فهرس المكتبة
منزلة السنة في التشريع الإسلامي
فضيلة الشيخ محمد أمان بن على الجامي
الرسالات السماوية التي كلف اللّه بها رسله المختارين من البشر، هي الرابطة بين السماء والأرض؛ ولقد كانت تلك الرسالات متحدة في أصولها، إذ كانت كلها تنادي أول ما تنادي {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} 1، ولكنها كانت متنوعة أو مختلفة في الشرائع والمناهج إذ كان كل رسول يُبعث إلى قومه، وبلسان قومه، على ضوء منهج معين، وتشريع خاص محدود واستمر الوضع هكذا، لحكمة يعلمها ربنا سبحانه، فترة طويلة من الزمن. ولما أراد الله أن يختم رسالته إلى أهل الأرض، اختار من بين عباده نبيه المصطفى، ورسوله المرتضى، محمد بن عبد الله، النبيّ العربي الهاشمي، ليرسله إلى الناس كافة، وقد خلقه الله لهذا الغرض، وربّاه تربية خاصة، وأولاه عنايته، وأدّبه فأحسن تأديبه، وبعد تمهيدات وإرهاصات مرّت عليه في طفولته وصباه، بعثه اللّه إلى الناس كافة، وأنزل عليه كتابه الأخير الذي ليس بعده كتاب ( القرآن الكريم )، وهو كتاب الله المهيمن على الكتب التي قبله، ووصفه بأنه كتاب{لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ} يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام، ويخرج به الناس من الظلمات إلى النور {وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}؛ وقد تكفل اللّه بحفظ هذا الكتاب {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} 2 ؛ ووكل تبيانه إلى رسوله الأمين محمد عليه الصلاة والسلام {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ}3 ، وشهد له أنه في بيانه هذا، وأداء أمانة الرسالة {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} ولما كان هذا شأنه، وهذه مكانته، أوجب اللّه طاعته، وحرّم معصيته، إذ يقول عز من قائل:{أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ}4، ويقول(1/1)
سبحانه، وهو ينفي عمن لا يحكمونه، أو يرون في أنفسهم حرجاً وغضاضة أو توقفاً عن حكمه، ولا يسلمون تسليماً كاملاً عن اقتناع، وانشراح نفس، يقول الله في حق هؤلاء:{فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً}5 ؛ هكذا تكشف هذه الآية الكريمة دعاة الإيمان – بالرسول، دون عمل بسنته ، أو رضىً بحكمه ؛ فالآية – كما ترون – تنفي عنهم الإيمان ، وتعريهم أمام الناس ، لئلا ينخدع ويظن، أن الإيمان بالرسول يتم بمجرد دعوى الإيمان ، والقول باللسان ؛ وتأتي في هذا المعنى آية أخرى، تهدد أولئك المدعين المخالفين عن أمره بالفتنة والعذاب الأليم:{فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}6 ، وقد فسر بعض أهل العلم الفتنة هنا، بالزيغ والإلحاد، لقاء رده لقول الرسول صلى الله عليه وسلم، إذا تكرر منه ذلك، والله أعلم؛ وبهذه الأساليب المتنوعة يدعو القرآن الناس إلى الإيمان بالسنة، والعمل بها، وأنها هي والقرآن، هما الأساس حقاً لهذا الدين. وإذا كان الإيمان بالرسول أصلاً من أصول الإيمان، فإن الإيمان بسنته، جزء لا يتجزأ عن الإيمان به، عليه الصلاة والسلام، لأنه صاحب السنة، ولأن الإيمان – كما يعرفه الإمام ابن القيم:" هو حقيقة مركبة من معرفة ما جاء به الرسول عليه الصلاة والسلام علماً، والتصديق به عقداً، والإقرار به نطقاً، والانقياد له، محبةً وخضوعاً، والعمل به ظاهراً أو باطناً، وتنفيذه، والدعوة إليه بحسب الإمكان ". وكما له في الحب في الله والبغض في الله ، والعطاء لله والمنع لله ، وأن يكون الله وحده معبوده ؛ والطريق إليه ، تجريد متابعة رسول الله صلى الله عليه وسلم ظاهراً وباطناً ، وتغميض عين القلب عن الإلتفات إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ،(1/2)
وبالله التوفيق . وبعد:فأنت ترى أن الإمام ابن القيم رحمه الله ، يجعل تجريد متابعة الرسول عليه الصلاة والسلام، طريقاً إلى حقيقة الإيمان . ولا غرابة في ذلك ، بل هو أمر منطقي، كما ترى؛ ولو أنك زعمت بأنك تحب العالم الفلاني وتقدره، وله في نفسك كل تقدير احترام ، ومع ذلك كنت لا تقدر كلامه، ولا تعيره اهتماماً، ولا ترفع رأساً لحديثه، فطبيعي أن يصارحك إنسان ما مالي أراك – يا فلان – تدعي محبة – العالم الفلاني – بل التفاني في حبه، ومع ذلك لا تعير أدنى اهتمام لكلامه وحديثه وعلمه ؟!! هذا تساؤل لابد منه، عقلاً ومنطقاً، ولست أدري ماذا يكون جوابك ؟!! هل تقول في الجواب: إنني في الواقع لا أكنّ له محبة، وإنما هي مجرد إدعاء لظروف ما، ولا أعني بالمحبة أكثر من ذلك ! ! أو تقول : إنني أحبه وأقدره حقاً، ولكن الهوى والشيطان، ولكن القرناء، ولكن الجفاء الذي أصاب قلبي. كل ذلك حال دون الانتباه لكلامه، والانتفاع بحديثه، والتأسي له؛ ولابد لك من أحد الجوابين فأي ذين تقدم وتختار؟!! فأحلاهما مرّ، والله المستعان، والأمر بالنسبة للرسول وسنته أعظم وأخطر وكيف لا ؟!! ، ونحن إنما عرفنا الله وآمنا به وعبدناه وحده، بدعوته التي بلغتنا في طيات سنته ، التي حملها إلينا الثقات من علماء الصحابة ومن بعدهم؛ الذين قيضهم الله لها، وأكرمهم بخدمتها، فبها بينوا القرآن وفسروه، وعلى ضوئها بنوا أحكام الشريعة حكماً حكماً. وقعدوا القواعد، وضبطوا الضوابط، التي يرجع إليها عندما تنزل نازلة، وتحدث حادثة ، وتجدّ الأمور .. وكل من يدعي الإيمان باللّه وبرسوله، ثم يتجرّأ فينكر سنة الرسول عليه الصلاة والسلام، أو ينكر حجيتها، أو إفادتها العلم اليقيني، إنما يتناقض تناقضاً، ويضطرب في كلامه إضطراباً، ويتخبط في تصرفه تخبطاً ؛ فليقرأ- إن شاء- قول الحسن البصري رحمه الله: " ليس الإيمان بالتمني ولا بالتخلي، ولكن ما وقر في القلب وصدقه العمل "، ولا عمل(1/3)
يقبل دون موافقة السنة " من عمل عملاً ليس عليه أمرنا، فهو رد" 7 وسوف تنجلي الحقائق ، يوم تبلى السرائر، والله المستعان . سوف ترى إذا انجلى الغُبار أفرس تحتك أم حمار وبعد هذه المقدمة القصيرة، نأخذ في الحديث في صلب الموضوع، مستعينين بالله وحده فنقول: المنزلة هي المكانة والمرتبة، والمراد بها هنا: المرتبة التي تشغلها السنة النبوية في باب التشريع، حيث لا يستغني عنها بوجه من الوجوه، إما مستقلة أو مبنية للكتاب، إذ لابد من عرض كثير من آيات الأحكام عليها، لتفسير المجمل، وتقيد المطلق، وتخص العام، إلى غير ذلك من الأغراض التي تحققها السنة، والدور الذي تمثله – إن صح مثل هذا التعبير . السنة في اللغة السنة في اللغة: هي الطريقة: سواء كانت محمودة أو سيئة، ويشهد لهذا المعنى، حديث جرير بن عبد الله البجلي: " من سنّ سنة حسنة، فله أجرها، وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة. ومن سنّ سنة سيئة، فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة " 8 رواه مسلم في صحيحه ؛ ومعنى الحديث : أي من أتى بخصلة حسنة، فله أجرها وأجر من تأسى به وعمل مثل عمله، لأنه الفاتح لباب الخير، والدال عليه بعمله؛ وكذلك الحال بالنسبة للسيئة، لأن من أتى بخصلة سيئة، وتأسى به غيره، فعليه وزرها ووزر كل من تأسى به بعده، لأنه فاتح لباب الشر، وداعٍ إلى الشر بفعله ومبادرته. ويقول أهل اللغة : السنة : السيرة، حسنة كانت أو قبيحة . السنة في لسان علماء الشريعة يختلف علماء الشريعة في معنى السنة اختلافاً لفظياً لا جوهرياً: فيطلق علماء الأصول لفظ السنة على أقوال الرسول عليه الصلاة والسلام وأفعاله وتقريره - وربما أطلقوها على أعمال الصحابة، كعمل أبي بكر وعثمان رضي الله عنهما في جمع القرآن، وعمل عمر رضي الله عنه في تدوين الدواوين ، ونحو ذلك ، وهو مذهب جماعة من أهل الحديث. وقد يطلق الفقهاء السنة على الطريق المسلوكة في الدين. في غير وجوب أو لزوم، ومن(1/4)
