من سب الصحابة ومعاوية
فأُمه هاوية
تأليف
الشيخ محمد بن عبد الرحمن المغراوي
---------------------------
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
إن الحمد للَّه ، نجمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضلَّ له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله .
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } (آل عمران:102) .
{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً } (النساء:1) .
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً } (الأحزاب:71 – 72 ) .
وبعد ... فإن أصدق الحديث كلام الله تعالى ، وخير الهدي ، هديُ محمد صلى الله عليه وسلم ، وشر الأمور محدثاتها ، وكل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار .
سبب التأليف :(1/1)
لما رأيت قوافل الرفض المشئومة ، وجراد العذا ب تحلّق في أجواء الدُّخان الناتج عن إحتراق مزابل من الجيَف ضاربة أقنابها في القدم وهي مستنقع روافده ، جمعت كل أجناس النجاسات والقاذورات ، ويطيب لكثير من الهوام العفنة ألا تتنفس إلا في هذه الأوحال ، وتبح في هذه البحار المحظورة التي حذَّر منها كل معافى ، فخفت على الشباب في بلاد المغرب الذي عافاه الله من هذه الكوارث التي حلَّت بغيره من بلاد المشرق وإن كان بعض مخلَّفات الرفض طار شررها الى هذا البلد وذلك بحكم التناسب الصوفي . وعادت المذاهب الهدامة تغير على البلاد التي في عافية من أمرها وسيَّما في غياب السُّنة وموت أهلها .
جمعت هذا الجزء المبارك لعلَّه يكون وقاية وحماية لشباب المغرب – خاصة – وباقي الشباب في بقية البلاد . والله أسال أن يجعل هذا العمل خالصاً لوجهه . وأن يكون شفاعة عند لقائه ؛ إنه سميع مجيب .
أبو سهل / محمد بن عبد الرَّحمن المغراوي
-----------------
تعظيم قدر الصحابة
أولاً : من القرآن الكريم
قال الله تعالى : {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْأِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} (الفتح:29)
قال إبن الجوزي رحمه الله تعالى : (( وهذا الوصف لجميع الصحابة عند الجمهور ))(1/2)
قال القرطبي رحمه الله : (( قوله تعالى : { وَعَدَ الله الَّذينَ ءامَنوا } أي : وعد الله هؤلاء الذين مع محمد وهم المؤمنون الذين أعمالهم صالحة { مَّغفرَةً وأَجراً عظيماً } أي ثواباً لا ينقطع وهو الجنَّة ، وليست " من " في قوله { منهم } مبعّضة لقوم من الصحابة دون قوم ، ولكنها عامَّة مجنسة مثل قوله تعالى : { فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ } (الحج:30) . لا يقصد للتبعيض ؛ لكنه يذهب الى الجنس ، أي فاجتنبوا الرجس من جنس الأوثان ، إذا كان الرجس يقع من أجناس شتى منها الزنا والربا وشرب الخمرة والكذب ، فأدخل "من" يفيد بها الجنس وكذا "منهم" أي : من هذا الجنس ، يعني جنس الصحابة .
وقال إبن إدريس رحمه الله : " لا آمن أن يكونوا قد ضارعوا الكفار- يعني الرافضة – لأن الله تعالى يقول : { ليَغيظَ بهمُ الكُفَّار } " تفسير إبن الجوزي " .
قال أبو عروة الزبيري رحمه الله : (( كنا عند مالك فذكروا رجلاً ينتقص أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقرأ مالك هذه الآية : {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْأِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ } (الفتح:29) .
قال مالك : من أصبح وفي قلبه غيظ على أصحاب محمد عليه السلام فقد أصابته الآية )) " رواه الخلال ، وأبو نعيم وذكره إبن الجوزي مختصراً في تفسيره .(1/3)
ونقل القرطبي هذا الأثر وعزاه للخطيب ثم قال : (( لقد أحسن مالك في مقالته وأصاب في تأويله فمن نقص واحداً منهم أو طعن عليه في روايته فقد ردَّ على الله رب العالمين ، وأبطل شرائع المسلمين)) " تفسير القرطبي " .
قال الله تعالى : { لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ }،{وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ } (الحشر: 8 ، 10 ) .
قال شيخ الإسلام رحمه الله في " منهاج " [ 2/18 – 19 ] : " وهذه الآيات تتضمن الثناء على المهاجرين والأنصار ، وعلى الذي جاءوا من بعدهم يستغفرون لهم ويسألون الله أن لا يجعل في قلوبهم غلاً لهم ، وتتضمن أن هؤلاء الأصناف هم المستحقون للفيء .
ولا ريب أن هؤلاء الرافضة خارجون من الأصناف الثلاثة ، فإنهم لم يستغفروا للسابقين الأولين ، وفي قلوبهم غلّ عليهم . ففي الآيات الثناء على الصحابة وعلى أهل السنة الذين يتولونهم ، وإخراج الرافضة من ذلك ، وهذا نقيض مذهب الرافضة .(1/4)
وقد روى ابن بطَّة وغيره من حديث أبي بدر عن سعد بن أبي وقاص قال : (( الناس على ثلاث منازل ، فمضت منزلتان وبقيت واحدة ، فأحسن ما أنتم عليه كائنون أن تكونوا بهذه المنزلة التي بقيت ، ثم قرأ : { لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً } (الحشر:8) . هؤلاء المهاجرون وهذه منزلة قد مضت . ثم قرأ { وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالْأِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ } (الحشر:9) . ثم قال هؤلاء الأنصار وهذه منزلة قد مضت .ثم قرأ :
{ وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ } (الحشر:10) . فقد مضت هاتان وبقيت هذه المنزلة ، فأحسن ما أنتم عليه كائنون أن تكونوا بهذه المنزلة التي بقيت أن تستغفروا الله لهم .
قال ابن أبي العز رحمه الله : (( فمن أضل ممن يكون في قلبه غلٌّ على خيار المؤمنين وسادات أولياء الله تعالى بعد النبيين ؟ بل قد فضلهم اليهود والنصارى بخصلة ، قيل لليهود : من خير أهل ملتكم ؟ قالوا : أصحاب موسى ، وقيل للنصارى : من خير أهل ملتكم ؟ قالوا : أصحاب عيسى ، وقيل للرافضة : من شر أهل ملتكم ؟ قالوا أصحاب محمد !! لم يستشنوا منهم الا القليل ، وفيمن سبُّوهم من هو خير ممن استثنوهم بأضعاف مضاعفة )) " شرح الطحاوية [ 470 ] " .(1/5)
قال الشوكاني رحمه الله : (( أمرهم الله سبحانه بعد الاستغفار للمهاجرين والأنصار أن يطلبوا من الله سبحانه أن ينزع من قلوبهم الغل للذين آمنوا على الإطلاق ، فيدخل في ذلك الصحابة دخولاً أولياً لكونهم أشرف المؤمنين ، ولكون السياق فيهم ، فمن لم يستغفر للصحابة على العموم ويطلب رضوان الله لهم فقد خالف ما أمره الله به في هذه الآية ، فإن وجد في قلبه غلاً لهم فقد أصابه نزغ من الشيطان وحل به نصيب وافر من عصيان الله بعداوة أوليائه وخير أمة نبيه صلى الله عليه وسلم وانفتح له باب من الخذلان يفد به على نار جهنم إن لم يتدارك نفسه باللجوء الى الله سبحانه ةالاستغاثة به ؛ بأن ينزع عن قلبه ما طرقه من الغل لخير القرون وأشرف هذه الأمة ، فإن جاوز ما يجده من الغل الى شتم أحد منهم ، فقج انقاد للشيطان بزمام ووقع في غضب الله وسخطه ، وهذا الداء العضال إنما يصاب به من ابتلي بمعلم من الرافضة أو صاحب من أعداء خير الأمة الذي تلاعب بهم الشيطان وزين لهم الأكاذيب المختلفة والأقاصيص المفتراة والخرافات الموضوعة ،وصرفهم عن كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه . وعن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم المنقولة إلينا بروايات الأئمة الأكابر في كل عصر من العصور ، فاشتروا الضلالة بالهدى ، واستبدلوا الربح الوافر بالخسران العظيم ، وما زال الشيطان الرجيم ينقلهم من منزلة الى منزلة ، ومن رتبة الى رتبة حتى صاروا أعداء كتاب الله وسنة رسوله وخير أمته وصالحي عباده وسائر المؤمنين ، وأهملوا فرائض الله وهجروا شعائر الدين ، وسعوا في كيد الإسلام وأهله كل السعي ورموا الدين وأهله بكل حجر ومدر ، والله من ورائهم محيط )) " تفسير الشوكاني [ 51/ 287-288 ] .(1/6)
وقال الزبير بن بكار : ثنا عبد الله بن ابراهيم بن قدامة اللخمي عن أبيه عن جده عن محمد بن علي عن أبيه قال : جلس قوم من أهل العراق فذكروا أبا بكر وعمر فنالوا منهما ، ثم ابتدأوا في عثمان فقال لهم : أخبروني أأنتم من المهاجرين الأولين { الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } (الحشر:8) . قالوا : لا ، قال : فأنتم من الذين : {وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالْأِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ } (الحشر:9) . قالوا : لا ، فقال لهم : أما أنتم فقد أقررتم وشهدتم على أنفسكم أنكم لستم من هؤلاء ولا من هؤلاء ، وأنا أشهد أنكم لستم من الفرقة الثالة الذين قال الله عز وجل فيهم : { وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا } (الحشر:10) . الآية ، فقوموا عني لا بارك الله فيكم ولا قرب دوركم ، أنتم مستهزئون بالإسلام ولستم من أهله . " البداية والنهاية [ 9/122] . واستحق الروافض الأخباث والأنجاس هذه العقوبة لأنهم وقعوا في أعراض أفضل الأمم بعد الأنبياء وحملة الشريعة الغراء الى أقاصي البلاد الذين بذلوا في سبيل ذلك الغالي والنفيس ؛ فالطاعن فيهم طاعن في الدين وبعيد عن سبيل المؤمنين ، سالك لسبيل المعتدين المجرمين ، واقع في حبائل الغوي المبين متوعد بالعذاب مهين .(1/7)
ورحم الله شيخ الإسلام إذ يصف سوء حالهم فيقول عنهم : (( أمة ليس لها عقل صريح ولا نقل صحيح ، ولا دين مقبول ، ولا دنيا منصورة بل هم من أعظم الطوائف كذباً وجهلاً ، ودينهم يدخل على المسلمين كل زنديق ومرتد كما دخل في النصيرية والإسماعيلية وغيرهما . فإنهم يعمدون الى خيار الأمة يعادونهم والى أعداء الله من اليهود والنصارى والمشركين يوالونهم ، ويعمدون الى الصدق الظاهر المتواتر يدفعونه ، والى الكذب المختلق الذي يُعلَم فسادَه يقيمونه ؛ فهم كما قال فيهم الشعبي – وكان من أعلم الناس بهم – لو كانوا من البهائم لكانوا حُمراً ، ولو كانوا من الطير لكانو رخماً ، ولهذا كانوا أبهت الناس وأشَّدهم فرية مثل ما يذكرون عن معاوية ، فإن معاوية ثبت بالتواتر أنه أمره النبي صلى الله عليه وسلم كما أمر غيره وجاهد معه وكان أميناً عنده يكتب الوحي ؛ وما اتهمه النبي صلى الله عليه وسلم في كتابة الوحي ، وولاه عمر بن الخطاب الذي كان من أخبر الناس بالرجال ، وقد ضرب الله الحق على لسانه وقلبه ولم يتهمه في ولايته )) " الفتاوى [ 4/471-472 ] .
وقال تلميذه شيخ الإسلام الثاني ابن القيم رحمه الله تعالى بعد ما ذكر الجهمية والفرعونية والباطنية : ( والرافضة الذين هم بحبائل الشيطان متمسكون ، ومن حبل الله منقطعون ، وعلى مسبة أصحاب رسول الله عاكفون ، وللسنة وأهلها محاربون ، ولكل عدو لله ورسوله ودينه مسالمون ، وكل هؤلاء عن ربهم محجوبون وعن بابه مطردون ، أؤلئك أصحاب الضلال وشيعة اللَّعين ، وأعداء الرسول وحزبه )) " حادي الأرواح [ 196 ] .
وقال سبحانه وتعالى : { لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلّاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } (الحديد:10) .(1/8)
والحسنى هي الجنة كما ورد مرفوعاً وموقوفاً من طرق كثيرة مستفيضة . واستدل ابن حزم رحمه الله تعالى : { وَكُلاًّ وَعَدَ اللهُّ الحُسنَى } أن جميع الصحابة بدون إستثناء من أهل الجنة مقطوع بذلك .
ورضي الله عنهم من فوق سبع سماوات في قوله { لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً } (الفتح:18) . وفي قوله : {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (التوبة:100) .
قال البغوي رحمه الله تعالى : ( قال أبو صخر حميدة بن زيادة : أتيت محمد بن كعب القرظي فقلت له : ما قولك في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال : جميع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجنة محسنهم ومسيئهم ، فقلت : من أين تقول هذا ؟ قال : اقرأ قوله تعالى:{ وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ }(1/9)
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى : فقد أخبر الله العظيم أنه قد رضي عن السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان ، فيا ويل من أبغضهم أو سبهم أو أبغض أو سب بعضهم ولا سيما سيد الصحابة بعد الرسول وخيرهم وأفضلهم ، أعني الصديق الأكبر والخليفة الأعظم أبا بكر بن أبي قحافة رضى الله تعالى عنه ، فإن الطائفة المخذولة من الرافضة يعادون أفضل الصحابة ويبغضونهم ويسبونهم ، عياذاً بالله من ذلك ؛ وهذا يدل على أن عقولهم معكوسة ، وقلوبهم منكوسة ، فأين هؤلاء من الإيمان بالقرآن إذ يسبون من رضي الله تعالى عنهم ، وأما أهل السنة فإنهم يترضون عمن رضي الله عنه ويسبون من سبه الله ورسوله ، ويوالون من يوالي الله ، ويعادون من يعادي الله ، وهم متبعون لا مبتدعون ويقتدون ولا يبتدون ، ولهذا هم حزب الله المفلحون وعباده المؤمنون )) " في تفسيره [ 2/367 ] .
قال ابن تيمية رحمه الله : والرضى من الله صفة قديمة فلا يرضى إلا عن عبد علم أنه يوافيه على موجبات الرضى . ومن رضي الله عنه لم يسخط عليه أبداً .. – إلى أن قال – فكل من أخبر الله عنه أنه رضي الله عنه فإنه من أهل الجنة ، وإن كان رضاه عنه بعد إيمانه وعمله الصالح ؛ فإنه يذكر ذلك في معرض الثناء عليه والمدح له ، فلو علم أنه يتعقب ذلك بما يسخط الرب لم يكن من أهل ذلك )) " الصارم المسلول [ 574-575 ] .
وقال ابن حزم رحمه الله تعالى : ( أخبرنا الله عز وجل أنه علم ما في قلوبهم ورضي عنهم وأنزل السكينة عليهم فلا يحل لأحد التوقف في أمرهم ولا شك فيهم البنة ))(1/10)
والآيات القرآنية في مدحهم وتعظيم قدرهم كثيرة منها : قوله تعالى : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ } (آل عمران:110) . وقوله تعالى : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً } (البقرة:143) . فمن المخاطب وقت نزول الآيتين غير الصحابة ؟ فهم المخاطبون بذلك خطاباً أولياً ، فثبت خيريتهم رضي الله تعالى عنهم على كافة الناس غير الأنبياء وجعلهم الله شهداء على الناس يوم القيامة لفضلهم وشرفهم وعلو منزلتهم .
ومنها قوله تعالى : { يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ } (التحريم:8) . قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى : ( وفي الجملة كل ما في القرآن من خطاب المؤمنين والمتقين والمحسنين ومدحهم والثناء عليهم ، فهم – أي الصحابة – أول من دخل في ذلك من هذه الأمة ، وأفضل من دخل في ذلك من هذه الأمة ) " منهاج السنة [ 2/49-50 ] .
ثانياً : من السنة النبوية الصحيحة
قال صلى الله عليه وسلم : ( لا تسبّوا أحدا من أصحابي فان أحدكم لو أنفق مثل أحد ذهبا ما أدرك
مد أحدهم ولا نصيفه ) ( 1 ) .(1/11)
قال شيخ الاسلام : ( وذلك ان الايمان الذي كان في قلوبهم حين الانفاق في أول الاسلام وقلة أهله ، وكثرة الصوارف عنه ، وضعف الدواعي اليه لايمكن لأحد أن يحصل له مثله من بعدهم . وهذا يعرف بعضه من ذاق الأمر ، وعرف المحن والابتلاء الذي يحصل للناس ، وما يحصل للقلوب من الأحوال المختلفة . وهذا مما يعرف به أن ابا بكر رضي الله تعالى عنه لن يكون أحد مثله ، فان اليقين والايمان الذي كان في قلبه لا يساويه فيه أحد . قال ابو بكر بن عياش : ما سبقهم ابو بكر بكثرة صلاة ولا صيام ، ولكن بشيء وقر في قلبه . وهكذا سائر الصحابة حصل لهم بصحبتهم للرسول ، مؤمنين به مجاهدين معه ، ايمان ويقين لم يشركهم فيهى من بعدهم . ( 2 ) .
وقال العلامة الشوكاني : ( فانظر الى هذه المزية العظيمة ، والخصيصة الكبيرة التي لم تبلغ من غيرهم انفاق مثل الجبل الكبير من الذهب نصف المد الذي ينفقه الواحد منهم ، فرضي الله عنهم وارضاهم .
فهم أفضل أولياء الله سبحانه وأكرمهم عليه ، وأعلاهم منزلة عنده : وهم الذين عملوا بكتاب الله تعالى وستة رسوله صلى الله عليه وسلم ( 3 ) .
وقال صلى الله عليه وآله وسلم : ( خير الناس قرني ، ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ... الحديث ) ( 4 ) .
-------------------------------
( 1 ) – رواه البخاري < 3673 > ، ومسلم < 2541 > .
( 2 ) – منهاج السنة < 6/ 223 > .
( 3 ) قطر الولي < ص : 255 > .
( 4 ) – أخرجه البخاري < 3651 > ، ومسلم < 2533/ 212 > .
وهو خبر متواتر ( 1 ) وقد رواه جمع من الصحابة الكرام منهم : ابو هريرة وعبد الله بن مسعود وعمران بن الحصين والنعمان بن بشير وعائشة وبريدة وابو برزة وعمر بن الخطاب وسمرة وسعد بن تميم وجعد بنت هبيرة وجميلة بنت ابي لهب ( 2 ) .
وقال صلى الله عليه وسلم : ( من سب اصحابي فعليه لعنة الله والملائكة والناس اجمعين ) (3 ) .(1/12)
قال الامام الآجري : ( ومن سبهم فقد سب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومن سب رسول الله استحق اللعنة من الله عز وجل ومن الملائكة ومن الناس اجمعين ) ( 4 ) .
وقال ايضا : ( لقد خاب وخسر من سب اصحاب رسول الله صلىالله عليه وسلم ؛ لانه خالف الله ورسوله ولحقته اللعنة من الله عز وجل ومن رسوله ومن الملائكة ومن جميع المؤمنين ولا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا ، لا فريضة ولا تطوعا ، وهو ذليل في الدنيا ، وضيع القدر ، كثّر الله بهم القبور ، واخلى منهم الدور ) ( 5 ) .
------------------
( 1 ) كما قال شيخ الاسلام في منهاج السنة < 2/ 35 > ، والحافظ بن حجر في مقدمة الاصابة
< 1/ 13 > .
(2 ) انظر الأزهار المتناثرة للسيوطي ولقط اللآلي للزبيدي < ص : 72 > ونظم المتناثر للكتاني
< 127 > .
اخرجه ابو نعيم ورواه الطبراني عن ابن عباس موصولا وقال الألباني : ( وبالجملة فالحديث بمجموع طرقه حسن عندي على اقل الدرجات والله اعلم ) .
( 4 ) الشريعة < 3/ 543 > .
( 5 ) الشريعة < 3/ 550 > .
قال المناوي : ( من سب اصحابي ) أي شتمهم ( فعليه لعنة الله والملائكة والناس ) أي الطرد والبعد عن مواطن الأبرار ومنازل الأخيار ، والسب والدعاء من الخلق ( اجمعين ) تاكيد لمن سب ، او الناس فقط أي : كلهم . وهذا شامل لمن لابس القتل منهم لأنهم مجتهدون في تلك الحروب متأولون فسبهم كبيرة ونسبتهم الى الضلال او الكفر كفر ) ( 1 ) .
وقال صلى الله عليه وسلم : ( النجوم امنة للسماء فاذا ذهبت النجوم اتى السماء ما توعد . وانا امنة لأصحابي فاذا ذهنت اتى اصحابي ما يوعدون واصحابي امنة لأمتي ، فاذا ذهب اصحابي اتى امتي ما يوعدون ) ( 2 ) .(1/13)
قال ابن القيم رحمه الله : ( ... جعل نسبة اصحابه لمن بعدهم كنسبته الى اصحابه وكنسبة النجوم الى السماء ومن المعلوم ان هذا التشبيه يعطي من وجوب اهتداء الأمة بهم ما هو نظير اهتدائهم بنبيهم صلى الله عليه وسلم ونظير اهتداء اهل الأرض بالنجوم ،وايضا فانه جعل بقائهم بين الأمة امنة لهم وحرزا من الشر واسبابه ) ( 3 ) .
وقال صلى الله عليه وسلم ايضا : ( ياتي على الناس زمان يغزو فئام من الناس فيقال لهم : فيكم من راى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فيقولون : نعم فيفتح لهم ، ثم يغزو فئام من الناس فيقال لهم : فيكم من راى من صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقولون نعم ، فيفتح لهم ، ثم يغزو فئام من الناس فيقال لهم هل فيكم من راى من صحب من صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقولون : نعم ، فبفتح لهم ( 4 ) .
وقال صلى الله عليه وسلم : ( استوصوا باصحابي خيرا ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ... ) .
--------------------------
( 1 ) – الفيض < 6/146 – 147 > .
( 2 ) احمد < 4/ 399 > ، ومسلم < 2531 > .
( 3 ) – اعلام الموقعين < 4/ 137 > .
( 4 ) – البخاري < 3649 > ، ومسلم < 2532 > .
وفي رواية : ( أحسنوا الى اصحابي ) ، وفي رواية : ( احفظوني في اصحابي ) ، وفي : ( رواية أكرموا أصحابي ) ، وفي اخرى : ( أوصيكم بأصحابي ) ( 1 ) .
وقال صلى الله عليه وسلم : ( لا تزالون بخير ما دام فيكم من رآني وصاحبني . والله لا تزالون بخير ما د ام فيكم من راى من رآني وصاحب من صاحبني ، والله لا تزالون بخير ما د ام فيكم من راى من راى من رآني وصاحب من صاحب من صاحبني ) ( 2 ) .
وقال صلى الله عليه وسلم : ( اذا ذكر اصحابي فامسكوا ، واذ ا ذكر النجوم فأمسكوا واذا ذكر القدر فأمسكوا ) ( 3 ) .
----------------------------
((1/14)
1 ) – رواه احمد والترمذي وقال حسن صحيح من هذا الوجه .ورواه الحاكم وصححه واقره الذهبي وقد صحح الحديث أحمد شاكر رحمه الله وكذا الألباني في الصحيحة .
( 2 ) رواه ابن ابي عاصم في السنة وابن ابي شيبة وحسن اسناده الحافظ في الفتح وقال الهيثمي : رواه الطبراني من طرق ورجال احدها رجال الصحيح .
(3) رواه الطبراني وابو نعيم وغيرهما من حديث ابن مسعود رضي الله عنه وحسنه الحافظان العراقي وابن حجر وصححه الألباني لشواهده انظر الصحيحة .
ومعنى ( اذا ذكر اصحابي فأمسكوا ) قال ابو الحسن الأشعري في ( رسالته الى أهل الثغر ) < ص : 172 > ( قال اهل العلم : ومعنى ذلك لا تذكروهم الا بخير الذكر ) .
وقال صلىالله عليه وسلم : ( ان الله تعالى قال : من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب ، وما تقرب الي عبدي بشيء احب الي مما افترضته عليه ، وما يزال عبدي يتقرب الي بالنوافل حتى احبه ، فاذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ، ورجله التي يمشي بها ، وان سألني لأعطينه ، ولئن استعاذ بي لأعيذنه ، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن يكره الموت وانا اكره مساءته ) رواه البخاري .
ولا شك عند كل ذي عقل سليم وخلق كريم ودين قويم ان الصحابة هم اول من يتصف بالولاية اتصافا اوليا .(1/15)
قال الشوكاني رحمه الله : ( اعم ان الصحابة لا سيما أكابرهم الجامعين بين الجهاد بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والعلم بما جاء به وأسعدهم الله سبحانه وتعالى بمشاهدة النبوة وصحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم في السراء والضراء ، وبذلهم انفسهم وأموالهم في الجهاد في سبيل الله سبحانه وتعالى حتى صاروا خير القرون بالأحاديث الصحيحة . فهم خيرة الخيرة ،لأن هذه الأمة هي كما اكرمهم الله به بقوله : ( كنت خير أمة أخرجت للناس ) ، وكانا الشهداء على العباد كما في القرآن العظيم فهم خير العباد جميعا ، وخير الأمم سابقهم ولاحقهم ، واولهم وآخرهم وهؤلاء الصحابة رضي الله تعالى عنهم هم خير قرونهم ، وأفضل طوائفهم الى يوم القيامة .
فتقرر بهذا ان الصحابة رضي الله عنهم خير العالم بأسره من أوله لآخره ، لا يفضلهم أحد الا الأنبياء والملائكة ، ولهذا لم يعدل مثل أحد ذهبا مد أحدهم ، ولا نصيفه .
فاذا لم يكونوا راس الأولياء ، وصفوة الأتقياء ، فليس لله أولياء ولا أتقياء ولا بررة ولا أصفياء .
وقد نطق القرآن الكريم بان الله قد رضي عن أهل بيعة الشجرة وهم جمهور الصحابة اذ ذاك .
وثبت عنه صلى الله عليه وآله وسلم ثبوتا متواترا ان الله سبحانه اطلع على أهل بدر فقال : ( اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم ( 1 ) . وشهد النبي صلى الله عليه وسلم لجماعة منهم بأنهم من أهل الجنة .
