أدركني ياعلي !
في ميزان القرآن والعترة
الحمد لله الواحد الأحد ، الفرد الصمد ، لا ندَّ لهُ و لا شبيه ، له الخلق والأمر ، ولا ينازعه في ملكه أحد.... ...
والصلاة والسلام على منقذ البشرية ، و معلم الإنسانية و قدوتها ، نبي الرحمة و رسولُها ، أبي الزهراء محمد ، صلى الله عليه و جزاه خير ما جازى به نبياً عن أُمَّته ، و على آله الأطهار ، أئمّة الهدى بالحق ، الذين بذلوا أنفسهم لتكون كلمة الله هي العليا فكانوا مناراً يهتدى به و علماً يشار إليه ....
ورضي الله عن الخيرة المخّيرة من صحبه الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه و ما بدلوا تبديلا ، وعلى كل من سعى بسعيهم و انتهج بنهجهم حتى يرث الله الأرض و من عليها و هو خير الوارثين أما بعدُ …
يتعرض هذا البحث الى موضوع الاستعانة و التوسل ضمن عقيدة الإسلام ، ويحلل بعض الألفاظ الشائعة في المجتمع - الشيعي على وجه الخصوص - وموقف القرآن والسنة وأئمة أهل البيت عليهم السلام منها ويبين خطورة هذه المسألة ودقتها في ميزان العقيدة باعتبارها إحدى أعمدة التوحيد الذي هو أساس الإسلام و دعوة الأنبياء و جهاد الأئمة عليهم السلام . كذلك يتعرض الى بعض الشبهات التي طُرِحَت لتبرير التوسل والاستغاثة بغير الله.(1/1)
ولا يفوتنا أن ننبه هنا الى أننا نرى أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم والأئمة من أهل بيته من بعده هم أهل الشفاعة والجاه الذي لا يُرد الا بإذن الله ، ومنزلتهم منزلة الشهداء الأحياء عند ربهم بأعلى ما تكون به المنازل التي لا يعلمها الا الله بما آتاهم الله من فضله وبما بلغوه من تقواهم له (( إن أكرمكم عند الله أتقاكم ))(1) ، باعتبار أن التقوى هي ميزان الكرامة عند الله ونحن نرى أنهم كانوا أتقى خلق الله له ، ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أتقاهم لله ، وهم يشكلون المرآة الحقيقية لسيرته و خُلُقِهِ الذي كان القرآن ، كما تقول بذلك السيدة عائشة ، وبالتالي فنهجهم وسيرته صلى الله عليه وعليهم تعكس أوامر القرآن وأحكام القرآن كنسيج واحد. ونرى أيضاً جواز التوسل الى الله بهم كقول القائل (( اللهم إني أسألك بحق نبيك وآل بيته الطاهرين ..)) شرط أن يكون الخطاب موجهاً لله وحده ، وإن كان التوسل الى الله باسمائه الحسنى وصفاته العليا خير و أقرب الى أوامر الله في كتابه
و سنة المصطفى ونهج الأئمة من أهل البيت عليهم السلام ، ولكنها تبقى جائزة ، وانما كلامنا عن توجيه النداء و الإستغاثة بذواتهم كما سنبين حكمه ان شاء الله.
صيغ التوسل ومدلولاتها
هناك صيغتان من صيغ التوسل بالأنبياء و الأولياء و فيهما يقع الخلط بين الناس ، الصيغة الأولى : هي صيغة التوسل بالجاه، كأن يقول القائل : ( اللهم أدركني واكشف عني كربي بحق رسولك و آله ) أو ( اللهم إني أسألك بجاه رسولك و آله ) وهي خطاب لله مباشرة ، ولا كلام لنا عن هذه الصيغة وإن منعها بعض المسلمين ، لكنها وردت في بعض أدعية الأئمة الموثقة و لا معارض لها من الكتاب و السنة ، وللمسلم أن يناجي ربه بما شاء وبجاه من شاء ما دام خطابه موجهاً لله وليس لغيره ،(1/2)
أما الصيغة الثانية فهي صيغة التوسل المباشر والأستغاثة المباشرة ، كأن يقول القائل : ( أدركني ياعلي ) أو ( الغوث يارسول الله) هذه الصيغة منتشرة في مجتمعنا ، سواءً بين عامتهم و مثقفيهم ، فهي إذن ليست من طرح الخيال ، بل هي واقع ملموس و في عصرنا الحالي ، لذا يحق لنا مناقشته . من التبريرات التي أُلقيت حول هذه الصيغ هي أنها لطلب الشفاعة من الله لقضاء الحوائج و تفريج الكرب ! وهذا تبرير بعيد عن الحقيقة لعدة أسباب منها : أن ليس في نص الصيغة ما يدل على طلب الشفاعة ، لأن تلك صيغتها : (يا علي اشفع لي )! .. و ( أدركني ) غير ( (اشفع لي ).. ( أدركني ) هي صيغة اليائس من حوله و قوته إلى حول و قوة من هو أقدر منه ، أما ( إشفع لي ) فهي طلب الوساطة في أمرٍ الحكمُ فيه لطرفٍ ثالث . فدعاء ( إشفع لي ) فيه ثلاثة أطراف ؛ المستشفِع و المستشفَع به و المستشفَع عنده ، أما دعاء ( أدركني ) ففيه طرفان فقط : المُستغيث و المُستغاث به و لا واسطة بينهما ، و كلا الصيغتان ( إشفع لي أو أدركني ) غير جائزة لأنها خطاب مباشر ( لطلب تفريج الكرب أو قضاء حاجة) لمن لا يسمع الدعاء .. فإن قيل : أن الأنبياء و الأئمة والأولياء إنما هم شهداء والشهداء أحياء و يشفعون لأوليائهم ! نقول : نعم والله ، إنهم لأحياء و إنهم لأهلٌ للشفاعة ، و لكنهم أحياءٌ عند ربهم و ليس عندنا أو بين ظهرانينا. لا يستطيعون سماعي و سماعكم وسماع هذا أو ذاك ! لأن هذه من صفات الله جلَّ و علا وهو الذي لا يشغله سمع عن سمع و لا يغلِطُهُ كثرة السائلين و هو أقرب إلينا من حبل الوريد ... و لم يبلغنا أن الله تعالى مكّنَ الأنبياء والأولياء من سماع نداء المستغيثين ولا أنه قد منحهم بعضاً من صفاته ! لا جرم و لا جدال أنهم أهل الشفاعة(1/3)
عند الله بعهد الله و ميثاقه ، فإن كنّا نبغي الشفاعة بقولنا ( يا علي اشفع لي ) فالأولى و أدباً مع الله أن نطلب الشفاعة منه مباشرة ونقول : ( اللهم شفعني في رسولك أو شفعني في علي). هذا فيما يخص دعاء أو صيغة ( إشفع لي ) وهو أخف وطأة من صيغة ( أدركني ) ، غير أنه لم يمر علينا فيما مضى صيغة ( إشفع لي يا علي ) بين أوساط الشيعة بل صيغة ( أدركني يا علي ) هي المهيمنة وهي التي جرت على ألسن الناس ، وهنا الطامة الكبرى .
الإستغاثة في ميزان القرآن !
من غير الصحيح القول بأن الشيعة الذين يتحدثون بطريقة ( أدركني ياعلي ) يقصدون توجيه الخطاب إليه أن يدركهم بالشفاعة ، فليس في ذلك ما يدل عليها ولا توجد قرينة ولا بينة لذلك ، وليسأل أحدنا نفسه :(1/4)
ساعةَ أن يردد ( أدركني ياعلي ) هل يفكر في الله أم يفكر في علي ؟! .. (( مَا جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِيْ جَوفِهِ )) (2)! ولا يمكن تبرير هذه الصيغ و إسنادها إلى النيّات ، لأن النية غير كافية إذا كان العمل غير مشروع ! . يقص لنا القرآن أخبار الأمم السابقة ليس على سبيل التسلية بل للعبرة و الاتعاظ والنهي عن التشبه بأفعال أهل الضلال لئلا ننتهي إلى ما انتهوا إليه (( لَقَدْ كَانَ فِيْ قَصَصِهِم عِبْرَةً لأُولي الألبابْ ))(3) وقوله (( وتلكَ الأمْثَالُ نَضْرِبُهَا للنَّاسِ لَعَلّهُم يتفكرُون ))(4) .. والله قص خبر المشركين و أخبر عن نيِّاتهم بأنها التقرب إلى الله زلفى و أن هذه الأوثان إنما هم شفعاؤهم عند الله (( وَ يَعْبُدُونَ مِنْ دوُنِ اللهِ مَالايَنْفَعُهُمْ شَيْئَاً وَلايَضُرُّهُمْ ويَقُولوُنَ هَؤلاءِ شُفَعاؤنَا عِنْدَ الله ))(5) فما علتهم إذن ؟ . هل كان الاعتراض على أنهم لم يوفقوا في اختيار الشفيع أم على أسلوب الشفاعة ؟ ... ولكن مهلاً ... قد يقول قائل هنا : كيف نقارن بين المشركين والمؤمنين الذين آمنوا بالله ورسوله وكتابه وأقاموا الصلاة ؟! والجواب هو أننا لا نقارن و إنما نبينُ الأمْرَ كَي لا نقع فيه ، ألم يقل الله تعالى مخاطباً المؤمنين (( يَا أيُّهَا الّذيْنَ آمَنُوا لاتَكُوْنوا كَالّذيْنَ كَفَرُوا ...))(6) ! كيف خاطبهم بصيغة الإيمان ثم شَبَّه فعلهم بفعل الكافرين ؟! إنها صيغة تحذير من التشبه بأفعال الكافرين ، لأن الشيطان يسير بخطوات و لا يستطيع أن ينقل المؤمن إلى النقيض بخطوة واحدة ، يقول إحذروا هذه الخطوة لأن بعدها خطوة وبعدها خطوة وهكذا .. هذا هو أسلوب القرآن ..((يَاأيُّها الّذيْنَ آمَنُوا لاتَكُونُوا كَالّذين كَفَرُواْ ...)) .. ونحن نقول يا إخواننا لا تكونوا كالذين أشركوا في إتباعهم الأسلوب الخطأ في الدعاء إلى الله ، لأن(1/5)
دعاء غير الله إشراك به ، قال تعالى :
(( يُولِجُ الَّليْلَ فِيْ النَّهَارِ وَ يُولِجُ النَّهَارِ فِيْ الَّليْلَ وَسَخَّرَ الشَّمسَ وَالقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِيْ لأَجَلٍ مُسَمَّى ذلكُم اللهُ رَبُّكُم لَهُ الُملْكُ ..
وَالّذيْنَ تَدعوُنَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيْرٍ !
إنْ تَدْعُوهُمْ لايَسْمَعُوا دُعَائَكُمْ !
وَلَوْ سَمِعُوا مااسْتَجَابُوا لَكُمْ !
وَيومَ القِيَامَةِ يَكْفرُونَ بِشِرْكِكُمْ ! وَلا يُنَبَّئُكَ مِثْلُ خَبِيْرٍ )) (7)
(( قُلْ ادْعُوا الَّذيْنَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُوْنَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحويْلاً )) (8)
(( أمَّنْ يُجِيْبُ المُضْطَرَّ إذَا دَعَاهُ ويَكْشِفُ السُّوْءَ ؟))(9)
(( إنَّ الَّذيْنَ تَدْعوُنَ مِنْ دُوْنِ اللهِ عِبَادٌ أمْثَالُكُمْ .. فَادْعوُهُم فَلْيَسْتَجِيْبُوا لَكُم إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ !))(10)
وفي هذا ردٌّ على الذين يزعمون أن نهي القرآن إنما جاء عن الأصنام فقط ! والقرآن مليء بهذه الآيات و أمثالها . ليست هذه مسألةٌ فقهيه تعتمد أسس الاستنباط أو تحتاج إلى ذوي الاختصاص حتى يُخْتَلَف في تأويلها و تفسيرها ، هذه من صلب عقيدة التوحيد التي لم يجعل القرآن فيها مجالاً للشك أو التأويل لأنها حجة على الخلق أجمعين ، و آياتُ اللهِ تصرخ و تصيح في كل موضع و في كل سورة ؛ أن الذين تدعون من دون الله لا يسمعونكم و لا يستجيبون لكم فأخلصوا الدعاء لله وحده :
(( بَل إيّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إليه إنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُون ))(11)
(( قُلْ أمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأقِيْمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وادْعُوهُ مُخْلِصِيْنَ لَهُ الدّينَ )) (12)(1/6)
(( ادْعُوا رَبَّكُم .. تَضَرُّعَاً وَ خُفْيَةً ))(13)
(( وللهِ الأسْمَآءُ الحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا )) (14)
((لَهُ دَعْوَةُ الحَقِّ وَالذّيْنَ يَدْعوُنَ مِنْ دُونِهِ لايَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيءٍ ))(15)
(( قُلْ هَلْ يَسْمَعُونَكُم إذْ تَدْعُوْن ؟ )) (16)
(( إنَّ اللهَ يَقْضِي بِالْحَقِّ ، والّذيْنَ يَدعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيْبُونَ لَهُم بِشَيءٍ.. إنَّ اللهَ هُوَ السّمِيْعُ البَصِيْرُ ))(17) سميعٌ لنداء المضطرين والمكروبين .. بصيرٌ بحالهم !
وَقَالَ رَبُّكُم ادْعُونِيْ أسْتَجِبْ لَكُمْ )) (18)
(( هُوَ الحَيُّ لا إله إلا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدّينَ )) (19) هو الحي وغيره يموت !(1/7)
(( وَمَنْ أضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ مَنْ لايَسْتَجِيبُ لَهُ إلى يَومِ القِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِم غَافِلُونَ ))(20)
(( قُلْ إنَّمَا أدْعُوا رَبِّي ))(21)
إن القضية عندما يطرحها القرآن بهذه الكثافة وهذا الوضوح لا تحتاج إلى رأي العلماء ، قال تعالى :
(( فَبِأيِّ حَدِيْثٍ بَعْدَ اللهِ وَ آياتِهِ يُؤمِنُونْ ؟! ))(22)
لأنها قضية تكفل بالأجابة عنها وتوضيحها القرآن ، وهي واضحة وضوح الشمس في وضح النهار : (( فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أحَداً ))(23) ... ( لاتَدعُوا) و مصدرها الدعاء ولم يقل (لا تَدَّعوا) و مصدرها الإدِّعَاء ... (مَعَ اللهِ أحَدَاً) ، لامَلَكَاً مقرب و لانبيٌّ مرسل و لا وليٌّ مُشَفَّع ، هذه مسألة خالصة لله ، الدعاء مُخُّ العبادة ، والاعتماد على النيات ليس هنا موضعه ، و إنما تبرز أهمية النية فيما لو كان العمل صالحاً مشروعاً و النية مُختَلَفٌ فيها. كأن يتصدق رجلٌ بصدقة ، فإن كانت نيته لله أُجِرَ عليها و أُثيب ، وإن كانت لغير الله لم يؤجر، لكنه لا يعاقب أيضاً وإنما فاته أجر هذا العمل ؛ رجل شارك في معارك الجهاد ، فإن كانت نيته خالصة لأعلاء كلمة الله أُثيبَ على جهاده ، وإن كانت لحسابات دنيوية أخرى لا ثواب له ولا عقاب وإنما فاته أجر هذا العمل ؛ رجل صام رمضان ، إن كان صيامه إيماناً واحتساباً أُثيب ، وإن كان لتخفيف الوزن لم يُثب ولم يعاقب أيضاً بل فاته أجر هذا العمل ، هنا النية هي الفيصل لأن العمل صالح و مشروع . لكن قضية (أدركني ياعلي) إن كانت لغير الله فقد وقع في ظلم الشرك وحبط عمله كله ! وإن كانت نيته أن يدعوا الله بهذا الدعاء فقد أساء الأدب مع الله وتكلم بهراء. كان المشركون يعلمون تماماً من خلق السموات والأرض ومن يخرج الحي من الميت و من يدبر الأمر ، قال تعالى :
(( قُلْ مَنْ يَرزُقُكُمْ مِنَ السّمَآءِ وَالأرضِ أمَّنْ يَمْلِكُ(1/8)
السَّمْعَ وَ الأبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الحَيَّ مِنَ المَيِّتِ و يُخْرِجُ المَيِّتَ مِنَ الحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأمْرَ ، فَسَيَقُولونَ : الله .... فَقُلْ: أفَلا تَتَّقُون ))(36)
فما علتهم إذن إذا كانوا يعلمون كل هذا ؟! لماذا منعوها رسولَ الله (ص) ؟ لأنهم لم يعملوا بما علموا . مرة أخرى ، نحن نسوق هذه الأمثلة على سبيل التوضيح والتحذير ولا نقول أن إخواننا هم كهؤلاء المشركين والعياذ بالله ، لكن هذا الفعل شبيه بفعلهم ذاك ، ولم يعصم الله هذه الأمة من الوقوع في الشرك ، ألم يقل بأبي هو وأمي (ص) :
( لتتبعُنَّ سُنن من كان قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع ) ؟! نحن نقول أن الأمة غير معصومة والواجب تنبيهها و تحذيرها ، وخطوات الشيطان كثيرة ، تبدأ من تخفيف حدة العبادة و تقليل النوافل و تنتهي بالأشراك بالله والعياذ بالله . هذا لا يعني أن اخواننا مشركون يعتقدون بوجود اله آخر كما يلوح به أصحاب العقول الغليظة! هؤلاء الناس لشدة حبهم لرسول الله ولأهل بيته عليه وعليهم السلام اندرجت هذه الألفاظ على ألسنتهم دون أن يعوا خطرها العقائدي ، هؤلاء لا يعرفون الخطوط الحمراء بين الله وبين اولياؤه لضعف علاقتهم بالقرآن من جهة ولوجود تلك الطبقة التي تعيش على لعق الدين مابقي يدرّ معايشهم على حسب تعبير سيد الشهداء الحسين من جهة اخرى.(1/9)
إن الله بين لنا في قرآنه التناقض الشديد الذي يقع فيه الإنسان حين تدهمه الكرب والملمات حيث يلجأ ، بفطرته التي فطره الله عليها ، فيدعو الله وحده ويخصه بالدعاء وحده ، حتى إذا ما كشف الكرب عنه أعرض و جعل لله أنداداً ، وكل شيء يضعه الإنسان بديلاً أو شريكاً لله فهو ندٌ له ، من دون فرق بين كون ذلك الند ملكاً أو نبياً أو ولياً أو صنماً! يقول تعالى :
(( وإذا مس الأنسان ضر دعا ربه منيباً اليه )) هذا هو دعاء الفطرة ! ثم يقول (( ثم إذا خوله نعمة منه نسي ما كان يدعو اليه من قبل وجعل لله أنداداً ))(25)..!
((فإذا مس الإنسان ضر دعانا )) هذا هو دعاء الفطرة ! ثم يقول (( ثم إذا خولناه نعمة منا قال إنما أوتيته على علم )) (26).!
(( وإذا مسّكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه )) هذا هو دعاء الفطرة ، ثم يقول (( فلما نجاكم الى البر أعرضتم، وكان الإنسان كفوراً ))(27)..
((قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة بغتة أغير الله تدعون إن كنتم صادقين ، بل إياه تدعون فيكشف ما تدعون إن شاء وتنسون ما تشركون )) (28)..
((.. وظنوا أنهم أحيط بهم دعوا الله مخلصين له الدين لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين ))(29)..
((فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون )) (30)..
((وإذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر فمنهم مقتصد )) (31)..
((قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر تدعونه تضرعا وخفية لئن أنجانا من هذه لنكونن من الشاكرين)) (32) ..
((وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه)) (33)..
((وإذا مس الناس ضر دعوا ربهم منيبين إليه ثم إذا أذاقهم منه رحمة إذا فريق منهم بربهم يشركون )) (34).. الروم 33
ولم يترك الله هذه القضية العقدية للفقهاء حتى يختص بها اهل العلم لأنها حجته على الناس(1/10)
جميعاً ، بل بينها في أغلب مواضع القرآن وشدد عليها أكثر مما شدد على الصلاة ! كيف يستقيم الإخلاص لله إذا اشترك معه غيره في الدعاء؟! أم كيف يكون الإنقطاع الى الله إذاً إذا دعونا أحداً سواه ؟! أم كيف تكون مناجاة الله والتضرع له الذي أمرنا به (( أدعوا ربكم تضرعاً وخفية إنه لا يحب المعتدين )) ..
إن أعظم الخلق قدراً ومنزلة هو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وأهل بيته وأصحابه هم أعلم الناس بأمره وقدره وأطوع الناس له ولم يكن يأمر أحداً منهم عند الفزع أو الكرب أو الخوف أن يستغيث به فيقول ياسيدي يا رسول الله أغثني ! وهو الذي الذي ماترك طريقاً للفلاح والخير والرشاد إلا ودل أمته اليه ، بل كان يأمرهم بذكر الله ودعائه ، وروي عنه أنه علم ابنته الزهراء عليها السلام أن تقول ( يا حي يا قيوم يا بديع السماوات والأرض لا اله إلا أنت برحمتك أستغيث أصلح لي شأني كله ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين ولا إلى أحدٍ من خلقك ) ..
إن الذي يملك الضر والنفع هو الله وحده ، وأمرنا أن نتوجه اليه بعد أن نأخذ بالأسباب المتاحة لنا على قاعدة " إعقلها وتوكّل " ..حتى إذا عجزت أسبابنا توجهنا الى خالق الأسباب ومسببّها، لقد أمر اللهُ تعالى مريمَ البتول عليها السلام حينما أجاءها المخاض الى جذع النخلة أن تهز بجذعها لتسقط عليها رطباً ! فهل رأيت انساناً هز نخلة من قبل لتسقط عليه رطباً ؟! ناهيك عن هذه المرأة الضعيفة وهي بعدُ في أضعف حالاتها بين آلام الوضع ! إنه الأخذ بالأسباب (( وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى ))(35) !
ماهي معالم التوحيد في الإسلام ؟ ماهي مدلولات لا إله إلا الله التي حاربها ويحاربها الناس ؟ إنها لربط الإنسان مطلقاً بخالقه وإخراجه من عبودية غيره ، إن لا اله إلا الله لا تعني فقط لا خالق إلا الله ، فهذه يعرفها حتى الذين يحاربون الإسلام! إن لها أبعاداً لم يألفها البشر إلا في مناهج الرسل التي دأب البشر على(1/11)
تحريفها وتشويهها بما ينسجم مع تصوراتهم المادية المحدودة ، فاخترعوا الوسطاء بين الله وبين خلقه ! .. وما قصة قوم نوح إلا مثالاً واضحاً عن كيفية تحول فئة من أولياء الله كـ (ودّ) و (يغوث) و (يعوق) و(نسر) الى آلهة تعبد وترتجى من دونه مع تعاقب الأجيال ، وهاهي تصورات النصارى وعقائدهم في بنوة المسيح التي اخترعها لهم (بولس) لتماشي عقائد الرومان في الآلهة !
لا إله إلا الله تعني لا معبود في الكون بحق إلا الله ، لا رازق إلا الله ، لا مدبر إلا الله ..
لا نخشى إلا الله ، لا نتوكل إلا على الله ، لا نرجو إلا الله ، لا نخاف إلا الله ..
لا نبكي إلا لله ، رهبة منه ورغبة إليه ..
لا نلجأ إلا اليه ، ولا نتضرع إلا اليه ..
لانرفع أكفنا بالدعاء إلا اليه ، فنقول يارب أغثنا وأدركنا بلطفك ، ولا نرفع أيدينا فنقول (( يا علي أدركنا )) !
لا نرفع أيدينا لغيره ، لا لأنبيائه ولا لأوليائه ! لأن حقهم علينا ليس دعاءهم و الإستغاثة بهم ، بل اتباع أثرهم والإقتداء بنهجهم والصلاة عليهم ، وهذا هو السبيل لنصرتهم وهذا هو ما يفرحهم ويعطي ثمرة جهادهم و دمائهم..
أرسل الله الرسل ليطاعوا .. لا ليستغاث بهم ! (( وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله ))(37)
أرسلهم الله ليكونوا واسطة التبليغ عنه ، لا ليكونوا واسطة التبليغ اليه !
هم رسل الله الينا ، وليسوا رسلنا إلى الله !
هم يبلغوننا ما يريده الله منا ، ولا يبلغون الله مانريده منه ! هو الذي يسمع دعاء الخلائق وتضرعهم وليس بينه وبين دعائهم حجاب ! ..
(( ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه .. ونحن أقرب إليه من حبل الوريد ))(38)
شبهات حول بعض الآيات !
يتوهم البعض ورود بعض الآيات القرآنية التي تبيح أو تشير الى مشروعية الإستغاثة بالنبي وأهل بيته عليه وعليهم الصلاة والسلام ، منها قوله تعالى :(1/12)
((ياأيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة ))(39) والوسيلة تأتي بمعنى الدرجة وبمعنى القربة بالطاعات ، وقد أجمع على هذا كبار المفسرين من السنة والشيعة.
يقول ابن كثير في تفسيره : والوسيلة القربة التي ينبغي أن يطلب بها, والوسيلة درجة في الجنة, وهي التي جاء الحديث الصحيح بها في قوله عليه الصلاة والسلام: (فمن سأل لي الوسيلة حلت له الشفاعة).
والقرطبي يقول : يقول تعالى آمرا عباده المؤمنين بتقواه وهي إذا قرنت بطاعته كان المراد بها الانكفاف عن المحارم وترك المنهيات وقد قال بعدها" وابتغوا إليه الوسيلة " قال سفيان الثوري: عن طلحة عن عطاء عن ابن عباس أي "القربة" وكذا قال مجاهد وأبو وائل والحسن وقتادة وعبد الله بن كثير والسدي وابن زيد وغير واحد وقال قتادة أي "تقربوا إليه بطاعته والعمل بما يرضيه" وقرأ ابن زيد" أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة " وهذا الذي قاله هؤلاء الأئمة لا خلاف بين المفسرين فيه.
والوسيلة هي التي يتوصل بها إلى تحصيل المقصود والوسيلة أيضا علم على أعلى منزلة في الجنة وهي منزلة رسول الله - صلى الله عليه وسلم- وداره في الجنة وهي أقرب أمكنة الجنة إلى العرش وقد ثبت في صحيح البخاري من طريق محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قال حين يسمع النداء اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمدا الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاما محمودا الذي وعدته إلا حلت له الشفاعة يوم القيامة " "حديث آخر" في صحيح مسلم من حديث كعب عن علقمة عن عبد الرحمن بن جبير عن عبد الله سمع النبي - صلى الله عليه وسلم- يقول:" إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول ثم صلوا علي فإنه من صلى علي صلاة صلى الله عليه عشرا ثم سلوا لي الوسيلة فإنها منزلة في الجنة لاتنبغي إلا لعبد من عباد الله وارجو أن أكون أنا هو فمن سأل لي الوسيلة حلت عليه الشفاعة "(1/13)
.
ويقول عنها الطبرسي مجمع البيان : أي اطلبوا اليه القربة بالطاعات ،
وفي جوامع الجامع : كل ما يتوسل اليه من الطاعات وترك المقبحات ،
وفي تفسير شبر : أي ما تتوسلون به الى ثوابه من الطاعة ،
و للطبأطبائي في الميزان : حقيقة الوسيلة الى الله تعالى مراعاة سبيله بالعلم والعبادة ، وتحري مكارم الشريعة ، وهي القربى. ولا رابط يربط بين العبد وربه الا ذل العبودية، فالوسيلة هي التحقق بحقيقة العبودية وتوجيه وجه المسكنة والفقر الى جنابه تعالى. فهذه هي الوسيلة الرابطة.
و للسيد محمد الحسيني الشيرازي في تقريب القرآن : السبب الذي يقربكم اليه سبحانه من فعل الخيرات والأعمال الصالحة. فهذه كلها تقول أن الوسيلة هي طاعة الله ولا تعني بأية حال اتخاذ الأئمة والأولياء كوسائط و وسائل الى الله.
أما قوله تعالى (( قُلْ ادْعُوا الَّذيْنَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُوْنَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحويْلاً ، أؤلئك الذين يدعون يبتغون الى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه ))(40) فقد أجمع جمهور المفسرين على أن المقصود من الآية هو أن هؤلاء الصالحين الذين يدعوهم المشركون ، أقربهم الى الله يبتغي الوسيلة اليه بالطاعة والقربة ، فكيف بغير الأقرب ! كما قال بذلك الطبرسي في جوامع الجامع والكاشاني في الصافي وغيرهم ، وقال السيد محمد حسين فضل الله في تفسيره من وحي القرآن : والظاهر أن المراد من الوسيلة ، هي العمل الصالح الذي أراده الله سبيلاً للقرب منه فيما يتقرب الناس اليه لا الأشخاص الذين يتخذهم الناس وسائل!!
الإستغاثة في ميزان العترة المطهرة !(1/14)
لقد أورثنا الأئمة تراثاً من الأدعية تُكتب بحروف من ذهب على صفحات من نور ، وقد بلغوا الذروة في أساليب التوسل و التضرع إلى الله لم يسبقهم إليها أحد ولم يأتي بشبيه لها من بعدهم أحد ، وهذه أدعية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب و صحيفة الإمام السجاد عليهم السلام بين أيدينا وليس فيها صيغة استدراك أو سؤال لغير الله ، فهل فاتهم سؤال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وطلب الأستدراك منه ؟! ونحن نقرأ دعاء (( كُمَيل )) كل حين ، فهل نقرأه لأننا معجبون بشخصية الإمام عليه السلام أم للتدبر بهذا التراث الخالد. بماذا توسل الأمام في بداية دعائه ؟ برحمة الله وقوته و جبروتهِ و وقدرتهِ وعظمتهِ وأسمائهِ ونور وجهه و صفاتهِ ، وخطابهُ و مناجاتهُ كلها للهِ وحده ولم يسأل أحداً غيره ، ولو جاز ذلك لكان هو الأولى بسؤال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو الأخلص نية والأصفى قلباً ! يقول الأمام علي بن أبي طالب يصف لنا آداب التوسل والدعاء :
(( ان أفضل ما توسل به المتوسلون الى الله سبحانه وتعالى الإيمان به وبرسوله والجهاد في سبيله فأنه ذروة الإسلام ، وكلمة الإخلاص فإنها الفطرة ، وإقامة الصلاة فإنها الملة ، وإيتاء الزكاة فإنها فريضة واجبة ، وصوم شهر رمضان فإنه جُنة من العقاب ، وحج البيت واعتماره فإنهما ينفيان الفقر ويرحضان الذنب ، وصلة الرحم فإنها مثراة في المال ومنساة في الأجل ، وصدقة السر فإنها تكفر الخطيئة ، وصدقة العلانية فإنها تدفع ميتة السوء ، وصنائع المعروف فإنها تقي مصارع الهوان ))
ويقول الإمام السجاد الذي سطر أخلص وأصفى تعابير التوسل و الإستغاثة في أدعيته ، يقول في الدعاء الذي رواه عنه أبو حمزة الثمالي :(1/15)
((.. و الحمد لله الذي أناديه كلما شئت لحاجتي ، وأخلوا به حيث شئت لسري .. بغير شفيعٍ ، فيقضي لي حاجتي..
الحمد لله الذي لا أدعو غيره ، ولو دعوت غيره لم يستجب لي دعائي ..!!
والحمد لله الذي لا أرجو غيره ، ولو رجوت غيره لأخلف رجائي ..!! ))
ويقول في مناجاة المطيعين:
(( ولا وسيلة لنا اليك إلا أنت )) !!
ويقول أيضاً : (( أنت المدعو للمهمات وأنت المفزع في الملمات )) !!
ويقول أيضاً: (( لا يشركك أحد في رجائي ولا يتفق أحد معك في دعائي ولا ينظمه وإياك ندائي )) !!
ويقو ل الإمام جعفر الصادق عليه السلام:(1/16)
عجبت لمن أدركه الهمَّ .. ولم يفزع إلى قول الحقِّ سبحانه :
(( لآ إلهَ إلا أنْتَ سُبْحَانَكَ إنَّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِميِنَ )) فإني سمعت الله بعقبها يقول :
(( فَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الغَمِّ وكَذلِكَ نُنْجِيْ المُؤمِنِينَ ))
وعجبت لمن أدركه الخوف .. ولم يفزع إلى قول الحق سبحانه و تعالى :
(( حَسْبُنَا اللهُ وَ نِعْمَ الوَكِيل )) فإني سمعت الله بعقبها يقول :
(( فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضلٍ لَم يَمسَسْهُم سُوءٌ ))
وعجبت لمن خاف المكر ولم يفزع إلى قول الحق سبحانه و تعالى :
(( وَأُفَوِّضُ أمْرِي إلَى الله )) فإني سمعت الله بعقبها يقول :
(( فَوَقَاهُ اللهُ سَيَّئَاتِ مَا مَكَرُوا ))
إن تَشَيِّعُنَا للأمام (ع) ليس لشخصه ولا لنسبه ، وإنما للعقيدة التي آمن بها و للفكر الذي حمله وللنهج الذي إنتهجه باعتباره المرآة الحقيقية لنهج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم و لعقيدة التوحيد الخالص في الأسماء والصفات والأفعال ، سطرها ربنا في قرآنه وبينها رسوله صلى الله عليه وآله وسلم وجاهد عليها الأئمة (ع) و بذلوا أنفسهم دونها ، (( أدركني ياعلي)) لا تكشف الضُرّ .. (( وَأيّوبَ إذ نادى رَبَّهُ أنِّي مَسَّنيَ الضُرُّ وأنْتَ أرْحَمُ الرّاحِميْن ، فاسْتَجَبْنَا لَه فَكَشْفنَا مابِهِ مِنْ ضُرٍّ ))(41)
شبهات حول بعض الأحاديث !(1/17)
يستشهد الذين يرون جواز التوسل و الإستغاثة بالأنبياء مباشرة بحديث الأعمى الذي سأل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يدعو اللهَ له ليرد اليه بصره ، روى الحديث أحمد في مسنده : ( حدثنا روح قال حدثنا شعبة عن أبي جعفر المديني قال سمعت عمارة بن خزيمة بن ثابت يحدث عن عثمان ابن حنيف أن رجلا ضريرا أتى النبي صلى اللهم عليه وسلم فقال يا نبي الله ادع الله أن يعافيني فقال إن شئت أخرت ذلك فهو أفضل لآخرتك وإن شئت دعوت لك قال لا بل ادع الله لي فأمره أن يتوضأ وأن يصلي ركعتين وأن يدعو بهذا الدعاء اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد صلى اللهم عليه وسلم نبي الرحمة يا محمد إني أتوجه بك إلى ربي في حاجتي هذه فتقضي وتشفعني فيه وتشفعه في قال فكان يقول هذا مرارا ثم قال بعد أحسب أن فيها أن تشفعني فيه قال ففعل الرجل فبرأ ) .(1/18)
ان الأعمى طلب من النبي أن صلى الله عليه وسلم أن له ليرد اليه بصره فعلمه النبي صلى اله عليه وسلم دعاء أمره فيه أن يسأل الله قبول شفاعة نبيه فيه. فهذا يدل على ان النبي صلى الله عليه وسلم شفع فيه وأمره أن يسأل الله قبول شفاعته ، فقوله (يا محمد إني أتوجه بك إلى ربي في حاجتي هذه فتقضي وتشفعني فيه وتشفعه في ) فطلب من الله أن يشفع فيه نبيه، وقوله ( يامحمد اني أتوجه بك الى ربي) هي كما يقول المصلي ( السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته ) وكقولنا ( السلام عليك يا أبا عبد الله ) فهو نداء يطلب به استحضار المنادى في القلب فيخاطب لشهوده في القلب ، وليس فيه صيغة سؤال أو استعانة أو استغاثة ! بقي أن نعرف أن هذا الحديث مرفوع ! ويعارضه الحديث الصحيح الآخر الذي رواه الترمذي عن ابن عباس:
(عن ابن عباس قال كنت خلف رسول الله صلى اللهم عليه وسلم يوما فقال يا غلام إني أعلمك كلمات احفظ الله يحفظك احفظ الله تجده تجاهك إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك رفعت الأقلام وجفت الصحف ) قال هذا حديث حسن صحيح !
الخلاصة
إن الأنبياء والأولياء أحياء ولكن عند ربهم في كرامته ، و لا نعرف شيئاً عن كنه حياتهم أو طبيعتها ، وهم لا يستطيعون كشف الضر أو تفريج الكرب أو عون المحتاجين لأنهم عباد وبشر مثلنا وقد انتقلوا الى عالم آخر ، لا يسمعون دعائنا ولا نداءاتنا و لا استغاثاتنا ! يقول الإمام الصادق في الحديث الذي رواه الكليني في كتاب الروضة من الكافي :(1/19)
(( والله ما نحن الا عبيد.. ما نقدر على ضر ولا نفع ، إن رحمنا فبرحمته ، وإن عذبنا فبذنوبنا ، والله مالنا على الله من حجة ولا معنا براءة ، وإنا لميتون ومقبورون ومنشورون ومبعوثون ومسؤولون ، اشهدكم أني امرؤٌ ولدني رسول الله وما معي براءة من الله ، إن أطعت رحمني وإن عصيت عذبني عذاباً شديداً ))
وكتاب الله الذي استعرضنا قبساً من آياته ، وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم وأقوال العترة المطهرة كلها تظافرت على منع الإستغاثة بغير الله والدعاء والطلب من غيره ، والتشيع لأهل البيت عليهم السلام يقتضي السير على نهجهم واقتفاء أثرهم والعمل بهديهم ، ولا يلتفت الى أقوال الغلاة الذين يستأكلون بهم ويحرفون الكلم عن مواضعه ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله !
إن الذين يحاولون تبرير الإستغاثة بغير الله من الأنبياء والأولياء سيجدون أنفسهم أمام عقبتين رئيسيتين :
أولهما : أن يثبتوا أن المقصود بالاستغاثة بهم على أحسن حالات حسن النية انما هو ليشفعوا للمستغيث عند الله بدعائهم وليس طلب مباشرة حقيقة الفعل كالنصرة ورفع الضر وكشف الكرب والشفاء ! أي اثبات (( حسن النية )) بإرادة شفاعتهم ودعائهم ، وهذه لا يمكن احتباسها وتقنينها لأن النيات موكلة الى رب العباد ، وجب النظر عندها الى صيغة الإستغاثة وتنزيهها عن اللبس ، فتبطل عندئذ (( أدركني ياعلي )) و (( أغثني ياعلي )) و (( مدد يا ابو الحسن )) لتحل محلها (( أدركني ياعلي بشفاعتك عند الله )) و (( أغثني يا أبو الحسن بدعائك عند الله )) ، وفيها تقرير النية التي تسلم من حقيقة الشرك . فإذا سلمت من هذه وجدوا العقبة الأخرى :(1/20)
ثانيهما : أن يثبتوا بالدليل أن الأئمة عليهم السلام ، في حياتهم الأخرى عند الله يسمعون المنادي ، ويسمعونه على أية حال كان وفي أي مكان وفي أي وقت ، وليس المنادي فقط بل يسمعون الجميع ، جميع من يناديهم ، بأصواتهم جهراً أو همساً ، سراً وعلانيةً ، بلغاتهم المختلفة ! فإذا نودي الإمام من قبل مائة شخص في آن واحد سمعهم جميعاً . وهذه الصفة مختصة بالله وحده لا شريك له فيها ! وعلم هذا في الغيب وحده ومصدر الغيب الذي بين أيدي المسلمين هو القرآن فليشتقوا دليلهم منه وليس من غيره! فإن عدموا الدليل – وهو معدوم – ثبت عند ذلك ان هذه صفات الله وحده وتسقط عندها صيغة ( أدركني يا علي بشفاعتك ) لتحل محلها ( أدركني يا الله بشفاعة علي أو بحبك اياه ) وهذا ما نقول به .
أما محاولة ليّ أعناق النصوص وتفسير الكلام بغير مدلوله والإدعاء بأن (( أدركني يا علي )) أو (( الغوث يا أبا الحسن )) هي إنما لطلب دعائهم الله لنا لكشف الكرب والغم وإن الكاشف والمغيث هو الله ، فهي كالتصريح بمشروعية قولنا (( اغفر لي ياعلي )) أو (( ارحمني ياعلي )) والإدعاء بأن الغافر والراحم هو الله !
((إنْ تَدْعُوهُمْ لايَسْمَعُوا دُعَائَكُمْ ..وَلَوْا سَمِعُوا مااسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيومَ القِيَامَةِ يَكْفرُونَ بِشِرْكِكُمْ .. وَلا يُنَبَّئُكَ مِثْلُ خَبِيْرٍ )) .
ظافر أبو الحارث
17 ربيع الأول 1421 هـ الموافق 20/6/2000م
(1) : سورة الحجرات 13
(2) : الأحزاب 4
(3) : يوسف 111
(4) : الحشر 21
(5) : يونس 18
(6) : آل عمران 156
(7) : فاطر 13-14
(8) : الاسراء 56
(9) : النحل 62
(10) : الأعراف 149
(11) : الأنعام 41
(12) :الأعراف 29
(13) :الأعراف 55
(14) : الأعراق 180
(15) : الرعد 14
(16) : الشعراء 72
(17) : غافر 20
(18) :غافر 60
(19) :غافر 65
(20) : الأحقاف 5
(21) : الجن 20(1/21)
(22) : الجاثية 6
(23) : الجن 18
(24) : يونس 31
(25) : الزمر 8
(26) : الزمر 49
(27) : الإسراء 67
(28) : الإنعام 40
(29) :يونس 22
(30) :العنكبوت 65
(31) :لقمان 32
(32) :الإنعام 63
(33) :يونس 12
(34) : الروم 33
(35) : الأنفال 17
(36) :يونس 31
(37) : النساء 64
(38) : ق16
(39) : المائدة 35
(40) :الأسراء 57
(41) : الأنبياء 83-84(1/22)
أركيولوجيا التشيع بالمغرب
الملف الصحفي
الرباط - منتصر حمادة
ما هي مستجدات ظاهرة التشيع بالمغرب؟ وهل يصح الحديث عن تنظيم شيعي سري، أم أن المسألة لا تتجاوز أفراد متناثرين، وبالتالي لا تستدعي كل هذا القلق كما يشير إلى ذلك الباحث المغربي محمد ضريف، أحد أبرز المتتبعين لملف الحركات الإسلامية، ألا يؤشر وجود أربعة آية الله مغاربة على تفشي التشيع بالمغرب؟ ما هو واقع الجاليات المغربية في الديار الأوروبية أمام المد التبشيري الشيعي؟ ألا تساهم التقية الشيعية في تعقيد الأمور لمعرفة الحجم الحقيقي للمتشيعين المغاربة؟
أسئلة ضمن أخرى، يصعب الحسم فيها وذلك بسبب حاجز التقية القائم عند بعض الأسماء الشيعية، أو ذات الميولات الشيعية، سياسية أكثر مما هي عقائدية، وحتى الفعاليات الإسلامية، ومنها "السلفية العلمية"
سوف نكتفي في هذا المقام باستعراض لفتات عابرة حول التشيع بالمغرب، مقدماته التاريخية، بتقاطعاتة السياسية والمذهبية والإيديولوجية، واقعه وآفاقه، أسباب اختراقه للجسم الإسلامي الحركي العريض، وتستعرض ردود بعض الفعاليات الإسلامية والعلمية بخصوص واقع التشيع في المغرب السني المالكي الأشعري.
حب آل البيت وشماعة التشيع
معلوم أن المغاربة يحبون آل البيت بطبعهم، حتى أن كتب التاريخ المغربية التي تعرضت لمحن آل البيت، نجد نفسا شيعيا، دون أن يكون بالضرورة عقديا، على خلاف التأويل الشيعي الفج، ومن هذه المؤلفات نجد "الدر السني" وكتاب "الإشراف بذكر ما حل في فاس من المشاهير الأشراف"، أو "الدرر البهية في الأنفاس الحسنية لادريس العلوي" والذي طبعته وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية. كما أننا نقرأ في كتاب "المعيار المعرب" (ق10) لأبو القاسم الزياني جماعة الوٌهبية، وهي جماعة أباظية (من الخوارج) وتغلغت في المغرب بسبب حب المغاربة لآل البيت حتى لقوا السند الكبير من قبل الشيخ أحمد التيجاني.(2/1)
وسواء تعلق الأمر بالأدارسة (الذين أدخلوا الإسلام للمغرب الأقصى) أو المرابطين والموحدين والمرينيين ثم السعديين فالعلويين، فقد قامت هذه الدول على العصبية لآل البيت. وهي الشماعة العقائدية التي تلعب بها الشيعة في الحوزة، أي شماعة "الشيعة في عهد الأدارسة"، والحال أن المذهب الشيعي لم يتبلور إلا في القرن الرابع الهجري.
تتحمل الطريقة الصديقية مسؤولية كبيرة في تسهيل التغلغل الشيعي بالمغرب، وتعود أصل الحكاية إلى زيارة شيخ الطريقة، مولاي أحمد بن الصديق، للمشرق، في عز تصاعد المد المعتزلي، متأثرا بكتابات محمد بن عقيل (من الشيعة الإمامية) مؤلف كتاب "العتب الجميل لأهل الجرح والتعديل" حيث الهجوم على أهل الأئمة والحديث. وهو شيخ أشعري تأثر بمشايخ من حضرموت باليمن.
بعد عودة بن الصديق من مصر، قام بنشر هذا الفكر وخلفه عبد العزيز من الصديق، الذي كان يميل إلى آل البيت، وهناك حاليا في طنجة مكتبة العلامة عبد العزيز بن الصديق، تساهم بصيغة أو بأخرى في نشر الفكر الشيعي حسب ما يشير إليه أحد المحققين المغاربة. (وتحديدا عقائد "الشيعة الإمامية")
لم تقم الثورة الإيرانية التي تأثرت بفكر "الإخوان المسلمين"، وخاصة حسن البنا - وهناك اعترافات شيعية في هذا الصدد - سوى برد الجميل الحركي لمجموع الحركات الإسلامية في الدول الإسلامية السنية، على اعتبار أنها قدمت بعد منعطفات رسخت أقدمها في تاريخ الذل والضعف والرضوخ للآخر، وتتقدمها بطبيعة الحال النكسة، زيارة أنور السادات لتل أبيب، القمع السوري والعراقي للإخوان المسلمين، ونكسات إسلامية متفرقة. ونضيف عليها فشل قيام الثورات الإسلامية في الدول السنية، على عكس الدولة الشيعية(1)
أضحت الثورة الإيرانية، كأنها "معجزة"، والطريف/المؤسف أنها تزامنت مع بداية القرن الرابع عشر الهجري، حيث الإحالة الضمنية على الأثر النبوي الذي يتحدث عن "بعث مجدد القرن"(2)
آليات ومراحل التشيع(2/2)
تجمع العديد من الشهادات الإسلامية الحركية على أن أهم آليات الاختراق الشيعي في المغرب مرت عبر العمال المغاربة في العديد من الدول الأوروبية، وخاصة في إسبانيا وبلجيكا، عبر عناصر جزائرية على الخصوص، وموازاة مع هذه الأنشطة، كانت العديد من المؤسسات الشيعية التي تحتضن "المستبصرين" وهناك منشورات ترسل من قبل إيران لهؤلاء.
بالنسبة لأهم مراحل التشيع، فتتوزع على "التخلية"، وتقوم على إزالة المعتقدات القديمة "السنية". و"التحلية" وتقوم على غرس العقائد الشيعية.
لو صح الحديث عن مراتب التشيع في المغرب السني الأشعري المالكي، لجاز لنا تصنيف أربعة أسماء وصلت إلى مرتبة "آية الله" (من فاس ومراكش وطنجة)، تشبعت حتى النخاع بالمذهب الشيعي، ونضيف معها ثلاثة أسماء وازنة:
(م. خ)، يبلغ من العمر حوالي السبعين عاما، إمام وخطيب مسجد بطنجة، وقاضي سابق، لديه أتباع وصدى كبير في المنطقة.
(ا. م) شيخ من تطوان، يبلغ من العمر 88 سنة، اشتهر، كغيره من غلاة الشيعة بالعداء للوهابية.
(ع. م)، من تلامذة عبد الله التليذي، يوجد حاليا في ألمانيا، وكان يحضر دروسا فقهية للشيخ أحمد ابن الصديق بطنجة.
أغلب الشيعة المغاربة درسوا في حوزات حلب بسوريا أو قم بإيران، عبر أسماء معروفة يتقدمها محمد حسين فضل الله.
إلى جانب هؤلاء، نجد بعض الباحثين المتهمين من قبل الحركات الإسلامية بالتشيع، ويتقدمهم بطبيعة الحال الباحث مصطفى بوهندي والباحثة خ. ب، الأول متهم من التيار السلفي بأنه يتقاطع مع الشيعة في طعنه في الصحابي أبو هريرة والثانية تتقاطع مع الشيعة في طعنها في الإمام البخاري.
وعلى ذمة أحد المؤرخين المغاربة، فإن مؤلفات هذين الباحثين "تشكل خطرا دينيا وثقافيا وفكريا على المغرب".(2/3)
والمثير حقا حسب الأوساط الإسلامية أن باحثين من تيار "السلفية العلمية" قاما بالرد على مؤلفات مصطفى بوهندي وخديجة.ب، تعرضا لمضايقات أمنية، (أحدهما في مراكش وآخر في القنيطرة)، وذلك قبل صدور انتقادات حسن الكتاني في أسبوعية "العصر". والأدهى أن مجابهة المد الشيعي في الشمال، والتي قادها إمام سني هو الآخر، يدعى محمد الجردي، إمام مسجد نافع، في منتصف التسعينيات، انتهت بصدور تهديدات بالتصفية الجسدية، قبل أن تتدخل وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية لتهدئة النفوس والأوضاع.
مبدئيا، وبرأي أهل الحديث والفقه ببلد الأولياء، يبقى المغرب، إلى جانب مصر والسعودية، من أهم حصون المقاومة ضد التغلغل الشيعي، وهذا بالرغم من الانبهار السياسي لبعض الإسلاميين المغاربة، والذي انتقل للأسف نحو الانبهار العقائدي، وليست الأزمة الوجودية التي تمر منها إيران اليوم، ومعها تحصيل ملكة العقل النقدي غير الخرافي، سوى بعض المقدمات التي من المفترض أن تعجل بتقزيم الحضور الشيعي بالمغرب.
إسلاميون أبرياء، ولكن!
مجرد تقديم شهادة البراءة للحركات الإسلامية من الاتهامات التي وجهت إليها حول التغلغل الشيعي، يثير العديد من الاستفسارات. قد يكون الأمر مقبولا في بلد يتميز بتعددية المذاهب مثل العراق أو لبنان حيث الحضور الكوزمبولوتي للسنة والشيعة والنصارى.. ، ولكنه يثير الكثير من الشبهات في بلد سني أشعري العقيدة، ومالكي المذهب! وواضح أن تقديم صك البراءة للسلطة، يعود لأسباب سياسية وليست بالضرورة عقائدية.(2/4)
وعموما، إذا كانت الحركات الإسلامية في الساحة طيلة الثمانينات قد انتهت للفصل منهجيا وعقائديا بينها وبين عقائد الشيعة (الرجعة والمهدوية (الخرافية) والقول بكفر معظم الصحابة ومذهبهم في "زواج المتعة" وترك صلاة الجمعة)، فإنه في المقابل، لم تستطع بعض الأسماء التفريق بين التجربة السياسية للخميني، وحمولته العقائدية، وانتهوا بالقول بمذهب الشيعة وعقائدهم.
الكتاب المغاربة ونقد التشيع
قليلة هي الأدبيات المغربية التي تعرضت بالنقد والنقض للأدبيات الشيعية، ولا نجد من ضمنها أدبيات محسوبة للحركات الإسلامية البارزة، وفي مقدمتها العدل والإحسان أو التوحيد والإصلاح، ويبقى كل ما هو مسطر، صادرا عن أقلام محسوبة على التيار السلفي الوهابي، ويتقدمها المدعو الزبير دحان أبو سلمان، مؤلف كتاب "ضحايا النشاط الشيعي" و"زواج المتعة في الفقه الشيعي الإمامي"، وهي مؤلفات تجمع ما بين النقد والقذف في آن، حيث نبرة الخطاب السلفي المتشدد. ويبقى أهم مبحث صدر عن قلم مغربي يفند من خلاله الأطروحات الشيعية كتاب "الأصول الجعفرية الشيعية والاجتهاد المؤطر بالأسطورة" لصاحبه الدكتور محمد عمراني حنشي، (صدر في صيف 2002، 115 صفحة عن مطابع طوب بريس) حيث تحدث المؤلف في مقدمة الكتاب "الصعوبات الإجرائية التي تكتنف كل عمل حفري تاريخي، من جهة الرصد والتتبع الحثيث لمثل هذه الظواهر السياسية والعقائدية المعقدة"، منبها إلى محاذير الوقوع في "شرك الاختزال المخل، أو الأحكام المتحيزة المسبقة، أو التنميط السطحي المشوه، أو التصنيف الاعتباطي الأهوائي المؤدلج"، والحال أن مثل هذا البناء النظري الصلب في التعامل مع ظاهرة التشيع في الإسلام، ظل بعيد المنال على الدارسين لسببين منهجين رئيسيين:(2/5)
عدم أخذهم في الحسبان بأهم ملمحين في الرسالة الإسلامية الجديدة، وهما "العالمية" و"الخاتمية" كمفتاحين مفهومين محوريين ناسخين لكل "محلية" أو "خصوصية" في الشرائع قبلها، وبالتالي عدم انتباهم لما في ظاهرة التشيع، كما تطورت تاريخيا في الإسلام، من مصادمة ضدية نقيضة لمثل هذا التصور المنظوري العام.
إغفالهم للجانب الأسطوري الشعوبي القومي في "الظاهرة" وعدم قدرتهم على التعامل مع النصوص.
الأهم في المبحث أن صاحبة اعتمد فقط على المراجع الشيعية لنقض هذه الأسس، دون الاستشهاد بأي مراجع سنية، ولذلك اعتبر عند الباحثين المتتبعين من أخطر ما صدر في نقض الأسس المذهبية للفكر الشيعي.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أغلب الباحثين الإسلاميين لا يملكون الشجاعة للتنديد بما آلت إليه هذا الثورات الكارثية، سنية كانت في السودان أو الجزائر، أو شيعية في إيران، حيث تم سفك الدماء باسم إيديولوجيات سياسية مغطاة بلبوس ديني.
(2) هناك كتاب مخصص لتفنيد صدقية هذه الأطروحة ألفه الباحث المغربي محمد عمراني حنشي(2/6)
بسم الله الرحمن الرحيم
س1: هل كان التقليد والرجوع للعلماء موجوداً لدى شيعة أهل البيت (عليهم السلام) في عصور حضور الأئمة أو عصر الغيبة الصغرى أو بدأ بعدها؟
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا محمد وآله الطاهرين ولعنة الله على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين.
ج: الرجوع للعلماء وسؤالهم عن الأحكام الشرعية العملية مما جرت عليه سيرة الشيعة وجميع المسلمين من الصدر الأول، وعرف في كل عصر جماعة ممن يتصدى للفتوى، وقد تضمنت النصوص تصدي الشيعة لذلك مثل أبان بن تغلب، الذي قال الشيخ الطوسي في حقه بعد أن مدحه وعظمه: (وقال له أبو جعفر الباقر (عليه السلام): اجلس في مسجد المدينة، وأفت الناس، فإني أحب أن يرى في شيعتي مثلك، فجلس) ومثل معاذ بن مسلم النحوي فقد روى في حديثه عن الإمام الصادق (عليه السلام): (قال: بلغني أنك تقعد في الجامع فتفتي الناس؟ قلت: نعم، وأردت أن أسألك عن ذلك قبل أن أخرج. إني أقعد في المسجد فيجيء الرجل فيسألني عن الشيء، فإذا عرفته بالخلاف لكم أخبرته بما يقولون، ويجيء الرجل أعرفه بحبكم أو بمودتكم فأخبره بما جاء عنكم، ويجيء الرجل لا أعرفه ولا أدري من هو، فأقول: جاء عن فلان كذا وجاء عن فلان كذا، فأدخل قولكم فيما بين ذلك. قال: فقال لي: اصنع كذا، فإني أصنع كذا).(3/1)
لكن الفقه الشيعي لم يكن متميزاً بنفسه وبفقهائه في الصدر الأول بسبب الفتن والمآسي التي مرت على الشيعة، وربما كان الشيعة يستفتون العامة غفلة عن مخالفتهم لأهل البيت (عليهم السلام). وقد اهتم الإمام الباقر (عليه السلام) بهذه الجهة وبدأ بتثقيف الشيعة بفقههم. وفي حديث عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: (لما حضرت أبي الوفاة قال: يا جعفر أوصيك بأصحابي خيراً. قلت: جعلت فداك والله لأدعنهم والرجل منهم يكون في المصر، فلا يسأل أحداً) وقام (صلوات الله عليه) بما وعد، وبدأ الشيعة يقصدون علماءهم ويرجعون إليهم، وتصدى جماعة منهم للفتيا، كما أرشد الأئمة (عليه السلام) إلى جماعة منهم، ففي صحيح شعيب العقرقوفي: (قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) : ربما احتجنا أن نسأل عن الشيء فمن نسأل؟ قال: عليك بالأسدي. يعني أبا بصير) وفي صحيح عبد الله بن أبي يعفور: (قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): إنه ليس كل ساعة ألقاك، ولا يمكن القدوم، ويجيء الرجل من أصحابنا فيسألني وليس عندي كل ما يسألني عنه فقال: ما يمنعك عن محمد بن مسلم الثقفي، فإنه سمع من أبي وكان عنده وجيهاً)، كما ورد الإرجاع إلى جماعة آخرين، مثل الحارث بن المغيرة والمفضل بن عمر وزكريا بن آدم ويونس بن عبد الرحمن والعمري وابنه، في أحاديث كثيرة لا يسعنا استقصاؤها، وتكامل للشيعة فقههم واستغنوا عن غيرهم ففي معتبر محمد بن حكيم: (قلت لأبي الحسن موسى (عليه السلام): جعلت فداك فقّهنا في الدين وأغنانا الله بكم من الناس حتى أن الجماعة منا لتكون في المجلس ما يسأل رجل صاحبه [إلا] يحضره المسألة ويحضره جوابها فيما منّ علينا بكم…)، وفي كتاب الإمام الهادي (عليه السلام) لأحمد بن حاتم وأخيه: (فاصمدا في دينكما على كل مُسِنّ في حبنا وكل كثير القدم في أمرنا، فإنهما كافوكما إن شاء الله تعالى).(3/2)
وبدأ فقهاء الشيعة يؤلفون الكتب في الأحكام الشرعية لعمل الناس التي هي أشبه بالرسائل العملية، يحضرنا منها كتاب يوم وليلة ليونس بن عبد الرحمن من أصحاب الرضا (عليه السلام)، الذي ورد عنهم (عليهم السلام) في نصوص كثيرة الثناء عليه وإقرار العمل به، وكذا كتاب يوم وليلة المعروف بكتاب التأديب لتلميذه أحمد بن عبد الله بن مهران المعروف بابن خانبة، ورسالة علي بن بابويه القمي والد الصدوق المتوفى في عصر الغيبة الصغرى. وما كتاب من لا يحضره الفقيه المؤلف في أوائل الغيبة الكبرى إلا رسالة عملية يرجع إليها من لا يتيسر له سؤال الفقيه، وهي تتضمن فتاوى الصدوق، ثم تتابعت الرسائل للعلماء طبقة بعد طبقة كالمقنعة للشيخ المفيد وجمل العلم والعمل للسيد المرتضى والنهاية في مجرد الفقه والفتوى للشيخ الطوسي قدس الله أسرارهم الزكية وغير ذلك مما لا يحصى كثرة.
س2: ما هي الشروط الأساسية في مرجع التقليد؟
ج: الأساس في ذلك الاجتهاد والعدالة. أما العدالة فنقصد منها المرتبة العالية بحيث تمنع الشخص عادةً من مخالفة التكليف الشرعي ومن الوقوع في المعصية وإن كانت صغيرة، بحيث لو صدرت منه ـ نادراً ـ لأسرع للتوبة والإنابة لله تعالى.
وأما الاجتهاد فهو عبارة عن القدرة على أخذ الحكم الشرعي والوظيفة العملية من الأدلة المعتبرة الكافية في الخروج عن المسؤولية أمام الله تعالى. والفاقد للقدرة المذكورة جاهل لا معنى للرجوع إليه وتقليده. هذان هما الشرطان الأساسيان. نعم مع العلم باختلاف المجتهدين ـ كما هو حاصل الآن ـ لابد من ترجيح الأعلم ، كما فصلنا ذلك في بحثنا الفقهي. ومن هنا تعدّ الأعلمية شرطاً ثالثاً.(3/3)
س3: عرف عنكم رأيكم المتميز في عدالة مرجع التقليد، حيث تشترطون في المرجع أن يكون على مرتبة عالية من العدالة، وهي أرقى من العدالة المعتبرة في الشاهد وإمام الجماعة، وفي موضع آخر ذكرتم أنه إذا تساوى المجتهدان في العلم يقدّم للتقليد من هو أشد ورعاً... وهنا يطرح سؤال عن مدى ارتباط شدة الورع بالتقليد الذي هو اتباع العالم بالحكم الشرعي.
ج: رأينا في عدالة مرجع التقليد نابع من أن الأمانة كلما عظمت وجلّت احتاجت إلى قوة رادعة عن الخيانة بصورة أقوى وآكد. وبعد غياب العصمة عن مقام التبليغ بأحكام الله تعالى والقيام بالوظائف الدينية لا رادع عن التلاعب بالأحكام وضياعها والتفريط في الوظائف الدينية إلا قوة العدالة وشدة الخوف من الله تعالى. فالمرجع في التقليد يتعرض..
أولاً: للضغط النفسي عند اختيار الحكم واستنباطه من الأدلة، فإن أدلة الأحكام غير منضبطة، والنفس بطبعها تميل للفتوى بما يطابق الظنون والقناعات والعواطف، فقد يجنح الباحث للحكم وتلبس عليه نفسه، فيستوضح الأدلة عليه بسبب ذلك، وقد يؤتى حظاً من القدرة على الاستدلال واللحن بالحجة، فيبرز ما ليس دليلاً بصورة الدليل. ولا حاجز له عن التلاعب أو التسامح أو التغافل في ذلك إلا الخوف من الله تعالى وشدة الحذر من نكاله حين يلتفت إلى أن الخصم المحاسِب هو الله تعالى الذي لا تخفى عليه خافية، ولا يُخدع بالحجج الواهية، فإنه حينئذٍ يتجلى له أن ما يقيمه من الأدلة هل يصلح لأن يكون حجة له مع الله تعالى وعذراً بين يديه أو لا؟ فيحمله ذلك طبعاً على استفراغ الوسع واستكمال الجهد لمعرفة الأدلة الحقيقية والوقوف عندها واستنباط الحكم على أساسها.(3/4)
وثانياً: للضغوط الأخرى الخارجة عن مقام الاستدلال، إذ كثيراً ما يكون الحكم الذي تقضي به الأدلة الشرعية غير ملائم لرغبات السلطان أو العامة أو غير مناسب للظرف القائم أو العواطف المتأججة، كما قد يتعرض لضغط الأنانية بلحاظ حب الظهور في الابتكار والتميز عن الآخرين أو في التجديد والعصرنة، أو في التسهيل من أجل استقطاب أكبر عدد ممكن من الناس، إلى غير ذلك مما يدعو إلى محاولة التخلص من قيود الأدلة الشرعية الحقيقية والالتفاف عليها والتشبث بالشُبه والمبررات للخروج عنها.
ونحن نرى أن كثيراً من ذوي العلوم العملية التي تكون نتائج الخطأ فيها ظاهرة ـ كالطب والهندسة ـ قد يخون أمانته تسامحاً أو تعمداً لبعض الدواعي المادية ـ ولو مثل الكسل والضجر ـ ويتحمل تبعات عمله وأقلها ظهور الخطأ عليه وفشله في مهمته عاجلاً أو آجلاً، فكيف بمثل علم الفقه الذي لا يظهر الخطأ والتفريط فيه لعامة الناس، وكيف يؤمن ذلك فيه لولا شدة التقوى والورع وقوة ملكة العدالة.
وثالثاً: أن مرجع التقليد بحكم مركزه معرض لكثير من المخاطر الدينية بسبب ابتلائه بالأموال وامتلاكه للجاه واحتكاكه بالناس، وذلك يجعله معرضاً للدواعي الغضبية والشهوية والنزغات الشيطانية، فإذا لم يتحصن بقوة الورع والتقوى كان معرضاً للسقوط والهلكة، ولتشويه صورة المرجعية والدين.
كل ذلك مما يؤكد حاجة مرجع التقليد إلى شدة التدين وكونه بمرتبة عالية من العدالة والورع وتقوى الله تعالى. وعلى ذلك جرى شيعة أهل البيت (عليهم السلام) بمرتكزاتهم وإجماعهم العملي على مرّ العصور. وهو من أقوى الأدلة في المقام مدعوماً ببعض النصوص المذكورة في محلها. وبذلك صار للمرجعية وجهها المشرق ونورها المتألق. ولذا نرى الشيعة يكنون لمراجعهم قدسية عالية لا وجه لها لولا أنهم يفترضون فيهم القرب من الله تعالى بورعهم وتقواهم.(3/5)
ونسأله سبحانه وتعالى أن يثبت هذه الطائفة على هذا النهج اللاحب والطريق الواضح ويسددها في جميع أمورها، ويعصمها من الزيغ والانحراف ومن مضلات الفتن، إنه أرحم الراحمين وولي المؤمنين.
هذا كله بالإضافة إلى أصل اعتبار كون العدالة بمرتبة عالية، وأما ترجيح الأورع عند تساوي المجتهدين في العلم فهو يبتني على أن التخيير عند تساوي المجتهدين في العلم مخالف للأصل، والمتيقن جواز تقليد الأورع. وتفصيل الكلام في ذلك في كتابنا الفقهي الاستدلالي (مصباح المنهاج).
س4: يطرح البعض سؤالاً عن المبرر لتقليد الفقهاء واتباع اجتهاداتهم الفقهية مع أنها قد لا تصيب الحكم الشرعي الواقعي، فما هو نظركم حول الموضوع؟
ج: لا ريب في أن خطأ الفقهاء وضياع الحكم الشرعي الواقعي من مآسي الدين العظيمة التي يتحمل تبعتها الطغاة الذين غصبوا أهل البيت (عليه السلام) حقهم حيث صار ذلك سبباً لضياع الأحكام الشرعية. غير أنه بعد أن حصل ذلك فالرجوع للفقهاء بالشروط المقررة شرعاً هو الحل الشرعي الوحيد المبرئ للذمة والذي يخرجنا من مسؤولية التكليف مع الله تعالى، لأنه يستند إلى حجج شرعية كافية في المعذرية عند الخطأ وعدم إصابة الواقع. كما أنه الحل الأمثل الذي يجري الناس على نظيره في جميع أمورهم التي يحتاجونها والتي يتعرضون للخطأ فيها، كالطب والهندسة وغيرهما.
ولا بديل عن ذلك إلا أحد أمرين، أما تعطيل الشريعة بإهمال الأحكام وترك العمل عليها، أو أخذها من الطرق غير الشرعية، كالظنون والتخرصات التي منع الله سبحانه من العمل بها، واجتهاد من ليس أهلاً للتقليد، ومن الظاهر أن كلا الأمرين أشد محذوراً من الرجوع للفقهاء، بل لا يرضى بهما عاقل.
س5: هل يمكن توضيح أدلة وجوب تقليد الأعلم؟(3/6)
ج: الإنسان بطبعه إذا احتاج العمل فيما يجهله يرجع للعالم به، وعلى ذلك جرت سيرة الناس في جميع أمور معاشهم ومعادهم، كالطب والهندسة وعلم الدين وغيرها. وعليه دلت الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة عن المعصومين (عليهم السلام) المتضمنة للرجوع للعلماء والفقهاء. ولا يتقيد بطبعه بالرجوع للأعلم، بل يكتفي بمن يتيسر له الوصول إليه.
أما إذا التفت لاختلاف العلماء وأهل الفن فيما وصلوا إليه وفيما هو مورد الحاجة له ـ كما هو الحال في عصورنا حيث ظهر اختلاف فتاوى العلماء في رسائلهم العملية ، وبسبب البعد عن منابع التشريع ومصادره وتعقد مقدمات الاجتهاد ـ ، فإنه لابد أن يتوقف ويفحص عن الحق من الأقوال، لرجوع اختلافهم إلى أن كل عالم يخطئ الآخر فيما وصل إليه، ومع تخطئة بعضهم لبعض فما المبرر للرجوع لهم والعمل بقول بعضهم دون بعض؟ ولذا ورد في كثير من الموارد رجوع الشيعة للأئمة (عليهم السلام) عند اختلاف العلماء، لأن قولهم (عليهم السلام) هو الفصل في تمييز المخطئ من المصيب ومعرفة الحق من الباطل. ففي حديث خيران الخادم: (كتبت إلى الرجل (عليه السلام) أسأله عن الثوب يصيبه الخمر ولحم الخنزير أيصلي فيه أم لا؟ فإن أصحابنا قد اختلفوا فيه، فقال بعضهم: صل فيه، فإن الله إنما حرم شربها، وقال بعضهم: لا تصل فيه. فكتب (عليه السلام) : لا تصل فيه، فإنه رجس...) وفي حديث سماعة عن أبي عبد الله (عليه السلام) : (سألته عن رجل اختلف عليه رجلان من أهل دينه في أمر كلاهما يرويه، أحدهما يأمر بأخذه والآخر ينهاه عنه، كيف يصنع. قال: يرجئه حتى يلقى من يخبره فهو في سعة حتى يلقاه) إلى غير ذلك.(3/7)
نعم مع تعذر معرفة الحق، لعدم تيسر الرجوع لمن قوله الفصل ـ كما هو الحال في عصرنا هذا عصر الغيبة والمحنة ـ فالأعلمية من المرجحات العقلائية التي يعتمد عليها الناس في جميع أمورهم. وهل يمكن لعاقل أن يعتمد في أمور معاشه في الطب والهندسة والقوانين الوضعية وغيرها على قول غير الأعلم وترك قول الأعلم عند اختلافهما؟ فكيف بأمر الدين الذي به السعادة والنجاة من الهلكة الدائمة؟! وكيف يمكن التفريط به باتباع غير الأعلم عند الاختلاف، وبماذا يجيب الله تعالى إن سأله يوم يعرض عليه ويقف بين يديه؟ وهل تكون أوامر الله تعالى ونواهيه أهون من الأمور الطبية والهندسية والقوانين الوضعية ونحوها من أمور الدنيا الفانية، ليتسامح فيها. وكفى بهذا دليلاً للمنصف وحجة على المتعسف.
س6: بعض الناس يصور عدم وجوب تقليد الأعلم بأن الأحكام الفقهية ليست بتلك الدرجة من الأهمية، بحيث يفترض في الإنسان مراجعة الأعلم، مثل الحالات المرضية العادية، فإن الإنسان يراجع فيها أي طبيب كان، لا خصوص الأعلم، فما هو تعليقكم على ذلك؟
ج: لا ندري كيف يصدر هذا الكلام من مؤمن وحرمة الأحكام الشرعية من حرمة الله تعالى الذي شرعها، وسوف يحاسب عليها، وهو الذي يقول في حق أحب خلقه إليه وخاتم أنبيائه (صلى الله عليه وآله) : {ولو تقول علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين فما منكم من أحد عنه حاجزين} وفي صحيح أبي ولاد عن الإمام الصادق (عليه السلام) في التعقيب على قضاء لأبي حنيفة قال (عليه السلام) : (في مثل هذا القضاء وشبهه تحبس السماء ماءها وتمنع الأرض بركتها).
وأما الرجوع في الحالات المرضية العادية لغير الأعلم، فهو إنما يصح عند العقلاء في حالتين:(3/8)
الأولى: أن لا يعلم بالخلاف بين الأعلم وغيره، فيرجع لغير الأعلم لتخيل سهولة معرفة الحالة، بحيث يعرفها الأعلم وغيره. وهو خارج عن محل الكلام لما سبق - في جواب السؤال الخامس - من أن وجوب الرجوع للأعلم في الأحكام الشرعية إنما هو بسبب العلم بالاختلاف بين العلماء في الأحكام التي يبتلي بها المكلف
الثانية: ما إذا تعذر العمل بقول الأعلم وتيسر العمل بقول غير الأعلم مع كونه مأمون العاقبة. كما إذا كان الدواء الذي وصفه الأعلم صعب التحصيل لا يتيسر للمريض استعماله، والدواء الذي وصفه غير الأعلم متيسراً ومأمون العاقبة، فإن المريض قد يستعمل الدواء الذي وصفه غير الأعلم برجاء الفائدة مع كونه مأمون الضرر. وهذا لا يجري في الأحكام الشرعية التي لا يجوز نسبتها لله تعالى والتعبد بها والعمل عليها إلا بحجة وافية بالعذر عند الحساب، وإلا كان العبد مستحقاً لنكال الله تعالى ومتعرضاً لعقابه.
ومن هنا نودَّ التنبيه إلى أمور..
الأول: أن الذي يبدو من كثير من هذه الأسئلة ـ ذات الطابع العلمي الاستدلالي ـ أن هناك حاجة للتعرض لهذه الأمور بسبب إشغال الساحة بالحديث فيها على الصعيد العام. وهي أمور قد أطال العلماء وأهل الاختصاص ـ بعد البحث والتمحيص ـ في الاستدلال عليها بدقة تدريساً وتحريراً في كتب كثيرة.
وحينئذٍ فالحديث فيها على الصعيد العام إن كان من غير أهل الاختصاص فعليهم أن يتنبهوا إلى أن هذه مسائل علمية دقيقة لا تعالج بهذه السهولة السطحية، بل هي شأن مسائل باقي العلوم ـ كالطب والهندسة ـ توكل للمختصين الذين يمتلكون ـ بفضل جهود مضنية لسنوات طويلة ـ العمق العلمي في علم الفقه وما يرتبط به من علوم أخرى، فهؤلاء هم القادرون على الإحاطة بأدلة الدعوى وبراهينها ومداخلاتها واستيعابها.(3/9)
وإذا كانوا يطمئنون للأطباء والمهندسين وغيرهم من أهل العلوم والفنون في علمهم وفنهم ويكلون أرواحهم وأموالهم وشؤونهم إليهم، فلماذا لا يطمئنون لعلماء الدين في علمهم، أترى أولئك أوثق من هؤلاء في علمهم ودينهم وأبعد عن الخطأ والخيانة منهم؟ وهل يرضى المؤمن المنصف لنفسه بذلك؟!
وإن كان الحديث عنها ممن يعدّون أنفسهم من أهل الاختصاص فالظاهر أن الأدلة الشرعية في ذلك أوضح من أن تخفى عليهم.
على أن المفروض فيهم بحث هذه الأمور مع أهل الاختصاص الذين يحسنون الأخذ والرد فيها، وتمحيص الأدلة إثباتاً أو نفياً عليها، ولذا لا تطرح النظريات العملية في العلوم الأخرى إلا بعد أن يفرغ منها أهل الاختصاص بحثاً وتمحيصاً. ولا يحسن صدمة المجتمع الإيماني العام بها بنحو يوحي لهم بأنها حلول إصلاحية شرعية غفل عنها علماء الدين أو تغافلوا عنها، لجمودهم على الماضي أو لاستفادتهم منه مادياً إلى غير ذلك من الأقاويل، مما يؤدي إلى زعزعة الثقة بهم وحيرة الناس في أمرهم وإحداث البلبلة بين المؤمنين.
أما إذا كانت وجهة نظر هؤلاء أن هذه الحلول ليست حلولاً شرعية، ليطرحوها مع أهل الاختصاص ويبحثوا معهم في أدلتها الشرعية الكافية، بل هي حلول آنية تقتضيها طبيعة المرحلة التي نعيشها تجنباً لسلبيات الحلول الشرعية، فهم يحاولون إقناع عموم الناس بها، ليرتضوها بدلاً من الحلول الشرعية التي يقف علماء الدين عندها ولا يتجاوزونها، فليصرحوا بالحقيقة على وجهها إن كانوا مثاليين، ليعرف المؤمنون على ماذا يقدمون، ومع من يتعاملون، وماذا يراد بهم.
