مقدمة فضيلة الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن السعد
... إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا. من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله - صلى الله عليه وسلم - .
أما بعد:
... فإن من المعلوم الذي يعرفه الخاص والعام وهو ما عُلم بالضرورة من دين الإسلام فضل صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعلوّ مكانتهم ورفعة درجتهم رضي الله عنهم.
... وهذا لما تكاثرت به الأدلة الدالة على ذلك من الكتاب والسنة وليس هذا موضع استيفائها وهي معلومة بحمد الله تعالى وفضله ولكن لعلي أذكر بعضاً منها.
... قال الله تعالى: { مُحَمدٌ رَسُولُ الله والذين معه أشداء على الكُفارِ رُحماءُ بينهم تراهم رُكعاً سُجداً يبتغون فضلا من الله ورضوانا سيماهُم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرعٍ أخرج شطئه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزُّراع ليغيظ بهم الكُفار وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجراً عظيماً } [محمد:29].
... وهذه الآية الكريمة تشمل كل الصحابة رضي الله عنهم لأنهم كلهم مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
... وقال تعالى: { لا يستوي مِنكُم من أَنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظمُ درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكُلا وعد الله الحُسنى والله بما تعملون خبير } [الحديد: 10].
... وهذه الآية أيضاً شاملة (1) لكل الصحابة رضي الله عنهم لمن انفق قبل فتح مكة وقاتل ولمن أنفق من بعد الفتح وقاتل ، كلهم وعدهم الله بالحسنى والحسنى هي الجنة كما قال الله تعالى: { للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ولا يرهقُ وجوههم قترٌ ولا ذِلةٌ أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون } [ يونس: 26].
__________
(1) لأن هناك من ينازع في فضل بعض الصحابة رضي الله عنهم ، لذلك ذكرت النصوص التي تشمل الصحابة كلهم من حيث الفضل.(1/1)
... ولذلك فسّر السلف الحسنى بالجنة (1) كما قال ذلك أبو بكر الصديق رضي الله عنه وغيره. قال أبو جعفر بن جرير في تفسيره 11/108: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله تبارك وتعالى وعد المحسنين من عباده على إحسانهم الحسنى وأن يجزيهم على طاعته إياه الجنة.
... والذي قاله ابن جرير واضح يشهد له ما تقدم وما سيأتي إن شاء الله تعالى.
... وقال تعالى: { والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جناتٍ تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً ذلك الفوز العظيم } [التوبة: 100]. وهذه الآية أيضاً شاملة لكل الصحابة رضي الله عنهم.
... ويؤيد ما تقدم ما جاء في السنة فقد أخرج البخاري 3673 ومسلم 2541 كلاهما من طريق الأعمش عن أبي صالح عن أبي سعيد قال: كان بين خالد بن الوليد وبين عبد الرحمن بن عوف شيء فسبّه خالد فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " لا تسبوا أحداً من أصحابي فإن أحدكم لو أنفق مثل أحد ذهباً ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه" وهذا لفظ مسلم (2) .
... وهذا الحديث شامل لكل الصحابة رضي الله عنهم لأنه قال عليه الصلاة والسلام: "لا تسبوا أحداً من أصحابي".
... ولذلك بوّب عليه أبو حاتم بن حبان في صحيحه كما في الإحسان 16/238: ذكر الخبر الدالِّ على أن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كلهم ثقات عدول.
... وأما توجيه هذا الخطاب لخالد بن الوليد ولغيره فهذا لا يفيد خروجه من الصحابة بل هو بالإجماع صحابي ، وإنما المقصود الصحبة الخاصة كما قال عليه الصلاة والسلام لعمر رضي الله عنه عندما وقع خلاف بينه وبين الصديق رضي الله عنه: " فهل أنتم تاركو لي صاحبي؟ مرتين" أخرجه البخاري 3661 من حديث أبي إدريس عن أبي الدرداء.
__________
(1) أي في تفسير آية { للذين أحسنوا ... } .
(2) وأخرجه مسلم 2540 أيضاً من حديث أبي هريرة.(1/2)
... وأخرج البخاري 3649 ومسلم 2532 كلاهما من حديث عمرو بن دينار عن جابر بن عبد الله عن أبي سعيد الخدري عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " يأتي على الناس زمان يغزو فئام من الناس يقال لهم: فيكم من رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ فيقولون: نعم ، فيفتح لهم ، ثم يغزو فئام من الناس فيقال لهم: فيكم من رأى من صحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ فيقولون: نعم ، ثم يغزو فئام من الناس فيقال لهم: هل فيكم من رأى من صحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ فيقولون: نعم ، فيفتح لهم" وهذا لفظ مسلم.
... وأخرجه مسلم 2523 من طريق أبي الزبير عن جابر قال: زعم أبو سعيد قال: قال رسول - صلى الله عليه وسلم - : " يأتي على الناس زمان يبعث منهم البعث فيقولون: هل تجدون فيكم أحداً من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ؟ فيوجد الرجل فيفتح لهم به ، ثم يبعث البعث الثاني فيقولون: هل فيهم من رأى أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ؟ فيفتح لهم ، ثم يبعث البعث الثالث فيقال: انظروا هل ترون فيهم أحداً رأى أحداً رأى أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ؟ فيوجد الرجل فيفتح لهم به" وهذا شامل أيضاً لكل الصحابة رضي الله عنهم.
... ومن فضل الصحابة رضي الله عنهم أنهم أمنة للأمة ، أخرج مسلم 2531 من طريق سعيد بن أبي بردة عن أبيه (1) قال: صلينا المغرب مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرفع رأسه إلى السماء فقال: " النجوم أمنة للسماء فإذا ذهب النجوم أتى السماء ما توعد ، وأنا أمنة لأصحابي فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون ، وأصحابي أمنة لأمتي فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون".
... وهذا أيضاً يشمل كل الصحابة رضي الله عنهم لأن الحديث عام في الصحابة ولم يخص أحداً منهم دون أحد.
__________
(1) أي أبو موسى الأشعري رضي الله عنه.(1/3)
... ويؤيد ما تقدم ما رواه أحمد 4/363 والطبراني في الكبير 2438 ، والحاكم 4/80 وصححه ، وأبو نعيم في أخبار أصبهان 10/145 كلهم (1) من طريق عن الثوري عن الأعمش (2) عن موسى بن عبد الله بن يزيد عن عبد الرحمن بن هلال عن جرير بن عبد الله البجلي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " الطلقاء من قريش والعتقاء من ثقيف بعضهم أولياء بعض في الدنيا والآخرة ، والمهاجرون والأنصار بعضهم أولياء بعض في الدنيا والآخرة " (3) .
__________
(1) وقع في إسناد أحمد خطأ وهو: نسبة موسى بن عبد الله إلى هلال العبسي وجعلهم واحداً وقد نبه على هذا الهيثمي وابن حجر كما في إتحاف المهرة 4/56.
(2) رواه شريك كما عند أحمد 4/363 ، والطبراني 2456 فخالف فيه الثوري فرواه عن الأعمش عن تميم بن سلمة عن عبد الرحمن بن هلال عن جرير ، ولا شك أن رواية الثوري أصح.
(3) إسناده قوي ، ورجاله كلهم ثقات وموسى بن عبد الله ثقة بالاتفاق خرج له مسلم في صحيحه وعبد الرحمن بن هلال العبسي وثقه النسائي والعجلي وذكره ابن حبان في الثقات. وقد خرّج له مسلم ثلاثة أحاديث عن جرير وهي 989 ، 1017 ، 2592. وفي معجم الطبراني الكبير 2448 من طريق مجالد ثني عبد الرحمن بن هلال قال أرسلني أبي إلى جرير بن عبد الله .. قال: فأتيته وسألته .." وهذا فيه إثبات سماع عبد الرحمن من جرير.
... ولكن لم أقف للأعمش (*) على تصريح بالسماع في هذا الحديث من موسى بن عبد الله مع أن له رواية عنه في مسلم 1017 وأما عنعنة الثوري فلا تضر لأنه معروف بالرواية عن الأعمش وأغلب تدليسه إنما هو من تدليس الشيوخ. وأما تدليس الإسناد فقليل قال البخاري: ولا أعرف لسفيان الثوري عن حبيب بن أبي ثابت ولا عن سلمة بن كهيل ولا عن منصور وذكر مشايخ كثيرة لا أعرف لسفيان عن هؤلاء تدليساً. ما أقل تدليسه. اهـ . من العلل للترمذي 2/966.
... وقد جاء هذا الخبر من طرق أخرى فقد أخرجه أبو داود الطيالسي 706 وأحمد 4/363 وابن حبان 7260 والطبراني في الكبير 2302 , 2310 ، 2311 ، 2314 وأبو نعيم في أخبار أصبهان 1/145-146 ، وابن عدي في الكامل 3/1122 والخطيب في التاريخ 13/44 من طرق عن أبي وائل عن جرير به وأبو وائل وإن كان قديماً وقد أدرك الجاهلية ولكنه يرسل ولا أعرف أنه سمع من جرير وليس له في الكتب الستة رواية عن جرير إلا حديث واحد أخرجه النسائي 7/147 وبينَّ أن بينهما رجلاً.
... وقد خرج الطبراني في الكبير عدة أحاديث من رواية أبي وائل عن جرير 2302 –2317 ولم يصرح في شيء منها بالتحديث عن جرير.
... ومن الطرق التي رويت عن أبي وائل (*) طريق عاصم بن أبي النجود عنه. وقد اختلف عليه فرواه أبو بكر بن عياش وشريك وعمرو بن قيس وسليمان بن معاذ كلهم عن عاصم عن أبي وائل عن جرير. وخالفهم إسرائيل فرواه عن عاصم عن أبي وائل عن عبد الله به. أخرجه البزار 1726 وقال: وهذا الحديث أحسب أن إسرائيل أخطأ فيه إذ رواه عن عاصم عن أبي وائل عن عبد الله لأن أصحاب عاصم يروونه عن عاصم عن أبي وائل عن جرير. ا.هـ.
... وتابعه عكرمة بن إبراهيم أخرجه أبو يعلى 5033 والطبراني في الكبير 10408 وعكرمة بن إبراهيم ضعيف.
... وقال الدارقطني في العلل 5/103: يرويه عاصم بن بهدلة واختلف عنه فرواه عكرمة بن إبراهيم عن عاصم عن أبي وائل عن عبد الله. ووهم فيه والصواب عن عاصم عن أبي وائل عن جرير بن عبد الله.
... قيل له: يحيى بن آدم رواه عن إسرائيل بن عاصم عن شقيق عن عبد الله عن النبي - صلى الله عليه وسلم - .
... قال: كذلك قال يحيى بن آدم عن إسرائيل رواه الحسين بن واقد عن الأعمش عن شقيق بن عبد الله موقوفاً.ا.هـ.
وأنا أذهب إلى ما ذهب إليه البزار من تخطئة إسرائيل للأمرين:
1- ... أنه خالف الأكثر.
2- ... أنه سلك الجادة في حديث أبي وائل فجعله عن ابن مسعود والحفاظ يقدمون من خالف الجادة لأن هذا يدل على حفظه.
وأذهب أيضاً إلى ما ذهب إليه الدارقطني من الحكم على رواية عكرمة بن إبراهيم بالخطأ لما تقدم ولشدة ضعفه.
وأما رواية حسين بن واقد عن الأعمش فهذه الرواية أيضاً فيها نظر وذلك لما تقدم ، وأيضاً قد رواه أبو حذيفة (o ) عن سفيان عن سلمة بن كهيل عن أبي وائل عن جرير.
... ورواه الحجاج (() عن الحكم بن عتيبة عن أبي وائل عن جرير. هذا بالإضافة إلى رواية عاصم عن أبي وائل. فرواية هؤلاء تقدم على رواية حسين بن واقد على أن فيه بعض الكلام مع وقفه لهذا الحديث. وهذا مخالفة لكل من رواه.
... ويؤيد أن هذا الحديث من مسند جرير رواية سفيان الثوري عن الأعمش عن موسى بن عبد الله عن عبد الرحمن بن هلال عن جرير كما تقدم ولا شك أن رواية الثوري عن الأعمش تقدم على رواية حسين بن واقد.
... طريق آخر: أخرج الطبراني في الكبير 2284 من طريق الحسن بن عطية ثنا قيس بن الربيع عن إسماعيل عن قيس عن جرير به وهذا إسناد ضعيف ، قيس لا يحتج به. وأما الحسن بن عطية فهو القرشي ، قال أبو حاتم: صدوق. والحديث بمجموع طريقيه حديث حسن ثابت وقد صححه ابن حبان الحاكم والله أعلم.
(*) على أن يعقوب بن سفيان قال في المعرفة 2/637: وحديث سفيان وأبي إسحاق والأعمش ما لم يعلم أنه مدلّس يقوم مقام الحجة. اهـ. وفي هذا الخبر لا يعلم أن الأعمش دلّس فيه.
(*) أي في حديث: " الطلقاء .." .
(o) تقدمت هذه الرواية وأخرجه الطبراني ، وأبو نعيم.
(() أخرجها الطبراني وحجاج هو ابن أرطأة وإن كان فيه ضعف ويدلس ، ولكنها معتضدة بما تقدم.(1/4)
... قلت: وفي هذا الحديث ذكر الصحابة كلهم: المهاجرين والأنصار والطلقاء والعتقاء ، وأنه عليه الصلاة والسلام أثبت لهم الولاية بعضهم مع البعض الآخر في الدنيا والآخرة.
... وقول الرسول - صلى الله عليه وسلم - : " والآخرة " تفيد صحة إسلامهم وإيمانهم وذلك أنه لم يثبت لهم الولاية في الدنيا فقط بل والآخرة. والله تعالى أعلم.
وهذا الحديث عمل بما جاء في كتاب الله تعالى في قوله: { والذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله والذين أووا ونصروا أولئك هم المؤمنون حقاً لهم مغفرة ورزق كريم }74{ والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله إن الله بكل شيء عليم}75{ } [الأنفال:74،75].
... فتبين مما تقدم ثناء الله تعالى ورسوله الكريم - صلى الله عليه وسلم - على الصحابة كلهم رضي الله عنهم ولا شك أن الله تعالى بعلمه للغيب اختار أصحاب رسوله - صلى الله عليه وسلم - .
... أخرج أحمد 36000 ، والبزار1816 ، والطبراني 8582 في الكبير وابن الأعرابي 860 في المعجم ، والحاكم 3/78 وقال: صحيح الإسناد، والقطيعي في زوائد فضائل الصحابة 541 ، والبيهقي في المدخل كما في نصب الراية 4/133 كلهم من طريق أبي بكر بن عياش ثنا عاصم عن زر بن حبيش عن عبد الله بن مسعود قال: إن الله نظر في قلوب العباد فوجد قلب محمد - صلى الله عليه وسلم - خير قلوب العباد فاصطفاه لنفسه فابتعثه برسالته ، ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد فجعلهم وزراء نبيه يقاتلون على دينه فما رأى المسلمون حسناً فهو عند الله حسن وما رأوا سيئاً فهو عند الله سيء (1) .
فصل في حد الصحبة
__________
(1) هذا الأثر وقع فيه اختلاف وقد ساق الدارقطني في العلل 5/66 ، 67 الاختلاف وطريق أبي بكر بن عياش من أحسنها. قال ابن القيم في الفروسية ص 82 عن هذا الأثر: وإنما هو ثابت عن ابن مسعود قوله ... اهـ.(1/5)
... قد يقول قائل: بما أن الصحابة أثنى الله عليهم ورسوله فمن هو الصحابي؟
... فأقول وبالله التوفيق: قيل في حد الصحبة أقوال متعددة ولكن الذي دلّ عليه الدليل منها هو: كل من لقي الرسول - صلى الله عليه وسلم - مؤمناً به ومات على ذلك سواء أطال هذا اللقاء أم قصر ، والدليل على هذه من كتاب الله تعالى وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - واللغة العربية.