فقوله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث : ( من عادى لي وليا ) يصدق عليهم صدقا أولياء ، ويتناولهم بفحوى الخطاب .
فانظر – أرشدك الله – الى ماصارت الرافضة أقمأهم ( 2 ) الله تصنعه بهؤلاء الذين هم رؤوس الأولياء ورؤساء الأتقياء ، وقدوة المؤمنين واسوة المسلمين ، وخير عباد الله اجمعين من الطعن واللعن والثلب والسب والشتم والثلم ، وانظر الى أي مبلغ بلغ الشيطان الرجيم بهؤلاء المغرورين المجترئين على هذه الأعراض المصونة المحترمة المكرمة .(1/16)
فيا لله العجب من هذه العقول الرقيقة ، والأفهام الشنيعة ، والأذهان المختلة والادراكات المعتلة ، فان هذا التلاعب الذي تلاعب بهم الشيطان يفهمه اقصر الناس عقلا ، وأبعدهم فطانة ، وأجمدهم فهما ،
وأقصرهم في العلم باعا ، وأقلهم اطلاعا . فان الشيطان لعنه الله سول لهم بان هؤلاء الصحابة رضي الله عنهم الذين لهم المزايا التي لايحيط بها حصر ، ولا يحصيها حد ولا عد ، أحقاء بما يهتكون من أعراضهم الشريفة ، ويجحدون من مناقبهم المنيفة ، حتى كأنهم لم يكونوا هم الذين أقاموا أعمدة الاسلام بسيوفهم ، وشادوا قصور الدين برماحهم ، واستباحوا الممالك الكسروية ، وأطفأوا الملة النصرانية والمجوسية ، وقطعوا حبائل الشرك من الطوائف المشركة من العرب وغيرهم ، وأوصلوا دين الاسلام الى أطراف المعمورة من شرق الأرض وغربها ويمينها وشمالها ، فاتسعت رقعة الاسلام وطبقت الأرض شرائع الايمان ، وانقطعت علائق الكفر وانقصمت حباله ، وانفصمت أوصاله ، ودان بدين الله سبحانه الأسود والأحمر ، والوثني والملي .
------------
( 1 ) أخرجه البخاري ومسلم .
( 2 ) دعاء عليهم بمعنى اذلهم وحقرهم وصغرهم ، والقميء الذليل والحقير .(1/17)
فهل رأيت أو سمعت بأضعف من هؤلاء تميزا ، وأكثر منهم جهلا ، وأزيف منهم رأيا ! يا لله العجب يعادون خير عباد الله وأنفعهم للدين ، الذي بعث به رسول الله صلىالله عليه وآله وسلم ، وهم لم يعاصروهم ، ولا عاصروا من أدركهم ، ولا أذنبوا اليهم بذنب ، ولا ظلموهم في مال ، ولا دم ولا عرض ، بل صاروا تحت أطباق الثرى وفي رحمة واسع الرحمة منذ مئات السنين . وما أحسن ما قاله بعض أمراء عصرنا ، وقد رام كثير من أهل الرفض أن يفتنوه ويوقعوه في الرفض : ( مالي ولقوم بيني وبينهم زيادة على اثنتي وعشرة مائة من السنين ) . وهذا القائل لم يكن من أهل العلم بل هو عبد صيره مالكه أميرا ، وهداه عقله الى هذه الحجة العقلية التي يعرفها بالفطرة كل من له نصيب من عقل ، فان عداوة من لم يظلم المعادي في مال ولا دم ولا عرض ، ولا كان معاصرا له حتى ينافسه فيما هو فيه ، يعلم كل عاقل انه لا يعود على الفاعل بفائدة .
هذا على فرض انه لا يعود عليه بضرر في الدين ، فكيف وهو من أعظم الذنوب التي لا ينجي فاعلها الا بعفو الغريم المجني بظلمه في عرضه ؟!! – انظر عافاك الله – ما ورد في غيبة المسلم من الوعيد الشديد من انها ذكر الغائب بما فيه كما صح عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في بيانه لما ساله السائل عن ذلك ثم سأله عن ذكره بما ليس فيه جعل ذلك من البهتان ، كما هو ثابت في الصحيح ، ولم يرخص فيها بوجه من الوجوه .
وقد أوضحنا ذلك في الرسالة التي دفعنا بها ( 1 ) ما قاله النووي وغيره من جواز الغيبة في ست صور ، وزيفنا ما قالوه تزييفا لا يبقى بعده شك ولا ريب ، ومن بقي في صدره حرج وقف عليها ، فانها دواء لهذا الداء الذي هلك به كثير من عباد الله سبحانه .(1/18)
فاذا كان هذا حرام بيننا ، وذنبا عظيما في غيبة فرد من أفراد المسلمبن الأحياء الموجودين ، فكيف غيبة الأموات التي صح عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم النهي عنها بقوله : ( لا تسبّوا الأموات فانهم قد أفضوا الى ما قدّموا ) ( 2 ) . فكيف اذا كان هؤلاء المسبوبين الممزقة أعراضهم المهتوكة حرماتهم هم خير الخليقة ، وخير العالم كما قدمنا تحقيقه .
فسبحان الصبور الحليم .
فيا هذا المتجريء على هذه الكبيرة المقتحم على هذه العظيمة ، ان كان الحامل لك عليها والموقع لك في وبالها هو تاميلك الظفر بأمر دنيوي ، وعرض عاجل ، فاعلم انك لا تنال منه طائل ، ولا تفوز منه بنقير ولا قطمير .
فقد جربنا وجرب غيرنا من أهل العصور الماضية ، أن من طلب الدنيا بهذا السبب الذي فتح بابه الشيطان الرجيم ، وشيوخ الملاحدة من الباطنية والقرامطة والاسماعيلية تنكدت عليه أحواله وضاقت عليه معايشه ، وعاندته مطالبه وظهر عليه كآبة المنظر ، وقمائة الهيئة ورثاثة الحال ، حتى يعرفه غالب من رآه أنه رافضي ، وما علمنا بأن رافضيا أفلح في ديارنا هذه قط .
وان كان الحامل لك على ذلك الدين فقد كذبت على نفسك ، وكذبك شيطانك وهوكذوب .
--------------
( 1 ) – هي رفع الريبة عما يجوز وما لا يجوز من الغيبة – نشرت قديما ضمن مجموعة الرسائل المنيرة ، ثم طبعت بتحقيق محمد خير رمضان يوسف فيما بعد .
( 2 ) أحمد – البخاري – النسائي .
فان دين الله هو كتابه وسنة رسوله ، فانظر هل ترى فيهما الا الاخبار لنا بالرضى عن الصحابة ، وأ أنهم اشداء على الكفار ، وأن الله يغيظ بهم الكفار ، وأنه لا يلحق بهم غيرهم ، ولا يماثلهم سواهم .(1/19)
وهم الذين أنفقوا من قبل الفتح وقاتلوا ، وأنفقوا بعده كما حكاه القرآن الكريم ، وهم الذين جاهدوا في الله حق جهاده ، وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيله . وهم الذين قاموا بفرائض الدين ، ونشرها في المسلمين ، وهم الذين وردت لهم في السنة المطهرة المناقب العظيمة ، والفضائل الجسيمة عموما وخصوصا . ومن شك في هذا نظر في دواوين الاسلام ؛ وفيما يلتحق بها من السندات والمستدركات والمعاجيم ، ونحوها فانه سيجد هنالك ما يشفي علله ويروي غلله ويرده عن غوايته ، ويفتح له أبواب هدايته .
هذا اذا كان لا يدري بهذا ويزعم ان له سلفا في هذه المعصية العظيمة والخصلة الذميمة ، فقد غره الشيطان بمخذول مثله ، ومفتون مثل فتنته ، وقد نزه الله عز وجل علماء الاسلام سابقهم ولاحقهم ومجتهدهم ومقلدهم عن الوقوع في هذه البلية الحالقة للدين المخرجة لمرتكبها من سبيل المؤمنين الى طريق الملحدين .
موقف أهل البيت من الصحابة
فان زعم أنه قد قال بشيء من هذا الضلال المبين قائل من أهل البيت المطهرين ، فقد افترى عليهم الكذب البين ، والباطل الصراح فانهم مجموعون سابقهم ولاحقهم على تعظيم جانب الصحابة الأكرمين ، ومن لم يعلم بذلك فلينظر في الرسالة التي الفتها في الأيام القديمة التي سميتها ( ارشاد الغبي الى مذهب أهل البيت في صحب النبي ) * فاني نقلت فيها نحو أربعة عشر اجماعا عنهم من طرق مروية عن اكابرهم وعن التابعين لهم المتمسكين بمذهبهم .(1/20)
فيا أيها المغرور بمن اقتديت ، وعلى من اهتديت ، وباي حبل تمسكت ، وفي أي طريق سلكت ، يا لك الويل والثبور ، كيف أذهبت دينك في أمر يخالف كتاب الله سبحانه ، وسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ويخالف جميع المسلمين منذ قام الدين الى هذه الغاية ، وكيف رضيت لنفسك أن تكون خصما لله سبحانه ولكتابه ولرسوله صلى الله عليه وآله وسلم ، ولسنته ولصحابته ولجميع المسلمين ؟!!! أين يتاه بك ، والى أي هوة يرمى بك ، أنا تخرج نفسك من هذه الظلمات المتراكمة الى الأنوار هذا الدين الذي جاءنا به الصادق المصدق عن رب العالمين ، وأجمع عليه المسلمون أجمعون ، ولم يخالف فيه مخالف يعتد به في اجماع المسلمين ، اللهم الا ان يكون رافضيا خبيثا ، أو باطنيا ملحدا ، أو قرمطيا جاحدا ، أو زنديقا معاندا ( 1 ) .
---------------------
( 1 ) – قطر الولي < ص : 292-298 > .
ثالثا : اقوال السلف الصالح والعلماء
التابعين لهم باحسان
قال ابن عمر رضي الله عنهما : ( لا تسبوا أصحاب محمد فلمقام أحدهم ساعة خير من عمل أحدكم أربعين سنة ) وفي رواية ( خير من عبادة أحدكم عمره ) ( 1 ) .
عن ميمون بن مهران قال : قال لي ابن عباس احفظ عني ثلاثا : ( اياك والنظر في النجوم فانه يدعو الى الكهانة ، واياك والقدر فانه يدعو الى الزندقة ، واياك وشتم أحد من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فيكبك الله في النار على وجهك ) ( 2 ) .
وقالت عائشة رضي الله عنها : ( أمروا أن يستغفروا لأصحاب النبي صلى الله عليه و سلم فسبوهم ) ( 3 ) .(1/21)
روى مسلم في صحيحه أن عائذ بن عمرو وكان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، دخل على عبيد الله بن زياد فقال : ( أي بني ، اني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ان شر الرعاء الحطمة ، فايلك أن تكون منهم ، فقال له : اجلس فانما أنت من نخالة أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ، قال : وهل كانت لهم نخالة ؟ انما كانت النخالة بعدهم ، وفي غيرهم ) .
قال النووي رحمه الله في شرح مسلم : ( ان شر الرعاء الحطمة ، قالوا : هو العنيف في رعيته لا يرفق بها في سوقها ومرعاها بل يحطمها في ذلك وفي سقيها وغيره ويزحم بعضها ببعض بحيث يؤذيها ويحطمها ) .
------------------
( 1 ) – رواه أحمد في فضائل الصحابة وابن ماجه وصححه البوصري ، وحسنه الألباني .
( 2 ) - اللالكائي .
( 3 ) – رواه مسلم وأحمد في فضائل الصحابة وابن ابي عاصم في السنة .
------------------------------------
قوله : ( انما انت من نخالتهم ) يعني لست من فضائلهم وعلمائهم وأهل المراتب منهم ، بل من سقطهم ، والنخالة هنا الاستعارة من نخالة الدقيق وهي قشوره والنخالة والحقالة والحثالة بمعنى واحد – قوله : ( وهل كانت لهم نخالة انما كانت النخالة بعدهم وفي غيرهم ) هذا من جزل الكلام وفيصحه وصدقه الذي ينقاد له كل مسلم ، فان الصحابة رضي الله عنهم كلهم هم صفوة الناس وسادات الأمة وأفضل ممن بعدهم ، وكلهم عدول قدوة لا نخالة لهم ، وانما جاء التخليط ممن بعدهم ، وفيمن بعدهم كانت النخالة ) .
وقال ابن مسعود رضي الله عنه : ( ان الله نظر في قلوب العباد فوجد قلب محمد خير قلوب العباد ، فاصطفاه لنفسه وابتعثه برسالته ، ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد صلى الله عليه وسلم فوجد قلوب اصحابه خير قلوب العباد فجعلهم وزراء نبيه يقاتلون على دينه ( 1 ) .
-------------
((1/22)
1 ) – أخرجه أحمد وقال الشيخ أحمد شاكر : ( اسانده صحيخ وهو موقوف على ابن مسعود ) وصححه الحاكم وأقره الذهبي ، وقال الألباني : ( ثم أخرجه – أي الخطيب في الفقيه والمتفقه – من طريق عبد الرحمن بن يزيد : فذكره واسناده صحيح .
وقال ايضا : من كان متأسيا فليتأس بأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فانهم كانوا أبر هذه الأمة قلوبا وأعمقها علما وأقلها تكلفا ، وأقومها هديا وأحسنها حالا قوما اختارهم الله تعالى لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم فاعرفوا لهم الفضل وأتبعوهم في آثرهم فانهم كانوا على الهدى المستقيم (1).
قال الامام مالك رضي الله عنه : ( هذا النبي مؤدب الخلق الذي هدانا الله به وجعله رحمه للعالمين يخرج جوف الليل الى البقيع فيدعو لهم ويستغفر كالمودع لهم ؛ وبذلك أمره الله ، وأمر النبي بحبهم وموالتهم ، ومعاداة من عاداهم )) (2).
وقال أيضا : ( انما هؤلاء أقوام أرادوا القدح في النبي صلى الله عليه وسلم فلم يمكنهم ذلك ، فقدحوا في أصحابه حتى يقال رجل سوء ، ولو كان رجلا صالحا لكان أصحابه صالحون ) (3)
كان ذلك كذلك لأن الصحابة حمى الرسول صلى الله عليه وسلم ومن حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه . ولله در من قال (4) :
وكن على حب النبي عاكفا اياك أن ترى له مخالفا
ثم قال :
والله فاتقيه في أصحابه فالخوض فيهم هو في جنابه
وقد أحسن من قال : (5)
وصحابه فهم العدول وجرحهم جرح لدين الواحد الديان
ضل الروافض ويحهم أومادروا ان الصحابة عدلوا بقرآن.
---------------
(1)-جامع البيان العلم وفضله ورد عن ابن عمر نحوه ورواه ابو نعيم في الحلية من طريق الحسن وهو مدلس وفي ثبوت سماعه مقال .
(2)-الشفا للقاضي عياض
(3)- الصارم المسلول
(4)- القائال هو محمد سعيد الدمشقي في منظومته ( دعوة الأصحاب الى التحلي بحلى الآداب ).
(5)- هو عبد العزيز الحربي .(1/23)
وقال الشافعي : ( أثنى الله تبارك وتعالى على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في القرآن والتوراة والانجيل وسبق على لسان رسول الله صلىالله عليه وسلم من الفضل ما ليس لأحد بعدهم ،
فرحمهم الله وهنأهم بما آتاهم من ذلك ببلوغ أعلى منازل الصديقين والشهداء والصالحين ، فهم أدوا لنا سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم وشاهدوه والوحي ينزل عليه فعلموا ما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم عاما وخاصا وعزما وارشادا وعرفوا من سننه ما عرفنا وجهلنا وهم فوقنا في كل علم واجتهاد وورع وعقل وأمر واستدرك به علم واستنبط به ، وآراؤهم لنا أحمد وأولى بنا من آرائنا عندنا لأنفسنا والله أعلم ) (1).
قال الامام أحمد : ( اذا رأيت رجلا يذكر أحدا من الصحابة بسوء فاتهمه على الاسلام ) (2).
وقال أيضا : ( من تنقص أحدا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا ينطوي الا على بلية ، وله خبيئة سوء ، اذا قصد الى خير الناس وهم أصحاب رسول الله صلىالله عليه وسلم حسبك ) (3 ) . وقال أيضا من شتم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لا نأمن أن يكون قد مرق عن الدين (4) ، وقال في رواية : ( ما أراه على الاسلام ) .
وقال ايضا : ( ومن السنة ذكر محاسن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كاهم أجمعين والكف عن الذي شجر بينهم ، فمن سب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أو واحدا فهو مبتدع رافضي ، حبهم سنة والدعاء لهم قربة ، والاقتداء بهم وسيلة ، والأخذ بآرائهم فضيلة ) السنة للامام أحمد .
(1)- مناقب الشافعي للبيهقي
(2)-اللالكائي ، والبداية والنهاية ، والصارم المسلول .
(3)- (4) - السنة للخلال .
قال أبو نعيم : ( فمن سبهم وأبغضهم وحمل ما كان من تأويلهم وحروبهم على غير الجميل الحسن فهو العادل عن أمر الله تعالى وتأديبه ووصيته فيهم ، لا يبسط لسانه فيهم الا من سوء طويته في النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته والمسلمين (1).(1/24)
قال النووي رحمه الله : ( واعلم أن سب الصحابة رضي الله عنهم حرام من فواحش المحرمات ، سواء من لابس الفتنة منهم وغيره لانهم مجتهدون في تلك الحروب متأولون ) ( 2 ) .
قال ابن حجر الهيتمي : ( عد ما ذكر – أي بغض الأنصار وشتم واحد من الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين – كبيرتين هو ما صرح به غير واحد وهو ظاهر ، وقد صرح الشيخان وغيرهما أن سب الصحابة كبيرة ، قال جلال البلقيني : ( وهو – أي سب الصحابة – داخل تحت مفارقة الجماعة وهو الابتداع المدلول عليه بترك السنة ، فمن سب الصحابة رضي الله عنهم أتى كبيرة بلا نزاع (3). ثم قال أيضا ( فقد نص الله تعالى على أنه رضي عن الصحابة في غير آية ، قال تعالى :
( والسابقون--- ورضوا عنه ) < التوبة : 100 > . فمن سبهم أو واحد منهم فقد بارز الله بالمحاربة أهلكه وخذله ، ومن ثم قال العلماء : اذا ذكر الصحابة بسوء كاضافة عيب لهم وجب الامساك عن الخوض في ذلك بل ويجب انكاره باليد ثم باللسان ثم بالقلب على حسب الاستطاعة كسائر المنكرات بل هذا من أشرها وأقبحها ، ومن ثم أكد النبي صلى الله عليه وسلم التحذير من ذلك بقوله : ( الله الله ) أي احذروا الله أي عذابه وعقابه على حد قوله ( ويحذركم الله نفسه )
وكما تقول لمن تراه مشرفا على الوقوع في نار عظيمة : النار النار أي احذرها ، وتأمل أعظم فضائلهم ومناقبهم التي نوه بها صلى الله عليه وسلم حيث محبتهم محبة له وبغضهم بغض له ، وناهيك بذلك جلالة لهم وشرفا فمحبتهم عنوان محبته وبغضهم عنوان بغضه )).
--------------
(1)- الامامة والرد على الرافضة
(2)-شرح مسلم
(3)- الزواجر .(1/25)
ثم قال أيضا ( أي ابن حجر الهيتمي ) : ( وانما يعرف فضل الصحابة من تدبر سيرهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وآثرهم الحميدة في الاسلام في حياته وبعد مماته فجزاهم الله عن الاسلام والمسلمين خير الجزاء وأكمله وأفضله فقد جاهدوا في الله حق جهاده حتى نشروا الدين وأظهروا شرائع الاسلام ولولا ذلك منهم ما وصل الينا قرآن ولا سنة ولا أصل ولا فرع فمن طعن فيهم فقد كاد أن يمرق من الملة ، لأن الطعن فيهم يؤدي الى انطماس نورها ( ويابى الله – الكافرون ) التوبة : 32 ، . وقال محمد بن بشار : ( قلت لعبد الرحمن بن مهدي ، أحضر جنازة من سب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال : ( لو كان من عصبتي ما ورثته ) .
وقال أحمد بن عبد الله بن يونس : باع محمد بن عبد العزيز التيمي داره وقال : ( لا أقيم بالكوفة ، بلد يشتم فيها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ) .
قال ابن السمعاني رحمه الله في الاصطلام <*> : ( التعرض الى جانب الصحابة علامة على خذلان فاعله بل هو بدعة وضلالة ) ( 1 ) .
قال ابو أيوب السختياني : ( ... ومن أحسن الثناء على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد برىء من النفاق ومن ينتقص أحدا منهم أو بغضه لشيء كان منه فهو مبتدع مخالف للسنة والسلف الصالح والخوف عليه ان لا يرفع له عمل الى السماء حتى يحبهم جميعا ويكون قلبه لهم سليما ( 2 ) . قال أبو زرعة العراقي : ( اذا رأيت الرجل ينتقص أحدا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعلم انه زنديق وذلك ان الرسول عندنا حق والقرآن حق وانما أدى الينا هذا القرآن والسنن أصحاب رسول الله وانما يريدون أن يجرحوا شهودنا ليبطلوا الكتاب والسنة والجرح بهم أولى وهم زنادقة ) (3).(1/26)
وروى الخطيب بسنده الى عبد الله بن مصعب قال : قال لي امير المؤمنين المهدي ( هو الخليفة العباسي أبو عبد الله محمد بن ابي جعفر عبد الله المنصور ) يا أبا بكر ما تقول فيمن ينقص أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : قلت : زنادقة ، قال : ما سمعت أحدا قال هذا قبلك ، قال : قلت : هم قوم أرادوا رسول الله بنقص فلم يجدوا أحدا من الأمة يتابعهم على ذلك ، فتنقّصوا هؤلاء عند أبناء هؤلاء ، وهؤلاء عند أبناء هؤلاء ، فكأنهم قالوا : رسول الله يصحبه صحابة السوء ، فقال : ما أراه الا كما قلت ) .
------------------
<*>- ومعنى الاصطلام : الاستئصال والاباءة .
(1)- نقله الحافظ في الفتح .
(2)- أصول السنة لابن أبي زمنين واللالكائي في شرح اعتقاد السنة .
(3)- الكفاية .
والبدعة الخبيثة ذيلا هو أشر ذيل وويلا هو أقبح ويل . وهو أنهم لما علموا أن الكتاب والسنة يناديان عليهم بالخسارة ، والبوار بأعلى صوت عادوا السنة المطهرة وقدحوا فيها وفي أهلها بعد قدحهم في الصحابة رضي الله عنهم . وجعلوا المتمسك بها من أعداء أهل البيت ومن المخافين للشيعة ولأهل البيت .فأبطلوا السنة المطهرة بأسرها ، وتمسكوا في مقابلها ، وتعوضوا عنها بأكاذيب مفتراة مشتملة على القدح المكذوب المفترى في الصحابة وفي جميع الحاملين للسنة المهتدين بهديها ، العاملين بما فيها ، الشارين لها في الناس من التابعين وتابعيهم الى هذه الغاية ، وسموهم بالنصب ، والبغض لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأولاده . فأبعد الله الرافضة وأقماهم ، أيبغض علماء السنة المطهرة هذا الامام الذي تعجز الألسن عن حصر مناقبه مع علمهم بما في كتب السنة المطهرة من قوله صلى الله عليه وسلم : ( لا يحبك الا مؤمن ، ولا يبغضك الا منافق )< رواه أحمد ومسلم وغيرهما>
وما ثبت في السنة من أنه يحبه الله سبحانه ورسوله صلى الله عليه وسلم ؟! يا لهم الويل الطويل ،(1/27)
والخسار البالغ . أيوجد مسلم من المسلمين ، وفرد من أفراد المؤمنين بهذه المثابة ؟! سبحانك هذا بهتان عظيم ، ولكن ألأمر كما قلت :
قبيح لا يملثله قبيح لعمر أبيك دين الرافضة
أذاعوا في علي كل نكر وأخفوا من فضائله اليقينا
وسبّوا لا راعوأصحاب طه وعادوا من عداهم أجمعينا
وقالوا دينهم دين قويم ألا لعن الاله الكاذبينا
وكما قلت :
تشيع الأقوام في عصرنا منحصر في أربع من البدع
عداوة السنة والثلب للأ سلاف والجمع وترك الجمع
قال بشر بن الحارث المشهور بالحافي : ( من شتم أصحاب رسول الله فهو كافر وان صام وصلى وزعم أنه من المسلمين ) .
وقال ابن حزم رحمه الله : ( صدق أبو يوسف القاضي اذ سئل عن شهادة من يسب السلف الصالح ،
فقال: لو ثبت عندي على رجل أنه يسب جيرانه ما قبلت شهادته ، فكيف من يسب أفاضل الأمة ،
الا ان يكون من الجهل بحيث لم تقم عليه حجة النص بفضلهم والنهي عن سبهم ، فهذا لايقدح سبهم في دينه اصلا ، ولا ما هو أعظم من سبهم ، لكن حكمه أن يعلم ويعرف ، فان تمادى فهو فاسق ، وان عاند في ذلك الله تعالى أو رسوله صلى الله عليه وسلم فهو كافر مشرك ) .
قال الامام الطحاوي في عقيدة أهل السنة والجماعة المشهورة : ( ونحب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا نفرط في حب أحد منهم ولا نتبرّأ من أحد منهم ونبغض من يبغضهم وبغير الخير يذكرهم ولا نذكرهم الا بخير ، وحبهم دين وايمان واحسان وبغضهم كفر ونفاق وطغيان ) .
قال الامام ابن بطة العكبري : ( ويشهد لجميع الهاجرين والأنصار بالجنة والرضوان والتوبة والرحمة من الله ، ويستقر علمك وتوقن قلبك أن رجلا راى النبي صلى الله عليه وسلم وشاهده وآمن به وأتبعه ولو ساعة من نهار أفضل ممن لم يره ولم يشاهده ، ولو أتى بأعمال اهل الجنة أجمعين ، ثم الترحم على جميع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم صغيرهم وكبيرهم ، وأولهم وآخرهم
، وذكر(1/28)
محاسنهم ، ونشر فضائلهم والاقتداء بهديهم والاقتفاء لآثارهم وأن الحق في كل ما قالوه
، والصواب فيما فعلوه ) .
وقال الامام البربهاري : ( واعلم أنه من تناول أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم
فاعلم انما أراد محمدا صلى الله عليه وسلم وقد آذاه في قبره ) .