ولماذا هذا التشكيك في الأدلة الشرعية والتشبث بدعاواهم بتقريبات خطابية واهية بنحو يوهم أنها أدلة شرعية، وهي {كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً ووجد الله عنده فوفّاه حسابه والله سريع الحساب}.(3/10)
الثاني: أن ثوابت التشيع وركائزه في العقائد والتاريخ والفقه لم تثبت إلا بعد البحث والتمحيص، ولم يتسالم علماء الشيعة عليها إلا بعد أن عرفوا رأي أئمتهم المعصومين (عليهم السلام) الذين عاشوا معهم ما يزيد على ثلاثة قرون تكفي في بلورة العقيدة واتضاح معالمها وثوابتها، ولم يفارقهم الأئمة (عليهم السلام) حتى عرفوا منهم ذلك وأقاموا الحجة الكافية عليها، وإلا فمن غير المعقول أن يفارق الأئمة (عليهم السلام) شيعتهم من دون أن يتموا الحجة في ذلك. ولا نريد بذلك أن نفرض عقائدنا على المؤمنين فرضاً على نحو التقليد الأعمى، بل كل ما نريده هو تثبتهم عند صدمتهم من بعض الناس بالتشكيك أو الإنكار ومحاولتهم الفحص عن حقيقة الحال، بالرجوع لأهل البحث والتحقيق، ولا يُستَغفَلوا بتوهم أن هؤلاء لم يتكلموا بما تكلموا به إلا بعد الفحص والتثبت، لحسن ظنهم بهم. فإن ذلك تفريط في الدين والعقيدة وضياع لهما بوجه لا يعذر فيه العبد أمام الله تعالى. ولا سيما مع ما ورد عنهم (عليهم السلام) من أن أمرهم في ذلك اليوم أبين من الشمس. وحيث يدل ذلك على أن شبهات التشكيك والإنكار واهية يظهر بطلانها للمتبصر، ولكنها الفتنة والخذلان اللذين وعد الله تعالى بهما في قوله: {أحسب الناس أن يتركوا أو يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين} وقوله عز من قائل: {ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب} إلى غير ذلك مما يجب أن يتهيأ معه المؤمن للامتحان ويعدّ عدته له، ولا يسترسل في أمره، فإن صرعة الاسترسال لا تستقال.(3/11)
الثالث: الأمل بإخواننا المؤمنين وفقهم الله تعالى أن ينظروا إلى ما ذكرناه بعين التدبر والتبصر، وبحسابات العقل الذي منّ الله تعالى به على الإنسان ورفع به شأنه وأقام عليه به الحجة وبه يثيب ويعاقب، ويحذروا من النظرة العاطفية والانفعالية التي لا تستند إلى ركن وثيق، بل إلى الانخداع ببهرجة الأقوال وجمال الطرح والصورة، من دون تبصر في العواقب. وليحذروا أيضاً من التعصب والتقليد الأعمى إعجاباً بصاحب الدعوى، أو بسبب الانتماء لخطه والاقتناع به من دون نظر في التفاصيل. فإن ذلك قد يجرّ للمآسي والمهالك بنحو لا يمكن تداركه. وليعلموا أن المسؤولية عظمى والحساب عسير، وأن المحاسب هو الله تعالى الذي لا تخفى عليه خافية، وقد أتم الحجة وأكملها.
س7: كيف نستطيع تمييز الأعلم من بين المجتهدين؟
ج: العاجز عن الفحص بنفسه ليس له إلا الرجوع إلى أهل الخبرة، فإن الشيعة في عصور حضور الأئمة (عليه السلام) كانوا كثيراً ما يرجعون إليهم (عليه السلام) لتعيين من يرجعون إليه في أمر دينهم، كما أشرنا إلى ذلك - في جواب السؤال الخامس.
أما في عصر الغيبة وتعذر الرجوع لهم (عليهم السلام) فليس هناك شيء أقرب وأوصل من الرجوع لأهل الخبرة، وهم الذين بلغوا من العلم مرتبة تؤهلهم للتمييز بين المجتهدين بعد الإطلاع على آرائهم العلمية في الأصول والفقه، وعلى طريقة كل منهم في الاستدلال ومدى فهمه للأدلة، حيث قد يتضح لهم الأعلم حينئذٍ، فتجوز لهم الشهادة في ذلك، ويقبل قولهم.
س8: هل يجوز الاعتماد على الحدس في تعيين الأعلم؟(3/12)
ج: لا يجوز للإنسان الاعتماد على حدسه لعمل نفسه بأن يقلد اعتماداً على الحدس، لأنه من أتباع الظن والعمل به الذي تظافرت الآيات والأحاديث بالمنع منه، وأنه لا يغني من الحق شيئاً. إلا أن يبلغ مرتبة القطع واليقين، فيجوز. كما لا يجوز له الاعتماد على حدسه في الشهادة للغير بأعلمية شخص ليقلده، إذ لابد في الشهادة من اليقين قال تعالى: {أشهدوا خلقهم ستكتب شهادتهم ويسألون} وفي الحديث عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه قال: (هل ترى الشمس؟ على مثلها فاشهد أو دع) وعن الإمام الصادق (عليه السلام) : (قال: لا تشهدن بشهادة حتى تعرفها كما تعرف كفك). بل لا يجوز للغير الاعتماد على الشهادة الحدسية حتى لو كان الشاهد قاطعاً في حدسه متيقناً، بل يشترط في حجية الشهادة الحسّ.
س9: في مقدمة رسالتكم العملية أضفتم تمهيداً حول الاجتهاد والتقليد ما الذي دعاكم إلى ذلك؟
ج: كثيراً ما يختلط مقتضى التكليف الشرعي بالعادة والروتين، وتتحكم فيه العواطف والمصالح، فينحرف المكلف في تطبيق الحكم الشرعي غفلة وذهولاً عن حقيقة الحال، بل قد يتعمد بعض الناس ذلك ـ تبعاً للهوى ـ تسامحاً في أداء الوظيفة وتمرداً علها. ومن ثم يحتاج لمثل هذا الحديث تنبيهاً للغافل، وموعظة للمتمرد وهزاً للضمائر الشريفة، كما قال الله تعالى: {وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين}.(3/13)
كما أن هذا الانحراف قد يكون سبباً في تشويه حقيقة التقليد والمرجعية، لأن كثيراً من الناس لا يتسنى له أخذ الفكرة من مصادرها الأصيلة، بل يأخذها من واقع تطبيقها العملي، فإذا خرج التطبيق عن الضوابط الحقيقية عكس صورة مشوهة للفكرة، ولا سيما وأن الاجتهاد يحمل مفهوماً آخر في الواقع القائم غير الشيعي. فأردنا بهذه المقدمة بيان حقيقة الاجتهاد والتقليد والمرجعية عند الشيعة بواقعها بواقعهما المشرق المشرف حسبما اقتضته الأدلة الشرعية، ومن عين صافية. وبذلك نكون قد قمنا بما علينا من بيان الحقيقة والدفاع عن المرجعية الصحيحة، التي قد تظلم نتيجة الفهم الخاطئ لها.
س10: قضية تعدد المراجع الدينيين هل تعتبرونها حالة طبيعية، أو لا؟ وما هي إرشاداتكم لمقلديكم بهذا الخصوص؟
ج: لا ريب في أنها من الحالات الطبيعية بعد أن كانت أهلية المرجع للتقليد وأعلميته من الأمور الحدسية القابلة للاختلاف، وبعد أن كان للمكلف الاختيار في تعيين المرجع عند تعذر الاحتياط ومعرفة الأعلم. وبعد غياب العصمة قد تكون في تعدد المراجع بعض الإيجابيات ـ أحياناً ـ ، لأن وحدة المرجع قد تعرضه للاندفاع في الجري على قناعاته من دون تروٍ وتثبت بنحو قد لا تحمد عواقبه. كما أنها قد تضفي عليه هالة من الجلالة والقدسية، تجعل من سيرته سنة ثابتة لا يمكن الخروج عنها، وتمنع من النظرة الموضوعية لها وإخضاعها للنقد والتعديل. بل قد يتعدى ذلك لآرائه الفقهية، بنحو يعيق عملية الاجتهاد ممن بعده.(3/14)
نعم لا ريب في أن لتعدد المراجع سلبيات أيضاً لا يستهان بها، لكنها سلبيات لابد منها بسبب فقد المرجعية المعصومة نتيجة غيبة الإمام (عليه السلام) وينبغي أن تكون مثاراً للحسرة لغيبته ولانتظار الفرج بظهوره، وللنقمة على الظالمين الذي تسببوا في غيبته وحرموا الأمة من خيرات حضوره وتوليه لإدارة أمور المسلمين بنفسه. وعلى كل حال فهذه المرجعية بسلبياتها تبقى هي الحل الأفضل بعد أن تعذرت المثالية الكاملة بفقد المرجعية المعصومة.
أما وصيتنا لمقلدينا ـ وفقهم الله تعالى ـ فهي أن اختلاف التقليد لا ينبغي أن يكون منشأ للفتنة ولا سبباً للفرقة، ولا مثاراً للتنابز والتهاتر والشحناء والبغضاء، وعليهم احترام الآخرين ما داموا قد عملوا بموازينهم الشرعية التي قامت حجتهم عليها، والتلاحم والانسجام معهم والتعاون في سبيل الحق وخدمة المبدأ مع تبجيل العلماء العاملين المتقين وحفظ حقهم وتعظيم حرمتهم شكر الله سعيهم وأجزل أجرهم وسدد خطاهم ونفع بهم، وجعلنا ـ بتوفيقه ـ منهم.(3/15)
استجابة لطلب الإخوة .. إفراد موضوع سيناريو التكوين النفسي للرافضي المطبر منذ الطفولة
---
الحمد لله الذي هدانا للإسلام ، والصلاة والسلام على خير الأنام ، وعلى آله وصحبه المخلصين الكرام
إخواني المسلمين
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
فإنه وبعد ما رأينا من عناد واستكبار وتهكم الرافضة في هذا المنتدى حول ما يرونه من إثباتات وأدلة على عدم مشروعية الأعمال المشينة والأفعال المقيتة التي يقومون بها في عاشوراء ادعاءاً منهم بأن ذلك من بالغ محبتهم في الحسين وحزنهم على مقتله رضي الله عنه
وهو عن حزنهم المكذوب في غنى وعن دمائهم النجسة في غنى وهو في جنات عرضها السماوات والأرض بل هو سيد شبابها ينعم مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين
وهؤلاء الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا يعذبون أنفسهم بأيديهم تبعاً لأسلافهم الذين خرجوا يضربون أنفسهم ندماً على غدرهم بالحسين وعلمهم بعظم الجرم الذي تلطخت به أيديهم الآثمة المجرمة
والله أعلم أن ذلك أيضاً استجابة من الله عز وجل لدعوة الحسين رضي الله عنه عليهم لما فعلوه به
" اللهم إن متعتهم إلى حين ففرقهم فرقا ،
واجعلهم طرائق قددا ،
ولا ترض الولاة عنهم أبدا ،
فإنهم دعونا لينصرونا ،
ثم عدوا علينا فقتلونا "
الإرشاد المفيد ج2 ص110
وهذه الأفعال لم يأمر بها الله عز وجل ولم تكن يوماً شريعة للإسلام
بل إن اللطم والنياحة وشق الجيب من أعمال الجاهلية التي حذر منها ونهى عنها نبينا صلى الله عليه وسلم
مسألة اللطم والتطبير يطول الحديث عنها وقد وفيت حقها في المنتدى لذلك أكتفي بهذه المقدمة
أما هذه القصة التي تسرد التكوين الواقعي النفسي للروافض
فهي لتذهب عن كثير منكم تعجبه من عقلياتهم وبعدهم عن دين الفطرة والوسطية
فرغم ما أتينا به للرافضة المطبرين في المنتدى من أدلة عقلية ونقلية
وجدنا منهم غياب العقل والحكمة والتعالي على الحق(4/1)
والسخرية والكذب والتهكم
فهاكم نعيش سويا قصة موالي جعفري حيدري وبقية المطبرين أمير وفرقته منذ طفولتهم
حتى أصبحوا أعضاء في المنتديات يدعوننا للنياحة والتطبير بحجة الحزن على الحسين رضي الله عنه
============ قصة اغتيال فطرة الإسلام منذ الطفولة =============
عندما كان موالي جعفري طفلاً بريئاً لا يعرف من الدنيا غير الحليب
والبكاء والابتسام والرغبة بالذهاب إلى الحمام ( أجل الله المسلمين )
وإذا به يمر بذلك اليوم العصيب
يوم غير حياة هذا الطفل البريء المولود على الفطرة
حيث بدأ التمجيس من والديه
( أو والدته فقد يكون والده نام عند والدته في ليلة متعة وذهب في حال سبيله )
هذا الطفل المسكين بينما هو نائم ويحلم بالحليب وهو ممسك برضاعته
وإذا بوالدته تحمله من سريره الناعم وتنتزع رضاعته الغالية على قلبه
وهي تصرخ وتصيح وتضرب نفسها وتشق جيبها
تقافزت أعين طفلنا البريء للخارج وبلغ قلبه حنجرته وكادت تقف أنفاسه
ماذا حصل ماذا يجري أين تركض بي والدتي ؟؟؟!!!!!!
إنها تخرج به إلى الشارع
وياللمصيبة ... ليست والدته فقط
الناس جميعاً من حوله يصرخون ويلطمون والدماء على رؤوسهم
هل حدث حرب في البلاد وانهمرت على الناس القنابل والصواريخ ؟!
الكل يركض والكل يعوي ويلطم .. رايات سود وصرخات مرعبة
ولا زالت أعين طفلنا البريء تتقافز يمنة ويسرة ولا يكاد يصدق ما يراه
هل هو في كابوس مزعج أم هو جاثوم شد على قلبه الصغير الوثاق
وفجأة .............
يا للكارثة
أمه تتحول إلى وحش كاسر
وتنظر إليه بنظرات ملؤها الحقد والترقب
تسلمه لأحد الرجال الواقفين على جانب الطريق
والدماء تتقاطر من رأسه على ملابس طفلنا البريء
ثم تأخذ ساطوراً لو رآه ديناصور لفر هارباً !
ماذا تريدين يا أماااااه
يصرخ الطفل المسكين
وإذا بأمه وقد أحكم عليه الرجل الوثاق
تضع الساطورة على رأس الموالي المسكين
وتفتح رأس ولدها وملء(4/2)
فمها ابتسامة السعادة والرضى
خذ ما تستحق يا موالي فقد قتل أجدادك الحسين حفيد رسول الله
الآن وقد سالت دمائك فقد اطمئن فؤادي يا ولدي
وإذا بدماء الطفل المسكين تخالط حليبه وتملأ أحشائه
ومنذ ذلك الحين
وطفلنا الموالي المسكين
يتذوق طعم دمائه كل عام
حتى أدمن الدماء
وأصبح يشق رأسه بيديه
ويقول يااااااااااااا رب
خذ من دمي حتى ترضى على ما جنته أيدي أسلافنا بقتل سيد شباب أهل الجنة
وهكذا
تمر السنين ويبقى هذا هم موالينا بعد أن كبر وتعلم الكتابة والمشاركة بالمنتديات
يذهب عندما يحين الموعد مدعياً بكائه على موت الحسين
وهو في الحقيقة يعاني من آثار نفسية غرست في عقله منذ طفولته
والد مجهول ... وجسد نبت على الحليب والدماء
وأهله كل ليلة في بيت يمارسون القربة إلى الله بالمتعة
فأمه عند فلان
وأخته عند فلان
فيا معشر أهل السنة الكرام
لا تثقلوا على عقل قد أقضته مسرحيات الحزن والعزاء منذ الطفولة
ولنحمد الله أن رزقنا حب الحسين كما ينبغي وكما يرضى ربنا عز وجل
وأن الله هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله(4/3)
اسرار مرقد العباس عليه السلام
منذ سقوط النظام الدكتاتوري والكثير من الاصدقاء والمعارف والقراء يذكرونني بالموضوع الذي نشرته في مجلة”الف باء “ في آب 1998 بعنوان”أسرار الحضرة العباسية المطهرة “ ويطلبون مني اعادة كتابته بحرية لاعتقادهم بأنني أخفيت الكثير من الحقائق والاسرار تحت وطأة الرقابة والخوف وضيق مساحة الحرية.. وآخر ما وصلني بهذا الشأن ما حمله لي مراسلنا في البصرة وهو طلب عدد من القراء في البصرة اعادة نشر الموضوع...
بمناسبة ذكرى استشهاد الامام الحسين”ع “ في شهر محرم الحرام.. لاسيما وان الكثير من القراء لم يحصلوا على عدد”ألف باء “ الذي نشر فيه هذا الموضوع، وكما يعرف الزملاء في”الف باء “ بأن هذا العدد نفد حتى من أرشيف المجلة كما اخبرني السيد عبودي”ابو احمد “ مدير مكتب رئيس التحرير الذي قال ان المسؤولين في ديوان الرئاسة والوزراء كانوا يطلبون نسخاً من هذا العدد حتى بعد أشهر من نشره.. تبدو لي اعادة نشر هذا الموضوع عملية قد لا تكون مسوغة في هذا الوقت خاصة انني وبعد اكثر من سنة اعدت نشر الموضوع في مجلة السياحة بطلب من المسؤولين فيها، غير ان طلب القراء في البصرة وازاء اهمية شهر محرم وجدت ان المناسب الاجابة على الكثير من الاسئلة التي اثيرت حول الموضوع خاصة تلك التي لم استطع الاجابة عنها وستكون اجابتي من خلال سرد قصة الموضوع كاملة.. الموضوع الذي اعتز به كوني اول صحفي ينزل الى قبر الامام العباس عليه السلام ويكتب عنه. البداية.. كانت سؤالا في مثل هذه الايام من شهر محرم وفي جلسة عائلية، سألتني امرأة عن مدى صحة جريان نهر العلقمي تحت ضريح الامام العباس”ع “، وتطور الحديث عن اعتقاد البعض ان جثة الامام مازالت طافية على مياه النهر ولم تتحرك منذ استشهاده وحتى الآن.. بدا لي المشهد في غاية السريالية، لكن الناس صدقته وقد سمعته اكثر من مرة، لاسيما بعد ان نشرت بعض الصحف الاسبوعية التي يشرف(5/1)
عليها عدي عدة اخبار عن استخراج مياه من قبر العباس”ع “ للاستشفاء وتباع بأسعار عالية جداً. المرأة - وهي زوجة صديق - اقترحت علي ان اكتب موضوعاً يجيب عن الكثير من الاسئلة بعد زيارة الضريح فواجب الصحافة كشف الحقائق وتفنيد الاشاعات.. سيكون أجري عند الله كبيراً.. كما قالت. في البداية استصعبت كتابة موضوع عن القبر الاصلي للامام العباس”ع “، وكيف يمكنني ان أنزل الى”العلقمي “، لكن ما استفزني ما سمعته من أحد الاشخاص بعد أيام حيث قال: ان احد أقاربه نزل الى القبر الاصلي بواسطة احد رجال الدين وشاهد النهر مازال يجري تحت الضريح والاكثر من ذلك انه شاهد ذراع العباس”ع “ مازالت طرية تنز دماً على ضفة النهر؟
بالرغم من تفسيري لهذه المعتقدات والاساطير في زمن الجوع والاضطهاد إلا أنني جربت أن أحاول، وفعلاً في اليوم التالي دخلت على الاستاذ أمير الحلو رئيس تحرير”ألف باء “ وشرحت له الأمر مع طلب بأن يزودني بكتاب الى محافظ كربلاء للسماح لي بالنزول الى القبر الاصلي، ضحك امير الحلو وقال لي:
- الموضوع حساس وربما يخلق لنا مشكلة خاصة وانني من النجف وانت من الجنوب وهذا ما يسهل على الحكومة اتهامنا بالطائفية..
شرحت له الاسباب التي دفعتني الى تبني الموضوع وليس بينها اي سبب طائفي او حتى ديني فالخطورة اننا نتداول الاشاعات والاساطير في زمن الاعلام والفضائيات.. رئيس التحرير كان متفهماً جداً. وأضاف لي معلومة، بأن ما موجود هو مياه جوفية وعندما كان مديراً عاماً للسياحة حاولوا سحب المياه من تحت القبر الشريف وتم التعاقد مع شركة هندية لهذا الامر، وكان رأي المهندسين ان سحب المياه من تحت القبر سوف يؤدي الى انهيار الضريح، فاستعملت الشركة الهندية تقنية حقن الارض بالاسمنت قبل سحب المياه، ومع ذلك لم تنجح الطريقة. بعد ذلك وافق رئيس التحرير على تزويدي بكتاب تسهيل مهمة الى المحافظة لا يتضمن أية تفاصيل بشأن السماح لي بالنزول الى(5/2)
القبر الشريف. وقال لي:
- انت وشطارتك.. فكر كيف تقنع محافظ كربلاء بالنزول الى القبر.. لكن تجنب الحديث عن الكرامات لكي لا تخلق مشكلة فهم حساسون من هذا الامر..
في كربلاء.. مخاوف وكرامات
من هيبة القبة الذهبية والمئذنتين الشامختين وسطوة الاواوين والاروقة حيث حفيف اجنحة الرحمة والخشوع والاجلال وشواهد التاريخ المعلنة والمخفية الى ذرا التربة المعجونة بالدم الطاهر الذي عزز روح الامة الاسلامية بأقوى”لا “ تحفظها ذاكرة البشرية وصارت مناراً لكل الثوار على وجه الارض.. كانت رحلة شاقة جداً، وأصعب ما فيها إنها رحلة تبحث عن يقينها..
الخطوة الاولى كانت الى السيد مهدي الغرابي سادن الروضة العباسية في حينها، استقبلنا الرجل بشيء من التحفظ برغم ترحيبه بنا. وعندما طلبنا منه النزول الى سرداب القبر الشريف، قال: هذا غير ممكن بتاتاً ولا يسمح لأي شخص بالدخول إلا من خلال ديوان الرئاسة.. لم أتركه أخذت أشرح له الامور واقنعه بأن ما نقوم به هو خدمة للاسلام فبدأ يتعاطى معنا وأخبرنا ان البعض يتاجر في هذه المياه”مياه النهر المزعوم “ حيث تباع قنينة الماء الى الزوار الايرانيين ما بين 100 - 200 دولار، احدى الصحف وجهت التهمة الى الغرابي بأنه يتاجر بالمياه التي يقال انها تغسل جثمان العباس”ع “.. هنا امسكت شيئاً ما وقلت للغرابي: نحن نثق بك وجئنا لكي تدافع عن نفسك ضد”افتراءات “ الصحف الاسبوعية عليك.. فعرض علينا ان يشرح لنا كل تفاصيل وجغرافية السرداب والقبر، قلت له: أنا لا أكتب عن السماع وإنما أعتمد على عيني..
بعد أكثر من ساعة على الحديث مع الغرابي، حدث تحول، وقال:
- لا استطيع ادخالكم لأن المفتاح عند المحافظ.. خذوا موافقته وانا لا مانع لديّ..
قلت له: المحافظ هو صابر الدوري.
قال: وما به؟
قلت: كيف أتكلم معه بالموضوع وهو مدير مخابرات ومدير الاستخبارات السابق ومن المقربين جداً للرئيس.. أخاف ان يتهمني بالطائفية(5/3)
فمهما يكن هو رجل عسكري ومخابراتي واستخباراتي.
قال: مع ذلك هو رجل طيب.. جرب ان تزوره.
أخذت بعضي ومعي الزميل المصور سمير هادي وذهبنا الى مبنى المحافظة وهناك التقينا الشاعر حسن النواب وبعد جهود مضنية تمكنا من مقابلة محافظ كربلاء الفريق الركن صابر عبد العزيز الدوري بمساعدة حسن النواب.. وبينما كنت ابحث عن مدخل للحديث اعتذر مني المحافظ بسبب التأخير في مقابلتي، وكانت هذه اول جملة كسرت حدة ملامحه التي كنت اجدها قاسية، ربما لأسباب نفسية فأنا أخشى الحديث مع رجل مخابرات فكيف لي التحدث مع مدير جهاز المخابرات كله ومدير الاستخبارات العسكرية كلها في زمن حربنا مع ايران حيث كنت احسب الف حساب لجندي حضيرة الاستخبارات في وحدتنا العسكرية.
هذه المخاوف والهواجس جعلتني استحضر افضل ما لدي من ثقافة ووسائل اقناع. وكان الرجل يستمع لي بهدوء مع حركة ماهرة من عينيه تدلل على النباهة، وعندما كررت عليه عبارتي”انني لن اكتب عن الكرامات وانما اريد ان نكشف الحقائق للناس خدمة للمجتمع والدين والوطن “.
سألني بشيء من العصبية:
- لماذا لا تكتب عن الكرامات؟.. انك تكتب عن سيدنا العباس.
قلت له: اخشى ان اتهم بالطائفية، كما انه لا يسمح بتناول الكرامات في الصحافة والاعلام!
سألني مبتسماً: تخاف من الحكومة؟
ابتسمت مرتبكاً وقبل ان اجيبه اضاف:
- هذا شيء لا علاقة له بالطائفية ولا بتعليمات الحكومة.. ان الله قادر على ان يضع آياته في كل شيء، فلماذا نستكثر ان يضع الله سبحانه وتعالى آياته في هذا العبد الصالح سيدنا العباس”ع “، الذي حرم نفسه من شرب الماء لعطش ابن بنت رسول الله فكرمه ربنا بأن جعل قبره محاطاً بالماء.. أليس هذا تفسيراً معقولاً.
قلت.. بلى.. لكن يقال ان هذه مياه جوفية.
قال: صحيح.. لكن لماذا لم تظهر هذه المياه في مكتبة ضريح الحسين”ع “ والتي هي بنفس العمق ولا تبعد الحضرة الحسينية عن الحضرة العباسية كثيراً.. أليست(5/4)
هذه كرامة.. أكتب على مسؤوليتي اذا أردت، أنا شخصياً كنت شاهداً على كرامة هذه المياه.. قبل أسابيع اتصل بي هاتفياً رئيس ديوان الرئاسة احمد حسين خضير وأخبرني بوجود برفيسور هندي تعاني ابنته من الصرع الدائم وامراض اخرى وفي الرؤيا نصح الأب البروفيسور بأن يذهب بابنته الى سرداب قبر العباس”ع“ فبغير هذا لن تشفى، وفعلاً اتصل البروفيسور الهندي بصدام حسين وطلب منه السماح بزيارة سرداب القبر والاخذ من مائة وها هو امر الرئيس بالسماع بالزيادة .. وفعلاً جاء البروفيسور وابنته ودخلا السرداب وغسلت ابنته بالماء وشفيت فوراً.. ولدي الكثير من القصص..
قلت له: أنا أصدق وأؤمن بما تقول لكن انت تعرف ان الاعلام تابع للدولة.. ألف باء مجلة رسمية!
ومن ثم سألني الدوري: هل عندك قدرة على النزول الى السرداب ومواجهة قبر سيدنا العباس؟
طريقة القاء السؤال فيها شيء من الخشوع والتحدي والتحذير، لكني أجبته مباشرة:
- نعم.. أستطيع فأنا أمام مهمة خطيرة تخص ملايين المسلمين وتخص الكثير منهم الذين يعتقدون ان جثة الامام العباس مازالت طافية على النهر وان النهر مازال يجري.
- أود أن اخبرك، انه بعد قضية البروفيسور الهندي اتصل بي قاسم سلام عضو القيادة القومية مسؤول الحزب في اليمن وطلب مني الدخول الى القبر، وقد جاءني فعلاً.. ولكنه ما أن نزل درجتين من سلم السرداب حتى اصطكت ركبتاه واجهش بالبكاء ثم انهار واخرجناه قبل ان يصل الى القبر الشريف.. أعطيك هذه الصورة لكي تعرف ما معنى زيارة قبر سيدنا العباس”ع“..
- أنا مستعد لذلك وأعرف أشياء اكثر مما قلته عن كرامات الامام العباس”ع“.. عندها، رفع الفريق صابر الدوري سماعة الهاتف وكلم السيد الغرابي وأمره ان يفتح لي باب السرداب والنزول الى القبر وان افعل ما أشاء من دون تقيد.. وضع سماعة الهاتف والتفت لي:
- ادخل واكتب وصوّر.. وأرجو أن لا تخذلني بالكتابة؟
حكاية النهر
على مدى يومين منحهما لنا(5/5)
من وقته سادن الروضة العباسية مع سادن الروضة الحسينية حاولنا الخروج بإجابات عن عشرات الاسئلة.. بدأنا البحث عن نهر العلقمي هل هو فعلاً يجري تحت الحضرة المقدسة.. من خلال اطلاعنا على بعض الكتب في مكتبة الحضرتين وجدنا ان الامام الحسين”ع “ اختار مكان معركة الطف على وفق رؤية عسكرية مسبقة، حيث نصب مخيماته بين مجموعة من التلال محاطة بقرى الفاخرية والنواويس ونينوى وكور بابل التي ترجع اليها تسمية كربلاء.. والى الخلف بعيداً عن”التل الزينبي“ هناك هور يشكل حماية طبيعية خلفية لمعسكر الحسين”ع“ وفي الامام يقع نهر العلقمي الذي هو فرع من نهر الفرات القديم وقد اندثر منذ قرون ويبعد مكانه عن مرقد العباس”ع“ بمسافة ”150 ـ 200“ م قريباً من مقام سقوط الكف الايسر.. حيث تدل هذه الامكنة على مسار حركته”ع“ عندما أخذ الماء من النهر ومن ثم قطعت يده اليمنى وبعد ذلك قطعت يده اليسرى بمسافة قبل ان يسقط صريعاً في مكانه الحالي..
بناظير بوتو تمنع تصوير القبر.
زميلي المصور سمير هادي هيأ نفسه لالتقاط صور القبر، اذ إنه سوف ينزل ويكشف الحقائق بالصور.. عند باب الضريح وعندما لاحظ السيد الغرابي استعدادات المصور قال لي:
- صحيح ان المحافظ وافق على التصوير لكن لي رجاء فأنتم مسلمون واعتقد ان تصوير القبر يمس حرمة الامام، أنا لا أمنعكم لكن اعتقد ان في الامر شيئاً من مس الحرمات، وأسرد لك ما روته لنا بناظير بوتو وزوجها عاصف زادة عندما زرناهم في الباكستان قبل سنوات، حيث انعقد المؤتمر الاسلامي هناك، وقد اقامت بوتو وزوجها دعوة غداء في بيتها للوفد العراقي واتذكر ضمن ما قاله عاصف زادة حيث كان قد خسر الانتخابات مع زوجته بناظير:”لا نستغرب خسارتنا الانتخابات واتهامنا بالفساد لأننا اعتدينا على حرمة العباس”ع “ فعندما زرناه دخلنا على قبره في السرداب، وهذا لا يجوز.. تصور انك تدخل على رئيس جمهورية وهو نائم، وفي ملابس النوم.. هل يجوز(5/6)
هذا؟ فكيف فعلنا ذلك مع العباس “ علماً ان بوتو عندما دخلت السرداب منعت المصورين الذين يرافقونها من تصوير السرداب والقبر احتراماً للعباس”ع “.
عندها طلبت من الزميل سمير هادي ان يغض النظر عن التصوير وفعلاً استجاب لطلبي وأعاد كاميرته الى حقيبته وعاد الى بغداد.. دخلنا الحضرة العباسية المطهرة.
عند الزاوية الشمالية الغربية من الحضرة في مصلى النساء فتح لنا باباً فضياً عملاقاً حيث دخلنا غرفة مربعة وطلب منا ان نخلع ملابسنا بعد ان أغلق الباب خلفنا الزميل حسن النواب الذي رافقني. بدأ يثير الاسئلة بعد ان لاحظت الخشية تسيطر عليه وكأنه يتردد في النزول الى السرداب.. لكن السيد زكي الذي اوكلت له مهمة مرافقتنا وتأدية طقوس الزيارة نادانا قائلاً:”توكلوا على الله “ بعد ان فتح أقفالاً في الارض ورفع شباكاً حديدياً يغلق مدخل السرداب..
من الخارج شاهدت الماء الذي كان حكاية الحكايات بالنسبة للكثير من الناس.. هبطنا درجات من المرمر الابيض المزخرف بخطوط سود، كانت ثماني درجات، ومع كل درجة اهبطها كان الماء يتسلق ساقي حتى استقر فوق ركبتي، عندها وجدتني في دهليز يبلغ عمقه نحو مترين وعرضه اكثر من متر يمتد امامي بعمق متساوٍ لكنه ينحني مشكلاً دائرة شبه مضلعة، مضاءة بمصابيح كهربائية اعتيادية.. كانت المياه صافية مثل الزلال بحيث كنت أرى من خلالها تفاصيل خطوط أظافر قدمي، بالرغم من طبقة الغبار الخفيف المتسلل من فتحات جانبية تشكل نهايتي دهليزين جانبيين ينفتحان خارج مبنى الروضة للتهوية ولكن بمسافة بعيدة عن الدهليز الدائري..
اول شيء فعلته هو انني شربت الماء لأتذوق طعمه، فكان عذباً ونقياً وليس مجاً او مالحاً كما هو شأن المياه الجوفية، وعلمت انه محافظ على مستواه حتى وان تغيرت مناسيب المياه الجوفية في اراضي كربلاء..
في اثناء تقدمنا لم يتغير صفاء الماء بالرغم من ان السيد زكي قد سبقني مؤدياً طقوس الزيارة والبسملات(5/7)
والحوقلات والصلوات، سقف الدهليز الذي يشكل ارضية الحضرة المطهرة في الاعلى مبنية من الاسمنت والجانبان من الطابوق، الجانب الخارجي مبني بالطابوق الحديث، اما الداخلي الذي يشكل غلافاً للكتلة الدائرية التي يستدير عليها الدهليز فأغلبها مبني بالطابوق الفرشي القديم يعود الى عصور ماضية متعددة حسب فترات الترميم، بعضه مبني بالاسمنت، والبعض الآخر بالنورة والرماد حيث لا يوجد اسمنت آنذاك..
الكتلة الدائرية التي يستدير عليها الدهليز تكاد تكون بقدر مساحة الحضرة، حيث يقوم في الاعلى الصندق او الخاتم المصنوع من الصاج الفاخر ومطعم بالاصداف والزخارف النادرة وعليه الشباك الفضي المغطى بالذهب الخالص المزين بالآيات القرآنية والزخارف النباتية والفنية. اما الدهليز الذي نمشي فيه فيكاد يكون تحت رواق الطواف على الشباك تماماً.
بعد خطوات ينفتح في الكتلة الدائرية دهليز آخر أضيق قليلاً ويشكل قطراً للكتلة الدائرية، وفي منتصف القطر الذي هو منتصف الكتلة الدائرية ينهمر ضوء ساطع على فراغ حيث يقوم القبر المطهر الشريف مغموراً بالضوء بشكله المربع الذي تقدر مساحته بحدود”3 × 3 “ م. هنا وجدت رأسي يمتد ويتوقف محشوراً في المنتصف، يتملى القمر الهاشمي المضمخ بدماء الشهادة والثبات بلا ذراعين تحوم حوله تلك الهالة العظيمة التي صنعها شرف النسب والمواقف والموت التراجيدي للبطل. في هذه اللحظة اختلطت عليّ الوقائع والمخيلة عندها تذكرت كل ما قيل عن العباس”ع“ ولم استغرب كل ما يتداوله الناس بشأن هذا الولي الصالح، فهو من المنظور الميثيولوجي طبيعي جداً على وفق معطيات”الموت التراجيدي للبطل “ فكيف الامر والروايات التاريخية تشير الى انه عندما صال العباس على الظالمين الذين يحولون بين آل الرسول”ص “ والماء، انشقت امامه الجيوش وانكشفت المشرعة بعد ان انشغل المارقون بالتطلع الى بهاء طلعته وجمال وجهه الذي منحه لقب”قمر بني هاشم “، اضافة الى ضخامة(5/8)
جسده، حيث يقال انه”ع “ اذا ركب الفرس خطت قدماه في الارض وقد استشهد وعمره”34 “ سنة..
ازاء هذا الخاطر وجدت ان الاسمنت يغلف هالات من النور والتقوى وهي بعض اسرار قداسة ارضنا.. سألني حسن النواب: هل تشم هذه الرائحة الطيبة؟ لم أجبه. فأنا واقف الآن تماماً على المكان الذي جلس فيه الحسين”ع “ يتفقد جراح اخيه، فقد انشغلت بتحديد الاتجاه الذي ركض به سيد الشهداء الامام الحسين”ع “ بعد مصرع اخيه وحامل لوائه.. تنحيت عن مكاني ومن ثم دسست رأسي وكأني احاول تحديد المكان الذي جلس فيه الحسين ”ع “ ووضع رأس أخيه المفلوق في حجره .. من كان يشكو لمن ؟العباس الصريع ام ا لحسين الوحيد؟.. كأني اسمع حوارهما، غير آبهين بقعقعة السيوف وتصرفات الخبثاء.. المكان نفسه لم يتغير وهذا ما اشعل مخيلتي فجثمان العباس”ع “ الوحيد من بين شهداء الطف لم ينقل من مكانه ودفن في مكان مصرعه.. الدم يتوهج وارهف السمع لحوارهما.. لكن صوت الحوراء زينب جاء مشروخا مرعوبا وهي تنادي من على التل الذي سمي فيما بعد” التل الزيبني “ فجيوش ابن سعد اضرمت النيران في خيم النسوة والاطفال.. ياه.. ما اشدها من محنة من محن سيد الشهداء في تلك اللحظات وذلك اليوم.. فما بين الحوار الاخير مع حامل لوائه الذي يلفظ انفاسه الاخيرة، وما بين عويل النسوة واليتامى ومن رعب النار التي اشتعلت في اذيال ثيابهم.. وجد سيد الشهداء نفسه حائرا.. لم اسمع ولم اقرأ كلمات الوداع الاخير.. فقد نهض وحمل سيفه ليذود عن حرم رسول الله.
كان ثمة فراغ بين القبر وكتلة الدائرة التي بدا التهري على طابوقها الفرشي لقدمه.. اختلط علي الضوء والماء، ثمة رسائل واوراق تطفو ما بين الماء والضوء، التقطها وافضها برغم بللها واحاول ان اقرأها، انها رسائل شكوى واستجارة بهذا الولي الصالح من ضيم الدنيا، حاولت قراءة الاسماء والكلمات كانت رائحة الفجيعة محسوسة من الحبر المنتشر على الورق بفعل المياه، بعد لحظات(5/9)
اجد صورتين لفتاتين كانت المياه قد شوهت الكثير من ملامحهما، تساءلت كيف وصلت الرسائل والصور الى هنا؟.. ولماذا استجاروا بولي بلا ذراعين مكبل بالاسمنت، تذكرت ما قاله لي صابر الدوري:”بالرغم من ايماني بالعلم لكني لا استغرب ان يضع الله سبحانه وتعالى آياته في بعض اوليائه الصالحين “ اذن انه الايمان المطلق بالله ومن ثم بالاولياء الصالحين.
استدرت في الدهليز، اجتزت النصف الايسر من الكتلة الدائرية وتوقفت عند الطرف الاخر من الدهليز الوسطي الذي يشكل قطر الدائرة واطل مرة اخرى على القبر.. المياه لا تغمر القبر وانما تصل الى نصف ارتفاعه وثمة فراغ بين القبر والكتلة الدائرية.. يلوح من تحت الماء فيها الكاشي الكربلائي الذي بلطت فيه الارضية المحيطة بالقبر وكأنها وضعت فاصلة بين القبر ومن يريد الاقتراب منه.
ثمة تصدعات في قشرة الاسمنت التي تغطي القبر تغريني بالتحديق وكأنها ستقودني الى رؤية ما في القبر.. ذراعان مفتولتان مبتورتان من الساعد.. قربة مزقتها السهام.. انكسار شديد يغشي العين التي نبت فيها السهم الطائشي اذ تقل الحيلة وتعز الوسيلة ونداء العطش يطبق على الافاق.. فأين كانت هذه المياه من تلك اللحظات التي اشعلها العطش؟؟
اسحب رأسي واستدير على النصف الايمن من الكتلة الدائرية اذ اجد دهليزا ثالثا يقود الى منتصف الدائرة”القبر “ لكنه متعرج واضيق من ان تمد رأسك فيه فتعلق عند منتصفه بالطين، من الواضح ان يعود الى عصور تاريخية ليست قريبة.. اتركه لاجد نفسي عند نقطة الانطلاق اذ تنتهي الدائرة فاصعد الدرجات المرمرية حاملا معي اجابات عن الكثير من الاسئلة التي بدت لي غامضة قبل نزولي السرداب ولاجد السيد الغرابي بانتظاري.
خزائن ونفائس
سألني الغرابي: هل وجدت شيئا من الحكايات والخزائن والنفائس الملقاة على القبر؟
قلت له: كلا لم اجد شيئا.. لكن اين الخزائن؟
وهنا راح يوصف لي الخزائن بأنها نفيسة ونادرة محفوظة في(5/10)
مكان لا يستطيع الافصاح عنه وفيها سجلات خاصة لديه ولدى الاوقاف ولدى ديوان الرئاسة وتضم هذه النفائس تيجان من الذهب والفضة والاحجار الكريمة والدرر مهداة من ملوك وامراء ورؤساء وشخصيات من شتى الفترات التاريخية ومن مختلف بقاع الارض، وسجاد ثمين وثريات نادرة، فضلا عن مكتبة عامرة تضم نفائس المخطوطات والكتب النادرة وهذه جميعها تشكل احد اسرار الروضة العباسية المطهرة التي لم يخبرني عنها الغرابي بالرغم من اننا اصبحنا اصدقاء فيما بعد وزرت القبر من خلاله مع بعض الاصدقاء اكثر من مرة.. وقد سألت الغرابي وقتها: وهل اضاف صدام شيئا لهذه الخزائن؟
ضحك وكأنه فهم السؤال: السيد الرئيس باستمرار يرعى المراقد الدينية، واخر ما تبرع به للروضة العباسية 44 كيلو غراما من الذهب و150 كيلو غراما من الفضة لتذهيب طارمة الروضة.
من اين جاء بهذه الكمية من الذهب؟
مسك الغرابي يدي وسحبني اليه وهمس لي:
- الذهب مال العباس من النذور التي نجمعها ولدينا كميات كبيرة منه لكن صدام”يأمر “ بأن نصرف منه كذا كمية فيقال عنها مكرمة لكنه في الحقيقة لم يدفعها من جيبه ولا من امواله.
تاريخ الضريح المطهر
دفن الامام العباس”ع “ مع اخيه الحسين”ع “ وشهداء الطف بعد ثلاثة ايام من استشهادهم اي في الثالث عشر من محرم الحرام ولم يكن في هذه الارض اي معلم او بناء.. اول بناء اقيم على قبره الشريف هو سقيفة بناها المختار بن عبد الله الثقفي سنة 67 هجرية، وقبل ذلك علمت القبور من قبل الامام زين العابدين علي بن الحسين”ع “ وكان القبر معمورا في خلافة بني امية واول الخلافة العباسية. وفي سنة 247 قام الخليفة العباسي المتوكل بهدم قبري الحسين والعباس”ع “ وزرع فوقهما الزرع وجعل الثيران ترحث فوقهما، بينما كانت زوجة الخليفة تعمل بالسر على ادامة القبرين لكي لا يضيع اثرهما حتى مات المتوكل وجاء ابنه الذي اعاد القبرين واعاد لهما هيبتها. وفي سنة 369 هـ اقام(5/11)
الخليفة العباسي الطائع لله بن المطيع بناءً جليلا عليه ويعد اول بناء ضخم انشيء على القبر وفي سنة 1221 هـ بنيت اول قبة عليه ومئذنتين بناها امين الدولة الصدر الاعظم وغلفها بالكاشي الكربلائي. في سنة 1306 هـ امر السلطان العثماني عبد الحميد الثاني بتسقيف الايوان القبلي بالخشب الصاج الثمين، وحدث تطور على عمارة الضريح سنة 1339 هـ عندما ذهبت الواجهة الامامية من الايوان القبلي وهذه اول مرة يدخل فيها الذهب على المرقد- كما يقال - وفي عام 1955 م غلفت القبة بالذهب بعد ان كانت مغلفة بالكاشي الكربلائي.
اصداء
بعد نشر الموضوع في مجلة”الف باء “ حدثت اصداء كثير سواء في الشارع ام في اعلى مستويات الدولة، اذ نوقش الموضوع في اجتماع مجلس الوزراء وقرر تشكيل لجنة لسحب المياه الجوفية..
في اثناء ذلك اتصل بي الفريق الركن صابر الدوري من خلال الزميل حسين فوزي مدير تحرير”الف باء “ ودعاني لزيارته انا وعائلتي، وفعلا ذهبت الى كربلاء ومعي احد الاصدقاء. وقال لي: انت اسعدتني بالموضوع ولم افرح منذ زمن فكيف تريد ان افرحك؟
أجبته بأنه فرحني عندما سمح لي بالانفراد بهذا السبق الصحفي، عندها قال لي: انا وانت يجب ان نصبح اصدقاء ولانك تكتب بهذه الطريقة الهادئة التي اثارت اهتمام”القيادة“.. سأطرح عليك موضوعاً مهماَ جدا يعطيك سبقا اخر، يخص ضريح سيدنا الحسين”ع“.
ومن ثم راح يروي لي قصة طويلة عن الصخرة التي حز عليها رأس الحسين الشريف الموجودة في مكان ما من المرقد اذ تفوح منها رائحة زكية لم يعرف مثلها يقال انها انفاس فاطمة الزهراء”ع“ التي شهقت عند حز رأس ولدها الشريف وبقيت تفوح منها حتى الان.. واكد انه لم يصدق الموضوع الى ان باغته السادن في ساعة متأخرة بعد منتصف الليل وبعد تنظيف وغسل الحضرة المقدسة، اذ زار الصخرة وشم الرائحة.. واكد الدوري ان هذه كرامة اخرى من كرامات آل البيت يجب الكتابة عنها..
قلت له: هل تعتقد ان(5/12)
المسؤولين سيصدقون ما اكتب ومن يحميني منهم؟
قال: هذه حقائق
قلت: هل تتكفل بحمايتي
قال: لا اتدخل في الاعلام
عموما كانت مبادرة جميلة ورائعة من الرجل، فقد كان محبا لآل البيت ولأهل كربلاء ومخلصا لهم.. اتمنى ان تتسنى لنا الفرصة او لغيرنا للكتابة عن هذا الموضوع.(5/13)
اشكالات الحكومة الدينية
نشر ني ، 883 صفحات
الطبعة الاولي : نيسان 2000، الطبعة الثالية تشرين 2000
---
الحكومات الدينية ، فضلاً عن الاشكالات التي تعترض الحكومات عامة ، فان لها اشكالاتها الخاصة ،و يمكن تقسيمها الي قسيمين ؛ النوع الاول : هل مثل هذه السياسات و الحكومات تستطيع القيام بالحدالاقل من وطائف احدي الحكومات و سياساتها المتعارف عليها أم لا، أم أنها لاتجعل الادارة فداءللهداية ؟ هل اضافة الي اداء التكاليف الالهية و الاحكام الشرعية ، تراعي حقوق و حريات الشعب ايضاً؟ هل أن التقديس الديني للقدرة و السلطة السياسية لايقود الي اقفال طرق الرقابة و النظارة والانتقاد و بالنتيجة يقود ألي الاستبداد الديني و فساد السلطة السياسية ؟
من جهة أخري ، والاهم من اشكالات النوع الاول ، الا يتحول الدين تدريجياً ثمناً للدنيا؟ و قدم الدين يوظف لتأمين السلطة البشرية اليومية ؟ الا تفقد الرحمة التي هي جوهرة الدين ، رونقها في داخل دولاب السلطة السياسية ؟ الا يصبح الدين الرسمي حاملاً جبرياًلمثل هذه الحكومات ؟ اذا كانت اشكالات النوع الاول في سبيل رعاية وظايف الحكومة بالحد الأقل ، فان اشكالات النوع الثاني هي من أجل حفظ الدين و سلامته .
من زاوية اخري ، يمكن ادراج الاشكالات المعروفة للحكومات الدينية في محورين ؛ الاول : علاقة ونسبة الحق و التكليف ، حقوق الشعب و التكاليف الالهية و... و الا خر نسبة الرحمة و القدرة ، الرحمة التي هي جوهرالدين مع القدرة التي هي خميرة السياسة و عجينتها.
خضوع المؤسسة السياسية للتعاليم الدينية من لوازم المجتمع الديني ، في دين اوسع من اخلاق فردي في شريعته ، يدعي احكاماً اجتماعية .(6/1)
اشكالات الحكومة الدينية طرح سؤال ٍ من باب قصد الخير و التألم ، لكن ليست اسئلة ذهنية وانتزاعية بل اسئلة طالعة في مطالعة و قرائة عينية لاحدي التجارب التاريخية ، التجربة المباركة للثورة الاسلامية في العقدين الاولين من القرن الخامس عشر (هجري ). و يمكن في مكان الاجابة المنطقية وبذرائع واهية ! امحاء هذه الاسئلة المشفقة و لجم فم المتسائل و جره الي القيد والسجن و اعلان النهاية :«السؤال بدعة و التفكر ممنوع و الانتقاد حرام ».و لكن لاالسؤال يموت ، ولاالتفكر ينمحي و لا الانتقاديزول .
«اشكالات الحكومة الدينية » مجموع ثمانين مقالة ، و نص ، و محاضرة ، و حديث و حلقة نقاش ، في مجال السياسية و خلال سنوات (92 و 98) و قد نشرت في المطبوعات الايرانية ، و بعد تصحيح قسم و اعادة كتابة و تحرير الاحاديث جمعت في هذا الكتاب ، و ما يجمع المباحث المختلفة لهذا الكتاب مع بعضها البعض الا خر، العلاقة و النسبة بين الدين والسلطة السياسية . اشكالات الحكومة الدينية اشكالات أحدالمسافرين ، رسالة سفر كتبت بين منزل و منزل ، ليست كتاباً من جهة التنظيم ، رسالة ألم نسل بقدر ماذهب مع آماله تجرع الالم .
لقد نظم كتاب «اشكالات الحكومة الدينية » في تسعة فصول موضوعية ، و قد رتبت موضوعات كل فصل حتي الامكان و قدر المستطاع و ترتيباً زمنياً.
ما يضيف اهمية لهذا الكتاب ، أن الكاتب و قبل أن يبداء بنقد و تحليل آراء الا خرين ، عمد الي اظهارو توضيح آرائه الخاصة ، و جهات نظره الخاصة حول الحكومة الدينية ، الجمهورية الاسلامية ، الحرية ،المجتمع المدني ، التساهل و التسامح ، الثورة الاسلامية ، الحركة الاصلاحية ، رجال الدين ، الولاية المطلقة للفقيه ، اسلوب عمل القيادة و مجلس الرقابة علي الدستور، العنف و الاغتيال الرسمي بشكل واضح وشفاف .(6/2)
يبداء الكاتب سلوكه الاجتماعي في هذاالسفر المستمر منذعشرين سنة «سيعاً وراء النور» و المقالات الثلاثة الاولي «كاوه (من الاساطيرالايراني )في عزائه الثامن عشر» «انا افتخر اذن أنا موجود!»،«التعرف للحظات قدر الثورة » و هي نموذج من كتابات كديور النشرية في سنوات (77 الي 1979) وهي تستعيد اجواء شعارات فتره الثورة الاسلامية .
الفصل الثاني ناقش «الحكومة الدينية » من ابعاد مختلفة ، ففي مقالة «مجال الحكومة الدينية من وجهة نظر الامام الخميني قدس سره » يبين فيه ولاية الفقيه المطلقة خصوصاً من حيث عدم التقيد بالاحكام الشرعية (صلاحيات اوسع من الاحكام الاولية و الثانوية ) و عدم الالتزام بالقوانين البشرية الوضعية(صلاحيات تتجاوز القانون ). «تامل في مسألة ولاية الفقيه » خلاصة لآراء كديور في باب موضوع ولاية الفقيه الخطرة علي شكل مقالة . مبحث فيه اربعة مسائل : مسيرة تطور ولاية الفقيه في الفقه الشيعي ،الامام الخميني و ولاية الفقيه ، ولاية الفقيه و الثورة الاسلامية ، و ولاية الفقيه و الجمهورية الاسلامية ،توضح بشفافية مختلف ابعاد النظرية الرسمية ، و من الموضوعات الاخري في هذا الفصل استدلالاتكديور حول مسألتين مهمتين في الحكومة الدينية ، الاول ضوابط انتقاد الحاكمية ، و الثاني مرحلية القيادة (محددة بزمان ).
في الفصل الثالث حلل و نافش «علاقة الدين و السياسية »، فقي مقالة «السياسية الفاطمية ، السياسية العلوية » اشار الي اختلاف الاساليب السياسية بين فاطمة الزهرا(ع ) و الامام علي (ع ). ففاطمة كانت تري من واجبها فضح انحراف الحكومة و الدولة عن الحق ، و أن تثبت أن دائرة الصلاحيات ومحدودية تقدير مصلحة الحكومة الدينية مادون النص .
و في مقالة «مقارنة الفكر السياسي لدي الاستاذ مطهري و الدكتور شريعتي » سعي كديور الي رصدتأثيرات كل واحد من هذين المتفكرين علي البناء السياسي للجمهورية الاسلامية .(6/3)
و في المقالة المختصرة حول «الحكومة الدينية و المصحلة » جاء أن تحديد المصالح الوطنية و مصالح النظام مهمة العقل الجمعي وممثل الشعب الخبراء و ليست مهمة شخص واحد او المتعينين من قبله . يجب أن يكون تحديد المصلحة مفصولا عن الدولة والحكومة ، و عدم فصلها من الحكومة . فانها تجعل من الدين ثمناً للسلطة السياسية . في المجتمع الديني ، تقدير المصلحة مقيد بحدود ثابتة دينية و قانونية . حدود لايمكن للمصالح العاجلة الدنيوية في اي ّ ظروف تأويلها او تفسيرها او تغييرها او امحائها.
كديور، بقبوله مفهوم المجتمع المدني بمثابة أحدالاساليب او الطرق ولا ثقافة او ايديولوجية و في جواب علي سؤالين : هل يمكن أن يأخذ المجتمع المدني شكلاً في الحكومة الدينية ؟ و هل يمكن اقامة حكومة دينية في مجتمع مدني ؟ و ضمن الاشارة الي قرائتين مختلفتين للحكمومة الدينية ، يصل الي نتيجة أن حكومة الفرد المطلقة الدينية (الا وتو قراطية ) فقط في المجتمع الجماهيري ممكنة التحقق ، و المجتمع المدني لا يتشكل تحت هذه القرائة من الحكومة الدينية ، و الحال في «الحكومة الشعبية الدينية » هناك امكان لتحقق المجتمع المدني ، و كذلك الحال في المجتمع المدني المتشكل من اكثرية متدينة . فان تحقق الحكومة الدينية ليست فيهما ممتنعاً. و في نظر كديور، ان تقديس الاستبداد، الصلاحيات المطلقة ، قدرة بلاالرقابة المفروضة مادام العمر، عدم تحمل المسؤولية امام الشعب قبل أن يكون لها جذور شرعية و فقهية ،فأن لها منبع عرفي و محلي .(6/4)
كديور في مقالة «التكليف و التنمية علي اساس مقدار المشاركة السياسيه » يثبت ان في القراءة الرسمية للدين و الحكومة الدينية ، التعارض بين التكليف و التنمية ، و كذلك امتناع المشاركة العامة او حتي مشاركة النخبة في مجال السياسة ، و في مقالة «الحق و التكليف في الدين » التي كديور بقرائن و شواهد علي انسجام التكاليف الالهية مع حقوق بشر، و هو يعتقد أن حق تحديد المصيرو المقدرات السياسية منالحقوق المعطية من الله الي الآحاد البشرية .
المجال العالم من الملك المشاع الانساني و ملاك الاستفادة منه رضي اكثرية اصحاب الحق ، و المؤمنين موظفون في الاستفاده من هذا الحق أن يراعوا الضوابط الدينية في المجال العام ، ميزان الرأي هوالشعب وان المتصدين للشأن العام يقومون بذلك نيابة و انتخاباً من الشعب و ليس مجازاً التدخل و التصرف في الشأن العام من دون رضي الشعب .
في الفصل الرابع يحلل كديور «علاقة الدين والحرية ». و في مقالة طويلة «مباني الحريات السياسية في الاسلام » قال : تتوازن الحرية السياسية مع حرية معارض الحاكمية في الانتقاد و التعارض القانوني معالحاكمية . و هنايورد كديور بالتفصيل ستة أدلة قرآنية و ثلاثة أدلة روائية حول الحرية السياسية في الاسلام و قد رأي أن عدة اسئلة جدية قد طرحت في الخطاب العاشورائي و أن الحرية تمكن في جذورالعمل الحسين (ع ): هل عرفت المعارضة السياسية مع الجهة الرسمية في المجتمع الديني ام لا؟ هل للمعارضة السياسية حق بالحياة ، حق في اظهار وجهة نظرها، حق في أن لاتتبايع ، و حق المعارضة ام لا؟ و قد قسم كديور المعارضات السياسية الي أربعة اقسام :
الاول : المعارضة في قبول الحكومة ، اي الامتناع ِ من البيعة .
الثاني : المعارضة لاوامر الحكومة ، مثلاً التخلف عن المشاركة في الجهاد و الحرب
الثالث : المعارضة النظرية و الثقافية ، اي اظهار للمعارضة و الدعاية ضدالحكومة .(6/5)
الرابع : المعارضة العملية ، اي التحرك المسلح و الانقلابي .
و قد أثبت كديورانه في الفكر العلوي و الحسيني في الاقسام الثلاثة الاولي كانت المعارضة حرة ، امافي النمط و الاسلوب الاموي ومامشابهه كانت المعارضة السياسية ممنوعة بشكل مطلق .
في مقالة طويلة «الحرية في الحكومة الدينية ». و في الجواب علي سؤال «هل الحرية ممكنة في الحكومة الاسلامية ؟ وصل الي نتيجة أن :الذين يتسع الحرية و يضييق عليها في الوقت نفسه .يتسع ذلك كلي تتفتّح ساحات من الحرية جديدة في وجهة الانسان طريق لا تتوفر سوي عن طريق الدين ، اي الحرية المعنوية و يضيق بهذا المعني أي أنه يحدد بعض الساحات الشخصية و الاجتماعية حتي لا تذهب حرية الانسان المعنوية . الحرية من دون الدين معرضة للآفات ، والدين من دون حرية يلحق به الضرر. من قبل التحجرو السطحية من جهة والاستبداد الديني من جهة أخري . من المجتمع الديني المقفل ، اول الاشياء التي يصاب بالضرر هوالدين . و في حديث مفصل حول «حدود الحرية من وجهة نظرالدين » طرح كديورآراءه حول الابعادالمختلفه و للحريات السياسية و الثقافيه ، مسالة الارتداد، كتب الضلال ...
الفصل الخامس خصصه لبحث «رجال الدين و السلطة »، و يعتقد كديور أن وظيفة علماءالدين في الحكومة الدينية هي تبيين الاهداف و الافكار و الضوابط العامة للدين ، الرقابة الراقية و الانتقاد.(6/6)
و الدور الرقابي بعلماءالدين في الحكومة الدينية هي اسمي ضمانة لسلامة النظام الديني . فعلماءالدين هم الملجأ و الملاذ المتين للشعب الذي يعودون اليهم في شكاياتهم و تظلماتهم من الحكومة . والوجدان الديني اكبرضامن لحفظ الكرامة و الحرية ، ان اكبر وظيفة لعلماءالدين تنمية و تقوية و تعميق الوجدان و الشعورالديني و الالتزام الديني . وجر علماءالدين و اخراجهم من هذه الوظيفة الخطيرة للدخول في التعاطي مع الجزييات و اليوميات هي من مصاديق مفهوم «الخسران المبين ». و باستقلال المؤسسة الدينية عن المناصب الحكومية ، يمكن بذلك حفظ قداسة و سلامة و الشمول اوالاقتدار المعنوي للدين . و في غياب علماءالدين المتبصرين ، تصبح الاهداف و القيم و الاحكام الثابته للدين ، عرضة للتغيرات غير معتبره .
الفصل السادس يتعرض بالبحث لانجازات الثورة الاسلامية من ابعاد مختلفة ، و قد حوي هذا الفصل الحديث الصحفي الشهير الذي انتهي بدخول كديور الي السجن و كان بعنوان «نظرة علي عمل عشرين سنة للجمهورية الاسلامية .»
الفصل السابع خصص للحركة الاصلاحية ، و من وجهة نظر كديور أن رسالة هذه الحركة لها و جهانسلبي و ايجابي .اما الوجه السلبي لرسالتها، الردالسلبي "لا"كبيرة للدين الرسمي ، السطحية ، العنف ، نفي التعقل ، الاستبداد بالرأي ، التحقير، القيمومة و التفرد. اما الوجه الايجابي لهذه الرسالة ، الردالايجابي حول المعنوية الدعوة الي التمسك بالعقل ، الالتزام بالقانون ، الحرية ، المجتمع المدني و الاصلاح السلمي للحاكمية .(6/7)
الفصل الثامن بعنوان «الرقابت علي القيادة » فان مجلس خبراء القياده و بالنظر للمهمة الخطيرة التي يتولاها و هي الرقابة علي حسن عمل القيادة ، فانه اما لم يقم بالمهمة من الاساس او أنه عمل بشكل ضعيف . فهل اقدم مجلس خبراء القياده حتي الان علي تقديم سوال واحد للقيادة ؟ أم هل وجه اليهاملاحظة ؟ هل تم حتي الا ن توجيه انتقاد الي القيادة حول السياسات التي تم اتخاذها؟ لقد كانت جميع المراكز و المناصب التي عينت من قبل القيادة و اسلوب عملها موضع سؤال من قبيل مجلس التخطيط السياسي لائمة الجمعة ، فقهاء مجلس خبراء الدستور، مجمع تشخيص مصلحة النظام ، السطة القضائية ،القوي الامنية ، الحرس الثوري ، التعبثة ، موسسة الاذاعة و التلفزيون ، الحضرة الرضوية المقدسة ، مؤسسة المستضعفين ، لجنة الامداد... و ذلك خلال العقد الاخير و كانت في معرض التساؤل والابهام الكبير. فهل أقدم مجلس خبراء القيادة علي رقابة عمل هذه المؤسسات ؟ و هل قدم ملاحظة الي القياده بضرورة اصلاح عمل هذه المؤسسات ؟ و حول مواقف مكتب القيادة في انتخابات المجلس الخامس (السابق ) و الدورة السابعه لانتخابات رئاسة الجمهورية هناك شبهات كثيرة و جدية علي مستوي المجتمع تطرح ، فهل كان لمجلس خبراء القيادة اي تصرف ، او رقابة او ارشاد او استشارة اواصلاح في هذا المستوي و النمط . ان قدرة القيادة او سياق الرقابة المنضبطة و الدقيقة لخبراء القياده . و كل نوع من الاهمال والضعف و المجاملة من قبل مجلس خبراء القياده في القيام بمهمته القانونية الرقابية يتضمن اضراراً لايمكن تعويضها و جبرانها، علي القيادة و المستوي الوطني .(6/8)
الفصل الاخير من الكتاب «الحكومة الدينية و العنف »، من وجهة نظر كديور ان اهم اسباب اللجوءالي العنف عبارة عن ضعف القاعده الاجتماعية ، ضعف المباني النظرية ، و قولهم بالرسالة و الدور الخاص للحاكمين في الحكومات الايدئولوجية في مسير هداية الشعب . و عدم تصديقهم بثقافة المشاركة في المجال العام ، العنف لدي المتسلطين في الحياة العامة للمجتمع . و الذين لايستطيعون ادراك العلاقات الاجتماعية ثم يواجهون مسائل علي عكس انتظارهم كدون كشوت من دون محاسبة مناسبة . و يتبعون ابسط الطرقللوصول الي اهدافهم . استعمال العنف من قبل تيار متوافق للحاكمية في دول العالم الثالث و هو يحكي عنوجود مواقع في المجتمع لم تستطيع الحاكمية السيطرة عليها و لم يعط القانون لها حق الوصول اليها، لذلك ليس امامها سوي اللجوء الي الاستفادة من الطرق العنيفة و غيرالقانونية . و في الحاكميات الثنوية ، فان العود الي العنف من قبل قسم من الحاكمية يدلل علي فقدان الاستظهار الشعبي الكافي والسعي وراءالسلطة ، و والحرص علي القدرة من جانب عاملي العنف ، و اذا كان لدعاة العنف حرية العمل في نظراصحاب السلطة و لما تلاحقهم الحاكمية فهذا السكوت يدلل علي الرضاية و التعاون للعنفي و أصحاب السلطة ، و الحكومة التي تكون فلسفة وجودها الاساليب العنيفة ، فانها محكومة بالفناء.
في هذاالفصل الي جانب استخراج و تحليل المباني الدينية و الفقهية و لمنع العنف خصوصاً الاغتيال ،للاغتيال الرسمي و مسلسل القتل الذي طاول المخالفين الفكريين كانت تدور مدار نقد و بحث كل واحدعلي حده ، و قد جاء فيه ايضاً نص محاضرة كديور بعنوان «الممنوعية الشرعية للاغتيال » و التي انجزالي سنة من السجن . لقد ذكر كديور في المقدمة : «علي الرغم من جميع الانحرافات الفكرية و الاعوجاجات ،اري افق المستقبل مضيئاً. و أرجو شفاء السياسة الدينية من هذا البلاء و أن تخرج منه برأس مرفوع .»
---(6/9)
[Htm/A-Menu.htm]
اشكالات الحكومة الدينية
نشر ني ، 883 صفحات
الطبعة الاولي : نيسان 2000، الطبعة الثالية تشرين 2000
---
الحكومات الدينية ، فضلاً عن الاشكالات التي تعترض الحكومات عامة ، فان لها اشكالاتها الخاصة ،و يمكن تقسيمها الي قسيمين ؛ النوع الاول : هل مثل هذه السياسات و الحكومات تستطيع القيام بالحدالاقل من وطائف احدي الحكومات و سياساتها المتعارف عليها أم لا، أم أنها لاتجعل الادارة فداءللهداية ؟ هل اضافة الي اداء التكاليف الالهية و الاحكام الشرعية ، تراعي حقوق و حريات الشعب ايضاً؟ هل أن التقديس الديني للقدرة و السلطة السياسية لايقود الي اقفال طرق الرقابة و النظارة والانتقاد و بالنتيجة يقود ألي الاستبداد الديني و فساد السلطة السياسية ؟
من جهة أخري ، والاهم من اشكالات النوع الاول ، الا يتحول الدين تدريجياً ثمناً للدنيا؟ و قدم الدين يوظف لتأمين السلطة البشرية اليومية ؟ الا تفقد الرحمة التي هي جوهرة الدين ، رونقها في داخل دولاب السلطة السياسية ؟ الا يصبح الدين الرسمي حاملاً جبرياًلمثل هذه الحكومات ؟ اذا كانت اشكالات النوع الاول في سبيل رعاية وظايف الحكومة بالحد الأقل ، فان اشكالات النوع الثاني هي من أجل حفظ الدين و سلامته .
من زاوية اخري ، يمكن ادراج الاشكالات المعروفة للحكومات الدينية في محورين ؛ الاول : علاقة ونسبة الحق و التكليف ، حقوق الشعب و التكاليف الالهية و... و الا خر نسبة الرحمة و القدرة ، الرحمة التي هي جوهرالدين مع القدرة التي هي خميرة السياسة و عجينتها.
خضوع المؤسسة السياسية للتعاليم الدينية من لوازم المجتمع الديني ، في دين اوسع من اخلاق فردي في شريعته ، يدعي احكاماً اجتماعية .(6/10)
اشكالات الحكومة الدينية طرح سؤال ٍ من باب قصد الخير و التألم ، لكن ليست اسئلة ذهنية وانتزاعية بل اسئلة طالعة في مطالعة و قرائة عينية لاحدي التجارب التاريخية ، التجربة المباركة للثورة الاسلامية في العقدين الاولين من القرن الخامس عشر (هجري ). و يمكن في مكان الاجابة المنطقية وبذرائع واهية ! امحاء هذه الاسئلة المشفقة و لجم فم المتسائل و جره الي القيد والسجن و اعلان النهاية :«السؤال بدعة و التفكر ممنوع و الانتقاد حرام ».و لكن لاالسؤال يموت ، ولاالتفكر ينمحي و لا الانتقاديزول .
«اشكالات الحكومة الدينية » مجموع ثمانين مقالة ، و نص ، و محاضرة ، و حديث و حلقة نقاش ، في مجال السياسية و خلال سنوات (92 و 98) و قد نشرت في المطبوعات الايرانية ، و بعد تصحيح قسم و اعادة كتابة و تحرير الاحاديث جمعت في هذا الكتاب ، و ما يجمع المباحث المختلفة لهذا الكتاب مع بعضها البعض الا خر، العلاقة و النسبة بين الدين والسلطة السياسية . اشكالات الحكومة الدينية اشكالات أحدالمسافرين ، رسالة سفر كتبت بين منزل و منزل ، ليست كتاباً من جهة التنظيم ، رسالة ألم نسل بقدر ماذهب مع آماله تجرع الالم .
لقد نظم كتاب «اشكالات الحكومة الدينية » في تسعة فصول موضوعية ، و قد رتبت موضوعات كل فصل حتي الامكان و قدر المستطاع و ترتيباً زمنياً.
ما يضيف اهمية لهذا الكتاب ، أن الكاتب و قبل أن يبداء بنقد و تحليل آراء الا خرين ، عمد الي اظهارو توضيح آرائه الخاصة ، و جهات نظره الخاصة حول الحكومة الدينية ، الجمهورية الاسلامية ، الحرية ،المجتمع المدني ، التساهل و التسامح ، الثورة الاسلامية ، الحركة الاصلاحية ، رجال الدين ، الولاية المطلقة للفقيه ، اسلوب عمل القيادة و مجلس الرقابة علي الدستور، العنف و الاغتيال الرسمي بشكل واضح وشفاف .(6/11)
يبداء الكاتب سلوكه الاجتماعي في هذاالسفر المستمر منذعشرين سنة «سيعاً وراء النور» و المقالات الثلاثة الاولي «كاوه (من الاساطيرالايراني )في عزائه الثامن عشر» «انا افتخر اذن أنا موجود!»،«التعرف للحظات قدر الثورة » و هي نموذج من كتابات كديور النشرية في سنوات (77 الي 1979) وهي تستعيد اجواء شعارات فتره الثورة الاسلامية .
الفصل الثاني ناقش «الحكومة الدينية » من ابعاد مختلفة ، ففي مقالة «مجال الحكومة الدينية من وجهة نظر الامام الخميني قدس سره » يبين فيه ولاية الفقيه المطلقة خصوصاً من حيث عدم التقيد بالاحكام الشرعية (صلاحيات اوسع من الاحكام الاولية و الثانوية ) و عدم الالتزام بالقوانين البشرية الوضعية(صلاحيات تتجاوز القانون ). «تامل في مسألة ولاية الفقيه » خلاصة لآراء كديور في باب موضوع ولاية الفقيه الخطرة علي شكل مقالة . مبحث فيه اربعة مسائل : مسيرة تطور ولاية الفقيه في الفقه الشيعي ،الامام الخميني و ولاية الفقيه ، ولاية الفقيه و الثورة الاسلامية ، و ولاية الفقيه و الجمهورية الاسلامية ،توضح بشفافية مختلف ابعاد النظرية الرسمية ، و من الموضوعات الاخري في هذا الفصل استدلالاتكديور حول مسألتين مهمتين في الحكومة الدينية ، الاول ضوابط انتقاد الحاكمية ، و الثاني مرحلية القيادة (محددة بزمان ).
في الفصل الثالث حلل و نافش «علاقة الدين و السياسية »، فقي مقالة «السياسية الفاطمية ، السياسية العلوية » اشار الي اختلاف الاساليب السياسية بين فاطمة الزهرا(ع ) و الامام علي (ع ). ففاطمة كانت تري من واجبها فضح انحراف الحكومة و الدولة عن الحق ، و أن تثبت أن دائرة الصلاحيات ومحدودية تقدير مصلحة الحكومة الدينية مادون النص .
و في مقالة «مقارنة الفكر السياسي لدي الاستاذ مطهري و الدكتور شريعتي » سعي كديور الي رصدتأثيرات كل واحد من هذين المتفكرين علي البناء السياسي للجمهورية الاسلامية .(6/12)
و في المقالة المختصرة حول «الحكومة الدينية و المصحلة » جاء أن تحديد المصالح الوطنية و مصالح النظام مهمة العقل الجمعي وممثل الشعب الخبراء و ليست مهمة شخص واحد او المتعينين من قبله . يجب أن يكون تحديد المصلحة مفصولا عن الدولة والحكومة ، و عدم فصلها من الحكومة . فانها تجعل من الدين ثمناً للسلطة السياسية . في المجتمع الديني ، تقدير المصلحة مقيد بحدود ثابتة دينية و قانونية . حدود لايمكن للمصالح العاجلة الدنيوية في اي ّ ظروف تأويلها او تفسيرها او تغييرها او امحائها.
كديور، بقبوله مفهوم المجتمع المدني بمثابة أحدالاساليب او الطرق ولا ثقافة او ايديولوجية و في جواب علي سؤالين : هل يمكن أن يأخذ المجتمع المدني شكلاً في الحكومة الدينية ؟ و هل يمكن اقامة حكومة دينية في مجتمع مدني ؟ و ضمن الاشارة الي قرائتين مختلفتين للحكمومة الدينية ، يصل الي نتيجة أن حكومة الفرد المطلقة الدينية (الا وتو قراطية ) فقط في المجتمع الجماهيري ممكنة التحقق ، و المجتمع المدني لا يتشكل تحت هذه القرائة من الحكومة الدينية ، و الحال في «الحكومة الشعبية الدينية » هناك امكان لتحقق المجتمع المدني ، و كذلك الحال في المجتمع المدني المتشكل من اكثرية متدينة . فان تحقق الحكومة الدينية ليست فيهما ممتنعاً. و في نظر كديور، ان تقديس الاستبداد، الصلاحيات المطلقة ، قدرة بلاالرقابة المفروضة مادام العمر، عدم تحمل المسؤولية امام الشعب قبل أن يكون لها جذور شرعية و فقهية ،فأن لها منبع عرفي و محلي .(6/13)
كديور في مقالة «التكليف و التنمية علي اساس مقدار المشاركة السياسيه » يثبت ان في القراءة الرسمية للدين و الحكومة الدينية ، التعارض بين التكليف و التنمية ، و كذلك امتناع المشاركة العامة او حتي مشاركة النخبة في مجال السياسة ، و في مقالة «الحق و التكليف في الدين » التي كديور بقرائن و شواهد علي انسجام التكاليف الالهية مع حقوق بشر، و هو يعتقد أن حق تحديد المصيرو المقدرات السياسية منالحقوق المعطية من الله الي الآحاد البشرية .
المجال العالم من الملك المشاع الانساني و ملاك الاستفادة منه رضي اكثرية اصحاب الحق ، و المؤمنين موظفون في الاستفاده من هذا الحق أن يراعوا الضوابط الدينية في المجال العام ، ميزان الرأي هوالشعب وان المتصدين للشأن العام يقومون بذلك نيابة و انتخاباً من الشعب و ليس مجازاً التدخل و التصرف في الشأن العام من دون رضي الشعب .
في الفصل الرابع يحلل كديور «علاقة الدين والحرية ». و في مقالة طويلة «مباني الحريات السياسية في الاسلام » قال : تتوازن الحرية السياسية مع حرية معارض الحاكمية في الانتقاد و التعارض القانوني معالحاكمية . و هنايورد كديور بالتفصيل ستة أدلة قرآنية و ثلاثة أدلة روائية حول الحرية السياسية في الاسلام و قد رأي أن عدة اسئلة جدية قد طرحت في الخطاب العاشورائي و أن الحرية تمكن في جذورالعمل الحسين (ع ): هل عرفت المعارضة السياسية مع الجهة الرسمية في المجتمع الديني ام لا؟ هل للمعارضة السياسية حق بالحياة ، حق في اظهار وجهة نظرها، حق في أن لاتتبايع ، و حق المعارضة ام لا؟ و قد قسم كديور المعارضات السياسية الي أربعة اقسام :
الاول : المعارضة في قبول الحكومة ، اي الامتناع ِ من البيعة .
الثاني : المعارضة لاوامر الحكومة ، مثلاً التخلف عن المشاركة في الجهاد و الحرب
الثالث : المعارضة النظرية و الثقافية ، اي اظهار للمعارضة و الدعاية ضدالحكومة .(6/14)
الرابع : المعارضة العملية ، اي التحرك المسلح و الانقلابي .
و قد أثبت كديورانه في الفكر العلوي و الحسيني في الاقسام الثلاثة الاولي كانت المعارضة حرة ، امافي النمط و الاسلوب الاموي ومامشابهه كانت المعارضة السياسية ممنوعة بشكل مطلق .
في مقالة طويلة «الحرية في الحكومة الدينية ». و في الجواب علي سؤال «هل الحرية ممكنة في الحكومة الاسلامية ؟ وصل الي نتيجة أن :الذين يتسع الحرية و يضييق عليها في الوقت نفسه .يتسع ذلك كلي تتفتّح ساحات من الحرية جديدة في وجهة الانسان طريق لا تتوفر سوي عن طريق الدين ، اي الحرية المعنوية و يضيق بهذا المعني أي أنه يحدد بعض الساحات الشخصية و الاجتماعية حتي لا تذهب حرية الانسان المعنوية . الحرية من دون الدين معرضة للآفات ، والدين من دون حرية يلحق به الضرر. من قبل التحجرو السطحية من جهة والاستبداد الديني من جهة أخري . من المجتمع الديني المقفل ، اول الاشياء التي يصاب بالضرر هوالدين . و في حديث مفصل حول «حدود الحرية من وجهة نظرالدين » طرح كديورآراءه حول الابعادالمختلفه و للحريات السياسية و الثقافيه ، مسالة الارتداد، كتب الضلال ...