... أما من الكتاب فقال تعالى: { والنجم إذا هوى }1{ ما ضل صاحبكم وما غوى }2{ } [النجم: 1 ، 2]. يقسم ربنا في هذه الآية بالنجم إذا هوى أن صاحبكم – أي الرسول - صلى الله عليه وسلم - ما ضلّ. ووجه الشاهد أن الله تعالى سماه صاحباً لقومه ومعلوم أن قومه منهم من صحبه المدة الطويلة ومنهم من صحبة المدة القصيرة.
... وبمعنى هذه الآية قوله تعالى: { ما بصاحبكم من جنة } [سبأ: 46]. وقوله تعالى { وما صاحبكم بمجنون } [التكوير: 22]. وقوله تعالى: { وصاحبهما في الدنيا معروفاً } [لقمان: 15]. وهذا شامل لكل مصاحبة سواء كانت قصيرة أو طويلة.
... وقال تعالى: { كما لعنا أصحاب السبت } [النساء: 47] فسماهم الله تعالى أصحاب السبت لأنهم فعلوا هذا المنكر في يوم السبت. وقال تعالى: { فأنجيناه وأصحاب السفينة } [العنكبوت: 15]. وهم لم يجلسوا مدة طويلة في السفينة وإنما مدّة السفر فسماهم أصحاب السفينة.
... وقال تعالى: { يوم يفر المرء من أخيه ، وأمه وأبيه ، وصاحبته وبنيه } [عبس: 34-36]. وهذا شامل لكل زوج سواء طالت مدة الزواج أو قصرت تسمّى صاحبة ، وقال تعالى { وأصحاب اليمين } [الواقعة: 27] وقال تعالى: { وأصحاب الشمال } [الواقعة: 41] فسماهم الله تعالى أصحاب اليمين لأنهم يأخذون كتابهم بيمينهم والعكس بالنسبة لأصحاب الشمال. ولم يقل أحد – فيما أعلم- أن هذا الكتاب يبقى معهم لمدة كذا وكذا.(1/6)
... وأما من السنّة ما رواه مسلم في صحيحه 249 من حديث العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أتى المقبرة فقال: " السلام عليكم دار قوم مؤمنين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون ، وددت أنا قد رأينا إخواننا" قالوا: أولسنا إخوانك؟ قال: " أنتم أصحابي وإخواننا الذين لم يأتوا بعد .. " فهذا الحديث يدل على أن أصحابه كل من التقى به وكان مؤمناً وأنّ من لم يأت بعد إنما هم إخوانه وأما من جاء إليه وآمن به فهو صاحبه سواء طال هذا اللقاء أم قصر.
... ومن الأدلة على أن الصحبة تثبت باللّقية مع الإيمان والموت على ذلك ما رواه ابن أبي شيبة12/178 ثنا زيد بن الحباب ثنا عبد الله بن العلاء بن عامر عن واثلة بن الأسقع قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " لا تزالون بخير ما دام فيكم من رآني وصاحبني ، والله لا تزالون بخير ما دام فيكم من رأى من رآني وصاحب من صاحبني".
... وأخرجه ابن أبي عاصم 1522 في السنة والطبراني في الكبير 22/85 كلاهما من طريق ابن أبي شبيه به ، وأخرجه ابن أبي عاصم 1523 والطبراني 22/86 من طرق عن الوليد بن مسلم ثنا عبد الله به العلاء به نحوه.
... وأخرجه الطبراني 22/85 وفي مسند الشاميين 799 من طريق إبراهيم بن عبد الله بن العلاء عن أبيه به. وهذا الحديث صحيح وقد جاءت أحاديث أخرى بمعناه منها ما رواه يعقوب بن سفيان في التاريخ 2/351 ثنا آدم ثنا بقية بن الوليد ثنا محمد بن عبد الرحمن اليحصبي سمعت عبد الله بن بسر يقول: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " طوبى لمن رآني ، وطوبى لمن آمن بي ولم يرني ، وطوبى له وحسن مآب".(1/7)
... وأخرجه ابن أبي عصام في السنة 1527 عن يعقوب به لكن وقع عنده محمد بن زياد بدل محمد بن عبد الرحمن ولكن هذا لا يؤثر كثيراً على كلا الوجهين محمد بن زياد ثقة ومحمد بن عبد الرحمن قال عنه دحيم: ما أعلمه إلا ثقة ، وذكره ابن حبان في الثقات (1) وقال: لا يعتد بحديثه ما كان من حديث بقية ويحيى بن سعيد العطار ودونه بل يعتبر بحديثه من رواية الثقات عنه.
... قلت: جعل ابن حبان العلّة في بقية وليس في محمد بن عبد الرحمن أن ابن حبان لا يحتج ببقية ولذلك لم يذكره في الثقات بل ذكره في المجروحين ، والراجح أن بقية صدوق يحتج بحديثه إذا اجتمعت فيه خمس شروط:
1- إذا صُرِّح بينه وبين شيخه بالتحديث.
2- إذا صُرِّح بالتحديث بين شيخه وشيخ شيخه لأنه أحياناً يدلّس تدليس التسوية كما في العلل لابن حاتم فقد نقل عن أبيه حديثاً سواه بقية.
3- إذا كان شيخه ثقة ، قال أحمد: إذا حدث عن قوم ليسو بمعروفين فلا تقبلوه. وقال ابن سعد: كان ثقة في روايته عن الثقات ضعيفاً في روايته عن غير الثقات.
4- أن يكون شيخه شامياً ، قال ابن المديني: صالح فيما روى عن أهل الشام وأما عن أهل الحجاز والعراق فضعيف جداً. وقال ابن عدي: إذا روى عن أهل الشام فهو ثبت وإذا روى عن غيره خلّط. وقال ابن رجب في شرح العلل ص 428: وهو مع كثرة رواياته عن المجهولين الغرائب والمناكير فإنه إذا حدث عن الثقات المعروفين لم يدلّس فإنما يكون حديثه جيداً عن أهل الشام. وأما رواياته عن أهل الحجاز وأهل العراق فكثيرة المخالفة لروايات الثقات. كذا ذكره ابن عدي وغيره ثم ذكر مثالاً على هذا في حديث رواه عن المسعودي وأخطأ فيه وقال أبو زرعة: وإذا نقل بقية حديث الكوفة إلى حمص يكون هكذا. اهـ. وهذا موجود في سؤالات البرذعي 2/449 لأبي زرعة.
__________
(1) وقال ابن حجر في التقريب: صدوق.(1/8)
5- أن يكون الراوي عنه ثقة متيقِّظاً ويستحسن أن لا يكون حمصياً وذلك أن بقية قد يروي عن آخر ولا يصرح بالتحديث فيرويه الراوي عنه على أن بقية صرح بالتحديث بينه وبين شيخه وبقية لم يفعل ذلك وهذا إما أن يفعله الراوي عن بقية تعمّداً أو غفلة ، قال أبو زرعة بعد سؤال عن حديث رواه أبو تقي قال: ثني بقية قال حدثي عبد العزيز بن أبي رواد عن نافع عن ابن عمر قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " لا تبدءوا بالكلام قبل السلام فمن بدأ بالكلام قبل السلام فلا تجيبوه ". قال أبو زرعة: هذا حديث ليس له أصل ، لم يسمع بقية هذا الحديث من عبد العزيز إنما هو عن أهل حمص وأهل حمص لا يميزون هذا. ا.هـ. من العلل 2/331-332.
قلت:قوله – يعني أبو زرعة -: إنما هو عن أهل حمص .. أن الراوي عن بقية هنا هشام بن عبد الملك أبو تقي وهو حمصي. وقوله: أهل حمص لا يميزون هذا. يعني: لا ينتبهون إلى صيغ التحمل فيجعلون بدل العنعنة التحديث كما حصل في هذا الحديث لم يسمع هذا الحديث من عبد العزيز فيبدو أنه رواه بالعنعنة أو نحو ذلك ولم ينتبه لهذا الراوي عنه فرواه عن بقية بالسماع من شيخه.
وقال أبو حاتم بن حبان (1) وامتحن بقية بتلاميذ له كانوا يسقطون الضعفاء من حديثه ويسوونه فالتزق ذلك كله به.اهـ.
__________
(1) وقال أيضاً في مقدمة المجروحين 1/94: الجنس السادس: أقوام من المتأخرين يسوقون الأخبار فإذا كان بين الثقتين ضعيف واحتمل أن يكون الثقات رأى أحدهما الآخر أسقطوا الضعيف بينهما حتى يتصل الخبر ، فإذا سمع المستمع خبر أسامٍ رواته ثقات اعتمد عليه وتوهم أنه صحيح كبقية بن الوليد قد رأى عبيد الله بن عمر ومالك بن أنس وشعبة بن الحجاج وسمع منهم ثم سمع عن أقوام ضعفاء عنهم فيروي الرواة عنه أخباره ويسقطون الضعفاء من بينهم حتى يتصل الخبر في جماعة مثل هؤلاء يكثر عددهم. اهـ.(1/9)
فوصل الأمر ببعض تلاميذه أنهم يسقطون الضعفاء من حديثه ويسوونه ، وقد يدخل في كلام ابن حبان ما قاله أبو زرعة فيما تقدم.
وما قاله أبو زرعة وابن حبان معروف عن أهل الشام أنهم قد يسووّن الأخبار ويسقطون الضعفاء أحياناً من أحاديث شيوخهم كما كان الوليد بن مسلم يفعله في حديث الأوزاعي.
ومثله بقية كما تقدم وصفوان بن صالح ومحمد بن المصفى (1) وهؤلاء كلهم من أهل الشام ، وقد اشتهر هذا النوع من أنواع التدليس عن أهل الشام وإن كان وصف به غيرهم ، ومعروف عن أهل الشام التساهل حتى في إسناد الأخبار ، قال
الوليد بن مسلم: خرج الزهري فقال: يا أهل الشام: ما لي أرى أحاديثكم ليست لها أزمَّة ولا خطم. قال الوليد: فتمسك أصحابنا بالأسانيد من يومئذ (2) .
... وهذه الشروط إذا توفرت في حديث بقية فهذا يكون من أقوى حديث وقد يُتساهل في بعضها. وهنا في هذا الحديث قد اجتمعت هذه الشروط وآدم الراوي عنه في هذا الحديث ثقة جليل معروف بالإتقان والضبط وهو ليس بحمصي وإنما نشأ في بغداد وسكن عسقلان.
... والخلاصة أن هذا الحديث بهذا الإسناد حسن ويشهد له الحديث السابق وهناك أحاديث أخرى بمعنى هذا الحديث خرّجها ابن أبي عاصم في السنة وغيره.
... وقد تقدم في الحديث السابق حديث جابر عن أبي سعيد وفيه: " فيقال لهم: فيكم من صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .. " وإحدى الروايتين تفسر الأخرى.
... وأما كلام أهل اللغة فقال ابن فارس في معجم مقاييس اللغة 3/335 في مادة (صحب) قال: الصاد والحاء والباء أصل واحد يدلُّ على مقارنة شيء ومقاربته من ذلك الصاحب والجمع الصحب كما يقال راكب وركب ، ومن الباب أصحب فلان إذا انقاد وأصحب الرجل إذا بلغ ابنه ، وكل شيء لازم شيئاً فقد استصحبه .اهـ.
__________
(1) قال أبو زرعة الدمشقي: كان صفوان بن صالح ومحمد بن المصفى يسويان الحديث. اهـ. من المجروحين لابن حبان 1/94.
(2) السير 334 والوليد لم يسمع من الزهري.(1/10)
... وقال ابن سيده في المحكم 3/119: وصاحبه عاشره ، والصاحب المعاشر .اهـ.
... وقال ابن منظور في اللسان 1/519 بمثل ما جاء في المحكم وفيهما (1) أيضاً: وصحب المذبوح: سلخه – في بعض اللغات –اهـ. وقال صاحب القاموس بمثل ما تقدم 1/91.
... وفي المعجم الوسيط 1/507: صاحبه رافقه ، واستصحب الشيء لازمه . والصاحب: المرافق ومالك الشيء والقائم على الشيء ويطلق على من اعتنق مذهباً أو رأياً. والصحابي من لقي النبي - صلى الله عليه وسلم - مؤمناً به ومات على الإسلام .اهـ.
... وفي الإفصاح في فقه اللغة ص 708: الصحبة المعاشرة.
... فهذا كلام أهل اللغة ليس فيه اشتراط (2) طوال الملازمة في الصحبة أو ذكر حد معين لها سوى الملازمة والمرافقة وهذا يطلق على القليل والكثير ولذلك بيَّن ابن فارس أصل الصحبة أنها تدل على المقارنة والمقاربة.
ولذلك قال ابن تيمية كما في مجموع الفتاوى 4/464: والصحبة اسم جنس يقع على من صحب النبي - صلى الله عليه وسلم - قليلاً أو كثيراً لكن كل منهم له من الصحبة بقدر ذلك. فمن صحبة سنة أو شهراً أو يوماً أو ساعة أو رآه مؤمناً ، فله من الصحبة بقدر ذلك.
... كما ثبت في الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " يغزو فئام من الناس فيقولون: هل فيكم من صحب النبي - صلى الله عليه وسلم - ؟ - فيقولون: نعم ، فيفتح لهم ، ثم يغزو فئام من الناس فيقولون: هل فيكم من صحب من صحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ فيقولون: نعم ، فيفتح لهم ثم يغزو فئام من الناس فيقولون: هل فيكم من رأى من رأى من رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ فيقولون: نعم، فيفتح لهم".
__________
(1) أي: اللسان والمحكم.
(2) سيأتي إن شاء الله تعالى ذكر من خالف في ذلك والجواب عنه.(1/11)
... فقد علق النبي - صلى الله عليه وسلم - الحكم بصحبته وعلق برؤيته وجعل فتح الله على المسلمين بسبب من رآه مؤمناً به ، وهذه الخاصية لا تثبت لأحد غير الصحابة ولو كان أعمالهم أكثر من أعمال الواحد من أصحابه - صلى الله عليه وسلم - .
... وقال الفيومي في المصباح ص 333 في مادة (صحبته): والأصل في هذا الإطلاق لمن حصل له رؤية ومجالسة ووراء ذلك شروط للأصوليين. اهـ.
... قلت: بيَّن الفيومي أن الأصل في الصحبة هو لمن حصل له رؤية ومجالسة وأن هذا معناه في اللغة ، وأن الأصوليين شرطوا شروطاً أخرى ولم تكن موجودة في اللغة وسيأتي إن شاء الله تعالى الكلام على هذه المسالة. وهذا ما ذهب إليه الجمهور (1) وهو المشهور عند أهل الحديث (2) قال الإمام أحمد: كل من صحبه سنة أو شهراً أو يوماً أو ساعة أو رآه فهو من أصحابه ، له من الصحبة على قدر ما صحبه.اهـ (3) .
... وقال البخاري في صحيحه 5/2: ومن صحب النبي - صلى الله عليه وسلم - أو رآه من المسلمين فهو من أصحابه. وقال الواقدي: رأيت أهل العلم يقولون: كل من رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد أدرك الحلم وأسلم وعقل أمر الدين ورضيه فهو عندنا ممن صحب النبي - صلى الله عليه وسلم - ولو ساعة من نهار ، ولكن أصحابه على طبقاتهم وتقدمهم في الإسلام. اهـ. من الكفاية ص 50 .
__________
(1) الإصابة لابن حجر 1/11 وإرشاد الفحول للشوكاني ص 70 ومذكرة الأصول للشنقيطي ص 124،125.