وقال أيضا : ( واذا رأيت الرجل يطعن على أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم
فاعلم انه صاحب قول سوء وهوى ) .
وقال الامام ابو بكر الحميدي شيخ البخاري : ( السنة عندنا أن يؤمن الرجل بالقدر خيره وشره ... - فعد مسائل اللا ان قال - : والترحم على أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كلهم فان الله عز وجل قال : ( والذين جآءو ... ... رحيم ) < الحشر - 10 > . فلم يؤمر الا بالاستغفار لهم فمن سبهم أو بعضهم او أحدا منهم وليس له في الفيء حق أخبرنا بذلك غير واحد عن مالك بن أنس ) .
وقال الامام حرب صاحب الامام أحمد في مسائله : ( وذكر محاسن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم والكف عن ذكر مساويهم التي شجرت بينهم فمن سب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أو واحد منهم ، أو نقصه ، أو طعن عليه ، أو عرض بعيبهم ، أو عاب احدا منهم فهو مبتدع رافضي خبيث مخالف ، لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا ، بل حبهم سنة والدعاء لهم قربة والاقتداء بهم وسيلة ، والأخذ بلآثارهم فضيلة ، وخير الأمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم أبو بكر وعمر بعد أبي بكر وعثمان بعد عمر وعلي بعد عثمان ، ووقف قوم على عثمان: وهم خلفاء راشدون مهديون ثم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هؤلاء الأربعة خير الناس ،
لا يجوز لأحد أن يذكر شيئا من مساويهم ولا أن يطعن على واحد منهم بعيب ولا نقص فمن فعل ذلك فقد وجب على السلطان تأديبه وعقوبته ، ليس له أن يعفو عنه بل يعاقبه ويستتيبه فان تاب قبل منه ، وان لم يتب أعاد عليه العقوبة وخلده في الحبس حتى يموت او يرجع ) . (1)(1/29)
وقال ابن شاهين : ( وأن أفضل الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أبو بكر وعمر وعثمان وعلي عليهم السلام ، وأن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم أخيار أبرار واني أدين الله بمحبتهم وأبرأممن سبهم أو لعنهم أو ضللهم أو خونهم أو كفرهم ) . (2)
-------------
(1)- نقله ابن القيم في حادي الأرواح < ص: 294 > .
(5)- الكتاب اللطيف لشرح مذاهب اهل السنة <ص:251>.
وقال الامام المزني صاحب الامام الشافعي عن الصحابة : ( ونخلص لكل رجل منهم من المحبة بقدر الذي أوجب لهم رسول الله ويقال بفضلهم . ويذكرون بمحاسن أفعالهم ونمسك عن الخوض فيما شجر بينهم ، فهم خيار أهل الأرض بعد نبيهم ارتضاهم الله عز وجل لنبيه وخلقهم أنصارا لدينه ، فهم ائمة الدين واعلام المسلمين فرحمة الله عليهم أجمعين ) (1) .
ثم قال حاكيا الاجماع على هذه العقيدة : ( هذه مقالات وأفعال اجتمع عليها الماضون الأولون من أئمة الهدى ، وبتوفيق الله اعتصم بها التابعون قدوة ورضى ، وجانبوا التكلف فيما كفوا ، فشددوا بعون الله ووفقوا ، لم يرغبوا عن الاتباع فيقصروا ، ولم يجاوزوه تزيدا فيعتدوا ، فنحن باله واثقون ، وعليه متوكلون واليه في اتباع آثارهم راغبون ) < 2 > .
وقال الامام أبو حنيفة : ( ولا نذكر احد من صحابة الرسول الا بخير ) .
وقال أيضا : ( مقام أحدهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ساعة واحدة خير من عمل أحدنا جميع عمره وان طال ) .
--------------------
(1)- رسالته شرح السنة التي يبين فيها جملة من اعتقاد أهل السنة .
(2)-المصدر السابق .
وقال ايضا : ( ويحبهم كل مؤمن تقي ويبغضهم كل منافق شقي ) .
وقال ابن ابي زيد في مقدمة الرسالة : ( ولا يذكرأحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الا بأحسن الذكر ، والامساك عما شجر بينهم ، وأنهم أحق الناس أن تلتمس لهك المخارج ، ويظن بهم أحسن المذاهب ... واتباع السلف الصالح ، واقتفاء آثارهم ,الاستغفار لهم ) .(1/30)
قال القاضي عبد الوهاب في شرحه للرسالة : ( لأن فيه سلامة الدين وتعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم وقبول وصيته ) .
وقال الآجري بعدما روى حديثا في فضل الصحابة : ( فمن سمع فنفعه الله الكريم بالعلم أحبهم أجمعين المهاجرين والانصار وأصهار رسول الله صلىالله عليه وسلم ، من تزوج اليهم ومن زوجهم وجميع أهل بيته الطيبين وجميع أزواجه ، واتقى الله الكريم فيهم ولم يسب واحدا منهم ولم يذكر فيما شجر بينهم ، واذا سمعوا واحدا يسب أحدا منهم نهاه وزجره ونصحه ، فان أبى هجره ولم يجالسه ، فمن كان على هذا مذهبه رجوت له من الله الكريم كل خير في الدنيا والآخرة ) .
قال ابن حزم رحمه الله : ( أما الصحابة رضي الله عنهم فهو كل من جالس النبي صلى الله عليه وسلم ولو ساعة سمع منه ولو كلمة فما فوقها ، أو شاهد منه عليه السلام أمرا يعيه ، ولم يكن من المنافقين الذين اتصل نفاقهم واشتهر حتى ماتوا على ذلك ولا مثل من نفاه عليه الاسلام باستحقاقه كهيت المخنث ومن جرى مجراه فمن كان كما وصفنا أولا فهو صاحب ، وكلهم عدل امام فاضل رضى ،
فرض علينا توقيرهم وتعظيمهم ، وأن نستغفر لهم ونحبهم ، وتمرة يتصدق بها أحدهم أفضل من صدقة أحدنا بما يملك ، وجلسة من الواحد منهم مع النبي صلى الله عليه وسلم أفضل من عبادة أحدنا دهره كله ، وسواء كان من ذكرنا على عهده عليه السلام صغيرا أوبالغا فقد كان النعمان بن بشير وعبد الله بن الزبير والحسن والحسين ابنا علي رضي الله عنهم أجمعين من أبناء العشر فأقل اذ مات النبي صلى الله عليه وسلم ،. وأما الحسن فكان حينئذ ابن ست سنين اذ مات النبي صلى الله عليه وسلم(1/31)
وكان محمود بن الربيع ابن خمس سنين اذ مات النبي صلى الله عليه وسلم وهو يعقل مجة مجها النبي صلى الله عليه وسلم في وجهه من ماء دارهم ، وكلهم معدودون من خيار الصحابة ، مقبولون فيما رووا عنه عليه السلام أتم القبول وسواء من ذلك الرجال والنساء والعبد والأحرار ) .
قال ابن القيم : أفضل الناس في الرأي : والمقصود أن أحدا ممن بعدهم لا يساويهم في رأيهم ، وكيف يساويهم ؟ وقد كان أحدهم يرى الرأي فينزل القرآن بموافقته ! كما راى عمر في أسارى بدر أن تضرب أعناقهم ، فنزل القرآن بموافقته ، وراى أن تحجب نساء النبي صلى الله عليه وسلم فنزل القرآن بموافقته ، وقال لنساء النبي صلى الله عليه وسلم لما اجتمعن في الغيرة عليه : ( عسى ربه ان طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن مسلمات مؤمنات ) ، فنزل القرآن بموافقته ، ولما توفى عبد الله بن أبي قام النبي عليه الصلاة والسلام ليصلي عليه ، فقام عمر فأخذ بثوبه ، فقال : يا رسول الله انه منافق فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله عليه : ( ولا تصل ... .. قبره ) < التوبة – 84 > .
وقال الامام النووي في شرح مسلم : ( وفضيلة الصحبة ولو لحظة لا يوازيها عمل ولا تنال درجتها بشيء ) .
وقال الحافظ ابن حجر في الفتح : ( الذي ذهب اليه الجمهور أن فضيلة الصحابة لا يعدلها عمل لمشاهدة
رسول الله صلى الله عليه وسلم ) .
قال الصنعاني الأمير في ثمرات النظر في علم الأثر وأما الصحابة رضي الله عنهم فلهم شأن جليل وشأو نبيل ومقام رفيع وحجاب منيع فارقوا في دين الله أهلهم وأوطانهم وعشائرهم واخوانهم وأنصارهم وأعوانهم وهم الذين أثنى الله جل جلاله عليهم في كتابه وأودع ثنائهم شريف كلامه وخطابه وفيهم
الممادح النبوية والأخبار الرسولية بأنه لا يبلغ أحد مد أحدهم ولا نصيفه ولو أنفق مثل أحد ذهبا ) .(1/32)
قلت : وانما حصل واستحق الصحابة الكرام هذا الثناء الجميل في الكتاب والسنة وأقوال سلف الأمة لما بذلوه في نصرة النبي صلى الله عليه وسلم والدفاع عنه حتى ان الرجل الواحد منهم كان يفدي النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه وماله وأهله وولده ولا يقبل أن يصاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأدنى سوء . وهم الذين ضربوا للأجيال من بعدهم أمثلة رائعة في التضحية والصبر حتى انهم أكلوا أوراق الشجر وربطوا الحجر على بطونهم ، وهم الذين جاهدوا في الله حق جهاده حتى بلغوا بالاسلام أقاصي البلاد وأبهروا أعدائهم ببسالتهم وشجاعتهم في القتال ، فقد روى ابن كثير عن ابي اسحاق قال : ( كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يثبت لهم العدو فواق ناقة عند اللقاء (1) ، فقال هرقل – وهو على انطاكية لما قدمت منهزمة الروم – ويلكم أخبروني عن هؤلاء
القوم الذين يقاتلونكم أليسوا بشرا مثلكم ؟ فقالوا : بلى ، قال : فأنتم أكثر أم هم ؟ قالوا : بل نحن أكثر منهم أضعافا في كل موطن . قال : فما بالكم تنهزمون ؟ فقال شيخ من عظمائهم : من أجل أنهم يقومون الليل ويصومون النهار ، ويوفون بالعهد ، ويأمرون بالمعروف ، وينهون عن المنكر ،
ويتناصفون بينهم ، ومن أجل أنا نشرب الخمر ، ونزني ، ونركب الحرام ، وننقض العهد ، ونغصب ونظلم ، ونأمر بالسخط ، وننهى عما يرضي الله ، ونفسد في الأرض فقال أنت صدقتني ) (2) .
-------------------
(1)- الفواق : ما بين الحلبتين من الوقت .
(2) – البداية والنهاية .
بيان الحق فيما وقع بين الصحابة الكرام
رضي الله عنهم أجمعين
أما ما شجر بينهم فأعدل الأقوال قول أهل السنة والجماعة .
قال الامام أبوحسن الأشعري في ( رسالة الى أهل الثغر ) ضمن ذكره لما أجمع عليه السلف الصالحون
((1/33)
ص-172): ( الاجماع الثامن والأربعون : وأجمعوا على الكف عن ذكر الصحابة عليهم السلام الا بخير ما يذكرون به ، وعلى انهم أحق أن ينشر محاسنتهم / ويلتمس لأفعالهم أفضل المخارج ، وأن نظن بهم أحسن الظن وأحسن المذاهب ممتثلين بذلك لقوله عليه الصلاة والسلام : ( اذا ذكر أصحابي فأمسكوا ) وقال أهل العلم : ( معنى ذلك لاتذكروهم الا بخير الذكر ) .
وقال أيضا في الابانة : ( فأما ما جرى بين علي والزبير وعائشة رضي الله عنهم فانما كان على تأويل واجتهاد ، وعلي الامام وكلهم من أهل الاجتهاد وقد شهد لهم النبي بالجنة والشهادة فدل على انهم كلهم كانوا على حق في اجتهادهم ، وكذلك ما جرى بين علي ومعاوية رضي الله عنهما كان على تأويل واجتهاد وكل الصحابة ائمة مؤمنون غير متهمين في الدين وقد أثنى الله ورسوله على جميعهم وتعبدنا بتوقيرهم وتعظيمهم وموالاتهم والتبري من كل من ينقص أحدا منهم رضي الله عن جمعهم ،
وقد قلنا في الاقرار قولا وخبرا والحمد لله أولا وأخيرا ).
قال الامام الآجري : ( ولا يذكر ما شجر بينهم ولا ينقر عنه ولا يبحث ، فان عارضنا جاهل مفتون قد خطىء به عن طريق الرشاد فقال : لم قاتل فلان لفلان ولم قاتل فلان لفلان وفلان ؟ قيل له : ما بنا وبك الى ذكر هذا حاجة تنفعنا ولا اضطررنا الى عملها . فان قال : ولم ؟
قيل له : لأنها فتن شاهدها الصحابة رضي الله عنهم فكانوا فيها على حسب ما أراهم العلم بها وكانو أعلم بتأويلها من غيرهم وكانوا أهدى سبيلا ممن جاء بعدهم لأنهم أهل الجنة عليهم نزل القرآن وشاهدوا الرسول صلى الله عليه وسلم وجاهدوا معه وشهد لهم الله عز وجل بالرضوان والمغفرة والأجر العظيم ، وشهد لهم الرسول صلى الله عليه وسلم انهم خير قرن .
فكانوا بالله عز وجل أعرف وبرسوله صلى الله عليه وسلم ، وبالقرآن والسنة ومنهم يؤخذ العلم وفي قولهم نعيش وبأحكامهم نحكم وبأدبهم نتأدب ولهم نتبع وبهذا أمرنا .(1/34)
فان قال : وايش الذي يضرنا من معرفتنا لما جرى بينهم والبحث عنه ؟
قيل له : ما لا شك فيه وذلك أن عقول القوم كانت أكبر من عقولنا ، وعقولنا أنقص بكثير ولا نؤمن أن نبحث عما شجر بينهم ، فنزل عن طريق الحق ونتخلف عما أمرنا فيهم .
فان قال وبما أمرنا فيهم ؟
قيل : أمرنا بالاستغفار لهم والترحم عليهم والمحبة لهم والاتباع لهم دل على ذلك الكتاب والسنة
وقول المسلمين . وما بنا حاجة الى ذكر ما جرى بينهم قد صحبوا الرسول صلى الله عليه وسلم وصاهرهم وصاهروه فبالصحبة يغفر الله الكريم لهم .
وقد ضمن الله عز وجل في كتابه أن لا يخزي منهم واحدا ، وقد ذكر الله تعالى في كتابه أن وصفهم في التوراة والانجيل فوصفهم بأجمل الوصف ونعتهم بأحسن النعت ، وأخبرنا مولانا الكريم أن قد تاب عليهم ، واذا عليهم لم يعذب واحد منهم أبدا رضي الله عنهم ورضوا عنه ، أولئك حزب الله الا ان حزب الله هم المفلحون .
فان قال : انما مرادي من ذلك لأن أكون عالما بما جرى بينهم فأكون لم يذهب علي ما كلنوا فيه لأني أحب ذلك ولا أجله .
قيل له : أنت طالب فتنة لأنك تبحث عما يضرك ولا ينفعك ولو اشتغلت باصلاح ما لله عز وجل عليك فيما تعبدك به من أداء فرائضه واجتناب محارمه كان أولى بك .
وقيل : ولا سيما في زماننا هذا مع قبح ما قد ظهر فيه من الأهواء الضالة .
وقيل له : اشتغالك بمطعمك وملبسك من اين هو ؟ أولى بك أو تكسبك لدرهمك من أين هو ؟ وفيما تنفقه أولى بك .
وقيل : لا يأمن أن يكون بتنقيرك وبحثك عما شجر بين القوم الى أن يميل قلبك فتهوى ما لا يصلح
لك أن تهواه ويلعب بك الشيطان فتسب وتبغض من أمرك الله بمحبته والاستغفار له وباتباعه فتزل عن طريق الحق وتسلك طريق الباطل ) .
قال شيخ الاسلام : ( ومن أصول أهل السنة والجماعة سلامة قلوبهم وألسنتهم لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم – الى أن قال – ويمسكون عما جرى بين الصحابة ،(1/35)
ويقولون : ان هذه الآثار المروية في مساوئهم منها ما هو كذب ومنها ما قد زيد فيه ونقص وغير عن وجهه ، والصحيح منه هم فيه معذورون ، واما مجتهدون مصيبون واما مجتهدون مخطئون – الى أن قال - : ومن نظر في سيرة القوم بعلم وبصيرة وما من الله عليهم به من الفضائل ؛ علما يقينا انهم خير الخلق بعد الأنبياء لا كان ولا يكون مثلهم ، وأنهم صفوة من قرون هذه الأمة اليي هي خير الأمم وأكرمها على الله ) .
قال الامام ابن بطة العكبري : ( نكف عما شجر بين أصحاب رسول الله صلىالله عليه وسلم فقد شهدوا المشاهد معه سبقوا الناس بالفضل . فقد الله لهم وأمرك بالستغفار لهم ، والتقرب اليه بمحبتهم
وفرض ذلك على لسان نبيه ، وهو يعلم ما سيكون منهم وأنهم سيقتتلون وانما فضلوا على سائر الخلق
لأن الخطأ والعمد قد وضع عنهم وكل ما شجر بينهم مغفور لهم ) .
وقال عمر بن عبد العزيز : وسئل عن أمر الحرب التي جرت بينهم فقال : تلك دماء كف الله يدي فيها ، فلا أحب أن أغمس لساني فيها وأرجوا أن يكونوا ممن قال الله عز وجل فيهم : ( ونزعنا
ما في صدورهم من غل ) < الحجر – 47 > .
وفي رواية عنه قال : ( دماء لم أغمس فيها يدي أغمس فيها لساني ؟ ) . وفي أخرى : ( دماء غيّب الله عنها يدي أحضرها بلساني ) .
قال أبو قاسم الأصفهاني التيمي : ( فالصحابة رضي الله عنهم كانوا أخير الناس وهم ائمة لمن بعدهم والامام اذا لاح له الخير في شيء حتى فعله لا يجب أن يسمى ذلك الشيء اساءة ، اذ المساوىء ما كان على اختيار في قصد الحق من غير امام فكيف تعد أفعالهم مساوىء وقد أمر الله عز وجل بالاقتداء بهم .. طهر الله قلوبنا من القدح فيهم وألحقنا بهم ) .(1/36)
قال القرطبي رحمه الله ذابّا عن الصحابي الجليل عقبة بن عامر رضي الله عنه : ( فمن نسبه أو واحدا من الصحابة الى الكذب فهو خارج عن الشريعة مبطل للقرآن طاعن على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومتى ألحق واحد منهم تكذيبا فقد سب ، لأنه لا عار وعيب بعد الكفر بالله أعظم من الكذب ، وقد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم من سب اصحابه فالمكذب لأصغرهم – ولا صغير فيهم – داخل في لعنة الله التي شهد بها رسول الله صلىالله عليه وسلم وألزمها كل من سب واحدا من أصحابه أو طعن عليه ) . < الجامع لأحكام القرآن (16/285) .
قال ابن كثير : ( ومعاوية معذور عند جمهور العلماء سلفا وخلفا ) . وقال أيضا : ( وأما ما شجر بينهم بعده عليه الصلاة والسلام فمنه ما وقع عن غير قصد كيوم الجمل ، ومنه ما كان عن اجتهاد كيوم صفين . والاجتهاد يخطىء ويصيب ، ولكن صاحبه معذور وان أخطأ ومأجور أيضا ، وأما المصيب فله أجران اثنان ، وكان علي وأصحابه أقرب الى الحق من معاوية وأصحابه رضي الله عنهم
أجمعين ) < اختصار علوم الحديث ( الناعث الثيث ) " 182 " > .
وسئل الامام أحمد عما جرى بينهم فقرأ : ( تلك أمة ---- يعملون ) " البقرة – 141 " .
ويرى أهل السنة والجماعة أن معاوية رضي الله عنه كان في قتاله مع علي مجتهدا متأولا وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( اذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران واذا حكم فاجتهد فأخطأ فله أجر ) " رواه البخاري ومسلم " .
وقد تقرر في شرعنا الحنيف أن ما وقع بين الصحابة الكرام وجب القول فيه بحق وعدل وانصاف ،
هدى الله ووفق أهل السنة والجماعة لذلك فقالوا : خيرا في جميع صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم فعندهم أن المصيب مأجور والمتأول معذور ومن لم يقل فيهم خيرا مأزور ، ومن رماهم بالثلب ابتلاه الله بموت القلب .(1/37)
قال يزيد بن الأصم : ( سئل علي عن قتلى يوم صفين فقال : قتلانا وقتلاهم في الجنة ويصير الأمر الي والى معاوية ) . " أخرجه ابن ابي شيبة في المصنف (7/552) ، وذكر نحوه الذهبي في السير (3/144) .
قال النووي : ( وأما الحروب التي جرت فكانت لكل طائفة شبهة اعتقدت تصويب أنفسها بسببها
وكلهم عدول رضي الله عنهم متأولون في حروبهم وغيرها ، ولم يخرج شيء من ذلك أحدا منهم عن العدالة لأنهم مجتهدون اختلفوا في مسائل من محل الاجتهاد كما يختلف المجتهدون بعدهم في مسائل من الدماء وغيرها ولا يلزم من ذلك نقص أحد منهم ، واعلم أن سبب تلك الحروب أن القضايا كانت مشتبهة فلشدة اشتباهها اختلف اجتهادهم وصاروا ثلاثة أقسام :
* - قسم ظهر لهم بالاجتهاد أن الحق في هذا الطرف وأن مخالفه باغ ، فوجب عليه نصرته وقتال الباغي عليه فيما اعتقدوه ففعلوا ذلك ولم يكن يحل لمن هذه صفته التأخر عن مساعدة امام العدل في قتال البغاة في اعتقاده .
? · - وقسم عكس هؤلاء ظهر لهم بالاجتهاد أن الحق في الطرف الآخر فوجب عليهم مساعدته وقتال الباغي عليه .
? · - وقسم ثالث اشتبهت عليهم القضية وتحيروا فيها ولم يظهر لهم ترجيح أحد الطرفين فاعتزلوا الفريقين وكان هذا الاعتزال هو الواجب في حقهم لأنه لا يحل الاقدام على قتال مسلم حتى يظهر أنه مستحق لذلك ، ولو ظهر لهؤلاء رجحان أحد الطرفين وأن الحق معه لما جاز لهم التأخر عن نصرته في قتال البغاة عليهم فكلهم معذورون رضي الله عنهم ، ولهذا أهل الحق ومن يعتد به في الاجماع على قبول شهاداتهم ورواياتهم وكمال عدالتهم رضي الله عنهم أجمعين ) .
" شرح مسلم (15-149) " .
قال الجوزقاني عن معاوية : ( تولى الامارة عشرين سنة من قبل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ،(1/38)
وأمير المؤمنين عثمان وتوفى سنة ستين من الهجرة في رجب ، فنحن : ان عثمان بن عفان رضي الله عنه لما قتل مظلوما ، فسمع معاوية رضي الله عنه وأطاع وطلب منه أن يقتل قتلة عثمان رضي الله عنه قصاصا ، فامتنع من قتلهم ، لأن مذهبه رضي الله عنه أن لا يقتل الجماعة بالواحد ، فتأول معاوية حينئذ ، وطلب قتلة ابن عمه عثمان ، لأن عثمان بن عفان بن ابي العاص بن أمية بن عبد شمس لقول الله تعالى : ( ومن قتل ------ سلطانا ) " ألاسراء 33 " الآية . فخرج يقاتل على التأويل ، وبايع له جمهور الصحابة ومن لا يحصى من التابعين الى أن استقر الأمر على التحكيم بعد الحروب العظيمة ، فحكم له بالخلافة وبويع عليها يومئذ باجماع ، وهذه قصة مشهورة ) – < الأباطيل والمناكير والصحاح والمشاهير ( ص: 101 ) .
قلت : الصواب أنه لم يحصل الاجماع على خلافته الا بعد تنازل الحسن بن علي رضي الله تعالى عنه .(1/39)
أما ما يحكى ويروى في كتب التواريخ مثل مهزلة التحكيم وتصوير عمرو بن العاص رضي الله عنه بصورة الرجل الكائد المخادع الناقض للعهد ، وتصوير ابي موسى الأشعري بصورة الرجل المغفل المخدوع الذي لا يدري ما يدور حوله . ومثل حكايات لعن علي رضي الله تعالى عنه على منابر معاوية وغيرها من الأكاذيب والمختلقات فلا نشك جازمين أن ذلك مما دسه أعداء الاسلام في تاريخه كالروافض وغيرهم لتشويه سمعة الصحابة ليتأتى لهم اسقاط عدالتهم ودينهم ثم بعد ذلك ينقضوا الاسلام عروة عروة ، فعلينا أن نخضع التاريخ ورواياته للميزان المحدثين نخلصه مما دس فيه وشوه جمالية الاسلام ونقاءه .فان أغلب هذه الروايات التي فيها تنقيص الصحابة وخاصة معاوية هي من طريق الاخباري أبي مخنف لوط بن يحيى الرافضي المحترق وغيرهم ممن هم على شاكلته فلا تغتر أخي القارىء بوجود مثل هذه الأخبار في كتب المؤرخين الكبار كالطبري وغيرهم فهم قد ساقوا ذلك بأسانيدهم ومعلوم أنه من أسند لك فقد أحالك وبرئت ذمته . قال ابن العربي : ( وقد تحكم الناس بالتحكيم فقالوا فيه ما لا يرضي الله ، واذا لاحظتموه بعين المروءة – دون الديانة – رأيتم أنها سخافة حمل على سطرها في الكتب في الأكثر عدم الدين ، وفي الأقل جهل المتين ) .
