجه في كتابه تاريخ الإسلام) ص61، ص102، ص146، ومقدمة (سير أعلام النبلاء) 1/38.
(1) ابن قاضي شهبة (تاريخ ابن قاضي شهبة) وفيات سنة 741 هـ ص155، 156، وابن حجر العسقلاني، (الدرر) (1/308، 312).
(1) قال الذهبي في ترجمته: «... والد شيخنا..، وحدثنا عنه على المنبر ولده أيده الله بروح منه» (تاريخ الإسلام) وفيات (682 هـ) ص104، 105.
(1) قال الذهبي في ترجمة نصر المنبجي: «... ونقل إليه أوباش عن شيخنا ابن تيمية أنه يحط على الكبار، فبنى على ذلك، فهلا اتعظت في نفسك بذلك، ولم تحط على ابن تيمية؟ فإنه والله من كبار الأئمة، وبعد فكلام الأقران لا يقبل كله، ويقبل منه ما تبرهن...» (ذيل تاريخ الإسلام) ص196.
(1) الذهبي، (ذيل تاريخ الإسلام) ص324 ـ 330.
(1) الذهبي، (تذكرة الحفاظ) 4/1496ـ1498.
(1) الذهبي، (معجم الشيوخ) 1/56ـ57.
(1) الذهبي، (المعجم المختص) ص25 ـ 27.
(1) ابن رجب الحنبلي، (الذيل على طبقات الحنابلة) 2/389 ـ 391.
(1) ابن رجب الحنبلي، (المصدر السابق). 2/394، 395.(2/64)
(1) عرفنا أن غير الذهبي نصحه في ذلك من جواب رسالة أرسلت إليه سنة706هـ وهو في السجن، طُلب منه فيها أن يُلين الكلام مع الخصوم ويخاطبهم بالتي هي أحسن. وقد بيَّن في جوابه هذا أنه من أكثر الناس استعمالاً لما طلب منه و«لكن كل شيء في موضعه حسن». انظر (الفتاوى) 3/232 ـ 234.
(1) الذهبي، (تاريخ الإسلام) حوادث سنة 698 هـ ص61، 62. وانظر (الفتاوى) 3/183،186،218،253، و(التسعينية) 1/118، تجد أن غضبه لله ولرسوله في حقيقة الأمر كما قال الذهبي.
(1) ابن حجر العسقلاني، (الدرر) وابن ناصر الدين الدمشقي، (الرد الوافر) ص121.
(1) الصفدي، (أعيان العصر) 5/33. وابن حجر، (الدرر) 4/188.
(1) الصفدي، (الوافي بالوفيات) 7/17 ـ 18.
(1) الذهبي، (تاريخ الإسلام) وفيات سنة (ت 652 هـ) ص128.
(1) ابن رجب الحنبلي، (ذيل طبقات الحنابلة) 2/392، 393، وابن ناصر الدين الدمشقي (المصدر السابق) ص100.
(1) بشار عواد معروف (الذهبي ومنهجه في كتابه تاريخ الإسلام) ص102 ـ 146.
(1) ابن ناصر الدين الدمشقي، (الرد الوافر).
(1) ابن رافع (الوفيات) 2/39.
(1) ابن قاضي شهبة،(التاريخ)2/500،وابن حجر العسقلاني،(الدرر الكامنة) 4/42.
(1) واسم كتاب ابن السَّرَّاج، (تشويق الأرواح والقلوب إلى ذكر علام الغيوب) و(تفاح الأرواح ومفتاح الأرباح) الذي هو من جملة أجزاء التشويق.وقد عثرت على نسخة (التشويق) بخط المؤلف وهي باصطمبول (عمجه زاده رقم 272) و(التفاح) وأصلها بجامعة (برنستون) بأمريكا ومصوّرتها بمكتبة الملك فهد الوطنية بالرياض (رقم 1127)وهو مصدر مهم في تاريخ التصوف، وتراجم القلندرية، وغير ذلك.
(1) ابن السَّرَّاج (التفاح) الورقة 127، 130 و(التشويق) الورقة 151، 152.
(1) ابن كثير، (البداية والنهاية) 13/320.
(1) ابن ناصر الدين الدمشقي، (الرد الوافر) ص154، 235، وانظر الصفدي، (أعيان العصر وأعوان النصر) 1/236.
(1) ابن تيمية، (الفتاوى) 10/418، 419.(2/65)
(1) ابن السَّرَّاج (التشويق) الورقة 34، 132، 187.
(1) ابن رافع، (الوفيات) 2/39.
(1) الذهبي، تاريخ الإسلام (وفيات سنة 685 هـ) ص209.
(1) الذهبي، التاريخ (وفيات سنة 690 هـ) ص416.
(1) ابن السَّرَّاج، (التشويق) الورقة 152، 153. قلت: يبدو أنه كان على وفاق مع ابن شيخه المذكور وهو الإمام برهان الدين (ت 729 هـ) إذ دعى له عند حديثه عن أبيه، وأنه ألف كتاباً لم يكمله مبيضاً فقال: «.. ونرجو من كرم الله أن يبيضه ولده الشيخ العلامة برهان الدين إبراهيم سمي جده، أطال الله بقاءه ونَفَع به» وقال: «.. وكان ولده برهان الدين في حياة والده يحضر درس الشامية الجوانية بدمشق، ويبحث منها ويورد ويعترض ويستشكل إلى أن قال الجماعة: أنت وأبوك قد جعلتما الإمام الغزالي مصنف (الوسيط) حماراً. ولقد غلطوا في ذلك..» ثم أكمل مدحه في شيخه تاج الدين. وذكر أن أخاه الإمام شرف الدين (ت 705 هـ) كان تلميذاً لمن أظنه قلندرياً أعني عمر السنجاري، وأن الفقهاء شكوه إلى أخيه التاج.
(1) الذهبي، التاريخ (وفيات سنة 699 هـ) ص388.
(1) وهاتان الشخصيتان القلندريتان شيخهما: صلطوق بابا القلندري الشهير الذي نقل ابن السَّرَّاج عن ابن تيمية ـ ولم يسمه ـ أنه قال فيه وفي أمثاله إنهم شياطين ومسخرة الشياطين. انظر (التفاح) ص196.
(1) إسماعيل البغدادي، (هدية العارفين) 2/144.
(1) ابن حجر العسقلاني، (الدرر الكامنة) 4/26 والسخاوي، (الذيل التام على دول الإسلام) وفيات 752 هـ ص121، وانظر ترجمته في وفيات ابن رافع 2/142.
(1) ابن السَّرَّاج (التشويق) الورقة الأخيرة. والأبيات كتبت كما هي.
(1) كما كانت الحال مع صديق طفولتهما: البرهان الفزاري، الذي كان أشعرياً يخالف شيخ الإسلام، ومع ذلك «ما تهاجرا قط، وكل منهما يحترم صاحبه إذا اجتمعا» كما قال الصفدي. انظر (أعيان العصر) 1/86.
(1) ابن عبد الهادي، (العقود الدرية) ص208.(2/66)
(1) ابن تيمية، رسالة نشرها: إبراهيم الميلي ص318.
(1) ابن السَّرَّاج (التشويق) الورقة 133.
(1) ابن السَّرَّاج (التفاح) الورقة 168ـ171.
(1) ابن السَّرَّاج (التشويق) الورقة 27.
(1) ابن السَّرَّاج (التفاح) الورقة 126.
(1) ابن السَّرَّاج التشويق. الورقة 8 ـ 2.
(1) ابن السَّرَّاج (التفاح) الورقة 105.
(1) ابن السَّرَّاج (التشويق) الورقة 130.
(1) ابن السَّرَّاج (التشويق) الورقة 24.
(1) محنة غازان والمغول سنة 699هـ.
(1) ولعل قوله يَمْتَدحُ نفسه:«ولو أردنا ذلك لصَنَّفْنا في جميع الفنون، ولأدهشنا بمؤلفاتنا (..) العيون..» من القول الجزم الذي لامبالغة فيه!! انظر(التشويق) ورقة4.
(1) تجوَّه فلان: إذا تكلف الجاه.
(1) ابن السَّرَّاج، (التشويق) الورقة 39، 40.
(1) ابن السَّرَّاج (التشويق) الورقة 2.
(1) طمس بمقدار ثلاث كلمات.
(1) ابن السَّرَّاج (التشويق) الورقة 6.
(1) ابن السَّرَّاج (التشويق) الورقة 233.
(1) الرفاعية يجهرون بذكرهم.
(1) ابن السَّرَّاج (التشويق) الورقة 286.
(1) ابن السَّرَّاج (التفاح) الورقة 46، 47.
(1) ابن السَّرَّاج (التفاح) الورقة 186.
(1) ابن السَّرَّاج (التفاح) الورقة 195.
(1) ابن السَّرَّاج (التشويق) الورقة 269.
(1) ابن السَّرَّاج (التشويق) الورقة 208.
(1) ابن السَّرَّاج (التفاح) الورقة 14، 15.
(1) ابن السَّرَّاج (التشويق) الورقة 8.
(1) كتبت الفتور ولعلها القشور.
(1) ابن السَّرَّاج، (التفاح)الورقة 54.
(1) ابن السَّرَّاج (التفاح) الورقة 108.
(1) ابن السَّرَّاج (التفاح) الورقة 128.
(1) ابن كثير، (البداية والنهاية) 14/123.
(1) ابن السَّرَّاج (التفاح) الورقة 134.
(1) كلمة غير مقروءة.
(1) ابن السَّرَّاج (التشويق) الورقة 61.(2/67)
(1) كان الزملكاني ممن مدح ابن تيمية ثم نكص على عقبيه. قال المقريزي (ت845هـ): «ثم نزغ الشيطان بينهما وغلبت على الزملكاني أهويته فمال عليه مع من مال» انظر (المقفى الكبير) له 1/469. وقال ابن كثير إنه كان ذا نية خبيثة تجاهه. انظر (البداية والنهاية) 14/137.
(1) أي شيخ الإسلام ابن تيمية.
(1) ابن السَّرَّاج (التشويق) اورقة 49ـ50 وبقية الكلام ذهبت الأرضة به.
(1) سورة يونس آية (59). قلت: كان عرك الآذان من وسائل التأديب عنده رحمه الله. انظر (الوافي بالوفيات) للصفدي 7/18.
(1) إن مما يتبادر إلى الذهن عند ذكر اسم شيخ الإسلام ابن تيمية هو الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وقيامه بهما في حياته كلها خير قيام. وابن السَّرَّاج من جهله وعاميته يحصر المنكرات في إطار ضيق (وقد أظهر في الورقة (30) من (التشويق) عاميته وكذبه في نفس هذا المعنى)، ومع هذا فإن المصادر تذكر عنه رحمه الله أنه دار مع أصحابه على الخَمَّارات والحانات فكسروا آنية الخمور، وشقوا ظروفها، وأنه كان يقيم الحدود ويعزّر، ويحلق رؤوس الصبيان. انظر (البداية والنهاية) لابن كثير، حوادث سنة (699هـ،701هـ).
(1) يعني زمر القلندرية.
(1) هو شيخ الإسلام ابن تيمية.(2/68)
(1) إن شئت أن تعرف سبب حكم شيخ الإسلام على هؤلاء «الفقراء الزنادقة» بحلّ دمائهم فاقرأ كتابي:(الصوفية القلندرية،تاريخها وفتوى شيخ الإسلام ابن تيمية فيها) تقف على تفصيل ذلك.وقد فاتني هنالك ذكر شخصية قلندرية مهمة ألا وهي: محمد ابن عبد الرحيم الباجُرْبَقي، الذي أَطلق عليه الإمام الذهبي عبارة: «الشيخ الضّال الزّنديق» لثبوت الردّة عليه بشهادة الشهود عند القاضي المالكي،فأحلَّ دمه لكنه هرب إلى خارج بلاد المماليك سنين عدّة، حتى مات القاضي الذي أصدر الحكم بضرب عنقه، فرجع إلى الشام وسكن القابون إلى أن «انْقَلَع» ـ بتعبير الذهبي ـ سنة 724هـ، وخلف أتباعاً سمَّتْهم بعض المصادر بالباجربقية،ونفهم اليوم أنها شعبة من القلندرية
وقد قتل بعده مريدان له، أما أحدهما فابن الهيتي سنة726هـ، وشهد قتله أئمة منهم:ابن تيمية، وقد وصف مصدر قتله بأنه: «عز للإسلام وذلّ للزنادقة وأهل البدع»، وأما الآخر فهو: عثمان الدكالي سنة741هـ، وكان المزي والذهبي ممن حرَّضا عليه. ثم لا أدري أكان أحمد الأقباعي الذي ضربت عنقه سنة715هـ مريداً له أم لا ؟ ولكن يفهم أنه قلندري، أما البققي الحموي الذي أعدم سنة701هـ بالقاهرة فلا أظنه من مريديه، ولم يبد لي أن زندقته كانت نتاج قلندرية.
انظر: الذهبي (ذيل تاريخ الإسلام) ص265،302،و(ذيول العبر) ص41،70، و(دول الإسلام)2/265،287،والصفدي،(الوافي بالوفيات) 3/249،19/521 و(أعيان النصر)1/356،3/237، 4/505، وابن كثير (البداية والنهاية)14/36، 76،119،127،201،وابن خلدون (المقدمة) ص(424، 426)، وابن حجر العسقلاني (الدرر)1/181،2/268، 4/8،237 والمقريزي (المقفى الكبير) 1/638، 6/66، وجامع الرسائل لابن تيمية1/196.
(1) ابن السَّرَّاج (التشويق) الورقة143.
(1) ابن السَّرَّاج (التفاح) الورقة 144.
(1) ابن السَّرَّاج (التفاح) الورقة 112، 113.
(1) ابن السَّرَّاج (التشويق) الورقة 9.(2/69)
(1) ابن السَّرَّاج (التشويق) الورقة 112.
(1) ابن السَّرَّاج (التشويق) الورقة 15.
(1) لكنها عند ابن كثير(البداية والنهاية)13/355،قد داخلها لبس تبعه فيه كثيرون،ومانَبَّهَ على ذلك أحد ماعلمتُ. انظر القصة على وجهها عند: ابن الجزري (تاريخ حوادث الزمان)1،202 ـ 205،والذهبي(تاريخ الإسلام)ص33،222، والمقريزي(المقفى الكبير) 1/456.
(1) ابن السَّرَّاج (التفاح) الورقة 203.
(1) ابن السَّرَّاج (التشويق) الورقة 180.
(1) يعني الرفاعية وأمثالهم.
(1) ابن السَّرَّاج (التشويق) الورقة 136ـ137.
(1) ابن السَّرَّاج (التشويق) الورقة 22.
(1) كلمة غامضة.
(1) ابن السَّرَّاج (التشويق) الورقة 126.
(1) ابن السَّرَّاج (التشويق) الورقة30.
(1) ابن السَّرَّاج(التشويق) الورقة 219. قلت:وصلنا من رأي شيخ الإسلام في بدء حياته العلمية فتوى يقول فيها بحياة الخضر، لكن الذي استقرَّ عليه رأيه بعد ذلك أنه توفّي. انظر الفتاوى 4/338 ـ 339 وغيرها.
(1) أعياني تطلُّب ترجمة لابن عقب هذا، ثم وفّقني الله تعالى فعثرت على شيء من خبره في (منهاج السنة7/182 ومجموعة الفتاوى لابن تيمية 4/78 ـ 80)، وكان لهذا الاكتشاف فائدة أخرى: إذ كان اسم (ابن عقب) قد تصحّف في الفتاوى إلى (ابن غنضب). أما الفائدة الأولى فهي: أن هذه الملحمة المنسوبة إلى هذه الشخصية إنما صنّفها بعض الجهّال الرافضة في دولة نورالدين زنكي (ت569هـ) أو مابعدها، وأن العامة كانوا يزعمون أن ابن عقب كان معلم الحسن والحسين ـ رضي الله عنهما ـ وأنه أُعطي تُفاحة فيها علم الحوادث المستقبلة، قال: «وهذا شيء لم يكن في الوجود باتّفاق أهل العلم»، و«ليس في الصحابة أحد يقال له ابن عقب».(2/70)
ولقد كاد أبو العباس ـ والله أعلم ـ أن يصرّح باسم ابن السراج عند حديثه عن هذه الملحمة، فقد ذكر أنه قرَّر بعض القضاة والمشايخ على تكذُّبها بعد أن ادَّعى قدمها، وقال له: «بل أنت صنّفتها ولبّستها على ملوك المسلمين...». وقد سمع بهذه الملحمة ابن خلدون (ت808هـ) عند مجيئه إلى المشرق. انظر: (المقدمة) الفصل (54) عند كلامه على الملاحم والجفر.
(1) ابن السَّرَّاج(التشويق) الورقة 183.
(1) ابن تيمية، (رسالة إلى الملك الناصر) ص18. قلت: كان ابن تيمية من أصحاب الفراسات العجيبة، وقد نقل إلينا ابن قيم الجوزية بعضها.انظر: (مدارج السالكين)، 2/485 ـ 487.
(1) ابن السَّرَّاج، (التشويق) الورقة 197.
(1) ابن السَّرَّاج، (التشويق) الورقة 140.
(1) ابن السَّرَّاج، (التشويق) الورقة 132.
(1) ابن السَّرَّاج (التشويق) الورقة 120.
(1) ابن السَّرَّاج (التشويق) الورقة 135.
(1) هناك فصل في (مجموعة الفتاوى) فيه ردّ من شيخ الإسلام على معترض ملدّ يحتمل أن يكون ابن السراج. انظر (الفتاوى) 6/374 ـ 580.
(1) كلمة غامضة.
(1) ابن السَّرَّاج (التشويق) الورقة 9.
(1) ابن السَّرَّاج (التشويق) الورقة 9.
(1) ابن تيمية، (الفتاوى) 2/464 ـ 465.
(1) آل عمران الآية: 7.
(1) ابن تيمية، الفتاوى 10/560.
(1) ابن تيمية، (الفتاوى) 4/27، قلت: في الاحتمال أنهما ابن السراج ووالده.
(1) ثلاث كلمات غامضة.
(1) كيف أيها الكاذب وهو الذي صنَّف (الصارم المسلول على شاتم الرسول)، وأمضى حياته في نصر سنّته وهديه.
(1) انظر الفتاوى لشيخ الإسلام 1/71.
(1) ابن السَّرَّاج (التشويق) الورقة 142.
(1) ابن فضل الله العمري، (مسالك الأبصار) نقلاً من (الجامع لسيرة شيخ الإسلام) ص260، والمقريزي (المقفى الكبير) 1/461، 462.
(1) البزّار (الأعلام العلية) ص65، 66.
(1) ابن السَّرَّاج (التشويق) الورقة 142.
(1) ابن السَّرَّاج (التشويق) الورقة 179.(2/71)
(1) ابن السَّرَّاج (التشويق) الورقة 209.
(1) ابن السَّرَّاج (التشويق) الورقة 174.
(1) كذا بدتْ لي.
(1) «يكون» كذا بالأصل، والصواب نحوياً: يكن. والحظ الخطأ العقدي في الكلام.
(1) فهويعتقد أنه بإصراره على إرسال الرسائل إلىشيخ الإسلام إنما يكسب أجراًعلى ذلك
(1) ابن السَّرَّاج (التفاح) الورقة 198، 199.
(1) انظر إلى تواضعه حين يقول ونحن وكنا.. هي عقدة النقص عنده.
(1) يعني الفقراء والصوفية.
(1) ابن السَّرَّاج (التشويق) الورقة 151ـ152.
(1) ابن السراج (التشويق) الورقة 11.
(1) ابن السَّرَّاج (التشويق) الورقة 133.
(1) ولذلك نظير من فعله رحمه الله تعالى. انظر: الصفدي، (أعيان العصر) 3/329.
(1) النويري، (نهاية الأرب) نقلاً عن (الجامع لسيرة شيخ الإسلام) ص131.
(1) تقدم رأيي في الاحتمالات التي أدت بأحد هؤلاء الأعلام أو بهم جميعاً إلى وهمهم هذا.
(1) لا يقول إمام كالذهبي هذه الكلمة وقد سمع ووعى قول الله تعالى: {ولله العزَّة ولرسوله وللمؤمنين}، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا ينبغي للمؤمن أن يذل نفسه»، أما الصوفي ابن السَّرَّاج، المتأثر بكلام الملامية فإنها كلمة تعبّر عن بعض مذهبه.
(1) هذه كلمات من أمضَّه البعد عن دمشق ـ بلده ـ وعاش أكثر من أربعين سنة نائياً عنها، وتسامع بهُلك أمثاله في دمشق، ومدن الشام وغيرها، من صوفية وقلندرية ذكرهم في (التشويق) و(التفاح)، وإلا فهذا التحسُّر لا يصدر من إمام في السنة، كالذهبي يعيش في بلد فيه ابن تيمية والمزي وابن القيم وأمثالهم.(2/72)
(1) هذا ما يراه غلاة الصوفية والأشاعرة في جهاد شيخ الإسلام ابن تيمية ودعوته الإصلاحية يرون علماً جماً، وتحقيقاً نادراً، وعبقرية فيتهمونه بمدح نفسه، ويرونه محذراً من بدع المبتدعة، وخطأ العلماء فيعدونه متتبعاً لعورات الناس، وإنما هي النصيحة للمسلمين. ثم إن إماماً للجرح والتعديل كالذهبي لا يفهم فهم ابن السَّرَّاج من هذا الحديث الذي ساقه.
(1) لا يمكن أن يصف شيخ الإسلام، العلماء بالشريعة، الذين خالفهم، بأنهم ما شَمُّوا رائحة الإسلام، ولا عرفوا ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم. وإنما قصده بذاك الوصف الوجودية وأضراب القلندرية، الذين سُلط عليهم كما قال الصفدي، وهو الأمر الذي أغاظ ابن السَّرَّاج كما ترى.
(1) هنا طلبٌ من ابن السَّرَّاج إلى صديق قديم هو ابن تيمية، يناشده الكف عن جهاد الرفاعية البطائحية، الذين ينتسب إليهم ابن السَّرَّاج، وعن بقية الفقراء القلندرية. ولا مناسبة قطعاً بين هذا الكلام وبين الذهبي، فأي شيء كان ابن تيمية يفعله لم يرق الذهبي حتى يناشده الكف عنه؟ ثم إن الذهبي لا يسفل مهما خالف ابن تيمية فيصفه بأنه عليم اللسان.
(1) قد تعجب لإيراده اليونسية، هنا وهم من أصحابه القلندرية، ولكن يذهب عنك ذلك العجب إن عرفت أنه يرى أن هناك دخلاء على الفقراء، ومتشبهين بهم، وقد صرح بوجودهم في اليونسية، وأنهم «كالجن والشياطين، فقد يخلط التبن والتبر، ويشترك الباع والشبر، ويتشبه الجني بالملك، ومن تعدى بغير عدة فقد هلك» انظر (التفاح) الورقة 102.
(1) قال الكوثري: (السياق يدل على سقوط هذه الكلمة من الأصل).(2/73)
(1) هذا ظن الجهلاء، بمبلغ شيخ الإسلام من العلوم الشرعية والعقلية، من أمثال ابن السَّرَّاج الحاسد الحاقد، وقد علم أعداء ابن تيمية قبل أودائه أنه لم يقرأ الفلسفة حباً بها، بل لينقدها بعلم، والحكم على الشيء فرع عن تصوره، ثم هو قد تحصن بعلم الشريعة، وليس كمن دخل بطون الفلسفة ضعيف السلاح فما خرج منها سالماً.
(1) كن على ذكر من أنه يعني بالأبرار والصالحين زمر القلندرية وشيوخها، فهؤلاء يزدريهم كل مؤمن.
(1) أنى يكون الذهبي قائل هذا؟ وهو الذي ألَّف كتاب (تشبيه الخسيس بأهل الخميس) وحذَّر من بدع النصارى فيه.
(1) هذا الكلام المجمل في ذم البدعة يقوله أهل البدعة أيضاً ومنهم ابن السَّرَّاج، لكنهم يفتضحون عند طلب الأمثلة.
(1) يشير هنا إلى انتقاد شيخ الإسلام غلاة الصوفية والقلندرية في تعظيمهم لشيوخهم وأنهم في ذلك كالنصارى، فقوله: «مثلنا» يرجع فيه الضمير إلى الرفاعية والصوفية بعامة.
(1) ما أشبه معنى هذا الكلام والذي يأتي بعد، وفيه الكذب المبين، من قوله عن أولياء وأصحاب ابن تيمية بأن فيهم فجرة وكذبة، وجهلة وبطلة، وعور وبقر، ما أشبه هذا الفجور بما قاله في (التشويق): «... وكنا لا نكاتبه (يعني ابن تيمية) بذلك لما علمنا من حال جماعة من السفهاء والغوغاء والأطراف حوله يوجسون خاطره، ويقيمون الفتن بينه وبين الناس يقولون: يا سيدي أنت يقول لك فلان كيت وكيت ؟وهل يقال لمثل مولانا ذلك؟ إلى فنون من هذا الجنون، ولنا بهم خبرة وما نعلم أكثر بلاياه إلا هؤلاء الجهلة الحمقى».
(1) هؤلاء الأخيار والأبرار، والعباد والزهاد، الذين وصفهم هم أكثر الذين عدهم في (التشويق) و(التفاح) رموز القلندرية والصوفية المبتدعة، فَطَبعي أن يعاديهم ابن تيمية ويزدريهم،ويصغّرهم، ويمقتهم، وذلك لله وفي الله عزَّ وجل.(2/74)
(1) ينتظر هذا الحكم الجائر من غوي كابن السَّرَّاج، ولكن تأمل شهادة الذهبي (المُتَّهم خطأ بإرسال هذه الرسالة) في ابن تيمية: «وله خبرة تامة بالرجال وجرحهم وتعديلهم، وطبقاتهم، ومعرفة بفنون الحديث، وبالعالي والنازل، وبالصحيح والسقيم، مع حفظه لمتونه الذي انفرد به، فلا يبلغ أحد في العصر رتبته ولا يقاربه، وهو عجيب في استحضاره، واستخراج الحجج منه، وإليه المنتهى في عزوه إلى الكتب الستة، والمسند بحيث يصدق عليه أن يقال: كل حديث لا يعرفه ابن تيمية فليس بحديث. ولكن الإحاطة لله، غير أنه يغترف فيه من بحر، وغيره من الأئمة يغترفون من السواقي».
(1) على هذا يكون تاريخ الرسالة بين سنة 722 هـ وسنة 728 هـ.
(1) انظر كتاب (الرد الوافر) لابن ناصر الدين الدمشقي، و(الجامع لسيرة شيخ الإسلام ابن تيمية) المطبوع حديثاً، فلن تجد فيها إلا ذكر تقوى ابن تيمية وزهده وعبادته وذكره الآخرة وفضائل أخرى تكذب كلام ابن السَّرَّاج.
(1) قارن بين هذا، وما حكاه من حلم رآه بدمشق، فيه ذم لابن تيمية، فأراد أن يعلمه بما تحلَّمه: «... لكن تحققت أنه لا يفيد فيه القول، بل يحمله على المبالغة في الأذى، والتحيل على قلب الرؤيا، وردها على الناصح، وجعلها من تلبيس إبليس..» وأمثالها من كلماته الظالمة.
(1) قد مرَّ بك كلام ابن السَّرَّاج في زعمه الشفقة والمحبة لأبي العباس رحمة الله عليه(2/75)
أقسام زيارة القبور
وحكم شد الرحال إليها
جمع/ أبو معاذ السلفي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسوله الأمين وعلى آله وصحبه أجمعين،
أما بعد: فهذا موضوع متعلق بمسألة حكم شد الرحال لزيارة قبور الأنبياء والصالحين، قمت بجمع مادته من المراجع التالية:
1ــ "تقديس الأشخاص في الفكر الصوفي" للشيخ محمد أحمد لوح حفظه الله.
2ــ"كشف شبهات المخالفين/ القسم الثاني من كتاب "جلاء البصائر في الرد على كتابي شفاء الفؤاد والذخائر"" لسمير بن خليل المالكي.
3ــ "خصائص المصطفى - صلى الله عليه وسلم - بين الغلو والجفاء" تأليف الصادق بن محمد بن إبراهيم.
4ــ "هدم المنارة لمن صحح أحاديث التوسل والزيارة"للشيخ عمرو عبد المنعم سليم وهذا الكتاب هو رد على رسالة"رفع المنارة لتخريج أحاديث التوسل والزيارة"لمحمود سعيد ممدوح.
5ــ "كشف الستر عما ورد في السفر إلى القبر" للشيخ حماد الأنصار رحمه الله.
6ــ "سلسلة الأحاديث الضعيفة" المجلد الأول للإمام محمد ناصر الدين الألباني رحمه الله.
علماً أنني اكتفيت بهذه الإشارة عن الإحالة إلى كل مصدر أثناء النقل.
وأصل الموضوع مأخوذ من كتاب "تقديس الأشخاص في الفكر الصوفي" بتصرف، ثم أضفت إليه بعض النقول من الكتب الأخرى.
أسأل الله أن ينفع بهذا الموضوع وأن يجعله خالصا لوجهه الكريم .
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
أخوكم/ أبو معاذ السلفي
* المبحث الأول:
معنى شد الرحال وتوضيح الفرق بينه وبين زيارة القبور
الأصل في هذا المبحث قوله - صلى الله عليه وسلم -: { لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا، والمسجد الحرام، والمسجد الأقصى } متفق عليه. وهذا لفظ مسلم.
وعلى ضوئه نوضح معنى شد الرحال:
الرحال: جمع رحل، وهو سرج البعير الذي يركب عليه.(3/1)
والمراد: لا يقصد ــ بالسفر ــ موضع من المواضع بنية العبادة والتقرب إلى الله تعالى إلا إلى هذه الأماكن الثلاثة؛ تعظيماً لشأنها وتشريفاً. عبر بذلك لأن من أراد سفراً شد رحله ليركب ويسير(1).
قال ابن حجر رحمه الله في "فتح الباري"(3/77):(المراد النهي عن السفر إلى غيرها،
قال الطيبي: هو أبلغ من صريح النهي، كأنه قال: لا يستقيم أن يقصد بالزيارة إلا هذه البقاع لاختصاصها بما اختصت به، والرحال بالمهملة جمع رحل وهو للبعير كالسرج للفرس،
وكنى بشد الرحال عن السفر، لأنه لازمه، وخرج ذكرها مخرج الغالب من ركوب المسافر
وإلا فلا فرق بين ركوب الرواحل والخيل والبغال والحمير والمشي في المعنى المذكور، ويدل عليه قوله في بعض طرقه: { إنما يسافر } أخرجه مسلم).
الخلاصة: أنه لا تشد الرحال لمكان أو بقعة من البقاع طاعة لله تعالى وتقرباً إليه إلا إلى المساجد الثلاثة لما لها من مزيد من الفضل على سائر البقاع، أما الأسفار العادية كالذي لتجارة أو زيارة قريب أو صديق أو لسياحة ونحوها فلا مدخل لها هنا، فإنها من المباحات الباقية على أصلها(2).
أما زيارة القبور فأن يقوم شخص من بيته إلى مقابر قريته أو مدينته أو إلى مكان قريب
لا يتطلب منه القيام باستعدادات السفر المعروفة والمعبر عنها بشد الرحال فيقوم على قبور المسلمين ليدعو ويستغفر لهم. وزيارة القبور بالصفة المذكورة هي المشروعة.
وبهذا يتبين الفرق بين شد الرحال وبين زيارة القبور، فشد الرحال لا يجوز إلا إلى هذه المساجد الثلاثة، وزيارة القبور تشرع في حالة خلوها من شد الرحال ومن أمور أخرى يأتي بيانها.
__________
(1) انظر "جامع الأصول" لابن الأثير (5/260،9/283).
(2) انظر:"صحيح المقال في مسألة شد الرحال"(ص71).(3/2)
وعلى هذا لو سافر إنسان من بلد إلى بلد مثل أن يسافر من مصر إلى دمشق لأجل مسجدها أو بالعكس، أو إلى مسجد قباء من بلد بعيد لم يكن هذا مشروعاً باتفاق الأئمة الأربعة وغيرهم(1).
يقول ابن تيمية في"الجواب الباهر" ضمن"مجموع الفتاوى" (27/342) مشيراً إلى الفرق بينهما:(فمن سافر إلى المسجد الحرام أو المسجد الأقصى أو مسجد الرسول - صلى الله عليه وسلم - فصلى في مسجده وصلى في قباء وزار القبور كما مضت به سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهذا هو الذي عمل العمل الصالح، ومن أنكر هذا السفر فهو كافر يستتاب فإن تاب وإلا قتل.
وأما من قصد السفر لمجرد زيارة القبر ولم يقصد الصلاة في مسجده وسافر إلى مدينته
فلم يصل في مسجده - صلى الله عليه وسلم - ولا سلم عليه في الصلاة بل أتى القبر ثم رجع فهذا مبتدع ضال مخالف لسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولإجماع أصحابه ولعلماء أمته).
يعني أن من سافر من بلد بعيد إلى مدينة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وليس في نيته وقصده إلا إتيان القبر الشريف وأن أي شيء آخر يقوم به في المدينة إنما هو تابع لهذا الغرض الأساسي فهو مبتدع مخالف للسنة ولإجماع الصحابة، ولهذا يقول العلامة ابن عبد الهادي في "الصارم المنكي في الرد على السبكي"(ص27):(والسفر إلى زيارة القبور مسألة وزيارتها من غير سفر مسألة أخرى. ومن خلط هذه المسألة بهذه المسألة وجعلهما مسألة واحدة وحكم عليهما بحكم واحد وأخذ في التشنيع على من فرق بينهما وبالغ في التنفير عنه فقد حرم التوفيق وحاد عن سواء الطريق).
وإذا علم الفرق بين شد الرحال وبين زيارة القبور من حيث المعنى فليعلم الفرق بينهما من حيث الحكم الشرعي، وذلك ببيان حكم كل منهما.
* المبحث الثاني:
زيارة القبور في الشريعة الإسلامية
__________
(1) انظر"الجواب الباهر" (ص28) تحقيق مطرجي.(3/3)
في هذا المبحث نتناول موضوع زيارة القبور في الشريعة الإسلامية حكماً وحكمة وصفة، وعلى هذا المحور تدور المطالب التالية:
المطلب الأول: حكم زيارة القبور في الشريعة الإسلامية:
لقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد نهى عن زيارة القبور في أول الأمر سداً للذريعة، فلما تمكن التوحيد في قلوب الناس أذن لهم في زيارتها على الوجه الذي شرعه، فمن زارها على غير الوجه المشروع الذي يحبه الله ورسوله فإن زيارته غير مأذون فيها(1).
والدليل على ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: { كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها } رواه مسلم.
فاتفق أهل العلم على أنه - صلى الله عليه وسلم - كان قد نهى عن زيارة القبور، إلا أنهم اختلفوا هل نسخ ذلك النهي أم لا، وبالتالي اختلفوا في حكم زيارة القبور بين قائل بأنها مكروهة، وقائل إنها مباحة، وقائل إنها مستحبة.
المذهب الأول: القول بكراهة زيارة القبور، وهو مذهب إبراهيم النخعي، ومحمد بن سيرين، والشعبي. رواه عنهم عبد الرزاق وابن أبي شيبة، وهؤلاء من أجلة التابعين.
فعللت ذلك طائفة من السلف بأن النهي عن زيارة القبور لم تنسخ وأن الأحاديث الواردة
في ذلك ليست بمشهورة حتى إن أبا عبد الله البخاري لم يروها.
قلت: وهذا قول ضعيف، لأن الحديث صحيح وإن لم يروه البخاري، وهو رحمه الله
لم يرو كل ما صح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا اشترط ذلك على نفسه.
المذهب الثاني: القول بإباحة الزيارة، وهو قول طائفة من أهل العلم منهم مالك في قول له. حيث سئل عن زيارة القبور فقال:(كان قد نهى عنها عليه السلام ثم أذن فيها، فلو فعل ذلك إنسان ولم يقل إلا خيراً لم أر بذلك بأساً. وليس من عمل الناس)، وروي عنه أنه كان يضعف زيارتها.
__________
(1) انظر "إغاثة اللهفان" (1/313).(3/4)
ووجهة نظر من ذهب إلى القول بالإباحة أن صيغة افعل بعد الحظر إنما تفيد الإباحة ويؤيده حديث عائشة رضي الله عنها: { أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -رخص في زيارة القبور } . رواه ابن ماجه وصححه الألباني.
وهو ظاهر صنيع الترمذي حيث بوب للزيارة بقوله:(باب ما جاء في الرخصة في زيارة القبور).
المذهب الثالث: أن زيارة القبور الزيارة الشرعية مستحبة.وهذا قول جماهير العلماء،
إذ لا ريب أن زيارة القبور بالكيفية المشروعة مع العمل بالتوجيهات والإرشادات النبوية تعد عبادة وعملاً صالحاً، والعبادة لا تكون مكروهة ولا يصح وصفها بمجرد الإباحة، إلا أن شيخ الإسلام ابن تيمية فصل تفصيلاً حسناً فذكر أن الأقوال الثلاثة يمكن أن تكون صحيحة باعتبار (فإن الزيارة إذا تضمنت أمراً محرماً من شرك أو كذب أو ندب أو نياحة وقول هجر فهي محرمة بالإجماع.هذا النوع الأول.
والنوع الثاني: زيارة القبور لمجرد الحزن على الميت لقرابته أو صداقته فهذه مباحة كما يباح البكاء على الميت بلا ندب ولا نياحة...
وأما النوع الثالث: فهو زيارتها للدعاء لها كالصلاة على الجنازة فهذا هو المستحب الذي دلت السنة على استحبابه؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - فعله وكان يعلم أصحابه ما يقولون إذا زاروا القبور).
وبيان ذلك أن الزيارة تنقسم إلى قسمين:
الأول: الزيارة الشرعية: وهي عبارة عن السلام على الميت والدعاء والاستغفار له بمنزلة الصلاة على جنازته، على أن تكون الزيارة خالية من شد رحل ومن كل محظور.(3/5)
الثاني: الزيارة البدعية: مثل قصد قبر نبي أو ولي للصلاة عنده، أو الدعاء به أو طلب الحوائج منه أو الاستعانة والاستغاثة به والطواف بقبره وتقبيله واستلامه وتعفير الخدود عليه وأخذ ترابه للتبرك وسؤال المقبورين النصر والرزق والولد وقضاء الدين وتفريج الكربات، ونحو ذلك من البدع التي لم يفعلها أحد من الصحابة ولا التابعين لهم بإحسان، بل قد نهى عن ذلك كبار أئمة المسلمين.
وجملة القول: أن الزيارة الشرعية هي المستحبة، والزيارة غير الشرعية هي المحرمة،
وما بين ذلك من الزيارات التي يقصد بها إثارة العوطف والأحزان وتذكر أيام الصحبة ونحو ذلك فهي المباحة.
المطلب الثاني: حكمة زيارة القبور:
بعد أن تخلو مقاصد الزيارة من أي لون من ألوان تقديس الأموات، وممارساتها من النطق
بما يسخط الرب أو القيام به فقد بين الشارع الحكمة من استحباب الزيارة وهي ثلاث حكم مقصودة:
الأولى: تذكر الآخرة والاعتبار والاتعاظ فيعود الزائر من زيارته وقد ازداد خوفاً من
مولاه وإقبالاً على الآخرة والعمل لها. وقد بين النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك كما ورد في عدد من ألفاظ حديث: { كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها } حيث جاءت زيادة بلفظ: { فإنها تذكر الموت } من حديث أبي هريرة عند مسلم، وبلفظ: { فإن فيها تذكرة } من حديث
أبي هريرة وبريدة عند أبي داود، وبلفظ: { فإنها تذكر الآخرة } من حديث بريدة عند الترمذي والنسائي، وأبي هريرة عند ابن ماجه، وبلفظ { فزوروها ولتزدكم زيارتها خيراً } من حديث بريدة عند النسائي، وبلفظ: { فإنها تزهد في الدنيا وتذكر الآخرة } من حديث ابن مسعود عند ابن ماجه، وبلفظ: { فإن فيها عبرة } من حديث أبي سعيد عند أحمد، وبلفظ: { ثم بدا لي أنها ترق القلب وتدمع العين وتذكر الآخرة فزوروها ولا تقولوا هجراً } من حديث أنس عند أحمد أيضاً.(3/6)
ولا ريب أن هذه الحكمة تعود على الزائر بالنفع حيث أنها حافزة على الاستعداد ليوم المعاد والبعد عن الغفلة.
وتجوز زيارة قبور المشركين نظراً لهذا المقصد، فإن العبرة حاصلة بتذكر الآخرة سواء كان مآل الميت إلى الجنة أم إلى النار.
قال شيخ الإسلام كما في"مجموع الفتاوى"(27/343):(وتزار قبور الكفار، لأن ذلك تذكر الآخرة).
الثانية: الدعاء للميت المزور والاستغفار له والسلام عليه وفي ذلك إحسان إليه وأي إحسان؛ لأن الميت الذي انقطع عمله بإدباره من دار العمل وإقباله على دار الجزاء أحوج
ما يكون إلى من يستغفر ويدعو له بالرحمة والمعافاة والفوز بدخول الجنة.
وعليه أدلة أذكر منها:
1ـــ عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج إلى المقبرة فقال: { السلام عليكم دار قوم مؤمنين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون } رواه مسلم.
2ــ عن عائشة رضي الله عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يخرج إلى البقيع فيدعو لهم فسألته عائشة عن ذلك فقال: { إني أمرت أن أدعو لهم } رواه أحمد. قال الألباني في "أحكام الجنائز" (ص189):(بسند صحيح على شرط الشيخين).
وأما النبي - صلى الله عليه وسلم - فله ميزة خاصة لا يماثله فيها أحد من الخلق، وهي أن المقصود عند قبر غيره من الدعاء له قد عوض عنه بالصلاة عليه وسؤال الوسيلة له، وهو مأمور به في الصلوات الخمس وعند دخول المساجد والخروج منها وعند الأذان وعند كل دعاء. بل تصلي عليه في كل مكان؛ لأن الصلاة تبلغه.
ولهذا يكتفي زائر قبره عليه الصلاة والسلام بالسلام عليه ولا يزيد، كما كان يفعل عبد الله بن عمر، وهو الصحابي الوحيد الذي كان يقف عند القبر ويسلم عند قدومه من السفر.
روى عبد الرزاق عن معمر عن أبي أيوب عن نافع قال: (كان ابن عمر إذا قدم من السفر
أتى قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: (السلام عليك يا رسول الله السلام عليك يا أبا بكر السلام عليك(3/7)
يا أبتاه.. قال معمر: فذكرت ذلك لعبيد الله ابن عمر فقال: ما نعلم أحداً من أصحاب
النبي - صلى الله عليه وسلم - فعل ذلك إلا ابن عمر). ورواه البيهقي بإسنادين رجالهما ثقات.
الثالثة: يقول ابن القيم في"إغاثة اللهفان"(1/337):(إحسان الزائر إلى نفسه باتباع السنة والوقوف عند ما شرعه الرسول - صلى الله عليه وسلم - فيحسن إلى نفسه وإلى المزور).
قلت: لا شك أن ما ذكره رحمه الله يعد من أعظم الثمرات التي يجنيها الزائر المتبع للسنة، فإذا كانت ثمرة اتباع السنة متحققة في كل الميادين التعبدية فلا ريب أن تحققها في زيارة القبور يكون أقوى وأظهر نظراً لكثرة الضالين والمضلين في هذا الأمر حتى صارت المقابر في أكثر بقاع العالم الإسلامي تشكل بؤراً للشرك ومعصية الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، وهذه الثمرة قد غفلها كثير من الذين تناولوا هذا الموضوع بالبحث.
فهذا الشيخ عبد العزيز الربيعان بعد أن ذكر من حكم زيارة القبور: تذكر الآخرة والإحسان إلى الموتى بالدعاء لهم يقول في "صحيح المقال"(ص75):(وليس هناك حكمة ثالثة من أجلها تزار القبور). وقد علمت ما فيه.
المطلب الثالث: صفة زيارة القبور في الشريعة الإسلامية:
حتى تتحقق الزيارة بالكيفية المشروعة ويجني الزائر ثمرة زيارة القبور لابد من الحرص على متابعة السنة، والاسترشاد بهديها، ويمكن تصنيف إجراءات الزيارة الشرعية في محورين:
الأول: مراعاة جانب المقاصد والنوايا. وذلك بالآتي:
1ــ أن يكون مقصده الأساسي طاعة أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي استحب للمسلمين زيارة
القبور.
2ــ وأن يقصد الدعاء للميت والاستغفار له والسلام عليه، ولا يقصد دعاءه والاستغاثة به وطلب الحاجات منه، فإنه في حاجة إلى من يدعو له لا إلى من يدعوه.
3ــ وأن يقصد تذكر الآخرة والاتعاظ فيكون قيامه على مقابر الموتى حافزاً له على الطاعات والإقلاع عن المعاصي.(3/8)
4ــ إذا شد رحله إلى مكة أو إلى المدينة أو إلى المسجد الأقصى وجب أن يكون مقصده الصلاة في هذه المساجد ثم إذا أراد أن يزور الموتى بمكة أو قبور المدينة وفي مقدمتها قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - وصاحبيه، أو القبور بالقدس فله ذلك كله شريطة أن يلتزم الاتباع لا الابتداع.
الثاني: مراعاة جانب الممارسات والتطبيقات العملية. وذلك بما يلي:
1ــ فلا يشد رحلاً لزيارة القبور بل تكفيه زيارة القبور القريبة من محلة إقامته وكذلك القبور البعيدة التي يجتازها من غير قصد.
قال شيخ الإسلام في"مجموع الفتاوى"(26/150):(تزار القبور الزيارة الشرعية ممن كان قريباً منها ومن اجتاز بها، كما أن مسجد قباء يزار من المدينة وليس لأحد أن يسافر إليه لنهيه - صلى الله عليه وسلم - أن تشد الرحال إلا إلى المساجد الثلاثة).
2ــ ولا يدعو الموتى ولا يدعو بهم ولا يستغيث ولا يستعين بهم ولا يتحرى الصلاة عند قبورهم معتقداً أن ذلك أدعى للقبول.
3ــ ولا يقول هجراً ولا ينطق بأي كلمة شركية أو موهمة للشرك مثل نداء الميت وطلب
جواره أو شفاعته منه ونحو ذلك مما يسخط الرب تبارك وتعالى.
4ــ ولا يتمسح بتراب القبر ولا بجدران الضريح إذا كان حوله جدران ولا يتبرك بشيء
مما له صلة بالميت، معتقداً أن ذلك ينفعه في دنياه أو في آخراه، وليعلم أنه لا بركة ترجى
إلا باتباع سيد المرسلين.
5ــ وليحرص على الدعوات الواردة التي كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدعو بها عند زيارة القبور، ولا يشغل نفسه بتلاوة القرآن عند الزيارة، لأن ذلك مما لا أصل له في السنة، ولو كانت مشروعة لفعلها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولعلمها أصحابه.
قال الألباني في"أحكام الجنائز"(ص191):(ومما يقوي عدم المشروعية قوله - صلى الله عليه وسلم -: { لا تجعلوا بيوتكم مقابر، لأن الشيطان ينفر من البيت الذي يقرأ فيه سورة البقرة } رواه مسلم وغيره.(3/9)
فقد أشار - صلى الله عليه وسلم - إلى أن القبور ليست موضعاً للقراءة شرعاً، فلذلك حض على قراءة القرآن في البيوت ونهى عن جعلها كالمقابر التي لا يقرأ فيها).
* المبحث الثالث:
حكم الشرع في شد الرحال إلى مشاهد الأموات
لم يعرف عن أحد من الصحابة والتابعين وأتباعهم ولا أحد من أهل القرون الثلاثة المفضلة أنه أجاز شد الرحال إلى مسجد غير المساجد الثلاثة للصلاة فيه بعد أن بلغه الحديث.
أما شد الرحال إلى القبور فمن باب أولى وأحرى.
ثم نقل الحافظ ابن حجر وغيره في المسألة خلافاً بين المتأخرين الذين عاصروا شيوع البدع وانتشار الخرافات وانصراف أكثر الطوائف عن سنن الحق فقال في"فتح الباري"(3/78-79): (واختلف في شد الرحال إلى غيرها ــ يعني المساجد الثلاثة ــ كالذهاب إلى زيارة الصالحين أحياءً وأمواتاً وإلى المواضع الفاضلة لقصد التبرك بها والصلاة فيها، فقال الشيخ أبو محمد الجويني: يحرم شد الرحال إلى غيرها عملاً بظاهر هذا الحديث. وأشار القاضي حسين إلى اختياره، وبه قال عياض وطائفة...إلى أن قال: والصحيح عند إمام الحرمين وغيره من الشافعية أنه لا يحرم، وأجابوا عن الحديث بأجوبة ... الخ).
وقال النووي في"شرح مسلم"(9/106):(واختلف العلماء في شد الرحال وإعمال المطي إلى غير المساجد الثلاثة كالذهاب إلى قبور الصالحين وإلى المواضع الفاضلة ونحو ذلك،
فقال الشيخ أبو محمد الجويني من أصحابنا: هو حرام، وهو الذي أشار القاضي عياض إلى اختياره.
والصحيح عند أصحابنا، وهو الذي اختاره إمام الحرمين والمحققون أنه لا يحرم ولا يكره).
وقال الموفق ابن قدامة في"المغني"(3/117):(فصل: فإن سافر لزيارة القبور والمشاهد فقال ابن عقيل: لا يباح له الترخص لأنه منهي عن السفر إليها. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: { لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد } متفق عليه.
والصحيح إباحته وجواز القصر فيه...الخ).(3/10)
استند من قال بالمنع من شد الرحال إلى ما سوى المساجد الثلاثة قاصداً العبادة بما يلي:
أولاً: جاءت النصوص الشرعية الصحيحة بالمنع من شد الرحال إلى غير المساجد الثلاثة من ذلك حديث أبي هريرة المتفق عليه: { لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد... } الحديث فأورده كما رأيت بصيغة الخبر { لا تشد } والخبر هنا بمعنى النهي. بل نقل الحافظ عن الطيبي أنه أبلغ في الحظر من صريح النهي، كما تقدم آنفاً.
ويبينه ما رواه مسلم من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
{ لا تشدوا الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد، مسجدي هذا، والمسجد الحرام، والمسجد الأقصى } .
ومعلوم أيضاً أن هذا الحصر المفهوم من صيغة النفي مع الاستثناء يفيد أنه لا يجوز شد الرحال إلى غير الأماكن المذكورة كقبور الأنبياء والصالحين، ويؤكد الحصر ما رواه مسلم من حديث أبي هريرة بلفظ: { إنما يسافر إلى ثلاثة مساجد: مسجد الكعبة ومسجدي هذا ومسجد إيليا } .
ثانياً: كيف فهم السلف الصالح من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم هذه النصوص؟
نعرف فهم الصحابة لكلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مسألة ما إذا وجدناهم يعملون بمقتضاه، وإذا استدلوا به على تقرير مفهوم معين، ولا ريب أن الثاني أقل من الأول، بل إنه من النوادر التي
لا يظفر بها إلا في أفراد المسائل، أما مسألتنا هذه فقد اجتمع فيها عمل الصحابة واستدلالهم، فعن عمر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام قال:(لقي أبو بصرة الغفاري
أبا هريرة وهو جاء من الطور فقال: من أين أقبلت؟ قال: من الطور صليت فيه. قال:
أما لو أدركتك قبل أن ترحل ما رحلت، إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: { لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام ومسجدي هذا والمسجد الأقصى } رواه النسائي، وأحمد، عن يزيد بن عبد الله بن الهاد عن محمد بن إبراهيم التيمي، عن أبي سلمة بن(3/11)
عبد الرحمن عن أبي هريرة، وهذا سند صحيح.
يفهم من هذا أن أبا هريرة - رضي الله عنه - لم يكن قد بلغه النهي عن شد الرحال، فلما أخبره بذلك هذا الصحابي الجليل وافقه.
يقول ابن حجر في "الفتح" (3/78):(فدل على أنه يرى حمل الحديث على عمومه ووافقه أبو هريرة).
وعن قزعة قال: سألت ابن عمر: آتي الطور؟ فقال:(دع الطور ولا تأتها، وقال: لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد) قال الألباني في "تحذير الساجد من اتخاذ القبور مساجد" (ص139):(رواه الأزرقي في"أخبار مكة"وإسناده صحيح).
وعلى هذا فلا خلاف بين الصحابة في حمل هذا الحديث على عمومه في كل مكان يقصد للتعبد المحض، ومن الناحية العملية لم ينقل عن أحد منهم ما يخالف هذا الحمل.
ثالثاً: أن فقهاء السلف لم يكونوا يعدون السفر إلى الأماكن غير المساجد الثلاثة من الطاعات. ولذلك ذهبوا إلى أن من نذر أن يأتي شيئاً من تلك الأماكن فلا شيء عليه ألبتة، لأن النذر لا يجب الوفاء به إلا إذا كان موضوعه طاعة الله تعالى. لقوله - صلى الله عليه وسلم -: { من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصه فلا يعصيه } رواه البخاري وغيره.
بل اتفقوا على أنه لو نذر أن يسافر إلى المساجد الثلاثة بدون نية الصلاة فيها أو مع حج
أو عمرة بالنسبة للبيت الحرام لم يلزمه شيء، لأن مجرد إتيانها لا تتعلق به طاعة.
أدلة من قال بجواز شد الرحال إلى القبر النبوي وقبور الصالحين:
استدل هؤلاء بالأحاديث الواردة في الإذن بزيارة القبور مطلقاً، وبأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يأتي قباء راكباً وماشياً.
قال الموفق بن قدامة رحمه الله في"المغني"(3/117):(الصحيح إباحته ــ أي السفر لزيارة القبور والمشاهد ــ وجواز القصر فيه، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يأتي قباء راكباً وماشياً وكان يزور القبور، وقال: { زوروها تذكركم الآخرة } ).(3/12)
وأجابوا عن استدلال من قال بالتحريم بحديث: { لا تشد الرحال إلا ثلاثة مساجد } بما يلي:
أن المراد بالحديث أن الفضيلة التامة إنما هي في شد الرحال إلى هذه المساجد بخلاف غيرها فإنه جائز.
واستدل له ابن حجر بأنه قد وقع في رواية لأحمد بلفظ: { لا ينبغي للمطي أن تعمل } قال: وهو لفظ ظاهر في غير التحريم.
ومنها: أن المراد حكم المساجد فقط، وأنه لا تشد الرحال إلى مسجد من المساجد للصلاة فيه غير هذه الثلاثة، وأما قصد غير المساجد لزيارة صالح أو قريب أو صاحب
أو طلب علم أو تجارة أو نزهة فلا يدخل في النهي.
ومنها: أن المراد قصدها بالاعتكاف فيها.
كما استدلوا ببعض الأحاديث الضعيفة والموضوعة التي تحث على زيارة القبر النبوي.
وقد اعترض الأولون على أدلة هؤلاء فقالوا:
إن الأحاديث الواردة في زيارة القبور ليس فيها حديث واحد يدل على شد الرحل إليها، وفعله - صلى الله عليه وسلم - يبين ذلك، فقد كان يزور البقيع وشهداء أحد وهو بالمدينة، وليس في ذلك إعمال سفر ولا شد رحل، ولم يكن أصحابه من بعده يشدون الرحل إلى قبره ولا إلى قبر غيره، وكانوا يزورون القبور ولا يقصدونها بالسفر، فعرف الفرق بين المسألتين، ثم إن القائلين بالجواز قد فرقوا بين زيارة القبور بدون شد رحل وزيارتها بشد رحل.
قال ابن قدامة في"المغني"(3/517):(لا نعلم بين أهل العلم خلافاً في إباحة زيارة الرجل القبور).
فحكى الاتفاق على إباحتها هنا، مع أنه ذكر الخلاف في زيارتها بشد الرحل كما تقدم،
وقال النووي في"المجموع"(5/310):(اتفقت نصوص الشافعي والأصحاب على أنه يستحب للرجال زيارة القبور وهو قول العلماء كافة، نقل العبدري فيه إجماع المسلمين).
فحكى الاستحباب هنا، وأما في مسألة شد الرحل إلى زيارة القبور فقد ذكر كما مر معنا قولين: التحريم والجواز لا غير.(3/13)
وهذا مصير منهم إلى التفريق بين الزيارتين، وهو يضعف الاحتجاج بالأحاديث الواردة في الزيارة، إذ لو كان الاستدلال بها صحيحاً لما فرق في الحكم بين الحالين.
وهذا يقوي حجة من استدل بحديث: { لا تشد الرحال } على منع السفر لزيارة القبور، إذ يقال للذين ذهبوا إلى الاستحباب في الزيارة المجردة عن قصد السفر، وجواز الأخرى، المصحوبة بقصد السفر، لولا أنكم فهمتم من هذا الحديث ما فهمه المانعون، لما فرقتم بين المسألتين فجعلتم الأولى مستحبة والأخرى جائزة.
أما استدلال ابن قدامة رحمه الله بإتيان النبي - صلى الله عليه وسلم - قباء، فقد قصد به بيان أن النفي الوارد في حديث شد الرحال ليس للتحريم بل لنفي الفضيلة، وهو يرد بذلك على المحتجين به على تحريم شد الرحال إلى القبور.
وقد أبطل شيخ الإسلام حجة ابن قدامة فقال في"مجموع الفتاوى"(27/187):(وأما السفر إلى بقعة غير المساجد الثلاثة، فلم يوجب أحد من العلماء السفر إليه إذا نذره، حتى نص العلماء على أنه لا يسافر إلى مسجد قباء، لأنه ليس من المساجد الثلاثة، مع أن مسجد قباء يستحب زيارته لمن كان في المدينة، لأن ذلك ليس بشد رحل، كما في الحديث الصحيح: { من تطهر في بيته ثم أتى مسجد قباء لا يريد إلا الصلاة فيه كان كعمرة } .
وبهذا يظهر بطلان حجة أبي محمد المقدسي، لأن زيارة النبي - صلى الله عليه وسلم - لمسجد قباء لم تكن بشد رحل، وهو يسلم لهم أن السفر إليه لا يجب بالنذر) اهـ.
وقال العيني في"عمدة القاري"(6/285):(فإن قلت: ما الجمع بين قوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح: { لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد } وبين كونه كان يأتي مسجد قباء راكباً؟ قلت: قباء ليس مما تشد إليه الرحال، فلا يتناوله الحديث المذكور) اهـ.
وأما بالنسبة لتأويل من قال بجواز شد الرحال لزيارة قبور الصالحين لحديث: { لا تشد
الرحال } فقد أجاب المانعون عليهم بما يلي:(3/14)
أما الأول والذي أولوا فيه قوله - صلى الله عليه وسلم -: { لا تشد الرحال } بأن المراد الفضيلة التامة وأن شد الرحال إلى غيرها جائز فغير متعمد.
أما أولاً: فلأن لفظ الحديث يأباه حيث ورد بالنفي مع الحصر المؤكد والنهي الصريح، ونص هذا شأنه لا شك أن صرفه وحمله على الفضيلة التامة يعد تحكماً في نصوص الشرع وإقحاماً للعقول في تخصيصها وتقييدها.
وأما ثانياً: فلأن هذا التأويل يصادم فهم الصحابة وجميع أئمة الفقه، ولا ريب أن فهم الصحابة أقرب إلى إدراك مراد الشارع من فهم الخلف المتأخرين.
وهذا الوجهان ينسحبان على جميع أجوبتهم.
وأما قولهم: إن السفر إلى ما عدا هذه الأماكن جائز، فالجواب أن يقال: إن الجواز يطلق بإطلاقات ثلاثة:
الإطلاق الأول: الإذن في الفعل، وهو بهذا الإطلاق يشمل أحكاماً، وهي الوجوب والندب والإباحة.
قال صاحب"مراقي السعود" عن الإباحة:
(وهي والجواز قد ترادفا في مطلق الإذن لدى من سلفا).
الإطلاق الثاني: الإذن في الفعل والترك، وهو بهذا الإطلاق يشمل أحكاماً أيضاً هي: الندب والإباحة والكراهة.
الإطلاق الثالث: التخيير بين الفعل والترك على السواء، وهو بهذا لا يشمل إلا الإباحة.
إذا ذهب هؤلاء المخالفون إلى أن مقصودهم بالجواز هنا الوجوب أو الندب طولبوا بالدليل
على ذلك؛ لأنه لا يجوز في الشريعة الإسلامية أن يذهب أحد من الناس إلى الحكم بإيجاب شيء أو ندبه ما لم يقم دليل شرعي عليه.
وهذا الدليل لا سبيل إليه؛ لأنه غير موجود أصلاً، وإن قالوا: إنه جائز بمعنى مباح كان ذلك إيذاناً منهم بالعدول عن رأيهم في شد الرحال إلى غير المساجد الثلاثة، إذ كيف يعقل
أن يسافر مسافر من مكان بعيد يقطع القفار ويجوب الفيافي والفلوات قاصداً قبر رجل صالح أو مشهد من المشاهد المقدسة عنده ولا يقصد بذلك العبادة ونيل الأجر والثواب؟ وإنما لأنه مباح فقط كسائر المباحات.(3/15)
والحق الذي لا ريب فيه أن السفر إلى القبور إنما يقصد به العبادة، والعبادة لا تكون
إلا بواجب أو مستحب. فلما حصل الاتفاق على أن السفر إلى القبور ليس بواجب
ولا مستحب كان من فعله على وجه التعبد مبتدعاً مخالفاً للإجماع، والتعبد بالبدعة ليس بمباح.
وأما قول ابن حجر إن لفظ: { لا ينبغي } ظاهر في غير التحريم.
فالجواب من وجهين:
1ــ على فرض التسليم بذلك فماذا نفعل بالنهي الصريح: { لا تشدوا الرحال } فإنه إذا ورد في مسألة نهي بلفظ صريح في التحريم وآخر غير صريح فيه تعين المصير إلى مقتضى اللفظ المحرم.
هذا على فرض التسليم بأن { لا ينبغي } ظاهر في غير التحريم، ودون هذا التسليم
خرط القتاد.
2ــ رد العلامة الشيخ ابن باز رحمه الله على الحافظ ابن حجر رحمه الله في هذا الكلام فقال في"الفتح"(3/79 هامش 1):(ليس الأمر كما قال، بل ظاهر في التحريم والمنع، وهذه اللفظة في عرف الشارع شأنها عظيم، كما في قوله تعالى: { وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً } ]مريم:92[، وقوله: { قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ... } الآية ]الفرقان:18[).
وأما الثاني: فلا يحتاج إلى الإطالة حوله، لأنه إذا كان المراد بهذا الحديث النهي عن شد الرحال إلى مسجد من المساجد للصلاة فيه غير المساجد الثلاثة كان النهي عن شد الرحال إلى القبور ومشاهد الصالحين أولى وأحرى.
أما ما ذكره من زيارة الأقارب والأصدقاء فلا محل له هنا إذ المحظور قصد الأماكن التي
لا تقصد إلا للعبادة. ولا يظن بمن ذكر أنهم حملوا الحديث على ظاهره أن مذهبهم تحريم السفر على وجه الإطلاق.
وأما الثالث: فهو أضعف هذه التأويلات فحمل الحديث على الاعتكاف تحكم بلا دليل، وقد اعترف ابن حجر فقال في"الفتح"(3/79):(لم أر عليه دليلاً).(3/16)
قلت: لو قال الحافظ ذلك في سائر ما أجابوا به لاستراح من تكلف البحث عن دليل معدوم، ولأراح غيره من توضيح أمر واضح جلي.
نخلص من كل ما سبق إلى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يشرع أبداً السفر إلى القبور لا بقوله ولا بفعله، وآية ذلك أن هذا الأمر لم ينزل في الإذن به قرآن ولم يثبت فيه حديث من قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو فعله، فلو كان مشروعاً لتحقق فيه كل ذلك أو بعضه ولسنَّ لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذلك برحلات وجولات إلى قبور الأنبياء والصالحين، ولملئت الكتب برحلات الصحابة والتابعين
لهم بإحسان، ونحن نجد دواوين الإسلام من صحاح وسنن ومسانيد وكتب فقه السلف الصالح قد سجلت كل حقوق الأموات من عيادتهم وهم مرضى إلى غسلهم وتكفينهم وتشييعهم ودفنهم وزيارة قبورهم والاستغفار والدعاء لهم والنهي عن الجلوس على قبورهم من جهة.
ومن جهة أخرى النهي عن البناء على قبور الموتى أو اتخاذها مساجد، حماية لعقيدة الأحياء من المسلمين، كل هذا قد طفحت به دواوين الإسلام المشار إليها بينما هي خالية خلواً كاملاً من حديث نبوي واحد صحيح أو حسن أو قول صاحب أو أحد من أهل القرون المفضلة أو احد من أئمة الهدى يتعلق بقضية الحث على السفر إلى القبور.
فهذا الإمام مالك مع عنايته بجمع سنة المصطفى - صلى الله عليه وسلم - لا تجد له كلمة في "موطئه" تشير إلى السفر وشد الرحال إلى قبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا إلى قبر غيره، وهذه كتب تلاميذه التي دونوا فيها فقه هذا الإمام لا نجد فيها باباً ولا فصلاً ولا حديثاً يحث المسلمين على شد الرحال والسفر إلى قبر نبي من الأنبياء أو صالح من الصالحين، بل مبالغة منه في التحفظ فقد كره أن يقول الرجل: زرت قبر النبي- صلى الله عليه وسلم - (1).
وكذلك الإمام أبو حنيفة وأصحابه وأبو يوسف ومحمد نبحث في كتبهم فلا نجد ذكراً لهذه المسألة.
__________
(1) انظر:"الشفاء" للقاضي عياض(2/84).(3/17)
وهذا الإمام الشافعي الذي دون فقهه العظيم في "الأم" فلم يعقد باباً أو فصلاً ولا حديثاً واحداً بشأن السفر إلى قبور الأنبياء.
وكذلك الإمام أحمد لا تجد في مسنده العظيم ولا في مسائله المدونة أثراً لهذه المسألة
ولا خبراً، وهذا الصحيحان وبقة الأمهات الستة وأخواتها من دواوين الإسلام المعتبرة خلت خلواً كاملاً عن قضية شد الرحال والسفر إلى قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أو إلى قبور غيره من الأنبياء.
فما السر إذن في عمل هؤلاء الصحابة والتابعين والأئمة من الفقهاء والمحدثين؟ هل ينقصهم حب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحب الصالحين من أولياء الله تعالى؟ كلا، إن شيئاً من ذلك لم يحدث ولكنها الغفلة ووسوسة شياطين الإنس والجن لعواطف الحب العمياء التي لا تميز بين حق
وباطل، ولا بين جفاء وإفراط وتفريط.
أما بالنسبة للأحاديث الضعيفة والموضوعة التي فيها حث على زيارة القبر النبوي فقد ذكرها الشيخ العلامة حماد الأنصاري رحمه الله في رسالته"كشف الستر عما ورد في السفر إلى القبر"وبين ضعفها فقال رحمه الله:
أدلة المجيزين لشد الرحل وعدم قابليتها للاستدلال بها على دعواهم أربعة عشر حديثا
1ــ "من زار قبري وجبت له شفاعتي".
أخرجه أبو الشيخ وابن أبي الدنيا، عن ابن عمر، وهو في"صحيح ابن خزيمة"، وأشار إلى تضعيفه(1)، وقال: (في القلب من سنده شيء، وأنا أبرأ إلى الله من عهدته)(2).
قلت: فيه مجهولان:
أ ــ عبد الله بن عمر العمري، قال أبو حاتم: مجهول.
ب ــ موسى بن هلال البصري العبدي، قال أبو حاتم في"الجرح والتعديل"(8/166): مجهول.
وقال العقيلي في"الضعفاء"(4/170): لا يصح حديثه، ولا يتابع عليه، يعني هذا الحديث.
وقال الذهبي في"ميزان الاعتدال"(4/226):(وأنكر ما عنده حديثه عن عبد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر...) فذكر هذا الحديث.
__________
(1) انظر:"المقاصد الحسنة"(رقم1125).
(2) انظر:"التلخيص الحبير"(2/267)،"لسان الميزان" (6/135).(3/18)
وفي رواية:"من زار قبري حلت له شفاعتي".
2ــ "من حج فزار قبري بعد وفاتي كان كمن زارني في حياتي".
أخرجه الطبراني في"معجمه الكبير"(12/406)، والبيهقي في"السنن الكبرى"(5/246)، و"شعب الإيمان"(8/92ــ93)، عن ابن عمر.
وفيه حفص بن سليمان القاري:
وقال الإمام أحمد بن حنبل كما في"العلل": (2298): متروك الحديث.
وقال البخاري في"التاريخ الكبير"(2/363): تركوه.
وقال ابن خراش: كذاب يضع الحديث.
وذكر الذهبي في"ميزان الاعتدال" (1/559): هذا الحديث من منكراته بما لفظه:
(وفي ترجمته في كتاب "الضعفاء" للبخاري تعليقاً: ابن أبي القاضي حدثنا سعيد بن منصور حدثنا حفص بن سليمان عن ليث عن مجاهد عن ابن عمر مرفوعا:"من حج وزارني
بعد موتي..." الحديث).
3ــ"من زارني بالمدينة محتسباً كنت له شهيداً أو شفيعاً يوم القيامة".
أخرجه البيهقي في"شعب الإيمان"(8/95)، من طريق سليمان بن يزيد عن أنس.
وفيه أبو المثنى سليمان بن يزيد الكعبي:
قال الذهبي: متروك.
وقال أبو حاتم في"الجرح والتعديل"(4/149): منكر الحديث.
وقال ابن حبان في"المجروحين"(3/151): لا يجوز الاحتجاج به.
4ــ "من حج ولم يزرني فقد جفاني".
قال السخاوي في"المقاصد الحسنة"(رقم 1178):(لا يصح، أخرجه ابن عدي في "الكامل"، وابن حبان في "الضعفاء"، والدارقطني في "العلل"، و"غرائب مالك"، عن ابن عمر مرفوعاً).
وقال الذهبي في"ميزان الاعتدال"(4/265):(بل هو موضوع).
5ــ"من زار قبري ــ أو قال: من زارني ــ كنت له شفيعاً أو شهيداً، ومن مات بأحد الحرمين بعثه الله من الآمنين يوم القيامة".
أخرجه أبو داود الطيالسي في"مسنده" (رقم65) عن عمر بن الخطاب.
وفيه مجهول، وسنده كما يلي:
قال أبو داود: حدثنا سوار بن ميمون أبو الجراح العبدي، قال: حدثني رجل من آل عمر، عن عمر، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول ... الحديث.(3/19)
6ــ "من زارني بعد موتي فكأنما زارني في حياتي، ومن مات بأحد الحرمين بعث من الآمنين يوم القيامة".
أخرجه الدارقطني في"سننه"(2/278)، وابن عساكر، والبيهقي في"شعب الإيمان"
(2/278)، من طريق هارون أبي قزعة عن رجل من آل حاطب عن حاطب.
وفيه هارون أبو قزعة أو ابن أبي قزعة:
قال البخاري: لا يتابع على هذا الحديث(1).
وشيخ أبي قزعة أيضاً مجهول.
وقد ذكر الذهبي في"ميزان الاعتدال" (4/285) حديث حاطب هذا، وحديث عمر الذي قبله من منكرات هارون بن أبي قزعة.
7ــ "من زارني وزار أبي إبراهيم في عام واحد دخل الجنة".
قال النووي في"المجموع شرح المهذب"(8/261):(حديث موضوع، لا أصل له، ولم يروه أحد من أهل العلم بالحديث).
8 ــ"من جاءني زائراً لم تنزعه حاجة إلا زيارتي كان حقاً عليَّ أن أكون له شفيعاً يوم القيامة".
أخرجه ابن النجار في "الدرة الثمينة في تاريخ المدينة" (ص143) من طريق مسلمة بن سالم عن عبد الله بن عمر عن نافع عن سالم عن أبيه مرفوعا، والدارقطني في "الأفراد والغرائب" كما في أطرافه (3/376).
وفيه مسلمة بن سالم:
قال الذهبي في"ديوان الضعفاء"(ص385):(فيه تجهم).
وقال ابن عبد الهادي في"الصارم المنكي"(ص36): مجهول الحال لم يعرف بنقل العلم،
ولا يحل الاحتجاج بخبره، وهو شبيه موسى بن هلال العبدي المتقدم.
9ــ "من لم يزر قبري فقد جفاني".
رواه ابن النجار في "الدرة الثمينة في تاريخ المدينة" (ص144) بلا سند بصيغة التمريض، ولفظه:(ورُوي عن علي قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:... الحديث).
قال ابن عبد الهادي في"الصارم المنكي"(ص151): هذا الحديث من الموضوعات المكذوبة على علي بن أبي طالب.
قلت: وفي سنده النعمان بن شبل الباهلي، كان متهماً.
وقال ابن حبان في"المجروحين" (3/73) : يأتي بالطامات.
وذكره الذهبي في"الميزان" (4/65).
__________
(1) انظر:"الضعفاء" للعقيلي (4/363)،"الكامل" لابن عدي (7/2577).(3/20)
وفي سنده أيضاً: محمد بن الفضل بن عطية المديني، كذاب مشهور بالكذب، ووضع
الحديث.
قال الذهبي في"الميزان"(4/6): قال أحمد: حديثه حديث أهل الكذب(1).
وقال ابن معين: الفضل بن عطية ثقة، وابنه محمد كذاب(2).
وقال الذهبي في"ميزان الاعتدال"(4/7): مناكير هذا الرجل كثيرة، لأنه صاحب حديث.
وقال أيضاً في"ميزان الاعتدال" (4/6): قال الفلاس: كذاب.
وقال البخاري: سكتوا عنه، رماه ابن أبي شيبة بالكذب. (3)
وقد رُوي هذا الحديث عن علي مرفوعاً بسند فيه عبد الملك بن هارون بن عنترة،
وهو متهم بالكذب، ووضع الحديث(4).
قال يحيى:كذاب(5).
وقال أبو حاتم في"الجرح والتعديل"(5/374): متروك ذاهب الحديث.
وقال السعدي: كذاب(6).
وقال الذهبي في"ميزان الاعتدال"(2/667): واتهم بوضع حديث:"من صام يوماً من أيام البيض عُدِل عشرة آلاف سنة".
ولهذا الكذاب ــ أعني عبد الملك بن هارون ــ له بلايا كثيرة تراجع في"الميزان"للذهبي
(2/666ــ667).
10ــ "من أتى زائراً لي وجبت له شفاعتي..." الحديث.
أخرجه يحيى الحسيني عن بكير بن عبد الله مرفوعاً.
وقال ابن عبد الهادي في"الصارم المنكي"(ص153):(هذا حديث باطل، لا أصل له، مع أنه ليس فيه دليل على محل النزاع، وهو السفر إلى القبر).
11ــ "من لم تمكنه زيارتي فليزر قبر إبراهيم الخليل".
قال ابن عبد الهادي في"الصارم المنكي"(ص53):(هذا من الأحاديث المكذوبة والأخبار الموضوعة، وأدنى من يعدّ من طلبة العلم يعلم أنه حديث موضوع، وخبر مفتعل مصنوع، وإن ذكر مثل هذا الكذب من غير بيان لحاله لقبيح بمن ينتسب إلى العلم).
12ــ "من حج حجة الإسلام، وزار قبري، وغزا غزوة، وصلى عليَّ في بيت المقدس
__________
(1) انظر"العلل"(2/549).
(2) انظر:"الجرح والتعديل"(8/75).
(3) 10) انظر:"التاريخ الكبير" (1/208)،"ميزان الاعتدال" (4/6).
(4) 11) انظر:"الصارم المنكي" (ص151ــ152).
(5) 12) "تاريخ الدوري" (2/376).
(6) 13) انظر:"ميزان الاعتدال" (2/666).(3/21)
لم يسأله الله فيما افترض عليه"(1).
رواه أبو الفتح الأزدي في الجزء الثاني من فوائده بسنده إلى أبي سهل بدر بن عبد الله المصيصي عن الحسن بن عثمان الزيادي.
قال الذهبي في"ميزان الاعتدال"(1/300): حديث بدر عن الحسن بن عثمان الزيادي باطل ــ يعني هذا الحديث ــ، وقد رواه عنه النعمان بن هارون.
هذا مع أن أبا الفتح الأزدي ضعيف.
وقال ابن الجوزي في"الضعفاء"(2/53):كان حافظاً ولكن في حديثه مناكير، وكانوا يضعفونه.
وقال الخطيب في"تاريخ بغداد"(2/244): متهم بوضع الحديث.
ضعفه البرقاني، وأهل الموصل لا يعدونه شيئا(2)ً.
13ــ"من زارني حتى ينتهي إلى قبري كنت له يوم القيامة شهيداً أو قال شفيعا".
أخرجه العقيلي في"الضعفاء"(3/457) عن ابن عباس مرفوعاً، ومن طريقه أخرجه ابن عساكر.
هذا حديث موضوع على ابن جريج.
قال ابن عبد الهادي في"الصارم المنكي"(ص150):(قد وقع تصحيف في متنه وإسناده، أما التصحيف في متنه فقوله:"من زارني"، من الزيارة، وإنما هو"من رآني في المنام كان كمن رآني في حياتي"، هكذا في كتاب العقيلي في نسخة ابن عساكر "من رآني"، من الرؤيا،
فعلى هذا يكون معناه صحيحاً لقوله - صلى الله عليه وسلم -: { من رآني في المنام فقد رآني، لأن الشيطان
لا يتمثل بي } .
وأما التصحيف في سنده فقوله:(سعيد بن محمد الحضرمي)، والصواب (شعيب بن محمد)، كما في رواية ابن عساكر.
فعلى كل حال فهذا الحديث ليس بثابت، سواء كان بلفظ الزيارة أو الرؤيا، لأن راويه فضالة بن سعيد ابن زميل المزني شيخ مجهول، لا يعرف له ذكر إلا في هذا الخبر الذي تفرد به، ولم يتابع عليه).
وقال الذهبي:(قال العقيلي: حديثه غير محفوظ، حدثناه سعيد بن محمد الحضرمي، حدثنا فضالة، حدثنا محمد بن يحيى، عن ابن جريج، عن عطاء عن ابن عباس مرفوعا:"من زارني في مماتي كان كمن زارني في حياتي".
__________
(1) 14) انظر:"الصارم المنكي" (ص139ــ141).
(2) 15) انظر:"ميزان الاعتدال" (3/523).(3/22)
وقال الذهبي في"ميزان الاعتدال"(3/348ــ349): هذا موضوع على ابن جريج.
14ــ "ما من أحد من أمتي له سعة ثم لم يزرني فليس له عذر".
أخرجه ابن النجار في"الدرة الثمينة في تاريخ المدينة"(ص143ــ 144) عن أنس.
وفيه سمعان بن المهدي:
قال الذهبي في"ميزان الاعتدال"(2/234): سمعان بن المهدي عن أنس بن مالك لا يعرف، الصقت به نسخة مكذوبة رأيتها قبّح الله من وضعها.
قال ابن حجر في"لسان الاعتدال"(3/114): وهذه النسخة من رواية محمد بن المقاتل الرازي، عن جعفر بن هارون الواسطي، عن سمعان، فذكر النسخة، وهي أكثر من ثلاث مائة حديث. اهـ.
قلت ــ القائل هو الشيخ حماد الأنصاري ــ : هذه أربعة عشر حديثاً يستدل بها القائلون على جواز شدّ الرحل إلى القبر، وهذا جملة ما احتج به من أجاز شدّ الرحل إلى زيارة القبر الشريف بمجرده.
فقد تبين لك أن جميع هذه الأخبار ليس فيها حديث صحيح، ولا حسن، بل كلها ضعيفة جداً، أو موضوعة لا أصل لها كما تقدم لك عن أئمة هذا الشأن مفصلاً، فلا تغتر بكثرة طرقها وتعددها، فكم من حديث له طرق أضعاف هذه الطرق التي سردناها عليك، ومع ذلك فهو موضوع عند أهل الباب، لأن الكثرة لا تفيد إذا كان مدارها على الكذابين،
أو المتهمين، أو المتروكين، أو المجهولين كما سمعت في هذه الأحاديث، فإنها لا تخلو من كذاب،
أو متهم، أو متروك، أو مجهول لا يعرف أبداً، ومثل هذا لا يصلح للتقوية كما هو معلوم عند أهل هذا الفن، هذا إذا لم يكن من الصحيح ما يُبطلها، فكيف وهو موجود ومعلوم في الصحيح كما تقدم مِنْ منع شدّ الرحل إلى غير المساجد الثلاثة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في "اقتضاء الصراط المستقيم في مخالفة أصحاب الجحيم"(3/23)
(2/772ــ773):(لم يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حديث واحد في زيارة قبر مخصوص، ولا روى أحد في ذلك شيئاً لا أهل الصحيح ولا السنن ولا الأئمة المصنفون في المسند كالإمام أحمد وغيره، وإنما روى ذلك من جمع الموضوع وغيره، وأجل حديث روي في ذلك حديث رواه الدارقطني وهو ضعيف باتفاق أهل العلم بالأحاديث المروية في زيارة قبره - صلى الله عليه وسلم - كقوله:"من زارني وزار أبي إبراهيم الخليل في عام واحد ضمنت له على الله الجنة"، و"من زارني بعد مماتي فكأنما زارني في حياتي"، و"من لم يحج ولم يزرني فقد جفاني"، ونحو هذه الأحاديث مكذوبة موضوعة).
قلت ــ مازال الكلام للشيخ حماد الأنصاري ــ: هذا هو الصواب الذي يجب أن يدان الله به، ومن كان عنده حديث صحيح في هذا الموضوع ــ أعني في جواز شدّ الرحل إلى قبر مخصوص ــ فعليه البيان.
وأما هذه الأحاديث فهي كما قدمت إما أحاديث موضوعة مكذوبة، وإما أحاديث ليست في شدّ الرحل بل هي في الزيارة المشروعة المجمع عليها.
وفي هذه الزيارة نصوص صحيحة صريحة تغني عن هذه البواطل، التي لا يصح الاحتجاج بها في ثبوت حكم من الأحكام الشرعية كائنا ما كان، بل ولا تجوز روايتها إلا مع بيان أنها موضوعة أو ضعيفة لا تصلح للاحتجاج بها لئلا يدخل في قوله - صلى الله عليه وسلم -: { من حدّث عني بحديث يُرى انه كذب فهو أحد الكاذبين } عند مسلم وغيره عن المغيرة بن شعبة، وسمرة بن جندب مرفوعا بألفاظ متعددة. انتهى كلام الشيخ حماد الأنصاري رحمه الله.
* المبحث الرابع:
هل انفرد شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله بقوله بتحريم شد الرحال لزيارة قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - وقبور الصالحين؟!:(3/24)
واعلم أن هذا القول، أعني تحريم شد الرحال إلى القبور، مع كونه هو مذهب السلف، وهو الذي تقتضيه أدلة الشرع، التي منها ما هو صريح أو كالصريح في الدلالة على المراد، كحديث: { لا تشد الرحال } ، ومنها ما يتضمنه ويستلزمه، كحديث: { لا تتخذوا قبري عيداً } وأحاديث النهي عن اتخاذ القبور مساجد، إلا أن بعض المتأخرين نسبوه إلى ابن تيمية وحده وجعلوه من أفراده، وأمتحن رحمه الله بسبب ذلك من قبل بعض القضاة في عصره، فحكموا بمنعه من الفتيا وبحبسه، والقصة مشهورة معلومة، مع أنه قد سبقه إلى القول بذلك جمهور السلف وطائفة من الخلف، كالقاضي عياض، وهو من أئمة المالكية، وأبي محمد الجويني من أئمة الشافعية، وابن عقيل وهو من مشاهير علماء الحنابلة، وكلهم سابقون لابن تيمية وقد قالوا بتحريم شد الرحال إلى القبور، والذين حكوا أقوالهم وذكروا الخلاف في المسألة كابن قدامة المقدسي والنووي سابقون له أيضاً، فكيف يدعي بعد ذلك انفراده بهذا القول ويشنع عليه ذلك التشنيع؟!
وقد انتصر لهذا القول جمهرة من أهل العلم في عصر شيخ الإسلام وبعده:
فمنهم ابن الكتبي الشافعي ومحمد بن عبد الرحمن البغدادي المالكي وابن البتي الحنبلي
وأبو عمرو بن أبي الوليد المالكي، وهؤلاء كانوا معاصرين لشيخ الإسلام، ولما سجن بسبب
فتواه في شد الرحال، كتبوا مؤيدين له فيما ذهب إليه(1).
ومنهم الأئمة الأعلام: ابن القيم، وابن عبد الهادي، وابن كثير، وهم معاصرون لشيخ الإسلام وتلامذة له.
__________
(1) 16) انظر"مجموع الفتاوى" (27/194ــ206).(3/25)
ومن المتأخرين: صديق حسن خان القنوجي، والمباركفوري شارح الترمذي، وشمس الحق الآبادي صاحب"عون المعبود"، والشيخ عبد العزيز الدهلوي، والشيخ ولي الله صاحب كتاب"حجة الله البالغة"، والشنقيطي صاحب"أضواء البيان"، وعلامة الشام جمال الدين القاسمي، ورشيد رضا، ومحب الدين الخطيب، وأحمد شاكر، والمعلمي اليماني، ومحمد عبدالرزاق حمزة، والألباني، وابن باز، وابن عثيمين...وغيرهم ممن لا يحصيهم عدد من مشاهير علماء الأمصار.
وليس المقصود من ذكر هؤلاء الاحتجاج بأقوالهم ومذاهبهم، وإنما الغرض الرد على من زعم انفراد ابن تيمية بهذا المذهب.
علما بأن ابن تيمية رحمه الله لم يقل بتحريم زيارة القبور أو زيارة قبره - صلى الله عليه وسلم -، وإنما قال بتحريم شد الرحال إلى ذلك أو يقترن بالزيارة شيء من المخالفات والبدع.
وإليك النقول التالية التي تبين هذا الأمر:
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في"الجواب الباهر"(25ــ26):(قد ذكرت فيما كتبته من المناسك أن السفر إلى مسجده وزيارة قبره ــ كما يذكر أئمة المسلمين في مناسك الحج ــ عمل صالح مستحب، وقد ذكرت في عدة مناسك الحج السنة في ذلك وكيف يسلم عليه - صلى الله عليه وسلم - والصلاة تقصر في هذا السفر المستحب باتفاق أئمة المسلمين، لم يقل أحد من أئمة المسلمين أن هذا السفر لا تقصر فيه الصلاة، ولا نهى أحد عن السفر إلى مسجده، وإن كان المسافر إلى مسجده يزور قبره - صلى الله عليه وسلم -، بل هذا من أفضل الأعمال الصالحة، ولا في شيء من كلامي وكلام غيري نهي عن ذلك، ولا نهي عن المشروع في زيارة قبور الأنبياء والصالحين ولا عن المشروع في زيارة سائر القبور، بل قد ذكرت في غير موضع استحباب زيارة القبور كما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يزور أهل البقيع وشهداء أحد رضي الله عنهم، وإذا كانت زيارة قبور عموم المؤمنين مشروعة فزيارة قبور الأنبياء والصالحين أولى).(3/26)
وقال أيضاً في كتابه"الرد على الأخنائي"(ص16ــ17):(قال المعترض ــ الأخنائي ــ:"أما بعد فإن العبد لما وقف على الكلام المنسوب لابن تيمية المنقول عن نسخة فتياه ظهر لي ــ من صريح ذلك القول وفحواه ــ مقصده السيئ ومغزاه، وهو تحريم زيارة قبور الأنبياء وسائر القبور والسفر إليها ودعواه أن ذلك معصية محرمة مجمع عليها".
فيقال: هذا الكلام مع قلته فيه من الكذب الباطل والافتراء ما يُلْحِقُ صاحبه بالكذابين المردودي الشهادة، أو الجهال البالغين في نقض الفهم والبلادة.
وكان ينبغي له أن يحكي لفظ المجيب بعينه ويبين ما فيه من الفساد وإن ذَكَرَ معناه فليسلك سبيل الهدى والسداد.
فأما أن يذكر عنه ما ليس فيه ولا يذكر ما فيه فهذا خروج عن الصدق والعدل إلى الكذب والظلم.
وذلك أن الجواب ليس فيه تحريم زيارة القبور ألبتة، لا قبور الأنبياء والصالحين، ولا غيرهم،
ولا كان السؤال عن هذا وإنما فيه الجواب عن السفر إلى القبور وذَكْرِ قولي العلماء في ذلك.
والمجيب ــ يقصد ابن تيمية نفسه ــ قد عُرِفَتْ كتبه وفتاويه مشحونة باستحباب زيارة القبور وفي جميع مناسكه يذكر استحباب زيارة قبور أهل البقيع وشهداء أحد ويذكر زيارة قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا دخل مسجده والأدب في ذلك وما قاله العلماء، وفي نفس الجواب قد ذكر ذلك ولم يذكر قط أن زيارة القبور معصية ولا حكاه عن أحد بل كان يعتقد حين كتب هذا الجواب أن زيارة القبور مستحبة بالإجماع ثم رأى بعد ذلك نزاعاً هو نزاع مرجوح والصحيح أنها مستحبة...) إلى آخر كلامه رحمه الله.(3/27)
وقال الإمام ابن عبد الهادي في"الصارم المنكي في الرد على السبكي"(ص24):(وليعلم قبل الشروع في الكلام مع هذا المعترض أن شيخ الإسلام رحمه الله لم يحرم زيارة القبور على الوجه المشروع في شيء من كتبه ولم ينه عنها ولم يكرهها بل استحسنها وحض عليها، ومناسكه ومصنفاته طافحة بذكر استحباب زيارة قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - وسائر القبور).
ونقل الإمام ابن كثير في"البداية والنهاية"(14/124) عن البرزالي أنه قال:(دخل القاضي جمال الدين بن جملة وناصر الدين مشد الأوقاف، وسألاه ــ يعني ابن تيمية ــ عن مضمون
قوله في مسألة الزيارة، فكتب ذلك في درج وكتب تحته قاضي الشافعية بدمشق: قابلت الجواب عن هذا السؤال المكتوب على خط ابن تيمية إلى أن قال:(وإنما المَحَزَ جعله زيارة قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - وقبور الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم معصية بالإجماع مقطوعاً بها)، فانظر الآن هذا التحريف على شيخ الإسلام، فإن جوابه على هذه المسألة ليس فيه منع زيارة قبور الأنبياء والصالحين، وإنما ذكر قولين في شد الرحل والسفر إلى مجرد زيارة القبور، وزيارة القبور
من غير شد رحل إليها مسألة، وشد الرحل لمجرد الزيارة مسألة أخرى، والشيخ ــ أي ابن
تيمية ــ لم يمنع الزيارة الخالية من شد رحل بل يستحبها ويندب إليها وكتبه ومناسكه تشهد بذلك. ولم يتعرض إلى هذه الزيارة في هذا الوجه في الفتيا أي التي بحث فيها في شد الرحل لزيارة القبور، ولا قال أنها معصية، ولا حكى الإجماع على المنع منها ولا هو جاهل قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: { زوروا القبور فإنها تذكركم الآخرة } والله سبحانه لا يخفى عليه شيء ولا تخفى عليه خافية: { وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ } ) اهـ.(3/28)
وقال ابن عابدين رحمه الله في"رد المحتار"(4/53):(وما نُسب إلى الحافظ ابن تيمية الحنبلي من أنه يقول بالنهي عنها، فقد قال بعض العلماء: إنه لا أصل له، وإنما يقول بالنهي عن شد الرحال إلى غير المساجد الثلاثة، أما نفس الزيارة فلا يخالف فيها كزيارة سائر القبور).
وقال الشيخ الألباني رحمه الله في "السلسلة الضعيفة"(1/46):(يظن كثير من الناس أن شيخ الإسلام ابن تيمية ومن نحى نحوه من السلفيين يمنع زيارة قبره - صلى الله عليه وسلم -، وهذا كذب وافتراء وليست أول فرية على ابن تيمية رحمه الله تعالى، وكل من له اطلاع في كتب ابن تيمية يعلم أنه يقول بمشروعية زيارة قبره - صلى الله عليه وسلم - واستحبابها إذا لم يقترن بها شيء من المخالفات والبدع، مثل شد الرحل والسفر إليها لعموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: { لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد } والمستثنى منه ليس هو المساجد فقط كما يظن كثيرون بل هو كل مكان يقصد للتقرب إلى الله فيه سواء كان مسجداً أو قبراً أو غير ذلك، بدليل ما رواه أبو هريرة قال ــ في حديث له ــ: (فلقيت بصرة بن أبي بصرة الغفاري فقال: من أين أقبلت؟ فقلت: من الطور، فقال:
لو أدركتك قبل أن تخرج إليه ما خرجت! سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: { لا تعمل المطي
إلا إلى ثلاثة مساجد } الحديث أخرجه أحمد وغيره بسند صحيح.
فهذا دليل على أن الصحابة فهموا الحديث على عمومه، ويؤيده أنه لم ينقل عن أحد منهم أنه شد الرحل لزيارة قبر ما، فهم سلف ابن تيمية في هذه المسألة، فمن طعن فيه فإنما يطعن في السلف الصالح رضي الله عنهم).
* المبحث الخامس:
بيان من الذي انفرد حقيقة عن أقوال سائر الأمة وخالف مذاهب كل الأئمة في مسالة شد الرحال لزيارة قبور الأنبياء والصالحين؟!(3/29)
الذي انفرد حقيقة عن أقوال سائر الأمة وخالف مذاهب كل الأئمة هم هؤلاء المخالفون، السبكي القائل: (إنه لو ثبت خلاف في زيارة غير النبي - صلى الله عليه وسلم -، لم يلزم من ذلك إثبات خلاف في زيارته، لأن زيارة القبر تعظيم، وتعظيم النبي - صلى الله عليه وسلم - واجب، وأما غيره فليس كذلك).
ومحمد بن علوي المالكي القائل في"شفاء الفؤاد في زيارة قبر خير العباد"(ص7):(اتفقت جميع الأدلة الشرعية من الكتاب والسنة والإجماع والقياس على استحباب زيارة سيد المرسلين - صلى الله عليه وسلم - من قرب ومن بعد ...الخ).
وقد صرح النووي وابن حجر العسقلاني وابن قدامة المقدسي رحمهم الله بوجود الخلاف في مسألة شد الرحل إلى القبور كما سبق معنا، وهم من العلم والفقه والمعرفة بمكان،
ولم يحكوا في المسألة سوى قولين: التحريم، والجواز، ولم يذكروا الاستحباب أو الوجوب أصلاً، فضلاً عن دعوى الإجماع عليه.
وبهذا يتضح من الذي انفرد حقيقة عن أقوال سائر الأمة وخالف مذاهب كل الأئمة في مسالة شد الرحال لزيارة قبور الأنبياء والصالحين.
هذا ما وفقني الله لجمعه والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمداً وعلى آله وصحبه أجمعين.(3/30)
أقوال علماء السنة في قصيدة البردة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه وبعد :
1- كلام الإمام محمد بن عبدالوهاب - رحمه الله - :
قال الإمام محمد بن عبدالوهاب : " في تفسير سورة الفاتحة " :
وأما الملك فيأتي الكلام عليه ، وذلك أن قوله: ( مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ) وفي القراءة الأخرى ( مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ ) فمعناه عند جميع المفسرين كلهم ما فسره الله به في قوله ك ( وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ {17} ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ {18} يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِّنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ {19} )[ سورة الانفطار الآيات: 17/19].
فمن عرف تفسير هذه الآية ، وعرف تخصيص الملك بذلك اليوم ، مع أنه سبحانه مالك كل شيء ذلك اليوم وغيره، عرف أن التخصيص لهذه المسألة الكبيرة العظيمة التي بسبب معرفتها دخل الجنة من دخلها ، وسبب الجهل بها دخل النار من دخلها، فيالها من مسألة لو رحل الرجل فيها أكثر من عشرين سنة لم يوفها حقها، فأين هذا المعني والإيمان بما صرح به القرآن ، مع قوله صلى الله عليه وسلم : (( يا فاطمة بنت محمد لا أغني عنك من الله شيئاُ )) [ أخرجه البخاري في صحيحة: كتاب الوصايا، باب هل يدخل النساء والولد في الأقارب رقم: 2753 ، والنسائي في سننه: كتاب الوصايا إذا أوصى لعشيرته الأقربين (6/ 248-250) رقم : 3644، 3646، 3647، من حديث أبي هريرة.
من قول صاحب البردة:
ولن يضيق رسول الله جاهك بي ***** اذا الكريم تحلي بأسم منتقم
فإن لي ذمة منه بتسميتي ***** محمداً وهو أوفى الخلق بالذمم
إن لم تكن في معادي آخذاً بيدي ***** فضلاً وإلا فقل يازلة القدم
فليتأمل من نصح نفسه هذه الأبيات ومعناها ، ومن فتن بها من العباد، وممن يدعى أنه من العلماء واختاروا تلاوتها على تلاوة القرآن .(4/1)
هل يجتمع في قلب عبد التصديق بهذه الأبيات والتصديق بقوله: ( يوم لا تملك نفس لنفس شيئا والأمر يومئذ لله) وقوله: : (( يا فاطمة بنت محمد لا أغني عنك من الله شيئاُ )) لا والله ، لا والله لا والله إلا كما يجتمع في قلبه أن موسى صادق ، وأن فرعون صادق ، وأن محمداً صادق على الحق ، وأن أبا جهل صادق على الحق . لا والله ما استويا ولن يتلاقيا حتى تشيب مفارق الغربان.
فمن عرف هذه المسألة وعرف البردة ، ومن فتن بها عرف غربة الإسلام وعرف أن العدل واستحلال دمائنا وأموالنا ونسائنا، ليس عن التكفير والقتال ، بل هم الذين بدءونا بالتكفير وعند قوله: ( فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً ) [سورة الجن الآية : 18].وعند قوله: (أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ ) [سورة الإسراء: الآية : 57]. وقوله: ( لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَيْءٍ) [سورة الرعد الآية: 14].
فهذا بعض المعاني في قوله : ( مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ) بإجماع المفسرين كلهم ،وقد فسرها الله سبحانه في سورة ( إِذَا السَّمَاء انفَطَرَتْ ) [ الانفطار : 1] كما قدمت لك.
( تفسير سورة الفاتحة من مؤلفات الإمام محمد بن عبدالوهاب ص 13 المجلد الخامس )
-------------------------------------------------
2- كلام العلامة المجدد عبدالرحمن بن حسن - رحمه الله - :
قال العلامة المجدد عبدالرحمن بن حسن :
وقد ذكر شيخ الإسلام ، عن بعض أهل زمانه : أنه جوّز الاستغاثة بالرسول صلى الله عليه وسلم في كل ما يستغاث فيه بالله . وصنف في ذلك مصنفاً ، رده شيخ الإسلام ، ورده موجود بحمد الله .
ويقول : إنه يعلم مفاتيح الغيب ، التي لا يعلمها إلا الله . وذكر عنهم أشياء من هذا النمط . نعوذ بالله من عمى البصيرة .
وقد اشتهر في نظم البوصيري ، قوله :(4/2)
يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به ***** سواك عند حلول الحادث العمم !َ!
وما بعده في الأبيات ، التي مضمونها : إخلاص الدعاء ، واللياذ والرجاء والاعتماد في أضيق الحالات ، وأعظم الاضطرار لغير الله .
فناقضوا الرسول صلى الله عليه وسلم في ارتكاب ما نهى عنه أعظم مناقشة ، وشاقوا الله ورسوله أعظم مشاقة .
وذلك أن الشيطان أظهر لهم هذا الشرك العظيم ، في قالب محبة النبي صلى الله عليه وسلم وتعظيمه . وأظهر لهم التوحيد والإخلاص ، الذي بعثه الله به في قالب تنقصه .
وهؤلاء المشركون هم المتنقصون الناقصون ، أفرطوا فى تعظيمه بمانهاهم عنه أشد النهي ، وفرطوا في متابعته . فلم يعبؤوا بأقواله وأفعاله ، ولارضوا بحكمه ولاسلموا له ، وأنما يحصل تعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم بتعظيم أمره ونهيه .
وهؤلاء المشركون عكسوا الأمر . فخالفوا ما بلَّغ به الأمة ، وأخبر به عن نفسه صلى الله عليه وسلم .
فعاملوه بما نهاهم عنه من الشرك بالله ، والتعلق على غير الله ، حتى قال قائلهم :
يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به ***** سواك عند حلول الحادث العمم
إن لم تكن في معادي آخذاً بيدي ***** فضلاً وإلا فقل : يا زلة القد
فإن من جودك الدنيا وضرتها ***** ومن علومك علم اللوح والقلم
فانظر إلى هذا الجهل العظيم ، حيث اعتقد أنه لا نجاة له إلا بعياذه ولياذه بغير الله .
وانظر إلى هذا الإطراء العظيم ، الذي تجاوز الحد في الإطراء ، الذي نهى عنه صلى الله عليه وسلم بقوله " لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم ، إنما أنا عبدٌ ، فقولوا عبدالله ورسوله " رواه مالك وغيره . وقد قال تعالى : ( قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكن إني ملك ) [ الأنعام : 50 ] .(4/3)
فانظر إلى هذه المعارضة العظيمة للكتاب والسنة ، والمحادة لله ورسوله . وهذا الذي يقوله هذا الشاعر هو الذي في نفوس كثير ، خصوصاً ممن يدعي العلم والمعرفة ، ورأوا قراءة هذه المنظومة ونحوها لذلك وتعظيمها من القربات ، فإنا لله وإنا إليه راجعون .
فتح المجيد لشرح كتاب التوحيد .
باب ماجاء أن سبب كفر بنى آدم وتركهم دينهم هو الغلو (1/381) .
باب قول الله تعالى ( فلا تجعلوا لله أنداداً وأنتم تعلمون ) ( 2/693).
-------------------------------------------------
3- كلام العلامة ـالمحدث ـ سليمان بن عبدالله - رحمه الله -:
قال : العلامة المحدث سليمان بن عبدالله في كتاب تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب التوحيد :
ومن بعض أشعار المادحين لسيد المرسلين صلى الله عليه وسلم قول البوصيري :
يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به ***** سواك عند حلول الحادث العمم
ولن يضيق رسول الله جاهك بي ***** إذا الكريم تجلى باسم منتقم
فإن لي ذمة منه بتسميتي ***** محمداً وهو أوفى الخلق بالذمم
إن لم يكن في معادي آخذاً بيدي ***** فضلاً وإلا فقل يا زلة القدم
فتأمل ما في هذه الأبيات من الشرك .
منها : أنه نفى أن يكون له ملاذٌ إذا حلت به الحوادث ، إلا النبي صلى الله عليه وسلم ، وليس ذلك إلا لله وحده لا شريك له ، فهو الذي ليس للعباد ملاذ إلا هو .
الثاني : أنه دعاه وناداه بالتضرع وإظهار الفاقة والاضطرار إليه ، وسأل منه هذه المطالب التي لا تطلب إلا من الله ، وذلك هو الشرك في الإلهية .
الثالث : سؤاله منه أن يشفع له في قوله :
ولن يضيق رسول الله ... البيت ...
وهذا هو الذي أراده المشركون ممن عبدوه ، وهو الجاه والشفاعة عند الله ، وذلك هو الشرك ، وأيضاً فإن الشفاعة لا تكون إلا بعد إذن الله فلا معنى لطلبها من غيره ، فإن الله تعالى هو الذي يأذن للشافع أن يشفع لا أن الشافع يشفع ابتداء .
الرابع : قوله : فإن لي ذمة ... إلى آخره .(4/4)
كذب على الله وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم ، فليس بينه وبين من اسمه محمد ذمة إلا بالطاعة ، لا بمجرد الاشتراك في الاسم مع الشرك .
تناقض عظيم وشرك ظاهر ، فإنه طلب أولاً أن لا يضيق به جاهه ، ثم طلب هنا أن يأخذ بيده فضلاً وإحساناً ، وإلا فيا هلاكه .
فيقال : كيف طلبت منه أولاً الشافعة ثم طلبت منه أن يتفضل عليك ، فإن كنت تقول : إن الشفاعة لا تكون إلا بعد إذن الله ، فكيف تدعو النبي صلى الله عليه وسلم وترجوه وتسأله الشفاعة ؟ فهلا سألتها من له الشفاعة جيمعاً ، الذي له ملك السموات والأرض ، الذي لا تكون الشفاعة إلا من بعد إذنه ، فهذا يبطل عليك طلب الشفاعة من غير الله .
وإن قلت : ما أريد إلا جاهه ، وشفاعته ، بإذن الله .
قيل : فكيف سألته أن يتفضل عليك ويأخذ بيدك في يوم الدين ، فهذا مضاد لقوله تعالى : ? وما أدراك ما يوم الدين ثم ما أدرك ما يوم الدين يوم لا تملك نفس لنفس شيئاً والأمر يومئذ لله ? [ الانفطار ] ، فكيف يجتمع في قلب عبد الإيمان بهذا وهذا .
وإن قلت : سألته أن يأخذ بيدي ، ويتفضل عليَّ بجاهه وشفاعته .
قيل : عاد الأمر إلى طلب الشفاعة من غير الله ، وذلك هو محض الشرك .(4/5)
السادس : في هذه الأبيات من التبري من الخالق - تعالى وتقدس - والاعتماد على المخلوق في حوادث الدنيا والآخرة ما لا يخفى على مؤمن ، فأين هذا من قوله تعالى : ? إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ? [ الفاتحة ] ، وقوله تعالى : ? فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ? [ التوبة :129] ، وقوله : ? وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً ? [ الفرقان:58 ] ، وقوله تعالى : ? قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا رَشَداً قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً إِلَّا بَلاغاً مِنَ اللَّهِ وَرِسَالاتِهِ ? . [ الجن :21-23 ] .
فإن قيل : هو لم يسأله أن يتفضل عليه ، وإنما أخبر أنه إن لم يدخل في عموم شفاعته فيا هلاكه . قيل : المراد بذلك سؤاله ، وطلب الفضل منه ، كما دعاه أول مرة وأخبر أنه لا ملاذ له سواه ، ثم صرح بسؤال الفضل والإحسان بصيغة الشرط والدعاء ، والسؤال كما يكون بصيغة الطلب يكون بصيغة الشرط ، كما قال نوح عليه السلام : ? وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ ? [ هود:47 ] .
ومنهم من يقول : نحن نعبد الله ورسوله ، فيجعلون الرسول معبودا .
قلت: وقال البوصيري :
فإن من جودك الدنيا وضرتها ***** ومن علومك علم اللوح والقلم(4/6)
فجعل الدنيا والآخرة من جوده ، وجزم بأنه يعلم ما في اللوح المحفوظ ، وهذا هو الذي حكاه شيخ الإسلام عن ذلك المدرس ، وكل ذلك كفر صريح . ومن العجب أن الشيطان أظهر لهم ذلك في صورة محبته عليه السلام وتعظيمه ومتابعته ، وهذا شأن اللعين لابد وأن يمزج الحق بالباطل ليروج على أشباه الأنعام اتباع كل ناعق، الذين لم يستضيئوا بنور العلم ، ولم يلجئوا إلى ركن وثيق ، لأن هذا ليس بتعظيم، فإن التعظيم محله القلب واللسان والجوارح وهم أبعد الناس منه ، فإن التعظيم بالقلب: ما يتبع اعتقاد كونه عبداً رسولاً ، من تقديم محبته على النفس والولد والوالد والناس أجمعين .
....... فكيف بمن يقول فيه ؟ !
فإن من جودك الدنيا وضرتها ***** ومن علومك علم اللوح والقلم
ويقول في همزيته :
هذه علتي وأنت طبيبُ ***** ليس يخفى عليك في القلب داء
وأشباه هذا من الكفر الصريح .
كناب تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب التوحيد ( ص 621 ).
-------------------------------------------------
4- كلام العلامة عبدالله بن عبدالرحمن أبابطين - رحمه الله - :
قال العلامة عبدالله بن عبدالرحمن أبابطين في كتابه الرد على البردة :
قوله :
يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به ***** سواك عند حلول الحادث العمم
إن لم تكن في معادي آخذاً بيدي ***** فضلاً وإلا فقل : يا زلة القدم
فإن من جودك الدنيا وضرتها ***** ومن علومك علم اللوح والقلم(4/7)
مقتضى هذه الأبيات إثبات علم الغيب للنبي صلى الله عليه وسلم وأن الدنيا والآخرة من جوده وتضمنت الاستغاثة به صلى الله عليه وسلم من أعظم الشدائد ورجاءه لكشفها وهو الأخذ بيده في الآخرة وإنقاذه من عذاب الله ، وهذه الأمور من خصائص الربوبية والألوهية التي ادعتها النصارى في المسيح عليه السلام وإن لم يقل هؤلاء إن محمداً هو الله أو ابن الله ولكن حصلت المشابهة للنصارى في الغلو الذي نهى عنه صلى الله عليه وسلم بقوله : " لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد فقولوا عبدالله ورسوله " والإطراء هو المبالغة في المدح حتى يؤول " الأمر إلى " أن يجعل المدح شيء من خصائص الربوبية والألوهية .
وهذه الألفاظ صريحة في الاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وسلم كقوله :
يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به ***** سواك عند حلول الحادث العمم
أي وإلا فأنا هالك والنبي صلى الله عليه وسلم يقول في دعائه : " لا ملجأ منك إلا إليك " .
وقوله :
إن لم تكن في معادي آخذاً بيدي ***** ومنقذي من عذاب الله والألم
أو شافعاً لي ...... إلخ . [ أي ] وإلا هلكت ، وأي لفظ في الاستغاثة أبلغ من هذه الألفاظ وعطف الشفاعة على ما قبلها بحرف أو في قوله : " أو شافعاً لي " صريح في مغايرة ما بعد أو لما قبلها وأن المراد مما قبلها طلب الإغاثة بالفعل والقوة . فإن لم يكن فبالشفاعة .
والناظم آل به المبالغة في الإطراء الذي نهى عنه الرسول صلى الله عليه وسلم إلى هذا الغلو والوقوع في هذه الزلقة العظيمة ونحو ذلك قوله في خطابه للنبي صلى الله عليه وسلم:
الأمان الأمان إن فؤادي ***** من ذنوب أتيتهن هراء
هذه علتي وأنت طبيبي ***** ليس يخفى عليك في القلب داء(4/8)
فطلب الأمان من النبي صلى الله عليه وسلم وشكا إليه علة قلبه ومرضه من الذنوب فتضمن كلامه سؤاله من النبي صلى الله عليه وسلم مغفرة ذنبه وصلاح قلبه ، ثم أنه صرّح بأنه لا يخفى عليه في القلب داء فهو يعلم ما احتوت عليه القلوب . وقد قال سبحانه : ? وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ [التوبة :101] وقال : ? وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ ? [الأنفال:60] وخفى عليه صلى الله عليه وسلم أمر الذين أنزل الله فيهم : ? وَلا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ ? [النساء:107] الآيات حتى جاء الوحي وخفى عليه صلى الله عليه وسلم أمر أهل الإفك حتى أنزل الله القرآن ببراءة أم المؤمنين رضي الله عنها وهذا في حياته فكيف بعد موته وهذا يقول : " وليس يخفى عليه في القلب داء " يعني أنه يعلم ما في القلوب والله سبحانه يقول : ? وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ? [آل عمران:154/ والتغابن:4] وقال النبي صلى الله عليه وسلم : " إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إليّ ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع فمن قضيت له بحق أخيه فلا يأخذه فإنما اقطع له قطعة من النار " .
كتاب الرد على البردة للعلامة عبدالله بن عبدالرحمن أبابطين ( ت / 1282 هـ ) ( ص 361 / 362 / 363 / 387 / 388 / ) )
--------------------------
كلام العلامة عبدالله بن عبدالرحمن أبابطين في البردة من كتابه كتاب تأسيس التقديس في كشف تلبيس داود بن جرجيس :
قال العلامة عبدالله بن عبدالرحمن أبابطين :(4/9)
قول الناظم : إن من جودك الدنيا وضرتها : أي من عطائك وإنعامك وإفضالك الدنيا والآخرة ، وهذا كلام لا يحتمل تأويله بغير ذلك ، ووازن بين قول الناظم من جودك الدنيا وضرتها وبين قوله تعالى : ? قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا رَشَداً ? [ الجن :21] وقوله: ? قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ? [ الأنعام : 50 ] .
قال ابن كثير : " قل لا أقول لكم عندي خزائم الله " أي خزائن رزقه فأعطيكم ما تريدون (ولا أعلم الغيب ) فأخبركم بما غاب مما مضى وما سيكون ( ولا أقول لكم إني ملك ) ؛ لأن الملك يقدر على ما لا يقدر عليه الآدمي ويشاهد ما لا يشاهده الآدمي .
وقوله تعالى : ? قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ?[ الأعراف:118] . ص / 25 .
--------------------------
وازن بين قول يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به سواك ، وبين قول الذي له النبي صلى الله عليه وسلم : " أجعلتني لله ندًّا حيث قال له ما شاء الله وشئت " . فهذا لو قال ما لي من ألوذ به إلا الله وأنت ، لكان أقبح من قول القائل ما شاء الله وشئت ؛ لأن الله أثبت للعبد مشيئة لقوله : ? لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ ? [التكوير:28] ? فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً ? [الإنسان:29] فكيف إذا أفرد الرسول باللياذ والالتجاء من عذاب ذلك اليوم لا تكلم فيه نفس إلا بإذنه ! . ص / 45
--------------------------
قول صاحب البردة :
إن لم تكن في معادي آخذاً بيدي ***** ومنقذي من عذاب الله والألم(4/10)
هو استغاثة بل من أبلغ ألفاظ الاستغاثة، كقول الأبوين ? رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ? [الأعراف: 23] . وقول نوح : ? وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ ? [هود:47] . وقول بني إسرائيل : ? لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ? [الأعراف:149] أترى أن الأبوين وجميع المذكورين يخبرون الله بأنه إن لم يغفر لهم ويرحمهم فهم خاسرون وأن هذا منهم مجرد إخبار ، بل كل أحد يعرف أن هؤلاء الذين أخبر الله عنهم بهذا الكلام يسألون الله ويرغبون إليه في أن يغفر لهم ويرحمهم ومعترفون بأنه إن لم يغفر لهم ويرحمهم فهم خاسرون .
وأما قول صاحب البردة وقول المشطِّر :
يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به ***** سواك عند حلول الحادث العمإن
إن لم تكن في معادي آخذاً بيدي**** ومنقذي من عذاب الله والألم
................................. ***** فضلاً وإلا فقل يا زلة القدم
أي وإن لم تأخذ بيدي وتنقذني من عذاب الله فقل يا زلة القدم . أي فأنا خاسر أو هالك ، فهو كقول الأبوين : ? وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ? [لأعراف:23] وقول نوح : ? وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ ? [هود:47] . ? لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ? [الأعراف:149] . ص / 58 / 59 .
-----------------
كتاب تأسيس التقديس في كشف تلبيس داود بن جرجيس . ص ( 25 / 45 / 58 / 59 )
للعلامة عبدالله بن عبدالرحمن أبابطين ـ رحمه الله ـ
-------------------------------------------------
5- كلام العلامة محمد بن على الشوكاني – رحمه الله - :(4/11)
فانظر رحمك الله تعالى ما وقع من كثير من هذه الأمة من الغلو المنهى عنه المخالف لما في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم كما يقوله صاحب البردة رحمه الله تعالى :
يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به ***** سواك عند حلول الحادث العمم
فانظر كيف نفى كل ملاذ ما عدا عبدالله ورسوله صلى الله عليه وسلم وغفل عن ذكر ربه ورب رسول الله صلى الله عليه وسلم إنا لله وإنا إليه راجعون .
وهذا باب واسع ، قد تلاعب الشيطان بجماعة من أهل الإسلام حتى ترقوا إلى خطاب غير الأنبياء بمثل هذا الخطاب ، ودخلوا من الشرك في أبواب بكثير من الأسباب .
ومن ذلك قول من يقول مخاطباً لابن عجيل :
هات لي منك يابن موسى إغاثة ***** عاجلاً في سيرها حثاثة
فهذا محض الاستغاثه التي لاتصلح لغير الله لميت من الأموات قد صار تحت أطباق الثرى من مئات السنين .
وقد وقع في البردة والهمزية شيء كثير من هذا الجنس ، ووقع أيضاً لمن تصدى لمدح نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ولمدح الصالحين والأئمة الهادين ما لا يأتي عليه الحصر ، ولا يتعلق بالاستكثار منه فائدةٌ فليس المراد إلا التنبيه والتحذير لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد ( وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين ) .
الدر النضيد في إخلاص كلمة التوحيد ( 59 / 60)
-------------------------------------------------
6- كلام العلامة محمد بن صالح بن عثيمين - رحمه الله - :
قال الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين رحمه الله في كتابه "القول المفيد على كتاب التوحيد " (1/218) :
وقد ضل من زعم أن لله شركاء كمن عبد الأصنام أوعيسى بن مريم عليه السلام ، وكذلك بعض الشعراء الذين جعلوا المخلوق بمنزلة الخالق ؛ كقول بعضهم يخاطب ممدوحاً له :
فكن كمن شئت يامن لاشبيه له ***** وكيف شئت فما خلق يدانيك
وكقول البوصيري في قصيدته في مدح الرسول صلى الله عليه وسلم :
يا أكرمَ الخلْقِ مالي مَن ألوذُ به ***** سواك عند حدوثِ الحادثِ العَمم(4/12)
إن لم تكن في معادي آخذاً بيدي ***** فضلاً وإلا فقل يازلة القدم
فإن مِن جودك الدنيا وضَرتها ***** ومن علومك علم اللوح والقلم
قال الشيخ ابن عثيمين حفظه الله: وهذا من أعظم الشرك لأنه جعل الدنيا والآخرة من جود الرسول صلى الله عليه وسلم، ومقتضاهُ أن الله جل ذكره ليس له فيهما شيء.
وقال :– أي البوصيري – " ومن علومك علم اللوح والقلم "، يعني : وليس ذلك كل علومك ؛ فما بقي لله علمٌ ولا تدبيرٌ ـ والعياذ بالله ـ . أ. هـ
القول المفيد على كتاب التوحيد (1/218).
-------------------------------------------------
7- كلام العلامة صالح بن فوزان الفوزان-حفظه الله- :
قال العلامة صالح بن فوزان الفوزان في كتابه إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد :
قوله تعالى ; ولا شفيعٌ ; أي : واسطة ، يتوسط له عند الله ، ما أحد يشفع له يوم القيامة إلا بإذن الله سبحانه وتعالى ، وبشرط أن يكون هذا الشخص ممن يرضى الله عنه ، هذه شفاعة منفيّة فبطل أمر هؤلاء الذين يتخذون الشفعاء ويظنون أنهم يخلصونهم يوم القيامة من عذاب الله كما يقول صاحب " البردة " :
يا أكرم الخلق ما لي من أولذ به ***** سواك عند حلول الحادث العمم
إن لم تكن في معادي آخذاً ***** بيدي فضلاً وإلا فقل يا زلّة القدم
هذا على اعتقاد المشركين أن الرسول يأخذ بيده ويخلصه من النار ، وهذا ليس بصحيح ، لا يخلصه من النار إلا الله سبحانه وتعالى إذا كان من أهل الإيمان .
إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد ( 1 / 241 )
-------------------------
عن أنس رضي الله عنه : أن أناساً قالوا يارسول الله ، ياخيرنا وابن خيرنا ، وسيدنا وابن سيدنا ، فقال (( يا أيها الناس قولوا بقولكم ، ولايستهوينكم الشيطان ، أنا محمد رسول ؛ عبد الله ورسوله ، ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله عز وجل )) رواه النسائي بسند جيد .
فهذان الحديثان يُستفاد منهما فوائد عظيمة :(4/13)
الفائدة الأولى : فيه التحذير من الغلوّ في حقِّه صلى الله عليه وسلم عن طريق المديح ، وأنّه صلى الله عليه وسلم إنّما يوصف بصفاتِه التي أعطاهُ الله إيَّاها : العبوديّة والرِّسالة ، أمّا أن يُغلي في حقَّه فيوصف بأنّه يفرِّج الكُروب ويغفر الذنوب ، وأنه يستغاث به - عليه الصلاة والسلام بعد وفاته ، كما وقع فيه كثيرٌ من المخرِّفين اليوم فيما يسمّونه بالمدائح النبوية في أشعارهم : " البردة " للبوصيري ، وما قيل على نسجها من المخرفين، فهذا غلو أوقع في الشرك، كما قال البوصيري :
يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به ***** سواك عند حلول الحادث العمم
إن لم تكن في معادي آخذاً بيدي ***** فضلاً وإلا فقل يا زلة القدم
فإن من جودك الدنيا وضرتها *****ومن علومك علم اللوح والقلم
فهذا غلوٌّ - والعياذ بالله - أفضى إلى الكفر والشِّرْك ، حتى لم يترُك لله شيئاً ، كلّ شيء جعله للرسول صلى الله غليه وسلم : الدنيا والآخرة للرسول ، علم اللوح والقلم للرسول ، لا ينقذ من العذاب يوم القيامة إلا الرسول ، إذاً ما بقي لله عز وجل ؟
وهذا من قصيدةٍ يتناقلونها ويحفظونها ويُنشدونها في الموالد .
وكذلك غيرُها من الأشعار ، كلّ هذا سببه الغلوّ في الرّسول صلى الله عليه وسلم .
وأمّا مدحُه صلى الله عليه وسلم بما وصفه الله به بأنّه عبدٌ ورسول ، وأنه أفضل الخلق ، فهذا لا بأس به ، كما جاء في أشعار الصحابة الذين مدحوه ، كشعر حسان بن ثابت ، وكعب بن زهير ، وكذلك كعب بن مالك ، وعبدالله بن رواحة ، فهذه أشعار نزيهة طيبة ، قد سمعها النبي صلى الله عليه وسلم وأقرها ، لأنها ليس فيها شيءٌ من الغلو ، وإنما فيها ذكر أوصافه صلى الله عليه وسلم .
إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد ( 2 / 312 )
-------------------------
ففي قوله : " عبدالله " ردٌّ على الغلاة في حقه صلى الله عليه وسلم .(4/14)
وفي قوله : " رسوله " ردٌ على المكذبين الذين يكذّبون برسالته صلى الله عليه وسلم ، والمؤمنون يقولون : هو عبدالله ورسوله .
هذا وجهه الجمع بين هذين اللفظين ، أن فيهما رداً على أهل الإفراط وأهل التفريط في حقه صلى الله عليه وسلم .
وفيه : ردٌ على الذين غلو في مدحه صلى الله عليه وسلم من أصحاب القصائد ، كقصيدة البُردة والهمزية وغيرهما من القصائد الشركية التي غلت في مدحه صلى الله عليه وسلم ، حتى قال البوصيري :
يا أكرم الخلق ما لي من أولذ به ***** سواك عند حلول الحادث العمم
فنسي الله سبحانه وتعالى .
ثم قال :
إن لم تكن في معادي آخذاً بيدي ***** فضلاً وإلا فقل يا زلة القدم
يعني : ما ينجيه من النار يوم القيامة إلاّ الرسول .
ثم قال :
فإن من جودك الدّنيا وضرّتها ***** ومن علومك علم اللّوح والقلم
الدنيا والآخرة كلها من وجود النبي صلى الله عليه وسلم ، أما الله فليس له فضل ، هل بعد هذا الغلو من غلو ؟؟ .
واللّوح المحفوظ والقلم الذي كتب الله به المقادير هذا بعض علم النبي صلى الله عليه وسلم ، ونسي الله تماماً - والعياذ بالله - .
وكذلك من نهج على نهج البردة ممن جاء بعده ، وحاكاه في هذا الغلو ، هذا كله من الغلو في مدح النبي صلى الله عليه وسلم ومن الإطراء .
أما المؤمنون فيمدحون الرسول صلى الله عليه وسلم بما فيه من الصفات الحميدة والرسالة والعبودية ، كما أرشد إلى ذلك النبي صلى الله عليه وسلم ، كما عليه شعراء الرسول صلى الله عليه وسلم الذين مدحوه وأقرّهم ، مثل : حسّان بن ثابت ، وكعب بن مالك ، وكعب بن زُهير ، وعبدالله بن رواحة ، وغيرهم من شعراء الرسول صلى الله عليه وسلم الذين مدحوه بصفاته صلى الله عليه وسلم ، وردوا على الكفّار والمشركين .
هذا هو المدح الصحيح المعتدل ، الذي فيه الأجر وفيه الخير ، وهو وصفه صلى الله عليه وسلم بصفاته الكريمة من غير زيادة ولا نُقصان .(4/15)
ومن الغلو في حقه صلى الله عليه وسلم : إحياء المولد كل سنة ، لأن النصارى يحيون المولد بالنسبة للمسيح على رأس كل سنة من تاريخهم ، فبعض المسلمين تشبه بالنصارى فأحدث المولد في الإسلام بعد مضي القرون المفضلة ، لأن المولد ليس له ذكر في القرون المفضلة كلها ، وإنما حدث بعد المائة الرابعة ، أو بعد المائة السادسة لما انقرض عهد القرون المفضلة ، فهو بدعة ، وهو من التشبه بالنصارى .
وتبين هنا ما يُستفاد من هذه الأحاديث باختصار :
المسألة الأولى : التحذير من الغلو في مدحه صلى الله عليه وسلم ، لأن ذلك يؤدي إلى الشرك ، كما أدى بالنصارى إلى الشرك .
المسألة الثانية : فيه الرد على أصحاب المدائح النبوية التي غلوا فيها في حقه صلى الله عليه وسلم ، كصاحب البردة ، وغيره .
المسألة الثالثة : فيه النهي عن التشبه بالنصارى ، لقوله : " كما أطرت النصارى ابن مريم ".
إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد ( 1 / 274 / 280 / 281 ) )
-------------------------
فإذا كان الرسول أنكر الاستغاثة به فيما يقدر عليه ، فكيف بالاستغاثة به فيما لا يقر عليه إلا الله سبحانه وتعالى ؟ ، وكيف بالاستغاثة بالأموات ؟ . هذا أشد إنكاراً.
وإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم منع من الاستغاثة الجائزة في حياته تأدُّباً مع الله ، فكيف بالاستغاثة به بعد وفاته ؟ ، وكيف بالاستغاثة بمن هو دونه من الناس ؟ . هذا أمر ممنوع ومحرّم . وهذا وجه استشهاد المصنّف رحمه الله بالحديث للترجمة .
إذاً فقول البوصيري :
يا أكرم الخلق ما لي من أولذ به *****سواك عند حلول الحادث العمم
إن لم تكن في معادي آخذاً ***** بيدي فضلاً وإلا قل يا زلّة القدم
فإن من جودك الدّنيا وضرّتها ***** ومن علومك علم اللّوح والقلم
أليس هذا من أكبر الشرك ؟
يقول : ماينقذ يوم القيامه إلا الرسول صلى الله عليه وسلم ، ولايخرج من النار إلا الرسول صلى الله عليه وسلم ، أين الله سبحانه وتعالى ؟ .(4/16)
ثم قال : إن الدنيا والآخرة كلها من جود الرسول صلى الله عليه وسلم ، وعلم اللوح المحفوظ والقلم الذي كتب في اللوح المحفوظ بأمر الله هو بعض علم الرسول صلى الله عليه وسلم ، إذ الرسول صلى الله عليه وسلم يعلم الغيب .
وهذه القصيدة ـ مع الأسف ـ تطبع بشكل جميل وحرف عريض ، وتوزع ، وتقرأ ، ويُيعتنى بها أكثر مما يعتنى بكتاب الله عز وجل ، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .
إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد ( 1 / 202 )
-------------------------
بل إن بعض الغلاة يقول : إن التسمي بمحمد يكفي ، يقول صاحب البردة :
فإن لي ذمة منه بتسميتي محمداً ***** وهو أوفى الخلق بالذمم
لاينفع عند الله إلا العمل الصالح ، لا الأسماء ولا القباءل ، ولا شرف النسب ، ولا كون إنسن من بيت النبوة ، كل هذا لاينفع إلا مع العمل الصالح والاستقامة على دين الله عز وجل .
نعم القرابة من الرسول صلى الله عليه وسلم إذا كانت مع العمل الصالح لها فضل لاشك فيه ، فأهل البيت الصالحون المستقيمون على دين الله لهم حق ، ولهم شرف كرامة ، ويجب الوفاء بحقهم ، طاعة للرسول صلى الله عليه وسلم ، فإنه أوصى بقرابته وأهل بيته ، لكن
يريد القرابة وأهل البيت المستقيمين على طاعة الله عز وجل ، أما المخرّف والدجّال والمشعوذ الذي يعتمد على قرابته من الرسول صلى الله عليه وسلم ، ولكنه في العمل مخالف للرسول صلى الله عليه وسلم ، فهذا لا يُعنيه شيئاً عند الله ، لو كان هذا ينفع أبا لهب ، ونفع أبا طالب، ونفع غيرهم ممن لم يدخلوا في دين الله ، وهم من قرابة الرسول صلى الله عليه وسلم ، فالواجب أن نتنبّه لهذا .
إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد ( 1 / 201 )
----------------
راجع كتاب إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد للشيخ العلامة / صالح بن فوزان الفوزان
-------------------------------------------------(4/17)
بسم الله الرحمن الرحيم
جامعة القاهرة
كلية دار العلوم
قسم الفلسفة الإسلامية
" أولياء الصوفية عند شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه:
الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان "
تحت إشراف /
الأستاذ الدكتور / عبد الفتاح أحمد الفاوي
أستاذ الفلسفة الإسلامية بكلية دار العلوم
إعداد الطالب
موسى بن محمد بن هجاد الزهراني
للسنة التمهيدية للماجستير بقسم الفلسفة الإسلامية بكلية دار العلوم
2003-2004م
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
إنِ الْحَمْدَ لِلَّهِ ، نَحْمَدُهُ ، وَنَسْتَعِينُهُ ، وَنَسْتَغْفِرُهُ ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا ، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلا مُضِلَّ لَهُ ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ :
(( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ )) [آل عمران:102].
(( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً )) [النساء:1].
(( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً )) [الأحزاب:70-71].(5/1)
أَمَّا بَعْدُ : فَإِنَّ خَيْرَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ ، وَخَيْرُ الْهُدَى هُدَى مُحَمَّدٍ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ ـ وَشَرُّ الأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلالَةٌ .(1) وبعد : فهذا عرض لموضوع ( أولياء الصوفية عند شيخ الإسلام ابن تيمية ، في كتابه الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان ) ، مقدم لأستاذنا الفاضل ، الأستاذ الدكتور / عبد الفتاح بن أحمد الفاوي ، أستاذ الفلسفة الإسلامية ، بكلية دار العلوم ، حفظه الله ورعاه . وقد قسمته إلى مقدمة ، ومبحثين وخاتمة :
المبحث الأول : في ترجمة شيخ الإسلام بن تيمية .
المبحث الثاني : في الولاية والولي عند الصوفية : وتحته عدة مسائل مستقاة من كلام الشيخ .
المصادر والمراجع .
الفهارس .
أسأل الله أن أكون قد وفقت في عرض هذه القضية ، ومناقشتها علمياً بما يفيد ، وأن يجزي عني أستاذي الدكتور / عبد الفتاح الفاوي ، خير الجزاء ، وأن يوفقنا جميعاً للعلم النافع والعمل الصالح . وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين .
المبحث الأول
تعريفٌ بشيخ الإسلام ابن تيمية :
هو شيخ الإسلام أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن محمد الخضر بن محمد بن الخضر بن علي بن عبد الله بن تيمية الحراني ثم الدمشقي.
وتيمية هي والدة جده الأعلى محمد . وكانت واعظة راوية.
ولد رحمه الله يوم الاثنين العاشر من ربيع الأول ، بحران سنة 661هـ ولما بلغ سبع سنوات من عمره انتقل مع والده إلى دمشق ، هربا من التتار .
__________
(1) - ـ هذه خطبه الحاجة رواها الترمذي وحسنه ( 1105)، والنسائي (6/89)، وابن ماجه ( 1892)، انظر تخريجها مبسوطاً في كتاب ( خطبة الحاجة ) للشيخ : محمد ناصر الدين الألباني – رحمه الله - .(5/2)
نشأته : نشا في بيت علم وفقه ودين، فأبوه و أجداده وإخوانه وكثير من أعمامه كانوا من العلماء المشاهير، وفي هذه البيئة العلمية الصالحة كانت نشأة هذا العالم الجليل الذي بدأ بطلب العلم على والده وعلماء بلاده أولا، فحفظ القرآن وهو صغير، ودرس الحديث والفقه و الأصول والتفسير، وعرف بالذكاء والفطنة وقوة الحفظ والنجابة منذ صغره، ثم توسع في دراسة العلوم وتبحر فيها، واجتمعت فيه صفات المجتهد وأعترف له بذلك الداني والقاصي والقريب والبعيد وعلماء عصره
يعتبر شيخ الإسلام من العلماء الأفذاذ الذين تركوا تراثا ضخما ثمينا، لا يزال العلماء والباحثون ينهلون منه وقد ألف ابن قيم الجوزية كتب ورسائل شيخه ابن تيمية التي قام بتأليفها وهي مطبوعة.
وقد زادت مؤلفاته على ثلاثمائة مؤلف في مختلف العلوم، و منها ماهر في المجلدات المتعددة .
مؤلفاته رحمه الله:
1 - بيان موافقة صريح المعقول لصحيح المنقول (طبع في 11 مجلدا). 2 - إثبات المعاد .
3 - ثبوت النبوات عقلا ونقلا . 4 - الرد على الحلولية والاتحادية .5 - الاستقامة (في مجلدين).
6 - مجموع فتاوى ابن تيمية : جمعها الشيخ / عبدالرحمن بن قاسم وابنه محمد ، رحمهما الله وتقع في (37) مجلدا. 7 - إصلاح الراعي والرعية. 8 - منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيع والقدرية . 9 - الاحتجاج بالقدر . 10 - الإيمان. 11 - حقيقة الصيام. 12 - الرسالة التدمرية. 13 - الرسالة الحموية. 14 - شرح حديث النزول. 15 - العبودية.16 - المظالم المشتركة. 17 - الواسطة بين الحق والخلق. 18 - الفرقان بين أولياء الرحمن و أولياء الشيطان. ( وهو كتابنا هذا ) . 19 - الكلم الطيب.20 - رفع أعلام عن الأئمة الأعلام. 21 - حجاب المرأة ولباسها في الصلاة. 22 - قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة. 23 - الرسالة العشرية. 24 - الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح.
وفاته رحمه الله :(5/3)
توفي شيخ الإسلام أحمد بن تيمية الحراني رحمه الله رحمة واسعة ، ليلة الإثنين ، العشرين من ذي القعده سنة(728) وعمره (63) عاما وهو مسجون بسجن القلعة بدمشق وحضر جنازته جمهور كبير جدا يفوق العدد .(1)
المبحث الثاني
الأولياء
الولي والولاية :
__________
(1) - ينظر لمعرفة ترجمة الشيخ رحمه الله :
العقود الدرية من مناقب شيخ الإسلام أحمد بن تيمية. ت. محمد بن أحمد بن عبد الهادي بن قدامة المقدسي أبي عبد الله ت( 744هـ) ، تحقيق الشيخ / محمد حامد الفقي . و كتاب : الانتصار ، لابن قدامة أيضا ً تحقيق أ د / محمد السيد الجليند .
وكتاب : الأعلام العلية في مناقب ابن تيمية ت: عمر بن علي بن موسى البزار أبي حفص . (ت 749هـ ) تحقيق : زهير الشاويش .(5/4)
يقول الله تعالى : ?أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ(62)الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ(63)لَهُمْ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ?[يونس:62-64] ، في هذه الآية أنّ الأولياء هم الذين آمنوا وكانوا يتقون، ولهذا عرّف جماعة من أهل العلم الولي: بأنّه كل مؤمن تقي وليس بنبي؛ ?الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ?[يونس: 63] هم الأولياء، والإيمان والتقوى تتفاضل؛ الإيمان يتفاضل يزيد وينقص، ويتفاضل أهله فيه، وكذلك التقوى يتفاضل أهلُها فيها، فيكون إذن وصف الوَلاية يتفاضل أهله فيه، فالأولياء إذن ليسوا على مرتبة واحدة، لكن صار غالبا في الاصطلاح أنّ الولي هو المؤمن الذي كمَّل التقوى بحسب استطاعته، وليس مَن عنده شيء من الإيمان وشيء من التقوى وليا، وإنْ كان كل مؤمن تقي له وَلاية بحسَب ذلك، ففرق بين الاسم؛ اسم الولي وبين الوَلاية؛ الولاية التي هي محبة الله لعبده ونصرتُه له هذه تكون عنده بقدر ما عنده من الإيمان والتقوى، وأمّا اسم الولي فالآية دلت على أنّ من عنده إيمان وتقوى فهو من الأولياء، لكن في الاصطلاح إذا قيل الأولياء فهم العُبّاد الصالحون الذين كمّلوا التقوى بحسب استطاعتهم، أو بحسب حالهم، فلا يدخل فيه من خلط عملا صالحا وآخر سيئاً . (1)
فوليّ الله إذن: الوليّ هو كل مؤمن تقي ليس بنبيّ للآية حيث عرّف الأولياء بأنهم ?الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ?[يونس:63]، المؤمن المتقي هو الوليّ.
__________
(1) - التعليقات الحسان على الفرقان . معالي الشيخ / صالح بن عبدالعزيز آل الشيخ . ص 3(5/5)
ووليّ الشيطان: هو الذي يطيع الشيطان ويأمر بأمره ويخالف ما جاء به محمد عليه الصلاة والسلام؛ لأن الله جل وعلا قال ?أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ?[يس:60] يعني بطاعته في ارتكاب الحرام بأنواعه، في ترك الفرائض بأنواعها، )(1)
أما الصوفية الذين نحن بصدد الكلام عن الولي والأولياء عندهم ؛ فيعتقدون ( أن الولاية أفضل من النبوة وأن :
مقام النبوة في برزخ فويق الرسول ودون الولي
وأن المعدن الذي يأخذ منه الولي فوق المعدن الذي يأخذ منه النبي ، فالولى يأخذ من الله مباشرة بدون واسطة أما النبي فيأخذ من الله بواسطة الملك :
وأن الوحي لم ينقطع بعد محمد - صلى الله عليه وسلم - وإنما ينزل عليهم كما كان ينزل على الأنبياء من قبل .
والنبوة نفسها لم تنقطع بل باقية مستمرة فيهم يروى عن أحدهم أنه قال :
" لقد تحجر ابن آمنة واسعا فقال لا نبي بعدى " ، ( يقصد النبي - صلى الله عليه وسلم - ) ، وإن كان يتلطف بعضهم فيرى أن النبوة التي انقطعت هي نبوة التشريع أما نبوة الولاية فباقية ومستمرة فيهم ونبوة الولاية أفضل من نبوة التشريع ، والولاية أفضل من النبوة والرسالة ؛ لأن الولاية سر بين النبي وربه ، والنبوة سر بين النبي وجبريل ، والرسالة سر بين النبي وأمته، والسر الذي بين النبي وبين ربه أفضل من السر الذي بينه وبين الملائكة ، أو بينه وبين البشر . ومن ثم يقول البسطامى : "تالله إن لوائي أعظم من لواء محمد".
ويعتقدون أن للأولياء خاتما كما أن للأنبياء خاتما ، وخاتم الأولياء أفضل من خاتم الأنبياء لأنه يأخذ من المعدن الذي يأخذ منه الملك الذي يوحى به إلى الرسول يقول ابن عربي : ( وفينا من يأخذ من الله فيكون خليفة من الله لعين ذلك الحكم ) ، فبينما يأخذ خاتم الأنبياء - صلى الله عليه وسلم - من الله بواسطة يأخذ خاتم الأولياء منه مباشرة .
__________
(1) - السابق : 101.(5/6)
وخاتم الأولياء يمثل لبنة من ذهب . بينما يمثل خاتم الأولياء لبنة من فضة فيما ذهب إليه ابن عربي وهو بصدد حديثه عما روى عنه - صلى الله عليه وسلم -فى قوله : ( مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى دارا إلا موضع لبنة فأخذ الناس يتعجبون ويقولون لولا هذه اللبنة فأنا اللبنة )(1). يقول ابن عربى: " غير أن رسول الله لا يراها إلا لبنة واحدة ، أما خاتم الأولياء فيراها لبنتين : لبنة من فضة وأخرى من ذهب ولبنة الفضة هو خاتم الأنبياء بينما لبنة الذهب هو خاتم الأولياء " ). !!ومعنى هذا أن دين الله لم يكتمل إلا على يد خاتم الأولياء . )(2)
إذن فللصوفية عقائد شتى في الأولياء ، فمنهم من يفضِّل الولي على النبي ، ومنهم يجعلون الولي مساوياً لله في كل صفاته ، فهو يخلق ويرزق ، ويحيي ويميت ، ويتصرف في الكون . ولهم تقسيمات للولاية ، فهناك الغوث ، والأقطاب ، والأبدال والنجباء ، حيث يجتمعون في ديوان لهم في غار حراء كل ليلة ينظرون في المقادير . ومنهم من لا يعتقد ذلك ولكنهم أيضاً يأخذونهم وسائط بينهم وبين ربهم ؛ سواءً كان في حياتهم أم بعد مماتهم .وكل هذا بالطبع خلاف الولاية في الإسلام التي تقوم على الدين والتقوى ، وعمل الصالحات ، والعبودية الكاملة لله والفقر إليه ، وأن الولي لا يملك من أمر نفسه شيئاً فضلاً عن أنه يملك لغيره ، قال تعالى لرسوله - صلى الله عليه وسلم - : ((قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا رَشَداً))(3).
أحاديث مكذوبة في الولاية عند الصوفية :
__________
(1) - ( صحيح ) انظر صحيح الجامع الصغير للألباني (ت 1420هـ ) . حديث رقم 5857.
(2) - التصوف عرض ونقد . أ د / عبد الفتاح الفاوي . 11.
(3) - الجن 21 .(5/7)
بعد أن تحدث الشيخ رحمه الله عن أهل الصفة وما يتعلق بهم ، وأصنافهم ؛ ولأن الصوفية يستخدمون ألفاظاً عدة يظنون أن الأحاديث قد وردت بها ، بيّن الشيخ كذب هذه الأحاديث وأنها مختلقة فقال (وأما الأنصار فلم يكونوا من أهل الصفة وكذلك أكابر المهاجرين كأبي بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير وعبد الرحمن ابن عوف وأبي عبيدة وغيرهم لم يكونوا من أهل الصفة. وقد روى أنه بها غلام للمغيرة بن شعبة، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال هذا واحد من السبعة. وهذا الحديث كذب باتفاق أهل العلم وإن كان قد رواه أبو نعيم في الحِلْيَة، وكذا كل حديث يروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في عدة الأولياء والأبدال والنقباء والنجباء والأوتاد والأقطاب مثل أربعة أو سبعة أو انثي عشر أو أربعين أو سبعين أو ثلاثمائة أو ثلاثمائة وثلاثة عشر، أو القطب الواحد، فليس في ذلك شيء صحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولم ينطق السلف بشيء من هذه الألفاظ إلا بلفظ الأبدال، وروى فيهم حديث أنهم أربعون رجلا وانهم بالشام وهو في المسند من حديث علي كرم الله وجهه وهو حديث منقطع ليس بثابت ومعلوم أن عليا ومن معه من الصحابة كانوا أفضل من معاوية ومن معه بالشام، فلا يكون أفضل الناس في عسكر معاوية دون عسكر علي. وقد أخرجا في الصحيحين عن أبي سعيد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال «تمرق مارقة من الدين على حين فرقة من المسلمين يقتلهم أولى الطائفتين بالحق» وهؤلاء المارقون هم الخوارج الحرورية الذين مرقوا لما حصلت الفرقة بين المسلمين في خلافة علي فقتلهم علي بن أبي طالب وأصحابُه، فدل هذا الحديث الصحيح على أن علي بن أبي طالب أولى بالحق من معاوية وأصحابه، وكيف يكون الأبدال في أدنى العسكرين دون أعلاهما. وكذلك ما يرويه بعضهم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه أنشد منشد:
قد لسعت حية الهوى كبدي فلا طبيب لها ولا راقِ(5/8)
إلا الحبيب الذي شُغفت به فعنده رقيتي وترياقي
وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - تواجد حتى سقطت البردة عن منكبه، فإنه كذب باتفاق أهل العلم بالحديث، وأكذب منه ما يرويه بعضهم أنه مزق ثوبه، وأن جبريل أخذ قطعة منه فعلقها على العرش، فهذا وأمثاله مما يعرف أهل العلم والمعرفة برسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه من أظهر الأحايث كذبا عليه - صلى الله عليه وسلم -. وكذلك ما يروونه عن عمر - رضي الله عنه - أنه قال كان النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر يتحدثان وكنت بينهما كالزنجي، وهو كذب موضوع باتفاق أهل العلم بالحديث. والمقصود هنا أنه فيمن يقر برسالته العامة في الظاهر ومن يعتقد في الباطن ما يناقض ذلك فيكون منافقا وهو يدَّعي في نفسه وأمثاله أنهم أولياء الله مع كفرهم في الباطن بما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم -، إما عنادا، وإما جهلا )(1) .
__________
(1) - الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان . ص 13- 15 .(5/9)
فهذا الاعتقاد في جهّال المسلمين من قديم ، الاعتقاد في الصوفية وفي الفقراء وربما أنهم فعلوا أشياء خارجة عن الشريعة ويبقون على وَلايتهم، كما ذكر الشيخ( محمد بن عبد الوهاب ) رحمه الله في النواقض –نواقض الإسلام-(1) أن من النواقض أحد من الخلق أنه يسعه الخروج عن شريعة محمد - صلى الله عليه وسلم - كما وسع الخضر الخروج عن شريعة موسى. هؤلاء الجهال يعتقدون في المجانين و يعتقدون في الفقراء و يعتقدون في الشياطين، وربما جعلوهم أقطابا أو جعلوهم أوتادا أو جعلوهم أبدالاً أو جعلوهم نجباء إلى آخره، فتجدهم يقولون مثلا الغوث الأكبر واحد، وكل غوث له أقطاب أربعة في الأرض، لكلّ واحد منهم قسم من الأرض، ولكل واحد من هذه الأربعة سبعة، ولكل واحد من هذه السبعة أربعون، فلن تصل إلى الغوث إلا عن هذه الطريقة. وصنفت المصنفات في ذلك في ذكر الأربعين ولي في مصر، أو الأربعين وتد في المغرب، هذه مصنفات موجودة، عندهم أن الأربعين هؤلاء يرفعون إلى السبعة، والسبعة يرفعون إلى الأربعة، والأربعة يرفعون إلى الغوث، والغوث يطلب من الله جل جلاله، فهؤلاء إذا تأملت أسماءهم وتراجمهم وهي موجودة وجدت أنه كما ذكر شيخ الإسلام أنهم من المنافقين، أو من المجانين، فلا يصح أن يكونوا أولياء فضلا أن يكونوا من سادة الأولياء أو من المقدمين. وهذه الألفاظ أقطاب، أبدال، نجباء إلى آخره، الغوث، كلها لم ترد في الكتاب والسنة، وإنما جاء لفظ الأبدال في بعض الأحاديث، وإنْ كان في إسنادها شيء، ومن حسنها فالمعنى واضح؛ فإنّ الأبدال هم الذين يأتي طائفة منهم بدل من قبلكم أبدال بمعني أنهم يبدلون بغيرهم ويبدل غيرهم بهم، وهذا كما قال عليه الصلاة والسلام «لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين حتى يأتي أمر
__________
(1) - رسالة " نواقض الإسلام" للإمام المجدد شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب المتوفى سنة (1206هـ) رحمه الله تعالى اشتملت على عشرة نواقض تخرج من الاسلام .(5/10)
الله»(1).
ويرى الشيخ رحمه الله أن (من اعتقد أن لأحد من الأولياء طريقا إلى الله من غير متابعة محمد - صلى الله عليه وسلم -، فهو كافر من أولياء الشيطان )(2) .
__________
(1) صحيح البخاري ، كتاب : المناقب . باب : سؤال المشركين الرسول صلى الله عليه وسلم أن يريهم آية فأراهم انشقاقا القمر ح 3441.
ورواه مسلم : باب قوله صلى الله عليه وسلم (لا تزال ظائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم) بألفاظ عدة .
(2) - الفرقان 17 .(5/11)
ويرى أن (وهؤلاء جميعهم الذين ينتسبون إلى المكاشفات وخوارق العادات، إذْ لم يكونوا متبعين الرسل فلابد أن يكذبوا وتُكَذِبُهم شياطينهم، ولابد أن يكون في أعمالهم ما هو إثم وفجور مثل نوع من الشرك أو الظلم أو الفواحش أو الغلو أو البدع في العبادة، ولهذا تنزلت عليهم الشياطين واقترنت بهم فصاروا من أولياء الشيطان لا من أولياء الرحمن )(1) وهذا الكلام يريد به شيخ الإسلام رحمه الله بيان أنّ الطوائف من المسلمين الذين ادعوا الولاية، أُدعي فيهم أنهم أولياء وعُظِّموا بسبب ذلك، هؤلاء، إنْ كان سبب وَلايتهم أنهم متبعون للرسول - صلى الله عليه وسلم - ظاهرا وباطنا مؤمنون به يحكمون لشريعته في أنفسهم، فهذا ظاهر لأنهم من أولياء الله، وأما إنْ كان سبب إطلاق الولاية عليه بهم أنهم زهاد عباد وأنهم متنزهون عن كثير من الدنيا، وأنهم مقبلون على أمر آخرتهم، وفيهم مكاشفات وإخبار بغيبيات، ويحصل لهم خوارق عادات، فإنَّ هذا القدْر يحصل أيضا لكثير من المتزهدة ، ومن له بعض فلسفة ، وعلم من الذين داووا نفوسهم وباطنهم من غير هذه الأمة، فذكر أمثلة من التُّرك يعني الروس الآن وإلى تركستان وما حولها، ومن الهند ومن خراسان، وكذلك من اليونان، هؤلاء فيهم أناس نُقل من نَقل المستفيض أنه يحصلهم خوارق عادات، وأن عندهم زهد وعبادة وغير ذلك، فإن كان-شيخ الإسلام هنا كأنه يتنزل ويناظر- مدار الوَلاية وإطلاق اسم الولي على من عنده زهد وعبادة أو خوارق عادات فأولئك أيضا كذلك، لكن هم كفار بالإجماع؛ لأن متعبدة اليهود، زهاد النصارى قد يكون لهم بكاء من خشية الله وقد يكون عندهم خوارق عادات، وكذلك زهاد ومتعبدة الهند والترك والفرس واليونان وغيره ، هؤلاء كفار بالإجماع؛ لأنهم لم يتبعوا محمدا - صلى الله عليه وسلم - ولم يكونوا مسلمين ظاهرا وباطنا. فإذن ما الفرق في الحال بين هؤلاء الذين أُدعي فيهم الولاية وادعوا الخروج عن شريعة محمد -
__________
(1) - السابق 18 .(5/12)
صلى الله عليه وسلم - وأولئك؟ فإذا قيل إن عندهم خوارق عادات، فنقول إن خوارق العادة ليس هو الكرامة، فالذي يؤتي الله جل وعلا الأولياء هي الكرامات، وأما الخوارق فإنها تجري للسحرة، وتجري للكهنة، وتجري للشياطين وغير ذلك، فحصول الخارق للعادة ليس برهانا على أنّ من حصل له ولي من أولياء الله، خارق للعادة مثل يخبرك بها في نفسك، مثل أن يجري شيئا غريبا، مثل أن ينتقل من مكان إلى مكان بسرعة عجيبة، مثل أن يَحْضُر شيء من الأطعمة ليست في أوانها.
هذه نحصل للسحرة وتحصل للكهنة وتحصل للمشعوذين فالخارق للعادة أمر يشترك بين الأنبياء والرسل، وما بين الأولياء وما بين المشعوذون والكهنة والسحرة والبطّالون:
فإن كان الخارق للعادة أوتي نبيا فيُسمى آية وبرهانا.
وإن كان الخارق للعادة أوتي عبدا صالحا تبعا لنبي فيسمى كرامة للوليِّ.
وإن كان الخارق للعادة أوتي مستكبرا على الأنبياء أو مبتدعا أو فاجرا أو كافرا فإنّه يُسمى مخاريق شيطانية أو من مساعدة الشياطين.
فإذن ليس العبرة في خرق العادة. ولهذا تعرّف الكرامة التي تكون للأولياء بأن الكرامة أمر خارق للعادة يرى على يدي ولي، وآية النبي أمر خارق لعادة الجن والإنس، يرى على يدي نبي، والعادة التي تُخرق لفظها غير منضبط؛ لأنهم قالوا خارق للعادة. العادة هذه عادة من؟ هذا الوصف غير منضبط لأنه خارق للعادة ، لهذا عند التحقيق يكون ثَم تفصيل:
فالعادة التي تُخرق للرسل والأنبياء آية وبرهان، فتكون العادة هي عادة الجن والإنس عادة الثقلين، قد دل على هذا قوله تعالى?قُلْ لَئِنْ اجْتَمَعَتْ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا?[الإسراء:88].(5/13)
وأما الكرامة فهي خارق لعادة الإنس الذين فيهم ذلك الولي، قد يكون في مكان آخر لا تخرق العادة، لكنه يكرم بهذا مثل طعام يؤتاه في فصل الصيف وهو من طعام الشتاء، في مكان أخر من الأرض يكون ثَم شتاء في وقت هذا الصيف فيكون طعامهم طعام الشتاء، فيكون إذن العادة في حق الولي عادة الإنس الذين فيهم ذلك الولي، وقد يكون الإنس بعامة مثل المشي على الماء، أو الطيران في الهواء أو غير ذلك، لكن هذا يختلف باختلاف الأزمنة، فمثلا إذا مشى على الماء؛ الماء صار له يابسا ومشى عليه، اليوم ممكن أنه يقوم ببعض المعالجات الماء يكون يابس ويُمشي عليه، كذلك الطيران في الهواء كرامة، اليوم اختلف الوضع ، صار البر والفاجر يطير في الهواء بوسائل أحدثت، فإذن خرق العادة بالنسبة للولي قيده أن تكون عادة الناس في زمنه، أو عادة جنسه الذين يعيش فيهم.