عباراتهم المعروفة في تعريف السنة: أن السنة ما يُثاب فاعله ولا يعاقب تاركه. ويطلق جمهور علماء الحديث، السنة على ما يقابل البدعة، فيقال: فلان على السنة، إذا كان عمله وتصرفاته الدينية، وفق ما جاء به رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، كما يقال: فلان على بدعة، إذا كان مخالفاً لهديه وسنته عليه الصلاة والسلام؛ ومن إطلاقات السنة عندهم أيضاً: أنها قد تشمل صفاته الحميدة، وأخلاقه الكريمة، وسيرته العطرة، ويمكن أن يشهد لهم على هذا الإطلاق، قول أم المؤمنين خديجة- رضي اللّه عنها " كلا واللّه، لا يخزيك اللّه أبداً: إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتقري الضيف، وتكسب المعدوم، وتعين على نوائب الحق " 9 . وكذلك ما كان عليه الصلاة والسلام، معروفاً بين قومه، حتى قبل مبعثه من الصدق والأمانة، لأن كل 10 ذلك يستفاد منه في إثبات نبوته عليه الصلاة والسلام، ورسالته، وهي مرادفة للحديث، كما ترى بهذا الاعتبار. حاجة الإنسان إلى الرسول والرسالة الإنسان، ذلك الحيوان المختار، ولكنه تحفه الشهوات، وتكتنفه متطلبات الغرائز، وتجتاحه الأهواء، وهو أشبه ما يكون بالمريض مثلاً، لا يجد سبيلاً للخلاص مما حل به من مرض، والفوز بالبرء والعافية، إلا بطبيب ناصح؛ فإن ائتمر بأمره فعزف عما تميل إليه نفسه، وامتنع عن الشهوات، ومتع ولذّات، سلم من الهلاك، وإلا فقد ألقى بنفسه إلى التهلكة، وهذا يعني: أن حاجة الإنسان إلى الرسول ورسالته، وما تشتمل عليه سنته أمسّ من حاجته إلى الطبيب والدواء - ويتضح ذلك بإجراء مقارنة ملموسة، بعيدة عن الفلسفة. وذلك أن غاية ما يصيب الإنسان، إن أعرض عن الطبيب، ولم يحيى قلبه بما فيها من الوحي الإلهي، كتاباً وسنة، فتعتريه الأسقام والآفات التي لا برء منها، ويموت قلبه ولا يرجى بعده الحياة، وتنضب ينابيع السعادة، وتغشاه أمواج غامرة متلاطمة من الشقاء والتعاسة، ويغادره اليقين، ولا تعود الحياة والسعادة إليه إلا بالعودة إلى(1/5)
نور الوحي والاستضاءة بنوره، والله المستعان. السنة صنو القرآن ويتضح مما تقدم، أن ملخص معنى السنة، ما أضيف إلى النبي صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير... وأن السنة من الوحي الإلهي:{ إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى، عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى}11. كما يدل على ذلك من السنة قوله عليه الصلاة والسلام: " ألا، وإني أوتيت القرآن، ومثله معه " 12 . فالسنة إذاً صنو القرآن، وهي وحي مثله، وملازمة له، ولا تكاد تفارقه، ولا يكاد القرآن يُفهم كما يجب أن يفهم، إلا بالرجوع إلى السنة في كثير من آياته، ولا سيما آيات الأحكام. معنى الوحي الوحي: هو الإعلام الخفي والسريع، ولذلك يطلقون على الرموز والإشارات الخفية أنها من الوحي، عند أهل اللغة! ومنه الإلهام: " وهو إلقاء المعاني الخاصة في النفس؛ والوحي إلى غير الأنبياء من هذا القبيل، كالوحي إلى النحل:{وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ}13، وأما في لسان الشرع: إعلام اللّه لأنبيائه بطريق خفية أخبار السماء، وما يريد أن يبلغه من التعليمات والتوجيهات والتشريع، بحيث يحصل لديهم علم، قطعي، لا يتطرق إليه أدنى شك، بأن ذلك من عند الله سبحانه، فيكون مصدر الوحي: هو اللّه وحده، فلا وحي إلا من الله ؛ ومورد الوحي هم الأنبياء ، فلا يكون الموحى إليه إلا نبياً، وهكذا يتضح أن المعنى الشرعي أخص من المعنى اللغوي كما ترى. أقسام الوحي إعلام الله لأنبيائه ما يريد إعلامهم، يكون بطرق ثلاثة، وقد أشار القرآن إلى هذه الطرق، حيث يقول عز وجل:{وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ}14 . أولاً : المراد بقوله تعالى {إِلاَّ وَحْياً}: الإعلام، الذي هو الإلهام: وهو إلقاء المعنى المراد في قلب نبي من أنبيائه، حتى يفهمه جيداً، ويقطع بأنه من عند الله . ثانياً : الكلام من وراء حجاب،(1/6)
كلاماً حقيقياً، يقطع بأنه سمع كلام ربه الذي كلمه كيف شاء، دون أن يراه، كما حصل لنبي الله وكليمه موسى عليه السلام في أول بدء الوحي، حيث قال:{نُودِيَ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا رَبُّكَ}15، حتى سمع سماعاً حقيقياً، ولكن دون رؤية؛ وكذلك عند مجيئه للميقات، حيث يقول الله سبحانه:{وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ}16؛ وقد حصل هذا النوع لنبينا محمد عليه الصلاة والسلام، ليلة المعراج، عندما فرض الله عليه وعلى أمته الصلوات الخمس، والقصة معروفة ولا حاجة لسردها. ثالثاً : إعلام الله لنبي من أنبيائه ما يريد تبليغه بواسطة الملك " جبريل "، وهذا النوع هو الغالب والأكثر وقوعاً، وقد كان جبريل يأتي النبي عليه الصلاة والسلام بأشكال وصور مختلفة، إذ كان يأتيه أحياناً، متمثلاً بصورة الصحابي الجليل (دحية الكلبي)، وربما جاء بصورة أعرابي، وقد رآه مرتين على صورته الحقيقية: مرة عند غار حراء، حيث كان يتحنّث قبل الوحي، ومرة عند سدرة المنتهى في ليلة الإسراء والمعراج؛ وقد لا يرى النبي عليه الصلاة والسلام الملك أحياناً، وإنما يسمع عند قدومه دوياً كدوي النحل، وصلصلة شديدة، فتعتريه حالة روحية غير عادية . تؤخذ هذه المعاني كلها أو بعضها، من حديث عروة عن عائشة رضي الله عنها، ذكره البخاري في صحيحه: " أن الحارث بن هشام، سأل رسول الله عليه الصلاة والسلام فقال: يا رسول الله كيف يأتيك الوحي؟ فقال رسول الله عليه الصلاة والسلام:" أحياناً يأتيني مثل صلصلة الجرس، وهو أشده عليّ، فيفصم عني وقد وعيت عنه ما قال؛ وأحياناً يتمثل لي الملك فيكلمني فأعي ما يقول "، قالت عائشة رضي الله عنها:" ولقد رأيته ينزل عليه في اليوم الشديد البرد، فيفصم عنه، وإن جبينه ليتفصد عرقاً ". ومما لا يختلف فيه اثنان دارسان للإسلام : أن ديننا مبني على أصلين اثنين : الأصل الأول : أن يعبد الله وحده دون أن يشرك به غيره بجميع أنواع(1/7)
العبادات، وقبل أن يصرف شيء منها لغير الله؛ وذلك معنى قول المؤمن: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . الأصل الثاني : أن يعبد الله بما شرعه على لسان رسوله وخليله محمد عليه الصلاة والسلام، وهو معنى قول المؤمن: وأشهد أن محمداً رسول الله، وصحة الأصل الأول تتوقف على تحقيق الأصل الثاني، ومعنى تحقيقه نوجزه في صدق متابعة رسول الله عليه الصلاة والسلام لأن إتباعه دليل محبة الله عز وجل، الذي محبته ومراقبته والأُنس به، غاية سعي العبد وكده، وهي أيضاً جالبة لمحبة الرب عبده ومغفرته له، إذ يقول عز من قائل:{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}17. وذلك لأنه رسوله المختار ليبلغ دينه الذي شرعه لعباده، وهو المبلغ عنه أمره ونهيه وتحليله وتحريمه، فالحلال ما حلله، والحرام ما حرّمه والدين ما شرعه وارتضاه، والرسول صلى الله عليه وسلم واسطة بين الله وبين عباده في بيان التشريع، وما يترتب عليه من وعده ووعيده، وتبليغ وحيه الذي اشتمل على ذلك كله قرآناً وسنة، وقد كلف بذلك تعالى:{يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ}18. وبقوله:{وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} 19. وقوله:{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِم}، وقوله:{ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}20 . إن هذه الآية من الذكر الحكيم، تبين بوضوح وظيفة الرسول عليه الصلاة والسلام، وهي القيام بواجب التبليغ، والبيان والدعوة إلى دين الله وإلى شرعه الذي شرعه الله تعالى لعباده وارتضاه لهم. وهذه الأوامر الربانية الثلاثة، التي تقدم ذكرها في طي الآيات السابقة،(1/8)