وبخصوص ما وقع في صفين أنقل لك أخي القارىء فصلا من كتاب ( عقيدة أهل السنة والجماعة في الصحابة الكرام ) لناصر بن عائض حسن الشيخ . فقد ذلك من كتب التاريخ بروح متحررة فأجاد وأفاد جزاه الله خيرا .(1/40)
قال في الجزء< 2/717-726> : ( فقد دارت رحى رحا الحرب فيها بين أهل العراق من أصحاب علي رضي الله تعالى عنه وبين أهل الشام من أصحاب معاوية بن ابي سفيان رضي الله تعالى عنهما ذلك أن عليا رضي الله عنه لما فرغ من وقعة الجمل ودخل البصرة وشيع أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها لما أرادت الرجوع الى مكة ثم سار من البصرة الى الكوفة فدخلها وكان في نيته أن يمضي ليرغم أهل الشام على الدخول في طاعته كما كان في نية معاوية ألا يبايع حتى يقام الحد على قتلة عثمان رضي الله عنه ، أو يسلموا اليه ليقتلهم ، ولما دخل علي رضي الله عنه الكوفة شرع في مراسلة معاوية
بن أبي سفيان رضي الله عنهما فقد بعث اليه جرير بن عبد الله البجلي ومعه كتاب أعلمه فيه : باجتماع المهاجرين والأنصار على بيعته ودعاه فيه الى الدخول فيما دخل فيه الناس فلما انتهى اليه جرير بن عبد الله البجلي أعطاه الكتاب فطلب معاوية عمرو بن العاص ورؤوس أهل الشام فاستشارهم فأبوا أن يبايعوا حتى يقتل قتلة عثمان ، أو أن يسلم اليهم قتلة عثمان وان لم يفعل لم يبايعوه حتى يقتل قتلة عثمان رضي الله عنه فرجع جرير الى علي فأخبره بما قالوا : وحينئذ خرج من الكوفة عازما على دخول الشام فعسكر بالنخيلة وبلغ معاوية أن عليا قد خرج بنفسه فاستشار عمرو بن العاص فقال له : أخرج أنت أيضا بنفسك فتهيأ أهل الشام وتأهبوا ، وخرجوا أيضا : الى نحو الفرات من ناحية صفين حيث يكون مقدم علي بن أبي طالب رضي الله عنه وسار علي رضي الله عنه
بمن معه من الجنود من النخيلة قاصدا أرض الشام فالتقى الجمعان في صفين أوائل ذي الحجة سنة ست وثلاثين ) .
ومكث علي يومين لا يكاتب معاوية ، ولا يكاتبه معاوية ، ثم دعا علي بشير بن عمرو الأنصاري وسعيد بن قيس الهمداني ، وشبث بن ربعي التميمي فقال لهم : ائتوا هذا الرجل فادعوه الى الطاعة(1/41)
والجماعة واسمعوا ما يقول لكم فلما دخلوا على معاوية جرى بينه وبينهم حوار لم يوصلهم الى نتيجة فما كان من معاوية الا ان أخبرهم أنه مصمم على القيام بطلب دم عثمان الذي قتل مظلوما ) .
ولما رجع أولئك النفر الى علي رضي الله عنه وأخبروه بجواب معاوية رضي الله عنه لهم وأنه لن يبايع
حتى يقتل القتلة أويسلمهم ) عند ذلك نشبت الحرب بين الفريقين واقتتلوا مدة شهر ذي الحجة كل يوم ، وفي بعض الأيام ربما اقتتلوا مرتين ولما دخل شهر المحرم تحاجز القوم رجاء أن تكون بينهم مهادنة وموادعة يؤول أمرها الى الصلح بين الناس وحقن دمائهم ) ثم في خلال هذا الشهر بدأت مساعي الصلح والمراسلة تتكرر بين الطرفين ولكن انسلخ شهر محرم ولم يحصل لهم أي اتفاق ، ولم يقع بينهم صلح . ثم نشبت الحرب بين الطائفتين أياما ثمانية وكان أشدها وأعنفها ليلة التاسع من صفر سنة سبع وثلاثين حيث سميت هذه الليلة ( ليلة الهرير ) تشبيها لها بليلة القادسية اشتد القتال فيها حتى توجه النصر فيها لأهل العراق على أهل الشام ) وتفرقت صفوفهم وكادوا ينهزمون فعند ذلك رفع أهل الشام المصاحف فوق الرماح وقالوا : هذا بيننا وبينكم قد فنى الناس فمن لثغور أهل الشامبعد أهل الشام ، ومن لثغور أهل العراق بعد أهل العراق ، فلما رأى الناس المصاحف قد رفعت قالوا : نجيب الى كتاب الله عز وجل وننيب اليه .
ولما رفعت المصاحف بالرماح توقفت الحرب ولما رفع أهل الشام المصاحف اختلف أصحاب علي رضي الله عنه وانقسموا عليه : من راى الموافقة على التحكيم ، ومنهم من كان يرى الاستمرار في القتال حتى يحسم الأمر ، وهذا كان رأي علي رضي الله عنه في بادىء الأمر ، ثم وافق أخيرا على التحكيم ) .(1/42)
فتم الاتفاق بين الفريقين على التحكيم بعد انتهاء موقعة صفين وهو أن يحكّم كل واحد منهما رجلا من جهته ، ثم يتفق الحكمان على ما فيه مصلحة المسلمين فوكل معاوية عمرو بن العاص ووكل علي أبا موسى الأشعري رضي الله عنهم جميعا ، ثم أخذ الحكمان من علي ومعاوية ومن الجندين العهود والمواثيق أنهما آمنان على أنفسهما وأهلهما والأمة لهما أنصار على الذي يتقاضيان عليه ، وعلى المسلمين والمؤمنين من الطائفتين – كليهما – عهد الله وميثاقه أنهما على ما في ذلك الكتاب وأجلا القضاء الى رمضان وان أحبا أن يؤخرا ذلك فعلى تراض منهما وكتب في يوم الأربعاء لثلاث عشرة خلت من صفر سنة سبع وثلاثين على أن يوافي علي و معاوية موضع الحكمين بدومة الجندل في رمضان ، ومع كل واحد من الحكمين أربعمائة من أصحابه ، فان لم يجتمعا لذلك من العام المقبل بأذرح ولما كان من شهر رمضان جعل الاجتماع كما تشراطوا عليه وقت التحكيم بصفين وذلك أن عليا رضي الله عنه لما كان مجيء رمضان بعث أربعمائة فارس من أهل الشام ومعهم عبد الله بن عمر،
فتوافوا بدومة الجندل بأذرح وهي نصف المسافة بين الكوفة والشام بينه وبين كل من البلدين تسع مراحل، وشهد معهم جماعة من رؤوس الناس كعبد الله بن عمر ، وعبد الله بن الزبير ، والمغيرة بن شعبة ، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام المخزومي وعبد الرحمن بن عبد يغوث الزهري ، وأبو جهم بن حذيفة فلما اجتمع الحكمان وتراوضا على المصلحة للمسلمين ونظر في تقدير أمور ثم اتفقا على أن يكون الفصل في موضوع النزاع بين علي ومعاوية يكون لأعيان الصحابة الذين توفي الرسول صلى الله عليه وسلم وهو راض عنهم هذا ما اتفق عليه الحكمان فيما بينهما لاشيء سواه .(1/43)
أما ما يذكره المؤرخون من أن الحكمين لما اجتمعا بأذرح من دومة الجندل وتفاوضا واتفقا على أن يخلعا الرجلين فقال عمرو بن العاص لأبي موسى : اسبق بالقول فتقدم فقال : اني نظرت فخلعت عليا عن الأمر وينظر المسلمون لأنفسهم كما خلعت سيفي هذا من عنقي أو عاتقي وأخرجه من عنقه فوضعه في الأرض ، وقام عمرو فوضع سيفه في الأرض وقال : اني نظرت فأثبت معاوية في الأمر : كما أثبت سيفي هذا في عاتقي وتقلده ، فأنكر أبو موسى فقال عمرو : كذلك اتفقنا وتفرق الجمع على ذلك من الاختلاف ) .
فهذه البدع وما يشبهها من اختلاف أهل الأهواء والبدع الذين لا يعرفون قدر أبي موسى وعمرو بن العاص ومنزلتهما الرغ\فيعة في الاسلام . قال ابو بكر بن العربي مبينا كذب ذلك : ( هذا كذب صراح ما جرى منه حرف قط ، وانما هو شيء أخبر عنه المبتدعة ووضعته التاريخية للملوك فتوارثه أهل المجانة والجهارة بمعاصي الله والبدع ) " العواصم - : 179 " .
ولم يكتف الواضعون من أهل التاريخ بهذا بل وسمّوا الحكمين بصفات يتخذون منها وسيلة للتفكه والتندر ، وليتخذ منها أعداء الاسلام صورا هزيلة لأعلام الاسلام في مواقف حرجة ، فقد وصفوا عمرو بن العاص رضي الله عنه بأنه كان صاحب غدر وخداع ، ووصفوا أبا موسى بأنه كان أبله ضعيف الرأي مخدوعا في القول كما وصفوه بأنه كان على جانب كبير من الغفلة .
ولذلك خدعه عمرو بن العاص في قضية التحكيم حيث اتفقا على خلع الرجلين فخلعهما ابو موسى(1/44)
واكتفى عمرو بخلع علي دون معاوية .. كل هذه الصفات الذميمة يحاول المغرضون الصاقها بهذين الرجلين العظيمين اللذين اختارهما المسلمون ليفصلا في خلاف كبير أدى الى قتل الآلآف من المسلمين، وكل ذي لب يعلم أن المسلمين لا يسندون الفصل في هذه الأمر الى أبي وموسى وعمرو بنالعاص رضي الله عنهما الا لعلمهم بما هما عليه من الفضل ، وانهما من خيار الأمة المحمدية ، ومن أكثرهم ثقة وورعا وأمانة فكيف يصفون الافلون هذين الرجلين بما وصفوهما به من المكيدة والخداع وضعف الرأي والغفلة ، ولكن تلك الأوصاف هي أليق بمن تفوه بها من أهل الأهواء ، وقد تجاهل
أولئك الواصفون لأبي موسى وعمرو بما تقدم ذكره أمورا لو دققوا النظر فيها لاستحيوا من ذكر
تلك الأوصاف وتلك الأمور هي :
الأمر الأول : أنهم تجاهلوا أن معاوية لم يكن خليفة ولا هو ادعى الخلافة يومئذ حتى يحتاج عمرو
الىخلعها عنه أو تثبيتها له .
الأمر الثاني : أن سبب النزاع هو أخذ الثأر لعثمان رضي الله عنه من قتلته فلما طلب علي البيعة من معاوية ( عتل بان عثمان قتل مظلوما وتجب المبادرة الى الاقتصاص من قتلته وأنه أقوى الناس على طلب بذلك ، والتمس من علي أن يمكنه منهم ثم يبايع له بعد ذلك ) ، ومعنى هذا أن معاوية كان مسلما لعلي بالخلافة لأن الطلب منه بوصفه الخليفة تسليم القتلة ، أو اقامة الحد عليهم باعتباره أمير المؤمنين ، وكان رأي علي أن يدخل معاوية ومن معه من أهل الشام فيما دخل فيه الناس من البيعة
له ، ثم يتقدم أولياء عثمان بالمحاكمة اليه ( فان ثبت على أحد بعينه انه ممن قتل عثمان اقتص منه فاختلفوا بحسب ذلك ) .(1/45)
قال ابو محمد بن حزم مبينا أن القتال الذي دار بين علي ومعاوية كان مغايرا لقتال علي الخوارج حيث قال : ( واما أمر معاوية رضي الله عنه فبخلاف ذلك ولم يقاتله علي رضي الله عنه لامتناعه من بيعته لأنه كان يسعه في ذلك ما وسع ابن عمر وغيره ولكن قاتله لامتناعه من انفاذ أوامره في جميع أرض الشام وهو الامام الواجبة طاعته فعليّ المصيب في هذا ولم ينكر معاوية قط فضل علي واستحقاقه الخلافة لكن اجتهاده أداه الى أن رأى تقديم أخذ القود من قتلة عثمان رضي الله عنه على البيعة وراى نفسه أحق بطلب دم عثمان والكلام فيه من ولد عثمان وولد الحكم بن العاص لسنه ولقوته على الطلب بذلك كما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الرحمن بن سهل أخا عبد الله بن سهل المقتول بخيبر بالسكوت وهو أخو المقتول وقال له : كبر كبر فسكت عبد الرحمن وتكلم محيصة وحويصة ابنا مسعود وهما ابنا عم المقتول لأنهما كانا أسن من أخيه ) فلم يطلب معاوية من ذلك الا ما كان له من الحق ان يطلبه وأصاب في ذلك الأثر الذي ذكرنا واما أخطأ في تقديمه ذلك على البيعة فقط فله أجر الاجتهاد في ذلك ولا اثم عليه فيما حرم من الاصابة كسائر المخطئين في اجتهادهم الذين أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لهم أجرا واحدا وللمصيب أجران – الى أن قال – وقد علمنا أن من لزمه حق واجب وامتنع ون أدائه وقاتل دونه فانه يجب على الامام أن يقاتله وان كان منا وليس ذلك بمؤثر في عدالته وفضله ولا بموجب له فسقا بل هو مأجور لاجتهاده ونيته في طلب الخير فبهذا قطعنا على صواب علي رضي الله عنه وصحة امامته وأنه صاحب الحق وأن له أجرين : أجر الاجتهاد وأجر الاصابة وقطعنا أن معاوية رضي الله عنه ومن معه مخطئون مجتهدون مأجورون أجرا واحدا ) .(1/46)
فابن حزم رحمه الله يقرر في هذا النص أن النزاع الذي كان بين علي ومعاوية انما هو في شأن قتلة عثمان وليس اختلافا على الخلافة اذ ان معاوية رضي الله عنه لم ينكر فضل علي واستحقاقه للخلافة وانما امتنع عن البيعة حتى يسلمه القتلة أو يقتلهم وكان علي رضي الله عنه يستمهله في الأمر حتى يتمكن ويفعل ذلك فتحكيمهما اذن هو في محل النزاع ، وليس من أجل الخلافة .
الأمر الثالث : أن موقف ابو موسى الأشعري في التحكيم لم يكن أقل من موقف عمرو بن العاص
في شيء ، ولذلك عد المؤرخون المنصفون هذا الموقف من مفاخر أبي موسى بعد موته بأجيال وصار مصدر فخر لأحفاده من بعده حتى قال ذو الرمة الشاعر مخاطبا بلال بن ابي بردة ابن أبي موسى الأشعري بأبيات منها :
أبوك تلافى الدين والناس بعدما تشاءوا وبيت الدين منقطع الكسر
فشد آصار الدين أيام أذرح ورد حروبا قد لقحن الى عقر
فلم يول رضي الله عنه في الفصل في قضية التحكيم الا لما علم فيه من الفطنة والعلم وقدرته على حل المعضلات فقد ولاّه النبي صلى الله عليه وسلم هو ومعاذ بن جبل قبل حجة الوداع على بلاد اليمن حيث بعث كل واحد منهما على مخلاف وأوصاهما عليه الصلاة والسلام بأن ييسرا ولا يعسرا وأن يبشرا ولا ينفرا وما توليته عليه الصلاة والسلام لأبي موسى الا لعلمه بصلاحه للامارة .(1/47)
قال العلاّمة ابن حجر رحمه الله عند شرحه لحديث بعث النبي صلى الله عليه وسلم أبا موسى ومعاذ الى اليمن : ( واستدل به على أن أبا موسى كان عالما فطنا حاذقا ، ولولا ذلك لم يوله النبي صلى الله علبه وسلم الامارة ولوكان فوّض الحكم لغيره لم يحتج الى توصيته بما وصّاه به ، ولذلك اعتمد عليه عمر ، ثم عثمان ثم علي ، وأما الخوارج والروافض فطعنوا فيه ونسبوه الى الغفلة ، وعدم الفطنة لما صدر منه بالتحكيم بصفين فالتحكيم لم يقع فيه خداع ولا مكر ولم تتخلله بلاهة ولاغفلة ، وأن عمرا لم يغالط أبا موسى ولم يخدعه ولم يقرر في التحكيم غير الذي قرره ابو موسى ولم يخرج عما اتفقا عليه من تفويض الحسم في موضع النّزاع الى النفر الذين بقوا على قيد الحياة ممن توفي عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو راض عنهم .
قال ابن كثير : ( والحكمان كانا من خيار الصحابة وهما : عمرو بن العاص السهمي من جهة أهل الشام ، والثاني أبو موسى عبدالله بن قيس الأشعري من جهة أهل العراق ، وانما نصبا ليصلحا بين الناس ويتفقا على أمر فيه رفق بالمسلمين وحقن دمائهم ، وكذلك وقع ) . واذا كان قرارهما الذي اتفقا عليه لم يتم فما في ذلك تقصير منهما فهما قد قاما بمهمتهما بحسب ما أدى اليه اجتهادهما واقناعهما ولو لم تكلفهما الطائفتان معا باداء هذه المهمة لما تعرضا لها ولا أبديا رأيا فيها ، وكل ما تقدم ذكره في هذا المبحث عن موقعتي الجمل وصفين وقضية التحكيم هو الائق بمقام الصحابة فمو خال مما دسه الشيعة الرافضة وغيرهم على الصحابة في تلك المواطن من الحكايات المختلفة والأحاديث الموضوعة ؛ ومما يعجب له الانسان أن أعداء الصحابة اذا دعوا الى الحق أعرضوا عنه وقالوا : لنا أخبارنا ولكم أخباركم ونحن حينئذ نقول لهم : سلام عليكم لانبتغي الجاهلين ) .(1/48)
قلت : أما عن الحديث الذي رواه مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعمار : ( تقتلك الفئة الباغية ) فالبغي هنا لا يلستلزم الفسق وخاصة ان كان صحبه متأولا .
قال شيخ الاسلام ابن تيمية في معرض كلامه على هذا الحديث : ( قد تأوله بعضهم على أن الباغية الطالبة بدم عثمان ، كما قالوا نبغي ابن عفان بأطراف الأسل ، وليس بشيء بل يقال ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو حق كما قاله ، وليس في كون عمار تقتله الفئة الباغية ماينافي ما ذكرناه فانه قد قال الله تعالى : ( وان طائفتان ----- بين أويكم ) "الحجرات"- 10 " . فقد جعلهم مؤمنين ، وليس كل من كان باغيا ، أو ظالما ، أو معتديا ، أو مرتكبا ما هو ذنب فهو "قسمان" متأول ، وغير متأول ، فالمتأول المجتهد : كأهل العلم والدين ، والذين اجتهدوا ، واعتقد بعضهم حل الأمور ، واعتقد الآخر تحريمها كما استحل بعضهم بعض أنواع الأشربة ، وبعضهم بعض المعاملات الربوية وبعضهم بعض عقود التحليل والمتعة وأمثال ذلك ، فقد جرى ذلك وأمثاله خيار السلف . فهؤلاء متأولون المجتهدون غايتهم أنهم مخطئون ، وقد قال الله تعالى : ( ربنا لا تؤاخذنا ان نسينا أو أخطأنا ) "البقرة : 286" . وقد ثبت في الصحيح أن الله استجاب هذا الدعاء .
وقد أخبر سبحانه عن داود وسليمان عليهما السلام أنهما حكما في الحرث ، وخص أحدهما بالعلم والحكم ، مع ثنائه على كل منهما بالعلم والحكم ، والعلماء ورثة الأنبياء ، فاذا فهم أحدهم من المسألة مالم يفهمه الآخر لم يكن بذلك ملوما ولا مانعا لما عرف من علمه ودينه ، وان كان ذلك مع العلم بالحكم يكون اثما وظلما ، والاصرار عليه فسق ، بل متى علم تحريمه ضرورة كان تحليله كفرا ، فالبغي هو من هذا الباب .(1/49)
اما اذا كان الباغي مجتهدا ومتأولا ، ولم يتبين له أنه باغ ، بل اعتقد أنه على الحق وان كان مخطئا في اعتقاده : لم تكن تسميته "باغيا " موجبة لاثمه ، فضلا عن توجب فسقه ، والذين يقولون بقتال البغاة المتأولين ، يقولون : مع الأمر بقتالهم قتالنا لهم لدفع ضرر بغيهم ، لا عقوبة لهم ، بل للمنع من العدوان ، ويقولون : انهم باقون على العدالة ، لا يفسقون ، ويقولون هم كغير المكلف ، كما يمنع الصبي والمجنون والناسي والمغمى عليه والنائم من العدوان أن لا يصدر منهم ، بل تمنع البهائم من العدوان ، ويجب على من قتل مؤمنا خطأ الدية بنص القرآن مع أنه لا اثم عليه من ذلك) "الفتاوى"35/ 74 ،75 ، 76 " .
ثم قال : ( ثم بتقدير أن يكون "البغي" بغير تأويل يكون ذنبا ، والذنوب تزول عقوبتها بأسباب متعددة : بالحسنات الماحية ، والمصائب المكفرة ، وغير ذلك . ثم قال : ( ان عمارا تقتله الفئة الباغية) ليس نصا في أن هذا اللفظ لمعاوية وأصحابه ، بل يمكن أنه أريد به تلك العصابة التي حملت عليه حتى قتلته ، وهي طائفة من العسكر ، ومن رضي بقتل عثمان كان حكمه حكمها . ومن المعلوم أنه كان في المعسكر من لم يرض بقتل عمار : كعبد الله بن عمرو بن العاص ، وغيره بل كل الناس كانوا منكرين لقتل عمار ، حتى معاوية وعمرو ) "الفتاوى – ص : 76 ، 77 " .
ثم قال: ( والمقصود أن هذا الحديث لا يبيح لعن أحد من الصحابة ، ولا يوجب فسقه ) "الفتاوى:ص – 79 " .
وقال الحافظ ابن كثير في معرض كلامه على الحديث الذي رواه مسلم واحمد : ( تمرق مارقة عند فرقة من المسلمين تقتلهم أولى الطائفتين بالحق ) .(1/50)
قال : ( فهذا الحديث من دلائل النبوة اذ قد وقع الأمر طبق ما أخبر به عليه الصلاة والسلام ، وفيه الحكم باسلام الطائفتين أهل الشام وأهل العراق ، لا كما يزعمه فرقة الرافضة والجهلة الطغام ، من تكفيرهم أهل الشام ، وفيه أن أصحاب علي أدنى الطائفتين الى الحق ، وهذا مذهب أهل السنة والجماعة أن عليا هو المصيب وان كان معاوية مجتهدا ، وهو مأجور ان شاء الله ، ولكن عليا هو الامام فله أجران كما ثبت في صحيح البخاري من حديث عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( اذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران ، واذا اجتهد فأخطأ فله أجر ) . "البداية :7/290" . قال الحافظ : ( واتفق أهل السنة على وجوب منع طعن على أحد من الصحابة بسبب ما وقع لهم من ذلك ولو عرف المحق منهم لأنهم لم يقاتلوا في تلك الحروب الا عن اجتهاد وقد عفا الله تعالى عن المخطىء في الاجتهاد بل ثبت أنه يؤجر أجرا واحدا وأن المصيب يؤجر أجرين )"الفتح13 / 42 " .
ورحم الله من قال :
وما جرى بين الصحاب نسكت عنه وأجر الاجتهاد نثبت .
وقال أبو محمد بن حزم عن قتال علي معاوية رضي الله عنهما : ( ولم يقاتله علي رضي الله عنه لامتناعه من بيعته لأنه كان يسعه في ذلك ما وسع ابن عمر وغيره لكن قاتله لامتناعه من انفاذ أوامره في جميع أرض الشام وهوالامام الواجبة طاعته ن فعلي المصيب في هذا ، ولم ينكر معاوية قط فضل علي واستحقاقه الخلافة لكن الاجتهاد أداه الى أن راى تقديم أخذ القود من قتلة عثمان رضي الله عنه
على البيعة ورأى نفسه أحق بطلب بدم عثمان والكلام فيه عن ولد عثمان وولد الحكم ابن أبي العاص لسنه ولقوته على الطلب بذلك كما أمر رسول ا لله صلى الله عليه وسلم عبد الرحمن بن سهل أخا عبد الله بن سهل المقتول بخيبر بالسكوت وهو أخو المقتول وقال له ( كبر كبر ) .(1/51)
وروى الكبر الكبر فسكت عبد الرحمن وتكلم محيصة وحويصة أبناء مسعود وهما ابنا عم المقتول لأنهما كانا أسن من أخيه فلم يطلب معاوية من ذلك الا ما كان له من الحق أن يطلبه وأصاب في ذلك الأثر الذي ذكرنا ، وانما أخطأ في تقديمه ذلك على البيعة فقط له أجر الاجتهاد في ذلك ولا اثم عليه فيما حرم من الاصابة كسائر المخطئين في اجتهادهم الذين اخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم
أن لهم أجرا واحدا وللمصيب أجرين ولا عجب أعجب ممن يجيز الاجتهاد في الدماء وفي الفروج والأنساب والشرائع والأموال التي يدان الله بها من تحريم وتحليل وايجاب ، ويعذر المخطئين في ذلك
ويرى ذلك مباحا الليث والبتي وأبي حنيفة والثوري ومالك والشافعي وأحمد وداود واسحاق وأبي ثور وغيرهم كزفر وأبي يوسف ومحمد بن الحسن بن زياد وابن القاسم وأشهب وابن الماجشون والمزني وغيرهم فواحد من هؤلاء يبيح دم هذا الانسان وآخر منهم يحرمه كمن حارب ولم يقتل
أو عمل عمل قوم لوط ، وغير هذا كثير وواحد منهم يبيح هذا الفرج ، وآخر منهم يحرمه كبكر
أنكحها أبوها وهي بالغة عاقلة بغير اذنها ولا رضاها وغير هذا كثير ، وكذلك في الشرائع والأوامر والأنساب وهكذا فعلت المعتزلة بشيوخهم كواصل وعمرو وسائر شيوخهم وفقهائهم ، وهكذا فعلت الخوارج بفقهائهم ومفتيهم ثم يضيقون ذلك على من له الصحبة والفضل والعلم والتقدم
والاجتهاد كمعاوية وعمرو ومن معهما من الصحابة رضي الله عنهم ، وانما اجتهدوا في مسائل
دماء كالتي اجتهد فيها المفتون وفي المفتين من يرى قتل الساحر وفيهم من لا يراه وفيهم من يرى
قتل الحر بالعبد وفيهم من لا يراه ، وفيهم من يرى قتل المؤمن بالكافر وفيهم من لا يراه فأي فرق(1/52)
بين هذه الاجتهادات واجتهاد معاوية وعمرو وغيرهما لولا جهل والعمى والتخليط بغير علم وقد علمنا أن من لزمه حق واجب وامتنع عن أدائه وقاتل دونه فانه يجب على الامام أن يقاتله وان كان منا وليس ذلك بمؤثر في عدالته وفضله ، ولا بموجب له فسقا بل هو مأجور لاجتهاده ونيته في طلب
الخير ، فبهذا قطعنا على صواب علي رضي الله عنه وصحة امامته وأنه صاحب الحق وأن له أجرين
: أجر الاجتهاد وأجر الاصابة . وقطعنا أن معاوية رضي الله عنه ومن معه مخطئون مجتهدون مأجورون أجرا واحدا وأيضا في الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أخبر عن مارقة تمرق بين طائفتين من أمته يقتلها أولى الطائفتين بالحق فمرقت تلك المارقة وهم لخوارج من أصحاب علي أصحاب معاوية فقتله علي وأصحابه فصح أنهم أولى الطائفتين بالحق ، وأيضا الخبر الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تقتل عمارا الفئة الباغية ) "الفصل : 4/159 – 161".