أما خرق العادة بالنسبة الشياطين: الكهنة والسحرة فهم يأتون بأمور خارقة للعادة ولكنها عادة من ليس منهم، فالساحر يخرِق عادة من ليس بساحر، والكاهن يخرق عادة من ليس بكاهن.
المقصود من هذا بيان التفصيل في هذه الكلمة المجملة وهي خرق العادة، وأنّ ما آتاه الله جل وعلا للأنبياء والرسل خوارق للعادات، ولكن عادة كذا وكذا، وما آتاه الله جل وعلا الأولياء خارق للعادة من الكرامات ولكن عادة كذا وكذا، وأما مخاريق السحرة والكهنة فهي خارق للعادة من ليس من السحرة والكهنة، ولهذا لما أتى الله جل وعلا بآية موسى بطَلَت مكايد السحرة وما فعلوا؛ لأن ذلك الذي أعطاه جل وعلا موسى فوق ما تخرق الشياطين وتخبر به الجن أو يفعله السحرة والكهنة.(5/14)
كل هذا لأجل تقرير الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان، إذن كون الشيء يحصل خارقا للعادة المعتادة لا يدلّ على أن من حصل له وليا، يخبر بما في نفسه أو يخبر بأمر غائب، أو يأتيه شيء غريب في وقت غريب، أو يحصل له نوع أشياء وانتقالات، أو يسّر له أمور ونحو ذلك لا يدل على أنه ولي حتى يكون مؤمنا تقيا، لأن الخوارق قد تحصل من جهة الشياطين وحزبه(1) .
حكم من أظهر الولاية وهو لا يؤدي الفرائض :
قال الشيخ رحمه الله ( فعلى هذا فمن أظهر الولاية وهو لا يؤدي الفرائض ولا يجتنب المحارم، بل قد يأتي بما يناقض ذلك،لم يكن لأحد أن يقول هذا ولي لله ، فإن هذا إن لم يكن مجنونا بل كان متولها من غير جنون، أو كان يغيب عقله بالجنون تارة ويفيق أخرى، وهو لا يقوم بالفرائض، بل يعتقد أنه لا يجب عليه اتباع الرسول - صلى الله عليه وسلم - فهو كافر، وإن كان مجنونا باطنا وظاهرا قد ارتفع عنه القلم، فهذا وإن لم يكن معاقبا عقوبة الكافرين فليس هو مستحقا لما يستحقه أهل الإيمان والتقوى من كرامة الله عز وجل، فلا يجوز على التقديرين أن يعتقد فيه أحد أنه ولي لله ) (2).
كلام مشايخ الصوفية الأولين في الولاية :
(كقول الشيخ أبي سليمان الداراني، إنه ليقع في قلبي النكتة من نكت القوم فلا أقبلها إلا بشاهدين الكتاب والسنة. وقال أبو القاسم الجنيد رحمة الله عليه :علمنا هذا مقيد بالكتاب والسنة، فمن لم يقرأ القرآن ويكتب الحديث لا يصلح له أن يتكلم في علمنا أو قال لا يقتدى به. وقال أبو عثمان النيسابوري: من أمّر السنة على نفسه قولا وفعلا نطق بالحكمة، ومن أمّر الهوى على نفسه قولا وفعلا نطق بالبدعة، لأن الله تعالى يقول في كلامه القديم?وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا?[النور:54]، وقال أبو عمرو بن نجيد كل وَجْدٍ لا يشهد له الكتاب والسنة فهو باطل )(3)
وكلام الشيخ رحمه الله هذا فيه مسألتان :
__________
(1) - التعليقات 14 .
(2) الفرقان 38 .
(3) - الفرقان : 54.(5/15)
الأولى : قوله النكتة : من نكت القوم يعني : يأتي في خاطره ، وفي قلبه شيء مما يتصل بالإيمان ، والأحوال ، وتزكية النفس ، ورؤية الأشياء ، والتفكر وأشباه ذلك. فيقع في الخاطر أشياء. قال فلا أقبلها إلا بشاهدين من الكتاب والسنة ؛ لأنّه قد يكون هذا الخاطر الذي جاءه ليس بحق، وقد يكون هذا التأمل الذي جاءه باطلاً،وقد يكون هذا الاستنتاج الذي استنتجه باطلاً، فإذا شهد له الكتاب والسنة وهما القاضيان والشاهدان والمعدِّلان والمزكيان للأفكار والآراء قبل ذلك ، و إذا لم يُشهد له فإنه باطل؛لأنه يعلم وخالف عنه فهذا من أهل الإباء والاستكبار مثل حال ابن عربي والتلمساني وأشباههم؛ الذين يقولون لأقوامهم ما نقول لكم وحي من الله، ونحن معصومون أن نخطئ لا في اللفظ ولا في العمل ولا في الفكر، هؤلاء إما أنْ يكونوا علماء فهؤلاء كفار لأنهم أبوا واستكبروا عن الإنقياد للحق وإلا أن يكونوا جهّالا هؤلاء قد يعذرون
الثانية :(5/16)
قوله القديم : في كلامه (القديم) غلط؛ لأن القرآن محدث ليس بالقديم، كما قال سبحانه ?مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ(2)لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا?[الأنبياء:2-3]، وكذلك في آية سورة الشعراء، فالقرآن مُحْدَث بمعنى حديث النزول من ربه جل وعلا حديث العهد من ربه جل وعلا، إنما تكلم الله به فسمعه جبريل فبلغه للنبي عليه الصلاة والسلام، وأما الذي يقال أنه قديم هو كلام الله ليس القرآن، الكلام كلام الرحمن جل وعلا نقول قديم النوع حادث الآحاد، ويجوز أن نقول إنّ كلام الله قديم؛ يعني قديم النوع لا بأس بهذا؛ لأنّ الله جل وعلا أول وكذلك صفاته سبحانه وتعالى أزلية -يعني الصفات الذاتية- أزلية قديمة، فهو سبحانه وتعالى يتكلم كيف شاء وإذا شاء وكلامه قديم ولا يزال يتجدد كلامه بتجدد الأحوال، متعلِّقا بمشيئته سبحانه وتعالى وقدرته، فالقرآن لا يسوغ وصفه بأنّه قديم، بل هذا مذهب الأشاعرة فإنهم يجعلون القرآن قديما تكلم الله به في الأزل، فكل كلام أراده الله ثم يتعلق هذا الكلام بالإرادة وبالزمن الذي يصلح له فيتجدد، فليس عندهم أن القرآن كلام الله جل وعلا الذي تكلم به حين أَنزل القرآن، .......ففي القرآن ?قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا?[المجادلة:1]، وفي القرآن ?قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ?[البقرة:144]، وفي القرآن ?قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ?[الأنعام:33] ونحو ذلك مما فيه ذكر صيغة الماضي قد سمع الله فإن كان هذا الكلام قديما فإن الله يقول : قد سمع ، لشيء لم يحصل ؛ وهذا لا يجوز لأنّه نوع من الكذب وهذا يدل على بطلان هذا القول.(5/17)
المقصود أنّ القول هذا (في كلامه القديم) هذا غلط موافق لطريقة الأشاعرة لعله من إضافاتهم.(1)
من خالف الدين فليس بولي :
قال الشيخ رحمه الله : (وتجد كثيرا من هؤلاء عمدتهم في اعتقاد كونه وليا لله أنه قد صدر عنه مكاشفة في بعض الأمور أو بعض التصرفات الخارقة للعادة، مثل أن يُشير إلى شخص فيموت، أو يطير في الهواء إلى مكة أو غيرها، أو يمشي على الماء أحيانا أو يملأ إبريقا من الهواء، أو ينفق أي ( ينطق )بعض الأوقات من الغيب ، أو أن يختفى أحيانا عن أعين الناس، أو أن بعض الناس استغاث به وهو غائب أو ميت فرآه قد جاءه فقضى حاجته، أو يخبر الناس بما سُرق لهم، أو بحال غائب لهم، أو مريض أو نحو ذلك من الأمور، وليس في شيء من هذه الأمور، ما يدل على أن صاحبها ولي لله، بل قد اتفق أولياء الله على أن الرجل لو طار في الهواء أو مشى على الماء لم يُغترَّ به حتى ينظر متابعته لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وموافقته لأمره ونهيه، وكرامات أولياء الله تعالى أعظم من هذه الأمور، وهذه الأمور الخارقة للعادة، وإن كان قد يكون صاحبها وليا لله فقد يكون عدوا لله، فان هذه الخوارق تكون لكثير من الكفار والمشركين وأهل الكتاب والمنافقين وتكون لأهل البدع، وتكون من الشياطين فلا يجوز أن يظن أنّ كل من كان له شيء من هذه الأمور أنه ولي الله، بل يعتبر أولياء الله بصفاتهم وأفعالهم وأحوالهم التي دل عليها الكتاب والسنة، ويعرفون بنور الإيمان والقرآن، وبحقائق الإيمان الباطنة، وشرائع الإسلام الظاهرة.
__________
(1) - التعليقات الحسان . ( بتصرف وحذف ) 35 .(5/18)
مثال ذلك أن هذه الأمور المذكورة وأمثالها قد توجد في أشخاص ويكون أحدهم لا يتوضأ ولا يصلي الصلوات المكتوبة، بل يكون ملابسا للنجاسات، معاشرا للكلاب، يأوي إلى الحمّامات والقمامين والمقابر والمزابل، رائحته خبيثة لا يتطهر الطهارة الشرعية، ولا يتنظف. وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - «لا تدخل الملائكة بيتا فيه جنب ولا كلب»، وقال عن هذه الأخلية «إن هذه الحشوش محتضرة» أي يحضرها الشيطان، وقال «من أكل من هاتين الشجرتين الخبيثتين فلا يقربن مسجدنا فان الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم»، وقال «إنّ الله طيب لا يقبل الا طيبا» وقال «إنّ الله نظيف يحب النظافة» وقال خمس من الفواسق يُقتلن في الحل والحرم، الحية، والفأرة، والغراب، والحدأة، والكلب العقور» وفي رواية الحية، والعقرب. وأمر صلوات الله وسلامه عليه بقتل الكلاب. وقال «من اقتنى كلبا لا يغني عنه زرعا ولا ضرعا نقص من عمله كل يوم قيراط»، وقال «لا تَصحب الملائكة رُفقة معهم كلب»، وقال «إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبع مرات إحداهن بالتراب»، وقال تعالى ?وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ(156)الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمْ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ?[الأعراف:156-157].(1)
ومعنى كلامه رحمه الله المتقدم :
__________
(1) - الفرقان 57 .(5/19)
أنّ أولياء الله جل وعلا لا يكونون أولياء حتى يكونوا مِن المتبعين للكتاب والمتبعين للسنة وليس الوَلاية دعوى ليس لها برهان، فمِن الناس من يغلط في هذا الموضع فيقول هذا ولي الله فيقبل منه ما جاء به ما ذكر على أساس هذه المقدمة الباطلة أنّه ولي لله، فلا يكون وليا لله في الواقع لمخالفته للأمر والنهي ولوقوعه في مفسِّقات أو في أمور بدعية أو شركية إلى غير ذلك، فيُسَلِّم له الأمور البدعية أو الشركية على أساس أنه ولي لله جل وعلا، وهذا هو الذي جعل البدع والشركيات تنتشر في الأمصار من جرّاء الاعتقاد في الأولياء، فإنّه يكون هذا الولي حيًّا ويكون فاسقا فيحبّب للناس بعض المنكرات أو بعض البدع ليحصُل منهم على مال أو على جاه أو إلى آخره، فيعتقد الناس أنّه ولي فيتبعونه على ذلك ويقولون قالها الولي الفلاني، والذي يحطِّم هذا الأمر هو إقامة البرهان عند الناس أن الوَلاية لا تكون إلا للمؤمنين المتقين ?أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ(62)الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ?[يونس:62-63] فالمؤمن الذي حصَّل الإيمان وأركانه، المتقي الخائف من الله جل وعلا، والممتثل للواجب، وينتهي عن المحرم ووجل قلبه من الله، ويستعد للقائه، وهذا هو المتقي، وهو المؤمن الذي يرجى أن يكون وليا لله جل وعلا، أمّا الذين أتوا بالبدع والشركيات ليسوا من أولياء الله فَرَاج أمرهم في الناس والناس لا ينظرون هل هو ولي أم ليس بولي. إنتشر في الناس أنه ولي فقبلوا كل ما جاء به ولهذا ذكر لك في أول الكلام أبي عمرو بن نجيد (كل وَجْدٍ لا يشهد له الكتاب والسنة فهو باطل) والوَجد يعنون به ما يظهر للمرء من الاستحسان لأشياء في العبادة أو في التأملات والتفكر، أو في السلوك مع الناس وكل وجد ليس عليه دليل فهو باطل.(5/20)
ومن عجائب ذلك ما ذكره بعض العلماء أن رجلاً من أحفاد أحد الأولياء -كما يزعمون- في المغرب، زعم عند بعض الناس أنه من أولياء الله وأن جدَّه حدثه بكذا وكذا وكذا، فعظَّمه من حلّ بهم وأسكنوه عندهم، فصار يأمرهم وينهاهم وهم يطيعون، فقال لا أكافؤكم إلاّ أن تحجوا معي هذا العام، قالوا أَوَ تحج؟ قال نعم وستحجون معي جميعا، -وهم في المغرب- فلما صار وقت الحج قرب وأعدّ العدة، قالوا ألاَ نحج؟ قال سوف نحج فالأمر عند الأولياء يسير، والثاني والثالث، والرابع حتى أتى يوم عرفة، فقالوا ألا تحج؟ فقال بلى إذا أتى بعد العصر ذهبنا إلى عرفة، فلما أتى بعد العصر أمرهم بالإستعداد، ولما تجهزوا هم وأهلوهم، قال هلمُّوا، فصعد بهم إلى سطح البيت، وقال لهم سبحان الله هذا جبل عرفة، فقالوا له أين جبل عرفة؟ فقال لهم وهل تريدون أن تروا نُورَ الأولياء؟ هذا جبل عرفة أدعوا هنا، فدعوا فلما مكث مدة، قال غابت الشمس في عرفة فارحلوا فرحلوا قليلا، فقال افعلوا كذا، أتريدون أن نطوف هذه الكعبة، فطوفوا، فأخذ يعمل بهم مثل هذه الحركات وهم يسلمون له للوَلاية.(5/21)
يعني أن الدرجة الأولى التي يدخل بها صنيع الدجالين والمشعوذين والكهنة وأشباه هؤلاء أن يقال لكل الناس وأن يعلم كل الناس أن الولي لا يكون إلا مؤمنا تقيا، فإذا كان حي في الناس يأمرهم وينهاهم ويدعوهم إلى أشياء ويعتقد أنها تفيد، فيقال لهم الولي هو المؤمن التقي وهذا من أفعاله كيت وكيت وكيت من المحرمات، والأولياء الدجالين أشاعوا في الناس أن الأولياء أعمالهم الظاهرة غير أعمالهم الباطنة حتى لا يأتي مثل هذا، فيقال هو في الظاهر يعمل أشياءً وفي الباطن قلبه وعمله لله جل وعلا، ومنهم طائفة تسمى الملامتية(1) أو الملامية، وهم الذين ادَّعَوْا أنهم لإخلاصهم يُظهرون خلاف التوحيد، أو خلاف الاستقامة، وخلاف الإخلاص ؛ لأجل أن لا يُتَّهموا بالرياء ، يقولون نظهر هذا في الناس لأجل الإخلاص حتى لا يقال هم مراؤون، فيُخفون الطاعات ويظهرون الفسوق لأجل ألا يرائي في الناس، ففي مثل هؤلاء قال فضيل بن عياض وجماعة : ”العمل لغير الله رياء وترك العمل لغير الله شرك“ ، فهؤلاء يزعمون أنهم هربوا من الرياء ووقعوا في الشرك، لأنهم تركوا العمل لأجل الناس، فالعمل لغير الله رياء وترك العمل لأجل الناس أو لغير الله هذا شرك. يعني ترك العمل الصالح الواجب.
المقصود من هذا أن تأصيل شيخ الإسلام عظيم في بيان هذه المسألة المهمة(2) .
تلبيس الشيطان على الصوفية في مسألة الولاية :
قال الشيخ رحمه الله في هذه المسألة :
__________
(1) - لمعرفتهم ينظر كتاب الأستاذ الدكتور / عبدالفتاح الفاوي ، الملامتية .
(2) - التعليقات .صـ 38 .(5/22)
(فإذا كان الشخص مباشرا للنجاسات والخبائث التي يحبها الشيطان، أو يأوى إلى الحمّامات والحشوش التي تحضرها الشياطين، أو يأكل الحيات والعقارب والزنابير وآذان الكلاب التي هي خبائث وفواسق، أو يشرب البول ونحوه من النجاسات التي يحبّها الشيطان، أو يدعو غير الله فيستغيث بالمخلوقات ويتوجه إليها، أو يسجد إلى ناحية شيخه، ولا يُخْلِصُ الدِّين لرب العالمين، أو يلابس الكلاب أو النيران، أو يأوي إلى المزابل والمواضع النجسة، أو يأوي إلى المقابر، ولاسيما إلى مقابر الكفار من اليهود والنصارى أو المشركين، أو يكره سماع القرآن وينفر عنه، ويُقَدِّمُ عليه سماع الأغاني والأشعار، ويؤثر سماع مزامير الشيطان على سماع كلام الرحمن، فهذه علامات أولياء الشيطان لا علامات أولياء الرحمن.(1)
فهذه صفات موجودة في فئات ممن يُدَّعى أنهم من الأولياء وأنهم من أصحاب الكرامات:
الفئة الأولى المجاذيب والمجانين: وفيهم مثل هذه الصفات من ترَك الوضوء والصلاة لأنه مجنون أصلا.
الفئة الثانية الدّجّالون: الذين عرفوا أن مثل هذه الصفات يعتقد الناس فيها الوَلاية، فأرادوا أن يجعلوا لأنفسهم مقاما، فتلبسوا بهذه الصفات المنكرة، والعياذ بالله لأجل أن يعظمهم الناس ويدعوا فيهم الوَلاية.
الفئة الثالثة الكهنة والسّحرة وأصحاب المخارق الشيطانية:
والمشعوذون منهم عقلاء ولكن يستعينون بالجن ويستخدمون الجن يكون لهم مثل هذه الصفات السيئة.
__________
(1) - الفرقان 59 .(5/23)
هذه الفئات الثلاث ادعى فيها الناس إلى يومنا هذا أنهم من أهل الكرامات والأولياء، نجد في بعض البلاد يُقال للكاهن أنّه ولي وهو كاهن، إنما يخبر من طريق الجني، وكذلك منهم من يجعل المجنون الذي يترك الصلوات ويلابس النجاسات ولا ينطق كلمة عاقلة يجعلون ذلك أيضا دليلا على ولايته وكرامته كذلك الفئة الثالثة، فكما ذَكر شيخ أقسام هنا، أن أهل الإيمان لهم صفات وهؤلاء وإنْ ظهرت على أيديهم خوارق فإنما هي من الشياطين لتغوي الناس، شياطين الجن قد تُظهر للمرء بعض المعلومات، وقد تجعل له بعض الأحوال في مساعدتهم فيغتر الناس لذلك، والجن أقدرهم الله جل وعلا على بعض الأمور لا يقدرها البشر كما قال جل وعلا ?قَالَ عِفْريتٌ مِنْ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ(39)قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنْ الْكِتَابِ?[النمل:39-40] أي : من الإنس ممن عُلِّم الاسم الأعظم (قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنْ الْكِتَابِ) يعني بالاسم الأعظم الذي إذا سئل به الله جل وعلا أجاب وإذا طلب به منه أعطى?أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ?[النمل:40]، إلى آخر الآيات، فدل أن الجن يقدرون على أشياء أقدرهم الله جل وعلا عليها، ?قَالَ عِفْريتٌ مِنْ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ? أحمل لك العرش من اليمن إلى بيتك أو إلى دار لك في الشام قبل أن تقوم من مقامك فقط مدة مقامك في المجلس . فالجن يخبرون بمغيبات، ليست مغيبات مطلقة؛ مغيبات عن بعض البشر حصلت في الماضي، وربما أخبروا عن مغيبات تحدث في المستقبل، ومنهم من يكون صادقا فيما أخبر ويكون مما التقطه المسترق السمع، ومنهم وهو الأكثر أن يكونوا كَذَبَة فيكذبون مع الخبر الصادق مئة كذبة فيروج هذا في الناس، ومنهم من يوحي أي يلقي في نفس وليه ما في قلب صاحبه؛ فيأتيه آتٍ ويقول له كلاما(5/24)
فيأتيه الجني ويقول هذا كاذب لأنه حصل منه كذا وكذا فيقول أنت كاذب، كيف تقول هذا وفي بيتك كذا؟ كيف تفعل وأنت البارحة قد عملت كذا فيغتر هذا السائل بحال هذا المسؤول. هو الذي يعلمه بالأمور الغيبية الماضية والحاضرة والمستقبلة ويخبره عن أشياء وهو الملك، ولا يجعلون هذا من الشياطين ؛ لأنه بالاتفاق أن الشياطين لا تخدم أهل الإيمان، لهذا وَجَب على المؤمنين أن لا يغتروا بمثل هذه الظواهر التي يكون فيها ادعاء للخوارق.
و الخوارق تنقسم إلى ثلاثة أقسام:
خوارق جرت على يدي الأنبياء هذه تسمى آيات وبراهين ودلائل.
وخوارق جرت على يد أولياء صالحين مؤمنين متقين هذه تسمى كرامات.
والثالث خوارق جرت على أيدي الفسقة، المردة، وربما كفرة بعيدون عن الشريعة لا يصلون ولا يتطهرون، أو عندهم بدع، عندهم خرافات وأشباه ذلك، هذه تكون من عند الشياطين.
طبعا في حدودها مختلفة؛ يعني الخارق الشيطاني غير الكرامة بضابطها غير الآية والبرهان.(1)
مسألة ختم الأولياء :
__________
(1) - التعلقيات 40 .(5/25)
قال الشيخ رحمه الله : (وأفضل أولياء الله تعالى أعظمهم معرفة بما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - واتباعا له كالصحابة الذين هم أكمل الأمة في معرفة دينه واتباعه، وأبو بكر الصديق أكمل معرفة بما جاء به وعملا به، فهو أفضل أولياء الله، إذْ كانت أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - أفضل الأمم، وأفضلها أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم -، وأفضلهم أبو بكر - رضي الله عنه -. وقد ظن طائفة غالطة أنّ خاتم الأولياء أفضل الأولياء قياسا على خاتم الأنبياء، ولم يتكلم أحد من المشايخ المتقدمين بخاتم الأولياء إلا محمد بن علي الحكيم الترمذي(1)، فانه صنّف مصنفا غلط فيه في مواضع، ثم صار طائفة من المتأخرين يزعم كل واحد منهم أنه خاتم الأولياء، ومنهم من يدعي أن خاتم الأولياء أفضل من خاتم الأنبياء من جهة العلم بالله، وأن الأنبياء يستفيدون العلم بالله من جهته، كما زَعم ذلك ابن عربى صاحب كتاب الفتوحات المكية وكتاب الفصوص فخالف الشرع والعقل مع مخالفة جميع أنبياء الله تعالى وأوليائه، كما يقال لمن قال فخَرَّ عليهم السقف من تحتهم. لا عقل ولا قرآن، ذلك أن الأنبياء أفضل في الزمان من أولياء هذه الأمة، والأنبياء عليهم أفضل الصلاة والسلام أفضل من الأولياء، فكيف الأنبياء كلُّهم والأولياء إنما يستفيدون معرفة الله ممن يأتي بعدهم ويدعي أنه خاتم الأولياء، وليس آخر الأولياء أفضلهم كما أن آخر الأنبياء أفضلهم، فإن فضل محمد - صلى الله عليه وسلم - ثَبَتَ بالنصوص الدَّالة على ذلك، كقوله - صلى الله عليه وسلم - «أنا سيِّد ولد آدم ولا فخر» وقوله «آتي باب الجنة فأستفتح فيقول الخازن من أنت فأقول محمد، فيقول بك أُمرت أن لا أفتح لأحد قبلك».(2)
ضلال من يفضلون الولاية على النبوة :
__________
(1) - الحكيم الترمذي 320هـ له كتاب ( ختم الأولياء ) .
(2) - الفرقان 66.(5/26)
قال الشيخ رحمه الله تعالى : (وهؤلاء الملاحدة يدعون أن الولاية أفضل من النبوة، ويُلبِّسون على الناس فيقولون ولايته أفضل من نبوته، وينشدون:
مقام النبوة في برزخ فويق الرسول ودون الولي
ويقولون نحن شاركناه في ولايته التي هي أعظم من رسالته، وهذا من أعظم ضلالهم، فإن وَلاية محمد لم يماثله فيها أحد لا إبراهيم ولا موسى، فضلا عن أن يماثله هؤلاء الملحدون.)(1)
من زعم أن ابن عربي ولي :
قال الشيخ رحمه الله (فإن ابن عربي وأمثاله وإن ادعوا أنهم من الصوفية فهم من صوفية الملاحدة الفلاسفة ليسوا من صوفية أهل العلم، فضلا عن أن يكونوا من مشايخ أهل الكتاب والسنة كالفضيل بن عياض وإبراهيم بن أدهم وأبي سليمان الداراني ومعروف الكرخي والجنيد بن محمد وسهل بن عبد الله التستري وأمثالهم رضوان الله عليهم أجمعين)(2).
وقال في مواضع أخر :
(قال الله تعالى ?وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إلى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ ?[الأنعام:121]، وهذه الأرواح الشيطانية هي الروح الذي يزعم صاحب الفتوحات أنه أَلقى إليه ذلك الكتاب، ولهذا يذكر أنواعا من الخلوات بطعام معين وشيء معين، وهذه مما تفتح لصاحبها اتصالا بالجن والشياطين فيظنون ذلك من كرامات الأولياء، وإنما هو من الأحوال الشيطانية وأعرف من هؤلاء عددا ومنهم من كان يحمل في الهواء إلى مكان بعيد ويعود، ومنهم من كانت يؤتى بمال مسروق تسرقه الشياطين وتأتيه به، ومنهم من كانت تدله على السرقات بجُعل يحصل له من الناس أو بعطاء يعطونه إذا دلّهم على سرقاتهم، ونحو ذلك.
__________
(1) - السابق 68.
(2) - السابق 74 .(5/27)
ولما كانت أحوال هؤلاء شيطانية كانوا مناقضين للرسل صلوات الله تعالى وسلامه عليهم، كما يوجد في كلام صاحب الفتوحات المكية والفصوص وأشباه ذلك يمدح الكفار مثل قوم نوح وهود وفرعون وغيرهم، ويتنقص الأنبياء كنوح وإبراهيم وموسى وهارون، ويذم شيوخ المسلمين المحمودين عند المسلمين كالجنيد بن محمد، وسهل بن عبد الله التستري، وأمثالهما، ويمدح المذمومين عند المسلمين كالحلاج ونحوه، كما ذكره في تجلياته الخيالية الشيطانية، فإن الجنيد قدس اللهُ روحه كان من أئمة الهدى، فسئل عن التوحيد فقال التوحيد إفراد الحدوث عن القدم، فبين أن التوحيد أن تميز بين القديم والمحدث، وبين الخالق والمخلوق، وصاحب الفصوص أنكر هذا وقال في مخاطبته الخيالية الشيطانية له : يا جنيد هل يميز بين المحدث والقديم إلا من يكون غيرهما، فخطّأ الجنيد في قوله إفراد الحدوث عن القدم؛ لأن قوله هو أن وجود المحدث هو عين وجود القديم كما قال في فصوصه: ومن أسمائه الحسنى العلي على من؟ وما ثم إلا هو، وعن ماذا؟ وما هو إلا هو، فعلوه لنفسه، وهو عين الموجودات، فالمسمى محدثات هي العلية لذاته، وليست إلا هو. إلى أن قال: هو عين ما بطن، وهو عين ما ظهر، وما ثم من يراه غيره، وما ثم من ينطق عنه سواه، وهو المسمى أبو سعيد الخراز!!! وغير ذلك من الأسماء المحدثات.(5/28)
فيقال لهذا الملحد ليس من شرط المميز بين الشيئين بالعلم والقول أن يكون ثالثا غيرهما، فإن كل واحد من الناس يميز بين نفسه وغيره، وليس هو ثالث، فالعبد يعرف أنه عبد ويميز بين نفسه وبين خالقه، والخالق جل جلاله يميز بين نفسه وبين مخلوقاته، ويعلم أنه ربهم وأنهم عباده، كما نطق بذلك القرآن في غير موضع، والاستشهاد بالقرآن عند المؤمنين الذين يقرون به باطنا وظاهرا، وأما هؤلاء الملاحدة فيزعمون ما كان يزعمه التلمساني منهم، وهو أحذقهم في إتحادهم لما قرىء عليه الفصوص فقيل له القرآن يخالف فصوصكم، فقال القرآن كله شرك، وإنما التوحيد في كلامنا، فقيل له فإذا كان الوجود واحدا فلم كانت الزوجة حلالا والأخت حراما، فقال الكل عندنا حلال، ولكن هؤلاء المحجوبون قالوا حرام فقلنا حرام عليكم. وهذا مع كفره العظيم متناقض ظاهرا، فإن الوجود إذا كان واحدا، فمن المحجوب ومن الحاجب؟ ولهذا قال بعض شيوخهم لمريده من قال لك أن في الكون سوى الله فقد كذب، فقال له مريده فمن هو الذي يكذب؟ وقالوا لآخر هذه مظاهر، فقال لهم المظاهر غير الظاهر أم هي؟ فإن كانت غيرها فقد قلتم بالنسبة وإن كانت إياها فلا فرق . )(1)
والذي يهمنا من هذا الكلام أشياء:
الأول: أن إنشاء شيخ الإسلام لهذا الاستطراد وهذه البينات لهؤلاء الملاحدة، الغرض أنّ أهل الشام ومصر في ذلك الوقت يعظمون أصحاب وحدة الوجود؛ يعظمون ابن عربي والتلمساني وأشباه هؤلاء، وابن الفارض يعظمونهم جدا، واشتهر عنهم أنهم يقولون بهذا الكلام ومع ذلك يعظمونهم، ولهذا أوجب أن يبين أن هؤلاء ليسوا من أولياء الله، فاستطرد ليبين لك فساد قول هؤلاء وأنه لا يكون أمثال هؤلاء أولياء لله جل وعلا.
__________
(1) - الفرقان 82.(5/29)
الثاني: أنّ هؤلاء الملاحدة والزنادقة أمثال ابن عربي وأشباهه، شاع في الناس أنّ لهم كرامات وأنهم يخبِرون بأشياء تكون حقا، وأنّ الكهان من أتباعهم والمنتسبين للتصوف عندهم أحوال إيمانية ينكشف لهم بها الغيب، وأنّه يوحى إليه، وأنه تأتيه المعلومات ليست إلا عندهم، فجعلوا هذه الأشياء من كراماتهم فبيّن رحمه الله فيما ذكر أنّ هذه الأشياء التي تنسب إليهم صحيحة، ولكن ليست هي كرامات تأتيهم من الملائكة وإنما هي أحوال شيطانية تأتيهم من الشياطين ?وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إلى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ ?[الأنعام:121]، والشيطان يتنزل على مَن يواليه ويخبره بأشياء ويعلمه ويعطيه معلومات فربما حمله وربما تصور بصورته وربما طار به في الهواء وربما سخر له بعض الأشياء بما أقدره الله عليه، فإذن فالشأن ليس في أنّه يُخدم، أو أنه يُدَّعَى أنّ الملائكة تخدمه وتعمل له، ولكن الشأن هل هو من أولياء الله موافق لشرع الله ومتبع للسنة أو لا؟ فإذا لم يكن متبعا للسنة ويقول مثل هذه الأقوال الكفرية فنعلم قطعا أنه من أولياء الشيطان، وأنّ ما قاله وافتراه وادعاه من هذه الأقوال الباطلة هي دليل أنه شيطان من الشياطين، وأنّ المؤمن لا يجوز له أن يغتر بأحوال هؤلاء وأنْ يجعلهم من أولياء الله جل وعلا .(5/30)
والثالث من أسباب إنشائه هذا الكلام أو الاستطراد: أنّ أكثر السحرة والكهنة في أزمنة الإسلام ادَّعَوا الصلاح، وادعوا أنّ ما يأتيهم إنما هو من جهة الملائكة، فهذا تسمعه عند كثير من مُغَفَّل من المسلمين وجهلتهم فيما يذكرون من أخبار بعض الناس في بلد كذا وبلد كذا وبلد كذا، هم يقولون فلان تأتيه هذا تخبره الملائكة لأنه رجل صالح، وهذا لاشك أن هذا من براثن تلك الخلفية العامة، فإذا قيل إنّ فلانا تنزل عليه الملائكة فاعلم أن هذا من جهة أولياء الشيطان؛ لأننا لا نعلم أحدا من الصحابة ولا من التابعين ولا من سادات المسلمين قيل أن الملائكة تنزل عليه فتخبره إلى آخره، وإنما هي دعوى لأولئك الفسقة الفجرة فيها يروجون على الناس في كهانتهم أو سحرهم، فالسحرة الآن يأمرون الناس بتلاوة القرآن؛ ويتلون عليهم القرآن ثم يخلطون معها غيرها، يقولون نخبركم؛ الملائكة تأتينا وتخبرنا، وهي الشياطين، وهم أصلا من أكذب الناس فكيف يصدَّقون في مثل هذه الأشياء، فإذن يبيّن شيخ الإسلام حال من كان في زمنه؛ وهو الوجه الثاني الذي ذكرنا، والوجه الثالث حال كل من ادعى نزول الملائكة عليهم، فإنّه الحجة كما قال ابن عباس في حال المختار بن أبي عبيد؛ قيل له إنه ينزّل عليه قال صدق فإنه تنزّل عليه الشياطين، كما قيل إنه يوحى إليه قال نعم كما قال الله ?وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إلى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ ?[الأنعام:121](5/31)
وملخص هذا أن الكلام أو الغرض منه ما ذكرنا من بيان الفرقان العظيم بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان، وأن مسألة خرق العادات ليست فرقانا؛ أن يحصل للمرء خارقا للعادة؛ أن يحصل له شيء لم يحصل لغيره هذا ليس دليلا على صلاحه، وليس دليلا على فساده، حتى ينظر في أمره فإن كان من أهل الإيمان والصلاح المتابعين للحق فإنه يرجى أن تكون هذه كرامة له، وإن كان من غير أهل الإيمان؛ من أهل البدعة والفسق والفجور فإن ما حصل له يعتبر فارقا شيطانيا وحالا شيطانية وليست بكرامة. فإذن هذا كل ما بحثه في هذا الموضع والذي قبله ملخصه أن الأحوال والخوارق ليست برهانا ولا دِلالة، وإنما البرهان والدلالة هو ما قال الله جل وعلا ? أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ(62)الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ?[يونس:62]، والملائكة لا تنزل إلا على الرسل أو على المؤمنين لتثبيتهم في القتال أما الإخبار بالمغيبات وأشباه ذلك فلا يكون، قد يُلقى في روع المؤمن من أن يكون هذا الأمر كذا؛ يكون من باب الفراسة الإيمانية التي يعطيها الله جل وعلا لمن يشاء من خلقه، لكن تحديث الملائكة ويقول سمعت الملائكة قالت لي الملائكة هذا لا شك أنه من صنيع الشيطان . (1)
جبر الصوفية ؛ وعدم تفريقهم بين الإرادة الكونية ،والإرادة الشرعية :
قال الشيخ رحمه الله :
__________
(1) - التعليقات 54 .(5/32)
(....وسنذكر الفرق بين الإرادة الكونية والدينية والأمر الكوني والديني، وكانت هذه المسألة قد اشتبهت على طائفة من الصوفية فبينها الجنيد رحمه الله لهم، ومن اتبع الجنيد فيها كان على السداد، ومن خالفه ضل، لأنهم تكلموا في أن الأمور كلها بمشيئة الله وقدرته، وفي شهود هذا التوحيد وهذا يسمونه الجمع الأول، فبين لهم الجنيد أنه لابد من شهود الفرق الثاني، وهو أنه مع شهود كون الأشياء كلها مشتركة في مشيئة الله وقدرته وخَلقه يجب الفرق بين ما يأمر به ويحبه ويرضاه، وبين ما ينهى عنه ويكرهه ويسخطه، ويفرق بين أوليائه واعدائه، كما قال تعالى ?أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ(35)مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ?[35-36]، وقال تعالى ?أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ?[ص:28]، وقال تعالى ?أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ?[الجاثية:21]، وقال تعالى ?وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلَا الْمُسِيءُ قَلِيلًا مَا تَتَذَكَّرُونَ?[غافر:58]، ولهذا كان مذهب سلف الأمة وأئمتها أن الله خالق كل شيء وربه ومليكه، ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، لا رب غيره، وهو مع ذلك أمر بالطاعة ونهى عن المعصية، وهو لا يحب الفساد، ولا يرضى لعباده الكفر، ولا يأمر بالفحشاء، وإن كانت واقعة بمشيئته فهو لا يحبها ولا يرضاها، بل يبغضها ويذم أهلها ويعاقبهم. وأما المرتبة الثالثة أن لا يشهد طاعة ولا معصية فإنه يرى أن الوجود واحد، وعندهم أن هذا غاية التحقيق، والوَلاية لله، وهو في الحقيقة غاية الإلحاد في أسماء الله وآياته وغاية العداوة لله. فإن صاحب هذا المشهد(5/33)
يتخذ اليهود والنصارى وسائر الكفار أولياء وقد قال تعالى ?وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ?[المائدة:51]، ولا يتبرأ من الشرك والأوثان فيخرج عن ملة ابراهيم الخليل صلوات الله وسلامه عليه قال الله تعالى ?قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ?[الممتحنة:4]، وقال الخليل عليه السلام لقومه المشركين ?أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ(75)أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ الْأَقْدَمُونَ(76)فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ?[الشعراء:75-77]، وقال تعالى ?لاَتَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أو أَبْنَاءَهُمْ أو إِخْوَانَهُمْ أو عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمْ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ?[المجادلة:22](1).
تلبيس الشيطان عليهم بما يشبه الكرامات واغترارهم بذلك ،وظنهم أنه من الولاية :
قال الشيخ رحمه الله :
__________
(1) - الفرقان 78 .(5/34)
(وهكذا أهل الأحوال الشيطانية تنصرف عنهم شياطينهم إذا ذكر عندهم ما يطردها مثل آية الكرسي، فإنه قد ثبت في الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - لما وكله النبي - صلى الله عليه وسلم - بحفظ زكاة الفطر فسرق منه الشيطان ليلة بعد ليلة وهو يمسكه فيتوب فيطلقه فيقول له النبي - صلى الله عليه وسلم - «ما فعل أسيرك البارحة» فيقول زعم أنه لا يعود، فيقول «كذبك وإنه سيعود» فلما كان في المرة الثالثة، قال دعني حتى أعلمك ما ينفعك إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي ?اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ?[البقرة:255] إلى آخرها فإنه لن يزال عليك من الله حافظ ولا يقربك شيطان حتى تصبح، فلما أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - قال «صدقك وهو كذوب» وأخبره أنه شيطان، ولهذا إذا قرأها الإنسان عند الأحوال الشيطانية بصدق أبطلتها، مثل من يدخل النار بحال شيطاني أو يحضر سماع المكاء والتصدية فتنزل عليه الشياطين وتتكلم على لسانه كلاما لا يعلم وربما لا يفقه، وربما كاشف بعض الحاضرين بما في قلبه، وربما تكلم بألسنة مختلفة كما يتكلم الجني على لسان المصروع، والإنسان الذي حصل له الحال لا يدري بذلك بمنزلة المصروع الذي يتخبطه الشيطان من المس، ولَبِسَهُ وتكلم على لسانه فإذا أفاق لم يشعر بشيء مما قال. ولهذا قد يضرب المصروع وذلك الضرب لا يؤثر في الإنسي، ويخبر إذا أفاق أنه لم يشعر بشيء لأن الضرب كان على الجني الذي لبسه. ومن هؤلاء من يأتيه الشيطان بأطعمة وفواكه وحلوى وغير ذلك مما لا يكون في ذلك الموضع، ومنهم من يطير بهم الجني إلى مكة أو بيت المقدس أو غيرهما، ومنهم من يحمله عشية عرفة ثم يعيده من ليلته فلا يحج حجا شرعيا، بل يذهب بثيابه ولا يحرم إذا حاذى الميقات، ولا يلبي، ولا يقف بمزدلفة، ولا يطوف بالبيت، ولا يسعى بين الصفا والمروة، ولا يرمى الجمار، بل يقف بعرفة بثيابه ثم يرجع(5/35)
من ليلته، وهذا ليس بحج مشروع باتفاق المسلمين، وكمن يأتي الجمعة ويصلي بغير وضوء إلى غير قبلة، وهم هؤلاء المحمولين مرة إلى عرفات، ورجع فرأى ملائكة تكتب الحجاج، فقال ألا تكتبوني، فقالوا لست من الحجاج يعنى لم تحجّ حجًّا شرعيا )(1).
كرامات الأولياء عند الصوفية :
قال الشيخ رحمه الله :
(وبين كرامات الأولياء وما يشبهها من الأحوال الشيطانية فروق متعددة، منها أن كرامات الأولياء سببها الإيمان والتقوى، والأحوالُ الشيطانية سببها ما نهى الله عنه ورسوله، وقد قال تعالى ?قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ?[الأعراف:33]، فالقول على الله بغير علم، والشرك، والظلم، والفواحش، قد حرّمها الله تعالى ورسوله، فلا تكون سببا لكرامة الله تعالى ولا يُستعان بالكرامات عليها، فإذا كانت لا تحصل بالصلاة والذكر وقراءة القرآن، بل تحصل بما يحبه الشيطان وبالأمور التي فيها شرك كالاستغاثة بالمخلوقات، أو كانت مما يستعان بها على ظلم الخلق، وفعل الفواحش، فهي من الأحوال الشيطانية، لا من الكرامات الرحمانية، ومن هؤلاء من إذا حضر سماع المكاء والتصدية يتنزل عليه شيطانه حتى يحمله في الهواء ويخرجه من تلك الدار، فإذا حَضَرَ رجل من أولياء الله تعالى طرد شيطانه، فيسقط، كما جرى هذا لغير واحد، ومن هؤلاء من يستغيث بمخلوق إما حي أو ميت، سواء كان ذلك الحي مسلما أو نصرانيا أو مشركا، فيتصور الشيطان بصورة ذلك المستغاث به ويقضي بعض حاجة ذلك المستغيث، فيظن أنه ذلك الشخص، وهو ملك تصور على صورته، وإنما هو شيطان أضله لما أشرك بالله، كما كانت الشياطين تدخل الأصنام وتكلم المشركين. ومن هؤلاء من يتصور له الشيطان ويقول له أنا الخَضِر،
__________
(1) - الفرقان 124.(5/36)
وربما أخبره ببعض الأمور وأعانه على بعض مطالبه، كما قد جرى ذلك لغير واحد من المسلمين واليهود والنصارى وكثير من الكفار بأرض المشرق والمغرب، يموت لهم الميت فيأتي الشيطان بعد موته على صورته، وهم يعتقدون أنه ذلك الميت، ويقضي الديون، ويردّ الودائع، ويفعل أشياء تتعلق بالميت، ويدخل على زوجته، ويذهب، وربما يكونون قد أحرقوا ميتهم بالنار كما تصنع كفار الهند، فيظنون أنه عاش بعد موته. ومن هؤلاء شيخ كان بمصر أوصى خادمه فقال إذا أنا مِتُّ فلا تدع أحدا يغسلني، فأنا أجيء وأغسل نفسي فلما مات رآى خادمه شخصا في صورته فاعتقد أنه هو دخل وغسل نفسه، فلما قضى ذلك الداخل غسله، أي غسّل الميت غاب، وكان ذلك شيطانا، وكان قد أضل الميت، وقال إنك بعد الموت تجيء فتغسل نفسك، فلما مات جاء أيضا في صورته ليغوي الأحياء كما أغوى الميت قبل ذلك. ومنهم من يرى عرشا في الهواء وفوقه نور، ويسمع من يخاطبه ويقول أنا ربك، فإن كان من أهل المعرفة علم أنه شيطان فزجره واستعاذ بالله منه فيزول، ومنهم من يرى أشخاصا في اليقظة يدعي أحدهم أنه نبي أو صديق أو شيخ من الصالحين، وقد جرى هذا لغير واحد، ومنهم من يرى في منامه أن بعض الأكابر، ما الصديق - رضي الله عنه - أو غيره قد قص شعره أو حلقه أو ألبسه طاقيته أو ثوبه فيصبح وعلى رأسه طاقية وشعره محلوق أو مقصر، وإنما الجن قد حلقوا شعره أو قصروه وهذه الأحوال الشيطانية تحصل لمن خرج عن الكتاب والسنة وهم درجات، والجن الذين يقترنون بهم من جنسهم، وعلى مذهبهم، والجن فيهم الكافر والفاسق والمخطىء، فإن كان الإنسي كافرا أو فاسقا أو جاهلا دخلوا معه في الكفر والفسوق والضلال، وقد يعاونونه إذا وافقهم على ما يختارونه من الكفر، مثل الإقسام عليهم بأسماء من يعظمونه من الجن وغيرهم، ومثل أن يكتب أسماء الله أو بعض كلامه بالنجاسة، أو يقلب فاتحة الكتاب، أو سورة الإخلاص، أو آية الكرسي، أو غيرهن، (1)
__________
(1) يقلبها يعني يقرأها من آخرها إلى أولها وهذا بالنسبة للآيات.(5/37)
ويكتبهن بنجاسة فيغورون له الماء وينقلونه بسبب ما يرضيهم به من الكفر. وقد يأتونه بما يهواه من امرأة أو صبي، إما في الهواء وإما مدفوعا ملجأ إليه، إلى أمثال هذه الأمور التي يطول وصفها والإيمان بها إيمان بالجبت والطاغوت، والجبت السحر، والطاغوت الشياطين والأصنام.)(1) .
ومقصود شيخ الإسلام رحمه الله من هذا كله أن :
هذا سحر ، من كتابة الآيات بالنجاسات وإهانة المصحف والعياذ بالله أو البول عليه والعياذ بالله، هذا من آخر مراتب السحرة يعني بتعلم السحر والعياذ بالله لا يكون كاهنا ساحرا تخدمه الشياطين وتعمل بأمره فيما يشتهي إلا إذا حصل منه الكفر، بهذه الأنواع كما قد ذكر في بعض كتب السحر المعاصرة والقديمة فالناس في زمن شيخ الإسلام وما قبله إلى زمن قريب من زمننا هذا كانوا يعتقدون في هؤلاء السحرة والكهنة، واليوم في بعض البلاد مثل ما هو موجود في المغرب فيما يذكرون، وفي لبنان وفي مصر أيضا على قلة لكن في المغرب يقولون بكثرة، وفي بعض البلاد يوجد أناس تخدمهم الشياطين ويخبّرونهم بالمغيبات وراج على بعض أهل هذه البلاد من أهل الفطرة راج عليهم أنّ أولئك قالوا الملائكة تخبرهم، الملائكة تخدمهم، هؤلاء صالحون ويظهرون لهم بصورة الصلاح، ويزعمون أن الملائكة هي التي تصنع لهم وتخدمهم، الملائكة لا تفعل شيئا من ذلك، ولم تخدم الصحابة في مثل هذه الأشياء، وإنما هذه من الشياطين، يخبرونهم بالمغيبات ويغيرون لهم الأشياء، وينطق الناطق وهو بعيد ويأتي ويقول الميت يقول كذا وكذا، أو يسمع صوت وأشباه ذلك مما ذكر.
__________
(1) - الفرقان 126.(5/38)
المقصود من هذا البحث الذي ذكر شيخ الإسلام وأطال فيه من حيث الأمثلة، تأصيل القاعدة بأن الفرقان بين الخارق الشيطاني هو حال الشخص، فإذا كان من حصلت له الخوارق مطيعا لله ورسوله آمرا ناهيا صاحب تقوى، فهذا قد يُجري الله على يديه كرامات، وإذا كان عاصيا مخالفا مرتكبا للمحرمات تاركا للفرائض، عنده حب للنجاسات، وعنده إظهار للتعذيب بالنار أو الخوارق التي لا تحصل لأهل الإيمان لأنها أمور منكرة فهذه حال شيطانية، ولو ادعى أنها من الملائكة أو من صلاحه أو إلى آخره فهذه أحوال شيطانية.
كذلك ما يكون من الأمور التي ذكرها من الأمثلة هذه يجب على المرء أن لا يكذب يقول لا ما حصل هذا، لأن الأشياء حصلت ويكون الذي رأى أنه حصل يقول حصل ورأيته بعيني فيحيل الداعية إلى الحق يحيل الموحد، يقول نعم حصل ولكن لم يحصل إلا من الشيطان، نعم سُمع الصوت من القبر وهو صوت فلان وكلمكم قال : إفعلوا كذا أو غفرت لكم أو سألت لكم ربي أو شفعت لكم، لكن هو في الواقع صوت شيطان ليس صوت الميت، لأن الشيطان قلد صوت الميت ليغوي العباد فالأموات لا يخاطبون الأحياء، لا يخاطب النبي عليه الصلاة والسلام الأحياء والصحابة ولا شهداء بدر ولا أكرم الناس، لم يخاطبوا الأحياء بأمور، وإذا الشيطان تكلم على لسان هذا الميت فيحصل من هذا التكليم إغواء تعلق واعتقادات باطلة إذن فالشياطين مهمتهم الإغواء كما هو معلوم ?لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا(62)قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا(63)وَاسْتَفْزِزْ مَنْ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ?[الإسراء:62-64] صوت الشيطان يشمل كل ما يغوي الشيطان به العباد من الأصوات سواء كانت أصوات المخلوقين التي من جهة الشيطان أو تجد الشيطان نفسه في القبور في هذه الأحوال.(5/39)
فإذن يجب أن ينتبه إلى مثل هذه المسائل خاصة في البلاد التي يكثر فيها الجهل والاعتقاد بالكهنة والأولياء وما شابه ذلك وأن أكثر ما يحصل لهم من هذه الأشياء إنما هي من الشياطين، وبعضها خيالات، سبب استطراد شيخ الإسلام في مثل هذه الأمثلة هو أن يُعلم القارئ الذي يقرأ كتابه أنه محيط بأحوال القوم حتى لا يقول قائل أنت تتكلم عنهم وأنت لا تعرفهم فذكر كل الأصناف جميعا التي يحصل لهم الخوارق وتخدمهم الشياطين وأصناف ما يحصل لهم في الأطعمة في الأشربة في الطيران في الهواء في الماء وفي الإخبار بالمغيبات وفي المكث عند القبور والتمثل بالأشخاص كل هذه حصلت للناس وهو يمثل بها حتى يجمع ما بين معرفة واقع الناس وما بين تقرير الأحكام الشرعية حتى يكون أعظم في الحجة.
ذكر شيخ الإسلام في بعض كتبه أن الشيطان تمثل في صورته يقول : وقعت مرة لطائفة من أصحابي ضائقة وكرب قالوا فرأينا صورتك يعني فرأيناك عندنا فاستغثنا بك، فأتيت وخلصتنا من العدو، فلما أخبره لما قدموا هنا قال لم آتِ إنما ذاك شيطان تصور بصورتي ليغويكم فاحذروا ، أو كما قال رحمه الله تعالى. فالشيطان بشهادة الثقات الجمع من أصحابه تمثل بصورته لذلك هند شيخ الإسلام هذا يقيني لأنه شهد به الثقات وهو يعلم بيقين من نفسه أنه ما تعدى بنفسه، كيف هؤلاء يقولون حصل لنا كيت وكيت وأنت جئت وخلصتنا لاشك أن هذا من الشيطان لذلك، يتكلم بأشياء مبنية على محسوس والمبني على محسوس لا يُكذَّب والذي ذكرتَه هذا يُرد عليه بما ذكر شيخ الإسلام عن نفسه لأنه لم يتخيل بحال الناس إنما ذكر عن نفسه هذه الأشياء. المسألة هذه تطول نقف عند هذا.(1)
الخاتمة
__________
(1) - التعليقات الحسان 87.(5/40)
يُعدُّ هذا البحث الذي مرَّ معنا كلاماً في قضية بعينها ؛ وهي مسألة الأولياء وأحوالهم عند الصوفية ، وهي مسألة مبثوثة في كتب شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله بإسهاب وتفصيل ، ولكنني قصدت إلى إظهارها من كتاب الفرقان فحسب ، ومن الممكن أن نخرج بالنتائج التالية :
المسألة الأولى: في أنّ وجود ولي الله وولي الشيطان أمرٌ مقرّر في الشرع؛ في الكتاب والسنة:
أما وَلاية الله جل وعلا لعبده فهي كما قال ?إِنَّمَا وَلِيُّكُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ(55)وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمْ الْغَالِبُونَ?[المائدة:55-56]، وقال? أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ?[يونس:62].
وفي وَلاية الشيطان آيات كثيرة ?إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ ?[النحل:100]، وقال ?إِنَّمَا ذَلِكُمْ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ?[آل عمران:175] والآيات في ذلك كثيرة ساقها الإمام في أول البحث.
المسألة الثانية: في تعريف وليّ الله وتعريف وليّ الشيطان وأنّ:
وليّ الله: الوليّ هو كل مؤمن تقي ليس بنبيّ للآية حيث عرّف الأولياء بأنهم ?الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ?[يونس:63]، المؤمن المتقي هو الوليّ.
ووليّ الشيطان: هو الذي يطيع الشيطان ويأمر بأمره ويخالف ما جاء به محمد عليه الصلاة والسلام؛ لأن الله جل وعلا قال ?أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ?[يس:60] يعني بطاعته في ارتكاب الحرام بأنواعه، في ترك الفرائض بأنواعها، والآيات في هذا كثيرة ذكرنا لكم بعضًا منها.
المسألة الثالثة-في خلاصة هذا-:(5/41)
أنّ وَلاية المؤمن لله جل وعلا ووَلاية الله جل وعلا لعبده المؤمن متبعِّضة ليست على مرتبة واحدة؛ فكل مؤمن له نصيب من التقوى له نصيب من الوَلاية، فالإيمان والتقوى متبعِّضة فكذلك الوَلاية متبعضة.
وكذلك وَلاية الشيطان للعبد والعبد للشيطان متبعضة فكل عاص له نصيبه من وَلاية الشيطان.
فمعتقد أهل السنة أنه يكون في الشخص أشياء موجبةً لوَلاية الشيطان وموجبة لولاية الرحمن جل وعلا، فيجتمع في المعيّن الوَلاية من الجهتين، وهو لما غَلَبَ منها، يعني يكون ولي لله جل وعلا في طاعته ويكون مطيع للشيطان وولي له فيما عصاه به؛ لكن لا يُقال في المؤمن: إنّه ولي للشيطان بإطلاق. بل يقال: مؤمن وليّ لله جل وعلا فيه معصية، فيه طاعة للشيطان ونحو ذلك. لأن الله سبحانه جعل وَلاية الشيطان وسلطانه على الذين لا يؤمنون؛ ?إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ?[الأعراف:27]. إذن المؤمن لا يُقال: هذا ولي للشيطان بإطلاق. لكن بتقييد.
المسألة الرابعة: أنّ لأولياء الرحمن علامات، ولأولياء الشيطان علامات، وذكرها شيخ الإسلام في الكتاب.
المسألة الخامسة:
أنّ أولياء الرحمن لهم كرامات، والكرامة عُرّفت بأنها أمر خارق للعادة يجري على يدي وليّ، وأن حصول الكرامة لا يعني رِفعة من حصلت له على من لم تحصل له، بل قد يكون من لم تحصل له كرامة أرفع ممن حصلت له كرامة. وهذه قرّرها في كتابه.
وما يحصل لأولياء الشيطان من خوارق هي خوارق شيطانية من جهة الشيطان يعينهم، وليس الله جل وعلا يكرمهم بذلك؛ ليسوا بأهلٍ للإكرام.
فإذن يجب أن يُنظر في الفرق ما بين وليّ الرحمن ووليّ الشيطان من جهة العمل؛ من جهة طاعته لله ورسوله، وليس ذلك عمادُه الخوارق؛ قد تحصل الخوارق الشيطانية لبعض الناس.(5/42)
المسألة السادسة: أنّ المبتدعة من هذه الأمة والمشركين ، وبعض المتصوفة، والذين يتعلقون بالقبور والأضرحة ، ويتعلقون التعلقات البدعية والشركية بالمعظَّمين، هؤلاء تُعينهم الشياطين على أشياء غريبة، بالأنواع التي ذكرها وأصناف أطال فيها من أمور علمية وأمور قدَرية وأشباه ذلك، أو أنواع هذه الأجناس، هذا كلُّه إذا كان لمن ليس على الإيمان والتقوى؛ يعني أن أهل الشرك والبدع تحصل لهم أمور خوارق، وهذه من جهة إعانة الشياطين لهم بأمور كثيرة من تكليمهم الموتى، ومن حصول أنواع المعلومات والمعارف، وأحيانا يكون شفاء مرضى، وأحيانا يشفى بقراءته، وأحيانا يشفى بلمسه أو بكتابته أو ما أشبه ذلك، كل هذا يكون من الشيطان، الشيطان الذي يَنْخَسُ المرء ويُوجع، ثم إذا أتى هذا المشرك والمبتدع فحصل منه بعض الأشياء رفع يده، مثل ما قال ابن مسعود: إنما ذلك الشيطان ينخسها بيده ، فهذا أيضا فرقان مهمّ في أنّ أهل الشرك والبدع والتعلقات الشركية والقبور والأوثان ليسوا بأهل لكرامة الله جل وعلا؛ بل هم أهل لإهانة المولى جل جلاله، ولكن يحصل لهم خوارق من فعل الشياطين.
المسألة السابعة: أنّ الجن مكلفون مثل تكليف الإنس، وأنهم مخاطبون، وأنّ وليّ الله جل وعلا إذا عرضت له الجن والشياطين بأشياء تخدمه بها أو أحوال يفعلونها به فإنه يجب عليه أن يأمرهم وينهاهم كما أمرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - ونهاهم، وأن يتلو عليهم القرآن، وأن يقيم عليم الحجة.(5/43)
المسألة الثامنة: والأخيرة التي ختم بها الكتاب أنّ العبد إذا تبين له الحق والصواب في هذه المسائل، وعرف المقصد، وعرف سبب ونشأة الضلال، فيجب عليه أن يراجع الصواب وأن يتوب إلى الله جل وعلا فإن الحق ديْدن المؤمن، ولا يجوز له أن يعلم الحق ويكابر، ويترك ذلك إلى غيره، كما ذكر أنّ طائفة من الناس عرفوا الحق في ذلك، وأنّ ما يأتيهم من الشياطين، فاستغفروا وأنابوا وتركوا موجبات إعانة الشيطان من البدعة والشرك إلى آخره، إلى موجبات إعانة الرحمن جل جلاله وتوفيقه وهي السنة ومتابعة الهدي ولزوم طريقة السلف الصالح رضوان الله عليهم. وهذا ختام هذا البحث.
وأسأل الله جل جلاله أن ينفعنا به، وأن يُقِرَّ العلم في قلوبنا، وأن لا يحجبه عنا ولا عن أحبابنا بذنوبنا ومعاصينا، كما أسأله سبحانه أن يلهمنا جميعاً كلمة التقوى، وأن يجعلنا من الدعاة إلى دينه والمعلمين شريعة نبيه عليه الصلاة والسلام للناس أجمعين، إنّه سبحانه جواد كريم وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.(1)
أهم المراجع والمصادر
القرءان الكريم .
صحيح البخاري .
صحيح مسلم .
سنن النسائي.
سنن الترمذي .
سنن ابن ماجه .
صحيح الجامع الصغير . للشيخ محمد ناصر الدين الألباني ت(1420هـ ).
خطبة الحاجة . للألباني .
كتاب : الأعلام العلية في مناقب ابن تيمية ت: عمر بن علي بن موسى البزار أبي حفص . (ت 749هـ ) تحقيق : زهير الشاويش .
العقود الدرية من مناقب شيخ الإسلام أحمد بن تيمية. ت. محمد بن أحمد بن عبد الهادي بن قدامة المقدسي أبي عبد الله ت( 744هـ) ، تحقيق الشيخ / محمد حامد الفقي .
كتاب : الانتصار ، لابن قدامة أيضا ً تحقيق أ د / محمد السيد الجليند .
الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان . شيخ الإسلام ابن تيمية .
__________
(1) - التعليقات 102 . وينظر للتوسع : تقديس الأشخاص في الفكر الصوفي تأليف / محمد أحمد لوح . ( رسالة علمية ) .(5/44)
التصوف عرض ونقد . أ د / عبد الفتاح بن أحمد الفاوي .
أصول الملامتية وغلطات الصوفية . تحقيق أ د / عبد الفتاح بن أحمد الفاوي.
تقديس الأشخاص في الفكر الصوفي . ت : محمد أحمد لوح . ط 1 / 1422هـ
التعليقات الحسان على كتاب الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان .ت / معالي الشيخ/ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ . (مخطوط) أشرطة مفرغة .
رسالة " نواقض الإسلام" للإمام المجدد شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب المتوفى سنة (1206هـ).
الفهارس
الموضوع الصفحة
المقدمة ........................................................................2
المبحث الأول : تعريف بشيخ الإسلام ...........................................3
نشأته .........................................................................3
مؤلفاته ........................................................................3
وفاته ..........................................................................4
المبحث الثاني : الأولياء .........................................................5
الولي والولاية ..................................................................5
أحاديث مكذوبة في الولاية عند الصوفية .........................................7
حكم من اظهر الولاية وهو لا يؤدي الفرائض ...................................10
كلام مشايخ الصوفية في الولاية ................................................10
من خالف الدين فليس بولي ...................................................12
تلبيس الشيطان على الصوفية في مسألة الولاية ...................................14
الخوارق تنقسم إلى ثلاثة أقسام .................................................16
مسألة ختم الأولياء ............................................................16(5/45)
ضلال من يفضلون الولاية على النبوة ...........................................17
من زعم أن ابن عربي ولي ......................................................17
جبر الصوفية ، ضلالهم في مسألة الإرادة الكونية ، والشرعية ......................20
تلبيس الشيطان عليهم في الكرامات وظنهم ذلك ولاية ...........................21
كرامات الأولياء عند الصوفية ...................................................22
الخاتمة .........................................................................25
أهم المراجع والمصادر ...........................................................29
الفهارس ......................................................................30(5/46)
بسم الله الرحمن الرحيم
جامعة القاهرة
كلية دار العلوم
قسم الفلسفة الإسلامية
" أولياء الصوفية عند شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه:
الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان "
تحت إشراف /
الأستاذ الدكتور / عبد الفتاح أحمد الفاوي
أستاذ الفلسفة الإسلامية بكلية دار العلوم
إعداد الطالب
موسى بن محمد بن هجاد الزهراني
للسنة التمهيدية للماجستير بقسم الفلسفة الإسلامية بكلية دار العلوم
2003-2004م
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
إنِ الْحَمْدَ لِلَّهِ ، نَحْمَدُهُ ، وَنَسْتَعِينُهُ ، وَنَسْتَغْفِرُهُ ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا ، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلا مُضِلَّ لَهُ ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ :
(( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ )) [آل عمران:102].
(( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً )) [النساء:1].
(( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً )) [الأحزاب:70-71].(6/1)
أَمَّا بَعْدُ : فَإِنَّ خَيْرَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ ، وَخَيْرُ الْهُدَى هُدَى مُحَمَّدٍ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ ـ وَشَرُّ الأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلالَةٌ .(1) وبعد : فهذا عرض لموضوع ( أولياء الصوفية عند شيخ الإسلام ابن تيمية ، في كتابه الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان ) ، مقدم لأستاذنا الفاضل ، الأستاذ الدكتور / عبد الفتاح بن أحمد الفاوي ، أستاذ الفلسفة الإسلامية ، بكلية دار العلوم ، حفظه الله ورعاه . وقد قسمته إلى مقدمة ، ومبحثين وخاتمة :
المبحث الأول : في ترجمة شيخ الإسلام بن تيمية .
المبحث الثاني : في الولاية والولي عند الصوفية : وتحته عدة مسائل مستقاة من كلام الشيخ .
المصادر والمراجع .
الفهارس .
أسأل الله أن أكون قد وفقت في عرض هذه القضية ، ومناقشتها علمياً بما يفيد ، وأن يجزي عني أستاذي الدكتور / عبد الفتاح الفاوي ، خير الجزاء ، وأن يوفقنا جميعاً للعلم النافع والعمل الصالح . وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين .
المبحث الأول
تعريفٌ بشيخ الإسلام ابن تيمية :
هو شيخ الإسلام أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن محمد الخضر بن محمد بن الخضر بن علي بن عبد الله بن تيمية الحراني ثم الدمشقي.
وتيمية هي والدة جده الأعلى محمد . وكانت واعظة راوية.
ولد رحمه الله يوم الاثنين العاشر من ربيع الأول ، بحران سنة 661هـ ولما بلغ سبع سنوات من عمره انتقل مع والده إلى دمشق ، هربا من التتار .
__________
(1) - ـ هذه خطبه الحاجة رواها الترمذي وحسنه ( 1105)، والنسائي (6/89)، وابن ماجه ( 1892)، انظر تخريجها مبسوطاً في كتاب ( خطبة الحاجة ) للشيخ : محمد ناصر الدين الألباني – رحمه الله - .(6/2)
نشأته : نشا في بيت علم وفقه ودين، فأبوه و أجداده وإخوانه وكثير من أعمامه كانوا من العلماء المشاهير، وفي هذه البيئة العلمية الصالحة كانت نشأة هذا العالم الجليل الذي بدأ بطلب العلم على والده وعلماء بلاده أولا، فحفظ القرآن وهو صغير، ودرس الحديث والفقه و الأصول والتفسير، وعرف بالذكاء والفطنة وقوة الحفظ والنجابة منذ صغره، ثم توسع في دراسة العلوم وتبحر فيها، واجتمعت فيه صفات المجتهد وأعترف له بذلك الداني والقاصي والقريب والبعيد وعلماء عصره
يعتبر شيخ الإسلام من العلماء الأفذاذ الذين تركوا تراثا ضخما ثمينا، لا يزال العلماء والباحثون ينهلون منه وقد ألف ابن قيم الجوزية كتب ورسائل شيخه ابن تيمية التي قام بتأليفها وهي مطبوعة.
وقد زادت مؤلفاته على ثلاثمائة مؤلف في مختلف العلوم، و منها ماهر في المجلدات المتعددة .
مؤلفاته رحمه الله:
1 - بيان موافقة صريح المعقول لصحيح المنقول (طبع في 11 مجلدا). 2 - إثبات المعاد .
3 - ثبوت النبوات عقلا ونقلا . 4 - الرد على الحلولية والاتحادية .5 - الاستقامة (في مجلدين).
6 - مجموع فتاوى ابن تيمية : جمعها الشيخ / عبدالرحمن بن قاسم وابنه محمد ، رحمهما الله وتقع في (37) مجلدا. 7 - إصلاح الراعي والرعية. 8 - منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيع والقدرية . 9 - الاحتجاج بالقدر . 10 - الإيمان. 11 - حقيقة الصيام. 12 - الرسالة التدمرية. 13 - الرسالة الحموية. 14 - شرح حديث النزول. 15 - العبودية.16 - المظالم المشتركة. 17 - الواسطة بين الحق والخلق. 18 - الفرقان بين أولياء الرحمن و أولياء الشيطان. ( وهو كتابنا هذا ) . 19 - الكلم الطيب.20 - رفع أعلام عن الأئمة الأعلام. 21 - حجاب المرأة ولباسها في الصلاة. 22 - قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة. 23 - الرسالة العشرية. 24 - الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح.
وفاته رحمه الله :(6/3)
توفي شيخ الإسلام أحمد بن تيمية الحراني رحمه الله رحمة واسعة ، ليلة الإثنين ، العشرين من ذي القعده سنة(728) وعمره (63) عاما وهو مسجون بسجن القلعة بدمشق وحضر جنازته جمهور كبير جدا يفوق العدد .(1)
المبحث الثاني
الأولياء
الولي والولاية :
__________
(1) - ينظر لمعرفة ترجمة الشيخ رحمه الله :
العقود الدرية من مناقب شيخ الإسلام أحمد بن تيمية. ت. محمد بن أحمد بن عبد الهادي بن قدامة المقدسي أبي عبد الله ت( 744هـ) ، تحقيق الشيخ / محمد حامد الفقي . و كتاب : الانتصار ، لابن قدامة أيضا ً تحقيق أ د / محمد السيد الجليند .
وكتاب : الأعلام العلية في مناقب ابن تيمية ت: عمر بن علي بن موسى البزار أبي حفص . (ت 749هـ ) تحقيق : زهير الشاويش .(6/4)
يقول الله تعالى : ?أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ(62)الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ(63)لَهُمْ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ?[يونس:62-64] ، في هذه الآية أنّ الأولياء هم الذين آمنوا وكانوا يتقون، ولهذا عرّف جماعة من أهل العلم الولي: بأنّه كل مؤمن تقي وليس بنبي؛ ?الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ?[يونس: 63] هم الأولياء، والإيمان والتقوى تتفاضل؛ الإيمان يتفاضل يزيد وينقص، ويتفاضل أهله فيه، وكذلك التقوى يتفاضل أهلُها فيها، فيكون إذن وصف الوَلاية يتفاضل أهله فيه، فالأولياء إذن ليسوا على مرتبة واحدة، لكن صار غالبا في الاصطلاح أنّ الولي هو المؤمن الذي كمَّل التقوى بحسب استطاعته، وليس مَن عنده شيء من الإيمان وشيء من التقوى وليا، وإنْ كان كل مؤمن تقي له وَلاية بحسَب ذلك، ففرق بين الاسم؛ اسم الولي وبين الوَلاية؛ الولاية التي هي محبة الله لعبده ونصرتُه له هذه تكون عنده بقدر ما عنده من الإيمان والتقوى، وأمّا اسم الولي فالآية دلت على أنّ من عنده إيمان وتقوى فهو من الأولياء، لكن في الاصطلاح إذا قيل الأولياء فهم العُبّاد الصالحون الذين كمّلوا التقوى بحسب استطاعتهم، أو بحسب حالهم، فلا يدخل فيه من خلط عملا صالحا وآخر سيئاً . (1)
فوليّ الله إذن: الوليّ هو كل مؤمن تقي ليس بنبيّ للآية حيث عرّف الأولياء بأنهم ?الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ?[يونس:63]، المؤمن المتقي هو الوليّ.
__________
(1) - التعليقات الحسان على الفرقان . معالي الشيخ / صالح بن عبدالعزيز آل الشيخ . ص 3(6/5)
ووليّ الشيطان: هو الذي يطيع الشيطان ويأمر بأمره ويخالف ما جاء به محمد عليه الصلاة والسلام؛ لأن الله جل وعلا قال ?أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ?[يس:60] يعني بطاعته في ارتكاب الحرام بأنواعه، في ترك الفرائض بأنواعها، )(1)
أما الصوفية الذين نحن بصدد الكلام عن الولي والأولياء عندهم ؛ فيعتقدون ( أن الولاية أفضل من النبوة وأن :
مقام النبوة في برزخ فويق الرسول ودون الولي
وأن المعدن الذي يأخذ منه الولي فوق المعدن الذي يأخذ منه النبي ، فالولى يأخذ من الله مباشرة بدون واسطة أما النبي فيأخذ من الله بواسطة الملك :
وأن الوحي لم ينقطع بعد محمد - صلى الله عليه وسلم - وإنما ينزل عليهم كما كان ينزل على الأنبياء من قبل .
والنبوة نفسها لم تنقطع بل باقية مستمرة فيهم يروى عن أحدهم أنه قال :
" لقد تحجر ابن آمنة واسعا فقال لا نبي بعدى " ، ( يقصد النبي - صلى الله عليه وسلم - ) ، وإن كان يتلطف بعضهم فيرى أن النبوة التي انقطعت هي نبوة التشريع أما نبوة الولاية فباقية ومستمرة فيهم ونبوة الولاية أفضل من نبوة التشريع ، والولاية أفضل من النبوة والرسالة ؛ لأن الولاية سر بين النبي وربه ، والنبوة سر بين النبي وجبريل ، والرسالة سر بين النبي وأمته، والسر الذي بين النبي وبين ربه أفضل من السر الذي بينه وبين الملائكة ، أو بينه وبين البشر . ومن ثم يقول البسطامى : "تالله إن لوائي أعظم من لواء محمد".
ويعتقدون أن للأولياء خاتما كما أن للأنبياء خاتما ، وخاتم الأولياء أفضل من خاتم الأنبياء لأنه يأخذ من المعدن الذي يأخذ منه الملك الذي يوحى به إلى الرسول يقول ابن عربي : ( وفينا من يأخذ من الله فيكون خليفة من الله لعين ذلك الحكم ) ، فبينما يأخذ خاتم الأنبياء - صلى الله عليه وسلم - من الله بواسطة يأخذ خاتم الأولياء منه مباشرة .
__________
(1) - السابق : 101.(6/6)
وخاتم الأولياء يمثل لبنة من ذهب . بينما يمثل خاتم الأولياء لبنة من فضة فيما ذهب إليه ابن عربي وهو بصدد حديثه عما روى عنه - صلى الله عليه وسلم -فى قوله : ( مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى دارا إلا موضع لبنة فأخذ الناس يتعجبون ويقولون لولا هذه اللبنة فأنا اللبنة )(1). يقول ابن عربى: " غير أن رسول الله لا يراها إلا لبنة واحدة ، أما خاتم الأولياء فيراها لبنتين : لبنة من فضة وأخرى من ذهب ولبنة الفضة هو خاتم الأنبياء بينما لبنة الذهب هو خاتم الأولياء " ). !!ومعنى هذا أن دين الله لم يكتمل إلا على يد خاتم الأولياء . )(2)
إذن فللصوفية عقائد شتى في الأولياء ، فمنهم من يفضِّل الولي على النبي ، ومنهم يجعلون الولي مساوياً لله في كل صفاته ، فهو يخلق ويرزق ، ويحيي ويميت ، ويتصرف في الكون . ولهم تقسيمات للولاية ، فهناك الغوث ، والأقطاب ، والأبدال والنجباء ، حيث يجتمعون في ديوان لهم في غار حراء كل ليلة ينظرون في المقادير . ومنهم من لا يعتقد ذلك ولكنهم أيضاً يأخذونهم وسائط بينهم وبين ربهم ؛ سواءً كان في حياتهم أم بعد مماتهم .وكل هذا بالطبع خلاف الولاية في الإسلام التي تقوم على الدين والتقوى ، وعمل الصالحات ، والعبودية الكاملة لله والفقر إليه ، وأن الولي لا يملك من أمر نفسه شيئاً فضلاً عن أنه يملك لغيره ، قال تعالى لرسوله - صلى الله عليه وسلم - : ((قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا رَشَداً))(3).
أحاديث مكذوبة في الولاية عند الصوفية :
__________
(1) - ( صحيح ) انظر صحيح الجامع الصغير للألباني (ت 1420هـ ) . حديث رقم 5857.
(2) - التصوف عرض ونقد . أ د / عبد الفتاح الفاوي . 11.
(3) - الجن 21 .(6/7)
بعد أن تحدث الشيخ رحمه الله عن أهل الصفة وما يتعلق بهم ، وأصنافهم ؛ ولأن الصوفية يستخدمون ألفاظاً عدة يظنون أن الأحاديث قد وردت بها ، بيّن الشيخ كذب هذه الأحاديث وأنها مختلقة فقال (وأما الأنصار فلم يكونوا من أهل الصفة وكذلك أكابر المهاجرين كأبي بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير وعبد الرحمن ابن عوف وأبي عبيدة وغيرهم لم يكونوا من أهل الصفة. وقد روى أنه بها غلام للمغيرة بن شعبة، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال هذا واحد من السبعة. وهذا الحديث كذب باتفاق أهل العلم وإن كان قد رواه أبو نعيم في الحِلْيَة، وكذا كل حديث يروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في عدة الأولياء والأبدال والنقباء والنجباء والأوتاد والأقطاب مثل أربعة أو سبعة أو انثي عشر أو أربعين أو سبعين أو ثلاثمائة أو ثلاثمائة وثلاثة عشر، أو القطب الواحد، فليس في ذلك شيء صحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولم ينطق السلف بشيء من هذه الألفاظ إلا بلفظ الأبدال، وروى فيهم حديث أنهم أربعون رجلا وانهم بالشام وهو في المسند من حديث علي كرم الله وجهه وهو حديث منقطع ليس بثابت ومعلوم أن عليا ومن معه من الصحابة كانوا أفضل من معاوية ومن معه بالشام، فلا يكون أفضل الناس في عسكر معاوية دون عسكر علي. وقد أخرجا في الصحيحين عن أبي سعيد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال «تمرق مارقة من الدين على حين فرقة من المسلمين يقتلهم أولى الطائفتين بالحق» وهؤلاء المارقون هم الخوارج الحرورية الذين مرقوا لما حصلت الفرقة بين المسلمين في خلافة علي فقتلهم علي بن أبي طالب وأصحابُه، فدل هذا الحديث الصحيح على أن علي بن أبي طالب أولى بالحق من معاوية وأصحابه، وكيف يكون الأبدال في أدنى العسكرين دون أعلاهما. وكذلك ما يرويه بعضهم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه أنشد منشد:
قد لسعت حية الهوى كبدي فلا طبيب لها ولا راقِ(6/8)
إلا الحبيب الذي شُغفت به فعنده رقيتي وترياقي
وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - تواجد حتى سقطت البردة عن منكبه، فإنه كذب باتفاق أهل العلم بالحديث، وأكذب منه ما يرويه بعضهم أنه مزق ثوبه، وأن جبريل أخذ قطعة منه فعلقها على العرش، فهذا وأمثاله مما يعرف أهل العلم والمعرفة برسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه من أظهر الأحايث كذبا عليه - صلى الله عليه وسلم -. وكذلك ما يروونه عن عمر - رضي الله عنه - أنه قال كان النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر يتحدثان وكنت بينهما كالزنجي، وهو كذب موضوع باتفاق أهل العلم بالحديث. والمقصود هنا أنه فيمن يقر برسالته العامة في الظاهر ومن يعتقد في الباطن ما يناقض ذلك فيكون منافقا وهو يدَّعي في نفسه وأمثاله أنهم أولياء الله مع كفرهم في الباطن بما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم -، إما عنادا، وإما جهلا )(1) .
__________
(1) - الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان . ص 13- 15 .(6/9)
فهذا الاعتقاد في جهّال المسلمين من قديم ، الاعتقاد في الصوفية وفي الفقراء وربما أنهم فعلوا أشياء خارجة عن الشريعة ويبقون على وَلايتهم، كما ذكر الشيخ( محمد بن عبد الوهاب ) رحمه الله في النواقض –نواقض الإسلام-(1) أن من النواقض أحد من الخلق أنه يسعه الخروج عن شريعة محمد - صلى الله عليه وسلم - كما وسع الخضر الخروج عن شريعة موسى. هؤلاء الجهال يعتقدون في المجانين و يعتقدون في الفقراء و يعتقدون في الشياطين، وربما جعلوهم أقطابا أو جعلوهم أوتادا أو جعلوهم أبدالاً أو جعلوهم نجباء إلى آخره، فتجدهم يقولون مثلا الغوث الأكبر واحد، وكل غوث له أقطاب أربعة في الأرض، لكلّ واحد منهم قسم من الأرض، ولكل واحد من هذه الأربعة سبعة، ولكل واحد من هذه السبعة أربعون، فلن تصل إلى الغوث إلا عن هذه الطريقة. وصنفت المصنفات في ذلك في ذكر الأربعين ولي في مصر، أو الأربعين وتد في المغرب، هذه مصنفات موجودة، عندهم أن الأربعين هؤلاء يرفعون إلى السبعة، والسبعة يرفعون إلى الأربعة، والأربعة يرفعون إلى الغوث، والغوث يطلب من الله جل جلاله، فهؤلاء إذا تأملت أسماءهم وتراجمهم وهي موجودة وجدت أنه كما ذكر شيخ الإسلام أنهم من المنافقين، أو من المجانين، فلا يصح أن يكونوا أولياء فضلا أن يكونوا من سادة الأولياء أو من المقدمين. وهذه الألفاظ أقطاب، أبدال، نجباء إلى آخره، الغوث، كلها لم ترد في الكتاب والسنة، وإنما جاء لفظ الأبدال في بعض الأحاديث، وإنْ كان في إسنادها شيء، ومن حسنها فالمعنى واضح؛ فإنّ الأبدال هم الذين يأتي طائفة منهم بدل من قبلكم أبدال بمعني أنهم يبدلون بغيرهم ويبدل غيرهم بهم، وهذا كما قال عليه الصلاة والسلام «لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين حتى يأتي أمر
__________
(1) - رسالة " نواقض الإسلام" للإمام المجدد شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب المتوفى سنة (1206هـ) رحمه الله تعالى اشتملت على عشرة نواقض تخرج من الاسلام .(6/10)
الله»(1).
ويرى الشيخ رحمه الله أن (من اعتقد أن لأحد من الأولياء طريقا إلى الله من غير متابعة محمد - صلى الله عليه وسلم -، فهو كافر من أولياء الشيطان )(2) .
__________
(1) صحيح البخاري ، كتاب : المناقب . باب : سؤال المشركين الرسول صلى الله عليه وسلم أن يريهم آية فأراهم انشقاقا القمر ح 3441.
ورواه مسلم : باب قوله صلى الله عليه وسلم (لا تزال ظائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم) بألفاظ عدة .
(2) - الفرقان 17 .(6/11)
ويرى أن (وهؤلاء جميعهم الذين ينتسبون إلى المكاشفات وخوارق العادات، إذْ لم يكونوا متبعين الرسل فلابد أن يكذبوا وتُكَذِبُهم شياطينهم، ولابد أن يكون في أعمالهم ما هو إثم وفجور مثل نوع من الشرك أو الظلم أو الفواحش أو الغلو أو البدع في العبادة، ولهذا تنزلت عليهم الشياطين واقترنت بهم فصاروا من أولياء الشيطان لا من أولياء الرحمن )(1) وهذا الكلام يريد به شيخ الإسلام رحمه الله بيان أنّ الطوائف من المسلمين الذين ادعوا الولاية، أُدعي فيهم أنهم أولياء وعُظِّموا بسبب ذلك، هؤلاء، إنْ كان سبب وَلايتهم أنهم متبعون للرسول - صلى الله عليه وسلم - ظاهرا وباطنا مؤمنون به يحكمون لشريعته في أنفسهم، فهذا ظاهر لأنهم من أولياء الله، وأما إنْ كان سبب إطلاق الولاية عليه بهم أنهم زهاد عباد وأنهم متنزهون عن كثير من الدنيا، وأنهم مقبلون على أمر آخرتهم، وفيهم مكاشفات وإخبار بغيبيات، ويحصل لهم خوارق عادات، فإنَّ هذا القدْر يحصل أيضا لكثير من المتزهدة ، ومن له بعض فلسفة ، وعلم من الذين داووا نفوسهم وباطنهم من غير هذه الأمة، فذكر أمثلة من التُّرك يعني الروس الآن وإلى تركستان وما حولها، ومن الهند ومن خراسان، وكذلك من اليونان، هؤلاء فيهم أناس نُقل من نَقل المستفيض أنه يحصلهم خوارق عادات، وأن عندهم زهد وعبادة وغير ذلك، فإن كان-شيخ الإسلام هنا كأنه يتنزل ويناظر- مدار الوَلاية وإطلاق اسم الولي على من عنده زهد وعبادة أو خوارق عادات فأولئك أيضا كذلك، لكن هم كفار بالإجماع؛ لأن متعبدة اليهود، زهاد النصارى قد يكون لهم بكاء من خشية الله وقد يكون عندهم خوارق عادات، وكذلك زهاد ومتعبدة الهند والترك والفرس واليونان وغيره ، هؤلاء كفار بالإجماع؛ لأنهم لم يتبعوا محمدا - صلى الله عليه وسلم - ولم يكونوا مسلمين ظاهرا وباطنا. فإذن ما الفرق في الحال بين هؤلاء الذين أُدعي فيهم الولاية وادعوا الخروج عن شريعة محمد -
__________
(1) - السابق 18 .(6/12)
صلى الله عليه وسلم - وأولئك؟ فإذا قيل إن عندهم خوارق عادات، فنقول إن خوارق العادة ليس هو الكرامة، فالذي يؤتي الله جل وعلا الأولياء هي الكرامات، وأما الخوارق فإنها تجري للسحرة، وتجري للكهنة، وتجري للشياطين وغير ذلك، فحصول الخارق للعادة ليس برهانا على أنّ من حصل له ولي من أولياء الله، خارق للعادة مثل يخبرك بها في نفسك، مثل أن يجري شيئا غريبا، مثل أن ينتقل من مكان إلى مكان بسرعة عجيبة، مثل أن يَحْضُر شيء من الأطعمة ليست في أوانها.
هذه نحصل للسحرة وتحصل للكهنة وتحصل للمشعوذين فالخارق للعادة أمر يشترك بين الأنبياء والرسل، وما بين الأولياء وما بين المشعوذون والكهنة والسحرة والبطّالون:
فإن كان الخارق للعادة أوتي نبيا فيُسمى آية وبرهانا.
وإن كان الخارق للعادة أوتي عبدا صالحا تبعا لنبي فيسمى كرامة للوليِّ.
وإن كان الخارق للعادة أوتي مستكبرا على الأنبياء أو مبتدعا أو فاجرا أو كافرا فإنّه يُسمى مخاريق شيطانية أو من مساعدة الشياطين.
فإذن ليس العبرة في خرق العادة. ولهذا تعرّف الكرامة التي تكون للأولياء بأن الكرامة أمر خارق للعادة يرى على يدي ولي، وآية النبي أمر خارق لعادة الجن والإنس، يرى على يدي نبي، والعادة التي تُخرق لفظها غير منضبط؛ لأنهم قالوا خارق للعادة. العادة هذه عادة من؟ هذا الوصف غير منضبط لأنه خارق للعادة ، لهذا عند التحقيق يكون ثَم تفصيل:
فالعادة التي تُخرق للرسل والأنبياء آية وبرهان، فتكون العادة هي عادة الجن والإنس عادة الثقلين، قد دل على هذا قوله تعالى?قُلْ لَئِنْ اجْتَمَعَتْ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا?[الإسراء:88].(6/13)
وأما الكرامة فهي خارق لعادة الإنس الذين فيهم ذلك الولي، قد يكون في مكان آخر لا تخرق العادة، لكنه يكرم بهذا مثل طعام يؤتاه في فصل الصيف وهو من طعام الشتاء، في مكان أخر من الأرض يكون ثَم شتاء في وقت هذا الصيف فيكون طعامهم طعام الشتاء، فيكون إذن العادة في حق الولي عادة الإنس الذين فيهم ذلك الولي، وقد يكون الإنس بعامة مثل المشي على الماء، أو الطيران في الهواء أو غير ذلك، لكن هذا يختلف باختلاف الأزمنة، فمثلا إذا مشى على الماء؛ الماء صار له يابسا ومشى عليه، اليوم ممكن أنه يقوم ببعض المعالجات الماء يكون يابس ويُمشي عليه، كذلك الطيران في الهواء كرامة، اليوم اختلف الوضع ، صار البر والفاجر يطير في الهواء بوسائل أحدثت، فإذن خرق العادة بالنسبة للولي قيده أن تكون عادة الناس في زمنه، أو عادة جنسه الذين يعيش فيهم.
أما خرق العادة بالنسبة الشياطين: الكهنة والسحرة فهم يأتون بأمور خارقة للعادة ولكنها عادة من ليس منهم، فالساحر يخرِق عادة من ليس بساحر، والكاهن يخرق عادة من ليس بكاهن.
المقصود من هذا بيان التفصيل في هذه الكلمة المجملة وهي خرق العادة، وأنّ ما آتاه الله جل وعلا للأنبياء والرسل خوارق للعادات، ولكن عادة كذا وكذا، وما آتاه الله جل وعلا الأولياء خارق للعادة من الكرامات ولكن عادة كذا وكذا، وأما مخاريق السحرة والكهنة فهي خارق للعادة من ليس من السحرة والكهنة، ولهذا لما أتى الله جل وعلا بآية موسى بطَلَت مكايد السحرة وما فعلوا؛ لأن ذلك الذي أعطاه جل وعلا موسى فوق ما تخرق الشياطين وتخبر به الجن أو يفعله السحرة والكهنة.(6/14)
كل هذا لأجل تقرير الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان، إذن كون الشيء يحصل خارقا للعادة المعتادة لا يدلّ على أن من حصل له وليا، يخبر بما في نفسه أو يخبر بأمر غائب، أو يأتيه شيء غريب في وقت غريب، أو يحصل له نوع أشياء وانتقالات، أو يسّر له أمور ونحو ذلك لا يدل على أنه ولي حتى يكون مؤمنا تقيا، لأن الخوارق قد تحصل من جهة الشياطين وحزبه(1) .
حكم من أظهر الولاية وهو لا يؤدي الفرائض :
قال الشيخ رحمه الله ( فعلى هذا فمن أظهر الولاية وهو لا يؤدي الفرائض ولا يجتنب المحارم، بل قد يأتي بما يناقض ذلك،لم يكن لأحد أن يقول هذا ولي لله ، فإن هذا إن لم يكن مجنونا بل كان متولها من غير جنون، أو كان يغيب عقله بالجنون تارة ويفيق أخرى، وهو لا يقوم بالفرائض، بل يعتقد أنه لا يجب عليه اتباع الرسول - صلى الله عليه وسلم - فهو كافر، وإن كان مجنونا باطنا وظاهرا قد ارتفع عنه القلم، فهذا وإن لم يكن معاقبا عقوبة الكافرين فليس هو مستحقا لما يستحقه أهل الإيمان والتقوى من كرامة الله عز وجل، فلا يجوز على التقديرين أن يعتقد فيه أحد أنه ولي لله ) (2).
كلام مشايخ الصوفية الأولين في الولاية :
(كقول الشيخ أبي سليمان الداراني، إنه ليقع في قلبي النكتة من نكت القوم فلا أقبلها إلا بشاهدين الكتاب والسنة. وقال أبو القاسم الجنيد رحمة الله عليه :علمنا هذا مقيد بالكتاب والسنة، فمن لم يقرأ القرآن ويكتب الحديث لا يصلح له أن يتكلم في علمنا أو قال لا يقتدى به. وقال أبو عثمان النيسابوري: من أمّر السنة على نفسه قولا وفعلا نطق بالحكمة، ومن أمّر الهوى على نفسه قولا وفعلا نطق بالبدعة، لأن الله تعالى يقول في كلامه القديم?وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا?[النور:54]، وقال أبو عمرو بن نجيد كل وَجْدٍ لا يشهد له الكتاب والسنة فهو باطل )(3)
وكلام الشيخ رحمه الله هذا فيه مسألتان :
__________
(1) - التعليقات 14 .
(2) الفرقان 38 .
(3) - الفرقان : 54.(6/15)
الأولى : قوله النكتة : من نكت القوم يعني : يأتي في خاطره ، وفي قلبه شيء مما يتصل بالإيمان ، والأحوال ، وتزكية النفس ، ورؤية الأشياء ، والتفكر وأشباه ذلك. فيقع في الخاطر أشياء. قال فلا أقبلها إلا بشاهدين من الكتاب والسنة ؛ لأنّه قد يكون هذا الخاطر الذي جاءه ليس بحق، وقد يكون هذا التأمل الذي جاءه باطلاً،وقد يكون هذا الاستنتاج الذي استنتجه باطلاً، فإذا شهد له الكتاب والسنة وهما القاضيان والشاهدان والمعدِّلان والمزكيان للأفكار والآراء قبل ذلك ، و إذا لم يُشهد له فإنه باطل؛لأنه يعلم وخالف عنه فهذا من أهل الإباء والاستكبار مثل حال ابن عربي والتلمساني وأشباههم؛ الذين يقولون لأقوامهم ما نقول لكم وحي من الله، ونحن معصومون أن نخطئ لا في اللفظ ولا في العمل ولا في الفكر، هؤلاء إما أنْ يكونوا علماء فهؤلاء كفار لأنهم أبوا واستكبروا عن الإنقياد للحق وإلا أن يكونوا جهّالا هؤلاء قد يعذرون
الثانية :(6/16)
قوله القديم : في كلامه (القديم) غلط؛ لأن القرآن محدث ليس بالقديم، كما قال سبحانه ?مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ(2)لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا?[الأنبياء:2-3]، وكذلك في آية سورة الشعراء، فالقرآن مُحْدَث بمعنى حديث النزول من ربه جل وعلا حديث العهد من ربه جل وعلا، إنما تكلم الله به فسمعه جبريل فبلغه للنبي عليه الصلاة والسلام، وأما الذي يقال أنه قديم هو كلام الله ليس القرآن، الكلام كلام الرحمن جل وعلا نقول قديم النوع حادث الآحاد، ويجوز أن نقول إنّ كلام الله قديم؛ يعني قديم النوع لا بأس بهذا؛ لأنّ الله جل وعلا أول وكذلك صفاته سبحانه وتعالى أزلية -يعني الصفات الذاتية- أزلية قديمة، فهو سبحانه وتعالى يتكلم كيف شاء وإذا شاء وكلامه قديم ولا يزال يتجدد كلامه بتجدد الأحوال، متعلِّقا بمشيئته سبحانه وتعالى وقدرته، فالقرآن لا يسوغ وصفه بأنّه قديم، بل هذا مذهب الأشاعرة فإنهم يجعلون القرآن قديما تكلم الله به في الأزل، فكل كلام أراده الله ثم يتعلق هذا الكلام بالإرادة وبالزمن الذي يصلح له فيتجدد، فليس عندهم أن القرآن كلام الله جل وعلا الذي تكلم به حين أَنزل القرآن، .......ففي القرآن ?قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا?[المجادلة:1]، وفي القرآن ?قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ?[البقرة:144]، وفي القرآن ?قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ?[الأنعام:33] ونحو ذلك مما فيه ذكر صيغة الماضي قد سمع الله فإن كان هذا الكلام قديما فإن الله يقول : قد سمع ، لشيء لم يحصل ؛ وهذا لا يجوز لأنّه نوع من الكذب وهذا يدل على بطلان هذا القول.(6/17)
المقصود أنّ القول هذا (في كلامه القديم) هذا غلط موافق لطريقة الأشاعرة لعله من إضافاتهم.(1)
من خالف الدين فليس بولي :
قال الشيخ رحمه الله : (وتجد كثيرا من هؤلاء عمدتهم في اعتقاد كونه وليا لله أنه قد صدر عنه مكاشفة في بعض الأمور أو بعض التصرفات الخارقة للعادة، مثل أن يُشير إلى شخص فيموت، أو يطير في الهواء إلى مكة أو غيرها، أو يمشي على الماء أحيانا أو يملأ إبريقا من الهواء، أو ينفق أي ( ينطق )بعض الأوقات من الغيب ، أو أن يختفى أحيانا عن أعين الناس، أو أن بعض الناس استغاث به وهو غائب أو ميت فرآه قد جاءه فقضى حاجته، أو يخبر الناس بما سُرق لهم، أو بحال غائب لهم، أو مريض أو نحو ذلك من الأمور، وليس في شيء من هذه الأمور، ما يدل على أن صاحبها ولي لله، بل قد اتفق أولياء الله على أن الرجل لو طار في الهواء أو مشى على الماء لم يُغترَّ به حتى ينظر متابعته لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وموافقته لأمره ونهيه، وكرامات أولياء الله تعالى أعظم من هذه الأمور، وهذه الأمور الخارقة للعادة، وإن كان قد يكون صاحبها وليا لله فقد يكون عدوا لله، فان هذه الخوارق تكون لكثير من الكفار والمشركين وأهل الكتاب والمنافقين وتكون لأهل البدع، وتكون من الشياطين فلا يجوز أن يظن أنّ كل من كان له شيء من هذه الأمور أنه ولي الله، بل يعتبر أولياء الله بصفاتهم وأفعالهم وأحوالهم التي دل عليها الكتاب والسنة، ويعرفون بنور الإيمان والقرآن، وبحقائق الإيمان الباطنة، وشرائع الإسلام الظاهرة.
__________
(1) - التعليقات الحسان . ( بتصرف وحذف ) 35 .(6/18)
مثال ذلك أن هذه الأمور المذكورة وأمثالها قد توجد في أشخاص ويكون أحدهم لا يتوضأ ولا يصلي الصلوات المكتوبة، بل يكون ملابسا للنجاسات، معاشرا للكلاب، يأوي إلى الحمّامات والقمامين والمقابر والمزابل، رائحته خبيثة لا يتطهر الطهارة الشرعية، ولا يتنظف. وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - «لا تدخل الملائكة بيتا فيه جنب ولا كلب»، وقال عن هذه الأخلية «إن هذه الحشوش محتضرة» أي يحضرها الشيطان، وقال «من أكل من هاتين الشجرتين الخبيثتين فلا يقربن مسجدنا فان الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم»، وقال «إنّ الله طيب لا يقبل الا طيبا» وقال «إنّ الله نظيف يحب النظافة» وقال خمس من الفواسق يُقتلن في الحل والحرم، الحية، والفأرة، والغراب، والحدأة، والكلب العقور» وفي رواية الحية، والعقرب. وأمر صلوات الله وسلامه عليه بقتل الكلاب. وقال «من اقتنى كلبا لا يغني عنه زرعا ولا ضرعا نقص من عمله كل يوم قيراط»، وقال «لا تَصحب الملائكة رُفقة معهم كلب»، وقال «إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبع مرات إحداهن بالتراب»، وقال تعالى ?وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ(156)الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمْ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ?[الأعراف:156-157].(1)
ومعنى كلامه رحمه الله المتقدم :
__________
(1) - الفرقان 57 .(6/19)
أنّ أولياء الله جل وعلا لا يكونون أولياء حتى يكونوا مِن المتبعين للكتاب والمتبعين للسنة وليس الوَلاية دعوى ليس لها برهان، فمِن الناس من يغلط في هذا الموضع فيقول هذا ولي الله فيقبل منه ما جاء به ما ذكر على أساس هذه المقدمة الباطلة أنّه ولي لله، فلا يكون وليا لله في الواقع لمخالفته للأمر والنهي ولوقوعه في مفسِّقات أو في أمور بدعية أو شركية إلى غير ذلك، فيُسَلِّم له الأمور البدعية أو الشركية على أساس أنه ولي لله جل وعلا، وهذا هو الذي جعل البدع والشركيات تنتشر في الأمصار من جرّاء الاعتقاد في الأولياء، فإنّه يكون هذا الولي حيًّا ويكون فاسقا فيحبّب للناس بعض المنكرات أو بعض البدع ليحصُل منهم على مال أو على جاه أو إلى آخره، فيعتقد الناس أنّه ولي فيتبعونه على ذلك ويقولون قالها الولي الفلاني، والذي يحطِّم هذا الأمر هو إقامة البرهان عند الناس أن الوَلاية لا تكون إلا للمؤمنين المتقين ?أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ(62)الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ?[يونس:62-63] فالمؤمن الذي حصَّل الإيمان وأركانه، المتقي الخائف من الله جل وعلا، والممتثل للواجب، وينتهي عن المحرم ووجل قلبه من الله، ويستعد للقائه، وهذا هو المتقي، وهو المؤمن الذي يرجى أن يكون وليا لله جل وعلا، أمّا الذين أتوا بالبدع والشركيات ليسوا من أولياء الله فَرَاج أمرهم في الناس والناس لا ينظرون هل هو ولي أم ليس بولي. إنتشر في الناس أنه ولي فقبلوا كل ما جاء به ولهذا ذكر لك في أول الكلام أبي عمرو بن نجيد (كل وَجْدٍ لا يشهد له الكتاب والسنة فهو باطل) والوَجد يعنون به ما يظهر للمرء من الاستحسان لأشياء في العبادة أو في التأملات والتفكر، أو في السلوك مع الناس وكل وجد ليس عليه دليل فهو باطل.(6/20)
ومن عجائب ذلك ما ذكره بعض العلماء أن رجلاً من أحفاد أحد الأولياء -كما يزعمون- في المغرب، زعم عند بعض الناس أنه من أولياء الله وأن جدَّه حدثه بكذا وكذا وكذا، فعظَّمه من حلّ بهم وأسكنوه عندهم، فصار يأمرهم وينهاهم وهم يطيعون، فقال لا أكافؤكم إلاّ أن تحجوا معي هذا العام، قالوا أَوَ تحج؟ قال نعم وستحجون معي جميعا، -وهم في المغرب- فلما صار وقت الحج قرب وأعدّ العدة، قالوا ألاَ نحج؟ قال سوف نحج فالأمر عند الأولياء يسير، والثاني والثالث، والرابع حتى أتى يوم عرفة، فقالوا ألا تحج؟ فقال بلى إذا أتى بعد العصر ذهبنا إلى عرفة، فلما أتى بعد العصر أمرهم بالإستعداد، ولما تجهزوا هم وأهلوهم، قال هلمُّوا، فصعد بهم إلى سطح البيت، وقال لهم سبحان الله هذا جبل عرفة، فقالوا له أين جبل عرفة؟ فقال لهم وهل تريدون أن تروا نُورَ الأولياء؟ هذا جبل عرفة أدعوا هنا، فدعوا فلما مكث مدة، قال غابت الشمس في عرفة فارحلوا فرحلوا قليلا، فقال افعلوا كذا، أتريدون أن نطوف هذه الكعبة، فطوفوا، فأخذ يعمل بهم مثل هذه الحركات وهم يسلمون له للوَلاية.(6/21)
يعني أن الدرجة الأولى التي يدخل بها صنيع الدجالين والمشعوذين والكهنة وأشباه هؤلاء أن يقال لكل الناس وأن يعلم كل الناس أن الولي لا يكون إلا مؤمنا تقيا، فإذا كان حي في الناس يأمرهم وينهاهم ويدعوهم إلى أشياء ويعتقد أنها تفيد، فيقال لهم الولي هو المؤمن التقي وهذا من أفعاله كيت وكيت وكيت من المحرمات، والأولياء الدجالين أشاعوا في الناس أن الأولياء أعمالهم الظاهرة غير أعمالهم الباطنة حتى لا يأتي مثل هذا، فيقال هو في الظاهر يعمل أشياءً وفي الباطن قلبه وعمله لله جل وعلا، ومنهم طائفة تسمى الملامتية(1) أو الملامية، وهم الذين ادَّعَوْا أنهم لإخلاصهم يُظهرون خلاف التوحيد، أو خلاف الاستقامة، وخلاف الإخلاص ؛ لأجل أن لا يُتَّهموا بالرياء ، يقولون نظهر هذا في الناس لأجل الإخلاص حتى لا يقال هم مراؤون، فيُخفون الطاعات ويظهرون الفسوق لأجل ألا يرائي في الناس، ففي مثل هؤلاء قال فضيل بن عياض وجماعة : ”العمل لغير الله رياء وترك العمل لغير الله شرك“ ، فهؤلاء يزعمون أنهم هربوا من الرياء ووقعوا في الشرك، لأنهم تركوا العمل لأجل الناس، فالعمل لغير الله رياء وترك العمل لأجل الناس أو لغير الله هذا شرك. يعني ترك العمل الصالح الواجب.
المقصود من هذا أن تأصيل شيخ الإسلام عظيم في بيان هذه المسألة المهمة(2) .
تلبيس الشيطان على الصوفية في مسألة الولاية :
قال الشيخ رحمه الله في هذه المسألة :
__________
(1) - لمعرفتهم ينظر كتاب الأستاذ الدكتور / عبدالفتاح الفاوي ، الملامتية .
(2) - التعليقات .صـ 38 .(6/22)
(فإذا كان الشخص مباشرا للنجاسات والخبائث التي يحبها الشيطان، أو يأوى إلى الحمّامات والحشوش التي تحضرها الشياطين، أو يأكل الحيات والعقارب والزنابير وآذان الكلاب التي هي خبائث وفواسق، أو يشرب البول ونحوه من النجاسات التي يحبّها الشيطان، أو يدعو غير الله فيستغيث بالمخلوقات ويتوجه إليها، أو يسجد إلى ناحية شيخه، ولا يُخْلِصُ الدِّين لرب العالمين، أو يلابس الكلاب أو النيران، أو يأوي إلى المزابل والمواضع النجسة، أو يأوي إلى المقابر، ولاسيما إلى مقابر الكفار من اليهود والنصارى أو المشركين، أو يكره سماع القرآن وينفر عنه، ويُقَدِّمُ عليه سماع الأغاني والأشعار، ويؤثر سماع مزامير الشيطان على سماع كلام الرحمن، فهذه علامات أولياء الشيطان لا علامات أولياء الرحمن.(1)
فهذه صفات موجودة في فئات ممن يُدَّعى أنهم من الأولياء وأنهم من أصحاب الكرامات:
الفئة الأولى المجاذيب والمجانين: وفيهم مثل هذه الصفات من ترَك الوضوء والصلاة لأنه مجنون أصلا.
الفئة الثانية الدّجّالون: الذين عرفوا أن مثل هذه الصفات يعتقد الناس فيها الوَلاية، فأرادوا أن يجعلوا لأنفسهم مقاما، فتلبسوا بهذه الصفات المنكرة، والعياذ بالله لأجل أن يعظمهم الناس ويدعوا فيهم الوَلاية.
الفئة الثالثة الكهنة والسّحرة وأصحاب المخارق الشيطانية:
والمشعوذون منهم عقلاء ولكن يستعينون بالجن ويستخدمون الجن يكون لهم مثل هذه الصفات السيئة.
__________
(1) - الفرقان 59 .(6/23)
هذه الفئات الثلاث ادعى فيها الناس إلى يومنا هذا أنهم من أهل الكرامات والأولياء، نجد في بعض البلاد يُقال للكاهن أنّه ولي وهو كاهن، إنما يخبر من طريق الجني، وكذلك منهم من يجعل المجنون الذي يترك الصلوات ويلابس النجاسات ولا ينطق كلمة عاقلة يجعلون ذلك أيضا دليلا على ولايته وكرامته كذلك الفئة الثالثة، فكما ذَكر شيخ أقسام هنا، أن أهل الإيمان لهم صفات وهؤلاء وإنْ ظهرت على أيديهم خوارق فإنما هي من الشياطين لتغوي الناس، شياطين الجن قد تُظهر للمرء بعض المعلومات، وقد تجعل له بعض الأحوال في مساعدتهم فيغتر الناس لذلك، والجن أقدرهم الله جل وعلا على بعض الأمور لا يقدرها البشر كما قال جل وعلا ?قَالَ عِفْريتٌ مِنْ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ(39)قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنْ الْكِتَابِ?[النمل:39-40] أي : من الإنس ممن عُلِّم الاسم الأعظم (قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنْ الْكِتَابِ) يعني بالاسم الأعظم الذي إذا سئل به الله جل وعلا أجاب وإذا طلب به منه أعطى?أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ?[النمل:40]، إلى آخر الآيات، فدل أن الجن يقدرون على أشياء أقدرهم الله جل وعلا عليها، ?قَالَ عِفْريتٌ مِنْ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ? أحمل لك العرش من اليمن إلى بيتك أو إلى دار لك في الشام قبل أن تقوم من مقامك فقط مدة مقامك في المجلس . فالجن يخبرون بمغيبات، ليست مغيبات مطلقة؛ مغيبات عن بعض البشر حصلت في الماضي، وربما أخبروا عن مغيبات تحدث في المستقبل، ومنهم من يكون صادقا فيما أخبر ويكون مما التقطه المسترق السمع، ومنهم وهو الأكثر أن يكونوا كَذَبَة فيكذبون مع الخبر الصادق مئة كذبة فيروج هذا في الناس، ومنهم من يوحي أي يلقي في نفس وليه ما في قلب صاحبه؛ فيأتيه آتٍ ويقول له كلاما(6/24)
فيأتيه الجني ويقول هذا كاذب لأنه حصل منه كذا وكذا فيقول أنت كاذب، كيف تقول هذا وفي بيتك كذا؟ كيف تفعل وأنت البارحة قد عملت كذا فيغتر هذا السائل بحال هذا المسؤول. هو الذي يعلمه بالأمور الغيبية الماضية والحاضرة والمستقبلة ويخبره عن أشياء وهو الملك، ولا يجعلون هذا من الشياطين ؛ لأنه بالاتفاق أن الشياطين لا تخدم أهل الإيمان، لهذا وَجَب على المؤمنين أن لا يغتروا بمثل هذه الظواهر التي يكون فيها ادعاء للخوارق.
و الخوارق تنقسم إلى ثلاثة أقسام:
خوارق جرت على يدي الأنبياء هذه تسمى آيات وبراهين ودلائل.
وخوارق جرت على يد أولياء صالحين مؤمنين متقين هذه تسمى كرامات.
والثالث خوارق جرت على أيدي الفسقة، المردة، وربما كفرة بعيدون عن الشريعة لا يصلون ولا يتطهرون، أو عندهم بدع، عندهم خرافات وأشباه ذلك، هذه تكون من عند الشياطين.
طبعا في حدودها مختلفة؛ يعني الخارق الشيطاني غير الكرامة بضابطها غير الآية والبرهان.(1)
مسألة ختم الأولياء :
__________
(1) - التعلقيات 40 .(6/25)
قال الشيخ رحمه الله : (وأفضل أولياء الله تعالى أعظمهم معرفة بما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - واتباعا له كالصحابة الذين هم أكمل الأمة في معرفة دينه واتباعه، وأبو بكر الصديق أكمل معرفة بما جاء به وعملا به، فهو أفضل أولياء الله، إذْ كانت أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - أفضل الأمم، وأفضلها أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم -، وأفضلهم أبو بكر - رضي الله عنه -. وقد ظن طائفة غالطة أنّ خاتم الأولياء أفضل الأولياء قياسا على خاتم الأنبياء، ولم يتكلم أحد من المشايخ المتقدمين بخاتم الأولياء إلا محمد بن علي الحكيم الترمذي(1)، فانه صنّف مصنفا غلط فيه في مواضع، ثم صار طائفة من المتأخرين يزعم كل واحد منهم أنه خاتم الأولياء، ومنهم من يدعي أن خاتم الأولياء أفضل من خاتم الأنبياء من جهة العلم بالله، وأن الأنبياء يستفيدون العلم بالله من جهته، كما زَعم ذلك ابن عربى صاحب كتاب الفتوحات المكية وكتاب الفصوص فخالف الشرع والعقل مع مخالفة جميع أنبياء الله تعالى وأوليائه، كما يقال لمن قال فخَرَّ عليهم السقف من تحتهم. لا عقل ولا قرآن، ذلك أن الأنبياء أفضل في الزمان من أولياء هذه الأمة، والأنبياء عليهم أفضل الصلاة والسلام أفضل من الأولياء، فكيف الأنبياء كلُّهم والأولياء إنما يستفيدون معرفة الله ممن يأتي بعدهم ويدعي أنه خاتم الأولياء، وليس آخر الأولياء أفضلهم كما أن آخر الأنبياء أفضلهم، فإن فضل محمد - صلى الله عليه وسلم - ثَبَتَ بالنصوص الدَّالة على ذلك، كقوله - صلى الله عليه وسلم - «أنا سيِّد ولد آدم ولا فخر» وقوله «آتي باب الجنة فأستفتح فيقول الخازن من أنت فأقول محمد، فيقول بك أُمرت أن لا أفتح لأحد قبلك».(2)
ضلال من يفضلون الولاية على النبوة :
__________
(1) - الحكيم الترمذي 320هـ له كتاب ( ختم الأولياء ) .
(2) - الفرقان 66.(6/26)
قال الشيخ رحمه الله تعالى : (وهؤلاء الملاحدة يدعون أن الولاية أفضل من النبوة، ويُلبِّسون على الناس فيقولون ولايته أفضل من نبوته، وينشدون:
مقام النبوة في برزخ فويق الرسول ودون الولي
ويقولون نحن شاركناه في ولايته التي هي أعظم من رسالته، وهذا من أعظم ضلالهم، فإن وَلاية محمد لم يماثله فيها أحد لا إبراهيم ولا موسى، فضلا عن أن يماثله هؤلاء الملحدون.)(1)
من زعم أن ابن عربي ولي :
قال الشيخ رحمه الله (فإن ابن عربي وأمثاله وإن ادعوا أنهم من الصوفية فهم من صوفية الملاحدة الفلاسفة ليسوا من صوفية أهل العلم، فضلا عن أن يكونوا من مشايخ أهل الكتاب والسنة كالفضيل بن عياض وإبراهيم بن أدهم وأبي سليمان الداراني ومعروف الكرخي والجنيد بن محمد وسهل بن عبد الله التستري وأمثالهم رضوان الله عليهم أجمعين)(2).
وقال في مواضع أخر :
(قال الله تعالى ?وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إلى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ ?[الأنعام:121]، وهذه الأرواح الشيطانية هي الروح الذي يزعم صاحب الفتوحات أنه أَلقى إليه ذلك الكتاب، ولهذا يذكر أنواعا من الخلوات بطعام معين وشيء معين، وهذه مما تفتح لصاحبها اتصالا بالجن والشياطين فيظنون ذلك من كرامات الأولياء، وإنما هو من الأحوال الشيطانية وأعرف من هؤلاء عددا ومنهم من كان يحمل في الهواء إلى مكان بعيد ويعود، ومنهم من كانت يؤتى بمال مسروق تسرقه الشياطين وتأتيه به، ومنهم من كانت تدله على السرقات بجُعل يحصل له من الناس أو بعطاء يعطونه إذا دلّهم على سرقاتهم، ونحو ذلك.
__________
(1) - السابق 68.
(2) - السابق 74 .(6/27)
ولما كانت أحوال هؤلاء شيطانية كانوا مناقضين للرسل صلوات الله تعالى وسلامه عليهم، كما يوجد في كلام صاحب الفتوحات المكية والفصوص وأشباه ذلك يمدح الكفار مثل قوم نوح وهود وفرعون وغيرهم، ويتنقص الأنبياء كنوح وإبراهيم وموسى وهارون، ويذم شيوخ المسلمين المحمودين عند المسلمين كالجنيد بن محمد، وسهل بن عبد الله التستري، وأمثالهما، ويمدح المذمومين عند المسلمين كالحلاج ونحوه، كما ذكره في تجلياته الخيالية الشيطانية، فإن الجنيد قدس اللهُ روحه كان من أئمة الهدى، فسئل عن التوحيد فقال التوحيد إفراد الحدوث عن القدم، فبين أن التوحيد أن تميز بين القديم والمحدث، وبين الخالق والمخلوق، وصاحب الفصوص أنكر هذا وقال في مخاطبته الخيالية الشيطانية له : يا جنيد هل يميز بين المحدث والقديم إلا من يكون غيرهما، فخطّأ الجنيد في قوله إفراد الحدوث عن القدم؛ لأن قوله هو أن وجود المحدث هو عين وجود القديم كما قال في فصوصه: ومن أسمائه الحسنى العلي على من؟ وما ثم إلا هو، وعن ماذا؟ وما هو إلا هو، فعلوه لنفسه، وهو عين الموجودات، فالمسمى محدثات هي العلية لذاته، وليست إلا هو. إلى أن قال: هو عين ما بطن، وهو عين ما ظهر، وما ثم من يراه غيره، وما ثم من ينطق عنه سواه، وهو المسمى أبو سعيد الخراز!!! وغير ذلك من الأسماء المحدثات.(6/28)
فيقال لهذا الملحد ليس من شرط المميز بين الشيئين بالعلم والقول أن يكون ثالثا غيرهما، فإن كل واحد من الناس يميز بين نفسه وغيره، وليس هو ثالث، فالعبد يعرف أنه عبد ويميز بين نفسه وبين خالقه، والخالق جل جلاله يميز بين نفسه وبين مخلوقاته، ويعلم أنه ربهم وأنهم عباده، كما نطق بذلك القرآن في غير موضع، والاستشهاد بالقرآن عند المؤمنين الذين يقرون به باطنا وظاهرا، وأما هؤلاء الملاحدة فيزعمون ما كان يزعمه التلمساني منهم، وهو أحذقهم في إتحادهم لما قرىء عليه الفصوص فقيل له القرآن يخالف فصوصكم، فقال القرآن كله شرك، وإنما التوحيد في كلامنا، فقيل له فإذا كان الوجود واحدا فلم كانت الزوجة حلالا والأخت حراما، فقال الكل عندنا حلال، ولكن هؤلاء المحجوبون قالوا حرام فقلنا حرام عليكم. وهذا مع كفره العظيم متناقض ظاهرا، فإن الوجود إذا كان واحدا، فمن المحجوب ومن الحاجب؟ ولهذا قال بعض شيوخهم لمريده من قال لك أن في الكون سوى الله فقد كذب، فقال له مريده فمن هو الذي يكذب؟ وقالوا لآخر هذه مظاهر، فقال لهم المظاهر غير الظاهر أم هي؟ فإن كانت غيرها فقد قلتم بالنسبة وإن كانت إياها فلا فرق . )(1)
والذي يهمنا من هذا الكلام أشياء:
الأول: أن إنشاء شيخ الإسلام لهذا الاستطراد وهذه البينات لهؤلاء الملاحدة، الغرض أنّ أهل الشام ومصر في ذلك الوقت يعظمون أصحاب وحدة الوجود؛ يعظمون ابن عربي والتلمساني وأشباه هؤلاء، وابن الفارض يعظمونهم جدا، واشتهر عنهم أنهم يقولون بهذا الكلام ومع ذلك يعظمونهم، ولهذا أوجب أن يبين أن هؤلاء ليسوا من أولياء الله، فاستطرد ليبين لك فساد قول هؤلاء وأنه لا يكون أمثال هؤلاء أولياء لله جل وعلا.
__________
(1) - الفرقان 82.(6/29)
الثاني: أنّ هؤلاء الملاحدة والزنادقة أمثال ابن عربي وأشباهه، شاع في الناس أنّ لهم كرامات وأنهم يخبِرون بأشياء تكون حقا، وأنّ الكهان من أتباعهم والمنتسبين للتصوف عندهم أحوال إيمانية ينكشف لهم بها الغيب، وأنّه يوحى إليه، وأنه تأتيه المعلومات ليست إلا عندهم، فجعلوا هذه الأشياء من كراماتهم فبيّن رحمه الله فيما ذكر أنّ هذه الأشياء التي تنسب إليهم صحيحة، ولكن ليست هي كرامات تأتيهم من الملائكة وإنما هي أحوال شيطانية تأتيهم من الشياطين ?وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إلى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ ?[الأنعام:121]، والشيطان يتنزل على مَن يواليه ويخبره بأشياء ويعلمه ويعطيه معلومات فربما حمله وربما تصور بصورته وربما طار به في الهواء وربما سخر له بعض الأشياء بما أقدره الله عليه، فإذن فالشأن ليس في أنّه يُخدم، أو أنه يُدَّعَى أنّ الملائكة تخدمه وتعمل له، ولكن الشأن هل هو من أولياء الله موافق لشرع الله ومتبع للسنة أو لا؟ فإذا لم يكن متبعا للسنة ويقول مثل هذه الأقوال الكفرية فنعلم قطعا أنه من أولياء الشيطان، وأنّ ما قاله وافتراه وادعاه من هذه الأقوال الباطلة هي دليل أنه شيطان من الشياطين، وأنّ المؤمن لا يجوز له أن يغتر بأحوال هؤلاء وأنْ يجعلهم من أولياء الله جل وعلا .(6/30)
والثالث من أسباب إنشائه هذا الكلام أو الاستطراد: أنّ أكثر السحرة والكهنة في أزمنة الإسلام ادَّعَوا الصلاح، وادعوا أنّ ما يأتيهم إنما هو من جهة الملائكة، فهذا تسمعه عند كثير من مُغَفَّل من المسلمين وجهلتهم فيما يذكرون من أخبار بعض الناس في بلد كذا وبلد كذا وبلد كذا، هم يقولون فلان تأتيه هذا تخبره الملائكة لأنه رجل صالح، وهذا لاشك أن هذا من براثن تلك الخلفية العامة، فإذا قيل إنّ فلانا تنزل عليه الملائكة فاعلم أن هذا من جهة أولياء الشيطان؛ لأننا لا نعلم أحدا من الصحابة ولا من التابعين ولا من سادات المسلمين قيل أن الملائكة تنزل عليه فتخبره إلى آخره، وإنما هي دعوى لأولئك الفسقة الفجرة فيها يروجون على الناس في كهانتهم أو سحرهم، فالسحرة الآن يأمرون الناس بتلاوة القرآن؛ ويتلون عليهم القرآن ثم يخلطون معها غيرها، يقولون نخبركم؛ الملائكة تأتينا وتخبرنا، وهي الشياطين، وهم أصلا من أكذب الناس فكيف يصدَّقون في مثل هذه الأشياء، فإذن يبيّن شيخ الإسلام حال من كان في زمنه؛ وهو الوجه الثاني الذي ذكرنا، والوجه الثالث حال كل من ادعى نزول الملائكة عليهم، فإنّه الحجة كما قال ابن عباس في حال المختار بن أبي عبيد؛ قيل له إنه ينزّل عليه قال صدق فإنه تنزّل عليه الشياطين، كما قيل إنه يوحى إليه قال نعم كما قال الله ?وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إلى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ ?[الأنعام:121](6/31)
وملخص هذا أن الكلام أو الغرض منه ما ذكرنا من بيان الفرقان العظيم بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان، وأن مسألة خرق العادات ليست فرقانا؛ أن يحصل للمرء خارقا للعادة؛ أن يحصل له شيء لم يحصل لغيره هذا ليس دليلا على صلاحه، وليس دليلا على فساده، حتى ينظر في أمره فإن كان من أهل الإيمان والصلاح المتابعين للحق فإنه يرجى أن تكون هذه كرامة له، وإن كان من غير أهل الإيمان؛ من أهل البدعة والفسق والفجور فإن ما حصل له يعتبر فارقا شيطانيا وحالا شيطانية وليست بكرامة. فإذن هذا كل ما بحثه في هذا الموضع والذي قبله ملخصه أن الأحوال والخوارق ليست برهانا ولا دِلالة، وإنما البرهان والدلالة هو ما قال الله جل وعلا ? أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ(62)الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ?[يونس:62]، والملائكة لا تنزل إلا على الرسل أو على المؤمنين لتثبيتهم في القتال أما الإخبار بالمغيبات وأشباه ذلك فلا يكون، قد يُلقى في روع المؤمن من أن يكون هذا الأمر كذا؛ يكون من باب الفراسة الإيمانية التي يعطيها الله جل وعلا لمن يشاء من خلقه، لكن تحديث الملائكة ويقول سمعت الملائكة قالت لي الملائكة هذا لا شك أنه من صنيع الشيطان . (1)
جبر الصوفية ؛ وعدم تفريقهم بين الإرادة الكونية ،والإرادة الشرعية :
قال الشيخ رحمه الله :
__________
(1) - التعليقات 54 .(6/32)
(....وسنذكر الفرق بين الإرادة الكونية والدينية والأمر الكوني والديني، وكانت هذه المسألة قد اشتبهت على طائفة من الصوفية فبينها الجنيد رحمه الله لهم، ومن اتبع الجنيد فيها كان على السداد، ومن خالفه ضل، لأنهم تكلموا في أن الأمور كلها بمشيئة الله وقدرته، وفي شهود هذا التوحيد وهذا يسمونه الجمع الأول، فبين لهم الجنيد أنه لابد من شهود الفرق الثاني، وهو أنه مع شهود كون الأشياء كلها مشتركة في مشيئة الله وقدرته وخَلقه يجب الفرق بين ما يأمر به ويحبه ويرضاه، وبين ما ينهى عنه ويكرهه ويسخطه، ويفرق بين أوليائه واعدائه، كما قال تعالى ?أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ(35)مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ?[35-36]، وقال تعالى ?أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ?[ص:28]، وقال تعالى ?أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ?[الجاثية:21]، وقال تعالى ?وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلَا الْمُسِيءُ قَلِيلًا مَا تَتَذَكَّرُونَ?[غافر:58]، ولهذا كان مذهب سلف الأمة وأئمتها أن الله خالق كل شيء وربه ومليكه، ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، لا رب غيره، وهو مع ذلك أمر بالطاعة ونهى عن المعصية، وهو لا يحب الفساد، ولا يرضى لعباده الكفر، ولا يأمر بالفحشاء، وإن كانت واقعة بمشيئته فهو لا يحبها ولا يرضاها، بل يبغضها ويذم أهلها ويعاقبهم. وأما المرتبة الثالثة أن لا يشهد طاعة ولا معصية فإنه يرى أن الوجود واحد، وعندهم أن هذا غاية التحقيق، والوَلاية لله، وهو في الحقيقة غاية الإلحاد في أسماء الله وآياته وغاية العداوة لله. فإن صاحب هذا المشهد(6/33)
يتخذ اليهود والنصارى وسائر الكفار أولياء وقد قال تعالى ?وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ?[المائدة:51]، ولا يتبرأ من الشرك والأوثان فيخرج عن ملة ابراهيم الخليل صلوات الله وسلامه عليه قال الله تعالى ?قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ?[الممتحنة:4]، وقال الخليل عليه السلام لقومه المشركين ?أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ(75)أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ الْأَقْدَمُونَ(76)فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ?[الشعراء:75-77]، وقال تعالى ?لاَتَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أو أَبْنَاءَهُمْ أو إِخْوَانَهُمْ أو عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمْ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ?[المجادلة:22](1).
تلبيس الشيطان عليهم بما يشبه الكرامات واغترارهم بذلك ،وظنهم أنه من الولاية :
قال الشيخ رحمه الله :
__________
(1) - الفرقان 78 .(6/34)
(وهكذا أهل الأحوال الشيطانية تنصرف عنهم شياطينهم إذا ذكر عندهم ما يطردها مثل آية الكرسي، فإنه قد ثبت في الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - لما وكله النبي - صلى الله عليه وسلم - بحفظ زكاة الفطر فسرق منه الشيطان ليلة بعد ليلة وهو يمسكه فيتوب فيطلقه فيقول له النبي - صلى الله عليه وسلم - «ما فعل أسيرك البارحة» فيقول زعم أنه لا يعود، فيقول «كذبك وإنه سيعود» فلما كان في المرة الثالثة، قال دعني حتى أعلمك ما ينفعك إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي ?اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ?[البقرة:255] إلى آخرها فإنه لن يزال عليك من الله حافظ ولا يقربك شيطان حتى تصبح، فلما أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - قال «صدقك وهو كذوب» وأخبره أنه شيطان، ولهذا إذا قرأها الإنسان عند الأحوال الشيطانية بصدق أبطلتها، مثل من يدخل النار بحال شيطاني أو يحضر سماع المكاء والتصدية فتنزل عليه الشياطين وتتكلم على لسانه كلاما لا يعلم وربما لا يفقه، وربما كاشف بعض الحاضرين بما في قلبه، وربما تكلم بألسنة مختلفة كما يتكلم الجني على لسان المصروع، والإنسان الذي حصل له الحال لا يدري بذلك بمنزلة المصروع الذي يتخبطه الشيطان من المس، ولَبِسَهُ وتكلم على لسانه فإذا أفاق لم يشعر بشيء مما قال. ولهذا قد يضرب المصروع وذلك الضرب لا يؤثر في الإنسي، ويخبر إذا أفاق أنه لم يشعر بشيء لأن الضرب كان على الجني الذي لبسه. ومن هؤلاء من يأتيه الشيطان بأطعمة وفواكه وحلوى وغير ذلك مما لا يكون في ذلك الموضع، ومنهم من يطير بهم الجني إلى مكة أو بيت المقدس أو غيرهما، ومنهم من يحمله عشية عرفة ثم يعيده من ليلته فلا يحج حجا شرعيا، بل يذهب بثيابه ولا يحرم إذا حاذى الميقات، ولا يلبي، ولا يقف بمزدلفة، ولا يطوف بالبيت، ولا يسعى بين الصفا والمروة، ولا يرمى الجمار، بل يقف بعرفة بثيابه ثم يرجع(6/35)
من ليلته، وهذا ليس بحج مشروع باتفاق المسلمين، وكمن يأتي الجمعة ويصلي بغير وضوء إلى غير قبلة، وهم هؤلاء المحمولين مرة إلى عرفات، ورجع فرأى ملائكة تكتب الحجاج، فقال ألا تكتبوني، فقالوا لست من الحجاج يعنى لم تحجّ حجًّا شرعيا )(1).
كرامات الأولياء عند الصوفية :
قال الشيخ رحمه الله :
(وبين كرامات الأولياء وما يشبهها من الأحوال الشيطانية فروق متعددة، منها أن كرامات الأولياء سببها الإيمان والتقوى، والأحوالُ الشيطانية سببها ما نهى الله عنه ورسوله، وقد قال تعالى ?قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ?[الأعراف:33]، فالقول على الله بغير علم، والشرك، والظلم، والفواحش، قد حرّمها الله تعالى ورسوله، فلا تكون سببا لكرامة الله تعالى ولا يُستعان بالكرامات عليها، فإذا كانت لا تحصل بالصلاة والذكر وقراءة القرآن، بل تحصل بما يحبه الشيطان وبالأمور التي فيها شرك كالاستغاثة بالمخلوقات، أو كانت مما يستعان بها على ظلم الخلق، وفعل الفواحش، فهي من الأحوال الشيطانية، لا من الكرامات الرحمانية، ومن هؤلاء من إذا حضر سماع المكاء والتصدية يتنزل عليه شيطانه حتى يحمله في الهواء ويخرجه من تلك الدار، فإذا حَضَرَ رجل من أولياء الله تعالى طرد شيطانه، فيسقط، كما جرى هذا لغير واحد، ومن هؤلاء من يستغيث بمخلوق إما حي أو ميت، سواء كان ذلك الحي مسلما أو نصرانيا أو مشركا، فيتصور الشيطان بصورة ذلك المستغاث به ويقضي بعض حاجة ذلك المستغيث، فيظن أنه ذلك الشخص، وهو ملك تصور على صورته، وإنما هو شيطان أضله لما أشرك بالله، كما كانت الشياطين تدخل الأصنام وتكلم المشركين. ومن هؤلاء من يتصور له الشيطان ويقول له أنا الخَضِر،
__________
(1) - الفرقان 124.(6/36)
وربما أخبره ببعض الأمور وأعانه على بعض مطالبه، كما قد جرى ذلك لغير واحد من المسلمين واليهود والنصارى وكثير من الكفار بأرض المشرق والمغرب، يموت لهم الميت فيأتي الشيطان بعد موته على صورته، وهم يعتقدون أنه ذلك الميت، ويقضي الديون، ويردّ الودائع، ويفعل أشياء تتعلق بالميت، ويدخل على زوجته، ويذهب، وربما يكونون قد أحرقوا ميتهم بالنار كما تصنع كفار الهند، فيظنون أنه عاش بعد موته. ومن هؤلاء شيخ كان بمصر أوصى خادمه فقال إذا أنا مِتُّ فلا تدع أحدا يغسلني، فأنا أجيء وأغسل نفسي فلما مات رآى خادمه شخصا في صورته فاعتقد أنه هو دخل وغسل نفسه، فلما قضى ذلك الداخل غسله، أي غسّل الميت غاب، وكان ذلك شيطانا، وكان قد أضل الميت، وقال إنك بعد الموت تجيء فتغسل نفسك، فلما مات جاء أيضا في صورته ليغوي الأحياء كما أغوى الميت قبل ذلك. ومنهم من يرى عرشا في الهواء وفوقه نور، ويسمع من يخاطبه ويقول أنا ربك، فإن كان من أهل المعرفة علم أنه شيطان فزجره واستعاذ بالله منه فيزول، ومنهم من يرى أشخاصا في اليقظة يدعي أحدهم أنه نبي أو صديق أو شيخ من الصالحين، وقد جرى هذا لغير واحد، ومنهم من يرى في منامه أن بعض الأكابر، ما الصديق - رضي الله عنه - أو غيره قد قص شعره أو حلقه أو ألبسه طاقيته أو ثوبه فيصبح وعلى رأسه طاقية وشعره محلوق أو مقصر، وإنما الجن قد حلقوا شعره أو قصروه وهذه الأحوال الشيطانية تحصل لمن خرج عن الكتاب والسنة وهم درجات، والجن الذين يقترنون بهم من جنسهم، وعلى مذهبهم، والجن فيهم الكافر والفاسق والمخطىء، فإن كان الإنسي كافرا أو فاسقا أو جاهلا دخلوا معه في الكفر والفسوق والضلال، وقد يعاونونه إذا وافقهم على ما يختارونه من الكفر، مثل الإقسام عليهم بأسماء من يعظمونه من الجن وغيرهم، ومثل أن يكتب أسماء الله أو بعض كلامه بالنجاسة، أو يقلب فاتحة الكتاب، أو سورة الإخلاص، أو آية الكرسي، أو غيرهن، (1)
__________
(1) يقلبها يعني يقرأها من آخرها إلى أولها وهذا بالنسبة للآيات.(6/37)
ويكتبهن بنجاسة فيغورون له الماء وينقلونه بسبب ما يرضيهم به من الكفر. وقد يأتونه بما يهواه من امرأة أو صبي، إما في الهواء وإما مدفوعا ملجأ إليه، إلى أمثال هذه الأمور التي يطول وصفها والإيمان بها إيمان بالجبت والطاغوت، والجبت السحر، والطاغوت الشياطين والأصنام.)(1) .
ومقصود شيخ الإسلام رحمه الله من هذا كله أن :
هذا سحر ، من كتابة الآيات بالنجاسات وإهانة المصحف والعياذ بالله أو البول عليه والعياذ بالله، هذا من آخر مراتب السحرة يعني بتعلم السحر والعياذ بالله لا يكون كاهنا ساحرا تخدمه الشياطين وتعمل بأمره فيما يشتهي إلا إذا حصل منه الكفر، بهذه الأنواع كما قد ذكر في بعض كتب السحر المعاصرة والقديمة فالناس في زمن شيخ الإسلام وما قبله إلى زمن قريب من زمننا هذا كانوا يعتقدون في هؤلاء السحرة والكهنة، واليوم في بعض البلاد مثل ما هو موجود في المغرب فيما يذكرون، وفي لبنان وفي مصر أيضا على قلة لكن في المغرب يقولون بكثرة، وفي بعض البلاد يوجد أناس تخدمهم الشياطين ويخبّرونهم بالمغيبات وراج على بعض أهل هذه البلاد من أهل الفطرة راج عليهم أنّ أولئك قالوا الملائكة تخبرهم، الملائكة تخدمهم، هؤلاء صالحون ويظهرون لهم بصورة الصلاح، ويزعمون أن الملائكة هي التي تصنع لهم وتخدمهم، الملائكة لا تفعل شيئا من ذلك، ولم تخدم الصحابة في مثل هذه الأشياء، وإنما هذه من الشياطين، يخبرونهم بالمغيبات ويغيرون لهم الأشياء، وينطق الناطق وهو بعيد ويأتي ويقول الميت يقول كذا وكذا، أو يسمع صوت وأشباه ذلك مما ذكر.
__________
(1) - الفرقان 126.(6/38)
المقصود من هذا البحث الذي ذكر شيخ الإسلام وأطال فيه من حيث الأمثلة، تأصيل القاعدة بأن الفرقان بين الخارق الشيطاني هو حال الشخص، فإذا كان من حصلت له الخوارق مطيعا لله ورسوله آمرا ناهيا صاحب تقوى، فهذا قد يُجري الله على يديه كرامات، وإذا كان عاصيا مخالفا مرتكبا للمحرمات تاركا للفرائض، عنده حب للنجاسات، وعنده إظهار للتعذيب بالنار أو الخوارق التي لا تحصل لأهل الإيمان لأنها أمور منكرة فهذه حال شيطانية، ولو ادعى أنها من الملائكة أو من صلاحه أو إلى آخره فهذه أحوال شيطانية.
كذلك ما يكون من الأمور التي ذكرها من الأمثلة هذه يجب على المرء أن لا يكذب يقول لا ما حصل هذا، لأن الأشياء حصلت ويكون الذي رأى أنه حصل يقول حصل ورأيته بعيني فيحيل الداعية إلى الحق يحيل الموحد، يقول نعم حصل ولكن لم يحصل إلا من الشيطان، نعم سُمع الصوت من القبر وهو صوت فلان وكلمكم قال : إفعلوا كذا أو غفرت لكم أو سألت لكم ربي أو شفعت لكم، لكن هو في الواقع صوت شيطان ليس صوت الميت، لأن الشيطان قلد صوت الميت ليغوي العباد فالأموات لا يخاطبون الأحياء، لا يخاطب النبي عليه الصلاة والسلام الأحياء والصحابة ولا شهداء بدر ولا أكرم الناس، لم يخاطبوا الأحياء بأمور، وإذا الشيطان تكلم على لسان هذا الميت فيحصل من هذا التكليم إغواء تعلق واعتقادات باطلة إذن فالشياطين مهمتهم الإغواء كما هو معلوم ?لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا(62)قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا(63)وَاسْتَفْزِزْ مَنْ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ?[الإسراء:62-64] صوت الشيطان يشمل كل ما يغوي الشيطان به العباد من الأصوات سواء كانت أصوات المخلوقين التي من جهة الشيطان أو تجد الشيطان نفسه في القبور في هذه الأحوال.(6/39)
فإذن يجب أن ينتبه إلى مثل هذه المسائل خاصة في البلاد التي يكثر فيها الجهل والاعتقاد بالكهنة والأولياء وما شابه ذلك وأن أكثر ما يحصل لهم من هذه الأشياء إنما هي من الشياطين، وبعضها خيالات، سبب استطراد شيخ الإسلام في مثل هذه الأمثلة هو أن يُعلم القارئ الذي يقرأ كتابه أنه محيط بأحوال القوم حتى لا يقول قائل أنت تتكلم عنهم وأنت لا تعرفهم فذكر كل الأصناف جميعا التي يحصل لهم الخوارق وتخدمهم الشياطين وأصناف ما يحصل لهم في الأطعمة في الأشربة في الطيران في الهواء في الماء وفي الإخبار بالمغيبات وفي المكث عند القبور والتمثل بالأشخاص كل هذه حصلت للناس وهو يمثل بها حتى يجمع ما بين معرفة واقع الناس وما بين تقرير الأحكام الشرعية حتى يكون أعظم في الحجة.
ذكر شيخ الإسلام في بعض كتبه أن الشيطان تمثل في صورته يقول : وقعت مرة لطائفة من أصحابي ضائقة وكرب قالوا فرأينا صورتك يعني فرأيناك عندنا فاستغثنا بك، فأتيت وخلصتنا من العدو، فلما أخبره لما قدموا هنا قال لم آتِ إنما ذاك شيطان تصور بصورتي ليغويكم فاحذروا ، أو كما قال رحمه الله تعالى. فالشيطان بشهادة الثقات الجمع من أصحابه تمثل بصورته لذلك هند شيخ الإسلام هذا يقيني لأنه شهد به الثقات وهو يعلم بيقين من نفسه أنه ما تعدى بنفسه، كيف هؤلاء يقولون حصل لنا كيت وكيت وأنت جئت وخلصتنا لاشك أن هذا من الشيطان لذلك، يتكلم بأشياء مبنية على محسوس والمبني على محسوس لا يُكذَّب والذي ذكرتَه هذا يُرد عليه بما ذكر شيخ الإسلام عن نفسه لأنه لم يتخيل بحال الناس إنما ذكر عن نفسه هذه الأشياء. المسألة هذه تطول نقف عند هذا.(1)
الخاتمة
__________
(1) - التعليقات الحسان 87.(6/40)
يُعدُّ هذا البحث الذي مرَّ معنا كلاماً في قضية بعينها ؛ وهي مسألة الأولياء وأحوالهم عند الصوفية ، وهي مسألة مبثوثة في كتب شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله بإسهاب وتفصيل ، ولكنني قصدت إلى إظهارها من كتاب الفرقان فحسب ، ومن الممكن أن نخرج بالنتائج التالية :
المسألة الأولى: في أنّ وجود ولي الله وولي الشيطان أمرٌ مقرّر في الشرع؛ في الكتاب والسنة:
أما وَلاية الله جل وعلا لعبده فهي كما قال ?إِنَّمَا وَلِيُّكُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ(55)وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمْ الْغَالِبُونَ?[المائدة:55-56]، وقال? أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ?[يونس:62].
وفي وَلاية الشيطان آيات كثيرة ?إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ ?[النحل:100]، وقال ?إِنَّمَا ذَلِكُمْ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ?[آل عمران:175] والآيات في ذلك كثيرة ساقها الإمام في أول البحث.
المسألة الثانية: في تعريف وليّ الله وتعريف وليّ الشيطان وأنّ:
وليّ الله: الوليّ هو كل مؤمن تقي ليس بنبيّ للآية حيث عرّف الأولياء بأنهم ?الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ?[يونس:63]، المؤمن المتقي هو الوليّ.
ووليّ الشيطان: هو الذي يطيع الشيطان ويأمر بأمره ويخالف ما جاء به محمد عليه الصلاة والسلام؛ لأن الله جل وعلا قال ?أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ?[يس:60] يعني بطاعته في ارتكاب الحرام بأنواعه، في ترك الفرائض بأنواعها، والآيات في هذا كثيرة ذكرنا لكم بعضًا منها.
المسألة الثالثة-في خلاصة هذا-:(6/41)
أنّ وَلاية المؤمن لله جل وعلا ووَلاية الله جل وعلا لعبده المؤمن متبعِّضة ليست على مرتبة واحدة؛ فكل مؤمن له نصيب من التقوى له نصيب من الوَلاية، فالإيمان والتقوى متبعِّضة فكذلك الوَلاية متبعضة.
وكذلك وَلاية الشيطان للعبد والعبد للشيطان متبعضة فكل عاص له نصيبه من وَلاية الشيطان.
فمعتقد أهل السنة أنه يكون في الشخص أشياء موجبةً لوَلاية الشيطان وموجبة لولاية الرحمن جل وعلا، فيجتمع في المعيّن الوَلاية من الجهتين، وهو لما غَلَبَ منها، يعني يكون ولي لله جل وعلا في طاعته ويكون مطيع للشيطان وولي له فيما عصاه به؛ لكن لا يُقال في المؤمن: إنّه ولي للشيطان بإطلاق. بل يقال: مؤمن وليّ لله جل وعلا فيه معصية، فيه طاعة للشيطان ونحو ذلك. لأن الله سبحانه جعل وَلاية الشيطان وسلطانه على الذين لا يؤمنون؛ ?إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ?[الأعراف:27]. إذن المؤمن لا يُقال: هذا ولي للشيطان بإطلاق. لكن بتقييد.
المسألة الرابعة: أنّ لأولياء الرحمن علامات، ولأولياء الشيطان علامات، وذكرها شيخ الإسلام في الكتاب.
المسألة الخامسة:
أنّ أولياء الرحمن لهم كرامات، والكرامة عُرّفت بأنها أمر خارق للعادة يجري على يدي وليّ، وأن حصول الكرامة لا يعني رِفعة من حصلت له على من لم تحصل له، بل قد يكون من لم تحصل له كرامة أرفع ممن حصلت له كرامة. وهذه قرّرها في كتابه.
وما يحصل لأولياء الشيطان من خوارق هي خوارق شيطانية من جهة الشيطان يعينهم، وليس الله جل وعلا يكرمهم بذلك؛ ليسوا بأهلٍ للإكرام.
فإذن يجب أن يُنظر في الفرق ما بين وليّ الرحمن ووليّ الشيطان من جهة العمل؛ من جهة طاعته لله ورسوله، وليس ذلك عمادُه الخوارق؛ قد تحصل الخوارق الشيطانية لبعض الناس.(6/42)
المسألة السادسة: أنّ المبتدعة من هذه الأمة والمشركين ، وبعض المتصوفة، والذين يتعلقون بالقبور والأضرحة ، ويتعلقون التعلقات البدعية والشركية بالمعظَّمين، هؤلاء تُعينهم الشياطين على أشياء غريبة، بالأنواع التي ذكرها وأصناف أطال فيها من أمور علمية وأمور قدَرية وأشباه ذلك، أو أنواع هذه الأجناس، هذا كلُّه إذا كان لمن ليس على الإيمان والتقوى؛ يعني أن أهل الشرك والبدع تحصل لهم أمور خوارق، وهذه من جهة إعانة الشياطين لهم بأمور كثيرة من تكليمهم الموتى، ومن حصول أنواع المعلومات والمعارف، وأحيانا يكون شفاء مرضى، وأحيانا يشفى بقراءته، وأحيانا يشفى بلمسه أو بكتابته أو ما أشبه ذلك، كل هذا يكون من الشيطان، الشيطان الذي يَنْخَسُ المرء ويُوجع، ثم إذا أتى هذا المشرك والمبتدع فحصل منه بعض الأشياء رفع يده، مثل ما قال ابن مسعود: إنما ذلك الشيطان ينخسها بيده ، فهذا أيضا فرقان مهمّ في أنّ أهل الشرك والبدع والتعلقات الشركية والقبور والأوثان ليسوا بأهل لكرامة الله جل وعلا؛ بل هم أهل لإهانة المولى جل جلاله، ولكن يحصل لهم خوارق من فعل الشياطين.
المسألة السابعة: أنّ الجن مكلفون مثل تكليف الإنس، وأنهم مخاطبون، وأنّ وليّ الله جل وعلا إذا عرضت له الجن والشياطين بأشياء تخدمه بها أو أحوال يفعلونها به فإنه يجب عليه أن يأمرهم وينهاهم كما أمرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - ونهاهم، وأن يتلو عليهم القرآن، وأن يقيم عليم الحجة.(6/43)
المسألة الثامنة: والأخيرة التي ختم بها الكتاب أنّ العبد إذا تبين له الحق والصواب في هذه المسائل، وعرف المقصد، وعرف سبب ونشأة الضلال، فيجب عليه أن يراجع الصواب وأن يتوب إلى الله جل وعلا فإن الحق ديْدن المؤمن، ولا يجوز له أن يعلم الحق ويكابر، ويترك ذلك إلى غيره، كما ذكر أنّ طائفة من الناس عرفوا الحق في ذلك، وأنّ ما يأتيهم من الشياطين، فاستغفروا وأنابوا وتركوا موجبات إعانة الشيطان من البدعة والشرك إلى آخره، إلى موجبات إعانة الرحمن جل جلاله وتوفيقه وهي السنة ومتابعة الهدي ولزوم طريقة السلف الصالح رضوان الله عليهم. وهذا ختام هذا البحث.
وأسأل الله جل جلاله أن ينفعنا به، وأن يُقِرَّ العلم في قلوبنا، وأن لا يحجبه عنا ولا عن أحبابنا بذنوبنا ومعاصينا، كما أسأله سبحانه أن يلهمنا جميعاً كلمة التقوى، وأن يجعلنا من الدعاة إلى دينه والمعلمين شريعة نبيه عليه الصلاة والسلام للناس أجمعين، إنّه سبحانه جواد كريم وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.(1)
أهم المراجع والمصادر
القرءان الكريم .
صحيح البخاري .
صحيح مسلم .
سنن النسائي.
سنن الترمذي .
سنن ابن ماجه .
صحيح الجامع الصغير . للشيخ محمد ناصر الدين الألباني ت(1420هـ ).
خطبة الحاجة . للألباني .
كتاب : الأعلام العلية في مناقب ابن تيمية ت: عمر بن علي بن موسى البزار أبي حفص . (ت 749هـ ) تحقيق : زهير الشاويش .
العقود الدرية من مناقب شيخ الإسلام أحمد بن تيمية. ت. محمد بن أحمد بن عبد الهادي بن قدامة المقدسي أبي عبد الله ت( 744هـ) ، تحقيق الشيخ / محمد حامد الفقي .
كتاب : الانتصار ، لابن قدامة أيضا ً تحقيق أ د / محمد السيد الجليند .
الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان . شيخ الإسلام ابن تيمية .
__________
(1) - التعليقات 102 . وينظر للتوسع : تقديس الأشخاص في الفكر الصوفي تأليف / محمد أحمد لوح . ( رسالة علمية ) .(6/44)
التصوف عرض ونقد . أ د / عبد الفتاح بن أحمد الفاوي .
أصول الملامتية وغلطات الصوفية . تحقيق أ د / عبد الفتاح بن أحمد الفاوي.
تقديس الأشخاص في الفكر الصوفي . ت : محمد أحمد لوح . ط 1 / 1422هـ
التعليقات الحسان على كتاب الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان .ت / معالي الشيخ/ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ . (مخطوط) أشرطة مفرغة .
رسالة " نواقض الإسلام" للإمام المجدد شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب المتوفى سنة (1206هـ).
الفهارس
الموضوع الصفحة
المقدمة ........................................................................2
المبحث الأول : تعريف بشيخ الإسلام ...........................................3
نشأته .........................................................................3
مؤلفاته ........................................................................3
وفاته ..........................................................................4
المبحث الثاني : الأولياء .........................................................5
الولي والولاية ..................................................................5
أحاديث مكذوبة في الولاية عند الصوفية .........................................7
حكم من اظهر الولاية وهو لا يؤدي الفرائض ...................................10
كلام مشايخ الصوفية في الولاية ................................................10
من خالف الدين فليس بولي ...................................................12
تلبيس الشيطان على الصوفية في مسألة الولاية ...................................14
الخوارق تنقسم إلى ثلاثة أقسام .................................................16
مسألة ختم الأولياء ............................................................16(6/45)
ضلال من يفضلون الولاية على النبوة ...........................................17
من زعم أن ابن عربي ولي ......................................................17
جبر الصوفية ، ضلالهم في مسألة الإرادة الكونية ، والشرعية ......................20
تلبيس الشيطان عليهم في الكرامات وظنهم ذلك ولاية ...........................21
كرامات الأولياء عند الصوفية ...................................................22
الخاتمة .........................................................................25
أهم المراجع والمصادر ...........................................................29
الفهارس ......................................................................30(6/46)
أولياء الله
بين المفهوم الصوفي
والمنهج السني السلفي
تأليف: عبد الرحمن دمشقية
المقدمة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
أما بعد
فلقد بات مفهوم الولاية الحقيقي غائبا عن الكثيرين كما ورد في الكتاب والسنة وبحسب ما فهمه السلف الصالح، وصار المتبادر إلى الذهن عند سماع كلمة الولي: ذاك الشيخ الذي يتمتم بأحزابه وأوراده، قد تدلت السبحة حول عنقه، وامتدت يداه إلى الناس يقبلونها وهم يكادون يقتتلون على التمسح به.(7/1)
وآخرون يرون مجذوباً متسكعاً على قارعة الطريق حافي القدمين، متسخ الثياب فيشيع بينهم أنه ولي يعتقدون أن لمثل هذا سر مع الله، وربما رأوا كاهناً أو عرافاً يخبر الناس بما يغيب عنهم من ماض وحاضر ومستقبل فيظنون فيه الولاية لله مع علمهم بأنه لا يأتي الصلوات ولا يحضر الجماعات، ويظنون فيهم صنوف العجائب والكرامات وقد غاب عنهم حقيقة الكرامة ومتى يعطاها الإنسان ولماذا، وقد غفلوا عن حقيقة مهمة ألا وهي استغلال بعض الدجالين وأدعياء الكرامة لهذا الجهل بين الناس، وساعدتهم الجن والشياطين على ذلك ففعلوا بالناس ما كانوا يفعلونه في السابق بأصنام المشركين حين كانوا يتكلمون من خلالها فيظن الناس أن الكلام صادر من أصنامهم ليزداد اعتقادهم وإيمانهم بألوهية أصنامهم. حتى صار من الناس اليوم من يعتقد أن من أولياء الله من يطوي الله لهم الأرض والزمن(1) حتى إن منهم من يصلي الصلوات الخمس في اليوم الواحد في خمس بقاع مختلفة من العالم. وأن بعد المسافات لا يحول دون اطلاعه على أحوال تلاميذه ورعايته لهم ولو من بعيد. وأن أولياء الله يتفاوتون في المراتب.
فمنهم الوتد ومنهم النجب ومنهم القطب ومنهم الغوث.
وهكذا قامت في أذهان الجهال من الناس مملكة هرمية وهمية من الأقطاب والأبدال والأوتاد، بهم تقوم الأرض والسماء وبهم تقضي الحوائج هم أولياء الله.
وصار كل من ينكر هذا الانحراف في أفهامهم أو يحاول تقويمه اتهموه بأنه عدو للأولياء وأنه يجحد قوله تعالى:
{ أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } [يونس 62].
__________
(1) كتبت في ذلك عدة كتب مثل ((القول الجلي بتطور الوالي)) أي بتطوره في أشكال عديدة وظهوره بمكانين بوقت واحد وكتاب ((المعتلي في تعدد صور الولي )) ينسب كلاهما للسيوطي بالظاهرية.(7/2)
أما أن يكون المصلون الذين نراهم كل يوم في المساجد أما التاجر السابق إلى الصدقات وإيتاء الفقراء أما المجاهد الذي يرابط في سبيل الله فهؤلاء لا تعنيهم الولاية ولا علاقة لهم بهذه الآية!.
ومن هنا فقد عمدت في هذا الكتاب إلى وضع دراسة مقارنة بين مفهوم الولاية الصحيح مدعما بالأدلة من الكتاب والسنة. وبين مفهومها عند الصوفية كما عرضتها لنا المئات من بطون كتب التصوف.
وهذا هو الإصدار الرابع من سلسلة دراسات عن التصوف بعد كتاب ((النقشبندية)) وكتاب ((أبو حامد الغزالي والتصوف)) وكتاب ((الرفاعية)) وقريبا كتاب ((القادرية)) و ((الشاذلية)) بإذن الله.
وإني لأرجو أن أكون قد أعطيت صورة واضحة عن حقيقة هذه الطرق من خلال الرجوع إلى كتبهم وأقوال مشايخهم القدامى والمحدثين.