تحقق غرضاً واحداً، وهو دلالة الخلْق على الطريق الموصلة إلى الخالق سبحانه، وهو راض عنهم، حتى يكرمهم في دار كرامته، لقاء ما قاموا به من أداء ما أوجبه الله عليهم في هذه الدار، من تحقيق العبودية، ليصدق في حقه عليه الصلاة والسلام قوله تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}21، حقاً إنه رحمة مهداة، ونعمة مسداة للبشرية جميعاً، ولكن الشأن أن يرفع أتباعه رؤوسهم لدراسة سنته كما يجب، مكتفين بها، ليفهم كتاب الله على ضوئها، متجردين لها؛ تلك السنة التي هي ذلكم البيان، وذلكم البلاغ، وتلكم الدعوة . وبعد : فلا يشك مسلم مهما انحطت منزلته العلمية، وضعفت ثقافته، وضحلت معرفته أن الرسول الكريم، محمداً عليه الصلاة والسلام، بلغ ما نزل إليه من ربه، وهو القرآن الكريم، ذلك لأن الإيمان بأن الله نزّل القرآن على رسوله الذي اصطفاه محمد عليه الصلاة والسلام، وأنه بلّغ ما نزل إليه، كما نزل، وأنه بين للناس ما احتاج إلى بيان، وأجاب على أسئلتهم واستفساراتهم في موضوعات كثيرة، ودعاهم إلى الأخذ بما جاء به من ربه من الوحي، ولم يفْتُر عن الدعوة إلى ذلك حتى التحق بالرفيق الأعلى إن هذا المقدار من الإيمان، أصل هذا الدين، وأساسه الذي ينبني عليه كل ما بعده من واجبات الدين وفرائضه، وإذا كنا نؤمن هذا الإيمان – ويجب أن نؤمن – فأين نجد بيانه الذي يتحقق به، امتثاله عليه الصلاة والسلام لتلك الأوامر الربانية {بَلِّغْ} {لِتُبَيِّنَ} {ادْعُ} الجواب: نجد ذلك في سنته المطهرة، ولا نجد في غيرها، تلك التي قيض الله لها من شاء من عبادة، وهم جهابذة علماء المسلمين، فحفظوها وصانوها من كل مختلف، وكل معنى مزيّف ليصدق قوله تعالى : وقوله الحق وخبره المصدق:{ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}22، والذكر المنزل المحفوظ: هو القرآن بالدرجة الأولى، وقد حفظه الله بما شاء، وتدخل السنة في عموم الذكر في(1/9)
الدرجة الثانية عند التحقيق وإمعان النظر، وقد حفظها الله تعالى بأولئك الجهابذة العلماء، كما قلنا آنفاً، والسنة التي يتم بها ذلك البيان المطلوب: هي أقواله وأفعاله وتقريراته 23. السنة هي الحكمة وقد ذكر الله الحكمة في عديد من آيات الكتاب العزيز، مقرونة بالكتاب، ومما لا شك فيه أن المراد بالحكمة في تلك الآيات المشار إليها كلها: السنة النبوية. ومن تلكم الآيات قوله تعالى:{رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} 24، وقوله تعالى:س{لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَة}25 ، {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً}26 ، وقوله:{وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ} 27، وقوله سبحانه:{وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفاً خَبِيراً}28، والآيات في هذا المعنى كلها تعطف الحكمة على الكتاب عطفاً يدل على المغايرة طبعاً . يقول الإمام الشافعي رحمه الله: فرض الله على الناس اتباع وحيه وسنن رسوله عليه الصلاة والسلام. وقال رحمه الله في رسالته المشهورة:" فذكر الله الكتاب وهو القرآن، وذكر الحكمة، فسمعت من أرضاه من أهل العلم بالقرآن يقول:" الحكمة سنة رسوله " ثم قال الإمام رحمه الله معلقاً على هذا القول:" وهذا أشبه ما قال والله أعلم " ثم علل ذلك قائلاً:" لأن القرآن ذكر وتبعته الحكمة، وذكر الله منَّتَهُ على خلقه، بتعليمهم الكتاب والحكمة، فلم يجز- واللّه أعلم- أن يقال:(1/10)
الحكمة هاهنا غير سنة رسول اللّه، وذلك أنها مقرونة مع كتاب الله، وأنه افتراض طاعة رسوله، وحتم على الناس اتباع أمره، فلا يجوز أن يقال لقول فرض، إلا لكتاب الله، ثم سنة رسوله عليه الصلاة والسلام "، إلى أن قال : "وذلك لما وصفنا من أن الله جعل الإيمان برسوله مقروناً بالإيمان بالله وسنة رسوله، مبينة عن الله معنى ما أراد ثم قرن الحكمة بكتابه، واتبعها إياه، ولم يجعل لأحد من خلقه غير رسوله عليه الصلاة والسلام " 29. وقد نقل البيهقي عن الإمام الشافعي عدة نقول في هذا الصدد نختار منها الآتي : نبذة من كلام أهل العلم في مكانة السنة وثبوت حجيتها 1- قال البيهقي:قال الإمام الشافعي رحمه الله: " وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم على ثلاثة أوجه : أحدها : ما أنزل الله فيه نص كتاب، فشرح رسول الله عليه الصلاة والسلام بمثل نص الكتاب. الثاني : ما أنزل فيه جملة كتاب، فبين رسول الله عن الله معنى ما أراد بالجملة، وأوضح كيف فرضها عاماً أو خاصاً، وكيف أراد أن يأتي به العباد . الثالث : ما سنّ رسول الله عليه الصلاة والسلام مما ليس فيه نص كتاب، فمنهم من قال جعله الله له بما افتراض من طاعته، وسبق علمه من توفيقه لهن ورضاه أن يسنّ فيما ليس فيه نص كتاب، ومنهم من قال:لم يسنّ سنة قط إلا ولها أصل في الكتاب كتبيين عدد الصلاة وعملها على أصل جملة فرض الصلاة وكذلك ما سنّ في البيوع وغيرها من الشرائع، لأن الله تعالى ذكره قال:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ}30 وقال:{وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا}31، فما أحل وحرم، فإنما بين فيه عن الله، كما بين في الصلاة؛ ومنهم من قال:بل جاءته به رسالة الله، فأثبتت سنته بفرض الله تعالى؛ ومنهم من قال:كل ما سنَّ، وسنته هي الحكمة التي ألقيت في روعه من الله تعالى ". انتهى(1/11)
كلام الشافعي . وقال الشافعي في موضع آخر:" كل ما سنّ فقد ألزمنا الله تعالى اتباعه، وجعل اتباعه طاعته، والعدول عن اتباعه معصيته، التي لم يعذر بها خلقاً، ولم يجعل له من أتباع سنن نبيه مخرجاً " . قال البيهقي:" باب ما أمر الله به من طاعة رسوله عليه الصلاة والسلام، والبيان أن طاعته طاعته "، ثم ساق الآيات التالية:قال الله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً}32، قال عز من قائل:{مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ}33 إلى غيرها من الآيات البينات التي مضمونها أن طاعة رسوله هي طاعة له تعالى، وأن معصيته معصية له تعالى، ثم أورد البيهقي حديث أبي رافع قال: قال رسول رسول الله صلى اللّه عليه وسلم:" لا ألقينّ أحدكم متكئاً على أريكته يأتيه الأمر من أمري مما أمرت به أو نهيت عنه يقول: لا أدري؟!!! ما وجدنا في كتاب اللّه اتبعناه " أخرجه أبو داود والحاكم، ومن حديث القدام بن معدي كرب قال: إن النبي عليه الصلاة والسلام حرّم أشياء يوم خيبر منها الحمار الأهلي وغيره، ثم قال رسول اللّه عليه الصلاة والسلام: " يوشك أن يقعد رجل على أريكته، يتحدث بحديثي فيقول: بيني و بينكم كتاب اللّه، فما وجدنا فيه من حلال إستحللناه، وما وجدنا فيه من حرام حرمناه، ألا وإن ما حرّم رسول اللّه مثل ما حرم اللِّه "34، ثم قال البيهقي،: "وهذا خبر من رسول اللّه عليه الصلاة والسلام، عما يكون بعده من ردّ المبتدعة حديثه، فوجد تصديقه فيما بعد "؛ ويقول الإمام البيهقي في هذا الصدد:" ولولا ثبوت الحجة بالسنة، لما قال رسول اللّه عليه الصلاة والسلام في خطبته بعد تعليم من شهده أمر دينهم: " ألا فليبلغ الشاهد منكم الغائب، فرب مبلغ أوعى من سامع ". ثم(1/12)
أخرج البيهقي بسنده عن شبيب بن أبي فضالة المكي:" أن عمران بن حصين رضي الله عنه ذكر الشفاعة، فقال رجل من القوم: يا أبا نجيد، إنكم تحدثوننا بأحاديث لم نجد لها أصلاً في القرآن !! فغضب عمران فقال للرجل: قرأت القرآن كله؟!! قال: نعم. قال: هل وجدت فيه صلاة العشاء أربعاً، ووجدت المغرب ثلاثاً، و الغداة ركعتين، والظهر أربعاً، والعصر أربعاً ؟!! قال: لا. قال: عمن أخذتم ذلك ؟!! ألستم عنا أخذتموه؟ وأخذناه عن النبي عليه الصلاة والسلام ؟!! ثم قال: أوجدتم في القرآن من كل أربعين شاة، شاة ؟!! وفي كل كذا بعير، كذا، وفي كل درهم كذا؟!! " إلى آخر ذلك الحوار الحاد الذي أفحم فيه الصحابي الجليل ذلك السائل، الذي تجرأ فسأل ما ليس له، فاستحق التوبيخ والتأديب وفي الوقت نفسه، يدل على مدى ما يكنه سلفنا الصالح، من تقديرهم للسنة النبوية، والذود عنها، ومحبتها، وما من شك أن محبة سننه من محبته عليه الصلاة والسلام، ومحبته من أسس الإيمان، كما لا يخفى؛ والمحبة الصادقة، إنما تتمثل في الاهتمام بسنته علماً وعملاً، وتقديرها والإحتجاج بها، والذود عنها بكل سلاح ممكن ومتيسر. مكانة السنة عند الخلفاء السنة النبوية بعد ثبوتها وصحتها، تتمتع عند المسلمين، قديماً وحديثاً، بما يتمتع به القرآن الكريم من حيث وجوب العمل بها، والرجوع إليها عند التنازع، وترك الرأي من أجلها، فلنستمع قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه في هذا المعنى: إذ أخرج البيهقي بسنده عن عمر رضي الله عنه قوله وهو على المنبر:" يا أيها الناس : إن الرأي إنما كان من رسول الله مصيباً، لأن الله تعالى كان يريه، وإنما هو منا الظن والتكلف ". لهذا نرى عمر رجاعاً في كل ما يبلغه حديث رسول الله في حادثة ما، ونازلة علمية جديدة، لا علم له فيها بسنة ثابتة، وإذا ثبتت السنة بادر، دون أدنى توقف، إلى العمل بالسنة والرجوع إليها ومن شواهد ما ذكرنا ما يرويه ابن المسيب، أن عمر بن الخطاب رضي(1/13)