وقال أيضا : ( فصح أن عليا هو صاحب الحق والامام المفترضة طاعته ، ومعاوية مخطىء مأجور مجتهد وقد يخفى الصواب على الصاحب العالم فيما هو أبين وأوضح من هذا الأمر من أحكام الدين فربما رجع اذا استبان له وربما لم يستبن له حتى يموت عليه وما توفيقنا الا بالله عز وجل وهو المسئول العصمة والهداية لا اله الا هو ) "الفصل : < ص : 163 > " .
وقال الحافظ الذهبي : ( فنحمد الله على العافية التي أوجدنا في زمان قد انمحص فيه الحق واتضح من الطرفين وعرفنا مآخذ كل واحد من الطائفتين وتبصرنا فعذرنا واستغفرنا ، وأحببنا باقتصاد وترحمنا
على البغاة بتأويل سائغ في الجملة أو بخطأ ان شاء الله مغفور وقلنا كما علمنا الله ( ربنا -- ءامنوا )(1/53)
"الحشر : 10 " . وترضينا أيضا عمن اعتزل الفريقين كسعد بن أبي وقاص وابن عمر ومحمد بن مسلمة وسعيد بن زيد وخلق ، وتبرأنا من الخوارج المارقين الذين حاربوا عليا وكفروا الفريقين ، فالخوارج كلاب النار قد مرقوا من الدين ومع هذا فلا نقطع لهم بخلود النار كما نقطع به لعبدة الأصنام والصلبان ) "السير : 3 / 128 " .
أما ما يحكى ويروى في كتب التاريخ من تشويه سمعة معاوية رضي الله عنه واظهاره بمظهر الرجل الماكر المخادع الشرس المحب للدنيا .. فلا نشك أن ذلك مما عملته أيدي الروافض الضلال .
قال محمد بن عمر بحرق الحضرمي ، المتوفي سنة 930 : ( يجب تعظيم كافة الصحابة رضي الله تعالى عنهم والكف عن القدح في منصبهم الجليل ، ويطلب المحامل الحسنة والتأويلات اللائقة بقدرهم فيما ينقل عنهم بعد العلم بصحة ذلك عنهم ، وعدم المسارعة الى ما ينقله عنهم المؤرخون والاخباريون ، وأهل البدع الضالة المبطلون ، وانما المعتمد على ما يورده العلماء الراسخون في علم الحديث والسير بالأسانيد المعتمدة فاذا صح ذلك وجب حمله على أحسن المحامل ، لأن تقريره يؤدي الى مناقضة كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، والخلف في قولهما محال ، ثم يؤدي الى هدم أركان الشرع من أصله والازراء بشارعه وناقله وأهله لأن الصحابة هم الذين نقلوا الينا الشرع والتوحيد ، والنبوة والرسالة ، والاسلام والايمان ، والصلاة والزكاة ، والصيام والحج ، والحلال والحرام الى غير ذلك ومتى تطرقت الأوهام الى القدح فيهم انخرمت عدالتهم ، وردت روايتهم وشهادتهم ، وصار هذا الدين الذي هو خير الأديان شر الأديان لكونه حمّاله فسقة ، وكان القرآن مفترى ، والا كان قوله فيهم : ( أولئك هم الصادقون ) "الحجرات :15". ( التائبون العابدون )
" التوبة : 112 " ، (رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه ) "الاحزاب : 23" . الى غير ذلك زورا وبهتانا،(1/54)
وكان الرسول متقولا على الله وقوله : ( خيركم قرني ثم الذين يلونهم ) " وقال عمران : فما أدري قال النبي صلى الله عليه وسلم بعد قوله مرتين أو ثلاثا " ( ثم يكون بعدهم قوم يشهدون ولا يستشهدون ، ويخونون ولا يؤتمنون ، وينذرون ولا يوفون ، ويظهر فيهم السمن ) . "متفق عليه".
وقوله : ( ويحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين ، وانتحال المبطلين وتاويل الجاهلين ) " رواه ابن عبد البر وابن عدي والبيهقي والحديث حسن كما قالا الحافظان العلائي والسخاوي ، " .
الى غير ذلك افكا وباطلا ، وكان الخير كله والصدق والنزاهة مع أعداء الله القادحين فيهم الذين
حدثوا بعدهم وأحدثوا بدعهم ، لا مع الله ورسوله وأوليائه ، وصار جميع الأنبياء والمرسلين المبشرين
برسالة محمد صلى الله عليه وسلم كذبة ، والكتب المنزلة عليهم من عند الله مختلقة ، وصار جميع العلماء الأحبار ، والعارفين بالله الأخيار ، من أول الدهر الى آخر الأعصار ، على باطل وضلال ،
لاتفاقهم على تصديق الصحابة فيما نقلوه وعملهم بعلمهم الذي عنهم حملوه ، الى ما لا يحصر من الكفر والضلال تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا ، وهذا في الحقيقة هم المقصود لهذه الفرقة الضالة ، التي ظاهر مذهبها الرفض ، وباطنها الكفر المحض ، والا فكيف يخطر بقلب من يدعي الايمان الازدراء بسادة المؤمنين ، وأركان الدين أو يتطرق الى القدح فيهم آخذا بقول من اتخذ الهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه ، وجعل على بصره غشاوة ، وعدولا عن ثناء الله عليهم في مواضع عديدة ، في كتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد ،
فأين قول القادح فيهم المتنقص لهم المزري بهم من قول الله تعالى الذي لا يبدل القول لديه ، ولا يتصور أن ينعكس مدحه ذما ، ولا رضاه سخطا ( لكن الرسول --- العظيم ) "التوبة : 88،89".(1/55)
وهذه الخيرات والفلاح والجنان المعدة لمن هي ؟ ( للفقراء ---- ورضوانا ) "الحشر : 8 " .
( والسابقون ----- ورضوا عنه ) "التوبة : 100 " ، وهذا الرضى الأبدي من المراد به ؟
(رجال ---- تبديلا ) " الأحزاب : 23 " . ( ان الله --- الجنة ) "التوبة : 111 "، وهذه البيعة
الرابحة من تولى عقدها ؟ ( محمد ----- السجود ) "الفتح : 29 "، وهذه الأوصاف الجميلة من
هو الموصوف بها ؟ ( الذين ءامنوا ---- عند الله ) "التوبة : 20 " الآيات ( فأنزل الله --- عليما )
"الفتح : 26 " .
يا عجبا كيف تكون العصاة الفسقة بزعم الدعاة المرقة أحق بكلمة التقوى وأهلها ؟! هلا كانوا هم أحق بها وأهلها ، لزعمهم أنهم على الحق ، لا الصحابة وأتباعهم أغلط صدر من الباري جل وعلا ؟
حتى أعطى القوس غير باريها ، أم سهل حصل ممن لا يضل ولا ينسى ، ويعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور ، وبادي الأمور وخافيها حتى يقول فيهم ذلك ، مع علمه بما سيكون منهم من التبديل والتحريف .. كلا والله بل كان الله بكل شيء عليما ، وكانوا هم أحق بها وأهلها أزلا وأبدا ، وعلم الله لا يتبدل ، والله أعلم حيث يجعل رسالاته ، ثم كيف أطنب في مدحهم في كتابه ، وعلى لسان رسوله وهو يعلم ما يصدر منهم من التعاون على الظلم والعدوان ، وقول الزور والبهتان ، قبل أن يدفنوا نبيهم ويجهزوه أغش منه لرسوله المحبوب مع ماله عنده من المكانة !! أو عجزت قدرته النافذة
عن أن يختار لرسوله من يصحبه بالصدق ، ويؤدي شرعه بالأمانة !! أم أنزل كتابه وأرسل رسوله للاضلال لا للارشاد حتى مدح فيه من هو مذموم عنده من العباد ، فاعتبروا يا اولي القلوب والأبصار
( وان استغفروا ----- قدير ) "هود : 3 ، 4 " .(1/56)
ولنختم الكلام حول هذا الموضوع بوصية نفيسة من ابن العربي المعافري رحمه الله قال : ( فأعرضوا عن الغاوين وازجروا العاوين وعرجوا عن سبيل الناكثين الى سنن المهتدين وأمسكوا الألسنة عن السابقين الى الدين ، واياكم أن تكونوا يوم القيامة من الهالكين بخصومة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقد هلك من كان أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم خصمه ، دعوا ما مضى فقد قضى الله فيه ما قضى وخذوا لأنفسكم الجد فيما يلزمكم اعتقادا وعملا ولا تسترسلوا بألسنتكم فيما لا يعنيكم مع كل ماجن اتخذ الدين هملا ، فان الله لا يضيع أجر من أحسن عملا ، ورحم الله الربيع بن خثيم فانه لما قيل له قتل الحسين ، قال : أقتلوه ؟ قالوا : نعم ، فقال : ( قل اللهم – يختلفون ) " الزمر : 46 " ، ولم يزد على هذا أبدا فهذا العقل والدين والكف عن أحوال المسلمين
والتسليم لرب العالمين ) . " العواصم من القواصم : ص – 182 " .
-----------------
بعض أقوال علماء الجرح والتعديل
فيمن يسب الصحابة
كان عبد الله بن مبارك يقول على رؤوس الناس ( دعوا حديث عمرو بن ثابت فانه كان يسب السلف ) " مقدمة صحيح مسلم : 1 / 16 " .
وقال هناد السري : ( مات عمرو بن ثابت فلما مر بجنازته فرآها ابن المبارك دخل المسجد وأغلق عليه بابه حتى جاوزته ) .
وقال أبو عبيد الآجري : ( سألت أبا داود عن عمرو بن ثابت فقال : ( رافضي خبيث ) .
وقال أيضا : ( رجل سوء ) . وقال كذلك : ( من شرار الناس ) .
قال يحيى بن معين – لما سئل عن يونس بن خباب – فقال : ليس بثقة ، كان يشتم أصحاب النبي صلىالله عليه وسلم ومن شتم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فليس بثقة ) .
وقال أيضا : ( رجل سوء كان يشتم عثمان ) .
وقا لالامام أحمد : ( كان خبيث الرأي ) .(1/57)
وقال ابن حبان : ( وكان رجل سوء غاليا في الرفض ) ، ثم قال : ( لاتحل الرواية عنه لأنه كان داعية لمذهبه ) . وكان عمرو بن عبيد ممن اجتمعت فيه البلايا والرزايا اذ جمع بين بدعة الاعتزال وبدعة القدر وجريمة شتم الصحابة ولكن علماءنا وأئمتنا جزاهم الله خيرا تصدوا لبدعته وكشفوا عوراه وحذروا من نحلته حتى بلغ ذلك بابن عون رحمه الله أن هجر وأعرض عن رجل رآه يمشي مع عمرو بن عبيد شهرين ) .
وهذا المغيرة بن سعيد البجلي ( كان رافضيا خبيثا كذابا ساحرا ، أدعى النبوة وفضل عليا على الأنبياء وكان مجسما ) . كما يقول عنه الذهبي : ( قتله الأمير خالد القسري لزندقته . قال الأعمش : ( أول من سمعته يتنقص أبا بكر وعمر المغيرة المصلوب ) .
وقال ابن عدي : ( لم يكن بالكوفة ألعن من المغيرة بن سعيد فيما يروى عنه من الزور عن علي ، هو دائم الكذب على أهل البيت ) .
وقال الدارقطني : ( دجال أحرق بالنار زمن النخعي ، ادعى النبوة ) .
وهذا ابراهيم بن أبي يحيى الأسلمي قال عنه أبو همام السكوني : ( سمعت ابراهيم بن أبي يحيى يشتم بعض السلف ) ، وقال يحيى القطان : ( سألت مالكا عن ابراهيم بن أبي يحيى أثقة في الحديث ؟ قال: لا ولا ثقة في دينه ) .
---------------
عدالة جميع الصحابة بدون استثناء عند المحدثين
قال الحافظ ابن حجر : ( اتفق أهل السنة على ان الجميع عدول ، ولم يخالف في ذلك الا شذوذ من المبتدعة ) .(1/58)
قال الخطيب : باب ما جاء في تعديل الله ورسوله للصحابة ( وأنه لا يحتاج الى سؤال عنه وانما يجب فيما دونهم ) . ثم قال – ( عدالة الصحابة ثابتة معلومة بتعديل الله لهم واخباره عن طهارتهم واختياره لهم في نص القرآن ) . – ثم ساق نصوصا في ذلك – الى أن قال : ( والأخبار في هذا المعنى تتسع وكلها مطابقة لما ورد في نص القرآن ، وجميع ذلك يقتضي طهارة الصحابة والقطع على تعديلهم ونزاهتهم فلا يحتاج أحد منهم مع تعديل الله تعالى لهم المطلع على بواطنهم الى تعديل أحد من الخلق له فهم على هذه الصفة الا أن يثبت على أحد ارتكاب ما لا يحتمل الا قصد المعصية ، والخروج من باب التأويل ، فيحكم بسقوط العدالة وقد برّأهم الله من ذلك ، ورفع أقدارهم عنه ، على أن لو لم يرد من الله عز وجل ورسوله فيهم شيء مما ذكرناه لأوجبت الحال التي كانوا عليها من الهجرة ، والجهاد من النصرة ، وبذل المهج والأموال ، وقتل الآباء والأولاد والمناصحة في الدين وقوة الايمان واليقين ، القطع على عدالتهم ، والاعتقاد لنزاهتهم ، وأنهم أفضل جميع هذا المذهب كافّة العلماء ومن يعتد بقوله من الفقهاء ) .
قال القرطبي : ( فالصحابة كلهم عدول أولياء الله تعالى وأصفياؤه وخيرته من خلقه بعد أنبيائه ورسله ، هذا مذهب أهل السنة والذي عليه الجماعة من أئمة هذه الأمة وقد ذهبت شرذمة لا مبالاة بهم الى أن حال الصحابة كحال غيرهم ) "الجامع لأحكام القرآن : 16 / 285 – 286 ) .
قال ابن عبد البر : ( ثبتت عدالة جميعهم بثناء الله عز وجل عليهم وثناء رسوله عليه السلام ، ولا أعدل ممن ارتضاه الله لصحبة نبيه ونصرته ولا تزكية أفضل من ذلك ولا تعديل أكمل منه ) .(1/59)
وقال في التمهيد : ( ... جميعهم ثقات مأمونون عدل الرضى ، فوجب قبول ما نقل كل واحد منهم وشهد به على نبيه صلى الله عليه وسلم ... ) ثم قال : ( وهم أولو العلم والدين والفضل ، وخير أمة أخرجت للناس ، وخير القرون ، ومن قد رضي الله عنهم ، وأخبر بأنهم رضوا عنه ، وأثنى عليهم بأنهم الرحماء بينهم ، الأشداء على الكفار ، الركع السجود ، وأنهم الذين أوتوا العلم .
قال مجاهد وغيره في قول الله عز وجل : ( ويرى --- هو الحق ) "سبأ : 6 " . قال أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم الى كثير من ثناء الله عز وجل عليهم واختياره اياهم لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم ) .
قال ابن كثير : ( والصحابة كلهم عدول عند أهل السنة والجماعة لما أثنى الله عليهم في كتابه العزيز وبما نطقت به السنة النبوية في المدح لهم في جميع أخلاقهم وأفعالهم وما بذلوه فيه من الأموال و الأرواح بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم رغبة فيما عند الله من الثواب الجزيل والجزاء الجميل ) . ثم قال : ( وقول المعتزلة الصحابة عدول الا من قاتل عليا قول باطل مرذول ومردود ) .
قال ابن صلاح في مقدمته : ( للصحابة بأسرهم خصيصة وهي أنه لا يسأل عن عدالة أحد منهم بل ذلك مفروغ منه لكونهم على الاطلاق معدلين بنصوص الكتاب والسنة واجماع من يعتد به في الاجماع من الأمة ، قال الله تبارك وتعالى : ( كنتم خير أمة أخرجت للناس ) "آل عمران : 110". ألآية ، قيل : اتفق المفسرون على أنه وارد في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال تعالى : ( وكذلك --- الناس ) " البقرة : 142 " . وهذا خطاب مع الموجودين حينئذ ... ) .(1/60)
ثم قال : ( ان الأمة مجمعة على تعديل الصحابة ومن لابس الفتن منهم ، فكذلك باجماع العلماء الذين يعتد بهم في الاجماع احسانا للظن بهم ونظرا الى ما تمهد لهم من المآثر وكأن الله سبحانه وتعالى أتاح الاجماع احسانا للظن بهم ونظرا الى ما تمهد لهم من المآثر وكأن الله سبحانه وتعالى وأتاح الاجماع على ذلك لكونهم نقلة الشريعة والله أعلم ) .
قال ابن حزم رحمه الله : ( وكلهم عدل امام فاضل رضى ) .
قال النووي : ( الصحابة كلهم عدول ، من لابس الفتن وغيرهم باجماع من يعتد به ) .
وقال السخاوي : ( وهم رضي الله عنهم باتفاق أهل السنة عدول كلهم مطلقا كبيرهم وصغيرهم ، لابس الفتن أم لا . وجوبا لحسن الظن ونظرا الى ما تمهد لهم من المآثر من امتثال أوامره بعده وفتحهم الأقاليم وتبليغهم عنه الكتاب والسنة وهدايتهم الناس ، ومواظبتهم على الصلاة والزكاة وأنواع القربات من الشجاعة والبراعة والكرم والآثار والأخلاق الحميدة التي لم تكن في أمة من الأمم المتقدمة
وقال ابن الجوزي : ( أجمع صالحوا هذه الأمة وعلى رأسهم السلف الكرام على استهجان واستقباح النيل من أحد الصحابة ، وهجروا فاعله ورموه بالرزيات وأوقعوا به ، شتى العقوبات ، وقد توعده القرآن والسنة بالخزي في الحياة وبعد الممات ، قال تعالى : ( ومن يشاقق --- مصيرا ) "النساء :115" . ومن المؤمنون حين نزول هذه الآية غير الصحابة ؟ فجهنم لمن اتبع غير سبيلهم . فكيف بمن سبهم وشتمهم وأبغضهم ؟
قال أبو الحسن الأشعري : ( وأجمعوا " أي أهل السنة والجماعة " على النصيحة للمسلمين والتولي لجماعتهم وعلى التوادد في الله والدعاء لأئمة المسلمين والتبري ممن ذم أحدا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل بيته وازواجه ، وترك الاختلاط بهم ، والتبري منهم ) .(1/61)
قلت : فانظر رحمك الله الى أهل السنة كثّرهم الله كيف ينفرون ويتبرون من كل من ينتقص الصحابة ، وتجد بعض الحركيين الحزبيين ينادون ليل نهار بتلك القولة الفاجرة وهي : الدعوة الى التقارب مع الشيعة ، الوالغين في دم وأعراض الصحابة رضي الله عنهم فواجب على كل مسلم سلفي غيور على صحابة نبيه أن يتبرأ من كل من لم يتبرأ من أعداء الصحابة أو دعا الى التقارب معهم .
وقد نص أئمتنا على أن الله تعالى يعاقب شاتمي صحابة نبيه بالمسخ في الدنيا .
قال ابن القيم : ( وتأمل حكمته تعالىفي مسخ من مسخ من الأمم في صور مختلفة مناسبة لتلك الجرائم ؛ فانها لما مسخت قلوبهم وصارت على قلوب تلك الحيوانات وطباعها اقتضت الحكمة البالغة أن جعلت صورهم على صورها لتتم المناسبة ويكمل الشبه ، وهذا غاية الحكمة .
واعتبر هذا بمن مسخوا قردة وخنازير ، كيف غلبت عليهم صفات هذه الحيوانات وأخلاقها وأعمالها!
ثم ان كنت من المتوسمين فاقرأ هذه النسخة من وجوه أشبابهم ونظرائهم ، كيف تراها بادية عليها ؟ وان كانت مستورة بصورة الانسانية فاقرأ نسخة القردة من صور أهل المكر والخديعة والفسق الذين لاعقول لهم ، بل هم أخف الناس عقولا وأعظمهم مكرا وخداعا وفسقا !
فان لم تقرأ نسخة القردة من وجوههم فلست من المتوسمين ، واقرأ النسخة الخنازير من الصور أشباههم ولا سيما أعداء خيار خلق الله بعد الرسل وهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فان هذه النسخة ظاهرة على وجوه الرافضة يقرؤها كل مؤمن كاتب وغير كاتب ! وهي تظهر وتخفى بحسب خنزيرية القلب وخبثه ؛ فان الخنزير أخبث الحيوانات وأردؤها طباعا ، ومن خاصيته أنه يدع الطبيات فلا يأكلها ويقوم الانسان عن رجيعه فيبادر اليه .(1/62)
فتأمل مطابقة هذا الوصف لأعداء الصحابة كيف تجده منطبقا عليهم ؟ فانهم عمدوا الى أطيب خلق الله وأطهرهم فعادوهم وتبرءوا منهم ، ، ثم والوا كل عدو لهم من النصارى واليهود والمشركين ، فاستعانوا في كل زمان على حرب المؤمنين الموالين لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمشركين والكفار وصرحوا بانهم خير منهم . فأي شبه ومناسبة أولى بهذا الضرب من الخنازير ؟! فان لم تقرأ هذه النسخة من وجوههم فلست من المتوسمين !
وأما الأخبار التي تكاد تبلغ حد التواتر بمسخ من مسخ منهم عند الموت خنزيرا فأكثر من أن تذكر هاهنا ، وقد أفرد لها الحافظ محمد بن عبد الواحد المقدسي كتابا ) .
وقد علق محقق كتاب الأخ الفاضل علي الحلبي في الهامش قائلا : ( ولم أر لكتابه المشار اليه ذكرا فيه، فالله أعلم . نعم ؛ ذكر في كتابه : ( النهي عن سب الأصحاب وبيان ما فيه من العذاب ) < 89 – 114 > فضلا بعنوان : ( ذكر بعض ما بلي به من كان يشتم الصحابة رضي الله عنهم ) وفيه قصص في مسخ بعض أولئك الى خنازير . ثم رأيت ما يؤكد ذلك من كلام شيخ الاسلام ابن تيمية – شيخ المصنف – في " منهاج السنة النبوية " < 1 / 485 > ثم قال : ( وذكر فيه حكايات معرفة في ذلك ، وأعرف أنا حكايات أخرى لم يذكرها هو ) .
وقال ابن حجر الهيتمي في الصواعق المحرقة في الرد على أهل البدع والزندقة : ( اعلم أن الذي أجمع عليه أهل السنة والجماعة أنه يجب على كل مسلم تزكية جميع الصحابة باثبات العدالة لهم والكف عن الطعن فيهم والثناء عليهم ) .
--------------
حكم من سب الصحابة
وما يترتب على ذلك من عقوبات
اعلم أن سب المسلم ذنب عظيم وخلق ذميم ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( سباب المسلم فسوق وقتاله كفر ) "متفق عليه " .
وقال : ( لايرمي رجل رجلا بالفسوق ولا يرميه بالكفر الا ارتدت عليه ان لم يكن صاحبه كذلك )
"رواه البخاري " .(1/63)
وقال : ( من لعن مؤمنا فهو كقتله ، ومن قذف مؤمنا بكفر فهو كقتله ) " رواه البخاري " .
وقال : ( المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده ) " رواه البخاري ، ومسلم من وجه آخر " .
فاذا كان هذا الوعيد الشديد يلحق من سب مسلما من رعاع الناس فكيف بمن سب خيرة الناس بعد الأنبياء فالوعيد عليه أشد والخسران به ألحق ، قال الله تعالى : ( والذين يؤذون --- مبينا ) "الأحزاب : 58 " . وقال : ( ويل لكل همزة لمزة ) قال ابن عباس ( همزة لمزة ) : طعان معياب .
ويا من يقول قول سوء في الصحابة الكرام ولم يتعظ بالمواعظ العظام ، وسلك سبيل اللئام ألا تخاف من بطش رب الأنام ؟ ( فكيف تقدم على شيء لم يكن عليه أمر الله ورسوله وكل ما لم يكن عليه أمرهما فهو رد ، أي باطل ، كيف وقد أمرك الله ورسوله بخلافه ، ونهاك عن سب كل من اتصف بالاسلام كيف وقد أمرك الله تعالى بطلب المغفرة منه لمن سبق كيف وقد وصف الله تعالى نفسه بأنه قد رضي عنهم ، أفيرضى عنهم وتسخط عنهم أنت يا عامي يا جاهل ، فان قلت : انما أمر الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم بالدعاء لهم قبل أن يقع ما وقع قلت : هذا كفر لأن الله تعالى عالم بما كان وما سيكون فلو علم لقيد الأمر بمن لم يقع منه شيء وقد أطلع رسوله صلى الله عليه وسلم على ذلك كما هو معروف وكان سيتقلب علم الله تعالى جهلا أو أنه وقع شيء وهو لا يعلمه أو أنهم فعلوا شيئا لا قدرة له على دفعه وكل واحد من هذه الثلاثة لا يقول به الا كافر نعوذ بالله من ذلك ) " من كتاب ( القول الشافي السديد في نصح المقلد وارشاد المستفيد ) < لعلي محمد بن علي الشوكاني – وهو ابن العلامة الشوكاني > .(1/64)
وقال العلامة علي القاري : ( وأما من سب أحدا من الصحابة فهو فاسق و مبتدع بالاجماع ، الا اذا اعتقد انه مباح ، كما عليه بعض الشيعة وأصحابهم ، أو يترتب عليه ثواب كما هو دأب كلامهم ، أو اعتقد كفر الصحابة وأهل السنة في فصل خطابهم ؛ فانه كافر بالاجماع ولا يلتفت الا خلاف مخالفتهم في مقام النزاع ) .
وبعد هذا أتركك أخي القارىء مع امام همام وهو شيخ الاسلام بحق ابن تيمية الحراني يفصل لك القول في ذلك ، وسأنقل كلامه وان طال لنفاسته وأهميته .