وأتمنى من أي ناصح أو من لديه مراجع أو معلومات عن هذه الطرق أن يكتب إلي على هذا العنوان:
ص. ب 55195 الرياض 11534
والحمد لله رب العالمين.
الولاية والولي
قال الفيروز آبادي ((الولي)) القرب والدنو والمطر بعد المطر، وليت الأرض بالضم. والولي الاسم منه المحب والصديق والنصير، وتولاه أي اتخذه وليا(1) وفي الصحاح للرازي: ((الولي ضد العدو. والموالاة ضد المعاداة والولاية بالكسر(2)وفي مقاييس اللغة: الولي: القرب، والولي: المطر يجيء بعد الوسمي(3) قال الراغب الأصفهاني في غريب القرآن ((الولاء والتوالي أن يحصل شيئان فصاعدا حصولا ليس بينهما ما ليس منهما ويستعار ذلك للقرب من حيث المكان ومن حيث النسبة ومن حيث الدين ومن حيث الصداقة والنصر والاعتقاد.
__________
(1) القاموس المحيط: 4/404 ط البابي الحلبي- مصر وانظر لسان العرب لابن منظور 4920.
(2) مختار الصحاح 736ط دار الكتاب العربي بيروت.
(3) معجم مقاييس اللغة 6/ 141 لابن فارس ط الكتب العلمية ايران.(7/3)
والولاية: تولي الأمر. والولي والمولى يستعملان في ذلك كل واحد منهما يقال في معنى الفاعل أي الموالي، وفي معنى المفعول أي الموالى، يقال للمؤمن هو ولي الله عز وجل ولم يرد مولاه. انتهى(1) وذكر الشوكاني في فتح القدير أن الولي ((هو القريب))(2) فهذا من حيث اللغة. أما من حيث الاصطلاح فانه من الضرورة بمكان الرجوع إلى المعنى الحقيقي للفظ ((الولي)) لا سيما وأن الاختلاف في الولاية ناشىء عن الاختلاف في فهم معنى الكلمة ودلالتها. والتعريفات فيها كثيرة، ونبدأ بابن تيمية رحمه الله الذي يذهب إلى أن ((الولاية ضد العداوة. وأصل الولاية المحبة والقرب، وأصل العداوة البغض والبعد)). ((وقد قيل أن الولي سمي وليا من موالاته للطاعات، أي متابعته لها)) لكن هذا التفسير لم يترجح عنده فقال ((والأول أولى))(3) ولعل وجه ترجيح التعريف الثاني أنه أكثر موافقة للقرآن من حيث استعماله لكلمة ولي ولأن التعريف الأول يشعر بضرورة تتابع الطاعات والإكثار منها كشرط لنيل مرتبة الولاية، وهذا قد يشق على الكثرة من المسلمين، ناهيك عن أن التعريف الثاني أصح وأقرب لغويا.
__________
(1) غريب القرآن: 533 ط دار المعرفة- بيروت.
(2) فتح القدير 2/457 دار المعرفة- بيروت.
(3) الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان 6 ط المكتب الإسلامي- بيروت وانظر مجموعة الرسائل والمسائل 1/50ط دار الكتب العلمية- بيروت.(7/4)
وقد يعرف بعضهم الولي بتعريف قد يشق على الغالبية من المسلمين كتعريفه للولي بأنه ((العارف بالله))(1)وبصفاته حسب الإمكان، والمواظب على الطاعة، المجتنب للمعاصي، المعرض عن الانهماك في اللذات والشهوات المباحة، وسمي وليا لأنه يتولى عبادة الله على الدوام(2) وقد جاء أعرابي إلى النبي يطلب منه أن يبين له ما يجب عليه من أمور الدين، فذكر له ما يجب عليه ذلك من شهادة لا اله إلا الله والصلاة والصيام والزكاة والحج، فأجابه بعد ذلك قائلا ((هل علي غيرها؟ قال: لا، ألا أن تطوع. فأدبر وهو يقول: والله لا أزيد على هذا ولا أنقص منه. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أفلح أن صدق، أو دخل الجنة أن صدق)) (3).
__________
(1) أن معرفة الله فطرية لا يتحقق بموجبها عرفان ولا منزلة: قال تعالى { وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم؟ قالوا بلى شهدنا } (الأعراف 172) وقال { وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم } (النمل 14) فالمعرفة بمجردها يستوي فيها المؤمن والجاحد.
(2) تبسيط العقائد الإسلامية 151.
(3) أخرجه البخاري في العلم: باب القراءة والعرض على المحدث 1/22 ومسلم في الإيمان 12 والترمذي في الزكاة 614 والنسائي في الصوم 4/121- 124 وأبو داود في الصلاة 486.(7/5)
ولا يدخل الجنة إلا أولياء الله. فدل على أن صفة الولاية ينالها المواظب والمقتصد سواء. قال تعالى { أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ } (1) فآخر الآية يبين الصفتين في الولي اللتين هما ركيزتان فيه، قال ابن جرير عند ذكر الآية ((والصواب من القول في ذلك أن يقال (الولي) أعني ولي الله هو من كان بالصفة التي وصفه الله بها، وهو الذي آمن واتقى كما قال الله { الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ } (2) فالولاية هي الإيمان والتقوى، ويجب على كل من دخل في دين الله أن يتحلى بهاتين الصفتين، فالتحلي بهما يكون فرضا لا حظا كما يذهب إلى ذلك الحكيم الترمذي(3) الذي يعتبر الولاية حظا كالنبوة هذا وقد عرف الشوكاني أولياء الله بأنهم ((خلص المؤمنين كأنهم قربوا من الله سبحانه بطاعته واجتناب معصيته)).(4) أما ابن حجر فذهب إلى أن المراد بولي الله ((العالم بالله المواظب على طاعته، المخلص في عبادته(5) ولم ير ابن حجر حيث وجد أنه لا أنسب من الاكتفاء بهاتين الكلمتين كمقيد للولاية وهما ((التقوى والإيمان)) فهما واضحان لا يحتاج معهما إلى مزيد من التفصيل، فلربما كان في التفصيل زيادة اشتراط عما أراد الله بهما، وأعني بذلك اشتراط المواظبة على الطاعات. أما اجتناب المعاصي فلا يخرج الواقعون في المعاصي أحيانا من ولاية الله وإنما لا يزالون يتصفون بالتقوى ما داموا يجتنبون المعاصي ويكرهونها ويسارعون إلى التوبة منها والإقلاع عنها ليكونوا بعدها أكثر حرصا على اجتنابها. فصفات الأولياء كما ورد في القرآن هما ((التقوى والإيمان)) وأن أولياء الله ((الذين آمنوا وكانوا يتقون)) سواء سمي أحدهم صوفيا
__________
(1) يونس 62.
(2) تفسير ابن جرير الطبري المجلد السابع 11/92.
(3) نوادر الأصول 157.
(4) فتح القدير 2/457.
(5) فتح الباري 11/342 ط المكتبة السلفية.(7/6)
أو فقيرا أو فقيها أو عالما أو تاجرا أو جنديا أو صانعا أو أميرا أو حاكما أو غير ذلك(1)، وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم ميزهم بعلامة وهي أنهم ((إذا رؤا ذكر الله (2).
__________
(1) رسالة الصوفية والفقراء 28 للإمام ابن تيمية ط المدني. جدة.
(2) رواه الطبراني 2/ 422 عن أبن عباس مرسلا، وابن كثير من رواية البزار مرفوعا، ورواه السيوطي في تفسيره الدر المنثور 3/309، وذكره البغوي في تفسيره 2/359 من غير سند، وأبن الجوزي في ذاد المسير 4/43 [وفيه تخريج الحديث] وأبن كثير 2/ 422، مجموع تفسير أبن مسعود 2/335 جمع محمد احمد العيسوي.(7/7)
وأشرف حديث ورد في صفة الأولياء ما رواه البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يقول الله تعالى: من عادى لي وليا آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، وما زال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وان سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس المؤمن، يكره الموت وأنا أكره مساءته))(1).
معاني الولاية والولي في القرآن
وقد ورد لفظ (ولي) ومشتقاته 90 مرة، منها 54 في جانب أولياء الله(2) و 36 مرة في جانب أعداء الله ممن تولوا الشيطان والذين ظلموا ..الخ. والكل داخل في حزب الشيطان. وللولاية عدة معاني منها.
__________
(1) أخرجه البخاري في الرقاق 7/190 باب التواضع، وقد تعرض البعض لهذا الحديث بالطعن ومنهم رشيد رضا محتجا بتفرد البخاري بروايته دون مسلم وأصحاب السنن ودون مسند أحمد أيضا، قال ((وهو معدود من غرائب جامعة، وقد طعن الأئمة في بعض رجال سنده، وخرجه بعض الذين يروون الضعاف والمناكير كابن الدنيا والطبراني بأسانيد في كل منها مقال)). أنظر حاشية رسالة الصوفية والفقراء 28. وتفرد البخاري برواية ما صح فلا يضر ذلك في الحديث ولا يطعن به، وأما أن أحمد لم يروه في مسنده فالحق أنه رواه [أنظر المسند 6/256] وذكر الحافظ في الفتح ثمانية شواهد وطرق لتقوية الحديث أقواها طريق عائشة وطريقان لأنس [فتح الباري 11/341- 342] وسلسلة الأحاديث الصحيحة [183- 191] وقد أطال الخير في مناقشته.
(2) من رسالة الشيخ محمد جميل غازي (الأولياء) ضمن مجموعة رسائل بعنوان من مفردات القرآن 89- 102 ط المدني مصر مع بغض التصرف.(7/8)
المعنى الأول: الولاية العظمى: وهي ولاية الله { اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ } (1).
وقال { هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ } (2).
وكل ما ورد من حصر الولاية في الله تعالى، فالمراد به تولي أمور العباد فيما لا يصل إليه كسبهم وشرع الدين لهم.
المعنى الثاني لولاية النبي للمؤمنين كما قال { النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ } (3) وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم ((أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم)) وفي رواية ((ما من مؤمن إلا وأنا أولى الناس به في الدنيا والآخرة (4) وفي مقابل ذلك تبرؤه ممن زعم أنه من أوليائه لو كان مشركا، يقول ((أن آل أبي فلان ليسوا لي بأولياء إنما وليي الله وصالح المؤمنين)) (5).
المعنى الثالث: تحريم اتخاذ الكافرين أولياء ولو كانوا أباء أو أخوانا أو عشيرة. قال تعالى { لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ } (6)وقال { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إَنِ اسْتَحَبُّواْ الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ } (7).
وذكر لعن بعض بني إسرائيل على ألسنة أنبيائهم ومن أسباب ذلك { تَرَى كَثِيرًا مِّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ } (8).
المعنى الرابع: ولاية الظالمين للظالمين. قال تعالى { وإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ } (9).
__________
(1) البقرة 257.
(2) الكهف 44.
(3) الأحزاب 6.
(4) أخرجه البخاري في التفسير 226 تفسير سورة الأحزاب، ومسلم في الفرائض رقم (1619) والبيهقي في السنن 10: 302.
(5) أخرجه البخاري في الأدب 737 باب تبل الرحم ببلالها، ومسلم رقم (215) وأحمد في المسند 4:203.
(6) آل عمران 28.
(7) التوبة 123.
(8) المائدة: 78-81.
(9) الجاثية 19.(7/9)
المعنى الخامس: ولاية الشياطين والطاغوت للكافرين كما قال تعالى { إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ } (1).
وقال { وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ } (2).
الفرق بين ولاية الخالق وولاية المخلوق
وولاية الله هي الولاية العظمى كما قال { اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ } (3) ثم نفى ولايته للكافرين الذين تولوا الطاغوت { وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ } وذكر أن تولي الطاغوت ولاية زائفة { ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ } (4)وقد أمر الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يجيبوا أبا سفيان يوم أحد ((الله مولنا ولا مولى لكم)). فولاية الله: نصرتهم وإذهاب الخوف عنهم وتبديد الحزن من نفوسهم(5) { أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } (6)وولي الشيء هو الذي يحفظه ويقوم بنصرته ويمنع منه الضرر(7) قال تعالى { إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ } (8) { قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ } (9).
ولاية الشيطان
ففي أوقات الشدة والجهاد يجد أولياء الله منه التأييد والنصرة، ومن قتل منهم فرزقه عند ربه خير من الدنيا وما فيها.
__________
(1) الأعراف 27.
(2) البقرة 257.
(3) البقرة 257.
(4) محمد 11.
(5) أضواء البيان للشنقيطي 1:289.
(6) يونس 62.
(7) فتح القدير 2:278.
(8) الأعراف 196.
(9) الأنعام 14.(7/10)
أما ولاية الشيطان فهي ولاية كاذبة لا تأييد فيها ولا نصرة وإنما خذلان ونكوص لا سيما عند ظهور الحق: { وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُم مَّا أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَآ أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } (1).
{ وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لاَ غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لاَ تَرَوْنَ إِنِّيَ أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ } (2)
أما ولاية المخلوق لله فهي ولاية حاجة واستنصار. فتولي المؤمن لله بطاعته والخضوع لشرعه ودينه ولا يتحقق الخروج من الظلمات إلى النور إلا بهذا الدين.
أقسام الأولياء
يتضح من الآيات ومن حديث الولي أن الولي على أقسام: سابقين، مقربين، وأصحاب يمين مقتصدين.
__________
(1) إبراهيم 22.
(2) الأنفال 48.(7/11)
قال تعالى: { إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ 22 عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ 23 تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ 24 يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ مَّخْتُومٍ 25 خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ 26 وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ 27 عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ } وقال: { فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ 8 وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ 9 وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ 10 أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ 11 فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ 12 ثُلَّةٌ مِّنَ الأَوَّلِينَ 13 وَقَلِيلٌ مِّنَ الآخِرِينَ } (1)وقال: { فَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ 88 فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ 89 وَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ أَصْحَابِ الْيَمِينِ 90 فسلام لك من أصحاب اليمين } (2).
ويقسم حديث الولي الأولياء إلى مؤدٍ للفرائض وإلى سباق للتقرب إلى الله بالنوافل والطاعات وأسباب التقرب فهم على درجتين:
*درجة المقتصدين أصحاب اليمين الذين يؤدون الواجبات ويتركون المحرمات.
*ودرجة السابقين المقربين الذين يؤدون الفرائض والنوافل ويتركون المحارم (3) فأصحاب الدرجة الأولى يشربون من الكأس { إِنَّ الأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ } ولم يقل بكأس فإنها ممزوجة لهم مزجا وذلك من جنس ما اختلط من أعمالهم في الدنيا. وأما أهل الدرجة الثانية فيشربون ((به)) كما قال: { عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ } فكان الشراب لهم خالصا كاملا وذلك من جنس ما قدموه، بخلاف الأبرار أصحاب اليمين. كما قال ابن عباس ((يمزج لأصحاب اليمين مزجا، ويشرب بها المقربون صرفا)) (4).
__________
(1) الواقعة 8-14.
(2) الواقعة 88- 91.
(3) مختصر الفتاوى 558.
(4) تفسير أبن جرير 2/ 30/ 6 والبغوي 4: 46 6: 32 وتفسير أبن مسعود 2: 69.(7/12)
فالأبرار أصحاب اليمين هم المقربون إليه بالفرائض، يفعلون ما أوجب الله عليهم، ويتركون ما حرم الله عليهم، ولا يكلفون أنفسهم بالمندوبات، ولا الكف عن فضول المباحات، "و أما السابقون المقربون فتقربوا إليه بالنوافل بعد الفرائض. فصارت المباحات في حقهم طاعات يتقربون بها إلى الله. فكانت أعمالهم كلها عبادات لله فشربوا صرفا كما عملوا له صرفا، والمقتصدون كان في أعمالهم ما فعلوه لنفوسهم فلا يعاقبون عليه ولا يثابون عليه، فلم يشربوا صرفا بل مزج من شراب المقربين بحسب ما مزجوه في الدنيا"(1).
قسم آخر
__________
(1) الفرقان 26 والفتاوى 3:416.(7/13)
ونجد في سورة فاطر قسما ثالثا ممن يدخلون الجنة مع القسمين الأولين المقتصدين والسابقين، وهذه الفئة الثالثة هي فئة { الظالمين أنفسهم } قال تعالى { ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِير } فتنادى أهل الأقسام الثلاثة قائلين { الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ 34 الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِن فَضْلِهِ لا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ } (1). وهذا بفضل الله الكبير بما خص به هذه الأمة من أسباب دخول الجنة حتى للظالمين أنفسهم- أعني من شاء منهم- كشفاعة نبينا والشهداء وغيرهم ثم شفاعة أرحم الراحمين. وهذا كما قال ابن تيمية- مما تواترت به السنن، وهو خروج أهل الكبائر من النار أو دخول بعضهم الجنة من غير عذاب لا على سبيل القطع- كما يذهب إلى ذلك المرجئة- وإنما على سبيل الرجاء وبمقتضى الإطلاق الوارد في قوله تعالى: { إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء وَمَن يُشْرِكْ } (2)، فقال: { مَا دُونَ ذَلِكَ } ولم يحدده بالصغائر كما ذهب المعتزلة والخوارج أو بالتوبة مما دون الشرك كما قرروه إذ بالتوبة يغفر الله الشرك وما دونه، وما دون الشرك أعم من أن يحدد بالصغائر. والله عز وجل لم يقل ويغفر الصغائر لمن يشاء. وقد يلي الشرك أسوأ الأعمال فتدخل تحت قوله تعالى: { لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا } (3)كما قال صلى الله عليه وسلم ((عدلت شهادة الزور إشراكا بالله)) (4)
__________
(1) فاطر 32-35.
(2) النساء 48.
(3) الزمر 35.
(4) رواه الترمذي رقم (2300) وأبو داود (3599) وأبن ماجه (2372) بأسانيد لم تصح وأنظر التلخيص الحبير لأن حجر 4: 19، لكن الرواية الأخرى في الصحيحين تشهد له، غير أنها تخالفه من حيث المعنى فليس فيها تصريح عدل الشرك بشهادة الزور ومساواته بها، وانظر السنن للبيهقي 10: 12 وقد حكم الألباني عليه بالضعف في صحيح الجامع الصغير (6402).(7/14)
وقد جعلها من أكبر الكبائر حيث قال ((ألا أنبئكم بأكبر الكبائر: الإشراك بالله وعقوق الوالدين وشهادة الزور)) (1) ومع دنوها من الشرك فإن أحدا من أهل العلم لم يذهب إلى أن شاهد الزور مخلد في النار وأن حكمه حكم عباد النيران والأوثان والطواغيت.
التفاضل في ولاية الله
لا يستوي في الإيمان من يسبحون الله بالغدو والآصال ومن لا يذكرون الله إلا قليلا. وبين من أنفق كل ماله في تجهيز جيوش المسلمين وبين من لم ينفق شيئا { لا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى } (2).
فالتفاضل يبعث على التسابق من العمل لنيل مزيد الثواب من الله ولو كان الإيمان شيئا واحدا في النسبة لاطمأن البليد ولم يتحرك لطلب المزيد فإنه بتقدير استواء الإيمان والولاية لم يعد هناك ما يبعث النفوس على الاجتهاد ويحركها إلى فعل الخيرات وهذا من مثبطات العزائم.
قال تعالى: { تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ } (3) فإذا كانت المفاضلة جائزة بين الرسل فهي بين الأولياء أجوز.
قال تعالى: { انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً } ((والمؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف)) (4) فلم يقتض زيادة الخير في المؤمن الأول انعدامه في الثاني وإنما نقصانه ((وفي كل خير)) وأولياء الله الذين شاهدوا التنزيل ولازموا النبي صلى الله عليه وسلم وهاجروا وجاهدوا معه بالمال والنفس أعظم ثوابا وإيمانا ممن جاؤا بعدهم. وأعظم في ولاية الله ممن تولى الله بعدهم.
__________
(1) أخرجه البخاري في الأدب (707) ومسلم في الأيمان رقم (87) والبيهقي في السنن 10: 12.
(2) الحديد 10.
(3) البقرة 253.
(4) مسلم (2664) والبيهقي 10: 8.(7/15)
وكما أن الإيمان يزيد وينقص { لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَّعَ إِيمَانِهِمْ } { فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا } وقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((الإيمان بضع وسبعون شعبة)) (1) ((يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من الإيمان))(2) فالولاية نظير ذلك، والناس متفاوتون فيها، بحسب الإيمان والعمل الصالح. فهي تزيد وتنقص كزيادة الإيمان ونقصانه وبزيادة الإيمان ونقصانه. وإنما يذهب إلى عدم زيادة الولاية والإيمان أو نقصانهما من يجعلهما شيئا واحدا إذا وجد كان موجودا بكامله، وإذا فقد فقد بكامله. وهذا أصل فاسد تفرعت عنه البدع في الإيمان، فذهب المعتزلة والخوارج والمرجئة إلى أنه مجموع ما أمر الله به فمتى ذهب بعضه لم يبق منه شيء (3)والحق أن الناس متفاضلون في الإيمان وفي الولاية، بحسب تفاوتهم في العمل الصالح.
الأولياء العلماء أفضل من مجرد العباد
__________
(1) مسلم (35) والبخاري في الأيمان 31.
(2) أخرجه الترمذي (2601) وأسناده صحيح أنظر سلسلة الأحاديث الصحيحة للألباني رقم (2450).
(3) مجموع الفتاوى 7: 223 و3: 355 ، 18: 270-271 والإيمان الأوسط 132 ومقالات الإسلاميين 133 و270-266 وفي الفقه الأكبر صريحة ((فصل: أن الإيمان لا يزيد ولا ينقص)) والفقه الأكبر 70.(7/16)
نوع أخر من الأولياء لهم الأفضلية على من سواهم حيث أضاف ابن تيمية طبقة أخرى من الأولياء قد لا تتميز بكثرة نوافل لكنها تتقرب إلى الله بكثرة التعلم والتعليم ودعوة الخلق إلى الهدى واقتفاء الأثر والنهي عن المحدثات. فإنه بعد أن ذكر طبقة السابقين المتقربين إلى الله بالنوافل، صرح بأن من كان داعيا غيره إلى الله هاديا للخلق ((كان أفضل من غيره من أولياء الله كما قال تعالى: { يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ } (1).قال ابن عباس: ((للعلماء درجات فوق المؤمنين بسبعمائة درجة)). وقال ((العلماء ورثة الأنبياء. لأن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما إنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر))(2) قال ابن تيمية: ((فمن كان جاهلا بما أمر الله به وما نهاه عنه لم يكن من أولياء الله، وإن كان فيه زهادة وعبادة لم يأمر الله بهما ورسوله، كالزهد والعبادة التي كانت في الخوارج والرهبان.)) ويضرب لذلك مثلا بارعا فيقول: ((كما أن من كان عالما بأمر الله ونهيه ولم يكن عاملا بذلك لم يكن من أولياء الله بل قد يكون فاسقا فاجرا.)). ((ويقال: ما اتخذ الله وليا جاهلا، أي جاهلا بما أمره به ونهاه عنه)) (3).
__________
(1) المجادلة 11.
(2) رواه الترمذي (2682) وابن ماجة 1: 47 قال في مجمع الزوائد ((رواه البزار ورجاله موثوقون 1: 126 وقال الحافظ ابن حجر ذكره البخاري في صحيحه بغير إسناد (أنظر البخاري كتاب العلم 1: 25 باب العلم قبل القول والعمل.
(3) العبارة مأثورة عن الرفاعي أراد بها الرد على بعض المتصوفة المستخفين بالعلم، كان يقول: عظموا شأن الفقهاء والعلماء... ما أتخذ الله وليا جاهلا، الولي لا يكون جاهلاً في دينه (البرهان المؤيد 57-53 تحقيق صلاح عزام).(7/17)
ثم يوضح بعد ذلك أن من جمع بين العلم بما أمر الله به ونهى عنه وعمل بذلك فهو ولي الله حقا وأن ((من لم يقرأ القرآن كله، لم يحسن أن يفتي الناس ويقضي بينهم)) (1). وهذه العبارة الأخيرة دالة على بعد نظره، فقد يفهم من العبارة السابقة نفي الولاية عن عوام الناس الذين يعلمون الدين بشكل أجمالي فجاءت العبارة الثانية مفصلة لما قد يلتبس.
من أفضل الأولياء؟
أفضلهم أنبياؤهم، وأفضل أنبيائهم رسلهم، أفضل رسلهم صاحب الحوض والشفيع المشفع، سيد الأولين والآخرين محمد صلوات الله وسلامه عليه، وهو أفضل أولي العزم منهم.
ومن قال: أن الأولياء أفضل من جميع الخلق، فقوله أظهر عند جميع أهل الملل من أن يشك في كذبه، بل هو معلوم بالضرورة أنه باطل، فإن الرسل أفضل الأنبياء وأولوا العزم أفضل الرسل... ومحمد صلى الله عليه وسلم سيد آدم على الإطلاق. وليس يحتاج هذا إلى أن يثبت بحديث ولا أثر، فقد رتب الله سبحانه وتعالى خلقه فقال: { وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ } (2) فرتبهم على أربع طبقات (3) ولعله تعقيب منه على ما قاله الحكيم الترمذي وغيره من ((ارتفاع درجة بعض الأولياء فوق الأنبياء)) (4).
قال ابن تيمية مبيناً مراتب الأنبياء والرسل ((ومن كان رسولا فقد اجتمعت فيه ثلاثة أصناف، الرسالة، والنبوة، والولاية. ومن كان نبيا فقد اجتمع فيه الصفتان، ومن كان وليا فقط لم يكن فيه إلا صفة واحدة.
__________
(1) أنظر مختصر الفتاوى المصرية 559-558.
(2) النساء 69.
(3) مختصر الفتاوى المصرية 560- 559، وأنظر شرح العقيدة الأصفهانية 122، الصفدية 1: 262.
(4) أنظر نوادر الأصول 157.(7/18)
ثم يفرق بين النبوة والرسالة من جهة وبين الولاية، بأن الرسول أو النبي يجب أتباعهم ولا يجب أتباع الولي، وأن من يسب النبي يستوجب الكفر، بينما لا يكفر من سب وليا من الأولياء (1).
وأما غير الأنبياء فأفضلهم أعظمهم معرفة بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم وأتباعا له، ولا أجدر بهاتين الصفتين من الشيخين أبى بكر وعمر رضي الله عنهما، فإنهما أكمل معرفة بما جاء به وأعظم أتباعا له فهما أفضل أولياء الله في هذه الأمة التي هي أفضل الأمم فكانا الأفضل من الأمم جميعا.
ويليهما الثمانية المبشرون بالجنة وباقي الصحابة رضوان الله تعالى عليهم وهم داخلون في قوله تعالى: { وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ } (2)ولئن كان العلماء هم ورثة الأنبياء فإن أول الوارثين أبو بكر ثم عمر لكونهما الأرسخ في العلم ممن سواهما. فالعلماء الراسخون- من صحابة وغيرهم- مرتبتهم في الولاية تلي مرتبة الأنبياء.
غير أن الغزالي جعل الرتبة الأولى للأنبياء، والثانية للأولياء، والثالثة للعلماء الراسخين في العلم!! (3) كذلك جعل القشيري الصوفية صفوة الأولياء وأفضلهم وأن الله تعالى فضلهم على كافة عباده بعد رسله وأنبيائه !!! (4).
أما التفاضل بعد ذلك في الولاية فيكون بحسب الإيمان والتقوى، فبحسب إيمان العبد وتقواه تكون ولايته لله تعالى، فمن كان أكمل إيمانا وتقوى كان أكمل ولاية لله (5) فالناس متفاضلون في ولاية الله عز وجل بحسب تفاضلهم في الإيمان والتقوى، كذلك يتفاضلون في عداوة الله بحسب تفاضلهم في الكفر والنفاق كما قال تعالى: { إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ } (6).
اجتماع الولاية والعداواة
__________
(1) شرح عقيدة الأصفهانية 122- 121. مختصر الفتاوى المصرية 560.
(2) الفرقان 71.
(3) أحياء علوم الدين 1: 53.
(4) الرسالة القشيرية2.
(5) التوبة 37.
(6) مجموع الفتاوى 11: 175.(7/19)
الحق والباطل يتصارعان في الإسلام وليس خارج المجتمع المسلم فقط كما قد يظن بعض المسلمين. فالشيطان يحشد للمسلم من جنده ما لا يفعل لغيره بغية إخراجه من الحق الذي هو عليه. أو إبعاده عنه قدر الإمكان. ولذلك تجد في المسلمين من يجتمع فيه إسلام وشرك من رياء ونحوه أو يجتمع فيه إيمان ونفاق، أو إسلام وفسق. وبحسب انقياده للشيطان ومكابدته له تزداد نسبة ذلك أو تنقص. فمن الناس من يكون فيه إيمان وشعبة من النفاق، لأن الإيمان شعب كما هو مقرر في معتقد أهل السنة والجماعة. وقد تذهب شعبة من شعب الإيمان وتحل مكانها شعبة من شعب النفاق كما قال النبي صلى الله عليه وسلم ((أربع من كن فيه كان منافقا، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا أئتمن خان، وإذا عاهد غدر)) (1).
وقد يجتمع في المرء إسلام وجاهلية، وتكون في مقابل إسلامه جزءا يسيرا كما في قول النبي صلى الله عليه وسلم لأبي ذر: ((أنك امرؤ فيك جاهلية)) (2) وقوله: ((أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن: الفخر في الأحساب، والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالنجوم، والنياحة)) (3).
__________
(1) أخرجه البخاري في الإيمان 141 باب علامات المنافق، ومسلم رقم (58) في الإيمان وأبو داود (4688) في السنة، والنسائي في الإيمان 8: 116 ، واحمد في مسنده 2: 189.
(2) أخرجه البخاري في الإيمان 131 باب المعاصي من أمر الجاهلية وفي الدب 857 باب ما ينهى من السباب واللعن ومسلم في الإيمان رقم (1661) باب أطعام المملوك مما يأكل وأحمد في المسند 5: 161.
(3) أخرجه مسلم رقم (934) في الجنائز: باب التشديد في النياحة وأحمد في المسند 5: 342 -344 والحاكم 1: 383 وقال: ((صحيح على شرط الشيخين)).(7/20)
وقد يجتمع في المرء إيمان وعمل صالح من وجه وفسق من وجه آخر، فلا يقتضي وجود الثاني ذهاب الأول، كما في قصة شارب الخمر الذي كان يؤتى به دائما إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيحد من شرب الخمر، وفي مرة أتي به وأقيم عليه الحد فقال رجل من القوم ((اللهم العنه، ما أكثر ما يؤتى به، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تلعنوه، فوالله ما علمت إنه يحب الله ورسوله))(1) وفي رواية: ((فقال القوم: أخزاك الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تقولوا هكذا، لا تعينوا عليه الشيطان؛ ولكن قولوا، اللهم ارحمه اللهم تب عليه)) (2) وفي رواية: ((لا تكونوا عون الشيطان على أخيكم)) (3) ((فوصفه بأنه أخ لهم مع شربه للخمر، وأثبت له محبة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وكان من حبه للنبي صلى الله عليه وسلم أنه كان لا يدخل طرفة المدينة إلا اشترى منها شيئا ولو بالدين ليهديه إلى النبي صلى الله عليه وسلم))(4) والله لا يحب الخمر ولا شاربها لكن إن اجتمع في العبد صلاح وفسق فيحب الله فيه الصلاح ويبغض الفسق منه. ومثاله قوله صلى الله عليه وسلم ((سباب المسلم فسوق وقتاله كفر))(5) فوصفه بأنه ((مسلم)) وأن فيه فسقا وكفرا ليس على معنى كفر الردة. فإن الردة مخرجة عن الإسلام. وإنما الكفر الوارد هنا كناية عن إنكار المقاتل حق أخيه المسلم عليه من حرمة ماله ودمه أو أن تكون كفرا غير مخرج من الملة كما أثر عن ابن عباس ((كفر دون كفر)) (6)
__________
(1) أخرجه البخاري في الحدود 8: 13 باب ما يكره من لعن شارب خمر وأبو داود رقم (4477) والبيهقي 8: 312.
(2) رواه أحمد 2: 300.
(3) فتح الباري 11: 67.
(4) نفس المصدر 11: 77.
(5) أخرجه البخاري في الفتن باب قول النبي ((لا ترجعوا بعدي كفارا)) وفي الأدب ما ينهى من السباب واللعن ومسلم رقم (64) في الإيمان والنسائي 7: 122 ورواه البيهقي 8: 20 وأحمد 1: 385.
(6) تفسير الدر المنثور 2: 286، تفسير الطبري المجلد الرابع 6: 165- 166، والبغوي 2: 41- 40.(7/21)
وعليه فقد يجتمع بالمسلم إسلام وكفر ليس كفر الردة. وقد يجتمع فيه إسلام ونفاق ليس نفاق محادة الله ورسوله. وقد يجتمع إسلام وشرك: ليس الشرك، الأكبر المخرج من أصل التوحيد.
وبهذا يثبت اجتماع ولاية في المسلم من وجه وعداوة من وجه أخر. وذلك بخلاف المعتزلة والخوارج والمرجئة الذين تواطأت عقيدتهم على اعتبار أن الإيمان شيء واحد وألزمهم ذلك اعتبار نظيره في الولاية (1). وحتى في الثواب والعقاب فإنه عندهم شيء واحد. فإما نار لا خروج منها وإما جنة، وذلك باستثناء طوائف المرجئة.
__________
(1) أنظر مقالات الإسلاميين 266- 265.(7/22)
قال ابن تيمية رحمه الله: ((وأما الظالم لنفسه فهو من أهل الإيمان، فمعه ولاية بقدر إيمانه وتقواه كما معه من ولاية الشيطان بقدر فجوره، إذ الشخص الواحد يجتمع فيه الحسنات والسيئات حتى يمكن أن يثاب ويعاقب، وهذا قول جميع الصحابة وأئمة الإسلام وأهل السنة، بخلاف الخوارج والمعتزلة القائلين بأنه لا يخرج من النار من دخلها من أهل القبلة(1) كما أن التقوى لا تنتفي بوقوع سيئة من السيئات إلا أن تكون شركا أكبرا، فإن مفهوم أهل السنة والجماعة لقوله تعالى: { الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ } ليس من شرط أولياء الله المتقين أن لا يكونوا مخطئين في بعض الأشياء خطأ مغفورا لهم ولا ترك الصغائر مطلقا ولا ترك الكبائر أو الكفر الذي تعقبه التوبة، فقد قال تعالى: { وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ } (2) فوصفهم بالتقوى ثم قال: { لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ } (3) فوصف أعمالهم بأن فيها سيء وأسوأ وأثبت لهم التقوى. وهذا من أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة وهو أنهم لا يخرجون عن التقوى من أتى ذنبا صغيرا لم يصر عليه ولا بإتيان ذنب كبير إذا تاب منه))(4).
الشهادة لمعين بالولاية:
وأما الشهادة للشخص معين بالولاية ففيها ثلاثة أقوال كما بين ذلك ابن تيمية رحمه الله:
*الأول: قيل لا يشهد بذلك لغير النبي، وهو قول أبي حنيفة والأوزاعي وعلي في المديني وغيرهم.
*الثاني: وقيل يشهد به لمن جاء به نص أن كان خبرا صحيح كمن شهد له النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة فقط، وهذا قول كثير من أصحابنا وغيرهم.
__________
(1) مختصر الفتاوى 590.
(2) الزمر 44-33.
(3) أنظر مجموعة الرسائل والمسائل 1: 54 ودقائق التفسير 3: 222- 221.
(4) أنظر جامع الرسل 1: 268 تحقيق د. محمد رشاد سالم.(7/23)
*الثالث: وقيل يشهد به لمن استفاض عند الأمة أنه رجل صالح كعمر بن عبد العزيز والحسن البصري وغيرهما، وكان أبو ثور يشهد لأحمد بن حنبل بالجنة قال: وفي الحديث الذي في المسند: ((يوشك أن تعلموا أهل الجنة من أهل النار. قالوا: بماذا يا رسول الله؟ قال بالثناء الحسن والثناء السيء))(1). وفي الصحيحين: ((أن النبي مر عليه بجنازة فأثنوا عليها خيرا فقال وجبت، وجبت، ومر عليه بجنازة فأثنوا عليها شرا فقال: وجبت، وجبت فقيل يا رسول الله ما قولك وجبت وجبت؟ قال: هذه الجنازة أثنيتم عليها الخير فقلت وجبت لها الجنة، وهذه الجنازة أثنيتم عليها شرا فقلت وجبت لها النار، أنتم شهداء الله في الأرض )) (2) ثم قال: والتحقيق أن هذا قد يعلم بأسباب، وقد يعلم على الظن، ولا يجوز للرجل أن يقول بما لا يعلم)).
__________
(1) رواه أبن ماجة رقم (4221) وهو عند أحمد في المسند بلفظ ((توشكون أن تعرفوا)) وبلفظ ((يا أيها الناس توشكون)) 3: 6466-416. وقد علق الشيخ محمد فؤاد عبد الباقي على الحديث عند أبن ماجة قائلا ((قال في الزوائد إسناده صحيح. وهذا الحديث بهذا اللفظ لم أجده في الزوائد وخاصة في فصل الثناء الحسن (أنظر 53).
(2) أخرجه البخاري في الكبائر 2: 100 باب الثناء على الميت ومسلمخ في الجنائز (949) باب فيمن يثني عليه والطيالسي رقم (2388) والبيهقي 10: 109 والحاكم 1: 377 وأنظر مسند أحمد 2: 261، 466،3: 186، 211، 245.(7/24)
ولهذا لما قالت أم العلاء الأنصارية ((لما قدم المهاجرون المدينة اقترعت الأنصار على سكناهم فصار لنا عثمان بن مظعون في السكني فمرض فمرضناه ثم توفي، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل فقلت رحمة الله عليك أبا السائب. فشهادتي أن قد أكرمك الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: وما يدريك أن الله قد أكرمه؟ قالت: لا والله لا أدري، فقال النبي: أما هو فقد أتاه اليقين من ربه، وإني لأرجو له الخير، والله ما أدري- وأنا رسول الله- ما يفعل بي ولا بكم، قالت: فوالله لا أزكي بعده أحدا أبدا))(1) انتهى كلام ابن تيمية(2) وإن من الناس من يظهر منه صلاح وورع وكانت حاله بينه وبين الله على العكس من ذلك. فإذا خلا بمحارم الله انتهكها كما في حديث ثوبان عن النبي أنه قال: ((لأعلمن أقواما من أمتي يأتون يوم القيامة بحسنات أمثال جبال تهامة. بيضا فيجعلها الله عز وجل هباء منثورا، قال ثوبان: يا رسول الله صفهم لنا، قال: أما إنهم إخوانكم ومن جلدتكم ويأخذون من الليل كما تأخذون، ولكنهم أقوام إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها))(3). ولما أثنى رجل. على أخر عند رسول الله انتهره قائلا ((ويحك قطعت عنق صاحبك)) ثم قال: إن كان أحدكم مادحا أخاه لا محالة فليقل: أحسب فلانا ولا أزكي على الله أحدا، حسيبه الله إن كان يرى أنه كذلك))(4).
__________
(1) أخرجه البخاري في الجنائز 2: 70 باب الدخول على الميت وأحمد 6: 436 والبيهقي 3: 406، 764 والحاكم 1: 379 وقال ((على شرطهما)).
(2) كتاب النبوات 10-8ط. دار الكتب العلمية.
(3) أخرجه أبن ماجة في الزهد رقم (4245) وأنظر في صحيح الجامع 35.
(4) أخرجه البخاري في الأدب 877 باب ما يكره من التمادح، ومسلم في الزهد (3000) والبغوي في شرح السنة 3: 1491 وأبو داود (4805) والبيهقي 10: 242 وأحمد 5: 41 وفيه أن الرجل قال: ما من أحد بعد رسول الله أفضل من فلان)).(7/25)
وقد أخبر صلى الله عليه وسلم عمن كان يأمر بالمعروف ولا يأتيه وينهى عن المنكر ويأتيه أنه ((يؤتى به يوم القيامة ويدور كما يدور الحمار بالرحى، فيجتمع إليه أهل النار فيقولون يا فلان مالك؟ ألم تكن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؟ فيقول بلى، قد كنت آمر بالمعروف ولا أتيه وأنهى عن المنكر وآتيه))(1).
وكذلك رأى الصحابة رجلا من المسلمين يقاتل المشركين بقوة حتى أعمل فيهم القتل فأعجبوا لشجاعته وأثنوا عليه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن هذا من أهل النار)) فتعجب الصحابة حتى قالوا: أينا من أهل الجنة إن كان هذا من أهل النار؟ فتبعه رجل من الصحابة فوجده قد جرح فاستعجل الموت ووضع نصاب سيفه بالأرض وذبابه بين ثدييه ثم تحامل عليه فقتل نفسه فجاء الرجل إلى النبي وقال: أشهد أنك رسول الله. قال صلى الله عليه وسلم: وما ذاك؟ فأخبره بخبره فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس وإنه من أهل النار، ويعمل بعمل أهل النار فيما يبدو للناس وهو من أهل الجنة))(2).
وكذلك قتل رجل في خيبر فقيل: ((هنيئا له الجنة)) فقال رسول الله: ((كلا والذي نفسي بيده. إن الشملة التي أخذها من المغانم- لم تصبها المقاسم- لتشتعل عليه نارا))(3).
__________
(1) أخرجه البخاري في بدء الخلق 4: 90 باب صفة النار وأنها مخلوقة وفي الفتن 8: 79 باب الفتن التي تموج كموج البحر، ومسلم في الزهد (2989) والبيهقي 10: 95 وأحمد 5: 205، 207 و 209.
(2) أخرجه البخاري في المغازي: 5: 76 باب غزوة خيبر ومسلم في الإيمان (111، 112).
(3) أخرجه البخاري في الإيمان 7: 235 باب هل يدخل في الإيمان والنذور الأرض والغنم، ومسلم في الإيمان (183).(7/26)
فها قد خفيت حقيقة هؤلاء الرجال على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مع أنهم أعظم أولياء الله؛ بل هم أعظم ولاية عند الله من أولياء اليوم والغد. فلماذا لم ينكشف لهم ما يزعم أدعياء الولاية اليوم مكاشفته، أم أن الله فضل أولياء اليوم على سلفنا الصالح وكشف لهم ما أخفاء عن أولئك!
ولقد نهانا الله تعالى عن أن يزكي الواحد منا نفسه مع كون الواحد منا أعلم بنفسه من غيره فقال { فَلاَ تُزَكُّوا أَنفُسَكُم هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى } (1). فكيف نستطيع أن نحكم على غيرنا بولايته وتقواه، و بصدق ظاهره وباطنه سره وعلانيته مع الله!.
هل يعلم الولي ولايته
ذكر الكلاباذي النزاع بين بعض أهل العلم في هذه المسألة فمنهم من جوز أن يعلم الولي ولايته وأن هذه المعرفة في ذاتها كرامة من الكرامات. واختار الكلاباذي هذا الرأي، ثم ذكر امتناع آخرين عن ذلك محتجين بأن معرفة الولي ولايته تزيل عنه خوف العاقبة، أن زوال خوف العاقبة يوجب الأمن))(2) ولعل الصواب ما ذهب إليه الكلاباذي فأنه يجوز أن يعلم الولي ولايته فتكون بذلك كرامة له وهذا لا يتعارض مع خوف العاقبة بالنسبة إلى من يرى جواز تغير عاقبة الولي كما سيأتي مفصلا. وإنما يتعارض مع ما ورد عن بعض المتصوفة من اشتراط حسن الخاتمة للولي.
ثم إن من الولاية ما لا يجوز الشك فيه مطلقا وذلك كعلم المسلم أنه يتولى الله ورسوله وأنه من حزبه. وأما أن كان على معنى كونه محبوبا عند الله مرضيا عنه موافيا له بالإيمان والتقوى عند الموت، فهذا ليس لأحد الحكم به.
__________
(1) النجم 33.
(2) التعريف 74.(7/27)
ويذهب ابن تيمية إلى أن من الأولياء من لا يعرف الناس حقيقة ولايته ويكون عندهم من عامة الناس، كما قال صلى الله عليه وسلم ((رب أشعث أغبر ذي طمرين مدفوع بالأبواب ولو أقسم على الله لأبره))(1) فليس ذلك محصورا في رثاثة الحال، ولا قذارة الثياب، بل الولاية في كل مؤمن تقي كما قال تعالى:(2) { أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ 62 الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ } (3) بمعنى أنه لا يشترط له أن يكون ذو حزقة يتصنع الولاية إذ الخرقة لا تجلب الولاية وليست ميزانا لها وإنما ميزان الولاية: الإيمان والتقوى.
ما يشترط وما لا يشترط
أما شروط الولي فهي الإيمان بأركانه الستة وهي: الإيمان بالله واليوم الآخر والملائكة والكتب والنبيين والقدر خيره وشره.
الشرط الثاني من شروط الولاية: إتباع الكتاب والسنة وهو الطريق السوي والصراط المستقيم. لا طريق غيره كما يدعي بعض أهل البدع ((الطرق كثيرة))(4) أو كما قال أخر ((الطرق إلى الله بعدد أنفاس الخلائق)) ثم جاء الشعراني ليقرر بأن ((كل ما ابتدع على طريق القربة إلى الله فهو من الشريعة والسنة الظاهرة))(5).
__________
(1) مسلم (2622).
(2) يونس 62.
(3) مختصر الفتاوى المصرية 602.
(4) نعت البدايات وتوصيف النهايات 87 لمحمد بن فاضل ما مين ط دار الفكر بيروت.
(5) الأنوار القدسية في معرفة قواعد الصوفية 1: 123 على هامش طبقاته ط. المكتبة الشعبية.(7/28)
ولا يكون الولي وليا لله تعالى إلا أن يكون موافقا في جميع أحواله للكتاب والسنة ظاهرا وباطنا، بمعنى أن لا يرى جواز الزيادة في الدين والتبديل فيه وأن المعرض عنهما لا يسمى وليا وإنما يوصف بما وصفه به رسول الله: ((وأيم الله لقد تركتكم على مثل البيضاء، ليلها كنهارها [وفي رواية] لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك))(1) وقد قال صلى الله عليه وسلم: ((كل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار))(2) فيصح تسميته ((هالكا)) أو ((ضالا)) أما أن يبتدع في دين الله ويسمى وليا فلا وإن بلغ بعبادته ما بلغ.
فلو ذكر الرجل الله سبحانه وتعالى دائما ليلا ونهارا مع غاية الزهد، وعبده مجتهدا في عبادته ولم يكن متبعا لذكره الذي أنزله- وهو القرآن- كان من أولياء الشيطان))(3).
فأساس الولاية الحقة هو السير على منهج القرآن والسنة، والتمسك بهما.
__________
(1) رواه أحمد 4: 126 وابن ماجة رقم (4) ورقم (35) والترمذي (2676) وصححه الألباني (الأحاديث الصحيحة 937و 688).
(2) رواه أبو داود (4607) والترمذي (2678) وقال ((هذا حديث صحيح والدرامي 1: 45- 44 وأبن ماخة (43) وأحمد 4: 126 والحاكم 1: 95 قال الذهبي ((على شرطهما ولا أعرف له علة)) ورواه أبن حبان 1661 والآجري 46 وأبن أبي عاصم في السنة 1: 17- 19 وأبن عبد البر في جامع بيان العلم 2: 181- 182.
(3) مجموع فتاوى أبن تيمية 11: 173.(7/29)
وما يزعمه بعض المبتدعة من أن جبريل نزل بعلم الشريعة، فلما تقرر نزل بعلم الحقيقة وهو علم الباطن،(1) فإن هذا دعوة إلى غير الله ورسوله صلى الله عليه وسلم الذي أوصانا بالتمسك بكتاب الله وسنته ولن نزال على الهدى ما تمسكنا بهما. وما سواهما فهو ضلالة { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ } (2) فالطرق الكثيرة التي ذكروها هي السبل التي نهى الله عنها في الآية. قال ابن تيمية ((ومن ادعى محبة الله وولايته وهو لم يتبعه فليس من أولياء الله، بل من خالفه كان من أعداء الله وأولياء الشيطان، قال تعالى: { قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ } (3). قال الحسن البصري: ((ادعى قوم أنهم يحبون الله فأنزل الله هذه الآية محنة لهم))(4) وقد قالت اليهود والنصارى: { نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ } فرد الله عليهم: { قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم بَلْ أَنتُم بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ } (5) وكان مشركو العرب يدعون أنهم أهل الله لسكناهم مكة، ومجاورتهم البيت، وكانوا يستكبرون به على غيرهم.. قال تعالى: { وهم يصدون عن المسجد الحرام وما كانوا أولياءه، أن أولياؤه إلا المتقون } (6) فبين سبحانه أن المشركين ليسوا أولياءه ولا أولياء بيته، إنما أولياؤه المتقون. وثبت في الصحيحين عن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال ((سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول جهارا من غير سر ((أن آل فلان ليسوا لي بأولياء- يعني طائفة من أقاربه- إنما وليي الله وصالح المؤمنين))(7)
__________
(1) أيقاظ الهمم لا بن عجيبة 5ط. دار المعرفة- بيروت.
(2) الأنعام 153.
(3) آل عمران 31.
(4) الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان 9-8.
(5) المائدة 18.
(6) الأنفال 34.
(7) أخرجه البخاري في الأدب باب يبل الرحم ببلالها، ومسلم في الإيمان (215)، وأحمد في المسند 4: 203.(7/30)
وهذا موافق لقوله تعالى:(1) { فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ } (2) وقال ابن القيم رحمه الله: ((كل من كذب رسول الله وأعرض عن متابعته، وحاد عن شريعته ورغب عن ملته، واتبع غير سنته، ولم يتمسك بعهده ومكن الجهل من نفسه والهوى والفساد من قلبه، والجحود والكفر في صدره، والعصيان والمخالفة من جوارحه ((فهو ولي الشيطان))(3) ولذلك تجد في أهل البدع من يتعاونون مع أعداء الإسلام، فكم من مستعمر أدخلوه، وكم من عدو للإسلام مكنوه.
ولا ننسى البطائحية الرفاعية وموقفهم من التتار، والتيجانية وموقفهم من الاستعمار الفرنسي. وشرط الإتباع الذي أخلوا به أدى إلى الإخلال بالشرط الثاني: شرط الموالاة والمعاداة في الله. قال الشوكاني رحمه الله: ((والولي لا يكون وليا لله حتى يبغض أعداء الله ويعاديهم، وينكر عليهم)). ثم أوضح طبيعة المعاناة التي يلقاها أهل الإتباع والأثر من البدعة وأهلها فقال: ((وقد تبلغ عداوات أهل البدع لغيرهم من أهل الأتباع فوق عداوتهم اليهود والنصارى)).. فالعداوة بين المتبع و المبتدع أمرها أوضح من الشمس، فإن المتبع يعادي المبتدع لبدعته، والمبتدع يعادي المتبع لا تباعه(4) والمقصود أن المبتدع وإلى ببدعته أعداء الله وعادى بها أولياء الله، وهذا عمى بصيرته، فالتمسك بالبدعة يعمي البصيرة، ويزين الضلالة حتى يعرض صاحبها عن كل وسائل القرب وأسبابه،- كما بينها الحكيم- محاولا الإقبال على الله بما لم يشرعه. و تجتمع المحبتان: محبة الله ورسوله ومحبة الابتداع في الدين.
أداء الفرائض:
__________
(1) التحريم 4.
(2) الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان 10-9.
(3) هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى 31ط. المكتبة القيمة. السودان.
(4) قطر الولي 273-275 تحقيق إبراهيم إبراهيم هلال ط دار إحياء التراث العربي.(7/31)
وأداء الفرائض من شروط الولاية، فتارك الصلاة لا يسمى وليا بعد أن وصفه النبي صلى الله عليه وسلم بالكفر، وهذه المسألة متفرعة عن شرط الإتباع، فالصلاة أحد أركان الدين ولاحظ في الدين لمن لا يصلي فهو كافر على أصح أقوال أهل العلم سواء تركها جحودا أو غير ذلك، فلا تتحقق الولاية بتارك صلاة الفريضة وإن قام الدهر كله وصامه من النوافل. على أن ترك الفرائض لا يؤدي إلى سلب الولاية من أصلها إلا الصلاة التي ((كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم لا يرون شيئا من العمل تركه كفر إلا هي))(1) فإن المحافظة على الجمع والجماعات من علامات الولاية، لا كما يظن الصوفية الذين يرون الشيخ يتخلف عن الجمع والجماعات ويظنون فيه ولاية الله كالشيخ محمد العدل الذي بقي سنة كاملة لا يحضر جمعة ولا جماعة، والشيخ الشربيني الذي كان لا يحضر الصلوات أبدا. ولما طلب منه جماعة من الفقهاء أن يذهب معهم لصلاة الجمعة اعتذر وقال: ((ما لي عادة بذلك)) فلما أنكروا عليه قال: ((نذهب اليوم لأجلكم)) والشيخ، شريف المجذوب الذي كان يفطر في نهار رمضان(2) فهؤلاء ليسوا أولياء؛ بل مجانين، والمجنون لا يصح منه إيمان ولا عبادة فضلا عن أن يكون وليا تسطر له كرامات كاذبة وينسب إلى مقام الواصلين والصغير المميز أفضل حالا من هذا. فإن إمامته تصح كما صح الخبر عن الصحابة. بخلاف المجنون فأنهم اتفقوا على عدم اعتبار أقواله وأفعاله وعدم تعلق الثواب أو العقاب بشيء منها لكن الصوفية يخالفون ذلك فيرفعون المجذوب والمجنون والبهلول إلى مقامات العرفان، وقد امتلأت تراجمهم وطبقاتهم بكرامات المجانين أمثال: بهلول المجنون وأبي علي المعتوه وابن القصاب المجنون والشبلي الذي دخل المارستان مرتين وعمر المجذوب وإبراهيم العريان(3)
__________
(1) رواه الترمذي عن عبد الله بن شقيق بسند صحيح.
(2) طبقات الشعراني 2: 126 و136 و144و150.
(3) كتاب المختار من كلام الأخيار لمحمد علوي 8: 197 وطبقات الشعراني.(7/32)
.
الولي وحسن الخاتمة
هل يشترط للولاية حسن الخاتمة؟
ذهب الكلاباذي في التعرف إلى أن زوال خوف العاقبة ليس بممتنع بل هو جائز فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بأنهم من أهل الجنة، وشهد للعشرة بالجنة، وهذا يوجب الأمن من التغيير وزوال خوف التبديل لا محالة.
قال: ((والروايات التي جاءت في خوف المبشرين(1)لم يكن خوفا من التغيير والتبديل لأن خوف التغيير والتبديل مع شهادة النبي صلى الله عليه وسلم يوجب شكا في إخبار النبي، وهذا كفر))(2).
مناقشة كلام الكلاباذي
__________
(1) وذكر خوف أبي بكر وعمر وغيرهما.
(2) التعرف لمذهب أهل التصوف 76- 78، هذا وقد ذهب القشيري إلى جواز أن يكون الولي مأمون العاقبة وأن لا تتغير عاقبته، لكنه نقل قول من أنكر اشتراط حسن الموافاة عند موت الولي واختار جواز تغير عاقبته وجواز الثاني (أنظر الرسالة القشيرية 160 وقد أنكر أبن تيمية اشتراط حسن الموافاة للولي وأنه لايكون وليا ألا من وافاه الله حين الموت بالأيمان والتقوى قائلا: إن العلم بذلك أصعب عليه وعلى غيره)) (انظر دقائق التفسير 3: 221 ومجموعة الرسائل والمسائل 1:52) وأغرب الحكيم الترمذي فزعم أن الأولياء آمنوا فأمنوا كما أن الأنبياء أمنوا فأمنوا (ختم الأولياء 380، 272.(7/33)
وما ذهب إليه الكلاباذي في حق العشرة المبشرين بالجنة لا فحق لا جدال فيه، وإنما الاعتراض على استدلاله بهم من أجل التوصل إلى أمن عاقبة الولي وضمان حسن خاتمته، وقد قاس الولاية على من شهد لهم النبي صلى الله عليه وسلم بحسن الخاتمة والمآل، وهو قياس مع الفارق، إذ فرق بين من شهد له النبي صلى الله عليه وسلم وبين من لم يشهد له فإنه لم يرتض شهادة أم العلاء. في عثمان بن مظعون أن الله سيكرمه، فعزمت على عدم تزكية أحد يعده أبداء فإذا كان القياس بين عثمان والعشرة المبشرين بالجنة منتفيا فما بالك بمن دونه؟ وهل أخذ أحد من الصحابة بهذا القياس على نفسه أو إخوانه من الصحابة؟ ومثل هذا القياس الذي استعمله الكلاباذي يلغي التخصيص والشهادة النبوية التي شهدها للعشرة ولغيرهم من الصحابة.
ونمضمي مع الكلاباذي فنسأل: بأي شيء نعرف حسن عاقبة الولي وبشراه بالجنة؟ يجيب عن ذلك قائلا: بأن الأولياء إنما يعرفون بما يحدث الله فيهم من اللطائف التي يخص بها أولياءه، وبما يورد على أسرارهم من الأحوال التي هي أعلام ولايتهم(1) وبمقارنة ذلك مع حال واحد من الصحابة- غير المبشرين بالجنة- نجد التعارض فإن أحدا من الصحابة لم يركن إلى مخاطباته ووارداته وكشوفات الغيب، وإنما كان في خوف مستمر من التغير وسؤ العاقبة بمن فيهم المبشرين بالجنة.
فقد كان ابن مسعود رضي الله عنه يقول: ((ليتني إذ مت لم أبعث))(2).
وكان عمر يبكي قبيل موته ويقول: ((ويلي وويل أمي أن يغفر لي))(3)
وكان عبد الله بن رواحة يقرأ قوله تعالى: ((وإن منكم إلا واردها)) ويبكي بكاء شديدا فتسأله امرأته عن سبب بكائه فيقول ((إني أنبئت أني وارد ولم أنبأ أني صادر))(4) فلم ينبأ أنه صادر عنها بكشف ولا مخاطبة.
__________
(1) التعرف 78.
(2) كتاب الزاهد للإمام وكيع الجراح رقم (162)
(3) أنظر الحلية 521، وكتاب الزهد للآمام أحمد 147.
(4) الزهد للإمام أحمد 9: 24.(7/34)
وحتى عند النزع الأخير لم يكن الإمام أحمد بن حنبل يأمن على نفسه من الفتنة وسؤ الخاتمة، يروي ذلك ابنه عبدالله فيقول: ((حضرت أبي الوفاة فجلست عنده وبيدي الخرقة وهو في النزع الأشد فكان يغرق حتى نظن أن قد مضى ثم يفيق ويقول: ((لا بعد لا. بعد (يشير بيده) ففعل هذا مرة وثانية فلما كان في الثالثة قلت له: ((يا أبت ايش هذا الذي قد لهجت به في هذا الوقت؟ فقال لي: يا بني ما تدري فقلت: لا. فقال إبليس لعنه الله قام بحذائي عاضا على أنامله يقول فتني يا أحمد. وأنا أقول لا. بعد حتى أموت))(1). ونظائر ذلك مستفيضة من السلف الصالح، فلم يعرف عن أحد منهم ركونه إلى كشف أو مخاطبة بإعطاء الأمان الأبدي على الوجه الذي أدعاه الصوفية أمثال الشعراني الذي زعم أن مما من الله به عليه على حد قوله ((علمي بسعادتي وشقاوتي وذلك بتخلقي بالصفات التي نهاني الحق عنها وهذه من أكبر نعم الله علي لأنها بشرى من الله لعبده))(2).
وعلى افتراض جواز كشف بذلك فليس مما يجب التصديق العام به، فان كثيرا مما يظن به أنه حصل له هذا الكشف يكون ظنا في ذلك ظنا لا يغني من الحق شيئا. وأهل المكاشفات والمخاطبات يصيبون تارة ويخطئون أخرى ولهذا وجب عليهم جميعهم أن يعتصموا بكتاب الله وسنة رسوله. ولو كان يأتيه من الله ما لا يحتاج إلى عرضه على الكتاب لكان مستغنيا عن الرسول في بعض دينه))(3).
أما عن مسألة الشهادة لمن شاع له لسان صدق وولاية في الأمة وبحسن العاقبة فهل يشهد له؟ يمكن ذلك بشرط لا يكون قطعا وجزما بخلاف من ثبتت ولايته بالنص فإن أهل السنة يشهدون له بذلك قطعا. وأشترط شرطا آخر للشهادة وهو أن يكون قد شاع له لسان صدق في الأمة بحيث اتفقت على الثناء عليه(4).
الولي والعصمة عند أهل السنة
__________
(1) الحلية 9: 183.
(2) لطائف المنن 620).
(3) مجموعة الرسائل 1: 53.
(4) دقائق التفسير 3: 221 مجموعة الرسائل والمسائل 1: 52.(7/35)
ولا يشترط للولي العصمة فإنه من بني آدم. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون))(1)
وإنما يعتقد أهل البدع العصمة في مشايخهم وأئمتهم كما كان اعتقدها اليهود والنصارى في أحبارهم ورهبانهم حتى اتخذوهم أربابا من دون الله. وأهل البدع وإن لم يصرحوا بها بلسان مقالهم فإنها واضحة بلسان حالهم. فالأولياء مهما بلغوا من صلاح الحال ومن التقرب إلى الله. فأنهم بشر ليسوا معصومين وإنما مستعصمين بكتاب الله وسنة رسوله. والكل يؤخذ من كلامه ويرد عليه إلا النبي صلى الله عليه وسلم.
فالمشهور عند أهل السنة من أصول الاعتقاد: أنه لا أحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم معصوم من الذنوب والخطايا(2) كما أنه: ((ليس من شروط ولي الله أن يكون معصوما لا يغلط ولا يخطئ؛ بل يجوز أن يخفى عليه بعض علم الشريعة، ويجوز أن يشتبه عليه بعض أمور الدين))(3).
عصمة ولي الأمر عند الرازي
__________
(1) رواه الترمذي (2501) والدارمي 2: 303 وأحمد 3: 198 بسند حسن.
(2) جامع الرسائل 1: 266 ومختصر الفتاوى المصرية 100.
(3) الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان 48-49.(7/36)
وقد أغرب الرازي فقرر العصمة لأولي الأمر بناء على قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ } (1) ثم قال: ((أن الله تعالى أمر بطاعة أولي الأمر على سبيل الجزم في هذه الآية، ومن أمر الله بطاعته على سبيل الجزم والقطع لا بد وأن يكون معصوما عن الخطأ إذ لو لم يكن معصوما عن الخطأ كان بتقدير إقدامه على الخطأ يكون قد أمر الله بمتابعته فيكون ذلك أمرا بفعل ذلك والخطأ، والخطأ لكونه خطأ: منهي عنه، فهذا يقضي إلى اجتماع الأمر والنهي في الواحد بالاعتبار الواحد وأنه محال.. فثبت قطعا أن ولي الأمر المذكور في هذه الآية لا بد وأن يكون معصوما))(2)أ.هـ
__________
(1) النساء 59.
(2) التفسير الكبير للرازي 10: 144.(7/37)
ولا شك أن السلف الصالح لم يفهموا من الآية ما فهمه الرازي رحمه الله، فإنه لما تولى أبو بكر رضي الله عنه الخلافة قام خطيبا فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: ((أما بعد فإني، قد وليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني))... إلى أن قال: ((أطيعوني ما أطعت الله ورسوله صلى الله عليه وسلم فإذا عصيته فلا طاعة لي عليكم))(1) قال ابن تيمية مجيبا عن هذه الآية: ((وقد قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً } قال: ((فلم يقل [وأطيعوا أولي الأمر] ليبين أن طاعتهم فيما كان للرسول صلى الله عليه وسلم أيضا، إذ اندراج طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم في طاعة الله أمر معلوم. فلم يكن تكرير لفظ الطاعة فيه مؤذنا بالفرق، بخلاف ما لو قيل [أطيعوا الرسول وأطيعوا أولي الأمر] منكم، فإنه قد يوهم طاعة كل منهما على حياله)). أضاف: ((فمن أوجب طاعة أحد غير رسول الله في كل ما يا أمر به، وأوجب تصديقه في كل ما يأمر به ويخبر به، وأثبت عصمته أو حفظه(2) في كل ما يأمر به ويخبر من الدين، فقد جعل فيه المكافئ لرسول الله صلى الله عليه وسلم والمضاهاة له في خصائص الرسالة(3) ثم استشهد بقصة الذي جعله الرسول صلى الله عليه وسلم أميرا على سرية فغضب منهم وأمرهم أن يجمعوا حطبا ويلقوا بأنفسهم فيها، فكادوا أن يفعلوا فقال بعضهم لبعض: إنما تبعنا رسول الله فرارا من النار أفندخلها؟ فبينما هم كذلك إذ خمدت النار وسكن غضب الأمير، فأخبروا الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك فقال: ((لو
__________
(1) البداية والنهاية 5: 248.
(2) الحفظ عند الصوفية هو العصمة لكنه مختلف عنها لفظا فقط.
(3) جامع الرسائل 1: 273.(7/38)
دخلوها ما خرجوا منها، إنما الطاعة في المعروف))(1) واستدل بقوله: ((لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق))(2) وكذلك قوله: (( على المرء المسلم الطاعة فيما أحب وكره ما لم يؤمر بمعصية فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة))(3).
بماذا يعتصم الولي
وأعظم ما يعتصم به المرء كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم قال الزهري: ((كان من مضى من علمائنا يقولون: الاعتصام بالسنة نجاة، وقال مالك: السنة سفينة نوح، من ركبها نجا، ومن تخلف عنها غرق))(4).
فما معنى العصمة الواردة في القرآن:
__________
(1) أخرجه البخاري في المغازي باب سرية عبد الله بن حذافة، وفي الأحكام باب السمع والطاعة ومسلم (1840) وأبو داود (2625) والنسائي في البيعة 7: 159 والطيالسي (1568 وأحمد 1: 82.
(2) رواه أحمد 5: 66 والطيالسي رقم (109و850) وإسناده ضعيف غير أن له شواهد كما عند الحاكم 3: 443، وصححه ووافقه الذهبي وشواهد أخرى تحسنه (سلسلة الصحيحة رقم 181).
(3) أخرجه البخاري في الأحكام باب السمع والطاعة ومسلم في الأمارة (1839) والترمذي (1707) وأبو داود (2626) والنسائي 7: 16 وأبن ماجة (2864).
(4) الصفدية 1: 259 .(7/39)
وقد أشكل على البعض لفظ العصمة في الوارد في القرآن فظنوا أن المراد منه العصمة التي بمعنى الكمال المطلق والتنزيه الكلي عن اقتراف الذنوب والخطايا، وذلك كما في قوله تعالى: { وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ } (1) غير أن معنى العصمة في هذه الآية ليس من مجرد الخطأ وإنما المقصود أن يعصمه الله من أذى الناس في تبليغ ما أنزل إليه، فإن في عصمة النبي صلى الله عليه وسلم حفظ للشريعة. قال ابن تيمية: ((ولفظ العصمة في القرآن جاء في قوله: (والله يعصمك من الناس) أي من أذاهم، فمعنى هذا اللفظ في القرآن: هو الذي يحفظه الله عن الكذب خطأ وعمدا.. وقد يكون معصوما على لغة القرآن، بمعنى أن الله عصمه من الشياطين: شياطين الإنس والجن، أن يغيروا ما بعث به أو يمنعوه عن تبليغه، فلا يكتم ولا يكذب كما قال تعال:ى { عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا } (2) { لِيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا } فهو يسلك الوحي من بين يدي الرسول ومن خلفه، وهذا في معنى عصمته من الناس، فهو المؤيد المعصوم بما يحفظه الله من الإنس والجن حتى يبلغ رسالات ربه كما أمر))(3).
الولي إذا أرتد
وقد وقع النزاع بين طوائف هذه الأمة في مسألة الولي الذي ارتد:
*فالولي إذا قام به الإيمان والتقوى زمنا ثم ارتد هل كان زمن إيمانه مؤمنا ووليا حقا أم كان باطلا بمنزلة من كان صائما وأفطر قبل الغروب؟
*وهل كان الله يحبه ويرضى عنه زمن ولايته وإيمانه ثم أبغضه وسخط عليه حين ارتد أم كان ساخطا عليه زمن ولايته وإيمانه لعلمه بأنه سيكون مرتدا؟
يصف ابن تيمية من قام به الإيمان والتقوى ومات على ذلك بـ ((الولي المطلق)). قال: ((ولا نزاع في هذا النوع)).
__________
(1) المائدة 67.
(2) الجن 26.
(3) النبوات 221- 222.(7/40)
ثم إن أكثر أصحاب أبي حنيفة لا يشترطون سلامة العقبة في ذلك فقد تقوم به الولاية زمنا ثم تتغير عاقبته فيكون وليا حقيقة ثم يرتد.
أما أكثر أهل السنة والحديث من أصحاب أحمد وأصحاب مالك والشافعي وكذلك المتكلمين كالأشعري والشيعة فإنهم يشترطون سلامة العاقبة، وإلا لم يكن وليا حقيقة زمن ولايته.
أجاب قائلا: ((والتحقيق هو الجمع بين القولين، فإن علم الله القديم الأزلي وما يتبعه من محبته ورضاه وبغضه وسخطه وولايته وعداوته لا يتغير. فمن علم الله منه أنه يوافي حين موته بالإيمان والتقوى فقد تعلق به محبة الله وولايته ورضاه عنه أزلا وأبدا. وكذلك من علم الله منه أنه يوافي حين موته بالكفر فقد تعلق به بغض الله وعداوته وسخطه أزلا وأبدا، لكن مع ذلك فإن الله يبغض ما قام بالأول من كفر وفسوق قبل موته وقد يقال: أنه يبغضه ويمقته على ذلك كما ينهاه عن ذلك وهو سبحانه وتعالى يأمر بما يفعله الثاني من الإيمان والتقوى، ويحب ما يأمر به ويرضاه. وقد يقال: أنه يواليه حينئذ على ذلك(1).
أضاف: ((والدليل على ذلك: اتفاق الأمة على أن من كان مؤمنا ثم ارتد فانه لا يحكم بأن إيمانه الأول كان فاسدا بمنزلة من أفسد الصلاة والصيام والحج قبل الإكمال. وإنما يقال كما قال تعالى: { وَمَن يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ } (2) { لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ } (3) { وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } (4).
قال: ((ولو كان فاسدا في نفسه لوجب الحكم بفساد أنكحته المتقدمة وتحريم ذبائحه، وبطلان إرثه المتقدم، وبطلان عباداته جميعها فلو حج عن غيره كان حجه باطلا. ولو صلى مدة بقوم ثم ارتد كان عليهم أن يعيدوا صلاتهم خلفه. ولو شهد- أو حكم- ثم ارتد لوجب أن تفسد شهادته وحكمه.
__________
(1) دقائق التفسير 3: 220- 221.
(2) المائدة 5.
(3) الزمر 65.
(4) الأنعام 58.(7/41)
كذلك أيضا الكافر إذا تاب من كفره: لو كان محبوبا لله وليا له في حال كفره لوجب أن يقضي بعدم أحكام ذلك الكفر. ثم انتهى إلى أن ((هذا كله خلاف ما ثبت بالكتاب والسنة والإجماع))(1).
شرح حديث الولي
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((إن الله قال: من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما أفترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن يكره الموت وأنا أكره مساءته))(2).
تواضع الولي
وقد أدرج البخاري هذا الحديث في باب التواضع، وهذا من بعد نظره وفقهه غير أن بعض العلماء لم يدركوا سبب إفراده في باب التواضع حيث أشكل الأمر عليهم كما أفاد ذلك الحافظ ابن حجر حتى قال الداودي: ((ليس هذا الحديث من التواضع في شيء)) وقال بعضهم: المناسب إدخاله في الباب الذي قبله وهو مجاهدة المرء نفسه.
قال الحافظ: ((والجواب عن البخاري من أوجه: أحدهما أن التقرب إلى الله بالنوافل لا يكون إلا بغاية التواضع))(3).
__________
(1) نفس المصدر السابق 2213.
(2) سبق تخريجه. وقد شرح الشيخ محمد بن علي الشوكاني هذا الحديث في مجلد أسماه: قطر الولي على حديث الولي.
(3) فتح الباري 11: 347 وانظر قطر الولي 534 للشوكاني.(7/42)
وقد ورد عن بعض السلف كلمة في تواضع الولي قال فيها ((فأولياء الله قد خالطهم أمر عظيم، فهم لا يرضون أعمالهم القليل، ولا يستكثرون الكثير، فهم لأنفسهم متهمون، ومن أعمالهم مشفقون، إذا زكي أحدهم خاف مما يقال فيقول: أنا أعلم بنفسي من غيري، وربي أعلم بي من نفسي، اللهم لا تؤاخذني بما يقولون، واجعلني أفضل مما يظنون، وأغفر لي ما لا يعلمون))(1).
*((من عادى لي وليا فقد آذنته بالمحاربة)) قال ابن تيمية: ((فجعل معاداة عبده معاداة له، فعين عدوه عدو عبده، وعين معاداة وليه عين معاداته ليسا هما شيئين متميزين. ولكن ليس الله هو عين عبده ولا جهة عداوة عبده عين جهة عداوة نفسه، وإنما اتفقا في النوع))(2).
قال الحافظ ابن حجر: ((وقد استشكل وقوع المحاربة وهي مفاعلة من الجانبين مع أن المخلوق في أسر الخالق! والجواب: أنه من المخاطبة بما يفهم فإن الحرب تنشأ عن العداوة، والعداوة تنشأ عن المخالفة.. فكأن المعنى: تعرض لإهلاكي إياه، قال الفاكهاني: في هذا تهديد لأن من حاربه الله أهلكه. قال الحافظ: ((وإذا ثبت هذا من جانب المعاداة ثبت في جانب الموالاة، فمن والى أولياء الله أكرمه الله))(3).
الفرائض أحب إلى الله من النوافل
__________
(1) عن خطبة منسوبة لعلي رضي الله عنه. أنظر الأولياء والكرامات 31 لأبي السمح محمد عبد الظاهر الفقيه رحمه الله.
(2) مجموع الفتاوى 2: 391.
(3) الفتح 11: 342- 343.(7/43)
*((وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب مما افترضته عليه)) قال الحافظ: ((وفي رواية ابن أمامة: ((ابن آدم إنك لن تدرك ما عندي إلا بأداء ما افترضت عليك..)). قال ابن هبيرة: ((النافلة لا تقدم على الفريضة لأن النافلة إنما سميت نافلة لأنها تأتي زائدة على الفريضة، فما لم تؤد الفريضة لا تحصل النافلة، ومن أدى الفرض ثم زاد عليه النفل وأدام ذلك تحققت منه إرادة التقرب))(1) وهذا رد على من جعل النافلة أفضل من الفريضة وأقرب وسيلة إلى الله منها. وقصر الولاية على المتقربين إلى الله بكثرة الأذكار والأوراد والنوافل.
مذهب الحكيم الترمذي في التقرب (2)
بيد أن الحكيم الترمذي لم يهنأ بالا لذلك فإن هذا لا يتماشى مع مبدئه القاضي بتقرب الولي بالمجاهدات حتى ترتفع درجة ولايته فوق الأنبياء)) كما زعم.
__________
(1) الفتح 11: 343.
(2) وهو غير الترمذي المحدث صاحب السنن. وقد أخرجه أهل ترمذ منها وشهدوا عليه بالكفر بسبب كتابة ((ختم الولي)) الذي يفضل فيه الولي على النبي. وأخذ عنه أبن عربي هذه الفكرة. أنظر سير أعلام النبلاء. سير أعلام النبلاء 13: 441.(7/44)
فذهب إلى أن (الفرائض من الصلاة والصوم والزكاة إنما فرضها الله ليحط بها عن العبد الخطايا وليطهره بها... فإن العبد قد يلهو عن العبودة [أي العبادة] ويطيع الهوى ويركب الخطايا والذنوب، فهذه سيئات قد قبحته وشانته، فإذا صلح فالقيام تذلل وتسليم، والركوع خشوع، والسجود خضوع، والجلوس رغبة وضرع، فهذه حسنات تذهب السيئات، وتظهر الزين وتستر الشين)). ((وأما الزكاة فقال تعالى: { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا } (1) وأما الحج فإن الله أمر بالوقوف ثم قال في أخره { فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ } (2) أي يرجعون مغفورين قد حطت عنهم الآثام)). قال: ((فهذه الفرائض فرضها عليهم لتكون دواء للداء الذي اكتسبوه فإذا أقامها فقد تطهر فيصلح للقربة))(3).
مناقشة قوله
ومعنى ذلك أن الفرض ليس وسيلة للتقرب إلى الله وإنما هو دافع للإثم والتخلص من أثار الذنوب، مع أن الحديث القدسي بأنه ما تقرب العبد إلى الله بشيء أحب إلى الله من أداء ما افترضه عليه!
وقد أخطأ الاستدلال بالآية { فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ } لأن الآية تتحدث عن التأخر وهو سنة زائدة عن يومي المبيت الواجبين بمنى. ولا يعقل أن يقال في الفرض فمن أتى به فلا إثم عليه ومن تركه فلا إثم عليه.
__________
(1) التوبة 103.
(2) البقرة 203.
(3) نوادر الأصول 207.(7/45)
ثم قوله تعالى: ((ما تقرب عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه)) واضح في أن أداء الفريضة هو من أعظم ما يتقرب به العبد إلى الله. وهذا من يسر الإسلام فما الداعي إلى تعسير الأمر وقصر الولاية على النوافل والأذكار مع أن النوافل شرعت لجبر ما نقص من الفرائض كما في حديث ((أن أول ما يسئل عنه العبد يوم القيامة الصلاة. فإذا كانت ناقصة قال الله للملائكة: ((أنظروا هل لعبدي من تطوع فتكمل به فريضته))(1) فتكون النافلة تابعة للفريضة غير مقدمة عليها ولا أعظم منها.
وباب الولاية مفتوح لعامة الناس وليس للخواص كما امتلأت به كتب التصوف وليس فقط للأئمة كما امتلأت به كتب الشيعة ويؤيد ذلك حديث الرجل الذي أقسم للنبي صلى الله عليه وسلم ألا يزيد على الأركان الخمس شيئا ولا ينقص منها ((أفلح أن صدق)) وفي رواية ((دخل الجنة أن صدق))(2) فهل يدخل الجنة غير الأولياء؟
ولقد أخذت الاستهانة بالفرائض طوراً آخر عند صوفية آخرين، فقالوا بإسقاط الله التكاليف الشرعية عن أوليائه المقربين وجواز تركهم الفرائض لأنهم صاروا من الواصلين. مثال ذلك ما قاله الكمشخانلي الصوفي: ((يبلغ الولي مبلغا يقال له أصحبناك السلامة وأسقطنا عنك الملامة فافعل ما شئت))(3).
* فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به قال ابن تيمية: ((ليس معناه أنه يكون نفس الحدقة والشحمة والعصب والقدم، وإنما يبقى المقصود بهذه الأعضاء والقوى وهو بمنزلتها في ذلك، فإن العبد بحسب أعضائه وقواه يكون إدراكه وحركته، فإذا كان إدراكه وحركته بالحق ليس بمعنى خلق الإدراك والحركة فإن هذا قدر مشترك فيمن يحبه وفيمن لا يحبه))(4).
__________
(1) رواه الترمذي (413) والنسائي 1: 232 والحاكم 1: 263 وأبو داود (864) وأحمد 5: 72 (صحيح الجامع 2571).
(2) تقدم تخريجه.
(3) جامع الأصول في الأولياء وأنواعهم 58.
(4) مجموع الفتاوى 3912.(7/46)
أما الحافظ ابن حجر رحمه الله فقد أجاب عن هذه الجملة بما يلي:
- أن المعنى كليته مشغولة بي فلا يصغي بسمعه إلا إلى ما يرضيني. الخ.
- أنه ورد على سبيل التمثيل والمعنى: كنت سمعه وبصره في ايثارة أمري
- أجعل له مقاصد كأنه ينالها بسمعه وبصره.
- كنت له في النصرة كسمعه وبصره ويده ورجله.
- أنه حذف مضاف والتقدير: كنت حافظ سمعه.
- أن يكون معنى سمعه مسموعة لأن المصدر قد جاء بمعنى المفعول (1).
ولم يرجح الشوكاني شيئا مما ذكره الحافظ غير أنه قال: ((الذي يظهر لي في معنى هذا الحديث القدسي، أنه إمداد الرب سبحانه لهذه الأعضاء بنوره الذي تلوح به طرائق الهداية وتنقشع عنه سحب الغواية. وقد نطق القرآن العظيم بأن الله هو نور السموات والأرض.
ولما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم هل رأى ربه قال: ((رأيت نورا أنى أراه))(2) وثبت أنه سبحانه محتجب بالأنوار، وثبت في الصحيحين وغيرهما من دعائه: ((اللهم اجعل في قلبي نورا، وفي بصري نورا، وفي سمعي نورا))(3) وأي مانع من أن يمد الله سبحانه عبده من نوره فيصير صافيا من كدورات الحيوانية الإنسانية لاحقا بالعلم العلوي سامعا بنور الله، مبصرا بنور الله، باطشا بنور الله، ماشيا بنور الله، وما في هذا من منع أو من أمر لا يجوز على الرب سبحانه وتعالى وقد سأله رسوله صلى الله عليه وسلم وطلبه من ربه.
ووصف الله عباده بقوله: { نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ } (4) وليس في هذا ما يخالف موارد الشريعة.. وقد جعل الله سبحانه الخروج من ظلمات المعاصي إلى أنوار الطاعات خروجا من الظلمات إلى النور)).
((فمعنى الحديث: كنت سمعه بنوري الذي أقذف فيه، فيسمع سماعا لا كما يسمعه أمثاله من بني أدم، وكذلك بقية الجوارح)).
__________
(1) الفتح 34411.
(2) أخرجه مسلم في الإيمان (178) والترمذي (3278) في التفسير.
(3) أخرجه البخاري في العلم 1: 37 ومسلم (763) والموطأ 1: 121 وأبو داود (58).
(4) التحريم 28.(7/47)
وأنظر في هذا الدعاء الذي طلبه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكون نور الله في سمعه وبصره وقلبه وعصبه ولحمه ودمه وشعره وبشره ولسانه ونفسه، بل سأل ربه أن يمده بنوره خلفه وأمامه، فلولا أن لنور الله سبحانه قوة لجميع الأعضاء ما طلبه سيد ولد آدم وخير الخليقة))(1).
مسألة التردد:
أما التردد فقد أورد الحافظ فيه كلاما كثيرا لأهل العلم أضعفها ما حمله الخطابي على معنى ((الترديد)) وهو التكرار وحاصل هذا المحمل ((أخراج التردد عن معناه اللغوي إلى معنى لا يلاقيه ولا يلابسه بوجه من الوجوه)) قاله الشوكاني(2) وقال ابن تيمية رحمه الله ((فبين سبحانه أنه يتردد، لأن التردد تعارض أرادتين، فهو سبحانه يحب ما يحب عبده، ويكره ما يكرهه، وهو يكره الموت، فهو يكرهه كما قال تعالى ((وأنا أكره مساءته)) وهو سبحانه قد قضى بالموت فهو يريد أن يموت(3) فسمي ذلك ترددا ثم بين أنه لابد من وقوع ذلك))(4).
__________
(1) قطر الولي 433- 434.
(2) قطر الولي 490 وأنظر الفتح 11: 34- 344.
(3) ولأن الله يعلم ما ينتظره بعد موته مما هو خير له من دنياه.
(4) مجموع الفتاوى 10: 58- 59 و5: 511 و 11: 75- 76 و17: 133- 134 وقد نقل الألباني خلاصة قول أبن تيمية في هذه المسألة (سلسلة الأحاديث الصحيحة 4: 191- 193.(7/48)
وبعد استعراض الشوكاني لأقوال العلماء خلص إلى أن التردد ((كناية عن محبة الله لعبده المؤمن أن يأتي بسبب من الأسباب الموجبة لخلوصه من المرض الذي وقع فيه حتى يطول به عمره من دعاء أو صلة رحم أو صدقة، فإن فعل مد له في عمره بما يشاء وتقضيه حكمه، وإن لم يفعل حتى جاء أجله وحضره الموت: مات بأجله الذي قد قضى عليه إذا لم يتسبب بسبب يترتب عليه الفسحة له في عمره مع أنه وإن فعل ما يوجب التأخير والخلوص من الأجل الأول: فهو لابد من الموت بعد انقضاء تلك المدة التي وهبها الله سبحانه له)) فكان هذا التردد معناه: انتظار ما يأتي به العبد مما يقتضي تأخير الأجل أولا يأتي فيموت بالأجل الأول.(1)
الفناء الصوفي ووحدة الوجود
وقد وجد بعض الصوفية في هذا الحديث ((كنت سمعه الذي يسمع به)) بغيتهم ووافق عندهم ما استقوه من ينابيع النيرفانا الهندية ونظرية الفيض والإشراق الأفلاطونية. والتي مفادها أن العبد لا يزال يذكر الله حتى يفنى عن نفسه وهو ما يسمونه بمقام الفناء والمحو.. حتى يشهد بأن الذاكر والمذكور صارا شيئاً واحدا، وأن الله هو الذاكر لنفسه الموحد لنفسه، المحب لنفسه(2).
وقد تصدى ابن تيمية لهؤلاء في غالب فتاويه، ورد مزاعمهم بأن هذا الحديث يثبت سائلا ومسئولا لقوله ((ولئن سألني لأعطينه)) كما أثبت ثلاثة: أثبت نفسه ووليه ومعادي وليه(3) فالسائل غير المعطي ويستحيل أن يكون الولي ومعادي الولي شخصا واحدا، أو أن يكون المدافع عن الولي ومحارب الولي شيئا واحدا.
ولهذا كان حاصل الولاية عندهم ((تحقيق الفناء في الذات.. فأولها التمكن من الفناء ونهايتها تحقيق البقاء (4).
ولاية حتى الفناء
__________
(1) قطر الولي 515.
(2) أنظر ما قاله الحافظ في الفتح 11: 344.
(3) أنظر الفتاوى 12: 34.
(4) معراج التشوق 35 لأبن عجيبة.(7/49)
وذكر الجرجاني تعريف الولاية عند بعض الصوفية: ((أنها قيام العبد بالحق عند الفناء عن نفسه(1). وذكر القشيري أقوالاًا لبعض مشايخ الصوفية تتضمن إشارات وتصريحات إلى مقام الفناء بالله عندهم. منها:
قال الجنيد: التصوف هو أن يميتك الحق عنك ويحييك به)). والمحبة توجب انتفاء المباينة، فإن المحب أبدا مع محبوبه.
وقال السري: لا تصلح المحبة بين اثنين حتى يقول الواحد منهما للآخر: يا أنا.
وقال أبو علي الجوزجاني: ((الولي هو الفاني في حاله، الباقي في مشاهدة الحق سبحانه، تولى الله سياسته فتوالت عليه أنوار التوالي)).
وقال الجنيد عن المحبة: دخول صفات المحبوب على البدل من صفات المحب (2).
وعن أبي سعيد الخراز قوله: ((إذا أراد الله تعالى أن يوالي عبدا من عبيده فتح عليه باب ذكره فإذا استلذ الذكر فتح عليه باب القرب))(3) ثم رفعه إلى مجالس الأنس به، ثم أجلسه كرسي التوحيد (4) ثم رفع عنه الحجب وأدخله دار الفردانية، وكشف له عن الجلال والعظمة، فإذا وقع بصره على الجلال والعظمة بقي بلا هو (ى)(5) وينقل الكلاباذي عن الشبلي قوله: ((أنا أقول وأنا أسمع، فهل في الدارين غيري؟(6) وذكر الغزالي أن توحيد العوام: ((لا إله إلا هو، وتوحيد الخواص: لا هو إلا هو)).
__________
(1) التعريفات 227.
(2) الرسالة القشيرية 124، 148، 146، 118، 145.
(3) وهذا يؤيد ما ذكرته سابقا من أن أبواب القرب لا تفتح عند الصوفية إلا بالأذكار والنوافل لا بإقامة الشعائر المفروضة.
(4) كرسي أهل وحدة الوجود.
(5) الرسالة القشيرية 118- 119 وقد زيد في الطبعة التي بيدي حرف (ى) كما ترى في النص ثم رجعت إلى نسخة أخرى بتحقيق الشيخ عبد الحليم محمود فوجدتها (بلا هو) كما كنت أتوقع فالظن أن إضافة هذا الحرف للتمويه وحتى لا يقال إن الخزاز حلولي.
(6) التعريف لمذهب أهل التصوف 145.(7/50)
قال: فلا هو إلا هو، عبارة عما إليه الإشارة، وكيفما كان فلا إشارة إلا إليه، بل كلما أشرت فهو بالحقيقة الإشارة إليه)) قال: ((وإليه الإشارة بقوله صلى الله عليه وسلم: صرت سمعه الذي يسمع به...)) إلى أن قا:ل (وإذا كان هو سمعه وبصره ولسانه فهو السامع والباصر والناطق إذن لا غير)). ((وإليه الإشارة بقوله تعالى لموسى عليه السلام: مرضت فلم تعدني...)) ((وختم بقوله: ((فربما نظر الناظر إليه أن ذلك له تأويل كقوله: أنا الحق، وسبحاني(1) وقد آلت هذه الفكرة المقتبسة من رواسب الأديان الهندية القديمة إلى القول بفناء الأنية في عين الألوهية، ثم نفوا المباينة بين الاثنين. ومن المتفق عليه أن أحسن الناس عبادة هي عبادة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يعبد الله بمثل هذا الفناء.
الولاية عند الصوفية
تعريف الولي والولاية:
تعتمد غالب كتب المتصوفة في تعريف الولي على الرسالة القشيرية والتي جاء فيها تعريف الولي على معنيين:
* أحدهما: فعيل بمعنى مفعول، وهو من يتولى الله سبحانه أمره. قال تعالى: { وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ } فلا يكله إلى نفسه لحظة، بل يتولى الحق سبحانه رعايته.
* والثاني: فعيل مبالغة من الفاعل، وهو الذي يتولى عبادة الله تعالى وطاعته، فعبادته تجري على التوالي من غير أن يتخللها عصيان.. فلا يخلق له الخذلان الذي هو القدرة على العصيان)).
قال ((وكلا الوصفين واجب حتى يكون الولي وليا... فمن شرط الولي أن يكون محفوظا كما أن من شرط النبي أن يكون معصوماً؟))(2).
وفي هذين التعريفين ما يفيد اشتراط العصمة للولي.
ففي التعريف الأول: ((لا يتركه الله لنفسه لحظة واحدة)).
وفي الثاني: تتوالى عبادته فلا تنقطع ولا يتخللها عصيان.
__________
(1) مشكاة الأنوار 23.
(2) الرسالة القشيرية 117 وانظر 160 وانظر جامع الأولياء وأنواعهم وأوصافهم للكشمخانلي 287.(7/51)
ومن هنا يمكن ملاحظة نقطة الاختلاف والتباين بين مفهوم أهل السنة في الولي وبين فهم المتصوفة له.
فأهل السنة لا يرون أحدا معصوما غير النبي لا ولي ولا غيره. في حين أن الصوفية يجعلون العصمة شرطا للولي. ومنهم من ينفي الولاية تماما عمن وقع في زلة أو خطيئة، وأبرزهم في ذلك القشيري نفسه(1).
الولاية أساس التصوف:
لقد قام التصوف على أساس الولاية والولي حتى قال الهويجري وهو أحد أئمة المتصوفة: ((فاعلم أن أساس التصوف والمعرفة قائم على الولاية))(2).
وأول من طبق اصطلاح الولاية على أصول التصوف هو الحكيم الترمذي، إذ أن مذهبه كله قائم على الولاية، وأثاره التي خلفها تشهد بذلك منها كتاب ((ختم الأولياء)) ((وسيرة الأولياء))، ((وعمل الأولياء)).
وقد جعل الحكيم الولاية حظاً يختصه الله ويصطفيه لمن يشاء لولايته، كما اصطفى من شاء لنبوته. قال: ((الولي من كتب الله له الولاية وجعل له حظا، فبحظه من الله تعالى بقدر أن يتولاه كما أن النبوة لمن كتب له النبوة وجعل له حظا.
فبحظه من الله تعالى قامت له النبوة... فالمغبوط من تقرب درجته من درجة الأنبياء علوا وارتفاعا.
ثم قال بعد ذلك كلمته التي كانت إحدى بلاياه حين أخرجه أهل بلده من ترمذ. واستغلال الزنادقة لها فقال: ((وقد يكون من الأولياء من أرفع درجة)).
واستدل على مذهبه بقصة لا أصل لها وهي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يطلب من رجل اسمه هلال أن يدعو له ويسأل الله له المغفرة، فكان هلال يكرر سؤاله إلى الله أن يغفر لرسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ذكر الترمذي أن النبي أخبر أن هذا الرجل أحد السبعة الذين كانت تقوم بهم الأرض))(3).
__________
(1) انظر لطائف الإشارات 274.
(2) الحكيم الترمذي ونظريته في الولاية 72.
(3) نوادر الأصول 157- 158ط. دار صادر- بيروت.(7/52)
وقد تطورت هذه النظرية عند الترمذي حتى أدت إلى تفضيل الولي على النبي وإحداث رتبة للولي تسمى (خاتم الأولياء) استفادها منه ملاحدة التصوف وفلاسفته أمثال ابن عربي وبن سبعين وغيرهما(1).
الولاية عند الغزالي والقشيري
وقد قسم الغزالي مراتب الولاية إلى أربع، قائلا ((بل الرتبة العليا للأنبياء ثم الأولياء ثم العلماء الراسخين في العلم ثم للصالحين))(2).
فقدم الأولياء- وهم العارفون- على الراسخين الذين أثنى الله عليه { شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمًا بِالْقِسْطِ } وقوله { وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ } (3).
ثم قسم الروح إلى بهيمية وأمرية. فالبهيمة تختص بالبهائم وبمن هو في مثل حالها من الأنس، والأمرية يختص بها الأنبياء والأولياء، مستدلا على الروح الأمرية بقوله تعالى { قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي } .
كذلك جعل القشيري طائفة المتصوفة صفوة أولياء الله، فضلهم على كافة عباده بعد رسله وأنبيائه(4).
أما العلم وطلبه فلم يكن مرغوبا لدى الداعين إلى التصوف، حتى ذموه وجعلوه عائقا عن سلوك طريق القوم. فقد سئل الدقي عن سؤ أدب الفقراء مع الله فقال:انحطاطهم من الحقيقة إلى العلم(5).
__________
(1) أنظر فصل ختم الولاية عند أبن عربي وغيره.
(2) أحياء علوم الدين 1/53 و1/39 وأنظر الأربعين في أصول الدين 195.
(3) آل عمران 7و18
(4) الرسالة القشيرية 2.
(5) الرسالة القشيرية 126.(7/53)
وروى الغزالي عن الجنيد أنه قال: ((أحب للمريد ألا يشغل قلبه بثلاث و إلا تغيرت حاله: التكسب، طلب الحديث، التزوج))(1) وروى عن أبي سليمان الداراني قوله: ((إذا طلب الرجل الحديث، أو تزوج، أو سافر في طلب المعاش فقد ركن إلى الدنيا))(2) ونص ابن عجيبة في فتوحاته الإلهية أن قول الغزالي والقشيري متفق على قبوله عند الصوفية))(3).
الولاية عند السهرودي
ويطلع علينا السهرودي واشراقيته الفلسفية برأي لم ((يسبقه إليه أحد من المتصوفة حيث فرق بين طينة الأولياء والأنبياء من جهة وبين الطينة التي خلق الله منها سائر الخلق من جهة أخرى.
قال: ((لما بعث الله جبريل وميكائيل ليقبضا قبضة من الأرض فأبت، حتى بعث الله عزرائيل فقبض قبضته من الأرض، وكان إبليس قد وطئ الأرض بقدميه، فصار بعض الأرض بين قدميه وبعض الأرض بين موضع أقدامه.
فخلقت النفس مما مس قدم إبليس فصارت مأوى الشر. وبعضها الآخر لم يصل إليه قدم إبليس.
فمن تلك التربة أصل الأنبياء والأولياء (4).
ثم وصف الأولياء بأنهم: ((أجساد أرضية بقلوب سماوية وأشباح فرشية بأرواح عرشية، لأرواحهم حول العرش تطوف))(5).
وهناك سهروردي آخر غير عمر بن محمد- صاحب عوارف المعارف- جعل أحباب الله أقل رتبة من أوليائه إذ قال: ((أن الله تعالى ادخر البلاء لأوليائه كما ادخر الشهادة لأحبابه(6).
كما أن ابن عجيبة جعل الصالحين في مرتبة أدنى من الأولياء، فالصالحون هم الذين ((صلحت أعمالهم الظاهرة واستقامت أحوالهم الباطنة. أما الأولياء فهم أهل العلم بالله))(7).
__________
(1) الإحياء 4: 239.
(2) إحياء علوم الدين 1: 61، 4: 24، 2: 237، 4: 229.
(3) الفتوحات الإلهية 271.
(4) عوارف المعارف 47 ملحق بالجزء الخامس من كتاب الإحياء ط. المعرفة بيروت.
(5) عوارف المعارف 42.
(6) آداب المريدين 125 لعبد القاهر السهرودي ط الوطن العربي. القاهرة.
(7) معراج التشوف إلى حقيقة التصوف 65.(7/54)
مقامات الأولياء عند الصوفية
وللأولياء- نيابة مقام الأنبياء- أربعة مقامات:
الأول: مقام خلافة النبوة.
الثاني: مقام خلافة الرسالة.
الثالث: مقام خلافة أولي العزم.
الرابع: مقام خلافة أولي الاصطفاء: أي اصطفاء الأقطاب(1) وكلها كما ترى متعلقة بإرث النبوة وخلافتها.
ثم وضعوا في هذه المقامات تقسيمات أكثر تفصيلا وهذه التقسيمات مبنية على أحاديث لا صحة لها أورد بعضها أبو نعيم الأصفهاني في حلية الأولياء منها:
لله عز وجل ثلاثمائة قلوبهم على قلب آدم عليه السلام.
ولله في الخلق أربعون قلوبهم على قلب موسى صلى الله عليه وسلم.
ولله في الخلق سبعة قلوبهم على قلب إبراهيم صلى الله عليه وسلم.
ولله في الخلق خمسة قلوبهم على قلب جبريل صلى الله عليه وسلم.
ولله في الخلق ثلاثة قلوبهم على قلب ميكائيل صلى الله عليه وسلم.
ولله في الخلق واحد قلبه على قلب إسرافيل عليه السلام.
فإذا مات الواحد أبدل الله عز وجل مكانه من الثلاثة.
وإذا مات من الثلاثة أبدل الله تعالى مكانه من الخمسة.
وإذا مات من الخمسة أبدل الله تعالى مكانه من السبعة.
وإذا مات من السبعة أبدل الله تعالى مكانه من الأربعين.
وإذا مات من الأربعين أبدل الله تعالى مكانه من الثلاثمائة.
وإذا مات من الثلاثمائة أبدل الله تعالى مكانه من العامة.
فبهم يحيي ويميت ويمطر وينبت ويدفع البلاء)) انتهى(2). ثم رتبوا للأولياء ألقابا وجعلوا لصاحب كل مرتبة وظيفة كونية في الأرض. وجعلوا لهم في القدرة والتصرف ما لا يجوز أن يتصف به إلا الله وحده.
*فالنقباء ثلاثمائة: وهم الذين نقبوا الكون وخرجوا إلى فضاء شهود المكون ومسكنهم المغرب.
*والنجباء سبعون: وهم السابقون إلى الله تعالى وسموا بذلك لنجابتهم ومسكنهم مصر.
*والأبدال أربعون: ((الأبدال)) ومسكنهم الشام.
__________
(1) جامع الأصول في الأولياء وأنواعهم 5-6 للشيخ أحمد ضياء الكمشخانلي ط الخانجي- مصر.
(2) حلية الأولياء 91.(7/55)
*والرجبيون اثنا عشر: ومقامهم موسمي فلا يكون لهم مقام إلا في شهر رجب ثم يفقدون ذلك الحال وهم النقباء(1).
*والأخيار سبعة: وهم السياحون في الأرض.
*والأوتاد أربعة: موزعون على أربع زوايا من الكون ليكونوا ركنا له.
*والحواريون اثنان: وكان منهم في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم الزبير.
*والقطب أو الغوث: ويكون واحدا وهو القائم بحق الكون والمكون.
مزايا هذا القطب ومؤهلاته
وللقطب الخلافة الباطنة وروحانية الكون الذي عليه مداره.
*المزية الأولى: له أن يكون متخلقا بأخلاق الرحمة.
*المزية الثانية: أن يمد بمدد العصمة.. ويقال لها: الحفظ.
* المزية الثالثة: أن يكون خليفة الله في أرضه، أميناً على عباده بالخلافة النبوية، قد بايعته الأرواح وانقادت إليه الأشباح.
*المزية الرابعة: أن يكون نائباً عن الله في تصريف الأحكام.
* المزية الخامسة: أن يمد بمدد حملة العرش من القوت والقرب، فهو حامل عرش الأكوان كما أن الملائكة حاملة عرش الرحمن.
*المزية السادسة: أن يكشف له عن حقيقة الذات فيكون عارفا بالله معرفة العيان.
*المزية السابعة: أن يكشف له عن إحاطة الصفات الكائنات.
*المزية الثامنة: أن يكرم بالحكم والفصل بين الوجودين: أي بين الوجود الأول قبل التجلي وهو المعبر عنه بالأزل القديم، وبين الثاني الذي وقع به التجلي والفصل بينهما (2) [إشارة منه إلى وحدة الوجود].
وهكذا انطمست الولاية بمفهومها القرآني. وحلت محلها مفاهيم باطلة جعلت للأولياء مراتب تصل إلى حد الألوهية كالغوث والقطب الذي يحوز عليه لقب الغوث حينما يصير مستغاثاً به (3).
ويرد ابن تيمية هذه المراتب بأنها لم ترد في كتاب ولم تصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما تستند إلى أحاديث موضوعة مكذوبة (4).
__________
(1) جامع كرامات الأولياء 1: 40و 49.
(2) عن كتاب معراج التشوف لابن عجيبة 65-68.
(3) أنظر التعريفات للجرجاني 142.
(4) مجموع الفتاوى 11: 433.(7/56)
وأبعدها عن الوضع حديث ((الأبدال في أمتي أربعون)) وهو منقطع الإسناد، فأبعدها عن الوضع لم يقرب إلى درجة الصحيح.
وكذلك يرد هذه التقسيمات أن الذين آمنوا بالرسول صلى الله عليه وسلم في مقتبل الدعوة كانوا قلة لم يزيدوا على السبع وكان فيهم أبو بكر وفي فترة أخرى صاروا أقل من أربعين وفي فترة أخرى أقل من ثلاثمائة فأين كان القطب والأبدال والثلاثمائة قبل محمد حين كان عامة الناس كفرة.
وأين كانوا زمن إبراهيم عليه السلام حينما كان مؤمنا وحده وزوجته كما جاء في صحيح البخاري أنه قال لها: ليس على الأرض اليوم مؤمن غيري وغيرك (1).
فهذه المراتب إنما هي من جنس أقوال الشيعة في ((بابهم)). وهي مأخوذة عن الإسماعيلية في مراتب أئمتهم كالسابق والتالي والناطق والأساس والجسد(2) والاختلاف ليس إلا في التسمية.
وهكذا أصبح العالم تسيره مملكة هرمية تبدأ من القطب مرورا بالأنجاب والأبدال والأوتاد يتصرفون في الأكوان: مملكة هرمية وهمية لا تنفع ولا تضر.
كيف تنال مرتبة الولاية عند الصوفية
وهناك عدة طرق لنيل مرتبة الولاية عند الصوفية أهمها:
*الخلوات والجوع وترك الأهل والولد والخروج إلى البوادي.
*نيل الولاية عن طريق الشيخ المرشد. وقد قرروا أن ((من لا شيخ له فشيخه الشيطان))(3).
الخلوة
__________
(1) البخاري مناقب الأنبياء 4: 112 باب قوله تعالى { وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً } .
(2) مجموعة الرسائل والمسائل 1: 60- 61 ومجموع الفتاوى 11: 435- 439.
(3) الفجر المنير 68 قلادة الجواهر 177.(7/57)
أما الخلوة فتقتضي عندهم ترك الأهل والمال والولد فإنهم شواغل وحجر عثرة أمام طريق الولاية فروى أبو طالب المكي أحاديث مكذوبة على رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لأن يربي أحدكم جرو كلب خير من أن يربي ولدا)). وحديث: ((إذا كان بعد المائتين أبيحت العزوبة لأمتي))(1). وروى أبو نعيم عن رياح القيسي أنه قال: ((لا يبلغ الرجل منازل الصديقين حتى يترك زوجته كأنها أرملة، وأولاده كأنهم أيتام ويأوي إلى منازل الكلاب))(2). وقال أبو عبد الله الرملي: ((ليكن خدنك الخلوة، وطعامك الجوع.. فإما أن تموت وإما أن تصل إلى الله (3).
ويحكي الجنيد أنه ما أخذ التصوف عن ((القيل والقال)) ولكن عن الجوع وترك الدنيا))(4) ويؤكد أبو يزيد البسطامي أنه ((ما نال المعرفة إلا ببطن جائع وبدن عار))(5).
ويثني الداراني على رهبان النصارى لإيثارهم الخروج والمشقة وقطع البراري فيقول: ((ما قووا على ما هم فيه من المفاوز والبراري إلا بشيء يجدونه في قلوبهم))(6) لذا كانت له بهم أسوة حسنة لمن كان يرجو الرهبانية المبتدعة.
خدمة الشيخ طريق الولاية
وطريق الولاية مسدود إلا على يد الشيخ الموصل المرشد، والسبيل إلى نيلها يمر عبر خدمة الشيخ وقضاء حوائجه، يؤكد ابن عجيبة ذلك فيقول بأن ((الشيخ الغزالي والشيخ عبد الله الوازني وغيرهما من الأولياء ما نالوا مرتبة الولاية وكمال الصلاح إلا بخدمة مشايخهم))(7).
__________
(1) قوت القلوب 239ط دار صادر بيروت اللآلئ المصنوعة في الأحاديث الموضوعة 2: 178 للسيوطي والموضوعات لابن الجوزي 2: 279 والعلل المتناهية 2: 148 له أيضا.
(2) حلية الأولياء 6: 194.
(3) الرسالة القشيرية 51.
(4) الحلية لأبي نعيم 10: 278.
(5) الرسالة القشيرية 142.
(6) حلية الأولياء 9: 271.
(7) معراج التشوف إلى حقائق التصوف 13.(7/58)
ويحذر هو والصيادي من التجرؤ على سلوك طريق الولاية من غير شيخ فيقول رواية عن غيره ((لو كان الرجل يوحي إليه ولم يكن له شيخ لا يجيء بشيء))(1). ويحرم على المريد تغيير الشيخ والتتلمذ على يد شيخ آخر لأنه ((كما أن الله لا يغفر أن يشرك به فكذلك الأشياخ لا يسامحون المريد في شركته معهم غيرهم)) وكما أنه لم يكن للعالم إلهان.. فكذلك لا يكون للمريد شيخان))(2) قاله الشعراني، والنظر إلى وجه الشيخ عندهم عبادة وخير للمريد من عبادة خمسين سنة (3).
*ومن أهم الآداب مع الشيخ ((أن تتخيله دائما وكأنه أمامك وخاصة عند الذكر وهذا من أهم المقامات ويسمونه بـ ((مقام الرابطة)) أي الرابطة بين المريد والشيخ. ومن لم يتخيل صورة شيخه فلا تتم له الرابطة ولا يحصل له مطلوبه))(4).
*ومن الآداب ((تقبيل يد الشيخ ثم رجله، ثم... فهو من أحسن التعظيم))(5).
*ومنها ألا ينكر عليه ما ظهر منه من صنعة عيب، فلربما يظهر من الشيخ ما لا يعلمه المريد ويكون مراد الشيخ بذلك امتحانه، كما وقع لبعضهم أنه دخل على شيخه فرأى عنده امرأة جميلة يلاعبها ويعانقها ويجامعها، فخرج منكرا على شيخه فأخذ منه الشيخ جميع ما استفاده منه، ومع ذلك فالمرأة لك تكن سوى امرأة الشيخ وزوجته جعلها الشيخ امتحانا للمريد))! (6).
وكان مما من الله به على الشعراني على حد قوله ((كسر قفص طبعي(7) حتى صرت لا أستحي من تعليم النساء الأجانب آداب الجماع))(8).
شروط الولاية عند الصوفية
الكرامة عندهم من شروط الولاية
__________
(1) الفتوحات الإلهية 87 سلاسل القوم للصيادي 3ط السعادة- مصر.
(2) لطائف المنن 334-335.
(3) لطائف المنن 225.
(4) جامع الأصول في الأولياء وأنواعهم 77 تنوير القلوب 494و 519 في معاملة علام الغيوب.
(5) الفتوحات الإلهية 218.
(6) قلادة الجواهر 278.
(7) أي زوال الحياء منه.
(8) لطائف المنن 521.(7/59)
على أن بعض المتصوفة يرى اشتراط حصول كرامة للولي ويتمثل هذا الرأي عند الشعراني القائل ((إن من شرط صحة بداية المريد في دخوله الطريق أن يمشي على الماء والهواء وتطوى له الأرض ومن لم يقع له ذلك فليس له في مقام الإرادة قدم))(1) . وبعضهم يرى أن ظهور الكرامة دلالة على الولاية والصدق لأن الكاذب لا تظهر عليه الكرامة (2).
وذكر اللقاني على شرح جوهرة التوحيد أن ((من لم تظهر كرامته بعد موته كما كانت في حياته فليس بصادق))(3).
ومن هذا المبدأ تغلغل كثير من الدجالين بين جهال الأتباع وادعوا الولاية والصدق وأظهروا لهم من المخاريق والحيل ما توهموا أنه كرامة، فقد علمهم القشيري أن ظهور الكرامة يستحيل على الكاذب.
وهذا حق ولكن ههنا أحد احتمالين:
* الأول أن يكون وليا صادقا لكن لبس عليه الشيطان وأوهمه ما يشبه الكرامة.
* الثاني أن يكون كاذبا يدعي الكرامات ويأتيها أمام أعين الناس لكنه يفعل ذلك بمساعدة شيطان يستعمله طعما ليوقع به الناس في الشرك.
وهذا الثاني يستدل به من كلام كثير من المتصوفة فقد روى أبو نعيم في الحلية أن أبا يزيد البسطامي كان يقول ((لو نظرتم إلى رجل أعطي من الكرامات حتى يرفع في الهواء فلا تغتروا به حتى تنظروا كيف تجدونه عند الأمر والنهي وحفظ الحدود وأداء الشريعة(4).
والقشيري نفسه يروي عن البسطامي أن رجلا قال له ((فلان يمشي في ليلة إلى مكة فقال: الشيطان يمشي في ساعة من المشرق إلى المغرب في لعنة الله))(5).
__________
(1) لطائف المنن 578.
(2) الرسالة القشيرية 158- 159.
(3) جوهرة التوحيد 153 ط. دار الكتب العلمية بيروت.
(4) حلية الأولياء 10: 40.
(5) الرسالة القشيرية 164.(7/60)
يقول ابن تيمية: ((يجوز أن يشتبه على الولي بعض أمور الدين، ويجوز أن يظن في بعض الخوارق أنها كرامات وتكون من الشيطان لبسها عليه لنقص درجته ولا يعرف أنها من الشيطان وإن لم يخرج بذلك على ولاية الله تعالى))(1).
لكن المتصوفة لم يلتفتوا إلى هذا الاحتمال الذي ذكره الشيخ وهو احتمال أن تكون الكرامة خدعة من الشيطان ولم يتنبهوا إلى أن الكشف قد يكون خدعة شيطانية أيضا، وإنما سلموا بكون ذلك كرامة مع أنهم رووا عن شيوخهم رؤية ومقابلة رجال عجيبي الخلقة وأخذهم الحكمة عنهم واعترف بعضهم أنهم من الجن ومع ذلك مضوا تحت هذه المكيدة.
مثال ذلك ما حكاه أنه رأى فجأة رجلاً فقال: أبا القاسم متى تصير النفس داءها دواؤها؟ فقال الجنيد: إذا خالفت هواها ثم قال له الجنيد: من أنت؟ فقال: أنا فلان الجني جئتك من المغرب، ثم ودع الجنيد بحكمة صوفية قائلا: لا تكن عبد الله حقا وأنت لشيء سواه مسترقا، ثم غاب عنه(2).
ولهذا كان السلف يعلمون هذه الخديعة الشيطانية ويحذرون منها.
ففي صحيح مسلم أن ابن مسعود قال ((إن الشيطان ليتمثل في صورة الرجل فيأتي القوم فيحدثهم بالحديث من الكذب فيتفرقون فيقول الرجل منهم: سمعت رجلا أعرف وجهه ولا أدري ما اسمه يحدث))(3).
__________
(1) الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان 48- 49.
(2) الحلية لأبي نعيم10: 274- 275.
(3) أخرجه مسلم رقم 7 باب النهي عن الرواية عن الضعفاء.(7/61)
ويذكر ابن تيمية نماذج لما تفعله الشياطين ببعض الجهال من الصالحين فيقول: ((والذين تحملهم الجن وتطير بهم من مكان إلى مكان أكثرهم لا يدري كيف حمل، بل يحمل الرجل إلى عرفات ويرجع وما يدري كيف حملته الشياطين.. أو يوقعونه بذنب ويغرونه بأن هذا من كرامات الصالحين، وليس هو مما يكرم الله به وليه بل هو مما أضلت به الشياطين وأوهمته أن ما فعله قربة وطاعة(1) وكثير من أهل العبادة والزهد من يأتيه في اليقظة من يقول أنه رسول الله، ويظن ذلك حقا... وكذلك يأتي كثيرا من الناس في مواضع ويزعم أمامهم أنه الخضر، فيعتقد أنه الخضر وإنما كان جني من الجن.
ولهذا لم يجترئ الشيطان على أن يقول لأحد من الصحابة أنه الخضر ولا قال أحد من الصحابة أني رأيت الخضر، وإنما وقع هذا بعد الصحابة وكلما تأخر الأمر كثر حتى أنه يأتي اليهود والنصارى ويقول أنه الخضر، ولليهود كنيسة معروفة بكنيسة الخضر، وكثير من كنائس النصارى يقصد هذا الخضر(2).
ولذلك يزعم بعض المتصوفة أنهم تلقوا مبادئ طريقتهم عن الخضر الذي أخبر شيخهم بكيفية الذكر كالنقشبندية الذين يزعمون أن الخضر علمهم كيفية الذكر الخفي وهو الانغماس في الماء وذكر الله فيها(3) وقد كان المعلم في الحقيقة شيطاناً.
الكرامات والخوارق الشيطانية
تعريف الكرامة لغة
قال في القاموس المحيط(4).
والكرم: ضد اللؤم.
وأكرمه كرمه: عظمه ونزهه، والكريم: الصفوح
ورجل مكرام: مكرم للناس.
وأكرمه يكرمه: ويقال في التعجب: ما أكرمه لي قاله في مختار الصحاح(5) أضاف ((وهو شاذ لا يطرد في الرباعي، قال الأخفش: وقرأ بعضهم { وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ } .(6) بفتح الراء أي من إكرام، وهو مصدر كالمخرج والمدخل انتهى.
__________
(1) النبوات 259.
(2) النبوات 273- 274
(3) المواهب السرمدية77، والأنوار القدسية 111- 112.
(4) القاموس المحيط 4: 17- 172.
(5) مختار الصحاح 568.
(6) الحج 18.(7/62)
بالجملة فالكرامة ضد الإهانة. بدليل الآية السابقة.
تعريف الكرامة اصطلاحا
يعرفها كثير من العلماء وأهل الأصول وغيرهم من المتكلمين كالأشاعرة وغيرهم- بـ ((الأمر الخارق للعادة، ويظهر على يد عبد صالح غير مدع للنبوة غير مقرون بالتحدي(1). ويفرقون بينها وبين المعجزة بفارق عدم التحدي في كرامة الولي، بخلاف معجزة الرسول المقرونة بالتحدي للدلالة على صدقه.
هذا ما درج عليه الأكثرون. غير أن هذا التعريف لا يخلو من نقد في بعض ثناياه(2) إذ أنه يفضي إلى نتائج خاطئة. وهذا النقد يتناول ما يلي:
* أن وضع الكرامة والمعجزة بمستوى واحد خطأ، إذ لا بد أن يكون هناك فرق بينهما.
* أن كرامة الولي تكون للتحدي أيضاً، لاسيما إذا تحدى بها الولي الكفار لإثبات دين الإسلام وصدق ما جاء به خاتم الأنبياء صلى الله عليه وسلم.
* أن كثيراً من المعجزات قد حصلت للأنبياء ولنبينا صلى الله عليه وسلم ولم تكن مقرونة بالتحدي كالإخبار عن علامات الساعة وما سيكون في أمته من بعده. وخروج الماء من بين أصابعه وتسليم الحجر عليه وتكليم الجذع في يده.
__________
(1) الفقه الأكبر 74، المواقف في علم الكلام للايجي 370 ط، علام الكتب، لوامع الأنوار البهية 2: 392 ط مكتبة أسامة، الإرشاد للجويني 302 ط الخانجي، التعريفات 161 للجرجاني.
(2) وأفضل كتاب يتضمن نقداً علمياً لهذا التعريف هو كتاب النبوات لابن تيمية.(7/63)
* أن التوفيق لإتباع السنة واجتناب البدعة والمداومة على العبادة مع الإخلاص فيها هو من أعظم الكرامات. ولهذا روي عن الشاذلي أنه قال: ((ما ثم كرامة أعظم من كرامة الإيمان ومتابعة السنة، فمن أعطيها وجعل يشتاق إلى غيرها فهو مغتر كذاب))(1) وعن الشافعي وغيره أنهم قالوا: ((لو نظرتم إلى رجل يطير في الهواء أو يمشي على الماء فلا تغتروا به حتى تعلموا متابعته للسنة وحفظه للحدود وأداءه للشريعة)). فهذا هو القانون الذي يميز به الكرامة وبين الخديعة الشيطانية.
موقف الفلاسفة من الخوارق
ويذهب الفلاسفة إلى أن خوارق العادات التي للأنبياء والأولياء عبارة عن قوة نفسية يتصرف بها النبي أو الولي في هيولي العالم كما أن العائن(2) له قوة نفسانية يؤثر بها في المعين. (أي المصاب).
فالفلاسفة لا يعرفون صراع الجن للإنس وأن الجني يتكلم على لسان الإنسي وأن بينه وبين السحر ارتباطا. ولم يعرفوا الملائكة ولا الجن، فظنوا أن هذه الخوارق من قوى النفس. ثم قالوا بأن الفرق بين النبي والساحر أن نفس النبي زكية تأمر بالخير، وأن نفس الساحر خبيثة تأمر بالشر(3).
ابن تيمية يبين أنواع الخوارق
وللرد عليهم قسم ابن تيمية أنواع الخوارق إلى ثلاثة أنواع:
منها ما هو من جنس الغناء عن الحاجات البشرية كالاستغناء عن الأكل والشرب مدة.
ومنها ما هو من جنس العلم الخارج عن قوى البشر كالإخبار عن الغيوب.
ومنها ما هو من جنس المقدورات الخارجية عن قدرة البشر كالزلازل ونحوها.
فهذا كله خارج عن قوى النفس.
__________
(1) نور التحقيق من أعمال الطريق 133، طبقات الشعراني 2: 7.
(2) أي صاحب العين الحاسدة.
(3) أنظر الصفدية 1: 7 و143 والنبوات 210.(7/64)
ثم طالب الفلاسفة بالدليل على كون هذه الآثار من قوى النفس، وذكر بأن من هذه الآثار أموراً كثيرة يعترفون بأنه يمتنع كونها من آثار النفوس كالخوارق الخارجة عن قوى النفس، مثل إحياء الموتى من الآدميين والبهائم، فإن قوى النفس عندهم لا تفعل شيئا كهذا، وكذلك الطوفان الذي أغرق أهل الأرض. وإرسال الريح العقيم سبع ليال وثمانية أيام حسوما. وأما سبب انقلاب العصا حية، وخروج الناقة من الأرض فهم معترفون أيضا بأنه غير ممكن ولا يمكنهم إحالة سببه على قوى النفس (1) وكما نرى فإن هذه النظرية تنم عن قصور فهم بالطبيعات والبديهيات وجهل بالدين، وتؤدي التكذيب بمعجزات الأنبياء، مثلما أدت إلى تكذيب الوحي الحقيقي، واعتباره خيالات نفسية.
موقف المعتزلة من الكرامة
وقد أنكر المعتزلة كرامات الأولياء جملة وتفصيلا، وفي مقدمتهم القاضي عبد الجبار وكذلك الجبائي، وذلك انسجاماً مع عقليتيهما الاعتزالية فقال الأول منهما ((فلا كرامة لولي أو صحابي(2) وذلك كرد فعل مفرط في مقابل إفراط الصوفية في ادعاء الكرامات.
ويذكر لنا أحد المعتزلة المحدثين أن سلفه من المعتزلة ((بلغت بهم عقلانيتهم حداً أنكروا معها بعض المعجزات التي حدثت لنبينا صلى الله عليه وسلم و منها معجزة انشقاق القمر الأمر الذي أثار الجدل والخلاف بين النظام والقاضي حيث شك النظام(3) في إمكانية وقوعها من خلال الواقع التجريبي الذي يؤكد الظواهر وارتباطها الزمني كحدث عام، مؤكدا أنه لو أنشق القمر كما قيل لعلم بذلك عموم الناس غربا وشرقا لمشاهدتهم له(4).
__________
(1) الصفدية 1: 181- 186.
(2) المغني التنبؤات والمعجزات 15: 414 وانظر 16: 152- 414.
(3) هو القاضي عبد الجبار من كبار المعتزلة.
(4) العقل والحرية 350-351 د. عبد الستار الراوي ط . المؤسسة العربية للدراسات والنشر- بيروت .(7/65)
ورد القاضي عليه بأنه يمكن القول بأن الغيوم قد حجبت الناس عن رؤية الانشقاق(1). ومع هذا فقد جعل إنكار المعتزلة للكرامات يتسم بقدر كبير من الموضوعية والعقلانية في تخليص الفكر الإسلامي من ميثولوجيا السلف الصوفي، كما أنها تعزز النبوة بما تمثله من التعاليم الشرعية وما تقوم عليه من تأسيس إعجازي ينفرد بذاته لا يقبل المشاركة معه(2).
وفي قوله نظر، فإن إنكار الكرامات لا يعزز النبوة بل يطعن بما جاءت به من عند الله كقصة مريم التي حكى القرآن أنه كانت تأتيها فاكهة الشتاء في فصل الصيف، وغيره مما وقع للصحابة.
وقد كان بالإمكان معالجة إفراط المتصوفة بطريقة لا تؤدي إلى التفريط من جانب آخر.
لقد ظن المعتزلة أن لا خارق للعادة إلا لنبي، لكونه الآية على صدقه، فالتزموا إنكار الخوارق التي تقع للصالحين وأنكروا أن يكون للسحر تأثير خارج عن العادة مثل أن يموت ويمرض بلا مباشرة شيء، وأنكروا الكهانة وأن تكون الجن تخبر ببعض المغيبات(3). ثم اضطروا إلى إنكار وتكذيب ما يأتي به الدجال من المخاريق قائلين: ما معه إلا التمويه كما قالوا في السحر والكهانة(4).
موقف الأشاعرة من الكرامة
ومفهوم خرق العادة عندهم
ثم جاء الأشاعرة بعد المعتزلة فوافقوا أهل السنة في أصل ثبوت الكرامة لكن لم يفرقوا بينها وبين المعجزة من جهة، وبينها وبين السحر من جهة أخرى، جاعلين الكل خرق عادة، فقيل لهم: فميزوا بين هذا وبين المعجزات فقالوا لا فرق(5) ثم حاولوا بعد ذلك التفريق بفروق ضعيفة لا يحصل بها التفريق مثل قولهم:
__________
(1) نفس المصدر والصفحة.
(2) نفس المصدر 349.
(3) أنظر النبوات 102 ط. الكتب العلمية –بيروت.
(4) أنظر النبوات 216.
(5) النبوات 102.(7/66)
* الفرق بين المعجزات والكرامات أن الأنبياء مأمورون بإظهارها والولي يجب عليه سترها(1) قال أبو علي الروزباري ((كما فرض الله تعالى على الأنبياء إظهار المعجزات: فرض على الأولياء كتمان الكرامات(2).
* ولهم تفريق آخر وهو أن ((معجزات الأنبياء واجبة لأنهم مبعوثون إلى الخلق فالناس في حاجة إلى معرفة صدقهم ولا يعرف صدقهم إلا بالمعجزة(3).
* وقال القاضيان أبو بكر وأبو يعلى ومعظم المتكلمين أن معجزة النبي يتحدى بها فلا يكون له معارض مشترطين لذلك بشرطين:
* أحدهما: أن تكون معجزة النبي مقترنة بدعوى النبوة فإن ادعاها كاذب لم تكن له معجزة. تفريقاً بينها وبين ا لكرامات.
* وثانيهما: أن لا يقوى أحد على معارضتها. تفريقاً بينها وبين السحر.
مناقشة هذه التعريفات
* فالتعريف الأول وهو ستر الولي للكرامة غير لازم بالضرورة، بل يتعارض مع أحوال كثير من الصحابة والتابعين وغيرهم ممن حصلت لهم كرامات أظهروها مثل ما وقع لخالد بن الوليد حين شرب السم أمام الناس، ومثل مناداة عمر لسارية وهو يخطب أمام الناس، وكذلك دخول أبي مسلم الخولاني النار علانية أمام الناس فصيرها الله له برداً وسلاماً. ومشي العلاء بن الحضرمي على الماء أمام الناس، وكذلك الغلام الذي أتى الراهب وترك الساحر(4).
* أما التعريف الثاني وهو أن معجزات الأنبياء واجبة لتصديقهم، وأن صدقهم لا يعرف إلا بها: جاعلين من وجوب المعجزة فرقاً بينها وبين الكرامة التي ليست واجبة فيقال: إن هذا لا يلزم اشتراطه أيضاً، فكم من نبي لم تظهر على يديه معجزة. مثل لوط ونوح وغيرهما. وإنما حصلت المعجزة الإلهية بإهلاك قومهما من غير أن يمهلوا حتى يروها ليصدقوا، بل كان هلاكهم بها.
__________
(1) الرسالة القشيرية 158- 159 قاله أبو بكر بن فورك.
(2) الرسالة القشيرية 159 جامع الأصول في الأولياء وأنواعهم 277.
(3) الرسالة القشيرية 159.
(4) انظر النبوات 4.(7/67)
ثم إن كثيرين آمنوا بنبينا صلى الله عليه وسلم من غير حاجة إلى معجزة لتصديقه، فقد آمن به النجاشي ولم يكن رآه بعد، وكذلك هرقل بعد السؤال عن صفاته وسيرته، وكان بعضهم يأتيه ويقول: ألله أرسلك؟ فيقول له: نعم، فيؤمن به ويرجع إلى قومه فيسلمون جميعهم وهم لم يروا معجزة.
* أما التعريف الثالث وهو أن النبوة مقرونة بالتحدي وأن الكرامة غير مقرونة بالتحدي، فمن المعجزات النبوية ما لم يكن مقرونا بالتحدي كإخباره بالمغيبات ((لا تقوم الساعة حتى.. ويأتي على الناس زمان...)) وإخباره عن البقرة التي ستتكلم، وقد حصل ذلك بعد موته وعلامات الساعة وكذلك تسبيح الحصى في يده وتكثير الطعام وانتقال الشجرة وحنين الجذع بين يديه.
* ثم إن نزول القرآن في أول الأمر (وهو أعظم المعجزات وأدومها) لم يكن مقرونا بالتحدي فإن أول آيات { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ } فلما قالوا إنه افتراه تحداهم(1)، وقال { فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ } { فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ } .
* ومن الكرامات التي وقعت للصحابة والتابعين ما كان للتحدي كشرب خالد بن الوليد للسم إذ لم يضره ذلك، وكانت سببا في دخول كثيرين في الدين.
فثبت أن دعوى التفريق بضابط التحدي ممتنع فلا يحصل به تفريق ولا يوافق قرائن أحوال نبينا والصحابة وغيرهم.
__________
(1) انظر النبوات 196.(7/68)
ولذلك عدل الشهرستاني عن هذه الطريقة وانتقدها في كتاب ((الملل)) معتبرا أن الله يظهر المعجزة على يد أنبيائه سواء تحدوا أم لم يتحدوا، وأن التحدي لا معنى له(1) ثم جوز أن يخلق الله الآيات على يد الكذابين المدعين للنبوة وهذا ما جوزه ابن تيمية أيضا ذاهبا إلى أنه ((يمكن أن يخلق الله على يد الكاذب ما يدل على صدقه وليس بدليل، مثل خوارق السحرة والكهان كما كان يجري لمسيلمة والعنسي وغيرهما، لكنها ليست دليلا على النبوة لوجودها معتادة لغير الأنبياء، وليست خارقة لعادة غير الأنبياء؛ بل هي معتادة للسحرة والكهان)).
فالتفريط ممن ظنها دليلا لا سيما وأنها دليل على كذب صاحبها فإن الشياطين لا تقترن إلا بكاذب(2) كما قال تعالى: { هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَن تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ 221 تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ } (3).
وعند الأشاعرة أن الساحر أو الكاهن إذا أتى الخوارق يدعي بها النبوة فإن الله يمنعه منها، أما إذا لم يدع النبوة فخوارقه مثل معجزات النبي، اللهم إلا ما منع منه دليل سمعي كامتناع أن يقلب الساحر العصا حية حقيقة(4). ثم قالوا ((لو أدعى الساحر والكاهن النبوة لكان الله ينسيه الكهانة والسحر و لكان له من يعارضه لأن السحر والكهانة معجزة عندهم(5).
وهذا الكلام لا رصيد له في الواقع، بل الواقع يخالفه، فلماذا لم يمنع الأسود العنسي وبابا الرومي ومسيلمة ومكحول الحلبي والحارث الدمشقي من مخاريقهم التي لبسوا بها على الجهال؟(6).
وكيف يمضي الدجال غدا بمخاريقه التي تجعل الناس يلتفون حوله ويتبعونه؟ .
ثم هب أن واحدا ادعى النبوة وأتى بالمخاريق، هل نؤمن بنبوته؟.
__________
(1) الملل والنحل للشهرستاني 3: 25.
(2) النبوات 244.
(3) الشعراء 222.
(4) النبوات 194- 195.
(5) النبوات 197.
(6) راجع النبوات 106.(7/69)
ذكر ابن تيمية أنه ((لو ادعى رجل النبوة وأتى بالخوارق فإنه يصير نبيا عندهم. لكن هذا الكذب لا يمكن أن يحصل، بل يمكنه ادعاء الألوهية ولكنه لا يقدر على ادعاء النبوة مع الإتيان بالخوارق(1).
* فالقسم الثاني من التعريف الثالث وهو ((الخلو عن المعارضة)) وزعمهم أن جميع خوارق السحرة والكهان يجوز أن تكون معجزة لنبي لكن إذا كانت المعجزة له لم يمكن معارضتها (2) وإذا دعاها كاذب قيض الله له من يعارضه.
وهذا معارض بادعاء مسيلمة والعنسي وغيرهما فإنه لم يكن من معارض لهم ثم متى يتم تقييض المعارض؟ فقد يطول ظهور المعارض كما كان الأمر لمسيلمة والعنسي، وكما سيكون للدجال، فهل نعتبر من آمنوا بهم واتبعوهم قبل ظهور المعارض معذورين في هذا الإتباع؟
إن هذا اعتقادهم هذا مفض إلى مخاطر جسيمة لا سيما إذا ابتلاهم الله بظهور الدجال الذي يدعي النبوة أولا ثم الألوهية ثانيا مع أنها ستكون مقرونة حينئذ بالخوارق وتخلو من المعارضة ولو إلى فترة مؤقتة قد يموت خلالها من اتبعه قبل مجيء المعارضة.
أمر آخر وهو أن صاحب المعجزة الكاذب قد يأتي بخوارق لا يقدر من حوله على معارضتها. ربما كانت معتادة وغير خارقة في مكان آخر أو زمان آخر، وهذا عندهم لا يعتبر معارضة.
((فأن المعتبر عندهم خرق عادة من أرسل إليهم، وعلى هذا فإذا أرسل لرسول، إلى بني إسرائيل ففعل ما لم يقدروا عليه كان آية، وإن كان ذلك مما يقدر عليه العرب ويقدر عليه السحرة والكهان، وصرحوا بأن السحر الذي قال الله فيه { وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ } (3) أنه يجوز أن يكون من معجزات الأنبياء إذا لم يعارض))(4).
__________
(1) النبوات 104.
(2) النبوات 195.
(3) البقرة.
(4) النبوات 197.(7/70)
ولهذا كان في كلامهم تعطيل للنبوة وإزراء بمعجزاتها، فإن في ذلك التسوية الكاملة بينها وبين ما يأتيه الساحر والكاهن، اللهم إلا اشتراط شرطين لا وزن لهما.
وهذا ما دعا ابن تيمية إلى القول بأن ((ما يأتي به السحرة والكهان يمتنع أن يكون آية لنبي بل هو آية على الكفر فكيف يكون أية للنبوة وهو مقدور للشياطين؟
ثم عقب ابن تيمية على أقوالهم هذه فقال ((وفي هذه الأقوال من الفساد عقلا وشرعا ومن المناقضة لدين الإسلام وللحق ما يطول وصفه، ولا ريب أن قول من أنكر وجود هذه الخوارق أقل فسادا من هذا، ولهذا يشنع عليهم ابن حزم بالشناعات العظيمة(1).
ولهذا يقضي أكابر فضلائهم مدة يطلبون الفرق بين المعجزات والسحر فلا يجدون.
قال ابن تيمية: ((ولهذا كان منتهى كلامهم في هذا الباب إلى التعطيل، وهذا ما جعل الغزالي وغيره يعدلون عن طريقة الأشاعرة في الاستدلال بالمعجزات على أصولهم، لأنها لا تدل على نبوة نبي))(2).
* قال: ((وآيات الأنبياء لا يقدر عليها جن ولا إنس (3) فهي خارجة عن قدرة الجن والإنس ولله الحمد والمنة.
* ومقدورات الجن هي من جنس مقدورات الإنس لكن يختلف في المواضع، فإن الإنسي يقدر على أن يضرب غيره حتى يمرض أو يموت، بل يقدر أن يكلمه بكلام يمرض به أو يموت، فما يقدر عليه الساحر من سحر بعض الناس حتى يمرض أو يموت هو من مقدور الجن، وهو جنس مقدور الإنس (4).
* وما يأتي به السحرة والكهان من العجائب فذلك جنس معتاد لغير الأنبياء وأتباعهم.. فهو خارق لغير أهله))(5).
__________
(1) النبوات 197- 198.
(2) النبوات 198.
(3) النبوات 198.
(4) النبوات 258.
(5) النبوات 107.(7/71)
ومن ثم يقرر ابن تيمية أنه ((ما من ساحر أو كاهن أو متنبي أتى بخوارق إلا كان مقدورا على الإتيان بمثلها في مكان أو زمان آخر من العالم، فهذا ليس بخارق للعادة وإنما الخارق الحقيقي هو الذي قال الله فيه { قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا } (1).(2). قلت ولذلك فإن الذين يكذبون رسلهم ينسبونهم إلى السحر والكهانة فإن تعلمه معتاد فهو مهارة وحذلقة واستعانة بالجن وكذلك الكهانة ومن يختارها يحصل عليها بخلاف النبوة فإنها اختيار الله واصطفاؤه ومعجزاتها خارقة للسحر والكهانة، ولو كان السحر خارقا حقيقة لما نسبوهم إليه فالساحر لا يخرق عادة ساحر مثله، بل الثاني خبير بسحر الأول فضلا عن أن يخرق بعادته معجزات الأنبياء.
قد يقول قائل: فهل معنى ذلك أن نقرر أنه لا يجوز استعماله هذا المصطلح ((خوارق العادة)) إلا على الأنبياء وأتباعهم؟
يجيب ابن تيمية على هذا السؤال بقوله (((فالذين سموا هذه الآيات خوارق للعادات وعجائب ومعجزات:إذا جعلوا ذلك شرطا فيها وصفة لازمة لها بحيث لا تكون الآيات إلا كذلك فهذا صحيح.
وأما إذا جعلوا ذلك حدا لها وضابطا: فلا بد أن يقيدوا كلامهم مثل أن يقولوا ((خوارق العادات التي تختص بالأنبياء)) ويقولوا: ((خوارق عادات الناس كلهم غير الأنبياء))، فان آياتهم لابد أن تخرق عادة كل أمة من الأمم))(3).
__________
(1) الأسراء 88.
(2) النبوات 216.
(3) النبوات 213.(7/72)
ثم يخلص إلى أن هذا اللفظ محدث ولم يستعمل في كتاب ولا في السنة ((ولهذا لم يكن في كلام الله ورسوله وسلف الأمة وأئمتها وصف آيات الأنبياء بمجرد كونها خارقة للعادة، ولا يجوز أن يجعل مجرد خرق العادة هو الدليل، فإن هذا لا ضابط له وهو مشترك بين الأنبياء وغيرهم(1).(2).
قاعدة
ما كان معجزة لنبي
جاز أن يكون كرامة لولي
تتردد هذه العبارة، من غير تدبر ولا تفحص لمعناها الموحي بتساوي المعجزة والكرامة. وإن المرء ليتساءل: أتعني هذه القاعدة جواز:
* أن ينفلق البحر على يد الولي كما حصل لموسى ؟
* أو يخلق الولي من الطين طيراً كما حصل لعيسى ؟
* أو ينشق للولي القمر كما حصل لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم؟
فإن كرامة الولي مهما عظمت لا يجوز مساواتها بمعجزة النبي، ولا يجوز أن يقال أنه يمكن للولي أن يحصل له مثل ما حصل للنبي. يقول ابن تيمية: ((ومعجزات الأنبياء فوق [كرامات الأولياء] فانشقاق القمر والإتيان بالقرآن، وانقلاب العصا حية، وخروج الدابة من صخرة وكذلك خلق الطير من الطين لم يكن مثله للأولياء. فإن للأنبياء آيات صغارا وكبارا كما قال تعالى { فَأَرَاهُ الآيَةَ الْكُبْرَى } (3). فلله تعالى آية كبيرة وصغيرة.
وقال عن نبيه محمد { لَقَدْ رَأَى مِنْ آَيَاتِ رَبِّهِ الكبرى } فالآيات الكبرى مختصة بالأنبياء، وأما الآيات الصغرى فقد تكون للصالحين مثل تكثير الطعام فهذا قد وجد لغير واحد من الصالحين، لكن لم يوجد كما وجد للنبي صلى الله عليه وسلم أنه أطعم الجيش في شيء يسير، فقد يوجد لغيرهم من جنس ما وجد لهم لكن لا يماثلون في قدره.
فهم مختصون:
* إما بجنس الآيات، فلا يكون لمثلهم كالإتيان بالقرآن، وانشقاق القمر، وقلب العصا حية.
__________
(1) النبوات 14.
(2) لقد ذكر أبن تيمية في خاتمة كتابه (النبوات) عشرة أدلة في التفريق بين المعجزة وبين الكرامة وبينها وبين السحر فليرجع إليها (النبوات 279- 286).
(3) النازعات 20.(7/73)
* وإما بقدرها وكيفيتها كنار الخليل، فإن أبا مسلم الخولاني وغيره صارت النار عليهم بردا وسلاما، لكن لم تكن مثل نار إبراهيم في عظمتها كما وصفوها فهو مشارك للخليل
في جنس الآية كما هو مشارك في جنس الإيمان محبة الله وتوحيده (1). ومسرى النبي صلى الله عليه وسلم إلى بيت المقدس ليريه الله من آياته الكبرى بخلاف من تحمله الجن من مكان إلى مكان لا ليريه الله من آياته الكبرى، ولا يعرج به إلى السماء الدنيا (2).
* فكرامات الصالحين هي من آيات الأنبياء.. ولكن ليست من آياتهم الكبرى))(3).
* فالأولياء دون الأنبياء والمرسلين، فلا تبلغ كرامات أحد قط إلى مثل معجزات المرسلين، كما أنهم لا يبلغون في الفضيلة والثواب إلى درجاتهم، ولكن قد يشاركونهم في بعضها كما قد يشاركونهم في بعض أعمالهم(4).
وفي الختام يؤكد ابن تيمية:
أن الله فضل الأنبياء على غيرهم، وفضل بعض النبيين على بعض، فلا بد أن يمتاز الفاضل بما لا يقدر المفضول على مثله إذ لو أتى بمثل ما أتى لكان مثله لا دونه))(5).
__________
(1) النبوات 198- 199.
(2) هذه المسألة دقيقة جدا وتظهر فقه هذا الرجل فإن كتب الصوفية- وهم أشاعرة أو ما تريديه في الاعتقاد- مليئة بقصص شبيهة بمعجزات الأنبياء بل قد تزيد مثل عروج مشايخهم إلى السماء وأن الشيخ بهاء الدين نقشبند له كل يوم عروج إلى ما فوق عرش الرحمن وكذلك عثمان السالم أبادي يعرج كل يوم إلى السماء ويغير ما في اللوح المحفوظ بلا معارضة (قلادة الجواهر 193و 199) وأن الشمس قد توقفت لهم، وأن الملائكة شقت قلب الرفاعي وأخرجت منه شيئا مظلما مثلما فعلوا للنبي صلى الله عليه وسلم (قلادة الجواهر 141) وأنه أمسك عظام طير ثم نفخ فيها وقال كوني حية بإذن الله (قلادة الجواهر 73 وإرشاد المسلمين 124 وأنظر جامع كرامات الأولياء 2: 151 وغير هذا كثير لا يحصى. كما ستراه في الفصل القادم.
(3) النبوات 282.
(4) النبوات 4.
(5) النبوات 218.(7/74)
أصح التعاريف للكرامة
وبعد هذه الجولة نضع التعريف البديل، وأنسب ما في ذلك تعريف ابن تيمية عن آيات الأولياء:
* ((بأنها من جملة آيات الأنبياء لأنها مسلتزمة لنبوتهم ولصدق الخبر بنبوتهم))(1). إذ بهذا التعريف يتم اجتناب ما وقع فيه الأشاعرة وغيرهم كالقاضي وغيره.
* أولا: رفع المعجزة فوق خوارق الجميع.
* ثانيا: التفريق بين المعجزات وبين الكرامات وأن الثانية تبع للأولى ودليل من أدلة صحة النبوة.
* ثالثا: رفع الكرامة عن أن تكون من جنس مخاريق السحرة والكهان.
* رابعا: معرفة السبب الذي من أجله تحصل الكرامة أن لله فيها حكمة وليست لمجرد نزوات الشيخ وتبعا لمشيئته وإرادته(2) ولهذا يرتب ابن تيمية هذه الأجناس الثلاثة إلى ثلاث مراتب:
* آيات الأنبياء.
* كرامات الصالحين.
* خوارق الكفار والفجار والسحرة والكهان(3). وذلك احترازاً منه عن تسمية الجميع خوارق عادة. فان ما أتى به النبي أعظم عند المسلم مما أتى به الولي.
لماذا كانت الكرامة
سؤال مهم يجب أن نتعرف على جوابه بصدق وتجرد؛ لأن الخطأ في فهم الولي وفهم الكرامة أديا إلى انحراف عظيم، وفتحا بابا لخدع وحيل الشياطين التي صارت تظهر لرجال التصوف بمظهر رجال الغيب والخضر وغير ذلك، وأخذت عندهم قبولا وسروا ظنوها كرامات وكشوفات، ولم تكن في الحقيقة سوى مخادعات. ثم لم يعد هناك ضابط للكرامة، ومعرفة بسببها. وغاب عنهم أن الكرامة ما كانت إلا لنصرة الدين وإقامة السنة وتأييد ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم. فهي كما- يصفها ابن تيمية- ((من دلائل النبوة ومن جملة آياتهم فإنها مستلزمة لنبوتهم ولصدق الخبر بنبوتهم))(4) فلا يمكن من لا يصدق النبي أن يعارضهم. مثال ذلك:
__________
(1) النبوات 205.
(2) سيأتي بحث هذه المسألة بالتفصيل في الفصل القادم.
(3) أنظر النبوات 4.
(4) النبوات 205.(7/75)
* ما حدث للأسود العنسي الذي قال لأبي مسلم الخولاني: أتشهد أني رسول الله؟ فقال: ما أسمع. قال: أتشهد أن محمدا رسول الله ؟ قال: نعم. فألقاه النار فصارت عليه بردا وسلاما. (1).
* ومثل المؤمن الذي يقتله الدجال ثم يحييه فيقوم فيقول: أنت الأعور الكذاب الذي أخبرنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم والله ما ازددت فيك إلا بصيرة، فيريد الدجال أن يقتله فلا يقدر على ذلك.
قال ابن تيمية ((فهذا الرجل يقوم بعد أن يقتله الدجال ويقول للدجال: أنت الأعور الكذاب، فيعجزه عن قتله ثانيا- مع تكذيب الرجل له بعد أن قتله، وشهادته للرسول محمد بالرسالة- هو من خوارق العادات التي لا توجد إلا لمن شهد للأنبياء بالرسالة، وهذا الرجل من خيار أهل الأرض من المسلمين. فهذا الخارق الذي جرى فيه هو من خصائص من شهد لمحمد صلى الله عليه وسلم بالنبوة، فهو من أعلام النبوة ودلائلها)).
((ومعلوم أن إحياء الله له لم يكن معجزة للدجال ولا ليبين بها صدقه، لكن أحياه ليكذب الدجال وليبين أن محمدا رسول الله، وأن الدجال كذاب، وأنه هو الأعور الكذاب الذي أنذر به النبي (2).
* ولا ننسى قصة خالد بن الوليد حين شرب السم ولم يضره.
* وقصة عمر حين نادى سارية. فهذه كرامات حصلت لتأييد الدين وإعلاء كلمته، فلا تحدث حسبما يهواه الولي الذي يروي الصوفية أنه يشتهي اليوم طعاما فتتنزل عليه رجال الغيب بما يشتهي، أو ينام فيرى النبي يعطيه الرغيف فيفيق ويجد نفسه ممسكا به، إلى غير ذلك من حكاياتهم(3) التي ضحك علينا بسببها أعداء هذا الدين.
وإنما للكرامة غاية سامية شريفة ولحدوثها سبب مهم يحصل به تأييد وتأكيد لما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم.
أما هذه الحكايات فتجدها خالية عن أي سبب بل منها ما يناقض الدين ويطعن في النبوة بل والألوهية.
__________
(1) أنظر البداية والنهاية 6: 267- 269.
(2) النبوات 215.
(3) سنوردها فيها بعد.(7/76)
ثم صار منها ما يحكي خروج الميت يخرج من قبره ليقضي الحوائج ويتصرف في الكون ويربي المريدين وهو في قبره، فهل هذه كرامات من عند الله؟!!
غلوا المتصوف في الكرامات
وقد غلا المتصرفة في شأن الكرامات وأدت إلى انحرافات عديدة:
* فمنها ما خالف صريح الكتاب والسنة.
* ومنها ما كان تشبها بالنبي وأحواله ومعجزاته.
* ومنها ما كان فيه منازعة لمقام الألوهية.
* ومنها ما يحث على العكوف عند القبور ودعاء الأموات والاستغاثة بهم والتحدث بخصائص وقدرات أصحاب القبور.
نماذج من كراماتهم
* مثاله ما نقله الغزالي عن التستري ((أن لله عبادا لو سألوه إلا يقيم القيامة لما أقامها، وكذلك ما نقلوه عن ذي النون أن من عباد الله من لو سأله زوال الدنيا لأزالها له))(1).
- وذكروا أن شخصا دخل على الرفاعي وعلى جبهته مكتوب سطر الشقاوة فمحاه الشيخ ببركته (2).
- وكان يقول ((كل شيخ لا يغير صفات تلميذه ويكتب الشقي سعيدا فما هو عندنا برجل ))(3).
- وقال أحمد الرفاعي ((أعلم أني لما دعيت إلى هذا الأمر حملت إلى قبلة هذا البلد وشق صدري ملك من الملائكة المقربين فأخرج منه شيئا مظلما وغسله بماء الحيوات من الرياء وسؤ الخلق وكل ما كان للشيطان فيه نصيب، كل ذلك وأنا أنظر بعيني كما فعل برسول الله (4).
- وزعم الشعراني أن مما من الله به عليه ((نوم عيني دون قلبي بحكم الإرث لرسول الله(5).
- ويروي أصحاب طبقات الصوفية أن علي بن محمد الدينوري أوتي حرف [كن] لكنه قال ((تركت قولي للشيء كن فيكون تأدبا مع الله))(6).
__________
(1) أحياء علوم الدين 4: 356 وقد أنكر الشعراني أن يرد في كلام الغزالي شيء كهذا، أنظر لطائف المنن 199- 200 وأنظر حلية الأولياء لأبي نعيم 9: 394.
(2) قلادة الجواهر 103 طبقات الصوفية لابن الملقن 98.
(3) قلادة الجواهر 94.
(4) قلادة الجواهر 141 الفجر المنير 8.
(5) لطائف المنن 221.
(6) جامع كرامات الأولياء 2: 158.(7/77)
- ولذلك كانت أول الكرامات عند الصوفية ((إحياء الموتى))(1). وهذا الاعتقاد مبني عندهم على ما قاله الشعراني أن الله يقول ((يا بني أدم أطيعوني أطعكم، واختاروني أختركم، وأحبوني أحبكم، وراقبوني أراقبكم، وأجعلكم تقولون للشيء كن فيكون))(2). فهل حقا يعطي الله الكلمة- التي خلق بها الخلق- إلى مخلوق ليخلق بها؟ وما حكم من يتفوه بمثل هذا الكفر؟.
يجيب ابن تيمية على ذلك فيقول ((ومن قال إن أحدا من أولياء الله يقول للشيء كن فيكون فأنه يستتاب، فأن تاب و إلا قتل، فأنه لا يقدر أحد على ذلك إلا الله سبحانه وتعالى))(3).
- وقد يستعملون لفظا آخر أكثر انتشارا بينهم وهو ((التصرف في الكون)) فالشيخ سويد السنجاري يعتبر واحدا ممن ملكهم الله تعالى التصرف في العالم (4).
- والشيخ حياة بن قيس الحراني متصرف حين كان حيا ومتصرف بعد موته (5).
- ونسب إلى الشيخ الرفاعي قوله بأنه ((لا يزال الولي يرتقي وترتفع منزلته حتى يكلفه الله مهمة ما بين السموات والأرض، ثم لا يزال يرتقي من سماء إلى سماء حتى يصل إلى محل الغوث، ثم ترتفع صفته إلى أن يصير صفة من صفات الحق تعالى فيطلعه على غيبه حتى: لا تنبت شجرة ولا تخضر ورقة ألا بنظره))(6).
* وأما الثاني: فقد حثوا الناس على الاستغاثة بالأولياء ومشايخ الصوفية.- فالشيخ غياث ((يستغيث به تجار اليمن في شدائد البحر ومضايق البر))(7).
*والشيخ أحمد بن علوان ((يستغيث به أهل المراكب إذا مسهم الضر في البحر))(8).
__________
(1) الكواكب الدرية 11.
(2) طبقات الشعراني 1: 142.
(3) مختصر الفتاوى المصرية 589.
(4) طبقات الشعراني 1: 152.
(5) طبقات الشعراني 1: 153 جامع كرامات الأولياء 1: 410- 411.
(6) الفجر المنير 20 طبقات الشعراني 1: 143 قلادة الجواهر 147- 148.
(7) جامع كرامات الأولياء 2: 33.
(8) جامع كرامات الأولياء 1: 318.(7/78)
- ويذيع القشيري نداء معروف الكرخي ((إذا كانت لك حاجة إلى ، الله فأقسم عليه بي)) ثم يذكر القشيري أن قبر معروف الكرخي يستشفى به، وأنه أي لترياق المجرب))(1) وروى قصة مفادها أن أحد المتصوفة جاء إلى أبي يعقوب السوسي يخبره أنه سيموت غدا ظهرا وأوصاه بدفنه، فلما وضعه في اللحد فتح عينيه فقال أبو يعقوب ((أحياة بعد الموت؟ فقال: أنا حي وكل محب لله حي))(2) .
- ((فالعارفون لا يموتون وإنما ينقلون من دار إلى دار!! (3).
- وقال أخر ((أنا من المتصرفين في قبورهم فمن كانت له حاجة فليأت إلى قبري وليطلب حاجته أقضها له (4).
- وزاد أخر ((وادعوني فأني أحضركم أينما كنتم))(5) وزعم بعضهم أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له ((أن أردت أن يفتح الله عليك فخذ من قبر الضرير شيئا وابتلعه على الريق ففعل))(6).
- وجاء شارح جوهرة التوحيد ليبرر هذا الانحراف فذهب إلي لزوم أثبات كرامات الأولياء في الحياة وبعد الممات وذكر أن جمهور أهل السنة (7)ذهبوا إلى ذلك. ثم قال ((ولذا قيل: من لم تظهر كراهته بعد موته كما كانت في حياته فليس بصادق، قال الشعراني ((ذكر لي بعض المشايخ (8)أن الله تعالى يوكل بقبر الولي ملكا يقضي الحوائج، وتارة يخرج الولي من قبره ويقضيها بنفسه))(9) انتهى
__________
(1) الرسالة القشيرية 9 قلادة الجواهر 437.
(2) الرسالة القشيرية 171.
(3) قال ذلك الجنيد.
(4) لطائف المنن 198.
(5) طبقات الشعراني 2: 96و 105 وجامع كرامات الأولياء 2: 115.
(6) جامع كرامات الأولياء 2: 117.
(7) يعني أهل سنته.