الفصل الخامس خصصه لبحث «رجال الدين و السلطة »، و يعتقد كديور أن وظيفة علماءالدين في الحكومة الدينية هي تبيين الاهداف و الافكار و الضوابط العامة للدين ، الرقابة الراقية و الانتقاد.(6/15)
و الدور الرقابي بعلماءالدين في الحكومة الدينية هي اسمي ضمانة لسلامة النظام الديني . فعلماءالدين هم الملجأ و الملاذ المتين للشعب الذي يعودون اليهم في شكاياتهم و تظلماتهم من الحكومة . والوجدان الديني اكبرضامن لحفظ الكرامة و الحرية ، ان اكبر وظيفة لعلماءالدين تنمية و تقوية و تعميق الوجدان و الشعورالديني و الالتزام الديني . وجر علماءالدين و اخراجهم من هذه الوظيفة الخطيرة للدخول في التعاطي مع الجزييات و اليوميات هي من مصاديق مفهوم «الخسران المبين ». و باستقلال المؤسسة الدينية عن المناصب الحكومية ، يمكن بذلك حفظ قداسة و سلامة و الشمول اوالاقتدار المعنوي للدين . و في غياب علماءالدين المتبصرين ، تصبح الاهداف و القيم و الاحكام الثابته للدين ، عرضة للتغيرات غير معتبره .
الفصل السادس يتعرض بالبحث لانجازات الثورة الاسلامية من ابعاد مختلفة ، و قد حوي هذا الفصل الحديث الصحفي الشهير الذي انتهي بدخول كديور الي السجن و كان بعنوان «نظرة علي عمل عشرين سنة للجمهورية الاسلامية .»
الفصل السابع خصص للحركة الاصلاحية ، و من وجهة نظر كديور أن رسالة هذه الحركة لها و جهانسلبي و ايجابي .اما الوجه السلبي لرسالتها، الردالسلبي "لا"كبيرة للدين الرسمي ، السطحية ، العنف ، نفي التعقل ، الاستبداد بالرأي ، التحقير، القيمومة و التفرد. اما الوجه الايجابي لهذه الرسالة ، الردالايجابي حول المعنوية الدعوة الي التمسك بالعقل ، الالتزام بالقانون ، الحرية ، المجتمع المدني و الاصلاح السلمي للحاكمية .(6/16)
الفصل الثامن بعنوان «الرقابت علي القيادة » فان مجلس خبراء القياده و بالنظر للمهمة الخطيرة التي يتولاها و هي الرقابة علي حسن عمل القيادة ، فانه اما لم يقم بالمهمة من الاساس او أنه عمل بشكل ضعيف . فهل اقدم مجلس خبراء القياده حتي الان علي تقديم سوال واحد للقيادة ؟ أم هل وجه اليهاملاحظة ؟ هل تم حتي الا ن توجيه انتقاد الي القيادة حول السياسات التي تم اتخاذها؟ لقد كانت جميع المراكز و المناصب التي عينت من قبل القيادة و اسلوب عملها موضع سؤال من قبيل مجلس التخطيط السياسي لائمة الجمعة ، فقهاء مجلس خبراء الدستور، مجمع تشخيص مصلحة النظام ، السطة القضائية ،القوي الامنية ، الحرس الثوري ، التعبثة ، موسسة الاذاعة و التلفزيون ، الحضرة الرضوية المقدسة ، مؤسسة المستضعفين ، لجنة الامداد... و ذلك خلال العقد الاخير و كانت في معرض التساؤل والابهام الكبير. فهل أقدم مجلس خبراء القيادة علي رقابة عمل هذه المؤسسات ؟ و هل قدم ملاحظة الي القياده بضرورة اصلاح عمل هذه المؤسسات ؟ و حول مواقف مكتب القيادة في انتخابات المجلس الخامس (السابق ) و الدورة السابعه لانتخابات رئاسة الجمهورية هناك شبهات كثيرة و جدية علي مستوي المجتمع تطرح ، فهل كان لمجلس خبراء القيادة اي تصرف ، او رقابة او ارشاد او استشارة اواصلاح في هذا المستوي و النمط . ان قدرة القيادة او سياق الرقابة المنضبطة و الدقيقة لخبراء القياده . و كل نوع من الاهمال والضعف و المجاملة من قبل مجلس خبراء القياده في القيام بمهمته القانونية الرقابية يتضمن اضراراً لايمكن تعويضها و جبرانها، علي القيادة و المستوي الوطني .(6/17)
الفصل الاخير من الكتاب «الحكومة الدينية و العنف »، من وجهة نظر كديور ان اهم اسباب اللجوءالي العنف عبارة عن ضعف القاعده الاجتماعية ، ضعف المباني النظرية ، و قولهم بالرسالة و الدور الخاص للحاكمين في الحكومات الايدئولوجية في مسير هداية الشعب . و عدم تصديقهم بثقافة المشاركة في المجال العام ، العنف لدي المتسلطين في الحياة العامة للمجتمع . و الذين لايستطيعون ادراك العلاقات الاجتماعية ثم يواجهون مسائل علي عكس انتظارهم كدون كشوت من دون محاسبة مناسبة . و يتبعون ابسط الطرقللوصول الي اهدافهم . استعمال العنف من قبل تيار متوافق للحاكمية في دول العالم الثالث و هو يحكي عنوجود مواقع في المجتمع لم تستطيع الحاكمية السيطرة عليها و لم يعط القانون لها حق الوصول اليها، لذلك ليس امامها سوي اللجوء الي الاستفادة من الطرق العنيفة و غيرالقانونية . و في الحاكميات الثنوية ، فان العود الي العنف من قبل قسم من الحاكمية يدلل علي فقدان الاستظهار الشعبي الكافي والسعي وراءالسلطة ، و والحرص علي القدرة من جانب عاملي العنف ، و اذا كان لدعاة العنف حرية العمل في نظراصحاب السلطة و لما تلاحقهم الحاكمية فهذا السكوت يدلل علي الرضاية و التعاون للعنفي و أصحاب السلطة ، و الحكومة التي تكون فلسفة وجودها الاساليب العنيفة ، فانها محكومة بالفناء.
في هذاالفصل الي جانب استخراج و تحليل المباني الدينية و الفقهية و لمنع العنف خصوصاً الاغتيال ،للاغتيال الرسمي و مسلسل القتل الذي طاول المخالفين الفكريين كانت تدور مدار نقد و بحث كل واحدعلي حده ، و قد جاء فيه ايضاً نص محاضرة كديور بعنوان «الممنوعية الشرعية للاغتيال » و التي انجزالي سنة من السجن . لقد ذكر كديور في المقدمة : «علي الرغم من جميع الانحرافات الفكرية و الاعوجاجات ،اري افق المستقبل مضيئاً. و أرجو شفاء السياسة الدينية من هذا البلاء و أن تخرج منه برأس مرفوع .»
---(6/18)
[Htm/A-Menu.htm]
اشكالات الحكومة الدينية
نشر ني ، 883 صفحات
الطبعة الاولي : نيسان 2000، الطبعة الثالية تشرين 2000
---
الحكومات الدينية ، فضلاً عن الاشكالات التي تعترض الحكومات عامة ، فان لها اشكالاتها الخاصة ،و يمكن تقسيمها الي قسيمين ؛ النوع الاول : هل مثل هذه السياسات و الحكومات تستطيع القيام بالحدالاقل من وطائف احدي الحكومات و سياساتها المتعارف عليها أم لا، أم أنها لاتجعل الادارة فداءللهداية ؟ هل اضافة الي اداء التكاليف الالهية و الاحكام الشرعية ، تراعي حقوق و حريات الشعب ايضاً؟ هل أن التقديس الديني للقدرة و السلطة السياسية لايقود الي اقفال طرق الرقابة و النظارة والانتقاد و بالنتيجة يقود ألي الاستبداد الديني و فساد السلطة السياسية ؟
من جهة أخري ، والاهم من اشكالات النوع الاول ، الا يتحول الدين تدريجياً ثمناً للدنيا؟ و قدم الدين يوظف لتأمين السلطة البشرية اليومية ؟ الا تفقد الرحمة التي هي جوهرة الدين ، رونقها في داخل دولاب السلطة السياسية ؟ الا يصبح الدين الرسمي حاملاً جبرياًلمثل هذه الحكومات ؟ اذا كانت اشكالات النوع الاول في سبيل رعاية وظايف الحكومة بالحد الأقل ، فان اشكالات النوع الثاني هي من أجل حفظ الدين و سلامته .
من زاوية اخري ، يمكن ادراج الاشكالات المعروفة للحكومات الدينية في محورين ؛ الاول : علاقة ونسبة الحق و التكليف ، حقوق الشعب و التكاليف الالهية و... و الا خر نسبة الرحمة و القدرة ، الرحمة التي هي جوهرالدين مع القدرة التي هي خميرة السياسة و عجينتها.
خضوع المؤسسة السياسية للتعاليم الدينية من لوازم المجتمع الديني ، في دين اوسع من اخلاق فردي في شريعته ، يدعي احكاماً اجتماعية .(6/19)
اشكالات الحكومة الدينية طرح سؤال ٍ من باب قصد الخير و التألم ، لكن ليست اسئلة ذهنية وانتزاعية بل اسئلة طالعة في مطالعة و قرائة عينية لاحدي التجارب التاريخية ، التجربة المباركة للثورة الاسلامية في العقدين الاولين من القرن الخامس عشر (هجري ). و يمكن في مكان الاجابة المنطقية وبذرائع واهية ! امحاء هذه الاسئلة المشفقة و لجم فم المتسائل و جره الي القيد والسجن و اعلان النهاية :«السؤال بدعة و التفكر ممنوع و الانتقاد حرام ».و لكن لاالسؤال يموت ، ولاالتفكر ينمحي و لا الانتقاديزول .
«اشكالات الحكومة الدينية » مجموع ثمانين مقالة ، و نص ، و محاضرة ، و حديث و حلقة نقاش ، في مجال السياسية و خلال سنوات (92 و 98) و قد نشرت في المطبوعات الايرانية ، و بعد تصحيح قسم و اعادة كتابة و تحرير الاحاديث جمعت في هذا الكتاب ، و ما يجمع المباحث المختلفة لهذا الكتاب مع بعضها البعض الا خر، العلاقة و النسبة بين الدين والسلطة السياسية . اشكالات الحكومة الدينية اشكالات أحدالمسافرين ، رسالة سفر كتبت بين منزل و منزل ، ليست كتاباً من جهة التنظيم ، رسالة ألم نسل بقدر ماذهب مع آماله تجرع الالم .
لقد نظم كتاب «اشكالات الحكومة الدينية » في تسعة فصول موضوعية ، و قد رتبت موضوعات كل فصل حتي الامكان و قدر المستطاع و ترتيباً زمنياً.
ما يضيف اهمية لهذا الكتاب ، أن الكاتب و قبل أن يبداء بنقد و تحليل آراء الا خرين ، عمد الي اظهارو توضيح آرائه الخاصة ، و جهات نظره الخاصة حول الحكومة الدينية ، الجمهورية الاسلامية ، الحرية ،المجتمع المدني ، التساهل و التسامح ، الثورة الاسلامية ، الحركة الاصلاحية ، رجال الدين ، الولاية المطلقة للفقيه ، اسلوب عمل القيادة و مجلس الرقابة علي الدستور، العنف و الاغتيال الرسمي بشكل واضح وشفاف .(6/20)
يبداء الكاتب سلوكه الاجتماعي في هذاالسفر المستمر منذعشرين سنة «سيعاً وراء النور» و المقالات الثلاثة الاولي «كاوه (من الاساطيرالايراني )في عزائه الثامن عشر» «انا افتخر اذن أنا موجود!»،«التعرف للحظات قدر الثورة » و هي نموذج من كتابات كديور النشرية في سنوات (77 الي 1979) وهي تستعيد اجواء شعارات فتره الثورة الاسلامية .
الفصل الثاني ناقش «الحكومة الدينية » من ابعاد مختلفة ، ففي مقالة «مجال الحكومة الدينية من وجهة نظر الامام الخميني قدس سره » يبين فيه ولاية الفقيه المطلقة خصوصاً من حيث عدم التقيد بالاحكام الشرعية (صلاحيات اوسع من الاحكام الاولية و الثانوية ) و عدم الالتزام بالقوانين البشرية الوضعية(صلاحيات تتجاوز القانون ). «تامل في مسألة ولاية الفقيه » خلاصة لآراء كديور في باب موضوع ولاية الفقيه الخطرة علي شكل مقالة . مبحث فيه اربعة مسائل : مسيرة تطور ولاية الفقيه في الفقه الشيعي ،الامام الخميني و ولاية الفقيه ، ولاية الفقيه و الثورة الاسلامية ، و ولاية الفقيه و الجمهورية الاسلامية ،توضح بشفافية مختلف ابعاد النظرية الرسمية ، و من الموضوعات الاخري في هذا الفصل استدلالاتكديور حول مسألتين مهمتين في الحكومة الدينية ، الاول ضوابط انتقاد الحاكمية ، و الثاني مرحلية القيادة (محددة بزمان ).
في الفصل الثالث حلل و نافش «علاقة الدين و السياسية »، فقي مقالة «السياسية الفاطمية ، السياسية العلوية » اشار الي اختلاف الاساليب السياسية بين فاطمة الزهرا(ع ) و الامام علي (ع ). ففاطمة كانت تري من واجبها فضح انحراف الحكومة و الدولة عن الحق ، و أن تثبت أن دائرة الصلاحيات ومحدودية تقدير مصلحة الحكومة الدينية مادون النص .
و في مقالة «مقارنة الفكر السياسي لدي الاستاذ مطهري و الدكتور شريعتي » سعي كديور الي رصدتأثيرات كل واحد من هذين المتفكرين علي البناء السياسي للجمهورية الاسلامية .(6/21)
و في المقالة المختصرة حول «الحكومة الدينية و المصحلة » جاء أن تحديد المصالح الوطنية و مصالح النظام مهمة العقل الجمعي وممثل الشعب الخبراء و ليست مهمة شخص واحد او المتعينين من قبله . يجب أن يكون تحديد المصلحة مفصولا عن الدولة والحكومة ، و عدم فصلها من الحكومة . فانها تجعل من الدين ثمناً للسلطة السياسية . في المجتمع الديني ، تقدير المصلحة مقيد بحدود ثابتة دينية و قانونية . حدود لايمكن للمصالح العاجلة الدنيوية في اي ّ ظروف تأويلها او تفسيرها او تغييرها او امحائها.
كديور، بقبوله مفهوم المجتمع المدني بمثابة أحدالاساليب او الطرق ولا ثقافة او ايديولوجية و في جواب علي سؤالين : هل يمكن أن يأخذ المجتمع المدني شكلاً في الحكومة الدينية ؟ و هل يمكن اقامة حكومة دينية في مجتمع مدني ؟ و ضمن الاشارة الي قرائتين مختلفتين للحكمومة الدينية ، يصل الي نتيجة أن حكومة الفرد المطلقة الدينية (الا وتو قراطية ) فقط في المجتمع الجماهيري ممكنة التحقق ، و المجتمع المدني لا يتشكل تحت هذه القرائة من الحكومة الدينية ، و الحال في «الحكومة الشعبية الدينية » هناك امكان لتحقق المجتمع المدني ، و كذلك الحال في المجتمع المدني المتشكل من اكثرية متدينة . فان تحقق الحكومة الدينية ليست فيهما ممتنعاً. و في نظر كديور، ان تقديس الاستبداد، الصلاحيات المطلقة ، قدرة بلاالرقابة المفروضة مادام العمر، عدم تحمل المسؤولية امام الشعب قبل أن يكون لها جذور شرعية و فقهية ،فأن لها منبع عرفي و محلي .(6/22)
كديور في مقالة «التكليف و التنمية علي اساس مقدار المشاركة السياسيه » يثبت ان في القراءة الرسمية للدين و الحكومة الدينية ، التعارض بين التكليف و التنمية ، و كذلك امتناع المشاركة العامة او حتي مشاركة النخبة في مجال السياسة ، و في مقالة «الحق و التكليف في الدين » التي كديور بقرائن و شواهد علي انسجام التكاليف الالهية مع حقوق بشر، و هو يعتقد أن حق تحديد المصيرو المقدرات السياسية منالحقوق المعطية من الله الي الآحاد البشرية .
المجال العالم من الملك المشاع الانساني و ملاك الاستفادة منه رضي اكثرية اصحاب الحق ، و المؤمنين موظفون في الاستفاده من هذا الحق أن يراعوا الضوابط الدينية في المجال العام ، ميزان الرأي هوالشعب وان المتصدين للشأن العام يقومون بذلك نيابة و انتخاباً من الشعب و ليس مجازاً التدخل و التصرف في الشأن العام من دون رضي الشعب .
في الفصل الرابع يحلل كديور «علاقة الدين والحرية ». و في مقالة طويلة «مباني الحريات السياسية في الاسلام » قال : تتوازن الحرية السياسية مع حرية معارض الحاكمية في الانتقاد و التعارض القانوني معالحاكمية . و هنايورد كديور بالتفصيل ستة أدلة قرآنية و ثلاثة أدلة روائية حول الحرية السياسية في الاسلام و قد رأي أن عدة اسئلة جدية قد طرحت في الخطاب العاشورائي و أن الحرية تمكن في جذورالعمل الحسين (ع ): هل عرفت المعارضة السياسية مع الجهة الرسمية في المجتمع الديني ام لا؟ هل للمعارضة السياسية حق بالحياة ، حق في اظهار وجهة نظرها، حق في أن لاتتبايع ، و حق المعارضة ام لا؟ و قد قسم كديور المعارضات السياسية الي أربعة اقسام :
الاول : المعارضة في قبول الحكومة ، اي الامتناع ِ من البيعة .
الثاني : المعارضة لاوامر الحكومة ، مثلاً التخلف عن المشاركة في الجهاد و الحرب
الثالث : المعارضة النظرية و الثقافية ، اي اظهار للمعارضة و الدعاية ضدالحكومة .(6/23)
الرابع : المعارضة العملية ، اي التحرك المسلح و الانقلابي .
و قد أثبت كديورانه في الفكر العلوي و الحسيني في الاقسام الثلاثة الاولي كانت المعارضة حرة ، امافي النمط و الاسلوب الاموي ومامشابهه كانت المعارضة السياسية ممنوعة بشكل مطلق .
في مقالة طويلة «الحرية في الحكومة الدينية ». و في الجواب علي سؤال «هل الحرية ممكنة في الحكومة الاسلامية ؟ وصل الي نتيجة أن :الذين يتسع الحرية و يضييق عليها في الوقت نفسه .يتسع ذلك كلي تتفتّح ساحات من الحرية جديدة في وجهة الانسان طريق لا تتوفر سوي عن طريق الدين ، اي الحرية المعنوية و يضيق بهذا المعني أي أنه يحدد بعض الساحات الشخصية و الاجتماعية حتي لا تذهب حرية الانسان المعنوية . الحرية من دون الدين معرضة للآفات ، والدين من دون حرية يلحق به الضرر. من قبل التحجرو السطحية من جهة والاستبداد الديني من جهة أخري . من المجتمع الديني المقفل ، اول الاشياء التي يصاب بالضرر هوالدين . و في حديث مفصل حول «حدود الحرية من وجهة نظرالدين » طرح كديورآراءه حول الابعادالمختلفه و للحريات السياسية و الثقافيه ، مسالة الارتداد، كتب الضلال ...
الفصل الخامس خصصه لبحث «رجال الدين و السلطة »، و يعتقد كديور أن وظيفة علماءالدين في الحكومة الدينية هي تبيين الاهداف و الافكار و الضوابط العامة للدين ، الرقابة الراقية و الانتقاد.(6/24)
و الدور الرقابي بعلماءالدين في الحكومة الدينية هي اسمي ضمانة لسلامة النظام الديني . فعلماءالدين هم الملجأ و الملاذ المتين للشعب الذي يعودون اليهم في شكاياتهم و تظلماتهم من الحكومة . والوجدان الديني اكبرضامن لحفظ الكرامة و الحرية ، ان اكبر وظيفة لعلماءالدين تنمية و تقوية و تعميق الوجدان و الشعورالديني و الالتزام الديني . وجر علماءالدين و اخراجهم من هذه الوظيفة الخطيرة للدخول في التعاطي مع الجزييات و اليوميات هي من مصاديق مفهوم «الخسران المبين ». و باستقلال المؤسسة الدينية عن المناصب الحكومية ، يمكن بذلك حفظ قداسة و سلامة و الشمول اوالاقتدار المعنوي للدين . و في غياب علماءالدين المتبصرين ، تصبح الاهداف و القيم و الاحكام الثابته للدين ، عرضة للتغيرات غير معتبره .
الفصل السادس يتعرض بالبحث لانجازات الثورة الاسلامية من ابعاد مختلفة ، و قد حوي هذا الفصل الحديث الصحفي الشهير الذي انتهي بدخول كديور الي السجن و كان بعنوان «نظرة علي عمل عشرين سنة للجمهورية الاسلامية .»
الفصل السابع خصص للحركة الاصلاحية ، و من وجهة نظر كديور أن رسالة هذه الحركة لها و جهانسلبي و ايجابي .اما الوجه السلبي لرسالتها، الردالسلبي "لا"كبيرة للدين الرسمي ، السطحية ، العنف ، نفي التعقل ، الاستبداد بالرأي ، التحقير، القيمومة و التفرد. اما الوجه الايجابي لهذه الرسالة ، الردالايجابي حول المعنوية الدعوة الي التمسك بالعقل ، الالتزام بالقانون ، الحرية ، المجتمع المدني و الاصلاح السلمي للحاكمية .(6/25)
الفصل الثامن بعنوان «الرقابت علي القيادة » فان مجلس خبراء القياده و بالنظر للمهمة الخطيرة التي يتولاها و هي الرقابة علي حسن عمل القيادة ، فانه اما لم يقم بالمهمة من الاساس او أنه عمل بشكل ضعيف . فهل اقدم مجلس خبراء القياده حتي الان علي تقديم سوال واحد للقيادة ؟ أم هل وجه اليهاملاحظة ؟ هل تم حتي الا ن توجيه انتقاد الي القيادة حول السياسات التي تم اتخاذها؟ لقد كانت جميع المراكز و المناصب التي عينت من قبل القيادة و اسلوب عملها موضع سؤال من قبيل مجلس التخطيط السياسي لائمة الجمعة ، فقهاء مجلس خبراء الدستور، مجمع تشخيص مصلحة النظام ، السطة القضائية ،القوي الامنية ، الحرس الثوري ، التعبثة ، موسسة الاذاعة و التلفزيون ، الحضرة الرضوية المقدسة ، مؤسسة المستضعفين ، لجنة الامداد... و ذلك خلال العقد الاخير و كانت في معرض التساؤل والابهام الكبير. فهل أقدم مجلس خبراء القيادة علي رقابة عمل هذه المؤسسات ؟ و هل قدم ملاحظة الي القياده بضرورة اصلاح عمل هذه المؤسسات ؟ و حول مواقف مكتب القيادة في انتخابات المجلس الخامس (السابق ) و الدورة السابعه لانتخابات رئاسة الجمهورية هناك شبهات كثيرة و جدية علي مستوي المجتمع تطرح ، فهل كان لمجلس خبراء القيادة اي تصرف ، او رقابة او ارشاد او استشارة اواصلاح في هذا المستوي و النمط . ان قدرة القيادة او سياق الرقابة المنضبطة و الدقيقة لخبراء القياده . و كل نوع من الاهمال والضعف و المجاملة من قبل مجلس خبراء القياده في القيام بمهمته القانونية الرقابية يتضمن اضراراً لايمكن تعويضها و جبرانها، علي القيادة و المستوي الوطني .(6/26)
الفصل الاخير من الكتاب «الحكومة الدينية و العنف »، من وجهة نظر كديور ان اهم اسباب اللجوءالي العنف عبارة عن ضعف القاعده الاجتماعية ، ضعف المباني النظرية ، و قولهم بالرسالة و الدور الخاص للحاكمين في الحكومات الايدئولوجية في مسير هداية الشعب . و عدم تصديقهم بثقافة المشاركة في المجال العام ، العنف لدي المتسلطين في الحياة العامة للمجتمع . و الذين لايستطيعون ادراك العلاقات الاجتماعية ثم يواجهون مسائل علي عكس انتظارهم كدون كشوت من دون محاسبة مناسبة . و يتبعون ابسط الطرقللوصول الي اهدافهم . استعمال العنف من قبل تيار متوافق للحاكمية في دول العالم الثالث و هو يحكي عنوجود مواقع في المجتمع لم تستطيع الحاكمية السيطرة عليها و لم يعط القانون لها حق الوصول اليها، لذلك ليس امامها سوي اللجوء الي الاستفادة من الطرق العنيفة و غيرالقانونية . و في الحاكميات الثنوية ، فان العود الي العنف من قبل قسم من الحاكمية يدلل علي فقدان الاستظهار الشعبي الكافي والسعي وراءالسلطة ، و والحرص علي القدرة من جانب عاملي العنف ، و اذا كان لدعاة العنف حرية العمل في نظراصحاب السلطة و لما تلاحقهم الحاكمية فهذا السكوت يدلل علي الرضاية و التعاون للعنفي و أصحاب السلطة ، و الحكومة التي تكون فلسفة وجودها الاساليب العنيفة ، فانها محكومة بالفناء.
في هذاالفصل الي جانب استخراج و تحليل المباني الدينية و الفقهية و لمنع العنف خصوصاً الاغتيال ،للاغتيال الرسمي و مسلسل القتل الذي طاول المخالفين الفكريين كانت تدور مدار نقد و بحث كل واحدعلي حده ، و قد جاء فيه ايضاً نص محاضرة كديور بعنوان «الممنوعية الشرعية للاغتيال » و التي انجزالي سنة من السجن . لقد ذكر كديور في المقدمة : «علي الرغم من جميع الانحرافات الفكرية و الاعوجاجات ،اري افق المستقبل مضيئاً. و أرجو شفاء السياسة الدينية من هذا البلاء و أن تخرج منه برأس مرفوع .»(6/27)
اعتماد التقويم الجديد للعام الدراسي المقبل
كتب - أحمد الشمالي:
صدرت الموافقة باعتماد التقويم الدراسي الجديد للعام المقبل.. وقد أعلنت وزارة التربية والتعليم موعد بدء الدراسة للفصل الدراسي الأول السبت 26رجب 1425ه الموافق 11سبتمبر 2004م. وبداية العام الدراسي بعد المقبل يوم السبت 1426//8/6ه .. الموافق 2005/9/10م.
وتضمن التقويم الجديد.. مواعيد الإجازات وبداية الامتحانات للفصلين الدراسيين وعودة المعلمين والمعلمات.
وستكون مواعيد الدراسة والإجازات التي اعتمدها وزير التربية والتعليم على النحو التالي:(7/1)
قال تعالي :
(ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون(
(
- 1 -
"افتراءات وأباطيل"
كتاب : "العواصم من القواصم(1) "
تأليف / محمد بن عبدالله بن عبدالله بن أحمد المعافري الإشبيلي المالكي المعروف بـ "أبي بكر بن العربي" خرج أحاديثه وعلق عليه : محمود مهدي الاستانبولي وحققه وعلق علي حواشيه : محب الدين الخطيب ووثقه وزاد في تحقيقه والتعليق عليه : مركز السنة للبحث العلمي .
يبدأ المؤلف في ذكر عواصمه وقواصمه ، من بعد وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام وتولي أبوبكر الصديق رضي الله عنه الخلافة(2) ، ثم استخلافة لعمر بن بن الخطاب رضي الله عنه من بعده ، وجعل عمر الأمر شوري من بعده(3) ، إلي أن يصل بنا الي خلافه "عثمان بن عفان" رضي الله عنه ، ويذكر لنا أحداث الفتنة حتي مقتله(4) ثم ينتقل بنا إلي بيعة الإمام "علي" كرم الله وجهه ، وماوقع من أحداث في موقعتي الجمل(5) وصفين(6) حتي مقتله رضي الله عنه ، وتنازل ابنه "الحسن" رضي الله عنه عن الخلافة لـ "معاوية بن أبي سفيان" رضي الله عنه ، وتولية الأمر من بعده لابنه "يزيد" ثم يصف لنا في نهاية الكتاب ، الأحداث التي وقعت بين الحسين بن علي رضي الله عنهما ، وبين يزيد بن معاوية(7).
وهذه هي الأباطيل التي جاء ذكرها في حق الإمام "علي" و ابنه "الحسين" .
__________
(1) المقصود بعنوان الكتاب : الحقائق التي تعصم المسلم من افتراءات المفسدين القاصمة المدمرة ، فتكشف عن أكاذيبهم وتجعلها هباء ( هكذا في هامش الكتاب ص 43 ) .
(2) ص 60 – 68 .
(3) ص 68 .
(4) ص 68 – 150 .
(5) ص 151 – 164 .
(6) ص 166 – 191 .
(7) ص 205 – 247 .(8/1)
ـ انكار "محب الدين الخطيب" لحديث الحوأب ـ الذي سيأتي ذكره عما قريب بقوله في التعليق علي "قاصمه" من قواصم المؤلف علي هذه الحديث : " ـ ـ ـ ـ ولم يقل النبي صلي الله عليه وسلم ـ ـ ـ ـ "(1) (يقصد الحديث) .
ـ أما المؤلف فيقول في عاصمة هذه القاصمة علي نفس الحيث : " ـ ـ ـ ـ ولا قال النبي صلي الله عليه وسلم ذلك الحديث ـ ـ ـ ـ "(2) وقد أكد "محمود مهدي الاستانبولي "صحة هذا الحديث(3) ، وكذلك" ناصر الدين الالباني(4) .
ـ الدفاع عن مروان بن الحكم واظهاره بصورة غير صورته التي سجلها لنا التاريخ وذلك من "ابن تيمية" بقوله : "ـ ـ ـ وأما الذين طلبوا قتل "مروان" فقوم خوارج مفسدون في الأرض ، ليس لهم قتل أحد ولا إقامة حد ـ ـ ـ وليس "مروان" أولي بالفتنة والشر من "محمد بن أبي بكر" ولاهو (أي ابن أبي بكر) أشهر بالعلم والدين منه ـ ـ ـ "(5) أما "محمود مهدي الاستانبولي" فيقول : ومن غريب امر هؤلاء البغاة المفتريين أنهم يحملون علي "مروان" ويتهمونه بمختلف التهم وهو منها براء"(6) .
__________
(1) ص 152 ( هامش الكتاب ) .
(2) ص 162 – 163 .
(3) ص 162 – 163 ( هامش الكتاب ) .
(4) ص 276 ( في رده علي محب الدين الخطيب بشأن الحديث ) .
(5) ص 120 ( هامش الكتاب ) .
(6) ص 102 ( هامش الكتاب ) .(8/2)
ـ إنكار المؤلف مبايعة "طلحة" رضي الله عنه ، للإمام "علي" كرم الله وجهه ، فيقول : "وأما من قال يد شلاء وأمر لايتم ، فذلك ظن من القائل أن طلحة أول من بايع ولم يكن كذلك فإن قيل : فقد قال : بايعت واللج ـ والسيف ـ علي قفي . قلنا : اخترع هذا الحديث من أراد أن يجعل في "القفا" لغة "قفي" كما يجعل في "الهوي" : هوي وتلك لغه هذيل لاقريش ، فكانت كذبة لم تدبر(1) أما "محب الدين الخطيب" فيقول : كان طلحة اصدق إيمانا وأسمي أخلاقا من أن يبايع وينكث . وانما كان يريد جمع الكلمة للنظر في أمر قتلة عثمان ، واستجاب علي لهذه الدعوة كما سيأتي في البحوث التالية ، ولكن الذين جنوا علي الإسلام أول مرة بالبغي علي عثمان كانوا أعداء الله مرة أخري بانشاب القتال بين هذين الفريقين من المسلمين(2).
ـ اتهام "محب الدين الخطيب" للإمام "علي" كرم الله وجهه ، بالبغي في حرب "صفين" بقوله : "ولو أن عليا لم يتحرك من الكوفة استعدادا لهذا القتال لما حرك في معاوية ساكناً"(3) وكذلك "ابن تيمية" بقوله : "لم يكن معاوية ممن يختار الحرب ابتداء ، بل كان أشد الناس حرصا علي ان لايكون قتال ، وكان غيره أحرص منه علي القتال ..." (4).
ـ اتهام "محب الدين الخطيب" للإمام "علي" كرم الله وجهه ، بقتل "عمار بن ياسر "لأنه هو الذي أخرجه للحرب ، لأنه كان الباغي وذلك بطرق غير مباشرة ، فيقول : وقد كان معاوية يعرف من نفسه أنه لم يكن منه البغي في حرب صفين لأنه لم يردها ، ولم يبتدئها ، ولم يأت لها إلا بعد أن خرج علي من الكوفة وضرب معسكره في النخيلة ليسير الي الشام كما تقدم ، ولذلك لما قتل عمار قال معاوية : "إنما قتله من أخرجه..."(5).
__________
(1) ص 148 .
(2) ص 154 .
(3) ص 168 ( هامش الكتاب ) .
(4) ص174 .
(5) ص 173 ( هامش الكتاب ) .(8/3)
ـ تحاملهم الشديد علي حديث الرسول صلي الله عليه وسلم في الإمام "علي" رضي الله عنه ، عندما قال : "انت مني بمنزلة هارون من موسي الا أنه لانبي بعدي" . والعجيب هو قولهم : بأن هذا الحديث موضوع رغم أنه رواه البخاري ومسلم ... بجانب تقليلهم من شأن الإمام كرم الله وجهه علي لسان "ابن تيمية" بسبب هذا الحديث(1) .
ـ محاولاتهم المستميتة لانصاف "يزيد بن معاوية" علي "الحسين بن علي" رضي الله عنهما ، واتهام "الحسين" رضي الله عنه ، بخداع وتغرير الآخرين ، وعدم قبول أي نصائح حتي لاتفترق الأمة ، وكذلك دفاعهم عن قتلة "الحسين" رضي الله عنه وخلق الأعذار ليزيد وأتباعه في قتله رضي الله عنه ، وأنه لم يكن في خروجه مصلحة لافي دين ولافي دنيا مثلما قال "ابن تيمية" وغيره (2) .
ورغم تناقض وتضارب أقوالهم ، الا أن هذا لايمنع من أنهم جميعا اتفقوا علي شئ واحد ، وهو التقليل من شأن الإمام علي والحسين رضي الله عنهما، وتشويه صورتهما ، من أجل تعظيم ورفع شأن غيرهما ، لتحسين صورهم في أعين الناس وذلك بالأباطيل التي أجادوها وبرعوا فيها اما العجب فهو ماجاء علي لسان المؤلف عندما يقول عن كتابه : "وماوقع من الروايات في كتب التاريخ ـ عدا ماذكرنا ـ فلا تلتفتوا الي حرف منها ، فإنها كلها باطلة"(3)... إنه يحذرنا من قراءة أي كتب في التاريخ حتي لانضل ونضل غيرنا ، ولذلك يجب أن نقرأ كتابه ونؤمن بكل حرف جاء فيه !!! هذا مايريده هو وغيره ، بعد ما أصابتهم الفتنة وتغلغلت بداخلهم ولكنهم نسوا أو تناسوا قوله تعالي : (واتَّقٍوا فٌتًنّةْ لاَّ تٍصٌيبّنَّ بَّذٌينّ ظّلّمٍوا مٌنكٍمً خّاصَّةْ واعًلّمٍوا أّنَّ بلَّهّ شّدٌيدٍ بًعٌقّابٌ(4) إذن فالعقاب ليس لمن أصابتهم الفتنة فقط ، بل أنه يشملهم ويشمل غيرهم ... لذلك وجب علينا تجنب الفتنة حتي ينجينا الله من شرورها وعقابها .
__________
(1) 183 – 184 ( هامش الكتاب ) .
(2) ص 253 – 247 .
(3) ص 174 .
(4) الأنفال : 25 .(8/4)
من أقوال الامام " علي " رضي الله عنه وكرم الله وجهه ل " عثمان بن عفان " رضي الله عنه ، في بداية الفتنة :
" وأحذروا أن تكون إمام هذه الأمة المقتول ، فانه كان يقال يقتل في هذه الأمة امام ، فيفتح عليها القتل والقتال الي يوم القيامة ، وتلبس أمورها عليها ، ويتركون شيعا لا يبصرون الحق من الباطل ، يموجون فيها موجا ويمرحون فيها مرحا .....""
ـ2ـ
"بداية الفتنة"
قبل الرد علي الأباطيل التي ذكرناها ، رأيت أن ألقي الضوء علي بداية الفتنة بين المسلمين وذلك لإتهام بعض الجهلاء ـ أمثال الشيخ الوقح ـ للإمام "علي" كرم الله وجهه ، بأنه كان السبب في إشعالها ، والفتنة حذرنا منها المولي عز وجل في كتابه العزيز ووصفها بأنها أشد من القتل ، لما يترتب عليها من انقسامات وفساد ودمار وذلك في قوله تعالي : (واقًتٍلٍوهٍمً حّيًثٍ ثّقٌفًتٍمٍوهٍمً وأّخًرٌجٍوهٍم مٌنً حّيًثٍ أّخًرّجٍوكٍمً والًفٌتًنّةٍ أّشّدَ مٌنّ بًقّتًلٌ(1) وبداية الفتنة في التاريخ الإسلامي كما ذكرها إبن كثير هي تلك الفتنة التي بدأت في نهاية خلافة "عثمان بن عفان" رضي الله عنه ، وتأججت هذه الفتنة سنة ثلاث وثلاثين وفيها سير أمير المؤمنين جماعة من قراء أهل الكوفة إلي الشام ، وكان سبب ذلك أنهم تكلموا بكلام قبيح في مجلس سعيد بن عامر ، فكتب الي عثمان في أمرهم ، فكتب إليه عثمان أن يجليهم عن بلده إلي الشام
---
__________
(1) البقرة : 191 .(8/5)
الارهاب باسم الله
الاسلام ينهي عن الارهاب .
الارهابيون مجرمون بنص القرآن الكريم .
يعود تاريخ الارهاب الديني إلى عشرين قرن خلت .
محاكم التفتيش تجدد في ايران .
خطر الارهاب يهدد المنطقة بالانفجار لانه يستغل السذج من الناس عبر حدوده وممتلكاته .
السلطة الالهية المسيحية وولاية الفقيه .
الارهاب رمز الخمينية وامتداد لها في القرن العشرين .
الزمرة الحاكمة في ايران التقطت من الشوارع .
نداء إلى حكام المنطقة وزعماء الاسلام .
(وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ(186))
الارهاب باسم الله
لم تكن هذه اول مرة يرهب المرهبون باسم الله امة من الامم على وجه الارض ، فالارهاب باسم العقيدة له تاريخ طويل يبدأ من عصر البداوة ، أي منذ اراد الانسان القوي ان يرغم الانسان الضعيف على قبول عقيدته ، وما تاريخ الاضطهادات الدينية الا نموذجا صارخا للارهاب باسم الله والعقيدة .(9/1)
لقد يعتبر عهد السيطرة الرومانية على المسيحيين الاوائل من الصور القاتمة للارهاب الديني حيث كانت السلطة الوثنية ترمي المسيحيين امام الوحوش المفترسة احياء وكان الجمع الحاضر يهلهل ويصفق ويعربد وكأنه ينظر إلى اروع صور الحياة ، وبعد ان دخلت اوربا في المسيحية شهدت اسبانيا في القرون الوسطى ارهابا من طراز آخر ، حيث بدأت محاكم التفتيش تعمل ليل نهار لتمييز غير المسيحيين من المسيحيين حتى يعاقبوا عقابا شديدا ، وسواء في عهد السلطة الرومانية التي اضطهدت المسيحيين او في عهد محاكم التفتيش التي اضطهدت غير المسيحيين كانت السيوف تقطع رقاب الناس باسم الله . فالسلطة الوثنية كانت تقتل غير الوثنيين للتقرب إلى الآلهة ، والسلطة المسيحية المتمثلة في محاكم التفتيش كانت تقتل غير المسيحيين للتقرب إلى الله ، وها هو اليوم يخضع العالم لارهاب ثالث يقتل المسلمين وغير المسلمين فيه على السواء باسم الله وولاية الفقيه ، انه هو الارهاب المتحكم في رقاب الامة الايرانية المسكية .(9/2)
وكما كان حراس الامبراطور كاليكولا يداهمون البيوت الامنة للعثور على رجل يقيم طقوسا مسيحية حتى يساق إلى المقصلة ، وكما كان حراس محاكم التفتيش يداهمون بيوتا للعثور على رجل يقيم طقوسا دينية غير مسيحية حتى يساق إلى الموت ، فان حرس الثورة الاسلامية الايرانية يداهمون بيوتا للعثور على رجل يقيم طقوسا لايرضى بها امامهم ومرشد ثورتهم حتى يساق إلى محاكم الثورة وينال جزائه العادل. ان الارهاب الديني اذا ما اتخذته الدولة نظاما متبعا في شؤون البلاد لاصبح ذلك البلد جحيما لايطاق ، كما هي الحالة في ظل حكم الارهابيين الحاكمين باسم الله في ايران ، ولاشك ان النظام الارهابي اذا اصبح سياسة الدولة الحاكمة ، فان تلك الدولة واجهزتها تنقلب إلى قتلة ارهابيين يملأون الدنيا نكرا وفسادا ، والاثار المترتبة على وجود دولة ارهابية تتجاوز حدود تلك الدولة ومصالح شعبها ، بل تهدد بالخطر كل الدول المجاورة والبعيدة على السواء .
فمكافحة الدولة الارهابية من الصعوبة بمكان لما تتمتع بها من امكانيات مادية وبشرية وسفارات مصونة في الخارج مما يسهل عليها القيام بالعمل الارهابي ضد الافراد او الحكومات على السواء ، فلذلك فاني اعلن للعالم واخص بالذكر دول المنطقة ان النظام الحاكم في ايران اخطر لهذه الدول من الشيوعية او من أي غزو اجنبي ، وان هذا النظام اذا قدر له البقاء فسيملأ المنطقة نارا وعدوانا وشرا وفسادا .(9/3)
لقد استطاع الخميني تربية جيل ارهابي على شاكلته ، ولذلك اني لم اتعجب عندما سمعت من جلاد الثورة الشيخ الخلخالي ان الخميني قال له انه يرى فيه امتداد لنفسه ، وقلد الخميني الارهابيين الذين رباهم مناصب رفيعة حتى يكونوا مطلقي العنان في اصدار الشر والفساد إلى الداخل والخارج على السواء ، وقد صبغ الارهاب باسم الدين والعقيدة ليعطي بعدا خطيرا لنجاح العمل الارهابي ، كما طعمه بالطائفية البغيضة في كثير من الاحيان . والارهاب المتبع في داخل البلاد والذي يعاني منه الشعب الامرين ليعتبر من اكبر الدعائم لحفظ النظام القائم وفي الوقت نفسه طغيان مخيف وتجديد للعهود البربرية والوحشية في تاريخ الانسان، وكل هذا يحدث باسم الله الرحمن الرحيم وباسم الاسلام وباسم رسوله الذي ارسله الله رحمة للعالمين . لقد وصل الاستهتار بقيم الانسان في ظل الدولة الخمينية ان رجالا من الحرس الثوري يدخلون البيوت الامنة في اثناء الليل ويفتشون كل مكان فيها فاذا لم يجدوا ما يريبهم طلبوا من اهل الدار اقامة الصلوة امامهم ، فان لم يفعلوا فيساقون إلى مقر اللجان الثورية بتهمة الفاسق الذي لايعرف صلاته واحكام دينه ليجرى عليهم الحد ( التعذيب الجسدي ) ، وفيما المنساقون إلى محاكم اللجان الثورية يلاقون العذاب ، ينهب الحرس الثوري بيوت الفساق ( على حد تعبيرهم) من غال ورخيص ، وهكذا في ظل النظام الارهابي يكون حامي البلاد حراميها .(9/4)
ان الفاشية والنازية خير من النظام الارهابي الديني الف مرة ومرة لان الامة في النظام النازي او الفاشي اذا لم تستطع التحرك السياسي وهي محرومة من ابداء الرأي الا انها حرة في حياتها الخاصة ومعتقداتها الدينية في كل مكان وزمان ، ولم يحدث قط ان اس اس ادولف هتلر دخل إلى البيوت الآمنة في اناء الليل ليعتقل اصحابها بسبب اقامة حفلة دعي اليها الاقرباء والاصدقاء ، او بسبب حفلة مختلطة دعي اليها الرجال والنساء كما فعل الحرس الثوري في ايران ، ولذلك فان فقدان الحرية السياسية احسن بكثير من فقدان الحريتين والذي يجعل من الحياة نارا يتلظى .(9/5)
اختم هذا الفصل بخطاب اوجهه إلى دول المنطقة واقول لهم بصراحة تامة ، ان الخمينية كارهاب سياسي وفكري لاتتورع عن القيام باية جريمة في سبيل مأربها داخل ايران وخارجها والارهاب عندما يصبح سياسة الدولة الحاكمة تهدد المنطقة كما كانت النازية تهدد اوربا قبل الحرب الكونية الثانية ، فان الحرب الايرانية العراقية التي لم يستطع المخلصون اطفائها حتى الان بسبب رفض مرشد النظام الارهابي لوقف سيل الدماء ، وما احدثته مرتزقة الخميني في البحرين من شر وفساد ، وهكذا التعاون مع اسرئيل لاضعاف الدول العربية وقتل ابنائها كلها شواهد اكيدة على الارهاب الذي يتبعه الخميني في المنطقة ومع الجيران ، ولذلك فان دول المنطقة اليوم امام خطر عظيم يهدد كيانها وشعوبها ، وان النظام الارهابي في ايران اذا قدر له النجاح (لاسمح الله) في مآربه التوسعية الداعية إلى (حكومة الفقيه) فانه سيجعل من المنطقة جحيما لايطاق ليس على انظمتها فحسب ، بل على شعوبها ايضا ، ولذلك فان واجب الدين والعقل والاخلاص لبلادهم يملي عليهم ان يتحدوا لدفع هذا الوباء الفكري البغيض ، وهذا الخطر العظيم الذي يهدد القريب والداني ، وان يعلموا ان دوام النظام الخميني في ايران يهدد سلامة البلاد المجاورة لأن الخمينية تهدد المنطقة كفكرة تستطيع استقطاب الناس لانها قبرت قبل ان تشهد النور كما قلنا في مكان آخر ، بل لان سياسة الدولة اصبحت هي الارهاب المعزز بكل الامكانيات المتاحة وانها هي التي ستجعل من المنطقة نارا وجحيما ، ولا اقصد بالخمينية شخص الخميني فقط ، لان المشكلة تجاوزت الفرد الواحد واصبحت هناك مجموعة جمعهم الخميني من هنا وهناك ليكونوا امتداد لحكومته ولمدرسته الارهابية ، ولذلك لم يفطن العالم بمغزى كلام الخميني عندما قال بعد مقتل 78شخصا من اهم اركان دولته في انفجار مقر الحزب الجمهوري الاسلامي ، وهكذا بعد مقتل رئيس جمهورية النظام ورئيس الوزراء معا في حادث انفجار(9/6)
مقر رئاسة الوزراء ، " ان ايران اكثر بلاد العالم استقرارا ولا تضعضع هذه الاغتيالات الجماعية نظامه " ، نعم لم يفطن الناس إلى كلام الرجل ، بل حملوا كلامه بمحمل الهذيان ، ولكن الحقيقة التي اراد الخميني بيانها بطريقته هو ان الزمرة الحاكمة في ايران لم تمثل النخبة الحكيمة والصفوة المختارة من الحاكمين الذين عليهم يتوقف ازدهار البلاد وسعادة الشعب بل انهم زمرة التقطهم من الشوارع لا يتصفون بموهبة او علم او اخلاق او فطنة فاذا حلت بهم اقدارا تعيسة فقد يأت بمثلهم من الشوارع ايضا كما فعل من قبل …
ولذلك لا يهم النظام الحاكم ان يغتال رئيس الجمهورية واركان نظامه الف مرة في كل يوم اذا كان الشاغر يملىء من الشوارع والزقة كما تملأ دلاء المياه من المستنقعات .
ان مسؤولية حكام المنطقة امام الله وشعوبهم والتاريخ والاجيال القادمة هو ان يدرأوا هذا الخطر العظيم عن المنطقة وشعوبها ، والواجب عليهم ان يتحدوا كما اتحد الحلفاء ضد المحور واملي عظيم ان يكون لندائي صداه الحقيقي في قلوب الحاكمين في هذه المنطقة الحساسة من الارض وذلك قبل ان يندموا على ما فرطوا فيه حيث لاينفع الندم ولات حين مناص .(9/7)
ولكي اضع النقاط على الحروف ، واثبت بالبرهان الدامغ مدى خطر النظام الارهابي على المجتمع اود ان اقول ، الارهاب دائما يعتمد على السذج الغفل من الناس والذين نفوسهم تواقة لعمل الشر بدافع عقيدي ، ولذلك نرى ان الارهابيين الدينيين يجازفون بحياتهم في سبيل الموت والوصول إلى الجنة ، وتاريخ الاسلام مليء بالنكبات التي حلت به بسبب الارهابيين الدينيين ، ولعل ابشع صورة من صور الارهاب في تاريخ الاسلام هو مقتل الامام علي عليه السلام على يد ارهابي متطرف من الخوارج هو عبدالرحن بن ملجم ، وعندما ضرب الامام بسيفه المسموم وهو في الصلوة كبر ابن ملجم فرحا مستبشرا لمقتل خير خلق الله على يده ، ان التفكير الارهابي يجعل من الانسان وحشا كاسرا في قرارة نفسه ، ولكن يجعل مظهره مظهر الابرار الصالحين . ان حرس الثورة الخمينية في ايران عندما يجهزون على مئات الناس يكبرون ، واصوات التكبير تعلو على دوي الطلقات التي يطلقونها لقتل الابرياء من ابناء وطنهم ودينهم ، وهم فرحون مستبشرون بما قدر الله لهم من قتل (المفسدين في الارض) على حد تعبير امامهم .
ان التاريخ يحدثنا ان الخوارج الذين شهروا السيف في وجه الامام علي عليه السلام كانوا في الليل صافون اقدامهم يرتلون القرآن ترتيلا ، وفي النهار كانوا يريدون التقرب إلى الله بقتل علي واصحابه .
هذه الصورة البشعة من التخلف الفكري تكفي لاعطاء صورة واضحة المعالم عن اخطار الارهاب الديني باسم الاسلام ، ولاسيما في مجتمع لم يبلغ مرحلة النضج الفكري بسبب تفشي الامية بين افراده وفي عصر مثل هذا العصر حيث الضغط الاجتماعي والاقتصادي والتطلع إلى حياة افضل يسيطر على عقول الشباب وهم لايجدونه "ويراد الفتى كيما يضر وينفع" ، فلانزلاق إلى هاوية المبادئ الخطرة الهدامة اصبح سهلا يسيرا ، لاسيما اذا كان هذا الانزلاق يملأ الفراغ النفسي ويمنى صاحبه بحور عين وجنات تجري من تحتها الانهار خالدين فيها .(9/8)
والاسلام حرم الارهاب وجعله ممقوتا ورسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينهى عن الارهاب والغيلة ومؤرخو الاسلام يؤرخون باجلال واكبار واعجاب موقف مسلم بن عقيل بن ابي طالب سفير الامام الحسين إلى الكوفة الذي كان يستطيع ان يغير موازين القوى لصالحه اذا كان يغتال ابن زياد في دار هاني بن عروة ، ولكنه ابى ذلك قائلا " نحن من اهل بيت لانغدر " ثم استبسل في محاربة الاعداء حتى الشهادة ، والغدر والغيلة تلازمان العمل الارهابي ولا ارهاب بلاغدر .(9/9)
(الأزمة المتجددة مع السيد محمد حسين فضل الله(
حوار مع السيد علي رضا الحائري
في سياق الحملة المشبوهة التي استهدفت المجاهد الكبير، المجدد والمفكر السيد محمد حسين فضل الله، والتي تزامنت مع وفاة آخر المراجع الكبار السيد الكلبايكاني وسطوع نجم السيد محمد حسين فضل الله مرجعا للتقليد، تجددت منتصف هذا الشهر مع ذكرى وفاة سيدة نساء العالمين الزهراء البتول )عليها السلام( لغة الهجوم بعد خفوتها، لاسيما في مدينة قم المشرفة، ليقودها هذه المرة اثنان من مراجع التقليد هما: الميرزا جواد التبريزي والشيخ وحيد الخراساني، اللذين اتهماه صراحة بإنكار ضرورات المذهب، ليُطلقا عليه حكمهما بأنه ضال مضل، فتناولت الأيدي والألسن التي تترقب شيئا من هذا، وإن كان دونه بكثير، فطبعته على الورق بآلاف النسخ، تحت عنوان "الحوزة العلمية في قم المقدسة تعلن موقفها من انحرافات محمد حسين فضل الله"!!
وفي خطوة متممة اندفع جنود هذه الحملة إلى أعلام من وجوه الحوزة العربية في قم ليستنطقوهم بما يعزز تلك الفتوى الثنائية، ولو بالاحتيال عليهم، فكسبوا ثمانية تواقيع هامة على دعم ما أصدره الشيخان التبريزي والخراساني في شأن حماية ضرورات المذهب، فصدر عن هذه الخطوة المتممة منشور شافع للأول تحت عنوان "الحوزة العلمية".
وكان أحد الموقعين الثمانية هو السيد على رضا الحائري، الذي شغل منصب رئيس الحوزة العربية عند تشكيلها قبل عدة سنين، علما أنها تشكيلة أصبحت لاغية منذ سنوات أيضا .. وقد وقع سبعة من هؤلاء الثمانية بتاريخ 16 جمادى الأولى 1418هـ فيما تفرد السيد علي رضا الحائري بالسبق في 15 جمادى الأولى 1418هـ.
وفي هذا الموضوع جرى بيني وبينه الحديث الآتي على مرحلتين في 19 و20 جمادى الأولى 1418هـ، وكما يلي:(10/1)
ابتدأت حديثي معه بعد التحية بما يلي: لقد رأيت توقيعكم في هذه التواقيع الثمانية، وجلب انتباهي أنكم كمتم السباقون إليه حيث أرختم لتوقيعكم في 15 جمادى الأولى وأرّخ الآخرون في 16 منه، قال: "نعم".
قلت: وعما أثار استغرابي أيضا دخولكم في موضوع لا يُدرى من الذي يقوده، والى أين! وإذا كان الاسم المعلن هو السيد فضل الله فإن المستهدف أولا هو السيد الخامنئي بشخصه وأطروحته.. ثم أعدت سؤالا ثانيا:
قلت: هل تعتقدون حقا بهذا الذي وقعتم عليه؟
قال: نعم، وماذا فيه؟
قلت: لو اندفع شخص متحمس أو فدائي معتمدا على توقيعكم وقتل السيد فضل فهل تتحملون دمه؟
قال (وبدا عليه الاستغراب): لا، نحن لم نقل بذلك.
قلت: إن توقيعكم يفيد اعتقادكم بأن السيد فضل الله ضال مضل منكر لضرورات المذهب، وهذا يسوّغ إباحة دمه!
قال (وقد ازدادت دهشته): نحن لم نذكر السيد فضل الله أصلا، وإنما ذكرنا المنكر لضرورات المذهب، وأيدنا كلام الشيخين ـ المذكور اسميهما سابقا ـ في شأن حماية ضرورات المذهب.
قلت (والدهشة تأخذني هذه المرة): وهل في كلام الشيخين إلا استهداف السيد فضل الله، وهذا هو الذي أُريد منكم تأييده.
قال: لا، هذا غير صحيح، وهذا تحميل لكلامنا، فنحن لم نذكر السيد فضل الله أبدا.
قلت (والدهشة تتصاعد): وهل يُفهم من كلامكم شيء غير ما أراده الشيخان التبريزي والخراساني؟ إن أحدا من الناس لا يفهم إلا أنكم توقعون على فتوى بتضليل السيد فضل الله.
قال: لا، هذا تحميل، وهذا غير صحيح.
قلت: الفتنة القائمة الآن قائمة على هذا الفهم، ولا يخالفني فيه أحد، وإذا شئت التحقق فاسأل من تشاء من الناس، اسأل خيرة تلامذتك الذين تثق بهم، فإنك لا تجد لديهم إلا هذا الفهم.
قال: هذا غير صحيح، ولا نعتقد به، والسيد فضل الله صديقي وبيني وبينه مودة ولقاء، فهذا تحميل للكلام، وعليهم أن ينظروا إلى النص المثبت.(10/2)
قلت: هل أنتم على استعداد للتوقيع على هذا التوضيح لو صغت لكم سؤالا في الاستيضاح؟
قال: نعم، مستعد.
قلت: غدا إن شاء الله آتيك بالاستيضاح.
فودعته على هذا الموعد وأدركت بعد لحظات أني قد فرطت بفرصة ذهبية، فلربما أى الغد بما ليس في الحسبان، وفي بيتي وضعت نصا لاستيضاح على نحو يفهمه حتى من لم ير المنشورين المذكورين، وأتيته في اليوم الآتي إلى غرفته ومعي ورقتي وثلاث مناشير، أحدهما المنشور الذي يحمل التواقيع الثمانية والآخر المنشور الشفيع المعنون بـ"إعلان الحوزة.." والذي يحمل التصريح بأن كلام الشيخين التبريزي والخراساني قد كان قاطعا بأن السيد فضل الله ضال مضل، وأنه منكر لضرورات المذهب، متعامل مع الاستعمار! أما الثالث فهو جواب السيد محمد حسين فضل الله على تلك الأوراق وأهلها، وقد جاء جوابا متزنا يحمل موعظة بليغة، وتذكيرا علميا مركزا، منزها عن القدح والنبز، لائقا بمقام صاحبه ومنزلته..
ناولته أولا منشورهم الموقع، ثم ناولته الثاني، وإعلان الحوزة.. قائلا: هذا هو الذي يوزع مع بيانكم، ويُنشر إلى جانبه، وقد توحدا أيضا في بعض الإعلانات!
فلما نظر إليه أخذته دهشة كبيرة، وقال: هذا شيء لم أره ولم أسمع به!
قلت: هذا هو الواقع الذي قلت لكم، وقد بلغا معا سماحة السيد فضل الله، فكان هذا جوابه.
فناولته الجواب، فبانت عليه علامات التأثر.. فعرضت عليه ورقتي للتوقيع، فبعد أن نظر فيها قال:
أنا فكرت كثيرا في هذا الموضوع فرأيت أن توقيعي سيثير فتنة جديدة (ويقصد توقيعه على استيضاحي).
قلت: لعل الموضوع بالعكس تماما، فالفتنة قد ثارت إثر توقيعكم الأول، وهذا الاستيضاح سوف يسهم في إخمادها، وأيضا فأنتم بهذا التوقيع الجديد ستُخرجون أنفسكم من مسؤولية أي اعتداء يتعرض له السيد فضل الله استنادا إلى توقيعكم الأول.(10/3)
قال: لكن توقيعي على هذا الاستيضاح سيجعلني في مواجهة مع الشيخين (التبريزي والخراساني) وهذا موضوع خطير، فإن لهما ثقل كبير وأتباع كثيرون، وأحدهما يحضر درسه أكثر من ألف طالب، وهذا شيء يجب أن نحسب له حسابه.
قلت: إذا كيف ستخرج من عهدة المفهوم من موقفك؟
قال: أنا بالتأكيد مخالف لهما فيما يتهمان به السيد فضل الله، والسيد صديقي، وأنا واثق من أنه سوف يُفاجأ حين يرى اسمي بين هذه التواقيع، ولقد كنت مترددا في التوقيع مع أني لا أفهم منه ما يفهمه الناس. وأعتقد أن جميع العلماء الذين وقعوا معي لهم نفس الموقف، ولا يتفقون مع الشيخين في هذا الوصف.
ثم واصل قائلا، بعد أن ذكر لقاء له مع السيد فضل الله في العام الماضي في سوريا بحضور الشيخ مهدي العطار، وتمنيه مع السيد فضل الله أن يتجنب ما يثير جمهور الشيعة خصوصا وهو يعلم جيدا أن له أعداء يتربصون به ويتصيدون عليه الكلمات
قال بعد هذا: الحل الذي أراه أن أتصل بهؤلاء الجماعة الذين وقعوا معي لنتفق على مخرج مناسب للموضوع.
ثم قال لي: انقل هذا الكلام عني، ولا مانع لدي، وأنا سأبحث الموضوع مع الجماعة المعنيين. وبهذا انتهى حوارنا مع إقامة صلاة الظهر من يوم عشرين جمادى الأولى1418هـ
التوقيع : صائب عبد الحميد(10/4)
السلام عليكم ورحمة الله
اخواني لقد وجدت هذا الموضوع المهم فاردت نقله لكم للفائدة والاهمية، طبعا نقلاً عن ديوان الثقافة - العضو: يراع البحرين
وصلة الموضوع الأصلي: الأساليب الجديدة في محاربة الإمام الحسين (ع) احذروا سموم النواصب (http://www.karrana.net/Forum/index.php?showtopic=11443)
بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على أشرف الخلق والمرسلين محمد وآله الطيبين الطاهرين
ألأخوة الأعضاء الكرام ،،
بعد السلام والتحية ،،،
ما طرحه سماحة الشيخ عبد الحسين المبارك بعد صلاة الجماعة مساء اليوم الجمعة أمر في غاية الأهمية ، ويجب أن يلقى رواجاً في جميع مفاصل المجتمع ، وأن يوقف عليه بحزم ووعي شديدين .
الأسلوب الجديد في محاربة النواصب الوهابية للإمام الحسين "ع" وإلى خط التشيع هو تقديم السم على أنه العسل ، وبترويج كتيبات ومطويات تدعو إلى ترك معقتداتنا في أهل البيت "ع" ، وذلك في مساجدنا وحسينياتنا ، وبأسماء وعناوين خاصة بذلك .
بين يدي الآن كتيبان من مجموعة تلك الكتيبات والمطويات طلبتهما من سماحة الشيخ وهما :
الأول : بعنوان " فقه المزار عند الإئمة " لناصبي يدعي بأن اسمه " د.عبد الهادي الحسيني " ويدعى إصداره من "مركز إحياء تراث أل البيت " . ويدعى إصداره في العام 1424هـ . والكتيب يحتوي على موضوعات متعلقة بالنهي عن الزيارة لأضرحة الأئمة عليهم السلام ، ويراد الاستدلال على ذلك بأحاديث من بعض كتبنا ، ورغم أن هذه الأحاديث المذكورة تحتاج إلى دراسة في السند والمتن ، ولا شك أنها مردودة لدى فقهائنا الأعلام ، إلا أن الناصبي الذي ألف الكتيب ممن في قلبه زيغ " وأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه " وهو ممن أعماه الله وأضله .
ويكفي للتدليل على أن هذا الكتاب يراد به التظليل رقم المطبعة : هل سمع أحد بمطبعة الاعتصام في المنامة ؟ وهل سمعتم برقم في المنامة كهذا الرقم : 444916 .. جربوا اتصلوا ؟؟(11/1)
ثم هل تعرفون مطبعة لا تعرف ضبط الهامش الأيسر لتتساوى الأسطر ؟؟ هذا فضلاً عن مناقشة المضمون .
الكتيب الثاني : و هو بعنوان " الأجوبة النورانية على مسائل الشعائر الحسينية " وهي عبارة عن جميع لشخص ناصبي شجاع جداً ، بحيث انه ذكر اسمه الحقيقي على الغلاف ، واسمه " موالي غيور " والظاهر يقصد أنه من الموالي أي العبيد الذين يغارون أي فيهم طبيعة الحسد .. أو أنه يقصد من اسمه أنه موالٍ ليزيد وغيور على سمعة الشمر . وهذا الكتاب صادر عن دار يدعى بأنها " دار إحياء تراث أل البيت " يقع في عشرين صفحة ، وينتهي إلى أنه لا يجوز البكاء ولا اللطم ولا لبس السواد على مصائب أهل البيت ، وأن صوم يومي التاسع والعاشر من محرم الحرام سنة نبوية ..
تم ضبط الهامش الأيسر في الكتيب الثاني ، لكن دون أن تذكر اسم المطبعة ....
هذا عرض للموضوع من حيث الشكل ، أما من حيث الموضوع فله شأن آخر ..
وإن كان شر البرية ما يضحك ، إلا أن خطر هذه الكتب كبيرً جداً ، خصوصاً حينما يقعون في أيدي نوعين من الناس :
- الجهلاء أو البسطاء أو الذين لم يتلقوا الثقافة الإسلامية الكافية ، ولا الإيمان الكافي .
- الذين يدعون الثقافة ، وهم الأخطر ، إذ خصوصاً مع أولئك الذين يدعون أنهم يفهمون الدين كما يفهم الفقهاء العظام أعلى الله درجاتهم ، وأن فهم الدين ليس محصور في الفقهاء ، وهذه الموجة التي يركبها كثير من الناس من مدعي " الحداثة " فقد يتأثروا بهذه الأفكار ، وقد يأخذ هذا السم أثره في تفكير هؤلاء شيئاً فشيئاً إلى أن نصل إلى شيعة كأحمد الكاتب وغيره من المنحرفين فكرياً .
الحذر كل الحذر من هذه الكتيبات ، فرغم أنها تبدوا مضحكة ، إلاّ أنها مرشحة لأن تترك أثرها في البعض على المستويين القريب والبعيد .
من مبدأ الكلمة الرسالية ، ومصداقاً لقول الحق تعالى " وتواصوا بالحق " ، أوصي نفسي و الجميع بضرورة الرفض الشديد لكل هذه الكتيبات ومحاربتها كل من موقعه(11/2)
.
هذا الأسلوب ، وهذه التجربة عيناً عشتها في الكويت أبان دراستي فيها ، فقد كان السلفيون ينشطون في أيام محرم الحرام بنشر أمثال هذه الكتيبات والمطويات والأشرطة ، وكذلك فتاوى تحريم وجبات المآتم ، وكان سماحة الدكتور الشيخ الوائلي رحمه الله تعالى في المجالس التي أحضرها له يتصدى لهذه الأفكار بفكر مضاد ، ويدعوا لذلك بصورة علنية من على منبره ، وكان يؤكد على مشروعية الشعائر بأساليب مختلفة عقلية ونقلية وفلسفية ، وأحياناً هجومية كما شهدته في أكثر من موقف حيث يقف متحدياً من يأتيه بدليل واحد يثبت عكس ما نقول به حول الشعائر .(11/3)
الأستاذ الخميني في الميزان
موسى الموسوي
المصدر: موقع فيصل نور
(( إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أي يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا )) الآية
من هو الخميني
قبل كل شئ يجب أن نعرف شخصية الخميني وهو جواب لأسئلة كثير تطرح نفسها .
1- الخميني الذي يمجد نفسه يقدسها بحيث يجازي فخر الحجازي
كثيرة الذي قال أن الخميني أعظم من النبي موسى وإبراهيم نائبا
عن طهران ورئيسا لمؤسسة المستضعفين، أعظم مؤسسة مالية في
البلاد .
2- الخميني الذي جعل نفسه أعظم من النبي الكريم وأدخل اسمه في
أذان الصلاة .
3- الخميني الذي يرى نفسه حارسا إلهيا أرسله الله لإنقاذ البشرية
ونصب نفسه وخلفائه في الدستور الإيراني الجديد متصفا بهذه
الصفة، كما احتكر لشخصه كل الصلاحيات التي احتكرها
المستبدون الطغاة .
4- الخميني هذا الذي ترمز وتطبل له كل أجهزة إعلامه والصحف التي
استولى عليها من الصباح إلى المساء وتصفه بالصفات البطولية
-3-(12/1)
العظمى وتنسب إليه الكرامات والمعاجز لماذا هذا الإعلام وهذه الصحف نست أو تناست تماما أسرة خميني ونسبة وموطنه قبل أن يهاجر إلى إيران وهكذا الحالة الاجتماعية التي كانت أسرته تعيس فيها أن الذي يعرفه الجميع هو أن جدّ الخميني أحمد قدم من الهند إلى إيران، وذلك قبل مائة عام وسكن قرية خمين ووالد أباه مصطفى الذي قتل في أبان الشباب في تلك القرية، وهذا كل ما يعرفه الشعب الإيراني من نسب الرجل والقه أما من هم أسرته وأين كان موطنها في الهند قل الهجرة إلى إيران فهذا شئ لا يعرف أحد شيئا عنها ولا هو أشار إليها لا من القريب ولا البعيد ولا أجهزة الإعلام أشارت شيئا إلى هذا الموضوع الحيوي من حياة أسرته خميني، وكما أشرنا قبل قليل بما أن هجرة جدّ خميني إلى :غيران كانت قبل مائة عام، والمائة من السنين في حياة الأسرة يعتبر تاريخا لثلاثة أجيال فقط، فإذاً لا يمكن أن نصدق أن صلة الخميني مقطوعة بأسرته في الهند وقد نساهم، فإذاً ما هو السر لدفين تناسي أسرته وأقربائه وقطع الصلة بهم، أليس هناك ما يعتبر غريبا وخطيرا في هذا الكتمان الشديد وهذا التعميم غير طبيعي على نسب خميني ومؤسسي الجمهورية الإسلامية ومرشد الثورة الإسلامية في إيران . أبرك الجواب للمعجبين بالرجل ومريديه وصحافته وزمرته في أرجاء إيران وكل أملي أن لا يهمس بعضهم في أذن البعض الآخر قوله تعالى((لا تسئلوا عن شيئا أن تبد لكم تسوءكم )) صدق الله العظيم.
وهنا أورد أن أعرج إلى موضوع خطير له علاقة مباشرة بالحالة الراهنة في إيران المنكودة الحظ، وهذا أهم بكثير من معرفة نسب الخميني لأن هذا الأخير، سواء كان من سلالة الإمام موسى بن جعفر كما يحمل توقيعه أو لا يكون فالإنسان مسؤول أما الله بأعماله وبما يصدر منه من خير أو شر، (( يومئذ يصدر الناس أشتاتا ليروا أعمالهم
-4-(12/2)
فمن يعمل مثقال ذرة خير يره ومن يعمل مثقال ذرة شر يره )) . فقد يكون الإنسان منحدرا من أرفع السلالات ولكن عنصره سيئ لا يساوي خردلة، وقصة ابن نوح والتي جاءت في القرآن الكريم تغنينا عن الإسهاب في هذا الموضوع: (( ونادى نوح ربه فقال إن أبني من أهلي وإن وعدك الحق وأنت أحكم الحاكمين، قال يا نوح أنه ليس من أهلك أنه عمل غير صالح فلا تسئلن ما ليس لك به علم إني أعظك أن تكون من الجاهلين)) . وتقول الآية الكريمة في مكان آخر "" فإذا نفح في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون )) .صدق الله العظيم .
فالمهم إذاً تقيم الخميني بأعماله التي تحكى عن سريرته ودخائل نفسه.
إن ما يحدث الآن في إيران من كرب وبلاء ومحنة هو من أزمة نفسية داخلية أو من تعقيدات في تركيب شخصية وبحكم اللقاءات الكثيرة معه والأحاديث المختلفة التي كانت تدور بيننا وما لمست فيه من تناقضات صارخة بين القول والفعل أدت إلى قطعية التي أشر إليها في مكان آخر من هذا الكتاب فقد كان تقييمي لرجل حسب قناعتي الخاصة كما يلي:
الخميني شديد التعلق بنفسه وبكل ما يتعلق به من القريب وأو البعيد ولا يأنف أن يفني العالم في سبيل أنانيته التي جعلت منه الرجل الذي لا يرى إلا شخصية وما يتعلق بشخصه، وهذه الصفة من أخطر الصفات لدى الحاكم المستبد ولا سيما إذا كان ذلك الحاكم يزعم بأنه له السلطة الإلهية في معاملة العباد .
وكل الصفات الأخرى التي تتناقض مع الزعامة الروحية وعلو الرتبة، تتبع من الأنانية وحب النفس ولذلك إذا أرتاي الخميني شيئا لا
-5-(12/3)
يحيد عنه قيد النملة ولو انقلبت ذي على ذه ، ومن هنا لا يتعامل معه إلا المطيعين والمتقادين، ثم أن الرجل شديد الظن بلك شئ ومن الصعب عليه أن يسمع كلاما ويحمله على الصحة أو الإخلاص، ومن هنا جاءت معاملته لكثير من المتعاونين معه سيئة بل اقتدى كثيرا منهم لفظ سمعته ونقاء صورته، وإن من أهم الصفات السيئة التي يحملها هو حقده الدفين على كل من أساء إليه ولو قبل نصف قر، فهو لا ينسى الإساءة ولا بد أن ينتقم لها عندما تسنح له الظروف، ولذلك نرى أنه أمر بإعدام علامة الوحيدي والدكتور جمشيد أعلم وهما عضوان من أعضاء مجلس الشيوخ الإيراني في عهد الشاه من بين 60 عضوا آخر لأنهما تطاولا في الكلام عليه في المجلس عندما كان يعارض حكم الشاه، أما سائر أعضاء مجلس الأعيان فلهم مطلق الحرية يسرحون ويمرحون في إيران، وأغرب من هذا أن أحد أقربائه المتصلين به سألني يوما هل تذكر يوم كنا في بيتك مع الخميني وتغذينا على مائدتك ؟
قلت: معم أنه كان في عام 1955 وعندما كنت مقيما في طهران فأضاف محدثي معلقا فإذا كان صحيحا ما سمعناه عن أيام إقامته في العراق ومن أنه كان يطلب منك العون في بعض الحالات .
فكن على حذر منه فإنه سيقتلك إذا ظفر بك، لأن الخميني يحقد على شخصين ويريد أن يزجهما من الوجود إذا استطاع، شخص أساء غليه وشخص أحسن إليه لأنهما يذكر إنه بأيام ضعفه وهو لا يريد ان يذكر تلك الأيام حتى ولو كانت له. وقد ثبت لي صحة كلام الرجل بعد أن قتل الخميني الجواهريان ودستمالجي وكلاهما من أخلص المخلصين له، وكانا قد قدما له عشرات الملايين لنجاح ثورته عندما كان في العراق وفي باريس، أما التهمة الموجهة إليهما فكانت اتفه من التافه ، أنها مساعدة بني صدر الموقوف ضد الملالي والزمرة .
-6-(12/4)
كما أن قتل الشباب المجاهدين الذين على أكنافهم وبنضالهم وصل إلى سدة الحكم، وحربه مع العراق الذي أواه واسنده وقدم له العون طيلة 15عاما خير دليل على سداد رأي الرجل وصوابه، ورحم الله المتنبي الذي قال: " إذا أنت أكرمت ملكته … وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا "
أما حبه للحياة وشهوته إلى الحكم وهو في أرذل العمر، وما ارتكب في سبيله من الأثام فإنه فريد في التاريخ، لقد قلت لبني صدر عندما التقيت به في باريس، أن سبب عداء الخميني لك هو إنك أظهرت نفسك بالشخصية التي يحبها الشعب أكثر من الخميني، وجهازك نشر إحصائية للرأي العام تؤكد أن شعبيتك 57 بالمائة وشعبية الخميني 47 بالمائة أن هذا التحدي كان انتحارا لك، ألم تكن تعرف الخميني، أنه يفتي الدنيا في سبيل أنانيته النابغة من جنون العظمة، وقلت له أيضا عندما قرأت في الصحف هذه الإحصائية تنبأت أن أيامك في الرئاسة معدودة، وهكذا كانت . أيد السيد بني صدر هذا الرأي قائلا أن صهر الخميني الشيخ الإشراقي كان ينصحني دوما أن لا أظهر بمظهر الزعيم الذي يحبه الناس لأن الخميني لا يتحمل أن يرى غيره زعيما يتعلق به الشعب .
والخميني لا يهمه إراقة الدماء والعتل بالجملة والجماعات، فقد سمعت منه وهو يحاور الإمام الحكيم في النجف ويقول له قتل أتاتورك تسعين عالما دينيا في واقعة واحدة وزرت مقابر هؤلاء عندما كنت المنفى في تركيا، فماذا لا نضحي نحن بالجملة على غرار أولئك ليبقى اسمنا في التاريخ مخلدا، فأجابه الإمام الحكيم بابتسامة ساخرة، هل نقتل ليبقى اسمنا في التاريخ فقط ؟
وضحك الحاضرون وامتقع لون الخميني وقال من جديد وكأنه يريد أن يدفع عن نفسه هذه السخرية لما لا لماذا لا تذكر الإمام الحسين
-7-(12/5)
عليه السلام الذي قتل لأنه حارب الظلم …… فقال له الإمام الحكيم بنفس للهجة والابتسامة ، لماذا لا نذكر الإمام الحسن عليه السلام الذي صالح معاوية حقنا للدماء وجلس في البيت. وساد المجلس سكوت وصمت رهيب، خرج الخميني أثره من منزل الإمام الحكيم ولم يودعه الحكيم التوديع اللائق .
الرجل لا يعرف الرحمة والعفو، فحتى الصخرة بكث ورقت بإعدام ثلاثة آلاف شاب وشابة من المجاهدين وكلهم في ريعان الشباب وفي غضون ثلاثة أشهر فقط، ولكن الرحمة والرقة لم تجد إلى قلبه سبيلا. فلم يصدر العفو حتى على واحد من هذا الجمع الغفير الذي أعدمته محاكمة الثورية بالتهم السياسية .