قال رحمه الله " في الصارم المسلول ، ص : 570 " : ( فصل : حكم من سب أحدا من الصحابة ) : فأما من سب أحدا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم – من أهل بيته وغيرهم – فقد أطلق الامام أحمد أنه يضرب ضربا نكالا ، وتوقف عن قتله وكفره .
قال أبو طالب : سألت أحمد عمن شتم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، قال القتل أجبن عنه ، ولكن أضربه ضربا نكالا .
وقال عبد الله : سألت أبي عمن يشتم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : أرى أن يضرب . قلت له : حد ، فلم يقف على حد ، الا أنه قال : يضرب ، وقال : ما أراه على الاسلام .
وقال : سألت أبي : من الرافضة ؟ فقال : الذين يشتمون – أو يسبون – أبا بكر وعمر رضي الله عنهما .
وقال في الرسالة التي رواها أبو العباس أحمد بن يعقوب الاصطرخري وغيره : وخير الأمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم أبو بكر ، وعمر بعد أبي بكر ، وعثمان بعد عمر وعلي بعد عثمان ، ووقف قوم ، هم خلفاء راشدون مهديون ، ثم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هؤلاء الأربعة خير الناس ، لا يجوز لأحد أن يذكر شيئا من مساويهم ، ولا يطعن على أحد منهم بعيب أو نقص ، فمن فعل ذلك فقد وجب تأديبه وعقوبته ، ليس له أن يعفو عنه ، بل يعاقبه ويستتيبه ، فان تاب قبل منه ، وان ثبت أعاد عليه العقوبة وخلده في الحبس حتى يموت أو يراجع .(1/65)
وحكى الامام أحمد هذا عمن أدركه من أهل العلم ، وحكاه الكرماني عنه وعن اسحاق والحميدي وسعيد بن منصور وغيرهم .
وقال الميموني : سمعت أحمد يقول : ما لهم ولمعاوية ؟ نسأل الله العافية ، وقال لي : يا أبا الحسن اذا رأيت أحدا يذكر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بسوء فاتهمه على الاسلام ) .
فقد نص رضي الله عنه على وجوب تعزيره ، واستتابته حتى يرجع بالجلد ، وان لم ينته حبس حتى يموت أو يراجع ، وقال : ( ما أراه على الاسلام ) وقال : ( اتهمه على الاسلام ) ، وقال : ( اجبن عن قتله ) . وقال اسحاق بن راهويه : ( من شتم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يعاقب ويحبس)
وهذاقول كثير من أصحابنا ، منهم ابن أبي موسى ، قال : ( ومن سب السلف من الروافض فليس بكفء ولايزوج ، ومن رمى عائشة رضي الله عنها بما برأها الله منه فقد مرق من الدين ، ولم ينعقد له نكاح على مسلمة ، الا أن يتوب ويظهر توبته ) ، وهذا في الجملة قول عمر بن عبد العزيز وعاصم الأحول وغيرهما من التابعين .
وروى الامام أحمد عن عاصم الأحول قال : أتيت برجل قد سب عثمان ، قال فضربته عشرة أسواط ، قال : ثم عاد لما قال ، فضربته عشرة أخرى ، قال : فلم يزل يسبه حتى ضربته سبعين سوطا .
وهوالمشهور من مذهب مالك ، قال مالك : من شتم النبي صلى اللله عليه وسلم قتل ، ومن سب أصحابه أدب .
وقال عبد الملك بن حبيب : من غلا من الشيعة الى بغض عثمان والبراءة منه أدب أدبا شديدا ، ومن زاد الى بغض أبي بكر وعمر فالعقوبة عليه أشد ، ويكرر ضربه ، ويطال سجنه حتى يموت ، ولا يبلغ به القتل الا في سب النبي صلى الله عليه وسلم .
وقال القاضي أبو يعلي : الذي عليه الفقهاء في سب الصحابة : ان كان مستحلا لذلك كفر ، وان لم يكن مستحلا فسق ولم يكفر ، سواء كفرهم أو طعن في دينهم مع اسلامهم .
وقد قطع طائفة من الفقهاء من أهل الكوفة وغيرهم بقتل من سب الصحابة وكفر الرافضة .(1/66)
قال محمد بن يوسف الفريابي ، وسئل عمن شتم أبا بكر ، قال : كافر ، قيل : فيصلى عليه ؟ قال : لا ، وسأله ، كيف يصنع به وهو يقول لا اله الا الله ؟ قال : لا تمسوه بأيديكم ، ادفعوه بالخشب حتى تواروه في حفرته .
وقال أحمد بن يونس : ( لو أن يهوديا ذبح شاة ، وذبح رافضي لأكلت ذبيحة اليهودي ، ولم آكل ذبيحة الرافضي ؛ لأنه مرتد عن الاسلام ) .
وكذلك قال أبو بكر بن هاني : لا تؤكل ذبيحة الروافض والقدرية كما لا تأكل ذبيحة المرتد ، مع أنه تأكل ذبيحة الكتابي ؛ لأن هؤلاء يقامون مقام المرتد ، وأهل الذمة يقرون على دينهم ، وتؤخذ منهم الجزية . وقال فضيل بن مرزوق : سمعت الحسن بن الحسن يقول لرجل من الرافضة : والله ان قتلك لقربة الى الله ، وما امتنع من ذلك الا بالجواز ، وفي رواية قال ، رحمك الله ، قذفت ، انما تقول هذا تمزح ، قال : لا ، والله ما هو بالمزاح ولكنه الجد ، قال : وسمعته يقول : لئن أمكننا الله منكم لنقطعنّ أيديكم وأرجلكم . وصرح جماعات من أصحابنا بكفر الخوارج المعتقدين البراءة من علي وعثمان ، وبكفر الرافضة المعتقدين لسب جميع الصحابة الذين كفروا الصحابة وفسقوهم وسبوهم .
وقال أبو بكر عبد العزيز في المقنع : فأما الرافضي فان كان يسب فقد كفر فلا يزوّج .
ولفظ بعضهم وهو الذي نصره القاضي أبو يعلي أنه ان سبهم سبا يقدح في دينهم وعدالتهم كفر بذلك ، وان سبهم سبا لا يقدح – مثل أن يسب أبا أحدهم أو يسبه سبا يقصد بها غيظه ونحو ذلك - لم يكفر .(1/67)
قال أحمد في رواية أبي طالب في رجل يشتم عثمان : ( هذا زندقة ، وقال في رواية المروزي : ( من شتم أبا بكر وعمر وعائشة ما أراه على الاسلام ) . قال القاضي أبو يعلي : فقد أطلق القول فيه أنه يكفر بسبه لأحد من الصحابة ، وتوقف في رواية عبد الله وأبي طالب عن قتله وكمال الحد ، وايجاب التعزير يقتضي أنه لم يحكم بكفره . قال : فيحتمل أن يحمل قوله : ( ما أراه على الاسلام ) اذا استحل سبهم بأنه يكفر بلا خلاف ، ويحمل اسقاط القتل على من لم يستحل ذلك ، بل فعله مع اعتقاده لتحريمه كمن يأتي المعاصي .
قال : ويحتمل قوله : ( ما أراه على الاسلام ) على سب يطعن في عدالتهم نحو قوله : ظلموا ، وفسقوا بعد النبي صلى الله عليه وسلم ، وأخذوا الأمر بغير حق ، ويحمل قوله في اسقاط القتل على سب لا يطعن في دينهم ، نحو قوله : كان فيهم قلة علم ، وقلة معرفة بالسياسة والشجاعة ، وكان فيهم شح وحب للدنيا ، ونحو ذلك ، قال : ويحتمل أن يحمل كلامه على ظاهره فتكون في سابهم روايتان : احداهما يكفر . والثانية يفسق .
وعل هذا استقر قول القاضي وغيره ، حكوا في تكفيرهم روايتين .
قال القاضي : ومن قذف عائشة رضي الله عنها بما برّأها الله منه كفر بلا خلاف .
وقال أيضا : ( وعن سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى ( وهو من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ) قال : قلت لأبي : لو كنت سمعت رجلا يسب عمر بن الخطاب رضي الله عنه بالكفر ، أكنت تضرب عنقه ؟ قال نعم ، رواه أحمد وغيره . وفي رواية قال : قلت لأبي : لو أتيت برجل يسب أبا بكر ما كنت صانعا ؟ قال : أضرب عنقه ، قلت : فعمر ؟ قال : أضرب عنقه .
وروى الحكم بن حجل قال : ( سمعت عليا يقول : لا يفضلني أحد على أبي بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما الا جلدته حد المفتري ) .(1/68)
وعن علقمة بن قيس قال : خطبنا علي رضي الله عنه : ( أنه بلغني أن قوما يفضلونني على أبي بكر وعمر ، ولوكنت تقدمت في هذا لعاقبت فيه ، ولكن أكره العقوبة قبل التقدم ، ومن قال شيئا من ذلك فهو مفتر عليه ما على المفتري خير الناس كان بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر ثم عمر ) .
وروى الامام أحمد باسناد صحيح عن ابي ليلى قال : ( تداروا في أبي بكر وعمر ، فقال رجل من عطارد : عمر أفضل من أبي بكر ، فقال الجارود بل أبو بكر أفضل منه ، قال : فبلغ ذلك عمر ، قال : فجعل يضربه ضربا بالدرة حتى شغر برجله ، ثم أقبل الى الجارود فقال : اليك عني ، ثم قال عمر : أبو بكر كان خير الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم في كذا وكذا ، ثم قال عمر : من قال غير هذا أقمنا عليه ما نقيم على المفتري ) .
فاذا كان الخلفتان الراشدان عمر وعلي رضي الله عنهما يجلدان حد المفتري من يفضّل عليا على أبي بكر وعمر ، أو يفضّل عمر على أبي بكر – مع أن مجرد التفضيل ليس فيه سب ولا عيب – علم أن عقوبة السب عندهما فوق هذا بكثير .
فصل في تفصيل القول في سب الصحابة
أما من اقترن بسبه دعوى أن عليا اله ، أو أنه كان هو النبي وإنما غلط جبرائيل في الرسالة ؛ فهذا لا شك في كفره ، بل لا شك في كفر من توقف في تكفيره .
وكذلك من زعم أن القرآن نقص منه آيات وكتمت ، أو زعم أن له تأويلات باطنة تسقط الأعمال المشروعة ، ونحو ذلك ، وهؤلاء يسمون القرامطة والباطنية ومنهم التناسخية ، وهؤلاء لا خلاف في تكفيرهم . وأما من سبهم سبا لا يقدح في عدالتهم ولا في دينهم – مثل وصف بعضهم بالبخل ، أو الجبن أو قلة العلم ، أو عدم الزهد ، ونحو ذلك – فهذا هوالذي يستحق التأديب والتعزير ولا نحكم بكفره بمجرد ذلك ، وعلى هذا يحمل كلام من لم يكفرهم من أهل العلم .
وأما من لعن وقبح مطلقا فهذا محل الخلاف فيهم ؛ لتردد الأمر بين لعن الغيظ ولعن الإعتقاد .(1/69)
وأما من جاوز ذلك الى أن زعم أنهم ارتدوا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا نفر قليل لا يبلغون بضعة عشر نفسا ، أو أنهم فسقوا عامتهم ، فهذا لا ريب أيضا في كفره ، لأنه كذب لما نصه القرآن في غير موضع : من الرضى عنهم والثناء عليهم ، بل من يشك في كفر مثل هذا فان كفره متعين ، فان مضمون هذه المقالة أن نقله الكتاب والسنة كفار أو فساق ، وأن هذه الآية التي هي : ( كنتم خير أمة ... ) [ آل عمران : 110 ] وخيرها هو القرن الأول ، كان عامته كفاراً أو فساقاُ ، ومضمونها أن هذه الأ‘مة شر الأمم ، وأن سابقي هذه الأمة هم شرارها ، وكفر هذا مما يعلم بالاضطرار من دين الإسلام .
ولهذا تجد عامة من ظهر عليه شيء من هذه الأقوال ، فإنه يتبين أنه زنديق ، وعامة الزنادقة انما يستترون بمذهبهم ، وقد ظهرت لله فيهم مثلات ، وتواتر النقل بأن وجوههم تمسخ خنازير في المحيا والممات ، وجمع العلماء ما بلغهم في ذلك ، وممن صنف فيه الحافظ الصالح أبو عبد الله بن عبد الواحد المقدسي كتابه في النهي عن سب الأصحاب ، وما جاء فيه من الإثم والعقاب .
وبالجملة فمن الأصناف السابة من لا ريب في كفره ، ومنهم من لايحكم بكفره ، ومنهم من تردد فيه ) .
وعن علي أنه بلغه أن ابن السوداء تنقص أبا بكر وعمر فدعا به وبالسيف فهمّ بقتله فكلّم فيه فقال : ( لا يساكني بلداً أنا فيه ، فنفاه الى الشام ) " اللالكائي [ 7 / 1336 ] .
وعن المغيرة قال : ( تحول جرير بن عبد الله وحنظلة وعدي بن حاتم من الكوفة الى قرقيسيا وقالوا : ( لا نقيم ببلد يشتم فيه عثمان ) " اللالكائي [ 7 / 1340 ] " .
وعن أبي وائل : ( ان رجلا حرج على أم سلمة قوله فأمر عمر أن يجلد مائتي جلدة ) . "المصدر السابق " .
وعن عبد الله بن الحسن يعني ابن ابن الحسين بن علي بن أبي طالب قال : ( ما أرى رجلاً يسب أبا بكر رضوان الله عليه يتيسر له توبة ) " اللالكائي [ 7 / 1343 ] " .(1/70)
وروى ابن أبي العوام أن رجلا سأل أبا يوسف فقال : ( يا أبا يوسف يذكرون عنك أنك تجيز شهادة من يشتم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم على التأويل ، فقال : ويحك هذا أحبسه وأضربه حتى يتوب ) " أصول الدين عند الامام أبي حنيفة ل[ ً : 554 ] " .
وكان عمر بن محمد بن رجاء العبكري ادا مات رجل من الرافضة فبلغه أن بزازاً باع له كفنا ، أو غاسلا غسله ، أم حاملا حمله هجره على ذلك . وكان لا يكلم رافضياً الى عشرة " طبقات الحنابلة [ 2 / 56 – 57 ] " .
كان مهيار بن مرزويه مجوسيا فأسلم وانتحل التشيع وأخذ في سب الصحابة فقال له ابن برهان رحمه الله : ( انتقلت بإسلامك في النار من زاوية الى زاوية ، كنت مجوسيا ، فصرت تسب الصحابة في شعرك ) " السير [ 17 / 472 ] " .
ومن امواقف المشرفة أيضا الإمام أبي الأحوص سلام بن سليم [ ت 179 ] قال أحمد العجلي : ( كان ثقة صاحب السنة واتباع ، وكان إذا ملئت داره من أصحاب الحديث قال لإبنه أحوص : يا بني قم فمن رأيته في جاري يشتم أحدا من الصحابة فأخرجه ، ما يجيء بكم إلينا ؟ ) .
وقال ابن حجر الهيتمي : أجمع القائلون بعدم تكفير من سب الصحابة على إنهم فساق ) .
قال النووي : ( قال القاضي وسب أحدهم من المعاصي الكبائر ومذهبنا مذهب الجمهور أنه يعزر ولا يقتل ، قال المالكية يقتل ) " شرح مسلم [ 16 / 93 ] " .
قال الحافظ : ( إختلف في سابّ الصحابي ، فقال عيّاض : ذهب الجمهور الى انه يعزر ، وعن بعض المالكية يقتل ، وخص بعض الشافعية ذلك بالشيخين والحسنين فحكى القاضي حسين في ذلك وجهين وقواه السبكي في حق من كفّر الشيخين ، وكذا من كفر من صرّح النبي صلى الله عليه وسلم بإيمانه أو تبشيره بالجنة إذا تواتر الخبر بذلك عنه لما تضمن من تكذيب رسول الله صلى الله عليه وسلم " الفتح [ 44 / 7 ] " .(1/71)
قال القاضي عياض : ( وسب آل بيته وأزواجه وأصحابه صلى الله عليه وسلم وتنقصهم حرام ملعون فاعله ) " الشفا [ 2 / 1106 ] " .
ثم قال : ( وقد إختلف العلماء في هذا ، فمشهور مذهب مالك في ذلك ألإجتهاد والأدب الموجع ، قال مالك رحمه الله : ( من شتم النبي صلى الله عليه وسلم قتل ، ومن شتم أصحابه أدّب ، وقال أيضا : من شتم أحداً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : أبا بكر أو عمر أو عثمان أو علي أو معاوية أو عمرو بن العاص فإن قال كانوا على ضلال وكفر قتل ، وإن شتمهم بغير هذا من مشاتمة الناس نكّل نكالا شديدا .
وقال ابن حبيب : من غلا من الشيعة الى بغض عثمان والبراءة منه أدّب أدبا شديدا ، ومن زاد الى بغض أبي بكر وعمر فالعقوبة عليه أشد ، ويكرر ضربه ويطال سجنه ، حتى يموت ، ولا يبلغ به القتل الا في سب النبي صلى الله عليه وسلم .
وقال سحنون : من كفّر أحدا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم علي أو عثمان أو غيرهما يوجع ضربا .
وحكى أبو محمد بن أبي يزيد ، عن سحنون : من قال في أبي بكر وعمر وعثمان وعلي : إنهم كانوا على ضلالة وكفر وقتل ، ومن شتم غيرهم من الصحابة بمثل ذلك نكّل النكال الشديد .
وروي عن مالك : ( من سب أبا بكر جلد ومن سب عائشة قتل ، قيل له : لم ؟ قال : من رماها فقد خالف القرآن . وقال ابن شعبان عنه : لأن الله يقول : ( يعظكم الله أن ... ) [ النور : 17 ] .
فمن عاد لمثله فقد كفر ) " الشفا [ 2 / 1108 ] " .
واعلم أخي القارىء أنه ما استحق واستوجب سابّ الصحابة والطاعن فيهم هذه العقوبات الرادعة الا لأنه بطعنه هذا يطعن في الشريعة الغرّاء لأن الصحابة هم ناقلوها والذابون عن حياضها ، والطعن في الناقل طعن في منقوله . ولهذا كانت الرافضة شر الطوائف وأخبث الفرق ) .(1/72)
ورحم الله من قال : ( ... فضلت اليهود والنصارى على الرافضة بخصلتين : سئلت اليهود ؛ من خير أهل ملتكم ؟ قالوا أصحاب موسى ، وسئلت النصارى ؛ من خير أهل ملتكم ؟ قالوا : حواري عيسى ، وسئلت الرافضة : من شر أهل ملتكم ؟ قالوا : اصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ، أمروا بالاستغفار لهم فسبّوهم ، فالسيف عليهم مسلول الى يوم القيامة ، لا تقوم لهم راية ، ولا يثبت لهم قدم ، ولا تجتمع لهم كلمة ، ولا تجاب لهم دعوة ، دعوتهم مدحوضة وكلمتهم مختلفة ، وجمعهم متفرق . ( كلما أوقدوا نارا ... ) [ المائدة : 64 ] .
وقال الملاّ علي القاري : وأما من سب أحداً من الصحابة فهو فاسق مبتدع بالإجماع ، الا اذا اعتقد أنه مباح ، أو يترتب عليه ثواب كما عليه بعض الشيعة ، أو اعتقد كفر الصحابة ؛ فإنه كافر بالإجماع ، فينظر فإن كان معه قرائن حاية على ما تقدم من الكفريات و الا فاسق ، وإنما يقتل عند علمائنا سياسة لدفع فسادهم وشرهم ) . " منهاج السنة [ 1 / 27 – 34 ] " .
وقال علي بن محمد بن علي الشوكاني في معرض بيان قبح وعظم جرم ساب الصحابة : ( واعلم أن الأدلة من الكتاب والسنة قاضية بكفر فاعل ذلك ، والعلة في ذلك أنه لما كان لهم منة على جميع الأمة وأن محبتهم وموالاتهم من الاتباع للرسول صلى الله عليه وسلم ، وأتهم القائمون بالشريعة بالقتال والتحمل لها ونقلها الى سائر الأمة فمن أقدم على مثل هذا الجناب فقد اقترف كبيرة توجب عليه الكفر ، وإن كان باقيا على سائر أركان الإسلام فإن من الأعمال محبطا لها ولا تكون لها معه عبرة وهذا منها لما دلت عليه الأدلة ... ) " القول الشافي السديد في نصح المقلد وإرشاد المستفيد [ص:53].(1/73)
وقال أيضا في معرض بيان أقسام التشيع : ( الثاني وهو الذي بلغ الى رتبة السب للصحابة وهذا قد أخرج عن الإسلام فوصفه بالتشيع من وضع هذا القلب في غير موضعه لأن الله تبارك وتعالى يقول : ( لقد رضي الله عن المؤمنين ) إلى آخر ألاية الكريمة وهذا الذي يبلغ به الشيطان الى رد القرآن استخفافا ، ويقول بعكسه تعجرفا ، وقال عز من قائل : { ليغيظ بهم الكفار } [ الفتح : 29 ] .
وهذا لا يسبهم إلا وقد أغاظوه ، وقد حكم الله تعالى بأنه لا يغيظ بهم الا الكفار ) " المصدر نفسه
[ ص : 34 ] " .
-----------------
وهذه بعض الكتب التي صنفت في من سب الصحابة
1 – رسالة النهي عن سب الصحابة لمحمد بن سحنون التنوخي ( ترتيب المدارك ) [ 4 / 207 ] .
2 – النهي عن سب الأصحاب وما جاء فيه من الإثم والعقاب للضياء محمد بن عبد الواحد المقدسي.
3 – تنبيه الولاة والحكام على أحكام شاتم خير الأنام ، أو أحد أصحابه الكرام عليهم الصلاة والسلام لإبن عابدين .
4 – الصواعق المحرقة لإخوان الشياطين أهل الإبتداع والضلال الزندقة ، لإبن حجر الهيتمي .
5 – حكم من سب أحدا من الصحابة للشوكاني .
6 – السيف المسلول على مبغضي أصحاب الرسول لياسين مصطفى الفرضي .
7 – الحسام المسلول على منقصي أصحاب الرسول لبحرق اليمني .
8 – السيف اليماني المسلول في عنق من طعن في أصحاب الرسول لمحمد بن يوسف التونسي .
9 – السيف المسلول على من سب أصحاب الرسول للقاضي عياض ( كشف الظنون : 2 / 1018 ، وهديةالعارفين : 2 / 805 ) .
10 – السيف المسلول على من سب أصحاب الرسول لتقي الدين السبكي ( كشف الظنون ) .
11 – الرسالة الوازعي للمعتدين عن سب صحابة سيد المرسلين للمؤيد يحيى بن حمزة الطالبي ت 745.
وكتب محمود شكري الألوسي المتوفي سنة [ 1342 هجري ] : ( صب العذاب على من سب الأصحاب ) ذكرها في الإعلام [ 7 / 173 ] وقد طبعت مؤخرا .
((1/74)
الصارم القرضاب في نحر من سب أكارم الأصحاب ) لعثمان بن سند .
( إلقام الحجر لمن زكى ساب أبي بكر وعمر ) للسيوطي .
---------------
نماذج لبعض الضلال الذين يسبون ويلعنون
معاوية رضي الله تعالى عنه
قال أحمد الغماري : ( ومن تعظيم جنابهم الأقدس وحماهم الأطهر تنزيههم عن إدخال المنافقين والفجرة فيهم وعدهم من زمرتهم مثل معاوية وأبيه ، وابنه الحكم بن العاص وأضرابهم قبحهم الله ولعنهم فإن عد هؤلاء من جملة الصحابة بعد التكذيب خبر الله ورسوله بكفرهم ونفاقهم حط من قدر الصحابة رضي الله تعالى عنهم ... وعلم سيرة الفاجر اللعين معاوية ومعاندته لله ورسوله واستخفافه بأمرها واستهزائه بالشريعة المحمدية وسفكه الدماء البريئة ... ) " البحر العميق " .
وقال ( ... معاوية قبحه الله فإنه كان يأمر الرجال أن يقوم في الناس فيخطب ويروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثا في فضل الشام وأهله ... ) " جؤنة العطار .
وقال ( ... في تلك الأحاديث التي افتراها معاوية اللعين وأنصاره ) " الجؤنة " .
وقال : كل حديث تجد فيه ذكر رجل مبهم ذمة النبي صلى الله عليه وسلم أو وصفه بأنه من أهل النار أو رأس الفتن أو نحو ذلك فاعلم أنه معاوية يبهمه الرواة النواصب المنافقون أعداء الله ورسوله وأحباب أعدائه ... ) الجؤنة .
تأمل هذا فقد حكم على أئمة الحديث الكبار ممن رووا فضل معاوية بالنصب والنفاق أمثال الإمام البخاري وأحمد ,ابي داود والترمذي والنسائي والدارقطني والطبراني وغيرهم كثير .
وقال : (( ... مؤثراً للعاجلة كافراً بالآجلة خارجاً عن ربقة الإسلام مستحلاً للدم الحرام))"الجؤنة".
وقد نهج أحمد الغماري نهج شيخه ابن عقيل الحضرمي الشيعي في الطعن في معاوية ، ولشيخه هذا الكتاب : (( النصائح الغالية لمن يتولى معاوية )) . وقد رد عليه جمال الدين القاسمي رحمه الله تعالى .(1/75)
وقال أخوه عبد الحي بن الصديق الغماري متحدثاً عن ابن العربي المعافري : (( فارجع الى كتابه العواصم من القواصم لترى كيف لعب الهوى بعقله فجعله ينتصر للفجار الظالمين معاوية ويزيد وبطانة السوء التي كانت تناصرهما ويهضم حق المظلومين الأتقياء أهل بيت النبوة عليهم السلام )) .
" في كتابه التيمم [ ص: 14 – 15 ].
وقال أخوه عبد الله : (( معاوية أسهم في قتل الحسين عليه السلام لأنه كان يريد أن ينفرد بالملك ويجعله وراثة في بني أمية ، وهو من مسلمة الفتح الطلقاء ، ومسلمة الفتح نوعان ، نوع حسن إسلامه فكان صحابياً فاضلاً مثل حكيم بن حزام وعتاب بن أسيد ، ونوع لم يحسن إسلامه مثل معاوية وأبيه وبشر بن أرطأة السفاك عامل معاوية على اليمن ، وليس كل صحابي فاضلاً بل فيهم منحرفون عن الجادة مثل سمرة بن جندب والمغيرة بن شعبة وعمرو بن العاص وجرير بن عبد الله البجلي ورئيسهم الباقي بنص الحديث )) "الحاوي في الفتاوي [ 3 / 32 ] – وحقيق أن يسمى بالحاوي للبلاوي - .