الله عنه، كان يقول:" الدية للعاقلة – ولا ترث المرأة من دية زوجها شيئاً، حتى أخبره الضحاك بن سفيان: أن رسول الله عليه الصلاة والسلام، كتب إليه أن يورث امرأة أُشيْم الضبابي، فرجع إليه عمر " أخرجه أبو داود35. ومنها ما أخرجه البيهقي عن طاووس، أن عمر قال:" أذكر الله امرءاً سمع عن النبي عليه الصلاة والسلام في الجنين شيئاً ؟ فقام حمل بن مالك بن النابغة فقال:" كنت بين جاريتين لي – يعني ضرتين – فضربت إحداهما الأخرى بمسطح، فألقت جنيناً ميتاً، فقضى فيه رسول الله عليه الصلاة والسلام بغرة "، فقال عمر: لو لم نسمع هذا لقضينا فيه بغير هذا، إن كدنا نقضي فيه برأينا ". يقول الإمام الشافعي وهو يعلق على هذه الأخبار، وموقف عمر من السنة: قد رجع عمر عما كان يقضي فيه، لحديث الضحاك بن سفيان، فخالف حكم نفسه، وقال في الجنين، إنه لولم يسمع هذه السنّة، لقضى فيه لغيرها، وقال:" إن كدنا نقضي فيه برأينا ". ومنها، ما أخرجه الشيخان من طريق ابن شهاب عن عبد الله بن عامر بن ربيعة، أن عمر خرج إلى الشام، فلما جاء " سَرْعْ " 36، بلغه أن الوباء قد وقع بالشام، فأخبره عبد الرحمن بن عوف، أن النبي عليه الصلاة والسلام قال:" إذا سمعتم به بأرضٍ، فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرضٍ، وأنتم بها فلا تخرجوا فراراً "، فرجع عمر من " سرع " قال ابن شهاب:" وأخبرني سالم بن عبد الله بن عمر، أن عمر إنما انصرف بالناس من حديث عبد الرحمن بن عوف ". ومنها ما أخرجه البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت:" لم يكن عمر أخذ الجزية من المجوس، حتى شهد عبد الرحمن بن عوف أن رسول الله أخذها من مجوس هجر ". هذا بعض ما أثر عن الخليفة الثاني عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وله مواقف أخرى كثيرة ومماثلة، وهو موقف كل صحابي من الخلفاء وغيرهم، وهاك بعض مواقف الخليفة الأول، أبي بكر الصديق، رضي الله عنه : عن قبيصة بن ذؤيب قال:" جاءت الجدة إلى أبي بكر الصديق، رضي الله(1/14)
عنه، لتسأله عن ميراثها، فقال لها أبو بكر: ما لك في كتاب الله شيء، وما أعلم لك في سنة نبي الله شيئاً، فارجعي حتى أسأل الناس، فسأل الناس، فقال له المغيرة بن شعبة: حضرت رسول اللّه عليه الصلاة والسلام، فأعطاها السدس، فقال أبو بكر: هل معك غيرك ؟ فقام محمد بن مسلمة الأنصاري فقال مثل ما قال، فأنفذه لها أبو بكر ". هكذا نتبين من هذا الإستعراض السريع لنصوص أهل العلم ومواقفهم في مختلف العصور، تلك النصوص التي لم نستوعب حتى ثلامَّها؛ نتبين أن الأمة مازالت، ولن تزال متفقة على أن السنة النبوية يجب أن تكون لها مقام معلوم في بيان الأحكام، وأنها حجة قائمة بنفسها، وأنه يجب الرجوع إليها، إذا ثبتت، ولا يجوز الحكم بالاجتهاد والرأي مع ثبوتها، وأنه قد ثبتت بها الأحكام، لولم يرد بها الكتاب، هذه من ناحية، ومن ناحية أخرى، أنها بيان للقرآن، وتفسير له، ومفصّلة ما أجمل فيه، وهذه المعاني كلها محل إجماع عند من يعتد بأقوالهم، ولا نعلم أحداً خالف هذه القاعدة إلا الزنادقة وغلاة الرافضة الذين لا يتأثر الإجماع بمخالفتهم، بل لا يستشارون إن حضروا، ولا يُسأل عنهم إذا غابوا، لأنهم فارقوا جماعة المسلمين ونابذوهم، واتبعوا غير سبيل المؤمنين، بمواقفهم العدائية لأصحاب رسول الله عليه الصلاة و السلام، ذلك الموقف الذي أدى إلى رد أحاديث رسول الله عليه الصلاة والسلام - المصدر الثاني للتشريع الإسلامي- بدعوى أنها رواية قوم كافرين؛ ومن باب ذر الرماد في العيون- عيون السذّج طبعاً- قالوا: نحن نعمل بالقرآن، ونقتصر عليه، وهذا كلام لا ينطلي على أولى النُهى من طلاب العلم، وأهل الإيمان، واللّه الموفق. لابد من الرجوع إلى السنة لفهم عديد من الأحكام إن الدارس لكتاب اللّه والسنة النبوية، ولا سيما آيات الأحكام، وأحاديث الأحكام، ليدرك تمام الإدراك أن للسنة دوراً هاماً، لا يستهان به في بيان الأحكام المجملة في القرآن الكريم، وهي التي تقيد(1/15)
المطلق، وتخصص العام، وتبين الناسخ والمنسوخ. الأمثلة إذا أردنا أن نسوق أمثلة للأحكام التي أجملت في القرآن، وبينتها السنة وفصلتها، وأمثلة أخرى للأحكام التي انفردت بها السنة ولا وجود لها في القرآن، لوجدنا الشيء الكثير في مختلف أبواب العبادات والمعاملات والحدود وغيرها. أولاً : باب الطهارة من الأحكام التي وردت في القرآن مجملة، وزادتها السنة بياناً وتوضيحاً، الوضوء والتيمم: ذكر الوضوء والتيمم في القرآن بنوع من التفصيل، إذ يقول الله تعالى، مخاطباً المؤمنين، الذين يريدون القيام إلى الصلاة:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} 37 . في هذه الآية الكريمة من سورة المائدة، بيّن اللّه تعالى صفة الوضوء، بنوع من التفصيل، إذ بيّن المغسول والممسوح من أعضاء الوضوء كما بين حد اليدين والرجلين، ثم ذكر التيمم، وأنه في الوجه واليدين دون سائر أعضاء الوضوء، كالرجلين والرأس مثلاً، إلا أن الحاجة إلى بيان السنة لا تزال قائمة، حتى مع هذا البيان الذي ترى: توضيح ذلك جاءت السنة بالبيان التالي: أ- إذا أخذ المتوضئ في الوضوء، يغسل كفيه ثلاث مرات، ثم يستنشق، ويستنثر، ويتمضمض ثلاث مرات . ب - بينت السنة بأنه يجوز للمتوضئ أن يغسل الأعضاء المغسولة مرةً مرةً، أو مرتين مرتين، أو ثلاث(1/16)
مرات، وهو الأكمل، كما يجوز له أن يغسل بعضها مرة وبعضها مرتين وبعضها الآخر ثلاثاً. ج - بنيت السنة الفعلية أن الرأس يمسح مرةً واحدة بكيفية معينة، وموضحة في السنة، بأن يبدأ من مقدم رأسه بيديه، ثم يذهب بهما إلى قفاه، ثم يردهما إلى حيث بدأ مرة واحدة، ولا يكرر مسح الرأس، وكذلك الأذنان لا يكرر مسحهما على الصحيح وبينت السنة أيضاً أنه لا يجب أن يأخذ لأذنيه ماءً جديداً، بل يمسحهما مع الرأس، وبالماء الذي أخذه للرأس، هذه صفة الوضوء على ضوء الكتاب والسنة معاً 38 . أما التيمم: فقد بين القرآن الكريم أن التيمم إنما هو في الوجه واليدين كما تقدم فيبقى أن نعرف حد اليد هنا، هل هي في التيمم مثلها في الوضوء، فيمسحهما إلى المرفقين؟!! وهل التيمم بضربة واحدة أو بضربتين ؟ تجيب السنة الصحيحة على هذين السؤالين، ولا جواب إلا في السنة !! إذ ثبتت فيها أن التيمم بضربة واحدة 39 . كما ثبت فيها أن حد اليدين هنا إلى مفصل الكف، هذا، وقد استطردت الآية الكريمة التي تحدثت عن الوضوء والتيمم، إلى حكم آخر بالمناسبة، وهو الطهارة من الجنابة حيث قالت:{وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا} هكذا أجملت الآية هذه الطهارة، فبينت السنة أنها طهارة بالماء إذا تيسر على الوجه التالي: يغسل أطرافه وما أصابه من القذر، ثم يتوضأ وضوءه للصلاة ، فيغسل رأسه ثم يعمم بدنه بالماء ، مع تخليل الشعر الكثيف، ليصل الماء إلى أصول الشعر، هذا إذا كان الماء متيسراً، أما إذا تعذر الماء، أو عند العجز عن استعماله، فيكفيه الصعيد الطيب، بأن يضرب الأرض بيديه، ويمسح وجهه وكفيه مرة واحدة، وكفى؛ هذا هو البيان الذي سجلته السنة، في هذه المسألة، رويناه بالمعنى، طبعاً، وهو مجمل في قوله تعالى:{وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا} . هكذا ننتهي من حديثنا عن الطهارة بإيجاز، وأرجو ألا يكون مخلاً، لننتقل بعد ذلك إلى الحديث عن الصلاة، وما قامت به السنة من البيان(1/17)