(8) دليله ((قال المشايخ. لأنه لا دليل على هذا الشرك من الله ورسوله))
(9) شرح جوهرة التوحيد 153 للشيخ إبراهيم الباجوري ط دار الكتب العلمية ط بيروت 1983.(7/79)
- وذكر الشعراني أن غالب الأولياء لهم السراح والإطلاق في قبورهم وأنهم يذهبون ويجيئون متى شاؤا ثم حكى عن نفسه أنه ذهب إلى قبر ابن الفارض فلم يجده (1) في قبره ثم جاء ابن الفارض بعد أن لك وقال له ((أعذرني فأني كنت في حاجة))(2).
وهكذا صار القبر مسجدا يأوي إليه ذوو الحاجات، وصار الولي قبلة الدعاء حيا كان أو ميتا، ومحط الآمال. وهذه عودة إلى الزلة الأولى التي وقع قوم نوح حين اتخذوا قبور صالحي قوم نوح (ود وسواع ويغوث ويعوق ونسر)(3) مسجدا. وهذا تحقيق قول النبي صلى الله عليه وسلم ((لا تقوم الساعة حتى تلحق قبائل من أمتي بالمشركين وحتى تعبد الأوثان))(4).
الاستغاثة بالمخلوق
والاستغناء عن الخالق
وتجد في مقابل ذلك عندهم استغناء عن الله وإعراضا عنه، حتى قال بعضهم ((حقيقة المحبة أن ينسي العبد حظه من الله عز وجل، وينسى حوائجه إليه))(5).
- وسئل المظفر القرميني عن علامة الفقير فقال ((أن لا يكون له إلى الله حاجة))(6).
- وأما مقام الرضا عند أبي سليمان الداراني فهو ((أزا لا تسأل الله الجنة ولا تستعيذ به من النار))(7).
- وقيل للشبلي ((ألا تعلم أنه رحمن؟ فقال بلى ولكن منذ علمته ما سألته أن يرحمني))(8).
__________
(1) قوله ((لم أجده)) ذكر الشعراني أن مما أنعم الله به عليه معرفته ومكاشفته للولي هل هو في القبر أم أنه خرج لحاجة (أنظر لطائف المنن 232).
(2) لطائف المنن 232.
(3) مع أنه صاحب المقولة المشهورة وقد قيل ((كم من ضريح يزار وصاحبه في النار)) لطائف المنن 109.
(4) أخرجه البخاري في الأمارة (1920) وأبو داود (32) وخرجه الألباني في مشكاة المصابيح (5406).
(5) الرسالة القشيرية 145.
(6) الرسالة القشيرية 125.
(7) الرسالة القشيرية 90.
(8) الرسالة القشيرية 100.(7/80)
- وقرأ أحدهم قوله تعالى { إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ } فقال ((اللهم لا تجعلني منهم))(1). وذلك لأن فيها كلمة [شغلا]، وهم لا يريدون أن ينشغلوا عن الله بشيء!!
كرامات مسروقة
إن تنافس أصحاب الطرق على المريد جعلهم يروون من عجائب الكرامات ما يغرونه به ليختار طريقتهم، ومن أجل ذلك عمدوا إلى اقتباس الكرامات عن بعض كتب المتصوفة المتقدمين. أو من كتب أصحاب الطرق الأخرى ونسبتها إلى شيوخ طريقتهم لإثبات ولايتهم وكرامتهم، وأن طريقتهم أولى بالإتباع من أصحاب الطرق الأخرى. ولأضرب مثلا على ذلك بسرد أربع كرامات.
* الكرامة الأولى
عن أبي سعيد الخراز قال ((دخلت المسجد الحرام فرأيت فقيرا عليه خرقتان فقلت في نفسي هذا وأشباهه كل على الناس، فناداني وقال: { اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ
فَاحْذَرُوهُ } فاستغفرت الله في سري فناداني وقال { الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ } (2).
- فهذه القصة ذكرها القشيري ونقلها الغزالي عنه. ثم جاء الكلاباذي فنسبها إلى أبي العباس بن المهتدي ((كنت في البادية فرأيت رجلا يمشي حافي القدم حاسر الرأس ليس معه ركوة))(3) فقلت في نفسي: كيف يصلي هذا الرجل؟ فالتفت إلي وقال { اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ } قال: فسقطت مغشيا علي فلما أفقت استغفرت الله.. فالتفت إلي ثم قرأ { وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ } (4).
- ثم يأتي النبهاني ويستعمل سياق القشيري نفسه، وينسبها إلى إبراهيم الخراساني (5).
*الكرامة الثانية
__________
(1) الأنوار القدسسية 1: 32.
(2) أحياء علوم الدين 3: 25 الرسالة القشيرية 108.
(3) الركوة ضرورية عند خروج الصوفية للسياحة إلى الله. ولا يأخذون شيئا غيرها لا طعام ولا مال.
(4) التعرف لمذهب أهل التصوف 151.
(5) جامع كرامات الأولياء 1: 235.(7/81)
قال أبو عبد الله بن الجلاء ((دخلت مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم وبي شيء من الفاقة، فتقدمت إلى القبر وسلمت على النبي صلى الله عليه وسلم على ضجيعيه أبي بكر وعمر ثم قلت: يا رسول الله بي فاقة وأنا ضيفك الليلة. ثم تنحيت ونمت بين القبر والمنبر فإذا أنا بالنبي عليه السلام جاءني ودفع إلي رغيفا فأكلت نصفه فانتبهت فإذا في يدي نصف الرغيف))(1).
ويستعمل النبهاني السياق نفسه لرجل أخر هو أبو عبد الله بن الجلاء(2) ويأخذ السياق نفسه وينسبه إلى رجل أخر هو: أبي الخير التيناتي))(3).
* الكرامة الثالثة
دعا رجل أبا عثمان الحيري إلى ضيافة فلما وافى باب داره قال ((يا أستاذ ليس الآن وقت دخولك وقد ندمت (على الدعوة) فانصرف أبو عثمان ثم دعاه الثانية فجاء، ثم أمره الداعي بالانصراف فانصرف، ثم دعاه الثالثة فرجع وهكذا حتى الرابعة وأبو عثمان ينصرف ويحضر، إلى أن قال له: يا أستاذ أردت اختبارك، وأخذ يعتذر ويمدحه فقال أبو عثمان: لا تمدحني على خلق تجد مثله مع الكلاب، الكلب إذا دعي حضر وإذا زجر أنزجر))(4) والقصة مأخوذة بحذافيرها ومنسوبة إلى الشيخ أحمد الرفاعي ولكن في أخرها اختلاف في اللفظ وهو ((فقال السيد أحمد: يا ولدي أتستكثر علي خصلة من خصائل الكلب؟))(5).
* الكرامة الرابعة
__________
(1) التعرف 154 والرسالة القشيرية 178.
(2) جامع كرامات الأولياء 1: 292.
(3) جامع كرامات الأولياء 1: 271.
(4) الرسالة القشيرية 111 الأحياء 2: 71و 4: 358.
(5) المعارف المحمدية 74 قلادة الجواهر 54.(7/82)
وكان لأحد المشايخ تلاميذ فكان يخص واحدا منهم بالإقبال عليه، فاعترضوا على ذلك، فقال: أبين لكم، فدفع إلى كل واحد تلامذته طائرا، وقال له: اذبحه بحيث لا يراك أحد. فمضوا ورجع كل واحد منهم وقد ذبح طائره. أما هذا الطالب فقد جاء بالطائر حيا فقال: هلا ذبحته؟ فقال: أمرتني أن أذبحه بحيث لا يراه أحد ولم أجد موضعا لا يراه فيه أحد فقال الشيخ: لهذا أخصه باقبالي))(1).
فجاء أحد الرفاعيين المتأخرين ((محمد أبو الهدى الصيادي الرفاعي)) ليقتبسَ هذه المنقبة ويجعلها للشيخ أحمد الرفاعي حين كان حديث السن، وزاد في أخرها (فقال الشيخ يا أحمد: لأي شيء جئت بلا ذبح؟ فقال: يا سيدي شرطتم علي خلو المكان وكل موضع ذهبت إليه رأيته مشغولا بالله تعالى وهو حاضر ناظر، وما رأيت مكانا خاليا قط، فلذلك ما ذبحتها))(2).
فهذه النماذج توضح مدى الكذب الحاصل في روايات الكرامات العجيبة المسطورة في كتب التصوف، ولذا فإن المنكر لهذه الكرامات لا يكون منكراً لكرامات الأولياء، لا سيما إذا كان مقراً بأن من منهج أهل السنة والجماعة إثبات الكرامة، فإن إنكار الكرامة ضلالة وانحراف عن الحق، وإنما يكون منكراً للخرافة التي لا سند لها، بل غالبها مسروق مقتبس على النحو الذي رأيت.
كشف الولي ووحيه عند الصوفية
قال الشعراني (ومما يتميز به الصوفية عن الفقهاء: الكشف الصحيح عن الأمور المستقبلية وغير ذلك فيعرفون ما في بطون الأمهات أذكر هو أم أنثى أم خنثى ويعرفون ما يخطر ببال الناس وما يفعلونه في قعور بيوتهم))(3).
وذكر من شروط الولي الصادق ((أن يكون عنده علم يكشف به الحقائق ينظر أحوال مريده في اللوح المحفوظ يعلم ما جاز وما وجب وما استحال، يلاحظ مريده من حين كان في عالم الذر قبل وروده وهبوطه إلى أصلاب الآباء وبطون الأمهات))(4).
مخاطبة الله
__________
(1) الرسالة القشيرية 88.
(2) قلادة الجواهر 41.
(3) جامع كرامات الأولياء 2: 325.
(4) لطائف المنن463.(7/83)
ويؤكد بأن ((الولي المتصل بالله تعالى يناجي ربه كما كان موسى عليه السلام يناجي ربه))(1).
وقال الغزالي ((واطوِ الطرق، فإنك بالواد المقدس طوى، واستمع بسير قلبك لما يوحى، فلعلك تجد على النار هدى، ولعلك من سًرادقات العرش تُنادى بما نودي به موسى إني أنا ربك))(2).
ومثله السهروردي المقتول الذي بلغ به غلوه أن قال ((لا أموت حتى يقال لي: { قم فأنذر } (3).
ويذكر الكشمخانلي أن طبقة من الأولياء هي طبقة (الرحمانيين) الإلهيين ((وهم ثلاثة أيضا عند الوحي والحوادث يجلسون عرايا على حجر مليح يسمعون الوحي ويفهمون المراد منه(4).
وصرح عماد الدين الأموي بأن السالكين إذا قطعوا مفاوز الطريق أشرفوا على رؤية الملكوت الأعظم مثل اللوح المحفوظ والقلم واليمين الكاتبة وملائكة الله، وهي تطوف حول العرش ثم يتخطون ذلك إلى معرفة الخالق، للكل فتغشاهم الأنوار وتتجلى لقلوبهم الحقائق المحتجبة ويشاهدون مالا يشاهده غيرهم من تصريف الرب))(5).
يشمون رائحة المعاصي
* ولهم إطلاع حتى على المعاصي. فالشيخ أحمد النجاتي ((أطلعه الله على معاصي العباد فكل من لقي من العصاة بصق عليه))(6).
__________
(1) طبقات الشعراني 1: 181.
(2) إحياء علوم الدين 4: 251.
(3) درء تعارض العقل والنقل 1: 318 وعوارف المعارف 5: 56 ملحق بالإحياء.
(4) جامع أصول في الأولياء وأنواعهم 133.
(5) حياة القلوب في كيفية الوصول إلى المحبوب 2: 275 على هامش قوت القلوب ط صادر.
(6) جامع كرامات الأولياء 1: 327.(7/84)
قال الشعراني ((ومما منّ الله تبارك وتعالى به علي: شمي لروائح المعاصي إذا وقعت في معصية من معاصي أهل الطريق، فأشم نتان كل معصية على حسب تناولها في القبح من كبائر وصغائر ومكروهات، وأشم رائحة ((خلاف الأولى))(1)؟ وذكر أن شيخه على الخواص كان إذا نظر في الميضأة التي يتوضأ منها الناس يعرف جميع الذنوب التي غفرت وخرت في الماء من غسالتها، ويعرف أهل تلك الذنوب على التعيين ويميز بين غسالة كل ذنب عن آخر من كبائر وصغائر ومكروهات وخلاف الأولى))(2).
قال أحد مريدي الشيخ أبي بكر بن عيسى ((ومما وقع لي أني كنت أرى شيخي يطلع على ما يصدر مني حال غيبتي، فإذا اشتغلت بطاعة قابلني يوجه مسرور وإذا اشتغلت بلعب قابلني بضد ذلك))(3).
وعن أبي سعيد الخراز قال ((دخلت المسجد الحرام فرأيت فقيرا عليه خرقتان فقلت في نفسي هذا وأشباهه كل على الناس، فناداني وقال: { والله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه } فاستغفرت الله في سري فناداني وقال { وهو الذي يقبل التوبة عن عباد } (4).
أما فينقل عن الداراني أنه كان يصف أبا عدى الأنطاكي والسري السقطي وبشر بن الحارث أنهم ((جواسيس القلوب))(5). ويقول كلاما عجيباً وفيه ((أن الله يفتح للعارف وهو على فراشه مالا يفتح لغيره وهو قائم يصلي))(6).
وروى يوسف النبهاني أن الشيخ القناوي كان إذا شاوره إنسان في شيء يقول (أمهلني حتى أستأذن لك فيه جبريل عليه السلام. فيمهله ساعة ثم يقول: افعل أو لا تفعل على حسب ما يملي عليه جبريل))(7).
__________
(1) لطائف المنن 689.
(2) لطائف المنن 50.
(3) جامع كربات الأولياء 1: 267.
(4) أحياء علوم الدين 3: 25 الرسالة القشيرية 108.
(5) الرسالة القشيرية 18.
(6) الرسالة القشيرية 142.
(7) جامع كرامات الأولياء 2: 68 طبقات الصوفية للشعراني 1: 157.(7/85)
* فهذا الغيب والوحي الذي يدعيه هؤلاء، كالإطلاع على المستور والمكنون ومعرفة الأحداث المستقبلية هو من الكهانة التي اشتهر بها أحبار اليهود والنصارى.
لذا كان هؤلاء كهان أمة محمد فإنهم يزعمون أنهم يكاشفون مريديهم بما في صدورهم، ويطلعون على حملة العرش وما في اللوح المحفوظ. وكثير من مريديهم يقلعون عن المعاصي ويتوبون مخافة أن يطلع مشايخهم على حالهم.
الغزالي وموقفه من الكشف
وقد كان الغزالي أبرز من تكلم عن الكشف عند الصوفية كما هو واضح في كتابه الإحياء فإنه جعل الكشف هو الفرقان بين الحق والباطل وهو الميزان في قبول أو رد ما وقع فيه الاختلاف بين الأمة. وقد دعا إلى فض الاختلاف بالاحتكام إلى الكشف فما وافقه الكشف فهو الصحيح الذي نأخذ به، وما خالفه فهو باطل مردود))(1).
والكشف يبتدئ ببداية سلوك طريق التصوف ((ومن أول الطريقة تبتدئ المكاشفات والمشاهدات حتى أنهم في يقظتهم يشاهدون الملائكة وأرواح الأنبياء ويسمعون منهم أصواتا ويقتبسون منهم فوائد))(2).
فأهل التصوف لهم ((ميل إلى الألهية دون التعليمية، ولذلك لم يتعلموا ولم يحرصوا على دراسة العلم وتحصيل ما صنفه المصنفون))(3).
أضاف الغزالي ((بل قد تتمثل للأنبياء والأولياء صورة جميلة محاكية لجوهر الملائكة وينتهي إليهم الوحي والإلهام فيتلقون من أمر الغيب ما يتلقاه غيرهم في النوم وذلك لشدة صفاء باطنهم))(4). ولم لا فإن ((لقلب الولي باباً مفتوحاً إلى عالم الملكوت وهو اللوح المحفوظ))(5).
ويأتي الشعراني ويصرح بأن طريق القوم ((ذوق لا نقل)) وأن كل من كان علمه مستفاداً من النقل فليس بعالم))(6).
__________
(1) إحياء علوم الدين 1: 104.
(2) المنقذ من الضلال 50.
(3) الإحياء 3: 19.
(4) فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة 130 (ضمن مجموعة القصور العوالي).
(5) الإحياء 3: 20.
(6) الأنوار القدسية 1: 82.(7/86)
فالكشف صار عند الغزالي والصوفية مصدرا من مصادر تلقي الدين وتعلم العقيدة كما قال البيجوري عندما ذكر طرق تعلم المقيدة ((ويقوم مقام ذلك ما لو عرف المقائد بالكشف))(1) أي تعلم أصول العقيدة وتخريج الأحاديث بالكشف. فقد يصح الحديث الضعيف بالكشف وربما العكس أيضا. فيجتمع الولي الصوفي برسول الله صلى الله عليه وسلم ويسأله عن حديث صحيح في البخاري: هل قلت هذا الحديث يا رسول الله؟ فيقول: لا لم أقله. وربما سأله عن الحديث الموضوع هل قلته يا رسول الله؟ فيقول: نعم قلته.
ولهذا ذكر البيجوري أنه صح عند أهل الكشف حديث إحياء الله لوالدي النبي صلى الله عليه وسلم فآمنا ثم أماتهما (2).
ويبكي أبو يزيد أسفا على أهل الحديث وطلبة العلم لأنهم ((مساكين، أخذوا علمهم ميتا عن ميت وأخذنا علمنا عن الحي الذي لا يموت))(3). جاعلا ما نزل به جبريل من عند الله كالجنة الهامدة، وما تلقاه أهل الكشف عن الشياطين روحا تبث فيها الحركة والحياة، وانتهى أمرهم إلى أن صاروا ينفرون من العلم وطلب الحديث ويذمون الفقه والفقهاء، وكأن من أراد الله به شرا [في نظرهم] يفقهه في الدين.
وهذا التماس للهدى من غير الطريق التي أمرنا الله أن نعتصم بها وأمرنا رسوله صلى الله عليه وسلم أن نعض عليها بالنواجذ. وحري بمن التمس الهدى من غير كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم أن يضله الله. ثم ما فائدة جهود علماء الحديث إن كان تخريج الحديث يتم مباشرة من الله بدلا من متابعة الرواة وأسانيد الرجال!.
تعقيب ابن تيمية على القائلين بالكشف
وقد رد ابن تيمية على قول أبي يزيد قائلا:
((فيقال له: بأمر من تأمر؟ فأن قال: بأمر الله، قيل له: بأمر الله الذي بعث به رسوله وأنزل به القرآن أم يأمر وقع في قلبك؟
فإن قال بالأول ظهر كذبه..
__________
(1) شرح جوهرة التوحيد للبيجوري 22.
(2) شرح جوهرة التوحيد 43.
(3) تلبيس إبليس 321.(7/87)
وإن قال: بأمر وقع في قلبي لم يكذب. ولكن يقال له: من أين لك أن هذا رحماني، ولما لا يكون الشيطان هو الذي أمرك بهذا؟))(1).
وله رد أخر يقول فيه أما ما نقله الثقات عن المعصوم فهو حق، ولولا النقل المعصوم لكنت أنت وأمثالك إما من المشركين وإما من اليهود والنصارى))(2).
* ثم يعقب ابن تيمية على قول الغزالي قائلا بأن ((هذا الكلام مضمونه أنه لا يستفاد من خبر الرسول شيء من الأمور العلمية بل أنما يدرك ذلك كل إنسان بما حصل له من المشاهدة والنور والمكاشفة))(3) ويجعل مصدر أقوال الغزالي في المكاشفة من المتفلسفة والقرامطة الباطنية الذين يجعلون النبوة مكتسبة بعد استعداد الإنسان لها بالرياضة والتصفية فيفيض عليه حينذاك ما فاض على الأنبياء من قبله))(4).
* قال ((ومعلوم أن أفضل أولياء الله بعد الرسل أبو بكر الصديق رضي الله عنه وقد ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له لما عبر الرؤيا ((أصبت بعضا وأخطأت بعضا))(5).
__________
(1) الفرقان بين الحق والباطل 1: 162- 164 (ضمن مجموعة الرسائل الكبرى).
(2) الفرقان بين الحق والباطل 561.
(3) درء تعارض العقل والنقل 5: 348 تحقيق د محمد رشاد سالم.
(4) درء تعارض العقل والنقل 5: 357 وشرح العقيدة الأصفهانية 135 وأنظر كتابي الغزالي والتصوف 163- 197 ففيه تفصيل الكشف عند الغزالي.
(5) رواه مسلم (2269) وأبو داود (4632) والترمذي (2294).(7/88)
* وقد شهد النبي صلى الله عليه وسلم لعمر بأنه ملهم هذه الأمة كما في الحديث ((إن يكن من بعدي محدثون(1) فعمر منهم(2) ومع هذا فقد كان كثير الاستشارة للصحابة بل كانت تخفى عليه بعض الأحكام))(3) ولم يكن يستدل بين على كشوفاته في الدين شيئا، بل كان يقول ((إن الناس أنما كانوا يؤخذون بالوحي على عهد النبي صلى الله عليه وسلم. وإن الوحي قد انقطع وإنما نأخذكم الآن بما ظهر لنا من أعمالكم))(4) فلم يكن يأخذ الناس بما استتر من أعمالهم ومعاصيهم كما يدعي الشعراني وغيره من الصوفية. غير أن لفظ المحدثين له عند الترمذي الحكيم مفهوم آخر. فالمحدثون (أي الملهمون) لهم منازل. فمنهم من أعطي ثلث النبوة، ومنهم من أعطي نصفها، ومنهم من له الزيادة))(5).
عصمة الولي عند الصوفية
يعرف القشيري الولي بأنه ((من توالت طاعته من غير تخلل معصية)) وأن الله ((يتولى حفظه فلا يخلق له الجذلان الذي هو القدرة على العصيان))(6):
فهاهنا صفتان للولي:
* الأولى توالي الطاعات من غير أن تتخللها معصية.
* الثانية أن يحفظه الله بحيث لا يقدر على العصيان.
قال ((وكلا الوصفين واجب حتى يكون الولي وليا...)) لأن
((من شرط الولي أن يكون محفوظا كما أن من شرط النبي أن يكون معصوما)).
__________
(1) أي مفهمون.
(2) أخرجه البخاري رقم (3689) ومسلم (2398).
(3) أنظر الصفدية 1: 253 ومجموعة الرسائل والمسائل 2: 70 والفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان 52- 53.
(4) قال الحافظ أبن حجر ((أخرجه البخاري)) التلخيص الحبير 4: 192.
(5) ختم الولاية 347.
(6) الرسالة القشيرية 160- 117.(7/89)
ومن هنا ترى أن التفريق بين حفظ الولي وبين عصمة النبي ليس إلا حذلقة وحذرا من التصريح بعصمة الولي مع الحرص على إثبات عصمته في نفس الوقت. وهو تفريق لا يحصل به أي فرق. فما معنى ((توالي الطاعات من غير تخلل معصية)) و ((حراسة الله للولي على التوالي)) إلا أن تكون صفات الولي المحفوظ هي نفسها شروط النبي صلى الله عليه وسلم.
قال في مختار الصحاح ((والعصمة أيضا بمعنى الحفظ))(1) كذلك عزف البيجوري أشارح جوهرة التوحيد، العصمة لغة بأنها: مطلق الحفظ واصطلاحا حفظ الله للمكلف من الذنب مما استحالة وقوعه(2). وقد توقع القشيري أن يسأل السؤال التالي:
((فإن قيل: فهل يكون الولي معصوما؟ قيل: أما وجوبا كما يقال في الأنبياء فلا. وأما أن يكون محفوظا حتى لا يصر على الذنوب إن حصلت هناك آفات أو زلات فلا يمتنع ذلك في وصفهم. فهاهو هنا يجوز أن يكون الولي معصوما بخلاف النبي الذي تجب عصمته. ويجعل ذلك جائزا على الأولياء، واجبا على الأنبياء(3). وهذا شبيه بمحاولة الأشاعرة االتفريق بين كرامات الأولياء وبين معجزات الأنبياء، بأن الأولى جائزة والثانية واجبة. المهم أنه صرح بعصمة الولي. ثم إن هذا الجواز يتعارض مع ما ذهب إليه القشيري في لطائف الإشارات من أن الولي ((لا يكون وليا إلا إذا كان موفقا في جميع ما يلزمه من الطاعات، معصوما بكل وجه عن جميع الزلات )) (4)
وها هو يعود ليستخدم في رسالته مصطلح (العصمة)) للولي قائلا ((واعلم أن من أجل الكرامات التي تكون للأولياء: دوام التوفيق للطاعات، والعصمة عن المعاصي والمخالفات )) (5) .
__________
(1) مختار الصحاح 437.
(2) جوهرة التوحيد 1334.
(3) وإلى هذا ذهب صاحب معراج التشوف65- 66.
(4) لطائف الإشارات 274.
(5) الرسالة القشيرية 160.(7/90)
وقد استبعد الكلاباذي أي سبيل من الشيطان لإغواء الولي (1) وبقي أبو العلا عفيفي يؤكد بحزم في كتابه التصوف الثورة الروحية على أن الولاية رهن بقاء الطاعة وأن المعصية إذا خطرت ببال الولي سقطت عنه الولاية )) (2) .
* وبالنظر إلى مناقب كبار مشايخهم وحسب ترجماتهم نجد أنهم يرون عصمتهم من الزلات كشرط لبلوغ مقامات الولاية.
فالسهروردي يحكي عن أبي بكر الزقاق أنه قال ((لا يكون المريد مريدا حتى لا يكتب عليه صاحب الشمال شيئا عشرين سنة (3) وقال ابن عجيبة ((خطأ الشيخ أحسن من صواب المريد)) (4) . فهل صواب المريد يعدل الزلة)).
وسأل رجل الجنيد ((هل يعلم العبد أن الله يقبله؟
فقال الجنيد: لا يعلم.
فقال الرجل: بلى يعلم.
فقال الجنيد: فمن أين يعلم؟
قال: إذا رأيت الله عز وجل قد عصمني من كل معصية ووفقني لكل طاعة علمت أن الله تبارك وتعالى قد قبلني )) (5) .
الحكيم الترمذي وعثرة التدبير
ومع الترمذي وآرائه التي يذكر فيها أن الله تعالى ي((يمسك وليه ويحفظه، فإذا عثر فان تلك العثرة مدبرة من الله ليرفعه بها إلى منزلة أعلى من التي كان عليها. وقد سمى تلك العثرة ب ((عثرة التدبير)) ثم قال ((يكون للأولياء عثراث يجدد الله تعالى لهم بها الكرامات ويبرز لهم ما كان مغيبا عنهم من حبه إياهم وعطفه عليهم)) (6) .
لا تعترض على المعصوم فتنطرد
__________
(1) التعرف لمذهب أهل التصوف 74- 75.
(2) التصوف الثورة الروحية 301- 302)).
(3) عوارف المعارف 89 ملحق بكتاب إحياء علوم الدين.
(4) الفتوحات الألهية 171.
(5) حلية الأولياء 10: 274.
(6) نوادر الأصول 206.(7/91)
ثم إن السلوك العملي التطبيقي عند الصوفية يؤكد أن للشيخ الصوفي العصمة المطلقة. فالعلاقة بين الشيخ والمريد مشروطة بشروط كثيرة تذل النفس وتجعل من العزة الإيمانية. فإن من أهم هذه الشروط: عدم الاعتراض على، الشيخ ولو كان بالقلب، فلا أمر بالمعروف، ولا نهي عن منكر. بدليل قصة موسى مع الخضر وهي. دليل ضدهم. فإن موسى ما ترك نهي عن المنكر، حتى تبين له أن الله هو الذي أراد ذلك وليس الخضر. لقول الخضر { وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي } .
قالوا (ومن آداب المريد مع شيخه عدم الإعتراض عليه في كل ما يفعله ولو كان ظاهره حراما، وأن يكون بين يدي شيخه كالميت بين يدي مغسله (1) )).
قال القشيري ((فمن صحب شيخا من الشيوخ ثم اعترض عليه بقلبه نقض عهد الصحبة)) (2) .
حفظ الولي وعصمة النبي
عند ابن تيمية
__________
(1) تنوير القلوب في معاملة علام الغيوب 479و 529.
(2) الرسالة القشيرية 150.(7/92)
وقد تعرض ابن تيمية لهذه المسألة بالنقد، وتعقب القائلين بعصمة الولي فقال ((وليس في المؤمنين إلا من له ذنب من ترك مأمور أو فعل محظور كما قال صلى الله عليه وسلم ((كل بني أدام خطاء)) (1) . وذكر أن أصل العصمة مأخوذ من غلاة النصارى اليهود وغلاة ومنافقي هاتين الملتين الذي { اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ } (2) . قال عدي بن حاتم لما سمع هذه الآية وكان قد تنصر في الجاهلية قبل إسلامه ((يا رسول الله: ما عبدوهم. فقال له صلى الله عليه وسلم ((أما إنهم أحلوا لهم الحرام فأطاعوهم وحرموا عليهم الحلال فأطاعوهم فتلك عبادتهم )) (3) .
ولهذا كان ابن تيمية ينكر ((عصمة)) الولي ويتبعها بلفظ ((الحفظ )) وذلك لأن الحفظ والعصمة لهما نفس المعنى. قال:
((وأجمع جميع سلف الأمة الدين من جميع الطوائف أنه ليس بعد رسول الله أحد معصوم ولا محفوظ من الذنوب ولا من الخطايا))... ((واتفقوا على أنه ما من الناس أحد من قوله ويترك إلا رسول الله )) (4) .
وذكر اختلاف الأمة في قول الصحابي: هل هو حجة؟.
__________
(1) رواه الترمذي (2501) والدارمي 2: 303 وأحمد في مسنده 3: 198، والحاكم 4: 244 وصححه الذهبي وقال(( صحيح على لين)).
(2) التوبة 31.
(3) رواه الترمذي وقال حديث حسن غريب( 23912) وابن عبد البر2: 109 والبيهقي في سننه 10: 116. وحسنه الألباني ( غاية المرام 20).
(4) جامع الرسائل 1: 258- 260.(7/93)
وأن منهم من استثنى قول أبو بكر إذا خالفه عمر. ومنهم من رأى قوليهما حجة دون الباقي من الصحابة مشيرا إلى أنهم اختلفوا في قول الصحابي أبي بكر وعمر وأن منهم من نفى قول أحد من الصحابة لعموم رد الحكم عند التنازع إلى الله ورسوله فالمنع فيمن سواهم أحرى وأولى بل هو متفق. وخلص إلى أنهم اتفقوا: على أنه ليس من شروط ولي الله أن لا يكون له ذنب أصلا، بل أولياء الله تعالى هم الذين قال الله فيهم { أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ 62 الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ } (1) ، ولا يخرجون عن التقوى بإتيان ذنب صغير لم يصروا عليه، ولا بإتيان ذنب كبير أو صغير إذا تابوا منه)) (2) .
الحفظ الحقيقي
ثم ذكر ابن تيمية قاعدة جليلة قال فيها (كحفظ الولي[ إنما يكون] بمتابعة الكتاب والسنة ولا ريب أن السنة كما كان الزهري يذكر عمن مضى من سلف المؤمنين إذ قالوا ((كان من مضى من علمائنا يقولون: الاعتصام بالسنة نجاة، وقال مالك ((السنة سفينة نوح، من ركبها نجا، ومن تخلف عنها غرق )) (3) .
دعوى العصمة بين الرافضة والمعتزلة.
وقد عزا ابن تيمية أصل دعوى العصمة إلى الرافضة وأن أول من تكلم بها وابتدعها في هذه الأمة: عبد الله بن سبأ اليهودي الذي أسلم وابتدع القول بأن علياً إمامٌ منصوصٌ على إمامته، ثم ابتدع القول بأنه معصوم أعظم مما يعتقده المؤمنون في عصمة الأنبياء(4).
__________
(1) يونس 62.
(2) جامع الرسائل 1: 266- 268 وانظر مختصر الفتاوى المصرية 100.
(3) الصفدية 1: 259.
(4) انظر جامع الرسائل 1: 260-262.(7/94)
وقد تصدى ابن تيمية لابن المطهر- صاحب منهاج الكرامة- ورد دعواه بعصمة الأئمة وأنهم معصومون في ذلك كالأنبياء، ثم ذكر بأنهم تفردوا بهذه المقولة بين الزيدية وغيرهم إلا من كان شراً منهم كالإسماعيلية القائلين بعصمة بني عبيد(1) وكذلك الكيسانية الذين ادعوا عصمة الأئمة الاثني عشر حتى عن الخطأ في الاجتهاد(2).
* وهناك فرقة أخرى من الإمامية ذكر ابن تيمية أنهم جوزوا على النبي معصية الله وأن نبينا قد عصى في أخذ الفداء يوم بدر، ولم يجوزوها على الأئمة متعللين بأن الرسول إذا عصى فإن الوحي يأتيه من قبل الله، أما الأئمة فلا يوحى إليهم ولا تهبط الملائكة عليهم وهم معصومون، فلا يجوز أن يسهوا ولا يغلطوا، وإن جاز على الرسول ذلك(3) ثم وجدت البغدادي قد ذكرهم وهم الهشامية: أصحاب هشام بن الحكم وأوضح مقولتهم كما ذكرها ابن تيمية كما أوضح أن الإمامية على تكفيرهم لأجازتهم المعصية على الأنبياء(4).
أما المعتزلة فقد زعموا أن الأنبياء معصومون مما يتاب منه، وكذّبوا أن يكون أحداً مهم تاب من ذنب. معتسفين النصوص التي تثبت توبة الأنبياء بشتى التأويلات الباطلة.
قال ابن تيمية ((وقد اتفق سلف الأمة وأئمتها ومن اتبعهم على ما أخبر الله به في كتابه، وما ثبت عن رسوله من توبة الأنبياء عليهم السلام من الذنوب التي تابوا منها، وهذه التوبة رفع الله بها درجاتهم فإن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين، وعصمتهم هي أن يقروا على الذنوب والخطأ(5) ونوه إلى أن النبي معصوم فيما يبلغه عن ربه(6) وذكر توبة بعض الأنبياء:
* { فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ } (7) .
__________
(1) منهاج السنة 2: 359 -360.
(2) جامع الرسائل 1: 264.
(3) أنظر منهاج السنة 2: 308- 309.
(4) الفرق بين الفرق للبغدادي 50 ط دار الآفاق- بيروت.
(5) جامع الرسائل 1: 269- 270.
(6) مختصر الفتاوى المصرية 100.
(7) هود 47.(7/95)
* { رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُن مِّنَ الْخَاسِرِينَ } .
* { وَالَّذِي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ } (1).
* { وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ } (2).
* { وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ } (3).
وذكر حجة القائلين بعصمة الأنبياء كالروافض والمعتزلة وهي: أن الإقتداء بالنبي في أفعاله مشروعة، ولولا ذلك ما جاز الإقتداء به.
ثم أجاب عنها بقوله: أنهم لا يقرون على الخطأ إذا أخطأوا، بل لا بد من التوبة والبيان، وأن الإقتداء إنما يكون بما استقر عليه الأمر)). فأما المنسوخ، والمنهي عنه والمتوب منه فلا قدوة فيه بالاتفاق))(4).
قال: وفي الصحيحين عن عائشة قالت ((كان رسول الله يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي. يتأول القرآن))(5).
وفي الصحيح أيضا عن أبي هريرة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في سجوده ((اللهم اغفر لي ذنبي كله، دقه وجله، وأوله وأخره، وعلانيته وسره، وقليلة وكثيرة))(6) وقوله ((والله إني أستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة))(7) وكان الصحابة يعدون له في المجلس الواحد يقول ((رب اغفر لي وتب علي إنك أنت التواب الغفور)) مئة مرة(8).
تفضيل الولي على النبي
__________
(1) الشعراء 82.
(2) محمد 19.
(3) الأنبياء 87.
(4) جامع الرسائل 1: 278 ومنهاج السنة 2: 317 ومختصر الفتاوى المصرية 100 و104 و105.
(5) أخرجه البخاري 6: 93 ومسلم (484).
(6) أخرجه مسلم (483).
(7) أخرجه البخاري (6307).
(8) رواه أبو داود (1516) وابن ماجه (3814) بسند صحيح.(7/96)
وقد ابتدأ الأمر بمساواة الأولياء بالأنبياء. فالسهروردي مثلا يجعل طينة الأنبياء والأولياء واحدة تختلف عن الطينة التي جبل منها باقي البشر.(1) ثم أخذ يتطور حتى بلغ بالصوفية تقديس الولي، ثم أعطوه من الصفات ما يشبه النبوة كقول بعضهم ((الشيخ في قومه كالنبي في أمته))(2) وحتى زعم بعضهم كالترمذي الحكيم أن للأولياء منازل:
فمنهم من أعطي ثلث النبوة.
ومنهم من أعطي نصفها.
ومنهم من له الزيادة(3).
وصرّح بأن من الأولياء من هو أرفع درجة من الأنبياء(4).
وقدر النبهاني مبدأ ختم الولاية قائلا ((ومنهم الختم وهو واحد لا في كل زمان بل هو واحد في العالم يختم الله به الولاية المحمدية))(5).
* وقد بين الشهرستاني مذهب هذه الطائفة فقال ((ادعت طائفة من الصوفية أن في أولياء الله تعالى من هو أفضل من جميع الأنبياء والرسل، وقالوا: من بلغ الغاية القصوى من الولاية سقطت عنه الشرائع كلها من الصلاة والصيام والزكاة وغير ذلك وحلت له المحرمات كلها من الزنا والخمر وغير ذلك، واستباحوا بذلك نساء غيرهم (( (6) .
__________
(1) عوارف المعارف 5: 57 ملحق بالأحياء.
(2) الفتوحات الإلهية 173.
(3) ختم الولاية 347.
(4) نوادر الأصول 157ط دار صادر بيروت.
(5) جامع كرامات الأولياء 1: 41.
(6) الملل والنحل 5: 226ط دار الفكر بيروت .(7/97)
* أما أبو الحسن الأشعري فيقول(( وقد زعم بعض الصوفية أن العبادة تبلغ بهم حتى يكونوا أفضل من النبيين والملائكة المقربين)) (1) وإن يرويه1لمصوفية عن أئمتهم يصدق ما قاله الشهرستاني والأشعري. كقول أبي يزيد البسطامي ((خضنا بحرا وقف الأنبياء بساحله )) (2) وقول إبراهيم الدسوقي ((أنا موسى عليه السلام في مناجاته، أنا علي رضي الله عنه في حملاته، أنا كل ولي في الأرض خلعته بيدي ألبس منهم من شئت أنا في السماء شاهدت ربي وعلى الكرسي خاطبته، أنا بيدي أبواب النار غلقتها وبيدي جنة الفردوس فتحتها، من زارني أسكنته جنة الفردوس))(3) .
موقف ابن عربي من الولي
وقد اقتبس ابن عربي فكرة ((خاتم الأولياء)) من الحكيم الترمذي الذي صنف كتاب ((ختم الولاية)) والذي تعرض بسببه إلى النفي من بلده ترمذ وشهد عليه أهلها بالكفر إذ كان يقول بأن للأولياء خاتما كما أن للأنبياء خاتما. فلجأ إلى أهل بلخ لموافقتهم له في المذهب (4) . فتلقاها ابن عربي وبنى عليها تقسيم الولاية إلى ثلاث مراتب:
*الأولى مرتبة الأنبياء.
*والثانية مرتبة الأولياء الخاصة.
والثالثة مرتبة الأولياء العامة.
ويخص الأنبياء بالولاية الخاصة ليس تفضيلا لهم على غيرهم، وإنما هو تفضيل مؤقت حتى تنتهي نبوتهم، فإذا انتهت ألحقهم بأصحاب المرتبة الثالثة وهي الولاية العامة (5) .
وقسم الوحي إلى:
ا) وحي خارجي وهو وحي النبوة التشريعية الخاصة.
2) ووخلي: وما يدركه القلب من الانفتاح المباشر
__________
(1) مقالات الإسلاميين 439.
(2) طبقات الشعراني 2: 16.
(3) طبقات الشعراني 1: 181.
(4) انظر لسان الميزان لابن حجر 5: 30 طبقات السبكي 2: 20وطبقات السلمي217والاعلام للزر كلي6: 272وانظر درء تعارض العقل والنقل والصفدية1: 248له أيضا وكلا هما بتحقيق د محمد رشاد سالم .
(5) انظر الفصوص1: 136.(7/98)
على عالم الملكوت (1) أخذه عن الغزالي الذي صرح بأن ((علوم الأولياء تأتي من داخل القلب من الباب المنفتح إلى عالم الملكوت))(2) .
شخصية ابن عربي
وقد تفاقم الانحراف في المفهوم الصوفي من ادعاء الكشف والعصمة والتصرف في الأكوان والتفسيرات الأشارية الباطنية وفكرة ختم الولي وتفضيله على النبي ورسائل أخوان الصفا. كل هذا شكل اللبنة التي بني عليها ابن عربي فكرته. لقد استعمل هذه المواد وجمع معها مواد أخرى من الفلسفة الإلحادية والتشيع ومزج الجميع في تركيبة عجيبة.
وجاءت فكرة ختم الولاية كنتيجة لهذا الانحراف وأثر من أثار القول بالوحي والالهام والعلم اللدني والكشف، لكن ابن عربي زاد على ذلك فجمع بين التصوف والتشيع الغالي والقرامطة الباطنية والفلسفة الإلحادية والوثنية والصابئية ومقالات أهل الحلول والإلحاد. واليك طرفا مما يصرح به فيقول (3) :
فوقتا يكون العبد ربا بلا شك.
ووقتا يكون العبد عبدا بلا أفك
ويقول:(4) .
فأنت عبد وأنت رب ... لمن له فيه أنت عبد.
وأنت رب وأنت عبد ... لمن له في الخطاب عهد.
ويقول: (5) .
فيحمدني وأحمده ... ويعبدني وأعبده.
ففي حال أقر به ... وفي الأعيان أجحده.
ويذكر ابن تيمية أن أول ما وجده في الفتوحات المكية لابن عربي- التي هي أكبر كتبه- ما يلي:
الرب حق والعبد حق ... ياليت شعري من المكلف
أن قلت عبد فذاك رب ... أو قلت رب أنى يكلف
__________
(1) أنظر فصوص الحكم 1: 133ونقل الشعراني موافقة الشيخ محمد أبي المواهب الشاذلي على هذا التقسيم وتنبئاه كما في طبقات الشعراني 2: 68والانوار القدسية على هامشها2: 121).
(2) أنظرالاحياء 3: 21-23.
(3) فصوص الحكم 1: 90.
(4) نفس المصدر1: 92.
(5) نفس المصدر1: 83.(7/99)
قال ابن تيمية ((ورأيته يخطه))(1) وهو يعتقد بوحدة الأديان وأن جميع أهل الديانات مصيبون وكل مصيب مأجور(2) ناهي عن التقيد بدين مخصوص، معتقدا بإيمان فرعون(3) ونجاته، قياسا على إيمان بلقيس(4) وبأن الله أرسل موسى ليكون قرة عين لفرعون وقرة عين بالإيمان الذي أعطاه إياه عند الغرق فأمن بالذي أمنت به بنوا إسرائيل فنجاه الله ببدنه من العذاب، وكذلك في الآخرة(5).
وروي عن أحد كبار مشايخ وفقهاء مصر الأفاضل الشيخ تاج الدين الأنباري أنه سمع الشيخ إبراهيم الجعبري يقول ((رأيت ابن عربي شيخا مخضوب اللحية وهو شيخ نجس يكفر بكل كتاب أنزله الله وكل نبي أرسله الله(6) وهذا موقف متميز بالنسبة إلى الكثرة من الصوفية الذين أثنوا على ابن عربي ودافعوا عنه دفاع المستميت، ووصفوه بالشيخ الأكبر والكبريت الأحمر(7) وترضوا عنه كلما ذكروه(8) فذهب إلى تفضيل الولي على النبي لأنه يأخذ مباشرة عن المعدن الذي يأخذ منه الملك الذي يوحي إلى الرسول.
ابن عربي وفكرة ختم الولاية
__________
(1) مجموع فتاوى ابن تيمية 2: 242.
(2) انظر الفصوص 1: 32- 35 هذه هي الصوفية 93 لعبد الرحمن الوكيل.
(3) للصوفية كتب عديدة في إثبات إيمان فرعون مثل كتاب إيمان فرعون للدواني وكتاب التأييد والعون للقائلين بإيمان فرعون وليس هذا اعتقاد كل الصوفية وإنما يحمل التصوف وزر كل انحراف نشأ عنه وتطور بعده.
(4) الفصوص 1: 157.
(5) انظر الفصوص1: 201 و211.
(6) مجموع الفتاوى 2: 246 مجموع الرسائل 4: 85.
(7) أنظر الذخائر المحمدية 140 لمحمد علوي المالكي وقشية التصوف لعبد الحليم محمود 296 ومقدمة لكتاب المنقذ من الضلال 20 له أيضا ولطائف المنن للشعراني 487.
(8) الفتوحات الألهية لابن عجيبة 13 وجامع الكرامات 1: 118.(7/100)
* قال ((وليس هذا العلم إلا لخاتم الرسل وخاتم الأولياء، ولا يراه أحد من الأنبياء والرسل إلا من مشكاة الرسول الخاتم، ولا يراه أحد من الأولياء إلا من مشكاة الولي الخاتم، حتى إن الرسل لا يرونه إلا من مشكاة خاتم الأولياء.
* قال ((فأن الرسالة وللنبوة- أعني نبوة التشريع ورسالته- تنقطعان، أما الولاية فإنها لا تنقطع أبدا))(1).
التعقيب على ذلك
وهذا القول فيه مغالطة كبيرة وخلط للحقائق.
- فهناك فرق بين من تجتمع فيه الولاية وحدها، وبين من يجمع الله له بين الولاية والنبوة.
- ثم إن النبوة أشرف من غيرها. ولهذا لم تكن إلا لأفراد قلائل.
- وما يبطل زعمه من أساسه أن يقال: فأن كانت ((ختم الولاية)) لا تنقطع فلماذا أقطعت وختمت بخاتم الأولياء؟.
موقف ابن تيمية من هذه الفكرة
وقد أوضح ابن تيمية خطأ القائلين بهذه الفكرة، مع أنه لم ينكر أن يكون هناك خاتم للأولياء فإن خاتم الأولياء هو في الحقيقة أخر مؤمن تقي يموت من الناس، لكنه ليس خير الأولياء، وإنما خيرهم وأفضلهم أبو بكر ثم عمر اللذان ما طلعت الشمس وما غربت على أحد بعد النبيين والمرسلين أفضل منهما(2) وأن هذه الفكرة مبنية على أصل ملا حدة الفلاسفة، فأن المعدن الذي يأخذ منه النبي عندهم هو العقل الفعال. وإن القوة العقلية التي يسمونها القوة القدسية تتخيل الصور في منامها وتسمع أصواتا، فما يراه النبي ويسمعه يكون في نفسه لا في الخارج(3).
- وهذا الزعم أكذبه الله عند أول وحي حصل للنبي صلى الله عليه وسلم في غار حراء وذلك حين ضمه جبريل عليه السلام عدة مرات حتى بلغ ذلك منه الجهد، وهذا الضم يؤكد أن هذا الوحي كان يقظة وليس تختلا. وأن ما رآه وسمعه صلى الله عليه وسلم خارج عما يسمونه بـ ((لنفس التخيلية)).
__________
(1) فصوص الحكم 1: 62.
(2) مجموع الرسائل والمسائل 2: 64.
(3) الصفدية 1: 249.(7/101)
ولا يكتفي ابن عربي بما قاله وإنما يضرب لذلك مثلا ينبئ عن عمق ضلالته فقال: ((ولما مثل النبي النبوة بالحائط من اللبن وقد كمل سوى مرضع لبنة فكان النبي صلى الله عليه وسلم تلك اللبنة، غير أنه لا يراها كما قال لبنة واحدة.
وأما خاتم الأولياء فلا بد له من هذه الرؤيا، فيرى ما مثله به رسول الله، ويرى في الحائط موضع لبنتين، واللبن من ذهب وفضة.. فيكون خاتم الأولياء تينك اللبنتين فيكمل الحائط.. فأنه أخذ من المعدن الذي يأخذ منه الملك الذي يوحى به إلى الرسول))(1).
ويذكر سببين آخرين لتفضيل الولي على النبي:
* أحدهما: أن الولاية هي الفلك المحيط العام ولهذا لم تنقطع، ولها الأنباء العام، وأما نبوة التشريع والرسالة فمنقطعة.. وأن الله لطف بعباده فأبقى لهم النبوة العامة التي لا تشريع فيها.
* وثانيهما: أن الله لم يتسم بنبي ولا رسول، وإنما تسمى بالولي. واتصف بهذا الاسم فقال { اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ } وقال { وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ } (2).
* قال ابن تيمية ((وهذا القول شر من أقوال الكافرين بالرسول لا المؤمنين به))(3) ومع أنه من أقبح الكفر وأخبثه فهو من أفسد الأشياء في العقل، كما يقال لمن قال ((فخر عليهم السقف من تحتهم))لا عقل ولا قرآن (4).
- فأن المتأخر يستفيد من المتقدم دون العكس.
- والأنبياء أفضل من غيرهم.
فخالفوا الحس والعقل مع كفرهم بالشرع))(5).
__________
(1) فصوص الحكم 1: 63.
(2) نفس المصدر 1: 134- 135.
(3) درء تعارض العقل والنقل 5: 340.
(4) أي يقال لمن قرأ الآية ((فخر عليهم القف من تحتهم)) بدلا من أن يقرأها { فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِن فَوْقِهِمْ } فهو مخطئ عقلا حيث ظن أن هبوط السقف من أسفل، ومخطئ في قراءة الآية.
(5) جامع الرسائل 1: 205 ودرء تعارض العقل والنقل 45.(7/102)
قال ((وهذا جهل منهم، فأن الولي عليه أن يتبع النبي، ويعرض كل ماله من محادثة والهام على ما جاء به النبي، فأن وافقه وألا رده))(1).
- ثم خاتم الأولياء الذين يدعونهم ضلالهم فيه من وجوه حيث ظنوا أن للأولياء خاتما وأن يكون أفضلهم، قياسا على خاتم الأنبياء، ولم يعلموا أن أفضل الأولياء من هذه الأمة أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، وهم السالفون من الأولياء لا الآخرون، إذ التفاضل بين الأولياء إنما يكون على قدر أتباعهم للأنبياء واستفادتهم منهم علما وعملا))(2).
ومن ثم ذكر ابن تيمية خاصيتين من خواص النبوة يعرف بهما الفرق بين مرتبة النبوة وبين مرتبة الولاية المجردة وهي:
- أن الرجل كلما عظمت ولايته كان تعظيمه للنبوة أعظم ومن هنا وجب الإيمان بالنبوة كعنصر أساسي للدخول في الولاية والإيمان.
ولا يتم الإيمان إلا بالإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله وأن من لا يؤمن بذلك يكون مرتدا بخلاف الولي فأنه لا يجب الإيمان به ولا يكون منكر ولايته كافرا- وأن من سب نبيا من الأنبياء قتل وكان كافرا مرتدا، بخلاف الولي الذي ليس بنبي فلا يجب القتل لمجرد سبه ولا يكون مرتدا عن الإسلام من لم يؤمن به))(3).
ويرجع ابن تيمية مصادر أراء ابن عربي إلى عدة كتب منها: الأحياء والمضنون به، ومشكاة الأنوار، وكلها للغزالي. وكتاب ختم النبوة للترمذي وكتاب خلع النعلين لابن قسي، ورسائل أخوان الصفا فهي الكتب التي كانت الممهد الحقيقي لهذه الفكرة (4).
ابن عربي خاتم الأولياء
ولم يترك ابن عربي منصب ((ختم الولاية)) شاغرا. وإنما بادر إلى ترشيح نفسه له قائلا ((فإني أنا الختم لا ولي بعدي ولا حامل لعهدي، بفقدي تذهب الدول، وتلتحق الأخريات بالأول))(5).
__________
(1) جامع الرسائل 1: 206.
(2) نفس المصدر وأنظر الصفدية 1: 252.
(3) الصفدية 1: 261- 262 وشرح العقيدة الأصفهانية 121- 122.
(4) درء التعارض 5: 353 والصفدية 1: 238و 230 و 247.
(5) عنقاء مغرب 15.(7/103)
* وقد أثبت له يوسف النبهاني رتبة ((ختم الولاية)) ورثاه في قصيدة قال فيها(1):
كان ختما للأولياء تبيعا ... بهداه لخاتم المرسلين.
سيد الخلق صفوة الحق من ... كل البرايا ورحمة العالمين.
وقال الكشمخانلي ((والشيخ الأكبر ختم به الولاية الخصوصية)) (2) وزعم الشعراني أن ابن عربي من جملة السعداء الذين هم على يمين أدم في الجنة!(3).
خاتم أخر للولاية
بيد أن الدكتور حسن الشرقاوي طلع علينا بختم أخر كان معاصرا للرسول صلى الله عليه وسلم هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه. يقول ((فكما أن الرسول خاتم الأنبياء فأن عليا- كرم الله وجهه- خاتم الأولياء))(4).
خاتم أخر
وهكذا- يروج سوق يم ((ختم الولاية)) فيتسابق إليه بعض المتصوفة ليقلدوا هذا المنصب من يحبون من الشيوخ. وكان من بين المتسابقين طائفة الرفاعية الذين كتبوا في مصنفاتهم أن الشيخ صهيب الدمشقي قال بأن الله ((قد ختم بالشيخ أحمد الرفاعي الولاية كما ختم النبوة بمحمد))(5).
__________
(1) جامع الكرامات الأولياء 1: 125.
(2) جامع الأصول في الأولياء وأنواعهم 132 وقد رووا بعض الأقاصيص المكذوبة لتخويف المنكرين على أبن عربي فزعموا أن رجلا هم بإحراق قبره فخسف الله به الأرض وغاب فيها تسعة أذرع)) طبقات الشعراني 1: 188 جامع كرامات الأولياء 1: 120 وأن آخرا رأى يوم القيامة وقد نصبت أوان في غاية الكبر وأغلي فيها ماء يتطاير منه الشرر وجيء بالمنكرين على أبن عربي وأبن الفارض وألقوا فيها فصلت جلودهم حتى تهرى اللحم (جامع كرامات الأولياء 1: 218).
(3) لطائف المنن 620.
(4) ألفاظ الصوفية ومعانيها 147 ط دار المعرفة الجامعية- الأسكندرية.
(5) التاريخ الأوحد 108 المعارف المحمدية 90 قلادة الجواهر 432و 46.(7/104)
* وقالوا ((إن مثل أحمد الرفاعي في الأولياء كمثل محمد صلى الله عليه وسلم في الأنبياء))(1) (وإذا ذكر الأنبياء فحدثوا عنهم، وإذا ذكر محمد فاسكتوا. وكذلك إذا ذكر الأولياء فحدثوا عنهم، وإذا ذكر السيد أحمد الرفاعي فاسكتوا))(2).
خاتم آخر
يضيفه الشعراني في طبقاته وهو ((السيد محمد وفا))(3).
خاتم آخر
كذلك منح التيجانيون شيخهم أحمد التجاني منصب ((خاتم الولاية)) فقالوا ((إن الله ختم بمقامه مقامات الأولياء))(4).
وهكذا أدعى المتصوفة استحقاق كثير من مشايخهم لهذه الرتبة الوهمية، من غير أن يتنبهوا إلى أن المفترض أن يعتليها ختم واحد فقط، وأن ابن عربي الذي نظر لـ ((ختم الولاية)) وتحدث عنها قد أثبتها بادئ ذي بدء لنفسه.
الصلة بين التصوف والتشيع
الصلة بين التصوف والتشيع حقيقة تحدث عنها كثير من النقاد مثل ابن خلدون وغيره ممن عقدوا مقارنات بين اعتقادات وطقوس الفريقين.
* فالقول بالقطب والبدل والنجب والوتد والغوث وغيره من مراتب الولي لا يختلف عن القول بالناطق والتالي والأساس وغيره من مراتب الأئمة عند الشيعة إلا بالاسم.
* والقول بعصمة الولي عند الصوفي مشابه للقول بعصمة الإمام عند الشيعة(5).
__________
(1) 48) تنوير الأبصار 12 التاريخ الأوحد 109 الكنز المطلسم 65.
(2) قلادة الجواهر 30- 31 التاريخ الأوحد 108.
(3) طبقات الشعراني 1:21.
(4) رماح حزب الرحيم على حزب الرجيم 1452 على هامش جواهر المعاني، بغية المستفيد بشرح منية المريد 107.
(5) عصمة الأمام عند الشيعة من أهم مقومات الإمامة لأن وارث النبي وارث لخصائصه ومزايا. فالإمام ((كالنبي يجب أن يكون معصوما من جميع الرذائل والفواحش، ما ظهر منها وما بطن من سنن الطفولة إلى الموت عمدا وسهوا، كما يجب أن يكون من السهو والخطاء والنسيان)) (عقائد الأمامية 104 محمد رضا مظفر ط. دار الزهراء).(7/105)
* والكم الهائل من المزارات وأضرحة الأولياء عند المتصوفة يشبه مزارات وأضرحة الأئمة عند الشيعة.
* والغلو في إطراء الولي وتعظيمه واختلاق عجائب الكرامات له مشابه للغلو عند الشيعة في الإمام وتعظيمه.
* وطلب المدد من الولي والتحدث معه وهو في قبره عند الصوفية يشبه طلب المدد من الأئمة عند الشيعة وتلقي العلم عنهم وهم في قبورهم.
* والقول بالعلم الباطن والأسرار الإلهية أصله من عند الشيعة الذين يتحدثون عن العلم الباطن الذي آتاه الله الأمة.
رأي ابن خلدون
قال ابن خلدون في مقدمته ((ثم حدث في المتأخرين من الصوفية: الكلام في الكشف وظهر من كثير منهم القول بالحلول والوحدة (وحدة الوجود) فشاركوا فيه الإمامية والرافضة لقولهم بألوهية الأئمة وحلول الإله فيهم. وظهر منهم القول بالقطب والإبدال وكأنه يحاكي مذهب الرافضة في الإمام والنقباء. وأشربوا أقوال الشيعة، وتوغلوا في الديانة بمذاهبهم حتى جعلوا مستند طريقهم في لبس الخرقة أن عليا ألبسها الحسن البصري وأخذ عليه العهد بالتزام الطريقة، واتصل ذلك عنهم بالجنيد من شيوخهم. ولا يعلم هذا عن علي من وجيما صحيحو لم تكن هذه الطريقة خاصة بعلي كرم الله وجهه، بل الصحابة كلهم أسوة في طريق الهدى. وفي تخصيص هذا بعلي دونهم رائحة من التشيع قوية يفهم منها ومن غيرها دخولهم في التشيع وانخراطهم في سلكه.
وأكثر من تكلم من هؤلاء المتصوفة المتأخرين في شأن الفاطمي: ابن عربي الحاتمي في كتابه ((عنقاء مغرب))... تكلم فيه عن ((خاتم الأولياء)) وكنى عنه بلبنة الفضة... وجعلوا صاحب الكمال فيها خاتم الأولياء أي حائز الرتبة التي هي خاتمة الولاية كما كان خاتم الأنبياء حائزا للمرتبة التي هي ((خاتمة النبوة))(1).
أول من أخذ عنه التصوف
يذكر كامل الشيبي أن أول من تسمى بالصوفية ثلاثة:
__________
(1) مقدمة أبن خلدون 323 و324.(7/106)
ا- جابر بن حيان الذي كان تلميذا لجعفر الصادق، والشيعة يؤكدون تلمذته له(1) وأنه باب من أبوابهم.
2- أبو هاشم الكوفي وكان أول من بني خانقاه للصوفية وأنه كان يلبس لباسا خاصا بالرهبان، وكان يقول بالحلول والاتحاد، والشيعة يعظمونه ويصفونه ب ((مخترع الصوفية))
3- عبدك الصوفي كان أخر شيوخ فرقة نصف شيعية ونصف صوفية تأسست بالكوفة وكان على رأس فرقة من الزنادقة الذين زعموا أن الدني كلها حرام لا يجوز الأخذ منها إلا القوت(2).
4- معروف الكرخي وكان خادما لموسى الكاظم، وأول من فتح الكلام على الولاية في بغداد، ذكروا أنه مات عند ازدحام الشيعة على باب علي بن موسى(3) وقد تحدث الصوفية أن معروفا أخذ الطريقة عن على بن موسى وأخذها الجنيد عن معروف ثم تناقلها الصوفية.
الخرقة وسندها
وأصل تداول الخرقة الصوفية ((يرتفع إلى الجنيد الذي أخذها من خاله السري السقطي وهو لبسها من معروف الكرخي وهو لبسها من الشيخ داود الطاني وهو لبسها من الشيخ حبيب العجمي وهو لبسها من الشيخ حسن البصري وهو لبسها من زوج البتول وابن عم الرسول مولانا وسيدنا على بن أبي طالب وهو لبسها من النبي المعظم(4).
__________
(1) الأعلام للزركلي 2: 103 والصلة بين التصوف والتشيع 266.
(2) الصلة بين التصوف والتشيع 271.
(3) الصلة بين التصوف والتشيع 356- 357.
(4) قلادة الجواهر 274.(7/107)
* وهذا سند لا يخفى كذبه فإن الحسن البصري لم يدرك عليا، فأنه ولد لسنتين بقيتا من خلافة عمر، وكان الحسن صغيرا بالبصرة، في حين كان عليا بالكوفة آنذاك والحسن أنما أخذ عمن أخذوا عن علي كالأحنف بن قيس وقيس بن عباد. ويعترف أحد المتصوفة (الصيادي) بأن كثيرا من كبار الحفاظ - كابن حجر العسقلاني والسخاوي والذهبي ومغلطاي والحافظ العراقي والعلائي- أنكروا نسبة الخرقة واتصال سندها، وأنه لم يرد فيها خبر صحيح ولا ضعيف، وأنكروا سماع الحسن البصري من الإمام علي(1).
العلم الباطن
* ولقد كثر الكذب على علي رضي الله عنه وأهل بيته الكرام، فزعم الترمذي الحكيم أن عليا كان يبرز على عامة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بعلم التوحيد(2) وأن سلمان تلقى علم الباطن عن علي، وأن عليا أخذه عن رسول الله(3) وزعموا أن العلم الباطن أخص العلوم.
* قال ابن عجيبة ((أخذنا الطريق وعلم التحقيق عن... عن أول الأقطاب سيدنا الحسن سبط رسول الله عن والده أمير المؤمنين سيدنا علي كرم الله وجهه الذي هو باب مدينة العلم، عن نخبة الوجود سيد المرسلين وخاتم النبيين سيدنا ومولانا محمد رسول الله عن سيدنا جبريل عن الرب الجليل(4).
* مع أن عليا رضي الله عنه أنكر أن يختصه النبي صلى الله عليه وسلم بشيء من العلم دون سواه وأكد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يخص آل بيته بعلم يكتمه على الناس قائلا ((ما خصتنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء لم يعمم به الناس كافة إلا ما في قراب سيفي هذا، وأخرج صحيفة مكتوب فيها ((لعن الله من ذبح لغير الله)) قال: وما أسر إلي شيئا كتمه الناس(5).
__________
(1) تطبيق حكم الطريقة العلية 278- 279 للصيادي الرفاعي.
(2) نوادر الأصول 205.
(3) ترياق المحبين 7 للواسطي.
(4) الفتوحات الألهية 266 وهذا السند ((ظلمات بعضها فوق بعض))
(5) مسلم (1978).(7/108)
* ثم إن كتم العلم ليس فيه في الإسلام فضيلة، بل هو خيانة كما قال صلى الله عليه وسلم ((من كتم علما نجم يوم القيامة بلجام من نار)). وقال تعالى { يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ } . ومع ادعائهم اختصاص علي على غيره بعلم الباطن فأنهم ينسبونه إلى غيره كقولهم أن أبا هريرة أعطي جرابين من العلم عن رسول الله، صرح بأحدهما وكتم الآخر. وإنما كتم أحاديث الفتن والملاحم التي أخبره صلى الله عليه وسلم عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
* قال ابن تيمية ((وهذا الحديث صحيح لكن الجراب الآخر لم يكن فيه شيء من علم الدين ومعرفة الله وتوحيده الذي يختص به أولياؤه، ولم يكن أبو هريرة من أكابر الصحابة الذين يخصمون بمثل ذلك لو كان هذا مما يخص به، بل كان في ذلك الجراب أحاديث الفتن التي تكون بين المسلمين، ومن الملاحم التي تكون بينهم وبين الكفار.
* ولهذا لما كان مقتل عثمان وفتنة ابن الزبير قال عمر: لو أخبركم أبو هريرة أنكم تقتلون خليفتكم وتهدمون البيت لقلتم كذب أبو هريرة. فكان أبو هريرة يمتنع من التحديث بأحاديث الفتن قبل وقوعها لأن ذلك مما لا يحتمله رؤوس الناس وعوا مهم))(1).
* بل روي عن أبي هريرة قوله ((لو قلت لكم أنكم ستحرقون بيت ربكم وتقتلون ابن نبيكم لقلتم لا أكذب من أبي هريرة. وقد كان قتل الحسين عليه السلام بعد موت أبي هريرة وإنما كان يخاف قطع حلقومه من بني أمية.
* ومع جهود الغزالي في رد الباطنية وتصنيف الردود عليهم فإن كتبه لا تخلو من أثارهم مثلما ذكره أن عليا قال ((أدخلت لساني في فمي فانفتح في قلبي ألف باب من العلم، مع كل باب ألف باب. ولو وضعت لي وساد ((وجلست عليها لحكمت أهل التوراة بتوراتهم، ولأهل الإنجيل بإنجيلهم، ولأهل القرآن بقرآنهم))(2).
مصادر العلم الباطن
__________
(1) مجموعة الرسائل 2: 64.
(2) الرسالة اللدنية 117.(7/109)
وهذا العلم الباطن هو في الحقيقة إرث شيعي باطني. تحدث عنه الغزالي حين قسم العلوم إلى ظاهر وباطن وإلى لب وقشر.
* فالظاهر: هو علم الشريعة وهو بمثابة القشرة.
* وأما علم الباطن: فهو علم المكاشفة وهو غاية العلوم وأشرفها.(1) ويصفه ((العلم المكتوم))(2) وذكر بأنه ((ما من آية من آيات القرآن إلا ولها ظهر وبطن ولبطنه بطن إلى سبعة أبطن))(3) و((أن لكل شيء ظاهرا وباطنا)) و((إن من العلم كهيئة المكنون)) وغير ذلك. وهذا العلم ((سر من أسرار الله))(4).
* ويحكي الكلاباذي أن جبريل سأل الله عن علم الباطن فقال الله له ((هو سر من سري أجعله في قلب عبدي لا يقف عليه أحد من خلقي))(5) ثم صار الصوفية يفتون فيه أهل التصوف كما يفتي غيرهم في العلم الظاهر، يروي النبهاني أن الشيخ محمد بن أبي الحسن البكري درس وأفتى في علمي الظاهر والباطن.(6) ويدعو الجنيد ربه أن يجعله من الأمناء على سره))(7).
* وقد حرم الشاذلي من روية رسول الله صلى الله عليه وسلم مدة طويلة ثم رآه فسأله عن سبب طول غيابه فقال ((أنك لست بأهل لرؤيتنا لأنك تطلع الناس على أسرارنا))(8).
نماذج من العلم الباطن
وقد صار للعلم الباطن قيمته وأستقلاليته عن العلم الشرعي الظاهر، فصار تفسيرهم للقرآن يعرف بالتفسير الأشاري وأبرز تفسيرين في ذلك الطائف (الأشارات للقشيري) و (تفسير ابن عربي) الذي فسر أية { عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ 1 عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ } قائلا ((النبأ العظيم هو أمير المؤمنين علي عليه السلام))(9).
__________
(1) أنظر الأحياء 1: 19- 21.
(2) ميزان العمل 111.
(3) الرسالة اللدنية 107.
(4) جامع الأصول في الأولياء وأنواعهم 258.
(5) التعرف لمذهب أهل التصوف.
(6) جامع كرامات الأولياء 10: 180.
(7) حلية الأولياء 10: 180.
(8) طبقات الشعراني 2: 75.
(9) تفسير أبن عربي 2: 755.(7/110)
* وقال في أية { عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ } أي من أشاء من أهل العناية.. ففي هذا العذاب رحمة لا يبلغ كهنها ولا يقدرها من رحمة لذة الوصول.. ولعمري إن هذا العذاب أعز من الكبريت الأحمر))(1).
وفسر هو وجماعة من الصوفية العذاب بالعذوبة قال ((يسمى عذابا من عذوبة طعمه)) فقال لهم ابن تيمية ((أذاقكم الله هذه العذوبة)).
* وجاء فقيه إلى أحد كبار مشيخة الصوفية وهو الشيخ على بن عثمان الرفاعي فقال له ((فسر لي قوله تعالى { إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً } فقال له الشيخ: تريد تفسيرنا أو تفسيركم؟ فقال الفقيه: وهل هناك فرق بين تفسيرنا وتفسيركم؟ قال: نعم، قال: ما تفسيركم؟ قال: الملك هو الله عز وجل. والقرية قلبك))(2).
* وقال الجنيد ((لا أحب الآفلين)) لا أحب من يغيب عن عياني وقلبي))(3).
وهكذا يتفق التأويل الباطني في التصوف مع منهج الباطنيين والقرامطة من مسخ للآيات وليها عن تأويلها الصحيح.
كتاب الجفر الشيعي
والجفر عبارة عن كتاب طلاسم وشعوذة تعظمه الشيمة وتقدسه وتزعم أنه وعاء فيه علم النبيين والوصيين وعلماء أمة بني إسرائيل، وفيه علم ما كان وما يكون مفصلا إلى يوم القيامة(4).
* يحكي ابن خلدون أن أصل الجفر كان عند هارون العجلي رأس الزيدية يرويه عن جعفر الصادق رضي الله عنه وأنه منسوب إليه من غير أن يتصل سنده به أو تصح روايته. وأن يعقوب بن إسحاق الكندي رضعه للرشيد والمأمون وكان منجما لهما(5) ومن الصوفية من يؤمن بهذا الكتاب ويعظمه.
__________
(1) تفسير أبن عربي 1: 453- 454.
(2) قلادة الجواهر 325- 326.
(3) حلية الأولياء 10: 265.
(4) الكافي في الأصول 1/ 239 كتاب الحجة باب ذكر الصحيفة والجفر والجماعة وأنظر بصائر الدرجات 3/ 180 للصفاري.
(5) مقدمة أبن خلدون 334و 338.(7/111)
* كالطريقة الرفاعية التي يصرح كبار أصحابها بأنهم يؤمنون بكتاب الجفر. فالمهدي الرواس من الرفاعية يصرح بأن الجفر علم صانه الله تعالى بآل البيت النبوي وخص به الأئمة ووراث الأئمة من الأغواث والأقطاب والأنجاب، وفيه أسرار عظيمة مما يتعلق بكل وارث منهم وهو عبارة عما يحدثه فيهم كخلافة أمير المؤمنين علي عليه السلام وولده الحسن السبط الهمام، وشبله المقدام الحسين وما سيجري في عهد المهدي سلام الله عليه ورضوانه، وهو سر خاص بهم لا يتعلق بغيرهم(1) وأن الله أختص أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم الطاهرين بكتاب الجفر وخص به الأئمة ووارثيهم والأئمة الأغواث والانجاب والأعاظم من الأقطاب.. فذلك سر خاص بهم لا يتعلق بغيرهم.
* وأما ما فيه من الأسرار الجوامع فهي من خصائص الوارث في كل عهد))(2) ولقد كان للرواس نصيب من هذا الجفر، فقد زعم أنه لما اجتمع بقبر الشيخ أحمد الصياد الرفاعي قال له هذا الأخير ((أنت منبع يجري منه نهر كنهر النيل، قلت: دلني سلام الله عليك على هذا النهر الذي مثلته بالنيل. فذكر أن الصياد تكوم عليه باعطائه بعض كلمات من ((الجفر)) العلوي الفاطمي وحل له أسرارها(3).
وذكر أنه حصل على تسعمائة سر من أسرار الجفر الفاطمي من الخليل إبراهيم عليه السلام حين ظهر عليه أمام قبر من قبور الأئمة. وأعطاه خرقة عليها بعض الطلاسم والرموز السحرية.
قال الرواس ((وقد صرح أولياء الله من آل فاطمة عليها السلام أن من حمل هذا السطر على هذه الصورة الشريفة عوفي مريضه وأفاق مصروعه. وهو المانع من كل ملم ودافع لكل مهم(4).
التقية الباطنية
__________
(1) بوارق الحقائق 284.
(2) بوارق الحقائق 184- 285.
(3) بوارق الحقائق 78- 79.
(4) بوارق الحقائق 177- 179 وهذا الكتاب أشبه ما يكون بكتاب رؤيا يوحنا اللاهوتي عند النصارى فيه من العجائب والأساطير ومشاهدة الشياطين ما يجعله شبها به.(7/112)
وقد تعرض المتصوفة للقتل والنفي بسبب معتقداتهم كالحلاج المصلوب والسروردي المقتول: قتله صلاح الدين والحكيم الترمذي الذي نفوه بعد أن شهدوا عليه بالكفر، فكان هذا العلم الباطن نوعا من التقية الشيعية يظهرونه تارة ويخفونه تارة أخرى. وذكر الشعراني شعرا منسوبا للحسين بن علي وفيه:
يا رب جوهر علم لو بحت به ... لقيل أنت ممن يعب الوثنا
ولا ستحل رجال مسلمون دمي ... يرون أقبح ما يأتونه حسنا (1)
ويقول الجنيد للشبلي ((نحن حبرنا هذا العلم تحبيرا ثم خبأناه في السراديب، فجئت أنت فأظهرته على رؤوس الملأ!))(2).
الصوفية وموقفهم من مهدي الشيعة
هما لا ريب فيه أن الإيمان بالمهدي على أنه الإمام الثاني عشر محمد بن الحسن العسكري الذي دخل في السرداب وينتظر إلى اليوم خروجه منه هو تشيع واضح لا يجادل فيه إلا مغالط. أما المهدي الذي وردت به السنة الصحيحة فإنه ليس حيا منذ مئات السنين كما هو عند الشيعة وأسمه هو محمد بن عبد الله وليس بن الحسن العسكري.
* لكن المهدي عند الشعراني وطوائف من الصوفية لا يزال حيا منذ مئات السنين. فقد زعم الشعراني أن شيخه حسن العراقي أجتمع بالمهدي وأقام المهدي عنده أسبوعا وسأله عن عمره فأجابه بأن عمره ستمائة سنة وأنه ولد سنة مائتين وقليل، قال الشعراني ((فسألت الكمل من مشايخنا فأجابوا بذلك سواء بسواء))(3) وكان بعض طوائف الرفاعية يتردد على قبر الإمام موسى الكاظم ويجتمع بالمهدي هناك(4).
__________
(1) لطائف المنن 488.
(2) التعرف للكلابذي 172.
(3) طبقات الشعراني 2: 139 الأنوار القدسية 1: 4 على هامش الطبقات. لطائف المنن 489-490.
(4) بوارق الحقائق 141- 142.(7/113)
والمهدي يعتبر عند الشيعة الإمام الثاني عشر. لكن الصوفية زادوا واحدا وهو الشيخ أحمد الرفاعي فصار مجموع الأئمة ثلاثة عشر. ودليلهم أضغاث أحلام رأوا فيها النبي وقال لهم ((ولدي أحمد ثالث عشر أئمة الهدي من أهل بيتي))(1).
مبدأ الغلو والتقديس
وقد أتفق الصوفية والشيعة على منهج الغدو وساروا عليه معا، فبينما نرى الارتفاع بالأئمة عند الشيعة إلى حد التأليه وأنهم: أمان لأهل الأرض كما أن النجوم أمان لأهل السماء (2). ونجد المتصوفة يذهبون إلى أن الشيخ أحمد الرفاعي ((كان أمانا لأهل الأرض وظلا ظليلا على سائر الخلق))(3). وأن الأجنة في البطون وكل من في السموات والأرض شهدوا بمقام ولايته (4).
وقد زعم الخميني أن لأئمته مقاما لا يبلغه ملك مقرب ولا نبي، ونقل الشعراني عن أحد المتصوفة مثل قوله ((عليكم بتصديق القوم في كل ما يدعون، فأن الله تعالى يقذف في سر خواص عباده ما لا يطلع عليه ملك مقرب ولا نبي مرسل))(5).
مملكة الألقاب الموهومة
لقد كون الصوفية خلال تطور عقيدتهم نظاما ومراتب مقدسة تبدأ بالقطب والأماميين والإبدال والأوتاد، فالبكتاشية تدين بالأئمة الأثني عشرية وسائر تفاصيل المعتقد الشيعي فهم والشيعة متفقون على عصمة الأئمة والأولياء.
والرفاعية يصومون عن أكل اللحوم ويعتزلون الناس ابتداء من عاشوراء وحتى مضي أسبوع. وفكرة الألقاب هذه شبهها ابن تيمية بما عند الإسماعيلية والقرامطة(6).
__________
(1) أرشاد المسلمين لطريقة شيخ المتقين 45 للفاروثي.
(2) نشأة الفكر الفلسفي 2: 279.
(3) قلادة الجواهر 35- 36.
(4) قلادة الجواهر 36.
(5) طبقات الشعراني 1: 173.
(6) أنظر مجموعة الرسائل والمسائل 1:60.(7/114)
قال أحمد أمين ((إن الصوفية اتصلت بالتشيع اتصالا وثيقا وأخذت فيما أخذت عنه فكرة المهدي وصاغتها صياغة جديدة وسمته قطبا وكونت مملكة الأرواح على نمط مملكة الأشباح وعلى رأس هذه المملكة: القطب وهو الذي يدبر الأمر في كل عصر وهو عماد السماء ولولاه لوقعت على الأرض. ويلي القطب النجباء وهم اثني عشر نقيبا))(1).
موقفهم من أئمة الآل
وقد دخل في كتب الصوفية من مرويات الشيعة التي وضعوها ما يفيد تقديم علي في الخلافة على الشيخين. فنجد مثلا أبا نعيم الأصفهاني يروي لنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ((ما سره أن يحيا حياتي ويموت مماتي ويسكن جنة عدن غرسها ربي فليوال عليا من بعدي وليوالي ولته))(2).
ويتفاخر الشعراني بدخول الأئمة الإثني عشر مصر خصيصا لزيارته لأنهم لا يعلمون في مصر أحدا يحبهم مثل محبته))(3).
الرفاعية وموقفهم من أهل البيت
__________
(1) صخى الإسلام 245.
(2) حلية الأولياء 1: 86.
(3) لطائف المنن532.(7/115)
الرفاعية يعتقدون بإمامة الإثني عشر على النحو الذي تقول به الشيعة ويجعلون شيخهم الرفاعي الإمام الثالث عشر بعدهم. يقول الصيادي ((ولم يأت في أهل البيت الطاهريين بعد سادة الأئمة الإثني عشر سلام الله عليهم ولي لله تعالى أعظم منزلة وأكمل عرفانا من الشيخ أحمد الرفاعي))(1) ورووا عن الشيخ عبد الجليل الهاشمي الرفاعي أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم وقال له ((ولدي أحمد ثالث عشر الأئمة أئمة الهدى من أهل بيتي. قال: فكنت لا أقول بإمامة الإثني عشر أئمة الهدى، فبعد هذه الرؤيا تأدبت وقلتُ بإمامتهم قولا صالحا لا يهدم منارة الإجماع))(2) وإدراج الرفاعي ضمن الأئمة الإثني عشر فيه إقرار بأحقيتهم في الإمامة على النحو الذي رتبته الشيعة.
الرفاعية ينتظرون مهدي الشيعة
* وقد استشهد الصيادي بهذا المنام وذكر أن صاحب المنام لم يكن يقول بإمامة الأئمة الإثني عشر احترازا من موافقة الشيعة لكنه وافقهم بعد هذه الرؤيا. وتحدث في كتابه عن أسماء الأئمة الإثني عشر وأخذها يعددها:
علي بن أبي طالب الإمام الأسد الغالب
الحسن الإمام الجليل.
الحسين صاحب كربلاء
زين العابدين علي السجاد
محمد الباقر
جعفر الصادق
موسى الكاظم
علي بن موسى الرضا
محمد الجواد (أبو جعفر)
علي الهادي (أبو الحسن)
الحسن العسكري (أبو محمد)
محمد المهدي المنتظر الحجة(3).
__________
(1) المعارف المحمدية 2 و73 الطريقة الرفاعية 127 بوارق الحقائق 196 والقواعد المرعية في أصول الطريقة الرفاعية 7و38 ط محمد أفتدي مصطفى، ترياق المحبين 12 والكنز المطلسم 26 تنوير الأبصار 36 إرشاد المسلمين 97.
(2) إرشاد المسلمين 45.
(3) بوارق الحقائق 141 وانظر النجوع الزواهر 113 لأحد الرفاعيين والمعاصرين.(7/116)
وقد زعم المهدي الرواس الرفاعي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ((تمسك بولدي أحمد الرفاعي فإنه لا يجيء مثله إلى يوم القيامة إلا سميك (يعني من يوافق اسمه اسمك) المهدي بن العسكري(1).
وزعم أيضا أنه أتى قبة موسى الكاظم بمدينة (طوس) فبرز له الإمام المهدي الحجة المنتظر فكلمه هناك(2).
* أما كتاب ((بوارق الحقائق)) للمهدي الرواس الرفاعي فإنه من أكثر كتب الرفاعية الداعية إلى التشيع حيث سطرّ فيه تنقلاته الكثيرة بين قبور أئمة أهل البيت وذكر أنهم كانوا يخرجون ما قبورهم واحدا واحدا أمامه. بل خرج له الأنبياء وأعطوه علوم الجفر وغيرها.
- ولقد وصف قبر الشيخ أحمد الصياد بأنه ((زيتونة لا شرقية ولا غربية، بتولية فاطمية سبطة محمدية عابدية باقرية جعفرية كاظمية مرتضوية أحمدية(3).
* ويدعو الصيادي الله أن يعطف عليه قلب الأئمة لينال منهم حاجته، ويدفع بهم كربه(4) قائلا ((ونسأله تعالى أن يُعَطِفَ علينا قلب ((صاحب الزمان)) وحاشيته الكرام الأعيان، جعلناهم وسيلتنا إلى الله، أخذناهم درعا لرد كل بلاء ودفع كل قضاء قبلناهم باباً لنيل كل خير(5).
* وفي موضع أخر يطلب من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يأمر صاحب الزمان وآله أن يساعدوه في قضاء حوائج دينه ودنياه(6).
* وقد جعل الصوفية مقابر أهل البيت قبلتهم في الدعاء ووسيلتهم فقال الصيادي الرفاعي ((أن السلف الصالح رضي الله عنهم صح عندهم التوسل بأهل بيت رسول الله وأولياء الله واتخذوا زيارة مقابرهم- والتوجه إليهم والتوسل إلى الله بجاههم- ذريعة لقضاء حوائجهم(7).
محبة أهل البيت تمحو الذنوب
__________
(1) بوارق الحقائق 212.
(2) بوارق الحقائق 318.
(3) بوارق الحقائق 56- 57.
(4) معناه أنه صار يدعو الله ليقربه إلى أئمته ومشايخه زلفى.
(5) القواعد المرعية 19 وكتاب روضة الناظرين 95، 136.
(6) قلادة الجواهر 392- 393
(7) قلادة الجواهر 439.(7/117)
ومن أوجه التشابه بين الرفاعية والشيعة اعتقاد كلا الفريقين براءة محب أهل البيت من النار:
* فيدعي الصيادي أن النبي صلى الله عليه وسلم ((معرفة آل محمد براءة من النار وحب آل محمد جواز على الصراط، والولاية لآل محمد أمان من العذاب. ومن مات على حب آل محمد مات شهيدا، ومن مات على حب آل محمد بشرّه ملك الموت بالجنة ومن مات على حب آل محمد فتح له في قبره بابان إلى الجنة، ومن مات على حب آل محمد جعل الله قبره مزارا لملائكة الرحمة(1) وأنه قال ((الزموا مودتنا أهل البيت، فإن من لقي الله عز وجل وهو يودنا دخل الجنة بشفاعتنا، والذي نفسي بيده لا ينفع عبدا عمله إلا بمعرفة حقنا)) أضاف قائلا: أربعة أنا لهم شفيع يوم القيامة:
* المكرم لذريتي
* القاضي لهم حوائجهم
* الساعي لهم في أمورهم
* المحب لهم بقلبه ولسانه(2).
وهذا يتفق مع ما يقوله الشيعة الذين يزعمون أن الله تعالى قال ((لا أدخل النار من عرف أبا طالب وإن عصاني ولا أدخل الجنة من أنكره ولو أطاعني))(3) - ويزعمون أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ((من رزقه الله حب الأئمة من أهل بيتي فقد أصاب خير الدنيا والآخرة فلا يشكّنّ أحد أنه في الجنة(4).
* ونحن أهل السنة لا ننكر أن حب أهل البيت إيمان وهو جزء لا يتجزأ من محبة النبي صلى الله عليه وسلم لكننا لا نحبهم على نحو محبة الشيعة لهم. فإنه لا يصير المرء عند الشيعة محباً لأهل البيت حقيقة حتى يستغيث بهم ويتمرغ على تراب قبورهم ويغلو في محبتهم. ونحن عند النصارى- سنة وشيعه- لا نزال مبغضين لعيسى في نظرهم، ولا نكون محبين له حتى نتخذه إلها ونستغيث به.
__________
(1) ضوء الشمس 1/251 و255.
(2) ضوء الشمس 1/262- 263.
(3) البرهان في تفسير القرآن للبحراني الشيعي 23 والخصال للقمي 2/583.
(4) تفسير نور الثقلين 2/ 504 للحويزي.(7/118)
وكذلك نحن نحب أهل البيت من غير أن نعتقد بأنهم حبهم يمحو الذنوب، على النحو الذي تقول به النصارى في عيسى عليه السلام. حيث يعوّل كلا الفريقين على المحبة ويطعنون في العمل ويصرفون الناس عنه. وهذه عقيدة تزيد العاصي طغياناً وتحدث عند الطائع إحباطاً وكسلا في طلب العمل. فلئن كان الحب كافياً للفوز في الجنة ومحو الذنوب فما الفائدة من العمل؟.
فهرس المصادر
- آداب المريدين، للسهروردي، الوطن العربي، القاهرة.
- أبو حامد الغزالي والتصوف، عبد الرحمن دمشقية، دار طيبة، الرياض.
- إحياء علوم الدين، للغزالي، دار صادر، بيروت.
- أضواء البيان، للشنقيطي، الرياض.
- الأعلام، للزركلي، دار العلم للملايين، بيروت.
- ألفاظ الصوفية ومعانيها، حسن الشرقاوي.
- الأولياء والكرامات، محمد عبد الظاهر، مطبعة الإمام، مصر.
- بحار الحب عند الصوفية، أحمد بهجت، المختار الإسلامي، القاهرة.
- البداية والنهاية، ابن كثير، المعارف، بيروت.
- بستان العارفين، النووي، دار الكتاب العربي، بيروت.
- تبسيط العقائد الإسلامية، حسن أيوب، مكتبة الثقافة العربية، بيروت.
- التجانية، علي الدخيل الله، دار طيبة، الرياض.
- تحفة المريد على جوهرة التوحيد، البيجوري، دار الكتب العلمية، بيروت.
- التصوف بين الحق والخلق، محمد فهرشقفة.
- التصوف في الإسلام، عمر فروخ، دار الكتاب العربي، بيروت.
- التصوف: المنشأ والمصادر، إحسان إلهي ظهير، إدارة ترجمة ا لسنة، لاهور.
- التعرف لمذهب أهل التصوف، أبو بكر الكلاباذي، دار الكتب العلمية، بيروت.
- ا لتعريفات، للجرجاني.
- تفسير ابن عربي، ابن عربي، دار الأندلس، بيروت.
- تفسير ابن كثير، ابن كثير، دار المعرفة، بيروت.
- تفسير أبي مسعود، جمع العيسوي، الشركة العربية للطباعة.
- تفسير البغوي، البغوي، دار المعرفة، بيروت.
- تفسير الطبري، ابن جرير، دار المعرفة، بيروت.
- تلبيس إبليس، ابن الجوزي، دار الكتب العلمية، بيروت.(7/119)
- تنوير القلوب، محمد الكردي، دار إحياء التراث، بيروت.
- جامع الأصول في أحاديث الرسول، ابن الأثير، دار الجيل، بيروت.
- جامع الأصول في الأولياء وأنواعهم، الكمشخانلي، الخانجي، مصر.
- جامع الرسائل، ابن تيمية، تحقيق سالم، المدني، جدة.
- جامع كرامات الأولياء، النبهاني، دار صادر، بيروت.
- حلية ا لأولياء، الأصفهاني.
- حل الرموز ومفاتيح الكنوز، ابن عبد السلام، المكتب الفني للنشر، مصر.
- دراسة عن الفرق في تاريخ المسلمين، د. أحمد جلي، مركز الملك فيصل، الرياض.
- در تعارض العقل والنقل، ابن تيمية، تحقيق سالم، جامعة الإمام محمد بن سعود، الرياض.
- الدر المنثور في التفسير بالمأثور، السيوطي، دار الفكر، بيروت.
- دقائق التفسير، ابن تيمية، تحقيق الجليند، مؤسسة علوم القرآن، بيروت.
- الرسالة القشيرية، القشيري، دار الكتاب العربي، بيروت.
- الرسالة اللدنية، الغزالي، الجندي، مصر.
- زاد المسير في علم التفسير، ابن الجوزي، المكتب الإسلامي، بيروت.
- شرم السنة، البغوي، المكتب الإسلامي، بيروت.
- شرح العقيدة الأصفهانية، ابن تيمية.
- شرح العقيدة الطحاوية، الطحاوي، ابن أبي العز، مكتبة دار البيان، دمشق.
- الشيعة والتشيع، إحسان إلهي ظهير، إدارة ترجمان السنة، لاهور.
- الصفدية، ابن تيمية، تحقيق سالم، الرياض.
- الصلة بين التصوف والتشيع، كامل مصطفى الشيبي، المعارف، مصر.
- الصوفية في ضوء الكتاب والسنة، عبد المجيد عبد المجيد، دار الاعتصام، القاهرة.
- الصوفية في نظر الإسلام، سميح عاطف الزين، دار الكتاب اللبناني، بيروت.
- الصوفية معتقداً ومسلكاً، صابر طعيمة، العبيكان، بيروت.
- صيحة الحق، أبو الوفا درويش، المكتب الإسلامي، بيروت.
- الطبقات الكبرى، الشعراني، المكتبة الشعبية، بيروت.
- العقل والحرية، عبد الستار الراوي، المؤسسة العربية للدراسات والنشر.
- عقيدة المسلمين والرد على الملحدين، البليهي، المطابع الأهلية، الرياض.(7/120)
- فتح الباري، ابن حجر، السلفية.
- فتح القدير، الشوكاني، دار الفكر، بيروت.
- الفتوحات الإلهية، ابن عجيبة، عالم الفكر، مصر.
- الفرق بين الفرق، البغدادي، دار الآفاق الجديدة، بيروت.
- الفصل في الملل والنحل، ابن حزم، الشهرستاني، دار الفكر، بيروت.
- فصوص الحكم، ابن عربي، دار الكتاب العربي، بيروت.
- الفكر الشيعي والنزعات الصوفية، كامل مصطفى الشيبي، النهضة، بغداد.
- الفكر الصوفي، عبد الرحمن عبد الخالق، مكتبة ابن تيمية، الكويت.
- فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة، الغزالي، مكتبة الجندي، مصر.
- قضايا التصوف الإسلامي، لمجد الله رزوق، دار الفكر، الخرطوم.
- قطر الولي علي حديث الولي، الشوكاني.
- قوت القلوب، المكي.
- كتاب الزهد، الإمام أحمد، دار الكتب العلمية، بيروت.
- كتاب الزهد، الإمام وكيع الجراح، مكتبة الدار المدنية.
- لطائف المنن والأخلاق، الشعراني، عالم الفكر، مصر.
- مجموعة الرسائل والمسائل، ابن تيمية.
- مجموعة الرسائل المنيرة.
- مجموع فتاوى ابن تيمية.
- مختار الصحاح، الرازي.
- مختصر الفتاوى المصرية، ابن تيمية، المدني، جدة.
- معراج التشوف إلي حقيقة التصوف، ابن عجيبة، تطوان، المغرب.
- المعجزة وكرامات الأولياء، ابن تيمية، دار الكتب العلمية، بيروت.
- المعجم المفهرس لألفاظ الحديث.
- المعجم المفهرس لألفاظ القرآن، عبد الباقي.
- معجم مقاييس اللغة، ابن الفارس.
- مقالات الإسلاميين، أبو الحسن الأشعري، فرانز شتاينر.
- المنقذ من الضلال، محمد جميل غازي، المدني، مصر.
- المواقف، الإيجي، عالم الكتب، بيروت.
- النبوات، ابن تيمية، دار الفكر، بيروت.
- نعت البدايات، مامين، دار الفكر، بيروت.
- نوادر الأصول، الحكيم الترمذي، دار صادر، بيروت.
- هداية الحيارى، ابن القيم، المكتبة القيمة، السودان.
- هذه هي الصوفية، عبد الرحمن الوكيل، دار الكتب العلمية، بيروت.(7/121)
- الولاء والبراء في الإسلام، محمد القحطاني، دار طيبة، الرياض.
فهرس الموضوعات
المقدمة…
(الباب الأول)
الولاية والولي
الولاية لغة واصطلاحاً…
معاني الولاية والولي في القرآن…
الفرق بين ولاية الخالق وولاية المخلوق…
ولاية الشيطان…
(الباب الثاني)
أقسام الأولياء
درجاتهم وأقسامهم كما بينها القرآن…
قسم آخر…
التفاضل في ولاية الله…
الأولياء العلماء أفضل من مجرد العبّاد…
من أفضل أولياء الله…
اجتماع الولاية والعداوة في العبد…
حكم الشهادة لمعين بالولاية…
هل يعلم الولي ولايته…
ما يشترط للولي وما لا يشترط…
ما اتخذ ولياً مبتدعاً…
ولاية عبادة لا ولاية قرابة…
الولي يوالي المؤمنين ويعادي أعدائهم…
أداء الفرائض…
(الباب الثالث)
الولي وحسن الخاتمة
هل يشترط للولاية حسن الخاتمة…
هل يجوز له الخوف من سوء الخاتمة…
مناقشة ما ذكره الكلاباذي…
الولي والعصمة عند أهل السنة…
موقف الرازي من عصمة ولي الأمر…
مناقشة قوله…
ما هو أفضل ما يعتصم به الولي…
الولي إذا ارتد…
(الباب الرابع)
شرح حديث الولي
تواضع الولي…
أسباب التقرب إلى الله…
الفرائض أحب إلى الله من النوافل…
الحكيم الترمذي وتفضيل النوافل على الفرائض…
الرد على هذا القول…
استهانة الصوفية بالتكاليف الشرعية…
معنى (كنت سمعه الذي يسمع به)…
معنى (وما ترددت عن شيء)…
الفناء ووحدة الوجود عند الصوفية…
استدلالهم بعبارة (كنتُ سمعه الذي يسمع به)…
ولا يتهم الله حتى الفناء فيه!…
(الباب الخامس)
حقيقة الولاية عند الصوفية
تعريف الولي والولاية عندهم…
الولاية الصوفية أساس التصوف…
الولاية في مفهوم الغزالي والقشيري…
كراهية الصوفية للعلم…
(الباب السادس)
طريقة خلق الأولياء عند الصوفية
طينة الأولياء ومادتهم كما يزعم السهروردي…
مقامات الأولياء عند الصوفية…
دورهم في حفظ كوكب الأرض…
مزايا القطب ومؤهلاته…
بين مراتب الأولياء ومراتب الأئمة…
كيف تنال مرتبة الولاية عند الصوفية…(7/122)
- الخلوة - الجوع…
خدمة الشيخ من أهم وسائل الولاية…
(الباب السابع)
شروط الولاية عند الصوفية
الكرامة عندهم من شروط الولاية…
شرط عجيب من البيجوري شارح جوهرة التوحيد…
احتيال الشياطين على جهّال المتصرفة…
الاستقامة خير كرامة…
الشياطين تنتحل شخصية الخضر عليه السلام…
(الباب الثامن)
الكرامة ومذاهب الفِرَق فيها
تعريف الكرامة لغة واصطلاحاً…
ما الفرق بين الكرامة والمعجزة…
موقف الفلاسفة من الخوارق والكرامات…
أقسام الخوارق كما فصّلها ابن تيمية…
موقف المعتزلة من الكرامات…
(الباب التاسع)
موقف الأشاعرة من الكرامات
ومفهوم خرق العادة عندهم
الأشاعرة يثبتون الكرامة ولكن!!…
تعريفهم للكرامة وفيه ملاحظات:…
مناقشة هذه التعريفات…
ستر الكرامة لا يشترط…
معجزات الأنبياء لا تشترط…
اقتران المعجزة والكرامة بالتحدي لا يشترط…
خوارق المسيح الدجال والسحرة…
الخلو عن المعارضة لا يشترط…
تعقيب ابن تيمية على تعريف الأشاعرة للكرامة…
ما كان معجزة لنبي هل يجوز أن يكون كرامة لولي…
هذه القاعدة توحي بالتسوية بين المعجزة والكرامة.…
رد ابن تيمية على هذه القاعدة…
أصح التعاريف للكرامة كما يراه ابن تيمية…
(الباب العاشر)
حقيقة الكرامة عند الصوفية
لماذا كانت الكرامة…
نماذج من كرامات السلف الصالح…
(الباب الحادي عشر)
حقيقة المتصوفة في الكرامات
نماذج مما يرويه الصوفية من كرامات شيوخهم…
قولهم للشيء كن فيكون…
الاستغاثة بهم من دون الله…
الاستغاثة بالمخلوق والاستغناء عن الخالق…
(الباب الثاني عشر)
كرامات مسروقة
الكرامة الأولى…
الكرامة الثانية…
الكرامة الثالثة…
الكرامة الرابعة…
(الباب الثالث عشر)
اشتراط الكشف ومعرفة الغيب
مخاطبة الله…
يشمّمون رائحة المعاصي ويعاينون آثارها…
إطلاعهم على علم الغيب…
موقف الغزالي من كشوفات الصوفية…
رد ابن تيمية على من يزعمون الكشف…
الإلهام والملهمون الأوائل…
(الباب الرابع عشر)
مبحث العصمة(7/123)
عصمة الولي عند الصوفية…
الحكيم الترمذي وعثرة التدبير…
لا تعترض فتنطرد…
حفظ الولي وعصمة النبي عند ابن تيمية…
الحفظ الحقيقي…
دعوى العصمة بين الرافضة والمعتزلة…
(الباب الخامس عشر)
تفضيل الولي على النبي
موقف ابن عربي من الولي…
مراتب الأولياء عنده…
شخصية ابن عربي…
فكرة خاتم الأولياء التي تولى كِبْرها…
التعقيب على ذلك…
موقف ابن تيمية من ختم النبوة…
(الباب السادس عشر)
مجموعة خواتيم الولاية
ابن عربي الخاتم الأول…
علي بن أبي طالب الخاتم الثاني…
أحمد الرفاعي الخاتم الثالث…
محمد وفا الخاتم الرابع…
أحمد التيجاني الخاتم الخامس…
(الباب السابع عشر)
الصلة بين التصوف والتشيع
رأي ابن خلدون بهذه الصلة…
أول من أخذ عنه التصوف…
الخرقة وكذب سندها…
العلم الباطن…
معنى وقل أبي هريرة (حفظت جرابين)…
مصادر العلم الباطن…
نماذج من العلم الباطن…
تعظيم الصوفية لكتاب الجفر الشيعي…
التقية الباطنية…
الصوفية وموقفهم من مهدي الشيعة…
مبدأ الغلو والتقديس…
مملكة الألقاب الموهومة…
موقفهم من أئمة الآل…
الرفاعية وموقفهم من أهل البيت…
الرفاعية ينتظرون مهدي الشيعة…
محبة أهل البيت تمحو الذنوب…
انتهى بحمد الله(7/124)
بسم الله الرحمن الرحيم
ابن عربي
صاحب كتاب (فصوص الحكم)
إمام من أئمة الكفر والضلال
المقدمة:
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، والصلاة والسلام على عبده ورسوله الأمين.. وبعد،،
فقد نقل عن دكتور في الشريعة أن ابن عربي صاحب كتاب "فصوص الحكم" طود شامخ، وعالم كبير، وأن ما كان يسمعه عنه في بداية الطلب غير ما تحقق منه بعد أن اطلع بنفسه على كتبه وعلومه... ولما كان الدكتور المذكور قد قال هذا القول في مؤتمر عام، ولم يتسن بيان ما في كلامه من الخطأ العظيم أو الزور الكبير، وقد يضل بقوله من لم يعرف حقيقة الأمور، أو يغتر به جاهل أو مغرور، أحببنا بيان هذا الأمر الخطير...
سائلاً الله تبارك وتعالى أن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه ، ويرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه . إنه سميع عليم.
عبدالرحمن بن عبدالخالق
الكويت / غرة شوال 1422هـ
الموافق 15/1/2002
ابن عربي وكتابه (فصوص الحكم):
ابن عربي والذي يسمونه الشيخ الأكبر ويلقبونه بمحي الدين المتوفى سنة 638 هـ هو صاحب كتاب (فصوص الحكم) والذي فصل فيه عقيدته المسماه بوحدة الوجود، والذي ادعى في هذا الكتاب أن النبي قد كتبه له بنصه، وسلمه إياه يداً بيد، وقال اخرج به على الناس.
قال: "فإني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في مبشرة أريتها في العشر الآخر من محرم سنة سبع وعشرين وستمائة بمحروسة دمشق، وبيده صلى الله عليه وسلم كتاب، فقال لي: هذا كتاب فصوص الحكم خذه واخرج به إلى الناس ينتفعون به، فقلت: السمع والطاعة لله ولرسوله وأولي الأمر منا كما أُمرنا. فحققت الأمنية وأخلصت النية وجردت القصد والهمة إلى إبراز هذا الكتاب كما حده لي رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير زيادة ولا نقصان".(8/1)
وقد جمع ابن عربي في كتابه هذا أعظم كفر عرفته البشرية في كل عصورها، دونه كفر اليهود والنصارى وسائر المشركين، فقد فصل ابن عربي في كتابه هذا عقيدته الخبيثة فيما سمى بوحدة الوجود: وأن كل هذه الموجودات القائمة من السماء والأرض والجن والإنس والملائكة والحيوان والنبات ما هي إلا الله وأن هذه الموجودات هي عين وجوده، وأنه لا يوجد خالق ومخلوق ولا رب ولا عبد، بل الخالق هو عين المخلوق، والعبد هو عين الرب، والرب هو عين العبد، وأن الملك والشيطان، والجنة والنار، والطهر والنجاسة وكل المتناقضات والمتضادات ما هي إلا عين واحدة تتصف بكل صفات الموجودات، وهي عين الله الواحد الذي ليس معه غيره.. تعالى الله عما يقول هذا المجرم وأمثاله علواً كبيراً.
وفضّل هذا الخبيث نفسه على سائر البشر والأنبياء المرسلين زاعماً أنه خاتم الأولياء كما كان النبي محمد صلى الله عليه وسلم هو خاتم الأنبياء، والولي عنده أفضل من النبي لأنه زعم أن الولي يأخذ ويتعلم من معين الحق، والنبي يأخذ بواسطة الملك ومن يأخذ بلا واسطة خيرٌ مما يأخذ بواسطة، وإن كان الجميع عنده في النهاية عيناً واحدة، ولكنهم يتفاوتون في المراتب والمنازل.
ألوان من كفر ابن عربي وتفصيله لعقيدته وحدة الوجود:
وقال هذا الأفاك فيما قال: إن الله لا ينزه عن شيء، لأن كل شيء هو عينه وذاته، وأن من نزهه عن الموجودات قد جهل الله ولم يعرفه، أي جهل ذاته ونفسه... قال: "اعلم أن التنزيه عن أهل الحقائق في الجانب الإلهي عين التحديد والتقييد فالمنزه إما جاهل وإما صاحب سوء أدب" (الفصوص/86).(8/2)
وقال في وصف نوح صلى الله عليه وسلم: " { ومكروا مكراً كباراً } لأن الدعوة إلى الله مكر بالمدعو، فأجابوه مكراً كما دعاهم فقالوا في مكرهم: لا تذرن آلهتكم ولا تذرن وداً ولا سواعاً ولا يغوث ويعوق ونسراً. فإنهم لو تركوهم جهلوا من الحق على قدر ما تركوا من هؤلاء. فإن للحق في كل معبود وجهاً يعرفه من يعرفه ويجهله من يجهله { وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه } أي حكم فالعالم يعلم من عَبَد وفي أي صورة ظهر حتى عُبِد، وإن التفريق والكثرة كالأعضاء في الصورة المحسوسة والقوى المعنوية في الصورة الروحانية، فما عبد غير الله في كل معبود" (الفصوص/72).…
ولما جعل هذا الخبيث قوم نوح الذين عبدوا الأصنام لم يعبدوا إلا الله وإنهم بذلك موحدون حقاً فلذلك كافأهم الله الذي هم نفسه وذاته بأن أغرقهم في بحار العلم في الله. قال: " { مما خطيئاتهم } فهي التي خطت بهم فغرقوا في بحار العلم بالله، { فأدخلوا ناراً } في عين الماء { وإذا البحار سجرت } { فلم يجدوا من دون الله أنصاراً } فكان الله عين أنصارهم فهلكوا فيه إلى الأبد" (الفصوص/73).
وقال أيضاً: "ومن أسمائه العلي: على من، وما ثم إلا هو، فهو العلي لذاته أو عن ماذا ؟ وما هو إلا هو، فعلوه لنفسه، ومن حيث الوجود فهو عين الموجودات فالمسمى محدثات هي العلية لذاتها وليس إلا هو" (الفصوص/76).
وقال: ومن عرف ما قررناه في الأعداد، وأن نفيها عين إثباتها، علم أن الحق المنزه هو الخلق المشبه، وإن كان قد تميز الخلق من الخالق. فالأمر الخالق المخلوق، والأمر المخلوق الخالق. كل ذلك من عين واحدة، لا، بل هو العين الواحدة وهو العيون الكثيرة. فانظر ماذا ترى { قال يا أبت افعل ما تؤمر } ؛ والولد عين أبيه. فما رأى يذبح سوى نفسه. وفداه بذبح عظيم، فظهر بصورة كبش من ظهر بصورة إنسان. وظهر بصورة ولد: لا، بل بحكم ولد من هو عين الوالد. { وخلق منها زوجها } : فما نكح سوى نفْسِهِ. اهـ (الفصوص/78).(8/3)
وقال أيضاً: "فالعلي لنفسه هو الذي يكون له الكمال الذي يستغرق به جميع الأمور الوجودية والنسب العدمية بحيث لا يمكن أن يفوته نعت منها، وسواء كانت محمودة عرفاً وعقلاً وشرعاً أو مذمومة عرفاً وعقلاً وشرعاً. وليس ذلك إلا لمسمى الله تعالى خاصة" (الفصوص/79).
وهذا الخبيث لا يكذب الرسل فقط في إخبارهم عن الله والغيب، بل يكذب ويكابر في المحسوس فإنه بما زعم في وحدة الوجود وأنه ليس إلا الله، مدعياً أنه هو عين المخلوقات، وبذلك لا يكون هناك فارق بين الملك والشيطان والمؤمن والكافر، والحلال والحرام، ومن عبد الشمس والقمر، ومن كفر بعبادة الشمس والقمر... بل ادعى كذلك أن الجنة والنار كليهما للنعيم، وأن أهل النار منعمون كما أهل الجنة، قال:
وإن دخلوا دار الشقاء فإنهم على لذة فيها نعيم مباين
نعيم جنان الخلد، فالأمر واحد وبينهما عند التجلي تباين
يسمى عذاباً من عذوبة طعمه وذاك له كالقشر والقشر صاينُ
وهذه صورة من الصور الشيطانية الإبليسية في الإفصاح عن هذه العقيدة الخبيثة فيما سماه بفص حكمة أحدية في كلمة هودية:(8/4)
"اعلم أن العلوم الإلهية الذوقية الحاصلة لأهل الله مختلفة باختلاف القوى الحاصلة منها مع كونها ترجع إلى عين واحدة، فإن الله تعالى يقول: ((كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يسعى بها)) فذكر أن هويته هي عين الجوارح التي هي عين العبد. فالهوية واحدة والجوارح مختلفة. ولكل جارحة علم من علوم الأذواق يخصها من عين واحدة تختلف باختلاف الجوارح، كالماء حقيقة واحدة في الطعم باختلاف البقاع، فمنه عذب فرات ومنه ملح أجاج، وهو ماء في جميع الأحوال لا يتغير عن حقيقته وإن اختلفت طعومه. وهذه الحكمة من علم الأرجل وهو قوله تعالى في الأكل لمن أقام كتبه: { ومن تحت أرجلهم } فإن الطريق الذي هو الصراط هو السلوك عليه والمشي فيه، والسعي لا يكون إلا بالأرجل. فلا ينتج هذا الشهود في أخذ النواصي بيد من هو على صراط مستقيم إلا هذا الفن الخاص من علوم الأذواق. { فيسوق المجرمين } وهم الذين استحقوا المقام الذي ساقهم إليه بريح الدبور التي أهلكهم عن نفوسهم بها، فهو يأخذ بنواصيهم والريح تسوقهم وهو عين الهواء التي كانوا عليها إلى جهنم، وهي البعد الذي كانوا يتوهمونه.(8/5)
فلما ساقهم إلى ذلك الموطن حصلوا في عين القرب فزال البعد فزال مسمى جهنم في حقهم، ففازوا بنعيم القرب من جهة الاستحقاق لأنهم مجرمون. فما أعطاهم هذا المقام الذوقي اللذيذ من جهة المنة، وإنما أخذوه بما استحقته حقائقهم من أعمالهم التي كانوا عليها، وكانوا في السعي في أعمالهم على صراط الرب المستقيم لأن نواصيهم كانت بيد من له هذه الصفة. فما مشوا بنفوسهم وإنما مشوا بحكم الجبر إلى أن وصلوا إلى عين القرب. { ونحن أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون } وإنما هو يبصر فإنه مكشوف الغطا { فبصره حديد } وما خص ميتاً من ميت أي ما خص بعيداً في القرب من شقي. { ونحن أقرب إليه من حبل الوريد } وما خص إنساناً من إنسان. فالقرب الإلهي من العبد لا خفاء به في الإخبار الإلهي. فلا قرب أقرب من أن تكون هويته عين أعضاء العبد وقواه، وليس العبد سوى هذه الأعضاء والقوى فهو حق مشهود في خلق متوهم. فالخلق معقول والحق محسوس مشهود عند المؤمنين وأهل الكشف والوجود، وما عدا هذين الصنفين فالحق عندهم معقول الخلق مشهود. فهم بمنزلة الماء المالح الأجاج، والطائفة الأولى بمنزلة الماء العذب الفرات السائغ لشاربه. فالناس على قسمين: من الناس من يمشي على طريق يعرفها ويعرف غايتها، فهي في حقه صراط مستقيم. ومن الناس من يمشي في طريق يجهلها ولا يعرف غايتها وهي عين الطريق التي عرفها الصنف الآخر، فالعارف يدعو إلى الله على بصيرة، وغير العارف يدعو إلى الله على التقليد والجهالة. فهذا علم خاص يأتي من أسفل سافلين، لأن الأرجل هي السفل من الشخص، وأسفل منها ما تحتها وليس إلا الطريق. فمن عرف أن الحق عين الطريق عرف الأمر على ما هو عليه، فإن فيه جل وعلا تسلك وتسافر إذ لا معلوم إلا هو، وهو عين الوجود والسالك المسافر. فلا عالِمَ إلا هو فمن أنت ؟ فاعرف حقيقتك وطريقتك، فقد بان لك الأمر على لسان الترجمان إن فهمت. وهو لسان حق فلا يفهمه إلا من فهمُهُ حق: فإن للحق(8/6)
نسباً كثيرة ووجوهاً مختلفة: ألا ترى عاداً قومَ هود كيف "قالوا هذا عارض ممطرنا" فظنوا خيراً بالله تعالى وهو عند ظن عبده به، فأضرَبَ لهم الحق عن هذا القول فأخبرهم بما هو أتم وأعلى في القرب، فإنه إذا أمطرهم فذلك حظ الأرض وسقى الحبة فما يصلون إلى نتيجة ذلك المطر إلا عن بعد فقال لهم: { بل هو ما استعجلتم به ريحٌ فيها عذابٌ أليم } فجعل الريح إشارة إلى ما فيها من الراحة فإن بهذه الريح أراحهم من هذه الهياكل المظلمة والمسالك الوعرة والسدف المدلهمة، وفي هذه الريح عذاب أي أمر يستعذبونه إذا ذاقوه، إلا أنه يوجعهم لفرقة المألوف. فباشرهم العذاب فكان الأمر إليهم أقرب مما تخيلوه فدمرت كل شيء بأمر ربها، { فأصبحوا لا يُرى إلا مساكنهم } وهي جثثهم التي عمرتها أرواحهم الحقِّية. فزالت حقية هذه النسبة الخاصة وبقيت على هيا كلهم الحياة الخاصة بهم من الحق التي تنطق بها الجلود والأيدي والأرجل وعذبات الأسواط والأفخاذ. وقد ورد النص الإلهي بهذا كله، إلا أنه تعالى وصف نفسه بالغيرة، ومن غيرته { حرم الفواحش } وليس الفحش إلا ما ظهر. وأما فحش ما بطن فهو لمن ظهر له. فلما حرم الفواحش أي منع أن تعرف حقيقة ما ذكرناه، وهي عين الأشياء فسترها بالغيرة وهو أنت من الغير، فالغير يقول السمع سمع زيد، والعارف يقول السمع سمع الحق، وهكذا ما بقي من القوى والأعضاء. فما كل أحد عرف الحق فتفاضل الناس وتميزت المراتب فبان الفاضل والمفضول. واعلم أنه لما أطلعني الحق وأشهدني أعيان رسله عليهم السلام وأنبيائه كلهم البشريين من آدم إلى محمد صلى الله عليهم أجمعين في مشهد أقمتُ فيه بقرطبة سنة ست وثمانين وخمسمائة، ما كلمني أحد من تلك الطائفة إلا هود عليه السلام فإنه أخبرني بسبب جمعيتهم، ورأيته رجلاً ضخماً في الرجال حسن الصورة لطيف المحاورة عارفاً بالأمور كاشفاً لها. ودليلي على كشفه لها قوله: { ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط(8/7)
مستقيم } . وأي بشارة للخلق أعظم من هذه ؟ ثم من امتنان الله علينا أن أوصل إلينا هذه المقالة عنه في القرآن، ثم تممها الجامع للكل محمد صلى الله عليه وسلم بما أخبره عن الحق بأنه عين السمع والبصر واليد والرجل واللسان: أي هو عين الحواس. والقوى الروحانية أقرب من الحواس. فاكتفى بالأبعد المحدود عن الأقرب المجهول الحد. فترجم الحق لنا عن نبيه هود مقالته لقومه بشرى لنا، وترجم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الله مقالته بشرى: فكمل العلم في صدور الذين أوتوا العلم { وما يجحد بآياتنا إلا الكافرون } فإنهم يسترونها وإن عرفوها حسداً منهم ونفاسة وظلماً. وما رأينا قط من عند الله في حقه تعالى في آية أنزلها أو أخبر عنه أوصله إلينا فيما يرجع إليه إلا بالتحديد تنزيهاً كان أو غير تنزيه" اهـ (الفصوص/107-110).
ولا يخجل هذا الأفاك من وصف الرب الإله سبحانه وتعالى بكل صفات الذم تصريحاً لا إجمالاً وتلميحاً وفحوى… فهو يصف الجماع بل الوقاع نَفسَه أنه دليل هذه الوحدة، فالله عنده هو الطيب والخبيث - تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً- فيقول: "والعالم على صورة?الحق، والإنسان على الصورتين" (الفصوص/222).(8/8)
وقال: "ولما أحب الرجل المرأة طلب الوصلة أي غاية الوصلة التي تكون في المحبة، فلم يكن في صورة النشأة العنصرية أعظم وصلة من النكاح، ولهذا تعم الشهوة أجزاءه كلها، ولذلك أُمِرَ بالاغتسال منه، فعمت الطهارة كما عم الفناء فيها عند حصول الشهوة. فإن الحق غيور على عبده أن يعتقد أنه يلتذ بغيره، فطهره بالغسل ليرجع بالنظر إليه فيمن فني فيه، إذ لا يكون إلا ذلك. فإذا شاهد الرجل الحق في المرأة كان شهوداً في منفعل، وإذا شاهده في نفسه - من حيث ظهور المرأة عنه - شاهده في فاعل، وإذا شاهده في نفسه من غير استحضار صورة ما تكوَّن عنه كان شهوده في منفعل عن الحق بلا واسطة. فشهوده للحق في المرأة أتم وأكمل، لأنه يشاهد الحق من حيث هو فاعل منفعل، ومن نفسه من حيث هو منفعل خاصة. فلهذا أحب صلى الله عليه وسلم النساء لكمال شهود الحق فيهن، إذ لا يشاهد الحق مجرداً عن المواد أبداً، فإن الله بالذت غني عن العالمين، وإذا كان الأمر من هذا الوجه ممتنعاً، ولم تكن الشهادة إلا في مادة، فشهود الحق في النساء أعظم الشهود وأكمله " (الفصوص/217).
وحدة الوجود أعظم عقيدة في الكفر:
وهذه العقيدة التي لم تعرف الأرض أكفر ولا أفجر منها والتي فصلها هذا الخبيث في كتابه الفصوص، قد نثرها وفرقها في موسوعته الكبيرة الفتوحات المكية والتي تقع في أربع مجلدات كبار كبار.
بدأها في مقدمته بقوله " ولما حيرتني هذه الحقيقة أنشدت على حكم الطريقة للحقيقة:
الرب حق والعبد حق يا ليت شعري من المكلف
إن قلت عبد فذاك ميت وإن قلت رب أنى يكلف
فهو يطيع نفسه إذا شاء بخلقه..." الخ.
ثم فرق هذه العقيدة الكفرية في كتابه هذا قائلاً: " وأما عقيدة خلاصة الخاصة في الله تعالى... جعلناه مبدداً في هذا الكتاب لكون أكثر العقول المحجوبة تقصر..." (الفتوحات/47).
أسلوب ابن عربي في كتاباته:(8/9)
وبنى ابن عربي كتاباته كلها على الثعلبية والمكر والخداع وذلك بتحريف الكلم عن مواضعه تحريفاً معنوياً للقرآن الكريم والحديث الشريف، والكذب وادعاء العلم الإلهي، والرؤى، والاطلاع على مالم يطلع عليه أحد من الخلق سواه، مع ادعائه بالعلم والدين والتقوى والصدق، وقد لا يوجد على البسيطة كلها من هو أكذب منه. ووالله إني عندما أقرأ كتابه وأقارن بين ما قاله إبليس في أول أمره عندما امتنع عن السجود لآدم، واستكبر وأبى فلعنه الله إلى يوم القيامة { وإن عليك لعنتي إلى يوم يبعثون } وبين هذا الكذاب الأفاك الذي قال عن الله وفي الله ما لم تقله اليهود والنصارى ولا مشركو العرب والعجم فأرى أن إبليس في وقت لعن الله له، كان أخف ذنباً وجرماً، وإن كان قد أصبح بعد ذلك هو محرك الشرك كله وباعثه، وابن عربي وأمثاله وإن كانوا غرساً من غراس إبليس اللعين فإنهم قد فاقوا بكفرهم وعنادهم وعتوهم وقولهم العظيم على الله ما لم يقله إبليس، فإن إبليس كان يفرق بين الخالق والمخلوق، وبين الرب الإله القوي القاهر، وبين المخلوق الضعيف الفقير المحتاج إلى إلهه ومولاه، وأما ابن عربي هذا ومن على شاكلته فقد جعلوا إبليس وجبريل والأنبياء والكفار والأشقياء، وكل هذه المخلوقات هي عين الخالق وأنه ليس في الوجود غيره، يخلق بنفسه لنفسه، وأنه ليس معه غيره، وأن الكفر والإيمان، والحلال والحرام، والأخت والأجنبية، واتيان النساء، واتيان الذكور شيء واحد، وكل هذا عين الرب وحقيقته وأفعاله - فتعالى الله عما يقولون علواً كبيراً- ونستغفره سبحانه وتعالى من ذكر أقوالهم ونقل كفرهم، ولكننا نفعل ذلك لأن هؤلاء المجرمين هم عند كثير من الحمقى المغفلين، والزنادقة المخادعين هم عندهم أولياء الله الصالحين.
وقد قام علماء المسلمين الصادقين في كل وقت يردون إفك هؤلاء المجرمين.
ابن تيمية يرد على إفك ابن عربي وعقيدته وحدة الوجود:(8/10)
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله- فيهم: "حتى يبلغ الأمر بأحدهم إلى أن يهوى المردان، ويزعم أن الرب تعالى تجلى في أحدهم، ويقولون: هو الراهب في الصومعة ؛ وهذه مظاهر الجمال ؛ ويقبل أحدهم الأمرد، ويقول: أنت الله. ويذكر عن بعضهم أنه كان يأتي ابنه، ويدعي أنه الله رب العالمين، أو أنه خلق السماوات والأرض، ويقول أحدهم لجليسه: أنت خلقت هذا، وأنت هو، وأمثال ذلك.
فقبح الله طائفة يكون إلهها الذي تعبده هو موطؤها الذي تفترشه ؛ وعليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منهم صرفاً ولا عدلاً.
ومن قال: إن لقول هؤلاء سراً خفياً وباطن حق، وأنه من الحقائق التي لا يطلع عليها إلا خواص خواص الخلق: فهو أحد رجلين – إما أن يكون من كبار الزنادقة أهل الإلحاد والمحال، وإما أن يكون من كبار أهل الجهل والضلال. فالزنديق يجب قتله، والجاهل يعرف حقيقة الأمر، فإن أصر على هذا الاعتقاد الباطل بعد قيام الحجة عليه وجب قتله.
ولكن لقولهم سر خفي وحقيقة باطنة لا يعرفها إلا خواص الخلق. وهذا السر هو أشد كفراً وإلحاداً من ظاهره ؛ فإن مذهبهم فيه دقة وغموض وخفاء قد لا يفهمه كثير من الناس" (الفتاوى 2/378-379).
ويقول أيضاً شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله-: "وأقوال هؤلاء شر من أقوال اليهود والنصارى، فيها من التناقض من جنس ما في أقوال النصارى ولهذا يقولون بالحلول تارة، وبالاتحاد أخرى، وبالوحدة تارة، فهو مذهب متناقض في نفسه، ولهذا يلبسون على من لم يفهمه. فهذا كله كفر باطناً وظاهراً بإجماع كل مسلم، ومن شك في كفر هؤلاء بعد معرفة قولهم ومعرفة دين الإسلام فهو كافر كمن يشك في كفر اليهود والنصارى" (الفتاوى 2/368).
وقال أيضاً: "ولا يتصور أن يثني على هؤلاء إلا كافر ملحد، أو جاهل ضال" (الفتاوى 2/367).(8/11)
ولما سئل شيخ الإسلام عن كتاب فصوص الحكم قال: "ما تضمنه كتب (فصوص الحكم) وما شاكله من الكلام: فإنه كفر باطناً وظاهراً ؛ وباطنه أقبح من ظاهره. وهذا يسمى مذهب أهل الوحدة، وأهل الحلول، وأهل الاتحاد. وهم يسمون أنفسهم المحققين. وهؤلاء نوعان:
نوع يقول بذلك مطلقاً، كما هو مذهب صاحب الفصوص ابن عربي وأمثاله: مثل ابن سبعين، وابن الفارض، والقونوي والششتري والتلمساني وأمثالهم ممن يقول: إن الوجود واحد، ويقولون: إن وجود المخلوق هو وجود الخالق، لا يثبتون موجودين خلق أحدهما الآخر، بل يقولون: الخالق هو المخلوق، والمخلوق هو الخالق. ويقولون: إن وجود الأصنام هو وجود الله، وإن عبّاد الأصنام ما عبدوا شيئاً إلا الله.
ويقولون: إن الحق يوصف بجميع ما يوصف به المخلوق من صفات النقص والذم.
ويقولون: إن عبّاد العجل ما عبدوا إلا الله، وإن موسى أنكر على هارون لكون هارون أنكر عليهم عبادة العجل، وإن موسى كان بزعمهم من العارفين الذين يرون الحق في كل شيء، بل يرونه عين كل شيء، وأن فرعون كان صادقاً في قوله: أنا { ربكم الأعلى } بل هو عين الحق، ونحو ذلك مما يقوله صاحب الفصوص.
ويقول أعظم محققيهم: إن القرآن كله شرك، لأنه فرق بين الرب والعبد ؛ وليس التوحيد إلا في كلامنا.
فقيل له: فإذا كان الوجود واحداً، فلم كانت الزوجة حلالاً والأم حراماً ؟ فقال: الكل عندنا واحد، ولكن هؤلاء المحجوبون قالوا: حرام. فقلنا: حرام عليكم" (الفتاوى 2/364-365).
وقال ابن تيمية أيضاً: "وقد صرح ابن عربي وغيره من شيوخهم بأنه هو الذي يجوع ويعطش، ويمرض ويبول ويَنكح ويُنكح، وأنه موصوف بكل عيب ونقص لأن ذلك هو الكمال عندهم، كما قال في الفصوص ؛ فالعلي بنفسه هو الذي يكون له الكمال الذي يستقصى به جميع الأمور الوجودية، والنسب العدمية: سواء كانت ممدوحة عرفاً وعقلاً وشرعاً، أو مذمومة عرفاً وعقلاً وشرعاً وليس ذلك إلا لمسمى الله خاصة" (الفتاوى 2/265).(8/12)
ويعتذر شيخ الإسلام عن الإفاضة في بيان عقيدة هؤلاء القوم والتحذير منهم قائلاً: "ولولا أن أصحاب هذا القول كثروا وظهروا وانتشروا، وهم عند كثير من الناس سادات الأنام، ومشايخ الإسلام، وأهل التوحيد والتحقيق. وأفضل أهل الطريق، حتى فضلوهم على الأنبياء والمرسلين، وأكابر مشايخ الدين: لم يكن بنا حاجة إلى بيان فساد هذه الأقوال، وإيضاح هذا الضلال.
ولكن يعلم أن الضلال لا حد له، وأن العقول إذا فسدت: لم يبق لضلالها حد معقول، فسبحان من فرق بين نوع الإنسان؛ فجعل منه من هو أفضل العالمين، وجعل منه من هو شر من الشياطين، ولكن تشبيه هؤلاء بالأنبياء والأولياء، كتشبيه مسيلمة الكذاب بسيد أولي الألباب، وهو الذي يوجب جهاد هؤلاء الملحدين، الذين يفسدون الدنيا والدين" (الفتاوى 2/357-358).
وقال في وجوب إنكار هذه المقالات الكفرية، وفضح أهلها: "فهذه المقالات وأمثالها من أعظم الباطل، وقد نبهنا على بعض ما به يعرف معناها وأنه باطل، والواجب إنكارها ؛ فإن إنكار هذا المنكر الساري في كثير من المسلمين أولى من إنكار دين اليهود والنصارى، الذي لا يضل به المسلمون، لا سيما وأقوال هؤلاء شر من أقوال اليهود والنصارى وفرعون، ومن عرف معناها واعتقدها كان من المنافقين، الذين أمر الله بجهادهم بقوله تعالى: { جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم } والنفاق إذا عظم كان صاحبه شراً من كفار أهل الكتاب، وكان في الدرك الأسفل من النار.
وليس لهذه المقالات وجه سائغ، ولو قدر أن بعضها يحتمل في اللغة معنى صحيحاً فإنما يحمل عليها إذا لم يعرف مقصود صاحبها، وهؤلاء قد عرف مقصودهم، كما عرف دين اليهود والنصارى والرافضة، ولهم في ذلك كتب مصنفة، وأشعار مؤلفة، وكلام يفسر بعضه بعضاً.(8/13)
وقد علم مقصودهم بالضرورة، فلا ينازع في ذلك إلا جاهل لا يلفت إليه، ويجب بيان معناها وكشف مغزاها لمن أحسن الظن بها، وخيف عليه أن يحسن الظن بها أو أن يضل، فإن ضررها على المسلمين أعظم من ضرر السموم التي يأكلونها ولا يعرفون أنها سموم، وأعظم من ضرر السراق والخونة، الذين لا يعرفون أنهم سراق وخونة.
فإن هؤلاء: غاية ضررهم موت الإنسان أو ذهاب ماله، وهذه مصيبة في دنياه قد تكون سبباً لرحمته في الآخرة، وأما هؤلاء: فيسقون الناس شراب الكفر والإلحاد في آنية أنبياء الله وأوليائه، ويلبسون ثياب المجاهدين في سبيل الله، وهم في الباطن من المحاربين لله ورسوله، ويظهرون كلام الكفار والمنافقين، في قوالب ألفاظ أولياء الله المحققين، فيدخل الرجل معهم على أن يصير مؤمناً ولياً لله، فيصير منافقاً عدواً لله" (الفتاوى 2/359).
خاتمة:
وفي هذا الذي نقلناه بحمد الله كفاية لمعرفة هذه العقيدة الكافرة، والعلم بأعظم من قام بترويجها ونشرها، ولعل في ذلك تحذيراً للمؤمنين المسلمين أن يفتروا بأقوال هؤلاء الزنادقة والمنافقين.
********************(8/14)
إتحاف أهل الفضل والإنصاف
بنقض كتاب ابن الجوزي دفع شبه التشبيه وتعليقات السقاف
تأليف
سليمان بن ناصر عبد الله العلوان
قام بصفه ونشره
[أبو عمر الدوسري]
www.frqan.com
المقدمة
إن الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
أما بعد:
فقد سبق أن كتبت رسالة في الرد على حسن السقاف في تعليقاته على كتاب ابن الجوزي ((دفع شبه التشبيه...))، وبينت مجانبة السقاف للصواب في تعليقاته، وشدة تحامله على علماء السلف وخيار الأمة، وكنت أختصر الجواب اختصارا يفي بالمعنى ولا يخل بالمقصود، ووعدت أن أكتب ردا مفصلا عليه وعلى كتاب ابن الجوزي؛ نصرا للحق، ودحضا للباطل، خصوصا أن السقاف وابن الجوزي كثيرا ما يذكران التأويل الباطل ويعزوانه لأئمة السلف، موهمين الخلق أن هذا مذهبهم وهذا اعتقادهم؛ تشبثا بما نقل عن بعض أئمة السلف من التأويل، وهو إما نقل غير صحيح، وإما نقل محرف؛ كما سأبينه فيما سيأتي إن شاء الله تعالى.
مع أن السقاف وأمثاله لا يعبؤون بأئمة السلف، ولا يأخذون بآرائهم وأقوالهم، بل ينبذونها ويطرحونها مع التهجم العنيف عليهم، وتارة يشككون في كتبهم وفي صحة نسبتها إليهم، وإذا عثروا على نقل مجرد أو محرف يوافق أهواءهم ومشاربهم، احتجوا به، وجالدوا عليه بالسيوف، ونسبوا القول وقائله إلى مذهبهم، وهذا من اتباع الهوى، وقد قال تعالى: { وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ } [ص: 26].(9/1)
والواجب على جميع العباد عدم تتبع زلات العلماء وأخطائهم؛ لأنهم ليسوا بمعصومين؛ فالخطأ أمر لا بد أن يقع من البشر، سوى من عصمه الله، ولا عصمة إلا للأنبياء والرسل، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((كل ابن آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون)). رواه: الترمذي (4/ 568)، وابن ماجه (4251)، وغيرهما، عن أنس. وسنده حسن.
وقد أمرنا الله تعالى عند التنازع بالرجوع إلى الكتاب والسنة، والرد إليهما، وتحكيمهما، فقال تعالى: { فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً } [النساء: 59].
والرد إلى الله: الرد إلى كتابه الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، والرد إلى الرسول صلى الله عليه وسلم: الرد إلى سنته الواضحة التي تركنا عليها النبي صلى الله عليه وسلم ليلها كنهارها، ولا يزيغ عنها إلا هالك.
قال تعالى: { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُّبِينًا } [الأحزاب: 36].
فكل من عصى الله والرسول بفعل النواهي وترك الأوامر؛ فله حظ وافر من الضلال المبين.
ومن نبذ أقوال الرسول، أو وجد في نفسه حرجا منها، أولم يسلم لأقواله؛ فليس له حظ من الإيمان؛ كما أقسم الله تعالى بنفسه على ذلك، فقال: { فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا } [النساء: 65].
فصل(9/2)
لا يخفى أن هناك فرقا بين إنسان جعل التأويل الباطل منهجا وطريقة يناضل ويجادل عليه، وبين عالم أخطا خطأ وزل زلة؛ فالأول جعل التأويل الفاسد عقيدة يسير عليها، ونبذ الكتاب والسنة وراء ظهره، ولم يرجع إلى فهم السلف الصالح من الصحابة والتابعين كي يعينو على فهم النصوص، ولم يتحر الصواب في الوصول إلى الحق، إنما لجأ في تحرير المسائل إلى فهوم علماء الكلام والضلال؛ كالجعد بن درهم، والجهم بن صفوان، والمريسي، والرازي، وجهمي العصر الكوثري؛ فمثل هذا يلحق بأحد الطوائف المبتدعة أو المارقة، والثاني لا يرى التأويل الباطل ولا التحريف مطلقا، ويتوخى الحق، ويستعين على فهم الكتاب والسنة بعلوم السلف وفهومهم، ولكنه زل زلة، فأول آية أو حديثا؛ لشبهة قامت عنده: إما لضعف الحديث عنده، وإما لعدم فهمه للمسألة على وجهها، وإما لغير ذلك؛ ففي هذه الحالة خطؤه مغفور له، ولكن يجتنب خطؤه ويبين، ولا يتابع عليه؛ لأنه ليس كل من أخطأ يكون كافرا أو مبتدعا؛ فقد عفا الله لهذه الأمة عن الخطأ والنسيان.
قال الذهبي في ((سير أعلام النبلاء)) في ترجمة ابن خزيمة (14/ 376): ((ولو أن كل من أخطأ في اجتهاده مع صحة إيمانه وتوخيه لإتباع الحق أهدرناه وبدعناه؛ لقل من يسلم من الأئمة معنا)).
وهذا ظاهر، وكلام علماء السلف يدل على ذلك.
فمن سوّى بين الأول والثاني؛ فقد جار في حكمه، ولم يعدل في قوله؛ فكيف يسوى بين رجلين: أحدهما: تحرى الحق والصواب، واجتهد في ذلك، مع حسن قصده، ولم يصبه؛ لشبهة قامت عنده. والآخر: نظر في كلام المتكلمين واتبعه، وأخذ يجادل عن الباطل، ونبذ نصوص الكتاب والسنة وراء ظهره؛ فالمعروف عنده الرد على علماء السلف وتسفيههم والطعن فيهم، وبيّن له الحق والصواب ولم يرجع، وأنكر أمورا معلومة من الدين بالضرورة، وكثر عثاره، وطال شقاقه وعناده، وكثر تحريفه للنصوص وجداله، ويسب علماء السلف وخيار هذه الأمة، ويسمي التوحيد شركا والشرك توحيدا؟!(9/3)
فمن سوى بين من كانت هذه حاله وبين الأول؛ فقد أبعد النجعة، وقفا ما لا علم له به، وخالف الكتاب والسنة، وما عليه سلف الأمة وأئمتها.
فصل
الأصل في الرد أن يكون بعلم وعدل، لا بجهل وظلم؛ لأن الظلم مما يبغضه الله، وهو من صفات أهل الأهواء، الذين يلجؤون في كتبهم إلى الكذب والظلم لترويج باطلهم.
وكثيرا ما ينهج السقاف في تعليقاته على ((دفع شبه التشبيه))، وفي كثير من كتبه، منهجا وبيا من الكذب على علماء السلف وتقويلهم ما لم يقولوا، وحمل كلامهم على خلاف الحق؛ كي يلج لجة التبديع والتكفير؛ كما ستقف عليه إن شاء الله في هذا الكتاب، وهذه سجية جهمي العصر الكوثري في كثير من كتبه؛ فإنه لا يتحرى الصدق في النقل، وكثيرا ما يلجأ إلى السب والشتم والوقوع في أعراض علماء الأمة، وهذه الصفة ليست خاصة في الكوثري وتلاميذه، بل هي عامة في كثير من أهل الأهواء، الذي ينتصرون لبدعهم وضلالهم، ولا يعدلون في قولهم وفعلهم.
والعدل في القول والفعل من صفات المؤمنين، وهو مما يحبه الله ويأمر به: قال تعالى:
{ وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ } [الأنعام: 152] وقال تعالى: { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ } [الآية أ النحل: 90]؛ فالمؤمن لا يكذب ولا يظلم، وإن كذب عليه؛ لأن الكذب والبهت من صفات المنافقين.
وما يلاقيه أهل السنة من كثير من أهل البدع من الظلم والكذب أمر مشهور، قد دونه أهل العلم في كتبهم؛ فإن كثيرا من أهل البدع أهل ظلم وبغي وجور، لا ينفقون ضلالهم إلا بالكذب، وليس عندهم من الحجة والبرهان سوى السب والشتم، أما أهل السنة؛ فلا يكذبون على أهل البدع، وإن كذبوا عليهم؛ لعلمهم أن الكذب مذموم عند الله وعند رسوله؛ فهم يحبون العدل، ويأمرون به، ويبغضون الظلم، وينهون عنه.(9/4)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في ((المنهاج)) (5/ 127): ((والعدل مما اتفق أهل الأرض على مدحه ومحبته والثناء على أهله ومحبتهم، والظلم مما اتفقوا على بغضه وذمه وتقبيحه وذم أهله وبغضهم)).
وقال: ((العدل محمود محبوب باتفاق أهل الأرض، وهو حبوب في النفوس، مركوز حبه في القلوب، تحبه القلوب وتحمده، وهو من المعروف الذي تعرفه القلوب، والظلم من المنكر الذي تنكره القلوب فتبغضه وتذمه، والله تعالى أرسل الرسل ليقوم الناس بالقسط، قال الله تعالى: { لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ } [الحديد: 25])).
وقال رحمه الله (ص 157): ((وليس في أهل الأهواء أصدق ولا أعبد من الخوارج، ومع هذا؛ فأهل السنة يستعملون معهم العدل والإنصاف، ولا يظلمونهم؛ فإن الظلم حرام مطلقا كما تقدم، بل أهل السنة لكل طائفة من هؤلاء خير من بعضهم لبعض، بل هم للرافضة خير وأعدل من بعض الرافضة لبعض، وهذا مما يعترفون هم به، ويقولون: أنتم تنصفوننا ما لا ينصف بعضنا بعضا. وهذا لأن الأصل الذي اشتركوا فيه أصل فاسد مبني على جهل وظلم، وهم مشتركون في ظلم سائر المسلمين، فصاروا بمنزلة قطاع الطريق المشتركين في ظلم الناس، ولا ريب أن المسلم العالم العادل أعدل عليهم وعلى بعضهم من بعض، والخوارج تكفر أهل الجماعة، وكذلك أكثر المعتزلة يكفرون من خالفهم، وكذلك أكثر الرافضة، ومن لم يكفر؛ فسق، وكذلك أكثر أهل الأهواء يبتدعون رأيا ويكفرون من خالفهم فيه، وأهل السنة يتبعون الحق من ربهم، الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا يكفرون من خالفهم فيه، بل هم أعلم بالحق وأرحم بالخلق؛ كما وصف الله به المسلمين بقوله: { كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ } [آل عمران: 110]، قال أبو هريرة: كنتم خير الناس للناس...)).
فصل(9/5)
بعض من ينتسب إلى السلف يخطئ عليهم ويهم في قوله وفعله، ومن ثم يكون مدخلا لأهل البدع في الطعن في منهج السلف وعقيدتهم يهم بالتشبيه أو التجسيم أو التأويل أو غير ذلك:
فبعض المنتسبين إلى السلف يفوض بعض الصفات وينسب ذلك إلى السلف...
وبعضهم يحرف بعض الصفات ويعزو ذلك إلى بعض أئمة السلف...
وبعضهم يوافق الجهمية والأشاعرة في بعض أصولهم لظنه صحة هذه الأصول(1)...
وبعضهم يغلو في الإثبات ظنا منه أن هذا هو الطريق المستقيم...
وبعضهم يصف الله تعالى معتمدا على حديث ضعيف أو موضوع؛
لعدم علمه بالحديث، فيقع في ورطات ومشكلات.
وأقوال هؤلاء القوم محسوبة- عند من لا يعرف مذهب السلف- من أقوال أهل السنة؛ لا نتساب أصحابها إلى الحديث وأهله، ولكن لما لم يكن لهم من العلم والمعرفة بما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن الصحابة؛ أساؤوا إلى السلف؟ لعزوهم ما يأتون به من الباطل إلى السلف، مع حسن قصد الكثير منهم.
وبعضهم يزعم أن الذي يقوله في ذلك هو مذهب أحمد وقوله، وهذا خطأ على أحمد وعلي غيره من علماء السلف.
وبسبب هذه الأخطاء التي تنسب إلى السنة وإلى علمائها- مع براءة السنة وأهلها منها- طعن بعض أهل الباطل في مذهب السلف، وسماه مذهب التجسيم أو التشبيه!!
وهذا من الجور والظلم؛ فخطأ من أخطا ممن ينتسب إلى السنة لا ينسب إلى جميع علماء السلف، ولا تنسب الأقوال الباطلة إلى مذهبهم؛ كما أن المسلم إذا فعل منكرا؛ لا يقدح ذلك في دين المسلمين، ولا ينسب المنكر إلى دينهم(2).
ولذلك كله؛ الواجب أن لا يتكلم المرء إلا بعلم؛ لئلا يكون عارا على مذهبه، ويتخذ مذهبه بسبط غرضا لأهل الأهواء.
__________
(1) أنظر: ((منهاج السنة)) لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله (2/ 584).
(2) أنظر: ((منهاج السنة)) لشيخ الإسلام (2/ 630- 631).(9/6)
وابن الجوزي- عفا الله عنه- في كتابه ((دفع شبه التشبيه)) رد على أبي عبد الله بن حامد وصاحبه القاضي أبي يعلي وابن الزاغوني، وقال (ص 99): ((صنفوا كتبا شانوا بها المذهب...))، وطعن عليهم ابن الجوزي في أشياء كثيرة؛ بحق وبغير حق، وسيأتي إن شاء الله تعالى ذكرها وبيانها، وتعلق ببعض الأخطاء التي وقعت من القاضي وغيره ممن ينتسب إلى مذهب السلف ويعظم علماء السلف، حتى قال ابن الجوزي (ص 101) ((وكلامهم صريح في التشبيه)).
والقاضي أبو يعلي وغيره ممن !د تعظيم السلف عندهم بعض الأخطاء؟ كالتفويض، والغلو في الإثبات، ونحو ذلك(1)، ومم مع ذلك أحسن حالا من ابن الجوزي، ولكن عندهم بعض الأخطاء التي يزعمون أنها أقوال أحمد وغيره من علماء السلف، وقد تعلق بها بعض أهل الباطل؛ للطعن في مذهب السلف الصالح، ورمي أهله بالتجسيم!!
ووقوع القاضي أو غيره ممن يعظم مذهب السلف في التفويض أو الغلو في الإثبات لا يسوغ لأي إنسان أن يطعن في مذهب السلف، أو ينسب أخطاءهم إلى السلف، بل عليه أن يبين خطأهم بعلم وعدل؛ دون ظلم وجهل.
__________
(1) قال شيخ الإسلام رحمه الله في ((درء تعارض العقل والنقل)) (7/ 34) بعد كلام سبق: ((ونوع ثالث سمعوا الأحاديث والآثار، وعظموا مذهب السلف، وشاركوا المتكلمين الجهمية في بعض أصولهم الباقية، ولم يكن لهم خبرة بالقرآن والحديث والآثار ما لأئمة السنة والحديث؛ لا من جهة المعرفة والتميز بين صحيحها وضعيفها، ولا من جهة التفهم لمعانيها، وقد ظنوا صحة بعض الأصول العقيلة للنفاة الجهمية، ورأوا ما بينهما من التعارض، وهذا حل أبي بكر بن فورك والقاضي أبي يعلي وابن عقيل وأمثالهم، ولذلك كان هؤلاء تارة يختارون طريقة أهل التأويل؛ كما فعله ابن فورك وأمثاله في الكلام على مشكل الآثار، وتارة يفوضون معانيها، ويقولون: تجرى على ظواهرها؛ كما فعله القاضي أبو يعلي وأمثاله في ذلك، وتارة يختلف اجتهادهم؛ فيرجحون هذا تارة وهذا(9/7)
ولما لم يكن لابن الجوزي- عفا الله عنه- معرفة بحقيقة مذهب السلف عموما، وما عليه الإمام أحمد رحمه الله خصوصا؛ ظن أن كل ما قاله أبو يعلى وابن الزاغوني تشبيه، فنفى- عفا الله عنه- كثيرا مما وصف الله به نفسه أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم بدعوى تنزيه الله عن مشابهة المخلوقين؛ لأن وصف الله تعالى بما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم في تشبيه عند ابن الجوزي؛ فنفي الصفات من قبل ابن الجوزي وغلوه في نفي التشبيه أوقعه في مذهب النفاة، من الجهمية وغيرهم، وقد تكلف الصعاب لصرف الآيات والأحاديث عن ظواهرها، وأتى بتأويلات مستكرهة، ووقع في أمور عظام؛ كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى (1).
والحاصل أنه يجب على المرء أن لا ينسب إلى السلف إلا ما تيقن صحته وعلم مخرجه؛ لئلا يقولهم ما لم يقولوا، فيسيء إليهم بخطئه.
__________
(1) وسيأتي إن شاء الله تعالى- كما في (ص 128)- بيان اضطراب ابن الجوزي في العقيدة، وأنه جاء عنه تفويض الصفات، وجاء عنه إثبات بعض الصفات؛ كما في كتابه ((مجالس ابن الجورزي)).(9/8)
وبعض الناس عنده تعظيم للحديث وأهله، ويظهر الانتساب إلى مذهب السلف، وله قصد حسن، ولكنه يوافق أهل البدع في بعض أصولهم، ويشاركهم في بعض آرائهم الباطلة؛ لجهله بمذهبهم؛ فيتعلق أهل الباطل بأخطائه، ويجعلون من الصغير الكبير، ومن القليل الكثير، وهذا من اتباع الهوى والجور في الحكم؛ فلا ينسب خطؤه إلى السلف، ولا يقدح خطؤه في مذهب أهل السنة؛ فإن الحق عليه نور كنور الشمس، والباطل عليه ظلمة كظلمة الليل، والواجب على المسلم أن يجعل كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم حكما على قول كل إنسان؛ فيزن أقوال الناس بالكتاب والسنة؛ فما وافقهما؛ قبله، وإلا؛ ردة، ولا يتعلق بهفواتهم وزلاتهم، ولا يحمله خطأ من غلا في الإثبات على التعطيل؛ فإن ذلك من وحي الشياطين، بل يرد غلو من غلا في الإثبات، ويثبت الحق؛ فلا ينفي عن الله ما وصف به نفسه، ولا يشبه أو يمثل؛ لأن الله تعالى { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ } [الشورى:11].
فصل
وأشرع الآن مستعينا بالله تعالى بما وعدت به من بيان أخطاء ابن الجوزي في كتابه ((دفع شبه التشبيه))، وبيان ضلال المعلق عليه حسن السقاف.
وقد قدم السقاف للكتاب ب (84) وجها:
ذكر في هذه المقدمة أولا: ترجمة لابن الجوزي.
وذكر في الباب الثاني: إثبات التأويل عن السلف.
وذكر في الباب الثالث: أن خبر الواحد يفيد الظن ولا يفيد العلم.
وذكر في الباب الرابع: الحديث الصحيح وما يتعلق به.
وذكر في الباب الخامس: إبطال استدلالات المشبهة على العلو الحسي (ويعني السقاف بالمشبهة: السلف).
وهذا جميع ما ذكره السقاف في مقدمته للكتاب في الجملة، وأعاد كثيرا مما ذكره في المقدمة في أثناء التعليقات على الكتاب، وسوف أتعرض إن شاء الله لما ذكره في المقدمة أثناء ردي عليه في تعليقاته على الكتاب، وقد أذكر كلامه مع كلام ابن الجوزي، ويكون الرد عليهما جميعا.
والله أسأل أن يرزقني الإخلاص في القول والعمل.(9/9)
*قال ابن الجوزي (ص 100):
(وقد أخذوا بالظاهر في الأسماء والصفات، فسموها بالصفات تسمية مبتدعة، لا دليل لهم في ذلك من النقل ولا من العقل، ولم يلتفتوا إلى النصوص الصارفة عن الظواهر إلى المعاني الواجبة لله تعالى، ولا إلى إلغاء ما يوجبه الظاهر من سمات الحدوث...)).
* أقول: الكلام معه من وجوه:
الوجه الأول: قوله: أوقد أخذوا بالظاهر في الأسماء والصفات)):
أقول: إن كان يعني ب (الظاهر): ما تدل عليه الأسماء والصفات من المعاني؛ فنعم؛ الأخذ بالظاهر أمر متعين واجب؛ فاسم الله السميع يدل على إثبات السمع لله تعالى، والعليم يدل على إثبات العلم لله تعالى، والرحيم يدل على إثبات الرحمة لله تعالى؛ إثباتا بلا تمثيل، وتنزيها بلا تعطيل؛ لأن الله جل ذكره { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } ؛ لا في ذاته، ولا في أفعاله، ولا في صفاته، { وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ } [الشورى: 11].
وإن كان يقصد أنهم أخذوا بالظاهر، فجعلوها مماثلة لصفات المخلوقين؛ لأن بعض أهل البدع يعتقد في صفات الله تعالى أن ظاهرها التمثيل بصفات المخلوقين؛ فمن ثم ينفون عن الله ما وصف به نفسه؛ فهذا خطأ من وجهين:
الأول: أن السلف لم يجعلوا صفات الله، تعالى مماثلة لصفات المخلوقين، ومن نسب إليهم ذلك؛ فقد أخطأ عليهم.
الوجه الثاني: أن زعم من زعم أن ظاهر الصفات التمثيل أو التشبيه بصفات المخلوقين قول بلا علم، ولا ريب أن من اعتقد أن ظاهر الصفات التمثيل أو الشبيه بصفات المخلوقين قد أخطأ وضل وخالف الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة وأئمتها؛ لأن الله جل وعلا { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ } [الشورى: 11]؛ فنفى الله جل وعلا عن نفسه مماثلة المخلوقين، وبعد النفي أثبت لنفسه السمع والبصر.(9/10)
ولكن ليعلم أنه لم يقل أحد من الصحابة ولا من التابعين لهم بإحسان ولا من الأئمة الأربعة ولا من غيرهم من أئمة الهدى: إن ظاهر الصفات التمثيل، بل كلهم متفقون على، إمرار الصفات كما جاءت، مع فهم معانيها، وإثبات حقائقها، مع نفي مماثلتها لصفات المخلوقين.
وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في ((التدمرية)) المطبوعة ضمن ((الفتاوى)) (3/ 43): ((القاعدة الثالثة: إذا قال القائل: ظاهر النصوص مراد أو ظاهرها ليس بمراد. فإنه يقال: لفظ الظاهر فيه إجمال واشتراك: فإن كان القائل يعتقد أدى ظاهرها التمثيل بصفات المخلوقين أو ما هو من خصائصهم؛ فلا ريب أن هذا غير مراد، ولكن السلف والأئمة لم يكونوا يسمون هذا ظاهرها، ولا يرتضون أن يكون ظاهر القرآن والحديث كفرا وباطلا، والله سبحانه وتعالى أعلم وأحكم من أن يكون كلامه الذي وصف به نفسه لا يظهر منه إلا ما هو كفر أو ضلال.
والذين يجعلون ظاهرها ذلك يغلطون من وجهين: تارة يجعلون المعنى الفاسد ظاهر اللفظ، حتى يجعلوه محتاجا إلى تأويل يخالف الظاهر، ولا يكون كذلك. وتارة يردون المعنى الحق الذي هو ظاهر اللفظ؛ لاعتقادهم أنه باطل...)).(9/11)
إلى أن قال رحمه الله: أو إن كان القائل يعتقد أن ظاهر النصوص المتنازع في معناها من جنس ظاهر النصوص المتفق على معناها، والظاهر هو المراد في الجميع؛ فإن الله لما أخبر أنه بكل شيء عليم وأنه على كل شيء قدير، واتفق أهل السنة وأئمة المسلمين على أن هذا على ظاهره، وأن ظاهر ذلك مراد؛ كان من المعلوم أنهم لم يريدوا بهذا الظاهر أن يكون عليه كعلمنا وقدرته كقدرتنا، وكذلك لما اتفقوا على أنه حي حقيقة عالم حقيقة قادر حقيقة؛ لها يكن فرادهم أنه مثل المخلوق الذي هو حي عليم قدير؛ فكذلك إذا قالوا في قوله تعالى: { يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ } [المائدة: 54]، { رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ } [البينة: 8]، وقوله: { ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } [الأعراف: 54] وغيرها،: إنه على ظاهره؛ لم يقتض ذلك أن يكون ظاهره استواء كاستواء المخلوق، ولا حبا كحبه، ولا رضي كرضاه.
فإن كان المستمع يظن أن ظاهر الصفات تماثل صفات المخلوقين؛ لزمه أن لا يكون شيء من ظاهر ذلك مرادا، وإن كان يعتقد أن ظاهرها ما يليق بالخالق ويختص به؛ لم يكن له نفي هذا الظاهر، ونفي أن يكون مرادا؛ إلا بدليل يدل على النفي، وليس في العقل ولا السمع ما ينفي هذا؛ إلا من جنس ما ينفى به سائر الصفات، فيكون الكلام في الجميع واحدا.