والخميني لا يأبى من الكذب أمام الخاصة والعامة على السواء، وإذا كذب يصر في الكذب ما استطاع إلى الإصرار سبيلا، فقد رأينا كيف أن كل أجهزته عندما اعترفت بشراء الأسلحة من إسرائيل أنكر الخميني ذلك أكثر من مرة، حينما ثبت ذلك أمام العالم بعد سقوط الطائرة الأرجنتينية وانكشفت حقيقة النظام الحاكم في إيران واعترفت إسرائيل بذلك في آخر الأمر، كرر الخميني إنكاره لشراء السلاح وبإصرار وعناد وكأنما هذا الشيخ العجوز يعيش في عالم آخر لا يرى الشمس حتى في رائعة النهار .
والخميني دوانيقي في كرمه، ولا تزال الأزمات الخانقة المالية والفقر المدفع الذي لمّ به عندما كان طالبا بسيطا في قم مسيطر على تفكيره وعظمائه، وقد قال أحد المقربين منه أن الإمام إذا أراد أن يعطي أحدا ما يكفيه لشروة نقير ارتجفت يداه حتى الكتف، فالحوزة العلمية الدينية في قم بطلابها البالغ اثني عشر ألف طالب تعيش في حالة مالية مؤسفة بسبب جشع الخميني في تكديس الأموال في البنوك وعدم صرفها
-8-(12/6)
عليهم وكلما حاولت زعماء الحوزة الكبار أمثال الإمام السيد كاظم شريعتمادري وكلبايكاني والمرعشي أن يحسنوا الوضع المالي للطلبة رفض الخميني ذلك ووقف ضد الإصلاح المالي بإصرار وعناد، قائلا أن الله قد جعل العلم في الجوع. وطلب الدين في الحوزة الدينية في قم تقاضى ما يعادل مائة دولار شهريا فقط حتى إذا كانت في عنقه عائلة تتجاوز أفرادها العشرة أو العشرين، يجزي هذا الظلم القادح على كل الحوزات الدينية في إيران وطلابها يأتون من أذى الفقر والجوع لأن الخميني لا يريد الرفاهية لهم وهو يملك مئات الملايين التي كدسها في البنوك باسمه وهذه الأموال أعطيت له كي يعطيها إلى الذين حرمهم منها، وهكذا أمام الأمة يخفون أموال الأمة .
والخميني مغرء بمظاهر التكبر والجبروت وأذكر هنا ما حدث أمامي في مستشفى الأمراض القلبية الذي كان الخميني راقد فيه . كانت هناك غرفة صغيرة ملاصقة بالغرفة التي كان الخميني راقد فيها وهذه الغرفة كانت مخصصة لكبار زائريه . كنت أنا والمهندس نازركان وصهره الإشراقي وابنه أحمد والشيخ أحمد المولائي سادن الحضرة في مدينة قم في تلك الغرفة عندما دخل عليه صادق قطب زاده وزير خارجية إيران آنذاك وكان قد رشح نفسه لرئاسة الجمهورية فقاطعة الإشراقي قائلا ما هذا السؤال لابد أنه صوت لنفسه .
فقلت أنا ضاحكا: إذا كان لقطب زاده ضمير حي فلا يختار نفسه لمثل هذا المنصب .
وهنا ضح الحاضرون بصوت عال جدا . وبعد قليل جاء المرافق وقال للإشراقي ( أجب الإمام) وعندما عاد الإشراقي أخبرنا أن الإمام سأله عن أسباب الضجيج الذي أقلق مضجعه وقد بلغني بعد ذلك أنه أمر بغلق تلك الغرقة وستتقبال الزائرين جميعا في الصالون العام .
-9-(12/7)
واختم هذا الفصل بقصة هدم مقبرة رضا بهلوي، تلك المقبرة التي كلفت الشعب 200مليون دولار في وقته، وكانت من البنايات الأثرية في إيران . لقد أمر الخميني بهدمها كي يثبت للشعب الإيراني أن تنبؤاته صادقة وأنه يلهم من عالم الغيب، فقد سبق وأنه قال في عهد الشاه وفي إحدى خطبه ( أنه يأتي اليوم الذي يهدم الشعب مقبرة بهلوي ) وعندما بلغني أن الشيخ الخلخالي جلاد الثورة بدأ يهدم المقبرة اتصلت به هاتفيا وقلت له: كما يعلم الجميع فإن جثمان بهلوي خرج من إيران بصحبة ابنه الشاه وهذه البناية هي ملك الشعب وليست ملكا لأسرة بهلوي وكنت قد اقترحت أن تكون متحفا لجرائم بهلوي الأب والابن فلماذا تهدم بناءا شاهقا هو من أجل المباني في هذه البلاد والشعب هو الذي دفع ثمن هذه البناية من عرقه وقوته، وهل تريد أن ينظر العالم إليكم كما ينظر إلى جنكيز وتيمور ويصفكم بهدام الحضارة .
وبعد يومين أعلن الشيخ الجلاد أن الشعب هدم مقبرة بهلوي ليعلم الناس أن تنبؤات الإمام الخميني صادقة دوما .
على مثل هذا الزيف والدجل والتلاعب بمعتقدات الناس وسذاجتهم بني الخميني صرح إمامته . وحول هذا الصرح يزمر ويطيل قوم ذكرهم الله تعلى في كتابه الكريم (( أولئك كالأنعام بل هم أضل سبيلا )) ووصفهم الإمام علي بقوله: " همج رعاع يميلون مع كل ريح، أتباع كل ناعق لم يستضيؤوا بنور الله " .
-10-
الخميني في قم
لم يكن يفكر أحد قط أن شيخا بلغ الثمانين وهو متلبس الزهد والتقوى وقد عمم بالسود إشعارا بأنه من أبناء الرسول الكريم(ص) وهو يدعي التفقه في الدين وقد سمعه العالم أكثر من مرة يندد بالظلم والاستبداد الذي يجري في إيران على يد الشاه محمد رضا بهلوي، إن هذا الرجل نفسه وبهذه الميزات عندما ألت إليه السلطة يرتكب من الجرائم ما تقشعر من سماعه الأبدان، ويرتكب باسم الإسلام فسادا ونكرا يبقى وصمه عار في تاريخ البشرية ما شاء الله أن يبقى .(12/8)
إذاً من هو هذا الزاهد الطاغوت وهذا الفقيه الجبار وهذا الثائر المستبد وهذا العجوز الذي اتكل من الأمهات وأيتم من الأولاد وقتل من أبناء الشعب الإيراني بقومياته المختلفة في أربع سنوات عشرة أضعاف ما قتل سلفه في ثلاثين سنة، من هو هذا الذي يكون أعظم خداع في التاريخ بحق، وأكثر ممثل على مسرح الزمان منذ بداية إلى نهايته .
كان روح الله الخميني مغمورا في أوائل الخمسينات عندما كان في قم يقوم بتدريس الفلسفة الإسلامية وكلما كان يعرف عنه أن الإمام البروجردي زعمي إيران الديني آنذاك غاضب عليه بسبب تطرفه الديني وقد قال الإمام عنه أن هذا الرجل سيهدم الحوزة الدينية ويكون على الإسلام وبالا، وتوفى الإمام البروجردي في عام 1961 وقد خلفه في الزعامة الإمام الشريعتمداري والكلبايكاني والنجفي المرعشي وكلهم الآن على قيد الحياة ولم يذكر أحدا الخميني في عداد خلفاء الإمام الراحل ولم يفكر أحد قط أن الخميني سيكون في عداد الزعماء الدينيين الجدد في قم، لأن الحوزة الدينية كانت تنظر إلى الخميني كأستاذ في الفلسفة ولم تكن تنظر إليه كفقيه مجتهد يحق له تصدير الفتوى ومن شروط الزعامة الدينية هو التفقه في الدين والاجتهاد في الأحكام غير
-11-(12/9)
أن هذا الوضع لم يدم طويلا فقد أعلن الشاه تقسيم الأراضي الزراعية على الدهاقين فثار ثائرة رجال الدين وكان أكثرهم تحمسا وشدة في الكلام وهجوما على الشاه هو الخميني فاشتهر اسمه واعتلى نجمه ولا سيما أن الزعماء الدينيين الثلاث مع مخالفتهم لقرار التقسيم لم يخرجوا م طور المجاملة في التخاطب مع الشاه، ومع أن الخميني في بادئ البدء كان يخاطب الشاه في رسائله وأحاديثه بحضرة صاحب الجلالة والملك المعظم وكان يقول أنه لا يرى لإيران بديلا من الملكية إلا أنه يريد الإصلاح ولكنه عندما رأى أنه خرج من العزلة بسبب خطبه العنيفة، واشتهر صيته في البلاد واصبح يذكر مع الزعماء الثلاثة الآخرين فأراد أن يسبق الرهان فبدأ يتحرك في كل محور من محاور العمل الشعبي الجاد ضد الشاه فاجتمع على بابه رهط كبير من الناقمين والساخطين والمعجبين بخطبه الحماسية التي كانت تلهب مشاعر الشعب الإيراني واستغل هو وجماعته عنه المقربين هذا الإقبال الجماهيري لينادون به فقيها يستطيع تصدر الفتوى فكان لهم ما أرادوا وبعد تطاول على الشاه عاد إلى قم وهو يسير في نفس الطريق فنفاه الشاه بعد تسعة أشهر إلى تركيا ليظل تحت الرقابة في بورما سنة كاملة وقد تركها بعد ذلك إلى العراق بموافقة الشاه واستئذان الحكومة العراقية وبقى في العراق 15 عاما يأكل من قمح العراق وملحه،وقد شاءت الأقدار والظروف السياسية التي ذكرناها في هذا الكتاب أن يزاح الشاه عن عرشه ويحل الخميني عنه وكما قال لويس الرابع عشر( إذا مت فليكن الطوفان وقد كان ) .
-12-
الخميني في العراق
وصل الخميني إلى العراق في أيلول من عام 1965 واتخذ من النجف الأشرف مقرا له واجتمع حول نفر من مريديه ثم انضم إليه رهط من إيران . وبقى الخميني في النجف حتى نهاية عام 1978 حيث غادرها إلى باريس في قصة يعرفها العالم .(12/10)
كان الخميني في النجف منطويا على نفسه له برنامج خاص يتبعه كل يوم لم يكن له نشاط يذكر ضد الشاه حتى عام 1968 أي سنة التي وصل حزب البعث إلى الحكم فلم يمض شهور قلائل على تسلم الحكومة الحاضرة لمقاليد الأمور حتى نشب نزاع مرير بين الحكومة العراقية والشاه بسبب المساعدات التي كان يقدمها هذا الأخير للملا البرازاني والانفصاليين الأكراد، وبدأت أجهزة إعلام الدولتين حرابا إعلامية ضد الدولة الأخرى وأعلنت الحكومة العراقية أنها تساعد وتأوي كل لاجئ يصل إلى العراق هاربا من حكم الشاه فوصلت إلى العراق جماعات كثيرة من مختلف الأحزاب والاتجاهات في المعارضة الإيرانية، وفي ضمن هذه مجموعات رجال من مؤيدي الخميني فأكرمهم العراق وأواهم وأعطى الأولوية للخميني في العناية ولجماعته .
وعندما بدأت الإذاعة الفارسية في بغداد تشن هجوما عنيفا ضد حكم الشاه خصصت قناتا خاصة للخميني كان يقوم البث فيها رجل من أنصاره يدعى محمود دعائي وكان اسم البرنامج ( النهضة الروحية)، وحصل تعاون وثيق بين الخميني والحكومة الحاضرة بحيث كان ابنه مصطفى يزور شخصيات السياسية في بغداد حاملا إليهم رسالة أبيه وثنائه وشكره على الحكومة التي أوتهم وأعطتهم كل الإمكانيات للانطلاق السياسي الذي ما كانوا يحملون بمثله في أي مصر وعصر .
-13-
ولكي أضع النقاط على الحروف أود أن أسجل هنا للتاريخ قائمة بتفاصيل المساعدات التي كان يتلقاها الخميني من الحكومة العراقية التي هو اليوم في حرب معها، ليعلم الشعب الإيراني قبل الشعب العراقي حجم المساعدات التي تلقاها الخميني من الحكومة العراقية طيلة العشر سنوات التي قضاها في كنفها ليعود بعد ذلك إلى إيران ويجازي العراق وشعبه جزاء سنمار .(12/11)
(1) أعطت الحكومة العراقية الأولوية القصوى بين اللاجئين السياسيين المتواجدين آنذاك في العراق للخميني وحاشيته وسهلت لهم العيش والحياة وزودت كثيرا منهم بالجوازات العراقية بعد أن حرمهم الشاه من هويتهم الإيرانية فسهلت له التنقل بين البلاد والاتصال بالعباد .
(2) خصصت وزارة الإعلام للخميني قناتا خاصة في القسم الفارسي بإذاعة بغداد كان يبث منها لكما يتصل بالخميني ونضاله ضد الشاه وكان المذيعون فيها جماعته والمنتسبين إليه وكان يذاع منها برنامجا يوميا اسمه ( النهضة الروحية ) .
(3) كان مصطفى ابن الخميني على اتصال وثيق بالحكومة العراقية وكان يجري الاتصال بأركان الدولة مباشرة أو عن طريق المرحوم جنرال بختيار ويطلب المساعدات المختلفة لجماعة أبي وكانت طلباته لا ترد .
(4) كانت الجهات المعينة بشئون التدريب العسكري تدرب جماعة الخميني خارج مدينة النجف وكان ممثل الخميني لدى الحكومة للإشراف على التدريب هو الشيخ يزدي زاده الموجود حاليا في إيران وكانت الحكومة تعطي لهم المال والسلاح .
(5) كان الخميني يستقبل شخصيات كبيرة في الدولة وكانت أحاديثه معهم هو التغيير عن الشكر والامتنان للحكومة مع الدعاء لها بالتوفيق والتسديد .
-14-
(6) كان الخميني يقدم الرجاء إلى الرئيس العراقي في القضايا المتعلقة به وكان رجائه يقبل حتى في المناسبات الخطيرة كما جدث ذلك في عام 1970 عندما حكمت محكمة الثورة على السيد حسن الشيرازي الإعدام لاتهامه التجسس لصالح دولة أجنبية وكان هذا الشخص محسوبا على الخميني ومن حاشيته فكتب رسالة بخطه إلى الجنرال تيمور بختيار الموجود آنذاك في بغداد يطلب منه نقل رجائه إلى الرئيس صدام الحسين الذي كان آنذاك نائبا لرئيس مجلس قيادة الثورة يطلب الرحمة العفو عن المتهم فقبل رجائه وأعفى عن الشيرازي وأطلق سراحه بعد شهرين الأمر الذي لم يحدث له نظير من قبل .(12/12)
(7) عندما توفى ابنه مصطفى قدم الخميني رجاءا إلى الرئيس العراقي يطلب إصدار الأمر بدفن ابنه ( بصورة استثنائية ) في الروضة الحيدرية الأمر الذي كان ممنوعا بقرار من مجلس قيادة الثورة، ورفع الخميني هذا الرجاء عن طريقي فرفعه إلى الرئيس العرقي عن طريق وزير الأوقاف فقبل الرجاء ودفن ابنه حيثما أراد الخميني .
(8) كان أحمد ابن الخميني يقدم الرجاء الحكومة يطلب حماية أبيه من اغتيال السافاك فكانت حكومة تجند لحماية الخميني رجالها وبالتنسيق مع أحمد .
عندما غادر الخميني العراق إلى الكويت ولم تسمح له السلطات الكويتية بالدخول إلى أراضيها بقي في الحدود الكويتية حيرانا لا يدري ماذا يفعل فعلمت حكومة العراق بذلك فوافقت لعودته إلى العراق وقبل له عندما وصل إلى بغداد أنه يستطيع العودة إلى النجف والعيش فيها إذا شاء على شرط أن يحترم قوانين العراق .
وبعد كل هذا ليت شعري كيف يبرر الخميني والخمينيون حربهم مع العراق وكيف يبررون هذا الموقف العدائي لهذه الدولة التي أكرمتهم
-15-(12/13)
وأوتهم وأحسنت وفادهم ثم هم يعبرون عن حكومة العراق في خطبهم وأجهزة أعلامهم ( بالكافرة) فليت شعري أن أعرف متى أصبحت الدولة هذه كافرة يجب محاربتها وقبل أبنائها وتدمير أرضيها، هل كانت كافرة وهو في كنفهم يدعو لها بالتأكيد والعمر المديد أم أصبحت كافرة بعد أن قبلت له كلمتان ( احترم قوانيننا أو اذهب إلى حيث ما شاء ) ولا اعتقد أنه يوجد ( ما عدا السذج الغفل ) من الناس من لا يعرف أن هذه الحرب إنما هي كما سميناها ( حرب الأحقاد ) وليست حرب المبادئ والمصالح .وهنا أورد أن اكشف سرا للشعب الإيراني والعراقي معا وبذلك أكون قد أديت واجبي أمام الله والتاريخ ليعلم المسلمون في كل مكان وزمان فداحة الخطر الذي يحدق بالإسلام من هذه الطغمة الحاقدة التي آلت على نفسها القضاء على الإسلام باسم الإسلام، وخراب بلاد المسلمين باسم مصالح المسلمين، لقد حضرت حوار بين المرحوم جنرال بختيار ومصطفى ابن الخميني وأن كشف مضمونها بوضع للرأي العام الانحدار الخطير الذي وصل إليه الخميني وجماعته بعد وصولهم إلى السلطة وتحكمهم في رقاب الأمة وهذا تفصيل الحوار: لقد قطعت الحكومة العراقية علاقتها الدبلوماسية مع حكومة الشاه في عام 1970 وبعد أن احتلت إيران الجزر الثلاثة أبو موسى وطنب الكبرى والصغرى وتدهورت العلاقات وصلت إلى الصفر وأمر الشاه جيشه بالتحرك إلى الحدود المتاخمة للعراق وكانت هناك نذرا تنذر بنشوب الحرب بين الدولتين فحضر مصطفى ابن الخميني إلى بغداد والتقى بالجنرال بختيار في قصر السلام ليطلب منه أن يبلغ الحكومة العراقية أن والده بصفته الزعيم الروحي لإيران قد أعد البيان الذي سيقرأه على الجيش الإيراني إذا ما أراد الشاه الهجوم على العراق وأنه يقول في خطابه " أن الواجب المحتم على الجيش الإيراني هو أن يحارب الشاه لا العراق لأن الشاه خارج عن ربقة الإسلام إذا ما تسبب في حرب وقودها
-16-(12/14)
المسلمون وأن عرش الرحمن سيهتز كما أراق مسلم دم أخيه جار شقيق دم جاره الشقيق " .
هكذا كان الخميني عندما كان في العراق بعيدا عن السلطة وهكذا يكون اليوم في إيران وهو على رأس السلطة حقا أن هذا الانحراف في تفكير الرجل الذي يقود إيران كارثة ليست بعدها كارثة .
-17-
الخميني والبدع في الدين
إن البدع التي أبدعها الخميني في الدين كثيرة أشرت إليها عبر خطاب إذاعي وجهته إلى الشعب الإيراني، وهنا أعدد تلك البدع ليعلم علماء الإسلام في العالم والمصلحين من رواد الأمة الإسلامية. أنهم إذا سكتوا أمام هذه البدع التي تلطخ اسم الإسلام وسمعته فإن أمة الإسلام ستشهد مذهبا جديدا باسم الخمينية يضاف إلى البهائية والقادرية، وإني أدعو علماء الإسلام لعقدوا محكمة إسلامية كبرى تضم رجال الدين الكبار من مختلف طوائف المسلمين لمحاكمة الخميني وإبداء رأي الإسلام فيه وفي بدعه حتى يعلم المجتمع البشري أن ما يحدث في ظل الخمينية في إيران المسلم ليس من الإسلام بشيء بل أن الإسلام برئ منه، أن الرسول الكريم صلى الله عليه وآله وسلم قال: " إذا ظهرت البدع في أمتي فعلى العالم أن يظهر عليه وإلا فعليه لعنة الله " ويقول صلى الله عليه وآله وسلم في مقام آخر : " الساكت عن الحق كشيطان أخرس " .
إن الوقت قد حان على العلماء أن يظهروا علمهم ورأيهم في أخطر مرحلة عصيبة تمر على الإسلام في العصر الحديث وما تعرض إليه من البدع والزيف وزور القول والضلال على يد جماعة تنسب نفسها إلى الإسلام . وإلى العلماء الإسلام أرفع هذا النداء وأعدد لهم بدع الخميني في الدين :
(1) أدخل الخميني اسمه في أذان الصلوات وقدم اسمه حتى على اسم النبي الكريم، فأذان الصلوات في إيران بعد استلام الخميني لحكم وفي كل جوامعها كما يلي :
-18-(12/15)
الله أكبر الله أكبر( خميني رهبر) أي أن الخميني هو القائد، ثم أشهد أن محمدا رسول الله … الخ .
نستثني جامع كوهو شهادة في المشهد الرضوي، حيث لم يسمح الإمام الطباطبائي القمي أن تدخل هذه البدعة إلى الجامع الذي يصلي فيه، وأبلى البلاد حسنا في مقاومته لهذه البدعة، ولكن الله كتب له النجاح فتغلب على زمرة الخميني في آخر المطاف (1) .
(2) لقد جرت العادة في البلاد الإسلامية إذا ذكر اسم النبي الكريم صلّى الله عليه وسلم صلّى الحاضرون عليه إجلالا وإكبارا ، وفي إيران اليوم إذا ذكر اسم الخميني صلّى الحاضرون ثلاث مرّات، وقال بازركان في خطاب جماهيري ( ماذا تقولون لرسول الله إذا قال لكم تصلون عليّ مرّة إذا ذكرت وثلاثة مراّت إذا ذكر ابني ) وكان البازركان يقد من (ابني) الخميني الذي يدعي أنه من أولاد الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم وكاد البازركان يدفع حياته ثمنا لهذا الكلام .
(3) رفض الخميني الصلح مع العراق الجار المسلم حيث تنص الآية الكريمة في القرآن الكريم على وجوب الصلح في كل الأحوال وبغض النظر على أسبابها والبادئ بها ويأمر بمقاتلة الرافضين للصلح حيث يقول تعالى (( وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما )) (( وإن بغت إحداهما على الآخر فقاتلوا التي تبغي حتى تفي إلى أمر الله)).
(4) قتل المرابي كما حكمت به محاكمة الشرعية .
(5) قتل الآلاف من المعارضين السياسيين باسم المفسدين في الأرض.
(6) قتل الآلاف من الأقليات القومية التي كانت تطالب بحقوقها
المغتصبة باسم الكفار الذين شهروا السلاح في وجه الدولة الإسلامية .
ـــــــــــــــــ
(1) منذ سنة والإمام الطباطبائي معتكف في داره .
-19-
(7) المحاكمات الثورية الارتجالية التي تحاكم 100 شخص في مائة دقيقة .
(8) قتل المهربين للمواد المخدرة .
(9) مصادرة أموال الناس زورا وبهتانا باسم حماية المستضعفين .(12/16)
(10) تبني فكرة ولاية الفقيه وجعل نفسه حاكما بأمر الله يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد .
(11) تعيين ولي عهد لنفسه يدعى حسين علي منتظري بالطريقة التي سلكها معاوية بن أبي سفيان في تعيين ابنه يزيد وليا لأمور المسلمين، وجعل الزعامة الدينية والتي كانت الانتخاب المباشر ملكا عضوضا .
(12) بث الفرقة وإيجاد القلاقل بين صفوف المسلمين في البلاد المجاورة والتي أدت إلى مئات الضحايا وإراقة الدماء .
-20-
الخميني والتناقضات
أما التناقضات التي تصدر من الرجل في القول والعمل فهي محيرة للعقل .
(1)- فعندما كنت في العراق وصلتني رسالة من الملا مصطفى البارزاني يدعوني إلى ( كلالة) عاصمته التي كان يعيش فيها حتى يبحث معي سبل التعاون ضد الشاه . وعجبت من مضمون الرسالة لأنني كنت أعلم أن البارزاني هو عميل الشاه ولولا هذا الأخير لم يكن للبارزاني شأن. كما ثبت فيما بعد .
وبما أنني لم أكن اشك بأن كاتب الرسالة هو الملا البارزاني لأن السيد مهدي الحكيم ابن الإمام الحكيم والذي كان على اتصال بالبارزاني هو الذي طلب مني أن أقاتل رسول البارزاني حامل الرسالة المذكورة .
ومع الشكوك حول نوايا الرجل إلا أني فكرت بجد أنه ليس من الأخلاق أن يقوم زعيم يرى نفسه قائدا لأمته بدور رديء في حق رجل لم يعرف ولم يصدر منه أية إساءة بالنسبة إليه وذلك في سبيل إرضاء مخلوق آخر .
فذهبت إلى مقابلة الرئيس العراقي أحمد حسن البكر رحمه الله وأطلعته على الرسالة وقلت له قد يكون من المصلحة الاستجابة لدعوة البارزاني لعلي أستطيع القيام بدور الوفاق بينكم وبينه إذا ما التقيت بالرجل .
فضحك الرئيس البكر وقال إنها خدعة.ثم أضاف لقد سلّم البازراني خمسة أشخاص من المناضلين الإيرانيين الذين لجأوا إليه من بطش الشاه إلى هذا الأخير وقد أعدمهم الشاه فورا .
ثم أضاف الرئيس قائلا إياك والذهاب إليه فإنه خبيث مخادع يريد قتلك .(12/17)
-21-
وبعد أيام رأيت الخميني وقد علم بالموضوع فقال لي لا يخدعنك البارزاني أنه يريد تسليمك إلى الشاه وأضاف أن البارزاني وأولاده عملاء مزدوجين للشاه وللمخابرات الأمريكية .
وبعد عشر سنوات من ذلك التاريخ صافح الخميني ابني البارزاني العملاء المزدوجين على حد تعبيره وزدهم بالسلاح والمال لقتل الشعب العراقي الجار المسلم .
(2) والتناقض الثاني في سياسة الخميني هو أن فئة من أصحاب الإمام الحكيم اصدروا بيانا بعد وفاته بتوقيع شخصيات بارزة دينية من علماء النجف الأشرف جاء فيه أن الشخص المؤهل للزعامة الدينية بعد الإمام الحكيم هو الإمام السيد أبو القاسم الخوئي وليس غيره، وفي وقته اعتبر هذا البيان طعنا لاذعا في الخميني الذي كان في النجف أيضا ينافس الإمام الخوئي على الزعامة . وقد أعلن الخميني وأنصاره أن هذا البيان إنما صدر باعاز من السفارة الإيرانية في بغداد بتوجيه السافاك الإيراني لتحطيم الخميني وكان الحرب سجالا بين الخمينيين وحكيمين بعد صدور ذلك البيان الذي قام بتوزيعه في العراق عناصر من حزب الدعوة .
وكان هذا الحرب يلقب الخميني المفسد الأكبر ومخرب الإسلام والحوزة العلمية وقد شكا الخميني عندي مرّة من الأذى الذي يلاقيه من أفراد هذا الحرب وعبّر عنهم بعملاء الشاه الحقراء المأجورين وخلايا النحل الذي يمده السافاك بالمال والتوجيه .
وإذا بالخميني نفسه وبعد أن يعتلي سدة الحكم يصافح تلك الأيدي التي كان ينعتها بتلك النعوت ويقربهم إليه ويعطي لهم المال والسلاح يشكل منهم خلايا لمحاربة العراق . أنه مدعاة للسخرية حقا .
-22-(12/18)
(3) والتناقض الثالث الذي لا بد من الإشارة إليه: لقد ذهب السيد موسوي الصدر إمام الشيعة في لبنان إلى ليبيا وبدعوة من العقيد القذافي ولم يعد منها أبدا .وقال الخميني إني ربيب الصدر وأدبته وهو بمثابة ابني ولا بد أن انتقم له . وعندما كنت في طهران قال لي أحمد ابن الخميني أنه سأل من ياسر عرفات عن مصير الصدر فكان جوابه: إنه طار . وإنه أخبرناه بمقتل الصدر في ليبيا ومع كل هذا قال الخميني أعلن الولاء للرجل الذي قتل تلميذه وأحب الناس إلى قلبه لأن يغدق بالأموال الكثيرة .
على خليفته حسين علي المنتظري. والمنتظري هو الشيخ الذي قال للصحفيين بكل وقاحة. أنه يأخذ المال من العقيد القذافي لأنه أخيه ولا كلفه بين الأخوة ( والجيب واحد ) .
وبهذه المناسبة أذكر هذه القصة الطريقة عن حياة هذا الشيخ العميل: عندما كنت في طهران زارني سعد مجبر سفير ليبيا في داري ليسلمني دعوة من العقيد القذافي لزيارة ليبيا وفي أثناء الحديث أخبرني أنه كان في قم في زراية المنتظري وتغذى على مائدته الخبز والتمر واللبن ثم أشاد يزهد الشيخ وورعه . وهنا سألت السفير الليبي هل أن المنتظري يزهد أيضا في الدولارات التي تسلمها إليه أم يبتلعها حتى الثمالة ؟ فقال السفير ضاحكا ولا والله أنه يكاد يطير فرحا عندما أسلّمه الأموال .
(4) وتناقض رابع في حياة الرجل لا ينساه التاريخ فالرجل الذي يدعي أنه جاء لحماية الإسلام يتعاون مع أعداء الإسلام الحقيقيين وهو على أحسن العلاقات وأتمها من الاتحاد السوفيتي في حين أن أن الحرب سجال بين الإسلام والإلحاد في أفغانستان، ومئات الآلاف من المسلمين قتلوا ويقتلون على يد الجيش الأحمر بقنابل النابالم وبلغت الوقاحة إلى الشيخ الرفنسجاني رئيس مجلس الشورى أنه منع من الكلام واحد النواب الذي كان يريد الهجوم على الاتحاد السوفيتي بسبب الحرب التي
-23-(12/19)
يخوضها ضد الشعب الأفغاني الأمن ، وقال له تريد أن تفسد علاقتنا الحسنة مع الاتحاد السوفياتي، والخميني نفسه الذي يهجم دوما على البلاد الإسلامية وزعماء المسلمين ويحارب الجار الشقيق المسلم العراق ساكت على ما يجري في أفغانستان من إراقة الدماء ولم يذكر الاتحاد السوفياتي إلى الآن بكلمة غير سليمة .
(5) ومن المتناقضات الصارخة في سياسة الرجل وعمله هو موقعه العدائي من كثير من دول المنطقة وتعاونه الحميم مع البعض الآخر، لقد قمت له في آخر لقاء تم بيننا في قم، لماذا تعادي دول المنطقة والخليج وكلهم جيران والجار لا يستطيع أن يعادي الجار بما في ذلك العداء يكمن أخطارا جسيمة لإيران والمنطقة بكاملها، فكان جوابه أنه لا يستطيع أن يصافح حكام هذه الدول لأن شعوبها من المستضعفين الذين وجدوا في الثورة الإيرانية أملا لمستقبلهم وهم لا يحبون حكامهم .
قلت له: إذا قبلت كلامك جدلا، فهل تعتقد أن الشعب السوري يحب حكامه ؟ وهل أن الشعب الليبي يحب حكامه ؟ وأنت مددت بد الصداقة إليهم وترتبط معهم بأوثق الصلات. لم يتفوه الخميني بكلمة وقد طأطأ رأسه وامتقع لونه، وبدأ ينظر إلى الأرض شررا .
ولذلك لم يستغرب أحد من الضالعين بشئون التناقضات الخمينية عندما سمع من الرجل إن حزب البعث العربي في العراق كافر يجب محاربته،ولكن حزب البعث العربي في سوريا مسلمي يجب مصادقته .
صدق الله العظيم حيث يقول (( ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزوا أولئك لهم عذاب مهين )).
لقد سألت مصطفى ابن الخميني يوما ، لقد كان والدك قبل الزعامة وفي أيام إقامته في قم هنا بشا لم تغادر الابتسامة شفتيه وكان لطيف المعشر
-24-(12/20)
حلو الحديث لم يسأم الإنسان من محادثة وقد أصبح الآن قاسيا غليظا متعجرفا شائكا كظهر القنفذ، فما عدا مما بدا ؟ فأجابني: عندما دخل أبي معمعمة السياسة كثر النقاش والجدال عنده حول طريقته في معالجة الأمور وآرائه السياسية، وتفاديا للنقاش والجدال بدأ يعبس ويقلل من الحديث حتى يسأم الزائرون من الجلوس عنده، وقد أصبحت هذه الحالة المصطنعة عادة ثانوية عنده لا تغادره حتى في حياته العائلية. أن أبي يعتقد أن الزعيم يجب أن يأمر فيطاع وإذا حلوا فقد أكله الناس وفقد سيطرته عليهم .
(6) والتناقض الآخر في سياسة الخميني هو موقفه الشائن من فرنسا البلد الذي وفر له الحماية وكل الوسائل اللازمة للانطلاق ضد الشاه. فعندما كان الخميني في باريس كان يمجد بفرنسا ويعبر عنها بمهد الحرية وبعد أن وصل إلى سدة الحكم ملك طريق العداء معها. لأن فرنسا أوت المناضلين الإيرانيين الذين فرّوا من جحيم الجمهورية الإسلامية كما أوت الذين فرّو من جحيم الشاه من قبل .
والخميني الذي أدخل الرعب في قلوب شعب إيران بقسوته التي تفوق القساوة النازية يزعم أنه سيرعب فرنسا أيضا بتهديداته الجوفاء الحمقاء وبالسب والشتائم والكلام البذيء وهذا هو شأن كل متكبر جبار يحاط به أقوام جبناء يصيرون له أن العالم يتحرك حسب إرادته وهواء، فهو لا ولن يفهم معنى الحرية والديمقراطية وسيادة الشعب على مقدراته. إن كل ما يعلمه المستبد الظالم هو الإسراف في القتل والتعذيب والمزيد من إراقة الدماء حتى أن يلمس نهايته الكئيبة التعيسة التي يعض يده عليها ويقول ياليتني مت قبل هذا وكنت ترابا .
وأنني عندما استمع إلى التهديدات الجوفاء الحمقاء التي يطلقها الخميني زمرته ضد دول العالم أذكر قصة تلك الفأرة التي قالت للجبل: سأرحل عنك حتى تستريح قليلا من عنائي . فأجابها الجبل: أيتها المسكينة أنا لم أعرف بغدوك كيف برواحك .
-25و26-
الخميني والشيوعية(12/21)
ليس الشبه الوحيد بين السيد الخميني مرشد الثورة في إيران والسيد لينين مرشد الثورة الشيوعية في روسيا، أن كليهما بدا بالعمل لإسقاط نظام بلديهما من باريس، ودخلا بلديهما بعد أن سقطت في إيران أسرة بهلوي الملكية وفي روسيا أسرة رومانوف القيصرية، كما أن الشبه بين الرجلين ليس أن كلا منهما كانت تحركه روح الانتقام الشخصي، فالخميني أراد أن ينتقم من الشاه لأنه قتل ابنه على حدّ زعمه ولينين أراد أن ينتقم من قيصر لأنه قتل أخاه ولكن وجه الشبه الحقيقي هو :
1- إن الشيوعية اتخذت كلمة الفقراء ( برولتراليسم ) شعارا للثورة الشيوعية، وأخذ الخميني كلمة المستضعفين شعار للثورة الإسلامية الإيرانية .
2- النظام الشيوعي لا يؤمن بالملكية المطلقة، ولذلك صودرت أموال كبار التجار والمعامل والأراضي في ظل الشيوعية، وخلقت من الأغبياء طبقة فقيرة تضاف إلى الفقراء، والخميني ونظامه صادروا أموال التجار وأراضي الناس والمعامل الكبيرة وأضافوا طبقة فقيرة إلى الفقراء وشعارهم أن الإسلام لا يؤمن بالملكية المطلقة المحدودة كما قال كارل ماركس .
3- النظام الشيوعي يعتقد بأن الصحافة والإعلام يجب أن يعبر عن سياسة الحزب ويجب أن تكون في خدمة النظام الحاكم وتكون بوقا من أبواقه، ونظام الخميني صادر الصحف واستولى على الإعلام واستعمله في صالح حزبه .
-27-
4- الحزب الشيوعي هو الذي يحكم في النظام الشيوعي ، ويحكم الحزب الجمهوري الإسلامي إيران بقيادة الخميني .
5- الشعب ممنوع من السفر إلى خارج البلاد في الأنظمة الشيوعية، والسفر ممنوع على شعب إيران في نظام الخميني .
6- الشيوعية تدعو إلى الأممية ونبذ القومية، وأول شعار نادى به الخميني هو الأممية واعتبار القومية كفرا وإلحادا .(12/22)
7- وفي الأنظمة الشيوعية يؤلّه الحاكم كما إلّه ستالين في روسيا، وماوتسي تونغ في الصين وتيتو في يوغسلافيا، وفي نظام الجمهورية الإسلامية الإيرانية ألّه الخميني أكثر من أي إله آخر .
8- في كثير من الدول الشيوعية تتخذ كلمات الحاكم إنجيلا واجب اتباعه، ويرددها الشعب في كل مناسبة ومكان، وكلمات الخميني اعتبرت إنجيلا يرددها اتباعه وأعوانه في كل مكان .
9- النظام الشيوعي هو النظام القائم على القيادة الجمعية في حكم البلاد على شرط أن يكون القادة من المؤمنين بالماركسية، ونص دستور الجمهورية الإسلامية الإيرانية على القيادة الجماعية شريطة أن يكونوا من المؤمنين بالخميني، وشعارهم " حب خميني حسنة لا تضر معها سيئة " .
10- في النظام الشيوعية تخضع كل دائرة للجنة شيوعية تنبثق من داخل تلك الدائرة، وفي نظام الخميني تخضع كل دائرة للجنة خمينية تنبثق من داخل تلك الدائرة .
11- النظام الشيوعي يتخذ الفلسفة المكيافيلية ( النتائج تبرر أساسا للمقدمات ) دعامة للعمل السياسي، والنظام الخميني اتخذ الفلسفة نفسها أساسا للقمع الدموي .
12- النظام الشيوعية يرى من واجبه مساعدة الشيوعية في الدول الأخرى لاستلام السلطة بأي ثمن ونظام الخميني يرى من واجبه مساعدة أنصار ( ولاية الفقيه) في أي مكان من العالم لاستلام السلطة .
-28-
13- النظام الشيوعي قسم الشعب إلى البرجوازية والفقراء واستغل هذا التقسيم في بسط نفوذه، والخميني قسم الشعب إلى أهل الشمال والجنوب، أي الأثرياء القاطنين في شمال طهران والفقراء الساكنين في جنوبها، واستغل هذه التفرقة لبسط سلطانه على الشعب .
14- النظام الشيوعي يرى التصفية الجسدية لأعدائه ضرورة في بعض الأحيان كما تعرض لها تروتسكي أحد بناة الشيوعية وقادتها عندما كان لاجئا في المكسيك، ونظام الخميني اتخذ التصفية الجسدية شعارا له وهدد به المناوئين بكل وقاحة .(12/23)
15- في النظام الشيوعي كل حزب مكلف بأدلاء المعومات عن أعداء النظام، والخميني سن هذا القانون عندما طلب من كل أبناء الشعب أن يتجسسوا لصالح نظامه ولو على أقرب المقربين .
16- قال لينين اعطني مرحا أعطيك شعبا، وقال الخميني اعطني الإعلام أعطيك شعبا. وبعد هذه المقارنة، لابد من الإشارة إلى عدة حقائق، هل أن تعاون المخابرات الروسية ( ك ج ب ) مع المخابرات الخمينية وتعليم الحرس الثوري طرق التجسس أمرا اعتباطي ؟ وهل أن مصافحة الخميني للدول الشيوعية واستخدام الخبراء من كوريا الشمالية أمر اعتباطي ؟
وكيف يمكن تفسير الحرية التي يتمتع بها الحزب الشيوعي ( تودة) (2) في العمل السياسي والإعلامي في إيران الأول مرة منذ تأسيسها، وفي ظل نظام يدعي أنه جاء لحماية الإسلام. وماذا يعني سكوت الخميني عن المجازر التي ترتكب بحق المسلم في أفغانستان على يد المحتلين الروس ؟ وما هو معنى هذا الهجوم العنيف ليل نهار على الاستعمار الغربي فقط، وعده ذكر الاستعمار الشرقي، بل الإصرار
ــــــــــــــــ
(2) راجع فصل الرعب المدمر .
-29-
وعدّه ذكر الاستعمار الشرقي، بل الإصرار بعد التعرض له ؟ وكيف يبرر الخميني إعطاء المناصب الحساسة في الدولة للشيوعية، والتعاون مع الحزب الشيوعي لقتل ( مجاهدي خلق) ؟ ومما أن الكلمات العبارات لا تغرني أبدا، بل انظر إلى العمل كمقياس حقيقي لتقيم الأفراد والجماعات، فلذلك لا أجد صعوبة في رمي الخميني بالشيوعية مع ما عليه من الطيلسان والعمة والرداء، وتكراره اسم الله والإسلام في كل أحاديثه .(12/24)
فالخميني الذي لم يتورع من الكذب وقتل الأبرياء والحرب مع الاخوة المسلمين واغتصاب أموال الناس والسطو على حقوق الشعب والتعاون مع إسرائيل لضرب المسلمين، وكل هذه القبائح لم تكن تعرف عنه قبل أن يعتلي سده الحكم بل لم يحلج بخلد أي بشر أنه سيتوغل فيها حتى قمة رأسه في يوم ما، فهل يكون من الصعب عليه أن يخفى آرائه السياسية كما أخفى دهرا أخلاقه للشيمة ؟
وسواء كان الخميني شيوعيا أم غير شيوعي، فالشيوعيون الإيرانيون يعيشون في ظل نظامه في عهد ذهبي لم يحملوا به من قبل إبداء ، وأن إيران في ظل هذا النظام الفوضوي الجائر أصبحت أكثر استعدادا من أي وقت مضى لقبول السيطرة الشيوعية، وأن الشيوعيين الآن في إيران ينظرون اللحظة المناسبة للوثبة الأخيرة يساعدهم الدب القطبي من خارج البلاد والطابور الخامس من داخلها (3) .
ـــــــــــــــــــ
(3) قبل عام اعتقلت السلطات الإيرانية زعماء الحزب الشيوعي في إيران بعد أن اتهمتهم بمحاولة انقلابية فاشلة واعتقلت أيضا بعض القادة العسكريين بتهمة التعاون مع الحزب الشيوعي وفي ضمن المعتقلين العقيد بهرام أفضلي قائد القوات البحرية .
-30-
الخميني بين القول والفعل
لابد من المقارنة ما قاله الخميني عن الشاه وهو يقود المعارضة ضده وما فعله هو بعد أن وصل إلى السلطة وأزاح الشاه من عرشه ليكون القارئ الكريم على بينة من أمر الرجل الذي خدع أمة الإسلامية بمعول الكلام والوعود الكذبة والمستقبل المشرق .
كان الخميني يندد الدستور الإيراني ويسخر من البند الذي كان ينص على: أن الملكية وديعة الهبة أعطاها الله للملك عن طريق إرادة الشعب التي تجلت في الاستفتاء العام .
وها هو الخميني جعل في البند بعد المائة من دستور الجمهورية الإسلامية نصا مماثلا. يقول: إن ولاية الفقيه سلطة إلهية أعطاها الله للفقيه عن طريق إرادة الشعب التي أقرها في الاستفتاء العام .(12/25)
ندد الخميني في خطبة بصلاحيات الشاه كقائد أعلى للقوات المسلحة وإقالة الوزراء ونصهم وتعيين رئيس ديوان التمييز والمدعي العام وها هو حصل في البند الحادي عشر بعد المائة من الدستور الجديد هذا النص. آية الله الإمام الخميني هو القائد الأعلى المحكمة العليا والمدعي العام ورئيس ديوان التمييز وتنفيذ رئاسة الجمهورية بعد أن ينتخب الشعب الرئيس .
كان الخميني يندد بالشاه لتدخله في شؤون البلاد الكبيرة والصغيرة وكان يندد بأسرته وحاشيته ويتهمهم بالتلاعب بمقدرات البلاد والعباد
-31-
واستغلال أموال الشعب وعندما وصل هو إلى الحكم سلك الطريق نفسه كما أن ابنه أحمد وزمرته من آل الخميني يسيرون على سيرة أسلافهم من آل بهلوي في التلاعب بمقدرات الأمة واستغلال موارد البلاد وسرقة أموال الشعب، ويعتقد الضالعون بشؤون آل الخميني أن أرصدة أحمد في البنوك السويس تتجاوز المئات الملايين من الدولارات .
(4) كان الخميني يندد في خطة بالزمرة الحاكمة ويصفها بأنها المحسوبة على النظام وكان يقول أن الشرط الوحيد لتسلم كرسي الحكم هو الإخلاص والوفاء والإطاعة العمياء للشاه . وها هو جعل الشرط الأول والأخير لأشغال المناصب الحساسة في جمهوريته الولاء والعبودية لشخصه ولتفكره ولاية العقيه .
(5) كان الخميني يسخر ويندد في خطبة بتشكيل الأحزاب الحكومية في عهد الشاه وكان يعتبرها أحزابا غير شرعية كما كان يندد بالانتخابات النيابية ويعتبرها مزورة والخميني نفسه عندما وصل إلى الحكم أمر بطانته بتشكيل الحزب الجهوري الإسلامي أي الحزب الحاكم فعلنيا وكما كان الحزب الحاكم في عهد الشاه يزور الانتخابات ويفوز بالأكثرية النيابية هكذا زور الحزب الجمهوري الإسلامي والانتخابات وفاز بالأكثرية . فما شابه الليلة بالبارحة .(12/26)
(6) كان الخميني يندد بالشاه ويتهمه بإرسال جلاوزته لإخماد المتظاهرين بالعصي والهروات وها هو نفسه تجاوز سلفه في هذا المضمار كيرا حيث أرسل جلاوزته " حزب الله " إلى الاجتماعات التي تعقد ضده لإخماد الأنفاس كما أن هؤلاء المرتزقة يستعملون الأسلحة النارية في غالب الأحيان كما فعلوا مع المجاهدين وغيرهم وقتلوا سبعن طالبا جامعيا في حرم جامعة طهران .
-32-
(7) كان الخميني يدافع عن الجرائد التي انتقدت سياسة الشاه والتي عطلها هذا الأخير انتقاما منها . وعندما وصل هو إلى الحكم عطل العشرات من الجرائد التي كانت تنتقد سياسة بل ذهب إلى أبعد من ذلك حيث صادر الصحف الكبيرة مثل جريدة كيهان وجريدة إطلاعات وجعلها بوقا من أبواقه .
(8) كان الخميني يندد بأسرة الشاه ويتهمهم الاتجار بالمخدرات وقبل بضعة أشهر اعتقل الشرطة الألمانية في مطار دوسلدوف صادق الطباطبائي صهر الخميني وهو يحمل حقيبة مليئة بالأفيون وكان وهكذا يفضح الله المنافقين والذين في قلوبهم مرض ليكونوا عبرة للناس كافة .
(9) ندد الخميني في كثير م خطبة بإعدام المتهمين بتجارة الأفيون وكان يقول أن هذه ذريعة اتخذها الشاه لإعدام المناؤين لنظامه كما أنه كان يقول ويؤكد أن الإسلام لا يقر عقوبة الإعدام لتجّار المخدرات ولكنه عندما استلم السلطة أعدم أكثر من ألف وأربعمائة شخصا بتهمة الاتجار بالمخدرات .(12/27)
(10) كان الخميني يتهم الشاه بالهذيان في الكلام عندما كان يقول أن قوة بلاده أصبحت تخيف الدول القريبة والبعيدة لأنها القوة الرابعة في العالم أو أن اقتصاد إيران سيكون أكثرها ازدهار من الاقتصاد الياباني في عام 1980، وها هو الخميني يهذي في الكلام ما استطاع إلى الهذيان سبيلا. فتارة يزعم أنه ينظم جيشا قوامه عشرين مليون جندي يحارب به أمريكا وتارة يهدد فرنسا وضرب مصالحها في العالم وتارة يقول أنه تم في إيران بناء مائة ألف مدرسة في عام واحد كما أن العالم سمعه يهدد العراق باحتلال عاصمته في غضون أربع ساعات .
-33-
(11) كان الخميني يندد سياسة القمعية ولا سيما تصفية المناوئين في خارج البلاد على يد بوليسه السري ( السافاك ) وها هو الخميني سلك نفس الطريق حيث قتل بوليسه السري محيط الطباطبائي في واشنطن وابن شقيقة الشاه المسمى شهرام في باريس. كا قام بوليسه باغتيالات فاشلة بالنسبة لكل من الدكتور شاهبور بختيار رئيس الوزراء في عهد الشاه وبني صدر أول رئيس جهورية في عهده والدكتور علي أميني رئيس الوزراء الإيراني الأسبق وغيرهم .
(12) كان الخميني يندد بالمحاكم العسكرية التي تصدر أحكاما بالإعدام في حق المناوئين لنظام الشاه ومحاكم الخميني الثورية أعدت من مناوئي حكمه في أربعة أعوام مئات أضعفا ما فعلت محاكم الشاه في ثلاثين عاما. وبهذا الفارق أيضا هو أن المتهمين السياسيين كان يحق لهم الدفاع عن أنفسهم في محاكم الشاه وكان يحق لهم التمييز والاستئناف في الأحكام الصادرة بحقهم أما في محاكم الثورة الإسلامية فلا دفاع ولا استئناف ولا تمييز مائة إعدام في مائة دقيقة .
(13) سخر الخميني من الشاه عندما لقبه المجلس الثوري بـ(اريامهر) أي محبوب الشعب الاري ولكنه استبشر سرورا عندما لقبه أصحابه ( إمام الأمة ) .(12/28)
(14) كان بيت القصيدة في خطب الخميني ضد الشاه اضطهاد هذا الأخير للأقليات القومية في أنحاء البلاد وعدم الاستجابة لمطالبهم المشروعة وها هو الخميني بعد استلام السلطة قتل اباد من القوميات الإيرانية المختلفة في شرق البلاد وغربها عشرات الآلاف ولا زالت الحرب سجلات بين حرس الخميني والأكراد في غرب إيران ومع التركمان في شرق البلاد. وقد قتل الخميني من الأكراد العرب والبلوش والتركمان في غضون أربعة أعوام من حكمه مئات أضعاف ما قتل سلفه في ثلاثين عاما .
-34-
(15) كان الخميني يسخر بالشاه عندما كان يدعي أنه يأتيه الإلهام من عالم الغيب والملكوت ويصفه بالكذب المخادع وها هو الخميني نفسه يبتسم راضيا عن أولئك الذين قالوا فيه ما ادعى سلفه بل زادوا في ذلك وقالوا أنه فعل ما لم يعله الرسول العظيم صلى الله عليه وسلم . وهكذا ابتلى الشعب الإيراني المسلكين بمعتوه مجرم متعطش للدماء ولكنه ليس في لبوس الأباطرة بل في لبوس الزهاد والكهنوت .
-35-
أنا والخميني
لقد رأيت من الضرورة بمكان إضافة هذا الفضل إلى الفصول الأخرى من الكتاب حتى لا يتوهم القارئ الكريم ولا أولئك الذين يؤرخون هذه الحقيقة من تاريخ إيران أن مؤلف هذا الكتاب طفيلي على الثورة أو كان بعيدا عنها أو أنه بعيد عن الشؤون الإسلامية ومعارفها. وها أنا أعلن لأولئك الذين بهرتهم فكرة ولاية الفقيه بأني كأحد فقهاء الإسلام أعلن بصراحة مطلقة وصريح القول أن فكرة ولاية الفقيه بدعة ابتدعها الخميني وضلال أضل به المجتمع وأنه والله كملة لا يؤمن هو بها ولا زمرته، بل اتخذها ذريعة للسلطة على رقاب المسلمين ظلما وعدوانا، وأن الله ورسوله برئ منه كل من يحكم بالباطل ويتخذ الظالمين إماما وهاديا .(12/29)
لقد عشت في كنف الإمام الأكبر جدنا السيد أبو الحسن الموسوي الأصفهاني رحمه الله سبعة عشر عاما وكان هو المرجع الأعلى للطائفة الشيعية في شرق الأرض ومغاربها حتى قال فيه الإمام كاشف الغطاء الكبير رحمه الله أن السيد أبو الحسن ( أنسى من قبله واتعب من بعده ) فوالله لم اسمع منه مرة واحدة كلاما كهذا ، بل كان رحمه الله دوما يوصي مراجع الإسلام بالابتعاد عن السلطة الزمنية والترفع عنها وكان يقول ( واجب المجتهد هو هداية النفوس وإرشاد العباد والسعي في تكوين جامعة فاضلة لا حقد فيها ولا كراهية ولا ظلم ولا عدوان ). وعندما استشهد ابنه الكبير في النجف وبين صلاة المغرب والعشاء وهو أبي ، الذي قتله رجل متلبس بلباس طلبة العلوم الدينية أرسله الاستعمار من مدينة قم الإيرانية إلى النجف كي ينفذ جريمته النكراء ، عفى الإمام الأكبر جدنا عن القاتل وقال ( لا ينبغي لإمام المسلمين أن يتقاضى أحد أفراد أمته . ولو كان قاتل أنه ظلما وعدوانا ) .
-36-
وكتب إلى المحكمة بخطه (( إمام المسلمين بمثابة الأب الروحي لجميع المسلمين ولا يليق به أن يتقاضى أحدا منهم وإلى الله المشتكى وهو نعم المولى ونعم النصير )) .
لقد كان تصور الشعب الإيراني أن الإمام الخميني قائد المسيرة ومرشد ثورته له خصال السابقين من مراجع الإسلام ولم يمر بخلده قط أن هذا الإمام بعيد عن الرحمة قريب إلى الشر إذ قتل أسرف في القتل، وإذا أسرف في القتل لم يأبى سيفه من قطع رقاب الصغار من الفتيات والشباب من الفتان، وقد قتل في غضون ثلاثة أشهر من عمر الزمان الثلاثة آلاف شاب مسلم وشابة مسلمة لأنهم قالوا كلمة واحدة ( الموت للخميني ) . ولست أدري كسف يلقي الخميني ربه وفي رقبته من دماء المسلمين ما لا تعد ولا تحصى . وأعود الآن إلى بيت القصيد من هذا الفصل وأذكر معرفتي بالخميني منذ كان مغمورا في مدينة قم ، لا يعرفه أحدا إلى أن أصبح مشهورا يعرف اسمه كل واحد .(12/30)
كنت إذا زرت مدينة قم التقيت بالخميني في قارعة الطريق أو في دار أحد الأصدقاء وكان مجلسه لطيفا لا تخلو أحاديثه من الفكاهة، وكانت له حلقه تدريس في الفلسفة الإسلامية ممزوجة بالتصوف والعرفان، وكان يقضي الصيف في مصايف طهران بعيدا عن مدينة قم وهجيرها في كل عام، وكنت إذا ما جاء إلى طهران أزوره مرة أو مرتين في بعض السنوات وأذكر إني دعوته مرة إلى طعام الغذاء في دارنا وكان بصحبه الإمام الشيخ مرتضى الحائري وهو الآن حي يرزق في مدينة قم ومن أكبر علمائها ، وطبعا لم يلج ببالي آنذاك أن القدر سيسخر يوما ما بأمة إيران ويجعل من هذا الذي كنت اسقيه الماء والطعام بيدي الفاعل لما يشاء والحاكم لما يريد ومن ورائه دماء شامل وفناء عام ، كان هذا في صيف عام 1955 .
-37-
وتركت إيران إلى فرنسا لحصول على شهادة الدكتوراه في الفلسفة من جامعة السوربون وكنت أول مجتهد يحمل الشهادة العليا في الفقه الإسلامية يسافر لطلب المعرفة الحديثة إلى أوربا حتى يكون كالسيف ذو الحدين ، وانقطعت صلتي بالخميني ولم أسمع شيئا عن أخباره طيلة السنوات الأربع التي قضيتها في أوربا، وعدت إلى إيران في عام 1959 ودخلت معامع السياسية وانتخبت من ل منطقتي نائبا في المجلس النيابي، وعندما كنت نائبا كنت أقود المعارضة ضد الحكومة والنظام، لم اسمع شيئا عن الخميني أيضا وشغلتني واجباتي عن التفكير حتى بالرجل. وتوفى الزعيم الروحي الكبير الإمام البروجردي في عام 1961 في مدينة قم وبرزت أسماء الزعماء الجدد ولم يكن في ضمنها اسم الخميني، بل كان الزعماء الجدد وكلهم إلى الآن على قيد الحياة الشريعتمداري والكلبايكاني والمرعشي .(12/31)
ودارت الدوائر وإذا بالشاه يعلن تقسيم الأراضي على الدهاقين ، فانبرت للشاه فئات كثيرة في ضمنها زعماء الدين والتحق الخميني تلك المجموعة ، وأظهر من الحماس والجرأة في الكلام الكثير فاستقطب الجماهير وعلا يحمه واشتهرت صيته كما قلنا في موضع أخر من هذا الكتاب . وسجن الخميني بأمر الشاه وبرفقته الإمام القمي والإمام المحلاتي وزعماء دينيون آخرون وحصلت مجابهة دموية بين الشعب والنظام، ولم يدم سجن الخميني كثيرا فأطلق سراحه وبقي الخميني بعض الوقت رهين الإقامة الجبرية في طهران ثم عاد إلى قم واستأنف نشاطه ضد الشاه فسافر إلى تركيا لقيم في بورما وغادر تركيا إلى العراق، ليعيش في النجف رهطا من الزمان . عندما سجن الخميني ورفقائه في طهران ذهبت إلى الشاه لعلني أستطيع التوصل إلى حل بينه وبين الزعامة الدينية التي كادت تفجر البلاد، وكان اللقاء معه ساخنا
-38-
ودار حديث صريح بيننا انتهى إلى خروجي من قصر سعد آباد مأيوسا، كما كان ذلك اللقاء أحد الأسباب التي أدت إلى القطيعة الأبدية بيني وبين الشاه ومن ثم مغادرتي لإيران وما تعرضت إليه من أدى وأخيرا محاولة الاغتيال الفاشلة على يد سافاك الشاه في البصرة والتي نجوت منها بإرادة إلهية بعد أن استقرت رصاصة في ظهري واخترقت الأخرى يدي اليمنى. ولا أيريد أن أسرد هنا تفصيل الحوار مع الشاه مرة أخرى فقد نشرته في ضمن مذكراتي ( إيران في ربع قرن) ولا داعي لتكراره. والمذكرات قد طبعت في عام 1972 .(12/32)
وفي صيف 1965وصل الخميني إلى العراق وكنت أنا في النجف الأشرف ورحبت به كل الترحيب واستقبلته في الكاظمية وذهبت بصحبته إلى سامراء لزيارة الإمامين العسكريين وفي الطريق كان يحدثني عن الاضطهاد الذي لاقاه في تركيا وكيف أن الأتراك أرغموه على خلق الملابس الدينية وارتداء الزي الإفرنجي إذا أراد الخروج من الدار التي كان فيها تحت الحراسة حتى لا يعرفه الناس،وجاءني انبه مصطفى بعد أيام من وصله إلى النجف يستشيرني في أمير أبيه والضيقة المالية التي يتعرض هلا، فكتبت كتابا إلى السيد عباس المهري أحد العلماء البارزين في الكويت وهو الآن حي يرزق في قم بعد أن نفته السلطات الكويتية لعلاقته بالخميني، طلبت منه مساعدة الخميني ماليا لأنه كان على صلة بالتجار الموالين للزعماء الروحيين الذين كانوا ضد الشاه ، وكانت له علاقة خاصة بالخميني، وبالفعل استجاب السيد المهري لندائي ووصلت إمداداته المالية إلى الرجل ، ومرة أخرى أكرر هنا أن الخميني لم يكن هو الزعيم الروحي الذي كان يعارض الشاه بل كان آخرون يسيرون في نفس الطريق، وكان نصيبهم السجن والعذاب والتشرد، وقد أشرنا إلى أسمائهم في مكان لاحق غير أن الخميني عندما استبد بالسلطة قضى على رفقاء النضال بصورة أخرى .
-39-
فالإمام الشريعتمداري شبه مسجون في داره والإمام الخلقالي مسجون في داره .
والإمام القمي الذي قضى 14 عاما في سجن الشاه يعيش نفس المأساة .
والإمام الزنجاني الذي قضى 7 سنوات في سجن الشاه، جالس في داره ولم يغادرها منذ سنين .
نعود إلى الحديث عن الخميني وما قدمته إليه من مساعدات وفي الفترة التي قضاها في النجف . كانا إذا ألمت به مشكلة طلب مني حلّها، ومرّات وكرات أنقذت جماعته من السجن أنهما كانوا يدخلون العراق خلسة وبصورة غير مشروعة فيلقى القبض عليهم، فكان يرجو مني أن أتدخل لدى السلطات لإنقاذهم وكان له ما يريد .(12/33)
وطلب مني أبيه مصطفى أن أطلب من السلطات العراقية تدريب جماعة أبيه على استعمال السلاح في خارج النجف فكان ما أراد . وطلب السلاح فحصلت له على السلاح من السلطات أيضا .
وفي السنوات الأول من وجود في النجف كان الخميني يلاقي صعوبة ومعارضة داخلية من الحوزة العلمية التي كانت رئاستها مناطة بالإمام الحكيم المرجع الشيعي الأعلى في العراق آنذاك وكان الإمام الحكيم على صلة وثيقة بالشاه وكانت حاشيته وبعض أورده وأقربائه عملاء مأجورين للشاه يأخذون الأموال من هذا الأخير ويتعاونون مع سافاك الشاه ما استطاعوا إلى التعاون سبيلا . وكان الإمام الحكيم بطبيعة صلاته بالشاه وصلات بعض أولاده وحاشيته بالنظام الإيراني يقفون موقف الاستنكار من الخميني ونشاطه وأفكاره، وقد قال لي ابنه مصطفى ان جماعة الحكيم وبعض أولاده عندما يرون أبي في الطريق يصفحون بوجوههم عنه (*)
ـــــــــــــــــ
(*) لم أتمكن الكتابة من السطر الأخير من هذه الصفحة نفسها بسبب عدم وضوح الكتابة ، والنسخة الموجودة عندي رديئ الطباعة .
-40-
يتحدث باسم النجف والحوزة الدينية عندما كان على قيد الحياة، وشكى لي مصطفى مرة أخرى مما يلاقيه أباه من جماعة الحكيم وقال لي أنهم يصفون أبي بهادم الإسلام وهدام الحوزة العلمية، وعندما زار عباس أرام وزير خارجية الشاه النجف ظهرت صورة الإمام الحكيم واقفا بجنب الوزير في الصحف الإيرانية حتى يعرف الشعب الإيراني الذي كان يرجع أغلبيته إلى الحكيم في التقليد أن الزعامة الدينية العليا من الشاه وليس كما يقول الخميني أنها ضد الشاه، بل أن الخميني شذ عن الطريق وقد طلب مصطفى مني جماعة الحكيم فهددتهم بالويل والثبور إذا لم يقلعوا عن ملاحقة الرجل وكانوا يعلمون أن مركزي في النجف والعراق وانتسابي إلى الإمام الحكيم وكانوا لا يريدون أن يصل الأمر إلى المجابه فتركوا الخميني وشأنه .(12/34)
وبدأت اكتشف الرجل ونفسيته وحبه لنفسه إلى مرحلة الجنون شيئا فشيئا أثر اللقاءات التي كانت لي معه، وقد زاد يقيني عندما صدر في كتاب إيران في ربع قرن الذي كان يحتوي على مذكراتي وكثيرا من القضايا السياسية التي عاصرتها في إيران، وقد أحدث الكتاب ضجة كبرى في وقته لأهم الأسرار التي كان يحتويها ، وكان فصل ( الزعامة الدينية ) من أهم فصول الكتاب وكشفت فيه علاقة الإمام الحكيم وجماعته بالشاه، وفي هذا الفصل ذكرت الخميني بإجلال وإكبار، وذكرت جهاده ونضاله ضد الشاه بإسهاب. وبعد صدور الكتاب بأيام زارني أحد أقربائي ليقول لي أنه يحمل رسالة شفهية من الخميني قلت بلغ . قال يقول: بلغ الدكتور موسى إني أعرف أنك ألفت هذا الكتاب لتشويه صورتي فقط وقد كنت موثقا . لقد دهشت دهشة عظيمة عندما سمعت هذا الكلام .
-41-
وقلت لمحدّثي: هل جن الرجل ؟ إن الكتاب ملئ بإجلال الرجل وإكبار دوره وعظيم منزلته في النضال، لماذا قال لك مثل هذا الكلام ؟
قال يقول: إنك كلما ذكرت اسمه ذكرت الإمام الطباطبائي القمي معه ويعتبر هذا الترديف إهانة عظيمة أه فهو يرى نفسه الزعيم الكبير الذي لا يحق لأحد أن يردف اسمه به .
قلت لمحدّثي: قل له أن الإمام الطباطبائي القمي مجتهد ومرجع مثلك، ودخل السجن برفقتك وقضى معك أشهرا في زنزانة واحدة وهو لم يزل أسير السجن منذ سبع سنوات وأنت طليق حر تنتقل في إرجاء العالم الفسيح لماذا تأنف تأبى أن يذكر اسمه معك ؟ النضال ليس احتكار لأحد، كما أن المرجعية ليست احتكارا لأحد، ثم أنت كنت مدرس الأخلاق في قم لسنوات طوال هلا تعلمت درسا واحدا من الدروس التي ألقيتها على طلابك ؟ أليس أول درس من دروس الأخلاق ( ترك الذات وحب العباد) .(12/35)
وحدثت بيننا فجوة بعد تلك الرسالة الجوفاء لكنها لم تصل إلى القطيعة حتى أن حل عام 1973 فقد زارني مصطفى الخميني في بغداد وقال يطلب مساعدتي في نشر مجلة شهرية باللغة الفارسية تصدر في النجف، تنطق باسم المناضلين ويريد تسميتها ( النهضة الروحية ) وأن صحابة أبيه سيتولون نشرها في النجف إذا ما سمعت الحكومية العراقية بذلك وأخذت مصطفى معي إلى دار الشخصية المسؤولة عن شؤون اللاجئين الإيرانيين . فطرحنا عليه الفكرة وحصلت الموافقة، وعين مصطفى المشرفين على المجلة وكلهم من صحابة والده، وانفق السيد شبيب المالكي محافظة كربلاء آنذاك من ميزانية الدولة على المشرفين في إصدار المجلة المال اللازم . وصدر عددين من المجلة أو ثلاثة وإذا بأحد المشرفين عليها يزورني في الدار ويقول أن الخميني يريد أن يراك على عجل، فذهبت إلى داره وسمعت منه حديثا غريبا ..
-42-
قال أريد منك أن تغير اسم المجلة إلى آخر .
قلت : لماذا ؟
قال: لأني أنا الزعيم المسؤول عن النضال الروحي، واسم المجلة يوحي بأنها الناطقة باسمي وأنا لا أريد أن تكون لي مجلة .
قلت: ( أولا) هناك غيرك من الزعماء الروحيون الذين خاضوا عمار النضار ولم يزالوا يخضونها وبعضهم في السجن مثل الإمام الطباطبائي القمي وبعضهم في المنفى مثل الإمام الزنجاني قلت أنت الوحيد في الميدان، ( ثانيا) ابنك مصطفى هو الذي اقترح إصدار المجلة واقترح الاسم، وصدرت المجلة بناء على طلب منه . ( ثالثا) لك قناة خاصة في إذاعة بغداد اشملها النهضة الروحية، أي اسم المجلة نفسها واحد أفرادك هو الذي يشرف عليه ويبث فمنها ساعتين في كل يوم، فلماذا لم تطلب غلق القناة تلك ؟
قال: الكلام عبر الفضاء هواء في شبك أما المجلة هذه فمطبوع وملموس، والفرق كبيرين الكلام والكتابة . وبعد كلام طويل دار بيننا ومثل عادته أصر على رأيه .(12/36)
فقلت: لا أستطيع تغيير اسم المجلة لأنه ليس من اللائق أن تصدر مجلة لشهرين ثم يغير اسمها لأسباب ما أنز الله بها من سلطان ، أن هذا مدعاة للسخرية والاستهزاء .
قال: إن كان كذلك فأصحابي لا يقولون إصدارها .
قلت: سيتولاها قوم آخرون، وكفى الله المؤمنين القتال .
وامتنع أصحابه بناء على أوامره من العمل في المجلة كما قال، وتولاها مناضلون آخرون وصدرت المجلة حتى العدد الثلاثين بنفس الاسم ونفس المنهج المرسوم لها .
-43-
ومنذ أن أشرف على المجلة آخرون لم يذكر الخميني ونضاله في صفحاتها الأولى كما كان يذكر عندما كانت تحت إشراف زمرته. وحصلت لي قناعة أن من الأصلح أن اقطع صلاتي بالرجل الذي سبب لي متاعب لا أستطيع تحملها ، وحصلت القطعية التي دامت لخمس سنوات لم أر فيها الخميني من القريب اللهم إلا في بعض المجالس العامة في النجف، ولم استجب الكثير من نداءات أصحابه أو ابنه لتجديد العلاقة به. وزار السيد أبو الحسن بني صدر العراق وحل في بيتي ضيفا في بغداد وحاول جاهدا أن يعيد العلاقات بيننا ، فكان آخر كلامي له ( هذا الرجل مريض بجنون العظمة، وأنه يضحي العالم وما فيه في سبيل حبه لنفسه وأنانيته ، والتعاون مع إنسان كهذا لا يخلوا من الخطورة على الفرد المجتمع ) .
قال بني صدر: أوافقك على كل ما تقوله ،ولكن نحن نحتاج إلى زعم روحي يقود النضال ضد الشاه ولا يلين في جهاده بالوعد أو الوعيد وهذا هو الخميني ولا بديل له .
قلت: حتى لو صح ما تقول فإنا لم أزل عند رأيي .(12/37)
ودامت القطيعة إلى عام 1967 حيث توفى ابنه مصطفى في حادث غامض لم يعرف له سبب وكنت في بغداد عندما اتصل بي هاتفيا ممثلة العام في النجف واخبرني بوفاة مصطفى وقال أن السيد الخميني يبلغك السلام ويرجو منك في هذه الساعة العصيبة أن تقف بجانبه في عرض رجائه على رئيس الجمهورية بإصدار الأمر لدفن ابنه في الروضة الحيدرية الأمر الذي كان ممنوعا بقرار مجلس قيادة الثورة، وما إني اعتقد أن محاسبة الناس في ساعات المحنة والنكبة مغاير مع الشهامة والأخلاق، ومع أنه لم يحضر فاتحة والدتي رحمة الله عليها في النجف بسبب القطيعة بيننا، وكان من حقي أن أرفض طلبه عملا بالمثل لكني قررت تلبية رجائه فاتصلت فورا بوزير الأوقاف الدكتور الجواري وأخبرته بالحادث وبرجاء الخميني، ونقل الوزير رجاء الخميني إلى
-44-(12/38)
الرئيس الرجاء واعلم المسؤولين في النجف بالقرار ودفن مصطفى حيثما أراد واتصل بي حسين الخميني وهو يقد الشكر والامتنان الجزيل. وذهبت إلى النجف عصر نفس اليوم لتقديم التعازي إلى الأب المنكوب بفقد أكبر أولاده وطبعا يفقد صديق لي في الوقت نفسه، فاستقبلني وهو حزين القلب يردد عبارات الشكر والحمد وكان ابنه أحمد حاضرا في الجلسة وهو يبكي ويقول لي لن ننسى أفضالك. وأسجل هنا للتاريخ أن السيد المصطفى إذا كان على قيد الحياة لم يجرأ الخميني أن يفعل كثير من الأفعال التي فعلها، فهو كان بالنسبة لأبيه صمام الأمان وكان والده يخشى منه ومن غضبه، وكانت زمرة الخميني تخشاه أكثر مما كانت تخشى الخميني نفسه . وبعد أن مات مصطفى بصورة غامضة أشيعت في النجف شائعة مفادها أن زمرة الخميني هي التي قتلت مصطفى حتى يفصح لهم المجال بحرية العمل فمصطفى كان يمنع أباه من القيام بعمل حاد يتنافي مع مقامه وشيخوخته، وبالفعل بعد موت مصطفى خلا الجو لأحمد وللزمرة الخمينية واستطاعت أن تلعب بعقل الشيخ العجوز لتجعل منه مهزلة القرن وأضحوكة الزمان، وقد سمعت من مصطفى أكثر من مرة كان يقول ( أبي هدام وليس بناء )، وكان إذا أغلظ أباه في الحديث ضد الشاه في خطبه وسبه وقذف عائلته كما كانت عادته منع مصطفى من تسجيل الحديث وطبعه إلا بعد حذف تلك العبارات الشانئة وكان يقول ( هذا النوع من الكلام لا يليق بمرجع دين أو زعيم أو رجل في عمر أبي ) ، إنه كلام ( المهرجين ) . ولم ألتق بالخميني بعد وفاة ابنه إلا مرة واحدة أخرى في نجف، ثم سافرت إلى الولايات المتحدة الأمريكية لغرض التفرغ العلمي في جامعة هارت فارد، وكنت في طرق العودة إلى بغداد وفي مطار أورلي في باريس صادف دخولي صالة المطار ورود الخميني صالة الداخلين،
-46-
فتصافحنا وسألته خيران إن شاء الله ؟
قال: الخير فيما وقع .(12/39)
واجتمع نفر حوله كانوا في انتظاره،وبعد ذلك بشهرين كنت عائدا إلى أميركا ومارا بباريس حيث بقيت فيها أسبوعين ورأيت الخميني فيها عدة مرات، وأسجل هنا حوارين دار بيننا في آخر لقاء تم بيننا، أحد الحوارين يدل على أن الرجل من أهل الأحقاد العظام، والثاني يدل على أن الرجل مخادع مكار .
الحوار الأول /
قلت له: إني سأعود إلى طهران في القريب العاجل .
قال: لماذا تعود إلى طهران إذاً ؟
قلت: لأداء الواجب نحو الوضع الراهن .
قال: تستطيع أن تؤدي واجبك في الخارج بعقد المؤتمرات الصحفية والعمل الإعلامي .
قلت: ولكني سأعمل داخل إيران أفضل من خارجها .
قال: لا اعتقد .
قلت: ولكني سأعود على كل حال .
وسكت الرجل ووجهه مكفهر ، وانتهى الحوار .
ولما خرجت من عنده قال لي صاحبي أرأيت كيف يريد إبعادك ولا يريد عودتك إلى إيران، أن حقده عظيم عليك . وكل ما بدر منه وفاة ابنه نحوك من الرجاء والشكر والثناء كان مكرا .
قلت: لصديقي: ولا تكن في ضيقا مما يمكرون . إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون .
وأما الحوار الثاني /
سألته، ماذا يكون عقاب الشاه لو ظفر الشعب به ؟
-47-
قال: إذا لم يثبت إنه قتل أحدا من الناس مباشرتا فلا يجوز الاقتصاص منه .
قلت: وفي رقبته دماء الآلاف من أبناء الشعب .
قال: يقتص من المباشر في القتل وليس من الأمر .
أن من أعجب العجائب وأغرب الغرائب أن صاحب هذا الكلام والرأي يقتل أربعين ألف إنسان في خلال أربع أعوام من حكمه، بين فتى وفتاة والشيخ والشيخة لأنهم قالوا ( لتحيى الحرية وليسقط الاستبداد )، وصاحب هذا الرأي أيضا هو الذي أمر بقتل آلاف من الأكراد والعرب والبلوش والتركمان لأنهم قالوا ( نريد حقوقنا المشروعة والتي اغتصبت في عهد الشاه ) .(12/40)
وأختم الفصل برد قضية سمعتها من ابنه مصطفى قبل بضع سنوات وأيدها الخميني عندما سألته عن صحته، قال لي مصطفى، عندما كان والدي في سجن الشاه وفي أشد الخلاف معه حكم محاكم الشاه على نفر من أنصاره بالإعدام ومنهم الطيب والحاجي رضائي لأنهما قادا التظاهرات في تأييده وقدمت جهات مختلفة التماس العفو إلى الشاه ليعفو عنهما فرض الشاه ذلك أن والدي عندما سمع ذلك قال إني مستعد أن أذهب إلى قصر الشاه وأقدم الالتماس للعفو عن هؤلاء المحكومين فيما إذا أكون على يقين بأنه يقبل التماسي ورجائي لأن فيه إنقاذ رجلين مسلمين من الموت وقد سألت الخميني عندما كان في النجف وفي مناسبة خاصة عن هذا الحديث الذي سمعته من مصطفى، فقال لقد صح ما سمعت .
هكذا كان الخميني يتظاهر بالحب والحنان نحو عباد الله وخلقه حتى إذا وصل سدة الحكم انقض عليهم كالوحش الكاسر لم يأمن من سيفه حتى الصغار من صبية والصبيان وحتى الحوامل والجرحى . لقد صدق قائل هذا البيت :
صلى وصام لأمر كان يطلبه
فلما قضى الأمر لا صلى ولا صاما .