والإيضاح والتفصيل، تفصيلاً لم يرد مثله في الكتاب فهاك البيان : إن الصلاة هي الركن الثاني من أركان الإسلام، ورد ذكرها في القرآن هكذا:{أَقِيمُوا الصَّلاةَ} فكيف إقامتها يا ترى ؟!! فالسنة وحدها هي التي تجيب على هذا السؤال الهام، وقد علمنا في دراسة السنة أن الله أوجب الصلاة على رسوله وأتباعه، ليلة الإسراء والمعراج، حين عرج به عليه الصلاة والسلام، إلى حيث يسمع صريف الأقلام، أقلام الملائكة، وهم يكتبون ما أمروا بكتابته، فهناك خوطب النبي الكريم صلى الله عليه وسلم من قبل ربه ومولاه سبحانه، فأسمعه كلامه سبحانه، إلا أنه لم يمكنه من رؤيته، بل احتجب عنه بنوره سبحانه: " نور أنّى أراه " ، " حجابه النور " في تلك اللحظة العظيمة، أوجب الله عليه خمسين صلاة، فقبلها رسول الله، عليه الصلاة والسلام – فانصرف لينزل، إلا أن بعض إخوانه من أولى العزم (موسى) عليه السلام أوقفه، ونصحه ليراجع ربه ويسأله التخفيف، فرجع النبي صلى الله عليه وسلم إلى حيث كان عندما خاطبه ربه أولاً، فسأله التخفيف لأمته، فخفف الله عنهم بعض التخفيف، فتكرر السؤال والشفاعة، وتكرر التخفيف، إلى أن خفضت الصلاة من خمسين إلى خمس صلوات، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعاد إلى مكة بذلك الإيجاب الإجمالي، فبعث الله إليه رسوله جبرائيل فعلمه أفعال الصلاة، وعدد الركعات، وموضع السر والجهر في القراءة، كما علمه كيف يتطهر لها، هكذا بينت السنّة صفة الصلاة بالإختصار. الزكاة رابعاً: الزكاة: ولقد ورد في الكتاب العزيز الأمر بالزكاة إجمالاً دون تفصيل، شأن الصلاة، بقوله تعالى:{ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ}، {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} فتولت السنة بيان الأموال التي تجب فيها الزكاة وبيان الأنصبة، والمقدار المأخوذ من كل نصاب، إلى آخر البيان الشامل بأطراف هذا الركن العظيم، كما بينت السنة نوعاً من الزكاة يسمى زكاة الفطر أو صدقة الفطر،(1/18)
تؤدى في نهاية رمضان للمستحقين، وهي صاع من تمر أو صاع من شعير أو صاع من طعام، أو صاع من إقط . إلخ . الصيام خامساً: الصيام؛ وقد تناول ا لقرآن الكريم هذا الركن بنوع من التفصيل في قوله تعالى:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ، أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} إلى أن قال{فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} وقال في البيان نفسه:{وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ}، وبعد هذا التفصيل القرآني، الذي سمعت، تبقى هناك أحكام وردت بها السنة، وانفردت بها منها حكم من واقع امرأته في نهار رمضان وهو صائم، ما الذي عليه ؟!! منها من أكل وشرب ناسياً في نهار رمضان ماذا يفعل ؟!! ومنها حكم من لا يدع قول الزور والعمل به، وهو صائم، ما حجم ذنبه وهل صيامه صحيح أم باطل. وقد بينت السنة، كفارة الذي واقع امرأته في رمضان، كما بينت أن الذي أكل أو شرب ناسياً في رمضان فعليه أن يتم صيامه فإن اللّه هو الذي أطعمه وسقاه، وتصدق عليه صدقة لا تضر صيامه!! والسنة تنص على الذي لا يدع قول الزور والعمل به، وتنادي عليه، بأنه ليس للّه حاجة في أن يدع طعامه وشرابه، وقد قالت طائفة من أهل العلم، لا يستهان بها: أن الكذب وما في معناه، يفسد(1/19)
الصيام أخذاً من ظاهر الحديث المشار إليه، وهو حديث متفق على صحته؛ وإن خالفهم في ذلك جمهور أهل العلم، وتفصيل ذلك معروف في موضعه في كتب الفقه، وكل الذي نريد أن نقوله هنا، أن السنة ساهمت في بيان الأحكام حتى في هذا الموضوع الذي فصل فيه القرآن ذلك التفصيل، وهي ما يوضحه قوله عليه الصلاة والسلام:" أوتيت القرآن ومثله معه "، وهي السنة المطهرة، وقوله عليه الصلاة والسلام:" إن ما حرم رسول اللّه، كما حرم اللّه، وما أحله رسول اللّه، كما أحله الله " أو كما قال عليه الصلاة و السلام. الحج سادساً: الحج، ولو تركنا بحث الصيام لننتقل إلى الحج، لوجدنا القرآن الكريم، يعلن بوجوب الحج بقوله تعالى:{وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً}، وهي الآية التي نزل بها وجوب الحج، على الصحيح عند أهل العلم، ولم يكتف القرآن بإعلان وجوب الحج فقط، بل قد ذكرت عدة أحكام من أحكام الحج في سورة البقرة؛ كالإفاضة من عرفة، وذكر الله عند المشعر الحرام، وحكم من تعجل في يومين ومن تأخر إلى اليوم الثالث، والطواف بالبيت العتيق، وغير ذلك، فتولت السنة بيان بقية الأحكام التي لم يرد ذكرها في القرآن، وهي أحكام كثيرة جداً، وردت في أحاديث صحاح في مقدمتها حديث جابر بن عبد الله المعروف لدى طلاب العلم، ذلك الحديث الذي شرح بوضوح صفة حجة النبي عليه الصلاة والسلام، وقد ألف كثير من أهل العلم على ضوئه رسائل وكتابات في مناسك الحج بعد أن ضموا إليه أحاديث أخرى، اشتملت على أحكام، لا يستغني عنها، وهذا الباب من الأبواب التي استفاضت فيها السنة بالبيان والتوضيح، قولية أو فعلية، كما لا يخفى على طلاب العلم – فبالسنة عرفنا كيف نحرم ؟ وما الذي يحرم علينا بالإحرام ؟، وبها عرفنا كيف نطوف، وبها عرفنا السعي، وكيف نسعى: من أين نبدأ وإلى أين ننتهي ؟ وأين نقف يوم عرفة، وكيف ومتى ؟ إلى آخر أعمال الحج، ولست أدري كيف يحج ((1/20)
الهوائيون ) الذين سموا أنفسهم (بالقرآنيين) ما أضلهم ! وما أبعدهم عن الصواب !! وسيأتي الحديث معهم إن شاء الله. البيوع سابعاً : البيوع: إن السُنن التي وردت لبيان الأحكام المجملة في القرآن، أو التي انفردت بأحكام لم ترد في القرآن، ليست تنحصر في أبواب العبادات فحسب، بل للسنة دورها المعروف في جميع المباحث الفقهية من المعاملات والجنايات والحدود؛ ففي البيوع نجد الآية الكريمة تقول:{وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا} فإذا راجعنا السنة الصحيحة ، نجد أنواعاً من البيوع المنهي عنها بالسنة المطهرة : 1 - منها البيع على بيع أخيه والسوم على سوم أخيه المسلم . 2 - منها النجش 40. 3 - منها بيع الملامسة . 4 - منها بيع المنابذة . 5 - وبيع الحصاة . 6 - وبيع المزابنة، كما في حديث أنس عند البخاري . 7 - منها حكم بيع الشاة المصرّاة وما يترتب عليه . 8 - منها تلقي الركبان . 9 - ومنها بيع حاضر لبادي. وغيرها كثيرة، ومعروفة في مواضعها. من كتب السنة وكتب الفقه، من البيوع المشتملة على الغرر والجهالة، وكلها محرمة بالسنة، كما وردت في السنة في هذا الباب أحكام أخرى كثيرة، مثل خيار المجلس، وخيار الشرط وغيرهما من الأحكام . الحدود ثامناً: الحدود: أما في هذه الأبواب، فحدث دون تحفظ أو حرج عن السنن التي وردت بأحكام على وجه الانفراد، قبل أن يكون لها ذكر في القرآن، فلنأخذ مثالاً واحداً لنكتفي به، وهو حد السرقة : يقول الله تعالى في بيان هذا الحد في كتابه العزيز:{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} فلإقامة هذا الحد الذي أمرنا بإقامته، نحتاج إلى معرفة أمرين اثنين : أ – ما هو المقدار الذي إذا أخذه السارق تقطع يده؟ أي ما هو نصاب السرقة؟ فبينت السنة ذلك؟ إذ يقول الرسول عليه الصلاة والسلام:" لا قطع إلا في ربع دينار فصاعداً ". ب(1/21)
– ما حد اليد هنا ؟ هل هي من المنكب ؟ هل هي من المرفق ؟ أو هي من مفصل الكف ؟ والسنة الفعلية هي التي تجيب على هذه التساؤلات، إذ كانوا يقطعون من مفصل الكف هذا، ولو أردنا أن نسرد الأحكام التي أجملت في القرآن، وبينتها السنة – أو الأحكام التي انفردت بها السنة في جميع الأبواب الفقهية، لاحتاج المقام إلى سِفْر، فلنكتف بهذه الإشارة، وهي كافية لمعرفة مكانة السنة، ومنزلتها في التشريع الإسلامي، وهو ما أردناه والله ولي التوفيق. من هم أعداء السنة ؟!! على الرغم مما ذكر، ومما لم يذكر من الأدلة القطعية من الآيات الصريحة، والأحاديث الصحيحة، وآثار الصحابة، ومن بعدهم من أهل العلم . على الرغم من تلك الأدلة التي تصرخ بأعلى صوتها، بأن السنة صنو الكتاب، وأن السنة هي الحكمة المذكورة في القرآن في غير ما آية، وأنها من وحي الله، وأن ديننا يؤخذ من الكتاب والسنة معاً لا من كتاب وحده، على الرغم من كل ذلك، لم تسلم السنة من تهجم جهله المتفقهة، وعداء غلاة الرافضة والزنادقة، حيث زعمت الرافضة، وجوب الإستغناء بالقرآن عن السنة في أصول الدين وفروعه والأحكام الشرعية، لأن الأحاديث في زعمهم رواية قوم كفار، وذلك لأنهم كانوا يعتقدون أن النبوة إنما كانت لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه، وأن جبريل عليه السلام، أخطأ فنزل بها إلى محمد عليه الصلاة والسلام بدل أن ينزل بها إلى علي. وهذا الزعم يعني: أن أمر الوحي كان مضطرباً، ولا يصدر من تنظيم محكم من قبل رب حكيم سبحانه، وإنما يتخبط فيه ملك الوحي (جبريل)، وأن ملك الوحي نفسه ليس بمعصوم تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً. ومنهم من يقر للنبي - عليه الصلاة والسلام – بالنبوة، ولكنه يقول: إن الخلافة كانت حقاً لعلي – رضي الله عنه – فلما عدل بها الصحابة إلى أبي بكر رضي الله عنه، كفروا بذلك – في زعمهم – حيث جاروا وظلموا- في زعمهم- بعدولهم بالحق عن مستحقه، وبالتالي كفروا علياً، لعدم طلبه حقه،(1/22)