وقال أيضاً في " القول المسموع في الهجر المشروع " [ ص : 14 – 15 ] : وكان الخلفاء الراشدون رضي الله عنهم يعطون الصحابة أعطياتهم المستحقة لهم في بيت المال ، وكانوا يقسمونها بالعدل ، مع مراعاة من له يد في الإسلام . فلما جاء معاوية آثر أعوانه بالعطاء ، وفضله على الأنصار الذين أثنى الله عليهم في القرآن ...
فذكر أبو أيوب معاوية بالحديث الذي سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم بخصوص الأثرة ، ليتعظ معاوية ويرجع ويتوب ! ولكنه لم يرجع بل استمر على غيه وقال : (( أنا أول من صدق )) .
يعني أنه أول حاكم صدق قول رسول الله صلى الله عليه وسلم تصديقاً عملياً ، حيث آثر أعوانه بالعطاء ، وهذه جرأة قبيحة تؤذن بأنه لا يقيم لكلام الرسول وزناً )) . عن جنة المرتاب لأبي اسحاق الحويني [ ص : 167 ] .(1/76)
سبحان الله ! ما هذا التوافق في الرفض والخبث والحقد لصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل الناس بعد الأنبياء .
والطعن في معاوية رضي الله عنه ديدن الضلال من قديم اتهم الجاحظ معاوية رضي الله عنه بالكفر في رسالة له عن بني أمية ملحقة بكتاب (( النزاع والتخاصم فيما بين بني أمية وبني هاشم )) للمقريزي [ ص : 94 ] .
وقد استشرى هذا الداء الى أقلام المعاصرين كما سبق عن الغماريين ومثل ذلك ما ورد عن عباس محمود العقاد في كتابه : (( معاوية بن أبي سفيان في الميزان )) " ص : 66 " حيث يقول عنه : (( ولو حاسبه التاريخ حسابه الصحيح ، لما وصفه بغير مفرق الجماعات )) .
وأيضاً حسين مؤنس في مقالاته ضمن مجلة أكتوبر الأسبوعية تحت عنوان : "تاريخ موجز للفكر العربي" حيث وصف حكومة معاوية رضي الله عنه بالظلم والطغيان والإستبداد "ص : 24 من العدد 372 " . وكذلك محمد بك الخضري في كتابه الدولة الأموية " 2 / 356 " .
وكذلك ذلك المستغرب طه حسين في عديد من كتبه كـ " الفتنة الكبرى " عليه من الله ما يستحق.
وقال سيد قطب (( إن معاوية وعمرو لم يغلبا علياً لأنهما أعرف منه بدخائل النفوس وأخبر منه بالتصرف النافع في الظرف المناسب . ولكن لأنهما طليقان في إستخدام كل سلاح وهو مقيد بأخلاقه في إختيار وسائل الصراع وحين يركن معاوية وزميله الى الكذب والغش والخديعة والنفاق والرشوة وشراء الذمم لا يملك علي أن يتدلى الى هذا الدرك الأسفل فلا عجب أن ينجحا ويفشل وإنه لفشل أشرف من كل نجاح )) " في كتابه الموسوم بـ – كتب وشخصيات – ص : 242 " .(1/77)
فانظر رحمك الله الى هذا القلم النتن كيف يصف صاحبين جليلين بالركون الى الكذب والغش والخديعة والنفاق ، وصاحبه ملمع مقدم عند هؤلاء الحزبيين الذين يقودون ما يسمى الان بالصحوة الإسلامية ! وبهذا وغيره تعلم أنهم لا يقودنهم إلا ضمن تلك السبل المبعدة عن صراط الله المستقيم والتي أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن على رأس كل سبيل منها شيطان يدعو إليها .
وبالله عليك أخي القارىء كيف تفلح دعوة تقف مثل هذه الماقف المخزية تجاه حملة المحمدية أفضل الناس بعد الأنبياء ، وزيادة على أنها غارقة في أوحال الحزبية والبدع المقيتة .
وكم لهذا الرجل من الطامات والبلايا العقدية والمنهجية ، راجع كتابنا "المفسرون" ، وكتب أخينا وحبيبنا العلامة ناصر السنة وقامع البدعة الشيخ ربيع بن هادي المدخلي .
وقال ابن المطهر الحلي الرافضي الخبيث عليه من الله ما يستحق في حق معاوية رضي الله عنه : (( كان شراً من إبليس )) .(1/78)
وإن تعجب فعجب تعلق المدعو عبد المعطي أمين القلعجي – الذي نصَّبَ نفسه محققاً مدققاً لكتب الحديث والرجال وهو لعمر الله : كالهر يحكي إنتفاخاً صولة الأسد – بهذه الأكاذيب والإفترءات ، طعناً في خال المؤمنين وكاتب وحي رب العالمين فشتم وشنع ، وقال من الكلام ما هو مستفظع ، وإليك نصه قال (( وثمة بدعة أٌخرى كريهة ظهرت في عهد معاوية ، وهي أن معاوية نفسه وسائر ولاته بأمره كانوا يكيلون السب والشتم لسيدنا علي بن أبي طالب في خطبهم على المنابر لدرجة أنهم كانوا يلعنونه – لعنهم الله - ... )) واسترسل في سرد تهم وطامات معاوية بريء منها براءة الذئب من دم إبن يعقوب ، ويا ليته تثبت وتريث – والمحقق والمدقق هذه من أوليات صفاته – فقرأ ما كتبه المصنف ابن كثير رحمه الله تعالى بعد سطور قليلة ، وأراح القراء من ذلك الهراء ، ويكفي المرء عقوقاً شتم خاله إن كان مؤمناً والله المستعان )) . " من تعليقه على جامع المسانيد – لابن كثير : 11 / 566 – " . وقال خالد محمد خالد : (( معاوية بالشام يحض الناس عل الإمام وشتمه ... )) " في كتابه خلفاء الرسول ، ص : 558 " . وذكر ألفاظاً نابية ننزه القلم عن كتابتها ، ومما يؤسف له ، انتشار هذا الكتاب بين القراء انتشاراً واسعاً ولا سيما وجمهور القراء قد فقدوا ميزان التلقي والتمحيص جرياً خلف الأسلوب المثير ، مع ما يحمله هذا الكتاب بين دفتيه من مرويات مكذوبة وطعون مخذولة في بعض الصحابة . والحكم نفسه لكتابه (( رجال حول الرسول )) فلينتبه القراء الكرام ، ويا ليت قومي يعلمون .
وكذلك فعل عبد الوهاب النجار في كتابه " الخلفاء الراشدون " حيث شوَّه الحقائق معتمداً على أخبار المؤرخين التي لا زمام لها ولا خطام ، والله المستعان . " الخلفاء الراشدون ص : 405 – 439 ".
وكذلك محمد بسيوني مهران في كتابه " الإمام علي بن أبي طالب " ضمن سلسلته في رحاب النبي وآل بيته الطاهرين .(1/79)
وكذلك ذاك المبتدع الضال عبد الله الهرري الحبشي حيث اتهم معاوية فيما جرى له مع علي رضي الله عنهما بقوله " إنما قاتل للدنيا وللملك " في رسالته المشؤومة التي سماها زوراً وبهتانا " المقالات السنية " [ ص : 200 ] ، وفي حقيقة أمرها مقالات بدعية ردية جمع فيها شتى أصناف الشركيات والبدع والضلالات والثلب للعلماء وخاصة شيخ الإسلام بحق إبن تيمية الحراني ، والله المستعان .
ومثله أيضاً أقوال نقلها عبد السلام ياسين عن الجاحظ مقراً إياه مفادها الطعن في معاوية رضي الله عنه وقال أيضاً : (( كان شتم علي ولعنه على المنابر مما فعله وأمر به معاوية ، ثار بالفئة الباغية وقاده حتى استولى على الحكم )) . " في كتابه تنوير المؤمنات 2 / 20 " .
وقال عبد الباري الزمزمي : (( ... معاوية ، من المعلوم ومن الثابت في الصحيح ، في صحيح مسلم وفي التاريخ أيضاً أنه لما استقر له الأمر " رسم " – أي ثبت – في خطبة الجمعة وأمر الخطباء أن يلعنوا علي بن أبي طالب في خطبة الجمعة )) " في شريط له تحت عنوان مناقب علي تـ 11/5/1996.
وأكد ذلك بشريط آخر بعنوان " مناقب المهاجرين " وحظر الترضي عنه . وكل هذا كذب وافتراء فأين ورد هذا في صحيح مسلم ؟!! نعم يوجد ذلك في كتب الروافض وكتب التاريخ التي لا تعني بصحة الأخبار وتوثيقها .
ولو كان ذلك حقاً كيف سكت عنه الصحابة وهم متوافرون دون انكار ؟! وهم الشجعان الذين لا يخافون في الله لومة لائم فهم لا يسكتون على سب رجل من عوام المسلمين دون حق بله عن سب علي رضي الله عنه وهو الذي أجمع المسلمون على فضيلته ومنزلته الرفيعة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قال له : (( أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي )) . "متفق عليه "(1/80)
وقال أيضاً (( من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه )) وقال يوم خيبر : (( لأدفعن الراية غداً الى رجل يحبه الله ورسوله ويحب الله ورسوله )) " مسلم " . وكان علي صاحبها وغير ذلك كثير فمن نسب ذلك لمعاوية فقد أشرك معه جميع الصحابة الذين عاصروه أيام خلافته واتهمهم بالطواطىء معه على الظلم والفحش شعر أم لم يشعر .
ومعاوية رضي الله عنه منزه عن مثل ذلك وهو مقر ومعترف بأفضلية علي بن أبي طالب عليه .
وقد ورد في غير وجه أن أبا مسلم الخولاني وجماعة معه دخلوا على معاوية فقالوا : أنت تنازع علياً أم أنت مثله ؟ فقال : لا والله ، إني أعلم أنه9 خير مني وأفضل ، وأحق بالأمر مني ولكن ألستم تعلمون أن عثمان قُتل مظلوماً وأنا إبن عمه ، وأنا أطلب بدمه وأمره إلي ، فقولوا له فليسلم إلي قتلة عثمان وأنا أسلم له أمره . " السير [ 3 / 140 ] ، البداية [ 8 / 132 ] .
وقال جرير بن عبد الحميد عن المغيرة قال : لما جاء خبر قتل علي الى معاوية جعل يبكي ، فقالت له امرأته : (( أتبكيه وقد قاتلته ؟ فقال : ويحك أنك لا تدرين ما فقد الناس من الفضل والفقه والعلم
" البداية [ 8/ 133 ] " .
قال ابن عبد البر : (( وكان معاوية يكتب فيما ينزل به ليسأل علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن ذلك ، فلما بلغه قتله قال : (( ذهب الفقه والعلم بموت ابن أبي طالب ، فقال له أخوه عتبة : لا يسمع هذا منك أهل الشام ، فقال : دعني عنك )) " الإستيعاب [ 3 / 1108 ] .
وأما ما وقع بينهما فقد كان بتاويل واجتهاد من معاوية رضي الله عنه وأهل السنة يعتقدون أنه مخطىء في ذلك كما تقدم ، ولكن هذا لا يسوغ تلفيق وصياغة أكاذيب وافتراءات في سيرته تحط من قدره وتشوه مقامه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم . والذي ورد في صحيح مسلم ليس فيه ما افتراه عليه هؤلاء ، وهاك نصه وأقوال العلماء فيه :(1/81)
عن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه قال : أمر معاوية بن ابي سفيان سعداً فقال : ما منعك أن تسب أبا تراب ؟ : أما ما ذكرت ثلاثاً قالهن له رسول الله صلى الله عليه وسلم فلن أسبه ، لأن تكون لي واحدة منهن أحب الي من حمر النعم ، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول له ، خلفه في بعض مغازيه فقال له علي : يا رسول الله خلفتني مع النساء والصبيان فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى ، الا أنه لا نبوة بعدي ))
وسمعته يقول يوم خيبر : (( لأعطين الراية رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله )) قال : فتطاولنا لها ، فقال : (( ادعوا لي علياً )) فأتي به أرمد فبصق في عينه ودفع الراية اليه ففتح الله عليه ،
ولما نزلت هذه الآية : { فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ } (آل عمران:61) دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً وفاطمة وحسناً وحسيناً فقال : (( اللهم هؤلاء أهلي )) " مسلم " . وليس في هذا الأثر الصحيح التصريح لا من قريب ولا من بعيد أن معاوية سب أو أمر بسب علي . واستمع أخي القارىء لما قاله العلماء في شرح هذا الأثر لترى كيف يحسنون هذا الظن ويحملون ماورد من الصحابة مما يقد يفهم منه القدح فيهم محملاً حسناً لا كما يفعله المصطادون في الماء العكر والمتمسكون بما تشابه من النصوص ليقعوا في أعراض الصحابة فبئس ما يفعلون .
قال النووي : (( قال العلماء : الأحاديث الواردة التي في ظاهرها دخل على صحابي يجب تأويلها قالوا : ولا يقع في روايات الثقات إلا ما يمكن تأويله فقول معاوية هذا ليس فيه تصريح بأنه أمر سعداً
بسبه وإنما سأله عن السبب المانع له من السب كأنه يقول له هل امتنعت تورعاً أو خوفاً أو غير ذلك(1/82)
فإن كان تورعاً وإجلالاً له عن السب فأنت مصيب محسن وإن كان غير ذلك فله جواب آخر ولعل سعداً كان في طائفة يسبون ، فلم يسب معهم وعجز عن الانكار وأنكر عليهم فسأله هذا السؤال ، قالوا : ويحتمل تأويل آخر أن معناه : ما منعك أن تخطئه في رأيه واجتهاده وتظهر للناس حسن رأينا واجتهادنا وأنه خطأ )) " شرح مسلم [ 15 / 175 – 176 ] .
وقال القرطبي : وأما معاوية فحاشاه من ذلك لما كان عليه من الصحبة والدين والفضل وكرم الأخلاق وما يذكر عنه من ذلك فكذب وأصح ما في ذلك قوله لسعد هذا وتأويله ما ذكره عياض وقد كان معاوية معترفاً بفضل علي وعظيم قدره )) " شرح مسلم " .
هذا ما فاهو به في حق معاوية رضي الله عنه متاجهلين معرضين عن كل ما ورد من فضائله إذ هو خال المؤمنين وكاتب وحي رب العالمين .
وقال فيه النبي صلى الله عليه وسلم : (( اللهم اجعله هادياً مهدياً اهد به ))"رواه أحمد وهو صحيح"
وبعد هذا هل يرد دعاء النبي صلى الله عليه وسلم ولا يستجاب له ؟ كلا وألف كلا ، لذلك علمنا يقيناً أن معاوية كان هادياً مهدياً .
أما الحديث الذي ورد فيه : (( لا أشبع الله بطنه )) فليس فيه طعن في معاوية رضي الله تعالى عنه
قال الألباني : (( وقد يستغل بعض الفرق هذا الحديث ليتخذوا منه طعناً في معاوية رضي الله عنه ، وليس فيه ما يساعدهم على ذلك ؛ كيف وفيه أنه كان كاتب النبي صلى الله عليه وسلم ؟! .
ولذلك قال الحافظ ابن عساكر : (( انه أصح ما ورد في فضل معاوية )) .
والظاهر أن هذا الدعاء منه صلى الله عليه وسلم غير مقصود بل هو مما جرت به عادة العرب في وصل كلاهما بلا نية ؛ كقوله صلى الله عليه وسلم في بعض نسائه : (( عقرى حلقى )) و (( تربت يمينك )) ، وقوله في حديث أنس الآتي : (( لا كبر سنك )) .(1/83)
ويمكن أن يكون ذلك منه صلى الله عليه وسلم بباعث البشرية التي أفصح عنها هو نفسه عليه السلام في أحاديث كثيرة متواترة ؛ منها حديث انس بن مالك قال : (( كانت عند أم سليم يتيمة ، وهي أم أنس ، فراى رسول الله صلى الله عليه وسلم اليتيمة فقال : آنت هي ؟ لقد كبرت لا كبر سنك ، فرجعت اليتيمة الى أم سليم تبكي ، فقالت أم سليم : مالك يا بنية ؟ قالت الجارية : دعا علي نبي الله صلى الله عليه وسلم أن لا يكبر سني أبداً ، فخرجت أم سليم مستعجلة تلوث خمارها – أي تلفه –
حتى لقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : مالك يا أم سليم ؟ فقالت يا نبي الله أدعوت على يتيمتي ؟ قال : وما ذاك يا أم سليم قالت : زَعمَت أنك دعوت أن لا يكبر سنها ولا يكبر قرنها ؟ قال : فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال : (( يا أم سليم أما تعلمين أن شرطي على ربي أني اشترطت على ربي فقلت : إنما أنا بشر أرضى كما يرضى البشر ، وأغضب كما يغضب البشر ، فايما أحد دعوت عليه من امتي بدعوة ليس لها بأهل أن يجعلها له طهوراً وزكاة وقربة يقربه بها منه يوم القيامة )) . ثم أتبع الامام مسلم هذا الحديث بحديث معاوية وبه ختم الباب ، إشارة منه رحمه الله الى أنها من باب واحد ، وفي معنى واحد فكما لا يضر اليتيمة دعاؤه صلى الله عليه وسلم عليها – بل هو لها زكاة وقربة – فكذلك دعاؤه صلى الله عليه وسلم على معاوية .
وقد قال الامام النووي في " شرحه على مسلم " [ 2 / 325 طبع الهند ] : وأما دعاؤه على معاوية ففيه جوابان ، أحدهما : أنه جرى على اللسان بلا قصد .(1/84)
والثاني : أنه عقوبة له لتأخره ، وقد فهم مسلم رحمه الله من هذا الحديث أن معاوية لم يكن مستحقاً للدعاء عليه ؛ فلهذا أدخله في هذا الباب ، وجعل غيره من مناقب معاوية ؛ لأنه في الحقيقة يصير دعاء له . وقد أشار الذهبي في " سير أعلام النبلاء " [ 9 / 171 / 2 ] الى هذا المعنى الثاني ، فقال " قلت : لعل أن يقال هذه منقبة لمعاوية ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم : اللَّهم من لعنته أو سببته ؛ فاجعل ذلك زكاة ورحمة " . واعلم أن قوله صلى الله عليه وسلم : " إنما أنا بشر أرضى كما يرضى البشر ... "
إنما هو تفضيل لقوله تعالى { قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ } (الكهف:110) .
وقد يبادر بعض ذوي الأهواء أو العواطف الهوجاء الى إنكار مثل هذا الحديث ؛ بزعم تعظيم النبي عليه الصلاة والسلام ، وتنزيهه عن النطق به ، ولا مجال الى مثل هذا الإنكار ؛ فإن الحديث صحيح ، بل هو عندنا متواتر ، فقد رواه مسلم من حديث عائشة وأم سلمة ، ومن حديث أبي هريرة وجابر ، وورد من حديث سلمان وأنس وسمرة وأبي طفيل وأبي سعيد وغيرهم .
وتعظيم النبي صلى الله عليه وسلم تعظيماً مشروعاً ، إنما يكون بالإيمان بكل ما جاء عنه صلى الله عليه وسلم صحيحاً ثابتاً وبذلك يجتمع الإيمان به صلى الله عليه وسلم عبداً ورسولاً ، دون إفراط ولا تفريط ؛ فهو صلى الله عليه وسلم بشر بشهادة الكتاب والسنة ، ولكنه سيد البشر وأفضلهم إطلاقاً بنص الأحاديث الصحيحة ، وكما يدل عليه تاريخ حياته صلى الله عليه وسلم وسيرته ، وما حباه الله تعالى به من الأخلاق الكريمة والخصال الحميدة التي لم تكتمل في بشر إكتمالها فيه صلى الله عليه وسلم ، وصدق الله العظيم إذ خاطبه بقوله الكريم : { وإنكَ لعلى خلق عظيم } ( القلم : 4 ) .(1/85)
وفي حديث أم حرام أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نام عندها ثم استيقظ وهو يضحك ، قالت ، قلت : وما يضحكك يا رسول الله ؟ قال : ناس من أمتي عرضوا علي غزاة في سبيل الله يركبون ثبج – أي وسط – هذا البحر ملوكاً على الأسرة – أو مثل الملوك على الأسرة – قالت : فقلت : يا رسول الله ادع الله أن يجعلني منهم ، قال ، أنت من الأولين ... فركبت البحر في زمن معاوية بن أبي سفيان فصرعت عن دابتها حين خرجت من البحر فهلكت )) " البخاري ، ومسلم " .
قال الفرياني : "وكان أول من غزاه معاوية في زمن عثمان بن عفانرحمة الله عليهما "
قال ابن كثير : " يعني جيش معاوية حين غزا قبرص ففتحها في سنة سبع وعشرين أيام عثمان بن عفان وكانت معهم أم حرام فماتت هناك بقبرص ، ثم كان أمير الجيش الثاني ابنه يزيد بن معاوية ولم تدرك أم حرام جيش يزيد هذا وهذا من أعظم دلائل النبوة " ( البداية والنهاية – 8 / 232 ) .
وقال ابن عبد البر رحمه الله تعالى : ( وفيه فضل لمعاوية رحمه الله إذ جعل من غزا تحت رايته من الأولين ورؤيا الأنبياء صلوات الله عليهم وحي ) .
وعن أم حرام أيضاً قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( أول جيش من أمتي يغزون البحر قد أوجبوا ، قالت أم حرام : قلت : يا رسول الله أنا فيهم : قال : " أنت فيهم " ثم قال النبي (( أول جيش من أمتي يغزون مدينة قيصر مغفور لهم )) ، فقلت أنا فيهم يا رسول الله ؟ قال : لا )) " رواه البخاري " .
قال المهلب : " في الحديث منقبة لمعاوية لأنه أول من غزا البحر "
وقال الحافظ : " وقوله قد أجيبوا " أي فعلوا فعلاً وجبت لهم الجنة "
قال الذهبي : " حسبك بمن يؤمره عمر ثم عثمان على اقليم – وهو ثغر – فيضبطه ويقوم به أتم قيام ويرضي الناس بسخائه وحلمه "(1/86)
قال ابن تيمية : " وعمر من أعلم الناس بأحوال الرجال وأحذقهم في السياية وأبعد الناس عن الهوى ... فلم يول معاوية الا وهم عنده ممن يصلح للإمارة ثم لما توفى زاد عثمان في ولايته " .
وقال في الفتاوى : ( لما مات يزيد بن سفيان في خلافة عمر استعمل أخاه معاوية وكان عمر بن الخطاب من أعظم الناس فراسة وأخبرهم بالرجال وأقومهم بالحق وأعلمهم به حتى قال علي بن أبي طالب : كنا نتحدث أن السكينة تنطق على لسان عمر ) .
وقال أيضاً " لولا استحقاقه للإمارة ما أمره " .
وقال رحمه الله : ( وكانت سيرة معاوية مع رعيته من خيار سير الولاة وكان رعيته يحبونه وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : (( خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم وتصلون عليهم ويصلون عليكم وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم وتلعنونهم ويلعنونكم ) " منهاج السنة [ 6 / 247 ] والحديث رواه أحمد ومسلم " .
قال شيخ الإسلام : ( واتفق العلماء على أن معاوية أفضل ملوك هذه الأمة فإن الأربعة قبله كانوا خلفاء نبوة ؛ وهو أول الملوك ، كان ملكه ملكاً ورحمة كما جاء في الحديث (( يكون الملك نبوة ورحمة ، ثم تكون خلافة ورحمة ، ثم يكون ملك ورحمة ، ثم ملك وجبرية ، ثم ملك عضوض )) – " رواه الطبراني ورجاله ثقات وهو في الصحيحة – " وكان في ملكه من الرحمة والحلم ونفع المسلمين ما يعلم أنه كان خيراً من ملك غيره ) " الفتاوى [ 4 / 478 " .
أما خلافته فكانت صحيحة شرعية ، فقد بايعه عدد كبير من الصحابة الكرام .(1/87)
قال الجوزقاني : ( واعلم أحسن الله لنا ولك التوفيق – أن الإعتماد في خلافته على ما فعله الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنهما ، لأنه كان أكبر أولاد علي رضي الله عنه ، وأجمع عليه أصحاب أبيه بعده ، فلما نظر في عاقبة الأمر وما يؤول اليه خلع نفسه وسلم الأمر الى معاوية وبايع له ، فصار ذلك إجماعاً صحيحا من غير تأويل ولا مقال ، وكان هذا الفعل من الحسن رضي الله عنه أحد ما استدل به المسلمون على صحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، لأنه أخبر عنا يكون فكان ، وذلك قوله : (( إن ابني هذا سيد وعسى الله عز وجل أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين)) - واه البخاري - ثم قال فاستدلنا هذا الحديث على صحة نبوته صلى الله عليه وسلم لأنه أخبر عن أمر يكون فكان كما أخبر ، وعلى أن الفئتين كلاهما من المسلمين ، ولم يميز إحداهما على الأخرى بفضل ولا نقص ) " كتاب الأباطيل والمناكير والصحاح والمشاهير [ص: 101 – 102 ] .
ذكر الحافظ عبد الغني المقدسي أن يزيد بن معاوية بايعه ستون صحابياً منهم ابن عمر .