-48-
فهرس
من هو الخميني ----------------------ص3
الخميني في قم ----------------------ص 11
الخميني في العراق -------------------ص13
الخميني والبدع في الدين ----------------ص18
الخميني والمتناقضات ------------------ص21
الخميني والشيوعية -------------------ص28
الخميني بين القول والفعل ---------------ص31
أنا والخميني -----------------------ص36(12/41)
الإسلام والديمقراطية: "واللطش الصحافي"
أمير طاهري
ataheri@hhsaudi.com
دفعت إحدى مقالاتي التي نشرت أخيراً السيد فهمي هويدي إلى تحريك مواهبه الجدلية لشن هجوم شخصي آخر ضدي («الشرق الأوسط» ـ الاثنين 21/8/2000). وكانت النتيجة مثل السرقة بالإكراه في وضح النهار. ماذا يفعل المرء؟ إذا رددت بالمثل، تهبط إلى مستوى اللصوص. وافضل وسيلة هي استيعاب الصدمة والاستمرار في طريقك. ولذا، فلن أرد على الهجوم الشخصي. ويكفي القول إنني لاعتقد ان السيد هويدي يملك السلطة للحكم عليّ.
لقد كانت المقالة التي تسببت في غضب هويدي هي، في الواقع، ملخص للنقاش الدائر في إيران لأكثر من 150 سنة حول ما إذا كان الإسلام والديمقراطية متعارضين؟ وفي تلك المقالة ذكرت ان هؤلاء الذين يعتبرون الإسلام أيديولوجية أصروا دائما على أن الديمقراطية غريبة عن الإسلام ولا يمكن التوافق بينهما.
إن منتقدي يجادلني في تأكيدي أن الخميني اخترع مبدأ «ولاية الفقيه». وينقل عن الملا أحمد نراقي باعتباره صحاب الفكرة. لكن ما لا يفهمه ان مبدأ «ولاية الفقيه»، كما تطور ابتداء من القرن السابع عشر، ينطبق فقط على أشخاص مثل الأطفال اليتامى والمجانين والأسر التي تفقد عائلها، وليس على دولة بأكملها. وكانت بدعة الخميني هي تطبيقها على المجتمع الإسلامي في جميع أنحاء العالم. وكان الهدف من مقالتي هي إظهار عدم إمكانية تطور المجتمع الإيراني إلى مجتمع ديمقراطي بدون تغيرات هيكلية أساسية.(13/1)
وقد شرح الراحل آية الله الخميني وأنصاره ذلك بكل الوضوح. وافضل شيء هو النقل عنهم. «إن الذين يتحدثون عن الديمقراطية هم أعداء الإسلام. فكل معاناتنا تأتي من هذه الطبقة التي تدعي أنها مثقفة. إذا لم يتوقف هؤلاء عن التدخل، سيتم سحقهم. ويجب علينا، مثلما حدث في الثورات الاخرى في أنحاء العالم، قطع رؤوس عدة آلاف من الأفراد الفاسدين وحرق جثثهم لكي يتم حل المشكلة. إن هولاء الناس أسوأ من يهود بني قريضة ويجب إعدامهم. وبإذن الله وبأمر الله سنسحقهم». (الخميني في 18 مارس 1980). وقول ثان «لا تستمعوا إلى هؤلاء الذين يتحدثون عن الديمقراطية. هؤلاء أعداء للإسلام. سنكسر أقلام من يمتدح القومية أو الديمقراطية». (الخميني في 12 مارس 1979). وقول ثالث «ان الفقيه الولي هو ممثل الإمام المنتظر في غيابه. إذا أمركم الفقيه أو من يمثله بمصادرة هذا العقار أو ذاك، أو حرق مسكن هذا الشخص أو ذاك، أو القضاء على مثل هذا المجتمع أو ذاك، فمن الضرورة على الجميع إطاعة الأمر. من يتردد سيعاقبه الله. (الخميني ـ ولاية الفقيه ـ ص 75 87) وقول آخر «الفرق الأساسي بين الحكومة الإسلامية ونظام الحكم الجمهوري والدستوري هو حق المواطن في النظام الأخير في التشريع . أما في الإسلام، فلا يملك أحد حق التشريع ولا يطبق أية قوانين غير قوانين الشريعة». (الخميني ـ ولاية الفقيه» ص 45) وقول آخر «ان القوانين الوحيدة التي يعترف بها الإسلام هي القوانين الشرعية الصالحة للابد وللإنسانية جمعاء. وجميع القوانين الاخرى هي نتاج العقول المصابة بالزهري لعصابة من الجهلاء وبالتالي هي بلا قيمة . إن الإسلام لا يعترف بأي من هذه القوانين في أي مكان من العالم». (الخميني ـ كشف الأسرار ـ 292) وقول آخر «الناس جهلاء وناقصون. وإلى أن يكبروا هم في حاجة إلى معلم مثل الأطفال». (الخميني ـ ولاية الفقيه ص 46، انظر صفحتي 58 و 62) وأخيرا «الديمقراطية هي شكل سياسي داعر لأنه(13/2)
يسمح لمن يحصل على أصوات اكثر بالحكم. (الخميني ـ إبريل 1979) والآن مقولة لأحد ورثة الخميني الأيديولوجيين آية الله مصباح يزدي: «الإسلام هو حكومة الله بينما الديمقراطية هي حكومة الشعب. والاثنان أعداء للابد. المجلس ليس هيئة تشريعية. يمكن ان تعرض الأفكار، وتقدم التوصيات. ولكن المرشد الأعلى هو الذي يعلن ما يمكن القيام به». (طهران 16 أغسطس 2000).
ومن المهم معرفة ان الخميني، وورثته، أمناء ومتسقون في أفكارهم. فليس لديهم مركب نقص ولا يهتمون على الإطلاق بمفاهيم غربية مثل السيادة الوطنية والديمقراطية والحكومة الدستورية وغير ذلك. ان الخميني وورثته سيشعرون بالفزع عندما يعلمون ان هويدي يعتقد ان الخمينية يمكن ان تقود العالم الإسلامي نحو الديمقراطية ويثير منتقدي أيضا قضية «غير عادلة» تجاه جمال الدين أسد ـ آبادي (الأفغاني) لأنني أشرت إلى علاقات السيد الماسونية.
لقد حلم السيد جمال بحكومة من الصفوة وبالتالي استمر في تقاليد العلوم السياسية الإسلامية التي بدأها عدد من الفلاسفة الإيرانيين الكلاسيكيين مثل الفارابي وأبو علي سينا ونظام الملك والطوسي. وقد تأثر هؤلاء الفلاسفة بأفلاطون وزنوفون وارسطاليس وفلوطينوس، وحلموا بحكومة من الصفوة، وإذا لم يكن ذلك ممكنا، فبحكومة «المستبد المستنير الخيّر».
واعتقد السيد جمال ان المسلمين ليسوا على استعداد بعد لحكومة دستورية لعدة أسباب، من بينهما انتشار الخرافات، وخبرتهم الطويلة بحكم الطغاة، وجهلهم بالعلوم الحقيقية. واعتقد ان افضل ما يمكن ان يأملوا فيه هو المستبد الخيّر المستنير الأبوي الذي يمكن ان يقدم علوما جديدة ومعلومات تكنولوجيا، ولاسيما الإحصاءات التي كان يعجب بها السيد أيما إعجاب، والإدارة الأكثر إنسانية.(13/3)
ومعظم أعمال السيد جمال لم تترجم الى العربية ولذلك فلا يمكن لهويدي الاطلاع عليها. ولكن هناك مقالة للسيد جمال بالعربية (نشرت في مجلة مصر، العدد 33 الصادرة بتاريخ 22 صفر 1296) التي تطور تحليله لأنواع الحكومات في الإسلام. ويرفض فيها تلك الأنواع، ويقدم نموذجا يطلق عليه «الحكومة المتنطسة».
وكتب يقول انه في مثل هذه الحكومات «يعتبر القادة الحكماء مثل الأب الفطين بعيد النظر الذي يبذل كل ما في وسعه باستمرار لإعداد الظروف الكفيلة بضمان سعادة أطفاله طوال حياته، وان يعد الاحتياجات طويلة المدى وقصيرة المدى». وهو مفهوم غير ديمقراطي لأنه يعامل الناس كـ«أطفال» ويروج لمبدأ الوصاية مثل الخميني.
ثم يصور السيد جمال ما يمكن ان يصبح دولة بوليسية: لا يجب ان يتوقف (الحاكم) عن الاهتمام بتفاصيل ما يفعله الرعية، ويجب ان يتابع شؤونهم بصفة مستمرة، ويقوّم ظروفهم».
ولم يقترح السيد جمال أي مشاركة شعبية في صنع القرار، ولا حتى من خلال مجلس الشورى. كما لم يطالب بحاكم «عادل» وإن كان يشير الى «العدالة» كأحد ظروف حكومته المثالية». فهو يقول «ان القضاء على الفتنة، وقطع يد السارق، وفرض القيود على الغش، ومكافحة الفساد وردع الأشرار، لا تحقق إلا من خلال فرض القانون الديني وفرض سياسات تنطلق من مبادئ العدالة والإنصاف... وهذا لا يتحقق إلا من خلال قانون عادل ينطبق على الجميع، ومن خلال حراس يقظين على تطبيقه، وبتوفر العلماء الخبيرين والقضاة العادلين».(13/4)
ويعتبر معظم المؤرخين السيد جمال من بين مؤسسي الحركة الماسونية في الشرق الأوسط (*). وتوضح القراءة المتأنية لأعماله عن الأفكار الماسونية التي حاول تطويرها. وكان يعتبر مثل معظم الماسونيين ان الدين عائق منتصب في وجه الاستنارة، وانه عدو للتقدم الإنساني. مع ذلك، فقد أرغم على ممارسة «التقية» لأنه يدري ان اتخاذه موقفا معاديا للدين قد يتسبب في القضاء على طموحه السياسي في العالم الإسلامي وحتى انه قد يكلفه حياته نفسها.
وبالطبع، يحق للخميني والسيد جمال التعبير عن أفكارهما التي يعتقدان بها. غير ان كليهما كان على خطأ ولكن بأسلوب مختلف.
وأنا لم أعبر عن رأيي حيال تواؤم الإسلام مع الديمقراطية في المقال الذي قاد الى تعرضي للذم والانتقاص من الشأن. وربما كان من اللازم عليّ فعل ذلك، وأقول باختصار: اني اقتنعت بان الإسلام والديموقراطية لا يتواءمان بينهما فحسب بل قد يكمل بعضهما الآخر.
غير ان ذلك، يتطلب مقالاً آخر، فتحسب لذلك!
ـــــــــــــ
* راجع في سبيل فهم افضل للسيد جمال الدين الأفغاني، خاصة ارتباطاته الماسونية، أعمال محيط طباطبائي وإسماعيل رائين ومحمد شمس وهما ناطق ومحمد زكي بدوي وهاني سرور وممتاز تركوني ومريم محمد زهيري وايلي خدوري.
جريدة الشرق الأوسط 25/08/2000م(13/5)
الاصولية والاخبارية
بين الاسماء والواقع
لسماحة المرجع الديني الكبير
السيد محمد سيعد الطباطبائي الحكيم(دام ظله)
بِسم الله الرّحمن الرَّحيم
سماحة السيد الجليل آية الله العظمى السيد محمد سعيد الطباطبائي الحكيم (دامت افاضاته).
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..
لا زال بعض المؤمنين يرى في الأخبارية منهجاً فكرياً أصيلاً ومغايراً عن المنهجية الأُصولية، ويقول: «إنه لا يمتلك القناعة والحجة التامة بينه وبين الله عز ّوجلّ في سلامة وحجية الاستنباط الأُصولي».
ويفند رأي أحد الفقهاء العظام:
«الأُصولية المعاصرة أُصولية نظرية فقط، ولكنها عملياً تتفق مع الخط الأخباري».
مدعياً أن هذا القول يفتقد الدقة العلمية، فهناك قضايا لا يعتمد فيها على الكتاب والسنة، كمسألة الأعلمية، وتقليد الميت ابتداءً.
ويرى طرف آخر:
«أن مسألة العقل والإجماع قبرت منذ زمن الشيخ الأنصاري(قدس سره)(1) ولا توجد مسائل عملية يتوقف عليها إلا نادراً».
سماحة السيد.. أمام هذا العرض نفتقد إلى الكلمة العلمية الدقيقة المبينة للمنهجية العلمية والقناعة الذاتية، نرجو إفادتنا بإسهاب حول ذلك.
عبد الرضا ـ البحرين
ـــــــــــــــــــــ
(1) الشيخ مرتضى بن محمد أمين الأنصاري (1214هـ ـ 1281هـ)، ينتهي نسبه إلى الصحابي جابر بن عبد الله الأنصاري. شيخ مشايخ الإمامية، انتهت إلية رئاسة الإمامية بعد مشايخنا الماضين وهو بها حقيق، إذا لا يباريه أحد في التقي وكثرة الصلاة والصلات، والعلم أصولاً وفروعاً، والعمل وحسن الأخلاق... (أعيان الشيعة 10 : 118).
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله الطيبين الطاهرين. ولعنة الله على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين.(14/1)
وبعد.. فإن الوصول للحقيقة في هذه المسألة يفرض على الباحث أن ينظر في أعماق المشكلة بموضوعية وانفتاح وتحرر وتجرد عن التراكمات والمضاعفات التي أفرزتها الخلافات والمنافرات في هذه المدة الطويلة.
ونحن ـ في الوقت الذي كان يحزّ في نفوسنا ـ ككثير من المخلصين ـ هذا الانقسام والتحزب بين أبناء هذه الطائفة ـ قد حاولنا جاهدين معرفة الحقيقة، والبحث عن واقع هذا الخلاف
منذ أمد بعيد، يزيد عن أربعين عاماً، سواءً كان ذلك بالرجوع للبحوث التي حامت حول الخلاف المذكور، أم للبحوث الأُصولية والفقهية التي قام بها من يحسب على كل من الطرفين، أم بالاستماع إلى وجهات النظر المختلفة مِمَّن هم معنيون بالأمر، أم بالحوار الصريح مع مَن لهم إلمام بالمشكلة وإحاطة بها من ذوي المقام الرفيع في العلم والتقوى والعمق والحكمة. ونخص منهم بالذكر المرحوم المقدس المرجع الديني الكبير آية الله العظمى الشيخ محمد أمين زين الدين(قدس سره)(1) .
وقد حصلت لنا من جميع ذلك قناعة ذاتية حول الموضوع نرجو أن نكون قد وفقنا فيها، وستتضح معالمها وشواهدها في هذا الحديث الذي رغبتم إلينا في الدخول فيه من أجل الوصول للحقيقة.
ونتيجة لهذه القناعة لا يهمنا الدفاع عن منهجية خاصة نسميها بالمنهجية الأُصولية أو منهجية المجتهدين، ولا عن منهجية خاصة نسميها بالمنهجية الأخبارية أو منهجية
ـــــــــــــــــــــ
(1) الشيخ محمد أمين زين الدين (1333 ـ 1319 هـ. ق)، عالم جليل، وكاتب فاضل، ومؤلف فذ، ومتتبع عبقري، وباحث إسلامي. أخذ الأوليات في البصرة... تتلمذ على الشيخ ضياء الدين العراقي والشيخ محمد حسين الأصفهاني والسيد حسين البادكوبي وتصدى للتدريس والتأليف وأصبح ممن يُشار إليه في التأليف والكتابة والنظم والتقوى والأخلاق وحسن السيرة... (معجم رجال الفكر والأدب 2:650).(14/2)
المحدِّثين، ولا التفنيد لإحدى المنهجيتين بخصوصيتها، ولا إرجاع إحدى المنهجيتين للأُخرى في محاولة للتوفيق بينهما.
كل ذلك لعدم وضوح معيار كلٍّ من المنهجيتين، وعدم تحديد ركائز كل منهما وفوارقهما.
فإن ما يذكر من وجه الفرق بينهما لا يصلح فارقاً، فضلاً عن أن يوجب الانقسام وامتياز كل من الطرفين عن الآخر، وما استتبع ذلك من فُرقة وتنافر.
لأنها بين خلافات لفظية لا حقيقة لها، وخلافات فقهية أو أُصولية بين جميع العلماء على اختلاف مناهجهم، من دون أن تمتاز به إحدى الفئتين عن الأُخرى، كما أوضح ذلك غير واحد.
وقد استوفى الكلام فيه المحقق البحراني(قدس سره)(1) في المقدمة الثانية عشرة من مقدمة كتابه الجليل (الحدائق الناضرة)(2)، وفي الدرة الثامنة والأربعين من كتابه (الدرر النجفية).
ـــــــــــــــــــــ
(1) قال في منتهى المقال: «يوسف بن احمد بن ابراهيم... الدرازي البحراني، عالم، فاضل، متبحر، ماهر، محدث، ورع، عابد، صدوق، ديِّن، من أجلة مشايخنا المعاصرين و أفاضل علمائنا المتبحرين...توفي في شهر ربيع الأول سنة1186 هـ».
انظر منتهى المقال 7 : 74 ، أعيان الشيعة 10 : 317.
(2) الحدائق الناضرة 1: 167.
* * * * *
بل إن التباس معالم الخلاف وركائزه يمنعنا من نسبة كثير من علمائنا الأعلام(قدس سرهم) إلى إحدى المنهجيتين بعد عدم تصريحه بالانتماء لواحدة منها.
كما ربما يوجب ذلك التباس الحال في بعضهم، فتختلف نسبته باختلاف الناسبين له، كشيخ الطائفة الطوسي(قدس سره)(1)، حيث عدّه في المقدمة الثانية عشرة من مقدمات كتاب الحدائق من أساطين المجتهدين(2)، وعدّه بعضهم من الأخباريين.
وكالمجلسي(قدس سره)(3)، حيث عرف عنه أنه من الأخباريين، وعدّه في الفائدة الثانية من كتاب (الحدائق) من متأخري المجتهدين(4).
ـــــــــــــــــــــ(14/3)
(1) محمد بن الحسن بن علي الطوسي (460 هـ)، شيخ الإمامية، ورئيس الطائفة، جليل القدر، عظيم المنزلة، ثقة، عين، صدوق، عارف بالأخبار والرجال والفقه والأصول والكلام والأدب وجميع الفضائل تنسب إليه، صنف في كل فنون الإسلام، وهو المهذب للعقائد في الأصول والفروع، والجامع لكمالات النفس في العلم والعمل. (الخلاصة: 148).
(2) الحدائق الناضرة 1: 168.
(3) محمد باقر بن محمد تقي المجلسي (1027 هـ/ 1110 هـ) عالم، فاضل، ماهر، محقق، علامة، فهامة، فقيه، متكلم، محدث، ثقة ثقة، جامع للمحاسن والفضائل، جليل القدر، عظيم الشأن... له مؤلفات كثيرة مفيدة، منها: بحار الأنوار في أخبار الأئمة الأطهار.. (امل الآمل 2 : 248)
(4) الحدائق الناضرة 1: 15.
وكصاحب الحدائق نفسه الذي اشتهر عنه أنه من الأخباريين، مع أن كلامه في الكتابين المتقدمين صريح في عدم الفرق بين الفئتين... إلى غير ذلك مّما يجعلنا على قناعة تامَّة بعدم وضوح معالم الخلاف وركائزه أولاً، ثم بعدم الجدوى في تحديد كلٍّ من المنهجيتين وتمييزها عن الأُخرى، لننظر بعد ذلك في ما هو الحقيق بالقبول أو الرفض منهما، أو نحاول التقريب بينهما.
* * * * *
وفي الحقيقة فإن تحديد إحدى المنهجيتين وتمييزها عن الأُخرى ـ بعد كل ذلك ـ لا يخرج عن أن يكون تحديداً للاصطلاح. وقد شاع بين أهل المعرفة: أنه لا مشاحة في الاصطلاح.
ولا سيما وأن هذا الاصطلاح..
أولاً: قد أضرَّ بوحدة الطائفة الحقة، وجرّ عليها محنة التفرق، والانشقاق، والتهريج، والتشنيع المتبادل، بنحو قد يصل حدَّ الإغراق المأساوي، خصوصاً في المناطق التي تجمع بين الفئتين وتتعرض للاحتكاك بينهما.
مع أن الطائفة في غنىً عن ذلك كله بعد وحدتها تحت راية أهل البيت(عليهم السلام) الذين هم سفن النجاة، وحبل الله المتين، وصراطه المستقيم.(14/4)
وثانياً: أن الانشقاق بطبعه يجرّ للتعصب، الذي قد يمنع من مصداقيَّة الرؤية، ويحول دون الوصول للحقيقة، لأن من شأنه أن يضفي على ركائز الخلاف المفروضة قدسيَّة، ويحيطها بهالة من الاحترام، قد يفقد بها الباحث الموضوعية في البحث.
بل قد لا يستطيع حتى التعديل فيها والتحوير لها لو اقتضته الأدلة، فتفرض نفسها بسبب التعصب المذكور، والقناعات المسبقة، ويتم التمسك بها، والجمود عليها، والدفاع عنها بصورتها التي أطلقت بها، وبذلك تضيع الحقيقة على طالبها.
* * * * *
وقد يشهد بما ذكرنا أن الفرق العلمي بين الأخباريين والأُصوليين أقل بكثير من الفرق بين الانفتاحيين ـ الذين يرون وجود الحجج الكافية على الأحكام الشرعية العملية ـ والانسداديين ـ الذين يمنعون من ذلك، ويضطرون للبناء على حجية الظن المطلق من دون خصوصية للأخبار.
لكن الخلاف المذكور ـ بين الانفتاحيين والانسداديين ـ لمّا لم يحمل مصطلحات وحدوداً طائفية بقي خلافاً علمياً محضاً، وكان البحث فيه موضوعياً صرفاً، واختلفت وجهات النظر بين الأعلام من الطرفين في مراتب الانسداد والانفتاح، وفي الثمرات المترتبة عليهما، وبقي الكل تحت وحدة جامعة، وهي فقه أهل البيت(عليهم السلام)، لا يفرق بينهم اختلاف مناهجهم، ولا يرى بعضهم عدم براءة الذمة في أحد المناهج، بل بقيت ضوابط التقليد العامة نافذة على الطرفين، مع تبادل حسن الظن، بل التقديس والتعظيم والتبجيل.
حتى ذكروا أن المحقق القمي(قدس سره)(1)، الذي هو انسدادي المنهج، كان في النجف الأشرف والناس في دور الفحص عمن يقلّدون بعد المرجع الشهير الشيخ كاشف الغطاء الكبير(قدس سره)(2)، فطلبوا منه أن يرتاد لهم، ويتحرى عن الأعلم من بين العلماء الموجودين في النجف الأشرف آنذاك، وبعد أن استكمل الفحص أرجع لولده المرحوم الشيخ موسى كاشف الغطاء(قدس سره)(3).
* * * * *(14/5)
وكذا الحال في الخلاف بين المشهور ـ الذين لا يتشددون في السند، ويرون انجبار الخبر الضعيف بعمل الأصحاب، ووهن الخبر الصحيح بإعراضهم ـ ومثل المرحوم المقدس الأردبيلي(قدس سره)(4)، وتلميذيه صاحبي المدارك(5) والمعالم(6)، والسيد الخوئي(قدس سرهم)(7) ومن جرى على منهجهم ممّن لا يرون ذلك، ويتشددون في أمر السند.
لكن الخلاف المذكور لم يوجب انحيازاً بين المنهجين، وبقي الناس على موازينهم العامة في التقليد، حتى أن المرحوم السيد الخوئي(قدس سره) كان يصرح بجواز البقاء على تقليد سيدنا الجد السيد الحكيم(قدس سره)(8) ـ مع أنه كان على منهج المشهور مخالفاً لمنهجه ـ في موارد احتياطاته الوجوبية، بل مطلقاً في حق من لم يثبت عنده أن السيد الخوئي أعلم من السيد الحكيم.
كل ذلك من أجل مراعاة موازين التقليد العامة.
ـــــــــــــــــــــ
(1) الشيخ الميرزا أبو القاسم بن المولى محمد حسن الجيلاني الشفتي القمي(1151هـ ـ 1231هـ)، من أركان الدين وكبائر المؤسسين، ومن مشاهير محققي الإمامية.. من مؤلفاته (القوانين المحكمة) في الأصول. (طبقات أعلام الشيعة ـ القرن 13ـ 1 : 52)
(2) الشيخ جعفر كاشف الغطاء، الكبير، (1154 ـ 1227 هـ)، شيخ الطائفة، وزعيم الإمامية، ومرجعها الأعلى في عصره، وفي طليعة فقهاء الشيعة، وشيخ مشايخ المسلمين، وصاحب المآثر الخالدة، وكان من العلم والتقوى والصلاح والزهد والعبادة والورع بمكان عظيم، وكانت ملوك آل عثمان ينظرون إليه بعين الإكبار والاجلال والعظم والخشية... كما ان رئاسته بلغت القمة والذروة وامتد نفوذها وسمت مكانتها في كافة الأقطار... دافع عن النجف الأشرف في حادثة الوهابية فوقف في وجه الغارات السعودية وجند الشباب وسلحهم.( معجم رجال الفكر والأدب 3: 1308)(14/6)
(3) الشيخ موسى بن الشيخ جعفر الكبير (1180 ـ 1243 هـ)، عالم كبير متضلع في الفقه، والعلوم العقلية والنقلية، ومن كبار المراجع، ولقِّب (سلطان العلماء)، وكان عالماً حقاً، وزعيماً روحياً محلقاً، وفقيهاً أصولياً مدققا، ومن اساطين العلماء والمدرسين، ووجهاً من وجوه الفقهاء والمؤسسين...(معجم رجال الفكر والأدب ج3: 1052)
(4) الشيخ أحمد بن محمد الأردبيلي (993 هـ)، كان عالماً، فاضلاً، مدققاً، عابداً، ثقة، ورعاً، عظيم الشأن، جليل القدر... له كتب منها: شرح الإرشاد... وتفسير آيات الأحكام... (أمل الآمل 2: 23)
(5) السيد محمد بن علي بن الحسين بن أبي الحسن الموسوي العاملي الجبعي، (1009 هـ) كان عالماً، فاضلاً متبحراً، ماهراً محققاً، مدققاً، زاهداً، عابداً، ورعاً، فقيهاً، محدثاً، كاملاً، جامعاً للفنون والعلوم، جليل القدر عظيم المنزلة. (أمل الآمل 1: 167).
(6) الشيخ جمال الدين أبو منصور الحسن بن الشيخ زين الدين ابن علي بن أحمد الشهير الثاني العاملي الجبعي. كان عالماً، فاضلاً، عاملاً، كاملاً، متبحراً، محققاً، ثقةً، فقيهاً، وجيهاً، نبيهاً، محدثاً، جامعاً، للفنون، أديباً، شاعراً، زاهداً، عابداً، ورعاً، جليل القدر، عظيم الشأن، كثير المحاسن، وحيد دهره، أعرف أهل زمانه بالفقه والحديث والرجال. له كتب ورسائل: منها كتاب منتقى الجمان... وكتاب معالم الدين.
(أمل الآمل 1: 57).
(7) السيد أبو القاسم الموسوي الخوئي (1317 ـ 1413 هـ)، فقيه، أصولي كبير، ومجتهد محقق نحرير، وعالم مدقق، ومن كبار مراجع التقليد، وأساتذة الفقه والأصول... تتلمذ على شيخ الشريعة الأصفهاني، والشيخ مهدي الأصفهاني، والشيخ ضياء الدين العراقي، والشيخ محمد حسين الأصفهاني، والشيخ النائيني. (معجم رجال الفكر والأدب ج2/ 532).(14/7)
(8) السيد محسن الحكيم (1306 ـ 1390 هـ)، فقيه العصر، وسيد الطائفة، وزعيم الأمة، كبير مراجع التقليد والفتيا... كان له الزعامة الدينية العامة، والمرجعية الروحية المطلقة، والرئاسة العلمية، قام بمشاريع ومآثر خالدة، وتصدى للتدريس والتأليف... ازدهرت الحوزة النجفية ونشطت الحركة الفكرية على عهده، توفي في ربيع الأول 1390 هـ. (معجم رجال الفكر والأدب 1 :432).
* * * * *
بل حتى اختلاف المنهجيتين الأُصولية والأخبارية نراه لا يمنع الكثير من الطرفين من نظرة الاحترام والإجلال للأشخاص ولآرائهم العلمية.
فالحر العاملي(1)، والمجلسي، والكاشاني، وصاحب الحدائق(قدس سرهم) ونحوهم ممَّن يحسب على الأخباريين والمحدثين حينما يتعرضون لآراء أو كتب مثل الشيخ المفيد(2)، والسيد المرتضى(3)، وسلاَّر(4)، وابني زهرة(5)وإدريس(6)، والطبرسي(7)، والمحققين(8)، والعلامة(9)، والشهيدين(10)، والبهائي(11)، وصاحب المدارك(قدس سرهم) وغيرهم ممَّن يحسب على المجتهدين والأُصوليين، يتعاملون معها ومع أصحابها باحترام وإجلال.
وكذا الحال في العكس، حيث نرى من يحسب على الأُصوليين يستعرضون آراء وكتب مثل الصدوقين(12)، والحرّ العاملي، والمجلسي، والكاشاني، وصاحب الحدائق بكمال الاحترام والإجلال لها ولأصحابها أيضاً، حتى لا يكاد يتبين الفرق في المنهجية عند النظر لعامَّة الكتب العلمية المعروفة.
ـــــــــــــــــــــ
(1) محمد بن الحسن بن علي بن محمد الحر العالمي (1104هـ)، علم لا تباريه الأعلام، وهضبة فضل لا يفصح عن وصفها الكلام، أرجت أنفاس فوائده أرجاء الأقطار، وأحيت كل ارض نزلت بها فكأنها لبقاع الأرض أمطار. تصانيفه في جبهات الايام عرر، وكلماته في عقود السطور درر... وله شعر مستعذب الجنى بديع المجتلي والمجتنى... (سلافة العصر:359).(14/8)
(2) محمد بن محمد بن النعمان العكبري البغدادي (338 ـ413 هـ)، يكنى بأبي عبد الله، المعروف بابن المعلم، من جملة متكلمي الامامية، انتهت اليه رئاسة الامامية في وقته وكان مقدماً في العلم وصناعة الكلام، وكان فقيهاً متقدماً فيه، حَسَنُ الخاطر، دقيق الفطنة، حاضر الجواب... وكان يوم وفاته يوماً لم ير أعظم منه من كثرة الناس للصلاة عليه، وكثرة البكاء من المخالف والموافق. (فهرست الطوسي: رقم 710 / رجال النجاشي2: 327).
(3) الشريف أبو القاسم على بن الحسين بن موسى (المرتضى) (436هـ)، حاز من العلوم ما لم يدانه فيه أحد في زمانه، وسمع من الحديث فأكثر، وكان متكلماً شاعراً أديباً، عظيم المنزلة في العلم والدين والدنيا.(رجال النجاشي2: 102).
(4) سلاّر بن عبد العزيز الديلمي(448 ـ463)، ثقة، جليل القدر، عظيم الشأن، فقيه... (أمل الآمل 2: 127).
(5) السيد عز الدين أبو المكارم حمزة بن علي بن زهرة الحسيني الحلبي (511 ـ585 هـ) فاضل، عالم، ثقة، جليل القدر له مصنفات كثيرة منها: عنية النزوع إلى علمي الاصول والفروع...(أمل الآمل 2: 105).
(6) الشيخ محمد بن إدريس العجلي بحلة... وقد أثنى عليه علماؤنا المتأخرون، واعتمدوا على كتابة، وعلى ما رواه في آخره من كتب المتقدمين وأصولهم، يروي عن خاله أبي علي الطوسي بواسطة وغير واسطة، وعن جده لأُمِّه أبي جعفر الطوسي، وأم أمه بنت المسعود ورام، وكانت فاضلة صالحة. مؤلفاته السرائر الحاوي لتحرير الفتاوي، وهو الذي تقدم ذكره، وله أيضاً كتاب التعليقات كبير، وهو حواش وإيرادات على التبيان لشيخنا الطوسي، شاهدته بخطه في فارس. وقد ذكر أقواله العلامة وغيره من علمائنا في كتب الاستدلال وقبلوا أكثرها.(أمل الآمل 2: 243).
(7) أمين الدين، أبو علي، الفضل بن الحسن بن الفضل الطبرسي(548 هـ)، ثقة، فاضل، عين، ديّن، له تصانيف، منها مجمع البان في تفسير القرآن... (أمل الآمل 2: 216).(14/9)
(8) أولهما: المحقق الحلي، نجم الدين، أبو القاسم، جعفر بن الحسن بن يحيى بن الحسن بن سعيد الحلي (676 هـ)، حاله في الفضل، والعلم، والثقة، والجلالة، والتحقيق، والتدقيق، والفصاحة أشهر من أن يذكر، وكان عظيم الشأن، جليل القدر، رفيع المنزلة، لا نظير له في زمانه. له كتب منها: كتاب شرائع الإسلام في مسائل الحلال والحرام.(أمل الآمل 2: 48)
ثانيهما: المحقق الكركي، الشيخ الجليل على بن عبد العالي، العاملي الكركي(937هـ)، أمره في الثقة، والعلم، والفضل، وجلالة القدر، وعظم الشأن، وكثرة التحقيق أشهر من أن يذكر، ومصنفاته كثيرة مشهورة، منها: شرح القواعد...( أمل الآمل1: 121).
(9) جمال الدين، أبو منصور، الحسن بن يوسف بن علي بن المطهر الحلي (726هـ)، فاضل، عالم، علامة العلماء، محقق، مدقق، ثقة ثقة، فقيه محدث، متكلم ماهر، جليل القدر، عظيم الشأن، رفيع المنزلة، لا نظير له في الفنون والعلوم العقليات والنقليات، وفضائله محاسنه أكثر من أن تحصى...(أمل الآمل2: 81).
(10) الشهيد الاول: شمس الدين، أبو عبد الله، محمد بن مكي الجزيني، العاملي(786 هـ) كان عالماً، ماهراً، فقيهاً، محدِّثاً مدققاً ، ثقة، متجراً، كاملاً، جامعاً لفنون العقليات والنقليات، زاهداً، عابداً، شاعراً، أديباً، منشئاً، فريد دهره، عديم النظير في زمانه.(أمل الآمل1: 181).
الشهيد الثاني: زين الدين بن علي بن احمد بن محمد بن جمال الدين العاملي، الجبعي(911 ـ 966 هـ)، أمره في الثقة والعلم، والفضل، والزهد، والعبادة، والورع، والتحقيق والتبحر، وجلالة القدر، وعظم الشأن، وجمع الفضائل والكمالات أشهر من أن يذكر، ومحاسنه وأوصافه الحميدة أكثر من أن تحصى تحصر، ومصنفاته كثيرة مشهورة.(أمل الآمل 1: 85 )(14/10)
(11) بهاء الدين، محمد بن الحسين بن عبد الصمد الحارثي، العاملي، الجبعي(953 ـ 1035 هـ) حاله في الفقه، والعلم، والفضل، والتحقيق، والتدقيق، وجلالة القدر، وعظم الشأن، وحسن التصني، ورشاقة العبارة، وجمع المحاسن أظهر من أن يذكر، وفضائله أكثر من أن تحصر.(أمل الآمل 1: 155).
(12) الاول: على بن الحسين بن موسى بن بابويه القمي(339 هـ) شيخ القميين في عصره ومتقدميهم، وفقيههم، وثقتهم.(رجال النجاشي 2: 89).
الثاني: ولده، محمد بن علي بن الحسين بن موسى بن بابويه القمي(381 هـ)، قال النجاشي: أبو جعفر، نزيل الري، شيخنا وفقيهنا، ووجه الطائف بخراسان، وكان ترد بعداد سنة(355 هـ) وسمع منه شيوخ الطائفة وهو حدث السن.(رجال النجاشي 2 : 311)
* * * * *
نعم، شطّ القلم ببعض الأعلام فعرّضوا بالآخرين تعريضاً قد يصل حدّ التشنيع والتهريج، بل حدّ النيل والتجريح.
وهو أمر مؤسف حقاً، إلاّ أنه لا يقتصر على ما بين هاتين الفئتين، بل يتعداها لأطراف الفئة الواحدة فيما بينهم.
فبعض الأعلام لا يملك نفسه عند عرض قناعاته، بل يتجاوز حدود الحوار العلمي الموضوعي الهادئ إلى النيل ممَّن يخالفه في اندفاع عاطفي يتراوح بين مراتب العنف شدّة وضعفاً، وكثيراً ما يكون عن حسن نية، وقد تميّز بذلك بعض الأشخاص من الفئتين وعرفوا به لكثرة ما يصدر منهم، بينما يوجد متفرقاً في فلتات القلم عند آخرين.
ولسنا بصدد استعراض ذلك، بل الذي يهمنا بيانه أن ذاك تابع لطبيعة الشخص الذاتية، لا لاختلاف المنهجية ليكون من السمات المميزة بين الفئتين.
* * * * *(14/11)
وعلى ذلك فالاختلاف في مسائل أُصول الفقه وتباين المناهج والمسالك فيها لا يكون منشأ للفرقة بين علماء الطائفة الحقة، ولا بين أبنائها، بحيث ترى كل جماعة فرض المنهج الذي التزمت به، وعدم براءة الذمة بتقليد من هو على خلافه إذا تمت ضوابط التقليد العامة، بعد كون الجميع من فقهاء أهل البيت(عليهم السلام) ويحملون شرف الانتماء لهم والائتمام بهم.
كيف ؟! وليس الأثر المهم لاختلاف المنهج في المسائل الأُصولية إلا ما قد يترتب عليه من الاختلاف في المسائل الفقهية التي هي مورد العمل، ولا ريب في أن الاختلاف في المسائل الفقهية لا يوجب تفرقاً في الطائفة، ولا تحزباً فيها، ويبقى المكلف مطلقاً في تطبيق قواعد التقليد العامة على جميع الأطراف.
وإلا فما أكثر اختلاف الأخباريين فيما بينهم، واختلاف الأُصوليين مع بعضهم.
* * * * *
بل قد يبلغ الخلاف حدّ الغرابة بل الشذوذ حتى من الأعيان والأكابر، سواءً كان في مقدمات الاستنباط وفي فهم الأدلة، أم في نفس الحكم المستنبط، كما يتضح للممارس الناظر في كلام الأصحاب (رضوان الله تعالى عليهم) وغيرهم من أهل البحث والنظر.
لكنه لا يوجب تجريحاً ولا فرقة بعد كون الوجهة العامة فقه أهل البيت (عليهم السلام)، مشفوعة بحسن النية، والواقعية، والاهتمام بالوصول للحقيقة. فان الباحث مهما عظم شأنه معرض للخطأ، والتسديد من الله تعالى والعصمة لأهلها.
* * * * *
وبعد كل ذلك يحسن بنا توضيح المعالم العامة لمصادر فقه الإمامية أتباع أهل البيت(عليهم السلام)، والأدلة التي عليها يرتكز الجميع وتدور حولها المناهج المختلفة من دون أن يخرج شيء منها عنها، ليتجلَّى ما ذكرنا من أن الخلاف في المناهج لا يضر بوحدة الطائفة المحقة، ولا يكون سبباً في انقسامها.(14/12)
فقد اتفق المسلمون بجميع فرقهم ونحلهم على لزوم العمل بأحكام الشريعة الإسلامية التي شرّعها الله تعالى، وأودع علمها عند رسوله الأمين(صلى الله عليه وآله وسلم)، كما اتفقوا على الرجوع للكتاب المجيد والسنة الشريفة لمعرفة تلك الأحكام والعمل عليها.
وامتاز الإمامية (أعلى الله تعالى كلمتهم) بالاعتقاد بأن الأئمة الاثني عشر من أهل البيت(عليهم السلام) هم المرجع للأُمَّة بعد النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) في أُمور دينهم ودنياهم.
فهم أولوا الأمر الذين تجب طاعتهم، والإقرار بفرض ولايتهم، وهم الوارثون لعلم النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، والناطقون عنه الذين يجب الأخذ عنهم، والائتمام بهم.
ولهذا الأمر أهميته العقيدية، وبه صارت ولايتهم(عليهم السلام) من أُصول الإيمان التي بها النجاة من النار، والفوز بالجنة، وبها امتازت الفرقة المحقَّة الناجية.
كما أن له أهميته الفقهية، لكثرة ما ورد عنهم(عليهم السلام) من معالم الدين وأحكامه، ومن ثَمَّ كانت سنّتهم(عليهم السلام) وأحاديثهم ـ كسنَّة النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وأحاديثه ـ مرجعاً فقهياً ودليلاً شرعياً.
وتَبعاً لذلك فقد اتفق الإمامية ـ ثبتهم الله تعالى بالقول الثابت ـ على لزوم العمل بالكتاب الشريف وبأحاديث النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته(عليهم السلام) مع ثبوتها عنهم شرعاً بحجة كافية.
* * * * *
أما ما عدا ذلك فليس حجة في نفسه، ولا يجوز العمل به إجماعاً، إلاّ أن يوجب العلم بالحكم الشرعي الواقعي، أو بالوظيفة الظاهرية التي يقطع معها بالأمن من العقاب، فلابد من العمل على العلم المذكور.
والعلم بذلك ـ في الحقيقة ـ مستلزم للعلم بالحكم الإلهي المخزون عند الأئمة(عليهم السلام) والوظيفة التي رضيها الله تعالى لعباده، ورضوا(عليهم السلام) بها تبعاً له. وليس بعد العلم شيء.(14/13)
وحينئذ فالعمل إنما هو بالعلم المذكور، لا بسببه، ونسبة العمل للسبب الذي أوجبه مبنية على التسامح.
* * * * *
وعلى ذلك يبتني الرجوع للإجماع والسيرة وحكم العقل عند القائلين بحجيتها.
ومرجع الخلاف في الرجوع إليها مطلقاً أو في بعض الموارد هو المنع من حصولها، أو من حصول العلم بسببها، وهو أمر لا يختص بفئة معينة، كالخلاف في الرجوع لبعض الآيات الكريمة للخلاف في تمامية دلالتها، أو في وجود الدليل المخرج عنها، وكالخلاف في الرجوع لبعض الأخبار الشريفة للخلاف في ضوابط حجية الخبر سنداً، أو للخلاف في تمامية دلالته، أو في وجود المخرِج عنه أو المعارض له.
* * * * *
على أن الرجوع للإجماع والسيرة يبتني على كشفهما عن السنة الشريفة المطابقة لهما، ولو كانت هي تقرير المعصوم(عليه السلام)، كما يظهر بالرجوع لمباني الأصحاب في المقام.
قال المحقق(قدس سره) في المعتبر: «وأما الإجماع فهو عندنا حجة بانضمام المعصوم، فلو خلا المائة من فقهائنا عن قوله لما كان حجة، ولو حصل في اثنين لكان قولهما حجة، لا باعتبار اتفاقهما، بل باعتبار قوله(عليه السلام)»(1).
وعلى ذلك جرى بقية علمائنا(قدس سرهم) ، ومنهم المحقق البحراني(قدس سره) فإنه أقرّ كلام المحقق في المعتبر، إلاّ أنه استبعد تحصيل الإجماع الحجة الذي ذكره المحقق(2)، كما استبعده جمع ممَّن يحسب على الأُصوليين، خصوصاً المتأخرين(3).
وقال الحرُّ العاملي(قدس سره) في الفصول المهمة: «باب عدم جواز العمل بالإجماع الذي لم يعلم دخول قول المعصوم فيه»(4).
وظاهر ذلك مفروغيته عن حجية الإجماع الذي يعلم دخول قول المعصوم فيه وهو الذي صرح به الفيض الكاشاني(قدس سره)(5) في مقدمة كتابه (المفاتيح)(6) .(14/14)
بل صرح المحقق البحراني(قدس سره) بحصول الإجماع الحجة وكشفه عن رأي المعصوم في بعض الفروض النادرة، حيث قال: «لو انحصر حملة الحديث في قوم معروفين أو بلدة محصورة في وقت ظهوره(عليه السلام) ـ كما في وقت الأئمة(عليهم السلام) ـ اتجه القول بالحجية. ويقرب منه أيضاً ما لو أفتى جماعة من الصدر الذي يقرب منهم ـ كعصر الصدوق، وثقة الإسلام الكليني(قدس سرهم)(7) ونحوهما من أرباب النصوص ـ بفتوى لم نقف فيها على خبر، ولا مخالف منهم، فإنه أيضاً مما يقطع بحسب العلم العادي فيها بالحجية، ودخول قول المعصوم(عليه السلام) فيهم، لوصول نص لهم في ذلك.
ومن هنا نقل جمع من أصحابنا أن المتقدمين كانوا إذا أعوزتهم النصوص يرجعون إلى فتاوى علي بن الحسين بن بابويه(8)».
وعلى ذلك جرى غيرهم ، وهكذا الحال في السيرة تقريباً، ولا حاجة لتفصيل الكلام فيها بعد ما ذكرنا.
ـــــــــــــــــــــ
(1) المعتبر1: 31.
(2) الحدائق الناضرة 1: 35.
(3) لزيادة التفصيل انظر: المحكم في أُصول الفقه ـ المؤلف(دام ظله) ـ 3: 191.
(4) الفصول المهمة 1: 550.
(5) المولى محمد بن مرتضى المدعو بمحسن الكاشاني (1091هـ)، كان فاضلاً عالماً حكيماً متكلماً محدثاُ فقيهاً محققاً شاعراً أديباً حسن التصنيف، له كتاب الوافي. (أمل الآمل 2: 305).
(6) مفاتيح الشرائع 1: 4.
(7) محمد بن يعقوب بن إسحاق أبو جعفر الكليني (329هـ) شيخ اصحابنا في وقته بالري وجههم، وكان اوثق الناس في الحديث، وأثبتهم. صنف الكتاب الكبير ويسمى الكافي في عشرين سنة... ومات أبو جعفر الكليني رحمه الله ببغداد، سنة تسع وعشرين وثلاثمائة، سنة تناثر النجوم، وصلى على محمد ابن جعفر الحسني أبو قيراط، ودفن بباب الكوفة. وقال لنا احمد بن عبدون: كنت أعرف قبره وقد درس رحمه الله.(رجال النجاشي 2: 377، باختصار).
(8) الحدائق الناضرة 1: 36.
* * * * *(14/15)
على أنه لو فرض الخلاف في الرجوع لهذه الأُمور حتى مع حصول العلم منها ـ للبناء على عدم حجية العلم غير المستند للكتاب والسنة الواصلة من طريق الرواية ـ فذلك أيضاً لا يوجب فُرقة ولا تحزّباً، بل هو وجهة نظر ينبغي النظر إليها نظرة موضوعية، والبحث عن دليلها بتجرد وإخلاص.
وقد حكي عن كاشف الغطاء الكبير(قدس سره) القول بعدم حجية قطع القطّاع(1)، وذهب من المعاصرين المرحوم السيد السبزواري(قدس سره)(2)، إلى إمكان ردع الشارع الأقدس عن حجية القطع(3)، ولم يوجب ذلك انحيازهما عن الفرقة الحقة، ولا قال أحد بعدم براءة الذمة بتقليدهما.
* * * * *
هذا، مضافاً إلى أن هذه الأُمور وإن عدّت من الأدلة ـ بلحاظ ما سبق ـ إلاّ أن توقف استنباط الحكم عليها نادر، بل يكاد يكون معدوماً، لأنها غالباً منضمة إلى الكتاب المجيد والسنة الشريفة، أو الضرورة القاطعة التي يذعن الكل بها، وفي غير ذلك لا تبلغ بنفسها غالباً مرتبة الاستدلال، خصوصاً على المباني الأُصولية الحديثة، كما يشهد بذلك أدنى نظر في الكتب الفقهية الاستدلالية.
* * * * *
وأما المسألتان المشار إليهما في السؤال ـ وهما مسألتا الأعلمية وتقليد الميت ـ فهما لا تخرجان عمّا ذكرنا..
أولاً: لعدم كونهما من المسائل المتفق عليها إثباتاً أو نفياً عند فئة معينة، بل هم ـ بغض النظر عن اختلاف المنهجية ـ بين مانع على الإطلاق، ومجيز على الإطلاق، ومفصل بوجوه مختلفة، كما يشهد به النظر في كلماتهم(قدس سرهم)(4).
وثانياً: لأن بعض من له وجهة نظر فيهما إثباتاً أو نفياً قد يتشبث لرأيه بالكتاب والسنة، بتقريب لا يهمنا الحديث عنه فعلاً، بل يوكل لمحله.(14/16)
ولو فرض عدم وصول النوبة في إثباتهما أو نفيهما للكتاب والسنة، فالحديث فيهما لا يبتني على التخرصات والاستحسانات الظنية التي هي من فروع إعمال الرأي في الدين المرفوض في خطّ أهل البيت(عليهم السلام)، بل على حصول اليقين بالوظيفة الظاهرية ـ من الإجماع المدعى، أو السيرة، أو حكم العقل ـ أو عدم حصوله، وقد سبق أن ذلك لا يوجب افتراقاً بعد اتفاقنا على الاعتصام بحبل أهل البيت(عليهم السلام) والبحث عن أحكامهم والأخذ بها.
ـــــــــــــــــــــ
(1) فوائد الأُصول للكاظمي 2: 64.
(2) السيد عبد الاعلى السبزواري (1328 ـ1414هـ)، من مراجع الدين الاجلاء، عالم، مجتهد، جليل، مفسِّر اخلاقي، من أساتذة الفقه والاصول... تتلمذ على الشيخ محمد حسين النائيني، والشيخ ضياء الدين العراقي، والسيد أبو الحسن الاصفهاني، له: مهذَّب الاحكام، تهذيب الاصول، تفسير مواهب الرحمن... (معجم رجال الفكر والادب ج2: 665).
(3) تهذيب الاصول 2: 13،14.
(4) انظر: مصباح المنهاج ـ للمؤلف (دام ظله) ـ الاجتهاد والتقليد.
* * * * *
أما الأخ المؤمن الذي يقول ـ كما ورد في السؤال ـ: «انه لا يمتلك القناعة والحجة التامة بينه وبين الله عزّوجلّ في سلامة وحجية الاستنباط الأُصولي».
فهو ـ وفقه الله تعالى وسدده ـ إن كان من أهل التمييز والقدرة على تحديد مباني الاستنباط الحقة تبعاً للأدلة المعذِّرة أمام الله تعالى، فليس الحجة بينه وبين الله سبحانه إلاّ ما يؤدي إليه استنباطه المبتني على مبانيه الخاصة، أُصولية كانت أو أخبارية ـ لو كان هناك فرق دقيق بين القسمين ـ أو ملفقة منهما و خارجة عنهما.
ولا حرج عليه في أن يختار ما يختار بعد أن كان له أهلية الاستنباط، وكان همُّه الوصول للحقيقة بالوجه المعذر أمام الله عزّوجلّ.
ولا معنى لإلزامه أو التزامه مسبقاً بمنهج خاص بعد فرض الاختلاف في المناهج، وتباين وجهات النظر، وتعرض كل منها للخطأ.(14/17)
وإن لم يكن من أهل التمييز والنظر وكان عاجزاً عن تحديد مباني الاستنباط الحقة، فهو كما لا يمتلك القناعة والحجة التامة في سلامة وحجية الاستنباط الاصولي، كذلك لا يمتلك القناعة والحجة التامة في سلامة وحجية الاستنباط الأخباري ـ لو كان هناك فرق دقيق بين المنهجيتين ـ ولا يكلفه الله سبحانه وتعالى بذلك بعد عجزه وليس له إلا الرجوع إلى العلماء الربانيين.
ولا يحق له ـ مع ذلك ـ الجزم مسبقاً من دون حجة ولا بصيرة بصحة إحدى المنهجيتين والتشبث بالقائلين بها، وبخطأ الأُخرى والإعراض عمَّن يجري عليها بعد ما سبق من الاختلاف وتباين وجهات النظر، وتعرُّض الكل للخطأ، وبعد غياب العصمة بغيبة الإمام ـ صلوات الله عليه وعجّل فرجه ـ وتعذر معرفة الحقيقة منه مباشرة بوجه قاطع للعذر.
* * * * *
وبعدما استعرضناه في هذا الحديث من الجهات المحيطة بالموضوع والدخيلة فيه فيترتب على ذلك أن وظيفة أهل العلم من هذه الطائفة(سددهم الله تعالى) تناسي هذا الانقسام، والنظر لمفردات الخلاف نظرة موضوعية خالصة، والبحث عن الحقيقة بتجرد عن العواطف والتراكمات، فإن الله تعالى قد أقام عليهم الحجة بما عرّفهم ومكّنهم، وهم قد تحملوا الأمانة في هداية الناس وإرشادهم، وسوف يسألون عن أمانتهم.
كما أن اللازم على المؤمنين عامة (وفقهم الله تعالى) الرجوع في الأحكام الشرعية لفقهاء أهل البيت(عليهم السلام) ممَّن هم أهل للأمانة في تقواهم وورعهم، كما أمرهم بذلك أئمتهم(عليهم السلام)واعتماد الضوابط العامة في الرجوع لهم، من دون تمييز وتفريق.
مع كمال التحفظ والتثبت والتبصر، فإن على كل حقّ حقيقة، وعلى كل صواب نورا.
وليكونوا على بصيرة من أمرهم، وعذر عند ربهم، يوم يعرضون عليه لا تخفى منهم خافية، ليأمنوا من عظيم عقابه، ويفوزوا بجزيل ثوابه، ويكونوا أهلاً لفيضه ورحمته.
* * * * *(14/18)
وليشكروا الله تعالى على ما منّ عليهم به من وجود فقهاء ربانيين وعلماء عاملين، صحيحين صالحين، قد جدوا واجتهدوا لتحقيق الحقائق ومعرفة أحكام الله تعالى، يفزعون إليهم في غيبة إمامهم (عجّل الله تعالى فرجه) ويلجؤون إليهم في حيرتهم ومحنتهم ليستضيؤوا بهم في ظلمات الجهل ويعتصموا بهم من مضلات الفتن.
* * * * *
وإذا كانت المواقف الانفعالية وردود الفعل المتشنجة ـ عن حسن نية ـ من بعض أطراف الخلاف في بعض المسائل التي تبتني عليها الملامح العامة للمنهجيتين قد عمّقت الخلاف في يوم مّا، حتى انتهى الأمر في حينه إلى الانشقاق والفرقة والجفوة والنفرة والتشنيع والتهريج، بنحو يحزّ في نفوس المؤمنين وتدمى له قلوب المخلصين مما زاد هذه الطائفة محنة على محنتها، وبلية فوق بليتها.
إذا كان ذلك كله قد حصل لملابسات لم نملك السيطرة عليها والتحكم فيها والحدّ منها، فاللازم على ذوي الاخلاص والمعرفة والتعقل والحكمة بعد خمود الفتنة وسكون الفورة تدارك الأمر ورأب الصدع وجمع الشمل، رفقاً بهذه الطائفة المتعبة على طول الخط، وتخفيفاً من معاناتها ومشاكلها، وخدمة للحقيقة الضائعة في خضم المنافرات والمشاحنات.
وذلك بتناسي هذا الخلاف أو تمييعه، والرجوع لما كان عليه وضع الطائفة الحقة قبل ظهور هذه الفتنة من اهتمام مشترك بتحقيق الحقائق الدينية واستنباط الأحكام الشرعية بقلوب منفتحة وموضوعية كاملة ونية خالصة، من دون أن يؤثر اختلاف القناعات وتباين وجهات النظر على وحدة الكلمة، أو يوجب تحيزاً وانقساماً، أو تشنيعاً وتشهيراً. وقد سبق منا الإشارة إلى المواقف الهادفة الهادئة لكثير من الأطراف المحسوبة على إحدى المنهجيتين. شكر الله تعالى سعيهم وزاد في علوّ درجاتهم.(14/19)
وفي ذلك رضى لله سبحانه وتعالى وقربة له وزلفى لديه، وصلة لإمام العصر وولي الأمر عجل الله تعالى فرجه، وإعانة في محنته، وسرّه في أوليائه وشيعته، عسى أن نحظى بعنايته ورعايته ونفوز برضاه وشفاعته صلوات الله عليه وعلى آبائه الطاهرين.
ولنتأدب بأدب الله تعالى حيث يقول: (إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم)(1) وحيث يقول: (واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا)(2). ولنحذر تقريعه حين يقول: (إن الذين فرّقوا دينهم وكانوا شيعاً لست منهم في شيء إنما أمرهم إلى الله ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون)(3).
ولنسترشد بما ذكره علماؤنا الأعلام من ذوي المقام الرفيع في العلم والعمل، والموضوعية في البحث، والحرص على وحدة الكلمة وجمع الشمل.
ونخص بالذكر منهم المحقق البحراني(قدس سره) في حدائقه الناضرة و (الدرر النجفية) فقد أعطى الموضوع حقه بتفهم وانفتاح وإخلاص.
وقد جرى على ذلك من المعاصرين المرحوم آية الله العظمى الشيخ محمد طاهر آل شبير الخاقاني(قدس سره)(4) فأعلن بإصرار عن عدم الفرق بين الطائفتين وأن على المؤمنين أخذ فقه أهل البيت(عليهم السلام) من فقهائهم من دون تمييز أو تفريق.
كما سار على ذلك بحكمة وروية وصبر وتصميم آية الله العظمى المرحوم الشيخ محمد أمين زين الدين(قدس سره) وتجلى ذلك في سيرته الرشيدة وبياناته الهادفة الهادئة، وكان ثمرة ذلك جَنيةٌ مباركة.
فجزاهم الله تعالى خير جزاء المحسنين، ورفع درجاتهم في عليين.
وعمّ بالرحمة والرضوان جميع علمائنا العاملين الذين حافظوا على تعاليم أهل البيت(عليهم السلام) وأوصلوها إلينا، لنؤدي حقها بتوفيق الله تعالى وتسديده.
* * * * *
ونسأله سبحانه أن يجمع شمل المؤمنين، ويُحكم ألفتهم، ويصلح أمرهم، ويشعب صدعهم، ويوفقهم للقيام بحقه وشكر نعمته، حيث وفقهم للتمسك بحبله، وهداهم لولاية أهل بيت نبيه الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً.(14/20)
وهو حسبنا ونعم الوكيل، والحمد لله ربّ العالمين.
النجف الأشرف
محمد سعيد الطباطبائي
الحكيم
ـــــــــــــــــــــ
(1) سورة الحجرات: آية/10.
(2) سورة آل عمران: آية/103.
(3) سورة الأنعام : 159.
(4) الشيخ محمد طاهر آل شبير الخاقاني (1328 ـ1406هـ) فقيه، أصولي، عالم متضلع في الفقه والاصول، مجتهد، متتبع. هاجر إلى النجف الاشرف وأخذ عن شيوخها ثم عاد إلى المحمرة وأقام بها وتصدى للفتيا والتقليد والامامة.( معجم رجال الفكر والادب 2: 417).(14/21)
الأصولية والإخبارية
(بحث ينفي التهمة عن الشيخ الأوحد بأنه إخباري في الحكمة والفقه)
الشيخ سعيد القريشي
لعلّنا الآن ندخل في بحث من أهم البحوث التي شغلت المدرسة الشيعية إلى الآن وهو بحث (الإخبارية والأصولية) وسبب تطرقنا لهذا البحث رغم أن منشأه أصولي/ فقهي، ونحن ندور حول محور حكمي منهجي سيتضح لاحقاً، والمهم الآن أن نعرف ما هي الأصولية و الإخبارية، والفرق بينهما.
(الإخبارية):
هي طريقة للوصول للحكم الشرعي عن طريق الأخبار والقرآن مع جعل السنة هي المفسرة الوحيدة للقرآن..بحيث إذا لم يرد نص في تفسير الآية الشريفة، لا تعتبر مصدر لتشريع لأنها مبهمة، مع عدم استخدام العقل والإجماع حسب الفرض.
فعلى هذا نستطيع أن نقول: إ ن الإخبارية ينكرون الاجتهاد من أساسه.. فأذن هناك مجموعة من علماء الشيعة بعد الغيبة الكبرى إلى وقتنا الراهن ، يمارسون هذه الطريقة في التعبد بأحكام الله سبحانه وتعالى .. من هؤلاء العلماء على سبيل المثال قديماً الشيخ المجلسي صاحب البحار ، ولهذا من أهم الأسباب التي جعلته يقوم بتأليف البحار أنه إخباري ، ومن أهمهم أيضا الفيض الكاشاني صاحب المحجة البيضاء، وتفسير الصافي تلميذ الملاّ صدرا . والشيخ يوسف البحراني صاحب الحدائق الذي ربما قيل إنه تحول عن هذا المنهج إلى الطريقة الأصولية.
وهذه الطريقة مبرئة لذمة عند الله، لا إشكال على دخول صاحبها الجنة وهم شيعة اثنا عشرية جعفرية وليسوا في قبال الشيعة الجعفرية ا لإثناعشرية.
(الأصولية):
هي طريقة للوصول للحكم الشرعي عن طريق الكتاب والسنة والإجماع والعقل.. ولهذا فهم يؤمنون بالإجتهاد, ولكن ليس كاجتهاد أبي حنيفة النعمان من قبيل القياس مظنون العلة والاستحسان والمصالح المرسلة, بل عن طريق استخراج الحكم الفرعي من الأصل الشرعي (النص) من غير اختراع حكم من عقول العلماء لا دليل عليه.(15/1)
فجميع علمائنا في العصر الحاضر هم أصوليون إلاّ النادر , وهذه الطريقة مبرئة لذمة سليمة المنهج لا إشكال عليها, ولا يمارسها إلاّ المجتهدون الحاصلون على الإجازة التي تصله بمدرسة الإمام الصادق عليه السلام.
أرضية الصراع التاريخية بين الأصولية والإخبارية [1] :
أجمعت المصادر التاريخية الشيعية على أن اهتماماً كبيراً برز في وقت مبكر من تاريخ الإسلام بتدوين الشيعة للحديث ,وحتى غيبة صاحب العصر والزمان (عج) فكان أئمتنا عليهم السلام المتحدرون من الحسين عليه السلام ينشرون أحكام الدين بين شيعتهم استناداً إلى النصوص الدينية الموثقة سنداً ودلالة عبر سلسلة من السند تنتهي إلى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم , والتي عرفت بالأصول الأربع مائة .. بينما كانت الفرق الأخرى ترجع إلى الأصول العقلية في الحوادث التي لم يرد فيها نص قرآني أو من السنة .. ولذلك علماء الشيعة درجوا في تلك الفترة على تدوين كتبهم الفقهية بالاقتصار على نقل الروايات بأسانيدها ،والإفتاء بهذا الشكل فقهياً، فكل راوي له كتاب يعد مسند له، قد حوى مجموع رواياته عن الإمامة، والإفتاء كان بنقل الرواية مع إعمال النظر فيها ومراعاة شروط الفتية .
وبعد انتهاء الغيبة الكبرى ، برزت الحاجة إلى تدوين الأحاديث في موسوعات حديثية ضخمة، فبرز ثلاثة من أساطين الدين، وهم الشيخ الصدوق، والشيخ الكليني،والشيخ الطوسي، بتدوين الحديث على طريقة الكتب الفقهية ـ أي أحاديث الصلاة في كتاب خاص مثلاً ـ وفي الواقع كان مجرد ترتيب دون تعديل في متون الروايات أو تأويلها .
وهذا بالضبط عينه المذهب الإخباري الرافض أي شكل للنيابة عن المعصوم (ع) .. لأنه يقول: الرواية صادرة من العقل الكلي، ولا يمكن أن يرقى إليها عقل البشر العاديين.(15/2)
ومع بدء التحولات السياسية بعد الغيبة الكبرى ـ وبوجه خاص إثر قيام دولة بني بويه الشيعية ـ أفرزت انفصالات في الوسط الفقهي/ الكلامي الشيعي، كشفت عن ولادة طريقة فقهية/ كلامية جديدة يراقب الواقع الحياتي ، في مقابل الخط الإخباري الذي لا يتجاوز النصوص، ويرفض إعمال العقل، الممثل في علماء قم الحديثية التي ينتمي إليها مشاهير القميين مثل أحمد ابن عيسى شيخ القميين وغيرهم ، وفي مقابل هذه المدرسة بدأت بوادر خط اجتهادي يؤسس لفقه الواقع جعل من بغداد عاصمة البويهيين مركزاً لنشاطه العلمي التجديدي، مستفيداً من الرعاية التي حظي بها من سلاطين بني بويه، كما تأثر بحركة الاجتهاد السنية، والفلسفة، والعقليات التي تنامت في القرن الرابع الهجري بشكل واضح.
وبإطلالة القرن الرابع الهجري ظهر لون جديد في الكتابة والفتيا وهو الإفتاء بمتون الروايات مع حذف إسنادها والكتابة على هذا النحو مع إعمال النظر والدقة في تمييز الصحيح عن الزائف فخرج الفقه –في ظاهره- عن صورة نقل الرواية واتخذ لنفسه شكل الفتوى المحضة .(15/3)
والواقع ، إن الشيعة واجهوا وفي مرحلة مبكرة انسدادات فقهية خطيرة جداً مع بروز حاجات جديدة ومسائل مستحدثة لم يكن بالإمكان الركون في تسويتها إلى متون الأحاديث ،فأصبحت هناك حاجة إلى التجاوز ، أي الانتقال من الأصول إلى الفروع ، بتجاوز متون الأحاديث سعياً إلى تأويل النصوص واستنباط فروع جديدة مستمدة من تلك النصوص ومضامينها وبدأت بوادر ظهور هذا الخط من خلال الأبحاث الجزئية التي قام بها( العماني )و (ابن جنيد) في القرن الرابع الهجري ، في سياق إخضاع كتلة النصوص الشيعية للمعايير العقلية ، والتي ستجد صداها وتأثيرها عند الجيل اللاحق (المفيد والمرتضى والطوسي ومن بعدهم ) فوضع الحسن بن علي بن أبي عقيل (ت 381هـ) –المعاصر للشيخ الكليني- كتابه (المتمسك بحبل آل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم )وكان موضع إعجاب وتقدير كبار فقهاء الشيعة الأقدمين مثل المفيد والطوسي ولاحقاً العلامة الحلي ، وقد قيل عنه بأنه أول من هذب الفقه واستعمل النظر وفتق البحث في الأصول والفروع في ابتداء الغيبة الكبرى وكذلك كان( ابن الجنيد ) بكتابه (تهذيب الشيعة لأحكام الشريعة ) وقد وصفه الخوانساري في (روضات الجنات ) أنه أبدع " أساس الاجتهاد في أحكام الشريعة " ثم صنف الشيخ الطوسي كتابيه (المبسوط ) و (الخلاف) واعتبرت هذه الكتابات " المرحلة الثانية لتطور الفقه الشيعي " .(15/4)
وهكذا استمر حال الشيعة بطريقتهم الأصولية المتنامية على أيدي العلماء الأفذاذ جيلاً بعد جيل إلى أن ظهر الشيخ ( أمين الاسترابادي ) وأسس الطريقة الإخبارية وأهم كتاب يبين طريقته ومعتقداته [2] (الفوائد المدنية) . وتابع هذا الرجل ثلة عظيمة من الناس لأنه شديد الالتصاق بظاهر روايات أهل البيت عليهم السلام وهذا يثير إعجاب العوام ويدعوهم للثقة به فكان العراك يأخذ المد والجزر إلى زمان الوحيد البهبهاني (رض) الذي كان في النجف ويعتبر مر جع كبير على الطريقة الأصولية فحارب الطريقة الإخبارية حتى قوض صرحها بشكل نستطيع القول (90%) ولاتزال هناك إخبارية إلى الآن في بلاد الشيعة التي لا تصلها الأيدي الأصولية .
أهم مبادئ الإخبارية :
الأول : تعتبر (السنة) هي المصدر الوحيد للتشريع لأنها هي المفسرة للقرآن .
الثاني : لا يعترفون بالعقل في تفسير الروايات لأن العقل لا يصل إلى مستوى نص الرواية الصادرة من المعصوم عليه السلام .
الثالث : لا يعتبرون الإجماع كمصدر للتشريع .
الرابع : يقلدون الميت ابتداءً .
الخامس : يعتقدون أن طريقتهم هي طريقة الشيعة القدماء .
السادس : يقولون بأن الكتب الأربعة قطعية الصدور عن المعصوم .
والآن ننتقل إلى أهم نقطة في بحثنا هذا وهي مسألة اتهام الشيخ أحمد ين زين الدين بأنه إخباري في الفقه والحكمة الإلهية وهذا اتهام باطل وقول زائف لا يصمد أمام الدليل .
هل الشيخ الأوحد إخباري في الفقه ؟
وهذا كلام باطل للأدلة التالية :-
أولاً : إنه لم يصرح بأنه إخباري بل صرح العكس كذلك جميع أعلام المدرسة . يقول السيد كاظم : ( إن الطريقة المثلى من تلك الطرائق والحقيقة الوسطى من هذه الحقائق ما عليه محققوا علمائنا الأصوليين ومدققوا فقهائنا المجتهدين من المتقدمين والمتأخرين [3] … إلخ ) .
ثانياً : إن للشيخ رسالة فقهية عملية كبقية العلماء المجتهدين وهي الرسالة الحيدرية ، معروفة ومشهورة .(15/5)
ثالثاً : لا يجيز تقليد الميت ابتداءً كما صرح بذلك مراراً ، راجع جوامع الكلم ط حجرية ج 2 : ص 95 س 11 .
هل الشيخ الأوحد إخباري في الحكمة الإلهية ؟
هناك دارسون لحكمة الشيخ أحمد الأحسائي عجزوا عن إدراك فلسفته ومنهجها فاتهموه بأنه إخباري المسلك .. أي يؤمن بما في الروايات دون استخدام العقل فيها لاستكشاف الحكم العقيدي .. ولكن الحقيقة أن الشيخ أحمد رضوان الله عليه كان يستخدم العقل على خلاف قولهم ولكن كما نعلم أن (الميتافيزيق) ما وراء الطبيعة ، العقل لا يدرك منها إلا أموراً إجمالية معتمدة على معلولات في الحس تراها الحواس الخمس ..أما الأمور التفصيلية كصفات الواجب سبحانه ومقامات الأئمة ووصف الجنة والنار والصراط والموازين والقبر والبرزخ والعوالم واللوح والقلم هيهات أن يدركها العقل البشري لوحده بدون مساعدة الأئمة عليهم السلام ، فالفارق الأساسي في منهجية الشيخ ومنهجية المدارس الأخرى في استخدام العقل إ نهم يستخدمون العقل معزولاً عن (النص) ثم ما ينتجه العقل يلصقونه في (النص) على أن لا يخالف (النص) والشيخ عكس ذلك فهو يعمل العقل داخل النص لاستخراج الحكم العقيدي ، لا يأتي به من خارج النص .. نعم أي إنتاج للعقل وافق النص لا إشكال عليه . فإذن وبعبارة موجزة نقول الشيخ (الشيخ عبّد العقل للنص ) والمدارس الأخرى (عبدت النص للعقل ) وهذا هو الفارق الجوهري بين الشيخ والمدارس الأخرى .
---
ا[1] اعتمدنا هذه الفقرة بشكل أساسي وبتصرف على : إبراهيم ، فؤاد ، الفقيه والدولة ، ط1 ، 1998 ، دار الكنوز الأدبية ، بيروت ، ص10 .
ا[2] هذه المعلومات نقلاً عن كتاب (مبدأ الاجتهاد في الإسلام ) مرتضى مطهري ص : 34-35 .
ا[3] رسالة في بيان المطالب الفقهية والفروع الاجتهادية ط حجرية : ص 22 .(15/6)
آلام المسيح .. أم .. آلام الحسين ؟! ( صور تكشف أسرارا )!
آلام الحسين..
وقف ركب الحسين ومعه كوكبة من أهل البيت في الصحراء..
وقف الحسين وتقدم الركب في بريّة موحشة جرداء..
العطش أخذ منه كل مأخذ..
أهل البيت.. النساء.. الأطفال.. بلغ بهم العطش مبلغه..
أخذ الحسين يلتفت هناك وهناك .. فلا يرى إلا كثبان رملية متحركة كالأفاعي..
لم يجد أحداً من أنصاره الذين عاهدوه..
نظر يميناً وشمالاً..
نظرات حائرة حزينة.. تبحث عن أمل.. عن قطرة ندى.. عن ابتسامة..
هدوء الصحراء يلف المكان بوحشة وهيبة رهيبة..
هدوء قاتل لا يقطعه إلا صوت صفير رياح السموم..
وقف الحسين كنصب أو كمشهد حيّ وسط السراب..
وقف الحسين وليس حوله إلا صخور هناك وهناك.. وبقايا عظام وجماجم حيوانية..
بلغ بأبي عبدالله الحسين العطش مبلغ ..
جف لسانه..
جف حلقه..
في صحراء التيه..
ركض أحد أبناء الحسين صارخاً في البريّة..
أبتاه .. أبتاه.. أريد ماء..
قالها بصوت مبحوح.. جاف..
نظر الحسين بوجهه الأبيض المشرق نظرة تأمل ورحمة في وجه صغيره..
علم أنه لن يفهم موقفه التبريري بعدم وجود الماء..
هو يعلم أنه هو الذي أخرجهم إلى هذا المكان الموحش بعد دعوة شيعة الكوفة له..
يعلم أن أي فلسفة لن تقنع هذا الطفل الصغير بعدم وجود ماء..
قام الحسين وحمل الطفل.. وغرق في النظر في عينيه البريئتين !
أخذ الحسين يتحدث مع طفلة بلغة العيون..
عيون الأب الرحيم .. وعيون الابن الصغير الغرير الذي لا يعلم لما هو هنا؟!
ولما استفحلت أسئلة عيون الصغير..
قام الحسين ووضع لسانه في فم الطفل..
فقام الطفل بلفظ لسانه.. وقال: أبتاه لسانك جاف!
فسقطت دمعة من عين الحسين وقال: أنا مثلك يا حبيبي عطشان..
فهم الطفل الغرير معنا ذلك..
فعاد حزيناً إلى أمه..
سار الحسين بأهله ..
حتى إذا وصل أرضاً سوداء موحشة مقفرة..
قال: أي أرض هذه؟
فقيل له: هذه أرض كربلاء!!
فقال: هي والله كرب وبلاء .. والله المستعان!(16/1)
وما إن وصلها حتى أحاط به أهل الكوفة..
إحاطة الأعداء لا الأصدقاء..
إحاطة الخونة.. لا إحاطة الأعوان والشيعة..
رجموه بالحجارة..
ضربوه بالأسهم..
أحرقوا خيامه..
سرقوا متاعة..
حاصروا ومنعوا عنه الماء..
تقدم فارس أهل البيت العباس..
جالدهم بالسيف..
ورماهم بالسهام..
وصل النهر..
أدخل يده فيه وقربها إلى فمه يريد الشراب..
فتذكر حال الحسين وهو وحده هناك عطشان..
قذف بشربة الماء..
وبكى..
وتقدم إلى صفوف أهل الكوفة يضربهم..
حتى سقط في أرض الشرفاء..
لقد مات العباس شهيداً عطشانا..
لقد رحل العباس دون قطرة ماء..
تقدم الحسين إلى أهل الكوفة راجياً منهم شربة ماء لأجل طفله الصغير..
فمنعوه وأهانوه..
تقدم كالليث يعدوا نحو الماء..
فتجمع حوله قطيع من الضباع والكلاب..
فشتتهم وفرق شمعهم بضرباته الحيدرية ..
وجعله طعاماً لطيور السماء..
حتى إذا وصل إلى الماء..
والسهام تتناوشه من كل صوب..
ظفر بشربة ماء لطفله الصغير..
فعاد سريعاً كالليث يعدو فرحاً بشربة الماء لشبله الصغير..
احتضن الحسين ابنه..
ووضع شربة الماء في فمنه..
نظر الطفل إلى والده والفرحة تغمره..
فلما همّ بالشرب تذكر الصغير لسان والده الحسين وعطشه..
فدفع الماء من فمه وقال بصوت كصوت العصفور: أبتاه أنت عطشان فأشرب أنت!
أكبر الحسين موقف هذا الشبل الصغير..
وقال: يا حبيبي أشرب فأن أباك سيشرب هذا اليوم كثيراً !
أخذ الصغير الماء بيديه الصغيرتين ووضع الماء في فمه..
وهو ينظر بعينيه نحو أبيه فرح مسرور..
وضع الماء على شفتيه..
وهناك خلف النهر كان أهل الكوفة..
طار سهم من أحدهم صوبه نحو الطفل..
تجاوز السهم النهر..
مر على الماء..
واستقر في قلب الطفل الصغير..
انتثر الماء وطار بعيداً..
طارت قطرات الدم على وجه الطفل..
نظر إلى أبيه الحسين .. قائلاً: أبتاه سأموت عطشاناً !!
ثم أغمض عينه وأسلم الروح إلى الله في السماء!
سالت دماء الصغير على يد الحسين..(16/2)
سقطت دمعة من عينيه على وجه ابنه..
ألتفت ونظر إلى الجانب الآخر..
فشاهد أهل الكوفة.. يصيحون فرحين بإصابة السهم قلب ابن الحسين!
وهو يعيد ذاكرته للوراء ويتذكر عشرة آلاف رسالة دعوة من شيعة العراق تدعوه للقدوم إليهم كي ينصروا ويقفوا معه !!
نظر الحسين هناك .. فوجد العباس ميت!
وهناك .. فوجد الخيام تحرق!
وهناك.. وجد أهل الكوفة يرمون بقية أهله بالسهام!
هنا .. وجد ابنه الطائر الصغير ميتاً مغمض العين وشفته جافة لم تذق الماء..
وقف ونظر إلى السماء وبكى..
وهنا نستدل الستار على بقية المشهد الأخير..
آلام المسيح..
وقف المسيح في ليلة قمرية..
نظر إلى السماء..
ثم نظر إلى أصحابه وهم في نوم عميق..