وبيان هذا أن صفاتنا منها ما هي أعيان وأجسام وهي أبعاض لنا كالوجه واليد، ومنها ما هو معان وأعراض وهي قائمة بنا كالسمع والبصر والكلام والعلم والقدرة.(9/12)
ثم إن من المعلوم أن الرب لما وصف نفسه بأنه حي عليم قدير؛ لم يقل المسلمون: إن ظاهر هذا غير مراد؛ لأن مفهوم ذلك في حقه مثل مفهومه في حقنا. فكذلك لما وصف نفسه بأنه خلق آدم بيديه؛ لم يوجب ذلك أن يكون ظاهره غير مراد؛ لأن مفهوم ذلك في حقه كمفهومه في حقنا، بل صفة الموصوف تناسبه، فإذا كانت نفسه المقدسة ليست مثل ذوات المخلوقين؛ فصفاته كذاته ليست كصفات المخلوقين، ونسبة صفة المخلوق إليه؛ كنسبة صفة الخالق إليه، وليس المنسوب كالمنسوب، ولا المنسوب إليه كالمنسوب إليه؛ كما قال صلى الله عليه وسلم: ((ترون ربكم كما ترون الشمس والقمر؛ فشبه الرؤية بالرؤية، ولم يشبه المرئي بالمرئي)).
الوجه الثاني: أن قول ابن الجوزي: ((فسقوها بالصفات تسمية مبتدعة لا دليل لهم في ذلك من النقل ولا من العقل...)): قول بلا علم، وهو أصل التعطيل.
وقد دل العلم على تسمية ما وصف الله به نفسه أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم: صفات، والعقل الصحيح لا يخالف السمع الصحيح؛ فإذا صح السمع بتسمية ما وصف الله به نفسه صفات؛ فالعقل يوافقه ولا يخالفه؛ إلا إن كان العقل فاسدا؛ فلا عبرة به.
وأهل العلم والدين يثبتون لله تعالى جميع الصفات التي صحت بها النصوص، لا يعدون ذلك؛ فهم لا يصفون الله تعالى إلا بما وصف به نفسه، أو وصفه به رسوله محمد صلى الله عليه وسلم؛ لا يحرفون، ولا يكيفون، ولا يمثلون، وهذا حقيقة الانقياد لكلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم.
وتحريف صفات الله تعالى ونفي معانيها وما دلت عليه إلحاد عظيم، وهو من أعظم الكذب على الله تعالى، وقد قال تعالى: { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الإِسْلامِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } [الصف: 7]، وقال تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ } [النحل: 116].(9/13)
وأي افتراء أعظم من نفي الأسماء الحسنى والصفات العلى عن الله تعالى ووصفه بصفات العدم؟!
وقد عاب إبراهيم الخليل أباه لكونه يعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنه شيئا؛ كما قال تعالى عن إبراهيم: { إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنكَ شَيْئًا } [مريم: 42]؛ فدل ذلك على أن الله يسمع ويبصر، وإلا؛ لقال أبو إبراهيم: وربك كذلك!
ولكن أهل التعطيل لا يفهمون من صفات الخالق إلا ما يفهمون من صفات المخلوق؛ فأدى ذلك بهم إلى نفي الصفات عن الله تعالى؛ مدعين نفي مماثلة صفات الخالق للمخلوق.
وأهل السنة لم يقولوا: إن صفات المخلوق تماثل صفات الخالق! وحاشاهم من ذلك، ولكن أهل البدع يلبسون على الخلق، ويدعون أن من اثبت الصفات وأثبت معانيها؛ فقد شبه المخلوق بالخالق، وهذا من جهلهم بالله تعالى.
وأهل العلم والدين يقولون: إن وصف الله تعالى بما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله محمد صلى الله عليه وسلم ليس فيه تمثيل للمخلوق بالخالق، ومن زعم ذلك؛ فقد ألحد في أسماء الله وآياته، وحرف الكلم عن مواضعه، وسلك مسلك النفاة الجهمية؛ فكون الله تعالى موصوفا بالرحمة والسمع والبصر واليدين وغير ذلك من صفاته، والمخلوق موصوفا بالرحمة والسمع والبصر واليدين؛ لا يلزم منه مماثلة أو مشابهة، فليست رحمة الخالق كرحمة المخلوق، ولا سمعه كسمعه... وكذلك يقال في سائر الصفات.
وهذا أمر معلوم عند أئمة السلف، وقد أجمع على ذلك الصحابة والتابعون، ولم ينازع في ذلك إلا من اجتالته الشياطين عن فطرته واتبع هواه.
وأهل البدع الذين ينفون عن الله تعالى ما وصف به نفسه قد وقعوا في التعطيل أولا؛ لكونهم سلبوا عن الله تعالى ما سمي ووصف به نفسه، وفي التشبيه ثانيا؛ لأن من لم يصف الله تعالى بصفاته؛ فقد شبهه بالجمادات والناقصات، تعالى الله عن قول الجهمية ومن سلك مسلكهم علوا كبيرا.(9/14)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في ((التدمرية)) المطبوعة ضمن ((الفتاوى)) (3/ 48): ((إن كثيرا من الناس يتوهم في بعض الصفات أو كثير منها أو أكثرها أو كلها أنها تماثل صفات المخلوقين، ثم يريد أن ينفي ذلك الذي فهمه؛ فيقع في أربعة أنواع من المحاذير:
أحدها: كونه مثل ما فهمه من النصوص بصفات المخلوقين، وظن أن مدلول النصوص هو التمثيل.
الثاني: أنه إذا جعل ذلك هو مفهومهاً وعطله؛ بقيت النصوص معطلة عما دلت عليه من إثبات الصفات اللائقة بالله، فيبقى مع جنايته على النصوص، وظنه السيء الذي ظنه بالله ورسوله؛ حيث ظن أن الذي يفهم من كلامهما هو التمثيل الباطل؛ قد عطل ما أودع الله ورسوله في كلامهما من إثبات الصفات لله والمعاني الإلهية اللائقة بجلال الله تعالى.
الثالث: أنه ينفي تلك الصفات عن الله عز وجل بغير علم، فيكون معطلا لما يستحقه الرب.
الرابع: أنه يصف الرب بنقيض تلك الصفات من صفات الأموات والجمادات أو صفات المعدومات، فيكون قد عطل به صفات الكمال التي يستحقها الرب، ومثله بالمنقوصات والمعدومات، وعطل النصوص عما دلت عليه من الصفات، وجعل مدلولها هو التمثيل بالمخلوقات، فيجمع في كلام الله وفي الله بين التعطيل والتمثيل، فيكون ملحدا في أسماء الله وآياته...).
وابن الجوزي في هذا الموضع قد عطل الله تعالى عن صفات الكمال، وادعى أن تسميتها مبتدعة، بينما في كتابه ((تلبيس إبليس)) (ص 101) قال عن آيات وأحاديث الصفات: ((إنما الصواب قراءة الآيات والأحاديث من غير تفسير ولا كلام فيها...))، وهذا تفويض من ابن الجوزي.
وقال (ص 102) في الطريق السليم من ((تلبيس إبليس)): ((إنه ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وتابعوهم بإحسان من إثبات الخالق سبحانه وإثبات صفاته على ما وردت به الآيات والأخبار من غير تفسير...)).(9/15)
فقوله: ((من إثبات الخالق سبحانه وإثبات صفاته على ما وردت به الآيات والأخبار من غير تفسيرا: يتنافى مع ما قرره في كتابه ((دفع شبه التشبيه))، وهذا مما يؤكد اضطرابه في العقيدة؛ فتارة يثبت، وتارة ينفي، وتارة يفوض.
ومن ثم قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في الفتاوى (4/ 169): ((إن أبا الفرج نفسه متناقض في هذا الباب، لم يثبت على قدم النفي ولا على قدم الإثبات، بل له من الكلام في الإثبات نظما ونثرا ما أثبت به كثيرا من الصفات التي أنكرها في هذا المصنف؛ فهو في هذا الباب مثل كثير من الخائضين في هذا الباب من أنواع الناس؛ يثبتون تارة، وينفون أخرى في مواضع كثيرة من الصفات؛ كما هو حال أبي الوفاء بن عقيل وأبي حامد الغزالي)).
الوجه الثالث: أن قول ابن الجوزي: ((ولم يلتفتوا إلى النصوص الصارفة عن الظواهر إلى المعاني الواجبة لله تعالى، ولا إلى إلغاء ما يوجبه الظاهر من سمات الحدوث)): من أعظم الجهل وأقبحه، وهذا القول من ابن الجوزي مبني على أن ظاهر النصوص التمثيل بصفات المحدثين، وهذا الفهم الفاسد جعله يدأب لنفي ما فهمه، فوقع في التعطيل ثم التشبيه، وسببه هذا الفهم العاطل، وقد تقدم رد هذا الفهم وإبطاله؛ فإن الله جل وعلا متصف بصفات الكمال، وصفاته لائقة به.
وأهل الباطل مضطربون في هذا الباب أشد الاضطراب؛ فإن منهم من ينفي جميع ما وصف الله به نفسه، ومنهم من يثبت بعض الصفات وينفي بعضها؛ فيقولون: لله حياة ليست كحياتنا، وينفون عن الله اليدين والقدم ونحو ذلك!! وهذا تناقض؛ فمن أثبت لله الحياة؛ لزمه إثبات سائر الصفات، والذين أثبتوا لله تعالى القدم واليدين والسمع والبصر ونحو ذلك متفقون ومجمعون على أن يد الله ليست كأيدينا، وقدمه ليست كأقدامنا.(9/16)
ثم إنه يقال لمن زعم أن وصف الله تعالى بالقدم واليدين والسمع والبصر يلزم منه التشبيه؛ يقال: يلزم مثل ذلك أيضا فيمن أثبت الحياة والقدرة؛ فإذا لزم التشبيه في وصف الله بالقدم واليدين والصورة؛ لزم التشبيه في وصف الله بالحياة والعلم والقدرة والإرادة، إذا؛ لا فرق بين ذلك، ولكن أهل الباع لا يفقهون، وأصولهم يناقض بعضها بعضا؛ لأنها مبنية على الجهل والضلال ومخالفة الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة وأثمنها.
ثم إن قول ابن الجوزي: ((ولم يلتفتوا إلى النصوص الصارفة عن الظواهر...)): يقال عنه: إن لفظة (الظاهر) صارت لفظة مشتركة؛ فإن الظاهر عند أهل العلم والدين الذين اتبعوا كتاب ربهم وسنة نبيهم ولم يركنوا إلى أهل الكلام وعلومهم يخالف الظاهر الذي يطلقه من تأثر بآراء المتكلمين واتبع غير سبيل المؤمنين، ولم يقل أحد من أهل العلم والدين: إن ظاهر استواء الله على عرشه ورحمته ومحبته ونحو ذلك مثل استواء المخلوق ورحمته ومحبته، ومن قال ذلك؛ فقد شبه الخالق بالمخلوق، وهذا كفر صريح، ولكن لا يكفر المعين حتى تقوم الحجة عليه.
والله جل وعلا ليس كمثله شيء؛ لا في ذاته، ولا في أفعاله، ولا في صفاته، وهذا أمر يجب القطع به، وطرح ما سواه من الترهات والأباطيل والأوهام المشككة في عقائد المسلمين.
والمسلمون متفقون مجمعون على أن الظاهر من قوله تعالى:
{ الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } [الأعراف:54،وغيرها]: أن الله جل وعلا عال على خلقه، مستو على عرشه، وهذا مراد يزيد بن هارون رحمه الله؛ إذ يقول: ((من زعم أن الرحمن على العرش استوى على خلاف ما يقر في قلوب العامة؛ فهو جهمي)) (1).
*قال ابن الجوزي (ص 100) أيضا:
__________
(1) رواه عبد الله ابن الإمام أحمد في كتاب((السنة)) (1/ 123).(9/17)
((ثم لما أثبتوا أنها صفات ذات؛ قالوا: لا نحملها على توجيه اللغة؛ مثل: يد على نعمة، وقدرة ومجيء وإتيان على معنى بر ولطف، وساق على شدة، بل قالوا: نحملها على ظواهرها المتعارفة، والظاهر هو المعهود من نعوت الآدميين...)).
* أقول:
لم يقل أحد من الصحابة ولا من التابعين ولا من أئمة الهدى والدين: إن ظواهر الصفات هو المعهود من نعوت الآدميين، بل إنهم أثبتوا لله تعالى ما أثبته لنفسه من الأسماء والصفات، ونفوا عنه مشابهة المخلوقات، وقالوا: من شبه الله بخلقه؛ فقد كفر، ومن جحد ما وصف الله به نفسه؛ فقد كفر، وليس ما وصف الله به نفسه أو ما وصفه به رسوله محمد صلى الله عليه وسلم تشبيها.
وحمل صفات الله تعالى على الظاهر ليس تشبيها كما يظنه من تأثر بآراء المتكلمين؛ فإن الله جل وعلا { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ } [الشورى: 11]؛ فنفى الله جل وعلا عن نفسه مماثلة المخلوقات، وأثبت لنفسه الصفات، وليس بعد هذا البيان بيان لمن عقل أمر الله.(9/18)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله كما في ((الفتاوى)) (33/ 175): ((... الظاهر من فطر المسلمين قبل الأهواء وتشتت الآراء، وهو الظاهر الذي يليق بجلاله سبحانه وتعالى؛ كما أن هذا هو الظاهر في سائر ما يطلق عليه سبحانه من أسمائه وصفاته؛ كالحياة، والعلم، والقدرة، والسمع، والبصر، والكلام، والإرادة، والمحبة، والغضب، والرضى؛ كقوله: { مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ } [ص: 75]، و((ينزل ربنا إلى سماء الدنيا كل ليلة))... إلى غير ذلك؛ فإن ظاهر هذه الألفاظ إذا أطلقت علينا أن تكون أعراضا أو أجساما؛ لأن ذواتنا كذلك، وليس ظاهرها إذا أطلقت على الله سبحانه وتعالى إلا ما يليق بجلاله ويناسب نفسه الكريمة؛ فكما أن لفظ (ذات) و (وجود) و (حقيقة) تطلق على الله وعلى عباده، وهو على ظاهره في الإطلاقين، مع القطع بأنه ليس ظاهره في حق الله مساويا لظاهره في حقنا ولا مشاركا له فيما يوجب نقصا أو حدوثا، سواء جعلت هذه الألفاظ متواطئة أو مشتركة أو مشككة...)).
وقول ابن الجوزي: ((قالوا: لا نحملها على توجيه اللغة؛ مثل: يد على نعمة): يقال: قد أصابوا في ذلك؛ فإن حمل اليد على النعمة لا يصح البتة، بل هو من أعظم الإلحاد والتحريف.
فهل يصح أن يقال في قوله تعالى: { مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ } [ص:75]؛ أي: نعمتي؟! فهذا من أعظم الباطل وأقبح التحريف؛ فإن نعم الله تعالى لا تعد ولا تحصى؛ كما قال تعالى: { وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا } [إبراهيم: 34].
ومن فسر قوله تعالى: { لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ } ؛ بمعنى القدرة؛ فتحريفه أعظم من سابقه؛ فإن الله جل وعلا خلق جميع الخلق بقدرته؛ فلا يكون لآدم مزية على غيره، وهذا واضح جلي لمن لم تجتله الشياطين عن فطرته.(9/19)
وسيأتي إن شاء الله زيادة بيان وإيضاح لهذه المسألة، وإثبات اليدين لله تعالى حقيقة؛ فلا يصح حملها على القوة ولا على النعمة، وصرف الكلام عن ظاهره بدون دليل تحكم.
والأدلة على إثبات اليدين لله تعالى- وكلتا يدي ربي يمين- كثيرة جدا من الكتاب والسنة:
قال تعالى: { وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ... } [الزمر: 67].
ولئن حرف أهل البدع الآية المتقدمة من إثبات اليدين لله تعالى، وحملوها على معنى القدرة أو النعمة مع بطلانه لغة وشرعا؛ فهل يصح حمل هذه الآية على النعمة أو القدرة؟! هذا ما لا سبيل لهم إليه؛ فلا يصح أن يقال: { وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ } ؛ أي: بقدرته أو نعمته؛ فإن القدرة لا يمين لها، كذلك النعمة!!
يوضح ذلك ويبينه ما رواه مسلم في ((صحيحه)) (1827) عن عبد الله بن عمرو؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن جل وعلا، وكلتا يديه يمين...))؛ فلا يصح أن يقال: وكلتا قدرتيه يمين، أو نعمتيه!!
فإذا بطل هذا القول؛ وجب الانقياد والإذعان لكلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم؛ فلا يصف الله أحد من البشر أعلم من النبي صلى الله عليه وسلم، وقد وصف ربه كما وصف الله به نفسه؛ بأن له يدين، وهاتان اليدان حقيقيتان؛ فيجب إثباتهما لله تعالى؛ إثباتا بلا تمثيل، وتنزيها بلا تعطيل؛ فالله جل وعلا: { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ } [الشورى: 11].(9/20)
ثم إن ابن الجوزي أراد أيضا حمل مجيء وإتيان الرب جل وعلا على معنى (بر) و(لطف)، وهذا خلاف مذهب السلف من الصحابة والتابعين لهم بإحسان؛ فإن السلف يثبتون لله تعالى الإتيان والمجيء على ما يليق بالله جل وعلا؛ قال تعالى: { وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا } [الفجر: 22]، ومن قال في هذه الآية: جاء بره ولطفه؛ فقد ألحد في آيات الله تعالى، وحرف الكلم عن مواضعه؛ كتحريف اليهود.
وقول السقاف معلقا على قول ابن الجوزي المتقدم في تأويل المجيء والإتيان؛ قال: ((وقد ثبت كما قدمنا أن الإمام أحمد رحمه الله تعالى أول قول الله تعالى: { وَجَاءَ رَبُّكَ } بمعنى: جاء ثوابه؛ كما هو ثابت عنه بالإسناد الصحيح في (البداية والنهاية)): تعلق بما هو أوهى من ببت العنكبوت.
ومذهب سلف الأمة وأئمتها أنهم لا يتأولون مجيء الرب بمجيء ثوابه؛ كما أنهم لا يتأولون الرحمة بإرادة الإنعام، ولا المحبة بالرضى أو علامة القبول، ولا الساق بالشاة، وما نقل عن أحمد رحمه الله فيما يخالف ذلك؛ كالذي نقله البيهقي وابن كثير، واحتج به الجهمي السقاف؛ يجاب عنه من وجوه:
الوجه الأول: قيل: إن ذلك من رواية حنبل عنه، وحنبل ينقل عن أحمد رحمه الله ما لا ينقل غيره، بل ينقلون خلافه.
قال العلامة ابن القيم رحمه الله في ((مختصر الصواعق)) (ص: 395): ((إن حنبلا تفرد بها عنه، وهو كثير المفاريد المخالفة للمشهور من مذهبه، و إذا تفرد بما خالف المشهور عنه؛ فالخلال وصاحبه عبد العزيز لا يثبتون ذلك رواية، وأبو عبد الله بن حامد وغيره يثبتون ذلك رواية، والتحقيق أنها رواية شاذة مخالفة لجادة مذهبه، هذا إذا كان ذلك من مسائل الفروع؟ فكيف في هذه المسألة؟!))
الوجه الثاني: قيل: إن الإمام أحمد رحمه الله قال ذلك على وجه الإلزام لخصومه.(9/21)
قال شيخ الإسلام رحمه الله في "الاستقامة" (1/ 75): ((إنما قال ذلك إلزاما للمنازعين له؛ فإنهم يتأولون مجيء الرب بمجيء أمره، قال: فكذلك قولوا: يجيء كلامه مجيء ثوابه! وهذا قريب)).
قال ابن القيم رحمه الله: (فأحمد ذكر ذلك على وجه المعارضة والإلزام لخصومه بما يعتقدونه في نظير ما احتجوا به عليه، لا أنه يعتقد ذلك، والمعارضة لا تستلزم اعتقاد المعارض صحة ما عارض به)(1).
الوجه الثالث: أن يقال: إن ذلك وقع من أحمد ثم رجع عنه؛ لأن أكثر النقول عن أحمد رحمه الله مصرحة بعدم التأويل في جميع الصفات، بل كان ينكر على من يتأول شيئا من آيات أو أحاديث الصفات، ويزجر من يفعل ذلك، وربما هجره وهجر مجلسه.
قال شيخ الإسلام رحمه الله كما في ((الفتاوى)) (5/ 401): ((ولا
ريب أن المنقول المتواتر عن أحمد يناقض هذه الرواية، ويبين أنه لا يقول: إن الرب يجيء ويأتي وينزل أمره، بل هو ينكر على من يقول ذلك)).
وقال العلامة ابن القيم رحمه الله على رواية حنبل- كما في ((مختصر الصواعق)) (ص 391)-: ((وهذه رواية: إما شاذة، أو أنه رجع عنها؛ كما هو صريح عنه في أكثر الروايات، وإما أنها إلزام منه ومعارضة لا مذهب، وهذا الاختلاف وقع نظيره في مذهب مالك؛ فإن المشهور عنه وعن أئمة السلف إقرار نصوص الصفات والمنع من تأويلها، وقد روي عنه أنه تأول قوله: (ينزل ربنا)؛ بمعنى: نزول أمره، وهذه الرواية لها إسنادان:
أحدهما: من طريق حبيب كاتبه، وحبيب هذا غير حبيب، بل هو كذاب وضاع باتفاق أهل الجرح والتعديل، ولم يعتمد أحد من العلماء على نقله.
والإسناد الثاني: فيه مجهول لا يعرف حاله.
فمن أصحابه من أثبت هذه الرواية، ومهم من لم يثبتها؛ لأن المشاهير من أصحابه لم ينقلوا عنه شيئا من ذلك)).
__________
(1) انظر: ((مختصر الصواعق)) (391).(9/22)
أفول: وهذا هو الحق؛ فإنه لا يشك من له معرفة بصناعة الحديث ومذهب مالك أن النقل عن مالك في تأويل النزول لا يصح، بل هو كذب مفترى , وأهل الباطل يتعلقون بمثل هذه الأباطيل، ويدعون النصوص الصحيحة الصريحة التي توجب العلم على إثبات
إمرارها كما جائت مع فهم معناها وإثبات حقائقها.
وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله كما في ((الفتاوى)) (5/401))
على الحكاية المنقولة عن مالك في تأويل النزول؛ قال رحمه الله:
((وكذلك ذكرت هذه رواية عن مالك رويت من طريق كاتبه حبيب بن أبي حبيب، لكن هذا كذاب باتفاق أهل العلم بالنقل، لا يقبل أحد منهم
نقله عن مالك، ورويت من طريق أخرى ذكرها ابن عبد البر، وفي إسنادها من لا نعرفه...)).
والحاصل أن التأويل لا يصح عن الإمام أحمد ولا عن مالك، وليس
هو مذهباً للسلف، ولا يتعلق بما ينقل عن الأئمة- وهو إما خطأ عليهم، أو كذب، أو غير ذلك مما يشبهه-؛ إلا من في قلبه زيغ ومرض.
وقد أجاد العلامة المحقق ابن القيم رحمه الله تعالى؛ حيث يقول
- كما في ((مختصر الصواعق)) (ص 391)-:
((فصل: وها هنا قاعدة يجب ا لتنبيه عليها، وهي أنه إذا ثبت عن مالك وأحمد وغيرهما تأويل شيء في موارد النزاع لم يكن فيه أكثر من أنه وقع بينهم نزاع في معنى الآية أو الحديث، وهو نظير اختلافهم في تفسير آيات أو أحاديث؛ مثل تنازع ابن عباس وعائشة في قوله تعالى: { وَلَقَدْ رَآَهُ نَزْلَةً أُخْرَى } [النجم: 13]؛ فقال ابن عباس: رأى ربه. وقالت عائشة: بل رأى جبرائيل. وكتنازع ابن مسعود وابن عباس في قوله تعالى:
{ فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُّبِينٍ } [الدخان: 10]؛ فقال ابن مسعود: هو ما أصاب قريشاً من الجوع، حتى كان أحدهم يرى بينه وبين السماء كهيئة الدخان. وقال ابن عباس: هو دخان يجيء قبل يوم القيامة. وهذا هو الصحيح... ونظائر ذلك؛ فالحجة هي التي تفصل بين الناس)).(9/23)
أقول: وعلى ذلك دل الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة؛ فمن جاء بالحجة؛ قبل قوله، ومن لم يأت بها؛ رد قوله، وإن كان عالماً جليلاً؛ فالحجة في كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم وقد قال تعالى: { فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ } [النساء: 159]، والرد إلى الله الرد إلى كتابه، والرد إلى الرسول صلى الله عليه وسلم الرد إلى سنته والتحاكم إليها.
فإذا رددنا الاختلاف في آيات وأحاديث الصفات؛ وجدنا الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة على ترك التأويل الباطل، ووجوب إثبات الصفات لله تعالى.
ومن ذلك المجيء والإتيان والنزول ونحو ذلك؛ فإن الله جل وعلا
أثبت مجيئه وإتيانه، وقد تقدم قوله تعالى: { وَجَاءَ رَبُّكَ } [ الفجر: 22].
وأما الإتيان؛ فقد قال تعالى: { هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ وَالْمَلآئِكَةُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأمُورُ } [البقرة: 210]،وقال تعالى: { هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيهُمُ الْمَلآئِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ } [النعام: 158]؛ ففرق الله جل وعلا بين
إتيان الملائكة وإتيانه بنفسه، وهذا ظاهر، وقد قال مجاهد على قوله تعالى: { أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ } ؛ قال: ((يوم القيامة لفصل القضاء))(1).
__________
(1) انظر: ((تفسير ابن جرير)) (8/ 96)، و((تفسير عبد الرزاق)) (1/2 / 222)، و((تفسير ابن كثير)) (2/ 200- 201)، و((مختصر الصواعق)) (ص 294- 295)، و((الدر المنثور)) (3/ 388).(9/24)
وقد حرف هذه الآية وما في معناها من إثبات الإتيان لله جل وعلا الجهمي المعطل الكوثري في تعليقه على كتاب ((الأسماء والصفات)) للبيهقي، وقال: ((قال الزمخشري ما معناه: يأتي الله بعذاب في الغمام الذي ينتظر منه الرحمة، فيكون مجيء العذاب من حيث تنتظر الرحمة أفظع وأهول. وقال إمام الحرمين: { فِي } بمعنى الباء. كما سبق. وقال الفخر الرازي: أن يأتيهم أمر الله...)).
وهذا كله تحريف للكلم عن مواضعه، وصرف للآيات عن معناها بتأويلات مستكرهة موروثة عن الجعد بن درهم.
وما تقدم فيه كفاية في الرد على من تأول الإتيان بالتأويلات الباطلة.
وأما قول الكوثري. ((قال الزمخشري))؛ فأقول: وإن كان الكوثري شراً من الزمخشري؛ إلا أن الزمخشري معتزلي متلاعب بكتاب الله جل وعلا، محرف للكلم عن مواضعه.
وقد قال العلامة حمد بن عتيق رحمه الله كما في ((الدرر السنية)) (10/ 15): ((ومن أبلغ الناس بحثاً في المعاني الزمخشري، وله في ((تفسيره)) مواضع حسنة، ولكنه معروف بالاعتزال، ونفي الصفات، والتكلف في التأويلات الفاسدة، والحكم على الله بالشريعة الباطلة، مع ما هو عليه من مسبة السلف، وذمهم، والتنقص بهم، وفي تفسيره عقارب لا يعرفها إلا الخواص من أهل السنة، وقد قال فيه بعض العلماء:
ولكنه فيه مقال لقائل ... وزلات سوء قد أخذن المخانقا
ويسهب في المعنى القليل إشارة ... بتكثير ألفاظ تسمى الشقاشقا
يقول فيها الله ما ليس قائلاً ... وكان ممجًا في الخطابة وامقاً
ويشتم أعلام الأئمة ضلة ... ولا سيما إن أولجوه المضائقا
لئن لم تداركه من الله رحمة ... لسوف يرى للكافرين مرافقا
وأما نقل الكوثري عن الرازي؛ فسيأتي إن شاء الله تعالى ترجمة لبيان حال الرازي، وبيان ما هو عليه من الاعتقاد، وكلام العلماء فيه؛ حتى لا يغتربه من لا يعرف حاله.
* قال ابن الجوزي (ص 101):(9/25)
((فإياكم أن تبتدعوا في مذهبه (يعني: مذهب أحمد) ما ليس منه! ثم قلتم في الأحاديث: تحمل على ظاهرها، وظاهر القدم الجارحة...)).
* أقول:
اتفق السلف على مراعاة الألفاظ في باب الأسماء والصفات؛ فلا يثبت لله تعالى إلا ما جاءت به النصوص، ولا ينفى إلا ما نفاه الله عن نفسه أو نفاه عنه رسوله صلى الله عليه وسلم.
وقول ابن الجوزي: ((وظاهر القدم الجارحة)): ابتداع في الدين؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد أثبت القدم لله تعالى، كما في ((الصحيحين)) وغيرهما عن ا أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ قال: ((يلقى في النار، وتقول: هل من مزيد؟ حتى يضع قدمه، فتقول: قط قط))؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم أثبت لربه صفة القدم، ولم يتكلم في الجارحة، وكذلك أصحابه من بعده لم يتكلموا في الجارحة لا نفياً ولا إثباتاً.
وأهل الأهواء يتكلمون بمثل هذه الألفاظ، ويوقعون الناس في لبس وجهل وضلال؛ لأن هذه الألفاظ ألفاظ مجملة؛ تحتمل حقاً وتحتمل باطلاً، وأهل البدع لا يريدون بها إلا باطلاً وتكذيباً للحق وتصديقاً للباطل.
والأصل الذي قرره غير واحد من أهل العلم، خصوصاً شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: أن مثل هذه الألفاظ (أعني: الجسم، والحيز، والعرض، ومثل ذلك الجارحة) لا تثبت ولا تنفى حتى يعرف مراد المتكلم بها.
وأهل الأهواء والبدع كالجهمية والأشاعرة والإباضية وغيرهم من أهل الإلحاد لا يفهمون من صفات الخالق إلا ما يفهمون من صفات المخلوق؛ فهم يتوهمون أنهم إذا أثبتوا لله تعالى قدماً والمخلوق له قدم؛ فقد شبهوا الخالق بالمخلوق -تعالى الله عن قولهم-، ومن ثم؛ جرهم هذا الفهم الفاسد إلى نفي صفات الله تعالى أو بعضها.(9/26)
وبعض أهل الجهل يقول: ظاهر الاستواء المماسة، وظاهر القدم واليدين الجارحة... ونحو ذلك من الألفاظ المبتدعة؛ فهم يحدثون في الدين ما ليس منه، وينفون بهذه الألفاظ المحدثة المبتدعة ما دل عليه الكتاب والسنة من الصفات، وهذا من أعظم الجهل والضلال.
والواجب على جميع المسلمين أن لا يتكلموا إلا بما في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وترك الألفاظ المحدثة التي تورث الشبه والشكوك، فلو كان فيها خير للأمة؛ لتكلم بها النبي صلى الله عليه وسلم، ولنشرها أصحابه من بعده؛ فإنهم أحرص الناس على الخير، فلما لم يتكلموا فيها لا نفياً ولا إثباتاً؛ علم أن الكلام فيها بدعة وضلالة وإحداث في الدين ما ليس منه.
والحاصل أن صفة القدم جاءت بها النصوص الصحيحة؛ فلا ترد بألفاظ مجملة مبتدعة، كلفظة (الجارحة)، ومن نفى عن الله تعالى صفة القدم بمثل هذه الشبهة ونحوها من الشبه الباطلة؛ فقد خالف الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة، ولا إخال مخالف ذلك إلا مبتدعاً ضالاً، إن لم يكن كافراً معانداً، أو زنديقاً مارقاً، يبث الشبه بين المسلمين؟ ليفسد عليهم دينهم.
* قال ابن الجوزي (ص102):
((ومن قال: استوي بذاته؛ فقد أجراه مجرى الحسيات، وينبغي أن لا يهمل ما يثبت به الأصل، وهو العقل؛ فإنا به عرفنا الله تعالى، وحكمنا له بالقدم، فلو أنكم قلتم: نقرأ الأحاديث ونسكت! ما أنكر عليكم أحد، إنما حملكم إياها على الظاهر قبيح؛ فلا تدخلوا في مذهب هذا الرجل الصالح السلفي ما ليس منه، ولقد كسيتم هذا المذهب شيناً قبيحاً، حتى صار لا يقال: حنبلي؛ إلا مجسم...)).
* أقول: جواب هذا الكلام الباطل من وجوه:
الوجه الأول: أن قوله: ((ومن قال: استوى بذاته؛ فقد أجراه مجرى الحسيات)):(9/27)
قول مخالف للكتاب والسنة، وهذا اللازم لا يلزم؛ فإن السلف إذا قالوا: استوى على العرش؛ لا يتكلمون فيما عدا ذلك، وإلزام أهل الأهواء لعلماء السلف أن ذلك يجري مجرى الحسيات لازم باطل؛لأن أهل الأهواء _ كما تقدم _لا يفهمون من صفات الخالق إلا ما يفهمون من صفات المخلوق،ومن ثم يحدثون ألفاظاً مبتدعة، ومع ذلك ينفون بها النصوص الصريحة؛فيبتدعون أولاً، ويعطلن ثانياً،ويشبهون ثالثاً.
وسيأتي إن شاء الله الكلام على الاستواء ولفظة (الذات) فيه.
الوجه الثاني: أن قوله: ((فلو أنكم قلتم: نقرأ الأحاديث ونسكت؛ ما أنكر عليكم أحد)): يقال عنه: إن قراءة الآيات والأحاديث في الصفات من غير فقه لمراد الله ومراد رسوله صلى الله عليه وسلم منها ضلال عظيم، وهذا مذهب المفوضة، ويزعمون جهلاً منهم وضلالا أن هذا هو مذهب السلف وهذه طريقتهم،وهذا إما كذب عليهم- وما أرخص الكذب عند أهل الأهواء -،وإما خطأ؛ فإن مذهب السلف قراءة آيات الصفات وأحاديثها مع فهم معانيها، واعتقاد ما دلت عليه؛فوصف الله تعالى بالرحمة يدل على أن لله تعالى رحمة يرحم بها عباده، ووصف الله بالسمع يدل على أن لله سمعا يسمع به كلام عباده... وأهل الباطل سلطوا التأويل على ذلك؛ فمنهم من نفى عن الله تعالى صفة الرحمة والسمع وغير ذلك، ومنهم من قال:هذه ألفاظ تثبت لله تعالى، ولكنها لا تعقل معانيها، ولا يدرى ما المراد منها، وانبرى قسم من هذا الصنف وقالوا:لا تقرأ آيات ولا أحاديث الصفات عند العامة، وهذا تعطيل لأصل من أعظم أصول الدين.
وقد قال العلامة ابن القيم رحمه الله في ((مدارج السالكين)) (3/363): ((لا يستقر للعبد قدم في المعرفة – بل ولا في الإيمان-حتى يؤمن بصفات الرب جل جلاله،ويعرفها معرفة تخرجه عن حد الجهل بربه؛فالإيمان بالصفات وتعرفها هو أساس الإسلام، وقاعدة الإيمان،وثمرة شجرة الإيمان...)).(9/28)
وقد أطال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في كتابه((الرد على الطوائف الملحدة)) القول في تفنيد قول من قال:لا يتعرض لأحاديث الصفات وآياتها عند العوام؛فليراجع(6/327-الفتاوى المصرية).
وقال العلامة ابن القيم رحمه الله مبيناً مذهب المفوضة-وهم أهل التجهيل– ومفند ا قولهم؛ قال (ص540– مختصر الصواعق):
((والصنف الثالث: أصحاب التجهيل، الذين قالوا: نصوص الصفات ألفاظ لا تعقل معانيها، ولا يدري ما ا أراد الله ورسوله منها، ولكن نقرؤها ألفاظا لا معاني لها، ونعلم أن لها تأويلا لا يعلمه إلا الله وهي عندنا بمنزلة { كهيعص } [مريم: 1]، { حم. عسق } [الشورى:1-2]، و { المص } [الأعراف:1]؛ فلو ورد علينا منها ما ورد؛ لم نعتقد فيه تمثيلا ولا تشبيها، ولم نعرف معناه، وننكر على من تأوله، ونكل علمه إلى الله تعالى !!
وظن هؤلاء أن هذه طريقة السلف،وأنهم لم يكونوا يعرفون حقائق الأسماء والصفات،ولا يفهمون معنى قوله: { لما خلقت بيدي } [ص: 75]، وقوله: { وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } الزمر: 67]وقوله { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } . [الأعراف: 54، وغيرها]...وأمثال ذلك من نصوص الصفات.
وبنوا هذا المذهب على أصلين:
أحد هما: أن هذه النصوص من التشابه.
والثاني:أن للمتشابه تأويلا لا يعلمه إلا الله.(9/29)
فنتج من هذين الأصلين استجهال السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار وسائر الصحابة والتابعين لهم بإحسان، وأنهم كانوا يقرؤون هذه الآيات المتعلقة بالصفات ولا يعرفون معنى ذلك ولا ما أريد به، ولازم قولهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتكلم بذلك ولا يعلم معناه. ثم تناقضوا أقبح تناقضن، فقالوا: تجري على ظواهرها، وتأويلها بما يخالف الظواهر باطل، ومع ذلك؛ فلها تأويل لا يعلمه إلا الله !! فكيف يثبتون لها تأويلا، ويقولون: تجري على ظواهرها، ويقولونك: الظاهر منها مراد، والرب منفرد بعلم تأويلها؟! وهل في التناقض أقبح من هذا؟! وهؤلاء غلطوا في المتشابه،وفي جعل هذه النصوص من المتشابه، وفي كون المتشابه لا يعلم معناه إلا الله؛ فأخطئوا في المقدمات الثلاث، واضطرهم إلى هذا التخلص من تأويلات المبطلين وتحريفات المعطلين، وسدوا على نفوسهم الباب، وقالوا: لا نرضى بالخطأ،ولا وصول لنا إلى الصواب!! فتركوا التدبر المأمور به والتعقل لمعاني النصوص، وتعبدوا بالألفاظ المجردة التي أنزلت في ذلك،وظنوا أنها أنزلت للتلاوة والتعبد بها دون تعقل معانيها وتدبرها والتفكر فيها،وأولئك جعلوها عرضة للتأويل والتحريف؛كما جعلها أصحاب التخيل أمثالا لا حقيقة لها)). وقول ابن الجوزي: فلو أنكم قلتم: نقرأ الأحاديث ونسكت؛ ما أنكر عليكم أحدا)): يقال:لا يضر المنكر إلا نفسه،ولا يهلك إلا نفسه،ولا يضر إنكار أهل الباطل وقيامهم على أهل الحق؛ فإن أهل الأهواء أهل ظلم وبغي وجهل مطبق، وسيرتهم معروفة،ومناهجهم مكشوفة، وأهل الحق لا يدعون بيان الحق، خصوصا في مثل هذه المسألة التي هي أصل من أصول الدين من أجل جعاجع المبطلين المعطلين وتكالبهم على أهل الحق والدين، وما من صاحب حق ودعوة مبنية على الكتاب والسنة؛إلا ويقيض الله له أعداء يؤذونه ويعادونه، والله جل وعلا ناصر دينه وكتابه وإن رغمت أنوف أهل الأهواء،الذين نصبوا العداوة لأهل الحق، واختلفوا(9/30)
عليهم الأكاذيب، ورموهم بعظائم الأمور، وبهتو هم.اللهم! فعياذا بك ممن كانت هذه صفته وهذه مسلكه وسبيله.
الوجه الثالث:أن قول ابن الجوزي:((إنما حملكم إياها على الظاهر قبيح)): يقال عنه ويجاب:إن حمل الصفات على ظاهرها وإثبات حقائقها لله تعالى دون تحريف أو تعطيل أو تكييف أو تمثيل هو الذي دل عليه الكتاب والسنة كما تقدم.إن ابن الجوزي أن القبيح حمل الصفات على ظواهرها التمثيل بصفات المخلوقين؛فهذا كما قال،ولكن لم يقل أحدا من السلف: إن ظواهر الصفات هو التمثيل؛كما وضح ذلك شيخ الإسلام رحمه الله في ((التدمرية))،وقد تقدم النقل عنه. وكذلك لم يقل أحد من السلف بتمثيل صفات الخالق بالمخلوق، ومن و من نسب ذلك إليهم؛ فقد أخطأ عليهم أقبح الخطأ. وأهل البدع ينسبون مثبت الصفات لله تعالى على وفق ما جاءت به النصوص إلى التشبيه، وينسبونه إلى الأخذ بالظاهر، والظاهر عند هم هو التمثيل؛فينبغي التنبه لذلك.
الوجه الرابع:أن قول ابن الجوزي: ولقد كسيتم هذا المذهب شينا قبيحا حتى صار لا يقال: حنبلي؛إلا مجسم)): يقال عنه:إن معظم المنتسبين لمذهب الإمام أحمد رحمه الله على مذهب السلف في باب الأسماء والصفات وغيره من الأبواب،ومذهبهم في هذا الباب أقرب إلى الدليل من المذاهب الأخرى،وقد زانوا مذهب إمامهم في اعتقادهم الحسن، وأخذهم بالكتاب والسنة، وتركهم التأويل الباطل والتحريف والتعطيل،وهجرهم لأهل البدع، ومصار متهم إياهم،وكشفهم عوارهم، وهتكهم أستارهم، ومن عاب من كانت هذه صفته وسماه مجسما؛ فإنما ينبئ عن سوء عقيدته، ويهتك ستر نفسه، ويكشف عن طويته المتلوثة بالبدع والضلالات، ولا يضر المثبتين لله تعالى ما أثبته لنفسه أو أثبته لنفسه له رسول محمد صلى الله عليه وسلم تلقيب أهل البدع لهم بألقاب مكذوبة مفتراة؛كالحشوية، والمجسمة...ونحو ذلل من الألفاظ التي هم أحق بها وأهلها.(9/31)
وقد قال أبو حاتم وغيره من علماء السلف: ((علامة أهل البدع الوقيعة في أهل الأثر، وعلامة الزنادقة تسميتهم أهل الأثر حشوية؛يريدون إبطال الآثار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم،وعلامة الجهمية تسميتهم أهل السنة مشبهة ونابتة...))(1) ومن نظر في كتب أهل البدع من المتقدمين منهم والمتأخرين؛ علم صدق ما قاله أبو حاتم رحمه الله؛ فكتب الكوثري والسقاف وأضربهما من الجهمية مليئة بسب علماء السلف، ورميهم بالتجسيم، ووصفهم بالحشوية ونحو ذلك.
وسالك الصراط المستقيم لا يتزعزع عن الطريق السوي، ولا يدعه من أجل شناعة المشنعين وطعن الطاعنين، بل لا يزيده ذلك إلا طمأنينة ومعرفة للحق وتمسكا به.
وقد قال العلامة ابن القيم رحمه الله بعدما ذكر بعض صفات الرب جل وعلا؛ قال: ((فلا ننفيها عنه بتسميتكم للموصوف بها جسما، كما أنا لا نسب للصحابة لأجل تسمية الروافض لمن يحبهم ويواليهم نواصب، ولا ننفي قدر الرب ونكذب به لأجل تسمية القدرية لمن أثبته جبريا، ولا نرد ما أخبر به الصادق عن الله وأسمائه وصغاته وأفعاله لتسمية أعداء الحديث لنا حشوية؛ ولا نجحد صفات خالقنا وعلوه على خلقه واستواءه على عرشه لتسمية الفرعونية المعطلة لمن أثبت ذلك مجسما مشبها:
فإن كان تجسيما ثبوت استوائه ... على عرشه إني إذا لمجسم
وإن كان تشبيها ثبوت صفاته ... فمن ذلك التشبيه لا أتكتم
وإن كان تنزيها جحود استوائه ... وأوصافه أو كونه يتكلم
فعن ذلك التنزيه نزهت ربنا ... بتوفيقه والله أعلى وأعلم (2)
* قال السقاف(102، تعليق رقم 18):
((قال العلامة ابن الأثير في كتابه((الكامل)): قال الحسن البصري:
__________
(1) انظر: ((العلو)) (ص 139) للذهبي، و((شرح أصول اعتقاد أهل السنة)) لللالكائي(2/ 179).
(2) الصواعق) (3/940).(9/32)
أربع خصال كن في معاوية، لو لم تكن فيه إ لا واحدة؛لكانت موبقة:انتزاؤه على هذه الأمة بالسيف حتى أخذ الأمر من غير مشورة، وفيهم بقايا الصحابة،وذوو الفضيلة، واستخلا فه بعده ابنه –يزيد-؛ سكيراً خميراً، يلبس الحرير، ويضرب بالطنابير - أي: العود، وهو من آلات اللهو _، وادعاؤه زيادً، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((الولد للفراش وللعاهر الحجر))، وقتله حجراً _ وهو أحد الصحابة العباد _ وأصحاب حجر؛فيها ويلاً له من حجر !ويا ويلاً له من حجر وأصحب حجر. انتهى كلام ابن الأثير، وما بين الشرطتتين إيضاح مني...))
وقال السقاف (ص 236)
((وكان معاوية بن سفيان هو الذي سن للناس لعن الخليفة الراشد ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنابر يوم الجمعة، فجعل لعنه كأنه أحد أركان الخطبة؛ ففي ((صحيح مسلم)) (4/1874برقم 2409) عن سيدنا سهل بن سعد رضي الله عنه؛ قال: ((استعمل على المدينة رجل من آل مروان.قال:فدعا سهل بن سعد، فأمره أن يشتم علياً.قال: فأبى سهل،فقال له: أما إذا أبيت؛ فقل: لعن الله أبا تراب...)) ولم يمتثل لأمره سهل رضي الله عنه ,
قلت:ولما ولى معاوية المغيرة بن شعبة على الكوفة؛قال له ((ولست تاركاً إصاءك بخصلة: لا تترك شتم علي وذمه)) انتهى من ((الكامل)).
أقول: الجواب عن هذا الكلام من وجهين: مجمل ومفصل: فأما المجمل؛فيطالب السقاف الجهمي بصحبة ما نقله عن الحسن البصري في شأن معاوية رضي الله عنه.
والقول بأن ابن الأثير ذكره في ((الكامل)) لا يكفي،وليس هذا من العلم في شيء فإن ابن الأثير لم يروه أولاً بالسند، ثانياً:أهل السير والتواريخ يذكرون ما وقفوا عليه من الأخبار صح مخرجه أولم يصح، وقليل من أهل السير والتواريخ من يمحص ما ينقله.ومن آنس من نفسه علماً وإنصافاً؛ علم يقيناً عدم صحة ما ذكر عن الحسن البصري، وأنه كذب مختلق.(9/33)
برهان ذلك أن أثر الحسن قد رواه محمد بن جرير الطبري في ((تاريخه)) (3/232)؛ قال: ((قال أبو مخنف، عن الصقعب بن زهير، عن الحسن، به)).
وهذا سند موضوع:
أبو مخنف _واسمه لوط بن يحيى _: أخباري متروك، ولا يحتج بأخباره إلا جاهل بأمره أو شيعي محترق، وأكثر الحكايات المكذوبة التي تروي عن الصحابة وغيرهم يكون من طريقة.
قال أبو حاتم _كما في ((الجرح والتعديل)) (7/182) _: ((أبو مخنف متروك الحديث)).
وقال ابن معين: ((ليس بشيء)).
قال ابن عدي في ((الكامل)) (6/ 2110): ((وهذا الذي قاله ابن معين يوافقه عليه الأئمة؛ فإن لوط بن يحيى معروف بكنيته وباسمه، حدث بأخبار من تقدم من السلف الصالحين، ولا يبعد منه أن يتناولهم، وهو شيعي محترق...)).
وقال الدار قطني:((ضعيف)).
وقال الذهبي في (3 / 419): ((أبو مخنف أخباري تالف، لا يوثق به...)).فإذا علم بطلان هذا الأثر، وأنه موضوع؛ فالاستدلال به لهضم مكانة الصحابي الجليل معاوية بن أبي سفيان وتنقصه من أعظم الضلال والزيغ، وهذه بضاعة المفلس من العلم النافع،إذا لم يجد ما يؤيد به دعواه وباطله وفجوره؛ ركن إلى الكذب والبهت، وأي كذب بهت أعظم من الكذب على الصحابة وبهتهم وتقو يلهم ما لم يقولوا ورميهم بالنقائص؟!
قال الإمام الثقة الثبت أبو زرعة رحمه الله تعالى:((إذا رأيت الرجل ينتقص أحدا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فاعلم أنه زنديق،وذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم عندنا حق، وإنما يريدون أن يجرحوا شهودنا؛ ليبطلوا الكتاب والسنة،
والجرح بهم أولى، وهم زنادقة))، رواه الخطيب في ((الكفالة)) (ص97).(9/34)
وقد اتفق المسلمون على أن معاوية أفضل ملوك هذه الأمة (1)، وكان أحاديث...)). ومعاوية رضي الله عنة ممن أسلم عام فتح مكة مع من أسلم،وشهد مع النبي صلى الله عليه وسلم عدة غزوات؛كحنين وغيرها،وقد أخبر الله جل وعلا في كتابه أنزل سكينته يوم حنين على رسوله وعلى المؤمنين، ومعاوية رضي الله عنه ممن شهد حنينا فدخل في الآية.
قال تعالى: { وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ 25 ثُمَّ أَنَزلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَعذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِين...َ } [ التوبة:25- 26].
ومعاوية رضي الله عنه ممن اقتفى أثر السابقين الأولين، وسار بسيرتهم، واتبعهم بإحسان، وقد رضي الله عن السابقين الأولين وعمن اتبعهم بإحسان:
كما قال تعالى: { وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } [التوبة: 100].
__________
(1) انظر:((فتاوى شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله)) (4/478).(9/35)
وقال تعالى: { مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا } [الفتح:29].
قال شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله على هذه الآية((فهذا يتناول الذين آمنوا مع الرسول مطلقا))(1).
أقول: ويؤخذ من الآية وما قبلها فضل الصحابة جميعا رضي الله عنهم، ووجوب محبتهم واحترامهم وتوقيرهم وذكر محاسنهم؛ لتألفهم القلوب، ويحب الكف عن مساويهم، والإمساك عما شجر بينهم، لئلا تنفر منهم القلوب، ويجب التنكيل بمن يعاديهم وبغضهم، أو يسبهم، أو ينقصهم، أو ينتقص أحدا منهم.
ومن هاتين الآيتين وغيرهم من الآيات يتبين ظلال الروافض وخبثهم وبعدهم عن الكتاب والسنة، وقد كفرهم غير واحد من أهل العلم.
وقد انتزع الإمام مالك رحمه الله من قوله تعالى: { لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ } كفر الرافض.
قال ابن كثير رحمه الله في((تفسيره))(2) على هذه الآية:((لأنهم يغيظونهم،ومن غاظ الصحابة رضي الله عنهم؛ فهو كافر؛لهذه الآية)).
ووافقه طائفة من العلماء رضي الله عنهم على ذلك.
__________
(1) انظر: ((فتاوى شيخ الإسلام)) (4/463).
(2) 4/ 219)،وانظر:((شرح السنة)) (1/ 229) للبغوي رحمه الله.(9/36)
قال شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله في((العقيدة الوسطية)):((ومن أصول أهل السنة والجماعة:سلامة قلوبهم وألسنتهم لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ كما وصفهم الله به في قوله تعالى: { وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيم }
[الحشر:10])).
أقول: وقد خالف الروافض ومن سلك مسلكهم من أهل الزيغ والإلحاد مذهب أهل السنة والجماعة في وجوب احترام الصحابة وتطهير الألسنة من سبهم وذمهم وذكر مساويهم، وقد أحبر الله جل وعلا أن الذين جاؤوا من بعدهم يقولون: ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان، والروافض لجهلهم وضلالهم وفساد عقائدهم يلعنونهم ويسبونهم وقد أمروا بالإستغفار لهم؛ فخالفوا الكتاب والسنة، واتبعوهم أهواءهم.
قال العلامة ابن القيم رحمه الله في((زاد المعاد)) (5/869):((ولهذا أفتى أئمة الإسلام كمالك والإمام أحمد وغيرهما أن الرافضة لاحق لهم في الفيء؛لأنهم ليسوا من المهاجرين ولا من الأنصار ولا من الذين جاؤوا من بعدهم يقولون: { رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ } [ الحشر: 10]، وهذه مذهب أهل المدينة، واختار شيخ الإسلام ابن تيميه، وعليه يدل القرآن وفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين)).(9/37)
وقد زاد في الزمان طغيان الروافض على أوائلهم، وعظم كفرهم، وأعلنوا براءتهم من أبو بكر وعمر جهارا، ومع ذلك؛حصل من قبل الكثيرين تساهل من جهتهم،وولوا بعض المناصب؛ فأين الدين؟! وأين الولاء والبراء؟! وأين سل السيف عليهم؟! فإنا لله وإنا إليه راجعون، عاد الدين غريبا كما بدأ، وجاهر أهل البدع والفجور ببدعهم وفجورهم،وشتموا أخيار الأمة، واختلقوا الأكاذيب عليهم ليشينوهم؛ فالله المستعان(1)
والحاصل أن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما من جملة الصحابة الذين ثبتت فضائلهم ووجبت جبت محبتهم واحترامهم وموالاتهم.
__________
(1) ذكر العلامة ابن كثير رحمه الله في ((البداية والنهاية)) (14/310)قصة عظيمة،فيها ما يسر المؤمنين،ويغيظ المنافقين؛ قال رحمه الله في حوادث سنه ست وستين وسبعماية:
((وفي يوم الخميس سابع عشرة أول النهار وجد رجل بالجامع الأموي اسمه محمود ابن إبراهيم الشيرازي، وهو يسب الشيخين ويصرح بلعنهما،فرفع إلى القاضي المالكي قاضي القضاة جمال الدين المسلاتي، فاستتابه عن ذلك، وأحضر الضرب؛ فأول ضربة قال: لا إله الله، علي ولي الله !ولما ضرب الثانية؛ لعن أبا بكر وعمر، فالتهمه العامة، فأوسعوه ضربا مبرحا؛ بحيث كاد يهلك،فجعل القاضي يستكفهم عنه، فلم يستطع ذلك، فجعل الرافضي يسب ويلعن الصحابة، وقال: كانوا على الضلال. فعند ذلك حمل إلى نائب السلطنة، وشهد عليه قوله بأنهم كانو على الضلالة؛ فعند ذلك حكم عليه القاضي بإراقة دمه؛ فأخذ إلى ظاهر البلد، فضربت عنقه، وأحرقته العامة قبحه الله، وكان ممن يقرأ بمدرسة أبي عمر ثم ظهر عليه الرفض، فسجنه الحنبلي أربعين يوماً، فلم ينفع ذلك، ومازال يصرح في كل موطن يمر فيه بالسب، حتى كان يومه هذا أظهر مذهبه في الجامع، وكان سبب قتله قبحه الله من كان قبله))
فما أحسن هذا وأعظمه لو عمل به قضاة هذا الزمان وأجري هذا الحكم على روافض زماننا؛ فكفرهم فوق كفر المقتول؛ فإنا لله وإنا إليه راجعون.(9/38)
وما جرى بين معاوية وعلي رضي الله عنهما؛ فطريقة أكثر علماء السلف الإمساك عما شجر بينهما.
وقد دلت السنة على أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه كان أقرب إلى الحق من معوية، وهذا لا يقدح في معاوية وفضله، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إذا حكم الحاكم، فاجتهد، ثم أصاب؛ فله أجران، وإذا حكم،فاجتهد، ثم أخطأ؛ فله أجر))، رواه الشيخان وغيرهما عن عمرو بن العاص.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في ((العقيدة الواسطية))ذاكراً بعض أصول أهل السنة والجماعة؛ قال (1):
((ويمسكون عما شجر بين الصحبة، ويقولون: إن هذه الآثار المروية في مساويهم: منها ما هو كذب، ومنها ما قد زيد فيه ونقص وغير عن وجهه، والصحيح منه هم فيه معذورون؛ إما مجتهدون مصيبون، وإما مجتهدون مخطئون.
وهم مع ذلك لا يعتقدون أن كل واحد من الصحابة معصوم عن كبائر الإثم وصغائره، بل تجوز عليهم الذنوب في الجملة، ولهم من السوابق والفضائل ما يوجب مغفرة ما يصدر منهم إن صدر، حتى إنهم يغفر لهم من السيئات مالا يغفر لمن بعدهم؛ لأن لهم من الحسنات التي تمحو السيئات ما ليس لمن بعدهم.
وقد ثبت بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم خير القرون، وأن المد من أحدهم إذا تصدق به،كان أفضل من جبل أحد ذهبا ممن بعدهم ثم إذا كان قد صدر من أحدهم ذنب؛ فيكون قد تاب منه، أو أتى بحسنات تمحوه، أو غفر له بفضل سابقته، أو بشفاعة محمد صلى الله عليه وسلم الذي هم أحق الناس بشفاعته أو ابتلي ببلاء في الدنيا كفر به عنه.
فإذا كان هذا من الذنوب المحققة؛ فكيف الأمور التي كانوا فيها مجتهدين: إن أصابوا؛ فلهم أجران، وإن أخطئوا؛ لهم أجر واحد، والخطأ مغفور؟!
ثم القدر الذي ينكر من فعلهم قليل نزر مغمور في جنب فضائل القوم ومحاسنهم؛من الإيمان بالله ورسوله، والجهاد في سبيله، والهجرة، والنصرة، والعلم النافع، والعمل الصالح.
__________
(1) انظر ((فتاوى شيخ الإسلام)) (3/154_ 155).(9/39)
ومن نظر في سيرة القوم بعلم وبصيرة، وما من الله عليهم به من الفضائل؛ علم يقينا أنهم خير الخلق بعد الأنبياء، لا كان ولا يكون مثلهم وأنهم الصفوة من قرون هذه الأمة،التي هي خير الأمم وأكرمها على الله)). الوجه الثاني: أن ما نقله السقاف عن ابن الأثير من معاوية:((إنه أخذ الأمر من غير مشورة، وفيهم بقايا الصحابة)): قد تقدم أن الحسن لم يقل ذلك، وأنه مختلف عليه مكذوب. ثم إن هذا أيضا من الكذب على معاوية رضي الله عنه، والكذب مجانب الإيمان، والكذب على الصحابة ليس كالكذب على من بعدهم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((من قال في مؤمن ما ليس فيه؛ أسكنه الله ردغة الخبال، حتى يخرج مما قال))، حديث صحيح،رواه أبو داود وغيره عن عبد الله بن عمر، وروى أبو داود وغيره عن المستورد رضي الله عنه؛ قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم:((من أكل برجل مسلم أكلة، فإن الله يطعمه مثلها من جهنم، ومن كسي ثوبا برجال مسلم؛ فإن الله يكسوه مثله من جهنم،ومن قام برجل مقام سمعة ورياء؛ فإن الله يقوم به مقام سمعة ورياء يوم القيامة))
ومعاوية رضي الله عنه لم يأخذ الأمر من غير مشورة كما زعمه من زعمه، إنما سلم له الحسن بن علي رضي الله عنهما الأمر وبايعه، وحقن بذلك دماء المسلمين، وكان معاوية والحسن كل منهما قد سار بعساكره، ولكن –ولله الحمد والمنة –لم يقع بينهما قتال، وسمي هذا العام عام الجماعة؛ لاجتماع الناس، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحسن: ((ابن هذا سيد، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين من المسلمين))، رواه البخاري عن أبي بكرة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في ((الفتاوى))(4/467):
((دل الحديث على أن معاوية وأصحابه كانوا مؤمنين كما كان الحسن وأصحابه مؤمنين، أن الذي فعله الحسن كان محمودا عند الله تعالى محبوبا مرضيا له ولرسوله)).
قلت:وقد حصل ولله الحمد بتوليه معاوية خير عظيم للأمة.(9/40)
وقد قال شيخ الإسلام رحمه الله في)) (6/232.): ((فلم يكن ملوك المسلمين ملك خير من معاوية، إذا نسبت أيامه إلى أيام من بعده...)).
والحاصل أن من قال: إن معاوية انتزى على هذه الأمة بالسيف حتى أخذ الأمر من غير مشورة!! فقد قال ما لا علم له به، ولا يبعد أن يكون هذا من وضع الرافضة؛ ليشنوا بذلك معاوية؛ فإنهم أهل كذب وافتراء، بل هم من أعظم الناس كذبا وبهتا للأبرياء.
الوجه الثالث: أن قوله:((وقتله حجرا، وهو أحد الصحابة العباد)):
جوابه من وجهين:
الأول: أن حجرا قد اختلف العلماء في صحبته على قولين:
القول الأول: أن صحابي، وقد ذكره في الصحابة غير واحد من أهل العلم، كابن سعد.
والثاني: أنه ليس بصحابي، ولم يرد دليل صحيح صريح يدل على صحبته، وقد نقل ابن كثير في((البداية والنهاية)) (8/50) عن أبي أحمد العسكري أنه قال:((أكثر طرق أمر معاوية بقتل حجر منقطعة، وهي مخرجة عند الفسوي في ((المعرفة والتاريخ))و الحاكم في ((مستدركه)) وغيرهما(1).
ومن أمثلها ما رواه الحاكم في ((مستدركه)) (3/469) من طريق إسماعيل بن علية عن هشام بن حسان عن ابن سيرين؛ أن زيادا أطال الخطبة، فقال حجر بن عدي: الصلاة! فمضى في خطبته، فقال له: الصلاة! وضرب بيده إلى الحصى، وضرب الناس بأيديهم إلى الحصى، فنزل، فصلى، ثم كتب فيه إلى معاوية، فكتب معاوية: أن سرح به إلي. فسرحه إليه، فلما قدم عليه؛ قال: السلام عليك يا أمير المؤمنين! قال: وأمير المؤمنين أنا؟ إني لا أقيلك ولا أستقيلك. فأمر بقتله، فلما انطلقوا به؛ طلب منهم أن يأذنوا له، فيصلى ركعتين، فأذنوا له، فصلى ركعتين، ثم قال: لا تطلقوا عني حديدا، ولا تغسلوا عني دما، وادفنوني في ثيابي؛ فإني مخاصم. هشام: كان محمد بن سيرين إذا سئل عن الشهيد؛ ذكر حديث حجر.
وهذا سند صحيح.(9/41)
وقد جاء: ((أن معاوية لما قدم المدينة؛ دخل على عائشة، فقالت: حجرا؟ فقال: يا أم المؤمنين! إني وجدت قتل رجل في صلاح الناس خير من استحيائه في فسادهم))(1).
فالظاهر أن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه قتل حجرا خشية أن يثير الفتنة بين الناس؛ فهو رضي الله عنه مجتهد في ذلك، فإن كان نصيبا؛ فله أجران، وإن كان مخطئا؛ فله أجر واحد؛ كما جاء ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم في ((الصحيحين)) وغيرهما عن عمرو بن العاص.
وقدح السقاف وطعنه في معاوية من أعظم الظلم؛ فإن معاوية إن كان مخطئا:
فمثله كمثل خالد بن الوليد رضي الله عنه؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه على بني جذيمة، فدعاهم إلى الإسلام، فلم يحسنوا أن يقولوا: أسلمنا، فجعلوا يقولون: صبأنا صبأنا. فجعل خالد يقتل منهم ويأسر، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((اللهم! إني أبرأ إليك مما صنع خالد بن الوليد))؛ قالها مرتين. والحديث في ((صحيح البخاري)) من حديث عبد الله بن عمر.
وكمثل أسامة بن زيد رضي الله عنه لما بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى الحرقة. قال أسامة: فلحقت أنا ورجل من الأنصار رجلا منهم، فلما غشيناه؛ قال: لا إله إلا الله. فكف الأنصار، فطعنته برمحي حتى قتلته، فلما قدمنا؛ بلغ النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: ((يا أسامة! أقتلته بعدما قال: لا إله إلا الله؟)). قلت: كان متعوذا. فما زال يكررها، حتى تمنيت أني لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم. والحديث في ((الصحيحين)).
__________
(1) ذكره ابن كثير رحمه الله في ((البداية والنهاية)) (8/ 50)، وقال: ((رواه أحمد، عن عفان، عن ابن علية، عن أيوب، عن عبد الله بن أبي مليكة أو غيره؛ قال: لما قدم معاوية المدينة...)).(9/42)
وكمثل النفر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؛ إذ مر بهم رجل يرعى غنما له، وأتوا بغنمه على رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأنزل الله هذه الآية: { فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُواْ وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِنًا } إلى آخر الآية [النساء: 94].
والحديث رواه أحمد والترمذي وغيرهما من طريق سماك عن عكرمة عن ابن عباس، ورواية سماك عن عكرمة فيها اضطراب، وللحديث شاهد عند الإمامين البخاري ومسلم في ((صحيحيهما))(1).
وكل ما جرى من أسامة ومن خالد ومن النفر كان عن اجتهاد لا عن هوى وعصبية وظلم.
والخطأ مغفور لهذه الأمة؛ كما قال تعالى في دعاء المؤمنين: { رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا } [البقرة: 286]، وفي ((صحيح مسلم)) من حديث ابن عباس مرفوعا: ((إن الله جل وعلا قال: قد فعلت))(2).
وهذا من الخطأ المحقق؛ فكيف فيما لم يتبين أمره ولم يوقف فيه على حقيقة الحال؟!
وأقل أحوال معاوية رضي الله عنه أن يكون مجتهدا مخطئا؛ فمثله لا إثم عليه، وعدله وحمله على الناس أمر مشهور مجمع عليه بين الخاص والعام، ولا عبرة بحثالة الروافض الذين يطعنون عليه ويلزمونه.
الوجه الرابع: أن قول السقاف: ((وكان معاوية بن أبي سفيان هو الذي سن للناس لعن الخليفة الراشد ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنابر يوم الجمعة...)): يقال عنه: هذا يحتاج إلى نقل صحيح،ولم يذكر السقاف حجته في ذلك،ومن كان له معرفة بسيرة معاوية رضي الله عنه؛علم أن هذا النقل مكذوب عليه؛فإن الرافضة قد وضعوا أحاديث وحكايات في ذم معاوية رضي الله عنه.
__________
(1) انظر: ((صحيح البخاري)) (8/ 258_ الفتح)، و ((صحيح مسلم)) (3025).
(2) انظر: ((صحيح مسلم)) (2/ 146- نووي).(9/43)
ومن العجب أن الرافضة لا ترضى بسب علي رضي الله عنه، ونحن لا نرضى بذلك، ومع ذلك، يسبون أبا بكر وعمر ويلعنونهما؛ فأيهما؛ أعظم سب علي أم سب أبي بكر وعمر؟! والسقاف يطعن على معاوية بحكايات مكذوبة، ولا يطعن على الروافض؛ إن كان لا يرى رأيهم بسبهم أبا بكر وعمر كما تواتر ذلك عنهم.
وقد ذكر بعض العلماء- كما هو مذكور في بعض كتب التاريخ- أنه وقع تلاعن بين علي ومعاوية؛ كما وقعت بينهما المحاربة، وهذا في حياة علي رضي الله عنه،وليس فيه أنه وقع لعنه من قبل معاوية بعد وفاته، فضلا عن أن يكون سن للناس ذلك على المنابر.
وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في((المنهاج)) (4/468) جوابا على قول الرافضي: ((وأما ما ذكره من لعن علي؛ فإن التلاعن وقع من الطائفتين كما وقعت المحاربة، وكان هؤلاء يلعنون رؤوس هؤلاء في دعائهم، وهؤلاء يلعنون رؤوس هؤلاء في دعائهم،وقيل: إن كل طائفة كانت تقنت على الأخرى، والقتال باليد أعظم من التلاعن باللسان، وهذا كله؛ سواء كان ذنبا أو اجتهادا، مخطئا أو مصيبا؛ فإن مغفرة الله ورحمته تتناول ذلك؛ بالتوبة، والحسنات الماحية، والمصائب المكفرة، وغير ذلك...)).(9/44)
الوجه الخامس: أن قول السقاف: ((ولما ولى معاوية المغيرة بن شعبة على الكوفة؛ قال له: ولست تاركا إيصاءك بخصلة: لا تترك شتم علي وذمه. انتهى من ((الكامل)))): يقال عنه: إن هذا من وضع الرافضة وبهتهم، وقد روى هذا الأثر ابن جرير في ((تاريخه)) (3/ 218): ((... الرافضة أمة ليس لها عقل صريح، ولا نقل صحيح، ولا دين مقبول، ولا دنيا منصورة، بل هم من أعظم الطوائف كذبا وجهلا، ودينهم يدخل على المسلمين كل زنديق ومرتد؛ كما دخل فيهم النصيرية والإسماعيلية وغيرهم؛ فإنهم يعمدون إلى خيار الأمة يعادونهم، وإلى أعداء الله من اليهود والنصارى والمشركين يوالونهم، ويعمدون إلى الصدق الظاهر المتواتر يدفعونه، وإلى الكذب المختلق الذي يعلم فساده يقيمونه؛ فهم كما قال فيهم الشعبي- وكان من أعلم الناس بهم-: لو كانوا من البهائم؛ لكانوا حمرا، ولو كانوا من الطير؛ لكانوا رخما، ولهذا كانوا أبهت الناس وأشدهم فرية؛ مثل ما يذكرون عن معاوية؛ فإن معاوية ثبت بالتواتر أنه أمره النبي صلى الله عليه وسلم كما أمر غيره، وجاهد معه، وكان أمينا عنده يكتب له الوحي، وما اتهمه النبي صلى الله عليه وسلم في كتابة الوحي، وولاه عمر بن الخطاب الذي كان من أخبر الناس بالرجال، وقد ضرب الله الحق على لسانه وقلبه، ولم يتهمه في ولايته...)).
قال السقاف (ص 103):
((وقد فشا النصب بين الحنابلة وهو بغضهم لآل البيت، أو عدم احترامهم لهم، وموالاة طائفة معاوية أو الدفاع عنها بالحجج التي هي أوهى من بيت العنكبوت، ويأبى الله إلا أن يتم نوره، ونحن نجد في هذه الأيام من يفتخر بالانتساب لآل النبي صلى الله عليه وسلم وخصوصا لسيدنا الحسن ولسيدنا الحسين ابني سيدنا علي والسيدة فاطمة عليهما السلام، والحمد لله تعالى ولا نجد من يفتخر بالانتساب إلى معاوية وذريته...)).
*الجواب أن يقال:(9/45)
هذا كلام جاهل، والجهمية كلهم جهال، وأجهل منهم الرافضة، الذين يرمون أهل السنة بالنصب، وقد قال أبو حاتم رحمه الله: ((وعلامة الرافضة تسميتهم أهل السنة ناصبة...))؛ فمن نافح عن الصحابي الجليل معاوية رضي الله عنه، وذب عن عرضه، وشنأ ترهات الروافض فيه، ونزله المنزلة التي كان عليها في عهد النبي صلى الله عليه وسلم؛ رماه أهل الضلال بالنصب.
وقول السقاف: ((ونحن نجد في هذه الأيام من يفتخر بالانتساب لآل النبي صلى الله عليه وسلم)): لا ريب أن نسب النبي صلى الله عليه وسلم نسب عظيم، والانتساب إليه شرف، ولكن لا يفيد ولا ينفع الانتساب لآل النبي صلى الله عليه وسلم مع مخالفة هدي النبي صلى الله عليه وسلم قولا وفعلا، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((ومن بطأ به عمله؛ لم يسرع به نسبه))، رواه مسلم(1) من حديث أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه.
ولو كان الانتساب لآل النبي ينفع دون العمل؛ لنفع أبا طالب وأبا لهب وغيرهما ممن مات على الكفر وهو ذو نسب.
قال تعالى: { فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ 101 فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ 102 وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ 103 تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ } [المؤمنون: 101- 104].
ثم إنه يقال: إن الافتخار بالانتساب لآل النبي صلى الله عليه وسلم أو غيرهم ليس من هدي النبي صلى الله عليه وسلم، بل هو من عمل أهل الجاهلية؛ كما دلت السنة على ذلك:
__________
(1) مسلم)) (17/ 21- 22- نووي).(9/46)
ففي ((صحيح مسلم)) من حديث أبي سلام؛ أن أبا مالك الأشعري حدثه؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن: الفخر في الأحساب، والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالنجوم، والنياحة))، وقال: ((النائحة؛ إذا لم تتب قبل موتها؛ تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران ودرع من جرب)).
وروى أبو داود من طريق هشام بن سعد المدني، عن سعيد بن أبي سعيد، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله أذهب عنكم عبية الجاهلية وفخرها بالآباء، مؤمن تقي وفاجر شقي، أنتم بنو آدم، وآدم من تراب، ليد عن رجال فخرهم بأقوام إنما هم فحم من فحم جهنم أو ليكونن أهون على الله من الجعلان التي تدفع بأنفها النتن)).
قال السقاف (ص 106، تعلق رقم 22):
((... والعجب من ابن تيمية الذي يثبت الحركة والانتقال في الموافقة (2/4) بهامش ((مناهج سنته)) وينسبه للسلف، وليس الأمر كما قال، وكلام السلف ليس من حجج الشرع)).
أقول: جواب هذا الكلام أن يقال:
لئن مات السبكي الأشعري وابن جهبل الكلابي وغيرهما من أهل الذب على ابن تيمية رحمه الله؛ لقد ورثهما من هو مثلهما وأشد كذبا وافتراء؛ كالجهمي الكوثري والسقاف الذي اتبع أثر الكوثري حذو القذة بالقذة؛ فأظهر البدع، ونشرها بين الأنام، وبث لضلالات في الكتب، وكفر خيار الأمة، وكذب على العلماء، وقولهم ما لم يقولوا، وقيل:
إذالم تضن عرضاولم تخش جالقا
... وتستحي مخلوقا فما شئت فاصنع
وما جرى لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله من الأذى من قبل أعدائه وحساده أمر مشهور عند العلماء وطلبة العلم؛ فقد اختلقوا عليه الأباطيل، وقولوه ما لم يقل، ونسبوا إليه الترهات؛ حتى إنهم نسبوا إليه القول بقدم العالم، مع أن الشيخ رحمه الله في سائر كتبه يرد هذا القول بالأدلة النقلية والحجج العقلية.(9/47)
ولما كان أهل البدع من جميع الطوائف أهل ظلم وبغي وجهل، وليس عندهم من العلم والبرهان ما يواجهون به العلماء المحققين من أهل السنة؛ لجؤوا إلى الكذب والافتراء، وتحميل الكلام ما لا يتحمل، وتعظيم ما لا يستحق التعظيم؛ فهذا السقاف يعزو إلى شيخ الإسلام بأنه يثبت الحركة والانتقال لله تعالى، ولم يخش وعيد العقوبات المترتبة على الكذب وإضلال العباد بالتلبيس، مع أن الحركة لله تعالى مما سكت عنها النص؛ فلم يأت عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من الصحابة إثباتها؛ كما أنه لم يأت نفي ذلك، وتحمل معنى حقا، وتحتمل معنى فاسدا، والعبرة بمذهب الرجل وما يناظر عليه.
وشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله لم يذكر أن الحركة تثبت لله تعالى كما نسب إليه السقاف؛ فإنه ذكر في((درء تعارض النقل والعقل)) أقوال العلماء، ولم يرجح شيئا، وهذا نص كلامه في((درء تعارض العقل والنقل)) (2/ 7- تحقيق رشاد سالم،2/ 4- هامش منهاج السنة)؛ قال بعد ذكر حرب الكرماني وعثمان بن سعيد الدارمي وغيرهما؛ قال:(9/48)
((بل صرح هؤلاء بلفظ الحركة، وأن ذلك هو مذهب أئمة السنة والحديث من المتقدمين والمتأخرين، وذكر حرب الكراماني أنه قول من لقيه من أئمة السنة؛ كأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وعبد الله بن الزبير الحميدي وسعيد بن منصور، وقال عثمان بن سعيد وغيره: إن الحركة من لوازم الحياة؛ فكل حي متحرك، وجعلوا نفي هذا من أقوال الجهمية نفاة الصفات، الذين اتفق السلف والأئمة على تضليلهم وتبديعهم، وطائفة أخرى من السلفية؛ كنعيم بن حماد الخزاعي والبخاري صاحب((الصحيح)) وأبي بكر بن خزيمة وغيرهم كأبي عمر بن عبد البر وأمثاله يثبتون المعنى الذي يثبته هؤلاء، ويسمون ذلك فعلا ونحوه، ومن هؤلاء من يمتنع عن إطلاق لفظ الحركة؛ لكونه غير مأثور، وأصحاب أحمد منهم من يوافق هؤلاء؛ كأبي بكر عبد العزيز وأبي عبد الله بن بطة وأمثالهما، ومنهم من يوافق الأولين؛ كأبي عبد الله بن حامد وأمثاله، ومنهم طائفة ثالثة كالتيميين وابن الزعفراني وغيرهم يوافقون النفاة من أصحاب ابن كلاب وأمثالهم...)).
فهذا ما ذكره شيخ الإسلام رحمه الله في الموافقة الذي يزعم السقاف أنه أثبت فيه الحركة الانتقال لله.
ولم يأت في كلام الشيخ رحمه الله ذكر للانتقال، إنما هي لفظة مزيدة من السقاف، كعادته في الزيادة في الكلام؛ ليثبت باطله.
وأما الحركة؛ فهذا كلام الشيخ بحروفه، فلم يثبت الحركة لا من قريب ولا من بعيد، إنما ذكر رحمه الله أقوال العلماء ومذاهبهم.(9/49)
وقد قال رحمه الله في كتاب ((الاستقامة)) (1/70): ((وكذلك لفظ (الحركة) أثبته طوائف من أهل السنة والحديث، وهو الذي ذكره حرب بن إسماعيل الكرماني في ((السنة)) التي حكاها عن الشيوخ الذين أدركهم؛ كالحميدي وأحمد بن حنبل وسعيد بن منصور وإسحاق بن إبراهيم، وكذلك هو الذي ذكره عثمان بن سعيد الدارمي في ((نقضه على بشر المريسي))، وذكر أن ذلك مذهب أهل السنة، وهو قول كثير من أهل الكلام والفلسفة من الشيعة والكرامية والفلاسفة الأوائل والمتأخرين كأبي البركات صاحب((المعتبر)) وغيرهم، ونفاه طوائف،منهم أبو الحسن التميمي وأبو سليمان الخطابي، وكل من أثبت حدوث العالم بحدوث الأعراض كأبي الحسن الأشعري والقاضي أبي بكر بن الباقلاني وأبي الوفاء بن عقيل وغيرهم ممن سلك في إثبات حدوث العالم هذه الطريقة التي أنشأها قبلهم المعتزلة، وهو أيضا قول كثير من الفلاسفة الأوائل والمتأخرين؛ كابن سينا وغيره.
والمنصوص عن الإمام أحمد إنكار نفي ذلك، ولم يثبت عنه إثبات لفظ (الحركة)، وإن أثبت أنواعا قد يدرجها المثبت في جنس الحركة؛ فإنه لما سمع شخصا يروي حديث النزول ويقول: ينزل بغير حركة ولا انتقال ولا بغير حال! أنكر أحمد ذلك، وقال: قل كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فهو كان أغير على ربه منك.
وقد نقل في رسالة عنه إثبات لفظ(الحركة)؛ مثل ما في ((العقيدة)) التي كتبها حرب بن إسماعيل، وليست هذه العقيدة ثابتة عن الإمام أحمد هي ألفاظ حرب بن إسماعيل، لا ألفاظ الإمام أحمد، ولم يذكرها المعنيون بجمع كلام الإمام أحمد كأبي بكر الخلال في كتاب ((السنة)) وغيره من العراقيين العالمين بكتاب أحمد، ولا رواها المعروفون بنقل كلام الإمام، لا سيما مثل هذه الرسالة الكبيرة، وإن كنت راجت على كثير من المتأخرين...)).
فهذا ما يقرره الشيخ رحمه الله في سائر كتبه فيما يتعلق بالحركة يذكر أقوال العلماء وأدلتهم.(9/50)
وقد ذكر رحمه الله في مواضع متعددة من كتبه ((أن السلف كانوا يراعون لفظ القرآن والحديث فيما يثبتونه وينفونه عن الله من صفاته وأفعاله؛ فلا يأتون بلفظ محدث مبتدع في النفي والإثبات، بل كل معنى صحيح؛ فإنه داخل فيما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم، والألفاظ المبتدعة ليس لها ضابط، بل كل قوم يريدون بها معنى غير المعنى الذي أراده أولئك؛ كلفظ(الجسم) و(الجهة) و(الحيز) و(الجبر) ونحو ذلك، بخلاف ألفاظ الرسول؛ فإن مراده بها يعلم كما يعلم مراده بسائر ألفاظه، ولو لم يعلم الرجل مراده؛ لوجب عليه الإيمان بما قاله مجملا، ولو قدر معنى صحيح_ والرسول صلى الله عليه وسلم لم يخبر به_؛ لم يحل لأحد أن يدخله في دين المسلمين؛ بخلاف ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فإن التصديق به واجب.
والأقوال المبتدعة تضمنت تكذيب كثير مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وذلك يعرفه من عرف مراد الرسول صلى الله عليه وسلم و مراد أصحاب تلك الأقوال المبتدعة.
ولما انتشر الكلام المحدث، ودخل فيه ما يناقض الكتاب والسنة، وصاروا يعارضون به الكتاب والسنة؛ صار بيان مرادهم بتلك الألفاظ وما احتجوا به لذلك من لغة وعقل يبين للمؤمن ما يمنعه أن يقع في البدعة والضلالة أو يخلص منها_ إن كان قد وقع_ ويدفع عن نفسه في الباطن والظاهر ما يعارض إيمانه بالرسول صلى الله عليه وسلم من ذلك...))(1).
ثم لو فرضنا أن شيخ الإسلام رحمه الله أثبت الحركة لله تعالى؛
__________
(1) انظر: ((الفتاوى)) (5/432).(9/51)
فليس ذلك قادحا في علمه ولا دين؛ فإن كان مصيبا؛ فله أجران، وإن كان مخطئا؛ فله أجر واحد، وخطؤه مغفور له؛ فإنه رحمه الله من أهل العلم والاجتهاد، الذين توفرت فيهم شروطه، وليست هذه المسألة مما يضلل فيها المخلف؛ إلا إذا علم منه أنه يقصد معنى فاسدا، علما أن أهل الأهواء الذين ينفون عن الله الحركة يقصدون نفي صفات الرب جل وعلا؛ كالحياة، والمجيء، والنزول... ونحو ذلك مما دل الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة عليه.
وقول السلف عن الشيخ بأنه ينسبه إلى السلف !! هذا الكذب؛ فشيخ الإسلام رحمه الله نقل عن بعضهم إثبات الحركة وهو صادق في نقله؛ فهذه كتبهم موجودة، وبالرجوع إليها يتبين صدق الشيخ في ذلك، ولم يقل الشيخ رحمه الله: إن جميع السلف قالوا بذلك! إنما ذكره عن بعضهم؛ كما تقدم نقله عنه.
وقول السقاف: ((وكلام السلف ليس من حجج الشرع)): كلام مجمل؛ فإن أراد أن كلام بعضهم ليس بحجة ما لم يذكر دليلا؛ فهذا صحيح؛ فالحجة في كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، وإن أراد أن جميع كلام السلف ليس بحجة؛ فهذا خطأ؛ فإن اتفاقهم وإجماعهم حجة، ومذهبهم لا يكون إلا حقا وصوابا، والخروج عن مذهبهم والعدول عنه اتباع لغير سبيل المؤمنين:
وقد قال تعالى: { وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا } [النساء: ].
وقال ابن قدامة رحمه الله في((ذم التأويل)) (ص 115): ((فقد ثبت وجوب اتباع السلف رحمة الله عليهم بالكتاب والسنة والإجماع، والعبرة دلت عليه؛ فإن السلف لا يخلوا من أن يكونوا مصيبين أو مخطئين:(9/52)
فإن كانوا مصيبين؛ وجب اتباعهم؛ لأن اتباع الصواب واجب، وركوب الخطأ في الاعتقاد حرام، ولأنهم إذا كانوا مصيبين؛ كانوا على الصراط المستقيم، ومخالفهم متبع لسبيل الشيطان الهادي إلى صراط الجحيم، وقد أمر الله تعالى باتباع سبيله وصراطه، ونهى عن اتباع ما سواه؛ فقال: { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } [الأنعام: 153].
وإن زعم زاعم أنهم مخطئون؛ كان قادحا في حق الإسلام كله:
لأنه إن جاز خطؤهم في غيره من الإسلام كله، وينبغي أن لا تنقل الأخبار التي نقلوها، ولا تثبت معجزات النبي صلى الله عليه وسلم التي رووها؛ فتبطل الرواية، وتزول الشريعة!! ولا يجوز لمسلم أن يقول هذا ولا يعتقده!!
ولأن السلف رحمة الله عليهم لا يخلوا: إما أم يكونوا علموا تأويل هذه الصفات أو لم يعلموه: فإن لم يعلموه؛ فكيف علمناه نحن؟! وإن علموه، فوسعهم أن يسكتوا عبه؛ وجب أن يسعنا ما وسعهم.
ولأن النبي صلى الله عليه وسلم من جملة سلفنا الذين سكتوا عن تفسير الآيات والأخبار التي في الصفات، وهو حجة الله على خلق الله أجمعين؛ يجب عليهم اتباعه، ويحرم عليهم خلافه، وقد شهد الله تعالى بأنه على الصراط المستقيم، وأنه يهدي إليه، وأن من اتبعه أحبه الله، وكن عصاه؛ فقد عصى الله: { وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُّبِينًا } [ الأحزاب: 36]، { وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ } [ النساء: 14])).
قال ابن الجوزي(107):
((فصل: فإن قال قائل: ما الذي دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتكلم بألفاظ موهمة للتشبيه؟ قلنا: إن الخلق غلب عليه الحس؛ فلا يكادون يعرفون غيره...)).
أقول: جواب هذا أن يقال:(9/53)
إن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يتكلم بألفاظ موهمة للتشبيه، وذكره صلى الله عليه وسلم لصفات ربه؛ كالرحمة، والغضب، والرضى، والسمع، والبصر... ونحو ذلك: ليس موهما للتشبيه عند من سلمت فطرته ولم تتغير وتتلوث بحثالة الجهمية والمعطلة.
وأهل البدع لما كانوا لا يفهمون من صفات الخالق إلا مثل ما يفهمونه من صفات المخلوقين؛ عطلوا الرب جل وعلا عن أسمائه وصفاته، وهذا من جهلهم بالكتاب والسنة؛ فهم مثلوا أولا، ثم عطلوا ثانيا.
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يذكر لأصحابه في المجامع الكبيرة صفات ربه جل وعلا، ولم يستنكروا شيئا من ذلك، فلو كانت موهمة للتشبيه؛ لبادروا إلى السؤال والاستفهام عن ذلك، ولكنهم لسلامة فطرتهم وعدم تلوثها بالعقائد الفاسدة؛ لم يستنكروا، ولم يستشكلوا شيئا من ذلك، بل أقروا بها، وآمنوا بها، وأثبتوا ما دلت عليه، واعلموا أن الله جل وعلا { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } ؛ لا في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله، { وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ } [ الشورى:11]؛ بخلاف آيات الأحكام؛ فإنهم يستشكلون كثيرا منها، ولذلك يبادرون إلى السؤال والاستفصال عما أشكل.
قال العلامة ابن القيم رحمه الله- كما في((مختصر الصواعق)) (ص 17)-: ((تنازع الناس في كثير من الأحكام، ولم يتنازعوا في آيات الصفات وأخبارها في موضع واحد، بل اتفق الصحابة والتابعون على إقرارها وإمرارها مع فهم معانيها وإثبات حقائقها، وهذا يدل على أنها أعظم النوعين بيانا، وأن العناية ببيانها أهم؛ لأنها من تمام تحقيق الشهادتين، وإثباتها من لوازم التوحيد، فبينها الله سبحانه وتعالى ورسوله بيانا شافيا،لا يقع فيه لبس يوقع الراسخين في العلم.
والحاصل الأحكام لا يكاد يفهم معانيها إلا الخاصة من الناس، وأما آيات الصفات؛ فيشترك في فهم معناها الخاص والعام؛ أعني: فهم أصل المعنى لا فهم الكنه والكيفية...)).(9/54)
والحاصل أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتكلم بألفاظ موهمة للتشبيه، إنما أهل الباطل لا يفهمون من ذكر آيات وأحاديث الصفات إلا ما يقتضي التشبيه؛ فالباطل نشأ من فهمهم، وإلا فلم يقل أحد من الصحابة ولا من التابعين لهم بإحسان ولا قال أحد من أئمة الهدى- كمالك وحماد بن زيد وحماد بن سلمة ويزيد بن هارون والأوزاعي وأحمد والبخاري وابن خزيمة والدارقطني- ولا غيرهم من أهل العلم والدين من أن النبي صلى الله عليه وسلم تكلم بألفاظ موهمة للتشبيه.
والكتاب والسنة وإجماع السلف تدل عليه السلام بطلان هذا القول؛ فنسأل الله أن يهدينا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين.
قال السقاف (108،تعليق رقم 24 على قول النبي صلى الله عليه وسلم للجارية: ((أين الله)) ):
ولم يثبت، من أنه في((صحيح الإمام مسلم)) رحمه الله تعالى،وذلك لأنه ورد في غير((صحيح مسلم)) بأسانيد صحيحة؛ أنه قال لها: ((أتشهدين أن لا إله إلا الله؟))؛ فبين أن الاختلاف من تصرف الرواة الذين رووا الحديث، فصار لفظ: ((أين الله؟)): محل احتمال، وما طرأ فيه الاحتمال؛ سقط به الاستدلال...)).
أقول: الجواب أن يقال:
إن قول النبي صلى الله عليه وسلم للجارية: ((أين الله؟)): أمر مجمع عليه بين الأمة، ولم ينكره أحد من أهل العلم والدين، وقد تلقى الحديث أهل العلم والدين بالقبول، وقابلوه بالتسليم، حتى إن الإمام الذهبي رحمه الله قتال في كتابه ((العلو)) (ص 16)):
((فمن الأحاديث المتواترة الواردة في العلو حديث معاوية بن الحكم السلمي... (فذكر الحديث))).
وطعن من طعن فيه من أهل الأهواء في هذا العصر؛ كالكوثري، والغماري، والسقاف؛ مما لا يقام له وزن؛لأنه مبني على إنكار علو الله على خلقه، وقد اتفق المسلمون على أن الله فوق سماواته، مستو على عرشه، والقرآن مملوء بإثبات علو الله على خلقه.(9/55)
قال تعالى: { وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ } [ الأنعام:18].
وقال تعالى عن فرعون: { يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَّعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ 36 أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا } [ غافر:36-37]، ولو لم يكن موسى يقول: إلهي في السماء؛ لما أمر فرعون ببناء الصرح للاطلاع على إله موسى، وكان فرعون يكذبه في ذلك (1).
وقال تعالى: { أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاءِ أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ 16 أَمْ أَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاءِ أَن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ } [ الملك: 16- 17].
وقال تعالى: { يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ } [ النحل:50].
وقال تعالى: { بَل رَّفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ } [النساء: 158].
وقال: { إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ } [فاطر: 10].
وقال: { يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ } [آل عمران:55].
وقال تعالى: { وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ } [ البقرة: 255[.
وقال: { وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ } [سبأ: 23].
وغي ذلك من الآيات الدالة على علو الله على خلقه.
وأما الأحاديث الدالة على علو الله على خلقه؛ فهي كثيرة، بلغت حد التواتر، وأجمع عليها المسلمون، شرق بها الجهمية والمعطلة وأشباههم من المنحرفين عن الكتاب والسنة المخالفين للفطر السليمة والعقول الصحيحة.
وفي((صحيح البخاري)) (8/ 67- فتح) و((مسلم)) (7/ 162- نووي) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء؟ يأتيني خبر السماء صباحا ومساء...)).
__________
(1) انظر للفائدة ما قاله الدارمي على الآية المتقدمة في ((الرد على الجهمية))(ص 37)،وابن قدامة في ((إثبات صفة العلو)) (ص 188).(9/56)
وفي ((صحيح مسلم)) (10/ 403- فتح، باب { وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ } { وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ } ) عن أنس بن مالك رضي الله عنه؛ قال: ((كانت زينب تفخر على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، تقول: زوجكن أهاليكن، وزوجني الله تعالى من فوق سبع سماوات)).
وقصة معراج النبي صلى الله عليه وسلم من أعظم الأدلة على إثبات علو الله على خلقه، والقصة مخرجة في ((الصحيحين)) وغيرهما من حديث أنس بن مالك عن مالك بن صعصعة.
وقد قال العلامة ابن القيم رحمه الله في((اجتماع الجيوش الإسلامية)) (ص 47) في قصة المعراج: ((وهي متواترة...)).
وهذه الأدلة الدالة على إثبات علو الله على خلقه هي غيض من فيض.
وقول النبي صلى الله عليه وسلم للجارية: ((أين الله؟)): من أدلة إثبات علو الله على خلقه، وتضعيف من ضعفه من أهل الأهواء؛ يقال لهم: ((بيننا وبينكم الإسناد))، وقد قال عبد الله بن المبارك رحمه الله: ((بيننا وبين القوم القوائم))؛ يعني: الإسناد، رواه الإمام مسلم في مقدمة((صحيحة)) (1/88- نووي).
وبدراسة الحديث تظهر صحته، علما أن الحديث في((صحيح مسلم))، وقد تلقاه أهل العلم بالقبول، وقابلوه بالتسليم؛ إلا أحاديث يسيرة انتقدها بعض أئمة الحديث الذين لهم قدم صدق فيه.(9/57)
قال الإمام مسلم رحمه الله في ((صحيحه)) (5/20) ((حدثنا أبو جعفر محمد بن الصباح وأبو بكر بن أبي شيبة وتقاربا في لفظ الحديث؛ قالا: حدثنا إسماعيل بن إبراهيم، عن حجاج الصواف، عن يحيى بن أبي كثير، عن هلال بن أبي ميمونة، عن عطاء بن يسار، عن معاوية بن الحكم السلمي؛ قال:...))الحديث وفيه قال: ((وكانت لي جارية ترعى غنما لي قبل أحد والجوانية، فاطلعت ذات يوم؛ فإذا الذيب قد ذهب بشاة من غنمها، وأنا رجل من بني آدم، آسف كما يأسفون، لكني صككتها صكة، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعظم ذلك علي. قلت: يا رسول الله ! أفلا أعتقها؟ قال:((ائتني بها)). فأتيته بها، فقال لها: ((أين الله؟)).قالت: في السماء.
قال: ((من أنا؟)). قالت: أنت رسول الله. قال: ((أعتقها؛ فإنها مؤمنة)).
ورواه: أحمد في ((مسنده)) (5/ 447)،وأبو داود في ((سننه)) (1/ 242، باب تشميت العاطس في الصلاة)، والنسائي (3/ 14-الكلام في الصلاة)، ومالك (1)
في ((الموطأ)) (4/ 84-شرح الزرقاني)، وابن الجارود في((المنتقى))(1/ 193)، وأبو عوانة (2/141)، وغير هم كثير؛من طريق يحيى بن أبي كثير، عن هلال بن أبي ميمونة، من عطاء بن يسار، عن معاوية بن الحكم به.
ومالك رحمه الله رواه عن هلال، عن عطاء، عن عمر بن الحكم.
وصوابه: معاوية بن الحكم.
والحديث سنده على شرط الشيخين، ورواته كلهم ثقات.
وقد تتبعت كلام العلماء والمحدثين على هذا الحديث؛ فلم أر بينهم خلافا في صحته، ولم أجد أحدا تعرض له بتضعيف؛ فدل ذلك على أن الحديث مقبول عند جميع العلماء، حتى الذين حرفوا معناه وتلاعبوا بدلالاته لم يطعنوا في سنده.
__________
(1) عند مالك في ((الموطأ)): ((عمر بن الحكم))؛ بدل: معاوية بن الحم! وقد قال ابن عبد البر – كما عند الزرقاني في ((شرحه للموطأ))-((هذا وهم عند جميع علماء الحديث...)).(9/58)
فخرق إجماع أهل العلم الذين هم أهله الكوثري والغماري والسقاف، فشككوا في صحة الحديث، وأعلنوا على أنفسهم بالجهل وتحريف الكلم عن مواضعه.
وحديث معاوية بن الحكم لا ينافي ما رواه: أحمد في((مسنده)) (3/451)، ومالك في ((موطئه)) (4/ 85- الزرقاني)؛ من طريق الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، عن رجل من الأنصار؛ أنه جاء بأمة سوداء، وقال: يا رسول الله! إن علي رقبة مؤمنة؛ فإن كنت ترى هذه مؤمنة أعتقها. فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أتشهدين أن لا إله إلا الله؟)).قالت: نعم. قال: ((أتشهدين أني رسول الله؟)). قالت: نعم.قال: ((أتؤمنين بالبعث بعد الموت؟)). قالت: نعم. قال: ((أعتقها)).
فهذا الحديث صحيح، وحديث معاوية بن الحكم أصح منه، ولا تنافي بين الحديثين؛ فضلا عن أن يكون حديث الأنصاري معلا لحديث معاوية بن الحكم؛ فكلاهما ثابتان من جهة النقل(1)، وإعلال حديث معاوية بن الحكم بحديث الأنصاري- خطأ محض؛ فإنه لا تنافي بين الحديثين حتى يعل أحدهما بالآخر؛ فتعدد القصة وارد.
ثم إن حديث معاوية بن الحكم أصح من حديث الأنصاري؛ فإعلال حديث الأنصاري- إن كان هناك علة- أولى من إعلال حديث معاوية بن الحكم!!
فإذا تبين صحة حديث معاوية؛ ففيه سؤال بـ ((أين الله))، والجهمية تنكر ذلك، وتخالف ما دل عليه الحديث الصحيح، وليس هناك جهل وإعراض فوق هذا!!
__________
(1) انظر: ((العلو)) للذهبي (ص 17- 18)، و ((شرح الزرقاني على موطأ مالك)) (4/ 86)، و((دفاع عن حديث الجارية)) (ص 24- 25) للشيخ سليم الهلالي.(9/59)
وقد قال الإمام أبو محمد عبد الغني بن عبد الواحد المقدسي رحمه الله بعد ذكره لحديث معاوية وقول النبي صلى الله عليه وسلم للجارية: ((أين الله))؛ قال: ((ومن أجهل جهلاً وأسخف عقلاً وأضل سبيلاً ممن يقول: إنه لا يجوز أن يقال: أين الله!! بعد تصريح صاحب الشريعة بقوله: ((أين الله؟))؟!))(1).
وقول السقاف: ((فصار لفظ ((أين الله)) محل احتمال، وما طرأ فيه الاحتمال؛ سقط به الاستدلال)): ليس بصحيح؛ لأن الاحتمال الوارد غير صحيح، وما كان كذلك؛ فطرحه متعين.
ثم إن القول بأن ما طرأ فيه الاحتمال سقط به الاستدلال: قول غير صحيح؛ فإن الاحتمال الضعيف لا يسقط الاستدلال بالحديث الصحيح، وإلا؛ لسقط الاستدلال بعشرات الأحاديث؛ لإيراد الاحتمالات البدعية التي يثيرها أهل البدع؛ فكل حديث لا يوافق عقائدهم الفاسدة يجلبون عليه بخيلهم ورجلهم.
وأما الاحتمال المبني على أدلة صحيحة؛ فأهل العلم والدين يجمعون بين النصوص قدر الإمكان إن كان ثم تعارض في الظاهر؛ لأن الجمع بين النصوص الصحيحة إن كانت في الظاهر متعارضة أمر متعين على القول الصحيح.
قال السقاف (ص 108، تعليق رقم 25):
((لقد أول الإمام البخاري رحمه الله تعالى الضحك بالرحمة فيما نقله عنه الحافظ البيهقي في كتابه العظيم ((الأسماء والصفات)) (ص 298- بتحقيق الإمام المحدث الكوثري)، ويصح تأويله أيضا بالرضى)).
أقول: وبطلان هذا الكلام يتبين بثلاثة أوجه:
الأول: أن ما نقله السقاف عن الإمام البخاري من تأويل الضحك بالرحمة خطأ، ولم يصح نقل ذلك عن الإمام البخاري رحمه الله.
وقول السقاف: ((نقله عنه البيهقي)): لا يكفي، والبيهقي ذكره عن البخاري مجردا، دون ذكر السند إليه ومجرد كون البيهقي ذكره في كتابه ((الأسماء والصفات)) لا يدل على ثبوته، ولا يجوز القطع والجزم بأن البخاري رحمه الله أول صفة من الصفات بمثل هذا النقل المجرد العاري عن السند.
__________
(1) انظر: ((الاقتصاد في الاعتقاد)) (ص 89).(9/60)
وقد قال ابن حجر في ((الفتح)) (8/ 632) عن هذا النقل: ((ولم أر ذلك في النسخ التي وقعت لبا من البخاري)).
ثم إن تأويل الضحك بالرحمة فاسد؛ لمخالفته للكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة.
وقد دلت الأمة على وصف الله تعالى بالضحك كسائر صفاته التي وصف بها نفسه ووصفه بها رسوله محمد صلى الله عليه وسلم:
ففي ((صحيح البخاري)) (6/ 39- الفتح) و((مسلم)) (رقم 1890) من طريق أبي الزناد، عن الأعراج، عن أبي هريرة رضي الله عنه؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((يضحك الله إلى رجلين يقتل أحدهما الآخر يدخلان الجنة: يقاتل هذا في سبيل الله فيقتل، ثم يتوب الله على القاتل فيستشهد)).
وفي ((صحيح البخاري)) (7/ 119- فتح) و ((مسلم)) (رقم 2045)- واللفظ للبخاري- عن أبي هريرة رضي الله عنه؛ أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فبعث إلى نسائه، فقلن: ما معنا إلا الماء. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من يضم (أو: يضيف) هذا؟)). فقال رجل من الأنصار: أنا. فانطلق به إلى امرأته، فقال: ((أكرمي ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم...)) الحديث، وفيه: فلما أصبح؛ غدا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ((ضحك الله الليلة (أو: عجب) من فعالكما...)).
وروى الإمام مسلم في ((صحيحه)) (رقم 187) من طريق حماد بن سلمة:حدثنا ثابت، عن أنس، عن ابن مسعود؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((آخر من يدخل الجنة رجل؛ فهو يمشي مرة، ويكبو مرة، وتسفعه النار مرة، فإذا ما جاوزها؛ التفت إليها، فقال: ألا تسألوني مم أضحك؟ فقالوا: مم تضحك؟ قال: هكذا ضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: مم تضحك يا رسول الله؟ قال: ((من ضحك رب العالمين حين قال: أتستهزئ مني وأنت رب العالمين؟ فبقول: إني لا أستهزئ منك،ولكني على ما أشاء قادر)).(9/61)
فهذه الأحاديث الصحيحة دالة على إثبات صفة الضحك لله تعالى،وكما أننا نثبت لله تعالى حياة ليست كحياة المخلوقين؛ نثبت لله تعالى ضحكا ليس كضحك المخلوقين؛ فالضحك في حق الله تعالى صفة كمال، لا نقص فيه بأي وجه من الوجره. قال أحمد بن نصر: ((سألت سيفان بن عيينة عن حديث للنبي صلى الله عليه وسلم: ((إن الله يضع السماوات على إصبع...))، وحديث: ((إن الله يعجب...))، و ((ضحك...))...؟ فقال سفيان: هي كما جاءت؛ نقر بها، ونحدث؛ بلا كيف))(1).
وقال الإمام الآجري في ((الشريعة)) (ص 277، باب الإيمان بأن الله عز وجل يضحك): ((قال محمد بن الحسين: اعلموا وفقنا الله وإياكم للرشاد من القول والعمل أن أهل الحق يصفون الله عز وجل بما وصف به نفسه عز وجل،وبما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، وبما وصفه به الصحابة رضي الله عنهم (2)، وهذا مذهب العلماء ممن اتبع ولم يبتدع،ولا يقال فيه: كيف؟! بل التسليم له، والإيمان به؛ أن اله عز وجل يضحك، كذا روي عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن صحابته رضي الله عنهم؛فلا ينكر هذا إلا من لايحمد حاله عند أهل الحق، وسنذكر منه ما حضرنا ذكره، والله الموفق للصواب،ولا قوة إلا بالله العلي العظيم)).
فذكر رحمه الله عدة أحاديث في الباب، ثم قال: ((هذه السنن كلها نؤمن بها، ولا نقول فيها:كيف؟! والذين نقلوا هذه السنن هم الذين نقلوا إلينا السنن في الطهارة وفي الزكاة والصيام والحج والجهاد وسائر الأحكام من الحلال والحرام، فقبلها العلماء منهم أحسن قبول، ولا يرد هذه السنن إلا من يذهب مذهب المعتزلة؛ فمن عارض فيها، أو ردها،أو قال:كيف؟ فاتهموه واحذروه)).
__________
(1) انظر: ((الحجة في بيان المحجة)) (1/437-438).
(2) إذا صح مخرجه عن الصحابي أو الصحابة؛ فله حكم الرفع؛ لأنه لا مجال للاجتهاد في هذا الباب العظيم.(9/62)
وقال الإمام الحافظ أبو القاسم الأصبهاني في ((الحجة في بيان المحجة)) (1/440): ((قال أبو معمر الهذاي: من زعم أن الله تعالى لا يتكلم ولا يبصر ولا يسمع ولا يعجب ولا يضحك ولا يغضب... (وذكر أحاديث الصفات)؛ فهو كافر بالله، ومن رأيتموه على بئر واقفا؛فألقوه فيها)).
ومن قال من أهل الأهواء: إن الضحك مجاز، أو المراد به الرضى، فقد غلط غلطا بينا، وخالف ما عليه أهل السنة والجماعة؛ فالأصل في الكلام الحقيقة دون المجاز.
ودعوى أن المراد بالضحك الرضى مخالف لمعتقد السلف!!
وتأويل أهل الأهواء الضحك بالرضى دليل على تناقضهم واضطرابهم في هذا الباب، وإعلانهم على أنفسهم بالجهل بكتاب الله وسنة رسول صلى الله عليه وسلم، ودليل على مخالفتهم لصريح المعقول؛ لأن أهل الأهواء إذا أولوا صفة الضحك بالرضى؛ فقد أثبتوا لله تعالى صفة الرضى، وهم ينفون عن الله هذه الصفة؛ فلا إله إلا الله، والله أكبر! ما أجهل أهل الأهواء وأشد تناقضهم واضطرابهم!
فخالفوا صحيح المنقول، وكابروا في صريح المعقول.
الوجه الثاني: أن وصف السقاف للكوثري بـ((الإمام المحدث))!! وصف غير مطابق لموصوف.
فالكوثري ليس إماما إلا في التهجم؛ فقد شحن كتبه بنشر مذهب الجهمية الذين كفرهم خمسمائة عالم وأكثر من ذلك من سائر البلدان، ونصب العداء وأظهر البغضاء لأهل التوحيد والعقيدة، وكفر علماء الأمة الذين ينشئون مذهبه، مع كثرة سبه وشتمه من لا يستحق التكفير عنده.(9/63)
ومن نظر في كتبه وتعليقاته- ورأى ألا ينظر فيها إلا لكشف ما فيها من البدع-؛ رأى العجب العجاب من تحريفه الكلم عن مواضعه، وشدة عداوته لعقيدة السلف، وإشادته بمذهب الخلف، ولا يتحاشى عن رمي ابن خزيمة وشيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه العلامة ابن القيم رحمهم الله بالتجسيم، وأما تلاعبه بالأحاديث؛ فحدث ولا حرج؛ فما يخالف من الأحاديث بدعه وفجور يطعن فيه، وإن كان الحديث في((الصحيحين))، وإن لم يضعفه؛ شك في دلالة الحديث على المراد، ونازع في معناه.
ومع هذا كله نرى المعلق على((الأجوبة الفاضلة)) و((الرفع والتكميل)) و((قواعد في علوم الحديث)) يعظمه، ويصفه بأوصاف كاذبة خاطئة لا يستحقها من هو خير منه، مع أن هذا المعلق يدعي محبة الشيخين ابن تيمية وابن القيم، فالله المستعان.
وقد قال هذا المعلق الذي فتن بمحبة الكوري الجهمي قبل تقدمته لـ((الأجوبة الفاضلة))؛ قال: ((الإهداء إلى روح أستاذ المحققين، الحجة، المحدث، الفقيه، الأصولي، المتكلم، النظار، المؤرخ، النقاد، الإمام محمد زاهد الكوثري، الذي كان يوصي بكتب الإمام اللكنوي ويحض عليها،رحمهما الله تعالى...)).
أقول: الإهداء فيه ما فيه من التشبيه بالغرب، ومخالفة هدي السلف، وبسطه في غير هذا الموضع، والكلام مع هذا المفتون في قوله: ((أستاذ المحققين، الحجة، النقادة...)).
وهذا تصويب لحال الكوثري، وإن رغم أنف هذا المفتون.
وأي تحقيق عند الكوثري؟! أهو نشر مذهب السلف؟أم نشر مذهب الخلف؟ إن كان الأول؛ فتكذبه كتب الكوثري وتعليقاتة الماكرة، وإن كان الثاني؛ أهذا هو التحقيق عند هذا المفتون؟ أم هذا الإجرام العظيم والتجهم الذميم؟!
وقوله ((الحجة)): هذا من أعظم الجهل؛ فليس الكوثري حجة، بل هو جهمي لا اعتداد به ولا كرامة له.
وقوله: ((النقادة)): هذا جهل آخر، وكتب الكوثري وتعليقاته لا تنقد إلا مذهب السلف، وتطعن في كتبهم،وتشكك في عقائد مؤلفيها، وهذا من أعظم الإلحاد والضلال.(9/64)
ووصف الكوثري بـ (النقادة)- مع أن هذه حاله- ضلال بعيد وانحراف عن مذهب السلف؛ فكلامهم في وجوب مجانبة أهل البدع والتحذير من كتبهم ومجالستهم أمر مشهور مذكور في كتب السنة.
وقال الإمام البغوي رحمه الله في كتابه ((شرح السنة)) (1/ 227): ((وقد مضت الصحابة والتابعون وأتباعهم وعلماء السنة على هذا مجمعين متفقين على معاداة أعل البدعة ومهاجرتهم)).
ولا يثني أحد على أهل البدع- وأي بدع؟! بدع جهمية!! – ويثني على كتبهم، ويرغب فيها؛ إلا وهو يحبهم، ومن أحب قوما؛ حشر معهم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((المرء مع من أحب))، رواه البخاري ومسلم وغيرهما عن أنس رضي الله عنه.
وعلماء السلف رحمهم الله بينوا أمر الجهمية، وكشفوا حالهم، وأظهروا كفرهم؛ حتى قال ابن المبارك رحمه الله: ((لأن أحكي كلام اليهود والنصارى أحب إلي من أن أحكي كلام الجهمية))(1).
قال الدارمي: ((وصدق ابن المبارك أن من كلامهم في تعطيل صفات الله تعالى ما هو أوحش من كلام اليهود والنصارى...)).
فكيف مع هذا يمدح من يدعي العلم واتباع السلف رأسا من رؤوسهم؟!
وقد قال الإمام البخاري رحمه الله في((خلق أفعال العباد)) (ص 11): ((وإني لأستجهل من لا يكفرهم؛ إلا من لا يعرف كفرهم)).
وقال الإمام الدارمي رحمه الله في((الرد على الجهمية)) (ص 173) بعدما ذكر حديث علي في قتل الزنادقة؛ قال: ((فرأينا هؤلاء الجهمية أفحش زندقة، وأظهر كفرا، وأقبح تأويلا لكتاب الله ورد صفاته فيما بلغنا عن هؤلاء الزنادقة الذين قتلهم علي عليه السلام وحرقهم)).
__________
(1) رواه الدارمي في((الرد على الجهمية)) (ص 21).(9/65)
الوجه الثالث: أن قول السقاف: ((ويصح تأويله(أي: الضحك) أيضا بالرضى)): قول غير صحيح، وهو من التحريف؛ فالله جل وعلا متصف بصفة الضحك؛ كما صحت النصوص في ذلك؛ فنثبت ذلك لله تعالى إثباتا بلا تمثيل وتنزيها بلا تعطيل؛ لأن الله جل وعلا { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ } [ الشورى:11].
والعجيب أن السقاف لا يثبت لله تعالى صفة الرضى، وهنا فسر الضحك بالرضى!! وهذا من أعظم التناقض والاضطراب في هذا الباب!!
وهذا التناقض الذي يصدر من أهل البدع هو الذي دعا بعض العقلاء للتوبة والإنابة والدخول في مذهب السلف-عموما- المبني على الكتاب والسنة؛ كما فعل أبو محمد الجويني والد أبي المعالي، وكتب نصيحة في صفات الله تعالى، وقال في هذه النصيحة (1):
((إنني كنت برهة من الدهر متحيراً في ثلاث مسائل: (مسألة الصفات)، و(مسألة الفوقية)، و(مسالة الحرف والصوت في القرآن المجيد)، وكنت متحيراً في الأقوال المختلفة الموجودة في كتب أهل العصر في جميع ذلك؛ من تأويل الصفات وتحريفها، أو إمرارها، أو الوقوف عليها، أو إثباتها بلا تأويل ولا تعطيل ولا تشبيه ولا تمثيل.
فأجد النصوص في كتاب الله وسنة رسوله ناطقة مبينة لحقائق هذه الصفات، وكذلك في إثبات العلو والفوقية، وكذلك في الحرف والصوت.
ثم أجد المتأخرين من المتكلمين في كتبهم؛ منهم من تأول الاستواء بالقهر والاستيلاء، وتأول النزول بنزول الأمر، وتأول اليدين بالنعمتين والقدرتين، وتأول القدم بقدم صدق عند ربهم... وأمثال ذلك.
ثم أجدهم مع ذلك يجعلون كلام الله معنى قائما بالذات بلا حرف ولا صوت، ويجعلون هذه الحروف عبارة عن ذلك المعنى القائم.
__________
(1) طبعت هذه النصيحة بعنوان: ((النصيحة في صفات الرب جل جلاله))، طبع المكتب الإسلامي، وقد نسبوها لابن شيخ الحزامين، وهذا خلاف ما هو معروف.(9/66)
ومما ذهب إلى هذه الأقوال أو بعضها قوم لهم في صدري منزلة؛ مثل بعض فقهاء الأشعرية الشافعين؛ لأني على مذهب الشافعي رحمه الله تعالى، عرفت منهم فرائض ديني وأحكامه؛ فأجد مثل هؤلاء الشيوخ الأجلة يذهبون إلى مثل هذه الأقوال، وهم شيوخي، ولي فيهم الاعتقاد التام بفضلهم وعلمهم.
ثم إنني مع ذلك أجد في قلبي من هذه التأويلات حزازات لا يطمئن قلبي إليها، وأجدر الكدر والظلمة منها، وأجد ضيق الصدر وعد انشراحه مقرونا بها.
فكنت كالمتحير المضطرب في تحيره، المتململ من قلبه في تقلبه وتغيره، وكنت أخاف من إطلاق القول بإثبات العلو والاستواء والنزول؛ مخافة الحصر والتشبيه.
ومع ذلك؛ فإذا طالعت النصوص الواردة في كتاب الله وسنة رسوله؛ أجدها نصوصا تشير إلى حقائق هذه المعاني، وأجد الرسول صلى الله عليه وسلم قد صرح بها مخبرا عن ربه واصفا له بها، وأعلم بالأضرار أنه كان يحضر في مجلسه الشريف العالم والجاهل والذكي والبليد والأعرابي الجافي، ثم لا أجد شيئا يعقب تلك النصوص التي كان صلى الله عليه وسلم يصف بها ربه- لا نصا ولا ظاهرا- مما يصرفها عن حقائقها ويؤولها كما تأولها هؤلاء- مشايخي الفقهاء المتكلمون-؛ مثل تأويلهم الاستواء بالاستيلاء، والنزول بنزول الأمر...
وغير ذلك من، ولم أجد عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يحذر الناس من الأيمان بما يظهر من كلامه في صفة لربه من الفوقية واليدين وغيرهما؛ مثل أن ينقل عنه مقاله تدل على أن لهذه الصفات معاني أخر باطنة غير ما يظهر من مدلولها؛ مثل فوقية المرتبة، ويد النعمة، وغير ذلك...)).
وذكر كلاما، ثم قال: ((فلم أزل في هذه الحيرة والاضطراب من اختلاف المذاهب والأقوال، حتى لطف الله بي، وكشف لهذا الضعيف عن وجه الحق كشفا اطمأن إليه خاطره، وسكن به سره، وتبرهن الحق في نوره، وأنا أصف بعض ذلك إن شاء الله تعالى)).
فذكر رحمه الله اعتقاده في مسألة العلو ومسألة الفوقية ومسألة الاستواء.(9/67)
ثم ختم رحمه الله كلامه بقوله: ((فرحم الله عبدا وصلت إليه هذه الرسالة ولم يعالجها بالإنكار، وافتقر إلى ربه في كشف الحق آناء الليل وأطراف النهار، وتأمل النصوص في الصفات، وفكر بعقله في نزولها، وفي المعنى الذي نزلت له، وما الذي أريد بعلمها من المخلوقات، ومن فتح الله قلبه؛ عرف أنه ليس المراد إلا معرفة الرب بها، والتوجه إليه منها، وإثباتها له بحقائقها وأعيانها؛ كما يليق بجلاله وعظمته؛ بلا تأويل ولا تعطيل، ولا تكييف ولا تمثيل، ولا جحود ولا وقوف، وفي ذلك بلاغ لمن اعتبر، وكفاية لمن استبصر)).
قال ابن الجوزي (ص 108):
((ثم لم يذكر الرسول الأحاديث جملة (أي: أحاديث الصفات)، وإنما كان يذكر الكلمة في الأحيان؛ فقد غلط من ألفها أبوابا على ترتيب صورة غلطا قبيحا)).
وعلق السقاف على هذا الكلام (رقم 26) قائلا:
((كابن خزيمة في كتابه ((التوحيد))، الذي سماه الإمام الفجر الرازي في ((تفسيره)): كتاب الشرك، وقد ندم ابن خزيمه على تصنيفه ورجع عنه؛ كما جاء عند بإسنادين في كتاب ((الأسماء والصفات)) للحافظ البيهقي، ومثل كتاب ((التوحيد)) لابن خزيمة كتاب ((السنة)) المنسوب لابن أحمد، وكذلك ((سنة)) الخلال، وأمثال هذه الكتب التي تحمل في طواياها تجسيما صريحا وروايات تالفة)).
أقول:
أما قول ابن الجوزي: ((فقد غلط من ألفها أبوابا على ترتيب صورة غلطا قبيحا))؛فإنه قول غير صحيح، بل هو خطأ محض؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد أذن بالكتابة عنه، فلما أذن؛ دخل كتابة أحاديث الصفات ضمن الإذن دخولا أوليا، وجمعها في كتاب واحد مما يسهل الوقوف على صفات الرب جل وعلا ومعرفة ما اتصف به.
فلبس في جمعها في موضع واحد محذور شرعي ولا عقلي، ولم يمنع من ذلك أحد من علماء السلف الذين يفون الله تعالى بما وصف به نفسه وبما وصفه به رسوله محمد صلى الله عليه وسلم.(9/68)
والذين ألفوا كتبا في جمع أحاديث الصفات لم يؤلفوها إلا بعدما رفع أهل البدع رؤوسهم، وبثوا ضلالهم، وأنكروا صفات الرب جل وعلا؛ فرأى كثير من أهل السنة جمعها في كتب مستقلة؛ ليردوا بها على أهل الأهواء الذين شرقوا بها، ولم يؤمنوا بها، أو آمنوا ببعض وكفروا ببعض، وقد أحسنوا في جمعها كل الإحسان؛ فلا عبرة بأهل الأهواء الذين ينكرون ذلك.
والعجيب أن أهل الأهواء يجمعون ويرون جمع الأحاديث المتعلقة بالطهارة في موضع واحد وفي كتاب مستقل، والأحاديث المتعلقة بالصلاة في موضع واحد...وهكذا في باقي الأبواب المتعلقة بالأحكام الفقهية، وهذا في نفسه أمر محمود، ولكنهم ينكرون جمع أحاديث الصفات في كتب مستقلة، مع أن العناية – كما دل ذلك الكتاب والسنة – بتوحيد الأسماء والصفات آكد وأهم من العناية بالأحكام؛ فمن أنكر جمع أحاديث الصفات في موضع واحد أو كتاب منفرد؛ فلينكر على جميع علماء الأمة الذين صنفوا المصنفات وجمعوا أحاديث الطهارة في أبواب مستقلة.
وأما قول السقاف: ((إن الفخر الرازي سمى كتاب ابن خزيمة كتاب الشرك))؛ فجوابه من وجهين:
(27/ 151) على قوله تعالى: { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ } . [الشورى:11]، واعتمد كلامه هذا الجهمي الملحد حسن السقاف.
الوجه الثاني: لا بد من النظر في هذا الإطلاق العظيم على كتاب ابن خزيمة؛ لأنه لا يجوز الحكم على كتاب ابن خزيمة ولا على غيره من الكتب إلا بعد قراءته والنظر فيه.
أما الوجه الأول؛ فالرازي- واسمه محمد بن عمر- ليس رجلا نكرة لا يعرف، بل كتبه معروفة مشهورة، ومن قراءتها يتبين حاله، وهو رأس من رؤوس المتكلمين، وجهبذ من جهابذتهم:
له تفسير مشهور، اسمه ((مفاتيح الغيب))، شحنه بآراء المتكلمين ونصرة مذهب الأشاعرة الضالين.
وله كتاب اسمه ((المحصول))؛ قال فيه بعض العلماء:
محصل في أصول الدين حاصله ... من بعد تحصيله جهل بلا دين(9/69)
أصل الضلالات والشرك المبين وما ... فيه فأكثره وحي الشياطين
ن
وله كتاب اسمه ((السر المكتوم في السحر ومخاطبة النجوم))، ذكر غير واحد من أهل العلم والتحقيق أنه كفر صريح:
قال ابن تيمية رحمه الله في ((نقض المنطق)) (ص 47): ((صنف الرازي كتابه في عبادة الكواكب والأصنام، وأقام الأدلة على حسن ذلك ومنفعته، ورغب فيه، وهذه ردة عن الإسلام باتفاق المسلمين، وإن كان قد يكون تاب منه وعاد إلى الإسلام)).
وقال الذهبي في ((ميزان الاعتدال)) (3/340): في كتاب الرازي ((السر المكتوم...)) سحر صريح، فلعله تاب من تأليفه إن شاء الله تعالى)).(9/70)
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في ((نقض المنطق)) (ص 52- 53): ((... إن الذين لبسوا الكلام بالفلسفة من أكابر المتكلمين تجدهم يعدون من الأسرار المصونة والعلوم المخزونة ما إذا تدبره من له أدنى عقل ودين؛ وجد فيه من الجهل والضلال ما لم يكن يظن أنه يقع فيه هؤلاء، حتى قد يكذب بصدور ذلك عنهم؛ مثل: ((تفسير المعراج)) الذي ألفه أبو عبد الله الرازي، الذي احتذى فيه حذو ابن سينا وعين القضاة الهمداني؛ فإنه روى حديث المعراج بسياق طويل وأسماء عجيبة وترتيب لا يوجد في شيء من كتب المسلمين؛ لا في الأحاديث الصحيحة، ولا الحسنة، ولا الضعيفة المروية عند أهل العلم، وإنما وضعه بعض السؤال والطريقة، أو بعض شياطين الوعاظ، أو بعض الزنادقة، ثم إنه مع الجهل بحديث المعراج الموجود في كتب الحديث والتفسير والسيرة، وعدوله عما يوجد في هذه الكتب إلى ما لم يسمع من عالم ولا يوجد في أثاره من علم؛ فسره بتفسير الصابئة الضالة المنجمين، وجعل معراج الرسول ترقيه بفكره إلى الأفلاك، وأن الأنبياء الذين رآهم هم الكواكب؛ فآدم هو القمر، وإدريس هو الشمس، والأنهار الأربعة هي العناصر الأربعة، وأنه عرف الوجود الواجب المطلق، ثم إنه يعظم ذلك، ويجعله من الأسرار والمعارف التي يجب صونها عن أفهام المؤمنين وعلمائهم، حتى أن طائفة ممن كانوا يعظمونه، لما رأوا ذلك؛ تعجبوا منه غاية التعجب، وجعل بعض المتعصبين له يدفع ذلك، حتى أروه النسخة بخط بعض المشايخ المعروفين الخبيرين بحاله، وقد كتبها في ضمن كتابه الذي سماه ((المطالب العالية))، وجمع فيه عامة آراء الفلاسفة والمتكلمين..)).
وأقوال العلماء في بيان حال الرازي كثيرة.
فإذا كانت هذه حاله في الضلال؛ فمن الجهل الاستدلال بقوله الشنيع على كتاب الإمام ابن خزيمة رحمه الله الذي تلقاه العلماء بالقبول.(9/71)
وأما الوجه الثاني؛ فكتاب ابن خزيمة رحمه الله كتاب عظيم، وهو من خيرة الكتب المصنفة في التوحيد، وقد ألفه ابن خزيمة رحمه الله لما كثرت البدع، وانتشر أصحابها، وانطمس الحق في كثير من البلدان، وراج الباطل على ضعاف الإيمان، واستحكمت غربة الزمان بين الأنام.
قال رحمه الله في بيان سبب تأليفه: ((أما بعد؛ فقد أتى علينا برهة من الدهر، وأنا كاره الاشتغال بتصنيف ما يشوبه شيء من جنس الكلام من الكتب، وكان أكثر شغلنا بتصنيف كتب الفقه، التي هي خلو من الكلام في الأقدار الماضية التي قد كفر بها كثير من منتحلي الإسلام، وفي صفات الله عز وجل التي نفاها ولم يؤمن بها المعطلون، وغير ذلك من الكتب التي ليست كتب الفقه.
وكنت أحسب أن ما يجري بيني وبين المناظرين من أهل الأهواء في جنس الكلام في مجالسنا، ويظهر لأصحابي الذين يحضرون المجالس والمناظرة، من إظهار حقنا مخالفينا: كاف عن تصنيف الكتب على صحة مذهبنا وبطلان مذاهب القوم، وغنية عن الإكثار في ذلك.(9/72)
فلما حدث في أمرنا مما كان الله قد قضاه وقدر كونه مما لا محيص لأحد ولا موئل عما قضى الله مونه في اللوح المحفوظ قد سطره من حتم قضائه؛ فمنعنا عن الظهور ونشر العلم والتعليم مقتبس العلم ما كان الله قد أودعنا من هذه الصناعة؛ كنت أسمع من بعض أحداث طلاب العلم والحديث ممن لعله كان يحضر بعض مجالس أهل الزيغ والضلالة من المعطلة والقدرية المعتزلة ما تخوفت أن يميل بعضهم عن الحق والصواب من القول إلى البهت والضلال في هذين الجنسين من العلم؛ فاحتسبت في تصنيف كتاب يجمع هذين الجنسين من العلم؛ بإثبات القول بالقضاء السابق والمقادير النافذة قبل حدوث كسب العباد، والإيمان بجميع صفات الرحمن الخالق جل وعلا مما وصف الله به نفسه في محكم تنزيله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، وبما صح وثبت عن نبينا صلى الله عليه وسلم بالأسانيد الثابتة الصحيحة بنقل أهل العدالة موصولا إليه صلى الله عليه وسلم؛ ليعلم الناظر في كتابنا هذا ممن وفقه الله لإدراك الحق والصواب، ومن عليه بالتوفيق لما يحب ويرضى: صحة مذهب أهل الآثار في هذين الجنسين من العلم، وبطلان مذاهب أهل الأهواء والبدع الذين هم في ريبهم وضلالتهم يعمهون، وبالله ثقتي، وإياه أسترشد، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم)).
وقد ذكر رحمه الله في كتابه ما يشفي العليل ويروي الغليل من سياق الآيات وذكر الأحاديث الدالة على صفات الله تعالى؛ من: السمع، والبصر، واليدين، والقدم، والنفس، والعلم، والكلام... وغير ذلك مما ذكره وبرهن عليه، وقد فند في كتابه شبه المشبهين وتعطيل المعطلين.
فهل هذا شرك كما ادعاه أهل التعطيل وبعض أهل الحيرة، الذين لم يعرفوا ربهم وخالقهم، الذين جعلوا التوحيد شركا والشرك توحيداً؛ كما نطقت بذلك ألسنتهم، وشهدت به عليهم كتبهم؟!(9/73)
قال ابن القيم رحمه الله- كما في ((مختصر الصواعق)) (ص 108)-: ((ومن العجب أنهم سموا توحيد الرسل شركا وتجسيما وتشبيها مع أنه غاية الكمال، وسموا تعطيلهم وإلحادهم وبغيهم توحيدا وهو غاية النقص، ونسبوا أتباع الرسل إلى تنقيص الرب وقد سلبوا كل كمال، وزعموا أنهم أثبتوا له الكمال وقد نزهوه عنه؛ فهذا توحيد الجهمية والمعطلة...)).
ومن تحاكم إلى الوحي المبين، ونبذ هذيان أهل الكذب والمين؛ تبين له أن كتاب ابن خزيمة في التوحيد مشتمل على برد اليقين وشفاء الصدور من غيها، وأن كتب أهل التعطيل- كالرازي وأمثاله- مشتملة على التشبيه والتعطيل، وأن أهل التعطيل يسمون التوحيد الذي جاءت به الرسل ونزلت به الكتب شركا، ويسمون التعطيل الموروث عن الجهم بن صفوان والجعد بن درهم توحيدا؛ فالله المستعان.
وأما قول السقاف: ((وقد ندم ابن خزيمة على تصنيفه، ورجع عنه؛ كما جاء عنه بإسنادين في كتاب((الأسماء والصفات)))): فهذا من الكذب والبهتان، والكذب مجانب الإيمان، وما أرخص الكذب والبهتان على أهل الأهواء من ذوي الأضغاث!!
فابن خزيمة رحمه اله لم ينقل عنه بأنه رجع أو ندم على تصنيف كتابه كتاب((التوحيد))، ولم يذكر البيهقي في((الأسماء والصفات)) شيئا من ذلك، ولم يشر إلى ذلك لا من قريب ولا من بعيد، إنما ذكر ما جرى بين ابن خزيمة وبين بعض أهل عصره من مسألة الكلام، ولم يتعرض لكتاب((التوحيد)) الذي صنفه ابن خزيمة!!
والكوثري مع ضلاله وتجهمه ومخالفته لكثير من المنقول والمعقول لم يذكر ما ذكره السقاف من أن ابن خزيمة ندم أو رجع عن كتابه، بل قال الجهمي الكوثري: ((قد ألف كتاب((التوحيد)) فأساء إلى نفسه))؛ فهو يثبت تأليفه، ولم يذكر رجوعه أو ندمه، وأما قوله: ((فأساء إلى نفسه))؛ فهذا على رأيه ورأي أهل البدع، الذين لا يثبتون لله تعالى ما أثبته لنفسه أو أثبته له رسوله محمد صلى الله عليه وسلم.(9/74)
والحاصل أن ابن خزيمة رحمه الله لم يزل في حياته منافحا عن عقيدة السلف، مفندا لمذهب الخلف، إلى أن لقي الله تعالى.
ومذهبه الذي مات عليه- ولا تزال أقواله تنقل عنه في التراجم -: ((أنه ليس لأحد مع رسول الله: ((صلى الله عليه وسلم قول إذا صح الخبر))(1).
وقال رحمه الله: ((من لم يقر بأن الله على عرشه قد استوى فوق سماواته؛ فهو كافر، حلال الدم، وكان ماله فيئا)).
وقال: ((القرآن كلام الله، ومن قال: إنه مخلوق؛ فهو كافر يستتاب، فإن تاب، وإلا؛ قتل، ولا يدفن في مقابر المسلمين)).
فهذا بعض اعتقاد الإمام ابن خزيمة رحمه الله؛ فهل عاقل يرجع عن هذه الأقوال التي دل الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة على صحتها؟! أم هو كذب أهل البدع والأهواء واختلافهم ما يستحي العاقل من ذكره؟!
فنسأل الله تعالى أن لا يزيغ قلوبنا بهد إذ هدانا، وأن يهب لنا من لدنه رحمة.
وقول السقاف: ((ومثل كتاب((التوحيد)) لابن خزيمة كتاب السنة)) المنسوب لابن أحمد، وكذلك((سنة)) الخلال)): قول عظيم، وإفك خطير!! { كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا } [الكهف: 5].
فجعل كتب السلف كتب شرك من أعظم الباطل وأشنعه، ولا يصدر ذلك ممن يعلم ما يقول، ويعلم أنه سوف يقف بين يدي الله تعالى.
وأي جرم أعظم من الجرأة على كتب السلف ووصفها بأنها كتب شرك؟!
وقول السلف: ((وأمثال هذه الكتب التي تحمل في طواياها تجسيما صريحا...)): قد تقدم ما يبطله، , أن أهل البدع يصفرن أهل السنة بأوصاف هم أحق بها وأهلها.
وليس- ولله الحمد-في وصف الله تعالى بما وصف به نفسه وبها وصفه به رسول صلى الله عليه وسلم مما صحت به الأخبار تشبيه ولا تجسيم، إنما التشبيه نفي صفات الله تعالى، ووصف الله بالعدم.
__________
(1) انظر: ((تذكرة الحفاظ)) (2/ 728).(9/75)
فإذا كنتم أيها الجهمية لا تثبتون لله تعالى لا رحمة ولا رضى ولا غضبا ولا محبة ولا علوا ولا استواء على العرش ولا يدين ولا قدما ولا صورة ولا ساقا ولا أصابع ولا ضحكا ولا مجيئا ولا نزولا ولا كلاما ولا سمعا ولا بصرا؛ فقد جعلتم معبودكم عدما، وشبهتموه بالناقصات والمعدومات!!
وأي كفر أعظم من هذا الكفر؟!
وأي تشبيه للخالق بالمعدومات أعظم من هذا التشبيه؟!
فما هرب منه المعطلون؛ وقعوا فيه من حيث لا يشعرون.
ومن عرف مذهب الجهمية، ووقف على حقيقة حالهم، كان له معرفة بأدلة الكتاب والسنة على فهم السلف من الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان؛ علم حقيقة كفرهم، وعرف مصداق ما قاله أئمة الهدى فيهم:
كقول ابن المبارك: ((كل قوم يعرفون ما يعبدون؛ إلا الجهمية)) (1).
وقول الإمام أبي عبد الله البخاري رحمه الله: ((ما أبالي صليت خلف الجهمي والرافضي أم صليت خلف اليود والنصارى...))(2).
وأما ما قاله المعلقان على((شرح السنة)) للبغوي (1/ 228) على قول الإمام البخاري رحمه الله المتقدم من أنه((من الغلو الإفراط الذي لا يوافقه عليه جمهور العلماء سلفا وخلفا، وكيف يذهب هذا المذهب، مع أنه قد خرج في ((صحيحه)) أحاديث كثيرة رويت عن الجهمية والخوارج وغيرهما من الفرق؛ فإذا كان يحكم بكفرهم؛ فكيف يروي عنهم؟!)).
فجوابه من وجوه:
الوجه الأول: ليس في قول البخاري غلو ولا إفراط، ولكن الجهل بمذهب الجهمية وحقيقة قولهم يجعل البعض يتكلم ويهذي بما لا يدري، ومن نظر في أقوال الجهمية، وله معرفة بالكتاب والسنة؛ قال فيهم أكثر مما قاله الإمام البخاري.
__________
(1) خلق أفعال العباد)) (ص16).
(2) خلق أفعال العباد)) (ص13).(9/76)
الوجه الثاني: أن قول المعلقين: ((لا يوافقه عليه جمهور العلماء...)): قول لا زمام ولا خطام، ولم يذكرا من هم جمهور العلماء الذين لا يوافقون البخاري؟! أهم من أهل السنة؟ أم من أهل البدع؟ فإن كان الأول؛ فهذا خطأ وجهل؛ فجمهور لعلماء يوافقون البخاري، يعرف ذلك من نظر في كتب السنة لأئمة السلف (1)، وإن كان الثاني؛ فلا عبرة بعلماء البدع والضلال.
الوجه الثالث: أن قولهما: ((وكيف يذهب هذا المذهب مع أنه قد خرج في ((صحيحه)) أحاديث كثيرة رويت عن الجهمية والخوارج؟!)): فهذا أيضا قول لا دليل عليه سوى القول بلا علم؛ فالإمام البخاري رحمه الله لم يخرج لرافضي ولا الجهمي (2)
__________
(1) قال الآجري في((الشريعة)) (ص 75): ((والجهمية عند العلماء كافرة...)).
وانظر: ((المختار في أصول السنة)) (ص 51).
(2) هذا وقد رمي إسماعيل بن علية- وهو من رجال السته- بالتهجم؛ بدعوى أنه يقول: القرآن مخلوق! وهذا إن صح عنه؛ فقد جاء ما يعارضه ويدل على توبته؛ فإنه كان يقول: القرآن كلام الله غير مخلوق.
وقيل: غلط عليه بعضهم، ونسب إليه القول بخلق القرآن؛ بسبب أنه حدث بحديث: ((تجيء البقرة وآل عمران يوم القيامة كأنهما غمامتان تحاجان عن صاحبهما)). فقيل لابن علية: ألهما لسان؟ قال: نعم؛ فكيف تكلما؟!
وقد قال الفضل بن زياد: ((سألت أبا عبد الله أحمد بن حنبل عن وهيب وابن علية؟ قال: وهيب أحب إلي، ما زال ابن علية وضيعا من الكلام الذي تكلم به إلى أن مات. قلت: أليس قد رجع وتاب على رؤوس الناس؟ قال: بلى، ولقد بلغني أنه أدخل على محمد الأمين ابن هارون، فلما رآه؛ زحف إليه، وجعل يقول: يا ابن كذا وكذا! تتكلم في القرآن؟ وجعل إسماعيل يقول: جعلني فداك، زلة من عالم)).
وقال الذهبي رحمه الله في((الميزان)) (1/ 219): ((ابن علية قد تاب ولزم السكوت)).
وانظر: ((سير أعلام النبلاء)) (9/ 110-112)، و((تهذيب التهذيب)) (1/ 243).
وخلاصة القول في ابن علية: إما أنه قال: القرآن مخلوق! وتاب من ذلك، وإما أنه قد غلط عليه بعضهم.
وما قيل أيضا عن بشر بن السري من أنه جهمي؛ فجوابه ما قاله الذهبي في((الميزان)) (1/ 318): ((أما التهجم؛ فقد رجع عنه)).
وينبغي أن يعلم أنه ليس كل راو قيل فيه: جهمي، أو: رافضي؛ صار حقاً وصدقاً؛ فلا يقابل قول القائل بالتسليم؛ فلا بد من بينة وبرهان وأدلة كالشمس على ما ادعاه من أنه جهمي أو رافضي، والله أعلم.(9/77)
، فضلا عن أن تكون أحاديث كثيرة مروية في ((الصحيح)) لهما؛ كما ادعاه هذان المعلقان المتسرعان، أما الخارجي؛ فليس بمنزلة الجهمي ولا الرافضي؛ فإن الجهمية والروافض شر من الخوارج؛ كما هو معلوم عند أهل التحقيق، والخوارج أصدق بكثير من الجهمية والروافض، وأكذب الطوائف على الإطلاق هم الروافض؛ كما هو معلوم لمن قرأ عن القوم (1).
وقد قال الإمام الشافعي رحمه الله: ((ما رأيت في أهل الأهواء قوما أشهد بالزور من الرافضة)).
وعبارات السلف كثيرة جدا في ذم الرافضة وعدم الرواية عنهم؛ لكثرة كذبهم، ولتميزهم عن غيرهم بالكذب وشهادة الزور.
والحاصل أن تكفير الجهمية والرافضة ليس فيه غلو ولا إفراط؛ فمخالفتهم للمنقول والمعقول أمر مشهور، لا يجهله صغار طلبة العلم، فضلا عن كبارهم؛ فالله المستعان.
* * *
قال ابن الجوزي (ص110، على قوله تعالى: { وَجَاءَ رَبُّكَ } [الفجر:22]):
((أي: جاء أمره)). وقال: ((لا بد من تأويله)). وقال: ((قاله أحمد بن حنبل، وإنما صرفه إلى ذلك أدلة العقل؛ فإنه لا يجوز عليه الانتقال)).
أقول:
ابن الجوزي في كثير من المواضع من ((تفسيره)) يتأول مجيء الرب بمجيء أمره؛ كما تأول ذلك هنا؛ قال على قوله تعالى: { أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ } [ الأنعام:158]؛ قال: ((قال الحسن: أو يأتي أمر ربك. وقال الزجاج: أو يأتي إهلاكه وانتقامه: إما بعذاب عاجل، أو بالقيامة))!!
هكذا نقل ابن الجوزي هذين القولين، ولم يتعقبهما بشيء، مع أنهما مخالفان لمذهب السلف.
وما نقله ابن الجوزي عن الحسن لا يصح عنه؛ فإنه نقل مكذوب.
وقال ابن الجوزي على قوله تعالى: { إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللّهُ } [البقرة: 210]؛ قال:
__________
(1) انظر: ((منهاج السنة)) لشيخ الإسلام(1/ 59- 63).(9/78)
((كان جماعة من السلف يمسكون عن الكلام في مثل هذا، وقد ذكر القاضي أبو يعلي عن أحمد؛ أنه قال: المراد به قدرته وأمره)). قال: ((وقد بينه في قوله تعالى: { أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ } [ النحل:33])).
أقول:
قد تقدم الجواب عما نقل عن أحمد من التأويل، وأنه إما غلط أو شاذ مخالف لما ثبت عنه بالنقول الصحيحة من إثبات المجيء لله تعالى.
ثم إن تأويل مجيء الرب بمجيء أمره: لا يصح، وصرف للآيات بغير دليل ولا برهان، وهذا من أعظم التحريف والإلحاد؛ فلو كان المراد بالمجيء مجيء أمر الرب؛ ليبينه الله تعالى؛ كما في قوله تعالى: { أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ } [النحل: 33]، ولكن لما قال: { وَجَاءَ رَبُّكَ } [ الفجر:22]؛ دل على إثبات المجيء لله تعالى، ومجيئه يوم القيامة لفصل القضاء.
وقد دلت السنة على إثبات المجيء لله تعالى كما دل على ذلك الكتاب:
ففي((صحيح البخاري)) (13/ 419-فتح) و((مسلم)) (رقم182) عن أبي هريرة رضي الله عنه؛ أن الناس قالوا: يا رسول الله! هل نرى ربنا يوم القيامة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((هل تضارون في القمر ليلة البدر؟)).
قالوا لا يا رسول الله! قال: ((فهل تضارون في الشمس ليس دونها سحاب؟)). قالوا: لا يا رسول الله! قال: ((فإنكم ترونه كذلك: يجمع الله الناس يوم القيامة، فيقول: من كان يعبد شيئا فليتبعه. فيتبع من كان يعبد الشمس الشمس، ويتبع من كان يعبد القمر القمر، ويتبع من كان يعبد الطواغيت الطواغيت، وتبقى هذه الأمة فيها منافقوها، فيأتيهم الله، فيقول: أنا ربكم. فيقولون: هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا؛ فإذا جاء ربنا؛ عرفناه. فيأتيهم الله في صورته التي يعرفون، فيقول: أنا ربكم. فيقولون أنت ربنا. فيتبعونه...)).
وتأويل المجيء بمجيء الأمر تأويل محدث مبتدع، لم يقله النبي، ولا أحد من الصحابة رضي الله عنهم.(9/79)
وقول ابن الجوزي: ((قال أحمد بن حنبل: وإنما صرفه إلى ذلك أدلة العقل؛ فإنه لا يجوز عليه الانتقال)): يقال عنه: إن هذا النقل مكذوب على أحمد رحمه الله.
ثم إن أدلة الانتقال؛ لا تصرف النصوص وتخرجها عن معانيها المراد بها.
وأما لفظ الانتقال؛ فلم يرد ذكره لا في السنة؛ فلا يجوز نفي مجيء الرب جل وعلا ولا إتيانه بمثل هذا التعليل؛ فإن نفي الصفات التي وصف الله بها نفسه أو وصفه بها رسوله محمد صلى الله عليه وسلم بألفاظ لم يرد ذكرها لا في الكتاب ولا في السنة كالانتقال ونحوه خروج عن مذهب السلف الذين يراعون لفظ القرآن والحديث في الإثبات والنفي.
* * *
قال ابن الجوزي (ص 110):
((فإذا سأل العامي عن قوله تعالى: { ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } [ الأعراف:154، وغيرها]؟ قيل له: الاستواء معلوم، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة...)).
وقال(ص112 على آية الاستواء):
((وجميع السلف على إمرار هذه الآية كما جاءت؛من غير تفسير ولا تأويل...)):
وقال (ص127):
(( وقد حمل قوم من المتأخرين هذه الصفة على مقتض الحس، فقالوا: ((استوى على العرش بذاته))، وهي زيادة ل تنقل، إنما فهموها من إحساسهم، وهو أن المستوي على الشيء إنما تستوي عليه ذاته)).
أقول:
ابن الجوزي في مواضع كثيرة من كتبه يرجح مذهب المفوضة،خصوصا في الاستواء، ويظن أن هذا المذهب هو مذهب السلف، وهذا خطأ على السلف وجهل بمذهبهم.
وميل ابن الجوزي إلى التفويض في بعض الحالات وإلى التأويل في الحالات الأخرى دليل على اضطرابه في العقيدة، وأنه لم يثبت على قاعدة في توحيد الأسماء والصفات.
والعجيب أن من يسلك مسلك التفويض يستدل لمذهبه بمقالة مالك وغيره من علماء السلف: ((الكيف غير معقول، والاستواء غير مجهول))(1).
__________
(1) شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة)) (3/398).(9/80)
وهذه المقالة ليس فيها تفويض، إنما فيها إثبات استواء الرب جل وعلا على عرشه استواء حقيقيا، وذلك لمن عقل وتدبر.
فمراد من قال: ((الكيف غير معقول)): نفي علم الكيفية، وليس مراده نفي حقيقة الصفة؛ كما يظنه أهل التحريف؛ فنحن لا نعلم كيفية استوائه كما أننا لا نعلم كيفية ذاته، ولكن مما لا نزاع فيه بين علماء السلف أننا نعلم معنى الاستواء،وهذا معنى قول السلف: ((والاستواء غير مجهول))؛ فالسلف ينفون علم الكيفية، ولا ينفون حقيقة الصفة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في ((الفتاوى)) (5/41):
((فقول ربيعة ومالك: ((الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب)): موافق لقول الباقين: ((أمروها كما جاءت بلا كيف))؛ فإنما نفوا علم الكيفية، ولم ينفوا حقيقة الصفة.
ولو كان القوم قد آمنوا باللفظ المجرد من غيرهم فهم لمعناه على ما يليق بالله؛ لما قالوا: ((الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول))، ولما قالوا: ((أمروها كما جاءت بلا كيف))؛ فإن الاستواء حينئذ لا يكون معلوما، بل مجهولا، بمنزلة حروف المعجم.
وأيضا؛ فإنه لا يحتاج إلى نفي علم الكيفية إذا لم يفهم عن اللفظ معنى، وإنما يحتاج إلى نفي علم الكيفية إذا أثبتت الصفات.
وأيضا؛ فإنه من ينفي الصفات الخبرية- أو الصفات مطلقا- لا يحتاج إلى أن يقول: بلا كيف! فمن قال: إن الله ليس على العرش. لا يحتاج أن يقول: بلا كيف. فلو كان مذهب الساف نفي الصفات في نفس الأمر؛ لما قالوا: بلا كيف.
وأيضا؛ فقولهم: ((أمروها كما جاءت)): يقتضي إبقاء دلالتها على ما هي عليه؛ فإنها جاءت ألفاظا دالة على معاني، فلو كانت دلالتها منتفية؛ لكان الواجب أن يقال: أمروا لفظها مع اعتقاد أن المفهوم منها غير مراد، أو: أمروا لفظها مع اعتقاد أن الله لا يوصف بما دلت عليه حقيقة. وحينئذ؛ فلا تكون قد أمرت كما جاءت، ولا يقال حينئذ: بلا كيف؛ إذ نفي الكيف عما ليس بثابت لغو من القول...)).(9/81)
فإذا علم بطلان قول من استدل بمقالة مالك على التفويض؛ فليعلم أن ابن الجوزي وقع فيه، وادعى فيه دعوى عريضة من أنه مذهب السلف، ونقل الإجماع عليه.
قال في((صيد الخاطر)) (ص 84): ((فإنه من قرأ الآيات والأحاديث ولم يزد؛ لم ألمه، وهذه طريقة السلف)).
وقال أيضا في ((صيد الخاطر)) (ص 84))مقاله عظيمة تدل على توغله في التفويض وبعده عن مذهب السلف الصالح الذي دل الكتاب والسنة والإجماع الصحيح على صحته؛ قال:
((ولقد عجبت لرجل أندلسي، يقال له: ابن عبد البر، صنف كتاب((التمهيد))، فذكر فيه حديث النزول إلى السماء الدنيا (1)، فقال: هذا يدل على أن الله تعالى على العرش؛ لأنه لولا ذلك؛ لما كان لقوله:((ينزل)): معنى. وهذا كلام جاهل بمعرفة الله عز وجل؛ لأن هذا استسلف من حسه ما يعرفه من نزول الأجسام، فقاس صفة الحق عليه؛ فأين هؤلاء واتباع الأثر...)) انتهى كلامه.
وقال في ((تفسيره)) (3/213) على قوله تعالى: { ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } [الأعراف:54، وغيرها]: ((وإجماع السلف منعقد على أن لا يزيدوا على قراءة الآية...)).
وهذا الذي ذكره ابن الجوزي من أن إجماع السلف منعقد على أن لا يزيدوا على قراءة الآية خطأ ومخالف لمذهب السلف بأجمعهم، فضلا عن أن يكون مذهبهم.
ومعاذ الله أن يكون مذهب السلف قراءة الآيات والأحاديث من غير فهم لمعناها وما دلت عليه؛ وقد أمر الله تعالى بتدبر القرآن وذم الذين لا يتدبرونه:
فقال تعالى: { أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا } [النساء:82 ].
وقال: { أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا } [ محمد:24].
وآيات الصفات داخلة في التدبر المأمور به.
وهل يعقل أن يؤمر المسلم بتدبر ألفاظ لا معاني لها؟!
__________
(1) انظر ما قرره ابن عبد البر رحمه الله على حديث النزول في((التمهيد)) (7/ 129).(9/82)
فإذا قال الله تعالى: { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } [طه: 5]؛ استفدنا من هذه الآية ثلاثة معان:
الأول: إثبات اسم الرحمن لله تعالى.
الثاني: إثبات العرش.
الثالث: إثبات استواء لله على العرش استواء حقيقيا.
ودعوى ابن الجوزي أن السلف لا يزيدون على قراءة الآية جهل بمذهب السلف وحقيقة قولهم، وكلام السلف ينقضه:
قال الأوزاعي: ((كنا والتابعون متوافرون نقول: أن الله تعالى ذكره فوق عرشه، ونؤمن بما وردت السنة به من صفاته جل وعلا))(1).
وقال يزيد بن هارون: ((من زعم أن الرحمن على العرش استوى على خلاف ما يقر في قلوب العامة؛ فهو جهمي)) (2).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في((الفتاوى)) (33/ 178): ((... الظاهر من لفظ((استوى)) عند عامة المسلمين الباقين على الفطر السليمة التي لم تنحرف إلى تعطيل ولا إلى تمثيل، هذا هو الذي أراده يزيد بن هارون الواسطي المتفق على إمامته وجلالته وفضله، وهو من أتباع التابعين...)).
وقال علي بن الحسن بن شقيق: ((قلت لعبد الله بن المبارك: كيف نعرف ربنا عز وجل؟ قال: في السماء السابعة، على عرشه، ولا نقول كما تقول الجهمية: إنه هاهنا في الأرض. فقيل هذا لأحمد بن حنبل. فقال: وقال أبو عمر الطلمنكي: ((أجمع المسلمون من أهل السنة على أن الله استوى على عرشه بذاته)).
وقال: ((أجمع أهل السنة على أنه تعالى استوى على عرشه على الحقيقة لا على المجاز...)) (3).
__________
(1) الأسماء والصفات)) للبيهقي(2/ 150).
(2) رواه عبد الله بن أحمد في((السنة)) (1/ 123)).
(3) انظر: ((اجتماع الجيوش الإسلامية)) (ص 76)).(9/83)
وقال الإمام ابن خزيمة رحمه الله: ((من لم يقر بأن الله تعالى على عرشه قد استوى فوق سبع سماواته؛ فهو كافر بربه يستتاب، فإن تاب، وإلا؛ ضربت عنقه، وألقي على بعض المزابل؛ حيث لا يتأذى المسلمون والمعاهدون بنتن ريح جيفته، وكان ماله فيئا، لا يرثه أحد من المسلمين؛ إذ المسلم لا يرث الكافر...)) (1).
ولا بد من حمل استواء الرب على العرش على الحقيقة، وهكذا سائر صفات الرب جل وعلا، وهذا أمر متفق عليه بين علماء السلف.
قال الإمام ابن عبد البر رحمه الله في((التمهيد)) (7/ 145): ((أهل السنة مجمعون على الإقرار بالصفات الواردة كلها في القرآن والسنة، والإيمان بها، وحملها على الحقيقة لا على المجاز؛ إلا أنهم لا يكيفون شيئا من ذلك، ولا يحدون فيه صفة محصورة، وأما أهل البدع الجهمية والمعتزلة كلها والخوارج؛ فكلهم ينكرها، ولا يحمل شيئا منها على الحقيقة، ويزعمون أن من أقر بها مشبه، وهم عند من أثبتها نافون للمعبود، والحق فيما قاله القائلون بما نطق به كتاب الله وسنة رسوله، وهم أئمة الجماعة، والحمد لله...)).