(2) وينظر الإصابة لابن حجر 1/8 ، ومقدمة ابن الصلاح ص 146.
(3) رواه ابن أبي يعلى في الطبقات 1/243 بإسناده عن أحمد ، والخطيب في الكفاية ص 51. وجاء عن الإمام مالك أنه قال مثل ذلك كما في مجموع الفتاوي 20/298.(1/12)
... وأما من قال: إن مذهب الأصوليين هو: اشتراط طول الصحبة والملازمة (1) حتى يطلق عليه اسم الصحبة أو نحو هذا ، فهذا الكلام باطل من أوجه:
1- تقدم أن الذي دل عليه القرآن الكريم والسنة النبوية هو خلاف هذا القول.
2- أننا لو أردنا قولاً بلا دليل – ونعوذ بالله من ذلك – لقلنا بقول أهل الحديث لأنهم أعلم بهذه المسألة من غيرهم وتقدم أنهم يذهبون إلى خلاف هذا القول.
3- أن الأصوليين لم يتفقوا على هذا القول بل ذهب كثير منهم إلى خلافه ، قال الآمدي في الأحكام 2/130: اختلفوا في مسمى الصحابي: فذهب أكثر أصحابنا وأحمد بن حنبل إلى أن الصحابي من رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - وإن لم يختص به اختصاص المصحوب ولا روى عنه ولا طالت مدة صحبته.
قلت: ثم ذكر القول الآخر ثم قال: ويدلّ على ذلك ثلاثة أمور:
الأول: أن الصاحب اسم مشتق من الصحبة والصحبة تعم القليل والكثير ومنه يقال: صحبته ساعة وصحبته يوماً وشهراً. وأكثر من ذلك كما يقال: فلان كلمني وحدثني وزارني. وإن كان لم يكلمه ولم يحدثه ولم يزره سوى مرة واحدة.
الثاني: أنه لو حلف أنه لا يصحب فلاناً في السفر أو ليصحبنه فإنه يبر ويحنث بصحبته ساعة.
الثالث: أنه لو قال قائل: صحبت فلاناً ، فيصح أن يقال: صحبته ساعة أو يوماً أو أكثر من ذلك. ولولا أن الصحبة شاملة لجميع هذه الصور ولم تكن مختصة بحالة منها لما احتيج إلى الاستفهام. اهـ.
... وقال القاضي أبو يعلى في العدة في أصول الفقه 3/988: الصحبة في اللغة من صحب غيره قليلاً أو كثيراً ، ألا ترى أنه يقال: صحبت فلاناً وصحبته ساعة ولأن ذلك الاسم مشتق من الصحبة وذلك يقع على القليل والكثير كالضارب مشتق من الضرب والمتكلم مشتق من الكلام وذلك يقع على القليل والكثير كذلك هاهنا. اهـ.
__________
(1) وممن ذهب إلى هذا القول بعض المعتزلة كأبي الحسين البصري وغيرهم من أهل البدع ، وسيأتي إن شاء الله تعالى الرد عليهم.(1/13)
... وقال أبو محمد بن حزم في كتاب الأحكام 5/89: أما الصحابة رضي الله عنهم فهو كل من جالس النبي - صلى الله عليه وسلم - ولو ساعة وسمع منه ولو كلمة فما فوقها أو شاهد منه عليه السلام أمراً بعينه ولم يكن من المنافقين الذين اتصل نفاقهم واشتهر حتى ماتوا على ذلك ، ولا مثل من نفاه عليه السلام باستحقاقه كهيت المخنث ومن جرى مجراه. فمن كان كما وصفنا أولاً فهو صاحب وكلهم عدل وإمام فاضل رضي ، فرض علينا توقيرهم وتعظيمهم وأن نستغفر لهم ونحبهم. وتمرة يتصدق بها أحدهم أفضل من صدقه أحدنا بما يملك ، وجلسة من الواحد منهم مع النبي - صلى الله عليه وسلم - أفضل من عبادة أحدنا دهره كله.
... وسواء كان من ذكرنا على عهده عليه السلام صغيراً أو بالغاً فقد كان النعمان بن بشير وعبد الله بن الزبير والحسن والحسين ابنا علي رضي الله عنهم أجمعين من أبناء العشر فأقل إذ مات النبي - صلى الله عليه وسلم - وأما الحسين فكان حينئذ ابن ست سنين إذ مات النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وكان محمود بن الربيع ابن خمس سنين إذ مات النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يعقل مجةً مجها النبي - صلى الله عليه وسلم - في وجهه من ماء بئر دارهم، وكلهم معدودون في خيار الصحابة مقبولون فيما رووا عنه عليه السلام أتم القبول وسواء في ذلك الرجال والنساء والعبيد والأحرار.
... ثم قال: وأما من ارتد بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - وبعد أن لقيه ثم راجع الإسلام وحسنت حاله كالأشعث بن قيس وعمرو بن معدي كرب وغيرهما فصحبته له معدودة وهو بلا شك من جملة الصحابة لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " أسلمت على ما سلف لك من خير" وكلهم عدول فاضل من أهل الجنة.
... ثم ذكر بعض الأدلة على ذلك ثم قال: وقد قال قوم: إنه لا يكون صاحباً من رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - مرة واحدة لكن من تكررت صحبته.(1/14)
... قال أبو محمد: وهذا خطأ بيقين لأنه قول بلا برهان ، ثم نسأل قائله عن حد التكرار الذي ذكر وعن مدة الزمان الذي اشترط فإن حدَّ في ذلك حداً كان زائداً في التحكم بالباطل وإن لم يحد في ذلك حداً كان قائلاً بما لا علم له به وكفى بهذا ضلالاً. وبرهان بطلانه قوله أيضاً: إن اسم الصحبة في اللغة إنما هو لمن ضمته مع آخر حالة ما فإنه قد صحبه فيها فلما كان من رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو غير منابذ له ولا جاحد لنبوته قد صحبه في ذلك الوقت وجب أن يسمى صاحباً. اهـ.
... وقال محمد بن إبراهيم الوزير في العواصم من القواصم (1/387): إن الصحبة تطلق كثيراً في الشيئين إذا كان بينهما ملابسة ، سواءً كانت كثيرة أو قليلة، حقيقة أو مجازية ، وهذه المقدمة تُبين بما ترى من ذلك في كلام الله ورسوله وما أجمع العلماء عليه من العبارات في هذا المعنى.
... أما القرآن فقال الله تعالى: { فقال لصاحبه وهو يحاوره } [الكهف:34] فقضى بالصحبة مع الاختلاف في الإسلام الموجب للعداوة لما جرى بينهما من ملابسة الخطاب للتقدم ، وقد أجمعت الأُمة على اعتبار الإسلام في اسم الصحابي فلا يُسمّى من لم يسلم صحابياً إجماعاً ، وقد ثبت بالقرآن أن الله سمّى الكافر صاحباً للمسلم فيجب أن يكون اسم الصحابي عرفياً ، وإذا كان عرفياً اصطلاحياً كان لكل طائفة أن تصطلح على اسم كما سيأتي تحقيقه.
... قال تعالى: { والصاحب بالجنب } [النساء:36] وهو المرافق في السفر ، ولا شك أنه يدخل في هذه الآية الملازم وغيره ولو صحب الإنسان رجلاً ساعة من نهار وسايره في بعض الأسفار لدخل في ذلك ، لأنه يصدُق عليه أن يقول: صحبت فلاناً في سفري ساعة من النهار ، ولأن من قال ذلك لم يردّ عليه أهل اللغة ويستهجنوا بكلامه.(1/15)
... وأما السنة فكثير غير قليل ومن أوضحها ما ورد في الحديث الصحيح من قوله عليه الصلاة والسلام لعائشة رضي الله عنها: " إنكن صواحب يوسف" فانظر أيها المنصف ما أبعد هذا السبب الذي سُمّيت به النساء صواحب يوسف وكيف يستنكر من آمن برسول الله ووصل إليه وتشّرف برؤية غرّته الكريمة صاحباً له ، ومن أنكر على من سمّى هذا صاحباً لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلينكر على رسول الله حيث سمّى النساء كُلهُنَّ صواحب يوسف.
... ومن ذلك الحديث الذي أُشير فيه على النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يقتل عبد الله بن أُبيّ رأس المنافقين فقال عليه الصلاة والسلام: " إني أكره أن يُقال أن محمداً يقتل أصحابه" فَسُمِّى صاحباً مع العلم بالنفاق للملابسة الظاهرة مع العلم بكفره الذي يقتضي العداوة ويمحو اسم الصحبة في الحقيقة العرفية.
... ومما يدل على التوسع الكثير في اسم الصحبة إطلاقها بين العقلاء وبين الجمادات كقوله تعالى: { يا صاحبي السجن } [يوسف: 39] ومثل تسمية ابن مسعود صاحب السواد ، وصاحب النعلين والوسادة.
... وأما الإجماع فلا خلاف بين الناس أنه كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا لاقى المسلمين في الحرب فقُتِل من عسكر النبي جماعة ومن المشركين جماعة أن يُقال: قُتِل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - كذا وكذا، ومن المشركين كذا وكذا ، وبذا جرى عمل المؤرخين والإخباريين يقولون في أيام صفين: قُتِل من أصحاب علي كذا ومن أصحاب معاوية كذا ، ولا يعنون بأصحاب علي من لازمه وأطال صحبته بل من قاتل معه شهراً أو يوماً أو ساعة ، وهذا شيء ظاهر لا يستحق بمن قال مثله الإنكار (1) .
__________
(1) المقصود بذلك: علي بن محمد بن أبي القاسم الذي أنكر على أهل الحديث ذهابهم إلى هذا القول.(1/16)
... ومن ذلك أصحاب الشافعي وأصحاب أبي حنيفة .. يقال هذا لمن لم ير الشافعي ولا يصحبه قليلاً ولا كثيراً لملابسة ملازمة المذهب ، ولو دخل في مذهب الشافعي في وقت لقيل له في ذلك الوقت قد صار من أصحابه من غير إطالة ولا ملازمة بالقول بمذهبه ، وكذا تسميته عليه السلام صاحب الشفاعة قبل أن يشفع هذه ملابسة بعيدة ، وكذا أصحاب الجنة قبل دخولها وأمثال ذلك ، وكذلك سائر هذه الأشياء مما أجمع على صحبته ، كل هذا دليل على أن اسم الصحبة يطلق كثيراً مع أدنى ملابسة والأمر في هذا واسع. اهـ.
... نقلت هذه النصوص على طولها لأن فيها رداً واضحاً على من اشترط في الصحبة طول الملازمة.
... فتبين مما تقدم أن كثيراً من أهل الأصول يذهب إلى قول الجمهور في الصحابة ولذلك قال العراقي في التقييد والإيضاح ص 256 متعقباً قول أبي المظفر السمعاني أن طريقة الأصوليين يشترطون في الصحابي طول الصحبة وكثرة المجالسة قال: إن ما حكاه عن الأصوليين هو قول بعض أئمتهم والذي حكاه الآمدي عن أكثر أصحابنا أن الصحابي من رآه وقال: إنه الأشبه واختاره ابن الحاجب. اهـ. ثم ذكر بعض من يذهب إلى قول الأصوليين.
... وينظر أيضاً الواضح في أصول الفقه لابن عقيل 5/59-64 والروضة لابن قدامة ص 119 وشرح مختصر الروضة للطوفي 2/185-187. وإرشاد الفحول ص 70 ومذكرة الأصول للشنقيطي ص 124، 125.
... وقال بعضهم: إن الممدوح من الصحابة هو من كان من أهل الجهاد والإنفاق دون غيره.
... فأقول: هذا قول مخترع وقد قال الله تعالى: { لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولى الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة وكلا وعد الله الحسنى } [النساء: 95]. فهذه الآية الكريمة فيها إبطال لهذا القول وقد تقدم قوله - صلى الله عليه وسلم - : " لا تسبوا أصحابي فلو أن أحدكم أنفق مثل جبل أحد ذهباً ما بلغ مدّ أحدهم ولا نصيفه".(1/17)
... ولذلك قال ابن عمر: لا تسبوا أصحاب محمد ، فلمقام أحدهم ساعة خير من عمل أحدكم عمره (1) .
... وأما ما رواه (2) محمد بن سعد عن علي بن محمد عن شعبة عن موسى السنبلاني: أتيت أنس بن مالك فقلت: إنك آخر من بقى من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . قال: قد بقى قوم من الأعراب فأما من أصحابه فأنا آخر من بقي.
... وقال ابن الصلاح في علوم الحديث ص 146: وروينا عن شعبة عن موسى السيلاني – وأثنى عليه خيراً – قال: أتيت أنس بن مالك فقلت: هل بقى من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحد غيرك؟ قال: بقى ناس من الأعراب وقد رأوه فأما من صحبه فلا. إسناده جيد حدث به مسلم بحضرة أبي زرعة. اهـ.
فالجواب عنه من وجوه:
1- إسناد هذا الخبر ليس بالقوي تماماً وذلك أن موسى السيلاني – وقيل السنبلاني- ليس بالمشهور تماماً بل هو مقل وترجم له ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل 8/169 ونقل عن يحيى بن معين أنه قال عنه: ثقة. وتقدم أن شعبة أثنى عليه ، وفي تاريخ واسط ص 64 من طريق شعبة عن موسى السيلاني قال: دخلت على أنس بن مالك منزلة فرأيت في بيته مرافقاً صفواً. وفيه أيضاً عن شعبة: موسى السيلاني من أهل الفاروث. اهـ. وليس لموسى رواية عن أنس في الكتب الستة ولا في العشرة ولا في المختارة للضياء ، وقد توسع في ذكر مرويات أنس ويظهر أنه ليس له خبر مسند عن أنس وإنما له ما تقدم ، ويؤيد هذا أن صاحب تاريخ واسط قال في مقدمة ترجمة أنس عندما ترجم له في كتابه ص 58: الذي اتصل بنا ممن حدث عن أنس بن مالك من أهل واسط أُخرِّج لكل رجل حديثاً ليعرف موضعه وبالله التوفيق. اهـ.
__________
(1) أخرجه أحمد في الفضائل 15 ، 20 وابن ماجة 162 ، وابن أبي عاصم في السنة 1040 كلهم من طريق الثوري عن نسير بن ذعلوق قال: سمعت ابن عمر ، وإسناده صحيح.
(2) كما في تهذيب الكمال 1/295.(1/18)
... ثم ذكر من روى عن أنس من أهل واسط وذكر لهم أحاديث – في الغالب – وعندما ذكر موسى لم يذكر له شيئاً مسنداً عن أنس وإنما ذكر له ما تقدم وهذا يدل والله أعلم على أنه لم يقف له على خبر مسند رواه عن أنس.
... فمن كان بهذه الصفة ليس له رواية وإنما حكاية عن أنس ولعل شعبة تفرّد بالرواية عنه ولم يترجم له البخاري في تاريخه ولا ابن حبان في ثقاته ولا يكون مشهوراً خاصة أنه لم يذكر اسم أبيه واختلف في نسبه ، وأما توثيق يحيى بن معين فلعله لثناء شعبة عليه وإلا فإنه ليس من المرويات ما بيّن حاله.
... على أن الراوي عن شعبة وهو علي بن محمد أحسبه المدائني فإن ابن سعد مكثر عنه وهو مذكور بالرواية عن شعبة فهو وإن كان صدوقاً وعالماً بالأخبار وقال عنه ابن معين: ثقة ثقة ثقة ، فقد ذكره ابن عدي في الكامل 5/1855 وقال: ليس بالقوي في الحديث وهو صاحب الأخبار.