صاح بهم ..
استيقظوا .. استيقظوا وصلوا كي لا تمروا بتجربة..
لم يستيقظ أحد !
قام المسيح إلى صخرة وحيدة هناك..
إنها الصخرة التي ستشهد إعلان ملكوت العالم القادم..
خلاص البشرية والخلائق..
وقف عندها يصلي..
وأخذ عرقه يتصبب من شدة الموقف..
تحولت قطرات العرق إلى قطرات دم ..
وقعت على الصخرة !
فظهر ملاك الوحي بصورة نورانية ..
نظر إليه المسيح وقال: ليجيز عني الرب هذا الكأس!
فقال له الملاك: هذه مشيئة الرب.
فقال المسيح: لتكون مشيئتك لا مشيئتي، وجل خلاص الخطاة سأتحمل هذه الكأس.
وبينما هو يصلي..
إذ جاء الحرس المائة ومعهم الخائن..
قبضوا على المسيح وقادوه بالسلاسل للحاكم المدني..
نظرت زوجة الحاكم في وجه المسيح فرأته صالحاً منيراً كالشمس الذهبية!
قالت: ليس هذا الرجل بشرير.
وكلمت زوجها الذي آمن بكلامها..
كلم الحاكم اليهود متوسلاً لهم أن يطلقوا سراح المسيح..
فرفض اليهود.. وقالوا: أطلق لنا اليهودي اللص "براباس"
فقال لهم الحاكم: الحق أقول لكم إني أغسل يدي من دم هذا الرجل الصالح كما أغسلها الآن بالماء!
صاح اليهود: اقتل يسوع، اقتل المسيح، هذا الذي مارس التجديف في حق ديننا.
قيد المسيح بالسلاسل والأغلال..
وسيق وسط الناس..(16/3)
ضرب بالسياط..
شتمه اليهود ورجموه..
نظر المسيح إليهم ثم نظر للسماء.. وقال: ربي إنهم لا يعلمون من أنا!
وقف تلميذه بطرس كبير الحواريين بالقرب من المسيح..
فجاءت امرأة وقالت: ألست بطرس سمعان تلميذ المسيح؟
فقال: لا، لا لست هو!
ثم جاء جندي وقال: ألست أنت بطرس؟
فأنكر!
ثم جاء رجل ثالث وقال: هذا هو بطرس تلميذ المسيح.
فأنكر بطرس أنه تلميذ المسيح!
وهناك صاح الديك !!
وتذكر بطرس ما كان حدثه المسيح حينما قال له: إني أحبك يا سيدي!
فقال له المسيح: إنك ستنكرني يا بطرس.
فقال بطرس: كلا سيدي لن أنكرك حتى لو قتلت!
فقال المسيح: بل ستنكرني وسوف تتنكر لي ثلاثاً.. حينها سيصيح الديك.. وفي ذلك الوقت ستسلمون ابن الإنسان وحده !
مشت أم المسيح في تلك المسيرة وهي تنظر لولدها يعذب..
بكت وتألمت لألم المسيح..
ومشت في كل طريق سار فيه المسيح..
حتى وضع على الخسبة!
علق يسوع الناصري على خشبة الصليب..
وضربة يده ورجله بمسامير من حديد..
إنه يتألم ويصرخ..
لكنه يتحمل من أجل خطايا العالم كله..
تلك الخطايا التي من أجلها صلب ومات على خشبة الصليب!
وقف المسيح معلقاً على خشبة الصليب..
والدماء تنزف من جسده..
فقال مخاطباً السماء: عدّي عني هذا الكأس.
ثم نظر للجموع .. واسلم الروح!
آلام المسيح .. أم .. آلام الحسين ؟!
قصص وحكايات من الخيال الشعبي، بعضها القليل يستند لحقائق، وبعضها الآخر يستند للأباطيل والأكاذيب والخرافات.
لكن الجميع هدف واحد، والغرض منه واحد، وهو استنزاف الشعور الجمعي غاية الاستنزاف، وتوظيفه في أجندة تخدم أيديولوجية خاصة، إن هذه الآلام الحقيقية أو "المفبركة" ما هي إلا "بروبيغندا" تغذي الضمير الجماعي نحو هدف ُموَاحَد وُموحِد!
إن هذه الآلام .. سواءً آلام المسيح –المزعومة- أو آلام الحسين رضي الله عنه، أو آلام بوذا، ليست إلا سلسل حلقات توظيف الأحداث أو المخيلة؛ لاستدرار عواطف الشعوب الطيبة!(16/4)
البطل في المخيلة الشعبية هو المخلص أو الفادي أو المضحي..
ولا بد من ظالم شرير هناك وهناك..
ثم لا بد من وجود خائن لعين كي يكتمل السيناريو..
ثم لا بد من ضحية ومضحى بنفسه بالاختيار ..
قد تكتمل تلك العناصر في قصة حقيقية..
وإذا لم تكتمل فسوف يصنع العقل المتخيل أي عنصر مفقود..
والفضل للأحداث أو الخيالات أو الأساطير السابقة..
فآلام المسيح –المزعومة- في العاطفة المسيحية أعطت زخماً مروعاً، وصوراً معبرة وفاجعة لما سوف يأتي من بعدها من قصص وأحداث وأساطير..
آلام بوذا –من قبل- كانت المادة المغذية لكتبة آلام المسيح…
فبوذا مخلص رحيم..
وإله قدير أبدي عند قومه..
وكتبة آلام المسيح استلهموا كل ذلك عبر العصور..
تألم العالم المسيحي لمقتل سيدهم يسوع..
وأخذت هذه الأساطير والقصص والرؤى تغذي العقل المسيحي بكراهية قاتل المسيح..
لقد ظل الوجدان المسيحي يتغذى الانتقام والكراهية كلما مر به طيف صور المسيح وهو على الصليب مسمر الأيدي والأرجل بين اللصوص !
ولعل "فيلم آلام المسيح" الأخير حلقة في سلسلة طويلة ستستمر ولن تتوقف..
من المؤكد أن ما نشاهده هذه الأيام أقصد أيام "آلام عاشوراء" يؤكد ما ذكرناه آنفاً، من وجود صناعة للآلام المزيفة على حساب الآلام الحقيقية!
كما يؤكد أثر الأساطير السابقة في تكوين وتشكيل الأساطير اللاحقة، فآلام المسيح –لاشك- قد قدمت -قديماً وحديثاً-مادة خصبة في تشكيل مظاهر "آلام عاشوراء" !
لكن العجيب هو ما تنفرد به "آلام عاشوراء" عند طائفة الشيعة!
فالبطل الفادي المخلص هو الحسين رضي الله عنه!
والضحية هو الحسين وأهل بيته رضي الله عنهم!
والخائن هم الشيعة أنفسهم.. الذين يحتفلون بـ "آلام عاشوراء"!
هل "التطبير" أي ضرب الرأس والظهر بالسيوف والخناجر والسلاسل، هو عملية غفران لذنب الخيانة؟
أم هو وسيلة للانتقام من الخائن وعلى يد الخائن؟
أم المسألة له ُبعد استراتيجي آخر!(16/5)
الذي لا أشك فيه.. أن هناك قلة من القدماء ندموا على خذلان الحسين رضي الله عنه، وكثير من عوام الشيعة قديماً وحديثاً يشعرون بالعار والندم من خذلان الحسين رضي الله عنه.
لكن الذي أرى أنه محل تقدير هو أن صنّاع "آلام عاشوراء" الكبار ليس هدفهم تكفير كبيرة خيانة الحسين رضي الله عنه، بل الأمر له وجه آخر مخفيّ أو معلن حسب الظروف الزمنية والمكانية!
أن هدف اللاعبين الكبار في صناعة "آلام عاشوراء" له وجه آخر أسود ومخيف، فكما كان هؤلاء هم من دبر مؤامرة الحسين الأولى، فهم أيضاً من يدبر المؤامرة في كل مرة، ويقتلون الحسين في كل سنة تحت اسم "آلام عاشوراء" !
فهؤلاء الصنّاع لهم هدف استراتيجي يتمثل في استغلال هذه الآلام لأهداف أخرى غير المعلنة، ويدل على ذلك النتائج التي تظهر لنا كل سنة من وراء أيام محرم وخاصة عاشوراء، فهؤلاء لهم أجندة خطيرة وهي:
تغذية الكراهية والحقد والبغضاء بين الأمة الإسلامية باسم الحسين..
فبالأمس قتلوا الحسين باسم الحسين..
واليوم يقتلون الأمة باسم الحسين..!
وهؤلاء لأن غايتهم غير شرعية، فوسائلهم أيضا غير شرعية، فلا مانع بأن يستفاد من تراث آلام المسيحيين، ولا مانع من أخذ كل شيء يمكن أن يستدر عواطف عوام الشيعة، لتحقيق المكسب المالي على المستوى الشخصي، وتحقيق العداوة والبغضاء على المستوى العام للأمة الإسلامية.
ومن يتأمل تاريخ هذه المسيرات عبر التاريخ الإسلامي، يجد أنها أهم عامل من عوامل ضرب الوحدة الإسلامية، بل عامل هدم الوحدة والأخوة الإسلامية، وعامل محرك للبغضاء والتشاحن، وتغذية الكراهية والحقد بين المسلمين.
فما كان يحصل بين السنة والشيعة عام 338هـ في بغداد، وعام: 406،408، 421،422،425،439،443، 444، 447،482، 510.. إلخ لأكبر دليل على أن هذه المسيرات التي تلقب بالحسينيات أو العزاء أو نحوه ليست إلا مسماراً في نعش وحدة الأمة!
ويكفي أن يستمع المسلم أو يشاهد فعاليات هذه المسيرات..(16/6)
فخيار هذه الأمة يلعنون..
والصحابة على ألسنة "الرواديد" يكفرون..
وأعراض أمهات المؤمنين تنتهك وتباح لكل رخيص..
ونبرة الطائفية تعلو.. ولغة السيف والانتقام هي الأقوى..
ولغة التهديد والوعيد تحتد وتبرز..
وكل ذلك في مسيرات سوداء صارخة منتقمة !
ومن تأمل حال المسيرات والعزاء بشكل دقيق، أي خالط هذه المسيرات يكتشف أمراً محيراً هو : أنه ليس في هذه المآتم أي شيء يدل على وجود مأتم غير اللباس الأسود!
فاللباس بشكل عام أنيق وجميل، وهناك تنافس على الأزياء كل سنة، للفت الأنظار ونظرات الإعجاب من الشباب والفتيات!
فبناطيل "الجنز" الجديدة في كل مكان، و"التيشيرتات" الأنيقة تزيّن الشباب، والأجسام المتناسقة والعضلات المفتولة تفتن فتيات المآتم، بل إن الترقيم والمعاكسات ينشط بشكل غريب في مآتم الحسين!!!
ومن أعجب الأمور أنه في عاشوراء يوم قتل الحسين وأهل بيته عطشاً وجوعاً وحرقاً، وبينما أهل السنة يصومون هذا اليوم، يقوم الشيعة بتوزيع الحلوى (!!!) وإقامة أطيب أنواع الموائد للطعام والشراب!!!
فالمحموس، والموش، والشراب، والسنبوسة.. إلخ على قدم وساق يتجمع عليها الشيعة الحزينين على مقتل الحسين !!!
ومع هذه الآناقة والشياكة، والمطاعم والمشارب، واجتماع الأهل والأحباب، تنظم المسيرات الحسينية في أيام المآتم العاشوريّة حفلات أناشيد!!
وفي كل مسيرة يتنافس الجميع في جلب أفضل (رادود حسيني) كي يطرب المجتمعين بصوته العذب الشجيّ !
فأهل الكويت يحبون الرادود الحسيني (باسم الكربلائي) الذي أصبح من وجوه القوم مكانة وثراءً بسبب العائد المادي الهائلة لهذه الحفلات الحسينية!
وأهل البحرين يفضلون الرادود الحسيني (جعفر الدرازي) الذي يصدح بصوته الجميل في المسيرات وفي كل عام.(16/7)
ويبرز التنافس –وفي الغالب غير شريف- بين الرواديد لكسب الأسواق العالمية، فأفضل سوق للرواديد هو في الكويت حيث الغناء الفاحش، ثم يليه أوروبا .. وهكذا، يكون التنافس ويصل إلى تبادل الاتهامات والطعن والمهاترات!
وتبدأ المسيرات الحسينية بالغناء والأهازيج، ويتمايل الرادود والمغني يميناً وشمالاً، ويتمايل الناس معه في طرب واستمتاع، ويضربون على صدورهم محدثين نغماً منتظماً وبشكل موحداً، وكل رادود يحرص على جمع أكبر عدد ممكن لديه.
لكن ومع هذا الاختلاف المصالحي الشخصي، يظل الهدف موحداً في الجو العام للمآتم، وهو صياغة الأشعار والكلمات بما يخدم الهدف الأساسي وهو تفريق كلمة المسلمين، وتغذية الكراهية والحقد!!
فباسم مأتم الحسين..
يلعن المخالفين، ويعلن الصحابة، وتعلن أمهات المؤمنين..
ويكفر الصحابة، ويكفر من خالف الشيعة..
ويلعن ويشتم أفاضل الأمة سلفاً وخلفاً..
فدائما تسمع ..
اللهم ألعن الأول والثاني..
اللهم ألعن أول ظالمي آل محمد..
اللهم ألعن من كسر الضلع.. وخلع الباب .. وأجهض الجنين .. إلخ!!
أطفال أعمارهم السنة والثلاث والخمس.. يلطمون على صدورهم.. ويتعلمون اللعن والشتم والسب والتكفير والقذف!!
إنها –يا سادة- مصانع للثأر والأحقاد والبغضاء، يغذون الصغار على حب الانتقام والكراهية، بواسطة القصص الخيالية الموضوع أكثرها، والأصوات المؤثرة، والمشاهد والصور المعبرة، ثم الخطب التي تضع على نار الكراهية المزيد من الحطب!!
يدعون المهدي المنتظر .. وينادونه : يا أبا صالح وينك، وفيك من الأعداء، متى تجي تبرد الكبد تذبحهم !!!
من هم هؤلاء الأعداء؟
هل هم قتلة الحسين ؟
ألم يموتوا قبل أكثر من ثلاثة عشر قرناً!!
إذن .. من هم قتلة الحسين الذين سينتقم منهم شيعة المآتم؟!
لماذا تقام مسرحيات (الشبيه)؟
ولماذا تمثل أحداث كربلاء ونساء أهل البيت يجلدن..
ثم يصيح الصائح: هذا هو جيش الشام يعذب السبايا من بنات أهل البيت؟؟(16/8)
لماذا أهل الشام؟!
وهكذا أصبح (يا لثارات الحسين) نداء المطالبة بالثأر لدم الحسين عليه السلام. وهو من جملة نداءات أنصاره، وشعار الملائكة الملازمين لقبره حتى ظهور صاحب الزمان عليه السلام(بحار الأنوار 286:44 و 103:98)، وهو أيضاً شعار المهدي حين يظهر طالباً بثار شهداء كربلاء(منتهى الآمال 542:1)، وهو أيضاً شعار أنصار المهدي المشتاقون للشهادة في سبيل الله: " شعارهم: يا لثارات الحسين"(بحار الأنوار 308:52) .
إن هذه المآتم ليست إلا مصانع سياسية تغذي روح الكراهية في قلوب عوام الناس، لتزرع الأحقاد بين الطوائف الإسلامية.. ولا حول ولا قوة إلا بالله!
همسة أخيرة ..
يقول الشيخ العالم الشيعي الكبير "مرتضى مطهري" :
(إذا تجاوزت النحل وتعاشرت تبادلت العقائد والأذواق وإن تباعدت في شعاراتها ، من ذلك مثلا سريان عادة التطبير أي ضرب الرؤوس والقامات وضرب الطبول والنفخ في الأبواق من المسيحيين الأرثوذكس القفقازيين إلى إيران وانتشرت فيها انتشار النار في الهشيم ، بسبب استعداد النفوس والروحيات لتقبلها).
في كتابه: (الإمام علي في قوته الجاذبة والدافعة – 180).(16/9)
الإمام الخميني ومواجهة الحتمية التاريخية (الإنتظار)
بمناسبة حلول الذكرى الخامسة عشرة لرحيله
الإمام الخميني ومواجهة الحتمية التاريخية (الإنتظار)
تعتبر التجربة السياسية للإمام الخميني والمتمثلة في إقامة نظام الجمهورية الإسلامية في زمن مشحون بإرهاصات الحرب الباردة ومعادلاتها السياسية المتبدلة، التجربة الدينية الوحيدة التي استطاعت أن تتعايش مع محيطها العالمي من دون أن تفقد الكثير من هويتها وآيدلوجيتها، وهي تبيئة صعبة كان يُمكن أن تُؤثر على الصدقية والعنفوان الثوري والجاذبية والاستقطاب.
كما أن تلك التجربة لا يُمكن معرفة حقيقة أهميتها إلاّ إذا تمّ استحضار حقيقة مرة تتلخص في حجم التراجع الفقهي – السياسي الشيعي الذي وصل مداه قبل انتصار الثورة باختطاط علماء الشيعة موقفاً تقليدياً سلبياً من القضايا السياسية فضلاً عن مشروع الدولة الإسلامية التي اعتبروه خروجاً على الأنماط التاريخية للطائفة، خصوصاً وأن هذا التأصيل قد ارتبط بشكل كبير بالشيخ الأنصاري 1214 هـ - 1218 هـ الذي خالف أستاذه النراقي في مفاهيم ولاية الفقهاء وحدودهم، وهو ذات الفقه النصي المتمحور حول يوتوبيا الإمامة الدينية / المثال والحتمية التاريخية .
الإرث التاريخي لنظرية السلطة
ارتبطت نظرية ولاية الفقيه (والتي تعتبر من أهم نتاجات الفكر السياسي الشيعي) بشكل عضوي مع نظام الجمهورية الإسلامية الإيرانية التي تأسس بشكل متماهي مع استحقاقات النظرية، وتأدلج وفق رؤيتها نهاية عقد السبعينات من القرن الماضي، وعلى الرغم من الإمام الخميني قد قام بعملية تدوير للمفاهيم وتشذيب لخياراتها ومتونها وموائمتها مع ما هو سائد من ثقافة سياسية مهيمنة في عصرنا الحاضر، إلاّ أنها أفضت بشكل سليقي إلى دولة دينية امتزجت فيها براجماتية السياسة وإسقاطات الشريعة من دون الوقوع في شراك الثيوقراطية أو الدكتاتورية الهالكة، وذلك بفضل المرونة التي انتهجها الإمام(17/1)
والتي اعتُبِرَت تمرداً واضحاً على فرائض الحوزات الدينية الجامدة والمتخلفة .
كان مبدأ ولاية الفقيه قد تأسس جنينياً على يد سبط بن الجوزي قبل تسعمائة .. حتى كتب فيه بإسهاب الشيخ شمس الدين محمد بن مكي المعروف بالشهيد الأول وهو من أعاظم فقهاء شيعة جبل عامل في فترة الأيوبيين، حين طرح آراءه السياسية ابتداءاً من العلاقة بين العقل و الشرع و ما تحتله العقلانية في الأحكام الشرعية، وجعلها مدخلاً لضرورة و منشأ الحكومة لتتبلور على أساس مبدأ حكومة النبي و الإمام المعصوم و في عصر الغيبة في الفقيه الجامع للشرائط، وقد حدد لهذه الحكومة صلاحيات واسعة منها عزل الحاكم وضرورة إقالته فيما إذا فقد شرط القبول الجماهيري، و على هذا الأساس يتبين موقع الناس في مجال القوة السياسية والعلاقات المتبادلة بين الفرد و الدولة .
وقد زاولها (أي ولاية الفقيه) بشكل عملي الشيخ علي بن عبد العالي الكركي (ت 940هـ / 1534م) إبان الدولة الصفوية لمدة ست سنيين قبل أن يختلف مع الشاه الصفوي آنذاك على غزو الأخير لأفغانستان وقيامه بحملة تطهير ديني ضد بعض المذاهب الإسلامية هناك، كما عَمِل بها أيضاً المحقق الأردبيلي (993 هـ) في نفس الفترة، ثم نظّرَ لها أكثر الشيخ أحمد النراقي (1249هـ / 1833م) وقد كتب فيها أيضاً آية الله عبد الحسين اللاري عندما دوّن فيها رسالة تحت عنوان (ولاية الفقيه ) كتعليقة على كتاب المكاسب للشيخ الأنصاري الملقب بأستاذ الفقهاء حيث كان اللاري يعتقد أن الفقيه بالإضافة إلى ولايته و قدرته على التصرف العام، فإن له مناصب متعددة و هي تنتهي إلى مناصب الأئمة المعصومين (ع) كالتدخل في الأمور الحسبية، والاجتهاد و استنباط الأحكام الشرعية بالنسبة إلى أفعال المكلفين، والقضاء، والرئاسة، والخلافة و الحكومة على الناس .
وكانت تلك الأقوال التاريخية لبعض الفقهاء الشيعية قد مهّدت الطريق لأن يبدأ الإمام الخميني إعادة صياغة للنظرية(17/2)
وتطويرها حسب رأيه الفقهي، الذي تكلل بأن يرى أن للفقيه ما للمعصوم من تفويض فيما يخص الصلاحيات الحكومية والإدارية، وليس الصلاحيات الناجمة عن عصمتهم والعصمة شرط فيها، بل إنه أبقى للأمة حقها في الاستيضاح والمساءلة .
ثم زاد على ذلك بتبيين أنه إذا كانت صلاحيات الولي الفقيه تتعلق بالبنية التحتية للنظام الإسلامي، وهيكليته والأهداف الإسلامية الكبرى، فإنها تثبت بالدليل العقلي، أما ما كان فيه طابع (الأحسن) و (الأولى) وتعذر علينا إثباته بالدليل العقلي، إذ ذاك يتم الاستعانة بالدليل النقلي مع التفريق بين دلالة العقل على حدود الصلاحيات ودلالة النقل عليها وبين أصل المسألة ما إذا كانت كلامية أو فقهية، حيث أن المسألة الكلامية هي التي كون موضوعها فعل الله وفيها مداليل الدليل العقلي، فالبحث يدور في علم الكلام حول ما يقول الله سبحانه، هل قام بهذا الفعل أم لا ؟ أو هل يفعله أم لا ؟ فالدليل في هذه المسألة كلامي سواء كان عقلياً أم نقلياً قطعياً .
وكانت آراء الإمام ونظرته لمفاهيم النظم السياسية تنمّ عن إدراك واعٍ بكيفية التعاطي مع الأحداث وغاياتها وضرورة إحداث شبكة علاقات ووصلات حذرة بين التأصيل والتحديث، وهو ما أدى إلى ظهور أطر سياسية وآيدلوجية جديدة لها طابعها الخاص والمستقل في الشأن الحكومي .
إن ما أظهره الإمام الخميني من ممارسات سياسية وإدارية تعتبر ملكَات وصل إليها الفقه الشيعي بعد غربة طويلة عن الممارسة الحقيقية والعملية للسلطة، فلم يكن هناك إرث سياسي – فقهي سابق سوى إرث الخلافة الكلاسيكي، وقصاصات أخبار عن شغل الشريف الرضي (359 – 406هـ / 970 – 1016م) والمرتضى (355 – 436هـ / 966-1045م) وغيرهما مناصب في الدولة العباسية ونصير الدين الطوسي وابن طاووس في دولة هولاكو والمحقق الكركي والأردبيلي في الدولة الصفوية وهو ذات الفقه التسويغي الذي أجاز عبره الفقهاء تفكيك المفهوم الشيعي للنص الديني المتمثل(17/3)
في الأخبار الواردة عن فضل الانتظار ، ثم إن الإمام لم يقتصر فقط على أفهامه الفقهية التجريدية بل استعان بكل ما وصل إليه علم الدولة الحديث من تطور بدون أي استحياء أو سرقة محضية للقوالب الجاهزة فرشح عن نظرته تلك بصمات واضحة على النظام الحقوقي للدولة التي شيّدها :
أوّلاً ـ حق المساواة والتكافؤ : وقد أشارت إليه المواد 19، 20 و21.
ثانياً ـ حق الأمن : وقد أشارت إليه المواد 22، 32 و40.
ثالثاً ـ حق الحريات والمشاركة السياسيّة والاجتماعية : وأشارت إليه المواد 23، 24،25، 26، 27، و32 .
رابعاً ـ حق التظلّم : المواد 34، 35 و36.
خامساً ـ حق التعليم والتربية : المادة 30.
سادساً ـ حق الضمان الاجتماعي : المادة 29.
سابعاً ـ حق العمل : المادة 28.
ثامناً ـ حق السكن والإقامة : المادتان 31 و33.
تاسعاً ـ حق الملكية : المادّتان 46 و47.
ثم قرر أن تكون للأمة حق المراقبة المباشرة والاستصوابية للسلطة والأجهزة التنفيذية والتشريعية والشوروية وغيرها منذ اليوم الأول :(17/4)
1. الاستفتاء العام على النظام الذي جرى بعد 47 يوماً فقط على انتصار الثورة الإسلامية (30 - 31 آذار / مارس 1979) وشارك فيه أكثر من عشرين مليون شخص، حيث صوّت 98.2 بالمائة منهم على نظام الجمهورية الإسلامية .
2. انتخاب مجلس خبراء الدستور (أو الجمعية التأسيسيّة بالمعنى القانوني المتعارف عليه) انتخاباً مباشراً في 3 آب / اغسطس 1979.
3. الاستفتاء العام على الدستور وقد جرى في 2 و3 كانون الأوّل / ديسمبر 1979، أي بعد إقرار الدستور من قبل مجلس الخبراء وقد صوّت 99.5 بالمائة من المقترعين لصالح دستور الجمهورية الإسلامية مع ملاحظة أن نصّ مسودة الدستور سبق أن نشر في الصحف ووسائل الإعلام، وجرت مناقشته مناقشة مستفيضة من قبل جميع التيّارات والتنظيمات السياسيّة والاجتماعية والمهنية، بل حتى في الشوارع والبيوت من قبل عامّة الناس .
4. كما جرى استفتاء شعبي مباشر آخر على الدستور قُبيل وفاة الإمام الخميني أجري في 28 تموز/ يوليو 1989، بعد التعديل الذي أجراه خبراء الدستور على بعض موادّه .
5. انتخاب رئيس الجمهورية انتخاباً مباشراً، وقد جرت الانتخابات الرئاسية في الجمهورية الإسلامية حتى الآن ثمان مرّات ابتدأ من عام 1980 وحتى 2001 انتخب فيه خمسة رؤساء، إذ أعيد انتخاب ثلاثة منهم لدورتين متواليتين .
6. انتخاب أعضاء مجلس النواب (السلطة التشريعيّة)، انتخاباً مباشراً وقد جرت الانتخابات البرلمانية حتى الآن سبع مرّات، ابتداءً من عام 1980وحتى 2004 .
7. انتخاب أعضاء مجلس خبراء القيادة، انتخاباً مباشراً وقد أجريت عملية انتخاب الخبراء حتى الآن أربع مرّات، ابتداءً من عام 1982، وكان آخرها الانتخابات التي جرت في عام 1998.
8. انتخاب القائد (الولي الفقيه) انتخاباً غير مباشر، أي من خلال مجلس الخبراء، أو عزله من خلال المجلس نفسه. والتعبير الدقيق عن عملية الانتخاب هو (الكشف) وليس (الانتخاب)، لأنّ مجلس الخبراء يكشف عن(17/5)
الفقيه الذي يختاره للقيادة من بين مجموعة من الفقهاء الحائزين على شرائط القيادة، وقد قام مجلس الخبراء ـ بالفعل ـ بانتخاب الإمام الخامنئي في عام 1989 لمنصب الولي الفقيه وهذا هو أحد نوعي الكشف، أما النوع الأوّل فهو انصياع الأمّة للفقيه المتصدِّي للقيادة، ومعاهدتها له على الانقياد من خلال مختلف الممارسات، كالرسائل والتظاهرات والبيعة المباشرة، وهو ما حدث مع الإمام الخميني.
9. انتخاب أعضاء مجالس شورى المحافظات والأقضية والنواحي والقري، ومنها يتكوّن مجلس الشورى الأعلى للمحافظات .
10. انتخاب مجالس الشورى المهنية (العمال والفلاحين والمعلمين وغيرهم) .
11. انتخاب أعضاء الحكومة (الوزارة)، انتخاباً غير مباشر، من خلال تعيين رئيس الجمهورية لأعضائها، ثمّ تصويت المجلس النيابي عليهم .
لذا فإن التراث الفقهي والسياسي الذي خلَّفه الإمام الخميني يعتبر بحق مادة خصبة للدارسة والبحث في عصر ذابت فيه كل معالم لمشروع ديني يُظهر فاعلية ما للإسلام .
محمد عبد الله محمد
نشر في صحيفة الوسط البحرينية 07 يونيو 2004 – العدد 640
http://www.montadayat.org/modules.php?name=Sections&op=printpage&artid=1088(17/6)
الإمامة عند الشيعة
من خلال مرويات أصول الكافي
دراسة مقارنة بالقرآن والعقل
تأليف
آية الله العظمى السيد أبو الفضل ابن الرضا
مقدمة المؤلف:
اخترت من بين كتب الشيعة المعتبرة كتاب الأصول الكافي لأنهم يعتبرونه من أوثق الكتب وأحسنها.
ومع الأسف فإن العلماء المتمذهبين المتأخرين، لم يحاولوا دراسة مسائل هذا الكتاب، والتحقيق فيها، بل قلدوا الرواة الذين سبقوهم، وكان الوضاعون من أشباه المتعلمين وأصحاب الخرافات قد أحدثوا أكثر هذه الأخبار في القرن الثاني أو الثالث حين لم يكن هناك حوزة علمية ـ [المدرسة الدينية تسمى عند الشيعة بالحوزة الدينية، أو الحوزة العلمية] ـ أو مركز للبحوث، أو الجامعات ذات مستوى علمي مرموق لتمحص تلك الأخبار.
إن الشيخ الصدوق كان إنساناً محترفاً يبيع الأرز في قم، ومحمد بن يعقوب الكليني أيضاً كان بقالاً في بغداد.
والعجيب حقاً أن لقب (آية الله) أو (حجة الإسلام) أكبر عندهم وأجل من وصف (ثقة الإسلام) ومع ذلك فكل الذين يدّعون لأنفسهم لقب (آية الله) أو سماهم الناس كذلك، هم يقلدون الكليني الملقب بثقة الإسلام، وهو أقل ربتة منهم.
قيمة كتاب الكافي عند الشيعة:
هل كتاب الكافي كاف للمسلمين؟
يقول الشيخ النوري في المستدرك(3/532): (لم يؤلف مثل كتاب الكافي في الإسلام، وهو مدار مذهب الشيعة، ومن أكبر كتبهم وأجمعها).(18/1)
وكتب كل من المجلسي والممقاني وسائر علماء الشيعة فقالوا: إن الكافي من أوثق وأضبط كتبنا، وزعموا في المستدرك وتنقيح المقال أن كتاب الكافي بلا شك قد وصل ليد إمام الزمان (المهدي المنتظر-ع-) أو نوابه وهؤلاء قد حكموا بصحته، وهذا الكلام ليس له دليل قطعي ولا يمكن التمسك به، فلا دليل إذن لمقولتهم أن إمام الزمان (أي الإمام المهدي) قال: الكافي كافٍ لشيعتنا، رغم ما كتبه العلامة الممقاني في (2/203): (يقال عرض على القائم - ع - [وهو المهدي المنتظر عند الشيعة] فاستحسنه وقال: كاف لشيعتنا). فإنهم لم يأتوا بأي دليل لهذا القول في كتاب ما، ولم يعيّنوا من الذي روى ذلك عن الإمام. والعجيب حقاً هو أنهم لما أرادوا أن يزيدوا من عظمة الكتاب، أشاعوا هذا الكلام الذي لا سند له.
لا مفر من العجب:
وإن من العجب أن الشيعة يدّعون أن القرآن غير كاف للأمة الإسلامية، بينما يقولون إن الإمام القائم قال: كتاب الكليني كافٍ!
لا ريب أن أمير المؤمنين والنبي صلى الله عليه وآله وسلم نفسه وسائر الأئمة عليهم السلام قد اعتبروا القرآن كافياً وذلك بناءً على ما جاء في نهج البلاغة وسائر الروايات المنقولة، كخطبة (159)، قال: (أرسله بحجة كافية) يعني أرسل رسوله بحجة كافية وهي القرآن، وقال في خطبة (81) : (كفى بالكتاب حجيجاً وخصيماً) بل الله تعالى نفسه قال عن القرآن [في سورة النساء: :166]: ?لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً? . وقال [في سورة الفرقان: من الآية31]: ?وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً?.(18/2)
وطبقاً لآيات القرآن فإن الهداية الكافية هي القرآن حيث قال تعالى [في سورة العنكبوت: من الآية51]: ?أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ?، فهو كاف حتماً. وقال [في سورة المائدة من الآية16]: ?قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ?.
وقد حصر الله في كثير من الآيات الهداية بالقرآن وأتباعه، ولم يجعلها في كتاب آخر، وقال: ?قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى?
والآن هل يمكن القول أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وسائر المسلمين في الصدر الأول حتى زمن الكليني لم يكن لديهم كتاب يكفيهم لدينهم؟
كيفية أحاديث الكافي:
الكافي يحتوي على (16199)حديثاً وشاع بين أئمة الشيعة أن هذا الكتاب من أوثق الكتب، وعلى أنه صحيح كله.
والجواب على هذا هو ما كتبه الكليني نفسه في المقدمة، حيث قال: (يا أخي أرشدك الله إنه لا يسع أحداً تمييز شيء مما اختلفت الرواية فيه عن العلماء).
وكتب المجلسي الذي كان أستاذ مصطلح الحديث والرجال لدى الشيعة شرحاً على الكافي وسماه: (مرآة العقول) حيث عدّ معظم أخبار الكافي ضعيفة ومجهولة ومرسلة، وضعّف من حيث السند تقريباً تسعة آلاف حديث من أحاديث الكافي.
وفي حوار مع أحد المجتهدين قال: إن أحاديث الكافي كلها صحيحة ولا يحتمل الشك فيها أبداً، وإذا قال أحد غير هذا فهو مغرض، فقلت لهذا المجتهد: إذا كنت تقول بصحة جميع أحاديثه فلم لا تعتقد بثلاثة عشر إماماً؛ ذلك لأنه روي في المجلد الأول من الكافي في باب "عدد الأئمة" أربع روايات على أن الأئمة ثلاثة عشر إماماً.
قال: أرني ذلك، فأريته فتعجب، وقال ما رأيت ذلك من قبل.
وعلى هذا تبين أن هؤلاء يحكمون منحازين بلا روية ورؤية!.(18/3)
قال العلامة المجلسي في الصفحة الخامسة من كتابه مرآة العقول: (وأما جزم بعض المجازفين بكون جميع الكافي معروضاً على القائم (أي المهدي) فلا يخفى ما فيه على ذي لب).
شرح بعض المصطحات الحديثية كما في مذهب الشيعة:
ستكون المناقشة في أصول الكافي؛ حيث أن غالب أخباره تتعلق بالعقائد [لأن كتاب الكافي مقسم إلى الأصول والفروع، الأول ما يتعلق بالعقيدة، والثاني بالأحكام، وفيه كذلك قسم ثالث يسمى الروضة].
أقسام الحديث عند الشيعة:
الحديث الضعيف: هو الحديث الذي يكون أحد رواته من الفساق أو الكفار أو الشاكين في الدين أو المجهولين.
وأما الحديث المرسل: فهو الذي لا يكون سنده متصلاً، ويسقط من السند راوٍ أو أكثر.
والحديث المرفوع: هو أن ينقل الراوي اللاحق عن رواة لم يكونوا في عصره، وذلك دون أن يذكر بينهما أية واسطة. وإن كان كلاً من الحديث المرسل أو المرفوع أو الضعيف ساقط من الاعتبار ولا يعتد به.
ومعظم أخبار الكافي هي من هذا القبيل وبشهادة علماء الرجال، وسوف يتبين ذلك في هذا الكتاب.
أصول الكافي
كتاب الحجة
باب الإظطرار إلى حجة
حديث1: سنده: مجهول، كما قال المجلسي لوجود عباس بن عمر الفقيمي المجهول الحال.(18/4)
وأما متنه: ففيه سأل زنديقٌ الإمامَ الصادقَ عن دليل لإثبات لزوم الأنبياء والرسل، فأجابه الإمام، ومما قال: (...لكيلا تخلو أرض الله من حجة يكون معه علم يدل على صدق مقالته وجواز عدالته)، وهنا أراد المجلسي في كتاب المرآة أن يستنتج من هذه الكلمات: (إثبات وجود الأوصياء والأئمة) وهذا الاستنتاج غير صحيح، لأن الإمام، أولاً: يعين بهذه الكلمات إثبات الرسل، وأن الأنبياء هم الحجة وحدهم، وقال علي عليه السلام في نهج البلاغة في خطبة رقم 144: (بعث رسله بما خصهم به من وحيه، وجعلهم حجة له على خلقه، لئلا تجب الحجة لهم بترك الإعذار إليهم) ولا حجة بعد الرسل كما قال القرآن في سورة النساء الآية: 165: ?لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ?. وهذا الاستنتاج مخالف كذلك لقول أمير المؤمنين حيث يقول في نهج البلاغة في خطبة رقم 90: (تمّت بنبيّنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم حجته)، على كل حال ينبغي على هؤلاء أن يثبتوا حجة الإمام ولزومه بكلمات الله تعالى لأنها هي الحجة، ولما كان كلام الله ليس فيه شيء من هذا، فهم يريدون أن يثبتوا ذلك بكلمات الإمام والروايات المسندة إليه مع أنه لا حجية في الكلمات والأخبار والآحاد عن الروايات.
حديث 2: سنده: مجهول، كما قال المجلسي.(18/5)
وأما متنه: ففيه ما يخالف القرآن والعقل ومن جملة ذلك ما قاله منصور بن حازم، صانع الحجج، قلت للإمام: قلت للناس: تعلمون أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان هو الحجة من الله على خلقه؟ قالوا: بلى، قلت فحين مضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من كان الحجة على خلقه؟ فقالوا: القرآن، فنظرت في القرآن، فإذا هو يخاصم به المُرجئُ والقدريُّ والزنديق الذي لا يؤمن به، حتى يغلب الرجال بخصومته، فعرفت أن القرآن لا يكون حجة إلا بقيّم، فهنا أوجد القرآن حجة، ثم يقول: ذلك القيم هو علي بن أبي طالب، ويريد أن يقول: إن كل إمام قيّم للقرآن، حيث أن كل ما يقوله في القرآن حق!! وزعم أنه أفحم السائل.
فنقول في الرد عليه:
أولاً: إنك قلت إن كل صاحب مذهب وزنديق استدل بالقرآن على خصمه، والجواب هو: أن الذين اتبعوا الإمام واعتبروه حجة، هم أيضاً تفرقوا إلى مئة فرقة، كالصوفية، والشيخية، والأصولية، والأخبارية، وهكذا... وكل واحد منهم يستدل بقول الإمام على خصمه! فكما يحتاج القرآن إلى قيم، كذلك يحتاج الإمام إلى قيم أيضاً.
ثانياً: إن كل متمذهب يستدل بالقرآن على خصمه، فقولوا أنتم صراحة إن القرآن ليس بحجة لأن أهل الباطل يستدلون به، مع أنكم لا تستطيعون ذلك، ولا يمكنكم أن تتفوهوا به.
ثالثاً: نحن لا نسلم أن أهل الباطل يقدرون أن يستدلوا بالقرآن لرأيهم، إلا إذا عمي الناس وجهلوا القرآن، أجل في بيئة العميان كل واحد يمكن له أن يدّعي أنه جميل! وبما أنه في زماننا هذا لا يعرف الناس شيئاً عن القرآن ولغته، فكل واحد يستدل بالقرآن على رأيه الباطل ودعواه الفاسدة.(18/6)
وعلى سبيل المثال، استدل (مُلاَّ صدرا) لمسألته في وحدة الوجود بالأية 49 من سورة الكهف: ?لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا?، يعني أن الوجود المطلق احتوى كل صغير وكبير من الموجودات، مع أن الذي له أدنى إلمام بالقرآن، يعلم أن هذه الآية تتعلق برسالة الأعمال يوم القيامة؛ حيث يقول أهل القيامة: ?يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا?. نعم أسقط (ملا صدرا) صدر الآية لإثبات باطله، ثم استدل بها.
و على سبيل المثال أيضاً نقول: يستدل الشيعة لإثبات مذهبهم بالآية 67من سورة المائدة: ?يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ...? يستدلون على أنها لخلافة علي رضي الله عنه، ولكنهم أي الخلفاء أسقطوا كلمة علي من الآية.
ولكن الذي له معرفة بلغة العرب والقرآن يعلم أن الله تعهد أن يحفظ القرآن من النقص والزيادة، وليس في القرآن شيء قد أنزل بخصوص خلافة علي، والله يأمر رسوله في هذه الآية أن يبلغ ما أنزل إليه بشأنها! وهذه الآية هي رديف للآيات التي ترد على أهل الكتاب، حيث يقول الله: ? بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ? في بطلان أهل الكتاب.
إن الذي ينظر في الآيات السابقة والآيات اللاحقة لهذه الآية تتراءى وتظهر له الحقيقة جلية قال تعالى في هذه الآية: ? بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ? ثم بعد ذلك مباشرة قال: ?قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ?. فإن الذي يتوجه إلى العوام بالمكر والخديعة؛ من أجل إثبات ما يدعيه من الباطل ليستدل بالقرآن فكأنه يتكلم في بيئة العميان، فإن كان صادقاً فعليه أن يلقي استدلاله في بيئة أهل الذكر وأولي الأبصار، ويترك الغرض السيء والمرض، لأنه لا يمكن لأي ضال أن يستدل بالقرآن لإثبات غيّه.(18/7)
وههنا لما أراد منصور بن حازم أن يتلاعب بالقرآن ويسقط حجيته بدأ يتخلق الروايات! والكليني ومقلدوه أسقطوا القرآن عن الحجية توهماً، وصنعوا له قيّماً.
بالإضافة إلى ذلك نقول: لنفرض أن هناك قيماً للقرآن وذلك القيم هو الإمام، والآن حيث لا إمام قائم فماذا نعمل؟ هل يجب الاستدلال بالقرآن أم لا ؟ إنهم لا يجدون جواباً.
حديث 3: سنده: مجهول كما قال المجلسي.
وأما متنه: قال هشام بن عمرو بن عبيد جعل الله لجوارحك إماماً لترجع الجوارح إليه حين الشك والحيرة وهو العقل، فكيف لم يجعل هذا الإله للناس إماماً ليرجعوا إليه ويدفعون به الشك والحيرة، وعمرو بن عبيد أُفحِمَ ولم يستطع الجواب، وكان عليه أن يقول: إن الله قد جعل القرآن إماماً للناس، وأمر بالرجوع كما قال في سورة النساء الآية: 59: ? فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ?، وقال أمير المؤمنين بشأن هذه الآية: في الرسالة 53 الرد إلى الله هو الرد إلى كتابه، وقد جعل الله القرآن إماماً، وقال تعالى في سورة الأحقاف الآية12: ?وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَاماً وَرَحْمَةً? يعني كان الإمام قبل هذا القرآن هو التوراة، وأما الآن فلإمام هو القرآن، وقال تعالى في سورة الشورى الآية 10: ? وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ?، وقال علي رضي الله عنه نفسه في الصحيفة العلوية: (أشهد أن القرآن إمامي)، وجعل القرآن، إماماً كذلك في نهج البلاغة، وقال في الخطبة 86: (من أمكن الكتاب من زمانه فهو قائده وإمامه يحل حيث يحل ثقله، وينزل حيث كان منزله... وآخر قد تَسَمَّى عالماً وليس به...قد حمل الكتاب على آرائه).(18/8)
أما هؤلاء الرواة الغافلون عن كتاب الله فإنهم يريدون أن يجعلوا من واحد كعمرو بن عبيد إماماً من البشر وقد كان غافلاً عن القرآن. نقول: حسناً، من هو إمامُ سيدنا الصادق نفسه؟ هل كان دينه يختلف عن دين الآخرين؟ نعم، هو إمامنا فمن يكون إمامه؟ إذا تنازع مع أحد واختلف معه فإلى أين يرجع وإلى أي شيء يعود؟!
مثلاً كان بين سيدنا على ومعاوية نزاع، فلماذا جعل سيدنا علي القرآن مرجعاً لهذا النزاع فقد قال في الخطبة 123:ما معناه: لما تنازع هؤلاء القوم معنا (أي معاوية وأتباعه) قبلنا بالقرآن حكماً وجعلناه مرجعاً للقضاء على الشك والاختلاف.
وأما عمرو بن عبيد لفرط جهله فقد استغله هشام وأراد أن يثبت أن ثمة إماماً غير القرآن.
باب طبقات الأنبياء والرسل والأئمة، والفرق بين الجَعْلِ التكويني والجَعْلِ التشريعي
حديث1: سنده:ضعيف على قول المجلسي، نعم (درست بن منصور) واقفي المذهب ومن الكلاب الممطورة، وهشام بن سالم كان من المجسمة، وأبو يحيى الواسطي هو سهل بن زياد الكذاب فاسد العقيدة.
إن الكليني يؤسس مذهباً مخالفاً للقرآن، مبنياً على أقوال رواة كهؤلاء، ويبدو أن رأيه مخالف للقرآن!!
وأما متنه: فيقول فيه: قد كان إبراهيم نبياً وليس إماماً حتى قال الله إني جاعلك للناس إماماً، يريد أن يقول مع أن إبراهيم كان نبياً ولكنه كان فاقداً لمقام الإمامة وهو يعني بهذا أن مقام الإمامة فوق مقام النبوة، وهذا الموضوع يخالف القرآن؛ لأن لله تعالى جَعْلين اثنين. الجعل التكويني والجعل الشرعي، أم الجعل التكويني فهو كما جاء في سورة البقرة الآية 22: ?جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً?، وفي سورة الأنعام الآية 1: ?وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ?، وقال تعالى في آية 96: ?وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَاناً?، وفي آية 8 من سوة الإسراء: ?وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيراً?.(18/9)
وهذا الجعل التكويني وهو ليس من جعل المقام والفضيلة وكما قال تعالى في سورة الحجرات الآية 14: ?يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا?، وهذا جعل طبيعي تكويني.
وأما الجعل التشريعي فهو جعل المقام والفضيلة كما جاءت في آية 4 من سورة مريم: ?وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلّاً جَعَلْنَا نَبِيّاً?، ومثل ما جاء في سورة الأنبياء الآية 73: ?وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ?.
والآن لا بد من العلم أن مقام النبوة فضل من الله، ولا يكتسب بالرياضة والعمل، وهو ليس مقاماً كسبياً.
وأما الإمامة والقيادة للأنبياء هو أمر واقع لكل الأنبياء، سواء كان النبي إبراهيم أم يعقوب أو غيرهما؛ لأن الأنبياء يقودون الناس للهداية عن طريق الوحي الإلهي.
ونقول الآن: قال الله في سورة البقرة الآية 134: ?وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ? أي: من قبيل ذبح الولد وبناء الكعبة وتطهيرها والتسليم بأمر الله، ?قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ?. هنا لا بد من القول إن الله لم يقل: سوف أجعلك إماماً بعد تمام الأمر وبعد النبوة، فالله لم يذكر الجعل بفعل المستقبل، بل باسم الفاعل، وهو حقيقة في من تلبس بالفعل ماضياً أو دائماً.(18/10)
على كل، إن الذي يظهر من القرآن أن رسالة الأنبياء هي تلك الإمامة، وإنّ ما يدّعيه بعضهم من أن مقام أئمتهم فوق الأنبياء، ويستدلون بالآية السابقة هو الهراء والباطل بعينه، ولا مستند لهم، وفضلاً عن هذا ربما يتشبث أحد بهذا الباطل كي لا يعتبر الأنبياء أئمة، ويجعل الإمامة فوق النبوة، مع أن آيات القرآن تنص على أن الأنبياء هم الأئمة. كما قال تعالى في سورة الأنبياء: ?وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ?، وقال تعالى في سورة السجدة: ?وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ... وَجَعَلْنَاهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائيلَ وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا?، والقصد من الأئمة في هذه الآية سيدنا يعقوب وسائر أنبياء بني إسرائيل من ذرية إبراهيم. إذاً نبي الإسلام محمد - صلى الله عليه وسلم - هو خاتم النبيين، وهذا يعني أنه لا يأتي إمام من عند الله بعده، والإمام من عند الله هو النبي نفسه، وإن إمامة الأنبياء أمر بين وواضح، قد أشير إليها في الأخبار أيضاً، فقد قال سيدنا الأمير فيما يتعلق بإمامة الأنبياء في خطبة 93و115: (فهو إمام من أتقى) وأما الإمامة بجعل غير تشريعي كإمامة سيدنا على والأئمة وبعض المؤمنين فقد جاء ذلك في القرآن والأخبار حيث قال تعالى في سورة البقرة: الآية124: ?وَمِنْ ذُرِّيَّتِي? يعني طلب سيدنا إبراهيم عليه السلام من الله تعالى أن يجعل بعض ذريته أئمة يعني أنبياء، وقال: ?وَمِنْ ذُرِّيَّتِي? واستجاب الله لدعائه وجعل الإمامة يعني النبوة في بعض ذريته، وفي آية أخرى بين الله ذريته من الأنبياء، كما أشير إليه: ?وَمِنْ ذُرِّيَّتِي? التي قالها إبراهيم فهم الأنبياء حيث جاء ذكرهم في آيات أخرى كما جاء في سورة الحديد، ويقول تعالى بالنسبة لذرية إبراهيم: ?وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ(18/11)
وَالْكِتَابَ?، والظاهر أن سيدنا إبراهيم من ذرية نوح [بل هو كذلك لقوله- صلى الله عليه وسلم -: الأنبياء أولاد علات أي أبناء أب واحد وأمهات مختلفة]، وعلى كل جعل الله الأنبياء من ذرية هذين النبيين، ولما وصل الزمان إلى إبراهيم أصبح الأنبياء من بعده من ذريته كإسحاق ويعقوب ويوسف وموسى وعيسى وغيرهم. حتى نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - هو من ذرية إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام. إذاً ذلك المغرض الذي كان يقول: إن إمامة إبراهيم جاءت بعد نبوته ليس لديه دليل، والآية 134من سورة البقرة لا تدل على كلامه على كل حال. هؤلاء قوم يتلاعبون بالقرآن ويريدون أن ينزلوا القرآن على آرائهم وهذا خطأ فاحش.
وبما أن الكليني لم تكن لديه قوة علمية فيبدو أنه لم ينتبه إلى أن وضع هذه الروايات هو التلاعب بالقرآن، والغلو في حق الأئمة، ولم ينتبه إلى أنه لو كان الأمر كذلك لكانت الإمامة شيئاً كسبياً، ولأستطاع أي إنسان أن يحوز هذا المقام ويصبح بنظره فوق الأنبياء.
وقال الله تعالى في سورة الفرقان الآية 74 في وصف عباد الرحمن: ?وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً?.
تدل هذه الآية أن أي عبد صالح من عباد الله إذا سعى بالعلم والعمل ووفقه الله فاز بمرتبة إمام المتقين، فهل يستطيع أي إنسان مهما اتصف بالتقوى والصلاح أن يجاوز مقام الأنبياء –والعياذ بالله- ما نقول بشأن استدلالاتهم؟! إنها هي المغالطة بعينها.
ونحن نقول: إن أي مسلم إذا استطاع أن يكون عالماً عاملاً فهو إمام هادياً للناس، ولكن حتماً لا يصل إلى مقام النبوة وأنى له أن يفوق الأنبياء.(18/12)
ولكن الرواة الخرافيين المغرضين يأتون بما يخالف القرآن ويقولون: لا، كل من تعلم وعمل وكان طائعاً لأمر الله وأرشد نفراً من الناس أصبح فوق الأنبياء! والكليني أتى بأربع روايات في هذا الباب لإثبات خرافته، عن رواة لا اعتبار لكلامهم وأكثرهم كانوا ضالين. ومنهم: أبو يحيى الواقفي الضال، ودرست بن منصور الواقفي الضال، ومحمد بن سنان من الكذابين المشهورين ومن الغلاة، ومحمد بن خالد المجهول المذهب.
هل يمكن الاعتماد على كلام هؤلاء الرواة من أهل الخرافة والضلال حيث لا يُعلم غرضهم وهدفهم من نقل واختلاق هذه الروايات المخالفة للقرآن، فهل يؤخذ الدين عن أمثال هؤلاء؟
هل يمكنهم أن يجيبوا الله تعالى يوم القيامة؟ كلا.
واعتبر المجلسي ثلاثاً من هذه الروايات مجهولة وضعيفة.
باب أن الحجة لا تقوم لله على خلقه إلا بإمام
وهذا العنوان للباب بغض النظر عن الأحاديث المتصلة به يخالف القرآن؛ لأن القرآن يقول تمت الحجة بإرسال الرسل، وليس هناك ذكر للإمام، كما جاء في سورة النساء الآية 165: ?رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ?، وقال علي رضي الله عنه في خطبة رقم 90 من نهج البلاغة: (تمت بنبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - حجته)، وفي بعض خطبه اعتبر القرآن حجة كافية كما قال في الخطبة رقم 160: (أرسله بحجة كافية) وقال في الخطبة 182: (فالقرآن أمرٌ زاجرٌ، وصامت ناطق، حجة الله على خلقه).
وروى الكليني في هذا الباب أربعة أخبار ويعتبر المجلسي الثاني منها ضعيفاً والثالث مجهول الحال، ويبقى خبران من الآحاد، ولا يمكن إثبات العقيدة بالآحاد، وخبر الآحاد ليس بحجة في العقيدة وفضلاً عن أن هذين الخبرين لا يحملان مضموناً واحداً.(18/13)
أما متن هذين الخبرين ومعناهما فكلاهما هذيان لا يعول عليه؛ لأن الأول يقول: (إن الحجة لا تقوم لله على خلقه إلا بالإمام حتى يعرف)، وكما قلنا إن هذا المعنى يخالف القرآن، وثانياً يقول: إن الإمام ليس بحجة حتى يعرف، وهو لم يُعرف إذاً فليس بحجة، ولذا لا يكون حجة للذين لم يعرفوه، ويريد الناس أن لا يعرفوهم لكيلا يكون الأئمة حججاً، ومع ذلك هذا ليس بالأمر الحسن أن يأتي إمام ويصنع حجة بكلامه، لأنه إن كان الإمام حجة لا بد أن ينزل شيء في حجيته كالنبي - صلى الله عليه وسلم -، لا أن يقول الإمام بنفسه ذلك.
باب أن الأرض لا تخلو من حجة
في هذا الباب جعل الإمام نفسه قيماً للعالم وحافظاً للأرض، وعدَ نفسه عادلاً وعالماً وحجة وحده، هل يليق بالإمام أن يزكي نفسه بهذا القدر مخالفاً القرآن حيث قال تعالى: ?فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ?.
فقد ورد ثلاثة عشر خبراً في هذا الباب وأكثر رواتها من المجهولين والمتهمين.
الحديث الأول: مجهول لوجود حسين بن أبي العلا، حيث عده الفاضل الجزائري ضعيفاً، واختلف سائر علماء الرجال بشأنه.
الحديث الثاني: ضعيف لوجود كل من أبي علي بن إبراهيم وهو مجهول، وإسحاق بن عمار الفحطي.
الحديث الثالث: يقول المجلسي بأنه مجهول، ونحن نقول بضعفه لوجود على بن الحكم راوي سلسلة الحمار!.
الحديث الرابع: يقول المجلسي بضعفه.
والحديث الخامس: ضعيف لأن راويه ممن يقول بتحريف القرآن.
والحديث السادس: يقول المجلسي بضعفه.
والحديث السابع والثامن: يقول المجلسي: أنهما مجهولان، وضعّف المجلسي في المرآة.
الحديث التاسع وكذلك عد العاشر والحادي عشر مجهولين، وعدّ الثاني عشر والثالث عشر ضعيفين.(18/14)
أما المتن: فقد جاء في الحديث الأول: عن الإمام حيث لا تخلو الأرض من إمام وإن كان هناك إمامين فعلى واحد منهم أن يسكت، ونحن نقول: هذا افتراء على الإمام لأنه في عصر الجاهلية مثلاً كانت بلا إمام، وكذلك قبل خلق آدم. فإما أن الإمام لم يكن عالماً أو أن الراوي افترى عليه، وثانياً: إذا كان هناك إمامان لماذا يسكت أحدهما، أليس الأمر بالمعروف وإرشاد الجهال واجب عل كليهما؟
وأما متن الحديث الثاني فيقول: إن الأرض لا تخلو من إمام، كلما زاد المؤمنون شيئاً على الدين ردّهم، وإن نقصوا شيئاً أتمه لهم. أولاً: نقول: إن المؤمن إذا كان مؤمناً حقاً فلن يزيد على الدين شيئاً أو ينقص منه، ومن يفعل ذلك فهو حتماً ليس بمؤمن، ثانياً: إن زمننا هذا يحتوي مئات المذاهب، وكل مذهب منها فيه من البدع والخرافات ما زاده الجهال على الدين، فأين الإمام الذي يرجع إليه في الفصل بين والخطأ والصواب؟ وإذا كان موجوداً حقاً فلماذا لم يبادر إلى إحقاق الحق وإبطال الباطل.
ومتن الخبرين الثالث والرابع يحويان الإشكالات ذاتها، وكذلك الخامس والسادس والسابع.
وأما متن الحديث الثامن فيقول فيه الإمام الباقر رضي الله عنه: لم يترك الله الأرض من زمن آدم إلى زمننا دون إمام، وهو حجة الله على عبادة. نقول: إذا كان الإمام حجة على عباده، فلماذا قال الله في سورة النساء الآية 165: ?لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ?، ولماذا قال أمير المؤمنين في الخطبة رقم 90: (تمت بنبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - حجته)، أم ترى أن علياً رضي الله عنه لم يكن يعرف هذه الأخبار ومضمونها؟!! هل نقبل هذه الروايات التي تخالف القرآن، والحس يأباها، لأن الكليني رواها.(18/15)
وأما متن الأخبار من الخبر العاشر إلى الثالث عشر فقد قال الإمام: إذا خلت الأرض من إمام فإنها تبتلع أهلها، نقول هذه الأخبار تخالف القرآن لأن القرآن يقول في سورة فاطر الآية 41: ?إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ?، وقال تعالى في سورة الحج الآية65: ?أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ?، وقال في سورة فاطر الآية2: ?وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ?.
حتى قال الله عن الطيور في الهواء في الآية19 من سورة تبارك: ? مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ? إلى غيرها من الآيات.
هل يمكن للمسلم أن يغض طرفه عن كل هذه الآيات القرآنية ويقول إن حافظ الأرض هو الإمام؟ إلا إذا كان من الرواة الوضاعين الكذابين أو الغلاة، وفضلا عن هذا فقد قال الإمام: (لو بقيت الأرض بغير إمام لساخت) ما هذا؟ ساخت بحكم من؟ بحكم الإمام أو بحكم الله أم بحكم نفسها؟ وإذا كان بحكم الله فلا يد للإمام فيه ولا فضل له، إن واضعي هذا الحديث لم يعرفوا كيف يكذبون.
باب معرفة الإمام والرد إليه
روى الكليني( 14 حديثاً )في هذا الباب يقول إن معرفة الأئمة من أركان الدين وأصوله، وفي كل أمر ديني لا بد من الرجوع إليهم، ويبدوا أنه كان جاهلاً بالقرآن حيث أنّ القرآن بين أصول العقائد والإيمان والكفر وليس في آيات الله شيء من معرفة الإمام والرد إليه.(18/16)
بل فيه ما يخالف هذه الأخبار المذهبية، لنتساءل: هل العلوم الإسلامية يذكرها القرآن أم تذكرها أخبار المتمذهبين المحرفين؟ فهل لو لم يكن هؤلاء الرواة الكذابون لم يكن يبقى للإسلام أصول وثقافة؟ قال الله في سورة البقرة الآية 16: ?إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ? فهما أمران يضمنان النجاة: الإيمان بالله والإيمان باليوم الآخر، وفي آية: (177) ذكر الله كل أصول الإسلام، وذكر الله في آية: (284) ماذا يلزم الإيمان، وذكر تعالى في سورة النساء الآية: (136) كل أصول الإسلام والكفر، والإمام نفسه لا بد أن يعرف ذلك ويعتقد به، ولا فرق في الإسلام وأصول عقائده بين الإمام والمأموم.
إضافة إلى أنه يقول في أخبار هذا الباب يجب معرفة الإمام والرد إليه، وهذا مخالف للقرآن ومخالف لعمل سيدنا الأمير[علي] رضي الله عنه، لأن القرآن يقول في سورة النساء الآية 59: ?أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ?. يعني ردوه إلى كتاب الله وسنة رسوله لا إلى أولي الأمر، وقال سيدنا الأمير رضي الله عنه في نزاعه مع معاوية: بأنه مستعد أن يرجع إلى كتاب الله. ولم يقل ارجعوا إلىّ لأني إمام.
باب فرض طاعة الأئمة
وروى في هذه الباب (سبعة عشر حديثاً) وأكثرها من الأحاديث الضعيفة والمرسلة والمجهولة. يقول المجلسي بضعف كل من الثاني والثالث، وأما الرابع فهو مرسل، والخامس ضعيف، والتاسع مجهول، وأما العاشر والحادي عشر والثاني عشر فمجهولون، والثالث عشر ضعيف، والربع عشر والخامس عشر مجهولان، والسادس عشر ضعيف، والسابع عشر مجهول.(18/17)
ومتن هذه الأحاديث: في الحديث الأول أن معرفة الإمام وطاعته من أفضل الأشياء، واستدل بآية: ?مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ ? [سورة النساء الآية 80].
وما من أحد يسأل ما هي العلاقة بين هذه الآية وطاعة الإمام. فضلاً عن هذا، هل كان الأئمة معجبين بأنفسهم إلى حد أن يوجبوا طاعتهم ويستدلوا لأنفسهم بآية لا تتعلق بهم. والإمام (الباقر) نفسه قال إذا وردكم عنا حديث فاسألوا أين ورد هذا في كتاب الله وفي أيّة آية (أي ما يؤيده). إن الأئمة كانوا تبعاً لكتاب الله وسنة رسوله ولم يكن لديهم سنة خاصة بهم. يقول على رضي الله عنه في نهج البلاغة: (نظرت إلى كتاب الله وما وُضع لنا وأمرنا بالحكم به، فاتبعته وما استن النبي - صلى الله عليه وسلم - فاقتديته). ويقول في إحدى وصاياه في نهج البلاغة رقم 149: (وصيتي لكم أن لا تشركوا بالله شيئاً، ومحمد - صلى الله عليه وسلم - فلا تضيعوا سنته، أقيموا هذين العمودين، وأوقدوا هذين المصباحين).
في الحديث الرابع: استدل على وجوب طاعة الإمام بالآية 54 من سورة النساء ولا علاقة لها بالإمام إطلاقاً، وقال الله في تلك الآية: ?فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكاً عَظِيماً?، وقد وردت كلمة (آتينا) بصيغة الماضي، ولما نزلت هذه الآية ولم يكن الأئمة موجودين بل الله أعطى الملك والنبوة للآل إبراهيم في الماضي، أمثال سليمان ويعقوب ويوسف وموسى وعيسى عليهم السلام.(18/18)
وهذه الآية لا تدل على المستقبل، هل الإمام حقاً لا يعرف الماضي من المستقبل؟! أم أن الرواة الوضاعون وضعوا الحديث؟! إضافة إلى ذلك إنكم تقرؤون في دعاء الندبة وسائر الأدعية وتقولون للأئمة: (إني منتظر لدولتكم ومرتقب، ونصرتي لكم معدة حتى يمكنكم في أرضه). فيبدوا أن أولئك الأئمة لم يتمكنوا في الأرض بعد. فكيف قال ذلك الإمام إن أعطانا ملكاً عظيماً، هل تريدون أن تهدموا القرآن باسم الإمام؟ وتظهروا الإمام على أنه هادم للقرآن.
وفي الحديث رقم 7 و16 استدل على وجوب طاعة الإمام بالآية: ?إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا...? حيث تدل أن الموالاة لا تتعلق بوجوب الإطاعة كما سنذكر في بابه؛ لأن هذه الآية وردت في سورة المائدة الآية 55 ضمن الآيات التي تقول: ?...لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ?، وبعد هذه الآية قال تعالى: ?لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ?وكل آيات هذه السور حرب على الكفار من أهل الكتاب، وتمنع موالاتهم وفي أثناء ذلك يقول: ?إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ?.
لم ترد كلمة (الراكعون) بعد الصلاة، بل وردت بعد الزكاة، أي يدفعون الزكاة برضاهم ورغبتهم. وهم على عكس المنافقين الذين يكرهون تأدية الزكاة؛ كما قال تعالى في سورة التوبة الآية 54 بالنسبة لإنفاق النافقين: ?وَلا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ?، معنى الولي هو الصديق، ونحن يجب أن لا نغفل عن تناسب الآيات ونجعل كلام الله لا رابطة بينه ولا قرينة تجمعه. ومن أجل إطاعة الإمام نسقط ما في القرآن من الفصاحة، ونختلق الحديث كما فعل على بن الحكم الكذاب وهو نفسه راوي سلسلة الحمار.(18/19)
وفي الحديث الحادي عشر: علي بن إبراهيم وصالح السندي المجهول يضعان أصول الدين للمسلمين ويقولان: إن الإمام الصادق قال: (من عرفنا كان مؤمناً، ومن أنكرنا كان كافراً، ومن لم يعرفنا وينكرنا كان ضالاً)، وهذا يخالف القرآن؛ لأن القرآن يقول: ?مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ?، وفي هذا بيان لأصول الإيمان والكفر، وقال تعالى في سورة النساء الآية136: ?وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا بَعِيداً?.(18/20)
هل لله أن يبين أصول الإيمان والكفر في كتابه لرسوله أم لعلي بن إبراهيم وصالح السندي؟! ومعرفة الإمام ليست هي مناط الكفر والإيمان في كتاب الله، هل وجود الإمام نفسه من أصول الدين لتكون معرفته من شروط الإسلام؟! أم أن الإمام هو أحد أتباع الدين؟! إنه في رواية (رقم: 16) جعل للقرآن قيَّماً، وقال منصور بن حازم: القرآن ليس بحجة لأن كل فرقة تستدل به، ولا بد أن يكون له قيماً وهو الإمام. والرد عليهم هو أنهم استدلوا بكلمات الإمام واختلفوا فيها أيضاً، أمثال الصوفية والشيخية والزيدية والواقفية والجعفرية والأصولية والأخبارية و...إذن وبناءً على هذا المنطق لا بد أن يكون للإمام قيم، وهو ليس بحجة، ولعل الكليني وعلي بن إبراهيم هما القيمان على الإمام! وإضافة إلى ذلك أن الله جعل القرآن هو الفصل في الخلافات كما ذُكر، وسيدنا الأمير عدّ القرآن حجة كافية كما مرّ في الحديث 17 : واستدل بالآية 74 في سورة الإسراء: ?يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ? لوجوب إطاعة الإمام، ولكن الراوي المحرف قد عمل بالتحريف هنا أيضاً، ولم يأت ببقية الآية، حيث قال تعالى: ?فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولَئِكَ يَقْرَأُونَ كِتَابَهُمْ? ومعنى الإمام هنا هوكتب الأعمال، يعني أن الناس يحضرون مع إمامهم أي مع سجل أعمالهم. ولست أدري كيف يتجرأ هؤلاء الرواة على اللعب بالقرآن وتحريفه باسم الإمام وباسم النقل عن الإمام؟! هل يريدون أن يدّعوا أن الإمام أراد أن يفسد كتاب الله ودين جده.
باب في أنَّ الأئمة شهداء الله عز وجل على خلقه(18/21)
اعلم أنه روي في هذا الباب خمسة أحاديث تدل على أن الأئمة شهداء الله على الخلق، ورواة هذه الأحاديث كلهم فاسدوا العقيدة وضعاف، كسهل بن زياد الكذاب المشهور الملعون، وزياد القندي الذي كان وكيلاً لسيدنا موسى بن جعفر فسرق أمواله وأنكر شهادته وأوجد مذهب الواقفية، وكمعلى بن محمد الوشاء، وحسن بن علي الفضال، وسليم بن قيس الهلالي الذي له كتاب مليء بالكذب، وعلى سبيل المثال كتب في كتابه: أن محمد بن أبي بكر وعظ أباه في حال وفاته، مع أنه لما توفي أبو بكر كان محمد ابن سنتين فكيف يعظ ابن سنتين أباه؟!
وكذلك كتب أن سليماً عرض خبراً على الإمام الحسن والإمام الحسين بعد وفاة معاوية، وهما قد صدقا في ذلك، وهذا المسكين لم يعرف أن سيدنا الحسن توفي قبل وفاة معاوية بعشر سنين، وهكذا.(18/22)
وأما متون هذه الأحاديث ففيها استشهاد بالآية 143 من سورة البقرة تستنتج فيها على أن الإمام شاهد على الخلق ونحن نأتي بالآية لنفضح الكذابين الذين تلاعبوا بالقرآن، يقول تعالى: ?وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً?. والظاهر من الآية أنكم تنظرون لأحوال بعضكم وتمنعون المنكر والرسول شاهد عليكم الآن، هذه الشهادة على الناس في أي وقت؟ طبعاً عندما يكون الفرد حياً في أثناء الاجتماع، ودليلنا آيات من القرآن، حيث أن القرآن يصدق بعضه بعضاً: ?وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ? [المائدة: 116-117]. إذن تكون النتيجة أن الأمة الإسلامية تشهد على الناس وتمنعهم عن الفساد ويكون الرسول شاهداً على الناس ما دامت الحياة لا بعد أن يصبح ميتاً لا يدري عن هذا العالم شيئاً، وفي عالم آخر حيث: ?لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ?، وهي دار السلام.(18/23)
أما إذا كان عالماً بأحوال الناس وشاهداً عليهم فلا بد أن يحزن ويأسف، وفي عالم الآخرة لا تكليف على الأنبياء ولا على الناس. وبالإضافة إلى ذلك ما معنى أن يكون الأنبياء والأوصياء شاهدين على أخطاء المخطئين؟! فضلا عن أن كلمة الشهادة وردت في الآية السابقة بنفس المعنى للناس ولرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والكلمتان لهما معنى واحد. إذن رسول الله ليس ناظراً لأعمال الناس بعد وفاته فكيف بالإمام؟ وأراد الكليني أن يضع الإمام مكان رسول الله ليكون بعد ذلك شاهداً وناظراً للخلق مادامت الحياة على حد قوله! ولذا جمعوا أخباراً من الوضاعين والكذابين من الغلاة، حتى المجلسي نفسه ضعفهم وعدهم من الذين لا اعتبار لهم. وقال الله تعالى في سورة الحديد الآية 19: ?وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ?.
باب أن الأئمة ولاة أمر الله وخزنة علمه
اعلم أنه روي ستة أحاديث في هذا الباب، ويقول المجلسي بضعف الأول وبجهالة الثاني والثالث والرابع، ولكننا نرى أنها كلها ضعيفة؛ لأن راوي الحديث السادس هو سهل بن زياد الكذاب المعلون، وأن متون هذه الأحاديث تخالف النص القرآني مخالفة تامة؛ لأنه يقول في هذه الأحاديث من جهته أن الأئمة ولاة أمر الله مع أن الله تعالى منزه عن ذلك في أموره التكوينية ولا يحتاج في أموره إلى ولي.(18/24)
ويقول الله تعالى في سورة الإسراء الآية 111: ?لَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً?، وفي كثير من الآيات قال تعالى ما معناه ليس لعبادي ولي إلا الله، إذا كان العباد ليس لهم ولي ولا قيم فكيف يكون لله ولي في أمره؟ فهل لواضعي هذه الأخبار عقل أم أنهم كانوا يستهزؤون بالله؟! قال تعالى في سورة البقرة الآية 107: ? وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ?، وفي سورة الأنعام الآية 51: ?لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ?، وفي سورة الكهف: ? لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً?، لا شك أن قبول بعض المسلمين بهذه الروايات المخالفة للتوحيد والعقل هو نتيجة ابتعادهم عن القرآن وعن الإسلام كلياً.
باب أن الأئمة خلفاء الله عز وجل في أرضه وأبوابه التي منها يؤتى
روى الكليني ثلاثة أحاديث في هذا الباب وعدها المجلسي ضعافاً؛ لأن رواتها لا اعتبار لهم، بل كانوا فاسدي الدين وأتوا بخرافات في الإسلام، وأما متونها فتخالف العقل والقرآن، لأنه يقول إن الأئمة خلفاء الله، نقول: إن الإمام من البشر يحتاج كغيره من البشر إلى البول والغائظ وإلا يمرض، والإنسان الذي يموت بحمى بسيطة كيف يمكن أن يكون خليفة الله؟ بالإضافة إلى ذلك أن الخليفة يكون عندما يذهب السلف أو يموت، ليجلس أحد مكانه، وليس بمقدور أحد الوصول إلى مقام الألوهية ليكون خليفته، قد أُعمي نبي من الأنبياء كموسى لما لم يستقر الجبل، فكيف يخالف المقام الألهي الذي يدبر المليارات من المجرات.(18/25)
لست أدري حال هؤلاء الذين افترضوا خليفة لله تعالى!! هل لأنهم ما عرفوا الله، أم أنهم ينكرونه مطلقاً؟! وكما يبدو من القرآن أن البشر خلفوا الموجودات السابقة عليهم، الذين أفسدوا في الأرض وأراقوا الدماء فأخلف الله مكانهم البشر، قال تعالى في سورة البقرة في الآية 28: ?وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ? ولم يقل فيها خليفة لي أو خليفة الله، إذن فقد فهم الملائكة المخاطبين أن الله يريد أن يجعل خليفة بدل الذين أفسدوا في الأرض وأراقوا الدماء وهلكوا، وليس لأحد أن يدعي أن يفهم خيراً مما فهم الملائكة.
باب أن الأئمة نور الله عز وجل
روي في هذا الباب ستة أحاديث، وقال المجلسي: إن الأول والثالث والرابع والخامس ضعاف، والثاني مرسل، والسادس مجهول. وراواتها هم: علي بن مرداس المهمل، وابن الفضّال الواقفي، وعلي بن أسباط الفطحي، وسهل بن زياد الكذاب الملعون. والآن لاحظوا يا أخوتي خال المتن، وانظروا كيف أن هؤلاء فاسدي المذاهب الكذابين تلاعبوا بآيات القرآن، وقد عمدوا إلى التحريف المعنوي.(18/26)
هذه الأحاديث تستدل بآيات وتقول إن الأئمة من النور ونحن نورد الآيات ومن بين هذه الآيات الآية الثامنة من سورة التغابن، قال تعالى: ?فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا?، ما هو النور الذي أنزله؟ قال تعالى في سورة المائدة: ?قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ?، وقال تعالى في سورة النساء الآية 174: ?يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً?، وقال تعالى في سورة آل عمران الآية 184: ?جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ?، والآيات الأخرى الصريحة تقول إن الله أنزل كتاباً وهو نور وهداية، ولم يقل الله قط إنا أنزلنا إنساناً وهو نور ومن نور! لست أدري من أين وكيف أنزل الأئمة، ومتى قال الله: نحن أنزلنا الأئمة؟ أليس هذا تحريفاً معنوياً، وتلاعباً بالقرآن؟ ألم يكن الإمام الصادق عربياً؟ ألم يكن يعرف أن الله أنزل قرآناً لا بشراً؟! كيف نشر هؤلاء الرواة الأكاذيب باسم الإمام، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إن هذا القرآن هو النور المبين والحبل المتين). ويقول سيدنا الأمير في نهج البلاغة الخطبة 198: (ثم أنزل عليه الكتاب نوراً لا تطفأ مصابيحه، وسراجاً لا يخبوا توقده)، وقال في خطبة 183 عن القرآن أنه: (أتم نوره، وأكمل به دينه) ، وقال في خطبة 158: (والنور المقتدي به هو ذلك القرآن)، وقال في خطبة 156: (وعليكم بكتاب الله فإنه الحبل المتين، والنور المبين).
باب أن الأئمة هم أركان الأرض(18/27)
روى في هذا الباب ثلاثة أحاديث ضعفها المجلسي كلها؛ لأن أحد رواتها محمد بن سنان من الكذابين المعروفين ومن الغلاة، قال علماء الرجال عنه: وذلك هو الذي يقول إن الله خلق العالم، ووكل أمر العالم لمحمد وعلي! وجلس يرتاح! والآخر سهل بن زياد الملعون الكذاب، والآخر علي بن حسان من الباطنية، وكان له كتاب تفسير باطني حيث عمد إلى التحريف في الإسلام، هؤلاء الفسقة أتونا بما سموه مذهباً! وهنا يقولون إن الأئمة أركان الأرض، وكل من لا يقبل بذلك فهو مشرك! ويقولون قال علي: إن الجنة والنار بيدي، وأنا الفاروق الأكبر، ويعني لما لقبوا عمر بن الخطاب بالفاروق فأنا الفاروق الأكبر!! أقول: بهذه الكلمات أتوا بمذهب جعلوا كل المذاهب الإسلامية يسيئون الظن به، لأن هذه الموضوعات وأمثالها بطلانها وتضادها مع العقل والقرآن بيّن، لذا لا حاجة إلى المزيد من الشرح والتبيين، قال الله في كتابه: ?وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ? كي لا تضطرب، أما هؤلاء فيقولون في هذا الحديث إن الإمام ركن الأرض فلو لم يكن الإمام لاضطربت الأرض! هنا نتساءل، كيف كانت الأرض قبل خلق آدم وقبل قيام القيامة حيث لم يكن بشر ولا يكون، لا إمام ولا مأموم.