وكلام السلف في هذا الباب كثير، وحاصله أنه لا نزاع بينهم في أن الرب جل وعلا مستو على عرشه استواءً حقيقيا، وأطلق بعضهم أنه مستو على عرشه بذاته (2)، وهذه اللفظة لم ترد لا في الكتاب ولا في سنة صحيحة؛ فتمر الأحاديث كما جاءت، فنعتقد أن الله تعالى مستو على عرشه استواءً حقيقيا.
__________
(1) رواه: الحاكم في كتاب((معرفة علوم الحديث)) (ص 84)، وابن قدامة في ((العلو)) (ص 185).
(2) ونقل الطلمنكي الإجماع على ذلك، وقد تقدم قوله.(9/84)
والأحاديث صريحة في أن الله مستو على العرش بذاته؛ إلا من هذه اللفظة لم ترد؛ فمن أطلقها؛ إنما أراد بها الرد على الجهمية والمعطلة والمفوضة، الذين ينكرون استواء الرب جل وعلا على عرشه استواءً حقيقيا، وإطلاقها في هذا الموطن لا شيء فيه؛ لقمع المبتدعة الضالين، ولأن المعنى يقتضي ذلك؛ فقطعا إذا قيل: { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } [طه: 5]؛ فالخبر عن المعنى لا عن اللفظ؛ كما هو معلوم عند أهل التحقيق، ومن لم يطلقها؛ فقد وقف مع النصوص، مع إقراره بأن الأحاديث الصحيحة في إثبات استواء الله على عرشه صريحة في ذلك، والله أعلم.
* * *
* قال السقاف (ص111، تعليق رقم35، عن إبراهيم الحربي):
((وهو الذي قال -كما في ترجمة معروف الكرخي في ((سير أعلام النبلاء)) (9/343)-: ((قبر معروف الترياق المجرب))؛ كما نقلناه عنه في كتابنا ((الإغاثة)))).
* أقول:
لابد من معرفة أصلين عظيمين لا غنى لأي مسلم عنهما:
الأصل الأول: أن لا يعبد إلا الله(1)
__________
(1) وهذا توحيد الإلهية، وهو إفراد الله تعالى بجميع أنواع العبادات.
وقد أبطل السقاف هذا النوع من التوحيد، وأعلن عن وثنيته في رسالة له اسمها: ((التنديد بمن عدد التوحيد...))!! يبطل فيها تقسيم التوحيد إلى ثلاثة أقسام: توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، وتوحيد الأسماء والصفات!! ويزعم أن هذا التقسيم بدعة خلفية مذمومة؛ كما في (ص8).
وأقول: لو قرأ هذا الجاهل ليس في هذه المسألة فحسب؛ فالأمر أعظم.
فهذا الجاهل الذي ابتلينا به في هذا الزمان يكتب وينشر بدعاً وضلالات، بل وكفراً صريحاً، يزعم أن التوحيد هو توحيد الربوبية، وأبطل توحيد العبادة، وتوحيد الأسماء والصفات:
قال عن توحيد الأسماء والصفات –كما في (ص18)-: ((إنه تشبيه وتجسيم)).
وقال (ص32) معلناً وثنيته: ((إن مجرد النداء أو الاستغاثة أو الاستعانة أو الخوف أو الرجاء أو التوسل أو التذلل لا يسمى عبادة...)).
وقال (ص33): ((كما أن الاستغاثة أيضاً بمخلوق عبادة له؛ كما ثبت في ((الصحيحين)): ((إن الشمس تدنو يوم القيامة، حتى يبلغ العرق نصف الأذن، فبينا هم كذلك؛ استغاثوا بآدم، ثم بموسى، ثم بمحمد صلى الله عليه وسلم، فيشفع ليقضي بين الخلق))؛ فما زعمه الجهلة أن كل نداء للميت عبادة له؛ فهو من التخبط في الجهل القبيح...)).
أقول: التخبط والجهل القبيح هو عدم التفريق بين الاستغاثة بالحي فيما يقدر عليه وبين الاستغاثة بالأموات والغائبين وسؤالهم جلب المنافع ودفع المضار؛ فهذا الثاني شرك أكبر لا نزاع فيه، وإن رغم أنف السقاف وأتباعه من المستغيثين بغير الله تعالى.
وأي مراغمة ومصادمة لما بعث الله به محمداً صلى الله عليه وسلم أعظم من دعاء الأموات والغائبين وإنزال ذلك منزلة الدعاء المأمور به؟!
والله جل وعلا يقول: { وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ 13 إِن تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ } . [فاطر: 13- 14]
وقال تعالى: { أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ } . [النمل: 62]
والسقاف يعتقد أن كل ما تقدم من دعاء الأموات والغائبين ليس بشرك، إنما الشرك اعتقاد الربوبية أو خصيصة من خصائصها؛ كالاستقلال بالنفع أو الضر ونفوذ المشيئة لمن اعتقد فيه ذلك... كما صرح به (ص34).
ومما يدل أيضاً على أن السقاف منغمس في الوثنية جاهل بالتوحيد وبما بعث الله به رسله وأنزل من أجله كتبه: قوله في مقدمة رسالة ((إرغام المبتدع)) (ص3) ((فالتوسل والاستغاثة والتشفع بسيد الأنام نبينا محمد صلى الله عليه وسلم مصباح الظلام من الأمور المندوبات المؤكدات، وخصوصاً عند المدلهمات...))!!
وهذا من أكبر الأدلة وأوضح البراهين على ضلاله وبعده عن الكتاب والسنة، ولحوقه بعباد القبور، وما ذكرته من حال السقاف غيض من فيض؛ فكتبه كلها تدعو إلى البدع والضلالات؛ فالحذر الحذر من هذا الرجل ومن كتبه؛ فإنه داع من دعاة جهنم.(9/85)
.
الثاني: أن لا يعبد إلا بما شرع على ألسن رسله.
فالأولى معنى شهادة أن لا إله إلا الله، والثاني معنى شهادة أن محمدا رسول الله، ومعناها طاعته فيما أمر،وتصديقه فيما أخبر، واجتناب ما عنه نهى وزجر.
فمت عبد الله تعالى بالمحدثات والبدع؛ نقص تحقيقه لشهادة أن محمد عبده ورسوله، وقد يزول بالكلية.
فإذا تقرر هذان الأصلان؛ فليعلم أن الله جل وعلا ما أرسل الرسل ولا أنزل الكتب إلا ليعبد وحده لا شريك له:
كما قال تعالى: { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ } . [ الذاريات: 56]
وقال تعالى: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } . [البقرة: 21]
وقال: { وَاعْبُدُواْ اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا } . [النساء: 36]
وقال تعالى: { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ... } . [النخل: 36]
وعبادة الله تعالى لا أن تكون موافقة لهدى النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن عبادة الله تعالى بالمحدثات والبدع مردودة على صاحبها:
لما روى البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها؛ قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه؛ فهو رد))، وفي رواية لمسلم: ((من عمل عملا ليس عليه أمرنا؛ فهو رد)).
وروى الإمام أبو داود والترمذي وغيرهما عن العرباض بن سارية رضي الله عنه؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((أوصيكم بتقوى الله عز وجل، والسمع والطاعة،وإن عبداً حبشياً، فإنه من يعش منكم، فسيرى اختلافا كثيرا؛ فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل بدعة ضلالة)).(9/86)
وعبادة الله تعالى عند قبور الصالحين، أو تحري الدعاء عند قبورهم، من محدثات الأمور التي نهينا عنها،ووسيلة من وسائل الشرك، ولو كان هذا الفعل خيراً؛لسنه النبي صلى الله عليه وسلم للأمة؛ فإنه بلغ البلاغ المبين؛ وأدى الأمانة، ونصح للأمة، فلم يدع شيئاً يقرب إلى الجنة إلا وبينه لنا صلى الله عليه وسلم.
وروى الإمام أحمد وغيره بسند حسن عن أبي ذر رضي الله عنه؛
قال: ((لقد تركنا محمد صلى الله عليه وسلم،وما يحرك طائر جناحيه في السماء؛ إلا أذكرنا منه علماً)).
فلو كانت العبادة مشروعة عند قبور الصالحين، أو تحري الدعاء عند قبورهم له مزية وفيه فضل؛ لبينه النبي صلى الله عليه وسلم بياناً عاماً،ولفعله الصحابة رضي الله عنهم أجمعين، الذين هم أحرص الناس على الخير، وأسرعهم مبادرة إليه، فلما لم يفعلوه؛علم أنه بدعة وضلالة ووسيلة من وسائل الشرك.
وما ذكره السقاف محسنا له من أن إبراهيم الحربي قال: ((قبر معرف الترياق المجرب)): جوابه من وجهين:
الوجه الأول: المطالبة بتصحيح النقل عن الحربي، وكون الذهبي ذكر ذلك عته في ((السير)) ليس حجة، ما لم يذكر السند، فينظر فيه.
والذهبي عفا الله عنه عنده تساهل في نقل مثل هذه الحكاية وأشباهها دون تعقب لها، وقد قرأت كتابه ((السير))، فرأيت فيه أشياء يتعجب منها، كيف يذكرها ولا يتعقبها، مع أن بعضها مما يناقض ما بعث الله به محمدا صلى الله عليه وسلم، فكان الأولى بالذهبي رحمه الله ردها وإبطالها، أو عدم ذكرها؛ لأنها تخالف مذهب السلف، وهو واحد من علماء السلف الذين خدموا هذا الدين بالمصنفات الكثيرة.
وقد رأيت بالاستقراء أهل السير والتواريخ يتساهلون في النقل، والله المستعان.(9/87)
الوجه الثاني: لو فرضنا صحة ما نقل عن الحربي؛ فالقاعدة الكلية المجمع عليها بين المسلمين: أن كل إنسان يؤخذ من قوله ويترك؛ إلا النبي صلى الله عليه وسلم، وقول الحربي خطأ؛ لمخالفته للكتاب والسنة وهدي الصحابة رضي الله عنهم.
والعجيب أن الذهبي في ((السير)) (9/ 343) قال معلقا على مقاله إبراهيم الحربي: ((يريد إجابة دعاء المضطر عنده؛ لأن البقاع المباركة يستجاب عندها الدعاء...))!!
وهذا عجيب من الذهبي؛ إذ مثل هذا وسيلة من وسائل البدع والشرك.
والعبادات أيضا مبناها على التوقيف لا على الرأي والاستحسان، و إلا؛ لقال من شاء ما شاء، وانفتحت أبواب المحدثات من كل جانب.
ومما يبطل المقالة المنسوبة إبراهيم وما في معناها ما روى أبو يعلي الموصلي في((مسنده)) (1/ 245) وغيره من طريق علي بن عمر، عن أبيه، عن علي بن الحسين؛ أنه رأى رجلا يجيء إلى فرجة كانت عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم، فيدخل فيها، فيدعو فيها، فقال، ألا أحدثكم حديثا سمعته من أبي عن جدي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ قال: ((لا تتخذوا قبري عيدا، ولا بيوتكم قبوراً؛ فإن تسليمكم يبلغني أينما كنتم)). إسناده لا بأس به، وتضعيف من ضعفه بعلي بن عمر غير سديد؛ فإنه قد روى عنه جمع، ومثله حسن الحديث (1)؛ لأن الراوي إذا روى عنه جمع، ولم يأت بما ينكر عليه، ولم يكن فيه جرح؛ صار حديثه حجة، وهذا المذهب هو المذهب الصحيح، وهو منهج أكثر المحدثين.
__________
(1) وقد ذكر البخاي في((التاريخ الكبير)) (2/3- 289) ولم يذكر فيه لا جرحا ولا تعديلا.(9/88)
قال الإمام الدارقطني رحمه الله في((سننه)) (3/ 174): ((وأهل العلم بالحديث لا يحتجون بخبر ينفرد بروايته رجل غير معروف، وإنما يثبت العلم عندهم بالخبر إذا كان رواته (1) عدلا مشهورا، أو رجل قد ارتفع اسم الجهالة عنه، وارتفاع اسم الجهالة عنه أن يروي عنه رجلان فصاعدا؛ فإذا كان هذه صفته؛ ارتفع عنه اسم الجهالة، وصار حينئذ معروفا...)).
وهذا القول من الدارقطني في غاية التحقيق، ومن سبر منهج المتقدمين؛ كأحمد والبخاري ومسلم وأبي داود والترمذي والنسائي ومن قبلهم ومن بعدهم؛ علم أن هذا القول هو الصواب.
ولما قال ابن القطان في مالك بن الخبر الزيادي: ((هو ممن لم تثبت عدالته))؛ قال الذهبي: ((يريد أنه ما نص أحد على أنه ثقة)).
وفي رواة((الصحيحين)) عدد كبير ما علمنا أن أحداً نص على توثيقهم.
والجمهور على أن من كان من المشايخ قد روى عنه جماعة ولم يأت بما ينكر عليه؛ أن حديثه صحيح.
ومنه يتبين أن تضعيف من ضعف الحديث بعلي بن عمر غير صحيح، بل الحديث ثابت على منهج أهل التحقيق.
وللحديث أيضا شاهد:
قال الإمام عبد الرازق في((المصنف)) (3/577): عن الثوري، عن ابن عجلان، عن رجل يقال له: سهيل، عن الحسن بن الحسن بن علي؛ قال رأى قوما عند القبر، فنهاهم، وقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تتخذوا قبري عيداً ولا تتخذوا بيوتكم قبورا، وصلوا علي حيث كنتم؛ فإن صلاتكم تبلغني)).
والحاصل أن تحري الدعا عند القبر معروف أو غيره من الصالحين بدعة ووسيلة من وسائل الشرك، ولا يبعد أن يأتي جاهل من الجهلة فيسأل صاحب القبر، خصوصا في البلاد التي يكثر فيها الجهل!!
وقد خيم الجهل على معظم البلاد في هذا الزمان، واستحكمت غربة الدين، وتسلط الحكام الظلمة المجرمون على عباد الله المؤمنين، وأرخوا العنان لأهل البدع والملحدين؛ فعثوا في الأرض فسادا؛ فإنا لله وإنا إليه راجعون.
* * *
__________
(1) هكذا في الأصول، ولعل الكلمة: ((راويه)).(9/89)
* قال ابن الجوزي في " دفع شبه التشبيه" (ص113):
«قال الله تعالى: ]وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ[ [الرحمن: الآية 27]، قال المفسرون: معناه: يبقى ربك، وكذا قال في قوله: ]يُريدُونَ وجَهْهُ[ [الأنعام: الآية 52]، أي: يريدونه، وقال الضحَّاك وأبو عبيدة في قوله: ]كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ[ [القصص: الآية 88]، أي: إلا هو، وقد ذهب الذين أنكرنا عليهم إلى أن الوجه صفة تختص باسم زائد على الذات.
قلت: فمن أين قالوا هذا، وليس لهم دليل إلا ما عرفوا من الحسيات؟! وذلك يوجب التبعيض، ولو كان كما قالوا، كان المعنى أن ذاته تهلك إلا وجهه.
وقال ابن حامد: أثبتنا لله وجهًا، ولا يجوز إثبات رأس.
قلت: ولقد اقشعرَّ بدني من جراءته على ما ذكر هذا، فما أعوزه في التشبيه غير الرأس».
· والجواب عن هذه الشبهة من وجهين: مجمل ومفصَّل:
أما المجمل، فإنه يقال: قد دلَّ الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة وأئمتها على أن لله تعالى وجهًا كما أن له يدين وسمعًا وبصرًا وصورةً وعلمًا وحياةً وقدمًا، وغير ذلك ممَّا وصف الله به نفسه أو وصفه به رسوله محمد r، فيجب إثبات الوجه لله تعالى إثباتًا بلا تمثيل وتنزيهًا بلا تعطيل؛ لأن الله ]لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ[ [الشورى: الآية11]؛ فكما أننا نثبت لله تعالى ذاتًا لا تُشبه الذوات، فكذلك نثبت لله تعالى وجهًا لا شبيه له ولا نظير.
وقد نفى الجهمية وأشباههم من نفاة الصفات صفة الوجه عن الله تعالى، وحرَّفوا الكلم عن مواضعه، وأتوا بعبارات مجملة تحتمل حقًّا وتحتمل باطلاً، وقد أرادوا بها قطعًا معنى باطلاً؛ كي يلبسوا بها على الخلق.
وهذه الألفاظ المجملة يلهج بها أهل البدع لينفوا بها صفات الباري جل وعلا.
وبالاعتصام بكتاب الله وسنة رسول r نجاة من أباطيلهم وشبههم.(9/90)
وفي الأدلة من الكتاب والسنة الصحيحة شيء كثير ممَّا يرد على الجهمية وغيرهم من النفاة، ويدحض شبههم، ويقمع باطلهم:
قال تعالى: ]كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ[ [القصص : الآية 88].
وقال تعالى: ]وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ[ [الرحمن : الآية 27].
وفي «صحيح الإمام البخاري» رحمه الله (13/388) عن جابر بن عبد الله، قال: لما نزلت هذه الآية: ]قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ[، قال النبي r: «أعوذ بوجهك»، فقال: ]أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ[، فقال النبي r: «أعوذ بوجهك»، قال: ]أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً[، فقال النبي r:«هذا أيسرُ».
فهذا الحديث نص صحيح صريح في إثبات الوجه لله تعالى، وهو من الصفات الذاتية.
ومن الأدلة أيضًا على إثبات صفة الوجه لله تعالى ما رواه مسلم في «صحيحه» (رقم 179) عن أبي موسى، قال: قام فينا رسول الله r بخمس كلمات، فقال: «إن الله عزَّ وجل لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعملُ النهار قبل عمل الليل، حجابه النور (وفي رواية أبي بكر: النار)، لو كشفه؛ لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه».
والجهمية تنكر هذا الحديث وما في معناه؛ فعموا وصموا.
والأشاعرة تحرفه وتتأوَّله بتأويلات فاسدة: إما بتفسير الوجه بالذات لتنفي صفة الوجه عن الله، وإمَّا بغير ذلك من التأويلات المستكرهة.
وهناك أيضًا من الأدلة الصحيحة المتلقاة بالقبول عند أهل العلم مما يثبت لله تعالى صفة الوجه ما يغيظ الجهمية والمعتزلة والأشاعرة وغيرهم من الطوائف الضالة:(9/91)
ففي «صحيح البخاري» (13/423) و«مسلم» (رقم 180) من طريق أبي بكر بن عبد الله بن قيس، عن أبيه، عن النبي r، قال: «جنتان من فضَّة آنيتهما وما فيهما، وجنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم، إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن».
فقوله: «على وجهه»: فيه إثبات الوجه لله تعالى حقيقة.
وأهل الباطل تأوَّلوا هذا الحديث كما تأولوا غيره من الأحاديث الدالة على إثبات صفة الوجه لله تعالى، حتى قال عياض: «فمن أجرى الكلام على ظاهره؛ أفضى به الأمر إلى التجسيم...»!!
وهذا خطأ وغلط؛ فليس في إثبات الصفات لله تعالى تجسيم، فإن السلف يثبتون لله ما أثبته لنفسه وما أثبته له رسوله محمد r، إثباتًا بلا تمثيل، وتنزيهًا بلا تعطيل.
والواجب على جميع الخلق التسليم والانقياد لكلام الله وكلام رسوله r، وعدم ضرب الأمثال لله تعالى؛ فإنه من أعظم الضلال والإلحاد.
والذي لا يفهم من صفات الخالق إلا ما يفهمه من صفات المخلوق هو المجسم المشبه؛ فالله المستعان.
ومن الأدلة أيضًا على إثبات الوجه لله تعالى ما رواه أبو داود (1/124) بسند حسن من طريق عبد الله بن المبارك، عن حيوة بن شريح، قال: لقيت عقبة بن مسلم، فقلت له: بلغني أنك حدثت عن عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبي r، أنه كان إذا دخل المسجد، قال: «أعوذ بالله العظيم، وبوجهه الكريم، وسلطانه القديم، من الشيطان الرجيم»، قال: أقط؟ قلت: نعم، قال: «فإذا قال ذلك؛ قال الشيطان: حُفِظ مني سائر اليوم».
فقوله: «وبوجهه الكريم»: دليل على إثبات الوجه لله تعالى.
ويرد على زعم أن الوجه هو الذات بأن النبي r استعاذ أولاً بالله العظيم، ثم استعاذ ثانيًا بوجهه الكريم، والعطف يدل على المغايرة.
والأحاديث والآثار عن الصحابة رضي الله عنهم في إثبات الوجه لله تعالى كثيرة، وقد خرَّجها كثير من أهل العلم في كتبهم، متلقين لها بالقبول، مقابلين لها بالتسليم، ولم يُنكرها أحد منهم.(9/92)
قال الإمام ابن خزيمة رحمه الله في كتاب «التوحيد» بعد أن ساق الآيات الدالة على إثبات الوجه لله تعالى، قال:
«فنحن وجميع علمائنا من أهل الحجاز وتهامة واليمن والعراق والشام ومصر مذهبنا أنا نثبت لله ما أثبته لنفسه، نقر بذلك بألسنتنا، ونصدق ذلك بقلوبنا، من غير أن نشبه وجه خالقنا بوجه أحد من المخلوقين، عزَّ ربنا عن أن يشبه المخلوقين، وجلَّ ربنا عن مقالة المعطِّلين، وعزَّ أن يكون عدمًا كما قاله المبطلون؛ لأن ما لا صفة له عدم، تعالى الله عمَّا يقول الجهميُّون الذين ينكرون صفات خالقنا الذي وصف بها نفسه في محكم تنزيله وعلى لسان نبيه محمد r...».
وقال رحمه الله: «نحن نقول وعلماؤنا جميعًا في جميع الأقطار: إن لمعبودنا عزَّ وجلَّ وجهًا كما أعلمنا الله في محكم تنزيله...».
وأمَّا الجواب المفصَّل؛ فمن وجوه:
الوجه الأول: أن ابن الجوزي قال علي قول الله تعالى: ]وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ[ [الرحمن: الآية 27]؛ قال: «قال المفسِّرون: معناه: يبقى ربك»: وهذا التعميم والإطلاق بأنه قول المفسرين خطأ؛ فهناك من المفسرين ممن قبل ابن الجوزي فسَّر الآية بغير ما ادَّعاه ابن الجوزي، مع أن الحق ليس محصورًا فيمن صنَّف كتابًا أو كتبًا في التفسير.
قال الإمام أبو جعفر محمد بن جرير الطبري رحمه الله في «تفسيره» على قوله تعالى: ]كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ* وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ[ الرحمن : الآيتان 26- 27]:
«يقول تعالى ذكره: كل من على ظهر الأرض من جن وإنس؛ فإنه هالك، ويبقى وجه ربك يا محمد ذو الجلال والإكرام، و]ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ[ من نعت الوجه؛ فلذلك رفع ]ذو[..».
هذا مذهب أهل التحقيق في تفسير هذه الآية، ومن فسَّر الوجه بالذات؛ فقد أخطأ وسلك مسلك الجهمية.(9/93)
قال الإمام ابن خزيمة رحمه الله في «كتاب التوحيد» (1/51): «وزعم بعض جهلة الجهمية أن الله عز وجل إنما وصف في هذه الآية [نفسه] التي أضاف إليها الجلال بقوله: ]تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ[ [الرحمن: الآية 78]، وزعت أن الرب هو ذو الجلال والإكرام، لا الوجه».
قال أبو بكر: «أقول – وبالله توفيقي-: هذه دعوى يدَّعيها جاهل بلغة العرب؛ لأن الله عز وجل قال: ]وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ[[الرحمن: الآية 27]: فذكر الوجه مضمومًا في هذا الموضع مرفوعًا، وذكر الرب بخفض الباء بإضافة الوجه، ولو أن قوله: ]ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ[: مردودًا إلى ذكر الرب في هذا الموضع؛ لكانت القراءة: (ذي الجلال والإكرام)؛ مخفوضًا، كما كان الباء مخفوضًا في ذكر الرب جلَّ وعلا.
ألم تسمع قوله تبارك وتعالى: ]تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ[ [الرحمن: الآية78]، فلمَّا كان ]الْجَلاَلِ[ و]الإِكْرَامِ[ في هذه الآية صفة للرب؛ خفض ]ذِي[ خفض الباء الذي ذكر في قوله: ]ربِّك[، ولما كان الوجه في تلك الآية مرفوعة التي كانت صفة الوجه مرفوعة؛ فقال: ]ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ[، فتفهَّموا يا ذوي الحِجا هذا البيان الذي هو مفهوم في خطاب العرب، لا تغالطوا؛ فتتركوا سواء السبيل.
وفي هاتين الآيتين دلالة أن وجه الله صفة من صفات الله، صفات الذات، لا أن وجه الله هو الله، ولا أن وجهه غيره، كما زعمت المعطلة الجهمية؛ لأن وجه الله لو كان الله؛ لقرئ: (ويبقى وجه ربك ذي الجلال والإكرام)! فما لمن لا يفهم هذا القدر من العربية ولوضع الكتب على علماء أهل الآثار القائلين بكتاب ربهم وسنة نبيهم r؟!».(9/94)
وقال العلامة ابن القيم رحمه الله – كما في «مختصر الصواعق» (ص337)-: «إنه لا يعرف في لغة من لغات الأمم وجه الشيء بمعنى ذاته ونفسه، وغاية ما شبه به المعطل وجه الرب: أن قال: هو كقوله: وجه الحائط، ووجه الثوب، ووجه النهار، ووجه الأمر، فيقال لهذا المعطل المشبِّه: ليس الوجه في ذلك بمعنى الذات، بل هذا مبطل لقولك؛ فإن وجه الحائط أحد جانبيه؛ فهو مقابلٌ لدبره، ومثل هذا وجه الكعبة ودبرها؛ فهو وجه حقيقة، ولكنه بحسب المضاف إليه، فلما كان المضاف إليه بناء؛ كان وجهه من جنسه، وكذلك وجه الثوب أحد جانبيه، وهو من جنسه، وكذلك وجه النهار أوَّله، ولا يقال لجميع النهار، وقال ابن عباس: وجه النهار أوَّله، ومنه قولهم: صدر النهار، قال الأعرابي: أتيته بوجه نهار وصدر نهار، وأنشد للربيع بن زياد:
مَنْ كانَ مَسْرُورًا بِمَقْتَلِ مالِكٍ
فَلْيَأْتِ نِسْوَتَنا بِوَجْهِ نَهارِ
والوجه في اللغة: مستقبل كل شيء؛ لأنه أول ما يوجه منه، ووجه الرأي والأمر: ما يظهر أنه صوابه، وهو في كل محل بحسب ما يضاف إليه؛ فإن أضيف إلى زمن؛ كان الوجه زمنًا، وإن أضيف إلى حيوان؛ كان بحسبه، وإن أضيف إلى ثوب أو حائط؛ كان بحسبه، وإن أضيف إلى من ]لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ[ [الشورى : الآية 11]، كان وجهه تعالى كذلك».
أقول: ولما كان ابن الجوزي مضطربًا في العقيدة؛ ففي بعض كتبه يؤول، وفي بعضها يثبت؛ فقد جاء عنه ما يدل على أنه يثبت الوجه لله تعالى؛ كما دلَّ على ذلك الكتاب والسنة.
قال في كتابه «مجالس ابن الجوزي» يرد على من أوَّل الوجه بالذات: «وقول المعتزلة: إنه أراد بالوجه الذات؛ فباطل؛ لأنه أضافه إلى نفسه، والمضاف ليس كالمضاف إليه؛ لأن الشيء لا يضاف إلى نفسه...».(9/95)
وهذا حق، ولكن ابن الجوزي لم يثبت على هذا، والاضطراب ظاهر عليه في كتبه، فإنه لا يثبت على قدم النفس ولا على قدم الإثبات؛ فيثبت تارة وينفي تارة، وكثيرًا ما يفوض، كما صنع في «تلبيس إبليس»، فإنه قال (ص101):
«ومن الناس من يقول: لله وجه، هو صفة زائدة على صفة ذاته؛ لقوله عز وجل: ]ويبقى وَجْهُ رَبِّكَ[ [الرحمن: الآية 26]، وله يد، وله إصبع؛ لقول رسول الله r: «يضع السماوات على إصبع»، وله قدم... إلى غير ذلك ممَّا تضمنته الأخبار، وهذا كلُّه إنما استخرجوه من مفهوم الحس، وإنما الصواب قراءة الآيات والأحاديث من غير تفسير ولا كلام فيها..».
الوجه الثاني: أن ابن الجوزي قال: «وقد ذهب الذين أنكرنا عليهم إلى أن الوجه صفة تختص باسم زائد على الذات، قلت (القائل ابن الجوزي): فمن أين قالوا هذا وليس لهم دليل إلا ما عرفوه من الحسيات؟!».
وجواب هذا أن يقال: إن القول بأن هذه الصفة زائدة على الذات أم غير زائدة كلام مجمل، يحتمل حقًّا ويحتمل باطلاً.
والألفاظ المجملة التي لم ترد لا في الكتاب ولا في السنة ولم يتكلم بها الصحابة توقع اللبس، وطريق السلامة التفصيل:
فمن أثبت الوجه لله تعالى وغيره من الصفات التي صحَّت بها النصوص، وقال: صفات الله زائدة على الذات؛ فمراده زائدة على ما أثبته نفاة الصفات؛ فإنهم يثبتون لله تعالى ذاتًا مجردة عن الصفات، فلا يثبتون لله وجهًا ولا يدين ولا قدمًا ولا صورةً ولا كلامًا، بل لا يثبتون إلا ذاتًا مجردة عن الصفات، وهذا ضلال باتفاق علماء السلف؛ إذ لا توجد ذات مجردة عن الصفات، وأهل البدع يوردون الألفاظ المجملة تلبيسًا على الخلق؛ ليدركوا مرادهم من حيث لا يُشْعَر بمقصدهم، ولذلك لا يثبتون الوجه لله تعالى ولا غيره من الصفات، ويعيبون على من قال: إن الوجه صفة زائدة على الذات، مع أن مراد مَن قال في صفات الله: زائدة على الذات، أي: زائدة على ما أثبته نفاةُ الصفات.(9/96)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في «الفتاوى» (5/326): «وإذا قال مَن قال مِن أهل الإثبات للصفات: أنا أثبتُ صفات لله زائدة على ذاته، فحقيقة ذلك أنا نثبتها زائدة على ما أثبتها النفاة من الذات؛ فإن النفاة اعتقدوا ثبوت ذات مجردة عن الصفات، فقال أهل الإثبات: نحن نقول بإثبات صفات زائدة على ما أثبته هؤلاء، وأما الذات نفسها الموجودة، فتلك لا يتصور أن تحقق بلا صفة أصلاً، بل هذا بمنزلة من قال: أثبت إنسانًا لا حيوانًا ولا ناطقًا ولا قائمًا بنفسه ولا بغيره ولا له قدرة ولا حياة ولا حركة ولا سُكُون... أو نحو ذلك، أو قال: أثبت نخلة ليس لها ساق ولا جذع ولا ليف... ولا غير ذلك، فإن هذا يثبت ما لا حقيقة له في الخارج ولا يعقل؛ ولهذا كان السلف والأئمة يُسمون نفاة الصفات معطلة؛ لأن حقيقة قولهم تعطيل ذات الله تعالى، وإنْ كانوا هم قد لا يعلمون أنَّ قولهم مستلزم للتعطيل، بل يصفونه بالوصفين المتناقضين؛ فيقولون: هو موجود قديم واجب، ثم ينفون لوازم وجوده، فيكون حقيقة قولهم: موجود ليس بموجود! حق ليس بحق! خالق ليس بخالق! فينفون عنه النقيضين: إمَّا تصريحًا بنفيهما، وإمَّا إمساكًا عن الإخبار بواحد منهما..».
وأمَّا قول ابن الجوزي: «وليس لهم دليل إلا ما عرفوه من الحسيات»؛ فهذا جهل بالنصوص وبما عليه علماء السلف، فإنهم متفقون على إثبات صفة الوجه لله تعالى حقيقة.
وأما قول من قال من العلماء: إن الوجه صفة تختص باسم زائد على الذات، فمرادهم زائد على ما نفاه نفاةُ الصفات المعطلة، الذين ينفون عن الله تعالى ما وصف به نفسه وما وصفه به رسوله محمد r.(9/97)
الوجه الثالث: أنَّ قول ابن الجوزي: «ولو كان كما قالوا، كان المعنى أن ذاته تهلك إلا وجهه»: يقال عنه: هذا جهل وقول فاسد، فإننا لو سلمنا أن المراد بقول الله تعالى: ]كُلُّ شيءٍ هالِكٌ إلاَّ وَجْهَهُ[ [القصص: الآية 88]؛ أي: إلا ذاته، أو: إلا هو، لم يكن في ذلك دليل على نفي الوجه عن الله تعالى؛ لأن النصوص كثيرة في إثبات الوجه لله تعالى، ولا عبرة بحثالة الجهمية والمعطلة الذين ينكرون ذلك، ويكون معنى الآية على ما قال الإمام ابن خزيمة رحمه الله في كتاب «التوحيد» (ص24): «ونفى عنه الهلاك إذا أهلك الله ما قد قضى عليه الهلاك ممَّا قد خلقه الله للفناء لا للبقاء، جلَّ ربنا عن أن يهلك شيء منه مما هو من صفات ذاته..».
الوجه الرابع: أن قول ابن الجوزي: «وقال ابن حامد: أثبتنا لله وجهًا، ولا نجوِّز إثبات رأس، قلت (القائل ابن الجوزي): ولقد اقشعرَّ بدني من جراءته على ذكر هذا، فما أعوَزه في التشبيه غير الرأس».
يجاب عنه، فيقال: إن من أثبت لله تعالى ما أثبته لنفسه وما أثبته له رسوله محمد r، ولم يتجاوز القرآن والحديث الصحيح؛ فقد سلك الصراط المستقيم، واقتفى أثر النبي الكريم r إلى يوم الدين.
ومن أنكر ما وصف الله به نفسه، أو وصفه به رسوله محمد r، أو حرَّف ذلك، أو اقشعرَّ جلده من ذلك استنكارًا؛ فقد ضلَّ عن الهدي القويم، وسلك مسلك النفاة من الجهمية والمعطلين.
وإن من أصول أهل السنة والجماعة: أن الله تعالى لا يوصف إلا بما وصف به نفسه، أو وصفه به رسوله محمد r.
وهذا الأصل يجب التمسك به والعض عليه بالنواجذ، خصوصًا عند جِدال المبطلين، وتلبيس المماحلين، وتشبيه المشبهين.
فإذا علم هذا الأصل العظيم الذي لا يضل من تمسك به، فليعلم أنَّ النصوص جاءت صريحة صحيحة في إثبات الوجه لله تعالى، وقد تقدم بعضها، فمن أنكرها، فإنما ينكر على الله قوله وعلى الرسول r خبره، وهذا من أعظم الضلال وأقبح الباطل.(9/98)
قال تعالى: ]فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا[ [النساء: الآية 65] .
ومن ردَّ آيات الصفات وأحاديثها أو حرَّفها؛ فهو والله بمعزل عن هذا التحكيم.
وقول ابن حامد: «ولا نجوِّز إثبات الرأس»: قصده في ذلك أن النص لم يأتِ به، ولو جاء النص به؛ لكنَّا أوَّل القائلين به؛ تفاديًا من غضب الله وغضب رسوله r.
وقد قال تعالى: ] فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ[ [النور: الآية 63]، قال الإمام أحمد رحمه الله: «أتدري ما الفتنة؟ الفتنة: الشرك، لعله إذا ردَّ بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك».
فلما لم يأتِ النص بإثبات الرأس لله تعالى، لم يقل به ابن حامد.
وأي عيب في هذا؟!
ومنه يظهر أن إنكار ابن الجوزي ليس في محله؛ لأن ابن حامد أثبت لله وجهًا، وهكذا جاءت النصوص، فمن أنكر على ابن حامد؛ فإنما يرد الآيات والأحاديث الصحاح، وهذا ضلال بعيد وزيغ عظيم، نسأل الله السلامة والعافية.
* قال ابن الجوزي في " دفع شبه التشبيه " (ص113، على قوله تعالى: ]وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي [[طه : الآية 39]، و]وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا[ [هود : الآية 37]).
«قال المفسرون: بأمرنا، أي: بَمرْأى منا.
قال أبو بكر بن الأنباري: أمَّا جمع العين على مذهب العرب في إيقاعها الجمع على الواحد، يقال: خرجنا في السفر إلى البصرة، وإنما جمع؛ لأن عادة الملك أن يقول: أَمَرنا ونهينا.
وقد ذهب القاضي أبو يعلى إلى أن العين صفة زائدة على الذات، وقد سبقه أبو بكر ابن خزيمة، فقال في الآية: لربنا عينان ينظر بهما.(9/99)
قلت: وهذا ابتداع لا دليل لهم عليه، وإنما أثبتوا عينين من دليل الخطاب في قوله عليه الصلاة والسلام: «وإن الله ليس بأعور»، وإنما أراد نفي النقص عنه تعالى، ومتى ثبت أنه لا يتجزأ، لم يكن لما يتخيل من الصفات وجه».
· أقول: الجواب عن هذه الجهالات من وجهين: مجمل ومفصل:
فأمَّا المجْمَل؛ فإنه قد اتفق علماء السلف من الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين على أن الله تعالى لا يُوصف إلا بما وصف به نفسه وبما وصفه به رسوله محمد r؛ دون تحريف أو تعطيل أو تكييف أو تمثيل، واتفقوا أيضًا على أنَّ باب الأسماء والصفات لا يدخله القياس، ولا مجال للقياس فيه، فلا نثبت لله تعالى إلا ما جاء به السمع.
فكان مما جاء به السمع ذِكْر العين لله تعالى مفردة، كما في قوله تعالى: ]وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي [[طه :الآية 39]، وذكرها بلفظ الجمع، كما في قوله تعالى: ]فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا[ [الطور: الآية 48]، وجاءت السنة بذكر العينين لله تعالى.
فكان الواجب على كل مسلم الإيمان بذلك، وإثبات العينين لله تعالى حقيقة، والتسليم والانقياد، وعدم ضرب الأمثال لله تعالى، وترك التحريف وصرف النصوص عن حقائقها بلا برهان.
قال الهروي في كتاب «الأربعين» (ص64، باب إثبات العينين له تعالى وتقدَّس)، وساق بالسند حديث أنس بن مالك رضي الله عنه، قال:
«قال رسول الله r: «ما من نبيٍّ؛ إلا وقد حذَّر أمته الأعور الكذَّاب، ألا إنه أعور، وإن ربكم عزَّ وجل ليس بأعور، مكتوب بين عينيه (ك ف ر)...»، وهذا الحديث رواه الإمام البخاري(13/389) ومسلم (رقم 2933) من طريق شعبة عن قتادة، قال: سمعتُ أنس بن مالك... ورواه أيضًا البخاري (13/389- فتح) ومسلم من طريق نافع عن ابن عمر عن النبي r به».
قال الإمام الدارمي رحمه الله في «رده على بشر المريسي» (ص48): «ففي تأويل قول رسول الله r: «إن الله ليس بأعور»: بيان أنه بصير ذو عينين خلاف الأعور».(9/100)
وقال رحمه الله: «والعور عند الناس ضد البصر، والأعور عندهم ضد البصير بالعينين».
وقال الإمام أبو بكر ابن خزيمة رحمه الله في كتاب «التوحيد» (1/97): «فواجب على كل مؤمن أن يثبت لخالقه وبارئه ما ثبّت الخالق البارئ لنفسه من العين، وغير مؤمن من ينفي عن الله تبارك وتعالى ما قد ثبته الله في محكم تنزيله ببيان النبي r، الذي جعله الله مبينًا عنه عز وجل في قوله: ]وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ[ [النحل: الآية44]، فبيَّن النبي r أن لله عينين، فكان بيانه موافقًا لبيان محكم التنزيل، الذي هو مسطور بين الدفتين، مقروء في المحاريب والكتاتيب..».
وإثبات العينين لله تعالى أمرٌ متفق عليه بين علماء السلف، ومجيئهما في القرآن بلفظ المفرد المضاف إلى الضمير المفرد وبلفظ الجمع المضاف إلى ضمير الجمع لا يدل على أن لله تعالى عينًا واحدة، كما أن لفظ الجمع لا يدل على أن لله تعالى أعينًا متعددة، فيحمل ما جاء بالكتاب على ما وضحته السنة، فيزول الإشكال.(9/101)
قال العلاّمة المحقق ابن القيم رحمه الله في «الصواعق» (1/205): «... فذكرَ العينَ المفردة مضافةً إلى الضمير المفرد، والأعين مجموعة مضافةً إلى ضمير الجمع، وذكرُ العين مفردة لا يدل على أنها عين واحدة ليس إلا، كما يقول القائل: أفعل هذا على عيني، وأجيئك على عيني، وأحمله على عيني... ولا يريد به أنَّ له عيناً واحدة، فلو فهم أحد هذا من ظاهر كلام المخلوق؛ لعُدَّ أخرق، وأمَّا إذا أضيفت العين إلى اسم الجمع ظاهرًا أو مضمرًا؛ فالأحسن جمعها، مشاكلة للفظ، كقوله: ]تَجْرِي بِأَعْيُنِنا[ [القمر: الآية 14]، وقوله: ]وَاصْنَعِ الفُلْكَ بِأَعْيُنِنا[ [هود: الآية 37]، وهذا نظير المشاكلة في لفظ اليد المضافة إلى المفرد، كقوله: ]بِيَدِهِ المُلْكُ[ [الملك: الآية1]، و]بِيَدِكَ الخَيْرُ[ [آل عمران: الآية 26]، وإن أضيفت إلى ضمير جمع؛ جمعت، كقوله: ]أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا[ [يَسَ: الآية 71]، وكذلك إضافة اليد والعين إلى اسم الجمع الظاهر، كقوله: ]بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ[ [الروم: الآية 41]، وقوله: ]قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ[ [الأنبياء: الآية 61].
وقد نطق القرآن والسنة بذكر اليد مضافة إليه سبحانه مفردة ومثناة ومجموعة، وبلفظ العين مضافة إليه مفردة ومجموعة، ونطقت السنة بإضافتها إليه مثناة، كما قال عطاء عن أبي هريرة عن النبي r: «إن العبد إذا قام في الصلاة، قام بين عيني الرحمن، فإذا التفت؛ قال له ربه: إلى من تلتفت؟إلى خير لك مني؟».
وقولُ النبي r: «إن ربكم ليس بأعور»: صريحٌ في أنه ليس المراد إثبات عين واحدة ليس إلاَّ؛ فإن ذلك عور ظاهر، تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا.
وهل يَفْهمُ من قول الداعي: «اللهم! احرسنا بعينك التي لا تنام»: أنها عين واحدة ليس إلا إلاَّ ذهن أقلف وقلب أغلف؟!(9/102)
قال خلف بن تميم: حدثنا عبد الجبار بن كثير، قال: «قيل لإبراهيم ابن أدهم: هذا السبع، فنادى: يا قسورة، إن كنت أمرت فينا بشيء، وإلا (يعني: فاذهب)، فضرب بذنبه، وولى مدبرًا، فنظر إبراهيم إلى أصحابه، وقال: قولوا: اللهم! احرسنا بعينك التي لا تنام، واكنفنا بكنفك الذي لا يرام، وارحمنا بقدرتك علينا، ولا نهلك وأنت الرجاء».
قال عثمان الدارمي: «الأعور ضد البصير بالعينين، وقد قال النبي r في الدجال: «إنه أعور، وإن ربكم ليس بأعور»، وقد احتج السلف على إثبات العينين له سبحانه بقوله: ]تَجْرِي بِأَعْيُنِنا[ [القمر: الآية 14]».
وممن صرح بذلك إثباتًا واستدلالاً أبو الحسن الأشعري في كتبه كلها، فقال في «المقالات» و«الموجز» و«الإبانة»، وهذا لفظه فيها:
«وجملة قولنا أن نقر بالله وملائكته وكتبه ورسله..».
إلى أن قال: «وأن الله مستوٍ على عرشه، كما قال: ]الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى[ [طه : الآية 5]، وأن له وجهًا، كما قال: ]وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ[ [الرحمن: الآية 27]، وأن له يدين، كما قال: ]بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ[ [المائدة: الآية 64]، وقال: ]لِمَا خَلَقْتُ بِيدَيَّ[ [صَ: الآية 75]، وأن له عينين بلا كيف، كما قال: ]تَجْرِي بِأَعْيُنِنا[ [القمر: الآية 14]».(9/103)
فهذا الأشعري والناس قبله وبعده لم يفهموا من الأعين أعينًا كثيرة على وجه، ولم يفهموا من الأيدي أيادي كثيرة على شقٍّ واحد، حتى جاء هذا الجهمي، فعضه القرآن، وادعى أن هذا ظاهره، وإنما قصد هذا وأمثاله التشنيع على من بدَّعه وضلله من أهل السنة والحديث، وهذا شأن الجهمية في القديم والحديث، وهم بهذا الصنيع على الله ورسوله وكتابه يشنعون، ] وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ[ [التوبة: الآية 105]».
وأما الجواب المفصل، فمن وجوه:
الوجه الأول: أن قول ابن الجوزي على قول الله تعالى: ]وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي[ [طه: الآية 39]، وقوله: ]وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا[ [هود: الآية 37]: «قال المفسرون: بأمرنا، أي: بمرأى منا»:
يقال: إنه خطأ من وجهين:
الوجه الأول: أن المفسرين لم يطبقوا على هذا التفسير، وعبارة ابن الجوزي فيها إيهام أن جميع المفسرين يقولون ذلك، وهذا خطأ، فابن جرير مثلاً – وتفسيره يُعد من أجلِّ التفاسير وأشهرها – قال على قول الله تعالى: ]وَاصْنَعِ الفُلْكَ بِأَعْيُنِنا[ [هود: الآية 37]، قال: «بعين الله ووحيه كما يأمرك».
الوجه الثاني: أن تفسير الآيتين بما ذكر ابن الجوزي خطأ؛ إذ لو أراد الله تعالى بقوله: ]وَلِتُصْنَعَ على عَيْنِي[ [طَه: الآية 39]، أي: بأمري، لقال: «ولتصنع بأمري».
وكذلك الآية الأخرى يقال فيها مثل ما قيل في هذه.
وقول من قال: «بمرأى منا»: يقال: لا شك أن ذلك بمرأى من الله تعالى، وهذا من اللوازم، وليس هو معنى الآية، فالواجب أولاً إثبات العينين لله تعالى، ثم لا بأس بعد ذلك بذكر اللوازم من الرؤية ونحو ذلك.
ولكن أهل الأهواء يُفسرون الآيات التي في الصفات بلوازمها، وينفون حقائقها، وهذا عين المحادة لله ورسوله r.(9/104)
وقد ثبت عن ابن عباس في قول الله تعالى: ]واصْنَعِ الفُلْكَ بِأَعْيُنِنا[ [هود: الآية 37]، قال: «بعين الله تبارك وتعالى»، رواه عنه البيهقي في «الأسماء والصفات» (2/41) من طريق محمد بن إسحاق الصاغاني، ثنا حجاج بن محمد، عن ابن جريج، عن عطاء الخراساني، عن عكرمة، عن ابن عباس، به، ورواته كلهم ثقات.
وكذلك قال قتادة: «بعين الله...»، فيما رواه عنه ابن جرير في «تفسير».
وأما قول الجهمي الكوثري في تعليقه على «الأسماء والصفات» على أثر ابن عباس المتقدم، قال: «وفي سند الحديث حجاج المصيصي، اختلط في أواخر عمره، وعطاء ضعفه البخاري، وعكرمة مختلف فيه»، فهو كلام جاهل، ليس له حظ ولا نصيب من هذا العلم، كما أنه لا له حظّ ولا نصيب من معرفة الكتاب والسنة على فهم السلف الصالح:
فقوله: «حجاج المصيصي اختلط في أواخر عمره»: يقال عنه: ذكر ذلك بعض العلماء، كما في ترجمته في «تهذيب الكمال» (5/456) و«تهذيب التهذيب» (2/181).
وهذا لا يؤثر على حديثه مطلقًا؛ لأنه إنما قيل إنه تغير لما رجع إلى بغداد، وحديثه عن ابن جريج ليس من ذلك.
وقد سمع التفسير من ابن جريج إملاءً، كما ذكر ذلك أحمد بن حنبل، قال أحمد: «ولم يكن مع ابن جريج كتاب التفسير، فأملى عليه».
وقد قال يحيى بن معين: «قال لي المعلى الرازي: قد رأيت أصحاب ابن جريج بالبصرة، ما رأيت فيهم أثبت من حجاج»، قال يحيى: «وكنت أتعجب منه، فلما تبينت ذلك، إذا هو كما قال، كان أثبتهم في ابن جريج».
وقال أبو مسلم المستملي: «خرج حجاج الأعور من بغداد إلى الثغر في سنة تسعين ومائة»، قال: «وسألته، فقلت: هذا التفسير سمعته من ابن جريج؟ فقال: سمعت التفسير من ابن جريج، وهذه الأحاديث الطوال، وكل شيء قلت: حدثنا ابن جريج، فقد سمعته».
وأما قوله: «وعطاء ضعَّفه البخاري»، فهذا غير ناهض لتضعيف عطاء الخراساني:(9/105)
فتضعيف البخاري لرجلٍ ما لا يدل على ضعفه مطلقًا، وأنه لا يحتج بحديثه، فقد وثق عطاء أئمة ثقات أثبات لهم قدرهم في هذا الشأن.
قال الإمام أحمد رحمه الله عنه: «ثقة».
وقال ابن معين: «ثقة».
ووثقه أيضًا الدارقطني.
وقال يعقوب بن شيبة: «ثقة، معروف بالفتوى والجهاد».
وقد خرج البخاري لعطاء في «صحيحه» في تفسير سورة نوح، ولكن اختلف العلماء رحمهم الله في عطاء، هل هو ابن أبي رباح أم الخراساني؟ جاء عند عبد الرزاق في «تفسيره» التصريح بأنه الخراساني.
والحاصل أن عطاء الخراساني ممن يحتج بحديثه، كما عليه أكثر أئمة الحديث ونقاده، والله أعلم.
وأما قوله: «وعكرمة مختلَف فيه»: فهذا شغب لا طائل تحته، فالاختلاف في توثيق الراوي ليس تضعيفًا له.
وعكرمة: ثقة حافظ، خرج له البخاري في الأصول، والأربعة، وروى له مسلم مقرونًا، وقد روى عن جماعة من الصحابة.
ووثَّقه ابن معين والنسائي وغيرهما.
وقال الإمام البخاري رحمه الله: «ليس أحدٌ من أصحابنا إلا وهو يحتج بعكرمة».
وقد تكلم بعضهم في حديث عكرمة، فقيل: سبب ذلك لرأي رآه عكرمة، وإلا، فهو حجة في الحديث، والكلام الذي قيل فيه لا يطعن في حديثه، وما كل راوٍ يتكلم فيه يطرح حديثه، فلا بد من النظر والوقوف على كلام الجارح، هل هو مؤثر، أم غير مؤثر؟
والحاصل أن عكرمة حجة في الحديث، وشغب الكوثري ممَّا لا يقام له وزن، ولم يبْنِ كلامه على قواعد وأسس سليمة، إنما يلقي الكلام على عواهنه، فالله المستعان.
الوجه الثاني: أن قول ابن الجوزي: «وقد ذهب القاضي أبو يعلى إلى أنَّ العين صفة زائدة على الذات، وقد سبقه أبو بكر بن خزيمة، فقال في الآية: لربنا عينان ينظر بهما»: يقال عنه:(9/106)
إن مراد القاضي أبي يعلى بقوله: العين صفة زائدة على الذات، أي: زائدة على ما أثبته النفاة؛ لأن النفاة يثبتون لله تعالى ذاتًا مجردة عن الصفات، والسلف يخالفونهم في ذلك، فيثبتون لله تعالى ما أثبته لنفسه وما أثبته له رسوله محمد r مما صحَّت به الأحاديث.
وإن كان اللفظ والقول بأن هذه الصفة زائدة على الذات أو غير زائدة غير مأثور عن النبي r وعن صحابته الكرام، ويحتمل حقًّا ويحتمل باطلاً.
ولكن مراد أهل الإثبات بقولهم: «صفة زائدة على الذات»، أي: زائدة على ما أثبته النفاة، وهذا المعنى حق، خلافًا لأهل البدع الذين ينكرون صفات الله تعالى أو يُحرفونها، ولا يثبتون لله تعالى، لا وجهًا، ولا سمعًا، ولا بصرًا، ولا عينين... ولا غير ذلك من الصفات الذاتية، ولا كثيرًا من الصفات الفعلية، فقد شبهوا معبودهم وربهم بالناقصات، تعالى الله عن قولهم علوًّا كبيرًا.
وأما عيب ابن الجوزي على أبي يعلى وابن خزيمة، فليس في محله، وهذا العيب في الحقيقة إنما يقع على من دلَّ الأمة على أن لله عينين، فليس ابن خزيمة أول من ذكر العينين لله تعالى حتى يخص بالإنكار، ولو تفكر في ذلك أهل الأهواء؛ لعلموا فساد عقولهم وتناقضهم واضطرابهم، ولعلموا أنهم في الحقيقة إنما يطعنون على من جاء بإثبات العينين لله تعالى حقيقة ودعا الناس إلى الإيمان بذلك.
الوجه الثالث: أن قول ابن الجوزي: «وهذا ابتداع لا دليل لهم عليه، وإنما أثبتوا لله عينين من دليل الخطاب في قوله r: «وإن الله ليس بأعور»: يقال عنه: قد تقدم ذكر الأدلة على إثبات العينين لله تعالى، وليس في إثباتهما ابتداع في الدين، إنما الابتداع هو نفيهما عن الله، ووصف الله تعالى بالنقائص، وهذا أصل التعطيل.
وقول ابن الجوزي: «وإنما أثبتوا لله عينين من دليل الخطاب في قوله r: «وإن الله ليس بأعور»: يقال عنه: إن دليل الخطاب في هذا الموضع حجة، وقد أجمع عليه العلماء، وأثبتوا لله عينين.(9/107)
وقد تقدم إثبات الوجه لله تعالى وغيره من الصفات بنصوص قطعية متواترة، ومع ذلك أنكرها ابن الجوزي وصرفها عن ظاهرها بحجج عقلية متهافتة مضطربة، يستحي العاقل من ذكرها، فليس قوله: «من دليل الخطاب»: هو المانع له من إثبات العينين لله تعالى، فالله المستعان.
* قال ابن الجوزي في " دفع شبه التشبيه " (ص114)، على قول الله تعالى: ]لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ[ [ص: الآية 75]:
«اليد في اللغة بمعنى النعمة والإِحسان، قال الشاعر:
مَتَى تُناخِي عِنْدَ بابِ بَنِي هَاشِمٍ
تُرِيْحِي فَتَلْقَيْ مِنْ فَواضِلِهِ يَدا
ومعنى قول اليهود: ]يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ[ [المائدة: الآية 64]، أي: محبوسة عن النفقة، واليدُ: القوة، يقولون: ما لنا بهذا الأمر من يد.
وقوله تعالى: ]بَلْ يَداهُ مَبْسوطَتانِ[ [المائدة: الآية 64]، أي : نعمته وقدرته.
وقوله: ]لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ[ [ص: الآية 75]، أي: بقُدْرتي ونعمتي.
وقال الحسن في قوله تعالى: ]يَدُ اللهِ فوقَ أَيْدِيهِمْ[ [الفتح: الآية10]: «أي: منته وإحسانه».
قلت: هذا كلام المحققين.
وقال القاضي أبو يعلى: «اليدان صفتان ذاتيتان تسميان بالدين» ا هـ.
قلت: وهذا تصرف بالرأي لا دليل عليه.
وقال ابن عقيل: «معنى الآية: لما خلقت أنا، فهو كقوله: ]ذلِكَ بما قَدَّمَتْ يداكَ[ [الحج: الآية10]، أي: بما قدمت أنت».
* أقول مستعينًا بالله تعالى لكشف هذه الأباطيل: الجواب من وجوه:
الوجه الأول: أن الأصل في الكلام أن يحمل على حقيقته، فلا يجوز العدول عن ذلك، إلا إن كانت هناك قرينة تمنع الحمل على الحقيقة.
الوجه الثاني: أن حمل الكلام على ما يجوز في اللغة، وترك ظاهر الكلام، يؤدي إلى خلل ولبس في فهم المراد، ومن ثَمَّ لا يحصل ضبط كلام متكلم إلا بالاستفسار عن مراده ومقصده، وهذا خلاف ما عليه المسلمون قديمًا وحديثًا، وخلاف ما فطر الله عليه الخلق.(9/108)
الوجه الثالث: أن حمل صفات الرب جل وعلا على المعاني اللغوية أو على المجاز دون الحقيقة يقتضي تعطيل الرب جل وعلا عن صفات الكمال، فلا يثبت له علم ولا حياة ولا سمع ولا بصر ولا غير ذلك مما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله محمد r.
الوجه الرابع: أن حمل الكلام على غير حقيقته يقتضي أن الله جل وعلا يخاطب العباد بما لا يفهمون، أو بما ظاهره غير مراد.
الوجه الخامس: أنه وإن جاز في اللغة إطلاق اليد على النعمة أو القوة في بعض المواضع، فلا يصح أن يجعل هذا الإطلاق عامًّا في كل شيء:
فقوله تعالى: ]لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ[ [ص: الآية 75]: لا يصح أن يقال: لما خلقت بقدرتي أو بنعمتي؛ لأن نعم الله متعددة، وليست محصورة في نعمتين، فإن هذا لا يقوله عاقل، قال تعالى: ]وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا[ [إبراهيم: الآية34، النحل: الآية 18].
وأما حمل اليدين في قوله تعالى: ]لما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ[ [ص: الآية 75] على القدرة، فهذا أيضًا فاسد؛ لأن القدرة صفة واحدة، قال تعالى: ]أَنَّ الْقُوَّةَ لِلّهِ جَمِيعًا[ [البقرة: الآية 165].(9/109)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «إن لفظ (اليدين) بصيغة التثنية لم يستعمل في النعمة ولا في القدرة؛ لأنَّ من لغة القوم استعمال الواحد في الجمع، كقوله: ]إِنَّ الإِنسانَ لَفِي خُسْرٍ[ [العصر: الآية 2]، ولفظ الجمع في الواحد، كقوله: ]الَّذينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ...[ [آل عمران: الآية 173]، ولفظ الجمع في الاثنين، كقوله: ]صَغَتْ قُلُوبُكُمَا[ [التحريم: الآية4]، أمَّا استعمال لفظ الواحد في الاثنين، أو الاثنين في الواحد، فلا أصل له؛ لأن هذه الألفاظ عدد، وهي نصوص في معناها، لا يتجوز بها، ولا يجوز أن يقال: عندي رجل، ويعني: رجلين! ولا: عندي رجلان، ويعني به الجنس! لأن اسم الواحد يدل على الجنس والجنس فيه شياع، وكذلك اسم الجمع فيه معنى الجنس، والجنس يحصل بحصول الواحد، فقوله: ]لِمَا خَلَقْتُ بِيَديَّ[ [ص: الآية 75]: لا يجوز أن يراد به القدرة؛ لأن القدرة صفة واحدة، ولا يجوز أن يعبر بالاثنين عن الواحد...».
وممَّا يدل على فساد قول من زعم أن اليدين بمعنى القوَّة: قوله r: «إن المقسطين عند اللهِ، على منابرَ من نور، عن يمين الرحمن عز وجل، وكلتا يديه يمين...»، خرجه مسلم في «صحيحه» (رقم 1827) عند عبد الله بن عمرو.
قال ابن منده في «الرد على الجهمية» (ص 73): «هذا حديث ثابت باتفاق».
فهل يصح يا معطلة أن يقال: وكلتا قوتيه يمين؟!
فهل للقوة يمين؟!
فإن قلتم: نعم، خالفتم أهل العقول، وصرتم مع البله والجهال والحمقى والمغفلين!! وإن قلتم: لا، خصمتم، ووجب عليكم التسليم والانقياد وإثبات اليدين لله تعالى حقيقة، وليس بعد ذلك إلا العناد، وبئس الزاد ليوم المعاد.(9/110)
الوجه السادس: أنَّ قول ابن الجوزي: «ومعنى قول اليهود: ]يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ[ [المائدة: الآية 64]، أي: محبوسة عن النفقة، واليد القوة»: قولٌ غيرُ صحيح، بل هو باطل، ويبطله قوله تعالى بعد ذلك: ]بَلْ يداهُ مَبْسُوطتانِ[ [المائدة: الآية 64]، فلا يصح أن يقال: نعمتاه مبسوطتان؛ لأن نعم الله تعالى ليست محصورة في نعمتين إجماعًا ضروريًّا، فثبت أن المراد: إثبات اليدين لله تعالى حقيقيتين، كما أجمع على ذلك أهل العلم والإيمان، ولا أعلم أحدًا نازع في ذلك إلا أهل البدع والضلال، الذين لم يستضيئوا بالكتاب ولا بالسنة على فهم السلف الصالح.
قال الإمام ابن خزيمة رحمه الله تعالى: «وزعمت الجهمية المعطلة أن معنى قوله: ]بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتانِ[ [المائدة: الآية 64]، أي: نعمتاه، وهذا تبديل لا تأويل.
والدليل على نقض دعواه هذه أنَّ نعم الله كثيرة لا يُحصيها إلا الخالق البارئ، ولله يدان لا أكثر منهما، كما قال لإبليس عليه لعنة الله: ]ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ[ [ص: الآية 75]، فأعلمنا جل وعلا أنه خلق آدم بيديه، فمن زعم أنه خلق آدم بنعمته، كان مبدِّلاً لكلام الله.
وقال الله عز وجل: ]والأرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ القِيامَةِ وَالسَّمَاواتُ مَطْوِيَّاتٌ بَيَمِينِهِ[ [الزمر: الآية 67].
أفلا يعقل أهل الإيمان أن الأرض جميعًا لا تكون قبضة إحدى نعمتيه يوم القيامة، ولا أن السماوات مطويات بالنعمة الأخرى؟!
ألا يعقل ذوو الحجا من المؤمنين أن هذه الدعوى التي يدَّعيها الجهمية جهلٌ أو تجاهلٌ شر من الجهل؟!
بل الأرض جميعًا قبضة ربنا جلَّ وعلا بإحدى يديه يوم القيامة، والسماوات مطويات بيمينه، وهي اليدُ الأخرى، وكلتا يدي ربنا يمين، لا شمال فيهما، جل ربنا وعز عن أن يكون له يسار، إذ كون إحدى اليدين يسارًا إنما يكون من علامات المخلوقين، جل ربنا وعز عن شبه خلقه.(9/111)
وافهم ما أقول من جهة اللغة، تفهم وتستيقن أنَّ الجهمية مبدِّلة لكتاب الله لا متأولة قوله: ]بَلْ يداهُ مَبْسُوطَتانِ[ [المائدة: الآية 64].
لو كان معنى اليد النعمة كما ادعت الجهمية، لقرئت: بل يداه مبسوطة، أو: منبسطة؛ لأن نعم الله أكثر من أن تحصى، ومحال أن تكون نعمه نعمتين لا أكثر، فلما قال الله عز وجل: ]بَلْ يداهُ مَبْسُوطتانِ[ [المائدة: الآية 64]؛ كان العلم محيطًا أنه ثبت لنفسه يدين لا أكثر منهما، وأعلم أنهما مبسوطتان ينفق كيف يشاء.
والآية دالة أيضًا على أن ذكر اليد في هذه الآية ليس معناه النعمة:
حكى الله جل وعلا قول اليهود، فقال: ]وَقَالَتِ اليَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ[، فقال الله عز وجل ردًّا عليهم: ]غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ[، وقال: ]بَلْ يَداهُ مَبْسوطَتانِ[ [المائدة: الآية 64]، وبيقين يعلم كل مؤمن أن الله لم يرد بقوله: ]غُلَّتْ أَيْدِيْهِم[؛ أي: غُلَّت نعمهم، لا، ولا اليهود [أرادوا] أن نعم الله مغلولة، وإنما رد الله عليهم مقالتهم وكذبهم في قولهم: ]يَدُ اللهِ مَغْلولَةٌ[، وأعلم المؤمنين أن يديه مبسوطتان ينفق كيف يشاء...».
الوجه السابع: أن قول ابن الجوزي على قول الله تعالى: ]لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ[ [ص: الآية 75]: «أي: بقدرتي ونعمتي»: باطل من ثلاثة أوجه:
الوجه الأول: أن القوة والنعمة لم تردا بلفظ التثنية.
الوجه الثاني: أنه لو صح ورود القدرة أو النعمة بلفظ التثنية، ففي هذه الآية باطل اتفاقًا؛ لأنه لا يكون لآدم خصيصة على غيره من سائر المخلوقات، فالكل مخلوقون بقدرة الله تعالى، فلا يكون هناك مزية لآدم على غيره، وهذا باطل باتفاق المسلمين:
فعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله r: «احتج آدم وموسى عليهما السلام عند ربهما، فحج آدم موسى، قال موسى: أنت آدم الذي خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه...».(9/112)
فقوله: «خلقك الله بيده»: صريح في تخصيص آدم بذلك، وإلا، لم يكن في قوله: «خلقك الله بيده»: فائدة؛ لأن كل المخلوقات مخلوقة بقدرة الله سبحانه.
وكذلك حديث الشفاعة المخرج في «الصحيحين» من حديث أنس يدل على اختصاص آدم بكونه خلقه بيده، فإن فيه: «يجمع الله الناس يوم القيامة، فيهتمون لذلك، فيقولون: لو استشفعنا على ربنا حتى يريحنا من مكاننا هذا!»، قال: «فيأتون آدم r فيقولون: أنت آدم أبو الخلق، خلقك الله بيده...».
فحمل اليد هنا على القدرة أو النعمة من أعظم الإلحاد والتحريف لكلام النبي r.
فكون المؤمنين يوم القيامة يأتون آدم ويقولون: «أنت أبو البشر، خلقك الله بيده...»: دليل ظاهر وبرهان لا ينازع فيه إلا جهمي على اختصاص آدم عن غيره، وأن الله خصه بكونه خلقه بيديه.
الوجه الثالث: قال العلاَّمة ابن القيم رحمه الله: «إن نفس هذا التركيب المذكور في قوله: ]خَلَقْتُ بِيَدَيَّ[ [ص: الآية 75]: يأبى حمل الكلام على القدرة؛ لأنه نسب الخلق إلى نفسه سبحانه، ثم عدَّى الفعل إلى اليد، ثم ثنَّاها، ثم أدخل عليها الباء التي تدخل على قولك: كتبت بالقلم، ومثل هذا نص صريح لا يحتمل المجاز بوجه.
بخلاف ما لو قال: عملت، كما قال تعالى:]بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ[ [آل عمران: الآية 182]، و]بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ[ [الحج: الآية 10]، فإنه نسب الفعل إلى اليد ابتداء، وخصَّها بالذكر؛ لأنها آلة الفعل في الغالب.
ولهذا؛ لما لم يكن خلقُ الأنعام مساويًا لخلق أبي الأنام، قال تعالى: ]أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِيْنا أَنعاماً[ [يس: الآية 71]، فأضاف الفعل إلى الأيدي، وجمعها، ولم يدخل عليها الباء، فهذه ثلاثة فروق تبطل إلحاق أحد الموضعين بالآخر.
ويتضمنُ التسوية بينهما عدم مزية أبينا آدم على الأنعام، وهذا من أبطل الباطل، وأعظم العقوق للأب، إذ ساوى المعطل بينه وبين إبليس والأنعام في الخلق بالدين..».(9/113)
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في «الفتاوى» (6/366): «.. أما إذا أضاف الفعل إلى الفاعل، وعدَّى الفعل إلى اليد بحرف الباء، كقوله: ]لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ[ [ص: الآية 75]، فإنه نصٌّ في أنه فعل الفعل بيديه؛ ولهذا لا يجوز لمن تكلَّم أو مشى أن يقال: فعلت هذا بيديك، ويقال: هذا فعلته يداك؛ لأن مجرد قوله: فعلت: كافٍ في الإضافة إلى الفاعل، فلو لم يرد أنه فعله باليد حقيقة، كان ذلك زيادة محضة من غير فائدة.
ولستَ تجد في كلام العرب ولا العجم إن شاء الله تعالى أن فصيحًا يقول: فعلت هذا بيدي، أو: فلان فعل هذا بيديه، إلا ويكون فعله بيديه حقيقة، ولا يجوز أن يكون لا يد له، أو أن يكون له يد، والفعل وقع بغيرها».
الوجه الثامن: أن قول ابن الجوزي: «وقال الحسن في قوله تعالى: ]يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ[ [الفتح: الآية 10]، أي: منته وإحسانه، قلت: وهذا كلام المحققين»:
يجاب عنه فيقال: لو فرضنا أنَّ النقل عن الحسن صحيح – ولا أخاله يصح-، فلا يدل على نفي اليدين عن الله تعالى؛ لأن تفسيره هذه الآية باللازم لا يدل على نفيه الصفة عن الله تعالى مطلقًا في كل المواضع كما فعل النفاة من الجهمية والمعطلة والمعتزلة والأشاعرة.
وقول ابن الجوزي: «هذا كلام المحققين»: غير صحيح، فالتحقيق أن هذه الآية تدل كغيرها من الآيات على إثبات صفة اليد الله تعالى حقيقة، وتأويلها بالمنة أو النعمة تأويل لا دليل عليه سوى الظن والتخمين، وكلام المحققين على خلافه.
قال أبو الحسن الأشعري في «الإبانة»: «فإن سئلنا: أتقولون إن لله يدين؟ قيل: نقول ذلك، وقد دل عليه قوله عز وجل: ]يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ[ [الفتح: الآية 10]، وقوله عز وجل: ]لِمَا خَلَقْتُ بَيَدَيَّ[ [ص: الآية 75]».(9/114)
وقال الإمام أبو بكر بن خزيمة رحمه الله في (باب ذكر إثبات اليد للخالق البارئ جل وعلا): «والبيان أن الله تعالى له يدان، كما أعلمنا في محكم تنزيله أنه خلق آدم عليه السلام بيديه، قال عز وجل لإبليس: ]مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ[ [ص: الآية 75]، وقال جل وعلا تكذيبًا لليهود حين قالوا: ]يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ[؛ فكذَّبهم في مقالتهم، وقال: ]بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ[ [المائدة: الآية 64]، وأعلمنا أن: ]وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ[ [الزمر: الآية 67]، و]يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ[ [الفتح: الآية 10]....».
وقال رحمه الله تعالى في (باب ذكر سنة سابعة تثبت يد الله): «والبيان أن يد الله هي العليا، كما أخبر الله في محكم تنزيله: ]يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ[ [الفتح : الآية 10]، فخبر النبي r أيضًا أن: «يد الله هي العليا»، أي: فوق يد المُعْطَى والمعطِي جميعًا».
وهذا الذي ذكره أبو الحسن الأشعري وابن خزيمة في إثبات صفة اليدين لله تعالى حقيقة، أخذًا من نصوص كثيرة من الكتاب والسنة، ومن ذلك قوله تعالى: ]يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ[ [الفتح : الآية 10]: هو الصواب، فإضافة اليد إلى الله في قوله: ]يَدُ اللهِ[: لا تدل إلا على إثبات الصفة حقيقة، ويبطل ذلك تأويلها بالمنة أو الإحسان أو غير ذلك من التأويلات الباطلة.
الوجه التاسع: أن قول ابن الجوزي: «وقال القاضي أبو يعلى: «اليدان صفتان ذاتيتان تسميان باليدين» ا هـ، قلت: وهذا تصرف بالرأي لا دليل عليه»:
يجاب عنه فيقال: إن ما ذكره أبو يعلى رحمه الله من إثبات اليدين لله تعالى هو قول جميع علماء السلف، فلا تثريب على أبي يعلى، فإنه لم ينفرد بهذا القول، ولم يقله برأيه، فقد دلَّ الكتاب والسنة على صحة هذا القول، وعلى فساد ما عداه.(9/115)
وقد قال الإمام الآجري رحمه الله تعالى في كتاب «الشريعة» (ص323): «يقال للجهمي – الذي ينكر أن الله عزَّ وجل خلق آدم بيده -: كفرت بالقرآن، ورددت السنة، وخالفت الأمة..».
أقول: وقد تقدمت الأدلة من القرآن على إثبات اليدين لله تعالى حقيقة في مواضع متفرقة، وأجهزنا على تحريف من حرفها أو تأولها على غير التأويل المأثور عن السلف.
وأمَّا الأحاديث الثابتة عن النبي r في إثبات اليدين لله تعالى حقيقة؛ فهي كثيرة جدًّا:
منها: ما رواه مسلم في «صحيحه» (رقم 2759) عن أبي موسى عن النبي r، قال: «إن الله عز وجل يبسط يَدَهُ بالليلِ ليتوب مُسِيءُ النهار، ويبسط يدَه بالنهار ليتوب مسيءُ الليل، حتى تطلع الشمس من مغربها».
وروى الإمام البخاري في «صحيحه» (3/ 278) من طريق عبد الله بن دينار، عن أبي صالح، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله r: «من تصدَّق بعدل تمرة من كسب طيب – ولا يقبل الله إلا الطيب -، فإن الله يتقبلها بيمينه، ثم يربيها لصاحبها كما يربي أحدكم فَلُوَّهُ، حتى تكون مِثْلَ الجبل».
ورواه الإمام مسلم رحمه الله في «صحيحه» (رقم 1014) من طريق سعيد بن أبي سعيد، عن سعيد بن يسار، أنه سمع أبا هريرة يقول: قال رسول الله r: «ما تصدَّق أحد بصدقة من طيب – ولا يقبل الله إلا الطيب-، إلا أخذها الرحمن بيمينه، وإن كانت تمرة، فتربو في كفِّ الرحمن، حتى تكون أعظم من الجبل؛ كما يربي أحدكم فَلُوَّه أو فصيله».
فقوله: «أخذها الرحمن بيمينه»: ينفي ويبطل تأويل من تأول ذلك بالنعمة أو القدرة.
وفي هذا الحديث أيضًا إثبات الكف لله تعالى.
والحديث قال عنه ابن منده رحمه الله: «ثابت باتفاق، وله طرق عن أبي هريرة...».
وروى الإمام البخاري (8/551- فتح) ومسلم (رقم 2787) واللفظ للبخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله r يقول: «يقبض اللهُ الأرض، ويطوي السماوات بيمينه، ثم يقول: أنا الملك، أين ملوك الأرض؟».(9/116)
وروى الإمام مسلم في «صحيحه» عن عبد الله بن عمر، قال: رأيت رسول الله r على المنبر، وهو يقول: «يأخذ الجبَّار عزَّ وجل سماواته وأرَضيه بيدَيْهِ».
وروى البخاري (13/ 393- فتح) ومسلم (رقم 993) واللفظ للبخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله r قال: «يدُ اللهِ ملأى، لا يغيضها نفقة، سحاء الليل والنهار»، وقال: «أرأيتم ما أنفق منذ خلق الله السماوات والأرض، فإنه لم يغض ما في يده؟»، وقال: «عرشه على الماء، وبيده الأخرى الميزان؛ يخفض ويرفع».
وهذه الأحاديث وما في معناها من الأحاديث الدالة على إثبات اليدين لله تعالى حقيقة ممَّا لم نذكره قد تلقاها أهل المشرق والمغرب بالقبول، وقابلوها بالتسليم، ولم ينكرها منكرٌ منهم، وأنكرها الجهمية وأشباههم، فخالفوا الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة، فكذبوا بالحق، وصدقوا بالباطل.
قال الإمام السجزي في «رسالته لأهل زبيد» (ص 173): «وأهل السنة متفقون على أن لله سبحانه يدين، بذلك ورد النص في الكتاب والأثر، قال الله تعالى: ]لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ[ [ص: الآية 75]، وقال النبي r: «وكلتا يدي الرحمن يمين...».
وتأويل من تأول اليدين بمعنى القدرة أو النعمة جهل وضلال.
قال الإمام الدارمي رحمه الله في «رده على بشر المريسي» (ص 33) بعد أن ذكر جملة من الأدلة على إثبات اليدين لله تعالى:
«وفي هذا الباب أحاديث كثيرة تركناها مخافة التطويل، وفيما ذكرنا من ذلك بيان بيِّن ودلالة ظاهرة في تثبيت يدي الله أنهما على خلاف ما تأوَّله هذا المريسي الضال، الذي خرج بتأويله هذا من جميع لغات العرب والعجم، فليعرض هذه الآثار رجلٌ على عقله: هل يجوز لعربي أو عجمي أن يتأول أنها أرزاقه وحلاله وحرامه؟!(9/117)
وما أحسب هذا المريسي إلا وهو على يقين من نفسه أنها تأويل ضلال ودعوى محال، غير أنه مكذب الأصل، متلطف لتكذيبه بمحال التأويل، كيلا يفطن لتكذيبه أهل الجهل، ولئن كان أهل الجهل في غلط من أمره، إن أهل العلم منه لعلى يقين، فلا يظنن المنسلخ من دين الله أنه يغالط بتأويله هذا إلا من قد أضله الله، وجعل على قلبه وسمعه وبصره غشاوة.
ثم إنَّا ما عرفنا لآدم من ذريته ابنًا أعق ولا أحسد منه، إذ ينفي عنه أفضل فضائله وأشرف مناقبه، فيسوِّيه في ذلك بأخس خلق الله؛ لأنه ليس لآدم فضيلة أفضل من أن الله خلقه بيده من بين خلائقه، ففضَّله بها على جميع الأنبياء والرسل والملائكة، ألا ترون موسى حين التقى مع آدم في المحاورة، احتج عليه بأشرف مناقبه، فقال: «أنت الذي خلقك الله بيده»، ولو لم تكن هذه مخصوصة لآدم دون مَنْ سواه، ما كان يخصه بها فصيلة دون نفسه، إذ هو وآدم في خلق يدي الله سواء في دعوى المريسي، فلذلك قلنا: إنه لم يكن لآدم ابن أعق منه، إذ ينفي عنه ما فضَّله الله به على الأنبياء والرسل والملائكة المقربين..».
الوجه العاشر: أنَّ قول ابن الجوزي: «وقال ابن عقيل: معنى الآية: لما خلقتُ أنا، فهو كقوله: ]ذلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ[ [الحج: الآية 10]، أي: بما قدَّمتَ أنت»: يجاب عنه بأن يقال:
لا إله إلا الله واللهُ أكبر! ما أعظم هذا التحريف وأقبحه وأبشعه! وواللهِ؛ ما يرضى الله ولا رسوله r بمثل هذا التحريف الباطل، ومعنى الآية ظاهر وواضحٌ كل الوضوح، لا خفاء به ولا لبس، ففيها إثبات اليدين لله تعالى حقيقة.(9/118)
وزعم أن المعنى: «لما خلقت أنا»: تكلفٌ وصرف للمعنى الصحيح بلا برهان، فدخول الباء في قوله تعالى: ]لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ[ [ص: الآية 75]: نص صريح في أن الله جلَّ وعلا خلق آدم بيديه حقيقة، واليدان من صفات الرب جل وعلا الذاتية، ولو كان المعنى على ما تقول المعطلة: لما خلقت أنا!! لما كان لآدم خصِّيصة على غيره، ولكان قول موسى لآدم: «أنت الذي خلقك الله بيده»: لا معنى له، ومثلُ هذا ينزه عنه موسى كليم الرحمن.
وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في «الفتاوى» (6/ 366): «ولا يجوز أن يكون: لما خلقت أنا؛ لأنهم إذا أرادوا ذلك أضافوا الفعل إلى اليد، فتكون إضافته إلى اليد إضافة له إلى الفاعل، كقوله: ]بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ[ [الحج: الآية 10]، و]قَدَّمَتْ أَيْدِيْكُمْ[ [آل عمران: الآية 183]، ومنه قوله: ]مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِيْنا أَنْعامًا[ [يس: الآية 71]...».
* قال ابن الجوزي في " دفع شبه التشبيه " (ص 118، على قول الله تعالى: ]يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ[ [القلم: الآية 42]):
«قال ابن عباس ومجاهد وإبراهيم النخعي وقتادة وجمهور العلماء: يكشف عن شدَّة، وأنشدوا: وقامت الحرب بنا على ساق، وقال آخرون: إذا شمرت عن ساقها الحرب شمَّرا، قال ابن قتيبة: وأصل هذا أنَّ الرجل إذا وقع في أمرٍ عظيم يحتاج إلى معاناة الجد فيه، شمر عن ساقه، فاستعيرت الساق في موضع الشدَّة، وبهذا قال الفراء وأبو عبيد وثعلب واللغويون، وروى البخاري ومسلم في «الصحيحين» عن النبي r: «إن الله عز وجل يكشف عن ساقه»: هذه إضافة إليه، معناها: يكشف عن شدَّته وأفعاله المضافة إليه، ومعنى «يكشف عنها»: يزيلها...».
قال ابن الجوزي: «وقد ذهب القاضي أبو يعلى إلى أن الساق صفة ذاتية، وقال مثله في «يضع قدمه في النار»...».
قال ابن الجوزي: «قلت: وذكرُ الساق مع القدم تشبيه محض...».
* أقول: وجواب هذا الكلام من وجهين: مجمل، ومفصل:(9/119)
فأمَّا المجمل، فإنه يقال: إن الرسول r قد بلَّغ البلاغ المبين، وأدَّى الأمانة، ونصح الأمة، وليس هناك شيء العناية بتبيينه أعظم من العناية ببيان أسماء الله وصفاته، فمن ثَمَّ كان بيان هذا الباب أعظم من بيان الأحكام؛ لأن معرفة الله تعالى بأسمائه وصفاته أساس الإيمان، وقد كان النبي r يُبين هذا الباب بيانًا عامًّا، فعلمه الخاص والعام، ولم يستنكر أحد منهم شيئًا من هذا الباب، ولم يقع في أذهانهم ولا في ذهن واحد منهم أن إثبات صفات الرب جلَّ وعلا يقتضي مماثلة الخالق بالمخلوق، كما وقع هذا الفهم الفاسد في قلوب الجهمية وأضرابهم من أهل الإفك والضلال والتنطع في دين الله جل وعلا.
وتعالى الله عن أن تكون صفاته مثل صفات خلقه، ولكن أهل الأهواء والضلال لا يفهمون من صفات الخالق إلا ما يفهمون من صفات المخلوق.
وقد اتفق علماء السلف على إثبات ما أثبته الله لنفسه أو أثبته له رسوله محمد r؛ إثباتًا بلا تمثيل، وتنزيهًا بلا تعطيل، ]لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءُ وَهُوَ السَّميعُ البَصيرُ[ [الشورى: الآية11]، فمن شبَّه الله بخلقه، فهو كافر، ومن جحد ما وصف الله به نفسه أو وصفه به رسوله محمد r؛ فهو كافرٌ أيضًا.
ومما لا نزاع فيه بين علماء السلف أنه ليس في إثبات الصفات لله جل وعلا تشبيه ولا تمثيل، إنما التمثيل والتشبيه يقع ممن نفى عن الله تعالى ما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله r.(9/120)
ومن الصفات التي يُوصف به الرب جل وعلا وشرق بها أهلُ البدع ولم يثبتوها لله تعالى صفة الساق، زاعمين أن إثباتها يقتضي تشبيهًا للخالق بالمخلوق، وهذا ضلال عظيم، وإفك مبين، فلا يصف الله تعالى أحد أعلم من رسوله r، وقد دلّت سنته الصحيحة التي لا معارض لها ولا مضاد أن الساق يثبت لله تعالى، فكما أننا نثبت لله تعالى ذاتًا لا تشبه الذوات، كذلك نقول في صفات الله تعالى، كالساق وغيرها: إنها لا تشبه الصفات؛ لأن الله جل وعلا ليس كمثله شيء، لا في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله، فنثبت لله تعالى الصفات، وننفي عنه مماثلة المخلوقات، وهذا حقيقة الإيمان، والبراءة من أهل التحريف والبطلان، فلا ننفي عن الله تعالى صفة صحَّت بها النصوص كالساق من أجل دعوى المعطلين أن هذا يقتضي تشبيهاً، بل نثبت لله تعالى الصفات على ما جاء بالكتاب والسنة، وننعى عليهم ونجهلهم ونضللهم لمخالفتهم لكتاب ربهم وسنة نبيهم r.
قال تعالى: ]يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ[ [القلم: الآية 42]، أي: يكشف الله عز وجل عن ساقه.
وما جاء عن ابن عباس، أنه قال: «يريد القيامة والساعة لشدَّتها»، فقد ضعَّفه بعض العلماء وصححه آخرون.
ومن أمثل أسانيد ما جاء عن ابن عباس ما رواه الفرَّاء في كتابه «معاني القرآن» (3/177)، قال: «حدثني سفيان، عن عمرو بن دينار، عن ابن عباس، أنه قرأ: ]يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ[ [القلم: الآية 42]، يريد القيامة والساعة لشدَّتها..».
وهذا التفسير من ابن عباس للآية لا تقوم به حجة، لثبوت النص عن النبي r في تفسير الآية بما يخالف ما قاله ابن عباس رضي الله عنه؛ لأن الآية تدل على إثبات صفة الساق لله تعالى على القول الصحيح.(9/121)
يدل على ذلك ما رواه الدارمي في «سننه» (2/326) من طريق ابن إسحاق، قال: أخبرني سعيد بن يسار، قال: سمعت أبا هريرة يقول: سمعت رسول الله r يقول: «إذا جمع الله العباد بصعيد واحد، نادى منادٍ: يلحق كل قوم بما كانوا يعبدون، فيلحق كلُّ قوم بما كانوا يعبدون، ويبقى الناس على حالهم، فيأتيهم، فيقول: ما بالُ الناس ذهبوا وأنتم هاهنا؟ فيقولون: ننتظر إلهنا، فيقول: هل تعرفونه؟ فيقولون: إذا تعرف إلينا، عرفناه، فيكشف لهم عن ساقه، فيقعون سجودًا، وذلك قول الله تعالى: ]يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ[ [القلم: الآية 42]، ويبقى كل منافق، فلا يستطيع أن يسجد، ثم يقودهم إلى الجنة...».
سنده حسن، فإن محمد بن إسحاق صدوق، وحديثه من قبيل الحسن إذا صرَّح بالسماع، وهنا صرَّح بالسماع، وباقي رجاله ثقات، سمع بعضهم من بعض.
والحديث صريح في إثبات صفة الساق لله تعالى، وإبطال سائر التأويلات التي قيلت على الآية، فقوله: «فيكشف لهم عن ساقه»: صريح في إثبات الساق لله؛ لأنه لا يجوز أن يكون المراد هنا بالساق: الشدَّة قطعًا.
وقوله: «وذلك قول الله تعالى: ]يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ..[ [القلم: الآية 42]»: ظاهر في أن المراد بالآية: إثبات الساق لله تعالى.
يؤيده ما رواه الدارمي في «الرد على الجهمية» (ص 40) من طريق أبي عوانة، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله r: «]يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ[ [القلم: الآية42]». قال: «يكشف الله عزَّ وجلَّ عن ساقه».
فهذا التفسير من النبي r لمعنى الآية يبطل جميع الأقوال المخالفة لهذا القول، ويدل دلالة صريحة على أنَّ الآية من آيات الصفات، وأن المراد منها: إثبات صفة الساق لله جل وعلا.
وجاءَت الأحاديث مؤيدة لهذا القول، ودالة على إثبات الساق لله تعالى.(9/122)
قال الإمام أبو عبد الله البخاري رحمه الله تعالى في «صحيحه» (8/ 663 – الفتح، باب يوم يكشف عن ساق): حدثنا آدم، حدثنا الليث، عن خالد بن يزيد، عن سعيد بن أبي هلال، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد رضي الله عنه، قال: سمعت النبي r يقول: «يكشف ربنا عن ساقه، فيسجد له كل مؤمن ومؤمنة، ويبقى من كان يسجد في الدنيا رئاء وسمعة، فيذهب ليسجد، فيعود ظهرهُ طبقًا واحدًا».
ورواه الإمام مسلم رحمه الله في «صحيحه» (3/ 25-27 – نووي) بلفظ: «فيكشف عن ساق»، والمعنى واحد على كلا اللفظين.
وروى عبد الله ابن الإمام أحمد في كتاب «السنة» (1/ 520) والطبراني في «الكبير» (9/ 417) من طريق زيد بن أبي أنيسة، عن المنهال بن عمرو، عن أبي عبيدة بن عبد الله، عن مسروق بن الأجدع، قال: حدثنا عبد الله بن مسعود، عن النبي r؛ قال:
«يجمع اللهُ الأوَّلين والآخرين لميقات يومٍ معلوم، قيامًا، أربعين سنة، شاخصة أبصارُهم إلى السماء، ينتظرون فصل القضاء».
قال: «فينزل الله عز وجل في ظللٍ من الغمام من العرش إلى الكرسي، ثم ينادي منادٍ: أيُّها الناس! ألم ترضوا من ربكم الذي خلقكم ورزقكم وأمركم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئًا أن يولي كل إنسان منكم ما كان يتولى ويعبد في الدنيا؟ أليس ذلك عدلاً من ربكم؟ قالوا: بلى، قال: فلينطلق كل قوم إلى ما كان يعبدون ويتولون في الدنيا».
قال: «فينطلقون، ويمثل لهم أشباه ما كانوا يعبدون، فمنهم من ينطلق إلى الشمس، ومنهم من ينطلق إلى القمر، وإلى الأوثان، والحجارة، وأشباه ما كانوا يعبدون».
قال: «ويمثل لمن كان يعبد عيسى شيطان عيسى، ويمثل لمن كان يعبد عُزيرًا شيطان عُزير، ويبقى محمد r وأمته».(9/123)
قال: «فيتمثل الرب جلَّ وعزَّ، فيأتيهم، فيقول لهم: ما لكم لا تنطلقون كما انطلق الناس؟ يقولون: إنَّ لنا إلهًا، فيقول: وهل تعرفونه إن رأيتموه؟ فيقولون: بيننا وبينه علامة، إذا رأيناه، عرفناها، فيقول: ما هي؟ يقولون: يكشف عن ساقه».
قال: «فعند ذلك يكشف الله عن ساقه، فيخر كل من كان بظهره طبق، ويبقى قوم ظهورهم كصياصي البقر، يُدعون إلى السجود فلا يستطيعون، وقد كانوا يُدعون إلى السجود وهم سالمون..» الحديث.
وسنده ممَّا تقوم به الحجة.
وقد قال الذهبي رحمه الله في كتابه «العلو» (ص 73): «إسناده حسن».
وقال في «الأربعين» (ص122): «وهو حديث صحيح».
والحديث رواه الحاكم في «مستدركه» (4/ 589) وابن خزيمة في كتاب «التوحيد» (2/ 583-584) كلاهما من طريق أبي خالد الدالاني، ثنا المنهال بن عمرو، عن أبي عبيدة، عن مسروق، عن عبد الله بن مسعود، به.
وقال الحاكم عقبه: «رواة هذا الحديث عن آخرهم ثقات، غير أنهما لم يخرجا أبا خالد الدالاني في «الصحيحين»، لما ذكر في انحرافه عن السنة في ذكر الصحابة، فأمَّا الأئمة المتقدمون، فكلهم شهدوا لأبي خالد بالصدق والإتقان، والحديث صحيح، ولم يخرجاه، وأبو خالد الدالاني ممن يجمع حديثه في أئمة أهل الكوفة».
أقول: وقد تُوبع الدالاني في الرواية عن المنهال، تابعه زيد بن أبي أنيسة – كما تقدم – عند عبد الله بن أحمد والطبراني.
وزيد ثقة، وثقة ابن معين وابن سعد وغيرهما.
فمنه يتبين ثبوت الحديث وحجيته.
وقد صححه المنذري رحمه الله في «الترغيب والترهيب» بعدما عزاه لابن أبي الدنيا والطبراني.(9/124)
وروى ابن خزيمة رحمه الله في كتاب «التوحيد» (2/ 428-429) من طريق سفيان، قال: ثنا مسلمة – وهو ابن كهيل -، عن أبي الزعراء، قال: ذكروا الدجال عند عبد الله، قال: «تفترقون أيُّها الناس عند خروجه ثلاث فرق...»، فذكر الحديث بطوله، وقال: «ثم يتمثل الله للخلق، فيلقى اليهود، فيقول: من تعبدون؟ فيقولون: نعبد الله لا نشرك به شيئًا، فيقول: هل تعرفون ربكم؟ فيقول: سبحانه، إذا اعترف لنا، عرفناه، فعند ذلك يكشف عن ساق، فلا يبقى مؤمن ولا مؤمنة إلا خرَّ لله سجدًا».
وهذا موقوف حسن، وله حكم الرفع، إذ لا مجال للاجتهاد.
والحاصل أن إثبات صفة الساق لله تعالى أمر مقطوع به؛ لثبوت النصوص الصريحة في ذلك عن النبي r وعن جماعة من الصحابة، والله أعلم.
وأما الجواب المفصَّل، فمن وجوه:
الوجه الأول: أن ما نقله ابن الجوزي عن جمهور العلماء من أنهم قالوا في قوله تعالى : ]يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ[ [القلم: الآية 42]، «أي: يكشف عن شدَّة»: قولٌ غير صحيح، ومن قرأ الكتب المصنفة في السنَّة، علم خطأ هذا القول وبطلانه.
الوجه الثاني: أننا لو فرضنا صحة ما نقله ابن الجوزي عن الجمهور، فلا يدل هذا على صحة قولهم وبطلان ما عداه، فليس كلُّ قول يذهب إليه الجمهور يكون صوابًا، فإن الحق لا يعرف بالكثرة، إنما يعرف بالأدلة والبراهين، وقد أوردنا فيما تقدم أدلة صحيحة لا معارض لها تدل على إثبات صفة الساق لله تعالى.
ثم إنه يقال أيضًا: لو صحَّ ما زعمه ابن الجوزي، فلا يدل أيضًا على نفي الجمهور صفة الساق عن الله تعالى، وإنما هو أمرٌ ظهر لهم في معنى الآية ليس غير، بخلاف أهل البدع، فلا يثبتون لله تعالى صفة الساق مطلقًا، لا من الكتاب، ولا من السنة.(9/125)
الوجه الثالث: أن تفسير الساق بالشدة غير صحيح، يبطله ما رواه ابن منده في «الرد على الجهمية» (ص 37) من طريق عبد الرزاق، أنبا الثوري، عن مسلمة بن كهيل، عن أبي الزعراء، عن ابن مسعود، في قوله جلَّ وعز: ]يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ[ [القلم: الآية 42]، قال: «عن ساقيه».
قال أبو عبد الله: «هكذا في قراءة ابن مسعود، و]يكشف[: بفتح الياء وكسر الشين».
فلا يصح أن يقال: يكشف عن شدتيه!!
الوجه الرابع: أن لغة القوم في مثل ذلك أن يقال: كُشِفَت الشدَّة عن القوم لا كُشِف عنها! كما قال الله تعالى: ]فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ[ [الزخرف: الآية 50]، وقال: ]وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِم مِّن ضُرٍّ[ [المؤمنون: الآية 75]، فالعذاب والشدَّة هو المكشوف لا المكشوف عنه.
وأيضًا، فهناك تحدث الشدَّة وتشتد، ولا تزال إلا بدخول الجنة، وهناك لا يُدعون إلى السجود، وإنما يُدعون إليه أشدَّ ما كانت الشدة».
الوجه الخامس: قال شيخ الإسلام رحمه الله في «نقض أساس التقديس» (الجزء الثالث): «إن هؤلاء يتأولون كشفه عن ساق بأنه إظهار الشدَّة، وفي نفس هذه الأحاديث أنه إذا أتاهم في الصورة التي يعرفون، يكشف لهم عن ساقه، فيسجدون له، فإذا تأوَّلوا مجيئه في الصورة التي يعرفون على إظهار رحمته وكرامته، كان هذا من التحريف والتناقض في تفسير الكتاب والسنة».
الوجه السادس: أن الأصل في الألفاظ أن تحمل على الحقيقة حتى يَرِد ما يخرجها عن ذلك، فقوله جلَّ وعلا: ]يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ[ [القلم: الآية 42]، دليل على إثبات الساق لله تعالى إثباتًا بلا تمثيل وتنزيهًا بلا تعطيل؛ لأن الله جل وعلا ]لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ[ [الشورى: الآية 11].(9/126)
فحقيقة اللفظ إثبات الساق لله تعالى، فلا يعدل عن ذلك إلا بدليل، وليس عند أهل البدع من الأدلة سوى دعوى مشابهة المخلوق للخالق، ولو عقلوا، لعلموا أن قولهم هو التشبيه.
الوجه السابع: أن قول ابن الجوزي على قوله r: «إن الله عز وجل يكشف عن ساقه»: «هذه إضافة إليه، معناها: يكشف عن شدته»: قولٌ مردود، مخالف لمذهب السلف، وتحريف للكلم عن مواضعه.
فالحديث على ظاهره فيه إثبات الساق لله تعالى، فيجب إثباته كإثبات سائر صفاته، دون تحريف أو تعطيل، أو تكييف أو تمثيل.
وهذا حقيقة الإيمان: إثبات ما أثبته الله لنفسه، ونفي ما نفاه الله عن نفسه.
الوجه الثامن: أن ابن الجوزي قال: «وقد ذهب القاضي أبو يعلى إلى أنَّ الساق صفة ذاتية، وقال مثله في: «يضع قدمه في النار»، قلت (القائل ابن الجوزي): وذكر الساق مع القدم تشبيه محض».
أقول: وهذا الكلام ليس فيه شيء من الهداية، بل هو ظلمات بعضها فوق بعض:
فقوله: «وقد ذهب القاضي أبو يعلى إلى أن الساق صفة ذاتية»:
أقول: هذا حق، فإن الأدلة كتابًا وسنة تدل عليه، فمن أنكره، فإنما ينكر على النبي r وعلى الصحابة الذين نقلوا لنا ذلك.
وقوله: «وقال مثله في: «يضع قدمه في النار»:
أقول: وهذا أيضًا من الحق الذي يجب اعتقاده والتسليم له، فإن القدم صفة من صفات الله تعالى الذاتية، التي يجب الإيمان بها، دون تحريف أو تعطيل، ودون تكييف أو تمثيل.
ففي «صحيح البخاري» (8/ 594 – فتح، و13/ 368 – فتح) ومسلم (رقم 2848) عن أنس رضي الله عنه عن النبي r، قال: «لا تزالُ جهنم تقول: هل من مزيد؟ حتى يضع فيها ربُّ العزَّة تبارك وتعالى قدمه، فتقول: قط! قط! وعزَّتك، ويزوي بعضها إلى بعض».
قوله: «قدمه»: الهاء تعود على الرب جل وعلا.
والحديث صحيح صريح في إثبات صفة القدم لله تعالى.(9/127)
وروى الإمام البخاري رحمه الله في «صحيحه» (8/ 595- فتح) ومسلم (رقم 2846) عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال النبي r: «تحاجَّت الجنة والنار، فقالت النار: أوثرتُ بالمتكبِّرين والمتجبِّرين، وقالت الجنة: ما لي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس وسقطهم؟ قال الله تبارك وتعالى للجنَّة: أنت رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي، وقال للنار: إنما أنتِ عذاب أُعذِّب بك من أشاء من عبادي، ولكل واحدة منهما ملؤها: فأما النار، فلا تمتلئ حتى يضع رجله، فتقول: قط قط قط، فهنالك تمتلئ، ويزوي بعضها إلى بعض، ولا يظلم الله عزَّ وجلَّ من خلقه أحدًا، وأمَّا الجنة، فإن الله عز وجل ينشئ لها خلقًا».
وروى: ابن أبي شيبة في كتاب «العرش وما رُوي فيه» (ص79)، والدارمي في «رده على بشر المريسي» (ص67)، وعبد الله ابن الإمام أحمد في كتاب «السنة» (1/301)، والدارقطني في «الصفات» (ص49)، والحاكم في «مستدركه» (2/ 282)، وغيرهم، بسند صحيح عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، قال: «الكرسي موضع قدميه، والعرش لا يقدر قدره».
قال الإمام الدارمي رحمه الله في «نقضه»: «صحيح مشهور».
وقال الحاكم: «هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يُخرجاه».
وهذا الأثر له حكم الرفع؛ لأنه أمر غيبي، لا يقال من قبل الرأي، ولا مجال للاجتهاد فيه.
فيؤخذ منه إثبات القدمين لله تعالى، فنثبت ذلك لله تعالى، ونؤمن بأن الله جل ذكره ]لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ[ [الشورى: الآية11].
قال أحمد بن حنبل: «أحاديث الصفات تمر كما جاءت».
فمن حرفها وتأولها، فقد سلك مسلك النفاة الجهمية، ومن أنكرها، فهو على شفا جرفٍ هارٍ.
قال الإمام الثقة حماد بن سلمة – وقد كان من أشد الناس في زمانه على أهل البدع -: «من رأيتموه ينكر هذه الأحاديث، فاتهموه على الدين».(9/128)
وقال الإمام عبد الرحمن بن مهدي رحمه الله تعالى – وذكر عنده أن الجهمية ينفون أحاديث الصفات، ويقولون: الله أعظم من أن يوصف بشيء من هذا!! فقال عبد الرحمن بن مهدي: «قد هلك قوم من وجه التعظيم، فقالوا: الله أعظم من أن ينزل كتابًا أو يُرسل رسولاً، ثم قرأ: ]وَمَا قَدَرُواْ اللّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُواْ مَا أَنزَلَ اللّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ[ [الأنعام: الآية 91]».
ثم قال: «هل هلكت المجوس إلا من جهة التعظيم؟ قالوا: الله أعظم من أن نعبده! ولكن نعبد من هو أقرب إليه منا، فعبدوا الشمس، وسجدوا لها، فأنزل الله عزَّ وجلَّ: ]وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَى[ [الزمر: الآية 3]».
وأمَّا قول ابن الجوزي: «وذكر الساق مع القدم تشبيه محض»، فهذا قول جاهل لا يفهمُ من صفات الخالق إلا ما فهمه من صفات المخلوق، وقد تقدم إبطال هذا القول العليل الفاسد، الناشئ من التشبيه الخالص، فالله المستعان.
* قال ابن الجوزي (ص 120):
«قال ابن حامد: يجب الإيمان بالله لله تعالى ساقًا صفةً لذاته، فمن جحد ذلك كفر.
قلت: ولو تكلم بهذا عامي جلف كان قبيحًا، فكيف بمن ينسب إلى العلم؟! فإن المتأولين أعذر منهم؛ لأنهم ردوا الأمر إلى اللغة، وهؤلاء أثبتوا ساقًا للذات وقدمًا، حتى يتحقق التجسيم والصورة».
* أقول:
هذا الكلام يجاب عنه من وجوه:
الوجه الأول: أن قول ابن حامد: «يجب الإيمان بأن لله تعالى ساقًا صفة لذاته»: قول صحيح، والأدلة من الكتاب والسنة تؤيده وتنصره، والمخالف في ذلك مستحق للذم؛ لأنه لم يثبت لله تعالى ما أثبته لنفسه وما أثبته له رسوله محمد r.(9/129)
قال تعالى: ]فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا[ [النساء: الآية 65]، فليس – والله – لمن عطَّل الله عن أسمائه وصفاته أو حرَّفها حظ ولا نصيب من هذا التحكيم المأمور به.
الوجه الثاني: أن إنكار ابن الجوزي على ابن حامد في قوله: «فمن جحد ذلك كفر»: إنكار في غير محله؛ لأن من أنكر آية من كتاب الله، فقد أنكر الكتاب كلَّه وكفر بذلك، ومن أنكر حديثًا عن النبي r، فقد أنكر الحديث كلَّه وضلَّ ضلالاً بعيدًا، وكلام العلماء كثير في ذلك.
وقد ذمَّ الله تعالى الذين يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض، قال تعالى: ]أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاء مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ[ [البقرة: الآية 85].
قال الإمام البربهاري رحمه الله: «ومن ردَّ حديثًا عن رسول الله r؛ فقد ردَّ الأثر كله، وهو كافرٌ بالله العظيم».
وقال الإمام إسحاق بن راهويه: «مَن بلغه عن رسول الله r خبر يقر بصحته، ثم ردَّه بغير تقية، فهو كافر».
ذكره أبو محمد بن حزم رحمه الله في كتابه «الإحكام» (1/ 97) عن محمد بن نصر المروزي عنه.
وقال أبو معمر الهذلي: «من زعم أن الله لا يتكلم ولا يبصر ولا يسمع ولا يعجب ولا يضحك ولا يغضب... (وذكر أحاديث الصفات)، فهو كافرٌ بالله، ومن رأيتموه على بئر واقفًا، فألقوه فيها».
وهذا كله في تكفير العموم، وأنَّ من قال كذا، فحكمه كذا، ولا يلزم منه تكفير المعيَّن، حتى تقوم عليه الحجة؛ لأن الجاهل والمتأوِّل لهما حكمهما.(9/130)
وما تقدَّم ذكره عن الأئمة يمكن حمله أيضًا على المصر بالباطل، المعاند، المعرض عن أدلة الكتاب والسنة، الصادّ عنهما.
قال العلامة ابن القيم رحمه الله في «الكافية الشافية في الانتصار للفرقة الناجية» (ص127):
واشْهَدْ عَلَيْهِمْ أَنَّهُمْ لاَ يُكْفِرو
إِذْ أَنْتُمُ أَهْلُ الجَهَالَةِ عِنْدَهُمْ
لا تَعْرِفُونَ حَقِيقَةَ الكُفْرانِ بَلْ
إِلاَّ إذَا عانَدْتُمُ وَرَدَدْتُمُ
فَهُناكَ أَنْتُمْ أَكْفَرُ الثَّقَلَيْنِ مِنْ
نَكُمُ بِما قُلْتُمْ مِنَ الكُفْرانِ
لَسْتُمْ أُوْلِي كُفْرٍ وَلا إِيْمانِ
لا تَعْرِفُونَ حَقِيقَةَ الإِيْمانِ
قَوْلَ الرَّسولِ لأِجْلِ قَوْلِ فُلانِ
إِنْسٍ وَجِنٍّ ساكِنِي النِّيرانِ
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في «المنهاج» (5/ 240): «قد ينقل عن أحدهم أنه كفَّر من قال بعض الأقوال، ويكون مقصوده: أن هذا القول كفر، ليحذر، ولا يلزم إذا كان القول كفرًا أن يُكفَّر كل من قاله مع الجهل والتأويل، فإن ثبوت الكفر في حق الشخص المعين كثبوت الوعيد في الآخرة في حقه، وذلك له شروط وموانع...».(9/131)
وقال رحمه الله في «المسائل الماردينية» (ص71): «وحقيقة الأمر في ذلك أنَّ القول قد يكون كفرًا، فيطلق القول بتكفير صاحبه، فيقال: من قال كذا، فهو كافر. لكن الشخص المعين الذي قاله لا يحكم بكفره حتى تقوم عليه الحجة التي يكفر تاركها، وهذا كما في نصوص الوعيد، فإن الله سبحانه وتعالى يقول: ]إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا[ [النساء: الآية10]، فهذا ونحوه من نصوص الوعيد حق، لكن الشخص المعين لا يشهد عليه بالوعيد، فلا يشهد لمعيَّن من أهل القبلة بالنار؛ لجواز أن لا يلحقه الوعيد؛ لفوات شرط، أو ثبوت مانع، فقد لا يكون التحريم بلغه، وقد يتوب من فعل المحرم، وقد تكون لهن حسنات عظيمة تمحو عقوبة ذلك المحرم، وقد يُبتلى بمصائب تكفِّر عنه، وقد يشفع فيه شفيع مطاع، وهكذا الأقوال التي يكفر قائلها، قد يكون الرجل لم تبلغه النصوص الموجبة لمعرفة الحق، وقد تكون بلغته ولم تثبت عنده، أو لم يتمكن من فهمها، وقد يكون عرضت له شبهات يعذره الله تعالى بها...».
الوجه الثالث: أن قول ابن الجوزي: «فإن المتأولين أعذر منهم؛ لأنهم ردوا الأمر إلى اللغة»: يقال عنه:
إن صرف المتأوِّلين الكلام عن حقيقته وردهم الأمر إلى اللغة في كل شيء ليس منهجًا مستقيمًا ولا مسلكًا صحيحًا، بل هو تحريف للكلم عن مواضعه.
وفي كثير من صفات الله تعالى يزعم أهل التعطيل أن اللغة تدل على كذا وتومئ إلى معنى كذا، فإذا نظرْنا في كلام أهل اللغة، لم نجد عالمًا منهم قال بهذا القول الذي يزعمونه، كما في قوله تعالى: ]الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى[ [طه : الآية 5]: المعطلة يقولون: ]استوى[، بمعنى: (استولى)، وأهل اللغة واللسان العربي لا يعرفون ]استوى[ بمعنى (استولى)، فالمعطلة جهلة بأمر الله، جهلة باللغة العربية، كذبة في النقل.(9/132)
ثم إن ردَّ المعطلة الأمرَ إلى اللغة يقتضي تجهيل السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان، فإنهم من أعلم الناس باللغة، وأفهمهم لمعانيها، ولم يفعلوا فعل المؤوِّلين المحرفين الذين يتلاعبون بكلام الله وكلام رسوله r، ويدَّعون أنَّ ذلك ممَّا توجبه اللغة، فلو كان ذكر الساق في حق الله يعني به الشدَّة، أو القدم يعني به الموضع، أو الضحك يعني به الرضى، لبيَّنه النبي r بيانًا عامًّا لأهمية هذا الباب، ولما أحال الأمة على فهومهم، مع تباينها واختلافها.
والحاصل أنَّ الأصل في الكلام عند جميع العقلاء يراد به الحقيقة، فلا يخرج عن هذا الأصل إلا بدليل.
الوجه الرابع: أن قول ابن الجوزي: «وهؤلاء أثبتوا ساقًا للذات وقدمًا، حتى يتحقق التجسيم والصورة»: يقال عنه:
إن من أثبت لله تعالى الساق والقدم إنما أثبتهما بأدلة جلية نقلية من الكتاب والسنة، فالكتاب دلَّ على أن لله ساقًا، فيجب إثباته لله تعالى دون تحريف أو تعطيل، ودون تكييف أو تمثيل، والسنة أيضًا دلَّت على إثبات الساق والقدم لله تعالى، وهاتان الصفتان من الصفات الذاتية الثابتة لله تعالى.
وهذا قول جميع علماء السلف، فلا أعلم بينهم نزاعًا في إثبات هاتين الصفتين، وكذلك سائر ما وصف الله به نفسه ووصفه به رسوله محمد r.
ومن زعم أنَّ إثبات الساق والقدم لله تعالى تجسيم، فقد أعظم على الله الفرية، وقال ما لا علم له به، وهذا أصل الضلال:
قال تعالى: ]قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ[ [الأعراف: الآية 33].
وقال: { وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً } [الإسراء: 36].(9/133)
وليس – ولله الحمد – فيما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله محمد صلى الله عليه وسلم تشبيه ولا تجسيم، إنما التشبيه في نفي صفات الله تعالى ووصفه بالعدم؛ كما عليه أهل التعطيل، الذين ينفون عن الله تعالى ما وصف به نفسه ووصف به رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، ويلقبون أهل السنة الذين تمسكوا بكتاب ربهم وسنة نبيهم وعضوا عليها بالنواجذ بالمجسمة والمشبهة.
فإذا كان وصف الله جل وعلا بالساق والقدم والصورة والوجه والسمع والبصر والعينين تشبيها؛ فمرحبا بالتشبيه؛ فالأسماء لا تغير الحقائق عندنا.
ولكن معاذ الله أن يكون وصف الله بذلك تشبيها, إنما التشبيه أن يقال: قدم كقدمي! وساق كساقي! ويد كيدي! والسلف يبكرون هذا ويكرون قائله، أما إثبات الصفات لله تعالى ما يليق به مع نفينا لصفاته أن تكون مماثلة لصفات المخلوقين؛ فهذا مسلك الأنبياء والمرسلين.
قال الإمام أبو حاتم رحمه الله: ((علامة الجهمية تسميتهم أهل السنة مشبهة ونابتة)).
وقال الإمام، العالم، العلامة، ناصر السنة، وقامع البدعة، ابن قيم الجوزية رحمه الله تعالى في ((نونيته)) التي كشف فيها الطوائف المبتدعة المخالفة للكتاب والسنة وهتك أستارهم وبين عوارهم؛ قال:
((فصل في بيان عدوانهم في تلقيب أهل القرآن والحديث بالمجسمة، أنهم أولى بكل لقب خبيث)).
كم ذا مشبهة مجسمة نوا ... بتة مسنة جاهل فتان
أسماء سميتهم بها أهل الحديث ... وناصري القرآن والإيمان
سميتموهم أنتم وشيوخكم ... بهتاً بها من غير ما سلطان
وجعلتموها سبة لتنفروا ... عنهم كفعل الساحر الشيطان
ما ذنبهم والله إلا أنهم ... أخذوا بوحي الله والفرقان
وأبوا بأن يتحيزوا لمقالة ... غير الحديث ومقتضى القرآن
وأبوا يدينوا بالذي دنتم به ... من هذه الآراء والهذيان
وصفوة بالأوصاف في النصين من ... خبر صحيح ثم من قرآن
إن كان ذا التجسيم عندكم فيا ... أهلا به ما فيه من نكران(9/134)
إنا مجسمة بحمد الله لم ... نجحد صفات الخالق الديان (1)
والله ما قال امرؤ منا بأن ... ن الله جسم يا أولي البهتان
والله يعلم أننا في وصفه ... لم نعد ما قد قال في القرآن
أو قاله أيضا رسول الله فهو ... الصادق المصدوق بالبرهان
أو قاله أصحابه من بعده ... فهم النجوم مطالع الإيمان
سموه تجسيما وتشبيها فلسـ ... ـنا جاحديه لذلك الهذيان
بل بيننا فرق لطيف بل هو الـ ... فرق العظيم لمن له عينان
إن الحقيقة عندنا مقصورة ... بالنص وهو مرادة التبيان
لكن لديكم فهي غير مرادة ... أنى يراد محقق البطلان
فكلامه فيما لديكم لا حقيـ ... ـقة تحته تبدو إلى الأذهان
…
في ذكر آيات العلو وسائر الـ ... أوصاف وهي القلب للقرآن
بل قول رب الناس ليس حقيقة ... فيما لديكم يا أولي العرفان
وإذا جعلتم ذا مجازا صح أن ... ينفى على الإطلاق والإمكان
وحقائق الألفاظ بالعقل انتفت ... فيما زعمتم فاستوى النفيان
نفي الحقيقة وانتفاء اللفظ إن
... دلت عليه فحظكم نفيان
ونصيبنا إثبات ذاك جمعية ... لفظا ومعنى ذاك إثباتان
فمن المعطل في الحقيقة غيركم ... لقب بلا كذب ولا عدوان
وإذا سببتم بالمحال فسبنا ... بأدلة وحجاج ذي برهان
تبدي فضائحكم وتهتك ستركم ... وتبين جهلكم مع العدوان
يا بعد ما بين السباب بذاكم ... وسبابكم بالكذب والطغيان
من سب بالبرهان ليس بظالم ... والظلم سب العبد بالبهتان
فحقيقة التجسيم أن يك عندكم ... وصف الإله الخالق الديان
بصفاته العليا التي شهدت بها ... آياته ورسوله العدلان
فتحملوا عنا الشهادة واشهدوا ... في كل مجتمع وكل مكان
أنا مجسمة بفضل الله ولـ ... ـيشهد بذلك معكم الثقلان
الله أكبر كشرت عن نابها ... الحرب العوان وصيح بالأقران
__________
(1) في بعض النسخ: ((الرحمن)) وكذلك في مخطوطة الشيخ سليمان بن سحمان ومخطوطة الشيخ على الخراز.(9/135)
وتقابل الصفان وانقسم الورى ... قسمين واتضحت لنا القسمان (1)
تم
تم الجزء الأول من((إتحاف أهل الفضل والإنصاف بنقض كتاب ابن الجوزي دفع شبه التشبيه وتعليقات السقاف)) ولله الحمد والمنة على يد الفقير إلى الله سليمان بن ناصر بن عبد الله العلوان في شهر الله المحرم يوم الأربعاء تاريخ(24/1/ 1414هـ).
ويليه الجزء الثاني.
والله أسأل التمام، وحسن الختام، وأن يجعل عملنا صالحا، لوجهه خالصا ولا يجعل لأحد شيئا.
فهرس الموضوعات
الموضوع الصفحة
المقدمة…
إشارة إلى رسالة المؤلف ((الكشاف...))…
سبب رد المؤلف على السقاف…
ابن الجوزي والسقاف ينقلان التأوليل الباطل عن أئمة السف وهو إما نقل ضعيف من حيث السند أو نقل محرف…
موقف السقاف وأتباعه من أئمة السلف…
موقف السقاف وأتباعه المبتدعة إذا وجدوا نقلاً مجرداً أو محرفاً عن أحد السلف يوافق أهوائهم…
الواجب عند وجود خطأ من أحد العلماء…
الواجب على المسلمين عند التنازع…
معنى الرد إلى الله والرد إلى رسوله صلى الله عليه وسلم…
من عصى الله ورسوله له حظ من الضلال، ومن نبذ أقوال الرسول... فليس له حفظ من الإيمان…
فصل: في الفرق بين من جعل التأويل الباطل منهجاً وطريقة، وبين عالم أخطأ أو زل زلة، وحكم كل قسم.…
أمثلة لمن جعل التأويل الباطل منهجاً وطريقة…
الاعتذار لمن زل من أهل السنة وأول صفة من الصفات…
مثال لمن زل من أهل السنة أول صفة…
حكم من سوى بين القسمين السابقين…
فصل: الأصل في الرد أن يكون بعلم وعدل لا يجهل وظلم.…
منهج السقاف في تعليقه على كتاب ابن الجوزي، وفي غيره من كتبه…
طريقة أهل البدع -ومنهم الكوثري والسقاف- في الرد…
ما يلاقيه أهل السنة من أهل البدع، وموقف أهل السنة من أهل البدع في الرد…
__________
(1) انظر: ((النونية)) (ص 102) الناشر مكتبة ابن تيمية، و(ص109) توزيع دار الباز، و(ص 129) بقلم الشيخ ابن سمحان، و(ص 114) بقلم الشيخ الخراز.(9/136)
مدح العدل، واستعماله مع أهل البدع، ونقل عن ابن تيمية في ذلك…
نقل عن ابن تيمية أن أعبد أهل الأهواء وأصدقهم هم الخوارج…
فصل: بعض من ينتسب إلى السلف يخطئ عليهم ويهم في قوله وفعله فيكون مدخلاً لأهل البدع…
من الظلم أن ينسب خطأ رجل من أهل السنة إلى منهج أهل السنة…
طَعَنَ ابن الجوزي في القاضي أبي يعلى وابن الزاغوني وابن حامد بحق وبغير حق…
نقل عن ابن تيمية فيمن سمع الآثار والأحاديث وعظم مذهب السلف وشارك المتكلمين الجهمية في بعض أثولهم…
ليس لابن الجوزي معرفة بما عليه مذهب السلف عموماً وما عليه أحمد بن حنبل خصوصا
الواجب أن يكون الجكم كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم…
فصل: في بيان أخطأ ابن الجوزي وضلال السقاف…
تقديم السقاف لكتاب ابن الجوزي…
فصل: قال ابن الجوزي: ((وقد أخذوا بالظاهر في الأسماء...))…
معنى أخذ السلف بالظاهر…
بيان خطأ من ظن أن أخذ السلف بالظاهر هو مماثلة صفات الخالق بصفات المخلوق
أنواع صفات المخلوقين…
تسمية ما وصف الله به نفسه أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم صفات وصف الله بما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله من غير تحريف ولا تعطيل وهو حقيقة الانقياد…
تحريف الصفات ونفي معانيها إلحاد عظيم…
أهل التعطيل لا يفهمون من صفات الخالق إلا ما يفهمونه من صفات المخلوق…
صفات الخالق لا تماثل صفات المخلوق…
الذين ينفون صفات الله وقعوا في التعطيل أولاً وفي التشبه ثانياً…
نقل عن ابن تيمية في أن من توهم في بعض صفات الله أنها تماثل صفات المخلوقين وقع في أربعة محاذير…
تناقض ابن الجوزي في باب الأسماء والصفات…
اضطراب أهل الباطل في باب الأسماء والصفات…
إطلاق لفظه الظاهر عند أتباع السلف غير إطلاقها عند الخلف…
ظواهر الصفات…
إطلاق اليدين على الله بمعنى النعمة أو القدرة والرد على من قال بهذا…
لا يصف الله أحد أعلم من النبي صلى الله عليه وسلم…(9/137)
الرد على من حمل مجي وإتيان الرب جل وعلا على معنى بر ولطف…
الرد على من قال: إن الإمام أحمد أول المجيء بمجيء الثواب…
الرد على من قال: عن الإمام مالك أو نزول الرب بمعنى نزول أمره…
فضل: قاعدة مهمة فيما إذا ثبت عن أحد الأئمة تأويل شيء في موارد النزاع…
تفسير الزمخشري…
اتفق السلف على مراعاة الألفاظ في باب الأسماء والصفات…
الموقف من الألفاظ التي لم يذكرها السلف نفياً ولا إثباتاً…
مبحث الاستواء…
الرد على من قال: إن إثبات الاستواء لله فقد أجراه مجرى الحسيات…
قول من قال: إن قراءة الآيات والأحاديث في الصفات من غير فقه لمراد الله ومراد رسوله ضلال مبين…
منهج السلف مع أحاديث الصفات…
منهج أصحاب التجهيل والرد عليهم…
مقولة أصحاب التنحيل والرد عليهم…
الانتصار للمذهب الحق في حمل الصفات على ظاهرها وإثبات حقائقها…
لم يقل أحد من السلف بتمثيل صفات الخالق بالمخلوق…
الحنابلة من أسلم الناس في باب الأسماء والصفات…
لا يضر أهل الحق لمز أهل الباطل إياهم ووصفهم بالصفات القبيحة وأن هذا من صفات أهل البدع…
كتب أهل البدع مليئة بسب علماء السنة…
وقيعة السقاف في معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما…
الذب عن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما…
الكذب بضاعة المفلس من العلم النافع…
عظم الوقيعة في الصحابة…
ضلال الرافضة وكفرهم وأنه لا حظ لهم في الفيء…
الخلاف الذي وقع بين علي ومعاوية رضي الله عنهما…
عظم الكذب على المؤمن خاصة إذا كان صحابياً…
اتهام السقاف معاوية رضي الله عنه أنه أخذ الأمر عن غير مشورة الصحابة والذب عن معاوية رضي الله عنه…
سبب قتل معاوية حجراً…
افتراء السقاف على معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما بأنه أول من سن لعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه على المنبر يوم الجمعة…
كذب الرافضة وبهتهم…
الجهمية كلهم جهال وأجهل منهم الرافضة…
بهت السقاف الحنابلة بأنه فشا فيهم النصب…
الافتخار بالأنساب من أعمال الجاهلية…(9/138)
السبكي وابن جهبل والكوثري والسقاف من أهل الكذب على ابن تيمية…
كثرة الكذب على ابن تيمية واتهامه بالباطل من أعداءه…
صفة الحركة لله عز وجل…
صفة الانتقال…
العقيدة المروية عن أحمد التي كتبها حرب ليست ثابتة عنه بألفاظها بل هي ألفاظ حرب…
مراعاة لفظ القرآن والسنة في إثبات ونفي الصفات للرب عز وجل …
مقصد أهل الأهواء من نفي الحرمة عن الرب عز وجل…
حجية كلام السلف…
لم يتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم بألفاظ موهمة لتشبيه، والرد على من زعم ذلك
إثبات علو الله على خلقه…
دفاع عن حديث الجارية…
معنى (أن ما طرأ عليه الاحتمال يسقط)…
بطلان ما نسب إلى البخاري من تأويل صفة الضحك…
طريقة السلف إثبات الثفات بلا كيف…
من أنكر الصفات فقد كفر…
الرد على من قال: إن الضحك مجاز والمراد به الرضا…
حال الكوثري…
إهداء الكتب وما في ذلك…
بغض أهل البدع ومجانبتهم وهجرهم…
بيان تناقض السقاف…
تنبيه حول كتاب ((النصيحة في صفات الرب)) المطبوع!!…
جواز جمع أحاديث الصفات وتصنيفها على الأبواب والرد على من أنكر ذلك، ووقت جمع السلف أحاديث الصفات…
تسمية الرازي ((كتاب التوحيد)) لا بن خزيمة ((كتاب الشرك))!!…
الكلام على الفخر الرازي…
مدح كتاب ابن خزيمة ((التوحيد)) والذب عنه…
عدم ندم ابن خزيمة على تأليف كتابه، وبيان كذب السقاف إذا ادعى ذلك…
بيان كفر الجهمية وأنهم شبهوا الله بالمعدومات…
رد على المعلقين على كتاب ((شرح السنة)) للبغوي في انتقادهما على البخاري…
جمهور العلماء يوافقون البخاري على تكفير الجهمية…
لم يخرج البخاري في صحيحه لجهمي ولا لرافضي…
تبيين ما نسب إلى ابن علية من التهجم…
الخوارج أحسن حالا من الجهمية والروافض…
جواب مجمل عما نقل عن أحمد من التأويل…
الرد على من تأول المجيء لله بأنه مجيء أمر الله…
إثبات صفة المجيء للرب عز وجل …
أدلة العقل لا تصرف النصوص ولا تخرجها عن معانيها …(9/139)
ابن الجوزي يرجح مذهب المفوضة كثيرا وينسبه للسلف…
السلف ينفون معرفة كيفية الصفات لا حقيقتها…
الرد على من استدل بمقالة مالك في الاستواء على التفويض…
استواء الله على العرش…
إطلاق لفظه ((بذاته)) في استوى على العرش بذاته …
أصلان عظيمان عليهما قيام دين الإسلام…
إنكار السقاف توحيد الألوهية والرد عليه وتبيين جهله بالتوحيد وانغماسه في الوثنية…
عبادة الله عند قبور الصالحين من المحدثات…
الرد على السقاف في استدلاله بما روي عن إبراهيم الحربي أنه قال في قبر معروف أنه…
(( التريقات المجرب))…
حكم الراوي إذا خلا من التوثيق والتجريح وروى عنه جمع ولم يأت بما ينكر عليه…
تحري الدعاء عند القبر بدعة …
إثبات الوجه لله عز وجل…
المجسم المشبه هو الذي لا يفهم من صفات الخالق إلا ما يفهمه من صفات المخلوق…
جاء عن ابن الجوزي إثبات الوجه مما يدل على اضطرابه في باب الأسماء والصفات…
ابن الجوزي كثيرا ما يذهب إلى التفويض…
القول بأن الصفات زائدة على الذات أم غير زائدة كلام مجمل …
اتفاق السلف على إثبات الوجه لله حقيقة …
اتفاق السلف على أن باب الأسماء والصفات لا يدخله القياس …
إثبات العين لله عز وجل …
إبطال قول من تأول العين لله عز وجل…
تضعيف البخاري لرجل ما لا يدل على ضعفه مطقاً…
الاختلاف في توثيق راو لا يدل على ضعفه…
معنى قول القاضي أبي يعلى: (( العين ضفة زائدة على الذات ))…
الأصل حمل الكلام على حقيقته …
إثبات اليدين لله عز وجل وإبطال قول من تأولهما…
نقل عن الدارمي أن من أنكر أن الله خلق آدم بيده كفر بالقرآن ورد السنة وخالف الأمة
عظم التحريف وقبحه وشناعته…
إثبات الساق لله عز وجل …
الموقوف إذا كان مما لا مجال للاجتهاد فيه له حكم الرفع…
إثبات القدم لله عز وجل …
الموقوف إذا كان مما لا مجال للاجتهاد فيه له حكم الرفع والرد على الغماري في الحاشية لإنكاره ذلك…(9/140)
من أنكر آية من كتاب الله أنكر الكتاب كله، ون أنكر حديثا فقد أنكر الحديث كله…
لا يلزم من تكفير العموم تكفير المعين…
نقل من نونية ابن القيم رحمه الله في العذر بالجهل…
المعطلة جهلة بأمر الله جهلة باللغة العربية كذبة في النقل…
الأصل في الكلام أن يراد به حقيقة ولا يخرج عن هذا الأصل إلا بدليل…
إذا كان إثبات الصفات تشبيها فمرحبا بالتشبيه…
نقل فصل من النونية بعنوان(( فصل في بيان عدوانهم في تلقيب أهل القرآن والحديث بالمجسمة وبيان أنهم أولى بكل لقب خبيث…
آخر الجزء الأول من الرد المفصل على السقاف ويتلوه الجزء الثاني إن شاء الله…
الفهارس العامة…
فهرس الآيات…
فهرس الأحاديث…
فهرس الآثار…
فهرس الرجال المتكلم عليهم بجرح أو تعديل…
فهرس الموضوعات…(9/141)
الدرر
في إثبات نبوة وموت الخضر
جمع/ أبي معاذ السلفي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فهذا موضوع يتعلق بذكر الأدلة من الكتاب والسنة التي تثبت نبوة وموت الخضر عليه الصلاة والسلام، وفيه مناقشة لما ذهب إليه المتصوفة (تجاه الخضر عليه السلام حيث أنهم يعتقدون بأن الخضر عليه السلام ولي من أولياء الله تعالى وليس بنبي، وبنوا على ذلك أن الولي يجوز له الخروج عن الشريعة كما خرج الخضر عليه السلام عن شريعة موسى عليه السلام حسب زعمهم الباطل، وأنه يمكن للولي أن يصل إلى مرضاة الله سبحانه وتعالى بدون اتباع الرسول - صلى الله عليه وسلم -.
وإلى جانب ذلك يعتقد المتصوفة أيضاً تجاه الخضر عليه السلام إلى أنه حي يرزق إلى الآن ويدعون أنهم يلتقون به ويتلقون عنه علمهم اللدني الذي هو خاص بالأولياء فقط ولا يمكن أن يعرفه غيرهم كائناً من كان حتى الأنبياء).
والمراجع التي نقلت منها الأدلة وأقوال العلماء هي:
1 - "المصادر العامة للتلقي عند الصوفية عرضاً ونقداً" للشيخ صادق سليم صادق
حظه الله.
2 - "كشف الإلباس عما صح وما لم يصح من قصة الخضر" لإبراهيم بن فتحي عبد المقتدر حفظه الله.
3 - "تقديس الأشخاص في الفكر الصوفي عرض وتحليل على ضوء الكتاب والسنة" للشيخ
محمد أحمد لوح حفظه الله.
4 - "مظاهر الانحرافات العقدية عند الصوفية وأثرها السيئ على الأمة الإسلامية" لإدريس محمود إدريس حفظه الله.
5 - "الخضر وآثاره بين الحقيقة والخرافة" لأحمد بن عبد العزيز الحصين حفظه الله.
6 - "أبو حامد الغزلي وكتابه "إحياء علوم الدين" للشيخ عبد الرحمن دمشقية حفظه الله.
* أولاً: إثبات نبوة الخضر عليه الصلاة والسلام:
الذي عليه جمهور العلماء، أن الخضر عليه السلام نبي، والأدلة على ذلك كثيرة منها:
* الدليل الأول:(10/1)
قوله تعالى: ((فَوَجَدَا عَبْداً مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً)) [الكهف:65]. ووجه الاستدلال بالآية الكريمة: أن الرحمة تكرر إطلاقها في القرآن الكريم على النبوة، كقوله تعالى: ((وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ * أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ)) [الزخرف:31 - 32]، وقوله تعالى: ((وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ)) [القصص:86].
وإطلاق إيتاءه العلم، دليل على نبوته أيضاً، وقد أٌطلق هذا في القرآن الكريم في مثل قوله تعالى: ((وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ)) [النساء:113]، وقوله: ((...وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ)) [يوسف:68]، فهذه الأدلة ترشد إلى نبوته.
ويُشعر تنكير الرحمة في الآية الكريمة، واختصاصها بجناب الكبرياء، أن المقصود بها:الوحي والنبوة.
قال أبو السعود في"تفسيره"عن الآية: (التنكير للتفخيم، والإضافة للتشريف، والجمهور على أنه الخضر واسمه بليا بن ملكان.
وقيل: إلياس عليهم الصلاة والسلام.
((آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا)) وهي الوحي والنبوة كما يُشعرُ به تنكير الرحمة واختصاصها بجناب الكبرياء، ((وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً)) خاصاً لا يُكتنه كنهه ولا يُقادر قدره وهو علم الغيوب) اهـ.
وعزا الفخر الرازي في"تفسيره"القول بنبوته للأكثرين.(10/2)
ومما يستأنس به للقول بنبوته تواضع موسى عليه الصلاة والسلام له في قوله: ((هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً)) [الكهف:66]، وقوله: ((سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً)) [الكهف:69] مع قول الخضر له: ((وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً)) [لكهف:68].
* الدليل الثاني:
قوله تعالى: ((وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي)) [الكهف:82].
فهذا يقتضي أنه إنما فعله بأمر الله ووحيه الذي أوحاه إليه.
قال ابن جرير الطبري - رحمه الله - في"تفسيره" (8/270): (يقول: وما فعلتُ يا موسى جميع الذي رأيتني فعلته عن رأي، ومن تلقاء نفسي، وإنما فعلتُه عن أمر الله تعالى إياي به)
وروى عن قتادة: (كان عبداً مأموراً فمضى لأمر الله).
وقال ابن كثير - رحمه الله - في "تفسيره" (3/162): ( ((وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي)) أي: لكني أٌمِرتُ به ووقفت عليه، وفيه دلالة لمن قال بنبوة الخضر عليه السلام).
وقال القرطبي - رحمه الله - في تفسيره" (11/39): (يدل - أي قول الخضر عليه السلام: ((وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي)) - على نبوته وأنه يوحى إليه بالتكاليف والأحكام، كما أُوحي إلي الأنبياء عليه السلام غير أنه ليس برسول).
وقال أبو حيان في"البحر المحيط" (6/156): ( ((وَمَا فَعَلْتُهُ)) أي: ما رأيت من خرق السفينة وقتل الغلام وإقامة الجدار عن اجتهاد مني ورأي وإنما فعلته بأمر الله، وهذا يدل على أنه أُوحي إليه).
وقال النووي رحمه الله في"شرح صحيح مسلم" (15/197،211): (يعني بل بأمر الله تعالى... (ثم قال): فدل على أنه نبي أوحى إليه).
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في"الزهر النضر" (ص66) في بيان وجه الاستدلال من الآية على نبوة الخضر: (وهذا ظاهر أنه بأمر من الله، والأصل عدم الواسطة، ويحتمل أن يكون بواسطة نبي آخر لم يذكره، وهو بعيد.(10/3)
ولا سبيل إلى القول بأنه إلهام ؛ لأن ذلك لا يكون من غير نبي وحياً، حتى يعمل به
ما عمل، من قتل النفس، وتعريض الأنفس للغرق، فإن قلنا: إنه نبي، فلا إنكار في ذلك).
وقال أيضاً في"فتح الباري" (1/265): (ومن أوضح ما يُستدل به على نبوة الخضر قوله: ((وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي)) ).
وقال في (8/275): (...وفي الحديث من الفوائد غير ما تقدم...واستدل به على نبوة الخضر لعدة معاني قد نبهتُ عليها فيما تقدم كقوله: ((وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي)) ، وكاتباع موسى رسول الله له ليتعلم منه، وكإطلاقه أنه أعلم منه، وكإقدامه على قتل النفس فلا يسوغ الإقدام على قتل النفس ممن يتوقع منه أن يقتل أنفساً كثيرة قبل أن يتعاطى شيئاً من ذلك، وإنما فعل الخضر ذلك لإطلاع الله تعالى عليه).
وقال العلامة محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله في"أضواء البيان" (4/158): (ومن أظهر الأدلة في أن الرحمة والعلم اللدني الذيّن امتن الله بهما على عبده الخضر عن طريق النبوة والوحي: قوله تعالى: ((وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي)) ، أي وإنما فعلته عن أمر الله جلا وعلا ولا سيما قتل الأنفس البريئة في ظاهر الأمر، وتعييب سفن الناس بخرقها ؛ لأن العدوان على أنفس الناس وأموالهم، لا يصح إلا عن طريق الوحي من الله تعالى).
وقال في (4/177): (وبهذا كله تعلم أن قتل الخضر للغلام، وخرقه للسفينة، وقوله: ((وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي)) دليل ظاهر على نبوته).
وقال الشيخ عبد الرحمن دمشقية حفظه الله في كتابه"أبو حامد الغزالي وكتابه إحياء علوم الدين" (ص290): (إن ما فعله الخضر عليه السلام كان مأموراً به، ولم يفعله من عنده لقوله تعالى: ((وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي)) ).
* الدليل الثالث:(10/4)
قال تعالى: ((قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً)) [الكهف:66]. فموسى عليه السلام طلب مصاحبة الخضر عليه السلام لينال ما عنده من العلم الذي اختصه الله به، فلو كان الخضر ولياً ولم يكن نبياً لم يكن معصوماً وموسى أراد أن يتعلم منه زيادة علم على ما عنده من التوراة، فلو كان ما عند الخضر مجرد الإلهام، فمعلوم أنه ليس بعلم ولا تشريع، ولا يفيد اليقين، لجواز أن يكون للشيطان فيه مدخل، فهل يعقل أن يمضي موسى عليه الصلاة والسلام حقباً من الزمان، قيل: ثمانين سنه، ويتواضع له، ويتبعه في صورة مستفيد منه، ليتعلم منه شيئاً للشيطان فيه مدخل؟! هل يستقيم هذا في العقل؟!
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في"الإصابة" (2/116-117): (فكيف يكون النبي تابعاً لغير نبي؟ مهما كان قدره عند الله).
* الدليل الرابع:
ومن دلائل نبوته:تعليله لما فعل بقوله: ((فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا)) [الكهف:79]، ((فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا)) [الكهف:81]، وقوله: ((فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا...)) [الكهف:82]، فهذا يدل على أنه كان واثقاً من نتيجة عمله، جازماً بها، وهي غيب، لا يدرك إلا بوحي نبوة، ولو كان إلهاماً لقال: فرجوت أن يكون كذا، ولم يجزم به أبداً.
لهذا يقول القرطبي في "تفسيره" (11/16): (والآية تشهد بنبوته؛ لأن بواطن أفعاله لا تكون إلا بوحي).
وقال ابن حجر في"الإصابة" (2/116- 117) و"الزهر" (ص24): (وغالب أخباره مع موسى هي الدالة على تصحيح قول من قال إنه كان نبياً).
* الدليل الخامس:
ومن دلائل نبوته أيضاً: أنه لو فعل ما فعل من الأمور بحكم الإلهام، لوجب عليه القصاص في قتل الغلام، ودفع قيمة تعييب السفينة، ولا تعفيه ولايته من ذلك، لكن شيئاً من ذلك لم يحصل، فدل على أنه كان يفعل بوحي من عند الله.
* الدليل السادس:(10/5)
قال تعالى: ((عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً)) [الجن:26 - 27].
فلما أظهر الخضر على علم الغيب كإعلامه أن الغلام طُبع يوم طُبع كافراً دل على أنه رسول بنص الآية المذكورة لأنه تعالى خص إظهار علم الغيب وحصره في المرسلين، وغيرهم لا يطلعه على شيء من علم الغيب.
* الدليل السابع:
قوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث: (فأوحى الله إليه أن عبداً من عبادي بمجمع البحرين هو أعلم منك) رواه البخاري ومسلم.
قال ابن كثير رحمه الله في"تفسيره" (3/101): (..خصه بعلم لم يطلع موسى عليه).
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في "الإصابة" (2/116) و"الزهر" (ص23): (فإن قلنا إنه نبي فلا إنكار في ذلك، وأيضاً فكيف يكون غير النبي أعلم من النبي؟.
وقد أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم -في الحديث الصحيح أن الله تعالى قال لموسى: (بلى عبدنا خضر)، وأيضاً فكيف يكون النبي تابعاً لغير نبي).
ولا ريب أن جعل غير النبي أعلم من النبي باب فتحه الزنادقة كما نقل ابن حجر في "الإصابة" (2/116) عن بعض أكابر العلماء أنه كان يقول: (أول عقد يحل من الزندقة اعتقاد كون الخضر نبياً، لأن الزنادقة يتذرعون بكونه غير نبي إلى أن الولي أفضل من النبي كما قال قائلهم: مقام النبوة في برزخ فويق الرسول ودون الولي).
وقال أيضاً في"فتح الباري" (1/265) تحت قوله: (هو أعلم منك): (ظاهر في أن الخضر نبي بل نبي مرسل، إذ لو لم يكن كذلك للزم تفضيل العالي على الأعلى وهو باطل من القول).
وقال النووي رحمه الله في"تهذيب الأسماء واللغات" (1/179): (والخضر على جميع الأقوال نبي).
قلتُ: إذاً فهو نبي ولا سبيل إلى إنكار نبوته بحال من الأحوال لأنه لا يسوغ أن يكون نبياً معصوماً من أولى العزم من الرسل تابعاً لبشر غير نبي يجوز عليه الخطأ وغيره لأنه غير معصوم.(10/6)
* الدليل الثامن:
قوله تعالى: ((قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ)) [الكهف:78].
لأنه لو كان مجرد ولي تابع لنبي وقته لم يرغب بأي حال من الأحوال عن مرافقة نبي الله موسى عليه السلام.
وفي "المنار المنيف" نقلاً عن ابن الجوزي: (فكيف يرضى لنفسه بمفارقة مثل موسى عليه السلام ثم يجتمع بجهلة العباد، الخارجين عن الشريعة الذين لا يحضرون جمعة ولا جماعة ولا مجلس علم وكل منهم يقول: قال لي الخضر، جاءني الخضر، أوصاني الخضر، فيا عجباً له يفارق الكليم ويدور على صحبة جاهل لا يصحبه إلا شيطان رجيم سبحانك هذا بهتان عظيم).
وفي هذا كفاية لمن شرح الله صدره لقبول الحق.
* ثانياً: إثبات وفاته عليه الصلاة والسلام:
* الدليل الأول:
قوله تعالى: ((وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ)) [الانبياء:34].
قال ابن كثير رحمه الله في"تفسيره" (3/187): (يقول تعالى: ((وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ)) يا محمد ((الْخُلْدَ)) أي: في الدنيا بل ((كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ)) [الرحمن:26 - 27]، وقد استدل بهذه الآية الكريمة من ذهب من العلماء إلى أن الخضر عليه السلام مات وليس بحي إلى الآن لأنه بشر).
وقال ابن الجوزي رحمه الله كما في"المنار المنيف" لابن القيم رحمه الله: (فلو دام الخضر كان خالداً).
وقال أيضاً كما في "البداية والنهاية " لابن كثير رحمه الله (1/312): (فالخضر إن كان بشراً فقد دخل في هذا العموم لا محالة، ولا يجوز تخصيصه منه إلا بدليل صحيح).
وقال ابن كثير مؤكداً كلام ابن الجوزي - بعد نقله إياه - : (الأصل عدمه، حتى يثبت، ولم يذكر ما فيه دليل على التخصيص عن معصوم يجب قبوله).(10/7)
وقال الشنقيطي رحمه الله في"تفسيره" (4/179): (ظاهر عموم قوله تعالى: ((وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ)) ، فقوله: ((لِبَشَرٍ)) نكرة في سياق النفي تعم كل بشر، فيلزم من ذلك نفي الخلد عن كل بشر من قبله.
والخضر بشر من قبله؛ فلو كان شرب من عين الحياة وصار حياً خالداً إلى يوم القيامة لكان الله قد جعل لذلك البشر الذي هو الخضر من قبله الخلد).
* الدليل الثاني:
قال تعالى: ((وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ )) [آل عمران:81]. قال الحافظ ابن كثير رحمه الله في"البداية والنهاية" (1/312): (قال ابن عباس رضي الله عنهما: (ما بعث الله نبياً إلا أخذ عليه الميثاق، لئن بُعِثَ محمد- صلى الله عليه وسلم - وهم أحياء ليؤمنن به وينصرنه...) فالخضر إن كان نبياً أو ولياً، فقد دخل في هذا الميثاق ؛ فلو كان حياً في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - لكان أشرف أحواله أن يكون بين يديه، يؤمن بما أنزل الله عليه، وينصره أن يصل أحد من الأعداء إليه، لأنه إن كان ولياً فالصديق أفضل منه، وإن كان نبياً، فموسى أفضل منه، وقد روى الإمام أحمد في مسنده...أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (والذي نفسي بيده، لو أن موسى كان حياً ما وسعه إلا أن يتبعني) وهذا الذي يُقطع به ويُعلم من الدين بالضرورة...(10/8)
فإذا علم هذا...علم أنه لو كان الخضر حياً، لكان من جملة أمته - صلى الله عليه وسلم -، وممن يقتدي بشرعه، لا يسعه إلا ذلك، وهذا عيسى بن مريم عليه السلام إذا نزل في آخر الزمان يحكم بهذه الشريعة المطهرة، لا يخرج منها، ولا يحيد عنها، وهو أحد أولي العزم الخمسة المرسلين وخاتم أنبياء بني إسرائيل).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله "مجموع الفتاوى" (17/100 - 102)باختصار: (والصواب الذي عليه المحققون أنه ميت وأنه لم يدرك الإسلام ولو كان موجوداً في زمن
النبي - صلى الله عليه وسلم - لوجب عليه أن يؤمن به ويجاهد معه كما أوجب الله ذلك عليه وعلى غيره، ولكان يكون في مكة والمدينة ولكان حضوره مع الصحابة للجهاد معهم وإعانتهم على الدين أولى به من حضوره عند قوم كفار ليرقع لهم سفينتهم ولم يكن مختفياً عن خير أمة أخرجت للناس وهو قد كان بين يدي المشركين ولم يحتجب عنهم ثم ليس للمسلمين به وأمثاله حاجة لا في دينهم و لا في دنياهم، فإن دينهم أخذوه عن الرسول النبي الأمي - صلى الله عليه وسلم - الذي علمهم الكتاب والحكمة...وإذا كان الخضر حياً دائماً فكيف لم يذكر النبي ذلك قط ولا أخبر به أمته ولا خلفاؤه الراشدون، وقول القائل إنه نقيب الأولياء فيقال له: من ولاه النقابة وأفضل الأولياء أصحاب محمد وليس فيهم الخضر وعامة ما يحكى في هذا الباب من الحكايات بعضها كذب وبعضها مبني على ظن رجل: مثل شخص رأى رجلاً ظن أنه الخضر وقال: إنه الخضر كما أن الرافضة ترى شخصاً تظن أنه الإمام المنتظر المعصوم أو تدعي ذلك.
وروى عن الإمام أحمد ابن حنبل أنه قال وقد ذكر له الخضر: (من أحالك على غائب
فما أنصفك وما ألقى هذا على ألسنة الناس إلا الشيطان)).(10/9)
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله في"الإصابة" (1/434): (فلو كان الخضر موجوداً في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - لجاء إليه ونصره بيده ولسانه وقاتل تحت رايته، وكان من أعظم الأسباب في إيمان معظم أهل الكتاب الذين يعرفون قصته مع موسى).
وقال العلامة الشنقيطي رحمه الله في"أضواء البيان": (أن الخضر لو كان حياً إلى زمن
النبي - صلى الله عليه وسلم - لكان من أتباعه، ولنصره وقاتل معه ؛ لأنه مبعوث إلى جميع الثقلين الإنس والجن، والآيات الدالة على عموم رسالته كثيرة جداً؛ كقوله تعالى: ((قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً)) [الأعراف:158]، وقوله: ((تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً)) [الفرقان:1] وقوله تعالى: ((وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ)) [سبأ:28].
ويوضح هذا أنه تعالى بيَّن في سورة "آل عمران": أنه أخذ على جميع النبيين الميثاق المؤكد أنهم إن جاءهم نبينا - صلى الله عليه وسلم - مصدقاً لما معهم أن يؤمنوا به وينصروه، وذلك في قوله تعالى: ((وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ * فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ)) [آل عمران:81ـ ـ82]، وهذه الآيات الكريمة على القول بأن المراد بالرسول فيها نبيا - صلى الله عليه وسلم -، كما قاله ابن العباس وغيره - فالأمر واضح - وعلى أنها عامة فهو - صلى الله عليه وسلم - يدخل في عمومها دخولاً أولياً؛ فلو كان الخضر حياً في زمنه لجاءه ونصره وقاتل تحت رايته.(10/10)
ومما يوضح أنه لا يدركه نبي إلا ابتعه ما رواه الإمام أحمد وابن أبي شيبة والبزار من حديث جابر - رضي الله عنه -: أن عمر - رضي الله عنه - أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - بكتاب أصابه من بعض أهل الكتاب فقرأه عليه فغضب وقال: (لقد جئتكم بها بيضاء نقية لا تسألوهم عن شيء فيخبروكم بحق فتكذبوا به، أو بباطل فتصدقوا به.والذي نفسي بيده لو أن موسى كان حياً ما وسعه إلا أن يتبعني).
قال ابن حجر - ومازال الكلام للعلامة الشنقيطي - في"الفتح":ورجاله موثقون إلا أن في مجالد ضعفاً))اهـ.
* الدليل الثالث:
ما روه البخاري ومسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - صلاة العشاء في آخر حياته فلما سلم قام النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: (أرأيتكم ليلتكم هذه فإن على رأس مائة سنة منها لا يبقى ممن هو اليوم على ظهر الأرض أحد) فوهل الناس في مقالة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى ما يتحدثون من هذه الأحاديث عن مائة سنة وإنما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا يبقى ممن هو اليوم على ظهر الأرض) يريد أنها تخرم ذلك القرن.
وفي إحدى روايات مسلم عن جابر بن عبد الله عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال قبل أن يموت بشهر: (ما من نفس منفوسة اليوم تأتي عليها مائة سنة وهي حية يومئذ).
قال ابن الجوزي رحمه الله كما في"البداية والنهاية" لابن كثير (1/313 - 314): (فهذه الأحاديث الصحاح، تقطع دابر دعوى حياة الخضر.. فالخضر إن لم يكن قد أدرك زمان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، كما هو المظنون الذي يرتقي في القوة إلى القطع، فلا إشكال، وإن كان قد أدرك زمانه، فهذا الحديث يقتضي أنه لم يعش بعد مائة سنة، فيكون الآن مفقوداً، لا موجوداً، لأنه داخل في العموم، والأصل عدم المخصص له حتى يثبت بدليل صحيح يجب قبوله، والله أعلم)اهـ.(10/11)
وقد بين الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله وجه العموم في الحديث بقوله في"أضواء البيان" (4/167): (...فقوله: (نفس منفوسة) ونحوها من الألفاظ في روايات الحديث، نكرة في سياق النفي، فهي تعم كل نفس مخلوقة على الأرض، ولا شك أن ذلك العموم بمقتضى اللفظ، يشمل الخضر، لأنه منفوسة على الأرض) اهـ.
قال الإمام النووي رحمه الله في"شرح صحيح مسلم": (16/324): (والمراد أن كل نفس منفوسة كانت تلك الليلة على الأرض لا تعيش بعدها أكثر من مائة سنة سواء قل أمرها قبل ذلك أم لا).
ثم قال رحمه الله: (وقد احتج بهذه الأحاديث من شذ من المحدثين فقال:الخضر عليه السلام ميت، والجمهور على حياته..ويتأولون هذه الأحاديث على أنه كان على البحر لا على الأرض، أو أنها عام مخصوص).
وقد رد العلامة الشنقيطي رحمه الله على تلك التأويلات فقال في"أضواء البيان" (4/187 - 192) بتصرف: (واعلم أن جماعة من أهل العلم ناقشوا الأدلة التي ذكرنا أنه تدل على وفاته فزعموا أنه لا يشمله عموم: ((وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ)) ولا عموم حديث: (أرأيتكم ليلتكم هذه فإنه على رأس مائة سنة لم يبق على ظهر الأرض أحد ممن هو عليها اليوم) كما تقدم.
قال أبو عبد الله القرطبي في"تفسيره"رحمه الله تعالى: ولا حجة لمن استدل به - يعني الحديث المذكور - على بطلان قول من يقول: إن الخضر حي لعموم قوله: (ما من نفس منفوسة..) لأن العموم وإن كان مؤكد الاستغراق ليس نصاً فيه؛ بل هو قابل للتخصيص، فكما لم يتناول عيسى عليه السلام فإنه لم يمت ولم يقتل، بل هو حي بنص القرآن ومعناه.(10/12)
ولا يتناول الدجال مع أنه حي بدليل حديث الجساسة: فكذلك لم يتناول الخضر عليه السلام، وليس مشاهداً للناس، ولا ممن يخالطهم حتى يخطر ببالهم حالة مخاطبة بعضهم بعضاً، فمثل هذا العموم لا يتناوله. وقيل: إن أصحاب الكهف أحياء، ويحجون مع عيسى عليه السلام كما تقدم، وكذلك فتى موسى في قول ابن عباس كما ذكرنا.اهـ منه.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له - والكلام ما زال للعلامة الشنقيطي - : كلام القرطبي هذا ظاهر السقوط كما لا يخفى على من له إلمام بعلوم الشرع؛ فإنه اعتراف بأن حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - عام في كل نفس منفوسة عموماً مؤكداً؛ لأن زيادة "من" قبل النكرة في سياق النفي تجعلها نصاً صريحاً في العموم لا ظاهراً فيه كما هو مقرر في الأصول. وقد أوضحناه في سورة "المائدة".
ولو فرضنا صحة ما قاله القرطبي رحمه الله تعالى من أنه ظاهر في العموم لا نص فيه، وقررنا أنه قابل للتخصيص كما هو الحق في كل عام؛ فإن العلماء مجمعون على وجوب استصحاب عموم العام حتى يرد دليل مخصص صالح للتخصيص سنداً ومتناً، فالدعوى المجردة عن دليل من كتاب أو سنة لا يجوز أن يخصص بها نص من كتاب أو سنة إجماعاً.
وقوله: (إن عيسى لم يتناوله عموم الحديث) فيه أن لفظ الحديث من أصله لم يتناول عيسى؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال فيه: (لم يبق على ظهر الأرض ممن هو بها اليوم أحد)؛ فخصص ذلك بظهر الأرض فلم يتناول اللفظ من في السماء، وعيسى قد رفعه الله من الأرض كما صرح بذلك في قوله تعالى: ((بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ)) [النساء:158] وهذا واضح جداً كما ترى.