2- ويؤيد ما تقدم أنه جاء عن أنس بإسناد صحيح ما قد يخالف ما رواه موسى السيلاني ، روى البخاري في صحيحه 4489 ثنا علي بن عبد الله ثنا معتمر عن أبيه عن أنس قال: لم يبق ممن صلى القبلتين غيري. اهـ.
... قلت: هذا الخبر قد يخالف ما رواه السيلاني لأنه يفيد أن هناك من الصحابة كان موجوداً (1) عندما ذكر أنس ذلك ، فكلام أنس يفيد إثبات الصحبة لهم ولكن يبين أنه لم يبق أحد من الصحابة ممن صلى القبلتين سواه ، فظاهر هذا يخالف ما رواه عنه موسى السيلاني والله أعلم. ولا شك أن سليمان التميمي وهو من الحفاظ المشاهير من أصحاب أنس مقدم على موسى السيلاني (2) .
3- يحمل كلام أنس هذا لو ثبت عنه على الصحبة الخاصة كما تقدم في قصة خالد بن الوليد مع عبد الرحمن بن عوف وقصة أبي بكر مع عمر.
__________
(1) انظر: الفتح 8/173.
(2) يمكن الجمع بين خبر سليمان التميمي وخبر السيلاني لكن يذهب إلى هذا لو كان خبر السيلاني ثابتاً ثبوتاً واضحاً . والله أعلم.(1/19)
4- أنه قد جاء عن الصحابة رضي الله عنهم ما قد يخالف هذا وأما ما جاء عن سعيد بن المسيب أنه قال: الصحابة لا تعدهم إلا من أقام مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سنة أو سنتين وغزا معه غزوة أو غزوتين. رواه الخطيب في الكفاية ص 50 من طريق ابن سعد عن الواقدي أخبرني طلحة بن محمد بن سعيد بن المسيب عن أبيه عن سعيد به.
... قلت: هذا لا يصح عن سعيد لا من جهة الإسناد ولا من جهة المتن.
... أما الإسناد: ففيه محمد بن عمر الواقدي والكلام فيه معروف. وفيه أيضاً محمد بن سعيد بن المسيب وفيه جهالة ترجم له البخاري 1/92 وابن أبي حاتم 7/262 وسكتا عليه وذكره ابن حبان في التقات كعادته 7/421 وأما طلحة بن محمد بن سعيد فهو مجهول لا يعرف ، قال أبو حاتم كما في الجرح والتعديل 4/476: لا أعرف طلحة بن محمد بن سعيد بن المسيب إلا أن يكون أخاً لعمران والذي عرفت عمران بن محمد بن سعيد روى عنه الأصمعي. اهـ. ولم يترجم له البخاري في تاريخه ولا ابن حبان في ثقاته.
... وأما من حيث المتن فيبعد جداً أن يقول سعيد بن المسيب مثل هذا الكلام لأنه تحكّم لا دليل عليه ولم يشترط أحد فيما أعلم مثل هذا الشرط وهو أن لا يكون الواحد صحابياً حتى يقيم مع الرسول - صلى الله عليه وسلم - سنة أو سنتين أو يغزو غزوة أو غزوتين. فعلى هذا من كان من القاعدين ممن لا يستطيع الجهاد لا يكون صحابياً، والنساء أيضاً هل يدخلن في هذا الحد أو لا يدخلن؟ إن كن لا يدخلن فالرجال كذلك، لأن الصحبة لا علاقة لها بالقتال حتى يميّز بالرجال عن النساء ، وإن كن يدخلن فكفى بهذا إبطالاً لهذا القول.
... فتبين بطلان هذا الخبر إسناداً ومتناً وقد رد العراقي هذا الخبر فقال في التقييد والإيضاح ص 257: لا يصح عنه فإن في الإسناد إليه محمد بن عمر الواقدي وهو ضعيف في الحديث. اهـ.(1/20)
... وأما ما قاله الراغب الأصفهاني في المفردات ص 275 في مادة (صحب) قال: الصاحب الملازم إنساناً كان أو حيوناً أو مكاناً أو زماناً ولا فرق بين أن تكون مصاحبته بالبدن وهو الأصل والأكثر أو بالعناية والمهمّة. ولا يقال في العرف إلا لمن كثرت ملازمته. والمصاحبة والاصطحاب أبلغ من الاجتماع لأجل أن المصاحبة والاصطحاب تقتضي طول لبثه ، فكل اصطحاب اجتماع وليس كل اجتماع اصطحاباً.
... وإلى هذا ذهب أبو حامد الغزالي في كتابه المستصفى 1/165 فقال: فمن الصحابي؟ من عاصر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو من لقيه مرة أو من صحبه ساعة أو من طالت صحبته. وما حد طولها؟ قلنا: الاسم لا يطلق إلا على من صحبه ثم يكفي للاسم من حيث الوضع الصحبة ولو ساعة ولكن العرف يخصص الاسم بمن كثرت صحبته. اهـ.
... فالجواب عن هذا أن الراغب الاصفهاني والغزالي وغيرهما ممن يقول بذلك بيّنوا أن هذا القيد في الصحبة وهو طول الملازمة إنما أُخذ من العرف والعرف لا يرجع إليه إلا بعد أن لا يوجد حد من الشرع أو اللغة ، فالحقائق ثلاث: الحقيقة الشرعية ثم اللغوية ثم العرفية ، فلا يرجع إلى الحقيقة العرفية إلا بعد أن لا يكون هناك شرعية أو لغوية ، وفي هذه المسألة وهي الصحبة بين الشرع واللغة حقيقتها، وحقيقتها كما تقدم تكون بمطلق الصحبة.
... ثم أيضاً لا يُسَلّم أن العرف يشترط في الصحبة طول الملازمة ، وتقدم أن أكثر أهل العلم يذهبون إلى أن الصحبة تطلق على صحبة الشخص حتى ولو كانت لمدة قصيرة ، والله أعلم.
بعد بيان فضل الصحابة وثناء الله عليهم ورسوله - صلى الله عليه وسلم -
... هناك شبهة يحتج بها الجهال وأهل الضلال وهي أن من الصحابة من جاء النص بذمِّهم أو الشهادة لهم بالنار وأن منهم من شارك في الفتن التي جرت في عهد علي رضي الله عنه وبالتالي لا يشملهم المدح والثناء الذي جاء عن الله تعالى ورسوله - صلى الله عليه وسلم - .(1/21)
... قلت: الجواب عن هذا وبالله التوفيق من جهتين: إجمالاً وتفصيلاً:
... فأما الوجه الأول فهو إجمالاً: فالله تعالى أثنى عليهم وهو يعلم تعالى ما سوف يقع منهم ومع ذلك أثنى ربنا عليهم.
... وأما تفصيلاً: فهؤلاء الذين تقدم ذكرهم ينقسمون إلى قسمين:
أولاً: من جاءت النصوص بذمهم أو الشهادة لهم بالنار.
ثانياً: من لابس الفتن التي وقعت في عصرهم.
... فأما القسم الأول: فالذين جاء النص بذمهم أو الشهادة لهم بالنار ستة وهم:-
1- الحكم بن أبي العاص الأموي.
2- الرجل الذي كذب على الرسول - صلى الله عليه وسلم - وزعم أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كساه حُلّة وأنه أمره أن يحكم في حي من بني ليث في دمائهم وأموالهم.
3- الوليد بن عقبة بن أبي معيط.
4- أبو الغادية الجهني.
5- كركرة غلام الرسول - صلى الله عليه وسلم - الذي غلّ الشملة.
6- الرجل الذي تزوج زوجة أبيه.
* فأما الحكم بن أبي العاص فثبت أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لعنه ، فقد أخرج أحمد 2/163 قال: ثنا ابن نمير ثنا عثمان بن حكيم عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف عن عبد الله بن عمرو قال: كنا جلوساً عند النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد ذهب عمرو بن العاص يلبس ثيابه ليلحقني فقال - صلى الله عليه وسلم - ونحن عنده: " ليدخلن عليكم رجل لعين" فوالله ما زلت وجلاً أتشوّف داخلاً وخارجاً حتى دخل فلان – يعني الحكم.
... وأخرجه البزار 1625 كما في كشف الأستار ثنا أحمد بن محمد بن يحيى بن سعيد ثنا ابن نمير به وعنده: الحكم بن أبي العاص. وقال: لا نعلم هذا بهذا اللفظ إلا عن عبد الله بن عمرو بهذا الإسناد. اهـ.
... قلت: وهذا إسناد صحيح وقال الهيثمي 1/112: رجاله رجال الصحيح.
... وأخرجه ابن عبد البر في الاستيعاب 1/318: من طريق عبد الواحد بن زياد ثنا عثمان بن حكيم ثنا شعيب بن محمد بن عبد الله بن عمرو عن عبد الله بن عمرو به.(1/22)
... والأول أصح لأن ابن نمير أتقن من عبد الواحد بن زياد مع أن هذا الاختلاف لا يؤثر كثيراً على ثبوت الخبر لأن شعيباً صدوق وقد سمع من جده عبد الله بن عمرو.
... ويظهر أن هذا الحديث جاء من طريق آخر فقد ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 5/243 بنحوه ثم قال: رواه كله الطبراني (1) وحديثه مستقيم وفيه ضعف غير مبين وبقية رجاله رجال الصحيح. اهـ. وذكره أيضاً في الموضع الأول 1/112 وقال الطبراني في الكبير: رجاله رجال الصحيح إلا أن فيه رجلاً لم يسم وذكره بلفظ آخر بنحو الأول وقال رجاله رجال الصحيح.
... وأخرجه أحمد 4/5 قال: ثنا عبد الرزاق ثنا ابن عيينة عن إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي قال: سمعت عبد الله بن الزبير وهو مستند إلى الكعبة وهو يقول: ورب هذه الكعبة لقد لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلاناً وما ولد من صلبه.
... وأخرجه البزار2197 وهو في كشف الأستار 1623 ثنا أحمد بن منصور ثنا عبد الرزاق به: لعن الحكم وما ولد له. قال البزار : لا نعلمه عن ابن الزبير إلا بهذا الإسناد ، ورواه محمد بن فضيل أيضاً عن إسماعيل عن الشعبي عن ابن الزبير ثنا به علي بن المنذر.
... وأخرجه الطبراني في الكبير 13/121 من طريق محمد بن فضيل وأحمد بن بشير وأبي مالك الجنبي كلهم عن إسماعيل به.
... وأخرجه أيضاً 13/221: ثنا أحمد بن رشدين المصري ثنا يحيى بن سليمان الجعفي ثنا ابن فضيل عن ابن شبرمة عن الشعبي به ، أخرجه أيضاً 13/118 ثنا الحسن بن العباس الرازي ثنا محمد بن حميد ثنا هارون بن المغيرة عن عمرو بن أبي قيس عن يزيد بن أبي زياد عن البهي عن ابن الزبير به بنحوه.
__________
(1) سقط اسم الرجل الذي تحدث عنه الهيثمي والجزء الموجود من مسند عبد الله بن عمرو غير موجود فيه هذا الحديث.(1/23)
... وقال الحاكم 4/481: ثنا ابن نصير الخلدي ثنا أحمد بن محمد بن الحجاج بن رشدين ثنا إبراهيم بن منصور ثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي عن محمد بن سوقة عن الشعبي به قال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه. اهـ.
... قال الذهبي: الرشديني ضعفه ابن عدي.
... قلت: أحمد بن رشدين مختلف فيه ، والإسناد الأول صحيح وصححه الذهبي في تاريخ الإسلام: عهد الخلفاء الراشدين ص 368.
... وجاء هذا الحديث من طرق أخرى: ينظر البزار1624 كشف الأستار ، والمستدرك 1/481 ومجمع الزوائد 1/112 و 5/242-243 وتاريخ الإسلام في وفيات سنة 31هـ ص 366 – 368 لكن لا تخلو من كلام. فمثله مع ثبوت اللعن من الرسول - صلى الله عليه وسلم - له يُشك في إسلامه فضلاً عن صحبته ، قال ابن الأثير في أسد الغابة 2/34: وقد روي في لعنه ونفيه (1) أحاديث كثيرة لا حاجة إلى ذكرها إلا أن الأمر المقطوع به أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مع حلمه وإغضائه على ما يكرهه ما فعل ذلك الأمر إلا لأمر عظيم. اهـ.
... قلت: ويؤيد ما قاله ابن الأثير أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يلعن أحداً من المنافقين بعينه – فيما أعلم – ولم ينف أحداً بعينه خارج المدينة إلا المخنثين عندما أمر بإخراجهم خارج المدينة فالله أعلم. ولذلك قال أبو محمد بن حزم في الأحكام 6/83: وكان بها (2) أيضاً من لا يرضى حاله كهيت المخنّث الذي أمر عليه السلام بنفيه ، والحكم الطريد وغيرهما ، فليس هؤلاء ممن يقع عليهم اسم الصحابة.
__________
(1) أي خارج المدينة ، ولم يثبت أن عثمان رضي الله عنه استأذن الرسول - صلى الله عليه وسلم - في إعادته إلى المدينة فأذن له.
(2) يعني المدينة.(1/24)
... وقد ذكر الهيثمي حديث لعنه تحت باب: منه في المنافقين كما في مجمع الزوائد 1/9 ولم يذكره البخاري في التاريخ الكبير مع الصحابة فيمن اسمه الحكم بل لم يذكره مطلقاً تحت هذا الاسم وعندما ذكره ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل 3/120 لم ينص على أن له صحبة كما يفعل ذلك كثيراً فيمن كانت له صحبة وإنما نقل عن أبيه: أنه أسلم يوم الفتح وقدم على النبي - صلى الله عليه وسلم - فطرده من المدينة فنزل الطائف حتى قبض في خلافة عثمان. اهـ.
... ونص آخرون على صحبته وهذا فيه نظر كما تقدم ، ومن يستدل بهذا على أن الصحابة ليسوا كلهم عدول لا شك أنه مخطئ في هذا الخطأ البيّن.
* وأما الرجل الذي كذب على النبي - صلى الله عليه وسلم - وزعم أنه كساه حلّة فالجواب عنه أن خبره لا يصح ، وعلى فرض صحته وهو لا يصح أن هذا الرجل الذي فعل ذلك لم يثبت إسلامه فضلاً عن صحبته.
... قال أبو العباس بن تيمية في الصارم المسلول ص 171: وللناس في هذا الحديث قولان:
... أحدهما: الأخذ بظاهره في قتل من تعمد الكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن هؤلاء من قال يكفر بذلك قاله جماعة منهم أبو محمد الجويني. ووجه هذه القول أن الكذب عليه كذب على الله ولهذا قال: " إن كذباً علّي ليس ككذب على أحدكم " ومعلوم أن من كذب على الله بأن زعم أنه رسول الله أو نبيه أو أخبر عن الله خبراً كذب فيه كمسيلمة والعنسي ونحوهما من المتنبئين فإنه كافر حلال الدم ، فكذلك من تعمد الكذب على رسوله وبيَّن ذلك أن الكذب بمنزلة التكذيب له ولهذا جمع الله بينهما بقوله تعالى: { ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً أو كذب بالحق لمّا جاءه } [العنكبوت: 68].
... بل ربما كان الكاذب عليه أعظم إثماً من المكذِّب له ولهذا بدأ الله به. فالكاذب على الرسول - صلى الله عليه وسلم - كالمكذب له.(1/25)
وأيضاً فإن تعمّد الكذب عليه استهزاء به واستخفاف لأنه يزعم أنه أمر بأشياء ليست مما أمر به بل وقد لا يجوز الأمر بها وهذه نسبة له إلى السَّفه ، أو أنه يخبر بأشياء باطلة وهذه نسبة له إلى الكذب وهو كفر صريح.