قلت : إذا بايع يزيد ستون صحابياً فلا شك أن من بايع معاوية منهم أضعاف أضعاف هذا العدد . قال الأوزاعي : (( أدركت خلافة معاوية عدة من الصحابة منهم أسامة وسعد وجابر وابن عمر وزيد ابن ثابت ومسلمة بن مخلد وأبو سعيد ورافع بن خديج ولأبو أمامة وأنس بن مالك ورجال أكثر وأطيب ممن سمبنا بأضعاف مضاعفة كانوا مصابيح الهدى وأوعية العلم حضروا من الكتاب تنزيله ومن الدين جديده وعرفوا من الاسلام ما لم يعرفه غيرهم وأخذوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تأول القرآن ، ومن التابعين لهم بإحسان ما شاء الله ، منهم المسور بن مخرمة ، وعبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث ، وسعيد بن المسيب ، وعبد الله بن محيرز ، وفي أشباه لهم لم ينزعوا يداً من جماعة في امة محمد صلى الله عليه وسلم )) .(1/88)
ومن الصحابة أيضاً الحسن بن علي ، وابن عباس ، وأبو هريرة ، وجابر بن عبد الله ، وأبو الدرداء وغيرهم كثير رضي الله عنهم أجمعين ، فهؤلاء أئمة الهدى ومصابيح الدجى ، فلم يبايعوا معاوية رضي الله عنه إلا وقد رأوا فيه شروط الإمامة متوفرة ، ومنها العدالة ، فمن يطعن بعدالة معاوية وإمامته فقد طعن في عدالة هؤلاء الصحابة جميعهم وخوَّنهم وتنقصهم . فمن رضيه هؤلاء لدينهم ودنياهم ألا نرضاه ونقبل به نحن ؟؟ ضللنا اذاً وما اهتدينا ان لم نرض بمن رضوا به ، ومن قال لعلهم بايعوا خوفاً فقد سبهم واتهمهم بالجبن وعدم الصدع بالحق ، وهم منزهزن عن أدنى شيء يشين دينهم ، وهم القوم المعلوم من سيرتهم الشجاعة والشهامة وعدم الخوف في الله لومة لائم ولو نشروا بمناشير الحديد نصفين ، فمن استن بسنتهم نجى وسلم ، ومن خالفهم واتبع غير سبيلهم ضلَّ وأضل . وفي مبايعة سبط رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما معاوية رد بليغ وإلقام حجر في فم الروافص أعداء الله ، والحسن رضي الله عنه من الأئمة المعصومين عندهم الذي لا يجوز الخطأ في حقهم ، فلم يا ترى خالفوه ووسموه بمسوّد وجوه المؤمنين ؟! إنه الهوى والضلال والزندقة . وفي هذا أيضاً علم من أعلام النبوة إذ قال صلى الله عليه وآله وسلم : (( ابني هذا سيد ، ولعل الله يصلح به بين فئتين من المسلمين )) ، وفي قوله من المسلمين ، رد على الخوارج كلاب النار الذين كفَّروا علياً وأصحابه ، ومعاوية وأصحابه ، عافانا الله وإياكم من الأهواء المضلة .
وعن ابن مليكة : (( قيل لابن عباس هل لك في أمير المؤمنين معاوية فإنه ما أوتر إلا بواحدة . قال : إنه فقيه )) " البخاري " . فشهادة ابن عباس له بالفقه والصحبة دالة على الفضل الكثير وهذا منه رضي الله عنه يدل على نظر ثاقب وفقه دقيق " ذكره الحافظ في الفتح [ 7 / 131 ] .(1/89)
وقال أبو الدرداء : (( ما رأيت أحداً بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أشبه صلاة برسول الله من أميركم هذا – يعني معاوية - )) .
قال شيخ الإسلام في منهاج السنة " 6 / 235 " بعد ما أورد أثر ابن عباس السابق ، وأثر أبي الدرداء هذا : (( فهذه شهادة الصحابة بفقهه ودينه والشاهد بالفقه ابن عباس وبحسن الصلاة أبو الدرداء وهما هما والآثار الموافقة لهذا كثيرة )) .
وقال أيضاً : (( من المعلوم من سيرة معاوية أنه كان من أحلم الناس وأصبرهم على من يؤذيه ... )).
قال الامام أحمد : كان معاوية كريماً حليماً .
وقال أبو توبة الربيع بن نافع الحلبي : معاوية ستر لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فإذا كشف الرجل الستر إجترأ على ما وراءه . " تاريخ بغداد [ 1 / 209 ] ، والبداية [ 8 / 142 ] .
وعن قتادة قال : (( قلت للحسن : إن قوماً يشهدون على معاوية رحمه الله أنه في النار ، قال : لعنهم الله )) " الشريعة [ 3 / 521 ] .
وقال محمد بن عبد الله بن عمار الموصلي وغيره : سُئلَ المعافى بن عمران : أيهما أفضل معاوية أو عمر بن عبد العزيز ؟ فغضب وقال للسائل : أتجعل رجلاً من الصحابة مثل رجل من التابعين ! معاوية صاحبه وصهره ، وكاتبه ، وأمينه على وحي الله . " تاريخ بغداد [ 1 / 209 ] .
وسئل عبد الله بن المبارك : (( عمر بن عبد العزيز أفضل أم معاوية ؟ قال : تراب دخل في أنف معاوية في بعض مشاهد النبي صلى الله عليه وسلم أفضل من عمر بن عبد العزيز )) " الحجة في بيان المحجة [ 2 / 377 ] لأبي قاسم الأصبهاني " .
قال ابن العماد : (( سئل الامام أحمد بن حنبل رضي الله عنه : أيما افضل معاوية أو عمر بن عبد العزيز ؟ فقال : لغبار لحق بأنف جواد معاوية بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم خير من عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه وأماتنا على محبته )) " شذرات الذهب [ 1 / 65 ] .(1/90)
وفي رواية قال البشر بن الحارث : سئل المعافى وأنا أسمع أو سألته : معاوية أفضل أو عمر بن عبد العزيز ؟ فقال : كان معاوية أفضل من ستمائة مثل عمر بن عبد العزيز " السنة للخلال [ 435 ] .
قال ابن كثير في اختصار علوم الحديث : ( وقال بعضهم في معاوية وعمر بن عبد العزيز : ليوم شهده معاوية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم خير من عمر بن عبد العزيز وأهل بيته ) "الباعث الحثيث
[ 181 ] " .
وقال قتادة : ( لو أصبحتم في مثل عمل معاوية لقال أكثركم هذا المهدي ) . وورد عن جماعة من السلف أنهم ذكروا عمر بن عبد العزيز وعدله ، فقال الأعمش : فكيف لو أدركتم معاوية ؟ قالوا : في حلمه ؟ قال : بل في عدله ) .
وعن همام بن منبه قال : سمعت ابن عباس يقول : ( ما رأيت رجلاً كان أخلق بالملك من معاوية )
" السنة للخلال [ 440 ] ، الطبري في التاريخ [ 3 / 269 ] ، البداية [ 8 / 137 ] .
قال ابن كثير : وقال قبيصة بن جابر : ( ما رأيت أحداً أعظم حلماً ولا أكثر سؤدداً ولا أبعد إناءة ولا ألين مخرجاً ولا أرحب باعاً بالمعروف من معاوية ) " الجليس الصالح الكافي للجريري [ 4 / 51 ].
وقال قبيصة كذلك : ( ألا أخبركم من صحبت ؟ صحبت عمر بن الخطاب فما رأيت رجلاً أفقه فقهاً ولا أحسن مدارسة منه ، ثم صحبت طلحة بن عبيد الله فما رأيت رجلاً أعطى للجزيل من غير مسألة منه ، ثم صحبت معاوية فما رأيت رجلاً أحب رفيقاً ولا أشبه سريرة بعلانية منه ) تاريخ الطبري [ 3 / 269 ] .
وقال هارون الحمال : ( سمعت أحمد بن حنبل واتاه رجل فقال : يا أبا عبد الله ، إن هاهنا رجل يفضل عمر بن عبد العزيز على معاوية بن أبي سفيان فقال أحمد : لا تجالسه ولا تؤاكله ولا تشاربه وإذا مرض فلا تعده ) " ذيل طبقات الحنابلة لابن رجب [ 3 / 133 ] فكم من المتنقصين نؤاكلهم ونشاربهم ونبش في وجوههم والله المستعان " .(1/91)
قال سعد بن أبي وقاص : ( ما رأيت أحداً بعد عثمان أقضى بحق من صاحب هذا الباب ، يعني معاوية ) " البداية [ 8 / 136 ] .
قال أبو عثمان : وحدثني العلاء بن أبي الحكيم أنه كان سيافاً لمعاوية رضي الله عنه فدخل عليه رجل فأخبره بهذا الحديث عن أبي هريرة الذي يرويه عن رسول الله قال : قال : صلى الله عليه وسلم (( إن الله تبارك وتعالى إذا كان يوم القيامة ينزل الى العباد ليقضي بينهم وكل أمة جاثية ، فأول من يدعو به رجل جمع القرآن ورجل يقتتل في سبيل الله ، ورجل كثير المال ، فيقول الله للقارىء : ألم أعلمك على ما أنزلت على رسولي ؟ قال : بلى يارب ، قال : فماذا عملت فيما علمت ؟ قال : كنت أقوم به آناء الليل وآناء النهار ، فيقول الله له كذبت ، وتقول له الملائكة كذبت ويقول الله بل أردت أن يقال إن فلاناً قارىء فقد قيل ذاك ويؤتى بصاحب المال فيقول الله له : ألم أوسع عليك حتى ما أدعك تحتاج الى أحد ؟ قال : بلى يارب . قال فماذا عملت فيما آتيتك ؟ قال كنت أصل الرحم وأتصدق . فيقول الله له : كذبت وتقول له الملائكة كذبت ، ويقول الله تعاالى : بل اردت أن يقال فلان جواد قد قيل ذاك ، ويؤتى بالذي قتل في سبيل الله ، فيقول له الله : فبماذا قتلت ؟ فيقول : أُمرت بالجهاد في سبيلك فقاتلت حتى قتلت .(1/92)
فيقول الله تعالى له : كذبت ، وتقول له الملائكة : كذبت ، ويقول الله : بل أردت أن يقال فلان جريء فقد قيل ذاك ، ثم ض ... رب رسول الله صلى الله عليه وسلم على ركبتي فقال : يا أبا هريرة ، أولئك الثلاثة أول خلق الله تسعر بهم النار يوم القيامة )) فقال معاوية : قد فعل بهؤلاء هذا فكيف بمن بقي من الناس ؟ ثم بكى معاوية بكاءً شديداً حتى ظننا أنه هالك ، وقلنا : قد جاءنا هذا الرجل بشر ، ثم أفاق معاوية ومسح عن وجهه وقال : صدق الله ورسوله : { مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } (هود: 15 – 16 ) . " رواه مسلم مختصراً ، وهذه الرواية في الترمذي " .
ومن تواضعه رضي الله عنه عن أبي مجلز قال ( خرج معاوية على ابن الزبير وابن عامر فقام ابن عامر وجلس ابن الزبير ، فقال معاوية لابن عامر : اجلس فإني سمعت الرسول صلى الله عليه وسلم يقول : (( من أحب أن يمثل له الرجال قياماً فليتبوأ مقعده من النار )) " صحيح الأدب المفرد ورواه أحمد " .
وروى أحمد بسنده الى علي بن أبي حملة عن أبيه قال : ( رأيت معاوية على المنبر بدمشق يخطب الناس وعليه قميص مرقوع ) " الزهد [ 172 ] " .
وعن يونس بن ميسر الحميري قال : رأيت معاوية في سوق دمشق ، وهو مردف وراءه وصيفاً ، وعليه قميص مرقوع الجيب ، يسير في أسواق دمشق .
----------------
أحاديث معاوية عند المحدثين وذكر من بوَّب له
في المناقب ومن صنَّف فيه مصنَّفاً
أخرج أهل الحديث لمعاوية رضي الله عنه 163 حديثاً .
وخصص له الإمام أحمد في كتابه مسنداً خاصاً ، وروى له أكثر من مائة حديث . وكذا أبو يعلي الموصلي في مسنده . والطبراني في المعجم الكبير وغيرهم .(1/93)
وقال الذهبي : ( مسنده في مسند بقي مئة وثلاثة وستون حديثاً ، وقد عمل الأهوازي مسنده في مجلد واتفق له البخاري ومسلم في أربعة ، وانفرد البخاري بأربعة ومسلم بخمسة ) .
أخرج له أصحاب الكتب الستة ستون حديثاً .
بعض الذين رووا عن معاوية رضي الله عنه : عبد الله بن عباس ، وجرير بن عبد الله البجلي ، وأبو سعيد الخدري ، وأبو عبد الله الصنابجي ، وأبو ذر الغفاري ، وأبو الدرداء وابن عمر ، وعبد الله بن الزبير ، والنعمان بن بشير ، ومحمد بن مسلمة ، وأبو الطفيل ، والسائب بن يزيد ، وعبد الله بن عمرو بن العاص ، ووائل بن حجر ، ومعاوية بن خديج ، وسبرة بن معبد ، وعبد الرحمن بن الشبل ، وأسيد بن ظهير ، وأبو عامر الأشعري ، ويزيد بن جاري رضي الله عنهم ، والحسن البصري ، وخالد بن معدان ، وسعيد بن المسيب ، وسعيد المقبري ، وعبد الرحمن بن هرمز الأعرج ، وعطاء بن أبي رباح ، ومحمد بن جبير بن مطعم ، ومحمد بن سرين ، ومحمد بن علي بن أبي طالب المعروف بابن الحنفية ومطرف بن عبد الله بن الشخير وهمام بن منبه ، وأبو ادريس الخولاني ، وعروة بن الزبير
وسالم بن عبد الله بن عمر ، ومجاهد ، وأبو قلابة ، ومكحول ، وعطاء بن يسار ، وبهز بن حكيم وغيرهم كثير . " أُ نظر في تهذيب الكمال [ 28 / 177 – 178 ] ، وأُسد الغابة [ 5 / 204 ] .
وألف الهيتمي رسالة في الدفاع عن معاوية رضي الله عنه سماها : ( تطهير الجنان واللسان عن الخطر والتفوه بثلب سيدنا معاوية بن أبي سفيان ) . وقد طبعت ملحقة بالصواعق المحرقة . وكتب أبو عمر الزاهد جزءاً في فضائل معاوية وكذلك أبو فتح القواس .
وكتب في سيرته عوانة بن الحكم وكذلك الأهوازي .
وكتب أبو يعلي الفراء " تبرئة نعاوية " نزهه عن الظلم في مطالبته بدم عثمان رضي الله عنهما .
وفي الشريعة عقد الإمام الآجري كتاباً سماه : (( فضائل معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه )) ثم أورد تحته أبوباً في فضائله وهي :(1/94)
? · باب ذكر دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لمعاوية رضي الله عنه .
? · بشارة النبي صلى الله عليه وسلم لمعاوية رحمه الله بالجنة .
? · ذكر مصاهرة النبي صلى الله عليه وسلم لمعاوية بإخته أم حبيبة رحمه الله .
? · ذكر استكتاب النبي صلى الله عليه وسلم لمعاوية رحمه الله .
? · ذكر صحبة معاوية رحمه الله للنبي صلى الله عليه وسلم ومنزلته عنده .
? · ذكر تواضع معاوية رحمه الله في خلافته .
? · ذكر تعظيم معاوية لأهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وإكرامه إياهم .
? · ذكر وصية النبي صلى الله عليه وسلم لمعاوية رضي الله عنه إن وليت فاعدل .
وفي الاحسان في تقريب صحيح ابن حبان لابن بلبان الفارسي ( كتاب اخباره صلى الله عليه وسلم عن مناقب الصحابة رجالهم ونسائهم بذكر أسمائهم رضوان الله عليهم أجمعين ) ، ذكر معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه . " الاحسان [ 16 / 191 ] .
وفي البداية والنهاية لابن كثير فصل بعنوان (( فضل معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه )) "البداية والنهاية [ 8 / 21 ] .
وعقد الجوزقاني في كتابه (( الأباطيل والمناكير والصحاح والمشاهير )) باباً باسم : " فضائل طلحة والزبير و معاوية وعمرو " [ ص : 92 ] .
-----------------
بعض أصحاب كتب التراجم والرجال
الذين ترجموا لمعاوية ولم يذكروه الا بخير
? · البخاري في التاريخ الكبير [ 7/326 ] .
? · ابن سعد في الطبقات الكبرى [ 7/406] .
? · ابن جرير الطبري في التاريخ [ 3 / 260 ] .
? · الخطيب في تاريخ بغداد [ 1/207] .
? · ابن عساكر في تاريخ دمشق [ المختصر 24 / 399 ] .
? · ابن قتيبة في المعارف [ 152 ] .
? · ابن الأثير في أُسد الغابة [ 5 / 201 ] .
? · ابن الأثير في الكامل [ 4 / 5 ] .
? · ابن الجوزي في المنتظم [ 5/ 332 ] .
? · ابن عبد البر في الاستيعاب [ 10 / 134 ] .
? · ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل [ 8 / 377 ] .
? · ابن حجر في الاصابة [ 6/151 ] .(1/95)
? · الذهبي في سير أعلام النبلاء [ 3 / 119 ] .
? · المزي في تهذيب الكمال [ 28 / 176 ] .
? · ابن حجر في تهذيب تهذيب [ 10 / 207 ] .
? · ابن حبان في ثقات [ 3 / 373 ] .
? · ابن كثير في البداية والنهاية [ 8 / 120 ] وفي جامع المسانيد [ 11 / 568 ] .
? · ابن العماد في شذرات الذهب [ 1 / 65 ] .
? · السيوطي في تاريخ الخلفاء [ 194 ] .
? · ابن دقمان في الجوهر الثمين [ 73 ] . وغيرهم كثير .
? · ----------------------
أحاديث باطلة لا تصح في
شأن معاوية ذماً ومدحاً
قال ابن الجوزي : (( قد تعصب قوم ممن يدعي السنة فوضعوا في فضله أحاديث ليغضبوا الرافضة وتعصب قوم من الرافضة فوضعوا في ذمه أحاديث ، وكلا الفريقين على الخطأ القبيح )) "الموضوعات" [ 2 / 15 ] .
بعض ماجاء من الأحاديث الواهية في ذمه :
(( اللهم اركسهما في الفتنة ركساً ، ودعهما في النار دعاً )) أي معاوية وعمرو بن العاص .
(( يطلع عليكم رجل يموت على غير سنتي )) فطلع معاوية
(( قام النبي صلى الله عليه وسلم خطيباً ، فأخذ معاوية بيد ابنه يزيد وخرج ولم يسمع الخطبة فقال صلى الله عليه وسلم : (( لعن الله القائد والمقود ) .
هذا من أسمج وأقبح الكذب ، فمعاوية لم يتزوج الى في زمن عمر ، وولد له يزيد في زمن عثمان سنة سبع وعشرين من الهجرة .
(( إذا رأيتم معاوية على منبري فاقتلوه )) .
- - بعض ما جاء من الأحاديث الواهية في مدحه :
(( كاد معاوية أن يبعث نبياً من حلمه وائتمانه على كلام ربي )) .
(( هنيئاً لك يا معاوية ، لقد أصبحت أميناً على خبر السماء )) .
(( يحشر معاوية وعليه حلة من نور )) .
(( يبعث معاوية وعليه رداء من نور الإيمان )) .
(( يخرج معاوية من قبره وعليه رداء من سندس مرصع بالدر والياقوت )) .
(( الأمناء ثلاثة أنا وجبريل ومعاوية )) .
وغير ذلك كثير ، راجع كتب الموضوعات والأباطيل ترى العجب .(1/96)
فانظر رحمك الله الى هذا الغلو المقيت وذاك الجفاء القبيح ، الروافض يجعلون معاوية من الكفار والزنادقة الملعونين والنواصب يرفعونه الى عليين ودرجة النبيين ، وصدق من قال : يضيع هذا الدين بين الغالي فيه والجافي عنه . ورحم الله أهل السنة السلفيين الذين عرفوا للصحابة قدرهم وأنزلوا كل واحد منزلته ، فتكلموا بعدل وإنصاف فكانوا حقاً أعلم الناس بالحق وأرحمهم بالخلق .
----------------
مقتطفات من أقوال العلماء
في معاوية رضي الله عنه
قال الآجري في الشريعة [ 3 / 496 ] : (( معاوية رحمه الله كاتب رسول الله صلى الله عليه وسلم على وحي الله عز وجل وهو القرآن بأمر الله عز وجل وصاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن دعا له النبي صلى الله عليه وسلم أ، يقيه العذاب ودعا له أن يعلمه الله الكتاب ويمكن له في البلاد وأن يجعله هادياً مهدياً )) . الى أن قال : (( وهو ممن قال الله عز وجل { يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ } (التحريم:8) فقد ضمن الله الكريم له أن لا يخزيه لأنه ممن آمن برسول الله صلى الله عليه وسلم )) .
وقال الامام ابن بطة في الإبانة الصغرى [ ص : 299 ] : (( تترحم على أبي عبد الرحمن معاوية بن أبي سفيان أخي أم حبيبة زوج النبي صلى الله عليه وسلم خال المؤمنين أجمعين وكاتب الوحي وتذكر فضائله )) .
وقال الجوزقاني في كتابه (( الأباطيل والمناكير والصحاح والمشاهير [ ص : 100 – 101 ] اعلم أن معاوية خال المؤمنين وكاتب الوحي المبين المنزل من عند رب العالمين على رسوله محمد الأمين صلوات الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين ، هو أبو عبد الرحمن معاوية بن أبي سفيان صخر بن حرب بن أمية ابن عبد شمس بن عبد مناف القرشي يجمعه رسول الله صلى الله عليه وسلم النسب من عبد مناف )) .
قال ابن عساكر : (( خال المؤمنين وكاتب وحي رب العالمين )) .(1/97)
قال أبو نعيم الحافظ : (( كان من الكتبة الحسبة الفصحة )) . ثم قال (( كان حليماً وقوراً )) .
قال ابن الأثير : (( وشهد مع رسول الله حنيناً ، وأعطاه من غنائم هوازن مائة بعير ، وأربعين أوقية وكان هو وأبوه من المؤلفة قلوبهم ، وحسن إسلامهما وكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم )) .
وقال ابن العماد : (( ولي الشام لعمر وعثمان عشرين سنة ، وتملكها بعد علي عشرين الا شهراً ، وسار بالرعية سيرة جميلة ، وكان من دهاة العرب وحلمائها ، ويضرب به المثل ، وهو أحد كتبة الوحي ، وهو الميزان في حب الصحابة ومفتاح الصحابة )) .
قال الذهبي في السير : (( أمير المؤمنين ، ملك الإسلام )) .
وقال أيضاً : (( كان محبباً الى رعيته ، عمل نيابة الشام عشرين سنة ، والخلافة عشرين سنة ، ولم يهجه أحد في دولته بل دانت له الأمم وحكم على العرب والعجم ، وكان ملكه على الحرمين ومصر والشام والعراق وخرسان وفارس والجزيرة واليمن والمغرب وغير ذلك )) .
قال أبو القاسم حمزة بن محمد الكناني في (( جزء البطاقة )) بعد أن ساق بسنده الى العرباض بن سارية رضي الله عنه قوله صلى الله عليه وسلم : (( اللهم علم معاوية الكتاب والحساب وقه العذاب )) قال وقد روى عن معاوية رضي الله عنه جماعة من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم . ثم ساق أسمائهم وأحاديثهم الى أن قال : وروى عنه وجوب التابعين أهل المدينة ومكة والكوفة والبصرة والشام ، وهذه منزلة عظيمة ودرجة رفيعة شريفة ، ونسأل الله حسن التوفيق والسلامة في الدين وبه نستعين )) . وقال : (( وكان أول ملك في الإسلام واستمر في الملك الى سنة ستين توفي فيها بدمشق ، عن ثمانين سنة رحمه الله ، ورضي عنه ، وقد كان حليماً وقوراً رئيساً سيداً له مكارم ، وفضائل ومآثر ... )) .
قال ابن خلدون : (( وقد كان ينبغي أن تلحق دولة معاوية وأخباره بدول الخلفاء وأخبارهم ، فهو تاليهم في الفضل والعدالة والصحبة )) .
-----------------(1/98)
أعماله رضي الله تعالى عنه
اتسعت رقعة العالم الإسلامي في عهده رضي الله عنه من أفريقيا غربياً الى بلاد الهند شرقاً وإلى حدود قسطنطينة شمالاً ، وكسرت شوكة الروم في عهده وفتح كثيراً من البلدان كقبرص وقيسارية .
قال ابن كثير ملخصاً حالت العالم الإسلامي في عهده رضي الله تعالى عنه : (( والجهاد في بلاد العدو قائم ، وكلمة الله عالية والغنائم ترد إليه من اطراف الأرض والمسلمون معه في راحة وعدل وصفح وعفو )) . وقال أيضاً : (( وكان يغزو الروم في كل سنة مرتين ، مرة في الصيف ومرة في الشتاء ، ويأمر رجلاً من قومه فيحج بالناس وحج هو سنة خمسين وحج ابنه يزيد سنة احدى وخمسين ، وفيها أو في التي بعدها أغزاه بلاد الروم فسار معه خلق كثير من كبراء الصحابة حتى حاصر القسطنطينة ، وقد ثبت في الصحيح [ أول جيش يغزو القسطنطينة مغفور لهم ] .
قال سعيد بن عبد العزيز : (( لما قتل عثمان واختلف الناس لم يكن للناس غازية ولا صائقة – الغزو في الصيف – حتى اجتمعت الأمة على معاوية سنة أربعين ، وسموها سنة الجماعة )) .
وقال أيضاً : (( فأغزا معاوية الصوائف وشتاهم بأرض الروم ستة عشرة صائفة تصيف بها وتشتوا ثم تقفل وتدخ معقبتها ، ثم أغزاهم معاوية ابنه يزيد سنة خمس وخمسين في جماعة من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم في البر والبحر حتى جاز بهم الخليج وقاتلوا أهل القسطنطينة على بابها ثم قفل بهم راجعاً الى الشام وكان آخر ما أوصى به معاوية أن قال : شد خناق الروم )) " تاريخ أبي زرعة [ 1 / 188 ] ، البداية [ 8 / 136 ] .
وهو مؤسس أول أسطول إسلامي بحري وبلغ 1700 سفينة في عهده ، وقد أسس داراً للصناعة البحرية في عكا ، وداراً أخرى لصناعة السفن البحرية في جزيرة الروضة بمصر عاك 54 هـ . وأسس مصلحة الشرطة وأنشأ البريد ووضع ديوان الخاتم . وغيرها كثير انظرها في كتب التواريخ والتراجم .(1/99)
كمل المقصود وربنا المحمود ، فما كان فيه من الصواب فمن الله ، وما كان فيه من خطأ فمني ومن الشيطان ، ورحم الله القائل :
وإن تجد عيباً فسد الخللا فجل من لاعيب فيه وعلا
ومن قال :
وما بها من خطأ ومن خلل أذنت في إصلاحه لمن فعل
لكن بشرط العلم والإنصاف فذا وذا من أجمل الأوصاف
والله يهدي سبل السلام سبحانه بحبله إعتصام
وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين(1/100)