ودعوى حياة أصحاب الكهف، وفتى موسى ظاهرة السقوط، ولو فرضنا حياتهم فإن الحديث يدل على موتهم عند المائة كما تقدم ؛ ولم يثبت شيء يعارضه.
وقوله: (إن الخضر ليس مشاهداً للناس، ولا ممن يخالطهم حتى يخطر ببالهم حالة مخاطبة بعضهم بعضاً) يقال فيه: إن الاعتراض يتوجه عليه من جهتين:(10/13)
الأولى: أن دعوى كون الخضر محجوباً عن أعين الناس - كالجن والملائكة - دعوى لا دليل عليها والأصل خلافها ؛ لأن الأصل أن بني آدم يرى بعضهم بعضاً لاتفاقهم في الصفات النفسية، ومشابهتهم فيما بينهم.
الثانية: أنا لو فرضنا أنه لا يراه بنو آدم، فالله الذي أعلم النبي بالغيب الذي هو (هلاك كل نفس منفوسة في تلك المائة) عالم بالخضر، وبأنه نفس منفوسة، ولو سلمنا جدلياً أن الخضر فرد نادر لا تراه العيون، وأن مثله لم يقصد بالشمول في العموم، فأصح القولين عند علماء الأصول شمول العام والمطلق للفرد النادر والفرد غير المقصود.خلافاً لمن زعم أن الفرد النادر وغير المقصود لا يشملهما العام ولا المطلق... وقد كان الصحابة رضي الله عنهم يعملون بشمول العمومات من غير توقف في ذلك.
وبذلك تعلم أن دخول الخضر في عموم قوله تعالى: ((وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ...)) الآية، وعموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: (أرأيتكم ليلتكم هذه فإنه على رأس مائة سنة لا يبقى على وجه الأرض ممن هو عليها اليوم أحد) هو الصحيح، ولا يمكن خروجه من تلك العمومات إلا بمخصص صالح للتخصيص ومما يوضح ذلك: أن الخنثى صورة نادرة جداً، مع أنه داخل في عموم آيات المواريث والقصاص والعتق، وغير ذلك من عمومات أدلة الشرع.(10/14)
وما ذكره القرطبي من خروج الدجال من تلك العمومات بدليل حديث الجساسة لا دليل فيه؛ لأن الدجال أخرجه دليل صالح للتخصيص، وهو الحديث الذي أشار له القرطبي، وهو حديث ثابت في الصحيح من حديث فاطمة بنت قيس رضي الله عنهما...ومحل الشاهد منه قول تميم الداري: (فانطلقنا سراعاً حتى دخلنا الدير فإذا فيه أعظم إنسان رأيناه قط خلقاً، وأشده وثاقاً مجموعة يداه إلى عنقه ما بين ركبتيه إلى كعبيه بالحديد؛ قلنا: ويلك! مالك! الحديث بطوله - إلى قوله - وإني مخبركم عني، إني أنا المسيح، وإني أوشك أن يُؤْذن لي في الخروج فأخرج فأسير في الأرض، فلا أدع قرية إلا هبطها في أربعين ليلة غير مكة وطيبة فهما محرمتان عليّ كلتاهما...) الحديث"صحيح مسلم" (2942).
فهذا نص صحيح صريح في أن الدجال حي موجود في تلك الجزيرة البحرية المذكورة في حديث تميم الداري المذكور، وأنه باقٍ وهو حي: حتى يخرج في آخر الزمان وهذا نص صالح للتخصيص يُخْرجُ الدجال من عموم حديث موت كل نفس في المائة.
والقاعدة المقررة في الأصول: أن العموم يجب إبقاؤه على عمومه، فما أخرجه نص مخصص خرج من العموم، وبقي العام حجة في بقية الأفراد التي لم يدل على إخراجها دليل؛ كما قدمناه مراراً وهو الحق ومذهب الجمهور، وهو غالب ما في الكتاب والسنة من العمومات يخرج منها بعض الأفراد بنص مخصص، ويبقى العام حجة في الباقي، وإلى ذلك أشار في مراقي السعود في مبحث التخصيص بقوله: وهو حجة لدى الأكثر إن مخصص له معيناً يبن وبهذا كله يتبين أن النصوص الدالة على موت كل إنسان على وجه الأرض في ظرف تلك المائة، ونفي الخلد عن كل بشر قبله تتناول بظواهرها الخضر، ولم يخرجه منها نص صالح للتخصيص كما رأيت والعلم عند الله) انتهى كلام العلامة الشنقيطي رحمه الله.(10/15)
وقال العلامة عبد العزيز بن باز رحمه الله في تعليقه على "فتح الباري" (2/90): (الذي عليه أهل التحقيق أن الخضر قد مات قبل بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم -لأدلة كثيرة معروفة في محلها،
ولو كان حياً في حياة نبياً - صلى الله عليه وسلم - لدخل في هذا الحديث وكان ممن أتى عليه الموت قبل رأس المائة كما أشار إليه الشارح هنا فتنبه، والله أعلم) اهـ.
* الدليل الرابع:
ثبت في"صحيح البخاري" أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال يوم بدر: (اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تُعْبَدْ في الأرض) رواه البخاري ومسلم، ولم يكن الخضر فيهم ولو كان حياً لورد على هذا العموم فإنه كان ممن يعبد الله قطعاً.
قال ابن القيم رحمه الله في "المنار المنيف" (ص36): (سئل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عن الخضر عليه السلام؛ فقال لو كان الخضر حيا لوجب عليه أن يأتي النبي - صلى الله عليه وسلم - ويجاهد بين يديه ويتعلم منه، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم بدر: (اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض) وكانوا ثلاث مائة وثلاثة عشر رجلاً، معروفين بأسمائهم وأسماء آبائهم وقبائلهم فأين كان الخضر حينئذ) اهـ.
وقال العلامة الشنقيطي رحمه الله في"أضواء البيان" (4/165 - 166): (ومحل الشاهد منه قوله - صلى الله عليه وسلم -: (لا تعبد في الأرض) فعل في سياق النفي: فهي بمعنى: لا تقع عبادة لك في الأرض، لأن الفعل ينحل عن مصدر وزمن عند النحويين، وعن مصدر ونسبة وزمن عند كثير من البلاغيين، فالمصدر كامن في مفهومه إجماعاً، فيتسلط عليه النفي، فيؤول إلى النكرة في سياق النفي، وهو من صيغ العموم...فإذا علمت أن معنى قوله - صلى الله عليه وسلم -: (إن تهلك هذه العصابة لا تُعْبَدْ في الأرض) أي لا تقع عبادة لك في الأرض:(10/16)
فاعلم أن ذلك النفي يشمل بعمومه وجود الخضر حياً في الأرض، لأنه على تقدير وجوده حياً في الأرض فإن الله يُعْبَدُ في الأرض، ولو على فرض هلاك تلك العصابة من أهل الإسلام؛ لأن الخضر ما دام حياً فهو يعبد الله في الأرض).
واستدل بهذا الحديث ذاته، الإمام ابن كثير في"البداية والنهاية" (1/312 - 313) ووجهه: بأن تلك العصابة - التي هي مقصود الحديث - كان فيها سادة المسلمين يومئذ، وسادة الملائكة، حتى جبريل عليه السلام، فلو كان الخضر حياً، لكان وقوفه تحت هذه الراية، أشرف مقاماته، وأعظم غزواته.
* الدليل الخامس:
قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (وددنا أن موسى كان صبر فقصَّ الله علينا من خبرهما) رواه البخاري ومسلم.
قال الحافظ: (وهذا مما استدل به من زعم أنه لم يكن حالة هذه المقالة موجوداً إذ لو كان موجوداً لأمكن أن يصحبه بعض أكابر الصحابة فيرى منه نحواً مما رأى موسى).
* الدليل السادس:
قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (والذي نفسي بيده لو أن موسى كان حياً ما وسعه إلا أن يتبعني) رواه الإمام أحمد.
قال ابن الجوزي: (فإذا كان هذا في حق موسى فكيف لم يتبعه الخضر إذ لو كان حياً فيصلي معه الجمعة والجماعة ويجاهد تحت رأيته كما ثبت أن عيسى يصلي خلف إمام هذه الأمة).
* ثالثاً: الأدلة العقلية على موت الخضر عليه الصلاة والسلام:
قال الإمام ابن الجوزي رحمه الله كما في"المنار المنيف" للإمام ابن القيم رحمه الله:
(أما الدليل من المعقول على موت الخضر عليه السلام فمن عشرة أوجه:
* الوجه الأول: أن الذي أثبت حياته يقول إنه ولد آدم لصلبه وهذا فاسد لوجهين:
أحدهما: أن يكون عمره الآن ستة آلاف سنة فيما ذكر في كتاب يوحنا المؤرخ، ومثل هذا بعيد في العادات أن يقع في حق البشر.
الثاني: أنه لو كان ولده لصلبه، أو الرابع من ولد ولده كما زعموا، وأنه كان وزير ذي القرنين، فإن تلك الخلقة ليست على خلقتنا بل مفرط في الطول والعرض.(10/17)
* الوجه الثاني: في "الصحيحين" من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال:
(خلق الله آدم طوله ستون ذراعا فلم يزل الخلق ينقص بعد) وما ذكر أحد ممن رأى الخضر أنه رآه على خلقة عظيمة وهو من أقدم الناس.
* الوجه الثالث: إن كان الخضر قبل نوح لركب معه في السفينة ولم ينقل هذا أحد.
* الوجه الرابع: أنه قد اتفق العلماء أن نوحاً لما نزل من السفينة مات من كان معه، ثم مات نسلهم، ولم يبق غير نسل نوح، والدليل على هذا قوله تعالى: ((وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ)) [الصافات:77]؛ وهذا يبطل قول من قال إنه كان قبل نوح.
* والوجه الخامس: أن هذا لو كان صحيحاً أن بشراً من بني آدم يعيش من حين يولد إلى آخر الدهر، ومولده قبل نوح، لكان هذا من أعظم الآيات والعجائب، وكان خبره في القرآن مذكوراً في غير موضع، لأنه من أعظم آيات الربوبية، وقد ذكر الله سبحانه وتعالى من أحياه ألف سنة إلا خمسين عاما، وجعله آية، فكيف بمن أحياه إلى آخر الدهر، ولهذا قال بعض أهل العلم: ما ألقى هذا بين الناس إلا شيطان.
* والوجه السادس: أن القول بحياة الخضر قول على الله بلا علم، وذلك حرام بنص القرآن.
أما المقدمة الثانية فظاهره، وأما الأولى فإن حياته لو كانت ثابتة لدل عليها القرآن
أو السنة، أو إجماع الأمة، فهذا كتاب الله تعالى فأين فيه حياة الخضر؟ وهذه سنة
رسول الله- صلى الله عليه وسلم - فأين فيها ما يدل على ذلك بوجه؟ وهؤلاء علماء الأمة هل أجمعوا على حياته؟
* الوجه السابع: أن غاية ما تمسك به من ذهب إلى حياته حكايات منقولة يخبر الرجل بها أنه رأى الخضر!!
فيا لله العجب هل للخضر علامة يعرف بها من رآه، وكثير من هؤلاء يغتر بقوله: أنا الخضر؟!
ومعلوم أنه لا يجوز تصديق قائل ذلك بلا برهان من الله، فأين للرائي أن المخبر له صادق لا يكذب؟!(10/18)
* الوجه الثامن: أن الخضر فارق موسى بن عمران كليم الرحمن ولم يصاحبه وقال له: ((هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ)) [الكهف:78]، فكيف يرضى لنفسه بمفارقته لمثل موسى، ثم يجتمع بجهلة العباد الخارجين عن الشريعة الذين لا يحضرون جمعة ولا جماعة، ولا مجلس علم، ولا يعرفون من الشريعة شيئا؟! وكل منهم يقول: قال الخضر، وجاءني الخضر، وأوصاني الخضر، فيا عجبا له يفارق كليم الله تعالى ويدور على صحبة الجهال ومن لا يعرف كيف يتوضأ، ولا كيف يصلي!!
* الوجه التاسع: أن الأمة مجمعة على أن الذي يقول أنا الخضر، لو قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول كذا وكذا لم يلتفت إلى قوله، ولم يحتج به في الدين، ولا مخلص القائل بحياته عن ذلك إلا أن يقول إنه لم يأت إلى الرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا بايعه أو يقول إنه لم يرسل إليه!! وفي هذا من الكفر ما فيه!
* الوجه العاشر: أنه لو كان حياً لكان جهاده الكفار، ورباطه في سبيل الله، ومقامه في الصف ساعة، وحضوره الجمعة والجماعة، وإرشاده الأمة أفضل بكثير من سياحته بين الوحوش في القفار، والفلوات، وهل هذا إلا من أعظم الطعن عليه والعيب له؟!
* رابعاً: أقوال العلماء في تضعيف الأحاديث التي جاء فيها أنه حي:
1 - نقل ابن الجوزي رحمه الله تلك الأحاديث بأسانيدها في كتابه"الموضوعات" (1/195ـ197) ثم قال: (هذه الأحاديث باطلة).
2 - قال الحافظ ابن القيم رحمه الله في "المنار المنيف" (ص67): (والأحاديث التي يذكر فيها الخضر وحياته، كلها كذب، ولا يصح في حياته حديث واحد) اهـ.
3 - نقل الحافظ ابن كثير تلك الأحاديث في"البداية والنهاية" (1/334) ثم قال: (هذه الروايات والحكايات هي عمدة من ذهب إلى حياته إلى اليوم، وكل من الأحاديث المرفوعة ضعيفة جداً، لا تقوم بمثلها حجة في الدين).(10/19)
4 - ونقل الحافظ ابن حجر رحمه الله في كتابه"الزهر النضر" (ص32) قول أبي الخطاب ابن دحية - مقراً له - : (ولا يثبت اجتماع الخضر مع أحد من الأنبياء إلا مع موسى كما قص الله تعالى من خبرهما، وجميع ما ورد في حياته لا يصح منها شيء باتفاق أهل النقل، وإنما يَذكر ذلك من يروي الخبر ولا يذكر علته، إما لكونه لا يعرفها، وإما لوضوحها عند أهل الحديث).
5 - ونقل ابن الجوزي رحمه الله في "الموضوعات" (1/199) عن ابن المنادي قوله: (جميع الأخبار في ذكر الخضر، واهية الصدر والأعجاز..).
* خامساً: الرد على تقسيم الصوفية الدين إلى ظاهر وباطن:
وفي هذا الفصل أورد ما ذكره الشيخ عبدالرحمن دمشقية حفظه الله في كتابه"أبو حامد الغزالي والتصوف" (ص256 - 262) في الرد على استغلال الصوفية السيئ لقصة موسى والخضر عليهما السلام في تقسيمهم الدين إلى ظاهر وباطن! حيث قال:
ولو أن الأمة كلها أرادت الاقتداء بقصة موسى مع الخضر - على الوجه الذي يفهمه منها الصوفية - لبطل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولأصبحت هذه القصة ذريعة الزنادقة لتحليل الشرائع، كما تذرعت الباطنية بقاعدة الباطن والظاهر في تحليل المحرمات وإسقاط التكاليف وإبطال الفرائض.
ولأصبح بإمكان الزنادقة أن يصرخوا في وجه المنكرين ويسكتوهم بمجرد تذكيرهم بقصة موسى والخضر بحجة أن عليهم التزام الصمت وعدم التسرع في الإنكار كما فعل ذلك موسى (عليه الصلاة والسلام)، وهذا قد حصل بالفعل إذ حجج ضلال الصوفية قائمة على هذه القصة وكم ألبسوا بذلك على جهال المسلمين، وأوقعوهم في متاهات الضلال.
أما القصة فهي حق وما ورد فيها حق، وأما استغلال الصوفية لها، فإنه استغلال لحقٍ أُريد به باطل.
وذلك لوجوه تسعة:(10/20)
* الوجه الأول: (أن موسى عليه الصلاة والسلام كان يعلم منزلة الخضر عليه السلام في العلم وأنه أكثر علماً منه، وهذا كافٍ لأخذ ما عند الخضر بلا انكار ولا اعتراض، ومع ذلك فقد أنكر موسى - صلى الله عليه وسلم - عليه بينما لم يخبر الله العباد عن حقيقة صدق المشايخ أو كذبهم
وما يسمون بالأولياء عند الصوفية ولا أنزل فيهم ذكراً يجعل الناس واثقين من أن ما يرونه منهم من الأعمال المنكرة يكون له تأويلات مشابهة لأعمال الخضر عليه الصلاة والسلام.
وحين سئل موسى عليه السلام: أي الناس أعلم؟ قال: أنا، فعتب الله عليه إذ لم يرد العلم إليه فقال:بلى، لي عبد بمجمع البحرين هو أعلم منك.قال: أيْ رب ومن لي به؟ قال: تأخذ حوتاً فتجعله في مكتل، وحيثما فقدت الحوت فهو ثمَ"["فتح الباري" (6/431 - 432)] أي يكون في المكان الذي أضعت عنده الحوت.
إذن فموسى عليه السلام على علم بمنزلته في العلم، وبمكانه الذي يلقاه عنده، بل هو مأمور بملاقاته كما يستفاد ذلك من الحديث.
قال الطبري: (وكان موسى قد حدث نفسه أنه ليس أحد أعلم منه أو تكلم به، فمن ثم أُمر أن يأتي الخضر)"تفسير الطبري" (15/179).
* الوجه الثاني: أن ما فعله الخضر عليه السلام كان مأموراً به، ولم يفعله من عنده لقوله تعالى: ((وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي)) [الكهف:82]، وقد ذهب المفسرون إلى أن الأمر ههنا هو الوحي - وفي مقدمتهم الرازي - بحجة استحالة قتل غلام ونحوه من غير حصول وحي قاطع يأمر بذلك، فهل مشايخ الصوفية مأمورون من الله بفعل المنكرات المخالفة لأوامره ونواهيه ودينه الذي أتمه وارتضاه لعباده؟ وهل يحصل لهم الوحي في ذلك كما حصل للخضر عليه السلام؟ إن قالوا بحصول الوحي فإنهم حينئذ دجاجلة لا فرق بينهم وبين مسيلمة.(10/21)
وإن نفوا أن يكونوا قد فعلوا هذه المنكرات بمقتضى وحي ما، فحينئذٍ يقال لهم: ما تفعلونه مخالف لما أوحاه الله على نبيه - صلى الله عليه وسلم -، فلا وجه يصح في استدلالكم بقصة الخضر وبأفعاله التي كانت وحياً ولم يفعلها عن أمره؟!!!
* الوجه الثالث: (أنهم باستدلالهم بقصة موسى والخضر عليهما السلام ينتقصون من مكانة وقدر موسى عليه الصلاة والسلام، فإنهم ينزلونه منزلة العوام الذين يرون ظواهر الأعمال ولا يتفطنون إلى معرفة حقائقها.
وهم - أي مشايخ الصوفية - يدعون أنهم يعرفون ذلك، ويقدمون بذلك درجة العارف (الصوفي) على رتبة النبي (1)، جاعلين موسى في مصاف العوام الذين لم ينالوا درجة الصوفي العارف.
* الوجه الرابع: أنه لا يجوز الخروج على شريعة النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - إلى شريعة أخرى، وهذه القصة حدثت في بني إسرائيل لم نؤمر بالتعبد بفعلها، قال تعالى: ((تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ)) [البقرة:134]. فقد أمر الله تعالى مريم وزكريا أن يمسكا عن الكلام ثلاثة أيام بقوله: ((فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً)) [مريم:26]، وقوله لزكريا عليه السلام: ((قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيَالٍ سَوِيّاً)) [مريم:10].(10/22)
فهل يجوز أن يتخذ أحد من أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - من هذا الصيام عبادة له فيصوم عن الكلام مستدلاً بورود ذلك في القرآن؟ ومعلوم أن الخضر وموسى بل وسائر الأنبياء عليهم أفضل الصلوات وأتم التسليم، لو كانوا أحياء لما وسعهم إلا أن يتبعوا شريعة النبي محمد - صلى الله عليه وسلم -، لأن النبي كان يُرسل إلى قومه خاصة؛ ونبيناً - صلى الله عليه وسلم - أُرسل إلى الناس عامة - إنسهم وجنهم - وحين ينزل المسيح آخر الزمان، فإنه يحكم بين الناس بشريعة القرآن لا يحكم بإنجيل ولا توراة.
والمسيح عليه الصلاة والسلام هو من الرسل الخمسة أولي العزم، وهو خاتم أنبياء بني إسرائيل، ومع هذا فإنه يتبع ما أُنزل إلى نبينا - صلى الله عليه وسلم -، ويحكم بين الناس فيه.
* الوجه الخامس: أن موسى والخضر عليهما السلام لم يخرجا عن الشريعة والنصوص في شيء، وإنما كان موقف موسى مع الخضر كموقف المجتهد المتمسك بعموم الدليل مع صاحب النص الخاص المتمسك بالدليل الخاص، وكلاهما على الدليل يعتمد، ومن الشريعة يستقي لأن هذا مأمور وذلك مأمور.
فمثلاً قصة الغلام: معلوم أن قتل النفس بغير نفس هو منكر ومحرم.
وهذا يعلمه موسى والخضر عليهما السلام ويؤمنان به، وهذا التحريم عام في كل نفس، إلا ما نص الشرع على خصوصيته واستحقاقه للقتل فبقي موسى على هذا العموم حسب علمه.
لكن الخضر عنده في هذا الغلام المعين دليل خاص فقتله إذ كان مأموراً من الله بفعله حيث قال: ((فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَاناً وَكُفْراً)) [الكهف:80] بدليل أن الخضر عليه السلام لم يقتل أحداً من المساكين - أصحاب السفينة - ولا أهل القرية الذين أبوا أن يضيفوهما، ألا ترى أنه لو كان القتل عند الخضر حلالاً ومخالفاً لشريعة موسى لكان أهل القرية أحرى بالقتل من الغلام، إذ قد منعوه اليسير من الطعام، بينما لم يكن قد أظهر شيئاً من الكفر!(10/23)
لكن الأمر غير ذلك. فقد قتل الخضر من جاءه أمر الله بقتله، إذ الأمر وحي من الله ووقوف مع النص، فتحريم الله القتل عند موسى عليه السلام هو تشريع من الله بذلك، وإباحة الله للخضر عليه السلام بقتل الغلام تشريع من الله بذلك.
فهذا كله في واد، وما تزعمه الصوفية في واد آخر، وما هدف القوم إلا هدم الإسلام،
وإلا فلماذا انتحال المعاذير وتأويل النصوص الصريحة الدالة على اجتناب المحرمات، بل في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي يستند إليه من ينكر عليهم فسادهم؟!!!
* الوجه السادس: أن الخضر عليه السلام لم ينكر على موسى عليه السلام إنكاره عليه مطلقاً، بل أنكر عليه تسرعه في الإنكار قبل أن يسأله عن مأخذه الشرعي، مع أنه حذره أنه لن يستطيع معه الصبر على ما لم يحط به خبراً، ولولا علم موسى عليه السلام بنبوة الخضر عليه السلام لما صبر عليه ولما ارتضى أن يُقتل طفل صغير أمامه وغرق سفينة ومع ذلك فقد أنكر وغالب الصوفية لا ينكرون على من ليسوا أنبياء.
وثانياً: أنه أشترط عليه ألا يسأله عن شيء حتى يحدث له منه ذكراً، ولكن كان من شأن موسى عليه السلام، وطبعه أن يسارع في الحق كما قص الله تعالى علينا من خبر إقدامه على قتل القبطي، وأخذه بلحية أخيه هارون ورأسه، وإلقائه الألواح، وقد تسرع ههنا في قوله: ((إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلا تُصَاحِبْنِي)) [الكهف:76].
ولهذا قال النبي- صلى الله عليه وسلم -: (رحمة الله علينا وعلى موسى لو لبث مع صاحبه لأبصر العجب) "تفسير الطبري" (15/186) "فتح الباري" (8/424).
فأين هذا من أوامر الصوفية الصريحة بعدم الاعتراض على الشيخ مهما ارتكب من المحرمات الظاهرة، فإن مجرد الاعتراض على الشيخ موجب عندهم للمقت والطرد من رحمة الله وسلب المال، والسقوط في امتحان الشيخ كما يلفقون.
واسمع ما يقولونه في وجوب طاعة المريد للشيخ طاعة عمياء: قالوا:
(فصل) في آداب المريد مع شيخه وهي كثيرة جداً...(10/24)
(منها) أن يكون مستسلماً منقاداً راضياً بتصرفات الشيخ يخدمه بالمال والبدن.
(ومنها) أن لا يعترض عليه فيما فعله ولو كان ظاهره حراماً، ولا يقول لشيخه: لِمَ فَعلت كذا، لن من قال لشيخه: لِمَ ؟ لم يفلح أبداً...وفي هذا المعنى قال بعضهم (2):
وكن عنده كالميت عند مغسل يقلبه ما شاء وهو مطاوع
ولا تعترض فيما جهلت من أمره عليه فإن الاعتراض تنازع
وسلم له فيما تراه ولو يكن على غير مشروع فثم مخادع
فتبين بذلك حقيقة مرادهم من قصة موسى والخضر عليهما السلام، وهو إتيان المنكرات والمحرمات وإطلاق العنان لشهواتهم من غير إنكار يقض مضاجعهم ويؤرق جفونهم، مع أن موسى عليه السلام لم يترك الإنكار على الخضر - عليه السلام - ولا مرة واحدة.
* الوجه السابع: أن إنكار موسى عليه السلام يستدل منه على أن الفطر السليمة - الخالصة من شوائب العبودية والتقديس لغير الحق الذي أنزله الله - لابد وأن تنكر المنكر، وكل الناس مأمورون بذلك عملاً بقوله تعالى: ((كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ)) [آل عمران:110]، ولم يُستثن من هذه الآية شيخ ولا ولي بل ولا صحابي أو تابعي، وقد كان الصحابة ينكرون على من خالف منهم في شيء ما فإذا كان ذلك يقع بين الصحابة - وهم افضل أولياء الله على الإطلاق - فما بالك بأولياء الصوفية إن كانوا أولياء لله حقاً ؟!!!
ثم إن الله أمرنا أن ننكر المنكر في حين أنه لم يؤتنا علم الغيب الذي يمكن معه معرفة حقيقة مراد الشيخ الصوفي بالمنكر الذي يزعم أنه يبدوا منكراً في ظاهره.(10/25)
ثم إن الله لم يكلفنا أن ننظر إلى بواطن ونيات وقلوب أصحاب العمل المخالف في الظاهر، ولم يجعل فينا خاصية ذلك لأنه لا يعلم ما في القلوب إلا ربها، وحتى هذا الأصل يخالفنا فيه الصوفية، ولذلك فقد انزل علينا كتاباً وسنة يعتبران دائماً الأصل الذي نتحاكم إليه ومن مقتضى هذا الأصل نحكم على الأعمال إن كانت صالحة أو طالحة، وقد لعن بنو إسرائيل بسبب تركهم هذا الأصل العظيم، والذي يحفظ الدين من فساد المفسدين وضلال المضلين وبدع المبتدعين الذين يأخذون ما تشابه من قصة موسى والخضر عليهما السلام ويتركون المحكم من الآيات والأحاديث الدالة على حِل الطيبات وتحريم الخبائث.
وعلامة ضلالهم أنهم لا يحثون الناس على العمل بهذا الأصل ولا يذكرونهم بقوله تعالى:
((كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ)) ، وإنما يحذرونهم من الإنكار مستدلين بقصة موسى والخضر عليهما السلام التي لا تشهد إلا ضدهم، وبالحديث القدسي: (من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب) لكن الحديث لم يعنهم بذلك لأن أولياء الله ليسوا مخرفة ولا مبتدعة، فلا يرقصون عند السماع ولا يجعلون دعاءهم مكاءً وتصدية، ولا ينشرون الوثنية وتقديس الأموات والدجل بين العوام.(10/26)
* الوجه الثامن: أن فهم المتصوفة للقصة فهم شاذ، وتأسيهم بها شاذ أيضاً فالصحابة والتابعون وتابعو التابعين لم يفهموا منها هذا الفهم، ولم يبنوا عليها منهجاً يرتب على أساسها العلاقة بين المريد والشيخ، ولا يعقل أن يكون المتصوفة قد انفتح عليهم من فهم هذه الآية ما أخفي على أولئك الأفاضل - ولا أفاضل الأئمة - ما حدث بين موسى والخضر عليهما السلام - حتى جاء الصوفية وتذرعوا بتلك القصة تلبيساً منه على عوام الخلق مستحدثين بدعاً من العلوم "العلم اللدني" مستدلين بقول الله عن الخضر عليه السلام: ((وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً)) [الكهف:65] وعلى فرض أنه يوجد في شرائع من قلنا بما يسمى"العلم اللدني"فإن شريعة محمد - صلى الله عليه وسلم - ختمت كل الشرائع والعلوم بما فيها"اللدني وغير اللدني"وما هذا العلم اللدني الذي يتباهى به الصوفية إلا شريعة أخرى مناهضة لما جاء به نبينا - صلى الله عليه وسلم - لأن ما يأتون به من مخالفات إذا أنكره أحد قالوا هذا من العلم اللدني وأنت محق في إنكارك لأنك لم تترق إلى منزلة هذا العلم، وعلمهم هذا لدني - كما أسلفت - لكنه ليس من لدن الله وإنما من لدن شياطينهم، كما قال تعالى: (()وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ)) [الأنعام:121].(10/27)
* الوجه التاسع: إذا كان الخضر عليه السلام قال لموسى عليه السلام: يا موسى، إني على علم من علم الله علمنيه الله لا تعلمه - وإذا كان هذا خروجاً من الخضر عن شريعة موسى في هذا الباب - فإن ذلك لا يجوز قوله في شريعة محمد - صلى الله عليه وسلم - التي قال الله فيها: ((الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ)) [لمائدة:3]، فما خرج الخضر عن شريعة موسى في هذا الباب إلا لشرع آخر من الله أمره به، أما شريعة سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - فإنها باقية إلى قيام الساعة، ولا يستدل أو يستغنى عنها بشيء آخر البتة، ولا يجوز أن يقول قائل: أنا على علم من الله لم يؤتاه محمد - صلى الله عليه وسلم - ولذا فإن الكل ملزمون باتباعها ظاهراً وباطناً ولا حجة لمن خالفها، ولو أحيا الله الأنبياء جميعاً ما وسعهم إلا أن يتبعوها، إذ ما نزل عليه - صلى الله عليه وسلم - هو المصدر الوحيد الذي يجب أن يكون مشكاةً للمسلمين كلهم لا يستثنى منهم أحد في الخروج عنه، وقد قال تعالى: ((وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ )) [آل عمران:85]. فذلك تأكيد من الله على عدم حصول وحي منه على أحد غير النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو في الوقت نفسه يفيد تحريم أخذ شيء من الأمور التعبدية عن غير هذا الطريق). انتهى كلام الشيخ عبدالرحمن دمشقية جزاه الله خيراً.
الخاتمة:
والخلاصة إن الراجح من الأقوال هو قول الذين يقولون بموت الخضر وعدم تعميره إلى زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - وإلى الآن وذلك لقوة أدلتهم التي سبق ذكرها من آيات قرآنية وأحاديث نبوية.
وأما القائلون بحياة الخضر وتعميره فليس لهم أدلة صحيحة يعتمدون عليها وإنما كل
ما يعتمدون عليه من أدلة لا يخلو من أحد أمرين:(10/28)
إما أحاديث ضعيفة وموضوعة التي حكم عليها العلماء بالإجماع بالضعف وإما حكايات مشائخ التصوف وأمثالهم الذي يزعمون بأنهم ألتقوا بالخضر.
والأحاديث الضعيفة والموضوعة والحكايات المكذوبة لا تصلح أن تكون أدلة يعتمد عليها لإثبات مثل هذا الأمر وعلى هذا فالقول بحياة الخضر وتعميره يعتبر باطلاً وكذباً وافتراء على الله وعلى رسوله وذلك لأنه لم يرد في كتاب الله تعالى ولا في سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ما يدل على تعمير الخضر نهائياً.
وبناء على هذا فحكايات الصوفية التي يزعمون فيها التقاؤهم بالخضر وتلقي الأذكار عنه تعتبر كذباً وافتراءاً محضاً على الله وعلى رسوله - صلى الله عليه وسلم - لأن الخضر قد مات كما يموت غيره فكيف يمكن أن يلتقي بهم ويوزع عليهم الأذكار.
وعلى فرض حياته وإن كان هذا مرجوحاً فإنه مأمور بإتباع الرسول - صلى الله عليه وسلم - في كل شئون حياته.
وأخيراً أختم هذا المبحث المتعلق بالخضر عليه السلام بنقل كلام نفيس للإمام ابن كثير رحمه الله ختم به موضوع الخضر في كتابه"البداية والنهاية" (1/336) حيث قال:
(ثم ما الحامل له - أي الخضر عليه السلام - على هذا الاختفاء وظهوره أعظم لأجره
وأعلى في مرتبته وأظهر لمعجزته ثم لو كان باقياً بعده لكان تبليغه عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم - الأحاديث النبوية والآيات القرآنية وإنكاره لما وقع من الأحاديث المكذوبة والروايات المقلوبة والآراء البدعية والأهواء العصبية وقتاله مع المسلمين في غزواتهم وشهوده جمعهم وجماعاتهم ونفعه إياهم ودفعه الضرر عنهم ممن سواهم وتسديده العلماء والحكام وتقريره الأدلة والأحكام أفضل ما يقال عنه من كونه في الأمصار وجوبه الفيافي والأقطار واجتماعه بعباد لا يعرف أحوال الكثير منهم وجعله لهم كالنقيب المترجم عنهم وهذا الذي ذكرناه لا يتوقف أحد فيه بعد التفهيم والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم).(10/29)
وصلى الله على نبيا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(10/30)
إرشاد الطالب إلى أهم المطالب
تأليف الشيخ
سليمان بن سحمان رحمه الله
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وكفى ، وسلام على عباده الذين اصطفى ( أما بعد ) :-
فقد تأملت ما ذكره الأخ من المسائل التي ابتلى بالخوض فيها كثير من الناس من غير معرفة ولا إتقان ، ولا بينة ولا دليل واضح من السنة والقرآن ، وقد كان غالب من يتكلم فيها بعض المتدينين من العوام ، الذين لا معرفة لهم بمدارك الأحكام ، ولا خبرة لهم بمسالك مهالكها المظلمة العظام ، وليس لهم اطلاع على ما قرره أئمة الإسلام ، ووضحوه في هذه المباحث التي لا يتكلم فيها إلا فحول الأئمة الأعلام وهذه المسائل قد وضحها أهل العلم وقرروها وحسبنا أن نسير على منهاجهم القويم ، ونكتفي بما وضحوه من التعليم والتفهيم ، ونعوذ بالله من القول على الله بلا علم . وهذه المسائل التي أشرت إليها لا يتكلم فيها إلا العلماء من ذوي الألباب ومن رزق الفهم عن الله وأوتي الحكمة وفصل الخطاب . ونحن وإن كنا للسنا من أهل هذا الشأن ، ولا ممن يجري الجواد في مثل هذا الميدان . فإنما نسير على منهاج أهل العلم ونتكلم بما وضحوه في هذا الباب . ولولا ما ورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من الوعيد في ذلك بقوله (( من سئل عن علم وهو يعلمه فكتمه ألجمه الله بلجام من نار )) لضربت عن الجواب صفحاً ، ولطويت عن ذلك كشحاً ، ولكن مالا يدرك كله لا يترك كله ولا بد من ذكر مقدمة نافعة ليعلم من نصح نفسه وأراد نجاتها أن :
كفر الجحود وكفر العمل(11/1)
المبادرة بالتكفير والتفسيق والهجر من غير اطلاع على كلام العلماء لا يتجاسر عليه إلا أهل البدع الذين مرقوا من الإسلام ولم يحققوا تفاصيل ما في هذه المسائل المهمة العظام ، مما قرروه وبينوه من الأحكام ، قال شيخ الإسلام ابن تيميه قدس الله روحه في ( منهاج السنة ) بعد أن ذكر أقوال أهل البدع كالمعتزلة والخوارج والمرجئة وذكر كلاماً طويلاً ثم قال [ وإذا كان المسلم الذي يقاتل الكفار قد يقاتلهم شجاعة وحمية ورياء وذلك ليس في سبيل الله فكيف بأهل البدع الذين يخاصمون ويقاتلون عليها فإنهم يفعلون ذلك شجاعة وحمية وربما يعاقبون لما اتبعوا أهواؤهم بغير هدى من الله لا لمجرد الخطأ الذي اجتهدوا فيه ، ولهذا قال الشافعي : لأن أتكلم في علم يقال لي فيه كفرت . فمن عيوب أهل البدع تكفير بعضهم بعضاً ، ومن ممادح أهل العلم أنهم يخطئون ولا يكفرون . وسبب ذلك أن أحدهم قد يظن ما ليس بكفر كفراً- وقد يكون كفراً لأنه تبين له أنه تكذيب للرسول وسب للخالق _ والآخر لم يتبين له ذلك فلا يلزم إذا كان هذا العالم بحاله يكفر إذا قاله أن يكفر من لم يعلم بحاله ] إلى آخر كلامه والمقصودان من مذاهب أهل البدع وطرائقهم أنهم يكفر بعضهم بعضاً . ومن ممادح أهل السنة أنهم يخطئون ولا يكفرون ، فإذا تحققت هذا وجعلته نصب عينيك أفادك الحذر كل الحذر من الغلو والتعمق ومجاوزة الحد في هذه المسائل والله يقول الحق وهو يهدي السبيل .
( فصل )
( قال السائل – المسئلة الأولى ) ما الكفر الذي يخرج من الملة والذي لا يخرج من _ في قولهم الكفر كفران ، وكذا الفسق فسقان .
والجواب أن نقول هذه المسألة قد أجاب عنها شيخنا الشيخ الفاضل عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن في رسالته للخطيب وذكر ما ذكره شمس الدين ابن القيم رحمه الله تعالى في كتاب الصلاة فقال رحمه الله .(11/2)
( الأصل الرابع ) أن الكفر نوعان – كفر عمل ، وكفر جحود وعناد ، وهو أن يكفر بما علم أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - جاء به من عند الله – جحوداً وعناداً – من أسماء الرب وصفاته وأفعاله وأحكامه التي اصلها توحيده وعبادته وحده لا شريك له وهذا مضاد للإيمان من كل وجه . وأما كفر العمل فمنه ما يضاد الإيمان كالسجود للصنم والاستهانة بالمصحف وقتل النبي وسبه . وأما الحكم بغير ما أنزل الله وترك الصلاة فهذا كفر اعتقاد وكذلك قوله (( لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض )) وقوله (( من أتى كاهنا أو امرأة في دبرها فقد كفر بما أنزل على محمد )) - صلى الله عليه وسلم - فهذا من الكفر العملي وليس كالسجود للصنم والاستهانة بالمصحف وقتل النبي وسبه وإن كان الكل يطلق عليه الكفر وقد سمى الله سبحانه من عمل ببعض كتابه وترك العمل ببعضه مؤمناً بما عمل به كافراً بما ترك العمل به .
المعاني المشتركة بين الكفر والظلم والفسق(11/3)
قال تعالى { وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ } "البقرة: من الآية84" إلى قوله { أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْض } "البقرة: من الآية85" أنهم أقروا بميثاقه الذي أمرهم به والتزموه وهذا يدل على الآية فأخبر سبحانه تصديقهم به . وأخبر أنهم عصوا أمره وقتل فريق منهم فريقاً آخرين وأخرجوهم من ديارهم وهذا كفر بما أخذ أنهم يفدون من أسر من ذلك الفريق وهذا إيمان منهم بما أخذ عليهم ثم أخبر عليهم في الكتاب ، وكانوا مؤمنين بما عملوا به من الميثاق ، كافرين بما تركوه منه ، فالإيمان العملي يضاده الكفر العملي والإيمان الاعتقادي يضاده الكفر الاعتقادي ، وفي الحديث الصحيح (( سباب المسلم فسوق وقتاله كفر )) فقرن بين سبابه وقتاله وجعل أحدهما فسوقاً لا يكفر به ، والآخر كفراً ومعلوم أنه إنما أراد الكفر العلمي لا الاعتقادي وهذا الكفر لا يخرجه من الدائرة الإسلامية ، والملة بالكلية ، كما لم يخرج الزاني والسارق والشارب من الملة وإن زال عنه اسم الإيمان ، وهذا التفصيل هو قول الصحابة الذين هم أعلم الأمة بكتاب الله وبالإسلام والكفر ولوازمهما فلا تتلقى هذه المسألة إلا عنهم . والمتأخرون لم يفهموا مرادهم فانقسموا فريقين فريقا أخرجوا من الملة بالكبائر وقضوا على أصحابها بالخلود في النار ، وفريقاً جعلوهم مؤمنين كاملي الإيمان ، فأولئك غلوا وهؤلاء جفوا ، وهدى الله أهل السنة للطريقة المثلى والقول الوسط الذي هو في المذاهب كالإسلام في الملل . فهاهنا كفر دون كفر ، ونفاق دون نفاق ، وشرك دون شرك وظلم دون ظلم فعن ابن عباس في قوله تعالى { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ } "المائدة: من الآية44" قال : ليس هو الكفر الذي تذهبون إليه . رواه سفيان وعبد الرزاق وفي رواية أخرى كفر لا ينقل عن الملة(11/4)
. وعن عطاء كفر دون كفر وظلم دون ظلم وفسق دون فسق . وهذا بين في القرآن لمن تأمله فإن الله سبحانه سمى الحاكم بغير ما أنزل الله كافراً وسمى الجاحد لما أنزل الله على رسوله كافراً وسمى الكافر ظالماً في قوله { وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ } "البقرة: من الآية254" وسمى من يتعدى حدوده في النكاح والطلاق والرجعة والخلع ظالماً وقال { وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ } "الطلاق: من الآية1" وقال يونس عليه السلام { إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ } "الأنبياء: من الآية87" وقال آدم { رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا } "الأعراف: من الآية23" وقال موسى { رَبِّ إِنِّي ظَلَمْت } "القصص: من الآية16" وليس هذا الظلم مثل ذلك الظلم وسمى الكافر فاسقاً في قوله { وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ } "البقرة: من الآية26"وقوله { وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ } "البقرة:99" وسمى العاصي فاسقاً في قوله تعالى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا } "الحجرات: من الآية6" وقال في الذين يرمون المحصنات { وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ } "النور: من الآية4" وقال { فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجّ } "البقرة: من الآية197" وليس الفسوق كالفسوق .
وكذلك الشرك شركان شرك ينقل عن الملة وهو الشرك الأكبر وشرك لا ينقل عن الملة وهو الأصغر كشرك الرياء وقال تعالى في الشرك الأكبر { إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ } "المائدة: من الآية72"
الاستدراك على كون الحكم بغير المنزل كفر عمليا(11/5)
وقال { وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ } "الحج: من الآية31" الآية وقال في شرك الرياء { فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً } "الكهف: من الآية110" وفي الحديث (( من حلف بغير فقد أشرك )) ومعلوم أن حلفه بغير الله ولا يخرجه عن الملة ولا يوجب له حكم الكفار ومن هذا قوله - صلى الله عليه وسلم - (( الشرك في هذه الأمة أخفى من دبيب النمل )) فانظر كيف انقسم الكفر والفسوق والظلم إلى ما هو كفر ينقل عن الملة والى مالا ينقل عنها .
وكذلك النفاق نفاقان نفاق عمل و نفاق الاعتقاد مذكور في القرآن في غير موضع أوجب لهم تبارك وتعالى به الدرك الأسفل من النار ونفاق العمل جاء في قوله - صلى الله عليه وسلم - (( أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها : إذا حدث كذب وإذا عاهد غدر وإذا خاصم فجر ، وإذا ائتمن خان )) وكقوله - صلى الله عليه وسلم - (( آية المنافق ثلاث إذا حدث كذب ، وإذا ائتمن خان وإذا وعد أخلف )) قال بعض الأفاضل وهذا النفاق قد يجتمع مع أصل الإسلام ولكن إذا استحكم وكمل فقد ينسلخ صاحبه عن الإسلام بالكلية وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم فإن الإيمان ينهي عن هذه الخلال فإذا كملت للعبد لم يكن له ما ينهاه عن شيء منها فهذا لا يكون إلا منافقا خالصاً انتهى .(11/6)
فانظر رحمك الله إلى ما ذكره العلماء من أن الكفر نوعان كفر اعتقاد ، و جحود وعناد ، فأما كفر الجحود والعناد فهو أن يكفر بما علم أن الرسول جاء به من عند الله جحوداً وعناداً من أسماء الرب وصفاته وأفعاله وأحكامه التي أصلها توحيده وعبادته وحده لا شريك له ، وهذا مضاد للإيمان من كل وجه فهذا هو الذي يخرج من الملة الإسلامية لأنه يضاد الإيمان من كل وجه ، وأما النوع الثاني فهو كفر عمل وهو نوعان أيضا مخرج من الملة وغير مخرج منها ، فأما النوع الأول فهو يضاد الإيمان كالسجود للصنم والاستهانة بالمصحف وقتل النبي وسبه والنوع الثاني كفر عمل لا يخرج من الملة كالحكم بغير ما أنزل الله وترك الصلاة فهذا كفر عمل لا كفر اعتقاد وكذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - (( لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض )) وقوله - صلى الله عليه وسلم - (( من أتى كاهناً فصدقه أو أتى امرأة في دبرها فقد كفر بما أنزل على محمد )) - صلى الله عليه وسلم - فهذا من الكفر العملي وليس كالسجود للصنم والاستهانة بالمصحف وقتل النبي وسبه وإن كان الكل يطلق عليه الكفر إلى آخر ما ذكر رحمه الله . لكن ينبغي أن يعلم أن من تحاكم إلى الطواغيت أو حكم بغير ما أنزل الله واعتقد أن حكمهم أكمل وأحسن من حكم الله ورسوله فهذا ملحق بالكفر الاعتقادي [ بل هو منه لأنه اعتقد أن حكم الطاغوت خير من حكم الله ] المخرج من الملة كما هو مذكور في نواقض الإسلام العشرة .
التحاكم إلى الطاغوت والجواب عنه
أما من لم يعتقد ذلك لكن تحاكم إلى الطاغوت وهو يعتقد أن حكمه باطل فهذا من الكفر العملي .(11/7)
فإذا تبين لك هذا فاعلم أن الإيمان أصل له شعب متعددة كل شعبة منها تسمى أيماناً فأعلاها شهادة أن لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق ، فمنها ما يزول الإيمان بزواله إجماعاً كشعبة الشهادة ومنها مالا يزول بزواله إجماعاً كترك إماطة الأذى عن الطريق ويكون أقرب إليها أقرب ومنها ما يحلق بشعبة إماطة الأذى عن الطريق . وبين هاتين الشعبتين شعب متفاوتة منها ما يلحق بشعبة الشهادة ويكون أقرب إليها ومنها ما يلحق بشعبة إماطة الأذى الطريق ويكون إليها أقرب . والتسوية بين هذه الشعب في اجتماعها مخالف للنصوص وما كان عليه سلف الأمة وأئمتها . وكذلك الكفر أيضا ذو أصل وشعب فكما أن شعب الإيمان إيمان فشعب الكفر كفر ، والمعاصي كلها من شعب الكفر كما أن الطاعات كلها من شعب الإيمان ولا يسوى بينهما في الأسماء والأحكام ، وفرق بين من ترك الصلاة والزكاة والصيام وأشرك بالله أو استهان بالمصحف وبين من سرق أو زنى أو شرب أو انتهب أو صدر منه نوع من موالاة ( الكفار ) كما جرى لحاطب فمن سوى بين شعب الإيمان في الأسماء والأحكام أو سوى بين شعب الكفر في ذلك فهو مخالف للكتاب والسنة خارج عن سبيل سلف الأمة داخل في عموم أهل البدع والأهواء وقد تبين لك مما قدمناه من كلام ابن القيم وكلام شيخنا الشيخ عبد اللطيف من أن الكفر كفران ، وإن الفسق فسقان ، والشرك شركان والظلم ظلمان ، والنفاق نفاقان على ما ذكراه من التفصيل وقررا عليه من الأدلة من الكتاب والسنة ، وذكرا أن هذا التفصيل هو قول الصحابة الذين هم أعلم الأمة بكتاب الله وبالإسلام والكفر ولوازمهما فلا تتلقى هذه المسألة إلا عنهم ، والمتأخرون لم يفهموا مرادهم فانقسموا فريقين فريقا أخرجوا من الملة بالكبائر وقضوا على أصحابها بالخلود في النار وفريقا جعلوهم مؤمنين كاملي الإيمان ، فأولئك غلوا ، وهؤلاء جفوا وهدى الله أهل السنة للطريقة المثلى ، والقول الوسط الذي في المذاهب كالإسلام(11/8)
في الملل .
( فصل)
( وأما المسألة الثانية – وهي قول السائل ) مالتحاكم إلى الطاغوت الذي يكفر به من فعله من الذي لا يكفر ؟
( فالجواب ) أن نقول قد تقدم الجواب عن هذه المسألة مفصلاً في كلام شمس الدين ابن القيم وكلام شيخنا فراجعه واعلم أن هذه المسائل مزلة أقدام ، ومضلة أفهام ، فعليك بما كان عليه السلف الصالح والصدر الأول ( والله يقول الحق وهو يهدي السبيل ) .
(فصل)
(أما المسألة الثالثة – وهي قول السائل) ما الإعراض الذي هو ناقض من نواقض الإسلام ؟ ما حكمه هل يطلق على كل معرض أم لا ؟
بيان ما يتحقق به الإعراض
( فالجواب ) أن نقول : أن هذه المسألة هي مسألة الجاهل المعرض وقد ذكر أهل العلم أن الإعراض نوعان نوع مخرج من الملة ونوع لا يخرج من الملة ، فأما الذي يخرج من الملة فهو الإعراض عن دين الله لا يعلمه ولا يتعلمه كما هو مذكور في نواقض الإسلام العشرة وهذا المعرض هو الذي لا إرادة له في تعلم الدين ولا يحدث نفسه بغير ما هو عليه بل هو راض بما هو عليه من الكفر بالله والإشراك به لا يؤثر غيره ولا تطلب نفسه سواه . وأما الذي لا يخرج من الملة فهو المعرض العاجز عن السؤال والعلم الذي يتمكن به من العلم والمعرفة مع ارادته للهدى وإيثاره له ومحبته له لكنه غير قادر عليه ولا على طلبه لعدم المرشد .(11/9)
وقد ذكر ابن القيم رحمه الله تعالى في ( الكافية الشافية في الإنتصار للفرقة الناجية ) وفي طبقات المكلفين من كتاب طريق الهجرتين أن القسم الثاني من العاجزين عن السؤال والعلم الذي مؤثر له محب له غير قادر عليه ولا على طلبه لعدم المرشد فهذا حكمه حكم أرباب الفترات لم تبلغه الدعوة ( الثاني ) معرض لا إرادة له ولا يحدث نفسه بغير ما هو عليه فالأول يقول يا رب لو أعلم لك دينا خيراً مما أنا عليه لدنت به وتركت ما أنا عليه فهو غاية جهدي ونهاية معرفتي والثاني راض بما هو عليه لا يؤثر غيره وتطلب نفسه سواه ولا فرق بين حال عجزه وقدرته ، وكلاهما عاجز ، وهذا لا يجب أن يُلحق بالأول لما بينهما من الفرق فالأول لمن طلب الدين في الفترة فلم يظفر به فعدل بعد استفراغه الوسع في طلبه عجزاً أو جهلاً والثاني لمن لم يطلبه بل مات على شركه وإن كان لو طلبه لعجز عنه ففرق بين عجز الطالب وعجز المعرض . هذا ملخص ما ذكره ابن القيم وقد ذكرناه بتمامه في جواب المسألة التي سأل عنها أحمد ابن دهش فراجعه فيها لكن ينبغي أولا أن يعلم أن العوام من المسلمين وكذلك البوادي ممن كان ظاهره الإسلام لا يكلفون بمعرفة تفاصيل الإيمان بالله ورسوله وتفاصيل ما شرعه الله ورسوله وتفاصيل الإيمان بالله ورسوله وتفاصيل ما شرعه الله من الأحكام لأن ذلك ليس في طاقتهم ولا في وسعهم و { لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا } بل يكتفي منهم بالإيمان العام المجمل كما قرر ذلك شيخ الإسلام ابن تيميه قدس الله روحه في كتاب الإيمان وقال في ( منهاج السنة ) لا ريب أن يجب على كل أحد أن يؤمن بما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - إيمانا عاما مجملا ولا ريب أن معرفة ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - على التفصيل فرض على الكفاية فإن ذلك داخل في تبليغ ما بعث الله به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وداخل في تدبر القرآن وعقله وفهمه وعلم الكتاب والحكمة(11/10)
وحفظ الذكر والدعاء إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعاء إلى سبيل الرب بالحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالتي هي احسن ونحو ذلك ، فما أوجبه على المؤمنين فهو واجب على الكفاية منهم ، وأما ما وجب على أعيانهم فهذا يتنوع بتنوع قدرتهم
إيمان عبد الله بن حمار وحاطب وذنبهما
وحاجتهم ومعرفتهم ، وما أمر به أعيانهم ولا يجب على العاجز عن سماع بعض العلم أو عن فهم دقيقه ما يجب على القادر ذلك ويجب على من سمع النصوص وفهمها على التفصيل ما لا يجب على من لم يسمعها ، ويجب على المفتي والمحدث والمجادل ما لا يجب على من ليس كذلك . انتهى والله أعلم .
(فصل)
(المسألة الرابعة – قول السائل ) ما الشخص الذي يحب جملة ومن الذي يحب من وجه ومن يبغض من وجه والذي يبغض جملة ؟
( الجواب ) أن نقول الشخص الذي يحب جملة هو من آمن بالله ورسوله وقام بوظائف الإسلام ، ومبانيه العظام ، علماً وعملاً واعتقاداً وأخلص أعماله وأفعاله وأقواله لله وانقاد لأوامره وانتهى عما نهى الله عنه ورسوله وأحب في الله ووالى في الله وأبغض في الله وعادى في الله وقدم قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على قول كل أحد كائناً من كان إلى غير ذلك من القيام بحقوق الإسلام وشرائعه . وأما الذي يحب جملة من وجه ويبغض جملة من وجه آخر فهو المسلم الذي خلط عملاً صالحاً وآخر سيئاً فيحب ويوالى على قدر ما معه من الخير ويبغض ويعادى على قدر ما معه من الشر ومن لم يتسع قلبه لهذا كان ما يفسد أكثر مما يصلح وهلاكه أقرب إليه من أن يفلح .(11/11)
وإذا أردت الدليل على ذلك فهذا عبد الله بن حمار وهو رجل من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يشرب الخمر فأتي به إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلعنه رجل وقال ما أكثر ما يؤتى به فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - (( لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله )) مع أنه لعن الخمر وشاربها وبائعها وعاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه وتأمل قصة حاطب بن أبي بلتعة وما فيها من الفوائد فإنه هاجر إلى الله ورسوله وجاهد في سبيله لكن حدث منه أنه كتب بسر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المشركين من أهل مكة يخبرهم بشأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومسيره لجهادهم ليتخذ بذلك يداً عندهم يحمي بها أهله وماله بمكة فنزل الوحي بخبره وكان قد أعطى الكتاب ظعينة جعلته في شعرها فأرسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علياً والزبير في طلب الظعينة وأخبرهما أنهما يجدانها في روضة خاخ فكان ذلك كذلك فتهدداها حتى أخرجت الكتاب من ضفائرها ، فأتيا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فدعا حاطب بن أبي بلتعة فقال له ما هذا ؟ فقال يا رسول الله إني لم أكفر بعد إيماني ولم أفعل هذا رغبة عن الإسلام وإنما أردت أن تكون لي عند القوم يد أحمي بها أهلي ومالي فقال - صلى الله عليه وسلم - (( صدقكم خلوا سبيله )) واستأذن عمر في قتله فقال : دعني أضرب عنق هذا المنافق فقال (( وما يدريك لعل الله أطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فإني قد غفرت لكم )) وأنزل الله في ذلك صدر سورة الممتحنة فقال { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء } "الممتحنة: من الآية1"الآيات فدخل حاطب في المخاطبة
موالاة المؤمن وإن عصى وظلم ضد ذلك(11/12)
اسم الإيمان ووصفه به وتناوله النهي بعمومه وله خصوص السبب الدال على إرادته مع أن في الآية الكريمة ما يشعر أن فعل حاطب نوع من موالاة وأنه أبلغ بالمودة فإن فاعل ذلك قد ضل سواء السبيل لكن قوله (( صدقكم خلوا سبيله )) ظاهر في أنه لا يكفر بذلك إذا كان مؤمناً بالله ورسوله غير شاك ولامرتاب وإنما فعل ذلك لغرض دنيوي ولو كفر لما قيل خلوا سبيله لا يقال قوله - صلى الله عليه وسلم - لعمر (وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم )) هو المانع من تكفيره لإنا نقول لو كفر لما بقي من حسناته ما يمنعه من لحاق الكفر وأحكامه فإن الكفر يهدم ما قبله لقوله تعالى { وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْأِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ } "لمائدة: من الآية5" وقوله تعالى { وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } "لأنعام: من الآية88" والكفر محبط للحسنات والإيمان بالإجماع فلا يظن هذا . ومن الأدلة على ذلك قوله تعالى { وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا } "الحجرات من الآية 9"إلى قوله { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُم } "لحجرات: من الآية10" فجعلهم اخوة مع وجود الاقتتال والبغي وأمر بالإصلاح بينهم ، وكان مسطح ابن أثاثة من المهاجرين والمجاهدين مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان ممن سعى بالإفك فأقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الحد عليه وجلده وكان أبو بكر رضي الله عنه ينفق عليه لقرابته وفقره فآلى أبو بكر أن لا ينفق عليه بعد ما قال لعائشة ما قال فأنزل الله { وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ } "لنور: من الآية22" فقال أبو بكر(11/13)
بلى والله إني أحب أن يغفر الله لي ، فأعاد عليه نفقته . وأمثال هذا كثير لو تتبعناه لطال الكلام .
وقد قال شيخ الإسلام ابن تيميه والمؤمن عليه أن يعادي في الله ويوالي في الله فإذا كان هناك مؤمن فعليه أن يواليه وإن ظلمه فإن الظلم لا يقطع الموالاة الإيمانية لقوله تعالى { وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا } " الحجرات من الآية 9 " إلى قوله { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَة } "الحجرات من الآية 10" فجعلهم أخوة موجود القتال والبغي والأمر بالإصلاح بينهم فليتدبر المؤمن الفرق بين هذين النوعين فما أكثر ما يلتبس أحدهما بالآخر وليعلم أن المؤمن تجب موالاته وان ظلمك واعتدى عليك والكافر تجب معاداته وان أعطاك وأحسن إليك فان الله سبحانه بعث الرسل وأنزل الكتب ليكون الدين كله لله فيكون الحب لأوليائه والبغض لأعدائه والإكرام لأوليائه والإهانة لأعدائه الثواب لأوليائه والعقاب لأعدائه وإذا اجتمع في الرجل الواحد خير وشر وفجور وطاعة ومعصية وسنة وبدعة استحق من الموالاة والثواب بقدر ما فيه من الخير واستحق من المعاداة والعقاب بحسب ما فيه من الشر فيجتمع في الشخص الواحد موجبات الإكرام والإهانة فيجتمع له من هذا وهذا كاللص الفقير تقطع يده لسرقته ويعطى من بيت المال ما يكفيه لحاجته هذا هو الأصل الذي اتفق عليه أهل السنة والجماعة وخالفهم الخوارج والمعتزلة ومن وافقهم عليه فلم يجعلوا الناس لا مستحقا
الموالاة والمعاداة ، والحب والبغض
للثواب فقط ولا مستحقا للعقاب فقط وأهل السنة يقولون أن الله يعذب بالنار من أهل الكبائر من يعذبه ثم يخرجهم منها بشفاعة من يأذن له فى الشفاعة بفضل رحمته كما استفاضت بذلك السنة عن النبى - صلى الله عليه وسلم - والله سبحانه وتعالى أعلم وصل اللهم على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين"فتاوى ابن تيميه ج28/ص208- 209-210" .(11/14)
وقال رحمه الله في موضع آخر :من سلك طريق الاعتدال عظم من يستحق التعظيم وأحبه ووالاه وأعطى الحق حقه فيعظم الحق ، ويرحم الخلق ، ويعلم أن الرجل الواحد يكون له حسنات وسيئات فيحمد ويذم ، ويثاب ويعاقب ، ويحب من وجه ويبغض من وجه . هذا هو مذهب أهل السنة والجماعة خلافاً للخوارج والمعتزلة ومن وافقهم كما قد بسط هذا في موضعه والله أعلم .
فانظر رحمك الله إلى ما قرره شيخ الإسلام في مسئلة الهجر أن الرجل الواحد يجتمع فيه خير وشر ، وبر وفجور ، وطاعة ومعصية ، وسنة وبدعة ، فيستحق من المعاداة والعقاب بحسب ما فيه من الشر ، فيجتمع في الشخص الواحد موجباً الأكرام والإهانة إلى آخر كلامه فمن أهمل هذا ولم يراع حقوق المسلم التي يستحق بها الموالاة والثواب بقدر ما فيه من الخير ، وكذلك يراعى ما فيه من الشر والمعصية والفجور والبدعة وغير ذلك فيعامله بما يستحق من المعاداة والعقاب بحسب ما فيه من الشر – فمن ترك هذا[ قوله فمن ترك – أعاده لقوله : فمن أهمل – لبعده وهو مبتدأ خبره – سلك مسلك أهل البدع ] وأهمله سلك مسلك أهل البدع من الخوارج والمعتزلة ومن وافقهم عليه فلم يجعلوا الناس إلا مستحقاً للثواب فقط أو مستحقاً للعقاب فقط ، فإن هذا مخالف لما قاله أهل السنة والجماعة .
ثم انظر إلى غالب ما يفعله من يستعمل الهجر من الناس هل هو متبع لما عليه أهل السنة والجماعة أو متبع لما عليه أهل البدع من الخوارج وغيرهم ؟ وكذلك تأمل قوله رضي الله عنه ( ومن سلك طريق الاعتدال – إلى قوله – ويعلم أن الرجل الواحد يكون له حسنات وسيئات ، فيحمد ويذم ، ويثاب ويعاقب ، ويحب من وجه ويبغض من وجه ، إلى آخر كلامه . يتبين [ قوله يتبين لك الخ جواب لقوله : ثم انظر إلى غالب ما يفعله الخ ] معنى ما قدمته لك مما عليه أهل السنة والجماعة ومن خالفهم .(11/15)
وأما الذي يبغض جملة فهو من كفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ، ولم يؤمن بالقدر خيره وشره ، وأنه كافر بقضاء الله وقدره ، وأنكر البعث بعد الموت وترك أحد أركان الإسلام
الهجر المشروع ما كانت مصحلته راجحة
الخمسة ، وأشرك بالله سبحانه وتعالى في عبادته أحداً من الأنبياء والأولياء والصالحين ، وصرف لهم نوعاً من أنواع العبادة كالحب والدعاء والخوف والرجاء ، والتعظيم والتوكل والاستغاثة ، والإستعاذة والإستعانة والذبح والنذر والإنابة ، والذل والخضوع والخشوع والخشية ، والرغبة والرهبة ، والتعلق على غير الله في جميع الطلبات ، وكشف الكربات وإغاثة اللهفات ، وجميع ما كان يفعله عباد القبور اليوم عند ضرائح الأولياء والصالحين وجميع المعبودات . وكذلك من ألحد في أسمائه وصفاته واتبع غير سبيل المؤمنين وانتحل ما كان عليه أهل البدع والأهواء المضلة . وكذلك من قامت به نواقض الإسلام العشرة أو أحدها – وبالجملة فهو من ترك جميع المأمورات ، وارتكب جميع المحظورات . والله أعلم .
(فصل)
( المسألة الخامسة ) قول السائل : والهجر هل هو في حق الكافر أو المسلم ؟ وإذا كان في حق المسلم العاصي فما القدر الذي ينبغي أن يهجر لأجله ؟ وهل يفرق بين الأحوال والأشخاص والأزمان ؟ وكذا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .(11/16)
( والجواب ) أن نقول : اعلم يا أخي أولا أن الهجر إن لم يقصد به الإنسان بيان الحق و، وهدي الخلق ورحمتهم والإحسان إليهم لم يكن عمله صالحاً ، وإذا غلظ في ذم بدعه أو معصية كان قصده بيان ما فيها من الفساد ، ليحذرها العباد ، كما في نصوص الوعيد وغيرها . وقد يهجر الرجل عقوبة وتعزيراً والمقصود بذلك ردعه وردع أمثاله للرحمة والإحسان ، لا التشفي والانتقام ، كما هجر النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه الثلاثة الذين خلفوا لما جاء المتخلفون من الغزاة يعتذرون ويحلفون ، وكانوا يكذبون ، وهؤلاء الثلاثة صدقوا وعوقبوا بالهجر ، ثم تاب الله عليهم ببركة الصدق .
إذا تحققت هذا فالهجر المشروع إنما هو في حق العصاة والمذنبين لا في حق الكافر فإن عقوبته على كفره أعظم من الهجر ، وهجر العصاة المذنبين من أهل الإسلام إنما هو على وجه التأديب فيراعى في الهجر أو الترك منا سيأتي بيانه .
وهذه المسألة قد كفانا الجواب عنها شيخ الإسلام ابن تيميه قدس الله روحه فقال : الهجر الشرعي نوعان أحدهما بمعنى الترك للمنكرات و الثاني بمعنى العقوبة عليها فالأول هو المذكور في قوله تعالى { وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } "الأنعام:68" { وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ } "النساء: من الآية140" يراد به أنه لا يشهد المنكرات لغير حاجة مثل قوم يشربون الخمر يجلس عندهم وقوم دعوا إلى وليمة فيها خمر وزمر لا يجيب دعوتهم وأمثال ذلك بخلاف من حضر عندهم
دعاة البدع وما يعاملون به(11/17)
للإنكار عليهم أو حضر بغير اختياره ولهذا يقال حاضر المنكر كفاعله وفى الحديث من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يجلس على مائدة يشرب عليها الخمر وهذا الهجر من جنس هجر الإنسان نفسه عن فعل المنكرات كما قال - صلى الله عليه وسلم - المهاجر من هجر ما نهى الله عنه ومن هذا الباب الهجرة من دار الكفر والفسوق إلى دار الإسلام والإيمان فانه هجر للمقام بين الكافرين والمنافقين الذين لا يمكنونه من فعل ما أمر الله به ومن هذا قوله تعالى { وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ } "المدثر:5" النوع الثاني الهجر على وجه التأديب وهو هجر من يظهر المنكرات يهجر حتى يتوب منها كما هجر النبي - صلى الله عليه وسلم - والمسلمون الثلاثة الذين خلفوا حتى أنزل الله توبتهم حين ظهر منهم ترك الجهاد المتعين عليهم بغير عذر ولم يهجر من أظهر الخير، وان كان منافقا فهنا الهجر هو بمنزلة التعزير والتعزير يكون لمن ظهر منه ترك الواجبات وفعل المحرمات كتارك الصلاة والزكاة والتظاهر بالمظالم والفواحش والداعي إلى البدع المخالفة للكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة التي ظهر إنها بدع وهذا حقيقة قول من قال من السلف والأئمة إن الدعاة إلى البدع لا تقبل شهادتهم ولا يصلى خلفهم ولا يؤخذ عنهم العلم ولا يناكحون فهذه عقوبة لهم حتى ينتهوا ولهذا يفرقون بين الداعية وغير الداعية لأن الداعية اظهر المنكرات فاستحق العقوبة بخلاف الكاتم فانه ليس شرا من المنافقين الذين كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقبل علانيتهم ويكل سرائرهم إلى الله مع علمه بحال كثير منهم ولهذا جاء في الحديث أن المعصية إذا خفيت لم تضر إلا صاحبها ولكن إذا أعلنت فلم تنكر ضرب العامة وذلك لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال (( إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه )) فالمنكرات الظاهرة يجب إنكارها بخلاف الباطنة فإن عقوبتها على صاحبها خاصة وهذا الهجر يختلف باختلاف الهاجرين فى(11/18)
قوتهم وضعفهم وقلتهم وكثرتهم فإن المقصود به زجر المهجور وتأديبه ورجوع العامة عن مثل حاله فإن كان المصلحة في ذلك راجحة بحيث يفضي هجره إلى ضعف الشر وخفيته كان مشروعا وان كان لا المهجور ولا غيره يرتدع بذلك بل يزيد الشر والهاجر ضعيف بحيث يكون مفسدة ذلك راجحة على مصلحته لم يشرع الهجر بل يكون التأليف لبعض الناس أنفع من الهجر والهجر لبعض الناس أنفع من التأليف ولهذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتألف قوما ويهجر آخرين كما أن الثلاثة الذين خلفوا كانوا خيرا من اكثر المؤلفة قلوبهم لما كان أولئك كانوا سادة مطاعون في عشائرهم فكانت المصلحة الدينية في تأليف قلوبهم وهؤلاء كانوا مؤمنين والمؤمنون سواهم كثير فكان فى هجرهم عز الدين وتطهيرهم من ذنوبهم وهذا كما أن المشروع في العدو القتال تارة والمهادنة تارة وأخذ الجزية تارة كل ذلك بحسب الأحوال والمصالح وجواب الأئمة كأحمد وغيره في هذا الباب مبنى على هذا الأصل ولهذا كان يفرق
الفرق بين الهجر لحق الله والهجر لحق النفس(11/19)
بين الأماكن التي كثرت فيها البدع كما كثر القدر في البصرة والتنجيم بخراسان والتشيع بالكوفة وبين ما ليس كذلك ويفرق بين الأئمة المطاعين وغيرهم وإذا عرف مقصود الشريعة سلك في حصوله أوصل الطرق إليه وإذا عرف هذا فالهجرة الشرعية هي من الأعمال التي أمر الله بها ورسوله فالطاعة لابد أن تكون خالصه لله أن تكون موافقة لأمره فتكون خالصة لله صوابا فمن هجر لهوى نفسه أو هجر هجرا غير مأمور به كان خارجا عن هذا وما اكثر ما تفعل النفوس ما تهواه ظانة أنها تفعله طاعة لله والهجر لأجل حظ الإنسان لا يجوز اكثر من ثلاث كما جاء في الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - انه (( قال لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث يلتقيان فيصد هذا ويصد هذا وخيرهما الذي يبدأ بالسلام )) فلم يرخص في هذا الهجر اكثر من ثلاث كما لم يرخص في إحداد غير الزوجة اكثر من ثلاث وفى الصحيحين عنه - صلى الله عليه وسلم -أنه قال ((تفتح أبواب الجنة كل أثنين وخميس فيغفر لكل عبد لا يشرك بالله شيئا إلا رجلا كان بينه وبين أخيه شحناء فيقال انظروا هذين حتى يصطلحا )) فهذا الهجر لحق الإنسان حرام و إنما رخص في بعضه كما رخص للزوج إن يهجر امرأته في المضجع إذا نشزت وكما رخص في هجر الثلاث فينبغي أن يفرق بين الهجر لحق الله وبين الهجر لحق نفسه فالأول مأمور به و الثاني منهي عنه لأن المؤمن أخوة وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -في الحديث الصحيح (( لا تقاطعوا ولا تدابروا ولا تباغضوا ولا تحاسدوا وكونوا عباد الله أخوانا المسلم أخو المسلم )) وقال - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الذي في السنن (( ألا أنبئكم بأفضل من درجة الصلاة والصيام والصدقة والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر قالوا بلى يا رسول الله قال إصلاح ذات البين فان فساد ذات البين هي الحالقة لا أقول تحلق الشعر ولكن تحلق الدين )) وقال في الحديث الصحيح (( مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل(11/20)
الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر)) وهذا لأن الهجر من باب العقوبات الشرعية فهو من جنس الجهاد في سبيل الله وهذا يفعل لأن تكون كلمة الله هي العليا ويكون الدين كله لله والمؤمن عليه أن يعادى في الله ويوالى في الله فإن كان هناك مؤمن فعليه أن يواليه وان ظلمه فان الظلم لا يقطع الموالاة الإيمانية قال تعالى { وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ } "الحجرات:9" إلى قوله { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ } "الحجرات: من الآية10" فجعلهم أخوة مع وجود القتال والبغي والأمر بالإصلاح بينهم فليتدبر المؤمن الفرق بين هذين النوعين فما أكثر ما يلتبس أحدهما بالآخر وليعلم أن المؤمن تجب موالاته وان ظلمك واعتدى عليك والكافر تجب معاداته وان أعطاك وأحسن إليك [يعني أن الإحسان في المعاملة الدنيوية لا يصح أن يكون سبباً لموالاة الكافر موالاة دينية كما عدته على كفره أو استحسانه منه وإقراره عليه .. وليس معناه أنه يجب أن يقابل الكافر على إحسانه المعاملة بالعداوة والإيذاء فإن هذا مخالف لقوله تعالى { لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ } "الممتحنة:8" الخ الآيات ، فالإسلام يأمر أهله بأن يكونوا فوق جميع الكفار فضلاً وإحساناً وبراً ويرشدهم إلى أن تكون لهم اليد على غيرهم ولا يكون لغيرهم يد عليهم وإحساناً وبراً ويرشدهم إلى أن تكون لهم اليد على غيرهم ولا يكون لغيرهم يد عليهم وللكافر الحربي(11/21)
معاملة غير معاملة المعاهد والذمي كم هو معروف في محله ]
الاعتدال في الهجر وترجيح المصلحة
فإن الله سبحانه بعث الرسل وأنزل الكتب ليكون الدين كله لله فيكون الحب لأوليائه والبغض لأعدائه والإكرام لأوليائه والإهانة لأعدائه والثواب لأوليائه والعقاب لأعدائه وإذا اجتمع في الرجل الواحد خير وشر وفجور وطاعة ومعصية وسنة وبدعة استحق من الموالاة والثواب بقدر ما فيه من الخير واستحق من المعاداة والعقاب بحسب ما فيه من الشر فيجتمع في الشخص الواحد موجبات الإكرام والإهانة فيجتمع له من هذا وهذا كاللص الفقير تقطع يده لسرقته ويعطى من بيت المال ما يكفيه لحاجته هذا هو الأصل الذي اتفق عليه أهل السنة والجماعة وخالفهم الخوارج والمعتزلة ومن وافقهم عليه فلم يجعلوا الناس لا مستحقا للثواب فقط ولا مستحقا للعقاب فقط وأهل السنة يقولون إن الله يعذب بالنار من أهل الكبائر من يعذبه ثم يخرجهم منها بشفاعة من يأذن له في الشفاعة بفضل رحمته كما استفاضت بذلك السنة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - والله سبحانه وتعالى أعلم وصلى اللهم على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين . انتهى فتاوى ابن تيميه ( ج 28 / 403-410).(11/22)
( وأما قول السائل ) وإذا كان في حق المسلم العاصي فما القدر الذي ينبغي أن يهجر لأجله فنقول : القدر الذي ينبغي أن يهجر لأجله هو ما تقدم ذكره من هجر من يظهر المنكرات حتى يتوب منها ، لكن ينبغي أن يعلم أن المعاصي متفاوتة في الحد والمقدار فمنها ما هو من قسم الكبائر ومنها ما هو من قسم الصغائر ، فيهجر العاصي على قدر ما ارتكبه من الذنب { وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا } "الأنعام: من الآية132" ولا يسوى بين الذنوب في الهجر ويجعل ذلك باباً واحداً إلا جاهل . لأن هذا الهجر من باب التأديب ، والمقصود به بيان الحق ، ورحمة الخلق (( والمسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه ولا يحقره )) وإذا أفضى ذلك إلى التقاطع والتدابر والتباغض والتحاسد لم يكن الهجر مشروعاً لأن مفسدته أرجح من مصلحته .
وقد بلغني أن بعض هؤلاء المهاجرين لمن يرتكب شيئاً من الذنوب والمعاصي إذا قال لهم المهجور : أستغفر الله وأتوب إليه وأقر على نفسه بالذنب وتاب إلى الله منه لا يقبلون منه بل يستمرون على هجره ومعاداته ، هذا خلاف ما شرعه الله ورسوله ، بل هذا من باب التفي والانتقام ، لا من باب الرحمة والإحسان بالمسلم . والواجب أن ينصح الرجل أخاه المسلم عن هذا الذنب فإن تاب منه فهو المطلوب ، وإن لم يتب واستمر على معصيته هجره حتى يتوب منها ، إن كانت المصلحة في حقه أرجح وإن لم ينزجر عنها وكانت المفسدة في حقه أرجح من المصلحة لم يكن الهجر مشروعاً كما ذكر ذلك شيخ الإسلام والله أعلم .
القاسطون في الهجر والبغض
وقوله هل يفرق بين الأحوال والأشخاص والأزمان ؟(11/23)
فأقول : نعم يفرق بين الأزمان فزمان يهجر فيه وزمان لا يهجر فيه وذلك إذا كان الناس حدثاء عهد بجاهلية فينبغي أن يراعى في حقهم الأصلح وهو التأليف وترغيبهم في الإسلام ودخولهم فيه وعدم تنفيرهم وليعلموا أن هذه الملة المحمدية حنيفية في الدين سمحة في العمل كما قال - صلى الله عليه وسلم - لما جاء الحشية يلعبون بحرابهم في المسجد فقام ينظر إليهم وقال (( لتعلم يهود أن في ديننا فسحة ، إني بعثت بحنيفية سمحة )) مسند أحمد " ج 6ص 116" ففي مثل هذه الأزمان لا يستعمل الهجر مع كل أحد لئلا يحصل بذلك عدم رغبة في الدخول في الإسلام وتنفير الناس عنه . وكذلك الأشخاص شخص يهجر وشخص لا يهجر كما قال شيخ الإسلام : خاصة وهذا الهجر يختلف باختلاف الهاجرين فى قوتهم وضعفهم وقلتهم وكثرتهم فان المقصود به زجر المهجور وتأديبه ورجوع العامة عن مثل حاله فان كان المصلحة فى ذلك راجحة بحيث يفضى هجره الى ضعف الشر وخفيته كان مشروعا وان كان لا المهجور ولا غيره يرتدع بذلك بل يزيد الشر والهاجر ضعيف بحيث يكون مفسدة ذلك راجحة على مصلحته لم يشرع الهجر بل يكون التأليف لبعض الناس أنفع من الهجر والهجر لبعض الناس أنفع من التأليف. فتاوى ابن تيميه "ج28/ص206" إلى آخر كلامه .(11/24)
وإذا كان ذلك كذلك فهجر القادة والأكابر الذين يخاف من هجرهم عدم قبول وانقياد أن في ذلك غضاضة عليهم ونقصاً في حقهم وربما يحصل بذلك منهم تعد بيد أو لسان فلا ينبغي هجرهم لأن من القواعد الشرعية أن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح ، وكذلك الأحوال يراعى فيها الأصلح كما يراعى في الأزمان الأشخاص كما قال شيخ الإسلام . وهذا كما أن المشروع في العدو – القتال تارة والمهادنة تارة ، وأخذ الجزية تارة ، كل ذلك بحسب المصالح والأحوال إلى آخر كلامه فتأمله يزل عنك إشكالات طالما أعشت عيون كثير من خفافيش الأبصار الذين لا معرفة لهم بمدارك الأحكام ، ولا اطلاع لهم على مذكرة أئمة أهل الإسلام والله المستعان .
(فصل)
إذا تحققت هذا وعرفت ما ذكره شيخ الإسلام من الهجر المشروع وغير المشروع فاعلم يا أخي أن كثيراً من الناس يهجرون على غير السنة وعلى غير ما شرعه الله ورسوله ويحبون ويوالون ويبغضون ويعادون على ذلك وذلك أن بعض الناس ممن ينتسب إلى طلب العلم والمعرفة أحدث لمن يدخل في هذا الدين شعاراً لم يشرعه الله ولا رسوله ولا ذكره المحققون من أهل العلم لا في قديم الزمان ولا في حديثه وذلك أنهم يلزمون من دخل في هذا الدين أن يلبس عصابة على رأسه ويسمونها بالعمامة وأن ذلك من سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فمن لبسها كان من الإخوان الداخلين
الرد على من التزم لباساً لا يتعداه
في هذا الدين ومن لم يلبسها فليس منهم لأنه لم يلبس السنة . وهذا لم يقل به أحد من العلماء ولا شرعه الله ولا رسوله بل هذا استحسان منهم وظن أنه من السنة وليس هذا من السنة في شيء وبيان ذلك من وجوه .(11/25)
(الوجه الأول ) أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكث في النبوة أربعين سنة ولباسه لباس العرب المعتاد من الأزر والسراويل [ لم يثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يلبس السراويل بل ورد في روايات ضعيفة ولكن اشتراه وأمر بلبسه ولهذا أطلق ابن القيم في الهدى أن يلبسه وقيل أن هذا سبق قلم منه ] والأردية والعمائم ثم لما أكرمه الله بالرسالة والنبوة ورحم الله الخلق ببعثته ودخل الناس في دين الله أفواجاًً وشرع الشرائع وسن السنن لأمته لم يشرع لهم لباساً غير لباسهم المعتاد ولا جعل للمسلمين شعاراً يتميز به المسلمون من الكفار بل استمروا على هذا اللباس المعروف المعتاد إلى انقراض القرون الأربعة وما شاء الله بعدها لم يحدثوا لباساً يخالف لباس العرب [ أي لم يحدثوا زياً خاصاًً بالمسلمين ولكنهم لبسوا ما كان يلبس العرب في صحيح البخاري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لبس الجبة الرومية وفي صحيح مسلم أنه لبس الطيالسة الكسروية أي لبيلن الجواز ثم تفنن المسلمون في الأزياء في أيام حضارتهم في تلك القرون ولكن لم يجعلوها شعاراً دينياً .] ولم يكن من عادتهم لبس المحارم والغتر والمشالح والعبي كما هو لبس العرب اليوم من الحاضرة والبادية .
( الوجه الثاني ) أن هذه العصائب على المحارم والغتر والشمغ وغيرها التي يسمونها العمائم أن كان المقصود بجعلها على الرؤوس وعلى المحارم الاقتداء برسول الله - صلى الله عليه وسلم - في لباسه فهذه لم تكن هي العمائم التي كان يلبسها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه وسائر العرب يلبسونها بل تلك كانت لجميع الرأس وعلى القلانس كما قال - صلى الله عليه وسلم - (( فرق ما بيننا وبين الأعاجم على القلانس )) والقلنسوة هي الطاقية في عرفنا وعادة العرب في العمامة أنهم يجعلونها محنكة فلأي شيء لم يقتدوا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هذا اللباس على هذا الوضع إن كان المقصود الاقتداء به .(11/26)
(الوجه الثالث) أن يقال لمن أحدث هذه العصائب لو كانت هي العمائم المعروفة على ما وصفنا : ما وجه تخصيص هذه العمائم بالسنية من بين سائر لباس النبي - صلى الله عليه وسلم - من الأردية والقمص والسراويل [ أخذ المؤلف هذا من كتاب الهدى للعلامة ابن القيم كما تقدم وأنه نسب فيه إلى اللهو كما قال أبو عبد الله الحجازي في حاشيته على الشفاء والخطب سهل .] والأزر وغيرها وكان اللائق بالمقتدى أن يلبس جميع ما يلبسه - صلى الله عليه وسلم - ولا يجعل بعضه مسنوناً وبعضه مهجوراً متروكاً .
( الوجه الرابع ) أنه لما أحدث بعض الفقهاء من الحنابلة وغيرهم شعاراً يتمتيز به المصاب من غيره فيعزى أنكر ذلك المحققون من أهل العلم الذين لهم قدم صدق في العالمين كما قال ابن القيم رحمه الله تعالى في عدة الصابرين : وأما قول كثير من الفقهاء من أصحابنا وغيرهم لا بأس أن يجعل المصاب على رأسه ثوباً يعرف به قالوا لأن التعزية سنة وفي ذلك تيسير لمعرفته حتى يغزى ففيه نظر وأنكره شيخنا ولا ريب أن السلف لم يكونوا يفعلون شيئاً من ذلك ولا نقل هذا القول وقد كره إسحاق بن راهويه أن يترك الرجل لبس ما عادته شيئاً من زيهم قبل المصيبة ولا يتركون ما كانوا يفعلونه ، فهذا مناف للصبر والله أعلم .
فتبين مما ذكره ابن القيم إن إحداث هذا الشعار عند المصيبة لم يكن السلف يفعلون شيئاً من ذلك ولا نقل هذا عن أحد من الصحابة والتابعين فكذلك هذه العصائب المحدثة التي زعموا أنه يتميز بها من دخل في هذا الدين عمن لم يدخل فيه أحداث شعار في الإسلام لم يفعله الصحابة ولا التابعون من بعدهم من العلماء ومن زعم ذلك فعليه الدليل وليبين لنا من ذكره من العلماء في أي زمان وفي أي كتاب وفي أي باب من أبواب العلم ؟(11/27)
( الوجه الخامس ) أن لبس العمائم والأردية والأزر وغيرها هو من العادات التي هي من قسيم [ في الأصل قسيم بالياء وقد تكرر هذا فيه ولعله من سهو الناسخ فالقسم من الشيء الجزء منه وقسيم الشيء مقابله الذي يدخل معه في مقسم واحد فكل من الواجب والمندوب والمحرم والمكروه والمباح قسم للآخر ، والعادات المذكورة من قسم المباح الذي هو قسيم الواجب وغيره من الأحكام الخمسة .] المباحات التي لا يثاب فاعلها ولا يعاقب تاركها لا من قسيم العبادات كالسنن التي يثاب فاعلها ولا يعاقب تاركها وقد أنكر بعض الجهمية من أهل عمان على المسلمين لبس المحارم وشرب القهوة وزعم أن هذا بدعة فأجابه شيخنا الشيخ عبد اللطيف بقوله وهذا من أدلة جهله وعدم معرفته للأحكام والمقاصد النبوية فإن الكلام في العبادات لا في العادات والمباحث الدينية نوع ، والعادات الطبيعية نوع آخر . فما اقتضته العادة من أكل وشرب ومركب ولباس ونحو ذلك ليس الكلام فيه والبدعة ما ليس لها أصل في الكتاب والسنة ولم يرد بها دليل شرعي من هديه - صلى الله عليه وسلم - وهدي أصحابه وأما ماله أصل كإرث ذوي الأرحام وجمع المصحف والزيادة في حد الشارب وقتل الزنديق ونحو ذلك فهذا وإن لم يفعله في وقته - - صلى الله عليه وسلم -- فقد دل عليه الدليل الشرعي وبهذا التعريف تنحل إشكالات طالما عرضت في المقام .
وقال رحمه الله أيضا في رده على البولاقي صاحب مصر في قوله : وها أنتم قد تفعلون كغيركم حوادث قد جاءت الأب والجد كحرب ببارود وشرب لقهوة وكم بدع زادت عن الحد والعد
لبس العقال هل يباح أو يمنع ؟
قال رحمه الله تعالى :
وأعجب شيء أن عددت لقهوة مع الحرب بالبارود في بدع الضد
وقد كان في الإعراض ستر جهالة غدوت بها من أشهر الناس في البلد
فما بدع في الدين تلك وإنما يراد بها من الأحداث في قرب العبد(11/28)
فتبين بما ذكره الشيخ أن العادات الطبيعية كالمآكل والمشارب والملابس والمراكب وغيرها نوع ، وأن المباحث الدينية والمقاصد النبوية نوع آخر لا يجعل ما هو من قسيم العادات الطبيعية ، من العبادات الشرعية الدينية ، إلا جاهل مفرط في الجهل .
وقد بلغني عن بعض الإخوان أنهم ينكرون ما كان يعتاده المسلمون من لبس العقال سواء كان ذلك العقال أسود أو أحمر أو أبيض ويهجرون من لبسه ويعللون ذلك بأنه لم يلبسه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا أصحابه ولم يكن ذلك يلبس في عهدهم ولا هو من هديهم ، وإذا كانت هذه العلة هي المانعة من لبس فيكون حراماً ولابسه قد خالف السنة . فيقال لهم : وكذلك لم يكن الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولا أصحابه ولا التابعون لهم بإحسان يلبسون هذه المشالح لا الأحمر منها ولا الأبيض ولا الأسود ولا العبي [ المراد بالعبي جمع عباية وهي في لغة العوام والعباية وجمعها عباء وعبآت ] على اختلاف ألوانها والكل من هذه الملابس صوف ظاهر وكذلك لم يكونوا يلبسون الغتر الشمغ على اختلاف ألوانها فلأي شيء كانت هذه الملابس حلالاً مباحاً لبسها ؟ وهذه العقل محرمة أو مكروهة لا يجوز لبسها ؟ والعلة في جميع واحدة على زعمهم ، مع أن هذا لم ينقل عن أحد من العلماء تحريمه ولا كراهته . وقد أظهر الله شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب فدعا الناس إلى توحيد الله وعبادته وقد كانوا قبل ظهوره في أمر دينهم على جهالة جهلاء ، وضلالة ظلماء ، فدعاهم إلى الله وإلى توحيده وكانوا قبل دعوته يعبدون الأولياء والصالحين والأحجار والغيران وغير ذلك من المعبودات التي كانوا يعبدونها من دون الله ، فدعا الناس إلى توحيد الله وعبادته وبين لهم الأحكام والشرائع والسنن حتى ظهر دين الله وانتشر في البلاد والعباد ، ولم يكن في وقته أحد يلبس هذه العصائب ولا أمر الناس بلبسها ولا ذكر أنها من السنن ، ولا أنكر على الناس ما كانوا يعتادونه من هذه الملابس(11/29)
كالعُقُل وغيرها ، لأنها من العادات الطبيعية ، لا العبادات الدينية الشرعية .
فخير الأمور السالفات على الهدى وشر الأمور المحدثات البدائع
( الوجه السادس ) أن السنة في الأصل تقع على ما كان عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما سنه أو أمر به من أصول
آداب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
الدين حتى الهدى والسمت فعلى هذا يكون الأصل في موضوعها هو ابتداء فعل أو قول لم يكن قبل ذلك مقولاً ولا مفعولاً ثم صار بعد الأمر بذلك مسنوناً مشروعاً لأن العبادات مبناها على الأمر وبيان ذلك أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا إذا فات أحداً منهم بعض الصلاة مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قضاها قبل السلام فجاء معاذ رضي الله عنه وقد فاته بعض الصلاة مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلما سلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفرغ من الصلاة قام معاذ فقضى ما فاته منها فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (( إن معاذاً قد سن لكن سنة فاتبعوها )) هذا هو المعروف من لفظ السنة وموضوعها وهذا بخلاف العمائم فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يسن لأمته لبسها بل كانت هي عادة العرب قبل الإسلام وبعده فما وجه تسميها بالسنة وتخصيصها لو كانوا يعلمون ؟ - فإنما دواء العي السؤال والله أعلم .
( وأما قول السائل ) وكذا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر . فنقول : الكلام فيه كالكلام في الأزمان والأشخاص والأحوال يراعى فيه ما هو الأصلح والأرجح وهو على المراتب الثلاث باليد فإن عجز عن ذلك فباللسان فإن عجز فبالقلب وذلك أضعف الإيمان . ولكن ينبغي للآمر والناهي أن يكون عليماً فيما يأمر به ، عليماً فيما ينهى عنه ، حليماً فيما ينهى عنه ، رفيقاً فيما ينهى عنه ، فمن أهمل هذا كان إفساده اكثر من إصلاحه والله أعلم .
(فصل)(11/30)
وأما قوله وهل إذا خرج بعض من نزل في دار الهجرة إلى البادية لأجل غنمه في وقت من الأوقات وهو يريد الرجوع يقع عليه وعيد من تعرب بعد الهجرة أم لا ؟
( فالجواب ) أن يقال إذا خرج بعض من نزل في دار الهجرة إلى البادية لأجل غنمه ومن نيته الرجوع إلى مسكنه وداره التي هاجر إليها لا يقع عليه وعيد من تعرب بعد الهجرة لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال (( إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرىء ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه )) وهذا الذي خرج إلى غنمه ليصلحها ، ويتعاهد أحوالها ، ثم يرجع إلى مهاجره ليس من نيته التعرب بعد الهجرة ، ولا رغبة عن الإسلام وأهله ، فلا يدخل في الوعيد . وقد اعتزل سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه – أيام الفتنة التي كانت بين علي ومعاوية رضي الله عنهما – في قصر له في البادية فقيل له في ذلك فقال شعراً :
عوى الذئب فاستأنست بالذئب إذ عوى وصوت إنسان فكدت أطير
العصائب هل هي من السنة أم لا ؟
ولم ينكر عليه أحد من الصحابة ولا قال له أحد منهم : إنك تعربت بعد الهجرة وتركت دار الهجرة لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أذن في مثل هذا كما هو مذكور في محله في غير هذا الموضع .(11/31)
وهذا الذي ذكرناه عن بعض الإخوان لم يكن منا رجماً بالغيب بل قد جاءوا إلينا وسألوا الشيخ عبد الله بن الشيخ عبد اللطيف عن هذه المسائل وعن هذه العصائب بخصوصها فأخبرهم أنها ليست من السنة في شيء وإنما هي من العادات الطبيعية ، لا من العبادات الدينية الشرعية ، وأغلظ لهم القول لما سألوه عن بعض هذه المسائل وأمرهم أن يعلموا أصل دينهم الذي يدخلهم الله بالجنة وينجيهم به من النار فإذا تمكن هذا الدين من قلوبهم فالجواب عن هذه المسائل وغيرها ممكن سهل وقد نفع الله به كثيراًً من الإخوان الداخلين في هذا الدين فانزجروا عن تلك الورطات ، التي من سلكها أفضت به إلى مفاوز الهلكات ، ولولا ما دفع الله بأغلاظه لهم عنها لاتسع الخرق على الراقع فجزاه الله عن الإسلام والمسلمين خيراً .
(فصل)
ولما انتهينا إلى هذا الموضع من تسويد هذه الأوراق قدم إلينا بعض الإخوان وافداً إلى الإمام ومعه ورقة في فضل العمامة يزعم أنها من كلام شيخ الإسلام ابن تيميه – قدس الله روحه – فلما تأملتها لم أجد فيها من كلام شيخ الإسلام لفظاً صريحاً إلا ما نقله شارح الإقناع عن شيخ الإسلام أن قال : إطالتها – أي الذؤابة – بلا إسبال . وإن أرخى طرفها بين كتفيه فحسن – فإن كان فيها شيء من كلام شيخ الإسلام فهو لم يبينه ولم يفصله عن غيره حتى يعلم ذلك ونحن نبين أن شاء الله تعالى ما في هذا الكلام من الخطأ وما يناقضه من كلام شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله وقدس روحه وهذا نص ما نقله في هذه الورقة قال فيها :(11/32)
( فائدة ) في فضل العمامة من كلام شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله تعالى وقدس روحه في أن الإقتداء بأفعال الرسول - صلى الله عليه وسلم - من الأمور المشروعة مقرر في علم الأصول لا سيما فيما يظهر فيه قصد القربة كما ورد في إرسال الذؤابة في الحديث الذي رواه مسلم عن جعفر بن عمرو بن حريث عن أبيه قال : كأني أنظر إلى رسول الله - - صلى الله عليه وسلم -- على المنبر وعليه عمامة سوداء قد أرخى طرفها بين كتفيه .
(والجواب) عن هذا من وجوه
( الوجه الأول ) أن ليس في هذا الكلام ما يدل على فضل العمامة وإنما فيه أن الإقتداء بأفعال الرسول - صلى الله عليه وسلم - من الأمور المشروعة مقرر في علم الأصول لا سيما فيما يظهر فيه قصد القربة كما ورد في إرسال الذؤابة في العمامة مما سنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وشرعه . فالإقتداء به في إرسال الذؤابة في العمامة لمن كان يعتاد لبسها مسنون مشروع وهذا يدل على فضل إرخاء الذؤابة بين الكتفين لا على فضل
العمامة من العادات . والفضيلة في التأسي
العمامة لأن لبس العمامة من العادات الطبيعية ، لا من العبادات الدينية الشرعية وقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يلبسها هو وسائر العرب قبل أن ينزل عليه الوحي وقبل أن يشرع الشرائع ويسن السنن .(11/33)
(الوجه الثاني ) أن لابس هذه العصائب على الغتر الشمغ وغيرها لم يكن مقتدياً برسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - لأن العمامة التي كان يلبسها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانت ساترة لجميع الرأس وكان يلتحي بها تحت الحنك وهذا بخلاف هذه العصائب واسم العمامة لا يقع إلى على ما وصفنا [ العمامة في اللغة ما يلف على الرأس ويكنى بها عن المغفر والبيضة ما في القاموس وشرحه لسان العرب ، وتسمى العمامة عصابة أيضاً. وهي في الأصل ما يعصب الرأس وغيره : وفي صحيح مسلم بل والسنن الأربع والشمائل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل مكة وعليه عمامة سوداء . وفي رواية للشمائل عصابة سوداء . نعم أنهم كانوا يتحنكون بالعمائم وهو ضرب من الأعتمام ولكن ما يلف على الرأس يسمى عمامة مطلقاً وقد شذ من عد الإعتمام سنة مطلقاً والأظهر أنه من العادات ولكن قصد التأسي به فضيلته ومن علامته القصد وإرخاء الذؤابة والتحنيك ] .
(الوجه الثالث) أن لبس العمائم والإزر والأردية وغيرها لم يكن من خصائص الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه بل كان هذا لباسه مع سائر العرب كما ذكر ذلك شيخ الإسلام فأي قربة أو فضيلة في الإقتداء به فيما كان فعله مشتركاً بينه - - صلى الله عليه وسلم - - وبين سائر العرب مسلمهم وكافرهم ؟
(الوجه الرابع) إنا لا ننكر إباحة جعل هذه العصائب على الغتر مطلقاً وإنما أنكرنا زعمهم أنها سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التي سنها لأمته وشرعها وجعل ذلك شعاراً يتمتيز به من دخل في هذا الدين عمن لم يدخل فيه كما بينا بطلان ذلك في غير هذا الموضع وسنبينه فيما بعد إن شاء الله تعالى .
( وأما قوله ) في الشمائل عن هارون الهمداني بإسناده إلى ابن عمر رضي الله عنهما قال كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا اعتم سدل عمامته من بين كتفيه قال نافع وكان ابن عمر يفعل ذلك قال عبيد الله : رأيت سالما والقاسم يفعلانه .(11/34)
فأقول : وهذا ليس فيه إرخاء الذؤابة بين كتفيه - صلى الله عليه وسلم - وهذا حق لا شك فيه . ولا ارتياب أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفعله ، والفضيلة وإنما هي في الإقتداء به إرسال الذؤابة بين الكتفين .
( وأما قوله ) وعن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه قال عممني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم ( غدير خم ) بعمامة فسدل طرفها على كتفي وقال (( إن الله أمدني يوم بدر ويوم حنين بملائكة معتمين بهذه العمة وأن العمامة حاجزة بين المسلمين والمشركين )) [ الحديث رواه أبو داود والترمذي عن شيخ مجهول فهو ضعيف وليس فيه ذكر الملائكة بل قال (( عممني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسدلها بين يدي ومن خلفي )) هكذا في سنن أبو داود ولم أره في الترمذي .
وأما الجملة الأخيرة فهي من معنى حديث رواه أبو داود والترمذي أيضا عن ابن ركانة عن أبيه مرفوعاً بلفظ (( فرق ما بيننا وبين المشركين لبس العمائم على القلانس )) قال الترمذي حديث غريب وإسناده ليس بالقائم ولا نعرف إبن الحسن العسقلاني ( أي وهو الذي انفرد بروايته ) ولا ابن ركانه . وسيذكره المصنف بغير تخريج .] .
الأحاديث في ارخاء الذؤابة(11/35)
(فأقول) هذا الحديث فيه ألفاظ تخالف ما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وتخالف ما ذكره شيخ الإسلام وغيره من العلماء وهي قوله (( إن الله أمدني يوم بدر ويوم حنين بملائكة ومعتمين بهذه العمة وأن العمامة حاجزة بين المسلمين والمشركين )) قال ابن القيم رحمه الله تعالى في الهدي النبوي لما ذكر ما رواه مسلم في صحيحه عن عمرو بن حريث قال : رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على المنبر وعليه عمامة سوداء قد أرخى طرفها بين كتفيه : وفي مسلم أيضاً عن جابر بن عبد الله أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دخل مكة وعليه عمامة سوداء ولم يذكر في حديث جابر ذؤابة فدل على أن الذؤابة لم يكن يرخيها دائماً بين كتفيه . وقد يقال : إنه دخل مكة وعليه أهبة القتال والمغفر على رأسه ، فلبس في كل موطن ما يناسبه .
وكان شيخنا أبو العباس ابن تيميه قدس الله روحه في الجنة ، يذكر في سبب الذؤابة شيئاً بديعاً ، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما اتخذها صبيحة المنام الذي رآه في المدينة ، لما رأى رب العزة تبارك وتعالى ، فقال : " يا محمد فيم يختصم الملأ الأعلى ؟ قلت : لا أدري ، فوضع يده بين كتفي فعلمت ما بين السماء والأرض . . . " الحديث ، وهو في الترمذي ، وسئل عنه البخاري ، فقال صحيح . قال : فمن تلك الحال أرخى الذؤابة بين كتفيه ، وهذا من العلم الذي تنكره ألسنة الجهال وقلوبهم ، ولم أر هذه الفائدة في إثبات الذؤابة لغيره . زاد المعاد " ج 1 ص 136-137" .
فذكر رحمه الله تعالى أن سبب [ لفظ هنا زائد فإن الإرخاء هو الذي كان صبيحة تلك الليلة لا سببه الذي هو الرؤيا فيها ] ارخاء الذؤابة كان صبيحة المنام الذي رآه في المدينة لما رأى رب العزة تبارك وتعالى وفيه (( فوضع يده بين كتفي )) قال فمن تلك الحال أرخى الذؤابة .(11/36)
وهذا الناقل ذكر في الحديث الذي ذكره عن عبد الرحمن بن عوف أن سبب إرخاء الذؤابة لما عممه بها أنها كانت عمة الملائكة الذين أمده الله بهم يوم بدر ويوم حنين ولو كان هذا هو السبب في ارخاء الذؤابة لذكره ابن القيم رحمه الله تعالى مع أن هذا الحديث لم يعزه إلى كتاب ولا بد من عزوه إلى كتاب من دواوين أهل الحديث المعروفة المشهورة مع تعديل رواته وتوثيقهم وإلا فلا نسلم صحته [ بينا أن العبارة ملفقة من حديثين هما في سنن أبي داود والترمذي وأنهما ضعيفان ] وذكر في الحديث أن العمامة حاجزة بين المسلمين والمشركين فلا أدري ما أراد بهذا الكلام وهل ذلك ثابت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أم لا ؟ لأنه قد كان من المعلوم أن على المشركين عمائم كما هي على المسلمين وعلى الملائكة فما معنى قوله (( وأن العمامة حاجزة )) إلى آخره .
أقوال العلماء . ومنع دلالتها على فضل العمامة
ثم قال ابن وضاح بسنده عن عصام بن محمد عن أبيه قال : رأيت على ابن الزبير عمامة سوداء قد أرخاها من خلفه قدر ذراع .
وهذا الحديث فيه أن العمامة التي رآها على ابن الزبير عمامة سوداء وهؤلاء لا يلبسون العمائم السود ولا يعصبون رؤوسهم وغاية ما فيه أنه أرخاها قد ذراع وهذا لا ينكره منا أحد .
ثم قال : وقال عثمان بن إبراهيم رأيت ابن عمر يخفي شاربه ويرخي عمامته من خلفه إلى أن قال وقال بعضهم بين الكتفين وهو قول الجمهور . ونص مالك أنها تكون بين اليدين ثم قال الأولون : إنها تكون قدر أربع أصابع وقيل إلى نصف الظهر وقيل القعده انتهى .
وهذا الذي ذكره عن ابن وضاح – إن كان النقل عنه ثابتاً بذلك – فليس فيه إلا إرخاء الذؤابة وفضيلة الاقتداء برسول الله - صلى الله عليه وسلم - في إرخائها لا في سنية العمامة .(11/37)
وأما قوله في الإقناع وشرحه ويسن إرخاء الذؤابة خلفه نص عليه قال الشيخ إطالتها – أي الذؤابة – بلا إسبال وإن أرخى طرفها بين كتفيه فحسن . فأقول هذا حق ولا نزاع فيه فإنه لم يذكر في الإقناع ولا في شرحه إلا أن إرخاء الذؤابة سنة لقوله ويسن إرخاء الذؤابة وأما العمامة فلم يذكر في شأنها شيئاً – لأنه قد كان من المعلوم عندهم أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يشرعها لأمته ولا سنها لهم بل كان عادة العرب لبسها في الجاهلية والإسلام .
وأما قوله قال الآجري وأرخاها ابن الزبير من خلفه قدر ذراع وعن أنس نحوه ، ذكره في الأدب ويسن تحنيكها ( أي العمامة ) لأن عمائم المسلمين كانت كذلك على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعدد لف العمامة كيف شاء قاله في المبدع وغيره وروى ابن حبان في كتاب أخلاق النبي - صلى الله عليه وسلم - من حديث ابن عمر كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعتم فيدير كور العمامة على رأسه ويغرزها من ورائه ويرخى لها ذؤابة بين كتفيه انتهى .
( فالجواب ) أن قول : وهذا كله إنما هو في سنية إرخاء الذؤابة من خلفه وهذا لا نزاع فيه ولا ينكرها منا أحد وليس في جميع ما أورده هاهنا من الأحاديث وكلام العلماء حرف واحد يدل على مشروعية لبس العمامة وأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سنها لأمته بل فيه ما ذكرنها آنفاً .
ولما بلغني خبر هذه الورقة وأنها من كلام شيخ الإسلام ابن تيميه ظننت أن قد جاء بما يناقض ما عندنا في ذلك فلما تأملتها إذا هو قد جاء بكلام لا أدري أهو من كلام شيخ الإسلام
الرد على من التزم لباساً لا يتعداه(11/38)
أم لا ؟ وبأحاديث لا تدل على ما فهمه منها فأخطأ في مفهومه حيث وضع الأحاديث وكلام العلماء في غير موضعها واستدل بها على غير ما تدل عليه فلم يأت الأمر من بابه ، ولا أقر الحق في نصابه ، فجعل ما ورد من الأحاديث في الذؤابة وما ذكره العلماء في ذلك نصاً في مشروعية العمامة ولبسها وهم لم يقتدوا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما كان يعتاده من لباسه في العمامة وأنها ساترة لجميع الرأس وأنه كان يلتجئ بها تحت الحنك ويتعمم على القلنسوة وقد قال - صلى الله عليه وسلم - (( فرق ما بينننا وبين المشركين العمائم على القلانس )) [ وفي نسخة الأعاجم . نقول والحديث ضعيف كما تقدم ] ولم يقتدوا به في لبس الرداء والإزار وغير ذلك مما كان يعتاده من لباسه هو وأصحابه رضي الله عنهم وتركوا هذا كله وعدلوا إلى وضع عصابة على غتر زعموا أنها هي العمامة التي كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يلبسها هو وأصحابه وجعلوا ذلك شعاراً يتميز به من دخل في هذا الدين عمن لم يدخل فيه وهذا هو الذي أنكرناه .
وقد ذكر شيخ الإسلام في الاختيارات ما نصه أن اللباس والزي الذي يتخذه بعض النساء من الفقراء والصوفية والفقهاء وغيرهم بحيث يصير شعاراً فارقاً كما أمر أهل الذمة بالتمييز عن المسلمين في شعورهم وملابسهم فيه مسألتان .
( المسألة الأولى ) هل يشرع ذلك استحباباً بالتمييز للفقير والفقيه من غيره فإن طائفة من المتأخرين استحبوا ذلك وأكثر الأئمة لا يستحبون ذلك بل كانوا يكرهونه لما فيه من التمييز عن الأمة وبثوب الشهرة ؟ أقول فيه تفصيل في كراهته وإباحته واستحبابه فإنه يجمع من وجه ويفرق من وجه .
ثم ذكر المسألة الثانية أن لبس المبرقعات والمصبغات والصوف إلى آخرها وهذه المسألة ليس النزاع فيها فلا حاجة إلى ذكرها هنا – إلى أن قال – وأيضا فالتقيد بهذه اللبسة بحيث يكره اللابس غيرها أو يكره أصحابه أن لا يلبسوا غيرها هو أيضا منهي عنه .(11/39)
وقال رحمه الله أيضا في كتابه الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان ( فصل ) وليس لأولياء الله شيء يتميزون به عن الناس في الظاهر من الأمور المباحات – فلا يتميزون بلباس دون لباس إذا كان كلاهما مباحاً ولا بحلق شعراً أو تقصيره أو بضفره إذا كان مباحاً كما قيل ( كم صديق في قباء ، وكم زنديق في عباء ) إلى آخر كلامه رحمه الله – فبين رحمه الله أنه ليس لأولياء الله المتقين لباس يتميزون به عن الناس في الظاهر من الأمور المباحات وهؤلاء الجهلة ينكرون ما كان يعتاده المسلمون من اللباس كالعقال وغيره ويعللون ذلك لأنه لباس الجند في هذه الأزمان كما ذكروا ذلك في نظمهم وزعموا أنه لا يلبس ذلك إلا أهل الطغيان من الجند الذين هم المجاهدون اليوم في سبيل الله ويسمونهم ( الزكرت )
الشعر في فضل العمامة ومعارضته
ظلماً وعدواناً وتجاوزوا للحد في المقال بغير الله بينه من الله ولا برهان ثم أوهموه من سمع هذا الكلام أن هذه الأبيات الآتي ذكرها من كلام بعض العلماء الذين تقدم ذكرهم بقولهم وقال بعضهم وهذا تدليس وتلبيس منهم وايهام لمن لا معرفة لديه فلو أنهم قالوا : وقال وبعض الشعراء أو قال فلان بن فلان شعراً لكان هذا هو الحق وسلموا بذلك من التلبيس والإيهام . ثم ذكر أبياتاً متكسرة واهية المباني ركيكة المعاني لا تليق إلا بعقل من أنشأها لقصر باعه ، وعدم إطلاعه . وقد قال الحطيئة :
الشعر صعب وطويل سلمه إذا رقى فيه الذي لا يعلمه
زلت به إلى الحضيض قدمه يريد أن يعربه فيعجمه
فلوا أنه اقتصر على النثر لكان أستر له وهذا نص الأبيات التي ذكرها :
يا منكراً فضل العمامة إنها من هدي قد خص بالقرآن
وكذاك قد كان الصحابة بعده والتابعون لهم على الإحسان
وكذاك كانت للأفاضل بعدهم وسما زيا سائر الأزمان
والله ما في لبسهما من ريبة لم تبدع يا معشر الإخوان
ليست كلبس الجند في أزماننا حاشا وربي كيف يستويان(11/40)
هذا شعار ذوي التقى وذا ك ( للزكرت ) وكل ذي طيغان
[ كتب بهامش هذه الصحيفة من الأصل بيتان نثبتهما فيما يلي
رضوا بالطيلسان إذا اكتسوه وتفخيم البرانس والعمامة
كذا دجج البيوت لهن ريش ولكن لا يطرن مع الحمامة
وقد كان يستقيم آخر الأخير في القصيدة وزناً ولغة لو قال :
هذا شعار أولي التقى أبداً وتلـ ـكم للزكرت وكل ذي طغيان ]
[والجواب أن نقول]
يا ذاكراً فضل العمامة إنها من هدى من قد خص بالقرآن
لم تأت بالتحقيق فيما قلته في فضلها بل جئت بالنكران
إن العمامة لبسها من هديه في العادة المعلومة التبيان
مثل الرداء وكالإزار وغيره من هديه المنعوت بالإحسان
والفضل في تلك الأحاديث التي أوردتها معلومة البرهان
إرخاؤها أعني الذؤابة خلفه لو كنت ذا علم بهذا الشأن
والشأن كل الشأن في إرخاؤها لا في اعتياد عمامة الإنسان
إن العمامة لبسها متقدم فيما مضى من سالف الأزمان
قبل النبوة ثم فيما بعدها لا يختفي إلا على العميان
والمصطفى سن الذؤابة بعد ذا فيما حكاه العالم الرباني
لكنكم لم تقتدوا بنبيكم في لبسها يا معشر الإخوان
أنتم جعلتم غترة من فوقها تلك العصابة يا ذوي العرفان
العمامة المسنونة
ليست محنكة وليست كلها للرأس ساترة وذا الوصفان
لابد في لبس العمامة منهما في العادة المعلومة التبيان
والمصطفى والصحب كان معهم فوق القلانس ليس ذا نكران
فتركتموا هذا وجئتم بعده بعصابة زيا بلا برهان
وجعلتموا هذا شعاراً فارقاً بين الأفاضل عن ذوي الطغيان
كالمسلمين ذوي الجهاد وغيرهم اللابسي زي من الألوان
مثل العقال وغيره من زيهم مما أبيح لسائر الإنسان
يا ويلكم من قال هذا قبلكم من كل ذي علم وذي عرفان
هذا كلام الشيخ فيما قد مضى في النهي عن هذا عن الأعيان
من كل ذي فقه وعلم بالذي قد قاله من خص بالقرآن
هذا ولم ننكر عليكم لبسها أعني العصائب معشر الإخوان
لكنما الإنكار منا جعلكم هذا شعاراً عن ذوي الطغيان(11/41)
أن لا يصيروا مثل هذا الجند في هذا اللباس بغير ما برهان
بل بالتعمق والتعسف منكمو بالرأي تشريعاً من الشيطان
إن لم يكن هذا ابتداعاً منكمو في الدين لم يشرع فيا إخواني
هاتوا دليلاً واضحاً من سنة أو من كلام أئمة العرفان
فالحق مقبول وليس يرده من كان ذا علم وذا إتقان
هذي الروافض والأعاجم كلهم يتعممون أهم ذوو إيمان
وكذا اليهود فإن تلك شعارهم من غير تحنيك لدى الأذقان
من خير خلق الله من أهل التقى إن كان هذا الزي ذا فرقان
والمسلمون التاركون للبسها هم أهل هذا الشرك والطغيان
إذا لم يكن هذا الشعار لباسهم مع سائر الإخوان في الأوطان
والله ما هذي مقالة منصف أو خائف من ربه الديان
ولقد علمتم أن من إخواننا أهل التقى والعلم والعرفان
والمنتمين لكل خير في الورى في سائر الأوطان والبلدان
جم غفير لم يكن ذا زيهم من قبل هذا الآن والأزمان
حتى أتيتم فابتدعتم هذه من غير تحقيق ولا برهان
والله ما هذي العصائب سنة قد سنها المبعوث بالقرآن
كلا ولا هذا الشعار بسنة معروفة معلومة التبيان
كلا ولا هذا التعمق قد أتى عن فاضل أو عالم رباني
فأتوا بحجتكم على قلتموا أو فارعووا يا معشر الإخوان
هذا الذي أدى إليه علمنا وبه ندين الله كل أوان
ثم الصلاة على النبي محمد أزكى الورى المولود من عدنان
والآل والصحب الكرام جميعهم والتابعين لهم على الإحسان
عدم التحري في النقل
( فصل )
ولما فرغنا من تسودي هذه الأوراق – وكنا في حال تسويدها قد أحسنا الظن بمن نقلها – بقي في النفس إشكال وتردد هل هذا النقل كله من شيخ الإسلام ابن تيميه قدس الله روحه أم لا ؟(11/42)
حتى بلغني أنه إنما نقل هذه الورقة من مجموع ( المنقور ) فأحضرنا ما نقله ( المنقور ) في مجموعه وقابلنا بينه وبين هذه الورقة المنقولة فإذا هو قد كتب من مجموع ( المنقور ) ما ظن أنه له وحذف منه ما يتيقن أنه عليه لا له وهذا بخلاف ما عليه أهل السنة والجماعة قال الإمام عبد الرحمن بن مهدي رحمه الله : أهل السنة يكتبون ما لهم وما عليهم وأهل البدع لا يكتبون إلا ما لهم . وهذا نص ما ذكره المنقور في مجموعه قال :(11/43)
ومما انتقاه القاضي من خط أبي حفص البرمكي بإسناده إلى أنس بن مالك رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسجد على كور عمامته . وبإسناده إليه (( إذا سمعت النداء فأجب وعليك السكينة فإن أصبت فرجة وإلا فلا تضيق على أخيك واقرأ ما تسمع أذنيك ولا تؤذ جارك وصل صلاة مودع ( ومنها أيضا ) سئل ابن تيميه عمن يقرأ وهو يلحن فأجب إن قدر على التصحيح صحح وإن عجز فلا بأس بقراءته حسب استطاعته . ومن كلام له أيضاً : وبعد فالاقتداء بأفعال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الأمور المشروعة كما هو مقرر في علم الأصول لا سيما فيما يظهر فيه قصد القربة كما ورد في إرسال الذؤابة في الحديث الذي رواه مسلم عن جعفر بن عمرو بن حريث عن أبيه قال كأني أنظر إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على المنبر وعليه عمامة سوداء قد أرخى طرفيها بين كتفيه . وفي الشمائل عن هارون الهمداني بإسناده إلى ابن عمر كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا اعتم سدل عمامته بين كتفيه قال نافع وكان ابن عمر يفعل ذلك قال عبيد الله رأيت سالماً والقاسم يفعلانه . وعن عبد الرحمن بن عوف عممني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسد لها بين يدي ومن خلفي . وعن علي قال عممني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم ( غدير خم ) بعمامة فسدل طرفها على منكبي ثم قال : (( إن الله أمدني يوم بدر ويوم حنين بملائكة معتمين بهذه العمة وإن العمامة حاجزة بين المسلمين والمشركين . قال ابن وضاح حدثني موسى حدثنا وكيع حدثنا عاصم بن محمد عن أبيه قال رأيت علي بن الزبير عمامة سوداء قد أرخاها من خلفه قدر ذراع قال عثمان بن ابراهيم رأيت ابن عمر يحفي شاربه ويرخي عمامته من خلفه إلى أن قال فهذه الآثار متعاضدة مع ما تقدمها من الأحاديث وهي دالة على استحباب الرسم بالذؤابة لذي الولايات
حكم إرخاء الذؤابة لعلي(11/44)
والمناصب والمشار إليهم من أهل العلم ليكون ذلك شعاراً لهم ولا يستحب ذلك لآحاد الناس ولهذا ألبسها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عليها ( يوم غدير خم ) وكان فيها بين مكة والمدينة مرجعه من حجة الوادع في اليوم الثامن عشر من ذي الحجة فخطب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قائماً وعلي إلى جانبه واقفاً وبرأ ساحته مما كان نسب إليه في مباشرته امرة اليمن فإن بعض الجيش نقم عليه أشياء تعاطاها هناك من أخذه تلك الجارية من الخمس ومن نزعه الحلل من اللباس لم صرفها إليهم نائبة . فتكلموا فيه وهم قادمون إلى حجة الوداع فلم يفرغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أيام الحج لإزاحة ذلك من أذهانهم فلما قفل راجعاً إلى المدينة ومر بهذا الموضع ورآه مناسباً لذلك خطب الناس هنالك وبرأ ساحة علي مما نسبوه إليه . وهكذا يستحب هذا للخطباء والعلماء شعاراً وعلماً عليهم في صفتها . قال بعضهم قال بعضهم تكون بين الكتفين وهو قول الجمهور ونص مالك إنها تكون بين اليدين وقال الأولون قدر أربع أصابع بين الكتفين ، وقيل إلى نصف الظهر وقيل القعدة انتهى ما ذكره المنقور في مجموعه .(11/45)
ونحن نبين ما في ورقته من التدليس والتلبيس والإيهام ، وما فيها من الغلط والكذب على الأئمة الأعلام ، وونبه على ما حذفه وتركه مما نقله من مجموع المنقور مما هو عليه لا له . فأما ما ذكره من التدليس والتلبيس ، والإيهام فهو قوله : فائدة في فضل العمامة من كلام شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله تعالى وقدس الله روحه إلى آخره وهذا لم يذكره الشيخ أحمد بن ممهر المنقور في مجموعه فأوهم السامع لهذا الكلام أن شيخ الإسلام ذكر هذا في فضل العمامة وهو إنما قاله من تلقاء نفسه وليس هو من كلام شيخ الإسلام ولا من كلام المنقور . تدليس وتلبيس منه على خفافيش الإبصار . وكذلك أوهم السامع أن هذه الورقة كلها من أولها إلى آخرها من كلام شيخ الإسلام وهو كذب عليه لم تكن هذه الورقة كلها من كلام شيخ الإسلام والذي ذكره أحمد بن محمد المنقور في مجموعه أن مما انتقاه القاضي عياض من خط أبي حفص البرمكي بإسناده إلى أنس بن مالك فذكره ثم قال .
ومنها أي مما انتقاه القاضي أيضاً سئل ابن تيميه عمن يقرأ وهو يلحن فأجاب إن قدر على التصحيح صحح إلى آخره . ثم قال : ومن كلام له أيضاً وبعد فالاقتداء بأفعال الرسول - صلى الله عليه وسلم - من الأمور المشروعة إلى آخره . والظاهر من سياق الكلام أن هذا كله مما انتقاه القاضي من خط أبي حفص البرمكي وليس فيه من كلام شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله شيء صريح إلا قوله : ومنها أيضا سئل ابن تيميه عمن يقرأ وهو يلحن . إلى آخره فإن كان ما ذكره بقوله : ومن كلام له أيضا – من كلام
أحاديث الذؤابة
شيخ الإسلام لا من كلام القاضي الذي انتقاه من خط أبي حفص البرمكي فهو إنما يدل على فضيلة إرسال الذؤابة بين كتفيه لا على فضل العمامة ومشروعية لبسها كما هو صريح كلامه رحمه الله ويكون منتهى ذلك النقل عنه إلى قوله قال عبيد الله رأيت سالماً والقاسم يفعلانه .(11/46)
وأما قوله وفي الشمائل عن هارون الهمداني بإسناده إلى ابن عمر كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا اعتم إلى آخره فهذا الحديث قد ذكره الترمذي في الشمائل وليس فيه إلا مشروع إرسال الذؤابة كما تقدم بيانه .
وأما قوله وعن عبد الرحمن بن عوف عممني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسدلها بين يدي ومن خلفي . فهذا الحديث لم نجده في الشمائل في باب ما جاء في عمامة النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا أن يكون في غير هذا الموضع فلا أدري.
وأما قوله وعن علي قال عممني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ( يوم غدير خم ) بعمامة فسدل طرفيها على منكبي ثم قال (( إن الله أمدني يوم بدر ويوم حنين بملائكة متعممين وأن هذه العمامة حاجزة بين المسلمين والمشركين )) : فأقول وهذا أيضا لم نجده في الشمائل على هذا الموضع الذي ذكروه والذي ذكره الترمذي رحمه الله في جامعه في أبواب اللباس في باب ما جاء في العمامة السوداء فذكر حديث جابر في دخلوه مكه يوم الفتح قال وفي الباب عن عمرو بين حريث وبن عباس وركانه .حديث جابر حديث حسن صحيح ثم ذكر حديث هارون ثم قال وفي الباب عن علي ولا يصح حديث علي هذا من قبل إسناده وقد نسبه الناقل في ورقته إلى عبد الرحمن بن عوف إما غلطاً وإما تدليساً وتلبيساً على من لا معرفة لديه [ الأظهر أنه سقط من النسخ ذكر أول حديث علي بعد تمام حديث عبد الرحمن وتقدم في حاشية سابقة أن حديث عبد الرحمن في سنن أبي داود وعزوه إلى جامع الترمذي كما شرح الشمائل ] ومثل هذا الحديث لا يعتمد عليه ولا يذكر إلا مع بيان صحته وأما بدون ذلك فلا يجوز كما ذكره شيخ الإسلام وغيره من العلماء وهؤلاء إنما ذكروه من جل ما فيه وأن العمامة حاجزة بين المسلمين والمشركين .(11/47)
وهذا مع أن الحديث لا يصح ولا يعتمد عليه قد كان المعلوم بالاضطرار أن المشركين كانوا يلبسون العمائم كما أن المسلمين يلبسونها وكذلك الملائكة فأي فرق وحاجز بين المسلمين والمشركين حينئذ يتميز به هؤلاء عن هؤلاء لو كانوا يعلمون .
( فصل )
تتمة كلام ابن وضاح المتقدم
وأما ما حذفه مما نقله من مجموع المنقور لما ذكر كلام ابن وضاح إلى قوله : قال عثمان بن إبراهيم رأيت ابن عمر يحفي شاربه ويرخي عمامته . ثم قال : إلى أن قال فهذه الآثار متعاضدة مع ما تقدمها من الأحاديث وهي دالة على استحباب الرسم بالذؤابة لذوي الولايات والمناصب والمشار إليهم من أهل العلم ليكون ذلك شعاراً لهم ولا يستحب ذلك لآحاد الناس ولهذا ألبسها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علياً ( يوم غدير خم ) وكان فيما بين مكة والمدينة مرجعه من حجة الوداع في اليوم الثامن والعشرين من ذي الحجة فخطب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قائماً وعلي إلى جانبه واقف وبرأ ساحته مما كان نسب إليه في مباشرته إمرة اليمن فإن بعض الجيش نقم عليه أشياء تعاطاها هناك من أخذه لتلك الجارية من الخمس ومن نزعه الحلل من اللباس لما صرفها إليهم نائبة فتكلموا فيه وهم قادمون إلى حجة الوداع فلم يفرغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أيام الحج لإزاحة ذلك من أذهانهم فلما قفل راجعاً إلى المدينة ومر بهذا الموضع ورآه مناسباً لذلك خطب الناس هنالك وبرأ ساحة علي مما نسبوه إليه . وهكذا عبد الرحمن إنما ألبسه الذؤابة لما بعثه أميراً على تلك السرية وهكذا يستحب هذا للخطباء وللعلماء شعاراً وعلماً عليهم في صفتها انتهى .
وهذا كله حذفه من كلام ابن وضاح الذي ذكره في المنقور في مجموعه وهذه هي طريقة داود ابن جرجيس فيما ينقله من كلام شيخ الإسلام ابن تيميه ويتصرف فيه وكذلك عثمان بن منصور فيما ينقله عن شيخ الإسلام . فنعوذ بالله من هذه الطريقة الضالة الكاذبة .(11/48)
ثم ذكر قول ابن واضح حيث قال وقال بعضهم بين الكتفين وهو قول الجمهور ونص مالك أنها تكون بين اليدين ثم قال الأولون إنها تكون قدر أربع أصابع وقيل إلى نصف الظهر وقيل القعدة انتهى .
وهذا آخر ما ذكره المنقور في مجموعه وقد زعم صاحب الورقة أن كلام ابن وضاح هذا مما نقله شيخ الإسلام وهذا كذب على شيخ الإسلام فذكر منه ما ظن أنه موافق له وأنه له لا عليه وحذف منه ما يخالف رأيه حيث قال فهذه الآثار متعاضدة مع ما تقدمها من الأحاديث وهي دالة على استحباب الرسم بالذؤابة لذوي الولايات والمناصب والمشار إليهم من أهل العلم ليكون ذلك شعاراً لهم ولا يستحب ذلك لآحاد الناس إلى آخره فلو كان هذا النقل ثابتاً عن شيخ الإسلام لكان مناقضاً لما ذكره في الاختيارات حيث قال : إن اللباس والزي الذي يتخذه بعض النساك من الفقراء والصوفية والفقهاء وغيرهم بحيث يصير شعاراً فارقاً كما أمر أهل الذمة بالتمييز عن المسلمين في شعورهم وملابسهم فيه مسألتان :
(المسألة الأولى ) هل يشرع ذلك استحباباً بالتمييز للفقير والفقيه من غيره فإن طائفة من المتأخرين استحبوا ذلك وأكثر الأئمة لا
كراهة العلماء للزي والشعار
يستحبون ذلك بل قد كانوا يكرهونه لما فيه من التمييز عن الأمة وبثوب الشهرة أقول هذا فيه تفصيل في كراهته وإباحته واستحبابه فإنه يجمع من وجه ويفرق من وجه .(11/49)
ثم ذكر ( المسألة الثانية ) أي لبس المبرقعات والمصبغات والصوف إلى آخرها وهذه المسألة ليس النزاع فيها فلا حاجة إلى ذكرها هنا فذكر رحمه الله أن هذه استحباب طائفة من المتأخرين وأما أكثر الأئمة فإنهم لا يستحبون ذلك بل قد كانوا يكرهونه لما فيه من التمييز عن الأمة وبثوب الشهرة وقد أعاذ الله شيخ الإسلام من التناقض في أقواله وأن ذلك لا يليق بإمامته وجلالته ومكانته من العلم ثم تأمل ما تركه هؤلاء وحذفوه من كلام ابن وضاح حيث ذكر أن استحباب الرسم بالذؤابة لذوي الولايات والمناصب والمشار إليهم من أهل العلم ليكون شعاراً لهم . ولا يستحب ذلك لآحاد الناس . فذكر أن هذا خاص بهؤلاء وأنه لا يستحب لآحاد الناس ثم أخذوا المعنى مما حذفوه وجعلوه رسماً وشعاراً لكل أحد ممن يدخل في هذا الدين وإن لم يكونوا من أهل الولايات والمناصب والعلماء والخطباء فلم يتقيدوا بما ذكره أهل العلم من المتأخرين وإن كان مرجوحاً ولم يقتدوا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه وسائر العرب في لبساهم من الأردية والعمائم الساترة لجميع الرأس وكونها محنكة بل جعلوا مكان ذلك عصائب وجعلوا لها ذؤابة وظنوا أنهم قد أخذوا بالسنة في ذلك وليس هذا من السنة في شيء وقد تبين لك أن شيخ الإسلام ابن تيميه مع أكثر الأئمة لا يستحبون هذا الزي وهذا الشعار بل قد كانوا يكرهونه لما فيه من التمييز عن الأمة وتبين لك أيضاً من سياق الأحاديث وكلام العلماء أن هذا في إرسال الذؤابة لا في مشروعية العمامة لأنه كان من المعلوم عندهم أن لبس العمائم من عادة العرب في الجاهلية والإسلام وليست شعاراً لأهل الولايات والمنصاب والمشار إليهم من أهل العلم وإنما الشعار الخاص بهم الرسم بالذؤابة فقط .
( فصل )(11/50)
وأما قوله قال في الإقناع وشرحه إلى آخره ما نقل . فهذا كله ليس من كلام شيخ الإسلام الذي نقله المنقور وفيه تحنيك العمامة إلى آخر ما ذكر عن ابن مفلح وهؤلاء لا يحنكون العصائب وقد ذكر أهل العلم أن تحنيك العمائم مسنون لأن عمائم المسلمين كانت كذلك على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد تقدم ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيميه في إقتضاء الصراط المستقيم أنه قال قال الميموني رأيت أبا عبد الله عمامته تحت ذقنه ويكره غير ذلك وقال العرب أعمتها تحت أذقانها . وقال أحمد في رواية الحسن بن محمد يكره أن لا تكون العمامة تحت الحنك كراهة شديدة وقال إنما يتعمم بمثل ذلك اليهود والنصارى والمجوس انتهى.
فتبين لك من صنيع هؤلاء أنه لو كان المقصود منهم الإقتداء
كلام النووي في مقدار عمامة النبي (- صلى الله عليه وسلم -)(11/51)
برسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هديه في لباسه ليفعلوا كما فعل ولم يبتدعوا زياً وشعاراً يخالف هديه . وقال ( صديق بن حسن ) في الجلد الأخير من كتابه ( الدين الخالص ) في النهي عن التشبه بالكفار في زيهم ولباسهم قال وعن ركانه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال (( فرق بيننا وبين المشركين العمائم على القلانس ))رواه الترمذي وقال هذا حديث غريب بإسناده ليس بالقائم انتهى وفيه دلالة على أن الكفار والمشركين يستعملون العمائم بلا قلنسوة وأن المسلمين زيهم أن يلبسوها عليها . وليس فيه أن لبس القلانس ممنوع بل فيه فضيلة العمامة عليها وأن لا يكون الإقتصار على واحدة منهما أبداً بل يجمع بينهما ويتميز بهما عن أقوام لا يلبسون العمائم أصلاً ويقنعون على القلانس بل يستعملون العمائم فقط كالهنود ومنهم من لا يلبس قلسنوة وعمامة بل يبقى مكشوف الرأس أبداً كأناس ( بنجالة ) في الهند ومنهم من يجمع بينهما لكن على زي الأعاجم دون العرب . ومراده - صلى الله عليه وسلم - بالعمائم في هذا الحديث هي التي كان يلبسها هو وأصحابه ( وتابعوهم ) وهي مضبوطة مصرح بها في كتب السنة المطهرة طولاً وعرضاً مع بيان شأن الربط وما يتصل به . قال الجزري وقد تتبعت الكتب لأقف على قدر عمامة النبي - صلى الله عليه وسلم - فلم أقف حتى أخبرني من أثق به أنه وقف على شيء من كلام الإمام النووي ذكر فيه أنه كان له - صلى الله عليه وسلم - عمامة قصيرة هي سبعة أذرع وعمامة طويلة مقدارها اثنا عشر ذراعاً قال في المرقاة المعنة نحن نتعمم على القلانس وهم يكتفون بالعمائم انتهى ، وأما اليوم فإني رأيت العرب ومن يساكنهم في الحرمين الشريفين أدام الله شرفهما أحدثوا لها أشكالاً غير الشكل المأثور وأفرطوا فيها وفي غيرها من اللباس والثياب حتى خرجوا عن زي الإسلام السالف واختاروا ماشاؤوا من القلانس والعمائم قال علي القارئ في حق أهل مكة في زمنه عمائم كالأبراج وكمائم(11/52)
كالأخراج انتهى . وما أصدقه في هذه المقالة فقد وجدناهم كذلك بل وجدناهم فوق ذلك لأنه مضى على زمنه مئون ، وللدهر في كل عصر فنون وشئون كما قيل : أن في كل بلد من بلادهم مائة مشية ومائة لسان ، ولا يقف عند أحد من نوع الإنسان ، وما شاء الله كان . انتهى فبين رحمه الله أن المراد بالعمائم هي ما كان يلبسها هو وأصحابه وذكر رحمه الله تعالى أنه رأى من الحرمين الشريفين أدام الله شرفهما ومن يسكانهم منهما وخالفوا زي العرب وأحدثوا لهما أشكالاً غير الشكل المأثور وأفرطوا فيها وفي غيرها من اللباس والثياب حتى خرجوا عن زي الإسلام السالف واختاروا ما شاؤوا من القلانس والعمائم انتهى . فكيف الحال بهذه العصائب التي لا تشبه العمائم إلا في الاسم فليست ممكنة ولا هي على قلنسوة بل قد خرجت عن زي أهل الإسلام السالف مع هذا يزعم من أحدثها أنها سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فالله المستعان والله يقول الحق وهو يهدي السبيل وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم أجمعين .
تم نسخها في 6 جمادى الأولى سنة 1335 .(11/53)
اِرْكبْ مَعَنا
كتبه /
د.محمد بن عبد الرحمن العريفي
1423هـ
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله .. وبعد :
أما الأول :
فقد جلس إليَّ مهموماً مغموماً .. ثم قال :
يا شيخ .. مللت من الغربة ..
فقلت : عسى الله أن يعجل رجوعك إلى أهلك وبلدك ..
فاستعبر وبكى .. ثم قال : أما ولله يا شيخ لو عرفت بقدر شوقي إليهم وقدر شوقهم إليَّ ..
هل تصدق يا شيخ أن أمي قد سافرت أكثر من أربعمائة ميل لتدعو لي عند ضريح قبر الشيخ فلان .. وتسأله أن يردني إليها ..!! فهو رجل مبارك تقبل منه الدعوات .. ويقضي الكربات .. ويسمع دعاء الداعين .. حتى بعد موته ..!!
أما الثاني :
فقد حدثني شيخنا العلامة عبد الله بن جبرين .. قال :
كنت على صعيد عرفات .. والناس في بكاء ودعوات .. قد لفوا أجسادهم بالإحرام .. ورفعوا أكفهم إلى الملك العلام ..
وبينما نحن في خشوعنا وخضوعنا .. نستنزل الرحمات من السماء ..
لفت نظري شيخ كبير .. قد رق عظمه .. وضعف جسده .. وانحنى ظهره .. وهو يردد : يا شيخ فلان .. أسألك أن تكشف كربتي .. اشفع لي .. وارحمني .. ويبكي وينتحب ..
فانتفض جسدي .. واقشعرّ جلدي .. وصحت به : اتق الله .. كيف تدعو غير الله !! وتطلب الحاجات من غير الله !! الجيلاني عبدٌ مملوكٌ .. لا يسمعك ولا يجيبك .. ادعُ الله وحده لا شريك له ..
فالتفت إليَّ ثم قال : إليك عني يا عجوز .. أنت ما تعرف قدر الشيخ فلان عند الله !!.. أنا أؤمن يقيناً أنه ما تنزل قطرة من السماء .. ولا تنبت حبة من الأرض إلا بإذن هذا الشيخ ..
فلما قال ذلك .. قلت له : تعالى الله .. ماذا أبقيت لله ..
فلما سمع مني ذلك .. ولاني ظهره ومضى ..
وأما الثالث .. والرابع .. والخامس .. فأخبارهم فيما بين يديك من أوراق ..
فسبحان الله .. أين هؤلاء اللاجئين إلى غير مولاهم .. الطالبين حاجاتهم من موتاهم ..(12/1)
المتجهين بكرباتهم إلى عظام باليات .. وأجساد جامدات .. أينهم عن الله ..!! الملك الحق المبين !! الذي يرى حركات الجنين .. ويسمع دعاء المكروبين .. ولا يرضى أن يدعوا عباده سواه ..
فابكِ إن شئت على حال الأمة .. وقلب طرفك في بلاد الإسلام .. لترى أضرحة ومقامات .. وقبوراً ورفات .. صارت هي الملجأ عند الملمات .. والمفزع عند الكربات ..
نشأ عليها الصغير .. وشاب عليها الكبير ..
فهذه كلمات لهم وهمسات.. وأحاديث ونداءات.. بل هي صرخات وصيحات.. وابتهالات ودعوات.. للغارقين والغارقات..
الذين تلاطمت بهم الأمواج .. وضلوا في الفجاج ..
حتى تخلفوا عن سفينة النجاة .. وماتوا وهم مشركون .. وهم يحسبون أنهم مسلمون ..
إنها سفينة التوحيد .. التي هي كسفينة نوح .. من ركبها نجا ومن تخلف عنها هلك ..
وكم رأينا في بلاد الإسلام .. من أقارب وإخوان .. وجيران وخلان .. ضلَّ سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً ..
لذا جاء هذا الكتاب نداءً لهم جميعاً بأن يعبدوا الله وحده لا شريك له ..
كتبه /
د. محمد بن عبد الرحمن العريفي
دكتوراه في العقيدة والمذاهب المعاصرة
arefe@arefe.com
بسم الله الرحمن الرحيم
البحر المتلاطم ..
كانت الدنيا مليئة بالمشركين .. هذا يدعو صنماً .. وذاك يرجو قبراً ..
والثالث يعبد بشراً .. والرابع يعظم شجراً ..
نظر إليهم ربهم فمقتهم عربهم وعجمهم .. إلا بقايا من موحدي أهل الكتاب ..
وكان من بين هؤلاء السادرين ..
سيد من السادات .. هو عمرو بن الجموح ..
كان له صنم اسمه مناف .. يتقرب إليه .. ويسجد بين يديه ..
مناف .. هو مفزعه عند الكربات .. وملاذه عند الحاجات ..
صنم صنعه من خشب .. لكنه أحب إليه من أهله وماله ..
وكان شديد الإسراف في تقديسه .. وتزيينه وطييبه وتلبيسه ..
وكان هذا دأبه مذ عرف الدنيا .. حتى جاوز عمره الستين سنة ..(12/2)
فلما بُعث النبي صلى الله عليه وسلم في مكة .. وأرسل مصعب بن عمير رضي الله عنه .. داعيةً ومعلماً لأهل المدينة .. أسلم ثلاثة أولاد لعمرو بن الجموح مع أمهم دون أن يعلم ..
فعمدوا إلى أبيهم فأخبروه بخبر هذا الداعي المعلم وقرؤوا عليه القرآن .. وقالوا : يا أبانا قد اتبعه الناس فما ترى في اتباعه ؟
فقال : لست أفعل حتى أشاور مناف فأَنظُرَ ما يقول !!
ثم قام عمرو إلى مناف .. وكانوا إذا أرادوا أن يكلموا أصنامهم جعلوا خلف الصنم عجوزاً تجيبهم بما يلهمها الصنم في زعمهم ..
أقبل عمرو يمشي بعرجته إلى مناف .. وكانت إحدى رجليه أقصر من الأخرى .. فوقف بين يدي الصنم .. معتمداً على رجله الصحيحة .. تعظيماً واحتراماً .. ثم حمد الصنم وأثنى عليه ثم قال :
يا مناف .. لا ريب أنك قد علمت بخبر هذا القادم .. ولا يريد أحداً بسوء سواك .. وإنما ينهانا عن عبادتك .. فأشِرْ عليّ يا مناف .. فلم يردَّ الصنم شيئاً .. فأعاد عليه فلم يجب ..
فقال عمرو : لعلك غضبت .. وإني ساكت عنك أياماً حتى يزول غضبك ..
ثم تركه وخرج .. فلما أظلم الليل .. أقبل أبناؤه إلى مناف ..
فحملوه وألقوه في حفرة فيها أقذار وجيف ..
فلما أصبح عمرو دخل إلى صنمه لتحيته فلم يجده ..
فصاح بأعلى صوته : ويلكم !! من عدا على إلهنا الليلة .. فسكت أهله ..
ففزع ..واضطرب ..وخرج يبحث عنه ..فوجده منكساً على رأسه في الحفرة..فأخرجه وطيبه وأعاده لمكانه..
وقال له : أما والله يا مناف لو علمتُ من فعل هذا لأخزيته ..
فلما كانت الليلة الثانية أقبل أبناؤه إلى الصنم .. فحملوه وألقوه في تلك الحفرة المنتنة ..
فلما أصبح الشيخ التمس صنمه .. فلم يجده في مكانه ..
فغضب وهدد وتوعد .. ثم أخرجه من تلك الحفرة فغسله وطيبه ..
ثم ما زال الفتية يفعلون ذلك بالصنم كل ليلة وهو يخرجه كل صباح فلما ضاق بالأمر ذرعاً راح إليه قبل منامه وقال : ويحك يا مناف إن العنز لتمنع أُسْتَها ..(12/3)
ثم علق في رأس الصنم سيفاً وقال : ادفع عدوك عن نفسك ..
فلما جَنَّ الليلُ حمل الفتيةُ الصنم وربطوه بكلب ميت وألقوه في بئر يجتمع فيها النتن .. فلما أصبح الشيخ بحث عن مناف فلما رآه على هذا الحال في البئر قال :
ورب يبول الثعلبان برأسه *** لقد خاب من بالت عليه الثعالب
ثم دخل في دين الله .. وما زال يسابق الصالحين في ميادين الدين ..
وانظر إليه .. لما أراد المسلمون الخروج إلى معركة بدر .. منعه أبناؤه لكبر سنه .. وشدة عرجه .. فأصر على الخروج للجهاد.. فاستعانوا برسول الله صلى الله عليه وسلم فأمره بالبقاء في المدينة .. فبقي فيها ..
فلما كانت غزوة أحُد .. أراد عمرو الخروج للجهاد .. فمنعه أبناؤه .. فلما أكثروا عليه .. ذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم .. يدافع عبرته .. ويقول : ( يا رسول الله إن بنيّ يريدون أن يحبسوني عن الخروج معك إلى الجهاد ..
قال : إن الله قد عذرك ..
فقال .. يا رسول الله .. والله إني لأرجو أن أطأ بعرجتي هذه في الجنة ..
فأذن له صلى الله عليه وسلم بالخروج .. فأخذ سلاحه وقال : اللهم ارزقني الشهادة ولا تردّني إلى أهلي ..
فلما وصلوا إلى ساحة القتال .. والتقى الجمعان .. وصاحت الأبطال .. ورميت النبال ..
انطلق عمرو يضرب بسيفه جيش الظلام .. ويقاتل عباد الأصنام ..
حتى توجه إليه كافر .. بضربة سيف كُتِبَت له بها الشهادة ..
فدفن رضي الله عنه .. ومضى مع الذين أنعم الله عليهم ..
وبعد ست وأربعين سنة في عهد معاوية رضي الله عنه ..
نزل بمقبرة شهداء أحد .. سيل شديد .. غطّى أرض القبور ..
فسارع المسلمون إلى نقل رُفات الشهداء .. فلما حفروا عن قبر عمرو بن الجموح .. فإذا هو كأنه نائم .. ليّن جسده .. تتثنى أطرافه .. لم تأكل الأرض من جسده شيئاً ..
فتأمل كيف ختم الله له بالخير لما رجع إلى الحق لما تبين له ..
بل انظر كيف أظهر الله كرامته في الدنيا قبل الآخرة .. لما حقق لا إله إلا الله ..(12/4)
هذه الكلمة التي قامت بها الأرض والسموات .. وفطر الله عليها جميع المخلوقات .. وهي سبب دخول الجنة ..
ولأجلها خلقت الجنة والنار .. وانقسم الخلق إلى مؤمنين وكفار .. وأبرار وفجار ..
فلا تزول قدما العبد بين يدي الله حتى يسأل عن مسألتين ماذا كنتم تعبدون وماذا أجبتم المرسلين ..
* * * * * * * * *
سفينة النجاة ..
وكم من إنسان هلك مع الهالكين .. واستحق اللعنة إلى يوم الدين .. بسبب أنه لم يحقق التوحيد ..
فالله هو الرب الواحد .. لا يتوكل العبد إلا عليه .. ولا يرغب إلا إليه ..
ولا يرهب إلا منه .. ولا يحلف إلا باسمه .. ولا ينذر إلا له .. ولا يتوب إلا إليه ..
فهذا هو تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله .. ولهذا حرم الله على النار من شهد أن لا إله إلا الله حقيقة الشهادة ..
وانظر إلى معاذ رضي الله عنه .. لما مشى خلف النبي صلى الله عليه وسلم .. فالتفت إليه النبي صلى الله عليه وسلم فجأة ثم سأله ..
يا معاذ : أتدري ما حق الله على العباد .. وما حق العباد على الله ..
قال : الله ورسوله أعلم ..
فقال صلى الله عليه وسلم : حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً .. وحق العباد على الله أن لا يعذب من لا يشرك به شيئاً ..
وفي حديث آخر .. أنه رضي الله عنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله .. أي ذنب عند الله أعظم .. فقال صلى الله عليه وسلم : أن تجعل لله نداً وهو خلقك ..
* * * * * * * * *
نعم .. التوحيد من أجله .. بعث الله الرسل .. قال تعالى : { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ } .. والطاغوت هو كل ما عبد من دون الله .. من صنم أو حجر .. أو قبر أو شجر ..(12/5)
والتوحيد هو مهمة الرسل الأولى كما قال تعالى : { وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ } .. بل إن الخلق لم يخلقوا إلا ليوحدوا الله قال تعالى : { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } ..
والأعمال كلها متوقفة في قبولها على التوحيد .. قال تعالى : { وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } .. ومن حقق التوحيد نجا .. كما صح في الحديث القدسي عند الترمذي .. أن الله تعالى قال : يا ابن آدم لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة ..
ولعظم أمر التوحيد .. خاف الأنبياء من فقده ..
فذاك أبو الموحدين .. محطم الأصنام .. وباني البيت الحرام .. إبراهيم عليه السلام .. يبتهل إلى الملك العلام .. ويقول : { واجنبني وبني أن نعبد الأصنام } .. ومن يأمن البلاء بعد إبراهيم ؟ ..
* * * * * * * * *
بداية الانحراف ..
أول ما حدث الشرك في قوم نوح ..
فبعث الله نوحاً .. فنهاهم عن الشرك .. فمن أطاعه ووحد الله نجى ..
ومن ظل على شركه .. أهلكه الله بالطوفان .. وبقي الناس بعد نوح على التوحيد زماناً ..
ثم بدأ إبليس في الإفساد .. ونشر الشرك بين العباد .. ولم يزل الله تعالى يبعث المرسلين مبشرين ومنذرين ..
إلى أن بعث خاتم النبيين محمداً صلى الله عليه وسلم.. فدعا إلى التوحيد .. وجاهد المشركين ..وكسر الأصنام ..
ومضت الأمة من بعده على التوحيد ..
إلى أن عاد الشرك إلى بعض الأمة بسبب تعظيم الأولياء والصالحين ..
حتى بنيت الأضرحة على قبورهم .. وصرف الدعاء والاستغاثة والذبح والنذر لمقاماتهم ..
وسموا هذا الشرك توسلاً بالصالحين ومحبة لهم بزعمهم .. وزعموا أن محبتهم لهؤلاء وتعظيم قبورهم .. تقربهم إلى الله زلفى ..(12/6)
ونسوا أن هذه حجة المشركين الأولين حيث قالوا عن أصنامهم : { ما نعبدهم إلى ليقربونا إلى الله زلفى } ..
والعجب أنك إذا أنكرت على هؤلاء شركهم .. قالوا لك .. كلا بل نحن موحدون .. ولربنا عابدون ..
ويظنون أن معنى التوحيد هو الإقرار بوجود الله وأحقيته بالعبادة دون غيره ..
وهذا مفهوم قاصر .. بل مفهوم باطل للتوحيد ..
فأبو جهل .. وأبو لهب .. بهذا المفهوم موحدون .. فإنهم يعتقدون أن الله هو الإله الأعظم المستحق للعبادة .. لكنهم أشركوا معه آلهة أخرى ظنوا أنها توصل إليه .. وتشفع لهم عنده ..
قصة ..
روى البيهقي وغيره : أنه لما ظهر النبي صلى الله عليه وسلم بدعوته بين الناس .. حاول كفار قريش أن ينفروا الناس عنده .. فقالوا : ساحر .. كاهن .. مجنون ..
لكنهم وجدوا أن أتباعه يزيدون ولا ينقصون ..
فاجتمع رأيهم على أن يغروه بمال ودنيا ..
فأرسلوا إليه حصين بن المنذر الخزاعي .. وكان من كبارهم ..
فلما دخل عليه حصين .. قال : يا محمد .. فرقت جماعتنا .. وشتت شملنا .. وفعلت .. وفعلت .. فإن كنت تريد مالاً جمعنا لك حتى تكون أكثرنا مالاً .. وإن أردت نساءً زوجناك أجمل النساء .. وإن كنت تريد ملكاً ملكناك علينا .. ومضى في كلامه وإغرائه ..والنبي صلى الله عليه وسلم ينصت إليه ..
فلما انتهى من كلامه .. قال له صلى الله عليه وسلم : أفرغت يا أبا عمران ..
قال : نعم .. قال : فأجبني عما أسألك .. قال : سل عما بدا لك ..
قال : يا أبا عمران .. كم إلهاً تعبد ؟ قال : أعبد سبعة .. ستة في الأرض .. وواحداً في السماء !!
قال : فإذا هلك المال .. من تدعوا !؟
قال : أدعوا الذي في السماء .. قال : فإذا انقطع القطر من تدعوا ؟
قال : أدعوا الذي في السماء .. قال : فإذا جاع العيال .. من تدعوا ؟
قال : أدعوا الذي في السماء .. قال : فيستجيب لك وحده .. أم يستجيبون لك كلهم ..
قال : بل يستجيب وحده ..(12/7)
فقال صلى الله عليه وسلم: يستجيب لك وحده .. وينعم عليك وحده .. وتشركهم في الشكر .. أم أنك تخاف أن يغلبوه عليك .. قال حصين : لا .. ما يقدرون عليه ..
فقال صلى الله عليه وسلم : يا حصين ..أسلم أعلمك كلمات ينفعك الله بهن ..فقيل إنه أسلم فعلمه النبي صلى الله عليه وسلم دعاء يدعو به..
حقيقة ..
نعم كانوا يعبدون اللات والعزى .. لكنهم يعتبرونها آلة صغيرة تقربهم إلى الإله الأعظم وهو الله جل جلاله .. ويصرفون لها أنواعاً من العبادات .. لتشفع لهم عند الله .. لذا كانوا يقولون { ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى } ..
كانوا يعتقدون أن الله هو الخالق الرازق المحيي المميت ..
{ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ } ..
وفي الصحيحين وغيرهما ..
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث خيلاً جهة نجد .. لينظروا له ما حول المدينة ..
فبنما هم يتجولون على دوابهم .. فإذا برجل قد تقلد سلاحه .. ولبس الإحرام .. وهو يلبي قائلاً : لبيك اللهم لبيك .. لبيك لا شريك لك .. إلا شريكاً هو لك .. تملكه وما ملك .. ويردد : إلا شريكاً هو لك .. تملكه وما ملك ..
فأقبل الصحابة عليه .. وسألوه أين يريد .. فأخبرهم أنه يريد مكة .. فنظروا في حاله فإذا هو قد أقبل من ديار مسيلمة الكذاب .. الذي ادعى النبوة ..
فربطوه وأوثقوه وجاؤوا به إلى المدينة .. ليراه النبي صلى الله عليه وسلم .. ويقضي فيه ما شاء ..
فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم .. قال لأصحابه : أتدون من أسرتم .. هذا ثمامة بن أثال سيد بني حنيفة ..
ثم قال اربطوه في سارية من سواري المسجد .. وأكرموه ..
ثم ذهب صلى الله عليه وسلم إلى بيته وجمع ما عنده من طعام وأرسل به إليه .. وأمر بدابة ثمامة أن تعلف ويعتنى بها .. وتعرض أمامه في الصباح والمساء ..(12/8)
فربطوه بسارية من سواري المسجد .. فخرج إليه النبي صلى الله عليه وسلم فقال : ما عندك يا ثمامة ؟
قال : عندي خير يا محمد .. إن تقتلني تقتل ذا دم .. ( أي ينتقم لي قومي ) .. و إن تنعم تنعم على شاكر .. وإن كنت تريد المال فسل منه ما شئت ..