... وأيضاً فإنه لو زعم زاعم أن الله فرض صوم شهر آخر غير رمضان عالماً بكذب نفسه كفر بالاتفاق ، فمن زعم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أوجب شيئاً لم يوجبه أو حرّم شيئاً لم يحرمه فقد كذب على الله كما كذب عليه الأول وزاد عليه بأن صرح بأن الرسول قال ذلك.
... فإذ كذب الرجل عليه متعمداً أو أخبر عنه بما لم يكن فذلك الذي أخبر عنه نقص بالنسبة إليه إذ لو كان كمالاً لوجد منه ومن انتقص الرسول فقد كفر.
... واعلم أن هذا القول في غاية القوة كما تراه لكن يتوجه أن يفرّق بين الذي يكذب عليه مشافهة وبين الذي يكذب عليه بواسطة مثل أن يقول: حدثني فلان بن فلان عنه بكذا . فهذا إنما كذب على ذلك الرجل ونسب إليه الحديث.
... فأما إن قال: هذا الحديث صحيح أو ثبت عنه أنه قال ذلك عالماً بأنه كذب ، فهذا كذب عليه وعجّل عقوبته ليكون ذلك عاصماً من أن يدخل في العدول من ليس منهم من المنافقين ونحوهم.
... وأما من روى حديثاً يعلم أنه كذب فهذا حرام كما صح عنه أنه قال: " من روى عني حديثاً يعلم أنه كذب فهو أحد الكاذبين" لكنه لا يكفر إلا أن ينضم إلى روايته ما يوجب الكفر.
... القول الثاني: أن الكاذب عليه تغلّط عقوبته لكن لا يكفر ولا يجوز قتله لأن موجبات الكفر والقتل معلومة وليس هذا منها. فلا يجوز أن يثبت الأصل له. ومن قال هذا فلابد أن يقيد قوله بأنه لم يكن الكذب عليه متضمناً لعيب ظاهر. فأما إن أخبر أنه سمعه يقول كلاماً يدل على نقصه وعيبه دلالة ظاهرة مثل حديث عرق الخيل ونحوه من الترهات فهذا مستهزئ به استهزاء ظاهراً ولا ريب أنه كافر حلال الدم. ...(1/26)
... وقد أجاب من ذهب إلى هذا القول عن الحديث بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - علم أنه كان منافقاً فقتله لذلك للكذب ، وهذا الجواب ليس بشيء.
... قلت: ثم بيَّن ضعفه. ثم قال: لكن يمكن أن يقال فيه ما هو أقرب من هذا وهو أن هذا الرجل كذب على النبي - صلى الله عليه وسلم - كذباً يتضمن انتقاصه وعيبه لأنه زعم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حكّمه على دمائهم وأموالهم وأذن له أن يبيت حيث شاء من بيوتهم ، ومقصوده بذلك أن يبيت عند تلك المرأة ليفجر بها ، ولا يمكنهم الإنكار عليه إذا كان محكّماً في الدماء والأموال.
... ومعلوم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يحلل الحرام ، ومن زعم أنه أحل المحرمات من الدماء والأموال والفواحش فقد انتقصه وعابه ونسب النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى أنه يأذن أن يبيت عند امرأة أجنبية خالياً بها وأنه يحكم بما شاء في قوم مسلمين. وهذا طعن على النبي - صلى الله عليه وسلم - وعيب له.
... وعلى هذا التقدير فقد أمر بقتل من عابه وطعن عليه من غير استتابة وهو المقصود في هذا المكان ، فثبت أن الحديث نص في قتل الطاعن عليه من غير استتابة على كلا القولين.
... ومما يؤيد القول الأول أن القوم لو ظهر لهم أن هذا الكلام سب وطعن لبادروا إلى الإنكار عليه. ويمكن أن يقال: رابهم أمره فتوقفوا حتى استثبتوا ذلك من النبي - صلى الله عليه وسلم - لما تعارض وجوب طاعة الرسول وعظم ما أتاهم به هذا اللعين.(1/27)
... ومن نصر القول الأول قال: كل كذب عليه فإنه متضمن للطعن عليه كما تقدم ثم إن هذا الرجل لم يذكر في الحديث أنه قصد الطعن والإزراء وإنما قصد تحصيل شهوته بالكذب عليه. وهذا شأن كل من تعمد الكذب عليه فإنه إنما يقصد تحصيل غرض إن لم يقصد الاستهزاء به. والأغراض في الغالب إما مال أو شرف. كما أن المسيء إنما يقصد – إذا لم يقصد مجرد الإضلال – إما الرياسة بنفاذ الأمر وحصول التعظيم أو تحصيل الشهوات الظاهرة. وبالجملة فمن قال أو فعل ما هو كُفر كَفر بذلك وإن لم يقصد أن يكون كافراً إذ لا يقصد الكفر أحد إلا ما شاء الله. اهـ.
... قال المعلمي في الأنوار الكاشفة ص 273: وراويه عن ابن بريدة صالح بن حيان وهو ضعيف له أحاديث منكرة ، وفي السند غيره. وقد رُويت القصة من وجهين آخرين بقريب من هذا المعنى وفي كل منهما ضعف. وراجع مجمع الزوائد. وعلى فرض صحته فهذا الرجل كان خطب تلك المرأة في الشرك فردوه فلما أسلم أهلها سوّلت له نفسه أن يظهر الإسلام ويأتيهم بتلك الكذبة لعله يتمكن من الخلوة بها ثم يفر إذ لا يعقل أن يريد البقاء وهو يعلم أن ليس بينه وبين النبي - صلى الله عليه وسلم - سوى ميلين. فأنكر أهلها أن يقع مثل ذلك عن أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرأوا أن ينزلوا الرجل محترسين منه ، ويرسلوا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ويخبروه . وحدوث مثل هذا لا يصح للتشكيك في صدق بعض من صحب النبي - صلى الله عليه وسلم - غير متهم بالنفاق ثم استمر على الإسلام بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - . اهـ.
... فتبيّن إن إسلامه لم يثبت فضلاً عن صحبته. والله أعلم.
* وأما الوليد بن عقبة وأنه هو الذي نزل فيه قوله تعالى: { يا آيها الذين أمنوا إن جاءكم فاسق بنبأٍ فتبينوا } [الحجرات: 6] فهذا لم يثبت بإسناد صحيح بيّن وإن كان ذهب إلى هذا جمع من المفسرين وخالفهم في ذلك بعض أهل العلم وقد جاء ما يعارض هذا.(1/28)
... أخرج أبو داود في السنن 4181 ثنا أيوب بن محمد الرقي ثنا عمر بن أيوب عن جعفر بن برقان عن ثابت بن الحجاج عن عبد الله الهمداني عن الوليد بن عقبة قال: لما فتح نبي الله - صلى الله عليه وسلم - مكة جعل أهل مكة يأتونه بصبيانهم فيدعو لهم بالبركة ويمسح رؤوسهم قال: فجيء بي إليه وأنا مخُلَّق فلم يمسني من أجل الخلوق.
... وأخرجه أحمد 4/32 ثنا فياض بن محمد الرقي عن جعفر به وأخرجه الحاكم في المستدرك 3/100 من طريق أحمد (1) به وقال قبله: وأما الوليد بن عقبة فإنه ولد في حياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحمل إليه فحرم بركته - صلى الله عليه وسلم - ثنا بصحة ما ذكرته .. ثم ذكر الحديث السابق.
... وأخرجه ابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني 564 ثنا علي بن ميمون العطار ثنا خالد بن حيان عن جعفر ، والطبراني في الكبير 22/151 ثنا عبد الله بن أحمد ثني أبي به وثنا يحيى بن عثمان بن صالح ثنا علي بن معبد الرقي ثنا خالد بن حيان به وثنا مقدام بن داود ثنا أسد بن موسى ثنا زيد بن أبي الزرقاء عن جعفر عن ثابت عن عبد الله الهمداني (2) أبي موسى عن الوليد بن عقبة. وأبو نعيم في المعرفة 6511 ثنا محمد بن محمد ثنا محمد بن عبد الله الحضرمي ثنا أحمد بن حنبل ثنا فياض بن محمد الرقي وثنا محمد بن محمد ثنا الحضرمي ثنا عبد بن يعيش ثنا يونس بن بكير قالا ثنا جعفر (3) به.
__________
(1) ووقع عند: فياض بن زهير وهو خطأ والصواب فياض بن محمد. وأخرجه من طريق أحمد الطحاوي 239 في مشكل الآثار والبيهقي في السنن 9/55 وفي الدلائل 6/397 وابن عساكر 17/870 في تاريخ دمشق ومن طريق غيره ص 871 ، 872.
(2) كذا وهو خطأ كما نبه على ذلك الطبراني.
(3) ووقع في الأصل: عن عبد الله أبي موسى الهمداني عن الوليد به فجعل المحقق عبد الله [بن] أبي موسى فأخطأ.(1/29)
... وأخرجه البخاري في التاريخ الأوسط 1/116 ثنى محمد بن عبد الله العمري ثنا زيد بن أبي الزرقاء ثنا جعفر بن برقان عن ثابت بن الحجاج عن أبي موسى عن الوليد به. ثنى عبيد بن يعيش ثنا يونس عن حفص عن ثابت به. ثنا الوليد بن صالح عن فياض الرقي عن جعفر ثنا ثابت به. اهـ.
... كذا وقع في طبعتين (1) عن حفص ، ولعل الصواب جعفر كما تقدم عن أبي نعيم في المعرفة. وأخرجه البيهقي في السنن 6/55 من طريق يونس بن بكير به.
... وأخرجه العقيلي في الضعفاء 2/319 ثنا علي بن الحسن الحراني ثنا عمر بن أيوب عن جعفر عن ليث (2) بن الحجاج عن عبد الله الهمداني عن أبي موسى عن الوليد به ثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل ثني أبي به.
... وقال: فلم يذكر له موسى في هذه الرواية أصلح. اهـ.
... كذا والمطبوعة فيها أخطاء كثيرة والمقصود من هذا الكلام مفهوم وهو عدم ذكر موسى في الإسناد أصح كما تقدم في الأسانيد السابقة وقد نبه على هذا الطبراني (3) كما تقدم وفي تهذيب الكمال: عبد الله أبو موسى الهمداني روى عن الوليد بن عقبة وقيل: عن أبي موسى الأشعري عن الوليد بن عقبة وهو وهم.اهـ.
... فإن كان المقصود بأبي موسى الأشعري هو الهمداني فهذا ممكن ، وأشعر وهمدان يلتقون في زيد بن كهلان. وإن كان المقصود بأبي موسى الأشعري هو الصحابي فهذا خطأ ولعله تصحيف أو سبق قلم وتقدم ذكر الاختلاف ولم أقف على وقوع الأشعري في أسانيد هذا الخبر.
__________
(1) الثانية: الهندية ص 50 ، والأولى التي نقلت منها دار المعرفة.
(2) وقع تصحيف في الإسناد والصواب: ثابت.
(3) ولذلك قال أبو حاتم الرازي كما في الجرح والتعديل 9/8 عن الوليد بن عقبة: روى عنه أبو موسى الهمداني المسمّى عبد الله. اهـ. وقال ابن أبي خيثمة كما في تاريخ ابن عساكر 17/872: أبو موسى الهمداني اسمه: عبد الله . وقال ابن عساكر 17/871: وعندي أن عبد الله الهمداني هو أبو موسى ، فأبو موسى هو عبد الله الهمداني وليس رجلين.(1/30)
... وإسناد هذا الخبر رجالة ثقات خلا الهمداني ، فجعفر بن برقان ثقة خرّج له مسلم والأربعة والبخاري في الأدب المفرد وإنما تكلم في حديثه عن الزهري وهذا ليس منها ، وثابت بن حجاج وثقة ابن سعد وأبو داود وروى عن زيد بن ثابت وأبي هريرة وعوف بن مالك من الصحابة وروى عن بعض التابعين ومنهم عبد الله بن سيدان وهو من كبار التابعين.
... وأما عبد الله بن الهمداني أبو موسى فذكره البخاري 5/224 وقال: لا يصح حديثه. وذكره في الضعفاء الصغير 199 وقال أيضاً: لم يصح حديثه. وقال في التاريخ الأوسط – المطبوع باسم الصغير – 1/116 بعد أن ذكر حديثه: وقال بعضهم أبو موسى الهمداني وليس يعرف أبو موسى ولا عبد الله (1) وقد خولف: ثني محمد بن الحكم ثنا ابن سابق ثنا عيسى بن دينار ثني أبي سمع الحارث بن ضرار قدمت على النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكر بَعثُه الوليد فنزلت: { إن جاءكم فاسق بنبأ } [الحجرات:6]. اهـ.
... وذكره العقيلي في الضعفاء 2/319 وذكر قول البخاري ثم ذكر حديث الباب ثم قال: وفي هذا الباب رواية من غير هذا الوجه بإسناد أصلح من هذا. اهـ. وذكره ابن عدي في الكامل 4/1550 وذكر قول البخاري فيه ثم قال: وعبد الله الهمداني لم ينسب ولا أعرفه إلا هكذا. اهـ.
__________
(1) ... وفي اللسان 7/112 قال: قال البخاري في التاريخ الأوسط: اسمه عبد الله لا يعرف ولا يتابع عليه. اهـ.(1/31)
... وقال أبو عمر بن عبد البر في الاستيعاب 3/631: وقالوا: وأبو موسى هذا مجهول والحديث منكر مضطرب لا يصح ولا يمكن أن يكون من بعث مصدقاً في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم الفتح صبياً ، يدل أيضاً على فساد ما رواه أبو موسى المجهول أن الزبير وغيره من أهل العلم بالسير والخبر ذكروا أن الوليد وعمارة بني عقبة خرجا ليردا أختهما أم كلثوم عن الهجرة .. ولا خلاف بين أهل العلم بتأويل القرآن فيما علمت أن قوله عز وجل: (إن جاءكم) نزلت في الوليد. قلت: ثم ذكر بعض ما جاء في ذلك من الآثار. اهـ. وقال في كتابه الكنى 2/1250: أبو موسى الهمداني روى عنه عبد الله الهمداني ، وعبد الله وأبو موسى الهمداني ليسا بمعروفين ، ومنهم من يقول الهمداني في أبي موسى. اهـ.
... وقال أبو القاسم بن عساكر في تاريخه 17/872: هذا حديث مضطرب الإسناد لا يستقيم عند أصحاب التواريخ أن الوليد كان يوم فتح مكة صغيراً ، فقد روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعثه ساعياً.
... قلت: عبد الله الهمداني أبو موسى من التابعين إما من كبارهم وهو الأقرب لأن الراوي عنه من الطبقة الوسطى من التابعين أو من الوسطى ، وأما ما جاء من الاضطراب في اسمه أو ما وقع في بعض الأسانيد عن عبد الله الهمداني عن أبي موسى فهذا خطأ وتقدم كلام العقيلي والطبراني في ذلك وهذا هو الصحيح كما وقع في أكثر الأسانيد.(1/32)
... وعبد الله الهمداني ترجم له ابن أبي حاتم في الجرح 5/208 ونقل عن أبيه أنه قال عنه: لا بأس به. اهـ. وترجم له في قسم الكنى من كتابه 9/438 وسكت عنه: وتقدم أن أبا داود أخرج حديثه وسكت عنه وقد قال: وما سكت عنه فهو صالح. وصحح له الحاكم هذا الحديث كما تقدم وأما ذكر العقيلي (1) وابن عدي له فالذي يبدو أنهما تابعا البخاري في ذلك لأنهما لم ينقلا سوى قول البخاري كما تقدم.
... وأما البخاري فيظهر من كلامه أنه أعلّ هذا الخبر بعلتين هما: جهالة عبد الله الهمداني وأن هذا الخبر جاء ما يخالفه وهو ما ذكره كما تقدم.