باب أن الآيات التي ذكرها الله في كتابه هم الأئمة(18/28)
روى ثلاثة أخبار في هذا الباب، يقول المجلسي بضعف الأول والثاني، وأن الثالث مجهول، وأن بعض رواتها من أسوأ خلق الله، من بينهم أحمد بن هلال العبرتائي الخبيث الملعون المغالي والمرائي الذي كان يتاجر بالتصوف كما نقل الممقاني في المجلد الأول من كتاب الرجال ص 99 والشيخ الطوسي والنجاشي وآخرون أن أحمد بن هلال حج أربعاً وخمسين مرة، ذهب عشرين مرة منها ماشياً، مع هذا لعنه سيدنا العسكري رضي الله عنه وسبه وطلب من الله له العذاب وكتب لنائبه قاسم بن علا: أمرنا لك أن تعلم عن الرجل المرائي الصوفي أحمد بن هلال -لا رحمه الله- ولا أزال أقول لا رحمه الله ولا غفر خطاياه؛ لأنه يتكلم برأيه، وإن شاء الله سيكون مثواه النار، نحن نصبر حتى يقطع الله عمره ونعلن لأصحابنا أنه ليس في رحمة الله، ونحن بريئون منه.(18/29)
والآن كيف روى الكليني الروايات عن رجل كهذا؟!! روايات هدفها الوحيد هو هدم الإسلام، إذ يريد الكليني أن يثبت مقام الإمام وعلوم الإمام عن طريق هؤلاء الرواة، وينقل كل خرافة باسم الإمام وعلومه وعن رجال كهؤلاء، مثلاً روى في هذا الباب هذا الراوي وأمية بن علي وداود الرقي وهما من الغلاة، رووا عن الإمام الصادق تفسيراً يتعلق بالآية 42 من سورة القمر: ?وَلَقَدْ جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ كَذَّبُوا بِآياتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ? فيه أن الإمام قال إن الآيات التي كذبها آل فرعون، كنا نحن الأئمة تلك الآيات، بالله عليكم إذا كانت هذه هي علوم الأئمة يعني قولهم إن أتباع فرعون كذبوا بإمامة الصادق فكيف تكون علوم الآخرين!!! انظروا كيف يهزأ هؤلاء الرواة ويسخرون بكتاب الله، والعجيب من المجلسي لماذا يؤول ويقبل الخرافات التي في الكافي؟ وإذا كان الأساس هو التأويل والتوجيه فيمكن أن يؤول أي كفر وزخرف من القول ويوصف بالإيمان والحقيقة، هذه الخرافة في الحديث الثاني نقلت عن الإمام الباقر، وروى عنه أيضاً في الحديث الثالث أنه قال: إن المقصود من الآية: ?عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ عَنِ النَّبَأِ الْعَظِيمِ الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ? هو سيدنا علي رضي الله عنه، حيث تساءل كفار مكة فيما بينهم عن خلافته، مع أن مشركي مكة لم يقبلوا رسالة محمد - صلى الله عليه وسلم -، وهذه السورة (النبأ) نزلت في مكة وبما أنه في هذه السورة وردت أخبار القيامة فإن المشركين لم يقبلوها وتساءلوا فيما بينهم عن خبر القيامة بدليل أنه جاء بعد هذه الآيات قوله تعالى: ?إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتاً يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجاً?، إن النبأ العظيم هو خبر القيامة ولا علاقة له بالخلافة. وفي مكة كانوا لا يؤمنون بالرسول نفسه فكيف يعتبرون خلافة علي نبأ عظيماً. وبالإضافة إلى هذا إن هذا النبأ(18/30)
العظيم ورد في سورة (ص) أيضاً من الآية 67، قال تعالى: ?قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ? وهذه السورة مكية أيضاً، إذاً النبأ العظيم ليس علياً مع أن سيدنا الأمير رضي الله عنه نفسه يقول في دعاء يوم الاثنين في الصحيفة العلوية أنه يؤمن بالنبأ العظيم، وقال أيضاً: (الحمد لله الذي هداني للإسلام، وأكرمني بالإيمان، وبصّرني في الدين، وشرفني باليقين، وعرفني الحق، الذي عنه يؤفكون، والنبأ الذي هم فيه مختلفون)، يبدو أن هؤلاء الرواة المختلقين لم يطلعوا على كلام سيدنا الأمير رضي الله عنه نفسه، والعجيب أن الكليني يريد أن يقول عن الآيات المذكورة أن المقصود منها هم الأئمة مستدلاً أيضاً برواية من لا دين لهم.
باب: أن النعمة التي ذكرها الله في كتابه هم الأئمة رضي الله عنهم
روى في هذا الباب أربعة أحاديث، وكلها ضعيفة على حد قول المجلسي؛ لأن معظم الرواة إما مجهولون أو مهملون ومن الغلاة، ومنهم محمد بن الجمهور فاسد المذهب الذي كان له أشعار في ترويج الفجور، وعلى بن حسان المغالي، وكان كذاباً، وكان له تفسير باطني كما مر، هل يمكن أن يؤخذ معتقد ديني من رواة كهؤلاء؟! وبالإضافة إلى أن هؤلاء تلاعبوا بالقرآن وحرفوه معنوياً ولفظياً كيفما شاؤوا.(18/31)
من جملة ذلك في هذا الباب أتوا بآيات أنزلت في مكة لنعمة الوصاية والخلافة للأئمة! مع أن المشركين في مكة لم يستجيبوا للنبي - صلى الله عليه وسلم - نفسه؛ لذا ذُكِر الوصي والخليفة له - صلى الله عليه وسلم - من الهراء، مثلاً في سورة إبراهيم الآية 28 التي أنزلت في مكة: ?أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ? قال الإمام إن هذه الآية نزلت فيمن اغتصبوا حق علي وأنكروا وصايته؛ مع أن فعل بدلوا يدل على الماضي ولم يتكلم أحد في مكة عن وصاية علي. وأيضاً الآية 13 من سورة الرحمن وهي مكية وقال تعالى للجن والإنس: ?فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ?يقول الكافي: قال الإمام: أنزلت هل بالنبي أم بالوصي تكذبان؟ يريد أن يقول إنه قد نص من القرآن شيء والمخاطبان بـ?تكذبان? هما الشيخان، مع أنه في مكة لم يكن هناك شيء كهذا، ومن جملة ذلك 69 من سورة الأعراف عندما قال تعالى لقوم عاد: ?وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ? قال الراوي الجاهل: قال الإمام: (آلاء الله ولايتنا). أهذه هي علوم آل محمد أن يفسروا كل آية تبعاً لهم وبحسب أهواءهم، أم أن الرواة الجهلة افتعلوا ذلك؟
باب أن الأئمة ورثة العلم يورث بعضهم بعضاً العلم(18/32)
نقل الكليني في هذا الباب روايات تدل على توارث العلم، وهذا يخالف الشرع والعقل؛ لأن أمير المؤمنين رضي الله عنه قال مكرراً: (علمني رسول الله، ولم يقل ورّثني رسول الله العلم)، قال جابر بن عبد الله كما نقل الممقاني في رجاله ص 199 وغيره من علماء الرجال عنه: (رأيت محمد بن علي الباقر رضي الله عنه في المكتب، إذ قال سيدنا السجاد رضي الله عنه له: ذهب ابني إلى المكتب للتعلم، أرسل إليه ليأتي، قال جابر: أنا أذهب لزيارته، وزد على ذلك أن هناك ألوف الروايات قال فيها الأئمة حدثني أبي عن آبائه، أو أخبرني أبي عن آبائه، ومن جملة الأخبار ما قاله سيدنا الرضا في نيسابور: حدثني أبي موسى بن جعفر... إلى الآخر. إذن علم الأئمة كغيرهم من الناس كان عن طريق التعليم والتعلم لم يكن بالإرث؛ لأن العلم والمعرفة يكونان إما بالكسب والتعليم أو بالوحي وحيث أن هناك إجماعاً على عدم نزول الوحي على الإمام فيكون علمهم بالتعليم والتعلم قطعاً. والعلم عن طريق الإرث لا يصح؛ لأن لكل إمام أبناء عديدون فكيف يرث أحدهم عن أبيه ولا يرثه الإخوة الآخرون؟ هذا الكليني ورواته كانوا حفنة من الجهال وعديمي التبصر والدراية كالصوفية؛ إذ الصوفية تقول إن سلسلة الإرشاد تصل إلى ابن المرشد بالإرث.(18/33)
وهؤلاء يقولون إن العلم يصل إلى الابن عن طريق الإرث! وهم بذلك لا يُعمِلوا الفكر ويتأملوا ليعلموا أن الإرشاد والدعوة إلى دين الحق واجبان على كل المسلمين لا يأتيان إرثاً لشخص معين وكذلك التعلم، فطلب العلم فريضة على كل مسلم، إماماً كان أو مأموماً، فضلاً عن هذا كله فإن روايات هذا الباب تخالف روايات (باب فقد العلماء) في هذا الكتاب نفسه، روى عن الإمام الصادق قال: (إن أبي كان يقول: إن الله لا يقبض العلم بعدما يهبطه، ولكن يموت العالم فيذهب بما يعلم) إلا أن يكتب ذلك في كتاب أو كراس، إذن كل عالم يذهب علمه وتزول محفوظاته الذهنية بموته وقبض روحه، ولذا قال الإمام الصادق في باب رواية الكتب والحديث وفضل الكتابة: (القلب يتكل على الكتابة) وقال في حديث آخر: (اكتبوا فإنكم لا تحفظوا حتى تكتبوا) والسادات الأئمة أنفسهم كان لهم كتب جامعة أخذوها عن آبائهم، وقال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: (قيدوا العلم بالكتابة)، كأن الكليني هذا لم يكن مطلعاً على باب آخر من كتابه، وهو باب رواية الكتب، وجمع الأضداد في الكافي. يقول في باب (لا بد من كتابة العلم)، وفي باب آخر يقول: (لا يلزم ذلك)، وعلم الأئمة عن طريق الإرث، وبذلك يكون كأنه لا يعتبر الأئمة من البشر، وفضلاً عن هذا، لا فضيلة لعلم يكون عن طريق الإرث وفضل العلم؛ لكسبه وتعلميه ومشقته! وعلى ما ذكرنا يكون الباب التالي أيضاً مخالف للقرآن والعقل.
باب: أن الأئمة ورثوا علم النبي وجميع الأنبياء والأوصياء
روى الكليني في هذا الباب عدة روايات كلها تخالف صريح القرآن، ومعظم رواته من الضعفاء، كعلي بن حكم راوي سلسلة الحمار، وعبد الرحمن بن كثير الضعيف فاسد العقيدة والغالي، وزرعة بن محمد الواقفي الذي عده علماء الشيعة من الكلاب الممطورة.(18/34)
وأما متن الروايات: في الحديث الأول قال الإمام: (نحن أمناء الله في أرضه) هنا لا بد من التساؤل: على أي شيء كانوا أمناء الله؟! قال تعالى في آخر سورة الأحزاب: ?إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْأِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً? هل أراد الراوي أن هذا الإنسان الظلوم الجهول الذي قبل الأمانة هو الإمام وإلا فليس لله أمانة خاصة، وبعد ذلك يقول: قال الإمام: (إنا لنعرف الرجل إذا رأيناه بحقيقة الإيمان وحقيقة النفاق) وهذا يخالف صريح القرآن؛ لأن الله قال لنبيه: ?وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لا تَعْلَمُهُمْ? هذا من جانب، مع أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يعاشرهم وعلى الرغم من ذلك ما عَلِمَهم، أما الإمام الذي لم يعاشر أحداً ولم يعرف اسمه كيف يعرف ومن أين له إذا رأى أحداً من الناس بأنه مؤمن أو منافق؟ هل هذا الإمام الذي نقل عنه الراوي كان جاهلاً بالقرآن كالراوي نفسه؟! نحن نقول: لا، الإمام الصادق من العرب خبير بالقرآن لكن هؤلاء الرواة هم الذين أظهروه بمظهر المخالف للقرآن، ثم إنّ الله قال لرسوله في سورة الأحقاف: ?قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ?. أما هؤلاء الرواة المخالفون للإسلام فيقولون إن الإمام يعرف إيمان أو نفاق كل واحد يراه! حتى إنهم يقولون إن الإمام قال: نعلم أسماءهم وأسماء آباءهم، وذلك مكتوب عندنا مع أن الله قال في سورة البقرة الآية: 255: ?يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ?، ويقول أيضاً: قال الإمام: (نحن المخصوصون في كتاب الله) مع أن الله قال: ?هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ?، و?هُدىً لِلنَّاسِ?، و?يَا أَيُّهَا النَّاسُ?، و?َمَا أَرْسَلْنَاكَ(18/35)
إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ?، ولم يقل للإمام أو المأموم خاصة.
هل غرض هؤلاء أن يجعلوا القرآن كتاباً خاصاً ويبعدون الناس عنه، ويبعدون القرآن عن الناس؟ كما فعلوا ذلك، ويقولون أيضاً: قال الإمام: نحن الذي شرع لنا دينه فقال في كتابه: ?شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً? أيها القارئ الذكي لا حظ إلى أي حد وصلوا في تحريفهم القرآن، هذه الآية في سورة الشورى الآية13: ?شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ? لا توجد في هذه الآية، يا آل محمد، انظروا كيف كذبوا على الله: ?وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً?، وأنا أجزم أن هؤلاء الرواة لم يؤمنوا بالله ولا باليوم الآخر، وإلا لما كذبوا على الله كل هذا الكذب، وفي الأصل هذه الآية نزلت في مكة ولم يكن لمحمد - صلى الله عليه وسلم - آل ولم يكن إمام ووصاية، ثم يقول هنا: قال الله في هذه الآية: ?وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ [من أشرك بولاية علي]?. أيها المحرفون تعالوا واقرأوا بأنفسكم الآية في سورة الشورى، كنت أفكر عند (باب: أن الأئمة هم الراسخون) لماذا يصر هؤلاء الكذابون على أن يكون الأئمة هم: (الراسخون في العلم) والآن أدركت السبب. إنهم يصرون على ذلك ليوهموا أتباعهم أن ذلك منزل في القرآن، حتى إذا ما استشكل أحدهم فإنهم يقولون في جوابهم له: هذا تأويل الآيات، والإمام هو الذي يعلم وأنتم لا تعلمون، وبعد ذلك لم يدركوا أن الراسخين لا يحق لهم تأويل الآية أيضاً، وإذا لم نعرف التأويل فيكفي أن نعرف المعنى وما تدل عليه الآيات والذي يريد أن يتلاعب بالقرآن سوف نفضحه.(18/36)
يقول الراوي في هذا الباب في الحديث الثاني: قال رسول الله: إن محمداً ورث علم من كان قبله من الأنبياء المرسلين، وهذه مخالفة صريحة لما جاء في القرآن؛ لأن القرآن نزل على النبي بعد الأربعين من عمره، ويقول الله له في سورة الشورى: ?مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الْأِيمَانُ?، وقال في سورة القصص الآية 86: ?وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ?، والنبوة لا تورث أصلاً، وهي تفضل إلهي وتكون عن طريق الوحي لا عن طريق الإرث، وإلا فعن من ورث سيدنا آدم عليه السلام النبوة؟ إن الراوي الوضاع لم يعرف كيف يضع! لا بد أن يقول إني ورثت لا أن محمداً ورث، على كل حال الراوي الجاهل صنع ما شاء، ولكن العجب من مدعي العلم والاجتهاد أن يقلدوا في الأصول والفروع الكليني الذي بضاعته قليلة.(18/37)
يقول في الحديث الثالث: إن محمداً ورث سليمان، وإنا ورثنا محمداً، كيف ورث محمداً - صلى الله عليه وسلم - من سليمان حيث قاس الإمام الصادق على نفسه وقال إنا ورثنا محمداً؟ والإسلام لم يبن على القياس، هل كان محمداً - صلى الله عليه وسلم - ابن سليمان؟ هل وصلت نبوة سليمان إلى محمد - صلى الله عليه وسلم - بالإرث؟ لقد دام كتاب كافي بخرافاته هذه طوال ألف عام بين أيدي الأمة، ولم يقم أحد ليدرسه، ويدقق فيه كي يرى ما جمع الكليني في كتابه من خرافات! بل ازدادوا تقليداً على مر الأيام، وفضلاً عن هذا سمع الراوي في هذا الحديث والحديث الرابع هذه الأكذوبة واستغرب وسأل الإمام أهو العلم؟ فأجابه الإمام: ليس هذا هو العلم، بل هو شيء يحدث لنا يوماً بعد يوم وساعة بعد ساعة، ذلك العلم الذي يأتيه ساعة بعد ساعة، هل هو شيء أعلى من الوحي؟ لأنه قال عن العلم الذي وُرِّث من الأنبياء ليس علماً والعلم الذي يصله يوماً بعد يوم... هو العلم، هل يجوز التلاعب بعقول الناس، هل هناك أخبث من هذا التلاعب بالإسلام؟ هل يمكن للإمام أن يقول مثل هذا، وهنا مجّد الإمام نفسه كثيراً، وجعل نفسه خيراً من الأنبياء وأعلى مقاماً في الرواية السابقة، هل يصح هذا، مع أن الإمام نفسه إذا لم يؤمن بالأنبياء الذين ذكرهم لا يكون مسلماً.
باب: أن الأئمة عندهم جميع الكتب التي نزلت من عند الله وأنهم يعرفونها على اختلاف ألسنتها
روى في هذا الباب حديثين قال المجلسي بضعف الأول وأن الثاني مجهول، نعم فمن رواتهما سهل بن زياد الكذاب، وبكر بن صالح وهو لا نظير له في سرد الروايات التي لا واقع ولا صحة لها، ولا اعتبار لأخباره.(18/38)
وأما متنهما فهما على خلاف الواقع، ويخالفان القرآن، يقول في الحديث الأول: قال الإمام: إن الله لا يجعل حجة في أرضه يُسأل عن شيء فيقول: لا أدري، مع أن رسول الله كان حجة وكم سئل وأجاب: لا أدري، واصبروا حتى ينزل الوحي، وكم قال في القرآن: (ما أدري) و(إن أدري)، وقال الله له: (ما أدراك) و(ما يدريك). وقال في الخبر الثاني: كنا عند الإمام وأردنا أن نستأذن، ثم سمعناه يتكلم بكلام غير عربي، ثم بكى الإمام وبكينا نحن، يا عجباً، لم يسأله أحد لماذا بكيت إذا كنت لا تفهم شيئاً! ويستنتح الكليني من هاتين الروايتين أن الإمام يعرف اللغات جميعاً، مع أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يعرف اللغة العبرية (لغة اليهود في المدينة)، كما جاء في سورة البقرة الآية: 104 قال اليهود راعنا، لم يفهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - قصدهم، فقد أرادوا الإساءة إليه حتى نهى الله عن ذلك وقال: ?لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا? إذا عرف سليمان منطق الطير فلا علاقة للأنبياء الآخرين بذلك؛ لأن الأمور الدينية لا تثبت بالقياس، والرسائل التي أرسلها النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الناس للدعوة الإسلامية كانت باللغة العربية.
باب أنه لم يجمع القرآن كله إلا الأئمة وأنهم يعلمونه كله
روى في هذا الباب ستة أحاديث، ضعف المجلسي خمسة منها، ونحن نضعفها كلها؛ لأن فيها رواة متهمين، كمنخل الغالي والضعيف الذي كان يبيع العبيد، ومحمد بن سنان وهو من الكذابين المشهورين ومن الغلاة، وكسهل بن زياد، وقد لُعن من قبل الإمام، وكعلي بن حسان المغالي الباطني الكذاب، وكعبد الرحمن بن كثير فاسد المذهب، وقد اجتمع في هذه الروايات كل العيوب والمفاسد التي انتثرت في غيرها.
وأما متن هذه الروايات فمن شأنها كلها نسف الدين وتخريبه.(18/39)
يقول الراوي في إحدى الروايات –نعوذ بالله- لم يجمع القرآن أحد بل لا يعلمه أحد إلا علي بن أبي طالب، يريد أن يقول أن الكتاب الذي بين أيدي المسلمين لا يحوي كل الآيات وهو ناقص؛ لأن علياً لم يجمع ذلك، وقرآن علي رضي الله عنه اختفى أيضاً وبقي لدى الأئمة ولم يظهروه لأحد، ولا يعلم ذلك إلا حفنة من الكذابين كسهل بن زياد، وعلي بن حسان، مع أن الله نص على حفظ القرآن في عشرات الآيات، وتعهد الله تعالى أن يحفظ القرآن من الزيادة والنقص، قال تعالى: ?إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ?، وقال تعالى: ?إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ?.
باب: ذكر الصحيفة والجفر والجامعة ومصحف فاطمة
أشكر الله أن الرواة الكذابين جعلوا علم الإمام من الأمور المذكورة في هذا الباب هنا، يعني من مصحف فاطمة، ومن الصحف الأخرى من الجفر والجامعة، وهذا تكذيب ضمني للأخبار الواردة في الأبواب الأخرى، التي قالت بأن علم الإمام بالإلهام أو بالوحي أو بالوراثة، وإن كان الرواة لم ينتبهوا إلى ذلك لشدة جهلهم مع أن رواة هذا الباب إما مجهولو الحال كعبد الله الوضاع، أو الشاك كأحمد بن محمد البقي، أو كعلي بن الحكم راوي سلسلة الحمار، وكأحمد بن أبي بشر الواقفي وأمثالهم.
وأما متونها: فالحديث رقم(2)يقول: جاء الملك إلى فاطمة رضي الله عنها ليؤنسها، وحدثها، مع أن الشيخ مفيد ادعى الإجماع بأنه لا يوحى لأحد بعد خاتم الأنبياء، وقال علي في نهج البلاغة في خطبة رقم 131: (ختم الوحي به)، ومعنى خاتم النبوة معني قطعت الأخبار من السماء، وذُكِرَ هذا الباطل في الحديث الخامس أيضاً.
باب: أن الأئمة يعلمون علم ما كان وما يكون، وأنه لا يخفى عليهم شيء(18/40)
روى في هذا الباب ستة أحاديث يعد المجلسي خمسة منها ضعيفة ومجهولة، وأحد رواتها إبراهيم بن إسحاق الأحمر النهاوندي الفاسق المبتدع، وقد ضعفه علماء الرجال وسموه من الغلاة، والآخر سيف التمار الذي تخالف أخباره القرآن، والآخر أحمد بن محمد البرقي الشاك في الدين، و الآخر محمد بن سنان وهو من الكذابين المشهورين ومن الغلاة، والآخر يونس بن يعقوب الفطحي المذهب، والآخر سهل بن زياد الكذاب.
ماذا يتوقع من رواة كهؤلاء سوى ضرب الإسلام والكيد له والغلو في أشخاص ذوي سيرة حسنة لاصطياد السمك في الماء بعد تعكيره بترهاتهم.
روى هؤلاء عن الإمام الصادق في الحديث الأول: أن جماعة من الشيعة أتو إلى الإمام –والله أعلم أنهم كانوا من هؤلاء الغلاة- قال سيف التمار عن الإمام: لقد جعلوا علينا جاسوساً –ربما كان هذا سيف التمار نفسه- ولكن سيفاً يقول نظرنا يميناً وشمالاً، فلم نر أحداً. وقلنا: لا يوجد جاسوس. فتبين لنا أن الإمام تكلم خلافاً للواقع وبلا علم.
فحلف الإمام ثلاث مرات برب الكعبة بأنه أعلم وأزكى من موسى والخضر عليهما السلام؛ فهما قد أعطيا علم ما كان ولم يعطيا علم ما سيكون وما هو كائن إلى يوم القيامة، ولكنه (أي الإمام) أعطي ذلك إرثاً عن رسول الله.
لا بد أن نسأل سيف التمار:
أولاً: إن الإمام الذي لم يعلم شيئاً عن الصحابة وتكلم على خلاف الواقع بأن هناك جاسوساً مع أنه لم يكن ثمة جاسوس فأنى لذلك الإمام أن يعلم ما كان وما سيكون إلى يوم القيامة؟!(18/41)
ثانياً: من أين عرفتم أن موسى والخضر كان لهما علم ما كان، وموسى عليه السلام نفسه لم يدّع هذا، ولم يعلم بما كان حيث وجوده في الطور ولم يعرف عن عبادة قومه للعجل. فيقول الله تعالى: ?قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ? ولما رجع من الطور ووجد أن قومه قد فتنوا بالشرك غضب جداً وقال لهم: ?بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي? حتى إنه لم يعلم أن أخاه لم يقصر في نصحهم فأخذ بلحيته ورأسه، ولم يعرف أنه منعهم من عبادة العجل حتى قال له هارون: ?إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ? ثم اختار موسى من قومه سبعين رجلاً لميقات جبل الطور ولكنهم جميعاً كانوا ممن غضب الله عليهم.
وأمثال هذا كثير...ويستفاد من القرآن الكريم أنه عليه السلام لم يعلم بما كان.
وانتبهوا إلى الحديث الثاني: كيف أحاط عدد من الشيعة الخرافيين بالإمام من أمثال حارث بن المغيرة وعدد من الناس المجهولين وسمعوا أن الأمام قال: أنا أعلم ما في السماوات وما في الأرض، وما في الجنة وما في النار، وما كان، وما سيكون، ثم مكث الإمام برهة ورأى أن هذا الكلام قد كبر على المستمعين ولم يصدقوه فقال: لقد تعلمت هذا العلم من كتاب الله حيث يقول الله عز وجل: (وفيه تبيان كل شيء).
أولاً: لا بد أن يقال إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي هو أعلى من كل إمام لم يدّع شيئاً كهذا. ويقول الله سبحانه له في سورة الإسراء: ?وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً?، ورسول الله نفسه يقول في دعائه: إلهي أنت العالم وأنا الجاهل.
ثانياً: قال الإمام: تعلمت كل هذه العلوم من كتاب الله. ثم قرأ الآية خطأ.(18/42)
هذه الآية التي ذكرها الإمام: (فيه تبيان كل شيء) في سورة النحل الآية89 حيث قال الله تعالى: ? وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْء? فظاهر أن الآية ليست كما ذكر: (فيه تبيان كل شيء) فهل يعقل أن يكون الإمام الصادق جاهلاً بالقرآن إلى هذه الدرجة فقرأ الآية خطأ؟!... ثم يكون فوق ذلك عالماً بما في السماوات والأرض. إذن من المؤكد أن هذا الكتاب من صنع رواة الكليني.
باب: ما نص الله ورسوله على الأئمة واحداً فواحداً
روى في هذا الباب 16 حديثاً ضعف المجلسي 12 منها أو قال بجهالتها. ورواة هذه الأحاديث الستة عشر هم كسهل بن زياد الكذاب، وعلي بن أبي حمزة البطائني الواقفي الذي اختلس أموال موسى بن جعفر وسرقها، وأبي الجارود الذي أسس مذهب الجارودية ولعنه الأئمة، أو رواة مجهولي الأحوال، ورواة خرافة.
وأما المتن: فقد استدل الإمام بآية في سورة النساء الآية 59 أن أولي الأمر قد نزلت في الحسن والحسين، وقد كشفنا ما بها من كذب في باب أن الإمام يعرف الإمام الذي يكون من بعده فليرجع إليه. إضافة إلى أن الآية 83 من نفس السورة تثبت من هم أولو الأمر ولا حاجة إلى الروايات.
واستدل في الحديث الأول من هذا الباب على إمامة علي وأولاده من قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (من كنت مولاه فعلي مولاه).
وليس في ذلك أية دلالة على الخلافة والإمامة. والمقصود من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - هو محبة علي بقرينة موالاة من والاه ومعاداة من عاداه... وتتمة هذا الحديث: أوصيكم بكتاب الله وأهل بيتي فإني سألت الله عز وجل أن لا يفرق بينهما حتى يوردهما على الحوض. نقول: فليكن ذلك.
ولكن الكليني ورواته ملؤوا كتابهم بالقول عن أهل البيت بالروايات التي تخالف القرآن حيث باعدوا بين دين أهل البيت ومسلكهم عن القرآن نهائياً. ويظهر أن هؤلاء لا يؤمنون إطلاقاً بعبارة: (لا يفرق بينهما).(18/43)
إضافة إلى أن أهل البيت تعني الأسرة، وتدخل فيها أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم -، واستدل في هذا الحديث على إمامة على والحسين رضي الله عنهما بآية التطهير. وهنا نحن نورد الآية ونفسرها لنبين الأمر للقارئ... ولقد فهمنا من هذا الباب أن هناك عدداً من الذين لا يرغبون بالإسلام أرادوا أن يسقطوا القرآن من الاعتبار فنصبوا إماماً خيالياً نسبوا إليه ما تهوي أنفسهم فجعلوا هذا الإمام أعلى مقاماً من القرآن والرسول، فقالوا إن القرآن والإسلام كله ليس شيئاً بل أن وجود الإمام هو كل شيء، وذلك أنه يفيدهم هم وحدهم.
كما هو واقع زماننا حيث يقول الروحانيون في زماننا على المنابر ويرفعون القرآن بأيديهم ويقولون: (يا أيها الناس لا يساوي هذا القرآن قرشاً بلا علي).(18/44)
ويقولون بناء على باب أن القرآن يهدي للتي هي أقوم يعني يهدي إلى الإمام ويهدي إليه فقط، وأما آية التطهير في سورة الأحزاب فإنها تقع بين آيات تتعلق بأزواج رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقد قال الله تعالى في الآية 28: ?يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ...? وقال بعد ذلك في الآية 30: ?يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ ...?، وقال في الآية 31: ?وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحاً...? حتى يصل إلى الآية 32 قائلاً: ?يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ? إلى آخر الآيات، وليست آية التطهير كما توهم الغلاة، فقد ظنوها آية مستقلة بينما هي ليست كذلك، وهي جزء من الآية التي تتعلق بنساء النبي - صلى الله عليه وسلم - ... إذاً فجميع ضمائر الجمع المؤنثة تعود إلى أزواج النبي وهن المخاطبات.
إذن هؤلاء لم يفهموا الآية فهماً صحيحاً حيث أثبتوا العصمة من خلالها ووقعوا في خطأ كبير.(18/45)
فهذه الآية التي تتعلق بنساء النبي وسائر أهل البيت يريد الله منهم أن يتطهروا ويجعلوا أنفسهم طاهرين باختيارهم لا رغماً عنهم يجعلهم معصومين ومطهرين كالحجر بل على أهل بيت النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يبعدوا أنفسهم عن التلوث ويجعلوا أنفسهم نظيفين بطهارة البدن والخلق... وهذا ما أراده الله منهم؛ لأنهم فضلاً عن كونهم مؤمنين يتصلون بسمعة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
وكما تقدم فإن هذه هي إرادة الله من كل مكلف سواء كان نساء النبي أم أصهاره أم ذريته، وكما أراد الله الطهارة من علي فقد أرادها من عائشة وخديجة وأم سلمة... إذن هذه الآية لا تختص بعلي وفاطمة، إضافة إلى أن جميع الضمائر في الآية مؤنثة إلا الضمير الوسط في جملة: ?إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس...? هذا الضمير مذكر لدخول النبي - صلى الله عليه وسلم - في أهل البيت، وخاطبهم الله جميعاً، وغلب الضمير المذكر على المؤنث كما جاء في سورة هود الآية(73)مع أن المخاطبة هي زوج إبراهيم عليه السلام، ولكن الله خاطبها بالضمير المذكر، لماذا؟ لوجود زوج إبراهيم عليه السلام مع إبراهيم نفسه كما قال تعالى: ?وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ?.(18/46)
قال الله تعالى في هذه الآية: ?عليكم أهل البيت? مع أن المخاطبة هي زوج إبراهيم. وجاء الضمير مذكراً بسبب وجود إبراهيم هناك. وكذلك الأمر في هذه الآيات التي تتعلق بنساء النبي - صلى الله عليه وسلم - وأهل بيته. بالإضافة إلى أنه لا يمكن غض البصر عن فصاحة القرآن ويستحيل ربط آياته بأحاديث موضوعة لأن الآية التي وردت فيها كلمة أهل البيت هي أول الآية، والآيات السابقة واللاحقة كلها تتعلق بنساء النبي، وعلي رضي الله عنه له بيت مستقل وأهل بيت مستقلين لا يمكن أن نعتبره من أهل البيت هنا، ولا بد من الإنصاف والبعد عن التعصب.
وإذا قلنا بالعصمة في آية: ?يريد ليطهركم? فلا بد لنا أن نقول بعصمة جميع المؤمنين بدليل ما جاء في 6 من سورة المائدة حيث ورد فيها: ?يريد ليطهركم? فيصبح المؤمنون كلهم معصومين! إضافة إلى أنه لا فضيلة للعصمة الذاتية التي تكون من إرادة إلهية تكوينية تستحيل معها المعصية... وإن كل حجر ومدر يكون معصوماً بإرادة الله التكوينية.
فتبين إذن أن الله شاء الطهارة ورفع الرجس عن جميع أسرة النبي وأهل بيته سواء في ذلك زوجاته أو صهره أو بنته، ولا يمكن لعاقل أن يقول إن الله لم يشأ الطهارة والنظافة من زوجات رسول الله بل أرادها فقط من صهره وبنته.(18/47)
وصانعوا المذاهب هؤلاء استدلوا في هذا الحديث بآية 6 من سورة الأحزاب أو الآية 75 من سورة الأنفال: ?النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ ...? سورة الأحزاب 6 وهذه الآية لبيان الإرث كما ذكر عامة الفقهاء والمحدثون، لما آخى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين المهاجرين والأنصار في أول الهجرة وجعل بينهما الأخوة التي توجب الإرث حتى نزلت الآية: ? وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ? وهكذا أصبح أولو الأرحام والقرابة أولى بالإرث من الأخوة التي حدثت بينهما (المهاجرين والأنصار).
أما سهل بن زياد ويونس الكذاب فقد استدلا بهذه الآية أن الإمامة تورث من الأب إلى الابن، على سبيل المثال تصل الإمامة من زين العابدين علي بن الحسين إلى الإمام محمد الباقر.
إننا لا ندري لماذا حرف هؤلاء القرآن؟ ولماذا جعلوا الآية خاصة بإرث الإمامة؟ وإذا كانت الإمامة تورث حقاً لوجب أن تقسم بين جميع أبناء الإمام ولا تخص واحد منهم.
أما إذا كانت بتعيين من الله كما يقولون؛ فإنها لا تتعلق بالإرث إطلاقاً.
فانظروا كيف لعب صانعوا المذاهب بالقرآن في هذا الحديث إذ يقولون: إن هذا التأويل صار هو المعتمد منذ استشهاد الإمام الحسين فما يليه لا قبله. وانظروا كيف تجاوزوا حد تأويل الآيات التي يقول الله بشأنها: ?مَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ?.(18/48)
وفي الحديث الثالث: استدل معلى بن محمد المغالي، وأحمد بن البرقي الشاك في الدين، وراو مجهول آخر، استدلوا لقول الإمام بآية: ?إنما وليكم الله والذين أمنوا? وجعلوها خاصة بعلي وأولاده، وادّعوا أن الولي بمعنى الأولى والأحق بينما الولي في هذه الآية تعني الولاية والمحبة بدليل القرائن السابقة واللاحقة. وارجعوا إلى القرآن، فقد قال تعالى: ?لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَولِيَاء... إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا...? جاء هؤلاء الرواة الذين نعرف أحوالهم ورووا في هذا الحديث أن علياً كانت له حلة تساوي ألف دينار، وقد أتاه مَلَك في هيئة سائل في مسجد رسول الله وطلب إليه أن يعطيه فأعطاه إياها وقد أنزل الله في وصفه هذه الآية: ? وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ?.
ولا بد إذن لأولاد علي (ويعني بذلك الأئمة) الأحد عشر أن يعطي كل واحد منهم في ركوعه زكاة للملائكة لتثبت إمامتهم ويتصفوا بصفة علي في تلك.
لاحظوا الآن: إن هؤلاء الوضاعين لم يكونوا لينتبهوا: وهل تتنزل الملائكة على الأئمة؟ هل ينزل جبريل بعد رسول الله على أحد؟ وهل تحتاج الملائكة إلى الزكاة؟ وهل لبس علي حلة ثمينة كتلك التي قالوا إنها تساوي ألف دينار؟
لقد وضع هؤلاء الروايات، وكذبوا، ورموا ثم تركوا المسلمين يتخبطون في الحيرة والخلاف وأغرقوهم في الخرافات عندما قالوا إن إمام المسلمين قد أعطى الملائكة حلة تساوي ألف دينار، وقد قال بذلك عدد من صانعي المذاهب وصدقوه.(18/49)
في الحديث الرابع إلى السادس: استدل أبو الجاورد (يعني مؤسس مذهب الجارودية والسخوبية) والذي لعن من قبل الأئمة وقال الإمام عنه إنه أعمى الظاهر والباطن. نقول شخص كهذا استدل بالآية 67 من سورة المائدة: ?يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ? يقول إن الله تعالى أمر رسوله أن يبلغ ولاية علي رضي الله عنه. ونحن سوف نشرح الآية لننشر طوية هؤلاء:
إنهم يقولون: عندما قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - وصحابته تلك التضحيات في بدر، وأحد، والخندق، وخيبر، وفتح مكة، وغيرها وجاهدوا في كل تلك الحروب، وقدموا فداءً كبيراً من الأموال والأنفس حتى فتحت مكة؛ بعد هذا كله وفي آخر حياة الرسول مع المهاجرين والأنصار الذين أثنى الله عليهم في مواطن كثيرة من القرآن.. وفي طريق عودتهم إلى المدينة في غدير خم (وهي موضع بين مكة والمدينة) أنزل الله الآية الآنفة الذكر: ? يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ ...? وكأن الله تعالى يقول فيها لرسوله يا رسولي لا تخف من أصحابك لأنهم جميعاً كفرة ومرتدون، وليسوا أهلاً للهداية، والله يعصمك من شرهم، وبلغ أمر ولاية علي عليه السلام وخلافته.
أنزل الله هذه الآية في حق أصحاب النبي، بدل أن يقول لهم إن الله تقبل أعمالكم وشكر سعيكم في حجكم، ولكن قال لهم: بلغ يا رسول الله من أنزل إليك من ربك بشأن خلافة علي، وإن لم تفعل فما بلغت رسالته، والله يعصمك من هؤلاء الكفار المنافقين والله لا يهدي هؤلاء الكفار يعني أصحابك، بهذا تم شرح الآية حسبما تأولها الكذابون.
الآن: لا بد أن نسأل: من هم الكفار في هذه الآية الذين حفظ الله رسوله منهم؟(18/50)
هل هم أصحابه الذين حجوا معه، وبذلوا أرواحهم، وضحوا معه بكل شيء، ثم يوصفون بعد ذلك بأنهم كفرة؟ أليس هذا بعيداً عن إنصاف الله وعدالته؟
ثانياً: يقولون إن الله قال: بلغ من أنزل إليك من خلافة علي فقولوا لنا: ما هي تلك الآية المتعلقة بخلافة علي، وأمر رسول الله بتبليغها ثم عصى ربه ولم يبلغها؟
لقد وعظهم هناك ساعة أو أكثر، وكان يقول: (من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه) ثم لم ينطق شيئاً بشأن الخلافة ليس في القرآن آية كهذه. فعليكم أيها الرواة إما أن تتلوا علينا الآية التي نزلت بشأن الخلافة أو أن تضربوا الصفح عن هذه الروايات التي جاء بها أبو الجارود الملعون، وسهل بن زياد.
وكيف يخاف النبي في هذه المواطن وهو الذي لم يعرف الخوف أبداً ومنذ اليوم الأول لرسالته... كيف يخاف أخيراً وفي إمرته سبعون ألفاً من المسلمين مستعدون للجود بأنفسهم وأرواحهم في سبيل الدعوة. ثم هل هذه الآية 67 تتعلق بكفر أصحابه؟ الجواب: لا، قطعاً بدليل القرائن السابقة واللاحقة؛ فإن هذه الآيات تتعلق بكفر اليهود، والنصارى، ودولة الروم، حيث نزلت هذه السورة في محاربتهم، وكل آياتها في سورة المائدة. ومن جملتها يقول الله لرسوله: ? بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ? وبعد ذلك مباشرة في الآية 68 يقول: ? قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ ...? يعني ليس هناك فصل في سياق القرآن بين أمر الله بتبليغ الرسالة والرسالة نفسها.
وكذلك في سائر الآيات قبل وبعد هذه الآية، حيث كلها تتعلق بكفار اليهود والنصارى، ليس هناك كلام عن الولاية، ونحن وضحنا ذلك في كتابنا(قبس من القرآن) فليرجع إليه القارئ الكريم.
والآن هل من الممكن إثبات أصل من أصول الدين (يعني الإمامة) بالإسناد إلى الأخبار التي جاءت من قبل الكذابين على الرغم من مخالفتها للقرآن صراحة؟ فهل الإسلام دين بهذا الوهن؟!(18/51)
وفي الحديث الثامن: روى عدد من الغلاة و مجهولو الهوية: أن الإمام الصادق ستدل على خلافة علي بالآية 92 من سورة النحل وحرّف الآية وقرأها هكذا: (ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً تتخذون أيمانكم دخلاً بينكم أن تكون أئمة هي أزكى من أئمتكم) بينما الآية في حقيقتها وفي كل المصاحف المتواترة: ?أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّة? ولكن رواة الكليني حرفوا الآية عن قول الإمام وقرؤوها: (أن تكون أئمة هي أزكى من أئمتكم) ووقعوا في الخطأ؛ لأن الأئمة جمع إمام، ولا يمكن أن يعود إلى ضمير المؤنث (هي أزكى) لأن الأئمة ليسوا جمع مؤنث ولا بد أن يقال (هم أزكى) وبهذا وغيره عرف هؤلاء الرواة أنفسهم وأئمتهم بأنهم جهال مخربون مفترون على القرآن.
يقول في هذا الحديث: قال الراوي للإمام نحن نقرأ بناء على ما ورد في جميع المصاحف: ? أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّة? فأجاب الإمام إشارة بيده ...أن اتركوه.
فهل هذا إمام حقيقة؟! ويقول الإمام أيضاً في هذه الآية في الجملة التالية: (إنما يبلوكم الله به) يعني علي. وفي الآية التالية: (ولا تتخذوا أيمانكم دخلاً بينكم فتزل قدم بعد ثبوتها) يعني بعد مقالة رسول الله في علي وتذوقوا السوء بما صددتم عن سبيل الله، يعني علي.
والمعنى أنهم يريدون أن يقولوا إن كل هذه الآيات تختص بعلي وتلصق به قسراً.
وإن الجهلة ليصدقون كل ما يقال ... إلا أن الرواة الكذابين لم ينتبهوا إلى أن هذه الآيات في سورة النحل وهي مكية نزلت في مكة ... وفي مكة لم يكن هناك نقض لعهد الإمامة والأئمة حتى نزلت هذه الآيات. ألا لعنة الله على الكذابين الوضاعين.(18/52)
والعجيب حقاً من الكليني أنه حرف ولم ينتبه إلى أن الآية 89 من سورة الزخرف ليست (فسوف تعلمون)، بل هي: ?فَسَوْفَ يَعْلَمَوُن? بصيغة الغائب والواقع أن هؤلاء الرواة لم يفرقوا بين المخاطب والغائب، وأرادوا أن يظهروا الإمام بمظهر من لم يطلع على القرآن فنقلوا هذه الآية محرفة عن الإمام.
والآيات السابقة واللاحقة التي أوردوها في السور المكية لا تتعلق أبداً بخلافة علي ولا بسائر الخلفاء ولكنهم كذبوا لخداع العوام، ومن جملة ذلك يقول الله في سورة الحجر الآية 97: ?وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ? ففسر هؤلاء الرواة الكذابون ذلك بقولهم يعني يضيق صدرك بما يقولون عن خلافة علي.
وكذلك أتى بآيات 8-9 من سورة الانشراح، وهي سورة مكية لتأييد فكرة خلافة علي، وقرأ الآية خطأ لكي يستفيد منها في دعوى خلافة علي، فهم يقولون إن الآية ليست: ?فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ?. بل هي (فانصِب) بفتح الهمزة وكسر الصاد من باب الإفعال، يقولون أن هذا يعني إذا فرغت من رسالتك فانصب علياً للخلافة، مع أن (فانصب) من الثلاثي المجرد، وهمزتها همزة الوصل ولا تقرأ، والصاد مفتوحة لا مكسورة، والتفسير الصحيح لها هو إذا فرغت من العبادة فانصب نفسك لهداية المشركين، وهذه السورة مكية ولا علاقة لها قط بالفراغ من الرسالة ونصب الخلافة، ولكن هؤلاء الرواة عديمو المعرفة بالله يسعون إلى استخراج حكم الخلافة والخليفة من القرآن كذباً وزوراً.
فبالله عليكم انظروا كيف يجهل هؤلاء الرواة وقائع التاريخ إضافة إلى كل خرافاتهم، ويقولون أيضاً أن النبي - صلى الله عليه وسلم - عندما عرف ولاية علي في الغدير قال له أرسل رجلاً إلى حرب خيبر يكون محباً لله ولرسول، ولقد جهل هؤلاء المغفلون أن غزوة خيبر كانت في العام السابع وقصة الغدير كانت في العام العاشر الهجري.(18/53)
بعد ذلك يقولون: بينما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخطب خطبة الغدير (أو بعدها بقليل) نزلت آية الخمس، وبيَّنها للناس، مع أن آية الخمس نزلت في غنائم بدر في العام الثاني للهجرة، ولا يتعلق بعلي أصلا. وبعد هذه الآية أردف الوضاعون قولهم عن الآية 23 من سورة الشورى حيث قال الله: ?قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى? يعني: قل لا أطلب أجراً لرسالتي إلا المودة في التقرب إلى الله، والآية الشريفة لا تتعلق بعلي رضي الله عنه، ولقد توهم هؤلاء الوضاعون ذلك فحرفوا الآية وقالوا: (ذي القربى) مع أن ما ورد في الآية هو: ? فِي الْقُرْبَى? لا ذي القربى، ولكنهم بدلوا الكلمات حسب أهوائهم، ويقولون: إن المعني بذي القربى هو علي رضي الله عنه، مع أنه لم يرد في أية لغة: ? فِي الْقُرْبَى? بمعنى: ذي القربى، إضافة إلى أن هذه السورة وآياتها نزلت في مكة، وكفار مكة لم يقبلوا رسالته حتى يطلب منهم لله خمس ثروات الأرض كأجر لرسالته لأقربائه والمنسوبين إليه! هذا ما فعلوه بشأن التحريف المعنوي حيث تلاعبوا في كثير من الآيات التي لا يفهمها سوى أهل القرآن وليس الغلاة المتعصبون، فقد توهم هؤلاء الرواة أن الآيات المكية مدنية وعارضوا القرآن بقدر ما استطاعوا إليه ذلك سبيلاً.
باب: في ما جاء أن حديثهم صعب مستصعب(18/54)
روى في هذا الباب خمسة أحاديث، عد المجلسي أربعة منها ضعيفة، والآخر مرسل، وفيه رواة كمحمد بن سنان الكذاب، والبرقي الشاك في الدين وأمثالهما، ونحن نقبل متنها؛ حيث أن الإمام قال: حديثنا صعب مستصعب، ولكن ما يثير العجب من علماء زماننا أنهم يقولون إن القرآن وآياته مشكل وظني الدلالة، ولا بد أن يعرض على أحاديث الأئمة ويجب قبول ما قاله الأئمة في أحاديثهم في تفسير القرآن، مع أن الأئمة قالوا حديثنا صعب مستصعب والقرآن سهل بين؛ حيث قال الله مراراً في كتابه العزيز: ?ولقد يسرنا القرآن? ?هدى للناس?، ?وبيان للناس?، ?وهدى وموعظة?، ?وهذا بلاغ للناس?، ?هذا بصائر للناس وهدى ورحمة?، وغيرها كثير بحيث يستطيع أن يفهم القرآن أبسط الناس، يعني يمكن أن يفهموه بالتدبر، ولكن أحاديث الأئمة حسب قولهم لا يفهمها سوى الأنبياء والملائكة والمؤمن المتحقق فقط!
إذن من أجل أن نفهم القرآن يجب أن نرجع إلى أحاديث الأئمة، وهذا يعني الرجوع من السهل إلى الصعب، وهذا أمر باطل، ونكون كمن يبحث عن شيء في وضح النهار ثم يرجع إلى الذي يحمل بيده شمعة ليجده له. وأما الإشكال الوارد على هذه الروايات فهو إذا كان حديث آل محمد صعب ومستصعب إلى هذا الحد بحيث لا يفهمه سوى الأنبياء والملائكة فبقية الناس معذورون لأنه: ?لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا? ولم يطلب الله إلى العامة فهم الشيء الصعب، فيكون الناس معوقين عن ذلك.
ثانياً: إن دين الله سهل وميسر، وهذه الروايات لا تتوافق مع كتاب الله.
ثالثاً: يقول في الخبر الثاني: (والله لو علم أبو ذر ما في قلب سلمان لقتله) وهذا لا يصح أيضاً، وهو من اختلاق الرواة؛ لأن دين أبي ذر وسلمان دين واحد، وماذا كان في قلب سلمان ما يكون موجباً للقتل والتفكير؟ إذا كان موافقاً لكتاب الله فلا يكون موجباً للقتل والتكفير.(18/55)
يقول في الخبر الثالث: : إن الله أخذ العهد من الشيعة كما أخذ العهد من بني آدم. ويجب التساؤل: هل الشيعة من غير بني آدم؟
وفي الخبر الرابع: سألوا الإمام المهدي عن موضوع يخالف القرآن، وكان عليه أن يبين ذلك ولكنه لم يبينه وأجاب بشكل مبهم، وأما ذلك الموضوع الذي يخالف القرآن: هو أنه سئل ما معنى قول الإمام الصادق: (حديثنا لا يحتمله ملك مقرب، ولا نبي مرسل)! مع أنه في كلام الإمام الصادق كلمة (لا) والعبارة كما يلي: (حديثنا لا يحتمله ملك إلا ملك مقرب)، ولا يظهر الراوي أسقط كلمة أسقط كلمة [إلا].
وفي الحديث الخامس: تناقض، فهو يقول من جهة: (إن حديثا لا يحتمله لا ملك مقرب ولا نبي مرسل)، ومن جهة أخرى يقول: (من خلق من نورنا قَبِلَ حديثنا، ومن لم يخلق من نورنا لا يقبله) وهذا هو الجبر بعينه.
يجب القول إن رواة هذه الأخبار كانوا حفنة من العوام المغرضين، ولم يتقنوا حتى نسج الخرافات.
ويجب أن يقال للذين يدعون العلم في زماننا: أنتم الذين تجعلون الأخبار المشكلة قطعية الدلالة، وتجعلون آيات الله البينات ظنية الدلالة، ثم إن عملكم هذا لا يتوافق مع أخبار هذا الباب، ولكي يبعد هؤلاء الناس عن القرآن فهم يخترعون الأقوال ويتخذونها حججاً.
أبو الفضل بن الحسن بن حجة الإسلام السيد أحمد بن السيد رضي الدين بن السيد يحيى بن ميرزا ميران بن يحيى بن مير محسن بن مير رضى الدين بن السيد محمد بن مير فخرالدين من مير حسين بن بادشاه بن مير أبو القاسم بن ميره بن أبو الفضل بن بندار بن عيسى بن أبي جعفر محمد بن أبو القاسم بن علي بن علي بن محمد بن أحمد بن محمد الأعرج بن السيد أحمد بن موسى المبرقع بن محمد الجواد عليه السلام.(18/56)
طلبت العلم في قم عند آية الله الشيخ عبد الكريم الحائري اليزدي، وآية الله حجت كوه كمرة أي، وآية الله السيد أبو الحسن الأصفهاني، والحاج الشيخ محمد علي القمي، وميرزا محمد السامرائي، والحاج الشيخ عبد النبي الأراكي، والقاسم الكبير القمي، وآية الله شاه آبادي، وعدد من العلماء الآخرين.
وسأنقل هنا عدد من إجازاتي التي حصلت عليها كنموذج فقط:
نسخة إجازة آية الله كاشاني:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد الله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله وعلى آله الطاهرين المعصومين، وبعد:
فإن جناب العلم العادل حجة الإسلام والمسلمين السيد أبو الفضل العلامة البرقعي الرضوي قد صرف أكثر عمره الشريف في تحصيل المسائل الأصولية والفقهية حتى صار ذا قوة قدسية في رد الفروع الفقهية إلى أصولها، فله العمل بما استنبطه واجتهده ويحرم عليه التقليد فيما استخرجه وأوصيه بملازمة التقوى، ومراعاة الاحتياط، والسلام علينا وعليه وعلى عباد الله الصالحين.
الأحقر أبو القاسم الحسيني الكاشاني
الختم.
نسخة من إجازة آغا بزركك طهراني
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وكفى، والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا ونبينا محمد المصطفى، وعلى أوصيائه المعصومين الأئمة الاثني عشر، صلوات الله عليهم أجمعين إلى يوم الدين، وبعد:(18/57)
فإن السيد السند العلامة المعتمد صاحب المفاخر والمكارم، جامع الفضائل والمفاخم، والمصنف البارع، المؤلف الماهر، مولانا الأجل، السيد أبو الفضل الرضوي، نجل المولى المؤتمن السيد حسن البرقعي القمي دام فضله، وكثر في حماة الدين أمثاله، قد برز من رشحات قلمه الشريف ما يغنينا عن التقريظ والتوصيف، وقد طلب مني لحسن ظنه إجازة الرواية لنفسه ولمحروسه العزيز الشاب المقبل السعيد السديد السيد محمد حسين حرسه الله من شر كل عين فأجزتهما أن يرويا عني جميع ما صحت لي روايته عن كافة مشايخي الأعلام من الخاص والعام، وأخص بالذكر أول مشايخي وهو خاتمة المجتهدين والمحدثين ثالث المجلسيين شيخنا العلامة الحاج الميرزا حسين النوري المتوفى بالنجف الأشرف في سنة 1320 فليرويا أطال الله بقاءهما عني عنه بجميع طرقه الخمسة المسطورة في خاتمة كتابه مستدرك الوسائل والمشجرة في مواقع النجوم لمن شاء وأحب مع رعاية الاحتياط والرجاء من مكارمهما أن يذكراني بالغفران في الحياة وبعد الممات.
حررته بيدي المرتعشة في طهران، في دار آية الله المغفور له الحاج السيد أحمد الطالقاني، وأنا المسييء المسمى بمحسن والفاني الشهير بآغا بزركك الطهراني.
وقد أصدرت وزارة الثقافة (الإيرانية) بعد مراجعتها لشهادتي المتعلقة بالاجتهاد الشهادة التالية:
رقم 877 / 25019
وزارة الثقافة: تاريخ: 10 / 8 / 1329 هجري شمسي.
منهج المؤلف:
لقد دخل البرقعي خضم هذه المعركة بسلاحين اثنين، وكان فاقداً لأقوى سلاح في مثل هذا النوع من الجدل؛ كان يملك سلاح الفهم لكتاب الله، وسلاح العقل الفطري اليقيني، أما السلاح الذي كان فاقداً له فهو سلاح السنة النبوية الصحيحة.
استخدم المؤلف طريقتين اثنتين لفهم الكتاب:
أولاهما: جمع الآية بنظيراتها من الآيات؛ لما كانت القضايا كلية لا جزئية كان التوفيق حليفه وإلى جانبه.
أما الأمر الثاني: فهو التعامل مع الآية من خلال سياقها.(18/58)
و من المعلوم في هذا الباب أنه ما من آية في كتاب الله تعالى يحتج بها بدعي على بدعته إلا وفي الآية نفسها الدليل على بطلان عقيدته وبدعته.
أما السلاح الآخر فهو سلاح العقل الفطري اليقيني. فإن الدليل العقلي إذا ثبت صوابه كان دليلاً شرعياً ويجب المصير إليه والأخذ به.
وكان من استخدام هذا العقل الفطري وما ينشأ عنه من علوم صناعية صحيحة، أنه نقد رجال الكافي وفنّد أسانيده.
أما أسلوب الكاتب، فهو على ما حدثني الدكتور عن نفسية الشيخ، فهو أسلوب إثارة المقابل، واستفزاز العقل ليثأر لنفسه من التغييب والإقصاء، ولذلك أكثر الشيخ من طرح الأسئلة، ليلجئ القارئ إلى اختيار جواب وحيد لهذا السؤال، ولما كان الكتاب موجهاً ابتداءً إلى أهل ملته وقومه، فإنه اعتمد أسلوب الصدمة والإثارة، ليكشف هو الخطأ الذي هو فيه، وليحصل الاشمئزاز من هذا الدين الغريب، ولذلك قست بعض ألفاظ الشيخ وارتفعت درجة غليانها، وقد ينفر من هذا الأسلوب بعض من لا يقيم للحق شأناً مقابل زعم ضرورة الاحترام والتقدير للغير ومذهبه.
مقدمة المترجم
ونال درجة الاجتهاد في المذهب الجعفري الاثني عشري
وقد ظهر من قبله في إيران سيد أسد الله الخارقاني وآية الله شيعت سنغلجي وأحمد كسروي ودكتور شعار وسيد مصطفى طبطبالي، وكلهم كتبوا مقالات ومؤلفات في الرد على عقيدة الشيعة
وبما أن (الكافي) احتوى بعض الأحاديث الصحيحة أيضاً فإن المؤلف لم يتطرق إلى هذه الطائفة من الأحاديث، بل تناول بالنقد الأحاديث التي تخالف القرآن والعقل.(18/59)
الانتظار.. عُقدة أم عقيدة؟
سلمان بن فهد العودة- 31/03/2003
كتب إليّ أحد الأصدقاء سؤالاً عن قصة المهدي، وما يشاع في الإنترنت عن ظهوره، وعلاماته، والرؤى المتعلقة به، وزجّ باسمي في دهاليز هذا الموضوع.
وقد كتبت للأخ -في حينها- جوابًا؛ أبين فيه أن ما يشاع ليس له أصل، وإنما هي أشياء لا علاقة لها بالواقع، ولا تعدو أن تكون إشاعات مُبطلة، أو تمنيات من بعض النفوس اليائسة المُحْبَطَة.
ووعدته أني سوف أعالج هذا الموضوع؛ لأنه يُعبر عن معاناة تعيشها الأمة.
الانتظار في القرآن
فوائد وعبَر من القرآن والخَبَر
المهدي المنتظر في السُّنة والأثر
المهدي بين السُّنة والشيعة
أسلوب الهاربين والمحبطين والمنهزمين
ادعاءات أم وساوس؟!
بين الإفراط والتفريط
غياب مفهوم (التجديد) كبديل صحيح
الوصايا الأربع
الانتظار في القرآن
هذا الموضوع دعاني إلى مراجعة كلمة الانتظار في القرآن الكريم، وأعتقد أن هذا مسلكٌ حسن، أن نراجع كتاب الله تعالى، الذي فيه الهدى والنور كلما وقعت واقعة من مثل هذه القضايا، أو تداعت إلى النفوس، أو ظهرت ظاهرة تحتاج إلى علاج.
فنظرت في الآيات التي ذُكر فيها لفظ (الانتظار)، أو ما يماثله مثل: (التربص)، ونحوها؛ فوجدت أن الآيات التي تدور في هذا المعنى تنقسم إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول:
آيات جاءت في الوعيد بانتظار العقوبة للكافرين في الدار الآخرة، فيقول لهم النبي - صلى الله عليه وسلم -: (انتظروا) أو ما أشبه ذلك، كما في قوله تعالى في سورة السجدة: (وَيَقُولُون مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِن كُنتُمْ صَادِقِين * قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنفَعُ الَّذِين كَفَرُوا إِيمَانهُمْ وَلا هُمْ يُنظَرُون)، والمقصود بالفتح هنا -والله أعلم- يوم القيامة؛ أي : انتظر نهاية الأمر، وما وُعدوا به من البعث، والجزاء، والحساب، وهم ينتظرون هذا الأمر أيضًا.(19/1)
ومثله قوله تعالى في سورة الأنعام: (يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنفَعُ نفْسًا إِيمَانهَا لَمْ تَكُن آمَنتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانهَا خَيْرًا).
إذن: ينتظرون الساعة الكبرى التي إذا ظهرت علاماتها الواضحة الكبيرة، كطلوع الشمس من مغربها؛ لا ينفع نفسًا إيمانها، أو ينتظرون القيامة الصغرى التي هي موتهم؛ فإن الإنسان إذا مات قامت قيامته.
ولذلك نجد أن الآية دعت إلى العمل، وإلى الإيمان، وإلى الإصلاح قبل أن يحال بين الإنسان وبينه بالقيامة الكبرى، أو الصغرى؛ لأن قوله: (لَمْ تَكُن آمَنتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانهَا خَيْرًا) هو: حضٌّ وحثٌّ على العمل، وعلى الإيمان، وعلى أن تكسب خيرًا، قبل أن تصل إلى حالٍ لا تتمكن فيها من ذلك.
فالانتظار -هنا- ليس معناه أن تضع خدك على يدك، تنتظر شيئًا وتترقبه؛ بل معناه أن تسارع، وكأنك تسابق شيئًا تخشى أن يقع.
القسم الثاني:(19/2)
انتظار الوعيد بعقوبات في الدنيا، فإن الكفار -أحيانا- قد يستعجلون العقاب، على سبيل استبعاده والأمن منه، كما في قصة هود -عليه السلام- في سورة الأعراف، فإن قومه قالوا له: (أَجِئْتَنا لِنعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنذَرَ مَا كَان يَعْبُدُ آبَاؤُنا فَأْتِنا بِمَا تَعِدُنا إِن كُنتَ مِن الصَّادِقِين * قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِن رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونني فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَان) – إلى قوله – (فَانتَظِرُوا إِني مَعَكُمْ مِن الْمُنتَظِرِين)، فهم طلبوا العقوبة، واستعجلوها فقال لهم: (فَانتَظِرُوا)، وهكذا في سورة يونس: (فَهَلْ يَنتَظِرُون إِلا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِين خَلَوْا مِن قَبْلِهِم) أي بالعقوبات، والمثُلات، والنوازل، والمصائب؛ ولهذا يقول: (قُلْ فَانتَظِرُوا إِني مَعَكُمْ مِن الْمُنتَظِرِين)، وأيضًا في سورة هود: (وَقُلْ لِلَّذِين لا يُؤْمِنون اعْمَلُوا عَلَى مَكَانتِكُمْ إِنا عَامِلُون * وَانتَظِرُوا إِنا مُنتَظِرُون).
فانظر كيف جمع بين العمل والانتظار، وهكذا يكون الانتظار هنا لعقوبات الله تعالى التي تحل بالكافرين.
القسم الثالث:
انتظار آية من آيات الله تعالى، فالكفار كانوا يطلبون من النبي -عليه الصلاة والسلام- أن يأتيهم بآية من عند الله، فقد طلبوا أن يقلب لهم الصفا ذهبًا، أو أن يُسقط عليهم من السماء كِسفًا، ونحو ذلك من المعجزات، كما في سورة يونس: (وَيَقُولُون لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِن رَبِّهِ فَقُلْ إِنمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانتَظِرُوا إِني مَعَكُمْ مِن الْمُنتَظِرِين).
فوائد وعبر من القرآن والخَبَر
ونلاحظ في هذه الأنماط الثلاثة من الآيات فوائد مهمة جدًّا:(19/3)
الأولى: تفويض الغيب إلى الله -سبحانه وتعالى- في الأمور التي ينتظرها الإنسان؛ فنزول عقوبة من الله -سبحانه وتعالى- وقيام الساعة من غيب الله الذي لا يُظهِر عليه أحدًا إِلا مَن ارتضى مِن رَسُول، وهناك أمور من الغيب لا يعلمها إلا الله -عز وجل- فلا يعلمها مَلَك مقرَّب، ولا نبي مرسل؛ ولذلك فإن علم الغيب مما استأثر الله به، ولا يحل لأحد غير مَن أذن الله له أن يتقحَّمهُ بأية وسيلة من الوسائل.
وقد يجد الإنسان -أحيانًا- شعورًا نفسيًّا، أو أمرًا ينقدح في قلبه، وقد يُلهَم شيئًا، فيظن ظنًّا لكنه لا يجزم بشيء، وقد يرى رؤيا خيرٍ للمسلمين، أو رؤيا شرٍ لأعدائهم، لكن التعبير يظل ظنًّا، كما في سورة يوسف عليه السلام: (وَقَالَ لِلَّذِي ظَن أَنهُ ناجٍ مِنهُمَا)، فلم يجزم، وهو نبي يأتيه الوحي؛ ولم يقطع في تفسير الرؤيا بشيء، وإنما ظن ظنًّا.
وكذلك: الرسول -صلى الله عليه وسلم- لما حدَّثه رجل برؤيا رآها؛ فعبَّرها له أبو بكر ثم قال: فأخبرني يا رسول الله – بأبي أنت – أصبت أم أخطأت؟، قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: (أصبتَ بعضًا وأخطأتَ بعضًا)، قال: فوالله لتحدثني بالذي أخطأت؟ قال: (لا تقسم). متفق عليه.
فهذه التوقعات، والاحتمالات، والظنون، والآمال.. باب واسع؛ لكن لا تعطي الإنسان يقينًا بشيء من علم الغيب؛ ولهذا قال عز وجل في سورة يونس: (فَقُلْ إِنمَا الْغَيْبُ لِلَّه)؛ لأن الانتظار يتعلق بأمر مستقبَل.(19/4)
الثانية: الحث على العمل، والإصلاح، والمسارعة، وأن يسابق الإنسان قيامته الصغرى، أو قيامة الناس الكبرى، ليس بالانتظار، وإنما بالعمل الجاد المثمر، المبني على الأسباب الشرعية، والأسباب الطبيعية التي وضعها الله -سبحانه وتعالى- إننا لا نجد نصًّا في القرآن الكريم، ولا في أحاديث الرسول -صلى الله عليه وآله وسلم- يضعنا على قائمة الانتظار والترقب؛ بل حتى الساعة نفسها، فكل مؤمن يؤمن بها، ويعلم أنها قائمة، وقادمة لا ريب فيها، ومع ذلك فإننا لم نُؤمَر بترقبها، أو استعجالها؛ ولهذا روى الإمام أحمد في مسنده بسند صحيح عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (إن قامت الساعة، وبيد أحدكم فسيلة -وهي النخلة الصغيرة- فإن استطاع ألا يقوم حتى يغرسها فليفعل). إنه لم يقل: وأحدكم يصلي في ركعة، فليكملها، وإنما قال: (بيده فسيلة)؛ فقد يتبادر إلى الأذهان أن هذا أمر دنيوي، ومع هذا قال -صلى الله عليه وسلم-: (فإن استطاع ألا يقوم) أي من مكانه.
فالعمل الدنيوي المباح فيه أجر إذا كان بنيَّة صالحة، فكيف إذا كان هذا العمل فيه خير للعباد وفيه مصلحة لهم في دنياهم؟! كأن يُغيث ملهوفهم، أو يساعد ضعيفهم، أو يعطف على صغيرهم، أو يرفق بهم، أو يعين محتاجهم، أو يطعم جائعهم، أو يكسو عاريهم، فكيف إذا كان هذا العمل فيه مصلحة دينية أيضًا للعباد، بأن يهدي الضالين، والكافرين، أو يرشد المسلمين المنحرفين، أو يعلم الجاهلين، أو يجمع المتفرقين، أو يصلح الفاسدين فكم في هذا من الأجر والثواب.
بل إن في بعض روايات الحديث، كرواية البخاري في الأدب المفرد: (إذا سمعت بالدجال، وبيدك فسيلة)، فبعض الناس يترقبون مثل هذه الأشياء، فيولِّد عندهم هذا الترقب نوعًا من الكسل، والخمول، والانتظار الذي يجعل الإنسان يشعر أنه أمام صمت مطبق وقعود مخذل.(19/5)
إن المسألة مسألة عمل جاد؛ وقيمة العمل من أعظم القيم التي جاء الإسلام لتقريرها وترسيخها في النفوس.
وفي صحيح مسلم ذِكْر لحادثة لها دلالتها المهمة في هذا الباب، فعن يسير بن جابر قال: هاجت ريح حمراء بالكوفة، فجاء رجل ليس له هِجِّيرَى إلا (أي: ليس له شأن أو عمل إلا أن يقول): يا عبد الله بن مسعود، جاءت الساعة قال: فقعد وكان متكئًا -وهذه علامة اهتمام، وربما تكون علامة غضب وإنكار أيضًا- فقال: إن الساعة لا تقوم حتى لا يُقسَّم ميراث، ولا يُفرَح بغنيمة، ثم قال بيده هكذا ونحاها نحو الشام، ثم ذكر بعض الملاحم الكبرى التي تقع بين يدي الساعة، والتي هي من أشراطها.
لقد أنكر ابن مسعود هذا الهلع وسوء التقدير للأمر؛ لأنه العالم الحاذق الفَهِم اللَّقن الذي تلقى عن الرسول -صلى الله عليه وآله وسلم- وبيَّن له هذا المعنى، وأن الساعة لا تقوم حتى تقع هذه الأشراط التي أخبر بها الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.
المهدي المنتظر في السُّنة والأثر
ورد في شأن المهدي أحاديث، ربما تزيد على مائة، ما بين موضوع، وضعيف، وحسن، وربما يكون فيها الصحيح، وهو قليل جدًّا.
منها: حديث علي بن أبي طالب، مرفوعًا: (المهدي مِنَّا -أهلَ البيت- يصلحه الله في ليلة) رواه أحمد وابن ماجة، وحسّنه بعضهم، لكن سنده ضعيف، ففيه: ياسين بن شيبان العجلي، قال البخاري: فيه نظر؛ وهذه من ألفاظ الجرح عنده. وقال الذهبي: ضعيف. وقال أبو زرعة وابن معين : ليس به بأس.
وأبو سعيد الخدري -رضي الله عنه- جاء عنه ثلاثة أحاديث في هذا الباب، خرَّجها الحاكم، وخرَّج بعضها أبو داود، والترمذي، وابن ماجة، وأحمد، وغيرهم،
منها حديث: (يخرج في آخر أمتي المهدي)؛ وهو عند الحاكم وصححه، ووافقه الذهبي، وفي سنده اختلاف.
ومنها حديث: (المهدي مني، أجلَى الجبهة، أقنى الأنف، يملأ الأرض قسطًا وعدلاً كما مُلئَت جورًا وظلمًا، يملك سبع سنين) رواه أبو داود.(19/6)
ومنها عن ثوبان -رضي الله عنه- مرفوعًا: (إذا رأيتم الرايات السود خرجت من قبل خراسان فأْتوها ولو حبوًّا، فإن فيها خليفةَ الله المهدي)؛ رواه الحاكم وأحمد، وهذا الحديث جاء من طرق كلها ضعيفة، ولا يصح فيه شيء، وإن كان بعضهم تسامح، وصححه بمجموع طرقه. وقد تمسك بهذا الحديث أقوامٌ في دعوى أن المهدي من ولد العباس، وأن الدولة العباسية كان فيها المهدي، وكانت رايات بني العباس سودًا، وليس ببعيد أن يكون هذا الحديث الضعيف قد وضع بِرُمّته؛ أو حُرِّفَ لفظه بسبب التعصب لدولة بني العباس.
ومنها حديث أم سلمة -رضي الله عنها-: (المهدي من عِترَتي، من ولد فاطمة) رواه أبو داود وابن ماجه، وسنده ضعيف، فيه علي بن نفَيل، ذكره العقيلي في الضعفاء، وقال: لا يتابع على حديثه في المهدي، ولا يعرف إلا به، والراوي عنه زياد بن بيان، ذكر البخاري حديثه هذا ثم قال: وفي إسناده نظر؛ ولهذا رجَّح المنذري أنه من كلام سعيد بن المسيب.
وهناك أحاديث كثيرة ثابتة في جملتها، وإن كان غالبها لا يصل إلى درجة الصحيح، بل ربما لا يصل إلى درجة الصحيح منها إلا حديث واحد، والحسن فيها قليل أيضًا، وغالبها ضعيف.
وقد كتب كثير من العلماء في موضوع المهدي، منهم نعيم بن حماد في كتاب: (الفتن) ونعيم وإن كان إمامًا في السنة إلا أنه كثير الوهم، وقد ذكر هذا الدارقطني، والذهبي، وابن حجر، بل قال مسلمة بن القاسم: له أحاديث منكرة في الملاحم، تفرَّد بها.
وصنف أبو نعيم الأصفهاني كتابًا في المهدي، ويوسف بن يحيى السلمي كتابا مطبوعًا اسمه: (عقد الدرر)، وصنف ابن كثير، والسيوطي، والسخاوي، والصنعاني، والشوكاني، وغيرهم، وخلق من المعاصرين في هذا.(19/7)
كما أن هناك من نُقِل عنه إنكار أحاديث المهدي كلها، فقد نُقل عن مجاهد إنكار هذا، وادعاء أن المهدي هو المسيح ابن مريم، وجاء في هذا حديث: ( لا المهدي إلا عيسى ابن مريم) عند ابن ماجه، والحاكم، وهو ضعيف، وكذلك نُقل عن الحسن البصري، كما أن ابن خلدون ممن أنكر هذا ونفاه. وأما من المتأخرين، فالشيخ محمد رشيد رضا، والشيخ عبد الله بن زيد آل محمود، ومحمد محيي الدين عبد الحميد وغيرهم.
وخلاصة ما مضى:
أنه جاء في السُّنة أحاديث كثيرة جدًّا، مترددة ما بين الموضوع، والضعيف، والحسن، ويقلُّ فيها الصحيح، وأن الإيمان بخروج المهدي وظهوره أمر ثابت في الجملة.
المهدي بين السُّنة والشيعة
أهل السنة يؤمنون برجل من آل بيت النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- يخرج في آخر الزمان خروجًا طبيعيًّا، يولَد كما يولَد غيره، ويعيش كما يعيش غيره، وربما يقع منه الخطأ، ويحتاج إلى إصلاحٍ مثل غيره من الناس، ثم يكتب الله على يديه خيرًا كثيرًا، وبرًّا، وصلاحًا للأمة، وعدلاً، ويجمع الله به شمل المسلمين.
ليس هناك أكثر من هذا؛ كما هو وارد في الأحاديث، ولم يرد في أيِّ نص من النصوص أننا متعبَّدون بانتظاره، أو ترقُّبه، بل لا ينبغي لأي مسلم أن يقبَل مثل هذا الادعاء بمجرد الاشتباه، حتى تقوم الأدلة الكافية، فإن المدَّعين كثير منذ فجر التاريخ؛ كما سوف أشير إلى شيء من ذلك.
والمسلم مطالب بالتثبت، والتحري، والأناة، وألا يستعجل الأمور بمجرد الرغبة أو الهوى النفسي.
ولا يتوقف على خروجه أية شعيرة شرعية نقول إنها غائبة حتى يأتي الإمام المهدي، فلا صلاة الجمعة، ولا الجماعة، ولا الجهاد، ولا تطبيق الحدود، ولا الأحكام، ولا شيء من ذلك مرهون بوجوده؛ بل المسلمون يعيشون حياتهم، ويمارسون عباداتهم، وأعمالهم، ويجاهدون، ويصلحون، ويتعلمون، ويُعلِّمون، فإذا وُجد هذا الإنسان الصالح، وظهرت أدلته القطعية -التي لا لَبْس فيها- اتّبعوه.(19/8)
وعلى هذا درج الصحابة والتابعون لهم بإحسان، وتتابع على هذا أئمة العلم على تعاقب العصور. ففكرة سيطرة الترقب، والانتظار، والمبالغة بهذا أمر حادث.
المهدي عند الشيعة:
المهدي عند الشيعة عقيدة أساسية جدًّا، بل المذهب يقوم على هذه الفكرة، وطوائف الشيعة جميعها تختلف في أشياء كثيرة، لكنها تتفق في فكرة ما يسمونه (الإمام الغائب)، ويعنون به الإمام المهدي، وإن اختلف المهدي عندهم.
وأول دعوى ظهرت في هذا الباب؛ هي ادعاء أن الرسول -صلى الله عليه وآله وسلم- سوف يعود، وأنه لم يمُتْ، وأول من ادعاها عبد الله بن سبأ اليهودي، وقال: العجب من قومٍ يزعمون أن عيسى -عليه السلام- سوف ينزل، وينكرون خروج النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-، ومحمد أحق بالرجوع من عيسى.