فتركه صلى الله عليه وسلم حتى كان الغد .. ثم قال له : ما عندك يا ثمامة ؟
فقال : عندي ما قلت لك إن تقتلني تقتل ذا دم .. و إن تنعم تنعم على شاكر .. و إن كنت تريد المال فسل منه ما شئت ..
فتركه صلى الله عليه وسلم حتى بعد الغد .. فمر به فقال : ما عندك يا ثمامة ؟
فقال : عندي ما قلت لك ..
فلما رأى صلى الله عليه وسلم أنه لا رغبة له في الإسلام .. وقد رأى صلاة المسلمين .. وسمع حديثم .. ورأى كرمهم ..
قال صلى الله عليه وسلم : أطلقوا ثمامة ..
فأطلقوه .. وأعطوه دابته وودعوه ..
فانطلق ثمامة إلى ماء قريب من المسجد .. فاغتسل .. ثم دخل المسجد .
فقال : أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ..
يا محمد والله ما كان على وجه الأرض وجه أبغض إلي من وجهك .. فقد أصبح وجهك أحب الوجوه إلي ..
و الله ما كان دين أبغض إلي من دينك .. فأصبح دينك أحب الدين إلي ..
والله ما كان من بلد أبغض إلي من بلدك فأصبح بلدك أحب البلاد إلي ..
ثم قال : يا رسول الله .. إن خيلك أخذتني وأنا أريد العمرة فماذا ترى ؟
فبشره النبي صلى الله عليه وسلم بالخير .. وأمره أن يكمل طريقه إلى مكة ويعتمر ..
فذهب إلى مكة يلبي بالتوحيد قائلاً .. لبيك لا شريك لك .. لبيك لا شريك لك ..
نعم أسلم فقال : لبيك لا شريك لك .. فلا قبر مع الله يعبد .. ولا صنم يُصلَّى له ويُسْجَد ..
ثم دخل ثمامة رضي الله عنه مكة .. فتسامع به سادات قريش فأقبلوا عليه ..
فسمعوا تلبيته فإذا هو يقول .. لبيك لا شريك لك .. لبيك لا شريك لك ..
فقال له قائل : أصبوت ؟ قال : لا .. ولكن أسلمت مع محمد صلى الله عليه وسلم ..(12/9)
فهموا به أن يؤذوه .. فصاح بهم وقال :
ولا و الله .. لا تأتيكم من اليمامة حبة حنطة .. حتى يأذن فيها النبي صلى الله عليه وسلم ..
كانوا يعظمون الله .. أكثر من تعظيمهم لهذه الآلهة ..
فقل لي بربك .. ما الفرق بين شرك أبي جهل وأبي لهب ..
وبين من يذبح اليوم عند قبر .. أو يسجد على أعتاب ضريح .. أو يذبح له ويطوف ..
أو يقف عند مشهد الولي ذليلاً خاضعاً .. منكسراً خاشعاً ..
يسأله الحاجات .. وكشف الكربات .. يلتمس من عظام باليات شفاء المريض .. ورد المسافر ..
عجباً .. والله يقول :
{ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } ..
* * * * * * * * *
وهذا الشرك ..الذي يقع عند القبور من ذبح لها ..وتقرب إلى أهلها ..وطواف عليها..هو أعظم الذنوب ..
نعم أعظم من الزنا .. وأعظم من شرب الخمر .. والقتل .. وعقوق الوالدين .. وقد قال تعالى ( إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء ) ..
نعم .. الله لا يغفر أن يشرك به .. بينما قد يغفر الله للزناة .. ويعفو عن القتلة والجناة ..
ولقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين :
أن امرأة بغياً من بني إسرائيل كانت تمشي في صحراء ..
فرأت كلباً بجوار بئر يصعد عليه تارة .. ويطوف به تارة ..
في يوم حار قد أدلع لسانه من شدة الظمأ .. قد كاد يقتله العطش ..
فلما رأته هذه البغي ..
التي طالما عصت ربها .. وأغوت غيرها .. ووقعت في الفواحش والآثام .. وأكلت المال الحرام .. لما رأت هذا الكلب .. نزعت خفها .. حذاءها ..
وأوثقته بخمارها فنزعت له من الماء .. وسقته ..
فغفر الله لها بذلك .. الله أكبر .. غفر الله لها .. بماذا ..؟
هل كانت تقوم الليل وتصوم النهار ؟! هل قتلت في سبيل الله ؟!(12/10)
كلا .. وإنما سقت كلباً شربةً من ماء .. فغفر الله لها .. لأنها كانت تقع في المعاصي لكنها ما كانت تشرك بالله ولياً ولا قبراً .. ولا تعظم حجراً ولا بشراً .. فغفر الله لها ..
فما أقرب المغفرة من العاصين وما أبعدها عن المشركين ..
* * * * * * * * *
قصة ..
بعض الناس يفزع ويضطرب .. ويحزن إذا رأى كثرة الزناة وشراب الخمور .. بينما لا يتأثر وهو يرى كثرة من يتمسحون بأعتاب القبور ويصرفون لها أنواع العبادات .. مع أن الزنى وشرب الخمر معاص كبار .. لكنها لا تخرج من ملة الإسلام .. بينما صرف شيء من العبادة لغير الله هو شرك يموت به الإنسان كافراً ..
ولذا كان العلماء الربانيون يجعلون تدريس العقيدة أصل الأصول ..
كان الشيخ محمد -رحمه الله - قد ألف كتاب التوحيد ..وأخذ يشرحه لطلابه ..ويعيد ويكرر مسائله عليهم ..
فقال له طلابه يوماً : يا شيخ نريد أن تغير لنا الدرس إلى مواضيع أخرى .. قصص .. سيرة ..تاريخ ..
قال الشيخ : سننظر في ذلك إن شاء الله ..
ثم خرج إليهم من الغد مهموماً مفكراً ..
فسألوه عن سبب حزنه فقال : سمعت أن رجلاً في قرية مجاورة .. سكن بيتاً جديداً .. وخاف من تعرض الجن له فذبح ديكاً عند عتبة باب البيت .. تقرباً إلى الجن .. ولقد أرسلت من يتثبت لي من هذا الأمر ..
فلم يتأثر الطلاب كثيراً .. وإنما دعوا لذاك الرجل بالهداية .. وسكتوا ..
وفي الغد لقيهم الشيخ .. فقال ..
تثبتنا من خبر البارحة .. فإذا الأمر على خلاف ما نقل إليَّ ..
فإن الرجل لم يذبح ديكاً تقرباً إلى الجن .. ولكنه زنا بأمه ..
فثار الطلاب وانفعلوا .. وسبوا وأكثروا .. وقالوا لا بد من الإنكار عليه .. ومناصحته .. وعقوبته .. وكثر هرجهم ومرجهم ..
فقال الشيخ : ما أعجب أمركم .. تنكرون هذا الإنكار على من وقع في كبيرة من الكبائر .. وهي لم تخرجه من الإسلام ..
ولا تنكرون على من وقع في الشرك .. وذبح لغير الله .. وصرف العبادة لغير الله ..(12/11)
فسكت الطلاب .. فأشار الشيخ إلى أحدهم وقال .. قم ناولنا كتاب التوحيد نشرحه من جديد ..
* * * * * * * * *
والشرك أعظم الذنوب .. ولا يغفره الله أبداً .. قال الله { إن الشرك لظلم عظيم } ..
والجنة حرام على المشركين .. وهم مخلدون في النار .. قال تعالى : ( إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار ) ..
ومن وقع في الشرك .. أفسد عليه هذا الشرك .. جميع عباداته من صلاة وصوم وحج وجهاد وصدقة .. قال تعالى : { ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين } ..
* * * * * * * * *
والشرك له صور متعددة :
منها ما يخرج من الملة .. ويخلد صاحبه في النار إذا مات ولم يتب منه ..
كدعاء غير الله .. والتقرب بالذبائح والنذور لغير الله .. من القبور .. والجن .. والشياطين .. والخوف من الموتى .. أو الجن والشياطين أن يضروه أو يمرضوه ..
ورجاء غير الله فيما يقدر عليه إلا الله .. من قضاء الحاجات .. وتفريج الكربات .. مما يمارس الآن حول الأضرحة والقبور ..
فالقبور تزار لأجل الاتعاظ والدعاء للأموات .. كما قال صلى الله عليه وسلم : زوروا القبور فإنها تذكركم الآخرة ..
وذلك للرجال .. أما النساء فلا يشرع لهن زيارة القبور .. لأن النبي صلى الله عليه وسلم لعن زوارات القبور .. ولأن زيارتهن قد يحصل بها فتنة لهن أو بهن ..
أما زيارة القبور لدعاء أهلها .. والاستغاثة بهم .. أو الذبح لهم .. أو التبرك بهم .. أو طلب الحاجات منهم .. والنذر لهم ..
فهذا شرك أكبر .. ولا فرق بين كون المدعو المقبور نبياً أو ولياً أو صالحاً .. فكل هؤلاء بشر .. لا يملكون ضراً ولا نفعاً .. قال الله لأحب خلقه إليه محمد صلى الله عليه وسلم :( قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا ) ..(12/12)
ويدخل في ذلك ما يفعله الجهال عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم من دعائه والاستغاثة به .. أو عند قبر الحسين .. أو البدوي .. أو الجيلاني .. أو غيرهم ..
أما زيارة القبور للصلاة عندها والقراءة .. فهذه بدعة ..
وإنما يشرع للزائر الاتعاظ والدعاء للميت فقط ..
ومن العجب أن يذهب مسلم إلى المقبورين وهو يعلم أنهم جثث هامدة .. لا يستطيعون أن يتخلصوا مما هم فيه .. فيطلب منهم أن يستجيبوا الدعوات .. أو يفرجوا الكربات ..
وكثير من هذه الأضرحة .. والقبور .. التي تعظم .. ويبنى عليها .. يكون لها خدم وسدنة .. يظهرون التقى والتقشف .. ويختلقون للناس الأكاذيب .. ويدعونهم إلى الشرك بالله ..
* * * * * * * * *
نداء .. نداء ..
إني أقول لألئك الذين يدعون الأموات ..
أمواتكم هؤلاء .. الذين تبكون على عتباتهم .. وترجون شفاعاتهم ..( هل يسمعونكم إذ تدعون * أو ينفعونكم أو يضرون ) ..
لا والله لا يسمعون .. ولا ينفعون .. بل يخذلون ويضرون ..
وما أجمل ما فعله ذلك الغلام الصغير .. الذي عمره 13 سنة .. وسافر مع والده إلى الهند ..
والهند بلاد كبيرة .. تتنوع فيها الآلهة .. يعبدون كل شئ .. من حيوان ونبات وجماد وبشر وكواكب ..
دخل الغلام أحد المعابد .. فرأى الناس يعبدون ثمرة جوز الهند ..
وقد رسموا لها عينين وأنفاً وفماً .. ويقدمون لها البخور والطعام والشراب ..
ثم رآهم يصلون لها .. فلما سجدوا لها .. أقبل الغلام إلى الثمرة فاختطفها وهرب بها ..
فلما رفعوا رؤوسهم من سجودهم .. لم يجدوا إلههم .. فالتفتوا .. فإذا الغلام قد حمل الإله .. وفرَّ به هارباً ..
فقطعوا صلاتهم .. وركضوا وراء الغلام ..
فلما ابتعد عنهم .. جلس على الأرض .. ثم كسر الجوزة .. وشرب مائها وألقاها على الأرض ..
فتصايحوا لما رأوا الإله مكسوراً .. فأخذوه وضربوه وتلتلوه .. ثم ذهبوا به إلى قاضي البلد ..
فقال له القاضي : أنت الذي كسرت الإله ؟(12/13)
قال الغلام : لا .. ولكني كسرت جوزة .. قال القاضي : ولكنها إلاههم ..
قال الغلام : أيها القاضي !! هل كسرت يوماً جوزة هند وأكلتها ؟
قال القاضي : نعم .. قال الغلام : فما الفرق إذاً ؟
فسكت القاضي واحتار .. ونظر إلى عبادها يريد منهم الجواب ..
فقالوا : هذه الجوزة لها عينان وفم ..
فصاح بهم الغلام قال: هل تتكلم ؟ قالوا : لا ..
قال : هل تسمع ؟ قالوا : لا ..
قال : فكيف تعبدونها إذاً ؟ فبهت الذي كفر .. والله لا يهدي القوم الظالمين ..
فنظر إليهم القاضي .. فخاف أن يتعرضوا للغلام بسوء ..
فقال للغلام .. عقوبة لك .. قررنا تغريمك 150 روبية ..
فدفعها الغلام مرغماً .. وخرج منتصراً ..
* * * * * * * * *
ومما يزيد الطيب بلة .. أن المتعلقين بالقبور .. لم يكتفوا بتعظيم الأموات .. وسؤالهم الحاجات .. وإنما صرفوا الأموال في تزيينها .. ورفعها .. والبناء عليها ..
وتنقسم القباب والأضرحة المبنية على القبور .. إلى قسمين :
الأول : قباب تبنى في مقابر المسلمين العامة .. حيث تبدو القبة شاهقة وسط القبور ..
والثاني : قباب تبنى في المساجد.. أو تبنى عليها المساجد.. وقد تكون في قبلة المسجد.. أو في الخلف.. أو في أحد جوانبه ..
وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك فقال : \" اللهم لا تجعل قبري وثناً يُعبد .. لعن الله قوماً اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد \" وهذا في قبره الشريف وفي كل قبر ..
وعن علي رضي الله عنه أنه قال لأبي الهياج : \" ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم : أن لا تدع تمثالاً إلا طمسته .. ولا قبراً مشرفاً إلا سوّيته ..
ونهى صلى الله عليه وسلم أن ( يجصص القبر .. وأن يقعد عليه .. وأن يبنى عليه .. أو أن يكتب عليه \" ..
ولعن صلى الله عليه وسلم \" المتخذين عليها [ أي القبور] المساجد والسُرج \" ..(12/14)
ولم يكن على عهد الصحابة والتابعين وتابعيهم من ذلك شيء في بلاد الإسلام .. لا على قبر نبي.. ولا غيره ..
* * * * * * * * *
الواقع الأليم ..
واليوم .. خذ على عجل الواقع الأليم ..
• في مصر : أضرحة الأولياء التي تنتشر في مدن مصر وقراها .. ستة آلاف ضريح .. وهي مراكز لإقامة الموالد للمريدين والمحبين .. بل إنه من الصعب أن تجد يوماً على مدار السنة ليس فيه احتفال بمولد ولي في مكان ما بمصر .. بل تعتبر القرية التي تخلو من أضرحة منزوعة البركة عندهم ..
وتنقسم الأضرحة إلى كبرى وصغرى.. وكلما فخم البناء واتسع وذاع صيت صاحبه زاد اعتباره .. وكثر زواره ..
فمن الأضرحة الكبرى في القاهرة : ضريح الحسين.. وضريح السيدة زينب.. وضريح السيدة عائشة.. والسيدة سكينة.. والسيدة نفيسة.. وضريح الإمام الشافعي.. وضريح الليث ابن سعد ..
إضافة إلى ضريح البدوي بطنطا .. والدسوقي بدسوق .. والشاذلي بقرية حميثرة ..
وقبر مزعوم للحسين .. يحج له الناس ويتقربون إليه بالنذر والقربات .. وتجاوز ذلك إلى الطواف به والاستشفاء .. وطلب قضاء الحاجات عند الملمات ..
وضريح السيد البدوي .. له مواسم في السنة أشبه بالحج الأكبر .. يقصده الناس من خارج البلاد وداخلها .. من السُنة والشيعة ..
وجلال الدين الرومي .. الذي كتب على قبره ومزاره : صالح للأديان الثلاثة .. المسلمين واليهود والنصارى .. ويدعى هذا الوثن بالقطب الأعظم ..
• أما في الشام فقد ذكر الباحثون الثقاة أن في دمشق وحدها 194ضريحاً والمشهور منها 44 ضريحاً.. وينسب للصحابة أكثر من سبعة وعشرين قبراً.. وفي دمشق ضريح لرأس يحيى بن زكريا - عليهما السلام - .. يقع في المسجد الأموي .. وبجانب المسجد قبر لصلاح الدين .. وعماد الدين زنكي .. وقبور أخرى تزار ويتوسل بها...
وفي سوريا أيضاً : ضريح لمحيي الدين بن عربي صاحب \"فصوص الحكم\".. وهو ضال فاجر ..(12/15)
• وفي تركيا أكثر من 481 جامعاً لا يكاد يخلو جامع من ضريح .. أشهرها الجامع الذي بني على القبر المنسوب إلى أبي أيوب الأنصاري في القسطنطينية ..
• وفي الهند يوجد أكثر من مئة وخمسين ضريحاً مشهوراً يؤمها الآلاف من الناس ..
• أما العراق .. ففي بغداد وحدها أكثرُ من مئة وخمسين جامعاً وقلّ أن يخلو جامع منها من ضريح.. وفي الموصل يوجد أكثر من ستة وسبعين ضريحاً مشهوراً كلها داخل جوامع.. وهذا كله بخلاف الأضرحة الموجودة في المساجد والأضرحة المفردة .. ( انظر: الانحرافات العقدية.. ص289.. 294.. 295 ) .
• وفي الهند : أصبح قبر الشيخ بهاء الدين زكريا الملتاني .. ويعملون أنواع العبادات .. كالسجود.. والنذور..
• وفي باكستان .. ضريح الشيخ علي الهجوري في لاهور .. وهو من القبور العظيمة..
* * * * * * * *
والعجب أن الناس مفتونون بها .. مع أن أكثرها أضرحة مكذوبة .. لا حقيقة لها ..
• فالحسين رضي الله عنه .. له قبر بالقاهرة يتقربون إليه .. ويصرفون له أنواعاً من العبادات من دعاء وذبح وطواف ..
وفي عسقلان قبر للحسين أيضاً ..
وفي سفح جبل الجوشن غربي حلب ضريح ينسب إلى رأس الحسين رضي الله عنه أيضاً ..
وكذلك توجد أربعة مواضع أخرى يقال إن بها رأس الحسين : في دمشق .. والحنانة - بين النجف والكوفة - .. وبالمدينة عند قبر أمه فاطمة رضي الله عنه .. وفي النجف بجوار القبر المنسوب إلى أبيه رضي الله عنه .. وفي كربلاء حيث يقال: إنه أعيد إلى جسده ..( انظر: الانحرافات العقدية.. ص288.. ومجلة (لغة العرب).. ج7 السنة السابعة (1929م).. ص557 561.. ومعالم حلب الأثرية.. عبد الله حجار ) ..
• أما السيدة زينب بنت علي - رضي الله عنهما – فقد ماتت بالمدينة ودفنت بالبقيع .. إلا أن قبراً منسوباً إليها أقامه الشيعة في دمشق .. (انظر : عبد الله بن محمد بن خميس.. شهر في دمشق.. ص 67. ) ..(12/16)
ولا يقل عنه جماهيرية الضريح المنسوب إليها في القاهرة .. ولم تذكر كتب التاريخ أبداً أنها جاءت إلى مصر في الحياة أو بعد الممات ..
• وأهل الإسكندرية بمصر يعتقدون اعتقاداً جازماً بأن أبا الدرداء رضي الله عنه مدفون في الضريح المنسوب إليه في مدينتهم .. ومن المقطوع به عند أهل العلم أنه لم يدفن في تلك المدينة .. ( انظر : مساجد مصر وأولياؤها الصالحون 2/33 ) ..
• وقل مثل ذلك في مشهد السيدة رقية بنت الرسول صلى الله عليه وسلم بالقاهرة .. الذي أقامته زوجة الخليفة الفاطمي الآمر بأحكام الله .. وضريح السيدة سكينة بنت الحسين ابن علي - رضي الله عنهم - ..
• ومن أشهر الأضرحة أيضاً: ضريح علي بن أبي طالب بالنجف بالعراق.. وهو قبر مكذوب فإن علياً دفن بقصر الإمارة بالكوفة ..
• وفي البصرة قبر عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه رغم أنه مات بالمدينة ودفن بالبقيع ..
• وفي حلب ضريح لجابر بن عبد الله رضي الله عنه مع أنه توفي في المدينة ..
• بل ينسب الناس في الشام قبراً إلى (أم كلثوم) و (رقية) بنتي رسول صلى الله عليه وسلم مع أنهما زوجتا عثمان رضي الله عنه .. وماتتا في المدنة النبوية .. في حياة النبي صلى الله عليه وسلم ودفنهما النبي صلى الله عليه وسلم في البقيع في المدينة ..
• ومن المقابر المكذوبة باتفاق أهل العلم القبر المنسوب إلى هود عليه السلام بجامع دمشق.. فإن هوداً لم يجئ إلى الشام .. وهناك قبر منسوب إليه في حضرموت..
• وفي حضرموت أيضاً قبر يزعم الناس أنه لصالح عليه السلام .. رغم أنه مات بالحجاز.. وله أيضاً عليه السلام قبر في يافا بفلسطين.. التي بها كذلك مزار لأيوب عليه السلام ..
* * * * * * * * *
مقام الشيخ بركات ..
انظر كيف تلاعب الشيطان بعقول الناس .. حتى صرفهم عن عبادة رب الأرض والسموات .. إلى تعظيم الأموات .. بل تعظيم التراب والرفات ..(12/17)
وقد تبدأ المسألة أحياناً بإشاعةٍ عن قبر من القبور .. وأنه لزائره نافع .. ولداعيه شافع ..
حتى تنتشر قصص الكرامات بين الناس .. فتتحول إلى حقيقة .. ثم تبدأ صور الشرك تظهر عنده .. من طواف عليه .. ودعاء له من دون الله .. كما يقع عند أكثر ما تقدم من قبور .. سواء كانت نسبة القبر إلى صاحبه صحيحة او مختلقة ..
وهذا يذكرني بما حكاه أحدهم عن قصة ضريح الشيخ بركات .. وهذه القصة وقعت بين شابين هما عادل وسعيد .. تخرجا من الجامعة .. ثم توظفا مدرِّسين في قرية ينتشر فيها تعظيم القبور .. والاغترار بالنذور ..
فقد كان عادل يتبادل الحديث مع سعيد وهما في طريقهما إلى المدرسة في القرية .. وفجأة صعد الحافلة متسول نصف معتوه.. كبير في السن يهتز ويتأرجح..
ويمسح لعابه بكمه المتهدل المتسخ.. يستجدي الركاب ويتهدد ويتوعد.. يهددهم بأنه سيدعو عليهم بأن تنقلب الحافلة بهم في عرض الطريق .. ويدعي أنه مستجاب الدعوة ..
ويبدو أن سعيداً قد نشأ في أسرة .. متأثرة كثيراً بالكرامات والأولياء .. والأبدال والأوتاد!
حيث فزع واضطرب .. ثم طلب من عادل أن يبادر إلى إعطائه بعض الدراهم خشية أن تنقلب الحافلة فعلاً .. لأن المتسول المذكور (عبد الكريم أبو شطة ) من الدراويش المباركين المستجابي الدعوة ..
فتعجب عادل وقال : نعم .. أهل السنة والجماعة يؤمنون بالكرامات .. ولكن هي للصالحين الأتقياء .. العاملين الأخفياء .. وليست لأمثال هذا من المجاديب .. الذين يتأكلون بدينهم ..
فصاح به سعيد : لا تقل ذلك .. فإن الأحاديث عن الخوارق التي جرت على يديه يتناقلها الصغير والكبير.. وسترى بعد قليل أنه سينزل ونمضي نحن في الحافلة.. ويسبقنا إلى القرية التالية ماشياً.. حيث سينتظرنا هناك.. نعم .. كرامة .. هل تنكر الكرامات؟(12/18)
عادل : أنا لا أنكر الكرامات بشكل مطلق .. فالله قادر أن يكرم من شاء من عباده.. لكن أن تصبح الكرامات طعامنا وشرابنا وتدخلنا في باب إشراك هؤلاء العبيد والأموات مع الله سبحانه وتعالى في الخلق والأمر والتصرف في الكون .. حتى نصبح نخافهم ونتقي غضبهم .. فلا ..
سعيد : يعني أنت لا تصدق أن الشيخ أحمد أبو سرود قد جاء من عرفات إلى استانبول وأكل الكبة المشوية عند أهله وعاد ليلاً إلى عرفات ؟
عادل : يا سعيد .. بارك الله في عقلك أهذا الذي تعلمته في الجامعة ؟
سعيد : بدأنا بأسلوب السخرية!
عادل : أنا لا أسخر منك.. ولكن أن يكون كلام العوام وخرافاتهم كلاماً منزلاً محكماً لا يقبل النقد .. فلا ..
سعيد : ولكن هذه الكرامات لا ينقلها العوام فقط.. بل إن ساداتنا المشايخ ينقلون كثيراً منها عن أصحاب المقامات والأضرحة.
عادل : طيب يا سعيد ما رأيك لو برهنت لك برهاناً عملياً أن كل هذه المقامات والأضرحة خلط ودجل ؟ وأن كثيراً من هذه الأضرحة لا حقيقة لها .. فلا قبر .. ولا مقبور .. ولا وليَّ .. وإنما إشاعات ودجل انتشر عند الناس حتى صدقوه ..
فانتفض سعيد وأخذ يردد : أعوذ بالله! أعوذ بالله!
ثم سكتا قليلاً .. وسارت الحافلة حتى وصلت بهم إلى الدوار الموصل إلى قريتهم .. فالتفت عادل إلى سعيد .. وقال : هل يوجد على هذا الدوار قبر أو مقام أو ضريح لأحد الأولياء يا سعيد ؟
سعيد : لا .. وهل يعقل أن يدفن ولي في عرض الطريق .. وفي دوار ..
عادل : إذاً ما رأيك لو أشعنا في القرية أن على هذا الدوار قبراً قديماً لأحد الصالحين قد اندرس وضاعت معالمه ؟ وألفنا قصصاً في كراماته .. واستجابة الدعاء عنده .. وننظر هل سيصدق الناس أم لا ..(12/19)
وأنا متأكد أن الناس ستحمل هذه الإشاعة محمل الجد .. وربما يقيمون في العام القادم مقاماً أو ضريحاً كبيراً للشيخ المزعوم ! ويدعونه من دون الله .. وهو تراب على تراب .. لو حفروا حتى يصلوا الأرض السفلى لما وجدوا شيئاً ..
سعيد : دعك من هذا يا رجل .. وهل تظن الناس أغبياء .. سفهاء إلى هذا الحد ؟
عادل : طيب.. أنت ماذا تخسر إذا تعاونت معي ؟ ووافقتني .. أم أنت خائف من النتيجة ..
سعيد : لا لست خائفاً.. ولكن ! أنا غير مقتنع ..
عادل : حسناً .. بما أنك نصف موافق فما رأيك أن نطلق على الشيخ المزعوم اسم: الشيخ بركات ؟
سعيد : طيب..كما تشاء ..
واتفق عادل وسعيد على إشاعة الأمر بأسلوب هادئ بين زملائهم المدرسين في المدرسة .. وعند الحلاقين - باعتبار أن دكان الحلاق من أهم وسائل الإعلان - ..
فلما وصلا القرية .. نزلا من الحافلة وتوجها إلى دكان الحلاق سليم .. فدخلا وحدثا الحلاق عن الأولياء .. وأن أحد الأولياء الصالحين مدفون منذ سنين .. وله مكانة عند الله .. وأن المستغيثين به قليل ..
فسألهم الحلاق عن مكان قبره .. فأخبراه أنه عند الدوار الذي في مدخل القرية ..
فقال الحلاق : الحمد لله الذي أكرمنا بولي في قريتنا .. كنت أتمنى هذا مند زمن .. هل من المعقول أن القرى المجاورة \" الجديدة \" و \" أم الكوسا \" عندهم عشرات الصالحين .. ونحن لا يوجد عندنا ولا مقام واحد ؟
قال عادل : الشيخ بركات يا حاج سليم كان من كبار الصالحين وكانت له مكانته عند الباب العالي ..
فصاح الحلاق : إذاً أنت تعرف كل هذه المعلومات عن الشيخ بركات قدس الله سره وتسكت !!
ثم انتشر الخبر في القرية انتشار النار في الهشيم ..
وبدأ الناس من كثرة حديثهم عنه .. يرونه في المنام..
وأخذوا يتحدثون في مجالسهم عن طوله الفارع.. وعمامته الضخمة .. وكراماته التي لا تحصى.. وكيف أن المئذنة كانت تنزل إليه إذا دخل وقت الأذان .. و.. و ..(12/20)
وبدأ الحديث في المدرسة بين أخذ ورد بين الأساتذة جميعاً ..
فلما زاد الأمر عن حده .. لم يطق الأستاذ سعيد صبراً .. فصاح بهم ..
أيها العقلاء .. دعوكم من هذه الخرافات يا ناس ..
فقالوا بصوت واحد : خرافات .. تعنى أن الشيخ بركات غير موجود ؟
سعيد : طبعاً غير موجود .. وليس لقبره حقيقة .. وهذه مجرد إشاعة .. والدوار تراب فوق تراب .. لا شيخ ولا ولي ولا مقام ..
فانتفض المدرسون : ما الذي تقوله يا رجل ؟ وكيف تجرؤ أن تقول هذا عن الشيخ بركات ؟
الشيخ بركات هو الذي انفجر الينبوع الغربي في القرية على يديه .. وهو الذي ..
اضطرب سعيد من كثرة صياحهم .. لكنه قال : لا تعطوا عقولكم لغيركم .. أنتم عقلاء ومتعلمون .. وليس كلما حدثكم أحد عن قبر أو ضريح .. أو تلاعب الشيطان بعقولكم في النوم صدقتموه ..
عندها .. دخل مدير المدرسة في النقاش فقال : ولكن صفات الشيخ موجودة وأكيدة ..
ألم تقرأ ما كتبت عنه الجريدة البارحة ؟
فعجب سعيد .. وسأله : حتى الجريدة !! وماذا كتبت ؟
قال المدير : تحت عنوان \" اكتشاف مقام الشيخ بركات \"
كتبت تقول :
ولد الشيخ بركات - قدس الله سره - عام 1100هـ وهو من سلالة سيدنا خالد بن الوليد.. وقد درس على عدد كبير من العلماء منهم فلان وفلان.. ولقد اشترك مع الجيش التركي في إحدى معاركه مع الصليبيين ..
ولما اشتد القتال مع الصليبيين .. استبد به الحماس فنفخ عليهم من فمه .. فآثار رياحاً وزوبعة ضخمة .. رفعت جيش الصليبيين مسافة مائة متر في الهواء .. وسقطوا جميعاً مضرجين بدمائهم..
قال سعيد : ما شاء الله !! ومن أين جاء الصحفي بهذه المعلومات الدقيقة عن الشيخ بركات ؟!!!
قال المدير : هذه حقائق .. أتظنه جاء بها من بيت أبيه ؟!!.. هذا تاريخ ..
قال سعيد : ولكن هذه دعوى وتحتاج إلى دليل.. فالبينة على من ادعى.. وعلي وعليك التثبت من صحة أي دعوى .. وإلا ادعى كل واحد منا ما يحلو له .. قبور .. أولياء .. كرامات ..(12/21)
ثم صاح بهم سعيد .. يا جماعة .. بصراحة : مقام الشيخ بركات .. قضية مختلقة .. وإشاعة ملفقة .. اخترعتها أنا والأستاذ عادل .. لنثبت بها غوغائية الناس وجهلهم .. وعدم تثبتهم .. وهذا الأستاذ عادل أمامكم فاسألوه إن شئتم ..
فالتفتوا إلى عادل وقالوا : الأستاذ عادل رجل يحب الجدل مثلك .. وكل قضية يطلب عليها دليل.. وهو حاقد على الأولياء والصالحين ..
ومهما ادعيت أنت وعادل .. فنحن مؤمنون بأن الشيخ بركات - قدس الله سره - موجود من زمن الأجداد .. والدنيا لا تخلو من الأولياء والصالحين ومقاماتهم .. نعوذ بالله من الضلال !!
فسكت عادل وسعيد .. وقرع الجرس وانصرف الأساتذة إلى الدروس..
وسار الأستاذ سعيد مذهولاً مما رأى يحدث نفسه : الشيخ بركات .. كرامات .. معقول ؟ غير معقول !..
أيمكن أن يكون كل هؤلاء مخطئين !! ؟ والجريدة كاذبة ؟
غريب ! والمشايخ بالأمس اجتمعوا في الدوار وأقاموا الحضرة والاحتفال للشيخ بركات ؟
لكن الشيخ بركات اخترعه الأستاذ عادل !! أيمكن أن يكون الخرف أصابهم جميعاً؟ غير ممكن !! غير ممكن !!
وبدأت تتسرب إلى ذهن سعيد فكرة جديدة .. ربما أن الشيخ بركات موجود فعلاً .. وربما أن الأستاذ عادل يعلم ذلك مسبقاً .. لكنه أوهمه أنه هو الذي اخترع وجود الشيخ بركات ..
فكر الأستاذ سعيد في ذلك .. لكنه استعاذ من الشيطان ليبعد هذه الفكرة من عقله .. لكنه لم يفلح ..
وفي اليوم التالي .. استمر النقاش في المدرسة على هذا المنوال .. وكان العام الدراسي في أواخره .. وانتهت المناقشات بذهاب كل أستاذ إلى بلده عندما حانت العطلة الصيفية ..
* * * * * * * * *
وفي العام التالي ركب الأستاذ عادل والأستاذ سعيد الحافلة ذاهبين إلى المدرسة في القرية ..
وكان الأستاذ عادل قد نسي الموضوع تماماً .. مع أنه هو الذي اخترع القضية وأشاعها ..
لكنه انتبه إلى الأستاذ سعيد وهو يتمتم بلسانه بأذكار وأدعية عندما اقتربوا من دوار القرية ..(12/22)
وكم كانت دهشتهم كبيرة عندما وصلوا إلى الدوار .. فوجدوا بناءاً جميلاً لمقام الشيخ بركات ينتصب شامخاً على الدوار .. وبجانبه مسجد كبير فخم على الطراز المعماري التركي ..
ابتسم الأستاذ عادل وعلم أن الناس مساكين سفهاء .. وأن الشيطان قد أفلح في نشر الشرك بينهم ..
فالتفت إلى الأستاذ سعيد .. ليشاركه التبسم ..
لكنه فوجئ أن الأستاذ سعيد كان غائباً في ادعيته .. بل صاح سعيد بالسائق .. طالباً منه أن يتوقف قليلاً .. ثم رفع يديه وقرأ الفاتحة على روح الشيخ بركات ..( بتصرف من مقال في مجلة البيان العدد : ، للأستاذ : علي محمد ) .
* * * * * * * * *
ماذا يفعلون هناك ؟
يقصد كثير من القبوريين الأضرحة حاملين معهم الأغنام والأبقار .. والسكر والقهوة والشاي .. وأنواع الأطعمة إضافة إلى الأموال .. ليقدموها قرباناً إلى صاحب الضريح.. وقد يذبحون الأنعام تقرباً أيضاً للولي أو الشيخ.. ويطوفون بالقبر وبتمرغون بترابه.. ويطلبون قضاء الحوائج وتفريج الكربات منه..
بل تجد أن هؤلاء المفتونين .. يحلفون بالأموات والمقبورين .. فإذا أراد أحدهم أن يحلف على شيء لم يقبلوا منه أن يحلف بالله .. بل لو حلف بالله وقال : والله العظيم .. أو أقسم بالله .. ما قبلوا منه ولا صدقوه .. فإذا حلف باسم ولي من أوليائهم قبلوه وصدقوه ..
وقد آل الأمر ببعض هؤلاء إلى أن شرعوا للقبور حجاً.. ووضعوا له مناسك.. حتى صنف بعض غلاتهم في ذلك كتاباً وسماه : (مناسك حج المشاهد) مضاهاة منه بالقبور للبيت الحرام..
* * * * * * * * *
بل إنهم مبالغة منهم في البدعة والشرك .. جعلوا لزيارة الضريح آداباً ..
فينبغي أن يخلع الزوار نعالهم الضريح .. احتراماً لصاحب الضريح ..
ويتم دخول القبة بإذن من حارسها..
كما يتولى خادم الضريح (تطويف) الزوار حول الضريح كما يطوف المسلمون حول الكعبة ..(12/23)
ويتبرك الزوار بالضريح والقبة بطرق شتى : فمنهم من يأخذ من ترابها.. ومنهم من يضع يديه على السياج المعدني الذي حول القبر ويتمسح بها.. ثم يمسح على جسده وملابسه.
وإذا دخلت الضريح رأيت أعاجيب العبادة لغير الله ..
دعاء المقبور والاستعانة به والإلحاح عليه في الدعاء ..
بل ترى المرأة ترفع طفلها .. وتهزه وهي تخاطب الشيخ المقبور راجية منه البركة في صغيرها ..
ترى من يسجد وهو مستقبل القبر ..
إضافة إلى تقديم النذور عند هذه القباب ..
ومن الناس من يعكف عند القبر أياماً وشهوراً .. التماساً للشفاء أو لقضاء حاجة .. وقد أُلحقت ببعض القباب غرف انتظار الزائرين لهذا الغرض ..
كما يظهر على الزائر الخشوع والسكينة والتأثر الذي قد يصل إلى حد البكاء..
فصار هؤلاء المقبورون آلهة من دون الله .. والله لا يرضى أن يعبه نبي ولا ملك .. فكيف إذا عُبد معه غيرهم ..
* * * * * * * * *
تشابهت قلوبهم ..
هؤلاء المقبورون لا يستطيعون نصر أنفسهم .. ولا نفعها ,, فضلاً عن نفع غيرهم ..
وما أقرب حال من يعظمونهم ويخافونهم .. من حال وفد ثقيف لما أسلموا فخافوا من صنم عندهم .. وهو لا يضر ولا ينفع ..
فقد ذكر موسى بن عقبة :
لما تمكن الإسلام في الناس .. بدأت القبائل ترسل وفودها لتعلن إسلامها بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم ..
فأقبل بضعة عشر رجلاً من قبيلة ثقيف .. إلى النبي صلى الله عليه وسلم .. فأنزلهم المسجد ليسمعوا القرآن ..
فلما أرادوا إعلان إسلامهم .. نظر بعضهم إلى بعض فتذكروا صنمهم الذي يعبدون .. وكانوا يسمونه الربة ..
فسألوا النبي صلى الله عليه وسلم .. عن الربا والزنا والخمر فحرم عليهم ذلك كله ..
فأطاعوا .. ثم سألوه عن الربة .. ما هو صانع بها ؟
قال : اهدموها .. قالوا : هيهات !! لو تعلم الربة أنك تريد أن تهدمها .. قتلت أهلها .. ومن حولها ..
فقال عمر رضي الله عنه : ويحكم ما أجهلكم !! إنما الربة حجر ..(12/24)
قالوا : إنا لم نأتك يا ابن الخطاب ..
ثم قالوا : يا رسول الله .. تولَّ أنت هدمها . أما نحن فانا لن نهدمها أبدا ..
فقال صلى الله عليه وسلم : سأبعث إليكم من يكفيكم هدمها .. فاستأذنوه أن يرجعوا إلى قومهم ..
فدعوا قومهم إلى الإسلام .. فأسلموا ومكثوا أياماً .. وفي قلوبهم وجل من الصنم ..
فقدم عليهم خالد بن الوليد والمغيرة بن شعبة في نفر من الصحابة ..
فأقبلوا إلى الصنم وقد اجتمع الرجال والنساء والصبيان ..
وهم يرتجفون .. وقد أيقنوا أنها لن تنهدم .. وسوف تقتل من يمسها ..
فأقبل عليها المغيرة بن شعبة .. فأخذ الفأس .. وقال لأصحابه :
والله لاضحكنكم من ثقيف .. فضربها بالفأس ..
ثم سقط يرفس برجله .. فصاح الناس .. وظنوا أن الصنم قتله ..
ثم قالوا لخالد بن الوليد ومن معه : من شاء منكم فليقترب ..
فلما رأى المغيرة فرحتهم بنصرة صنمهم .. قام فقال : والله يا معشر ثقيف .. إنما هي لكاع .. حجارة ومدر .. فاقبلوا عافية الله واعبدوه .. ثم ضربها فكسرها .. ثم علا الصحابة فوقها فهدموها حجراً حجراً ..
واليوم .. جميع هذه الأضرحة والقبور .. لو جاءها موحّد فهدما على رؤوس أصحابها لما استطاعت الانتقام لنفسها ..
* * * * * * * * *
كيف نشأ الشرك ..؟!
لو تأملت كيف نشأ الشرك على الأرض .. لوجدت أنه الغلو في الصالحين ورفعهم فوق منزلتهم ..
ففي قوم نوح ..كان الناس موحدين ..يعبدون الله وحده لا شريك له .. ولم يكن شرك على وجه الأرض أبداً
وكان فيهم خمسة رجال صالحين .. هم وُد وسواع ويغوث ويعوق ونسر .. وكانوا يتعبدون .. ويعلمون الننس الدين .. فلما ماتوا .. حزن عليهم قومهم .. وقالوا : ذهب الذين كانوا يذكروننا بفضل العبادة .. ويأمروننا بطاعة الله ..
فوسوس الشيطان لهم .. قائلاً : لو صوّرتم صورهم .. على شكل تماثيل .. ونصبتموها عند مساجدكم .. فإذا رأيتموهم ذكرتم العبادة فنشطتم لها ..(12/25)
فأطاعوه .. فاتخذوا الأصنام رموزاً .. لتذكرهم بالعبادة والصلاح..!..
فكانوا فعلاً .. يرون هذه الأصنام فيتذكرون العبادة .. ومضت السنين .. وذهب هذا الجيل .. ونشأ أولادهم من بعدهم .. وكبروا وهم يرون آباءهم يثنون على هذه التماثيل والأصنام .. ويعظمونها .. لأنها تذكرهم بالصالحين ..
ثم نشأ قوم بعدهم .. فقال لهم إبليس: ( إن الذين كانوا من قبلكم كانوا يعبدونها .. وكانوا إذا أصابهم قحط أو حاجة لجئوا إليها ) فاعبدوها..
فعبدوها .. حتى بعث الله إليهم نوحاً عليه السلام .. فدعاهم ألف سنة إلا خمسين عاماً .. فما آمن معه إلا قليل .. فغضب الله على الكافرين .. فأهلكهم بالطوفان ..
هذا ما حدث في قوم نوح عليه السلام ..
فكيف نشأ الشرك في قوم إبراهيم ؟ كانوا يعبدون الكواكب والنجوم .. ويرون أنها تتحكم في الأكوان .. تكشف الكربات .. وتجيب الدعوات .. وتهب الحاجات ..
يعتقدون أن هذه الكواكب ( وسطاء ) بين الله وخلقه .. وأنهم موكول إليهم تصريف هذا العالم ..
ثم لم يلبثوا أن صنعوا أصناماً .. على صور الكواكب والملائكة ..
وكان أبوه يصنع الأصنام فيعطيها أولاده فيبييعونها .. وكان يلزم إبراهيم للخروج لبيع الأصنام .. فكان إبراهيم ينادي عليها : من يشتري ما يضره ولا ينفعه ؟
فيرجع إخوته وقد باعوا أصنامهم .. ويرجع إبراهيم بأصنامه كما هي ..
ثم دعا أباه وقومه إلى نبذ هذه الأصنام .. فلم يستجيبوا له ..
فحطم أصنامهم .. فحاولوا إحراقه فأنجاه الله من النار ..
الوارثون للشرك ..؟؟
هذا حال قوم نوح وإبراهيم ..
واليوم نأتي إلى القبوريين فنسأل : كيف تبدأ علاقتهم بالقبر أو الضريح ؟ وكيف تنتهي بهم إلى الشرك ؟
تبدأ العلاقة بتقديس الأشخاص .. ذوي الصلاح والتقوى ..
ومن ثم : تستحب زيارة تلك البقاع .. ليس لتذكر الموت والآخرة .. بل لتذكر الشيخ الصالح والاعتبار به .. ثم دعاء الله عندها رجاء الإجابة .. ثم لمس القبر وتقبيله .. والتمسح به ..(12/26)
ثم اتخاذه ( واسطة ) و ( وسيلة ) للاستشفاع به عند الله .. ويزعمون أن صاحب الضريح طاهر مكرم .. مقرب معظم .. له جاه عند الله .. بينما صاحب الحاجة متلطخ بالذنوب .. لا يصلح أن يدعو الله مباشرة .. فلا بدَّ أن يجعل صاحب القبر واسطة بينه وبين الله !!
ثم يقذف الشيطان في قلوب الزائرين .. يقول لهم :
ما دام هذا المقبور مكرماً فقد يعطيه الله تصرفاً وقدرة ..
فيبدأ الزائر يعظم المقبور في نفسه .. ويهابه .. ويرجوه ..
ثم بعد ذلك يدعوه .. ويستغيث به .. ثم يبني عليه مسجداً .. أو قبة وضريحاً ..
ويوقد فيه القناديل .. ويعلق عليه الستور .. ويعبده بالسجود له .. والطواف به .. وتقبيله واستلامه.. والحج إليه.. والذبح عنده.. ثم ينسجون حوله الكرامات .. والقصص والحكايات .. فهذه امرأة دعته فرزقت زوجاً .. والثانية أنجبت ولداً .. وهكذا ..
وبعضهم يردد قائلاً .. من زار الأعتاب ما خاب .. أي: من زار الأضرحة والأعتاب ( المقدسة ) .. قضيت حاجته ونال مراده..
بل سئل أحد التجار: لماذا تقسم للزبائن بضريح الشيخ .. ولا تقسم بالله ؟
فقال : إنهم هنا لا يرضون بالقسم باسم الله.. ولا يرضون إلا بالقسم بضريح سيدنا فلان ..
فانظر كيف صار تعظيمهم للضريح أكبر من تعظيمهم لله !!
وما دام الأمر كذلك .. فما الفرق بين كوم تراب .. وحجارة وأخشاب .. أو ضريح ومقام .. أو صور وأصنام .. أو أي شيء من المخلوقات؟.. لا فرق.. المهم وجود (السر) والتوجه إلى صاحبه!.. واعتقاد أنه يضر وينفع .. ويغني ويشفع ..
وما أقرب حال هؤلاء بما حكاه أبو رجاء العطاردي رضي الله عنه .. لما قال :
كنا في الجاهلية نعبد الأصنام .. والأحجار والأشجار ..
فكان أحدنا يعبد حجراً .. فإذا رأى حجراً آخر أمثل منه .. ألقى حجره وعبد الآخر ..
فإذا لم نجد حجراً جمعنا جُثوة من تراب ثم جئنا بالشاة فحلبناه عليه ثم طفنا به..(12/27)
فخرجنا مرة في سفر .. ومعنا إلهنا الذي نعبده .. حجر قد جعلناه في خُرج .. فكنا إذا أشعلنا ناراً لطعام فلم نجد حجراً ثالثاً للقدر .. وضعنا إلهنا .. وقلنا : هو أدفأ له إذا اقترب من النار ..
فنزلنا منزلاً يوماً .. وأخرجنا الحجر من الخُرج ..فلما ارتحلنا صاح صائح من قومي فقال : ألا إن ربكم قد ضل فالتمسوه ..
فركبنا كل بعير صعب وذلول نبحث عن ربنا ..
فبينما نحن نبحث إذ سمعت صائحاً آخر من قومي يقول : ألا إني قد وجدت ربكم .. أو رباً يشبهه ..
فرجعت إلى موضع رحالنا .. فرأيت قومي ساجدين عند صنم .. فأتينا فنحرنا عنده الإبل ..
فاعجب من جهلهم في جاهلية ما قبل الإسلام .. واعجب أكثر من جاهليتهم اليوم ..
بالله عليك ما الفرق بين يعبد حجراً .. ومن يعبد قبراً ..
بين من ينزل حاجاته بأصنام .. ومن ينزلها برفات وعظام ..
بين من يتعبد لقبور الأولياء .. ومن يتعبد لطين وماء ..
نعم كل هؤلاء يقولون : ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى ..
وهذا ما أوقع القبوريين في وثنية صريحة لا شك فيها ولا خفاء ..
* * * * * * * * *
أربعة اعتراضات ..
الأول :
قد يقول بعض المتعلقين بالقبور .. الداعين لها .. أنتم تشددون علينا .. فنحن لا نعبد الأموات .. لكن هؤلاء المقبورين أولياء صالحون .. لهم عند الله جاه ومكان .. فهم يشفعون لنا عند الله ..
فنقول : هذا هو شرك كفار قريش في عبادتهم للأصنام ..
فمشركو العرب كانوا مقرين بتوحيد الربوبية .. وأن الخالق الرازق المدبر هو الله وحده لا شريك له .. كما قال تعالى : ( قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الحَيَّ مِنَ المَيِّتِ وَيُخْرِجُ المَيِّتَ مِنَ الحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ ) [يونس: 31].(12/28)
ومع ذلك قاتلهم النبي صلى الله عليه وسلم .. واستحل دماءهم .. وأموالهم .. لأنهم لم يفردوا الله عز وجل بجميع أنواع العبادة ..
والآيات القرآنية .. والأحاديث النبوية .. التي حذرت من عبادة غير الله .. بينت أن الشرك بالله هو أن يجعل العبد لله نداً شريكاً في العبادة سواءً كان صنماً أو حجراً .. أو نبياً أو ولياً أو قبراً ..
نعم الشرك هو أن يفعل لغير الله شيئاً يختص به الله سبحانه سواءً أطلق على ذلك الغير ما كان تطلقه عليه الجاهلية كالصنم والوثن .. أو أطلق عليه اسماً آخر كالولي والقبر والمشهد ..
ولو ظهرت علينا اليوم فرقة جديدة من الفرق .. وادعت أن لله صاحبة وولداً لصار حكمهم حكم النصارى .. وانطبقت عليهم الآيات التي نزلت في النصارى .. وإن لم يسموا أنفسهم نصارى .. لأن حكمهما واحد .. فكذلك عباد القبور اليوم ..
* * * * * * * * *
الثاني ..
وقد يعترض بعض المتعلقين بالقبور .. ويقولون :
نحن نتقرب إلى المقبورين .. من الأولياء والصالحين .. من أجل طلب الشفاعة.. فهؤلاء الموتى قوم صالحون كانوا في الدنيا صوامين في النهار .. بكائين في الأسحار .. فلهم جاه وقدر عند الله .. نحن نطلب منهم أن يشفعوا لنا عند الله ..
فنقول لهم .. يا قوم .. ويحكم أجيبوا داعي الله وآمنوا به ..
إن الله قد سمَّى اتخاذ الشفعاء شركاً .. فقال سبحانه : ( وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ) [يونس: 18].
ونقول لهم أيضاً .. نحن نؤمن معكم .. بأن الله تعالى أعطى الأنبياء والأولياء الشفاعة .. وهم أقرب الناس إليه .. لكن ربنا نهانا عن سؤالهم ودعائهم ..(12/29)
نعم .. الأنبياء والأولياء والشهداء .. لهم شفاعة عند الله .. ولكنها ليست بأيديهم يشفعون لمن شاؤوا .. ويتركون من شاؤوا .. كلا .. بل لا يشفعون إلا بعد أن يأذن الله لهم .. ويرضى عن المشفوع ..
* * * * * * * * *
الثالث ..
وقد يعترض بعض المتعلقين بالقبور فيقولون ..
إن الكثير من المسلمين في القديم والحديث يبنون على القبور.. ويتخذون المشاهد والقباب.. ويتحرون الدعاء عندها .. فهل الأمة كلها على باطل .. وأنتم على الحق ..
فنقول لهم : أكثر هذه المشاهد والأضرحة مكذوبة .. لا تصح نسبتها إلى أصحابها.. كما تقدم ..
وأيضاً .. فإن البناء على القبور وتحري الدعاء عندها .. من البدع المنكرة ..
كما في قوله صلى الله عليه وسلم : ( لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد يحذّر ما صنعوا ) متفق عليه ..
* * * * * * * * *
الرابع ..
وهنا شبهة .. قد يقذفها الشيطان في بعض القلوب ..
وهي أن قبر النبي صلى الله عليه وسلم قد ضُمّن المسجد النبوي دون نكير.. ولو كان ذلك حراماً لم يدفن فيه.. كما يحتجون بوجود القبة على قبره صلى الله عليه وسلم ..
والجواب: أن النبي صلى الله عليه وسلم دفن حيث مات .. والأنبياء يدفنون حيث يموتون كما جاءت بذلك الأحاديث ..
فدفن في حجرة عائشة رضي الله عنها .. فلم يدفن في المسجد .. وإنما دفن في الحجرة .. هذا في أول الأمر ..
والصحابة رضي الله عنهم دفنوه في حجرة عائشة كي لا يتمكن أحد بعدهم من اتخاذ قبره مسجداً .. كما في حديث عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي مات فيه : ( لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد .. قالت : فلولا ذلك أُبرِزَ قبره غير أنه خشي أن يتخذ مسجداً ) أخرجه البخاري ومسلم ..
نعم دفن أول الأمر في بيت عائشة .. وكان بيت عائشة ملاصقاً للمسجد من الجهة الشرقية ..(12/30)
ومضت السنوات .. والناس يكثرون .. والصحابة يوسعون المسجد من جميع الجهات .. إلا من جهة القبر ..
وسعوه من جهة الغرب والشمال والجنوب .. إلا الجهة الشرقية فلم يوسعوه منها لأن القبر يحجزهم عن ذلك ..
وفي سنة ثمان وثمانين .. أي بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بسبع وسبعين سنة .. وبعدما مات عامة الصحابة الذين كانوا بالمدينة .. أمر الخليفة الوليدُ بن عبد الملك بهدم المسجد النبوي لتوسعته .. وأمر بتوسعته من جميع الجهات .. وإضافة جميع حُجر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم .. عندها وسع من الجهة الشرقية .. وأدخلت فيه الحجرةَ النبويةَ حجرةَ عائشة رضي الله عنها .. فصار القبر بذلك في المسجد .. ( انظر: الرد على الأخنائي، ص 184، ومجموع الفتاوى، 27 ـ 323 ، تاريخ ابن كثير، 9/74 ) ..
فهذه قصة القبر والمسجد ..
إذن .. لا يصح لأحد أبداً .. أن يحتج بما وقع بعد الصحابة رضي الله عنهم .. لأنه مخالف للأحاديث الثابتة .. وما فهمه سلف الأمة.. وقد أخطأ الوليد بن عبد الملك – عفا الله عنه - في إدخاله الحجرة النبوية ضمن المسجد.. لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بناء المساجد على القبور .. وكان الأصل أن يوسَّعَ المسجد من الجهات الأخرى دون أن يتعرض للحجرة النبوية ..
وكذلك القبة التي فوق قبره صلى الله عليه وسلم .. فإنها ليس بناؤها منه صلى الله عليه وسلم .. ولا من الصحابة رضي الله عنهم ولا من تابعيهم ولا تابعي التابعين ولا من علماء أمته وأئمة ملته.. بل هذه القبة المعمولة على قبره صلى الله عليه وسلم من أبنية بعض ملوك مصر المتأخرين .. وهو قلاوون الصالحي المعروف بالملك المنصور في سنة 678هـ..(انظر: تحذير الساجد للألباني، ص 93، وصراع بين الحق والباطل، لسعد صادق ، ص 106 ، تطهير الاعتقاد، ص 43 ) .
* * * * * * * * *
نداء .. نداء ..
أقول للمتعلقين بالمقبورين .. يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به ..(12/31)
بالله عليكم .. هل تعلمون أن السلف الصالح كانوا يجصصون قبراً.. أو يرجون بشراً ؟ أو يتوسلون بضريح ومقام ؟ ويغفلون عن الملك العلام ؟
وهل تعلمون أن واحداً منهم وقف عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم أو قبر أحد من أصحابه وآل بيته.. يسأله قضاء حاجة من الحاجات .. أو تفريج كربة من الكربات ؟
وهل تعلمون أن الرفاعي والدسوقي والجيلاني والبدوي أكرم عند الله وأعظم وسيلة إليه من الأنبياء والمرسلين.. والصحابة والتابعين ؟
وانظر إلى الصحابة في عهد عمر رضي الله عنه في المدينة النبوية .. لما أجدبت الأرض .. وانقطع القطر .. وشكوا ذلك إلى عمر رضي الله عنه .. خرج بهم ثم صلى صلاة الاستسقاء .. ثم رفع يديه وقال :
اللهم إنا كنا إذا أجدبنا توسلنا بدعاء نبينا لنا فأسقيتنا .. اللهم وإنا نتوسل إليك بدعاء عم نبيك صلى الله عليه وسلم .. ثم التفت إلى العباس رضي الله عنه وقال : قم يا عباس فادعُ الله أن يسقينا .. فقام العباس ودعا الله تعالى .. وأمن الناس على دعائه وبكوا وابتهلوا .. حتى اجتمع فوقهم السحاب وأمطروا ..
فانظر إلى الصحابة الكرام .. وهم أكثر منا فقهاً .. وأعظم محبة للنبي صلى الله عليه وسلم .. لما أصابتهم الحاجات .. ونزلت بهم الكربات .. ما ذهبوا إلى قبر نبيهم صلى الله عليه وسلم .. وقالوا : يا رسول الله !! اشفع لنا عند الله .. كلا .. فهم يعلمون أن دعاء الميت لا يجوز وإن كان نبياً مرسلاً .. أو ولياً مقرباً ..
فهم إذا أرادوا الحاجات .. التمسوا كشف الكربات بالدعوات الصالحات ..
فآهٍ ثم آهٍ .. لمساكين اليوم يزدحمون على عظام ورفات .. يلتمسون منها المغفرة والرحمات ..
يا قومنا .. ويحكم ..
هل تعلمون أن النبي صلى الله عليه وسلم حينما نهى عن إقامة الصور والتماثيل .. نهى عنها عبثاً ولعباً .. أم أنه خاف أن تعيد للمسلمين جاهليتهم الأولى ؟ بعبادة الصور والتماثيل ؟(12/32)
وأي فرق بين من يعظم الصور والتماثيل .. وبين من يعظم الأضرحة والقبور .. ما دام كل منها يجر إلى الشرك.. ويفسد عقيدة التوحيد ؟
* * * * * * * * *
ومن وسائل الشرك .. الحلف بغير الله :
فلا يجوز الحلف بالكعبة .. ولا بالأمانة .. ولا بالشرف .. ولا ببركة فلان .. ولا بحياة فلان ..ولا بجاه النبي .. ولا بجاه الولي .. ولا بالآباء والأمهات .. كل ذلك حرام .. لأن الحلف تعظيم لا يصح إلا لله ..
وقد روى أحمد عن ابن عمر مرفوعاً : \"من حلف بغير الله فقد أشرك\" ..
وقال صلى الله عليه وسلم : من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت ..
فإذا حلف بغير الله .. وكان الحالف يعتقد أن عظمة المحلوف به كعظمة الله فهو شرك أكبر .. وإن اعتقد أن المحلوف به أقل من الله .. فهو شرك أصغر ..
ومن جرى على لسانه شيء من هذا بغير قصد .. فكفارته أن يقول : لا إله إلا الله ، كما روى البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( من حلف فقال في حلفه باللات والعزى فليقل : لا إله إلا الله ) ..
ومن كان الحلف بغير الله يجرى على لسانه .. فيجب أن يجاهد نفسه على تركه ..
وبعضهم يحلف بالله كاذباً .. ولا يجترئ أن يحلف بشيخه كاذباً ..
ومن شرك الألفاظ الذي يجري على ألسنة بعض الناس ..
كقول بعضهم : ما شاء الله وشئت .. أو : لولا الله وفلان .. أو : مالي إلا الله وأنت .. وهذا من بركات الله وبركاتك ..
والصواب أن يقول : ما شاء الله ثم فلان .. ولولا الله ثم فلان ..
* * * * * * * * *
ومن وسائل الشرك :
تعليق التمائم والحروز والأوراق والحجب .. خوفاً من العين وغيرها .. فإذا اعتقد أن هذه مجرد أسباب وطرق لرفع البلاء أو دفعه .. فهذا شرك أصغر ..
أما إن اعتقد أنها تتحكم وتدفع البلاء بنفسها .. فهذا شرك أكبر لأنه تعلق بغير الله .. وجعل لغير الله تصرفاً في الكون مع الله ..
والتمائم نوعان :(12/33)
من القرآن : كمن يعلق قماشاً أو جلداً .. أو قطعة ذهب .. أو غيرها قد كتب عليه آيات من القرآن .. وهذه لا تجوز .. لأنها لم يرد فعلها عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه .. وقد تجر إلى تعليق غيرها ..
والنوع الثاني : من غير القرآن .. كمن يعلق ما كتب عليه أسماء الجن .. ورموز السحرة .. وهذا من وسائل الشرك عياذاً بالله ..
قال ابن مسعود : من قطع تميمة من إنسان .. فكأنما أعتق رقبة ..
ورأى حذيفة بن اليمان رجلاً قد علق في يده حلقة من صفر ( حديد ) .. فقال له : ما هذا ؟
قال : من الواهنة .. أي خوف العين ..
فقال : انزعها فإنها لا تزيدك إلا وهناً .. لو متَّ وهي عليك ما أفلحت أبداً ..؟؟؟
* * * * * * * * *
وكذلك الرقى .. وهي الأذكار والأوراد التي تقرأ على المريض ..
فالجائز منها ما كان بكلام الله أو بأسماء الله وصفاته .. مثل أن يقرأ الفاتحة والمعوذات على المريض .. أو يدعو بشيء مما ورد في السنة النبوية ..
أما ترديد أسماء الجن ..أو حتى ترديد أسماء الملائكة والأنبياء والصالحين ..فهذا دعاء لغير الله وهو شرك أكبر..
وكيفيتها : أن يقرأ وينفث عل المريض .. أو يقرأ في ماء ويسقاه المريض ..
* * * * * * * * *
ومن الشرك : ادعاء علم الغيب ..
فلا يعلم الغيب إلا الله وحده.. قال تعالى : { قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله } ..
فلا يمكن لأحد أبداً .. أبداً .. أن يعلم الغيب .. لا ملك مقرب .. ولا نبي مرسل ..ولا ولي متعبد .. ولا إمام متبع .. كلا .. كلا .. لا يعلم الغيب إلا الله ..
إلا أن يكون رسولاً يوحى الله إليه شيئاً من المغيبات .. كما أخبر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بمكائد الكفار له .. وأشراط الساعة .. ونحو ذلك ..
فمن ادعى علم الغيب بأي وسيلة من الوسائل .. كقراءة الكف أو الفنجان .. أو النظر في النجوم .. أو الكهانة أو السحر ..فهو كاذب كافر ..(12/34)
وما يحصل من المشعوذين والدجالين من الإخبار بالمفقودات أو الغائبات .. وعن أسباب بعض الأمراض .. إنما هو باستخدام الجن والشياطين ..
وقد يذهب بعض ضعاف الإيمان إلى المنجمين فيسألهم عن مستقبله وعن زواجه .. وهذا حرام .. ومن ادعى علم الغيب أو صدق من يدعيه فهو مشرك كافر ..
ومن ذلك اللجوء إلى أبراج الحظ في الجرائد والمجلات .. أو الاتصال هاتفياً على بعض من يدعي معرفة الغيب .. أو سؤالُهم .. كل ذلك حرام ..
* * * * * * * * *
ومن وسائل الشرك : السحر والكهانة والعرافة ..
والسحر هو : عزائم وكلام وأدوية وتدخينات .. وله حقيقة .. وقد يؤثر في القلوب والأبدان .. فيمرض .. ويقتل .. ويفرق بين المرء وزوجه ..
وهو من أعظم الذنوب : قال صلى الله عليه وسلم:(اجتنبوا السبع الموبقات قالوا : وما هي ؟ قال : الإشراك بالله والسحر )..
فالسحر فيه استخدام الشياطين .. والتعلق بهم .. والتقرب إليهم بما يحبونه .. ليقوموا بخدمة الساحر .. وفيه أيضاً ادعاء علم الغيب .. وهذا كفر وضلال ..
لذا قال تعالى : { إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى } ..
وحكم الساحر القتل .. كما فعل جماعة من الصحابة رضي الله عنهم ..
والعجب أننا أصبحنا في زمان .. تساهل الناس فيه بالسحر .. وربما عدوا ذلك فناً من الفنون التي يفتخرون بها .. ويمنحون الجوائز لأصحابها ..
ويقيمون للسحرة الحفلات..والمسابقات..ويحضرها آلاف المتفرجين والمشجعين ..وهذا من التهاون بالعقيدة
وما أجمل أن يصنع بالساحر ما صنعه أبو ذر الغفاري رضي الله عنه ..
فإنه دخل على أحد الخلفاء فرأى بين يديه ساحراً .. يلعب بسيف في يده .. ويخيل للناس أنه يضرب يقطع رأس الرجل ثم يعيده ..
فجاء أبو ذر من اليوم التالي .. وقد لبس رداءه .. وخبأ سيفه تحته .. ثم دخل على الخليفة .. فإذا الساحر بين يديه يلعب بالسيف .. ويسحر أمام الناس .. وهم في عجب وإعجاب ..(12/35)
فاقترب منه أبو ذر .. ثم أخرج سيفه فجأة ورفع وهوى به على رقبة هذا الساحر .. فأطار رأسه ..
فسقط الساحر صريعاً .. وقال أبو ذر : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : حد الساحر ضربة بالسيف ..
ثم التفت إليه أبو ذر وقال : أحيي نفسك .. أحيي نفسك .. ؟؟؟
* * * * * * * * *
وقد قال صلى الله عليه وسلم : ( من أتى كاهنا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم ) .
ومما يجب التنبه له : أن السحرة والكهان والعرافين يعبثون بعقائد الناس .. بحيث يظهرون بمظهر الأطباء .. فيأمرون المرضى بالذبح لغير الله .. بأن يذبحوا خروفاً صفته كذا وكذا .. أو دجاجة ..
وأحياناً يكتبون لهم الطلاسم الشركية .. والتعاويذ الشيطانية ..
بصفة حروز يعلقونها في رقابهم .. أو يضعونها في صناديقهم .. أو في بيوتهم ..
وبعضهم يظهر بمظهر الولي الذي له خوارق وكرامات .. كأن يضرب نفسه بالسلاح .. أو يضع نفسه تحت عجلات السيارة ولا تؤثر فيه ..
أو غير ذلك من الشعوذات .. التي هي في حقيقتها سحر من عمل الشيطان .. يجريه على أيديهم ..
وشياطينهم تخنس عند ذكر الله ..
كما ذكر أحد الشباب أنه سافر يوماً إلى إحدى الدول .. ودخل أحد مسارحها .. وأخذ ينظر إلى ما يسمى السيرك ..
قال : وبينما نحن ننظر إلى الألعاب المتنوعة .. فإذا بامرأة تأتي ثم تمشي على حبل بقدرة عجيبة .. ثم قفزت على الجدار .. ومشت عليه كما تمشي البعوضة .. والناس قد أخذ منهم العجب منها كل مأخذ .. فقلت في نفسي .. لا يمكن أن يكون ما تفعله حركات بهلوانية تدربت عليها .. صحيح أنا عاص .. لكني موحّد .. لا أرضى بمثل هذا فتحيرت ماذا أفعل ؟
فتذكرت إني حضرت خطبة جمعة عن السحر والسحرة .. وكان مما ذكر الشيخ أن السحرة يستعملون الشياطين .. وأن الشياطين يبطل كيدها .. وتفنى قوتها إذا ذكر الله ..(12/36)
فقمت من على كرسيي .. ومضيت أمشي متجهاً إلى خشبة المسرح .. والناس يصفقون معجبين .. ويظنوني لفرط إعجابي .. أقترب من الساحرة ..
فلما وصلت إلى المسرح .. وصرت قريباً من هذه الساحرة .. وجهت نظري إليها ثم قرأت آية الكرسي : ( الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم .. ) .. فبدأت المرأة تضطرب .. وتضطرب .. فوالله ما ختمت الآية إلا وقعت على الأرض .. وأخذت تنتفض .. وقام الناس وفزعوا .. وحملوها إلى المستشفى ..
وصدق الله إذ قال ( إن كيد الشيطان كان ضعيفاً ) .. وقال : ( ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين ) ..
* * * * * * * * *
ومن وسائل الشرك : تعظيم التماثيل والنصب التذكارية ..
والتماثيل جمع تمثال .. وهو الصورة المجسمة على شكل إنسان أو حيوان ..
والنصب التذكارية : تماثيل يقيمونها على صور الزعماء والعظماء .. وينصبونها في الميادين والحدائق ونحوها ..
وما وقع الشرك في الأرض إلا بسبب هذه التماثيل ..
أما ترى قوم نوح لما صنعوا تماثيل لرجال منهم .. لم يمض عليهم زمن حتى عبدوهم من دون الله ..
لذا نهى صلى الله عليه وسلم عن نصب التماثيل .. وعن تعليق الصور .. لأن ذلك وسيلة إلى الشرك ..
بل لعن صلى الله عليه وسلم المصورين .. وأخبر أنهم أشد الناس عذابا يوم القيامة .. وأمر بطمس الصور .. وأخبر أن الملائكة لا تدخل بيتا فيه صورة ..
* * * * * * * * *
ومن وسائل الشرك : التوسل البدعي :
كالتوسل بجاه النبي صلى الله عليه وسلم .. أو بذوات المخلوقين أو حقهم .. أو بطلب الدعاء والشفاعة من الأموات .. فلا يجوز أن يقول في دعائه : اللهم إني اسألك بجاه نبيك .. أو بحق فلان .. أو بروح الميت فلان .. كل هذا لا يجوز ..
والتوسل الجائز المشروع .. هو التوسل إلى الله بأسمائه وصفاته .. كأن يقول : يا رحيم ارحمني .. يا غفور اغفر لي ..(12/37)
وكذلك التوسل إلى الله تعالى بالإيمان والأعمال الصالحة .. كأن يقول اللهم بإيماني بك وتصديقي لرسلك .. أدخلني جنتك ..
والتوسل إلى الله بدعاء الصالحين الأحياء .. كأن يطلب من عبد صالح حي .. أن يدعوا الله له .. فإن دعاء المسلم لأخيه بظهر الغيب مستجاب .. أما طلب الدعاء من ميت في قبره .. فلا يجوز ..
* * * * * * * * *
فكل ما سبق هو من حقوق الله على عباده .. لا يجوز صرفه لغير الله تعالى ..
ومن الإيمان بالله أيضاً :
اعتقاد أن الله رب كل شيء وأنه المستحق للعبادة ..
وله الأسماء الحسنى والصفات العلى .. { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السّمِيعُ الْبَصِيرُ } ..
ونؤمن بأن الله يتكلم متى شاء بما شاء كيف شاء .. كما قال : { وكلم الله موسى تكليما } .. والقران وجميع الكتب السماوية .. هي كلام الله ..
ونؤمن بأن الله عالٍ على خلقه بذاته وصفاته ..
وبأنه خلق السموت والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش .. واستواؤه على العرش يليق بجلاله وعظمته لا يعلم كيفيته إلا هو عز وجل ..
ومع أنه عالٍ على عرشه .. إلا أنه يعلم أحوال خلقه .. ويسمع أقوالهم .. ويرى أفعالهم .. ويدبر أمورهم ..
ونؤمن بأن المؤمنين يرون ربهم يوم القيامة .. قال تعالى : { وجوه يومئذ ناضرة * إلى ربها ناظرة } ..
وكل ما أخبر الله به في كتابه وما أخبر به رسوله صلى الله عليه وسلم من صفات ربنا فنحن مؤمنون بها .. مصدقون بحقيقتها .. على الوجه اللائق به عز وجل ..
* * * * * * * * *
والإيمان بالملائكة :
أن الله خلقهم من نور .. ووكلهم بأعمال يقومون بها ..
وهم عباد لا يعصون الله ما أمرهم .. ويفعلون ما يؤمرون .. هم أكثر منا عدداً .. وأكثر خوفاً وتعبداً ..
روى البخاري ومسلم أن في السماء بيتاً يسمى بالبيت المعمور يدخله كلَّ يوم سبعون ألف ملك فيصلون ثم يخرجون منه .. ثم لا يعودون إليه إلى يوم القيامة ..(12/38)
وصحّ عند أبي داود والطبراني أنه صلى الله عليه وسلم قال : ( أُذن لي أن أحدث عن ملك من ملائكة الله عز وجل من حملة العرش ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه مسيرةُ سبعمائة عام ) ..
ولبعض الملائكة أعمال خاصة .. فجبريل موكل بالوحي إلى الأنبياء .
وميكائيل بالمطر والنبات .. وإسرافيل بالنفخ في الصور عند قيام الساعة ..
وملك الموت موكل بقبض الأرواح .. ومالك خازن النار ..
ولله ملائكة موكلون بالأجنة في الأرحام .. وآخرون موكلون بحفظ بني آدم .. ومنهم موكلون بكتابة أعمال بني آدم .. وملائكة موكلون بسؤال الميت في قبره .. وغير ذلك ..
* * * * * * * * *
هؤلاء هم الملائكة .. وهم عالم غيبي .. نؤمن بوجودهم وإن كنا لا نراهم ..
وهناك مخلوقات أخرى غائبة عنا أيضاً .. وهم :
الجن .. وهم مخلوقون من نار .. وخلقهم الله قبل خلق الإنس .. كما قال تعالى :
{ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ مّنْ حَمَإٍ مّسْنُونٍ * وَالْجَآنّ خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نّارِ السّمُومِ } .
وهم مكلفون مأمورون بالعبادة .. فمنهم المؤمن ومنهم الكافر .. ومنهم المطيع .. ومنهم العاصي ..
وهم يعتدون على الإنس أحياناً .. كما يعتدي الإنس عليهم أحياناً ..
ومن عدوان الإنس عليهم أن يستجمر الإنسان (أي يمسح فرجه بعد البول والغائط ) بعظم أو روث .. ففي مسلم قال النبي صلى الله عليه وسلم عن العظم والروث : ( لا تستنجوا بهما فإنهما طعام إخوانكم من الجن ) ..
ومن عدوان الجن على الإنس .. تسلطهم بالوسوسة .. وتخويفهم .. وصرعهم ..
ويمكن للمسلم أن يتحصن منهم بالأذكار الشرعية .. كقراءة آية الكرسي .. والمعوذات .. والأذكار الشرعية الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم .. أما التقرب إليهم بالذبح لهم ودعائهم لاتقاء شرهم فهذا من صور الشرك ..(12/39)
ولا شك أن الجن والشياطين ضعفاء .. وكيدهم ضعيف .. ولكن الإنسان إذا كثرت معاصيه .. وصار ينظر إلى الحرام .. ويسمع المعازف .. وضعف إيمانه .. وقلَّ تعلقه بربه .. وغفل عن ذكر الله .. وعن التحصن بالأذكار الشرعية استطاعوا التسلط عليه ..
قال تعالى عن الشيطان وجنده : { إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ } ..
* * * * * * * * *
والإيمان بالكتب :
وهي الكتب التي أنزلها على أنبيائه .. هداية للخلق .. وهي كثيرة .. نؤمن بها كلها ..
وقد أخبرنا الله بأربعة منها ..
فالقرآن أنزله الله على محمد .. والتوراة على موسى .. والإنجيل على عيسى .. والزبور على داود .. عليهم الصلاة والسلام ..
وكلها كلام الله تعالى .. والقرآن هو آخرها وأعظمها .. جمع الله فيه ما في الكتب السابقة .. قال تعالى : { وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ } ..
* * * * * * * * *
والإيمان بالأنبياء والرسل .. عليهم السلام ..
فقد بعث الله في كل أمة رسولاً يدعوهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له .. وأول الرسل : نوح وأخرهم محمد عليهم الصلاة والسلام ..
والرسل عددهم كثير .. منهم من أخبرنا الله باسمه .. وقص علينا خبره .. ومنهم من لم يخبرنا به ..فنؤمن بهم كلهم ..قال تعالى : { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مّن قَبْلِكَ مِنْهُم مّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مّن لّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ}..
وهم بشر مخلوقون لا فرق بينهم وبين الناس إلا أنهم يوحى إليهم..{ قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ }..
نعم .. هم بشر يأكلون ويشربون .. ويمرضون ويموتون ..
ويجب الإيمان بهم جميعاً فمن كفر برسالة واحد منهم فقد كفر بالجميع ..(12/40)
قال الله عن قوم نوح : { كَذّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ } .. وقال عن قوم هود ( كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ ) .. مع أن كل أمة لم تكذب إلا نبيها .. ولكن لأن رسالة جميع الأنبياء واحدة فمن كذب بواحد منهم فقد كذب بالجميع ..
وعلى هذا فالنصارى الذين كذبوا محمداً صلى الله عليه وسلم ولم يتبعوه هم مكذبون للمسيح بن مريم ..
لأنه بشرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم وأمرهم باتباعه .. فلم يطيعوه .. وقل مثل ذلك في اليهود .. وغيرهم ..
* * * * * * * * *
والإيمان باليوم الآخر ..
وهو التصديق بما ذكر الله في كتابه .. وأخبر به رسوله صلى الله عليه وسلم .. بما يقع بعد الموت ..
فتؤمن أولاً بعذاب القبر ونعيمه .. وهو ثابت بالكتاب والسنة ..
قال تعالى : { وحاق بآل فرعون سوء العذاب * النار يعرضون عليها غدواً وعشياً ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب } ..
وقال تعالى عن المنافقين : { سنعذبهم مرتين ثم يردون إلى عذاب عظيم } .. قال ابن مسعود وغيره : العذاب الأول في الدنيا .. والثاني عذاب في القبر .. ثم يردون إلى عذاب عظيم في النار ..
أما الأحاديث في إثبات عذاب القبر ونعيمه .. فهي كثيرة .. بل قد صرح ابن القيم وغيره أنها متواترة .. وفي السنة أكثر من خمسين حديثاً في ذلك ..
منها ما في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم مرَّ بقبرين .. فقال : إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير أما أحدهما فكان لا يستتر من البول وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة ) ..
ومنها ما في الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول في دعائه : ( اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر .. ) ..
وعذاب القبر ونعيمه أمور غيبية .. لا تقاس بالعقل ..
* * * * * * * * *
ومن الإيمان باليوم الآخر ..(12/41)
الإيمان بالبعث وإحياء الموتى حين ينفخ في الصور .. فيقومون حفاة عراة غرلاً ( غير مختوننين ) .. كما قال تعالى : { ثُمّ إِنّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيّتُونَ * ثُمّ إِنّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ } ..
والإيمان بالحساب والجزاء .. قال الله : { إِنّ إِلَيْنَآ إِيَابَهُمْ * ثُمّ إِنّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ } ..
والإيمان بالجنة والنار .. فالجنة .. دار المتقين .. فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ..
والنار هي دار العذاب .. فيها من العذاب والنكال مالا يخطر على البال ..
وتؤمن كذلك بأشراط الساعة الصغرى .. والكبرى .. كخروج الدجال .. ونزول عيسى عليه السلام من السماء .. وطلوع الشمس من مغربها .. وخروج دابة الأرض من موضعها .. وغير ذلك ..
ونؤمن .. بالشفاعة .. والحوض والميزان .. ورؤية الله تعالى .. وغير ذلك من أمور الآخرة ..
* * * * * * * * *
والإيمان بالقدر خيره وشره :
فتؤمن بأن الله قبل أن يخلق الخلق .. علم كل شيء جملة و تفصيلاً .. وكتبه في اللوح المحفوظ .. وخلق جميع الكائنات { اللّهُ خَالِقُ كُلّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَىَ كُلّ شَيْءٍ وَكِيلٌ } ..
ولا يحدث في هذا الكون شيء إلا وقد علم الله حدوثه .. وأذن به..قال الله : { إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ }
وكل إنسان له مشيئة وقدرة .. يختار بهما فعل الشيء أو تركه .. فهو إن أراد توضأ وصلى .. وإن أراد ضل وزنى .. لذا هو محاسب ومجازى .. ولا يجوز أن يحتج بالقدر على ترك الواجبات .. أو فعل المحرمات ..
* * * * * * * * *
ومما يقدح في الإيمان ..
الاستهزاء بالدين .. فهو ردة عن الإسلام .. قال الله :
{ قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزؤن * لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم } ..(12/42)
ومثل هذا ما يقوله بعضهم : إن الإسلام دين قديم لا يصلح لعصرنا .. أو إنه تأخر ورجعية .. أو يقول : إن القوانين الوضعية أحسن من الإسلام .. أو يقول في من يدعو إلى التوحيد وينكر عبادة القبور والأضرحة : هذا متطرف .. أو هذا وهابي .. أو يفرق المسلمين ..
* * * * * * * * *
ومن أكبر القوادح في الإيمان .. الحكم بغير ما أنزل الله ..
فمن مقتضى الإيمان بالله الحكم بشرعه ..
في الأقوال والأفعال .. والخصومات والأموال .. وسائر الحقوق ..
فيجب على الحكام أن يحكموا بما أنزل الله .. ويجب على الرعية أن يتحاكموا إلى ما أنزل الله .. ولا يجتمع الإيمان مع التحاكم إلى غير ما أنزل الله .. فقال تعالى :
{ فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً } .. وقال : ( وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ) ..
فلا بد من الحكم بما أنزل الله .. في كل شيء في البيع والشراء .. والسرقة .. والزنا .. وغيرها .. وليس في أحكام الطلاق والزواج والأحوال الشخصية فقط ..
ومن شرع قوانين للناس .. وزعم أن هذه القوانين أنسب وأفضل من حكم الله فهو كافر .. نعم كافر ..
قال الله : { أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله } .. وقال الله : { أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون } ..
وفي الصحيح أنه لما أنزل الله : { اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله } .. قال عدي بن حاتم رضي الله عنه : يا رسول الله .. لسنا نعبدهم .. قال : ( أليس يحلون لكم ما حرم الله فتحلونه .. ويحرمون ما أحل الله فتحرمونه ؟ ) .. قال : بلى . قال صلى الله عليه وسلم : \"فتلك عبادتهم \" ..
* * * * * * * * *
ومن القوادح في الإيمان .. موالاة الكفار .. أو معاداة المؤمنين ..(12/43)
ولا شك .. أنه يجب على المسلمين أن يعادوا الكافرين من اليهود والنصارى وسائر المشركين .. وأن يحذروا مودتهم .. كما قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ } ..
بل حرم الله محبة الآباء والإخوان .. إن كانوا كفاراً .. قال تعالى : { لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ } ..
والآيات في هذا المعنى كثيرة .. تدل كلها على وجوب بغض الكفار ومعاداتهم .. لكفرهم بالله .. وعدائهم لدينه .. ومعاداتهم لأوليائه .. وكيدهم للإسلام وأهله ..
كما قال تعالى : { قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاء مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ * هَاأَنتُمْ أُوْلاء تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ } ..
وواقع اليهود والنصارى اليوم لا يخفى .. في كيدهم للإسلام .. ومحاربة أهله والتنفير منه .. وإنفاق الأموال الضخمة للصد عن سبيله ..(12/44)
ومن صور موالاة بعض المسلمين للكافرين اليوم : مخالطتهم وموادتهم من غير قصد الدعوة ، أو مساكنتهم في بلادهم ، أو السفر إليهم من غير ضرورة .. والتشبه بهم في اللباس ، أو المظهر ، أو طريقة الحياة .. أو التكلم بلغتهم من غير حاجة ..
* * * * * * * * *
ومن أكبر القوادح في الإيمان ..
تنقص أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.. أو سبهم .. أو تنقص أهل بيته الكرام ..
فنحب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم .. ولا نغلوا في حب أحد منهم .. لا في علي رضي الله عنه .. ولا في غيره ..
ولا نتبرأ من أحد منهم .. ونبغض من يبغضهم ..
ولا نذكرهم إلا بخير .. قال تعالى:{ وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ } ..
ومذهب أهل السنة والجماعة فيما حدث بينهم من خلافات أو حروب .. الإمساك عن ذلك كله .. فهم بشر يخطئون ويصيبون .. وكما عصم الله سيوفنا عن الدخول في تلك الفتن فلنعصم منها ألسنتنا .. ونقول : هم بشر لهم رب يجمعهم يوم القيامة ويحكم بينهم ..
ونثبت الخلافة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر .. تفضيلاً له وتقديماً على جميع الأمة .. ثم لعمر .. ثم لعثمان .. ثم لعلي رضي الله عنهم ..
* * * * * * * * *
ومن القوادح في الإيمان ..
ما استحدثه بعض المسلمين من بدع يزعمون أنها تقربهم إلى الله ..
كالاحتفال بمولد النبي صلى الله عليه وسلم .. والقيام له في أثناء ذلك .. وإلقاء السلام عليه ..
أو الاحتفال بمولد غيره من الأولياء والصالحين ..
وذلك كله من البدع الدين .. لم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم .. ولا الصحابة رضي الله عنهم ..
وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد ) أي مردود عليه ..
وقال : ( كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة ) ..(12/45)
وقال تعالى { اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً } ..
وإحداث مثل هذه الموالد يفهم منه أن الله لم يكمل الدين .. حتى جاء المتأخرون فأحدثوا عبادات زعموا أنها تقربهم إلى الله .. وهذا اعتراض على الله ورسوله ..
فلو كان الاحتفال بالموالد من الدين الذي يرضاه الله لبينه الرسول صلى الله عليه وسلم للأمة ..
وقد صرح العلماء بإنكار الموالد .. لأنها عبادة مبتدعة محدثة ..
خاصة إذا وقع فيها غلو في الرسول صلى الله عليه وسلم .. واختلاط النساء بالرجال .. أو استعمال آلات الملاهي ..
وقد يقع فيها الشرك الأكبر بدعاء الرسول صلى الله عليه وسلم .. والاستغاثة به .. وطلبه المدد .. واعتقاد أنه يعلم الغيب .. ونحو ذلك من الأمور الكفرية ..
كما يردد بعضهم قول البوصيري :
يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به *** سواك عند حدوث الحادث العمم
إن لم تكن آخذا يوم المعاد يدي *** صفحا وإلا فقل يا زلة القدم
فإن من جودك الدنيا وضرتها *** ومن علومك علم اللوح والقلم
ومثل هذه الأوصاف : علم الغيب .. والمغفرة يوم القيامة .. والتحكم في الدنيا والآخرة .. لا تصح إلا لمن بيده ملكوت السموات والأرض ..
وهذه تقع كثيراً .. في الاحتفال بمولد النبي صلى الله عليه وسلم .. أو مولد غيره من الأولياء ..
فإن قيل .. إن هذه الموالد يذكر فيها الرسول .. وتقرأ سيرته .. قلنا ..
هذا كلام حسن .. ولكن يمكن أن يذكر الرسول صلى الله عليه وسلم وسيرته من غير تحديد موعد معين كل سنة .. فيذكر على المنابر .. أو في المحاضرات .. أو المجالس العامة .. وغيرها ..
وقد قال تعالى : { فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول } ..
وقد رددنا الاحتفال بالموالد إلى كتاب الله فوجدناه يأمرنا باتباع نبينا .. ويخبرنا بأن الدين كامل ..(12/46)
ورددنا الاحتفال بالموالد إلى سنة الرسول صلى الله عليه وسلم فلم نجد فيها أنه فعله ولا أمر به ولا فعله أصحابه .. فعلمنا أنه ليس من الدين .. بل هو من البدع المحدثة ..
بل هو من التشبه باليهود والنصارى في أعيادهم ..
ولا ينبغي للعاقل أن يغتر بكثرة من يفعله من الناس .. قال تعالى { وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ } ..
ومن العجائب :
أن بعض الناس يجتهد في حضور الاحتفالات المبتدعة .. ويتخلف عن الجمع والجماعات ..
وبعضهم يظن أن النبي صلى الله عليه وسلم يحضر المولد .. ولذا يقومون مرحبين ..
وهذا باطل وجهل .. فإن الرسول صلى الله عليه وسلم في قبره .. لا يخرج منه قبل يوم القيامة .. وروحه في عليين عند ربه في دار الكرامة .. قال صلى الله عليه وسلم : ( أنا أول من ينشق عنه القبر يوم القيامة ) ..
أما الصلاة والسلام عليه .. فهي من أفضل القربات .. قال تعالى : { إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما } ..
ونعلم جميعاً أنه لا يتم إيمان عبد حتى يحب الرسول صلى الله عليه وسلم .. ويعظمه ..
ومن تعظيمه وتوقيره .. اتخاذه إماما متبوعاً ..
فلا نتجاوز .. ما شرعه من العبادات ..
قال الله : { قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } ..
* * * * * * * * *
ومن البدع الظاهرة :
الاحتفال بليلة 27 من رمضان :
فهدي النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان الإكثار من العبادات .. وكان في العشر الأخير يزيد الاجتهاد ..
وقال صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين : من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه .. ومن قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه ..(12/47)
هذا هدي الرسول صلى الله عليه وسلم في رمضان وفي ليلة القدر .. وأما الاحتفال بليلة سبع وعشرين على أنها ليلة القدر فهو
مخالف لهدي الرسول صلى الله عليه وسلم فالاحتفال بها بدعة .. خاصة أن ليلة القدر قد تكون ليلة السابع والعشرين .. وقد تكون غيرها من الليالي ..
* * * * * * * * *
ومن البدع أيضاً :
الاحتفال بليلة الإسراء والمعراج ..
ولا ريب أن الإسراء والمعراج من الدلائل على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم ..
وقد ثبت الإسراء والمعراج في الكتاب والسنة ..
والليلة التي حصل فيها الإسراء والمعراج لم يأت في الأحاديث الصحيحة تعيينها لا في رجب ولا غيره ..
ولو ثبت تعيينها لم يجز تخصيصها بشيء من عبادة أو احتفال ..
لأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم لم يحتفلوا بها .. ولم يخصوها بشيء ..
والنبي صلى الله عليه وسلم قد بلغ الرسالة .. وأدى الأمانة .. فلو كان تعظيم هذه الليلة والاحتفال بها من دين الله لبينه لنا ..
* * * * * * * * *
ومن البدع :
الاحتفال بليلة النصف من شعبان وتخصيص يومها بالصيام ..
وليس على ذلك دليل يجوز الاعتماد عليه .. وقد ورد في فضلها أحاديث ضعيفة لا يجوز الاعتماد عليها ..
أما ما ورد في فضل الصلاة فيها فكله موضوع .. كما نبه على ذلك ابن رجب ..
وروى ابن وضاح عن زيد بن أسلم قال :
ما أدركنا أحداً من مشيختنا ولا فقهائنا يلتفتون إلى النصف من شعبان ..
* * * * * * * * *
وختاماً ..
ذكر العلماء أن المسلم قد يرتد عن دينه بأنواع كثيرة من النواقض التي تحل دمه وماله .. ويكون بها خارجاً عن الإسلام ..
ومن أخطرها وأكثرها وقوعاً عشرة نواقض :
الأول : الشرك في عبادة الله تعالى .. كما تقدم ..
الثاني : من جعل بينه وبين الله وسائط يدعوهم ويسألهم الشفاعة ويتوكل عليهم فقد كفر إجماعاً .
الثالث : من لم يكفر المشركين أو شك في كفرهم أو صحح مذهبهم كفر .(12/48)
الرابع : من اعتقد أن غير هدي النبي صلى الله عليه وسلم أكمل من هديه .. أو أن حكم غيره أحسن من حكمه .. كالذي يفضل حكم الطواغيت على حكمه – فهو كافر .
ويدخل في ذلك: من اعتقد أن الأنظمة والقوانين التي يسنها الناس أفضل من شريعة الإسلام أو أنها مساوية لها .. أو أنه يجوز التحاكم إليها ( حتى لو اعتقد أن الحكم بالشريعة أفضل ) .. أو اعتقد أن نظام الإسلام لا يصلح تطبيقه في القرن العشرين .. أو أنه كان سبباً في تخلف المسلمين .. أو أنه يحصر في علاقة المرء بربه دون أن يتدخل في شئون الحياة الأخرى .
وكذلك من يرى أن إنفاذ حكم الله في قطع يد السارق أو رجم الزاني المحصن لا يناسب العصر الحاضر .
وكذلك : كل من اعتقد أنه يجوز الحكم بغير شريعة الله في المعاملات أو الحدود أو غيرهما .. وإن لم يعتقد أن ذلك أفضل من حكم الشريعة .. لأنه بذلك يكون قد استباح ما حرم الله إجماعاً .. وكل من استباح ما حرم الله مما هو معلوم من الدين بالضرورة .. كالزنى .. والخمر والربا والحكم بغير شريعة الله .. فهو كافر بإجماع المسلمين ..
الخامس : من أبغض شيئاً مماجاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ولو عمل به فقد كفر .. لقول تعالى { ذلك بأنهم كرهوا ما أنزال له فأحبط أعمالهم } [محمد : 9 ].
السادس : من استهزأ بشيء من دين الرسول صلى الله عليه وسلم أو ثوابه أو عقابه كفر .. والدليل قوله تعالى : { قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزؤون * لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم } [التوبة 65 –66 ].
السابع : السحر .. ومنه الصرف ( وهو أن يعمل لأحد الزوجين ما يبغضه في الآخر ) والعطف ( وهو أن يعمل لأحد الزوجين ما يحببه في الآخر ) .. فمن فعله أو رضي به كفر .. والدليل قوله تعالى : { وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر } [البقرة : 102] .(12/49)
الثامن : مظاهرة المشركين ومعاونتهم على المسلمين .. والدليل قوله تعالى { ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين } [المائدة :51].
التاسع : من اعتقد أن بعض الناس يسعه الخروج عن شريعة محمد صلى الله عليه وسلم كما وسع الخضر الخروج من شريعة موسى عليه السلام .. وكما يعتقد بعض الصوفية أنهم تسقط أنهم التكاليف الشرعية .. – فهو كافر لقوله تعالى : { ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين } [آل عمران :85] .
العاشر : الإعراض عن دين الله .. لا يتعلمه ولا يعمل به .. والدليل قوله تعالى : { ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه ثم أعرض عنها إنا من المجرمين منتقمون } [السجدة:22 ].
* * * * * * * * *
وقفة :
إن الجريمة الكبرى .. والداهية العظمى ..أن يترك المرء الصلاة ..
فتاركو الصلاة هم أنصار الشيطان .. وأعداء الرحمن .. وخصوم المؤمنين .. وإخوان الكافرين ..
الذين يحشرون مع فرعون وهامان ..ويتقلبون معهم في النيران ..
وقد قال صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم : \"بين الرجل وبين الكفر أو الشرك ترك الصلاة \" ..
وصح عند الترمذي والحاكم عن عبد الله بن شقيق عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يرون شيئاً من الأعمال تركه كفر غير الصلاة ..
قال الشيخ ابن عثيمين : وإذا حكمنا على تارك الصلاة بالكفر .. فهذا يقتضي أنه تنطبق عليه أحكام المرتدين .. فلا يصح أن يُزوَّج .. فإن عُقد له وهو لا يصلي فالنكاح باطل .. وإذا ترك الصلاة بعد أن عُقد له فإن نكاحه ينفسخ ولا تحل له الزوجة .. وإذا ذبح لا تؤكل ذبيحته لأنها حرام .. ولا يدخل مكة .. ولو مات أحد من أقاربه فلا حق له في الميراث .. وإذا مات لا يغسل ولا يكفن ولا يصلى عليه ولا يدفن مع المسلمين .. ويحشر يوم القيامة مع الكفار .. ولا يدخل الجنة .. ولا يحل لأهله أن يدعوا له بالرحمة والمغفرة لأنه كافر ..(12/50)
وحال تاركي الصلاة عند الموت أدهى وأفظع ..
ذكر ابن القيم :
أن أحد المحتضرين .. كان صاحب معاص وتفريط .. فلم يلبث أن نزل به الموت .. ففزع من حوله إليه .. وانطرحوا بين يديه .. وأخذوا يذكرونه بالله .. ويلقنونه لا إله إلا الله ..
وهو يدافع عبراته .. فلما بدأت روحه تنزع .. صاح بأعلى صوته .. وقال : أقول : لا إله إلا الله !!
وما تنفعني لا إله إلا الله ؟!! وما أعلم أني صليت لله صلاة !! ثمّ أخذ يشهق حتى مات ..
أمّا عامر بن عبد الله بن الزبير .. فلقد كان على فراش الموت .. يعد أنفاس الحياة .. وأهله حوله يبكون ..
فبينما هو يصارع الموت .. سمع المؤذن ينادي لصلاة المغرب .. ونفسه تحشرج في حلقه .. وقد أشتدّ نزعه .. وعظم كربه ..
فلما سمع النداء قال لمن حوله : خذوا بيدي ..!!
قالوا : إلى أين ؟ .. قال : إلى المسجد .. قالوا : وأنت على هذه الحال !! قال : سبحان الله .. !! أسمع منادي الصلاة ولا أجيبه .. خذوا بيدي .. فحملوه بين رجلين .. فصلى ركعة مع الإمام .. ثمّ مات في سجوده .. نعم .. مات وهو ساجد ..
وقال عطاء بن السائب : أتينا إلى أبي عبدالرحمن السلمي .. وهو مريض في مصلاه في المسجد .. فإذا هو قد اشتد عليه الأمر .. وقد بأت روحه تنزع .. فأشفقنا عليه .. وقلنا له : لو تحولت إلى الفراش .. فإنه أوثر وأوطأ .. فتحامل على نفسه وقال :
حدثني فلان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لا يزال أحدكم في صلاة ما دام في مصلاه ينتظر الصلوة .. فأنا أريد أن أقبض على ذلك ..
فمن أقام الصلاة .. وصبر على طاعة مولاه .. ختم له برضاه ..
كان سعد بن معاذ رضي الله عنه .. صالحاً قانتاً .. متعبداً مخبتاً .. عرفه الليل ببكاء الأسحار .. وعرفه النهار بالصلاة والاستغفار ..
أصابه جرح في غزوة بني قريظة..فلبث مريضاً أياماً ثم نزل به الموت..
فلما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم .. قال لأصحابه : انطلقوا إليه .. قال جابر :(12/51)
فخرج وخرجنا معه .. وأسرع حتى تقطعت شسوع نعالنا .. وسقطت أرديتنا .. فعجب أصحابه من سرعته .. فقال :
إني أخاف أن تسبقنا إليه الملائكة فتغسله .. كما غسلت حنظلة ..
فانتهى إلى البيت فإذا هو قد مات .. وأصحاب له يغسلونه .. وأمه تبكيه .. فقال صلى الله عليه وسلم : كل باكية تكذب إلا أم سعد .. ثم حملوه إلى قبره .. وخرج صلى الله عليه وسلم يشيعه .. فقال القوم : ما حملنا يا رسول الله ميتاً أخف علينا منه ..
فقال صلى الله عليه وسلم : ما يمنعه أن يخف وقد هبط من الملائكة كذا وكذا لم يهبطوا قط قبل يومهم .. قد حملوه معكم .. والذي نفسي بيده لقد استبشرت الملائكة بروح سعد .. واهتز له العرش ..
{ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا * خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا }
* * * * * * * * * *
ومن أكبر المعاصي .. منع الزكاة .. فهي الركن الثالث من أركان الإسلام ..
وفي صحيح مسلم أنه قال : ( ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي منها حقها، إلا إذا كان يوم القيامة صفحت له صفائح من نار، فأحمي عليها في نار جهنم، فيكوى بها جنبه وجبينه وظهره، كلما بردت أعيدت له، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضى بين العباد فيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار ) ..
وروى البخاري أنه قال : ( من آتاه الله مالا فلم يؤد زكاته مثّل له يوم القيامة شجاعا أقرع له زبيبتان يطوقه يوم القيامة ثم يأخذ بلهزمتيه – يعني شدقيه – ثم يقول: أنا مالك، أنا كنزك. ثم تلا النبي الآية: ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيراً لهم بل هو شر لهم سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة ) ..
* * * * * * * * * *
وأخيراً .. يا أخي الكريم .. وأختي الكريمة ..
يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به .. يغفر لكم من ذنوبكم ويجركم من عذاب أليم ..(12/52)
والله إني لك ناصح .. وهذا الحق قد تبين لك .. وعرفت أن الدين واحد لا يتعدد .. فهو الله لا إله إلا هو .. حي قيوم .. فرد صمد .. لا يرضى أن يشرك معه أحد ..
ولا تكن من أولئك الذين يقولون : ( إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون ) .. بل قل : إنا موحّدون طائعون متبعون ..
ولا تغتر بكثرة من يذبح عند القبور .. أو يشرك بالله عندها ..
ولا تأخذك كثرة الأحاجي والقصص التي ينسجها هؤلاء عن مقبوريهم .. أنهم يكشفون الكربات .. ويجيبون الدعوات ..
وانظر إلى أبي طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم .. الذي كان مصدقاً بأن النبي صلى الله عليه وسلم حق .. وأن الدين الحق هو الإسلام .. ونبذ عبادة الأصنام .. حتى إنه كان يردد دائماً قوله :
والله لن يصلوا إليك بجمعهم حتى أوسد في التراب دفينا
ودعوتني وعلمت أنك ناصحي فلقد صدقت وكنت فينا أمينا
وعرضت دينا قد عرفت بأنه من خير أديان البرية دينا
لولا الملامةُ أو حذارِ مسبة لوجدتني سمحاً بذاك مبينا
ولكن منعه من اتباع الحق .. خوفه من مخالفة الآباء والأجداد ..
بل انظر إليه .. وهو على فراش الموت .. شيخ كبير قد رق عظمه .. وضعف جسده .. وحانت منيته ..
والنبي صلى الله عليه وسلم واقف عند رأسه يدافع عبراته .. ويقول : يا عمّ قل لا إله إلا الله .. قل لا إله إلا الله ..
وعند رأسه قد وقف كفار قريش .. فكلما أراد أن يتلفظ بشهادة التوحيد قالوا له : أترغب عن ملة عبد المطلب .. أترغب عن ملة عبد المطلب ..
ولم يزل النبي صلى الله عليه وسلم يناشده أن يلفظ الشهادتين .. وهم يحثونه على البقاء على ملة آبائه وأجداده ..
حتى مات .. وهو على دين آبائه وأجداده .. على عبادة الأصنام .. والشرك بالملك العلام ..
مات .. وارتحل من هذا الدنيا ومقره إلى جهنم وبئس المصير .. والله قد حرم الجنة على الكافرين ..(12/53)
وفي الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم سئل فقيل له : يا رسول الله إن عمك كان يحوطك وينصرك فهل أغنيت عنه شيئاً ؟
فقال : نعم .. وجدته في غمرات من النار .. فأخرجته إلى ضحضاح من نار .. تحت قدميه جمرتان من نار يغلي منهما دماغه ..
* * * * * * * * *
بل .. انظر إلى محطم الأصنام .. وباني البيت الحرام .. إبراهيمَ عليه السلام ..
الذي ابتلي في مولاه..وعذب في سبيل الله..لا يستطيع يوم القيامة أن ينفع أباه..لأن أباه مات مشركاً بالله..
فعند البخاري : قال صلى الله عليه وسلم : يلقى إبراهيم أباه آزر يوم القيامة .. وعلى وجه آزر قترة وغبرة ..
فيقول له إبراهيم : ألم أقل لك لا تعصيني ؟! فيقول له أبوه : فاليوم لا أعصيك ..
فيقول إبراهيم : يا رب .. إنك وعدتني أن لا تخزني يوم يبعثون .. وأي خزي أخزى من أبي الأبعد ؟
فيقول الله : إني حرمت الجنة على الكافرين ..
ثم يقال : يا إبراهيم .. ما تحت رجليك .. فينظر فإذا هو بذيخ ( أي ذئب ) متلطخ ..
فيؤخذ بقوائمه فيلقى في النار .. فتنبه لهذا كله وتذكر ( يوم يفر المرء من أخيه * وأمه وأبيه * وصاحبته وبنيه * لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه ) .. ( يوم لا ينفع مال ولا بنون * إلا من أتى الله بقلب سليم ) ..
وكن رجاعاً إلى الحق .. ناصحاً لغيرك .. داعياً إلى التوحيد ..
أسأل الله للجميع الهدى والرشاد .. والله تعالى أعلم وصلى الله وسلم وبارك على رسول الله ..
كتبه / د. محمد بن عبد الرحمن العريفي
دكتوراه في العقيدة والمذاهب المعاصرة
arefe@arefe.com(12/54)
الآيات البينات
في عدم سماع الأموات
عند الحنفية السادات
تأليف
العلامة نعمان ابن المفسر الشهير محمود الآلوسي
(1252-1317)
حققه وقدم له وخرج أحاديثه وعلق عليه
محمد ناصر الدين الألباني
بسم الله الرحمن الرحيم
تقديم
الحمد لله، رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد النبي الامي الأمين، وعلى آله وصحبه الميامين، وكل من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد، فهذه هي الطبعة الثالثة من كتاب "الآيات البينات" للشيخ نعمان الآلوسي،(13/1)
رحمه الله تعالى، بتحقيقي وتخريجي، في ثوب جديد، زاهٍ مشيب، قام عليها الأخ الفاضل الأستاذ زهير الشاويش، جزاه الله خيراً، رغبة منا في توسيع دائرة نشره وتوزيعه في البلاد الإسلامية، بعدما تبين للعديد من أهل الفضل والعلم أهمية موضوعه، واحتياج الجماهير إلى الاطلاع عليه، لا سيما من كان منهم لا يزال يعيش في أوحال الجاهلية الأولى، من الاستغاثة بغير الله والاستعانة بالأنبياء والصالحين الأموات وغيرهم من عباد الله، متوهمين أنهم يسمعونهم حين ينادون، وأنهم على الاستجابة لهم قادرون، غير آبهين بما في القرآن الكريم والسنة الصحيحة من آيات بينات، ونصوص قاطعات، بأن الأموات لا يسمعون، وأنهم، لو فرض سماعهم، فإنهم لا يستجيبون، وصدق الله العظيم إذ يقول: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ * مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيز } ]الحج:73-74[. وقال: { ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ * إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ
وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ } ]فاطر:13-14[.
إلى غير ذلك مما شرحناه في مقدمة الكتاب شرحاً استفاد منه الكثير من المسلمين الطيبين، وهدوا بذلك إلى الصراط المستقيم، بعد أن كانوا في ضلال مبين، فله تعالى وحده الحمد والمنة على ما أنعم علينا وهدانا، وهدى بنا. { قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُنَا(13/2)
وَلا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ
لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ }
]الأنعام:71[.وهو سبحانه، المسؤول أن يجعلنا والمحبين لنا فيه، والسالكين معنا على كتابه وسنة نبيه من الذين قال عنه في قرآنه: { وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً
إِلَّا وُسْعَهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } ]الأعراف:43[.
هذا، وقد أجريت بعض التعديلات الطفيفة على بعض تعليقات الكتاب، على ضوء
ما كنت أشرت إليه في المقدمة، مما استفدته من النسختين البغداديتين من نسخ الكتاب،
كما أضفت إليها تعليقات أخرى وفوائد جديدة، ولكم تمنيت أن ألحق بالكتاب نفسه تلك الزيادات التي أشرت إليها ثمةَ مما في النسختين المشار إليهما، ووعدت فيها باستدراكها في طبعة أخرى إن شاء الله تعالى، ولكنني ــ مع الأسف ــ لم أتمكن من ذلك، لا في الطبعة الثانية، ولا في هذه الثالثة. أما في الثانية فلأنها طبعت على طريقة التصوير (الأوفست)، فهي
طبق الأولى إلا في مواطن يسيرة أمكننا ـــ بصعوبة ـــ تعديلها، كما ألمحت إلى ذلك هناك.(13/3)
أما في هذه الطبعة، الثالثة، فقدَّر الله أن أكون بعيداً عن مكتبتي وأصولي، بل وعن داري وأهلي؛ لأمور خارجة عن إرادتي، وقد شرحت ذلك في مقدمتي لكتاب "رفع الأستار لإبطال أدلة القائلين بفناء النار"، للإمام العلامة محمد بن إسماعيل الصنعاني(1) صاحب "سبل السلام" فالله تعالى أرجو أن يمكنني من القيام بالاستدراك المشار إليه في طبعة آتية إن شاء الله تعالى.
ذلك. وبينا أنا أعدُّ الكتاب وأهيَّه لهذه الطبعة الثالثة أهدى إليَّ أحد الشباب المؤمنين الذين تعرفت عليها هنا في بيروت كتيبا صغيراً، من تأليف متعصب من متعصبة الحنفية الحاسدين الحاقدين من أهل الشمال، خصه بالرد على السلفيين الداعين إلى اتباع الكتاب والسنة، وترك التعصب للأئمة، مسمياً كتيبه هذا بـ "أثر الحديث الشريف في اختلاف الأئمة الفقهاء رضي الله عنهم".
وهذا العنوان وحده ينبيك، أيها القارئ الكريم، عن مبلغ تقدير واضعه للحديث النبوي،
أما مضمونه فهو صد صريح عن اتباع الكتاب والسنة، ودعوة مكشوفة إلى الجمود على التقليد لإمام واحد من الأئمة وليس إلى اتباعهم والأخذ بما وافق السنة من أقوالهم، كما هي دعوتهم، التي كنت شرحتها في مقدمة كتابي "صفة صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم -" اعتماداً مني على أقوالهم وأقوال بعض من جاء بعدهم من أتباعهم. فأبى هذا الظالم لنفسه، والمخالف لأئمته، بلَه الكتاب والسنة، إلا إثارة العصبية المذهبية من جديد، تحت ستار دفع "سوء الظن بالأئمة
وتشويه سيرتهم العلمية والعملية، مع الترفع عليهم...".
__________
(1) : وأملنا بالله عزّ وجل أن ييسر للأخ الأستاذ زهير الشاويش طبعه قريباً إن شاء الله في مكتبه الإسلامي العامر.(13/4)
وكذب ـــ والله ـــ هو ومن وراءه فليس هناك مسلم يسيء الظن بالأئمة، ومقدمتي المشار إليها أكبر دليل على ذلك(1)، ولكن أمثال هؤلاء المتعصبة لا يخشون الله ولا يستحيون من الناس، ولذلك فهو في الحقيقة يرد على أناس لا وجود لهم، إلا في مخه، فإنه يصفهم تارة (بالمتطاولين المتعالين المنتهكين لحرمات السلف رغم الإنتساب إليهم وإنما هو الشرود والمروق)، وتارة (بالمتفردون المشوشون) وأخرى بـ (أدعياء الدعوة) ونحو ذلك من الافتراءات والأكاذيب المعروفة، عنهم يتهمون بها الأبرياء، ليضل بها المقلدون الأغبياء، وهم { َكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا } ]الفتح:26[. ولكن صدق المثل:(رمتني بدائها وانسلت).
وإذا أتتك مذمتي من ناقص فهي الشهادة لي بأني كامل
ولو أن هذا الرجل كان مخلصاً في رده، غير متعصب لمذهبه،- ولا أقول: لمذهب إمامه -
لنقل من "المقدمة" المشار إليها كلامي الذي يراه خطأ ورد عليه، وقارع الحجة بالحجة.
وحين ذلك يتبين الحق لكل ذي عينين.
__________
(1) :أنظر فصل "أقوال الأئمة في اتباع السنة وترك أقوالهم المخالفة لها".(13/5)
أما أن ينقل قولاً عن بعض الأئمة نحن نعتقد بها، من قبل أن يتمكن هو أن يسطر في العلم سطراً واحداً، ويوهم الناس أننا نخالفهم في ذلك، فهذا ليس شأن من يريد الحق بكتابته، وحسبك دليلاً هذا التعليق الذي سيأتي في الكتاب (ص38)، فإنك إذا قابلته بما أشرت إليه من النقول، يتبين لك جلياً أنها غير واردة علينا، بل نحن سبقناهُ إلى الأخذ بها، وغنانا الله عن أن نحتاج فيها إلى أحد من المقلدين المتعصبين العمي! ونقولاً أخرى لا علاقة لها بموضوع دعوتنا إطلاقاً لأننا بحمد الله إنما ندعو إلى اتباع الكتاب والسنة، مع احترام الأئمة، والاستفادة من علومهم، كما هو مصرح به في "المقدمة" وبعض ما ينقله إنما هي أقوال وشروط لم توضع من أئمة مجتهدين، وإنما من بعض أتباعهم المقلدين بإعترافهم، فهي لا تلزم أحداً منهم، أعني المقلدين لأن واجبهم إنما هو تقليد إمام مجتهد كما هو مصرح به في أصولهم، فكيف يُلزم بها، أو يصح أن تقام الحجة بمثلها على من يصرحون بوجوب اتباع الكتاب والسنة وإن خالف المذهب، بل إمام المذهب المجتهد؟!
وهنا نقطة هامة أرجو الإنتباه لها وهي: أن هذا المتعصب الهالك، لو كان يدعو من يفتري عليهم الأكاذيب، أن لا يخرجوا في اتباعهم عما اتفقت الأئمة ـــ جميعاً ـــ عليه من الأحكام، لكانت دعوته موضع تقدير واحترام، ذلك لأننا نحن الذين ندعو إلى هذا، ولكن بتوسيع
رحمة الله، واعتقاد أن العلم ليس محصوراً في أئمة أربعة، ولكنه هو إنما يدعو أن يظل كل مسلم في مذهبه الذي نشأ عليه، مهما كان دليل المذهب المخالف له قوياً لديه.
وقد يستغرب بعض القراء هذا، ولكن إذا اطلع على كلامه الصريح في ذلك فسيقول معي:
(إنا لله وإنا إليه راجعون)! قال (ص40):(13/6)
(فإذا كان ـــ السبكي قد حصل له هذا التردد ـــ وهو بهذه المنزلة في العلم ـــ فهل يجوز لمن هو دونه أن يتمسك بظاهر كلام الشافعي رضي الله عنه ويسرع إلى العمل بما صح من الحديث، مشوشاً على نفسه وعلى غيره من الناس، متظاهراً أنه يعمل بمقتضى قول إمام معتبر من أئمة المسلمين معتمدٍ عندهم، فلم ننكر عليه؟
أفلا يحق لنا أن نعتبر من واقع غيرنا فنثبت عند أقوال الإمام الذي يسر الله تعالى لنا
الإقتداء به منذ أول نشأتنا؟)!
هذا نص كلامه، وهو يذكرني بأحد الدكاترة من المتعصبين للمذهب الشافعي حيث كان يصرح بأنه يفخر أو يحمد الله، على أنه مقلد!(فاعتبروا يا أولي الألباب).
وظني أن هذا المقلد وذاك، على ما بينهما من الخلاف في الأصول والفروع، إلا في التقليد الأعمى، فهما يلتقيان في التمسك به والدعوة إليه، يجهلان أو يتجاهلان أن (المقلد) يساوي عند العلماء: الجاهل، ولذلك نصوا على أنه لا يجوز أن يولى القضاء! بل قال بعض أئمة الحنفية المتقدمين، وهو العلامة أبي جعفر الطحاوي:(لا يقلد إلا عصبي أو غبي)!
فما حيلتنا مع اناس ندعوهم إلى اتباع الكتاب والسنة لنجوا بذلك من العصبية المذهبية، والغباوة الحيوانية، فيأبون علينا إلا أن يستمروا على عصبيتهم وغباوتهم! وليس هذا فقط، بل ويدعونا والناس جميعاً إلى أن نقلدهم لنصير ضالين أغبياء مثلهم!! وهنا أتذكر أن من السنة أن يقول المعافى إذا رأى مبتلى:(الحمد لله الذي عافاني مما ابتلاك به، وفضلني على كثير ممن خلق تفضيلاً)! ومما لا شك فيه أن المبتلى في دينه، أخطر من المبتلى في بدنه!
واعلم أيها القارئ الكريم ان ما ألزمنا به المقلد من الجهل والغباوة لازم له، إلا إذا استجاب لقوله تعالى: { فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ
الْآخِرِ } ]النساء:59[.(13/7)
فإن فعل في كل خلاف بينه وبين مذهبي أو سلفي، فقد صنع مثل صنعنا وانضم إلينا،
وخالف كل ما بنى عليه "كتيبه"، وذلك ما نرجوه له ولكل متعصب هالك، وإن لم يقبل
وقال: الآية المذكورة، الخطاب فيها موجه إلى أهل العلم ولست منهم، فقد لزمه ما ألزمناه،
بل الزمه العلماء، من الجهل والغباوة (وعلى نفسها جنت براقش)!
لقد غرر صاحب ذلك الكتيب بكثير من قرائه، حين نقل تلك النقول عن العلماء، مؤيداً بها دعوته للتعصب المذهبي، مع أنها ليست حجة فيما ذهب إليه كما ذكرنا، فإنه تعامى عن نقول أخرى عنهم، كنا ذكرناها في "مقدمة صفة صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم -" منها ما نقله الإمام النووي عن أبي عمرو بن الصلاح قال:(فمن وجد من الشافعية حديثاً يخالف مذهبه، نظر إن كملت آلات الاجتهاد فيه مطلقاً، أو في ذلك الباب أو المسألة، كان له الاستقلال بالعمل به، وإن
لم تكمل وشق عليه مخالفة الحديث بعد أن بحث فلم يجد لمخالفه عنه جواباً شافياً، فله العمل به، إن كان عمل به إمام مستقل غير الشافعي، ويكون هذا عذراً له في ترك مذهب إمامه هنا، وهذا الذي قاله حسن متعين. والله أعلم).
فهذا الإمام ابن الصلاح، يتكلم عمن لم تكتمل آلات الاجتهاد فيه، أمثال جماهير العلماء
اليوم، فقد أجاز له العمل بالحديث المخالف لمذهبه، إن كان عمل به إمام مستقل غير الإمام
الشافعي!
فنسأل الآن ذلك المتعصب الجائر، لماذا لم يتعرض لهذه المسألة التي أجازها الإمام ابن الصلاح وأقره الإمام النووي عليها، وهي التي نسميها نحن: (الاتباع) والتي لا يشترط فيها
ما يهول به المتعصب الجائر في كتيبه، تضييقاً منه لدائرة الإهتداء بهدي النبي - صلى الله عليه وسلم -، ونحن قد استشهدنا بها في منهجنا الذي وضعنا عليه كتابنا "صفة الصلاة"؟! أليس هذا من الأدلة الكثيرة على أنه هو الذي يضلل الناس ويصدق فيه (من حفر بئراً لأخيه وقع فيه)، كما صدق ذلك من قبل على شيخ له جائر!؟(13/8)
بل لماذا لم يتعرض للجواب عن ما هو أخطر عنده من كلام ابن الصلاح والنووي رحمهما الله تعالى، وأقوى لنا في اتجاهنا السلفي؟ ذلكم هو قولي عقب كلام ابن الصلاح:
(قلت:وهناك صورة أخرى لم يتعرض لذكرها ابن الصلاح، وهي فيما إذا لم يجد من عمل بالحديث فماذا يصنع؟
أجاب عن هذا تقي الدين السبكي في رسالة:"معنى قول الشافعي إذا صح الحديث فهو مذهبي" (ص103 ج3) فقال:
(والأولى عندي اتباع الحديث، وليفرض الإنسان نفسه بين يدي النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد سمع ذلك منه أيسعه التأخر عن العمل به؟ لا والله ...وكل واحد مكلف حسب فهمه). وتمام هذا البحث وتحقيقه تجده عند الإمام ابن القيم في "إعلام الموقعين عن رب العالمين"...وغيره.
هذه الكلمة هي القاصمة لظهر المتعصب الجائر، فلا جرم أنه لم ينقلها، مع أنه نقل عن السبكي ما ليس له علاقة بهذه الصورة، ولا بالتي قبلها، ليوهم الناس ان الإمام السبكي
لا يقول بهذا الذي نقلته عنه، مما يشهد لما عليه السلفيون من اتباع الحديث ولو خالف
المذهب بل المذاهب! فبماذا يتهم الناس من صنع صنيع هذا المتعصب الجائر؟
فقد وضح للقارئ الكريم أن هؤلاء المقلدة من أهل الأهواء، لأنهم يتظاهرون بالإحتجاج بأقوال العلماء وتقليدهم، وهم في الواقع يأخذون من أقوالهم ما يؤيدون به أهواءهم، ويعرضون عن أقوال من يخالفها منهم، ولو أنهم كانوا كالسلفيين، يأخذون بقول من كان الدليل معه،
لما كان هناك مجال للطعن فيهم، ونسبتهم إلى كتمانهم للعلم، الذي لا يجدونه إلا في أقوال من
يقلدونهم بزعمهم.(13/9)
وبعد، فإن مجال القول والرد على هذا المتعصب الجائر، وبيان ما في كتيبه من النقول الواهية، والآراء الكاسدة، والروايات الضعيفة والمتناقضات العجيبة، والأكاذيب المفضوحة، والاتهامات الجريئة، واسع حداً مما لا يناسب الخوض فيه هنا، خاصة في موضوع الاجتهاد والإتباع والتقليد، وقد أُلفَتْ في ذلك كتب كثيرة قديماً وحديثاً، فمن شاء أن يعرف الحق مما اختلف فيه الناس فعليه بمطالعتها، والإستفادة من العلم الوارد فيها، والاهتداء بنورها، مثل كتاب "الإعلام" المشار إليه آنفاً وإلا { وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ } ]النور:40[.
وقبل أن أختم هذه الكلمة، أريد أن أكشف القناع عن طبيعة بعض هؤلاء المتعصبة،
ألا وهي أنك تراهم من أجرأ الناس في محاربة السنة، إذا كانت عليهم، وفي هذه الحالة يتسترون وراء ادعاء التمسك بالمذهب، لأن في التمسك بالسنة طعناً في الأئمة وتجهيلاً! وهم كاذبون في ذلك. وهذا ما صنعه هذا المتعصب الجائر.
وأما كان إذا كان المذهب عليهم، وخلاف أوهامهم وتقاليدهم، وكانت هناك أحاديث
هي حجة لهم ولو على التوهم، ففي هذا الحال يتناسون حميتهم للتمسك بالمذهب،
ويتجاهلون كل ما قالوه من الطعن في أهل السنة والعاملين بها، وركنوا هم أنفسهم إلى العمل بالحديث، ولو خالف المذهب! وهذا ما فعله ذلك الرجل الحنفي الذي أشار إليه المؤلف رحمه الله في آخر الفصل الثاني من هذا الكتاب، وأنه كان يقول ويشيع: ان مذهب الحنفية سماع الموتى لقول إمامنا الأعظم: إذا صح الحديث فهو مذهبي! ورد عليه المؤلف وأيدناه،
بما تراه هناك (ص38).
وظني أن ذاك المتعصب الجائر وشيخه الأجأر، وسيده الآخر الصوفي، ومولاه النبيل(13/10)
الاعظمي زعم أنه قال له: أنا أوافق على ما قرأته عليَّ حرفياً!(1) سيكون موقفهم بالنسبة لهذه الرسالة، وما فيها من أدلة الكتاب والسنة، وأقوال أئمتهم الحنفية في عدم سماع الموتى، عين موقف ذلك الرجل الحنفي، الذي وضع قول الإمام إذا صح الحديث فهو مذهبي في غير موضعه، وسيردون كل تلك الأقوال، بله الكتاب والسنة بدون أي خجل! إتباعاً لأهوائهم!
نعرف هذا عنهم وعن أمثالهم الشيء الكثير، فهو الحق يقال، في أمر مريج، لا الكتاب والسنة يتبعون، ولا أئمتهم يقلدون، ومن كان في شك من هذا فإني أقوال لهم: { فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ } ]الانبياء:63[ عن عنوان هذا الكتاب فقط! وحينئذ لترون العجب العجاب، وينكشف الغطاء، ويتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود لكل ذي بصيرة ودين، { فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ } ]الرعد:17[.
وختاماً اعتذر إلى القراء الكرام، فقد طال بنا الكلام على كتيب ذلك المتعصب المقلد
الجائر، أكثر مما كنت اتصور، فإن الكلام ذو شجون كما يقولون، والمناسبة قد وجدت؛ للكشف عن جهل بعض الناس وظلمهم وبغيهم، واتباعهم لأخوانهم، { إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ
وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى } ]النجم:23[.
أسأل الله تعالى أن يبصرنا بعيوننا، ويهدي قلوبنا، ويرزقنا التقوى، ويجعلنا من { الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ }
]الزمر:18[، وأن لا يجعلنا كغيرنا من الضالين، الذين يصدق فيهم قول رب العالمين { فَإِنَّكَ
لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ * وَمَا أَنْتَ بِهَادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ
__________
(1) :أنظر كتبيه (ص5).(13/11)
إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ } ]الروم:52-53[.
وآخر دعوانا { أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } .
بيروت/ طلوع شمس الأربعاء يوم عرفة سنة
1401هـ الموافق/ 10/1981م
وكتب
محمد ناصر الدين الألباني
قوبل بالأصل وهو في يدي وبخطي ليلة النحر بعد صلاة العشاء من السنة المذكورة.
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله ، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شرك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد، فإن في سفرتي الأخيرة إلى (طابة)(1)، آخر محرم سنة (1398) ترددت مدة إقامتي فيها على مكتبة الجامعة الإسلامية ـــ على عادتي كلما سافرت إليها ـــ لدراسة
ما يتجمع فيها من نفائس المصورات، عن نوادر المخطوطات الحديثة وغيرها، المحفوظة في مختلف مكتبات بلاد الدنيا، وذلك بهمة وجهود فضيلة الشيخ عبد المحسن العباد، نائب رئيس الجامعة حالياً، ومن قبله فضيلة العلامة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز، الرئيس العام الآن لإدارات البحوث العلمية والإفتاء في المملكة العربية السعودية، جزاهما الله تعالى عن العلم والإسلام خيراً، ووفقهما وغيرهما من المسؤولين لمتابعة السير في هذا المشروع الهام العظيم، الذي يسهل العسير ويقرب البعيد، إلى العلماء والباحثين، والطلاب المجتهدين؛ أن يحققوا وينشروا من آثار سلفنا، ومؤلفات علمائنا ما لم ينشر بعد، إنه سميع مجيب.
__________
(1) :اسم مدينة النبي - صلى الله عليه وسلم -، سماها بذلك رب العالمين، كما في الحديث الصحيح: { إن الله سمى المدينة طابة } .رواه مسلم (4/112)،وفي حديث آخر سماها - صلى الله عليه وسلم -:(طَيْبَة)، رواه الشيخان، وهو مخرج في "سلسلة الأحاديث الصحيحة"
(218).(13/12)
هذا وقد استفدت من مصورات المكتبة المذكورة، فوائد جد كثيرة، فاطلعت بواسطتها على مصورات وبعض الأفلام لمخطوطات طالما كنت حريصاً على الاطلاع عليها، ودراستها، والتقاط فوائدها ودررها، وكان من ذلك هذه الرسالة القيمة التي أقدم بين يديها هذه الكلمة،
ألا وهي:"الآيات البينات، في عدم سماع الأموات، عند الحنفية السادات".
تأليف العلامة السيد نعمان ابن المفسر الشهير الجليل السيد محمود الآلوسي.
والوقع أنني لم أكن قد سمعت بهذه الرسالة من قبل، فلما وقعت عيني على عنوانها في بعض فهارس المكتبة، أخذ بمجامع قلبي، وظننت أنها رسالة هامة في موضوعها، فلما طلبتها ـــ مصورة ـــ لدراستها، وأخذ فكرة سريعة جامعة عنها، بدأت أُقلب صفحاتها، وأتأمل في سطورها وبحوثها، تأكدت مما كان بدا لي من أهميتها! فطلبت أن يصوروا لي نسخة عنها، لأتفرغ لدراستها دراسة دقيقة إذا رجعت إلى بلدي، ففعلوا جزاهم الله خيراً.
فما كدت أركب الطائرة عائداً إلى دمشق، حتى اهتبلتها فرصة، فاستخرجت الرسالة، وباشرت قراءتها سطراً سطراً، بروية وإمعان، مشيراً إلى المواطن التي تحتاج إلى تحقيق
أو تعليق، أو تخريج، فازددت تأكداً بأهميتها وإعجاباً بها، وامتلأت شعور اً بضرورة نشرها.
فلما اطمأننت في داري، واستقر فيها قراري، واسترحت قليلاً من وعثاء أسفاري، أقبلت عليها محققاً، معلقاً، مخرجاً، بقدر يسير من وقتي الذي تساعدني عليه صحتي، ومشاريعي الاخرى التي لا بد من الاستمرار فيها، والتي منها "صحيح الترغيب والترهيب" و"ضعيف الترغيب والترهيب" وتحقيق "الأحاديث المختارة" للضياء المقدسي، وغيرها. ولما تعمقت فيها قليلاً، تبين لي أنها مأخوذة عن نسخة سيئة جداً، وأنها غير مقابلة بأصل المؤلف رحمه الله ولا مصححة، وقد علمت من بعض الفهارس أن هناك في مكتبة الأوقاف في بغداد نسخاً عدة، وإحداها بقلم المؤلف نفسه، فكتبت إلى أحد إخواننا هناك ليرسل(13/13)
إلينا صورة عنها، فلما تأَخرت عني، مضيت في تحقيق المصورة التي عندي، معتمداً في ذلك
على المصادر التي نقل المؤلف عنها، إلا ما ندَّ عني منها، وبذلك تمكنت من تصحيح أكثر العبارات التي أصابها تحريف أو تصحيف أو سقط، بسبب خطأ الكاتب، وعدم المقابلة بالأصل. ولم أر فائدة كبرى في الإشارة إلى المواطن التي صححتها لكثرتها، إلا في بعض الأحيان، ولكني أشرت إلى الألفاظ والجمل التي كانت سقطت من الكاتب ثم استدركتها، بوضعها بين معكوفتين هكذا:] [ ، ونظرة سريعة في هذه المستدركات من القارئ اللبيب تدله على سوء النسخة التي قمت بتحقيقها، آملاً أن أكون وفقت إلى إخراجها وفق نسخة المؤلف رحمه الله تعالى أو قريباً منها، وفي طبعة لاحقة إن شاء الله نكون قد وقفنا على نسخته، وصححناها عليها، ولكل أجل كتاب، والله تعالى هو ولي التوفيق، والهادي إلى الصواب.
وقد أضفت إلى ذلك أني خرجت أحاديث الكتاب وآثاره، مبيناً صحيحها، وضعيفها، وموضوعها، كما هي عادتي في كل ما أُحققه من الكتب والرسائل، وعلقت عليه بعض التعليقات المفيدة، وبخاصة على المسائل والأقوال التي تعرض المؤلف لذكرها ولم يبد رأيه فيها. وترجمت للمؤلفين الذين نقل عنهم مباشرة أو بواسطة ترجمة موجزة، وضبطت أنسابهم، وجعلت لبعض مسائله عناوين جانبيه بين معكوفتين، تيسيراً للمراجعة، وكذلك وضعت له فهارس أربعة إتماماً للفائدة:
أ ـــ مصادر الكتاب وتعليقاته.
ب ـــ مباحث الكتاب ومسائله.
ج ـــ الأحاديث والآثار.
د ـــ الأعلام والرواة المترجمين.
وغير ذلك من الفوائد التي سيقف عليها القارئ إن شاء الله تعالى.(13/14)
هذا، وبينما أنا ماضٍ في طبع الكتاب، حتى إذا لم يبق منه إلا الملزمة السادسة، وهي قد وضعت على الآلة الطابعة، ألقي إلي ظرف كبير، فيه نسختان مصورتان منه، أرسلهما الأخ البغدادي الذي سبقت الإشارة إليه، جزاه الله خيراً، فسارعت إلى دراستهما، ومقابلة المصورة الأولى والمطبوع عنها بهما، فاستفدت منهما فوائد كثيرة، وزيادات غير قليلة، أضفت ما أمكنني منها إلى المطبوعة، ونبهت على ذلك في حدود الاستطاعة، كالزيادة التي في الصفحة (97ـــ 98) وغيرها.
وقد كنت ــ قبل ورود النسختين ــ صححت بعض الكلمات خلافاً للأصل ظناً مني أنها خطأ من الناسخ، ولدى المقابلة تبيَّنت أنها ليست منه، لأن النسختين مطابقتان له، فتركت ذلك على ما صححت؛ لعدم تيسر تصحيحه وفقاً للنسخ الثلاث مع التعليق بما يلزم عليه، ومن الأمثلة على ذلك ما في (ص16 سطر4)(1):(فإنهما تفيدان تحقيق عدم سماعهم؛ فإنه...) فهو في الأصول الثلاثة هكذا:(فإنه مفيدان تحقيق عدم سماعهم من أنه...)! وكقوله (ص19سطر12)(2):(والمذاهب الأخرى)، فهو في الأصول:(والمذاهب الآخرين)! وغير ذلك، وهو غير قليل.
وأغرب من ذلك كله وأعجب، أن آية أخذ الميثاق الآتية (ص86)(3)وقعت في الأصول الثلاثة هكذا: { قالوا:بلى شهدنا على أنفسنا أن تقولوا... } والآية هكذا بزيادة (على أنفسنا)! والظاهر أنها سبق قلم من المؤلف، فقد رأيته في إحدى نسختي بغداد بخطه رحمه الله، ثم تتابع عليها النساخ، دون أن ينتبهوا!
ومع ذلك فإن المصورتين البغداديتين أصلهما أقدم وأصح وأجمل خطاً من مصورتنا (الأصل)، كما يتبين ذلك جلياً للقراء من النماذج المصورة المعروضة في آخر هذه المقدمة، ونص خاتمة الأولى منهما:
__________
(1) :وفي هذه الطبعة (ص59 سطر 5).
(2) :وفي هذه الطبعة (ص61 سطر13).
(3) :و(ص109) من هذه الطبعة.(13/15)
(وقد كملت هذه الرسالة تأليفاً بتوفيقه عز وجل ـــ في يومين ـــ لسبع من شوال المكرم لسنة خمس وثلاثمائة وألف، على يد أفقر العباد واحوجهم إلى الله تعالى محمد صالح نجل المرحوم ملا حيدر، عفى (!) الله تعالى عنه وعن والديه والمسلمين آمين. تمت).
وتحت ذلك ما نصه:
(نجزت هذه الرسالة الشريفة كتابة على خط مؤلفها السيد نعمان أفندي المفضال في السادس والعشرين من شوال سنة 1305.
اللهم صلي على سيدنا محمد، وعلى آل سيدنا محمد، كما صليت على سيدنا إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد).
ونصها في الأخرى:
(وقد كملت هذه الرسالة تأليفاً بتوفيقه عز وجل ـــ في يومين ـــ لسبع من شوال المكرم لسنة
خمس وثلاثمائة وألف. وكان الفراغ من تحرير هذه النسخة يوم الأربعاء لسبع مضين من ربيع الثاني لسنة إحدى عشرة وثلاثمائة وألف، على يد الفقير إليه عز شأنه علي بن الحسن
الابرولي عفي عنهم أجمعين آمين).
وفي كل من النسخ الثلاث زيادات ليست في الأخرى، وسبب ذلك يعود إلى أن المؤلف رحمه الله ألَّف رسالته في مدة وجيزة وهي (يومان) كما تقدم آنفاً، فكان كلما بدا له رأي،
أو وقف على نص، ألحقه بالرسالة تارة بخطه، وتارة بخط ناسخها، وهذا أمر ظاهر في كل من المصورتين البغداديتين، ولقد كنت أود أن أضم كل هذه الزيادات في مطبوعتنا هذه مع التنبيه على ذلك في التعليق، وعزو كل زيادة إلى أصلها، ولكن لم يعد ذلك بالإمكان بعد أن انتهى طبع أكثر ملازمها، إلا شيئاً قليلاً، فقد أمكنني استدراكه، وهذه المقدمة على الآلة الطابعة، فلعلني أتمكن من استدراك ذلك كله استدراكاً تاماً في طبعة أخرى إن شاء الله تعالى(1).
واعلم أن هذه الرسالة وإن كان موضوعها في بيان حكم فقهي كما سترى، فذلك لا يعني
__________
(1) :لم أتمكن من ذلك في هذه الطبعة الثالثة مع الأسف، لكوني بعيداً عن مكتبتي وبيتي لأمور خارجة عن إرادتي. والله المستعان.(13/16)
ــ في اعتقادي ــ أنه لا علاقة لها بما هو أسمى من ذلك وأعلى، ألا وهو التوحيد وإخلاص العبادة لله وحده ودعائه تعالى دون سواه، ومن المعلوم أن الاعتقاد بأن الموتى يسمعون، هو السبب الأقوى لوقوع كثير من المسلمين اليوم في الشرك الأكبر، ألا وهو دعاء الأولياء والصالحين وعبادتهم من دون الله عز وجل، جهلاً أو عناداً، ولا ينحصر ذلك في الجهال منهم، بل يشاركهم في ذلك كثير ممن ينتمي إلى العلم، بل وقد يظن الجماهير أنه من كبار العلماء! فإنهم يبررون لهم ذلك خطابة وكتابة بمختلف التبريرات التي ما أنزل الله بها من
سلطان، والأحزاب الإسلامية كلها مع الأسف لا تعير لذلك اهتماماً يذكر، لأنه يؤدي بزعم
بعضهم إلى الاختلاف والتفرقة ! مع أنهم يعلمون أن الأنبياء إنما كان أول دعوتهم: { أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ } ]النحل:36[، وخيرهم من يسكت عن قيام غيره بهذا الواجب. ومن الظاهر أن ذلك الشيخ الذي ألف العلامة الآلوسي هذه الرسالة في الرد عليه كان منهم، ولذلك ثارت ثائرته حينما صرح المؤلف رحمه الله في درسه بأن الموتى لا يسمعون، لأنه يعلم أن ذلك ينافي ما عليه أولئك الجهال من المناداة للأولياء والصالحين، ودعائهم من دون الله
عز وجل. وفي ظني أن المؤلف رحمه الله ما ألف هذه الرسالة إلا تمهيداً للقضاء على هذه الضلالة الكبرى، ألا وهي الاستغاثة بغير الله تعالى، على اعتبار أن السبب الأقوى الموجب لها عند من ضل من المسلمين، إنما هو الاعتقاد بأن الموتى يسمعون، فإذا تبين أن الصواب أن الموتى لا يسمعون، لم يبق حينئذ معنى لدعاء الموتى من دون الله تعالى.(13/17)
فإني لا أكاد أتصور ــ ولا غيري يتصور ــ مسلماً يعتقد أن الميت لا يسمع دعاء داعيه، ثم هو مع ذلك يدعوه ومن دون الله يناديه، إلا أن يكون قد تمكنت منه عقيدة باطلة أخرى، هي أضل من هذه وأخزى، كاعتقاد بعضهم في الأولياء، أنهم قبل موتهم كانوا عاجزين، وبالأسباب الكونية مقيدين، فإذا ماتوا انطلقوا وتفلتوا من تلك الأسباب، وصاروا قادرين على كل شيء كرب الأرباب! ولا يستغربن أحد هذا ممن عافاهم الله تعالى من الشرك على اختلاف أنواعه، فإن في المسلمين اليوم من يصرح بأن في الكون متصرفين من الأولياء دون الله تعالى ممن يُسمونهم هنا في الشام بـ (المدَّرَّكين) وبـ (الأقطاب) وغيرهم، وفيهم من يقول:(نظرة من الشيخ تقلب الشقي سعيداً)! ونحوه من الشركيات.
قال العلامة السيد رشيد رضا في "تفسيره" (11/391) تحت قوله تعالى: { قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرّاً وَلا نَفْعاً إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ } ]يونس:49[.
(أي لكن ما شاء الله من ذلك كان متى شاء، لا شأن لي فيه؛ لأنه خاص بالربوبية دون الرسالة التي وظيفتها التبليغ لا التكوين...
وقد بلغ من جهل الخرافيين من المسلمين بتوحيد الله أن مثل هذه النصوص من آيات التوحيد لم تصد الجاهلين به منهم عن دعوى قدرة الأنبياء والصالحين حتى الميتين منهم على كل شيء من التصرف في نفعهم وضرهم مما يجعله الله تعالى من الكسب المقدور لهم بمقتضى سننه في الأسباب، بل يعتقدون أن منهم من يتصرفون في الكون كله، كالذين يسمونهم بالأقطاب الأربعة. وإن بعض كبار علماء الأزهر في هذا العصر يكتب هذا حتى في مجلة الأزهر الرسمية (نور الإسلام)! فيفتي بجواز دعاء غير الله من الموتى والاستغاثة بهم في كل
ما يعجزون عنه من جلب نفع، ودفع ضر.(13/18)
وألف بعضهم كتاباً في إثبات ذلك، وكون الميتين من الصالحين ينفعون ويضرون بأنفسهم، ويخرجون من قبورهم، فيقضون حوائج من يدعونهم ويستغيثون بهم! قال في "فتح البيان"(4/225-226) بعد نقله القول الأول في الاستثناء عن أئمة المفسرين وترجيحه ما نصه:
"وفي هذا أعظم وازع، وأبلغ زاجر، لمن صار ديدنه وهِجيَّراه المناداة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -،
أو الاستغاثة به عند نزول النوازل التي لا يقدر على دفعها إلا الله سبحانه، وكذلك من صار
يطلب من الرسول ما لا يقدر على تحصيله إلا الله سبحانه، فإن هذا مقام رب العالمين، الذي
خلق الأنبياء والصالحين وجميع المخلوقين، ورزقهم وأحياهم ويميتهم، فكيف يطلب من نبي من الأنبياء، أو ملَك من الملائكة، أو صالح من الصالحين ما هو عاجز عنه غير قادر عليه؟ ويترك الطلب لرب الأرباب، القادر على كل شيء، الخالق الرازق المعطي المانع؟! وحسبك بما في الآية من موعظة؛ فإن سيد ولد آدم وخاتم الرسل يأمره الله بأن يقول لعباده: { لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرّاً وَلا نَفْعاً } فكيف يَملكه لغيره؟! وكيف يملكه غيرهً ــ ممن رتبته دون رتبته، ومنزلته لا تبلغ إلى منزلته ــ لنفسه، فضلاً عن أن يملكه لغيره؟!
فيا عجباً لقوم يعكفون على قبور الأموات الذين قد صاروا تحت أطباق الثرى، ويطلبون
منهم من الحوائج ما لا يقدر عليه إلا الله عز وجل! كيف لا يتيقظون لما وقعوا فيه من الشرك، ولا ينتبهون لما حل بهم من المخالفة لمعنى (لا إله إلا الله)، ومدلول { قُلْ هُوَ اللَّهُ
أَحَدٌ } ]الاخلاص:1[؟! وأعجب من هذا اطلاع أهل العلم على ما يقع من هؤلاء(13/19)
ولا ينكرون عليهم، ولا يحولون بينهم وبين الرجوع إلى الجاهلية الأولى، بل إلى ما هو أشد منها، فإن أولئك يعترفون بأن الله سبحانه هو الخالق الرازق، المحيي المميت، الضار النافع، وإنما يجعلون أصنامهم شفعاء لهم عند الله، ومُقربين لهم إليه، وهؤلاء يجعلون لهم قدرة على الضر والنفع، وينادونهم تارة على الاستقلال، وتارة مع ذي الجلال، وكفاك من شر سماعه، والله ناصر دينه، ومطهر شريعته من أوضار الشرك، وأدناس الكفر، ولقد توسل الشيطان
ــ أخزاه الله ــ بهذه الذريعة إلى ما تقر به عينه، وينثلج به صدره؛ من كفر كثير من هذه الأمة المباركة { وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً } ]الكهف:104[، إنا لله وإنا إليه راجعون").
وقال السيد رشيد أيضاً تحت قوله تعالى: { ...دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ } ]يونس:22[:
(وفي هذه الآية وأمثالها بيان صريح لكون المشركين كانوا لا يدعون في أوقات الشدائد وتقطع الأسباب بهم إلا الله ربهم، ولكن من لا يحصى عددهم من مسلمي هذه الزمان بزعمهم لا يدعون عند أشد الضيق إلا معبوديهم من الميتين كالبدوي والرفاعي والدسوقي والجيلاني والمتبولي وأبي سريع وغيرهم ممن لا يحصى عددهم، وتجد من حملة العمائم الأزهريين وغيرهم ولا سيما سدنة المشاهد المعبودة الذين يتمتعون بأوقافها ونذورها من يغريهم بشركهم، ويتأوله بتسميته بغير اسمه في اللغة العربية كالتوسل وغيره.(13/20)
وقد سمعت من كثيرين من الناس في مصر وسورية حكاية يتناقلونها، ربما تكررت في القطرين لتشابه أهلهما وأكثر مسلمي هذا العصر في خرافاتهم، وملخصها:أن جماعة ركبوا البحر فهاج بهم حتى أشرفوا على الغرق، فصاروا يستغيثون معتقديهم، فبعضهم يقول:يا سيد يا بدوي! وبعضهم يصيح:يا رفاعي! وآخر يهتف:يا عبد القادر يا جيلاني!... الخ، وكان فيهم رجل موحد ضاق بهم ذرعاً فقال:يا رب أغرق أغرق، ما بقي أحد يعرفك). (11/338-339).
ثم ذكر في معنى الآية نحو ذلك عن الإمام الآلوسي والد المؤلف في "روح المعاني"، ثم قال الآلوسي:
(وظاهر الآية أنه ليس المراد تخصيص الدعاء فقط به سبحانه، بل تخصيص العبادة به تعالى أيضاً؛ لأنهم بمجرد ذلك لا يكونون مخلصين له الدين. وأياً ما كان فالآية دالة على أن المشركين لا يدعون غيره تعالى في تلك الحال، وأنت خبير بأن الناس اليوم إذا اعتراهم أمر خطير، وخطب جسيم، في بر أو بحر، دعوا من لا يضر ولا ينفع، ولا يرى ولا يسمع، فمنعم
من يدعو الخضر وإلياس، ومنهم من ينادي أبا الخميس والعباس، ومنهم من يستغيث بأحد
الأئمة، ومنهم من يتضرع إلى شيخ من مشايخ الأمة، ولا ترى أحداً فيهم يخص مولاه، بتضرعه ودعاه، ولا يكاد يمر له ببال؛ أنه لو دعا الله تعالى وحده ينجو من هاتيك الأهوال، فبالله عليك قل لي:أي الفريقين من هذه الحيثية أهدى سبيلا، وأي الداعِيَيْن أقوم قيلا؟ وإلى الله المشتكى من زمان عصفت فيه ريح الجهالة، وتلاطمت أمواج الضلالة، وخُرقت سفينة الشريعة، واتُّخذت الاستغاثة بغير الله للنجاة ذريعة، وتعذر على العارفين الأمر بالمعروف، وحالت دون النهي عن المنكر صنوف الحتوف).(13/21)
قلت: يشير العلامة الآلوسي رحمه الله إلى ما يلقاه الدعاة المصلحون في كل زمان ومكان من الشدة والمعارضة لدعوتهم الحق، بسبب فُشو الشرك والبدع في الناس من عامتهم، وشيوخ البدع من علمائهم، والمنافقين من حكامهم، { وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ } ]يوسف:21[.
هذا، وليس غرضي الآن أن أشبع الكلام في توحيد الربوبية والألوهية وما ينافيهما من الشرك والوثنية، فذلك أمر لا تتسع له هذه المقدمة، لا سيما وقد قام بذلك خير القيام، أئمة التوحيد وشيوخ الإسلام، كالإمام ابن تيمية، وابن قيم الجوزية، ومحمد بن عبد الوهاب، والصنعاني، والشوكاني وغيرهم من أولي الألباب، وإنما الغرض بيان ارتباط هذه المسألة "سماع الموتى" بنوع من أنواع الشرك، وأن القضاء عليه يكون بتحقيق أن الموتى لا يسمعون؛
فإني أعلم علم اليقين أن في المستغيثين بالأولياء والصالحين من لم يقم في نفوسهم ما تقدم بيانه
من الضلال الأكبر، ولكنهم لما كانوا يعتقدون أنهم يسعون كالأحياء، وكان من المسلَّم لديهم، مناداتهم والاستغاثة بهم في حياتهم، استجازوا ذلك بهم بعد موتهم! وقد رد الأئمة عليهم ما هو معروف لدى علماء المسلمين من أن الاستغاثة بهم في حياتهم ليست على اطلاقها وشمولها، وإنما هي بما يدخل تحت قدرتهم التي مكنهم الله تعالى منها، وليس من ذلك السعادة، والرزق والشفاء، وهداية القلوب، وغفران الذنوب، ونحوه مما هو متعلق بربوبيته سبحانه وتعالى، فطلب ذلك من الأولياء في حياتهم شرك وضلال أكبر، مخل بتوحيد الربوبية بَلَهَ الألوهية كما هو ظاهر، فكيف بذلك بعد موتهم، لا شك أنه أدهى وأمر.
وإني لأشعر ــ وقد بلغت في تسلسل هذا البحث العلمي إلى هذه النقطة الهامة ــ أنه لم يبق عند المستغيثين بغير رب العالمين شبهة تذكر إلا أن يقولوا:(13/22)
سلمنا بكل ما ذكرتهم، ولكن هل من مانع يمنع أن نطلب منهم ما كان بمقدورهم في الحياة الدنيا، كالدعاء مثلاً، فبدل أن نقول مثلاً:يا رسول الله أغثنا، أو اشفع لنا. نقول: ادع الله لنا أن يغيثنا، أو أن يشفعك فينا. ولا نقول:يا رسول الله اغفر لنا ذنوبنا، وإنما نقول:استغفر لنا ذنوبنا. بل إن هذا بعينه هو قصدنا نحن المستغيثين به - صلى الله عليه وسلم - أو بغيره من الأولياء والصالحين والطلب منهم وإن أسأنا التعبير! فقد جاء في الحديث: { .. تعرض علي أعمالكم؛ فإن رأيت خيراً حمدت الله، وإن رأيت شراً استغفرت لكم } (1)!
وجواباً عليه أقول:
إن سلمنا بأن ذلك هو القصد، فالطلب من أصله خطأ وضلال لا يجوز، بل يجب الامتناع
منه فوراً، وبيانه من وجهين:
الأول: أنه ينافي الإخلاص لله تعالى في دعائه وعبادته وحده، وفي ذلك آيات كثيرة صريحة
في النهي عن دعاء غير الله تعالى من الأولياء والصالحين كما سيأتي، وقد مضى بعضها، ومنها قوله تعالى: { قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ * وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ } ]سبأ:22-23[.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" (1/179-181) بعد ذكر هذه الآية وغيرها:
(ومثل هذا في القرآن كثير:ينهى أن يُدعى غيرُ الله، لا الملائكة ولا الأنبياء ولا غيرهم؛
__________
(1) * قلت:وهو حديث ضعيف كما حققته في "الأحاديث الضعيفة" (971-المجلد الثاني).(13/23)
فإن هذا شرك، أو ذريعة إلى الشرك، بخلاف ما يطلب من أحدهم في حياته من الدعاء والشفاعة؛ فإنه لا يفضي إلى ذلك؛ فإن أحداً من الأنبياء والصالحين لم يعبد في حياته وبحضرته، فإنه ينهى من يفعل ذلك بخلاف دعائهم بعد موتهم فإن ذلك ذريعة إلى الشرك بهم، وكذلك دعاؤهم في مغيبهم هو ذريعة إلى الشرك.
فمن رأى نبياً أو ملكاً من الملائكة وقال له:"ادعُ لي" لم يُفضِ ذلك إلى الشرك به بخلاف من دعاه في مغيبه، فإن ذلك يفضي إلى الشرك به كما قد وقع؛ فإن الغائب والميت لا ينهى من يشرك، بل إذا تعلقت القلوب بدعائه وشفاعته افضى ذلك إلى الشرك به، فَدُعي، وقُصد مكانُ قبره أو تمثاله أو غير ذلك، كما وقع فيه المشركون ومن ضاهاهم من أهل الكتاب ومبتدعة المسلمين.
ومعلوم أن الملائكة تدعو للمؤمنين وتستغفر لهم كما قال تعالى: { الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ
حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً
وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ } ]غافر:7[.
فالملائكة يستغفرون للمؤمنين من غير أن يسألهم أحد، وكذلك ما روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أو غيره من الأنبياء والصالحين يدعو ويشفع للأخيار من أمته هو من هذا الجنس، هم يفعلون
ما أذن الله لهم فيه بدون سؤال أحد.
وإذا لم يُشرع دعاءُ الملائكة لم يشرع دعاء من مات من الأنبياء والصالحين، ولا أن نطلب منهم الدعاء والشفاعة، وإن كانوا يدعون ويشفعون؛ لوجهين:
أحدهما: أن ما أمرهم الله به من ذلك هم يفعلونه وإن لم يطلب منهم، وما لم يؤمروا به
لا يفعلونه ولو طلب منهم، فلا فائدة في الطلب منهم.(13/24)
الثاني: أن دعاءهم وطلب الشفاعة منهم في هذه الحال يُفضي إلى الشرك بهم، ففيه هذه المفسدة، فلو قدر أن فيه مصلحة لكانت هذه المفسدة راجحة، فكيف ولا مصلحة فيه؛ بخلاف الطلب منهم في حياتهم وحضورهم، فإنه لا مفسدة فيه، فإنهم ينهون عن الشرك بهم. بل فيه منفعة، وهو أنهم يثابون ويؤجرون على ما يفعلونه حينئذ من نفع الخلق كلهم؛ فإنهم في دار العمل والتكليف، وشفاعتهم في الآخرة فيها إظهار كرامة الله لهم يوم القيامة).
وقال في موقع آخر (1/330-331):
(وكذلك الأنبياء والصالحون، وإن كانوا أحياء في قبورهم، وإن قُدَّر أنهم يدعون للأحياء، وإن وردت به آثار، فليس لأحد أن يطلب منهم ذلك، ولم يفعل ذلك أحد من السلف، لأن ذلك ذريعة إلى الشرك بهم وعبادتهم من دون الله؛ بخلاف الطلب من أحدهم في حياته؛ فإنه لا يفضي إلى الشرك؛ ولأن ما تفعله الملائكة ويفعله الأنبياء والصالحون هو بالأمر الكوني،
فلا يؤثر فيه سؤال السائلين؛ بخلاف سؤال أحدهم في حياته؛ فإنه يشرع إجابة السائل، وبعد
الموت انقطع التكليف عنهم).
والخلاصة: أن طلب الدعاء والشفاعة ونحو ذلك من الأنبياء والصالحين بعد موتهم
لا يجوز؛ لأنه شرك، أو ذريعة إلى الشرك، وهذا هو الوجه الأول من الوجهين الدالين على ذلك.(13/25)