__________
(1) وأما ما قاله العقيلي بعد أن ذكر الخبر السابق قال: وفي الباب رواية من غير هذا الوجه بإسناد أصلح من هذا. اهـ. فلا أدري ما ذا يقصد بالضبط؟ هل يقصد ما ذكر البخاري إن هناك ما يخالف هذا الخبر كما تقدم أو يقصد أن هناك رواية تؤيد ما جاء في رواية عبد الله الهمداني. فالله أعلم.(1/33)
... والخبر الذي ذكر: فيه دينار والد عيسى فيه جهالة ولم يوثقه إلا ابن حبان كما في ترجمته. وقال ابن المديني: عيسى معروف ولا نعرف أباه. اهـ. وتفرد بالرواية عنه ابنه. وفي هذا الخبر أنه سمع الحارث بن ضرار وهذا عندي فيه شيء من النظر وذلك أن ديناراً كأنه يصغر عن هذا وهو مولى عمرو بن الحارث ولد الحارث وليس الحارث ، والحارث قديم ولعله مات في عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم - أو في صدر عهد الخلفاء الراشدين لأنه لم يذكر له خبر سوى هذه القصة – فيما أعلم – فلعله مات قديماً فيبعد أن ديناراً سمع منه وإلا يكون دينار من كبار التابعين وهذا بعيد ، ومما يدل على صِغَر دينار أن أبا داود 2322 روى من طريق عيسى بن دينار عن أبيه عن عمرو بن الحارث بن أبي ضرار عن ابن مسعود .. فلعل هذا يدلّ على تأخره ، لأنه روى عن ابن مسعود بواسطة فلو كان من كبار التابعين لروى عنه مباشرة مع أن ابن مسعود تأخر قليلاً ، فقد توفي في خلافة عثمان ، وإن كان هذا لا يلزم ولكن يُستأنس به هنا.
... وأيضاً أن عيسى ابنه متأخر فقد روى عنه وكيع وابن المبارك وأبو نعيم ، لأن وكيعاً وابن المبارك توفيا قرب المائتين ، وأما أبو نعيم فتوفي سنة 217هـ.
... مما يؤيد هذا أن الخبر الذي رواه عن الحارث فيه مواضع كأن ديناراً لم يسمع منه وذلك أن فيه: فلما جمع الحارث الزكاة .. فظن الحارث .. فالله أعلم.(1/34)
... ثم أيضاً هذا الحديث رواه أحمد وابن أبي عاصم 2353 في الآحاد والمثاني وابن أبي حاتم كما في تفسير ابن كثير 7/371 ، والطبراني 3395 في الكبير ومطين (1) كما في الإصابة 1/281 ، وأبو نعيم في المعرفة 2081 كلهم من طريق محمد بن سابق ثنا عيسى به ولعل محمد بن سابق تفرد به ، وهو إن كان خرّج له الشيخان ولكن فيه بعض الكلام ، قال يعقوب بن شيبة: كان شيخاً صدوقاً وليس ممن يوصف بالضبط للحديث ، وضعفه ابن معين وقال أبو حاتم: يكتب حديثه ولا يحتج به. وذكر في ترجمته حديثاً أخطأ فيه وقد تفرد به وقال ابن المديني عن هذا الحديث: منكر.
... فإن كان ابن سابق تفرد به فهذا الخبر فيه نظر وتكون هذه علة أخرى. ولذلك قال ابن منده كما في تاريخ ابن عساكر 17/873: هذا حديث غريب لم نكتبه إلا من هذا الوجه وقد روي من وجوه أخر. اهـ. والوجوه الأخر يقصد بها الشواهد التي جاءت بمعنى هذا الحديث ولا يصح منها شيء.
... ولعل خبر عبد الله الهمداني عن الوليد (2) أقوى من هذا الخبر وحده وإن كان جاء ما يشهد لهذا الخبر ولكن كلها لا تصح وهذا الخبر من أحسنها كما ذكر ابن كثير في تفسيره 7/370.
... وأما ما قال أبو عمر بن عبد البر من كون هذا الحديث مضطرب فهذا فيه نظر كما تقدم وأنه ليس بمضطرب ، وأما جهالة أبو موسى الهمداني فتقدم الكلام عليها.
... وأما قوله: إن الزبير وغيره من أهل العلم بالسير ذكروا أن الوليد وعمارة ابني عقبة خرجا ليردا أختهما أم كلثوم ، فهذا من كلام أهل السير وليس له إسناد فيما أعلم.
__________
(1) هو: محمد بن عبد الله الحضرمي وقد روى الطبراني وأبو نعيم في المعرفة هذا الخبر من طريقه وعزاه الحافظ ابن حجر أيضاً إلى ابن السكن وابن مردويه ويبدو أنه من طريق ابن سابق والله أعلم.
(2) الوليد بن عقبة ليس له إلا هذا الخبر ، وخبر آخر رواه الطبراني في الكبير ، وفي إسناده من هو متهم.(1/35)
... أما قوله: ولا خلاف بين أهل العلم بتأويل القرآن أن آية { إِن جَاءكُم فَاسِقٌ } نزلت فيه فالجواب عن ذلك أن أهل العلم مختلفون في ذلك وإن كان أكثرهم ذهب إلى ذلك ولكن خالفهم غيرهم ومنهم أبو عبد الله الحاكم كما تقدم نقل كلامه وأبو بكر الخطيب فقال كما في تاريخ ابن عساكر 17/870 ترجمة الوليد: أدرك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورآه وهو طفل صغير وكان أبوه من شياطين قريش. وقال أبو نصر بن ماكولا نحو ذلك. اهـ. (1)
... فالمسألة فيها خلاف بين أهل العلم والله تعالى أعلم.
... وقد أخرج عبد بن حميد في تفسيره كما في الدر المنثور 7/557 عن الحسن أن رجلاً أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: إن بني فلان – حياً من أحياء العرب وكان في نفسه عليهم شيء – قد تركوا الصلاة وارتدوا وكفروا بالله فلم يعجل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ودعا خالد بن الوليد .. وذكر قصة طويلة. وهذا الخبر لا يصح أيضاً والشاهد منه أن في الخبر لم يذكر من الذي أخبر الرسول - صلى الله عليه وسلم - عنهم .
* وأما أبو الغادية الجهني فثبت أنه قتل عمار بن ياسر ، فقد أخرج عبد الله بن أحمد (4/76) من طريق ابن عون عن كلثوم بن جبر قال: كنا بواسط عند عبد الأعلى بن عبد الله بن عامر فإذا عنده رجل يقال له أبو الغادية فذكر قصة قتله لعمار.
... وأخرجه البخاري في الأوسط (1/189) من طريق ابن عون به ، وأخرج ابن سعد في الطبقات (3/260) قال أخبرنا عفان بن مسلم أخبرنا حماد بن سلمة أخبرنا أبو حفص وكلثوم بن جبر عن أبي الغادية بالقصة ، وأخرج الطبراني في الكبير (22/363) ثنا علي بن عبد العزيز وأبو مسلم الكشي قال ثنا مسلم بن إبراهيم ثنا ربيعة بن كلثوم ثنا أبي قال كنت بواسط فذكر قصة قتله لعمار (2) .
__________
(1) وينظر العواصم من القواصم لابن العربي ص 290 الطبعة الكاملة.
(2) وأخرجه الدولابي 1/47 حدثنا هلال حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا ربيعة به وليس فيه قصة القتل.(1/36)
... وأخرجه أيضاً (22/364) ثنا أحمد بن داود المكي ثنا يحيى بن عمر الليثي ثنا عبد الله بن كلثوم بن جبر قال سمعت أبي فذكر القصة بنحو ما تقدم.
... أخرجه ابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (1120) ثنا إبراهيم بن الحجاج السامي ثنا مزيد (1) بن عامر الهنائي ثنا كلثوم بن جبر قال كنت بواسط فذكر ما تقدم.
... وأخرجه البخاري في الأوسط (1/188) ثنا حرمي بن حفص ثنا مرثد بن عامر به و(1/271) ثنا قتيبة ثنا مرثد به.
... قلت: هذه القصة تدور على كلثوم بن جبر وقد وثقه الجمهور وقال النسائي عنه: ليس بالقوي والإسناد إلى كلثوم صحيح ، وقد جاء من طرق عنه كما تقدم وتابعه عند ابن سعد أبو حفص ولا أدري من هو.
... وهناك جمع ممن يكنّى بهذه الكنية ولكن لم أقف على أحد منهم وذُكر أنه يروي عن أبي الغادية وعنه حماد بن سلمة (2) .
... وأما الشهادة له بالنار فقد أخرج أحمد (4/198) ثنا عفان ثنا حماد بن سلمة أنا أبو حفص وكلثوم بن جبر عن أبي الغادية قال: قتل عمار فأُخبر عمرو بن العاص قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " إن قاتله وسالبه في النار" فقيل لعمرو: فإنك هو ذا تقاتله ، قال: إنما قال: قاتله وسالبه.
__________
(1) كذا والصواب مرثد.
(2) أخرج ابن سعد (3/259) في الطبقات أنا محمد بن عمر أنا عبد الله بن جعفر عن ابن عون قال: قتل عمار ... أقبل إليه ثلاثة: عقبة بن عامر الجهني وعمر بن الحارث الخولاني وشريك بن سلمة المرادي .. فحملوا عليه جميعاً فقتلوه ، وزعم بعض الناس أن عقبة هو الذي قتله ، ويقال: الذي قتله عمرو بن الحارث . اهـ. وهذا غير صحيح وهو منقطع ، عبد الله بن عوف من كبار أتباع التابعين، ومحمد بن عمر هو الواقدي.(1/37)
... أخرج هذا ابن سعد في الطبقات بنفس الإسناد كما تقدم ، وهذا صحيح إلى أبي الغادية كما تقدم ، لكن قوله: فأخبر عمرو بن العاص ... هل يرويه أبو الغادية عن عمرو أو هو من رواية كلثوم بن جبر عن عمرو بن العاص ؟ فإن كان الأول فهو صحيح كما تقدم وإن كان الثاني وهو الأقرب لأن فيه: فأُخبر عمرو ، وفيه أيضاً قيل لعمرو: فإنك هو ذا تقاتله. كأن هذا يفيد أن أبا الغادية لا يرويه عن عمرو ولذلك قال الذهبي في السير (2/544): إسناده فيه انقطاع.
... ولعله يقصد بالانقطاع هو ما تقدم لأن كلثوم بن جبر لا يعرف له سماع من عمرو وإنما يروي عن صغار الصحابة ومن تأخرت وفاته منهم ، بل يروي عن التابعين ، وأبو الغادية يظهر أنه ممن تأخرت وفاته لأن البخاري في تاريخه ذكر أبا الغادية فيمن مات ما بين السبعين إلى الثمانين ، وذكره أيضاً فيمن مات ما بين التسعين إلى المائة ولذلك قال أبو الفضل بن حجر في تعجيل المنفعة 2/520: وعُمِّر عمراً طويلاً . اهـ. وكلثوم صرح بسماعه من أبي الغادية كما تقدم.
... طريق آخر: قال ابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (803): ثنا العباس بن الوليد النرسي ثنا معتمر بن سليمان سمعت ليثاً يحدث عن مجاهد عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: أتى عمرو بن العاص رجلان يختصمان في أمر عمار وسلبه فقال: خلياه واتركاه فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " اللهم أولعت قريش بعمار ، قاتل عمار وسالبه في النار".
... وأخرجه الطبراني في الكبير من طريق ليث كما في مجمع الزوائد (9/297) فقد قال الهيثمي: وقد صرح ليث بالتحديث ورجاله رجال الصحيح. اهـ.
... وليث هو ابن أبي سليم وهو ضعيف وقد اختلط وضعفه أكثر أهل العلم ولكن يكتب حديثه.
... أما من جهة المتن فسيأتي الكلام عليه إن شاء الله تعالى.(1/38)
... وقد أخرج هذا الحديث الحاكم (3/387) في المستدرك عن محمد بن يعقوب الحافظ ثنا يحيى بن محمد بن يحيى ثنا عبد الرحمن بن المبارك ثنا المعتمر بن سليمان عن أبيه عن مجاهد به.
... قال الحاكم: تفرد به عبد الرحمن بن المبارك وهو ثقة مأمون عن معتمر عن أبيه ، فإن كان محفوظاً فإنه صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه وإنما رواه الناس عن معتمر عن ليث عن مجاهد. اهـ.
... قلت: الصواب هو أنه من رواية ليث عن مجاهد ، وأما رواية عبد الرحمن بن المبارك فهي خطأ من جهتين:
1- أن الأكثر رووه عن معتمر عن ليث كما قال الحاكم (1) .
2- أن عبد الرحمن سلك الجادة في حديث معتمر فرواه عن أبيه لأن كثيراً ما يروي معتمر عن أبيه ، ومن المعلوم عند الحفاظ أن من خالف الجادة يقدم على من سلكها لأن هذا يدل على حفظه.
وأما من حيث المتن فقد جاءت هذه القصة من طرق أخرى عن عبد الله بن عمرو من روايته هو ومن رواية أبيه وليس فيها: قاتل عمار وسالبه في النار.
__________
(1) قلت: عبد الرحمن وعباس يكاد يتقاربان من حيث الثقة ، فقد وثق عبد الرحمن أبو حاتم والعجلي والبزار وخرّج له البخاري ، وأما العباس فقد وثقه ابن معين وقال في رواية: صدوق ، ووثقه ابن قانع والدارقطني وذكره ابن حبان في الثقات وخرّج له الشيخان ، ولكن يقدم عبد الرحمن لأنه لم يتكلم فيه – فيما وقفت عليه – وأما العباس فقال أبو حاتم: شيخ يكتب حديثه ، وكان علي بن المديني يتكلم فيه ولكن الظاهر أن العباس تُوبع في هذا الخبر كما قال الحاكم: إنما رواه الناس عن معتمر عن ليث عن مجاهد.(1/39)
فقد أخرج أحمد (2/164 ، 206) ثنا يزيد أنا العوام ثني أسود بن مسعود عن حنظلة بن خويلد العنبري (1) قال: بينما أنا عند معاوية إذ جاءه رجلان يختصمان في رأس عمار يقول كل منهما أنا قتلته ، فقال عبد الله بن عمرو: ليطب به أحدكما نفساً لصاحبه فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "تقتله الفئة الباغية .." وأخرجه ابن سعد (3/253) والبخاري في التاريخ (3/39) والنسائي في الخصائص (164) كلهم من طريق يزيد به ، وقال الذهبي في المعجم المختص بالمحدثين من شيوخه بعد أن رواه ص 96: إسناده جيد فإن الأسود هذا وثقه ابن معين. اهـ.
رواه البخاري في التاريخ (3/39) والنسائي في الخصائص (165) وأبو نعيم في الحلية (7/198) كلهم من طريق محمد بن جعفر عن شعبة عن العوام عن رجل من بني شيبان عن حنظلة بن سويد به.
قلت: الإسناد الأول أقرب لأمرين:
1- شعبة قد يخطئ في الأسماء كما هو معروف.
2- أن يزيد بن هارون معه في هذا الخبر زيادة علم لأنه سمّى شيخ العوام بخلاف شعبة مع أن هذا الاختلاف ليس بالكبير ، والرجل الذي من شيبان هو العنزي السابق ، وشيبان وعنزة يلتقيان في أسد بن ربيعة بن نزار ، شيبان داخله في عنزة الآن – فيما أعلم – لأن أكثر ربيعة داخله الآن تحت عنزة ولعل هذا من قديم جداً كما قد يدل عليه قول شعبة: رجل من بني شيبان (2) وجاء منسوباً إلى عنزة في رواية يزيد بن هارون مع أن هذا المكان ليس موضع الكلام على هذا الإسناد وتحقيقه وإنما المقصود بيان مخالفة الروايات لرواية ليث بن أبي سليم.