فبنوا على ذلك رد الأحاديث كلها، لأنها- عندهم في زعمهم - رواية قوم كفار، كما تقدم وهذه القاعدة الكفرية الواهية في نفس الوقت، هي أساسهم في رد أحاديث رسول اللّه عليه الصلاة والسلام، وأخيراً أطلق أتباع هؤلاء من المتأخرين على أنفسهم بأنهم (القرآنيون) أي العاملون بالقرآن، المستغنون به عن السنة، هذا تفسير كلمة (القرآنيون) حسب (رغبتهم)، ولكن التفسير المطابق لواقعهم، أنهم المخالفون للقرآن، المتبعون للهوى، وهذا أشبه بإطلاق كلمة (القدرية) على نفاة القدر، لأنهم في الواقع مخالفون للقرآن، خارجون عليه، كما خرجوا على السنة، لأن القرآن يدعوا الناس إلى الأخذ بالسنة إيجاباً وسلباً، إذ يقول الله تعالى:{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}، ولا يتم الإيمان بالقرآن، إلا بالإيمان الصادق بمن أنزل عليه القرآن، والإيمان به إنما يعني تصديقه في أخباره إتباع أمره ونهيه. وقد ذكر الإمام السيوطي في رسالته اللطيفة ( مفتاح الجنة في الإحتجاج بالسنة )، قاعدتهم هذه ثم قال مستهجناً ومستقبحاً:" ما كنت أستحل حكايتها لولا ما دعت إليه الضرورة من بيان أصل هذا المذهب الفاسد، الذي كان الناس في راحة منه من إعصار " إلى أن قال:" وقد كان أهل هذا الرأي موجودين بكثرة في زمن الأئمة الأربعة، وتصدى الأئمة وأصحابهم للرد عليهم في دروسهم ومناظراتهم وتصنيفاتهم " 41، ثم ساق من نصوص كلامهم الشيء الكثير، وقد سبق أن نقلنا من كلام أهل العلم من الصحابة ومن بعدهم، ما يكفي لمعرفة موقف أهل السنة من أحاديث رسول الله عليه الصلاة والسلام، وهو يتضمن تزييف كلام أهل البدع والهوى، ومن أراد المزيد فعليه بالرسالة المشار إليها، وقبلها رسالة الإمام الشافعي المعروفة، وغيرهما من المراجع المعتبرة في هذا الباب ولو أخذنا نستعرض الأبواب الفقهية التي تقوم بتنظيم حياة الناس في معاشهم مثل أبواب البيوع التي مررنا بها مراً(1/23)
سريعاً، بذكر بعض الأمثلة منها، ومثل باب التفليس والحجر، وباب الصلح والحوالة والضمان، وبحوث الشركات والوكالة والشفعة والقرض، ومبحث المساقاة والإجارة والهبة والعارية وغيرها، من أبواب الفقه، لو استعرضنا السنن التي تنبني عليها هذه الأبواب ومسائلها، لوجدنا أن السنة هي التي تنظم للناس حياتهم اليومية، لأن جميع المسائل الفقهية التي يتعامل بها الناس في معاشهم، ويرجعون إليها في محاكمهم، فمستندها إنما يكون إلى الكتاب أو السنة معاً، ولا يصح حكم أو قضاء لا مستند له منهما. أما الكتاب، فأكثر الأحكام التي وردت فيه من الأبواب المشار إليها، إنما كانت مجملة، وفصلتها السنة، وقد تكون أكثر تلك الأحكام لم يرد بها نص في الكتاب، وإنها انفردت بها السنة، كما أوضحنا فيما سبق، فكيف يزعم زاعم بعد هذا كله، الإستغناء عن السنة ؟!! ودعوى الإستغناء عن السنة هي في واقعها محاولة للإستغناء عن الإسلام، بأسلوب ملتوٍ، غير صريح، ويؤكد هذا ما سبق أن ذكرنا من أن أصل هذه المحاولة من الزنادقة، وغلاة الرافضة، الذين صرحوا بتكفير الصحابة، الذين هم سند هذا الدين، والذين نطق بهم القرآن وأثنى عليهم، من المهاجرين والأنصار؛ وتكفير هؤلاء السادة، إنما يعني تكذيب الله سبحانه في إخباره أنه رضي الله عنهم ورضوا عنه، وأنههم اتبعوا رسوله، النبي الأمي في ساعة العسرة. كما يتضمن تكذيب خبر الرسول عليه الصلاة والسلام في ثنائه عليهم، وشهادته لمجموعة كبير منهم أنهم من أهل الجنة، ومن تجرأ على مثل هذا التصرف، ووصل إلى هذه الدرجة، فعليه أن يراجع الإسلام من جديد، لأنه قطع علاقته بالإسلام بهذا التصرف، الذي يعتبر ردة عن الإسلام، والله المستعان. وقد حاول هؤلاء الزنادقة، إزالة السنة من الوجود، والقضاء عليها لو استطاعوا، أن يجعلوا وجودها وجوداً شكلياً فاقداً للقيمة، إلا أنهم لم يستطيعوا أن ينالوا منها شيئاً، وانقلبوا خاسرين ومهزومين، مثلهم(1/24)
كمثل الذي يحاول قلع جبل أحد مثلاً، فيحوم حوله، وفي سفحه، وينقل من أحجاره حجراً حجراً، ظناً منه أنه بصنيعه هذا يستطيع قلع الجبل وإزالته من مكانه، أو كالذي يغترف من البحر اغترافاً بيده أو بدلوه، محاولاً بذلك أن ينفد البحر أو ينقص؛ وما من شك أن هذا المسكين سوف تنتهي أوقاته ويحل أجله المحدود، والجبل جبل، والبحر بحر بل يبقى البحر ثابتاً في مكانه، يغوصه الغواصون من رجال هذا الشأن، ليخرجوا للناس اللآلئ والدرر من المسائل العلمية النافعة، كما يبقى الجبل ثابتاً وشامخاً، يصعده أصحاب الخبرة، ويترددون بين شعابه، ليعثروا على ما قد يخفى على غيرهم بين تلك الشعاب المتنوعة، التي لا يسلكها إلا الخواص، ليخرجوا بالمسائل الدقيقة، التي لا يفطن لها غيرهم – إذ لكل ميدان رجال . هذه نهاية محاولة الرافضة ومن يشابههم ويسير في ركابهم، وقد أراد المنكرون لأخبار الرسول عليه الصلاة والسلام، بناء على القاعدة الكفرية السابقة، أن يجدوا ما يتعلقون به أمام خصومهم من أهل السنة، وذهبوا يبحثون عن الأخبار والأحاديث التي تؤيد ما ذهبوا إليه، من قريب أو بعيد، وفي أثناء بحثهم، عثروا على كلام باطل بطلان مذهبهم ونصّه هكذا:" ما جاءكم عني فاعرضوه على الكتاب فما وافقه فأنا قلته، وما خالفه فأني لم أقله ". وطاروا به فرحاً، ولكنهم لم يستطيعوا أ ن ينفلتوا بحديثهم هذا من أيدي حراس السنة ولم تنم عنهم تلكم العيون الساهرة، حفظاً على السنة، بل عثروا على حديثهم ذاك، فأعلنوا أنه من أباطيلهم ودسائسهم، حتى عرفه الناس، فسجلوه في كتبهم، وأجروا له عمليتهم الخاصة، وفندوه وجرحوه، وعرّوه، حتى انكشف حاله، فلله الحمد والمنة. قال السيوطي في رسالته اللطيفة ( مفتاح الجنة ): ثم قال البيهقي:" باب بيان بطلان ما يحتج به بعض من رد السنة، من الأخبار التي رواها بعض الضعفاء، في عرض السنة على القرآن – قال الشافعي – رحمه الله : احتج عليّ بعض من ردّ الأخبار،(1/25)
بما روى أن النبي عليه الصلاة والسلام قال:" ما جاءكم عني فاعرضوه على الكتاب، فما وافقه فأنا قلته، وما خالفه فأنا لم أقله " فقلت له : ما روى هذا أحد يثبت حديثه في شيء صغير ولا كبير، وإنما هي رواية منقطعة عن رجل مجهول، ونحن لا نقبل مثل هذه الرواية في شيء " ا. هـ . قال البيهقي:" أشار الإمام الشافعي إلى ما رواه خالد بن أبي كريمة، عن أبي جعفر عن النبي عليه الصلاة والسلام، أنه عاد اليهود فسألهم، فحدثوه حتى كذبوا على عيسى عليه السلام، فصعد النبي المنبر، فخطب الناس:فقال:" إن الحديث، سيفشوا عني ، فما أتاكم يوافق القرآن فهو عني، وما أتاكم يخالف القرآن فليس عني " قال البيهقي: خالد مجهول، وأبو جعفر ليس بصحابي، فالحديث منقطع "؛ وقال الشافعي:" ليس يخالف الحديث القرآن، ولكن حديث رسول الله عليه الصلاة والسلام يبين معنى ما أراد خاصاً أو عاماً، وناسخاً ومنسوخاً، ثم يلتزم الناس ما سن بفرض الله، ممن قيل عن رسول الله عليه الصلاة والسلام، فعن الله قبل "، ثم ذكر السيوطي بقية كلام البيهقي حول الحديث، والله أعلم . تقديس الآراء أدى إلى الإعراض عن السنة وإذا كان الحامل للرافضة، والمخدوعين بهم على ذلك الموقف العدائي، هو ما تكتنفه نفوسهم الخبيثة من الأحقاد على أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام، والظن السيئ برسول الله عليه الصلاة والسلام، وعدم الإيمان به، الإيمان الصادق واعتقادهم في الملائكة عدم العصمة، وأخيراً عدم تقديرهم لرب العالمين حق قدره، إذ كان الحامل لهم هو هذه المعاني – فيا ترى ما الذي حمل بعض المتفقهة على هذا الجفاء والإعراض عن السنة، والوقوف منها موقف المستغني عنها ؟!! الجواب: الذي يبدو لي أن الذي حمل القوم على ذلك هو الغلو في تقديس آراء الرجال، واعتبارها ديناً يدان به لرب العالمين، وقد أدى بهم هذا الغلو إلى إساءة الظن بنصوص الكتاب والسنة، فزعموا أنها إنما تقرأ وتسمع لأجل التبرك بألفاظها(1/26)