__________
(1) كذا والصواب: العنزي وقد اختلف فيه اختلافاً آخر.
(2) ولعل هذا أولى من قول المعلمي في جمعه بين النسبتين فيما علّقه على التاريخ الكبير.(1/40)
... وأخرج ابن سعد 3/253 في الطبقات أنا أبو معاوية عن الأعمش عن عبد الرحمن بن زياد عن عبد الله بن الحارث قال: إنني لأسير مع معاوية في منصرفه عن صفين بينه وبين عمرو بن العاص فقال عبد الله بن عمرو: يا أبت ، سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول لعمار: "ويحك يا بن سمية تقتلك الفئة الباغية " فقال عمرو لمعاوية: ألا تسمع ما يقول هذا؟.
... وأخرجه أحمد 2/206 من طريق الأعمش به ، والنسائي في الخصائص 166-168 وذكر الاختلاف في هذا الحديث وجاء نحو هذه القصة من طرق أخرى. ينظر الطبقات 3/253 والحاكم 3/386،387 ومجمع الزوائد 9/297 وغيرها.
... والشاهد مما تقدم أن هذه الطرق ليس فيها ما جاء في رواية ليث إلا ما جاء في رواية أخرجها الطبراني في الكبير من حديث عبد الله بن عمرو وفيها مسلم الملائي وهو ضعيف قاله الهيثمي في المجمع 9/297.
... حديث آخر: قال ابن سعد في الطبقات 3/251: أخبرنا إسحاق بن الأزرق أخبرنا عوف بن الأعرابي عن الحسن عن أمه عن أم سلمة قالت: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: " تقتل عمارأ الفئة الباغية " قال عوف: ولا أحسبه إلا قال: وقاتله في النار. اهـ.
... قلت: هذه الزيادة لا تصح بل هي منكرة لأمرين:
1- أن هذا الحديث جاء من طرق كثيرة من غير طريق عوف الأعرابي من حديث الحسن عن أمه عن أم سلمة عند مسلم وأحمد والطيالسي وابن سعد والبيهقي في السنن والدلائل والنسائي في الكبرى والطبرني في الكبير وأبو يعلى وابن حبان والبغوي في مسند علي بن الجعد والبغوي صاحب شرح السنة وليس فيها هذه الزيادة. بل أخرج الطبراني (23/363) في الكبير من حديث عثمان بن الهيثم وهوذة بن خليفة كلاهما عن عوف به وليس فيه هذه الزيادة.
... والحديث أيضاً جاء عن صحابة آخرين ولا أعلم أنه جاء فيه هذه الزيادة.
2- أن عوفاً شك في هذه الزيادة كما تقدم فكل هذا مما يبين نكارة هذه الزيادة وعدم صحتها.(1/41)
... طريق آخر أخرجه ابن سعد في الطبقات 3/259 والحاكم في المستدرك 3/385،386 من طريق محمد بن عمر وهو الواقدي ثني عبد الله (1) بن الحارث عن أبيه عن عمارة بن خزيمة بن ثابت عن عمرو بن العاص أنه قال لمن اختصم في قتل عمار: والله إن يختصمان إلا في النار. اهـ.
... وهذا موقوف ومحمد بن عمر كما تقدم هو الواقدي.
... والخلاصة أن الحديث المرفوع وهو " قاتل عمار في النار " في ثبوته نظر. والله أعلم.
... وأما قصة قتل عمار من قبل أبي الغادية فهذا ثابت ولا شك أن هذا ذنب كبير ولكن لم يقل أحد إن الصحابة لا يذنبون ولا يقعون في الكبائر بل قال تعالى عن آدم عليه السلام: { وعصى آدم ربه فغوى } [طه: 121] ، وقال تعالى عن الأبوين { قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين } [الأعراف: 23] إلى غير ذلك.
* وبهذا يجاب عن كركرة الذي كان على ثُقل النبي - صلى الله عليه وسلم - فمات فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " هو في النار ". فذهبوا ينظرون إليه فوجدوا عباءة قد غلّها. أخرجه البخاري في صحيحه 2074.
... وكذلك من وقع في الزنى أو شرب الخمر أو أصحاب الإفك يجاب عنهم بما تقدم.
* وأما الرجل الذي تزوج بامرأة أبيه فهذا لم يثبت أنه مسلم. قال أبو العباس بن تيمية كما في مجموع الفتاوي 20/91: حديث أبي بردة بن نيار لما بعثه النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى من تزوج امرأة أبيه فأمره أن يضرب عنقه ويخمس ماله ، فإن تخميس المال دل على أنه كان كافراً لا فاسقاً وكفره بأنه لم يحرم ما حرّم الله ورسوله.
* وأما ما يتعلق بصفين وما جرى بين علي رضي الله عنه ومن معه ومعاوية رضي الله عنه ومن معه. فأقول وبالله التوفيق:
... إن الله تعالى بين كل شيء نحتاج إليه في ديننا. قال تعالى: { اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً } [المائدة: 3].
__________
(1) في الطبقات: عبد الحارث وهو خطأ.(1/42)
... وأخرج أحمد 4/126 وابن ماجة (43) وابن أبي عاصم في السنة 33 و 48 و 56 و 1078 والطبراني في الكبير 18/619 وفي مسند الشاميين (2017) والآجري في الشريعة (88) وابن عبد البر 2/181 في جامع بيان العلم وفضله ، كلهم من حديث معاوية بن صالح عن ضمرة بن حبيب عن عبد الرحمن بن عمرو السلمي أنه سمع العرباض بن سارية يقول: وعظنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - موعظة ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب فقلنا: يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إن هذه لموعظة مودع فماذا تعهد إلينا؟ قال: " تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك .. " وهو حديث صحيح.
... وأخرج مسلم في صحيحه (2892) من حديث علباء بن أحمد ثني أبو زيد قال: صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الفجر وصعد المنبر فخطبنا حتى حضرت الظهر فنزل فصلى ثم صعد المنبر فخطبنا حتى حضرت العصر ثم نزل فصلى ثم صعد المنبر فخطبنا حتى غربت الشمس فأخبرنا بما كان وبما هو كائن فأعلمنا أحفظنا.
... وأخرج البخاري (6604) ومسلم (2891) كلاهما من حديث الأعمش عن شقيق عن حذيفة قال: قام فينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مقاماً ما ترك شيئاً يكون في مقامه ذلك إلى قيام الساعة إلا حدث به حفظه من حفظة ونسيه من نسيه. هذا لفظ مسلم.
... ومن هذه الأشياء التي ذكرها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما جرى بين الصحابة رضي الله عنهم ولذلك لن أذكر إلا ما جاء عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - في بيان هذه القضية وحكم من وقع فيها بإذن الله تعالى ، ولن أذكر قال فلان أو فلان إلا ما كان تعليقاً على الأحاديث فأذكر ما جاء عن أهل العلم ما يبين الحديث.(1/43)
... فأقول: لا شك أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه ومن معه أولى بالحق من غيره ، أخرج مسلم (1065) وغيره من حديث القاسم بن الفضل الحداني ثنا أبو نضرة عن أبي سعيد قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "تمرق مارقة عند فرقة من المسلمين يقتلها أولى الطائفتين بالحق".
... وأخرج أيضاً من طريق قتادة عن أبي نضرة عن أبي سعيد به ولفظه: "تكون في أمتي فرقتان فتخرج من بينهما مارقة يلي قتلهم أولاهم بالحق".
... وأخرج أيضاً من حديث حبيب بن أبي ثابت عن الضحاك المشرقي عن أبي سعيد به ولفظه: "يقتلهم أقرب الطائفتين من الحق".
... قال أبو زكريا النووي في شرحه على مسلم (7/168): هذه الروايات صريحة في أن علياً رضي الله عنه كان هو المصيب المحق ، والطائفة الأخرى أصحاب معاوية رضي الله عنه كانوا بغاة متأولين ، وفيه التصريح بأن الطائفتين مؤمنون لا يخرجون عن الإيمان ولا يفسقون وهذا مذهبنا. ا هـ.
... وقال أبو العباس بن تيمية كما في الفتاوى المجموعة له (4/467): فهذا الحديث الصحيح دليل على أن كلا الطائفتين المقتتلتين علي وأصحابه ومعاوية وأصحابه على الحق ، وأن علياً وأصحابه كانوا أقرب إلى الحق من معاوية وأصحابه. ا هـ. وذكر نحو هذا ابن العربي في العواصم ص 307 الطبعة الكاملة.(1/44)
... وقال أبو الفداء بن كثير في البداية (1) (10/563): فهذا الحديث من دلائل النبوة لأنه قد وقع الأمر طبق ما أخبر به الرسول - صلى الله عليه وسلم - وفيه الحكم بإسلام الطائفتين أهل الشام وأهل العراق ، لا كما تزعمه فرقة الرافضة أهل الجهل والجور من تكفيرهم أهل الشام ، وفيه أن أصحاب علي أدنى الطائفتين إلى الحق وهذا مذهب أهل السنة والجماعة ؛ أن علياً هو المصيب وإن كان معاوية مجتهداً في قتاله له وقد أخطأ وهو مأجور إن شاء الله ولكن علياً هو الإمام المصيب إن شاء الله تعالى فله أجران. ا هـ.
... قلت: ويوضح الحديث السابق ما رواه البخاري (3609) ومسلم (2214) كلاهما عن معمر عن همام عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - "لا تقوم الساعة حتى يقتتل فئتان فيكون بينهما مقتلة عظيمة دعواهما واحدة".
... وأخرج البخاري (3608) من طريق الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة به ولفظه: "لا تقوم الساعة حتى يقتتل فئتان دعواهما واحدة" ، وأخرجه أيضاً (7121) من طريق أبي الزناد عن عبد الرحمن عن أبي هريرة به.
... فهذا الحديث يبين الحديث السابق.
قال أبو الفداء بن كثير في البداية (9/192): وهاتان الفئتان هما أصحاب الجمل وصفين فإنهما جميعاً يدعون إلى الإسلام وإنما يتنازعون في شيء من أمور الملك ومراعاة المصالح العائد نفعها على الأمة والرعايا ، وكان ترك القتال أولى من فعله كما هو مذهب جمهور الصحابة ا. هـ.
... وقال أبو الفضل بن حجر في الفتح 6/616: والمراد بهما من كان مع علي ومعاوية لما تحاربا بصفين ، وقوله "دعواهما واحدة" أي دينهما واحد لأن كلاً منهما يتسمى بالإسلام أو المراد كلاً منهما كان يدعي أنه المحق. ا هـ.
__________
(1) بتحقيق عبد الله التركي ، وقد ذكر وفقه الله تعالى بعض الاختلاف الذي وقع بين النسخ في الكلام الذي تقدم نقله وهو اختلاف يسير.(1/45)
... قلت: قوله أو المراد أن كلاً منهما .. هذا بعيد جداً وذلك لأنه ما من طائفتين يقتتلان في قديم الدهر وحديثه إلا وكل واحدة من الطائفتين تدعي أنها على الحق ، فعلى هذا القول لا يكون للحديث فائدة (1) لأن هذا شيء واضح لا يحتاج إلى توضيح ، وإنما الصواب ما قاله ابن كثير كما هو ظاهر.
... ومما يؤيد الحديث السابق (2) ما رواه البخاري (2812) من حديث خالد بن عكرمة عن أبي سعيد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ويح عمار تقتله الفئة الباغية" (3) وأخرجه مسلم (2915) من حديث أبي سعيد عن أبي قتادة (2926) من حديث أم سلمة وجاء من طرق أخرى خارج الصحيح.
__________
(1) ونعوذ بالله تعالى أن يكون كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لغواً.
(2) أي حديث أبي سعيد.
(3) هذه اللفظة موجودة في كل نسخ البخاري وإنما في بعضها كما في النسخة اليونينية (6/25) فقد ذكر هذا في الأصل ونفي هذا المزي كما في الأطراف (3/427) وقبله البيهقي كما في دلائل النبوة 2/546 ولكنها ثابتة في بعض النسخ كما تقدم وقد نسبها إلى البخاري ابن تيمية كما في المنهاج (4/414) والفتاوى (4/433) وابن كثير في البداية والنهاية (10/538).(1/46)
... ومما يوضح ما تقدم أيضاً ما رواه البخاري (2704) من حديث الحسن البصري قال: لقد سمعت أبا بكرة يقول: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والحسن بن علي إلى جنبه ويقول: "إن ابني هذا سيد ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين" وأخرجه أيضاً (3629) و(3746) و(7109) وهذا الحديث فيه منقبة كبيرة للحسن وأنه سيد ومن سيادته تنازله عن الخلافة ، وفيه أيضاً وصف للطائفة الذين مع الحسن ومع معاوية بالإسلام ، وهذا الحديث يتضمن منقبة وثناء على معاوية وذلك أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - مدح فعل الحسن وتنازله عن الملك لمعاوية ولو كان معاوية ليس أهلاً للملك لما مدح الرسول - صلى الله عليه وسلم - هذا الصلح الذي فيه تنازل الحسن عن الملك.
... قال أبو الفضل بن حجر في الفتح (6613) تعليقاً على هذا الحديث: وفي هذه القصة من الفوائد: علم من أعلام النبوة ومنقبة للحسن بن علي فإنه ترك الملك لا لقلة ولا لذلة ولا لعلة بل لرغبته فيما عند الله لما رآه من حقن دماء المسلمين فراعى أمر الدين ومصلحة الأمة ، وفيها رد على الخوارج الذي يكفرون علياً ومن معه ومعاوية ومن معه بشهادة النبي - صلى الله عليه وسلم - للطائفتين بأنهم من المسلمين ، ودلالة على رأفة معاوية بالرعية وشفقته على المسلمين وقوة نظره في تدبير الملك ونظره في العواقب. ا هـ.
... وقول ابن حجر: ودلالة على رأفة معاوية ... إلى آخر هذا ، أخذه من ثناء الرسول - صلى الله عليه وسلم - على الحسن عندما تنازل عن الملك لمعاوية كما تقدم.
... وسيرة معاوية رضي الله عنه عندما تولى الملك تشهد بقوة نظره في تدبير الملك وحسن سياسته.(1/47)
... ومما يؤيد هذا ما رواه البخاري (7222 و7223) ومسلم (1821) من حديث عبد الملك بن عمير عن جابر بن سمرة قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: لا يزال أمر الناس ماضياً ما وليهم اثنا عشر رجلاً" ثم قال كلمة لم أفهمها فقلت لأبي: ما قال؟ فقال: "كلهم من قريش" وهذا لفظ مسلم.
وأخرجه أيضاً (1821) من طريق حصين عن جابر ولفظه " إن هذا الأمر لاينقضي حتى يمضي فيهم اثنا عشر خليفة " وفي لفظ عنده من طريق سماك عن جابر: " لا يزال الإسلام عزيزاً إلى اثني عشر خليفة" ثم قال كلمة لم أفهمها ، فقلت لأبي: ما قال؟ فقال: "كلهم من قريش" وفي لفظ عنده من طريق الشعبي عن جابر: "لا يزال هذا الأمر عزيزاً منيعاً إلى اثني عشر خليفة".
... وأخرج أيضاً (1822) من طريق عامر بن سعد بن أبي وقاص قال: كتبت إلى جابر بن سمرة مع غلامي نافع: أن أخبرني بشيء سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكتب إلي: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لا يزال الدين قائماً حتى تقوم الساعة أو يكون عليكم اثنا عشر خليفة كلهم من قريش".
... فظاهر هذا الحديث يدخل فيه معاوية رضي الله عنه وذلك أنه قرشي وتولى الملك وكان الدين في زمنه عزيزاً منيعاً ، فهذا الحديث ينطبق عليه خاصة في رواية الشعبي وسماك عن جابر "لا يزال هذا الأمر – وفي رواية الإسلام – عزيزاً إلى اثني عشر خليفة" فظاهر هذه الرواية أن هذه العزة والمنعة من أول خليفة بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو أبو بكر رضي الله عنه إلى اثني عشر خليفة فيكون معاوية داخلاً فيهم وخاصة أن معاوية بويع من جميع المسلمين وسمي هذا العام بعام الجماعة كما هو معلوم.
... فعلى هذا الحديث أن معاوية خليفة شرعي وأن الدين كان في زمنه عزيزاً منيعاً وهذا لحكمه بالشرع وتطبيقه للسنة وإلا لما كان الدين عزيزاً منيعاً والله تعالى أعلم.
... وأقول أيضاً:(1/48)
... إن معاوية هو أكبر طائفته ومعه عمرو بن العاص ومع ذلك فقد أثنى عليهما الرسول - صلى الله عليه وسلم - ثناء خاصاً فقال عن معاوية: "اللهم اجعله هادياً مهدياً واهد به" والأصل في دعاء الرسول - صلى الله عليه وسلم - أنه مستجاب ، وأخرج البخاري (2924) من طريق عمير بن الأسود العنسي عن أم حرام أنها سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: "أول جيش من أمتي يغزون البحر قد أوجبوا" وأول جيش غزا البحر من المسلمين كان بقيادة معاوية ، وهذا منقبة عظيمة له ، ومعنى "أوجبوا" أي وجبت لهم الجنة.
... ومن مناقبه اتخاذ الرسول - صلى الله عليه وسلم - له كاتباً.
... وأما عمرو بن العاص رضي الله عنه فأخرج أحمد (4/203) والنسائي في الكبرى (8301) وابن حبان (7092) وابن عساكر (13/502 و503) في تاريخه وابن أبي عاصم في الآحاد (796) كلهم من طريق موسى بن علي قال: سمعت أبي يقول: سمعت عمرو بن العاص يقول: فزع الناس بالمدينة مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فتفرقوا فرأيت سالماً احتبى سيفه فجلس في المسجد فلما رأيت ذلك فعلت مثل الذي فعل فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرآني وسالماً وأتى الناس فقال: "أيها الناس ألا كان مفزعكم إلى الله ورسوله؟ ألا فعلتم كما فعل هذان الرجلان المؤمنان؟" وهذا إسناد صحيح.(1/49)
... وقد جاء له شاهد: أخرج أحمد في المسند (2/304 و327 و353 و354) والنسائي في الكبرى (8300) وابن سعد في الطبقات (4/191) وأبو نعيم في المعرفة (4997 و6535) والجورقاني (171) في الأباطيل وابن عساكر في تاريخه (13/502) والطبراني في الكبير (22/177) وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (795) كلهم من حديث حماد بن سلمة عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "ابنا العاص مؤمنان عمرو وهشام" هذا الإسناد لا بأس به وفيه غرابة ، وقد صححه الحاكم في الموضع الأول على شرط مسلم وقال الجورقاني: هذا حديث حسن مشهور. ا هـ.
... وجاءت نصوص أخرى بهذا المعنى ، ولا شك أن هذه منقبة كبيرة بالشهادة له من قبل الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالإيمان.
... فهذا بعض ما جاء عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - في هذه القضايا ، ولا شك أن الواجب على المسلم أن يقبل ويسلم بكل ما جاء عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لأن هذا مقتضى الإيمان به - صلى الله عليه وسلم - ، ولا يكون مؤمناً إلا بذلك ، ومقتضى هذا (1) ولازمه محبة أصحاب رسوله - صلى الله عليه وسلم - والثناء عليهم والاستغفار لهم وعدم مسبتهم لا العكس ، وهو الكلام في بعضهم والتفتيش عن بعض عيوبهم والقدح في نفر منهم والتقليل من مكانتهم والتنزيل من علو مرتبتهم ، ويكون هذا ديدنه وهذا الفعل هو هجيراه ومطلبه ويبدي ويعيد في هذه المسألة ويرى الصغير كبيراً ويتبع هواه ويعمل بما دل عليه الباطل ويرضاه.
... ولذلك قال محمد بن إبراهيم بن الوزير في العواصم 3/221: والكلام فيما شجر بين الصحابة مما كثر فيه المراء والعصبية مع قلة الفائدة في كثير منه.
__________
(1) أي النصوص التي جاءت في الثناء على الصحابة.(1/50)
... فنعوذ بالله تعالى من الحور بعد الكور ومن الضلالة بعد الهدى ومن الطغيان بعد الإيمان. وأسأله تعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يرزقنا محبة صحابة نبيه - صلى الله عليه وسلم - والاستغفار لهم والإقرار بعلو مكانتهم ، آمين.
... وأما ما جرى بين الصحابة رضي الله عنهم في الجمل فالأمر فيهم أوضح وأبين مما جرى في صفين ، وذلك أن الزبير وطلحة رضي الله عنهما من العشرة المبشرين بالجنة وعائشة هي أم المؤمنين وحبيبة رسول رب العالمين ، وهم لم يخرجوا لطلب الملك أو المشاقة لأمير المؤمنين علي رضي الله عنه وإنما خرجوا من أجل المطالبة بدم عثمان رضي الله عنه والإصلاح بين الناس ، أخرج الإمام أحمد في المسند 6/97 ثنا محمد بن جعفر ثنا شعبة عن إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم أن عائشة لما أتت على الحوأب سمعت نباح كلاب فقالت: ما أظنني إلا راجعة ، إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لنا: "أيتكن تنبح عليها الكلاب الحوأب" فقال لها الزبير: ترجعين ! عسى الله أن يصلح بك الناس.
... وأخرجه أحمد 6/52 ثنا يحيى عن إسماعيل به ولفظه "فقالت: ما أظنني إلا أني راجعة ، فقال بعض من كان معها: بل تقدمين فيراك المسلمون فيصلح الله عز وجل ذات بينهم" وهذا إسناد صحيح ، وقال ابن كثير في البداية 9/187 عن الإسناد الأول: على شرط الشيخين ولم يخرجوه.(1/51)
... ولذلك قال أبو محمد بن حزم في الفصل 4/158 عن الذين خرجوا إلى البصرة وهم من تقدم: " فقد صح صحة ضرورية لا إشكال فيها أنهم لم يمضوا إلى البصرة لحرب علي ولا خلافاً عليه ولا نقضاً لبيعته ولو أرادوا ذلك لأحدثوا بيعة غير بيعته ، هذا ما لا يشك فيه أحد ولا ينكره أحد ، فصح أنهم إنما نهضوا إلى البصرة لسد الفتق الحادث في الإسلام من قتل أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه ظلماً. وبرهان ذلك أنهم اجتمعوا ولم يقتتلوا ولا تحاربوا فلما كان الليل عرف قتلة عثمان أن الإراغة والتدبير عليهم فبينوا (1) عسكر طلحة والزبير وبذلوا السيف فيهم ، فدافع القوم عن أنفسهم في دعوى حتى خالطوا عسكر علي فدفع أهله عن أنفسهم ، وكل طائفة تظن ولا شك أن الأخرى بُدئ بها بالقتال. واختلط الأمر اختلاطاً لم يقدر أحد على أكثر من الدفاع عن نفسه والفسقة من قتلة عثمان لا يفترون من شن الحرب وإضرامه. فكلتا الطائفتين مصيبة في غرضها ومقصدها مدافعة عن نفسها. ورجع الزبير وترك الحرب بحالها وأتى طلحة سهم غاير وهو قائم لا يدري حقيقة ذلك الاختلاط فصادف جرحاً في ساقه كان أصابه يوم أحد بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فانصرف ومات من وقته رضي الله عنه. وقتل الزبير رضي الله عنه بوادي السباع على أقل من يوم من البصرة. فهكذا كان الأمر ا.هـ.
فصل
... كثر كلام أهل العلم بالأمر بالسكوت عما حصل بين الصحابة رضي الله عنهم بل نُقل الإجماع على ذلك ، قال عبد الرحمن بن أبي حاتم: سألت أبي وأبا زرعة عن مذهب أهل السنة وما أدركا عليه العلماء في جميع الأمصار حجازاً وعراقاً ومصر وشاماً ويمناً: فكان من مذهبهم .. الترحم على جميع أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - وعلى آله والكف عما شجر بينهم. اهـ. ورواه اللالكائي في السنة 321 وأبو العلاء الهمذاني في ذكر الاعتقاد وذم الاختلاف ص90 ، 91.
__________
(1) هكذا وهو تطبيع والصواب: فبيتوا.(1/52)
... قلت: ودليل هذا هو قوله تعالي: { والذين جآؤا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم } [الحشر 10]. وقوله عليه الصلاة والسلام: "لا تسبوا أصحابي .." وقد تقدم.
... وأخرج عبد الرزاق في الأمالي (51) ثنا معمر عن ابن طاوس عن أبيه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "إذ ذكر أصحابي فأمسكوا وإذا ذكر القدر فأمسكوا وإذا ذكر النجوم فأمسكوا".
... وهذا إسناد صحيح إلا أنه مرسل وقد جاء من طرق أخرى فأخرجه الطبراني في الكبير 10448 ثنا الحسن بن علي الفسوي ثنا سعيد بن سليمان ثنا مسهر بن عبد الملك الهمذاني عن الأعمش عن أبي وائل عن عبد الله بن مسعود به ، وأخرجه أبو نعيم في الحلية 4/108 وقال: غريب من حديث الأعمش تفرد به مسهر اهـ.
... وهذا لا يصح ، مسهر اختلف فيه ، قال أبو داود: أما الحسن (1) بن علي الخلال فرأيته يحسن الثناء عليه وأما أصحابنا لا يحمدونه ، وذكره ابن حبان في الثقات 9/197 وقال: يخطئ ويهم. وقال ابن عدي في الكامل 6/2449 أخبرنا أبو يعلى ثنا الحسين بن حماد الوراق ثنا مسهر بن عبد الملك بن سلع ثقة. اهـ.
... وقال النسائي: ليس بالقوي ، قال البخاري: فيه بعض النظر. وذكره ابن عدي في الضعفاء 6/2449 وبعد أن ذكر له خبرين قال: ولمسهر غير ما ذكرت وليس بالكثير اهـ.
... قلت: مسهر فيه ضعف وهذا الضعف ليس بالشديد لأن من تكلم فيه كالبخاري قال: فيه بعض النظر والنسائي قال: ليس بالقوي ، فكيف وهناك من قوّاه؟ ولذلك حسن العراقي هذا الإسناد فقال: رواه الطبراني من حديث ابن مسعود بإسناد حسن. اهـ. من المغنى 78.
__________
(1) هو من الحفاظ ووصف بالعلم بالرجال.(1/53)
... قلت: ولكن تفرده بهذا الخبر عن الأعمش مع الكلام فيه يضعف هذا الخبر وقد جاء هذا الحديث من طريق آخر عن ابن مسعود ولكنه ضعيف جداً وجاء أيضاً من حديث ابن عمر وثوبان ولكنها ليست بشيء وروى أبو موسى المديني كما في أسد الغابة 3/200 من طريق حماد بن سلمة عن ثابت البناني عن عبد الله بن عبد الغافر – وكان مولى للنبي - صلى الله عليه وسلم - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا ذكر أصحابي فأمسكوا وإذا ذكر النجوم فأمسكوا ، وإذا ذكر القرآن فقولوا كلام الله عز وجل غير مخلوق ومن قال غير هذا فهو كافر". وذكر ذلك ابن حجر في الإصابة 2/337 وعزاه إلى أبي موسى من طريق علي بن محمد المنجوري عن حماد به وقال: في إسناده محمد بن علي الحناحاني. ذكره الحاكم فقال: أكثر أحاديثه مناكير، وأخرجه ابن منده من غير طريقه مختصر لكنه قال: عبيد بن عبد الغافر. اهـ.
... قلت: علي بن محمد (1) ذكره ابن حبان في الثقات 8/466 ونسبه: المنجوراني وقال: يروي عن شعبة وأبي جعفر الرازي ، روى عنه عبد الصمد بن الفضل وأهل بلده. اهـ. وذكره السمعاني في الأنساب وذكر أن ابن حبان ذكره وسكت.
... وآخر هذا الخبر قطعاً لا يصح وإنما هو من كلام أهل العلم ولكن كما تقدم أنه جاء من غير طريق محمد بن علي كما ذكر ابن حجر. وروى الإمام أحمد في الفضائل (19) ثنا وكيع ثنا جعفر – يعني: ابن برقان – عن ميمون بن مهران قال: ثلاثة ارفضوهن: سب أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - ، والنظر في النجوم ، والنظر في القدر. وهذا إسناد صحيح وميمون تابعي وإن كان هذا من كلامه.
__________
(1) وهو غير محمد بن علي الذي ذكره الحافظ.(1/54)
... ولكن مثل هذا الكلام من حيث الأصل لا يقال من قبل الرأي وهذه الأخبار لعل بعضها يقوي بعضاً وإن كانت لا ترقى إلى درجة الثبوت ، ولذلك قال أبو الفرج بن رجب في فضل علم السلف على الخلف ص 26 بعد أن ذكر حديث ابن مسعود: وقد روي من وجوه متعددة في أسانيدها مقال. اهـ. ولكن معناها صحيح وتقدم ذكر النصوص التي تدل على هذا مما سبق ويقويها الإجماع الذي ذكره أبو زرعة وأبو حاتم الرازيان وهما من كبار أهل العلم في زمانهما كما هو معلوم.
... ومعنى "إذا ذكر أصحابي فأمسكوا .." وقول أهل العلم بهذا معناه عدم الكلام والقدح فيهم وليس معناه عدم ذكر ما جرى مثلاً في صفين أو الجمل ، فإن هذا أولاً أخبر عنه الرسول - صلى الله عليه وسلم - ثم هو تاريخ ولذلك ذكره ودونه أهل العلم بل وألفت المؤلفات الخاصة في ذلك وأطال الكلام في ذلك ابن جرير وابن كثير وابن حجر وغيرهم من أهل العلم ولكن لم يبنوا على هذا القدح في الصحابة والطعن فيهم ، والله تعالى أعلم.(1/55)
وقد كتب أخونا الشيخ حمد بن عبد الله الحميدي وفقه الله تعالى رسالة قيمة في الثناء على الصحابة رضي الله عنهم وبيان مكانتهم وعلو منزلتهم ، اعتمد فيها على كتاب الله تعالى وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وما جاء عن الصحابة والسلف في ذلك وسلك فيها منهج السلف من أهل الحديث ، والذي دعاه إلى هذا الحمية الدينية والغيرة الإسلامية فجزاه الله خيراً ووفقه. وردّ في هذه الرسالة على أهل الأهواء والبدع ممن ديدنه إثارة هذه القضايا والبحث في المسائل تاركاً الأهم فالمهم من أمور الإيمان والإسلام وبيان مسائل السنة والقرآن ، وبين ما عنده من باطل وزيف شبهاته (1) بالدليل والبرهان ، فجزاه الله خيراً وزاده من العلم والإيمان.
__________
(1) مع أن هذه الشبهات ليست وليدة اليوم بل قال بها من قبل المعتزلة والشيعة ومنهم الزيدية كما في العواصم والقواصم لابن الوزير (1/394) و(3/142 و223 و252 و259 و262 وغيرها) والعَلم الشامخ للمقبلي ص 373 وما بعدها ، وأبو ريّه وغيرهم من أهل البدع.(1/56)