فقط، لا للإهتداء بها بتطبيق الأحكام التي اشتملت عليها !! صحيح أنها نصوص مباركة حقاً، فكتاب الله كتاب مبارك { وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ}42 . وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام، مباركة أيضاً، وإذا ما تعلم المسلمون كتاب ربهم وسنة نبيهم، وعملوا بهما، محللين حلالهما، محرمين حرامهما، ومطبقين أحكامهما على حياتهم العامة والخاصة حصلت لهم بركة لا يتوقعونها، وقد حصلت لسلفهم يوم كانوا مؤمنين بهما حق الإيمان، أجل لو فَعَل المسلمون اليوم ذلك، لتغيرت حياتهم الجاهلية هذه، إلى حياة إسلامية مباركة، حياة الأمن والرفاهية، حياة الرحمة، يتمتعون فيها بالهيبة والمنعة والكرامة، يستردون فيها كل ما سلبوا من حقوقهم، المادية والمعنوية وتعود إليهم وحدة الصف، وينالون فيها النصر والغلبة، هذه هي البركة التي تتوقع من الإيمان بالكتاب والسنة، أما البركة التي معناها حصول الرزق الواسع للمنزل الذي يقرأ فيه القرآن الكريم، وصحيح البخاري، وأن ذلك المنزل سوف يسلم من الحريق، وتسلط العدو، ومفاجآت الثعابين وغير ذلك من حوادث الأيام، فتقول لهم: إن القرآن لم ينزل لهذا الغرض، ولا السنة أوحت إلى النبي بهذا الغرض، وعلى رسلكم – أيها القوم - !! وفي زعم هؤلاء (البركيِّين) : إن النصوص معزولة عن حياة المسلمين العامة والخاصة، وأن مصادر الأحكام هي آراء الرجال، وإليها المرجع، فعلى أهل كل مذهب أن يراجعوا آراء علماء مذهبهم، وإذا أرادوا معرفة حكم ما، وأن الدين كله هو ما في الكتب، التي هي عبارة عن ( مجمع ) آراء الرجال واجتهاداتهم واستحساناتهم وأقيستهم، وقد تقرأ بعض تلك الكتب، التي قد يعتبرها بعضهم ( موسوعة علمية ) من ألفها إلى يائها، ولا تكاد تمر بحديث واحد أو آية واحدة يستشهد بها المؤلف على حكم من الأحكام . قد يتهمني البعض بالمبالغة، إذا قلت إن هذا التعصب للمذاهب، هو الذي حال بين كثير من المسلمين وبين فهم السنة، كما يجب، وهو(1/27)
من أسباب تفوق المسلمين وتشتتهم، وبالتالي فهو من أسباب تخلف المسلمين، وتسلط أعدائهم عليهم، لأنهم خالفوا كتاب ربهم، الذي هو عزهم، وهو يناديهم بقوله:{وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا}43 حتى أصبحت الأمة الواحدة، كأصحاب ملل مختلفة، كل حزب بما لديهم فرحون، وقد صار لهذا التفرق الديني – إن صحّ التعبير – أثره السيئ في حياة الأمة الإجتماعية والسياسية، وإن ما تعيشه أمتنا – اليوم – من هذا التشتت الذي لم يسبق له مثيل، ومن التخاذل أمام أعدائهم، والهزائم المتلاحقة، والفجر عن إيجاد وحدة إسلامية، تجمع شتات هذه الأمة، كل ذلك من شؤم التعصب المذموم، الممزق للأمة، والله المستعان. وقد تحدث غير واحد من أئمة المسلمين، عن أضرار التعصب المذهبي، وأعراض كثير من الناس بسببه، عن الكتاب والسنة، والإستغناء عنهما بالآراء، واخترت لحديثي هذا نبذة من كلام الإمام ابن قيم الجوزية، ثم اتبعه إن شاء الله بكلام شيخه، شيخ الإسلام ابن تيمية رحمهما الله . قال الإمام ابن القيم في بعض كتبه:" لما أعرض الناس عن تحكيم الكتاب والسنة، والمحاكمة إليهما، واعتقدوا عدم الإكتفاء بهما وعدلوا إلى الآراء، والقياس، والإستحسان وأقوال المشايخ، عرض لهم من ذلك، فساد في فطرهم، وظلمة في قلوبهم، وكدر في أفهامهم، ومحق في عقولهم، وعمتهم هذه الأمور، وغلبت عليهم، حتى ربى فيها الصغير، وهرم عليها الكبير، فلم يروها منكراً، فجاءتهم دولة أخرى قامت فيها البدع مقام السنن، والنفس مقام العقل، والهوى مقام الرشد، والضلال مقام الهدى؛ والمنكر مقام المعروف، والجهل مقام العلم، والرياء مقام الإخلاص والباطل مقام الحق، والكذب مقام الصدق، والمداهنة مقام النصيحة، والظلم مقام العدل، فصارت الدولة والغلبة لهذه الأمور، وأهلها هم المشار إليهم، وكانت قبل ذلك لأضدادها ". ثم قال رحمه الله:" فإذا رأيت دولة هؤلاء قد أقبلت، ورايتها قد نصبت، وجيوشها(1/28)
قد ركبت، فبطن الأرض – والله – خير من ظهرها، وقلل الجبال خير من السهول، ومخالطة الوحوش أسلم من مخالطة الناس ". ثم قال وهو ينصح لمن وقع في هذا الأمر: "اشتر نفسك اليوم، فإن السوق قائمة، والثمن موجود، والبضائع رخيصة، وسيأتي على تلك السوق والبضائع يوم لا تصل فيه إلى قليل ولا كثير، ذلك يوم التغابن:{وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً} "44 ثم أردف قائلاً:" العامل بغير إخلاص، ولا اقتداء كالمسافر يملأ جرابه رملاً يثقله ولا ينفعه" ثم قال: في رصف المتعصبين:" وأكثر ما عندهم كلام وآراء خرص، والعلم وراء الكلام، كما قال حماد بن زيد: قلت لأيوب: العلم اليوم أكثر أو فيما تقدم ؟!! فقال: الكلام اليوم أكثر، والعلم فيما تقدم أكثر ففرّق هذا الراسخ بين العلم وبين الكلام، فالكتب كثيرة جداً، والكلام والجدال والمقدرات الذهنية كثيرة، والعلم بمعزل عن أكثرها، وهو ما جاء به الرسول عن الله، قال الله تعالى:{فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ}45 وقال:{وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ}46 وقال في القرآن:{أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ}47 أي ومعه علمه "؛ ثم واصل الإمام كلامه قائلاً:" ولما بعد العهد بهذا العلم، آل الأمر بكثير من الناس إلى أن اتخذوا هواجس الأفكار، وسوانح الخواطر والآراء، علماً، ووضعوا فيها الكتب، واتفقوا فيها الأنفاس، فضيعوا فيها الزمان، وملؤوا بها الصحف مداداً، والقلوب سواداً، حتى صرح كثير منهم، أنه ليس في القرآن والسنة علم، وأن أدلتهما لفظية لا تفيد يقيناً ولا علماً، وصرخ الشيطان بهذه الكلمة فيهم، وأذن بها بين أظهرهم، حتى أسمعها دانيهم لقاصيهم، فانسلخت بها القلوب من العلم والإيمان كانسلاخ الحية من قشرتها، والثوب من لابسه " إلى أن قال:" وقال لي بعض أئمة هؤلاء: إنما نسمع(1/29)
الحديث لأجل البركة، لا نستفيد منه العلم، لأن غيرنا قد كفانا هذه المؤونة، فعمدتنا على ما فهموه وقرروه، ولا شك أن من كان هذا مبلغه من العلم فهو كما قال القائل: نزلوا بمكة في قبائل هاشم ونزلت بالبطحاء أبعد منزل قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في وصف هؤلاء:" إنهم طافوا على أبواب المذاهب، ففازوا بأخس المطلب، ويكفيك دليلاً على أن هذا الذي عندهم ليس من عند الله ما ترى من التناقض والإختلاف، ومصادمة بعضه لبعض؛ قال تعالى:{وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً}48 وهذا يدل على أن ما كان من عنده سبحانه لا يختلف،وأن ما اختلف وتناقض، فليس من عنده، وكيف تكون الآراء والخيالات، وسوانح الأفكار ديناً يدان به، ويحكم به على الله ورسوله عليه الصلاة والسلام، سبحانه هذا بهتان عظيم وقد كان علم الصحابة الذي يتذاكرون فيه، غير علوم هؤلاء المختلفين الخراصين كما حكى الحاكم في ترجمة أبي عبد الله البخاري قال:" كان أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام إذا اجتمعوا إنما يتذاكرون كتاب ربهم وسنة نبيهم، ليس بينهم رأي ولا قياس ا.هـ." كلام شيخ الإسلام . وهذا لا يعني إنكار القياس كلياً، فمثل قياس العلة أمر لا مفر منه، والبحث معروف في موضعه. وبعد؛ هذا ما استحسنت أن أسجله في هذا المقام من كلام أهل العلم، للإستدلال على أهمية المقام وهو مقام جد خطير، كما ترى إذا انشغل جمهور المسلمين اليوم بتلكم الآراء تاركين نصوص الكتاب والسنة وراءهم مهجورة، وكأني بقائل يقول: إن المسلمين لم يهجروا كتاب ربهم ولم يهملوه، بل قد انتشرت في الآونة الأخيرة إذاعة القرآن الكريم في عواصم المسلمين، كما انتشرت مدارس تحفيظ القرآن في أكثر المدن، بل خصصت الجامعة الإسلامية، بالمدينة المنورة كلية للقرآن وعلومه المتنوعة، فكيف يقال: إن المسلمين قد هجروا القرآن، والحالة هذه ؟!! الجواب: إن ما ذكر واقع وهو عمل نافع(1/30)
جليل إن شاء الله، إلا أن المقدار ليس هو كل ما يجب على المسلمين نحو القرآن، بل كل ما ذكر إنما هي وسائل، ولا ينبغي الوقوف عند الوسائل، قبل الوصول إلى الغاية، لأن الغرض من إذاعة القرآن وحفظه ودراسة علومه هو المحافظة عليه كدستور للأمة يجب الحفاظ عليه، كما يجب الرجوع إليه في جميع مجالات الحياة، ولا يكفي أبداً أن يحفظ ويذاع فقط دون أن يتحاكم إليه في أي شيء، بل يجب أن يكون هو الحكم في كل شيء. واعتقاد خلاف هذا خطأ أو مغالطة، لأن عدم الإحتكام إليه مع الإحتكام غير ما أنزل الله يعتبر كفراً بالقرآن، وهجراً له؛ وهجر القرآن أنواع كثيرة، مع التفاوت بينها، يقول ابن القيم 49 :" هجر القرآن أنواع خمسة : أحدهما : هجر سماعه، والإيمان به، والإصغاء إليه. والثاني : هجر العمل به والوقوف عند حلاله وحرامه إن قرأه وآمن به. والثالث : هجر التحكيم والتحاكم إليه في أصول الدين وفروعه، واعتقاد أنه لا يفيد العلم اليقيني وأن أدلته لفظية لا يحصل لها العلم. والرابع : هجر تدبره وتفهمه، ومعرفة ما أراد المتكلم به منه. والخامس : هجر الإستشفاء به والتداوي به في جميع أمراض القلوب، وأدرانها فيطلب شفاء دائه من غيره ويهجر التداوي به. وكل هذا داخل في قوله تعالى:{وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً}50، وإن كان بعض الهجر أهون من بعض " ا.هـ. هذا ما عنيناه بهجر المسلمين كتاب ربهم وإهمالهم إياه، وكلام ابن القيم واضح شامل، ولا شك أن أخطر أنواع هجر القرآن، هو هجر تحكيمه والإستغناء بغيره، واعتقاد أنه غير صالح لحل مشكلات العصر، وما في هذا المعنى من العبارات الإلحادية التي يطلقها بعض الملحدين اليوم والتي تبني عن عدم الإيمان بالقرآن، وعدم الإعتبار به، إلا أنه آيات تتلى في بعض المناسبات وتأكيداً لما ذكرت، أنقل لكم ما قاله عن شريعة الإسلام مسئول عربي بدرجة ( وزير ) عندما سئل السؤال(1/31)
الآتي: " ما هو موقف حزب البعث من المنطق ذي الروح الإسلامية الذي تعرضه بعض الدول العربية المحافظة في نظرها للمشكلات العربية اليوم ؟!! أما زال الحزب محافظاً على نظرته العلمانية تجاهها ؟!!". هكذا نص السؤال . قال المسئول جواباً على هذا السؤال:" نحن نختلف مع الذين يظنون أن في الإسلام الخلاص من المآزق التي تقع فيها الأمة العربية، أما أولئك الذين يعملون على تنشيطه للحركات الإسلامية، والشريعة القرآنية فهم يحملون نظرة لا تتوافق معنا، ونحنُ لا نعتقد بهذه الأشياء ونحن بالتأكيد حزب علماني " إلى أن قال:" وفي هذه المرحلة التاريخية التي نعيشها، فنحن نعتقد أنه يجب علينا إيجاد طرق علمية للتطبيق أكثر من الأديان "51 وبعد . هذا ما آلت إليه قيادات الأمة الإسلامية في كثير من البلدان، وهو يحتم على طلاب العلم أن يكرسوا جهودهم في دراسة الكتاب السنة، ليسلحوا أنفسهم بسلاح العلم والمعرفة، ويؤهلوا بذلك أنفسهم للقيادة، بعد إتمام دراستهم، هادفين إصلاح ما فسد من أمر هذه الأمة المسكينة، التي وقعت فريسة الإلحاد الشيوعي، الذي أخذ يحلق بها من جميع الجهات، ليفسد عليها أمر دينها ويبعدها عن إسلامها وقرآنها وسنة نبيها صلى الله عليه وسلم، كما يجب عليهم أن يهدفوا إلى تغيير ذلك المفهوم السائد لدى كثير من الأوساط من أن دراسة شريعة القرآن، لا تؤهل الإنسان للقيادة والإصلاح، وحل مشكلات العصر وأن الذي يتولى القيادة، يشترط فيه أن يكون ( واشنطونيّ ) الفكر أو ( لندنيه )، وأن يكون ( باريسيّ )، الأخلاق أو ( رومانيّها ) وأخيراً أن يكون ( موسكوي ) العقيدة أو (بكينيّها)، وعلى طلاب العلم الديني أن يغيروا هذا التصور الملحد، ليبينوا للناس أن الدارس للإسلام وشريعة القرآن صالح للقيادة، بل يشترط فيمن يتولى قيادة الأمة الإسلامية أن يكون بعيداً من تلك المواصفات السابقة الذكر، بل يجب أن يؤمن بالله ربّاً ومعبوداً وبالإسلام ديناً ومنهجاً،(1/32)
وبالقرآن دستوراً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولاً وإماماً وأُسوة، وأن يكون ذا بصيرة وفقه في الدين، محمديّ الأخلاق والسلوك والعقيدة، وبالله التوفيق . إذا درسنا الكتاب والسنة بهذه الهمة، وعلم الله منا الصدق والإخلاص في ذلك سوف يوفقنا الله، ويكلل عملنا بالنجاح بإذنه، لأن الأمر كله له، ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، وهذا الضرب من الدراسة، نوع من الجهاد، فلير الله منكم الإخلاص، والصدق في جهادكم أيها الطلبة:{وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ}52؛ وكل الذي أريد أن أصل إليه أن تعلموا أن هدف الأهداف من دراسة هذا المنهج الذي تدرسونه في جامعتكم هذه، أن تخرجوا إلى العالم بعد إتمام دراستكم، لتساهموا في حركة البناء والإصلاح، لإيجاد مجمع مبني على أسس ثابتة، مأخوذة من دراسة الإسلام العظيم، وهي : 1- الرضى بالله رباً ومعبوداً، وحده الذي له الحكم وحده، والحكم حكمه، والأمر أمره، والخلق خلقه. 2- الرضى بالإسلام ديناً ومنهجاً وطريقاً إلى العزة والكرامة، وهو الذي فيه الخلاص من جميع المشكلات المعاصرة، رغم أنوف أولئك الذين زعموا أن الإسلام ليس فيه الخلاص من المشكلات، والخروج من المآزق:{كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً}53. 3- والرضى بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم رسولاً وقدوة وأُسوة وإماماً للمتقين، وهم المتبعون له. 4- والرضى بالقرآن الكريم دستوراً ومنهجاً للحياة الكريمة، حياة العز والشرف. 5- والرضي بالسنة النبوية كمصدر ثان من مصادر التشريع الإسلامي، يتوقف المصدر الأول على بيانه، في كثير من مواده وأحكامه. إن المجتمع الذي هذه أسس بنائه، هو المجتمع الإسلامي، وكل مجتمع يتخلف في بنائه مادة من هذه المواد وتغيب، فهو مجتمع جاهلي، رضي أو أبى؛ والله الهادي وحده . والله ولي التوفيق.
---(1/33)
1 الأعراف ، آية : (59) .
2 الحجر، آية: (9).
3 النحل، آية : (44) .
4 محمد ، آية : (33) .
5 النساء ، آية : (65) .
6 النور ، آية (63) .
7 رواه الإمام أحمد ، ومسلم عن عائشة رضي الله عنها .
8 رواه أحمد ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه عن جرير .
9 رواه الإمام البخاري .
10 الحديث والمحدثون – بتصرف .
11 النجم ، آية : ( 3 ، 4 ) .
12 أبو داود ، والترمذي ، وغيرهما .
13 النحل ، آية : (68) .
14 الشورى ، آية : (51) .
15طه ، آية : (12،11) .
16 الأعراف ، آية : (143) .
17 آل عمران ، آية : (31) .
18 المائدة ، آية : (67) .
19 النور ، آية : (54) .
20 النحل ، آية : (125) .
21 الأنبياء ، آية : (107) .
22 الحجر ، آية : (9) .
23 من تصحيح المفاهيم : محمد أمان .
24 البقرة ، آية : (29) .
25 آل عمران ، آية : (164) .
26 النساء ، آية : (113) .
27 البقرة ، آية : (231) .
28 الأحزاب ، آية : (34) .
29 مفتاح الجنة للسيوطي .
30 النساء ، آية : (29) .
31 البقرة ، آية : (27) .
32 الفتح ، آية : (10) .
33 النساء ، آية : (80) .
34 رواه أحمد وأبو داود والحاكم عن المقدام .
35 مفتاح الجنة للسيوطي .
36 قرية كانت بوادي تبوك في طريق الشام ( مفتاح الجنة للسيوطي ) .
37 سورة المائدة الآية 6 .
38 صفة الوضوء في البخاري .
39 قصة عمر بن الخطاب وعمار رضي الله عنهما .
40 هو أن تزيد في السلعة لتوقع غيرك، وليس لك حاجة في الشراء .
41 مفتاح الجنة للسيوطي .
42 الأنعام ، آية (92) .
43 آل عمران ، آية : (103) .
44 الفرقان ، آية : (27) .
45 آل عمران ، آية : (61) .
46 البقرة ، آية : (145) .
47 النساء ، آية : (166) .
48 النساء ، آية : (82) .
49 الفوائد .
50 الفرقان ، آية : (30) .
51 مجلة الجامعة الإسلامية – العدد الأول – العام 11 .
52 العنكبوت ، آية : (69) .
53 الكهف ، آية : (5) .(1/34)