وهذه الفكرة الخيالية فكرة فاجرة، أراد منها هذا الرجل العَبَث بمقدس من مقدسات الإسلام، وهو عقيدة ختم النبوة، فإن الله تعالى ختم النبيين بمحمد -صلى الله عليه وآله وسلم- وهذه من العقائد القطعية عند المسلمين؛ ولهذا كفَّر المسلمون جميعًا -عوامهم وخواصهم، علماؤهم وقادتهم- كل من ادعى نبيًّا بعد رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- وحكمت المحاكم الإسلامية بأن القاديانية والبهائية فرق كافرة خارجة عن الإسلام؛ لأنهم ادعوا نبوة رجلٍ من قادتهم كميرزا غلام أحمد، أو غيره، بعد الرسول -عليه الصلاة والسلام-، فكفروا بذلك؛ لأنهم خالفوا قطعيًّا من قطعيات الدين.
وعبد الله بن سبأ اليهودي تحايل على هذه الفكرة، فزعم أن الرسول -صلى الله عليه وآله وسلم- سيخرج من قبره، ولم يقل: هناك نبي آخر، وهذا تمهيد؛ لأنه إذا انخرمت هذه القاعدة، وأصبح الناس -أو طائفة منهم- يترقبون خروج الرسول -صلى الله عليه وآله وسلم- سهلت القضية؛ لأنه قد يخرج عليهم أيُّ شخص، ويدعي أنه هو الرسول، وأنه خرج من قبره، وليس شخص آخر ادعى النبوة بعد الرسول -عليه الصلاة والسلام-، وها هنا تكون الخطورة.(19/9)
وهذا خروج عن قواعد المسلمين، وخروج عن قانون الشريعة، وخروج على إجماع الصحابة، وإجماع السلف، وإجماع التابعين، ومن يدعي مثل هذه الأشياء هو بين أمرين:
1- إما أنه شخص فيه هوس وجنون، فهذا محله المصحَّات النفسيَّة.
2- أو أنه شخص عاقل، فينبغي أن يُقنَع، ويُفَهَّم ويُبين له، فإن أصرَّ؛ فلا بد من محاكمته، كما حاكم المسلمون الطوائف القاديانية في باكستان وغيرها، وأصدروا فيهم حكمًا واضحًا حتى لا يلتبس الأمر على الناس.
كما جاءت من عند ابن سبأ دعوى أن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- هو المهدي، وكان يقول: لو أتيتمونا بدماغه في سبعين صرة ما صدقنا أنه مات، وأنه سيعود، ويملأ الأرض عدلاً؛ كما ملئت جَوْرًا!!
ثم انتقلت دعوى المهدية بعد ذلك إلى محمد بن الحنفيَّة، الذي هو ابن علي بن أبي طالب،
وممن ادعى المهدية لمحمد بن الحنفية المختار بن أبي عبيد، والمختار كان في العراق، وكان يدعي أن الملائكة تأتيه، وقد قال ابن عمر -رضي الله عنه- لما قيل له: إن المختار يقول: إن الوحي يأتيه، قال: (صدق، وَإِن الشَّيَاطِين لَيُوحُون إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ)، ولم يجامله مع أن زوجة ابن عمر صفية بنت أبي عبيد هي أخت المختار. وهؤلاء الذين يدعون مهدية ابن الحنفية يسمَّون الكيسانيَّة.
ولما خرج محمد بن عبد الله بن حسن، على أبي جعفر المنصور، تلقب بالمهدي؛ طمعًا أن يكون هو الموعود به في الأحاديث، ثم هُزِم جيشه، وقُتِل سنة 145هـ، واحتُزّ رأسه وحُمل من المدينة إلى العراق، ومع ذلك انقسم أتباعه، فمنهم من آمن بأنه مات؛ فانقشعت عنه هذه الفكرة، وآخرون زعموا رجعته، وأنه -وإن ظهر لنا أنه مات- إلا أنه سيعود. وفئة ثالثة نقلت المهدية إلى غيره.
والغريب أن هذا أمر يتكرر؛ فعندما وقعت أحداث الحرم، وكان معهم من زعموه مهديًّا، فقُتل، ومع ذلك قال بعض الذين تَشبَّعوا بهذه الفكرة، وامتلأت بها نفوسهم: إنه لم يُقتَل، ولكنه هرب!!(19/10)
فالإنسان يُكذِّب الحِسَّ، وما أبصره بعينه؛ لأنه تشبَّع بمعنى معين، ويصعب عليه أن يقول: إنه أخطأ، أو إنها كانت فكرة تبيَّن له انحرافها، أو غشاوة تجلى عنه ضبابها.
فقضية الانتظار عند الشيعة، ومن ثَم انتقال الأدوار بعد فَقْد مَن كان يُؤمَّل به أن يكون هو المهدي قائمة، فبعد محمد بن الحنفية، هناك من ينتظر محمد بن جعفر، الذي هو جعفر الصادق، وبعد أن مات محمد بن جعفر، صار هناك من ينتظر إسماعيل بن جعفر، وهم من يُسمَّون (الإسماعيلية)، وهم من فرق الباطنية، وبعد أن مات إسماعيل من غير ولد صار هناك من ينتظر محمد بن إسماعيل، وهؤلاء هم القرامطة الباطنيون.
وأشهر فرق الشيعة هم من يسمَّون: (الاثني عشرية) وهم يقولون باثني عشر إمامًا، آخرهم هو محمد بن الحسن العسكري، وهو عندهم إمام معصوم، اختفى في السرداب قبل أكثر من ألف ومئتي سنة، والواقع أن الحسن العسكري لم يُنجب، ومات عقيمًا.
أما المهدي العباسي فقد سماه أبوه أبو جعفر المنصور محمدًا؛ ولقبه بالمهدي لأنه كان يواجه مشكلة المهدي من آل البيت، فاضطر أن يواجه الحرب بمثلها، وكان يقول في مجالسه الخاصة: والله لا مهدي آل البيت مهدي، ولا ولدي أيضًا مهدي؛ لكن نحن نقاوم هذا بهذا!!
فادعى ابن أبي جعفر المنصور المهديَّة؛ كما لقبه أبوه؛ وذلك منافسة للنفس الزكية.
فهناك مهديون كُثُر، أو مُتَمَهْدُوْن كثير، مثل: المهدي ابن تومرت، في بلاد المغرب، وهو مؤسس دولة الموحدين في المغرب.
وهناك أيضًا المهدي السوداني، وهو محمد، أو أحمد بن عبد الله، الذي قاد حركة المهدية التي لا تزال حزبًا، جماعته قائمة في السودان إلى اليوم، وكان يقول: إنه من آل البيت، ويدَّعي أنه يأتيه الوحي، وأن الرسول -صلى الله عليه وسلم- كلَّمه كفاحًا، وأخبره أنه المهدي، وتجمع حوله أناس كثيرون، وإن كان من خير في هذه الحركة المهدية، فهي أنها ساهمت في طرد الاستعمار من السودان.(19/11)
وهناك مهديون لم يحالفهم الحظ، كما يقول الإمام ابن تيمية: أعرف في زماننا غير واحد من المشايخ من أهل الزهد، والتقوى، والعبادة، يظن كل منهم أنه المهدي، وربما يخاطَب أحدهم بذلك مرات في اليقظة، وإنما تخاطبهم الشياطين.
كما ذكر الحافظ ابن حجر -رحمه الله- أحدَهُم في كتاب (الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة) وعبر عنه بقوله: حصل له انحراف في المزاج، فادعى دعاوى عريضة من الرؤية -رؤية الله سبحانه وتعالى- ومن الإسراء، وأن الله كلّمه، وأخبره أنه هو المهدي.
أسلوب الهاربين والمحبَطين والمنهزمين
ولنا في النهاية هذه التعليقات.
التعليق الأول:
إننا نلاحظ أن سيطرة اليأس على الإنسان قد تدفعه دفعًا إلى البحث عن مَخْرج، ولو كان هذا المخرج وهميًّا، حتى يتمسك به أمام فشلٍ كبير أصابه في مشروع كان قد علّق عليه آماله فيفزع إلى هذا المهرب الوهمي.
ولذا نجد فكرة المهديَّة رائجة عند الشيعة؛ لأنهم كانوا أقليَّة، وكان الحكم -غالبًا- في يد أهل السنة، فكانوا يشعرون بالحرمان، وكان أئمتهم بعيدين عن مراكز التأثير والقرار، فعوّضوا عن هذا بمثل هذه المعاني التي يحفظون بها روح الأتباع، ويحافظون بها على ارتفاع معنوياتهم، وربما كان هذا شيئًا نفسيًّا، بمعنى: أن منهم من يتعمد ذلك، ومنهم من تتلبسه هذه الفكرة فيظنها صوابًا، ويُشيع هذا الأمر، ويكون عنده قناعة حقيقية يستطيع أن يوصلها إلى الآخرين الذين يلاحظون أنه يتكلم بجدٍّ وصدق وإخلاص وصرامة، فينتقل هذا الأمر إليهم أيضًا.
فكانت فكرة المهديَّة مهربًا للشيعة أمام عدم وجود فرصةٍ لهم في الوصول إلى السلطة والحكم، ومع ذلك كانت لهم ثورات كثيرة، لكنها فشلت، وفي كتاب (مقاتل الطالبيين) للأصفهاني أخبار عن هذه الثورات ومآلاتها.
وكذلك أهل السنة في بعض الحالات التي أصابهم فيها اليأس والإحباط وفشل بعض مشاريعهم؛ صار بعضهم يهرب إلى هذه الفكرة أيضًا.(19/12)
ففي أسبانيا لما جاء الأسبان، وطردوا المسلمين منها، بدأ بعض المسلمين، مثل بني الأحمر، يهربون إلى فكرة ادعاء وجود مهدي، وكانوا يترقبونه، وينتظرونه، ويظنون أن هذا المهدي المنتظر الموعود سوف يأتي لينصرهم على الأسبان، ويأخذ بثأرهم.
كذلك بعض المسلمين في القوقاز، كانوا يعتقدون بعودة (الشيخ منصور) الذي قاد حركة من حركات الاستقلال، وظهر قبل (الشيخ شامل) بفترة، وكانوا يظنون أنه سيعود مرة أخرى؛ حتى يقود جهادهم.
والأكراد كذلك، ومعروف أن الأكراد شعب يعاني مرارات طويلة عريضة، ربما في معظم بلاد العالم، وعبر فترات طويلة من التاريخ، باستثناء صلاح الدين الأيوبي، وسلالته؛ ولذلك كان الأكراد يعتقدون برجعة قائد من قوادهم، وهو حسن بن علي.
وربما حصل الشعور بالإحباط إثر فشل مشروع كبير في حجمه، أو في الآمال المعلقة به كمشروع جهادي، أو حركي تشرئب إليه الأعناق، وترتبط به الآمال، وتراه المنقذ من المحنة، والمخرج من الفتنة، فإذا ما أخفق هذا المشروع تحطمت تلك الآمال، وأحبطت تلك النفوس، ويئست من كل عمل، فوجدت في الانتظار مهربها.
وإنه من الخير للأمة ألا تعلق آمالها على مشروع بعينه، فمساحة العمل للدين أكبر من أن يستوعبها هذا المشروع أو ذاك، وإذا حصل إخفاق في جانب فثمة نجاحات في جوانب أخرى، وبذلك تسلم النفوس من عقابيل الإحباط واليأس المدمرة.(19/13)
فجو الهزيمة، والإخفاق، والإحباط، هو البيئة المُثلَى لرواج دعاوى المهدية، الانتظار، خاصة لدى أولئك الذين لا يملكون برنامجًا عمليًّا إيجابيًّا يملئون به فراغ أنفسهم، ويصرِّفون فيه طاقاتهم، واليائس الذي لا يعمل شيئًا ذا بال يُخيَّل إليه أنه لا فائدة من العمل، وأن الأمر أكثر من إمكانيات البشر؛ ولهذا فلا حلَّ عندهم إلا بتدخل إلهي غير خاضع للسنن المعتادة يُنصِّب بموجبه مبعوث العناية الإلهية، وهو المهدي، فيثخن في الأعداء قتلاً وتدميرًا، ويقود الأمة ويقضي على خلافاتها وجراحاتها؛ وبهذا نعذر لأنفسنا أيضًا بألا نقوم بعملٍ جاد مثمر، ونقعد ونترك المدافعة التي أمرنا بها في سورة البقرة: (وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ الناسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأرض وَلَكِن اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِين) بحجة هذا الانتظار الموهوم.
وهذا الشعور مركب -عندي- من حالين:
الأولى: الهزيمة النفسية المريرة، التي تواجه مجموعة من الناس، أو جماعة، أو حتى شعبًا من الشعوب؛ بسبب تبخر الآمال التي كانوا يعقدونها على شيء معين، ولذلك كلما انتقل مهدي ومات انتقل الناس إلى مَن بعده، أو ادعوا أنه لم يمت، أو أنه سوف يعود.
الثانية: الطمع في التغيير الكلي، وعدم القناعة بالتدرج، ومراعاة السنن الإلهية والإصلاح المرحلي، أو الجزئي، وإنما يحلم الإنسان -بعدما يرى الفساد قد عمَّ وطم- أن هذا الفساد كله سوف يزول في غمضة عين وانتباهتها.(19/14)
نعم، نحن مؤمنون بأن الله تعالى يغيّر ما شاء بقدرته، وأنه: ما بين غمضة عين وانتباهتها يُغيّر الله من حالٍ إلى حالٍ، لكن الله - سبحانه وتعالى - جعل سننا في المدافعة، والإصلاح؛ يتم بموجبها إحداث التغيير الذي أمرنا الله -سبحانه وتعالى- أن نعمله؛ ولهذا قال الله -عز وجل- في سورة الرعد: (إِن اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ)، فهناك من يحلمون بقضية جوهرية حاسمة تنهي الأمر، والمصيبة أنه لا بد أن يتم ذلك في حياتهم، أما أن أغرس فسيلة، وأتابعها أنا وأولادي من بعدي، فهذا مما تستطيل عزائمهم عَمَلَهُ وانتظارَ نتائجِه.
إنهم لا ينتظرون ثمرات جهدهم وعملهم ومشاريعهم الدءوبة، ولكن ينتظرون شيئًا لم يعملوا له
إلا هذا الانتظار الحالم.
وهنا ملحوظتان:
الأولى: الذين يعملون عملاً منتجًا مفيدًا، فيشتغلون بإغاثة، أو تعليم، أو دعوة وإصلاح، ولديهم مشاريع، وطموحات، وأنشطة يرعونها، ويفرغون فيها طاقاتهم وآمالهم، فإن هذه الأفكار لا تروج عندهم، يسمعونها دون أن يكون عندهم تشبُّع بها حتى لو كانوا بُسطاء؛ لأن عندهم من العمل الجاد المثمر ما يملأ عليهم عقولهم ونفوسهم وحياتهم، ولا يعولون على مثل هذه المعاني، ولو تحققت في يوم من الأيام لكانوا شركاء الناس فيها، لكنهم لا يعوّلون عليها أو يتوقفون عندها.
أما أولئك الذي يتعلقون بمثال بعيد المنال، وفي الوقت نفسه لا يعملون شيئًا لتحقيق هذا إلا مجرد التربص والانتظار؛ فإنهم قد ينظرون لأعمال الآخرين بنوع من السخرية، ويقول أحدهم: أنت ماذا تستطيع أن تصنع؟! هل تستطيع أن ترد الرياح العاتية، أو السيل الجارف بيديك الضعيفتين؟ فالحل عنده هو التغيير الشامل الكامل، وسوف يتم على يد المنتظر!!(19/15)
ولهذا كانت غالب دعاوى المهدية في التاريخ تتكون في أجواء مشحونة بالتوتر، مأزومة بأزمات معيَّنة، كالتغيرات الاجتماعية، أو السياسية، ودعاوى المهديَّة كلها تكون في حال انسداد لا يرى فيه كثير من الناس -وخصوصًا شبابهم- مخرجًا، أو ضوءًا في آخر النفق، فيلجئوا إلى مثل هذه المعاني.
الثانية: أن المهدية كانت في التاريخ مصاحبة -في الغالب- للشيعة، بينما لو حاولنا أن ننظر إلى واقعنا المعاصر اليوم؛ لرأينا أمرًا عجيبًا، قد انقلبت الآية، فأصبح الشيعة الذين تاريخهم كله يقوم على الترقب والانتظار، وأخرجوا لنا عشرات المهديين، وكانوا يقولون: إن الجمعة لا تُقَام إلا مع المهدي، وإن الجهاد لا يقام إلا مع المهدي، وعطلوا كثيرًا من الأعمال بانتظاره، ولكنهم بعد هذه الفترة الطويلة تلقنوا درسًا، فطوروا الانتظار عقيدة؛ وإن لم يلغوا فكرة المهدي، فأغلبهم لا يزالون يعتقدون بالمهدي الموعود عندهم، لكن مع ذلك أوجدوا بدائل وتحركوا خارج إطار هذه الفكرة، وبدءوا يعملون ويخططون وينتجون؛ ولهذا قامت لهم دول، وأحزاب وجماعات، وإعلام، ونشاط منقطع النظير على صعيد الواقع؛ بينما تحوَّل أهل السُّنة إلى الحديث الطويل حول المهدي، وانتظاره، وترقب خروجه، وهل هو فلان، أو فلان؟! إلى غير ذلك!!
وهذا من الانعكاس الغريب في المفاهيم، ويفترض أن يتنبه شباب أهل السنة إلى أنهم بهذا قد دخلوا مدخلاً صعبًا، وأنهم قد انتهوا من حيث بدأ الآخرون، وهذا أمر ليس محمود العاقبة بعد أن توالت نذر التاريخ في كشف خطورته، وبيان عواقب الركون إليه.
ادعاءات أم وساوس؟!
التعليق الثاني:
الذين ادّعوا المهدية قسمان:
الأول: منهم المدّعي الكاذب الذي يعرف أنه كاذب، وهو يخادع الناس، ويستدرجهم إلى طاعته واتباعه، فلو نظرنا إلى الدولة الفاطمية؛ فإنها قامت على أساس ادعاء المهدية، كذلك دولة الموحدين، التي أسسها المهدي بن تومرت، قامت على هذه الدعوى أيضًا.(19/16)
فهؤلاء قوم رفعوا هذا الشعار؛ لأغراض سياسية ومصالح مادية، وبلغوا مرادهم فيها، وآخرون رفعوها للمصالح نفسها؛ لكنهم لم يحصلوا على مرادهم الدنيوي.
الثاني: أن هناك من تتلبسهم بعض الوساوس والخيالات، أو كما عَبّر عنه الحافظ ابن حجر بِلُغَتِه: (انحراف المزاج)، وهذا أمر معروف عند علماء النفس المعاصرين، أن من الناس من يقع في اضطراب نفسي، أو انفصام في الشخصية؛ فيبدأ –بموجبه- يظن أنه هو عيسى بن مريم، أو المهدي، أو ما هو أعظم من ذلك على ما هو معروف.
بين الإفراط والتفريط
التعليق الثالث:
أن الإلحاح المفرط على قضية من القضايا هو انحراف بحد ذاته؛ حتى لو كانت هذه القضية مشروعة من حيث الأصل.
فعلى سبيل المثال: مسألة تنصيب الإمام لا خلاف عليها عند المسلمين، إلا خلاف شاذ للأصم، وأما جماهير المسلمين، وأهل السنة كافة، فإنهم يرون أن مسألة تنصيب الإمام ضرورة شرعية لا بد منها.
لكن الإفراط في التعاطي مع هذه القضية عند الشيعة جعلها معقد الولاء والبراء، ومفصل الأمر بينهم وبين الناس، وبنوا عليها بناءً عظيمًا؛ حتى إنك إذا قرأت كتبهم، ونظرت في قواعدهم وعقائدهم بَدَا لك وكأن الكون كله لم يُخلَق إلا من أجل الإمامة، وبالذات من أجل الإمام علي بن أبي طالب، والأئمة من بعده، وأن الدنيا لم تُخلَق إلا من أجلهم، وأن الكون لا يكون إلا بهم، وأن الآخرة هي منهم ولهم، وأن قيادة الناس وإصلاح أمورهم لا يتم إلا بهم، وأن حفظ الدين لا يكون إلا عن طريقهم، إلى غير ذلك من الارتباطات التي لا دليل عليها، ولا صحة لها، فهذا نموذج.
فينبغي لأهل السنة أن يتفطنوا لهذا المعنى، وأن الإلحاح الزائد في قضية من القضايا قد يكون هو انحرافًا بذاته، فأنت تؤمن بهذه القضية؛ لكن تعطيها حجمها الشرعي، دون إفراط، ولا تفريط.(19/17)
وكذلك قضية المهدية، فهناك من قد ينكر أحاديث المهدي إطلاقًا، وربما كان بعض الذين أنكروها بسبب الممارسات الخاطئة، والدعاوى الكثيرة -عبر التاريخ- التي تمسكت بهذا المعنى؛ فأنكروا هذا حتى يسدوا الباب، وربما يكون هذا بسبب عدم معرفتهم، واطلاعهم على السنة، فهذا طرف، لكن الطرف الثاني هو من يبالغ في تبني فكرة المهديّة، حتى إن هذه الفكرة تأكل، وتشرب، وتصحو، وتنام معه، ويصبح الأمر غُلوًّا في الإلحاح على هذه القضية، وهذا خطأ آخر أيضًا.
وقل مثل ذلك في القضايا كلها حتى أمر العبادة، فلو أن أحدًا أفرط في الخوف من الله، لآلَ به الأمر إلى الوقوع في مذهب الخوارج، أو أفرط في الرجاء، لآل به الأمر إلى الوقوع في مذهب المرجئة، أو أفرط في الحب، لآل به الأمر إلى الوقوع في مذهب الصوفية، وهكذا كل المعاني الشرعية، والأصول التي لها أصلٌ شرعي يؤمن بها الإنسان، ويعطيها حجمها الشرعي دون إفراط، ولا تفريط، ولا غلو ولا جفاء، وهذا المعنى في غاية الأهمية، وهو جزء من معاني الوسطية التي تحتاج إلى حديث خاص، وقد قال عز وجل في سورة البقرة: (وَكَذَلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطًا)، أي أن يكون الإنسان معتدلاً بين الغالي والجافي.
ولو تأملتَ المسائل التي يقع فيها الاختلاف بين المسلمين بعامة، وبين الدعاة أو الجماعات بخاصة، لوجدت فيها شيئًا كثيرًا من هذا.
فهناك جماعة قد تُفْرِط في قضية الحاكمية، حتى تكفِّر الحكومات، والعلماء، والشعوب التي رضيت بهذا، وهناك أيضًا من يفرِّط في هذه القضية ويهوِّن من شأنها، ويرى أن الناس أحرار في أن يحكموا بأي قانون شاءوا، وأي نظام اختاروا، دون أن يكون عندهم من الله تعالى في هذا برهان، وهذا طرف آخر غالٍ في التفريط.(19/18)
وهناك الاعتدال الذي يعطي كل قضية حجمها الحقيقي ومقدارها الشرعي، من غير غلوّ ولا تفريط، والشيء الملاحظ جليًّا أن الغلو في قضية يصاحبه التفريط الغالي أيضًا في قضايا أُخر مساوية في الأهمية، إن لم تكن أهم.
مفهوم (التجديد) الغائب كبديل صحيح
التعليق الرابع:
أن هناك بديلاً شرعيًّا عظيمًا يُغفَل عنه؛ بسبب الانهماك في قضية المهدي، وتوقع خروجه، وهي قضية (التجديد) التي وردت في حديث أبي هريرة، الذي أخرجه أبو داود: (إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها)، وهو حديث صحيح تلقته الأمة بالقبول.
فقضية التجديد هذه هي الفكرة الشرعية الصحيحة، التي قام بها الأئمة،
قام بها أبو بكر -رضي الله عنه- بعد وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم- برد الناس إلى الحق، ومحاربة المرتدين، وقام بها عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- في بني أمية، وقام بها الشافعي، وأحمد، والعلماء بعدهم عبر العصور.(19/19)
وكل أحد قام بها في مجاله، فهذه القضية هي التي من شأنها أن تُصلِح واقع الناس وتُحرِّك هممهم نحو الإصلاح؛ لأن الصواب: أن التجديد ليس مهمة فرد ننتظره، كما ننتظر المهدي، وإنما التجديد مهمة الأمة كلها؛ فالرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: (مَن يجدد لها) و(مَن) هاهنا من ألفاظ العموم، أعم من أن تكون خاصة بفرد، أو جماعة، أو طائفة من الناس، بل قد يشمل هذا أعدادًا غفيرة من الناس، في كل مجالات الحياة، ومن الذي يستطيع أن يجدد أمر الدين للأمة كلها في العلم، والعمل، والعبادة، والاقتصاد، والإعلام، وفي سائر شئون الحياة، هذا لا يمكن أن يقوم به فرد ولا أفراد، وإنما يقوم به طوائف كثيرة من الناس، ومع ذلك يظل وضع الأمة محتاجًا إلى مزيد من الإصلاح، ومزيد من التجديد؛ وهكذا ما ذكر الرسول -عليه الصلاة والسلام- عن الطائفة المنصورة، التي لا تزال قائمة بأمر الله، لا يضرها من خذلها ولا من خالفها، حتى يأتي أمر الله، فهذه الطائفة مهمتها تجديدية إصلاحية، فمنهم من يقوم بالتعليم، ومنهم من يقوم بالجهاد، ومنهم من يقوم بشئون الاقتصاد، ومنهم من يقوم بأمور العلم، ومنهم من يقوم بأمور الدعوة، ومنهم من يقوم بالإغاثة، وهكذا.
فنحن بحاجة إلى إخراج الأمة -شبابها، وجماعاتها، وشعوبها- من اليأس، هذه مسئوليتنا جميعًا.
الوصايا الأربع
وأطرح في النهاية أربع توصيات:
الأولى: ضرورة إحياء الحوار حول قضايا الأمة الكبيرة، وتربية نظام الاستماع بين شباب الأمة ورجالاتها، ولدى القيادات على وجه الخصوص، وإن كانت قيادات فكرية أو علمية، أو سياسية؛ لأن الناس إذا اسُتمِع إليهم زال بعض ما في نفوسهم، وأصبح لديهم قدرة على التفاهم، والتفاوض، والأخذ، والعطاء، وفي ذلك حفظ لوحدة الأمة وطاقاتها وشبابها، وتجميع لها في مواجهة الأخطار المحدقة بها.(19/20)
الثانية: تشجيع البرامج العملية، على صعيد الدعوة، والتعليم، والإعلام، والإغاثة، ومن ذلك تشجيع المؤسسات الخيرية، والجهود الخيرية أيًّا كانت، وإبرازها، فلابد من رفع حالة اليأس والإحباط؛ لأن اليائس لا يصنع شيئًا، وقد يضر نفسه، وهو لا يدري؛ لأنه يفكر بطريقة محبطة يائسة.
الثالثة: ضرورة إيجاد فرص العيش الكريم لشباب الأمة، وأُسَرِها ومجتمعاتها، فإن حالة الفقر، والبطالة، تجعل هؤلاء وقودًا لأية فكرة منحرفة.
الرابعة: وجوب حماية الأمة من لوثات الانحراف الفكري، والسلوكي، ولا شك أن الانحراف الفكري والسلوكي هو الذي يفرز ردَّات الفعل السيئة.
نسأل الله أن يُعِز الإسلام والمسلمين، ويذل الشرك والمشركين، وأن ينصر المسلمين في كل مكان، وأن يكفيهم شر الأشرار، وكيد الفجار، ما اختلف الليل والنهار، وأن يوفقنا لصالح القول والعمل، إنه على كل شيء قدير، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
---
** من علماء السعودية، بالتعاون مع موقع الإسلام اليوم، بتصرف يسير واختصار.(19/21)
بشرى سارة : آية (....) العظمى "التبريزي" ينسف دين الشيعة الإثنى عشرية (وثيقة) .. !!
---
بما أن الأحاديث صحيحة لنقوم بعملية حسابية بسيطة جدا ..
الامام علي + 12 من ولد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم = ..................... !!!(20/1)
التشيع مرتع خصب للفكر الشاذ المنحرف
السيد أبو داود
حوار مع الداعية ربيع الزواوي
بدعوى التجميع لا التفريق، وتوحيد الكلمة والصف، يقع كثير من الدعاة الإسلاميين في الخطأ حينما يدعون إلى التجاوز عن الخلافات مع الشيعة. لكن هناك قطاعاً غير محدود من الصحوة الإسلامية ينبّه إلى خطورة الشيعة وأفكارهم على صحيح الدين وعلى الوحدة الإسلامية. ومن هؤلاء الداعية والباحث الإسلامي ربيع الزواوي، صاحب العشرات من الكتب في كثير من فروع العلم الإسلامي المختلفة، بين العقيدة وتبسيطها، والفقه وتوضيحه، والتاريخ الإسلامي وأخذ العبرة منه. وقد انتشرت هذه الكتب في أوساط الشباب الإسلامي في مصر وغيرها ترشّد من أدائه وتبث فيه استشراف النصر، وتحذره من الهزيمة النفسية. وفي هذه السطور يحذّر الداعية الإسلامي ربيع الزواوي من خطر الفكر الشيعي، ويبيّن جنايته في حق الأمة الإسلامية وتعطيل وحدتها.
** يرى الشيعة أنهم مطاردون ومضيق عليهم في مصر، وأنهم إذا تركت لهم حرية الحركة فسوف ينتشر فكرهم بصورة كبيرة... ما رايك في هذه المقولة؟
* لا أبداً، المقولة مغلوطة وتحتاج إلي تصحيح، وأرى أن المذهب الشيعي لا ينسجم مع العقل أبداً، ولا أظن أن لهم تواجد حقيقي في مصر، والواقع يشهد بذلك، فهم وغيرهم من المذاهب الهدامة يتاح لهم قدر من حرية الحركة يؤهلهم للإنتشار، ولكن الشعب المصري أصبح علي وعي بحقيقة الشيعة، فأنت ترى العامة الذين سافروا إلي بلاد بها شيعه كالعراق وغيرها ينتقدون الشيعه فيها ولا يعجبهم مذهبهم أبداً. وشعب مصر من أكثر شعوب العالم حباً لأهل البيت ولكن هذا الحب له ضوابط لا توجد عند الشيعه ولا يعترفون بها ولذلك لا يعجبهم حبنا لأهل البيت.(21/1)
وقد ظل الشيعة في مصر أكثر من مائتي عام - حكاماً ودولة- لهم سلطة ومنعة، ولكنهم لم يقنعوا المصريين بعقائدهم وثقافتهم، لأن المصريين شعب عميق الثقافة ومن الصعب إجباره على اعتناق أفكار شاذة. وهذه النقطة تغيظ الشيعة تماماً وتوترهم (أقصد لفظ المجتمع المصري لأفكارهم وعقائدهم).
** لكم كتاب عن الدولة العثمانية (السنية) التي كانت معاصرة للدولة الصفوية (الشيعية) ... ما هي أسباب توتر العلاقة بين الدولتين؟ ولماذا كان الصفويون يتحالفون مع الفرنجة (الكفرة) ضد العثمانيين (المسلمين)؟
* للأسف تاريخ الشيعة تاريخ مخزي ومفضوح، وتعجبني دائماً مقولة شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله التي يقول فيها: (إذا اصار لليهود دولة بالعراق وغيره، تكون الرافضة من أعظم أعوانهم، فهم دائماً يوالون الكفار من المشركين واليهود والنصاري ويعاونونهم علي قتال المسلمين ومعاداتهم ... ). ولا يخفى علينا ما يفعله الشيعه الآن من معاونة لأعداء الله تعالي وتآمرهم السّرّي بل والعلني معهم. وقس علي ذلك الدولة الصفوية التي كانت تتآمر مع أوروبا كلها ضد الدولة العثمانية المسلمة.
فقد قامت الدولة العثمانية في القرن السابع في وقت كان المسلمون فيه متفرقين متشتتين متناحرين، وبقيامها ظهرت دولة الإسلام وكان الجهاد في سبيل الله، وقد أقام العثمانيون دولتهم على أساس توحيد الأناضول الإسلامية والبلقان النصرانية تحت حكمهم.(21/2)
وقد كان قيام دولة العثمانيين قوة للإسلام وحماية للدول الإسلامية من الاستعمار، وكانت أوروبا تقاتل العثمانيين على أنهم مسلمون وليس بصفتهم أتراكاً، وكان الحقد الصليبي هو المحرك في حروب أوروبا مع العثمانيين، وترى أوروبا في العثمانيين أنهم أحيوا الجهاد بعد أن أخمد في النفوس طويلاً، وأن جهودهم التي كانوا يبذلونها في قتل روح الجهاد في المسلمين تمهيداً لإبادتهم وإنهاء أي شيء يمت إلى الإسلام بصلة قد تبددت بظهور هذه الدولة الفتية التي كانت تنظر إلى قتالها مع النصارى على أنه جهاد في سبيل الله وإحياء لهذه الشعيرة التي خمدت في نفوس المسلمين، فكانت لها صولات وجولات مع النصارى في محاور عديدة، وكان لها العديد من الفتوحات في بلادهم ونشرت الإسلام ومهدت الطريق أمام الدعوة بالجهاد في سبيل الله .
وكانت الدولة العثمانية الممثلة لدولة الإسلام تقاتل أعدائها من الصليبيين الحاقدين على عده محاور، فالروس من الشمال والنمسا من الغرب والإمارات الإيطالية، فرنسا، وانكلترا، والبرتغاليون في البحار والمحيطات، والكل يحقد على هذه الدولة التي قضت على الدولة البيزنطية إحدى قواعد النصرانية وتوغلت في بقية أوروبا، والكل يرى في هذه الدولة أنها هي التي حالت دون انتشار النصرانية ودون امتداد النفوذ الاستعماري الصليبي وطلائعه من البرتغاليين ومنعت وصولهم إلى القدس وسيطرتهم عليها، وعلى الأماكن المقدسة الأخرى .
لكن ظهور الصفويين في المشرق كان عائقاً لتقدم العثمانيين في الغرب، لأن مجهود الدولة كان موزعاً بين الشرق والغرب مما يقلل من قوة الهجوم للتقدم في وسط أوروبا. وأهم عوامل ضعف وإنهاك الدولة العثمانية هي الحروب العثمانية الإيرانية (الصفوية)، إذ كانت هذه الحروب من الضراوة وطول الأمد ما يكفي لإنهاك العثمانيين وضعفهم ومن ثَمّ عدم قدرتهم على الصمود في الجبهة الأوربية مما يعني انحسار المد الإسلامي عن أوروبا .(21/3)
فقد بدأ تراجع المسلمين عن البلقان حين اضطرت الدولة العثمانية إلى توقيع معاهدة قارلوفجه عام 1110هـ ، إذ بمقتضاها خرجت دولة المجر من قبضتها ثم توالت الهزائم وتوالت التنازلات، فإذا تابعنا تاريخ الحروب العثمانية الإيرانية قبل هذا التوقيع لأدركنا تزامن هذه الحروب مع محاولات الدولة العثمانية الوقوف على قدميها أمام الصليبيين من ناحية، وطول أمد هذه الحروب من ناحية أخرى فقد امتدت إحداها لتصل إلى أربعة وستين عاماً .
وهكذا بدلاً من أن يضع الصفويون يدهم في يد العثمانيين لحماية الحرمين الشريفين من التهديد البرتغالي ولتطهير البحار الإسلامية منهم، وضعوا أنفسهم في خدمة الأسطول البرتغالي، لطعن الدولة العثمانية من الخلف، ورغم انتصار العثمانيين عليهم فإن الحروب معهم كانت استنزافاً لجهود العثمانيين على الساحة الأوروبية وعرقلة للفتوح الإسلامية.
** يرى كثير من الكتاب والباحثين أن هناك أوجهاً للشبه بين عقائد الشيعة وعقائد اليهود والنصارى، هل يمكن أن توضح لنا ذلك؟(21/4)
* هذه مقوله صحيحة، وذلك لأن اليهود هم أصل هذا البلاء، فنحن نعرف أن عبدالله بن سبأ الملقب بابن السوداء يهودى الأصل وهو الذي وضع أسس التشيع، كما أن عبث اليهود بشريعة النصارى غير خاف على العلماء والمحققين، فقد نسخ اليهود شريعة المسيح عليه السلام وحرفوها حتى صارت إلي ما نرى. وبعض الباحثين توسعوا في المقارنة فلا حظوا فعلاً أوجه للتشابه بين عقائد الشيعة وعقائد النصارى، من تقديس الأشخاص ودعائهم من دون الله تعالى، وتحريف القرآن الكريم كما حرف الإنجيل، والكذب على الرسول صلى الله عليه وسلم كما يكذب النصارى علي المسيح صلى الله عليه وسلم. ولكني أرى أن مشابتهم لليهود أكثر من النصارى، وذلك لأسباب منها أن اليهود حرفوا التوراة والشيعة حرفوا القرآن، واليهود عادوا جبريل عليه السلام والشيعة يقولون إنه أخطأ بالوحي، واليهود يستحلون أموال ودماء الناس وكذلك الشيعة، واليهود لا يرون المسح علي الخفين وكذلك الشيعة. وعلي العموم فالشيعة فيهم شبه من اليهود من وجوه وشبه من النصارى من وجوه، كالشرك والغلو والتصديق بالباطل.
** الإسلام يربي أبناءه على الوضوح والثقة بالنفس، لكن مبدأ "التقية" الذي أقره الشيعة يزرع في الإنسان النفاق والمراوغة ويضعف من شخصيته.. كيف تطور مفهوم "التقية" عند الشيعة ليأخذ هذا الشكل في عقائدهم؟
* المقصود بالتقية أن يقول الشيعي أو يفعل غير ما يعتقد، لدفع الضرر عن نفسه أو ماله لحفظ كرامته! فيجاري الشيعي من حوله من غير الشيعة بقدر ما يصون نفسه؛ كأن يغسل رجليه في الوضوء بدلاً من مسحهما اذا كان أمام سني، ويستدلون على زعمهم هذا بأدلة من القرأن الكريم وذلك بتفسيرها وفق أهوائهم ، وهذا مسلك يدل على دناءة في الطباع، وإسفاف في الأخلاق، والحقيقة أنهم توسعوا في هذه التقية وأدخلوا تحتها معظم دواهيهم في الاعتقادات الكفرية التي يتبرء السنة منها .(21/5)
وللتقية عند الشيعة منزلة عظيمة ومكانة رفيعة، ويروون عن جعفر الصادق أنه قال : (التقية من ديني ودين آبائي، ولا إيمان لمن لا تقية له)، ويروون كذلك أثاراً أخرى عن أئمتهم مثل: (إن تسعة أعشار الدين في التقية، ولا دين لمن لا تقية له، والتقية في كل شيئ إلا في النبيذ والمسح على الخفين )، وكذلك: ( ليس منا من لم يلتزم بالتقية ويصوننا عن سفلة الرعية)، وقولهم: ( أشرف أخلاق الأئمة والفاضلين من شيعتنا استعمال التقية!). فيجعلونها - للأسف – من أصول الدين، والتارك لها عندهم كالتارك للصلاة. والحقيقة أن التقية هذه تعني ثلاثة أشياء: الكذب والغش والنفاق.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية عن الشيعة: ( شعارهم الذل، ودثارهم النفاق والتقية، ورأس مالهم الكذب والأيمان الفاجرة، ويكذبون على جعفر الصادق وقد نزه الله أهل البيت ولم يحوجهم لذلك، فكانوا أصدق الناس، وأعظمهم إيماناً، فدينهم التقوى لا التقية ).
** لماذا أجمع فقهاء الشيعة على حل زواج المتعة رغم ما به من فساد تأباه النفس، ويرفضه حتى العلمانيون ولا يرضوه لبناتهم؟
* الحقيقة أن هذه قضية من أشنع عقائدهم وأخبثها وما استمرأتها قلوبهم وعقولهم إلا بخراب في اعتقادهم وفساد في دينهم، والفطر السليمة والنصوص الحكيمة تأبى هذا الأمر وترفضه، ومع ذلك للأسف لا يرون بأساً من أن يعين الأب ابنته على أن تجد من ( يتمتع بها) لبضع ساعات أو أيام معدودات، لأنه تعاون على البر والتقوى، ومساعدة على إقامة شعيرة من الدين !!!.
ولذلك أشارت بعض مجلاتهم إلي وجود ربع مليون لقيط في إيران بسبب زواج المتعة، ووصفت مدينة (مشهد) الشيعية الإيرانية -حيث شاعت ممارسة المتعة- بأنها (المدينة الأكثر انحلالاً علي الصعيد الأخلاقي في آسيا).
ولديهم بعض المعتقدات المتعلقه بزواج المتعه ومراجعهم تستفيض بها نذكرمنها :
1– المتعه من فضائل الدين وتطفئ غضب الرب!.(21/6)
2– الإيمان بالمتعة أصل من أصول الدين ومنكرها منكر للدين!.
3– المتمتعة من النساء مغفور لها!.
4– المتعة من أعظم أسباب دخول الجنة، وتجعل صاحبها يزاحم الأنبياء في الجنة!.
5– من خرج من الدنيا ولم يتمتع جاء يوم القيامة مقطوع العضو!.
6– يجوز للرجل أن يتمتع بمن شاء من النساء ولو ألف امرأة أو أكثر!.
7– يجوز للرجل اللواط بمن يتمتع بها!.
8– لا تسأل المرأة التي تتمتع بها إن كانت متزوجة أو عاهرة!.
9– الحد الأدنى للمتعة مضاجعة واحدة!.
فسبحان الله ونسأله سبحانه العفو والعافية .
** ما رأيكم في موقف الشيعة من مذابح السنة في العراق خاصة مذبحة "الفلوجة"؟ وكيف ترى معاونتهم ودعمهم للأمريكان في ذلك؟
* موقف الشيعة من هذه القضية مخزى، وأمرهم معلوم، فهم لا يصيحون إلا إذا اقتربت الطلقات النارية من المراقد والعتبات المزعومة، أما أن يموت مئات أو آلاف من السنة فلا يهم ذلك والحقيقة أن هذا مشاهد وملموس ولا يخفونه.
إن معظم مواقع الإنترنت الشيعية تتحدث عن الفلوجة البطلة المجاهدة على أنها محمية البعث والذباحين والسلفيين الأوباش المجرمين والقتلة من بقايا البعث الأموي السفياني. ويقولون: لقد كشفت معركة تطهير بيوت الدعارة ومساجد الضرار وبؤر القتل والذبح في فلوجة العار والشنار حقيقة أدعياء المقاومة وفضحت ما يفترون وأزاحت الستار عن الوجه البشع والقبيح لأولئك المقاومين، فقد اسقطت منهم ورقة التوت وظهروا على حقيقتهم البعثية الشوفينية والطائفية البغيضة.(21/7)
ويصف الشيعة مقاومي الفلوجة بأنهم كلهم إما من أيتام صدام والقتلة البعثيين وإما سلفيين ومجرمين إرهابيين استقدموا من دول الجوار وشكلوا مجاميع وعصابات ظلامية وعنصرية كلها تحمل عناوين دينية وطائفية انضمت اليها كل فرق البعث والوهابية وتمركزت في المحافظات البيضاء (يقصدون المثلث السني) واتخذت من هيئة علماء البعث المجرمة واجهة سياسية تروج لمقاومتهم وتبرر جرائمهم. ولا يخجل الشيعة من أن يقولوا إن الفلوجة تحولت بيوتها ومساجدها الـ99 الضرار إلى بؤر للقتل والذبح وتفخيخ السيارات. هذه هي وجهة نظر الشيعة في الفلوجة البطلة، التي تتوارى وراءها وجهة النظر الأمريكية الصليبية خجلاً. ولذلك ناصروا الاحتلال الأمريكي في هدمها وتدميرها وقتل أهلها.
** لماذا أفرز الفكر الشيعي كل هذه الفرق المتطرفة والضالة عبر التاريخ مثل الباطنية والإسماعيلية والكيسانية والحشاشين وأولئك الذين ألّّهوا علياً رضي الله عنه؟
* أفرز الفكر الشيعي فرقاً متطرفة، وفئات ضالة وكثيرة، حتى لا يكاد الواحد يصدق ما يسطّره التاريخ عنهم، فقد خرج من عباءتهم الباطنية والإسماعيلية والحشاشين والنصيرية وغيرهم . وأثبت التاريخ صفحات سوداء لهذه الفرق، صفحات مليئة بالغدر والخيانة والتآمر ضد السنة. صفحات مليئة بالإفساد في عقيدة المسلمين ودينهم وشريعتهم.
وعندما انتصرت الثورة الإيرانية ظن المخلصون في هذه الأمة أن الثورة إرجاع للأمر إلى نصابه في حب آل بيت رسول الله صلى اله عليه وسلم وتحرير التشيع من العقائد الزائفة والمواقف الخائنة، خاصة وأن الخميني أعلن في الأيام الأولى من انتصاره أن ثورته إسلامية وليست مذهبية، وأن ثورته لصالح المستضعفين ولصالح تحرير شعوب الأمة الإسلامية عامة ولصالح تحرير فلسطين خاصة.(21/8)
ثم بدأت الأمور تتكشف للمخلصين، فإذا بالخميني وبالثورة يتبنيان كل العقائد الشاذة للتشيع عبر التاريخ، وإذا بالمواقف الخائنة للشذوذ الشيعي تظهر بالخميني والخمينية، فكانت نكسة كبيرة وخيبة أمل خطيرة.
جاءت الثورة الإيرانية والخمينية تحذو حذو أسلافها من حركات الغلو والزندقة التي جمعت بين الشعوبية في الرأي والفساد في العقيدة تتاجر بمشاعر جماهير المتعلقين بالإسلام تاريخا وعقيدة وتراثا، فتتظاهر بالإسلام قولا وتبطن جملة الشذوذ العقدي والحركي الذي كان سمة مشتركة وتراثا جامعا للهالكين من أسلافها من الكيسانية والبابكية والصفوية فيعيدوا إلى واقع المسلمين كل نزعات الشر والدمار التي جسدتها تلك الحركات المشبوهة الساقطة في شرك الكفر والزندقة والعصيان، وتعيد إلى الأذهان كل مخططات البرامج الباطنية القائمة على التدليس والتلبيس، فتدعي نصرة الإسلام وهي حرب عليه عقيدة ومنهجا وسلوكا، وتتظاهر بالغيرة على وحدة الصف الإسلامي وهي تدق صباحا ومساء إسفينا بعد إسفين في أركان الأمة الواحدة متوسلة إلى ذلك بنظرة مذهبية شاذة، وتزعم نصرة المستضعفين في الأرض، ثم هي تقيم فلسفتها جملة وتفصيلا على قراءة منحرفة قوامها التلفيق والتدليس لكل تاريخ المسلمين، فتأتي على رموزه وأكابر مؤسسيه هدما وتشويها وتمويها، وتجدد الدعوة بإصرار إلى كل الصفحات السلبية السوداء الماضية في التاريخ والتي ظن المخلصون أنها قد بادت فليس من مصلحة المسلمين ولا في صالح الإسلام إعادة قراءتها من جديد، فلقد قاسى الجميع من شرها.(21/9)
لقد ظهرت خلال التشيع آراء شاذة كثيرة ودخلت باسم التشيع عقائد زائفة كثيرة. ولقد كان التشيع سبيلا لمرور كثير من الأفكار الكافرة، فانبثقت عنه فرق غالية كالإسماعيلية و النصيرية والدرزية وهي فرق باطنية اجتمع على تكفيرها الشيعة الإثنى عشرية وأهل السنة والجماعة سواء بسواء. ولكن الشيعة الإثنى عشرية يرون أن هذه الفرق مع أنها تقول بألوهية الإنسان وغير ذلك من العقائد الزائفة هي أقرب إليهم من أهل السنة والجماعة، وهذا وحده دليل انحراف خطير.
** هل تعتقد أن إيران والشيعة عموماً جادون في مقاومة إسرائيل على الأرضية الإسلامية؟ وهل يشذ حزب الله اللبناني عن هذه القاعدة؟
* لا أعتقد ذلك، دع عنك ما يعلن و ما يذاع؛ فإيران الشاه أو إيران الخوميني هى حليف سرّى لإسرائيل، فى المنطقة، ووقود الطائرات الإسرائيلية التى كانت تضربنا هنا في مصر كان من إيران، والشيعة أينما كانوا مع اليهود ضد المسلمين، هذا كلام قد يستبشعه من لا يعرف حقيقة الشيعة، أو من يغمض عينيه عن عوراتهم بهدف التقريب بين المسلمين و رأب ما يحدث من تصدع فى جسم الأمة الكبير. وأنا لا اغتر بانسحاب إسرائيل من جنوب لبنان بحجة مقاومة حزب الله، فالأمر لا يزال غير واضح و ستسفرالأيام القادمة عن الحقيقة التى سيندهش لها المغترون .(21/10)
أثناء الحرب العراقية- الإيرانية كان قادة إيران يردّدون مقولة تحرير القدس بعد تحرير بغداد، كما أطلق اسم القدس على بعض العمليات العسكرية الناجحة ضد العراق، وكان الهدف من ذلك الابتزاز العاطفي للشعوب العربية والإسلامية، ولتحقيق التفاف شعبي حولها. وإذا بالعالم بأسره تصيبه الصدمة والذهول بعد أن انكشفت فضيحة "إيران – جيت" وصفقة الأسلحة الإيرانية – الإسرائيلية، وزيارة عضو مجلس الأمن القومي الأمريكي ومستشار الرئيس الأمريكي ريجان وهو "ماكفرلين" إلى إيران والتقائه بالمسؤولين الإيرانيين خلسة، إذ لم يتصور أحد أن تكون لإيران علاقات مع أمريكا وإسرائيل بسبب عوامل العداء الظاهرة للعيان من الشكل الخارجي مع هذه الأطراف. لكن العارف والمطلع على مبدأ "التقية" الذي يؤمن به الشيعة لا يفاجأ بهذا الأسلوب، فقد تمكنت إيران بفضل مبدأ التقية السياسية من اللعب على الأوتار، ومكّنها ذلك من اعتماد مقولة: المصالح أبدى من المبادئ.(21/11)
التشيع والوسطية الإسلامية
د . محمد عمارة من الاعتزال إلى السلفية ومن المعارضة إلى التطبيع
بقلم : أكرم عبد الكريم ذياب عن مجلة تراثنا/ العدد 3 و 4 1417
--------------------------------------------------------
بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد :
فقد طالعتنا مجلة "الوطن العربي " في عددها المرقم 1028 ، الصادر في 5 1 / 1 1 /96 9 1 ص 22 - 23 ، بحوار تحت عنوان : رأي (الوسطية الإسلامية ) في الفكر الشيعي ، للدكتور محمد عمارة ؟ الذي - ولأول وهلة - يحسب القارئ له أنه يحمل في طياته فكرا جديدا من شأنه المساعدة في تحقيق مفهوم الوحدة الإسلامية التي يرمي إليها العالم الإسلامي المعاصر . ولكن للأسف ! وجدنا الدكتور المذكور يحول الوسطية الإسلامية المدعاة من قبله إلى انتقادات لاذعة ، وتصورات لا أساس لها في الواقع سوى أنها جاءت كالسهام تطال جسد الأمة الإسلامية التي كانت ولا تزال تعاني من التشرذم.
وإذا به بدلا من السعي لترميم واقعها تراه يصف الشيعة بالغلو لفكرة أو عقيدة اعتقدوا بها وأسسوا لها أبحاثا قد لا يكون الدكتور تفحص في محتوياتها ، أو تفحص فيها بلا عمق ودقة ، جاعلا الوسطية عنوانا لطريقة اختارها في ذم الشيعة والقدح في اجتهاداتهم . . .
ولا نظن أن توحيد الصف و(صيانة ،الوحدة وتماسك ،النسيج ) يمر عبر نعت الشيعة بأنهم (يخلخلون وحدة ،المذهب ويصنعون ،القلق ،الطائفي ) تحت حجة أن الشيعة لم يلتزموا الوسطية.
ثم نراه يتعرض لطرح الإشكاليات والانتقادات المردودة ، مع ما للشيعة من أقلام تدافع عن الوحدة الإسلامية إلا أنها لا تقبل بتاتا المس بمقدساتها والطعن في اجتهاداتها بلا مبررات موضوعية لها ، وليس ذلك سوئ جهلا أو تجاهلا للحقيقة.(22/1)
وإننا أمام تلك الشبهات المطروحة نجد أنفسنا مضطرين للدفاع عن تلك المعتقدات ، منتقدين وجهة النظر التي صبت الشيعة في خانة المتطرفين والمزعزعين لوحدة الصف التي ينظر من خلالها أمثال الدكتور إلى التشيع نظرة سلبية ومحدودة ، ولكن هذه المرة تحت .عناوين بزاقة :
كالوسطية والوحدة وغيرهما . . .
والحق أن الحوار لا يخلو من التناقضات الواضحة إذ إنه تارة يطالعنا بقوله : (علينا أن نحاور بالفكر) وأخرى يقول لنا :
(من حق ،التشيع أن يحتفظ بفكره) و( تعصب ،الثسيعة لأئمتهم جعلهم يشقون صف الأمة). .
إلى آخره من الاتهامات المدفوعة والحجج الموهومة التي لا واقع لها ، خصوصا لمن استقرأ التشيع وعرفه حقا .
وأمام هذه الهجمة الشرسة على الشيعة ، التي لا تخدم سوئ أعداء الإسلام ، نتناول بعضا مما ذكره الدكتور ، مفندين تلك الادعاءات ، ومستهلين البحث بما استهل به حديثه فنقول ، وبالله نستعين - كما قال هو-:
(عندما نتحدث عن قضية الفكر،الشيعي يحسن أن نضبط هذه القضية سواء في واقعها التاريخي أو في واقعها المعاصر).
والحق أن المتحدث لم يستطع ضبط حقيقة هذه القضية كما ادعى من جهة ، ولا أنه احسن في ضبط رأيه تجاهها من جهة أخرى . .
وليس كلامنا -عزيزي القارئ - جناية عليه ، وانما من دقق وتمعن قي محتوى ما ذكره الدكتور في مستهل حديثه ، وقارنه بما استأنف به كلامه حول القضايا المختلفة ، يستنتج - بلا شك أو ريب - ما استنتجناه .
وللوقوف على تلك الحقيقة يحسن استعراض بعضها إجمالا ليتبين لك الحق من الباطل :
أولا : تناقض في الحوار : !ن في كلام الدكتور تناقضا واضحا ، إذ إنه في بداية الحوار ذكر ( إن فرقا من الغلاة الثسيعة وهؤلاء اغلبهم قد انقرض. . . ).(22/2)
وقال : (أن التيار الشيعي الذي وقف بين بين ، أي ليس غلوا وليس زيديا في اقترابه من الفكر السني يمثل الان اغلب الشيعة المعاصرين ) . ثم ينعطف فيقول : (لكن المصريين تعاطفوا. . . دون أن يتحول هذا التعاطف إلى الغلو الذي يجعلهم معصومين أو الذي يجعلهم يحتكرون الإمامة والخلافة والسلطة دون الأمة).
ولا شك - عزيزي القارئ - أن هذا هو التهافت نعينه ، إذ كيف يدعي تارة أن الشيعة المعاصرين ليسوا غلاة ويعود فيتهمهم بالغلو لتمسكهم بالعصمة وإمامة الأئمة(ع) ، مع العلم أن هذا هو مذهب أغلب المعاصرين من الشيعة إذا صح التعبير.
ثانيا : غياب المصطلح : لعله غاب عن ذهن الدكتور معنى الغلو، المصطلح عليه في علم الكلام وفي الملل والنحل ، حتى راح ينسبه للشيعة دون أدنى تعمق منه بعقائدهم ، معتقدا بأن العصمة للأئمة غلوا ، وهذا باطل كما سيتبين .
ثالثا : زور وبهتان : لا يخفى أن عد الغلاة من الشيعة زور وبهتان وان قالوا -أي الغلاة - بألوهية الأئمة (ع) ، إذ كيف يصح نسبة تلك الفرق إلى الشيعة وهم ليسوا بمسلمين ؟! وهل يؤخذ البريء بجرم المعتدي ؟ !
ناهيك عن الموقف الواضح لأئمتنا من الغلاة إذ إنهم لعنوهم وطردوهم وحذروا شيعتهم منهم ، فكانوا يقولون : " لعنهم الله ( الغلاة ) إنا لا نخلو من كذاب يكذب علينا ، أو عاجز الرأي ، كفانا الله مؤنة كل كذاب ، وأذاقهم الله حر الحديد" .
كما أخرج الكشي عن أبي بصير، قال : قال لي أبو عبد الله : يا أبا محمد ! أبرأ ممن يزعم أنا أرباب . قلت : " برئ الله منه " فقال : أبرأ ممن يدعي أنا أنبياء.
قلت : " برئ الله منه "(1).
هذا ، ولدينا أدلة على أن هذه الفرق بمعظمها -إن لم نقل كلها - من افتعال السلطات الجائرة وأعداء أهل البيت (ع) .
رابعا : قلة إحاطة بعقائد الفرق : قال : (لان الزيديين لا يكادون يختلفون عن الفكر السني ، وهم في ،الأصول قريبون من المعتزلة . . .).(22/3)
والصحيح أن الزيدية في الأصول هم أقرب إلى الاثني عشرية من أهل السنة وان اختلفوا في التفصيل والتفريع . وللتحقيق نذكر ما يلي :
أ - مفارقة واضحة : إن ما صنفه الدكتور احتكارا للسلطة وغلوا في الشيعة -كما مر بك - يعتقد به الزيدية ، وليس عليك إلا مراجعة كتبهم الدالة على ذلك ومنها العقد الثمين في معرفة رب العالمين تأليف : الأمير الحسين بن بدر الدين محمد ( 582 - 662 و) في فصل "الإمامة بعد الحسنين ) قال : ( فإن قيل : لمن الإمامة بعدهما ؟ فقل : هي محصورة في السبطين ومحظورة على ما عدا السبطين . . . وقد انعقد إجماع المسلمين على جوازها في أولاد فاطمة (ع) ولا دليل على جوازها في غيرهم ، فيبقى من عداهم لا يصلح )
ب - عقائد الزيدية : قال : ( الزيديه شيعة لكنهم لم يجعلوا الإمامة أصلا من أصول الاعتقاد . . ) . والواقع أن هذا ليس صحيحا ، لأن من راجع كتبهم ومصادرهم يتبين له الحق كما في المصدر المذكور سابقا ، .حيث عقد المؤلف لها بحثا منفردا في فصول متعددة جاعلا منها أصلا من الأصول الخمسة التي تقول بها الإمامية ، مبتدئا بقوله : ( فإن قيل : من أول الأئمة بعد رسول الله (ص) وأولى الأمة بالخلافة بعده بلا فصل ؟ فقل : ذلك أمير المؤمنين وسيد الوصيين علي بن أبي طالب .
فإن قيل : هذه دعوى ، فما برهانك ؟ فقل : الكتاب ، والسنة ،واجماع العترة) .(22/4)
وفي كتاب الأحكام للإمام الهادي يحيى بن الحسين بن القاسم بن إبراهيم (245- 298هـ) قال : ( فإذا فهم ذلك ، ولاية أمير المؤمنين وإمام المتقين علي بن أبي طالب رحمة الله عليه واجبة على جميع المسلمين فرض من الله رب العالمين ، ولا ينجو أحد من عذاب الرحمن ، ولا يتم اسم الإيمان حتى يعتقد بذلك بأيقن الإيقان ، لأن الله سبحانه يقول : ( إنما وليكم .. )(2) . كما بمكن للدكتور عمارة مراجعة كتاب الأساس لعقائد الأكياس في معرفة رب العالمين ،عدله في المخلوقين للإمام المنصور بالله القاسم بن يحيى بن علي الزيدي (ت 1029 هـ) ، منشورات دار التراث الإسلامي صعدة اليمن ، 1994 ، ص 150 - 151 .
*** القضايا التي يختلف فيها الشيعة عن السنة ***
ابتداء نتعرض لقضية ادعى الدكتور فيها أن (الفتوى التي صدرت من المرحوم الإمام الأكبر السيخ شلتوت عن أن المذهب الشيعي مذهب إسلامي. . كانت خاصة بالمذهب الجعفري ، وليست خاصة بنظرية الإمامة عند ا لشيعة ، ولكن بعض الناس خلطوا هذين الأمرين . . . ).
والمفهوم من كلامه أمران :
الأول : أن الإقرار بأن المذهب الشيعي مذهب إسلامي لا يتعدى الجانب الفقهي ، وبمعنى آخر أن الفتوى لا تبيح الجانب الاعتقادي للشيعة ، وأن نظرية الإمامة ليست مذهبا إسلاميا يتعبد به. والحاصل عند الدكتور - اعتمادا على رأيه الذي سنوافيك به - تكفير الشيعة بلا محالة بحسب الأصول الفقهية ، لأن الإمامة تصبح بنظره بدعة وغلوا ، لأنه إدخال في الدين ما ليس منه وان صرح خلافه .
الثاني : أنه يرى إمكانية الفصل بين (الفقه ) و(العقيدة) فيما لو أريد الاتباع ونجيب على حاصل المفهوم فنقول :
أولا : إن هذا يتنافى مع قناعته التي تفضل بها عندما قال : ( أنا لا أميل استخدام أساليب التكفير في داخل الأمة الإسلامية) وصرح بما يفيد أن الشيعة جزء من الأمة الإسلامية .(22/5)
ثانيا : لا أدري من أين له أن يفصل في المذاهب بين " الفقه " و" العقيدة " وكأنه نسي حينها بأن الأول نعني به " الفروع " والثانية نعني بها " الأصول " ، وإنما الفروع تابعة للأصول .
ويشهد بهذا ما حكم به هو - حسب اعتقاده - من القول بتكفير الشيعة لأهل السنة - وان لم يصرحوا - إذ لا بد من إجراء أحكام الكفر على منكر الإمامة فقها كما قال ،مثيل من أنكر التوحيد أو النبوة أو المعاد، وهذا يعني في الحقيقة عدم إمكانية فصل " الأصول " عن " الفروع " في المذاهب ، لأن كثيرا من أحكام الأخيرة تتوقف على الاعتقاد بالأولى كما بينا .
هذا كله فيما لو صح كلام الدكتور بأن فتوى الشيخ شلتوت إنما كانت خاصة بالمذهب الجعفري ، وليست خاصة بنظرية الإمامة ، ومن عاد إلى الوراء قليلا - وبالتحديد إلى زمن صدور الفتوى في 7/7/ 1959 - لعرف الحقيقة الدامغة التي تدحض كل ما جاء به الدكتور، من تلبيسات وأوهام بشأنها . . . وللتوضيح أنقل - مقتطفا - بعضا مما جاء فيها باختصار، قال شيخ الأزهر السابق :
" أولا : . . . ولا عبرة بما يكتب في بعض الكتب عن انحصار المذاهب التي يجوز تقليدها في الأربعة المشهورة ، ولا بما يقال من أن : من قلد مذهبا ليس له أن ينتقل منه إلى غيره. وفي ذلك يقول الشيخ عز الدين بن عبد السلام : لم يزل الناس يسألون من اتفق من العلماء من غير تقيد بمذهب ، ولا إنكار على أحد من السائلين ، إلى أن ظهرت هذه المذاهب ومتعصبوها من المقلدين ، فإن أحدهم يتبع إمامه مع بعد مذهبه عن الأدلة مقلد له في ما قال ، كأنه نبي مرسل ، وهذا نأي عن الحق وبعد عن الصواب لا يرضى به أحد من ذوي الألباب .
ثانيا : . . . ثالثا : إن هناك فرقا تنتسب إلى علي ، وهم شيعته المهتدون ، ومن هؤلاء الشيعة الصالحين الطائفة المعروفة بـ " الجعفرية " أو بـ " الامامية الاثني عشرية ".(22/6)
رابعا : لهذه الطائفة المعروفة أصولها المستمدة من كتاب الله تعالى ومن سنة رسوله المروية عن أئمتهم في العقيدة والشريعة . وليس الخلاف بينهم وبين مذاهب السنة ، أعظم من الخلاف بين مذاهب السنة بعضها مع البعض ، فهم يدينون بأصول الدين ، كما وردت في القران الكريم والسنة المتواترة ، كما يؤمنون بكل ما يجب ا إيمان به ويبطل الإسلام بالخروج عنه من الأحكام المعلومة من الدين بالضرورة . . .
خامسا: . . . " . انتهى .
والمنصف الذي يطالع الفتوى ، يعلم بأن الشيخ شلتوت إنما قدم هذه النقاط الخمس حتى يتضح جليا مراده ، وهذا ما صرح به هو بعد تلك النقاط ، قائلا في نفس نص الفتوى : ومن هذا البيان يتضح جليا، فذيل الفتوى - على مقتضى الاستفتاء - بجواز التعبد بمذهب الشيعة الإمامية "الاثني عشرية" بلا فرق بين العبادات والمعاملات ، مدركا بأن التعبد بالمذهب فقها إنما يتوقف على بيان صحة أصول الدين التي يعتقدون بها ، وهو ما ثبته في المقدمة المذكورة آنفا ، فلا مجال لدعوى الفصل بين المذهب الشيعي كـ " فقه " وبين المذهب الشيعي كـ " أصول للدين " حسب رأي شيخ الأزهر .
(( ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون ))(3) .
قضية آل البيت :
قال : ( وأنا أقول أن هذه ليست قضية خاصة بالشيعة ، لأن كل السنة يحبون آل البيت ، وأئمة آل البيت هم من أئمة المسلمين الذين يتعاطف معهم المسلمون .. . لكن المصريين تعاطفوا، معهم لأنهم أضطهدوا، لكن دون أن يتحول هذا التعاطف إلى الغلو الذي يجعلهم معصومين ، أو الذي يجعلهم يحتكرون الإمامة والخلافة والسلطة دون الأمة ) .
والكلام عن تلك المقالة يقع في نقطتين :
الأولى : في السلوك العملي المخالف :(22/7)
دعنا من الذي تميز به الشعب المصري عن غيره من حب لأهل البيت (ع) ، إلا أن القول بأن كل السنة يحبون أهل البيت (ع) فيه نظر، لأن هذا أمر لم تترجمه السيرة العملية ، ولا شهده شيعة أهل البيت (ع) في السلوك العملي لكثير من اتباع مذاهب أهل السنة .
وهذا نجده جليا في تدوين الصحاح والمسانيد للحديث إذ إن بعضهم أعرض عن الرواية لأئمة أهل البيت (ع) ، والبعض الآخر تعرض لما يوافق مذهبه لا غبر ، فالبخاري مثلا أعرض عن أحاديث الإمام جعفر الصادق (ع) ، وأخرج منها لمن يكن العداء والحقد للإمام علي (ع)
كعمران بن حطان الذي مدح قاتل الإمام (ع) عبد الرحمن بن ملجم لعنه الله بقوله :
يا ضربة من تقي ما أراد بها إلا ليبلغ من ذي العرش رضوانا.
والحال أن الإمام الصادق (ع) عرف بسعة علمه وكثرة الذين نهلوا من يديه العلم الوفير حتى بلغوا أربعة آلاف ، ومنهم بعض أئمة المذاهب ، أمثال أبي حنيفة النعمان ومالك بن أنس .
فقد اشتهر عن الأول قوله : " لولا السنتان لهلك النعمان " وكان يعني السنتين اللتين تتلمذ فيهما على يدي الإمام الصادق (ع) . واشتهر عن الثاني قوله : " ما رأت عين أفضل من جعفر بن محمد". ويقول عنه الجاحظ : " جعفر بن محمد ، الذي ملأ الدنيا علمه وفقهه ، ويقال : إن أبا حنيفة من تلامذته وكذلك سفيان الثوري ، وحسبك بهما في هذا الباب "(4).
وذكره ابن خلكان في وفياته قائلا : " كان من سادات آل البيت ، ولقب بالصادق لصدقه ، وفضله أشهر من أن يذكر"(5). والعجب أن البخاري ، وهو ممن عاصره ، لم يدرك فضله وقد أدركه أئمة المذاهب . . . وهكذا الحال في المسانيد والصحاح التي نقلت من الرواية والحديث عن الإمام علي (ع) ما لا يتجاوز الـ 500 حديث بينما نقلت عن أبي هريرة 6 آلاف حديث والأخير لم يمض سوى سنتين وأشهر مع الرسول (ص).(22/8)
أما الإمام علي (ع) فقد ربي في حجر الرسول (ص) ولم يتجاوز عمره بضع سنوات . وسيرة الخلفاء والحكام لأكبر شاهد على الممارسات الظالمة بحق أهل البيت (ع) وأتباعهم ، من القتل والتشريد والسب ، لمجرد أن ذنبهم الوحيد هو اتباع علي بن أبي طالب (ع) وأولاده لا غير .
والدكتور نفسه قد أيقن بمظلوميتهم عبر التاريخ ، ولذا فسر حب المصريين لهم بسبب الاضطهاد . . . وهذا الوضع من السلوك وان تغير قليلا في الوقت الحاضر، إلا أنه لا يزال يمارس في مختلف الدول ، حيث إن بعضها جرد الشيعة من حقوقهم المدنية - كما في ماليزيا - والبعض الآخر جعل يكيل التهم إليهم فيعتقل الواحد تلو الآخر خوفا على الحكم من التشيع والفكر الشيعي الذي لا يقبل المساومة على الحقوق المسلوبة .
الثانية : في الحب المزدوج : قبل كل شيء لا بد من الإشارة إلى أننا نكن خالص الاحترام والحب للشعب المصري ، خصوصا لتميزه عن الشعوب الأخرى بحب أهل البيت (ع). . . . ولكن ، أليس من واجب الدكتور - ومن باب الأمانة العلمية - تعريف الآخرين بالمضطهِد حتى لا يختلط الأمر عليهم فيحب الواحد منهم المضطهَد والمضطهِد معا؟ !
وهل يعقل هذا النوع من الحب المزدوج ؟ !
قضية الإمامة : لقد كانت الإمامة - كما قال بأنها - ( تمثل نقطة الخلاف الوحيدة بين السنة والشيعة)، ارتأينا أن نوضح للدكتور بعض الحقائق التي عزف عن ذكرها ، متناولين في القضية نقاطا عديدة :
النقطة الأولى : في النص : قال : ( إذن القضية أنهم جعلوا الإمامة بالتعيين ، وقالوا بروايات انفردوا، بها : أن الإمام والوصي بعد رسول (ص) هو الإمام علي ).
أقول : نعم ، فالشيعة قائلون بالنص في مقابل غيرهم ائذين اضطربوا تارة فقالوا بالنص على أبي بكر ، وتذبذبوا أخرى فادعوا الإجماع عليه ، وثالثة جعلوا الشورى هي الأساس في الإمامة والخلافة بعد النبي (ص) . ومن المناسب في المقام التعرض إلى أمور ، منها:(22/9)
أ - تعريف الإمامة في كتب الفريقين : يقول السعد التفتازاني في تعريفها أن : " الإمامة رئاسة عامة في أمر الدين خلافة عن النبي (ص) "(6) .
وأما العلامة الحلي فيقول : " الإمامة رئاسة عامة في أمور الدين والدنيا لشخص نيابة عن النبي (ص)"(7).
ومن الواضح أن الفريقين من حيث المبدأ اتفقوا على تعريف الإمامة من حيث المفهوم ، ولكنهم اختلفوا في من له الإمامة بعد الرسول (ص) من جهة، وأنها هل هي منصب عادي أم أنها منصب رباني من جهة أخرى (8).
ب - الخلافة عند أهل السنة : قال : ( أهل السنة يعتبرون أن الإمامة بمعنى الخلافة جزء من الشورى، وأنها جزء من سلطة الأمة، وان الإمامة بـ( البيعة) و (الاختيار) و(الشورى)، بينما الشيعة يعتبرون الإمامة بـ(النص) و (التعيين من السماء) لهؤلاء الأئمة، وأن الأمة لا شأن لها في اختيار الامام، والشورى لا دخل لها في اختيار الامام، والبيعة لا دخل لها في اختيار الإمام).
وقال أيضا : ( الميادين الحقيقية للاجتهاد يتميز بها الفكر السني كفكر عقلاني في النظر إلى الأمور والى الشورى والى سلطان الأمة، أين هو التمييز بين مذهبين ؟! أحدهما يقول : إن الأمة لا شأن لها بالدولة والسياسة والإمامة، ومذهب يقول : إن الأمة هي المعصومة ( لا تجتمع أمتي على ضلال )، وفيه العصمة للأمة.. والشورى للأمة .. والسلطان للأمة ).
والحق أن المتتبع لما قيل عن الخلافة في كتب أهل السنة يستخلص - كما أشرنا - أن القول بصحتها لأبي بكر يرجع إلى ثلاثة آراء :
الأول : في النص عليه :
وهذا لم يذكره الدكتور نفسه لوضوح أنهم لا يقولون بالنص،إذ لا محصل له ولا دليل عليه سوى ما ادعاه بعض أهل السنة أمثال البكرية ، وهو قول شاذ لم يلتزم به أحد من أكابرهم لضعف الأدلة عليه ، ولم يصل إلينا أن أبا بكر احتج على أحد بالنص عليه من قبل النبي ، وإلا لما حصل في سقيفة بني ساعدة ما حصل !!
الثاني : في الإجماع عليه :(22/10)
ودليلهم ما روي عن النبي (ص) : ( لا تجتمع أمتي على ضلال ) أو: (على خطأ) كما في بعض النصوص ، ونحن لو سلمنا بها وبصدورها منه (ص) إلا أنها لا تنفع في مقام الاستدلال على خلافته ، لأنها خارجة تخصصا ، إذ كيف يدعى إجماع الأمة على صحة خلافة أبي بكر وفيها من الصحابة الكبار الذين كانوا يعارضونها ، أبرزهم الإمام على (ع) والعباس بن عبد المطلب والفضل ابن عباس وخالد بن سعيد والمقداد بن الأسود الكندي وسلمان الفارسي وأبو ذر الغفاري وعمار بن ياسر والبراء بن عازب ، وغيرهم ، خصوصا من بني هاشم . وهذا اليعقوبي يصرح في تخلف علي (ع) وبعض الصحابة عن بيعة أبي بكر . وذاك البلاذري في أنسابه (9) وابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة(10) ينقلان أن أبا بكر بعث عمر إلى علي (ع) حين رفض البيعة له . وقال : ( ائتني به بأعنف العنف ) فلما أتاه جرى بينهما كلام ، فقال (ع) : (احلب حلبا لك شطره ، والله ما حرصك على إمارته اليوم إلا غدا)..
ويبقى أن نسأل أين هو هذا الإجماع للأمة ؟ !
الثالث : في الشورى :
في الواقع يتساءل الإنسان عن تلك الشورى التي كانت محور الخلافة عند أهل السنة ، حتى جعل الدكتور يميز بين المذهبين معتبرا أن الشيعة عندما يقولون بالعصمة للأئمة بالنص عليهم يسلبون الأمة حقها . . وهذا في الحقيقة جهل من الدكتور لحقيقة التشيع ، وسنوافيه بالحق عند البحث في العصمة ، إلا أن القول بأن الشورى هي التي تعصم الأمة من الخطأ ، وأن الخلافة هي جزء من الشورى يستلزم بطلان خلافة الأول والثاني !
وتوضيح ذلك في ما يلي :
1 - الشورى والسقيفة : إن من سبر أغوار السيرة وتتبع مجرى الأحداث في سقيفة بني ساعدة، يتضح له أن ما جرى لم يكن في الحقيقة شورى ، وانما نزاع ومشاحنة حادة على السلطة.(22/11)
وأين هي تلك الشورى التي ليست لها ضوابط محددة ، حتى وصلت إلى حد السباب والهم بالقتل؟ وحتى لا نكون من أصحاب الشعارات البراقة . . لا بأس بالعودة إلى الوراء قليلا والقاء نظرة سريعة من نافذة سقيفة بني ساعدة، حتى يعلم الخبر كما في كتب أهل السنة.
نقل الطبري في تاريخه أن الحباب بن منذر، الصحابي البدري ،عندما ارتفعت الأصوات رد على عمر قائلا : " يا معشر الأنصار! أملكوا على أيديكم ، ولا تسمعوا مقالة هذا وأصحابه فيذهبوا بنصيبكم من هذا الأمر ، فإن أبوا عليكم ما سألتموهم فأجلوهم عن هذه البلاد وتولوا عليهم الأمور . .
فقال عمر: إذا بقتلك الله !
قال الحباب : بل إياك يقتل !"(11) .
وهذا الطبري من نفس الجزء ، وأحمد في مسنده ينقلان قول بعضهم : "اقتلوا سعدا قتله الله ، إنه منافق أو صاحب فتنة " وقد قام عمر على رأسه ويقول : " لقد هممت أن أطأك حتى تندر عضوك أو تندر عيونك "(12).
وقد نقل الطبري أيضا وفي نفس المصدر، وكذا في السيرة الحلبية أن قيس بن ساعدة أخذ بلحية عمر، فقال له الأخير: " والله لو حصصت منه شعرة ما رجعت وفي فيك واضحة! أو: لخفضت منه شعرة ما رجعت وفي فيك جارحة"(13) . .
وقد ذكر الطبري في المصدر السابق عن أحدهم قوله : "إني لأرى عجاجة لا يطفئها إلا الدم ". وهذا ابن هشام في السيرة النبوية ينقل ؟ عن عمر قوله : " كثر اللغط وارتفعت الأصوات حتى تخوفت الاختلاف "(14) . . .
وهل مثل هذا الاجتماع وبهده الكيفية يسمى شورى ؟ ! !
وهل إن مثل هذه البيعة هي التي ترتضيها الأمة ؟ !
الجواب هو ما تلفظ به عمر نفسه عندما قال : " كانت بيعة أبي بكر فلتة كفلتة الجاهلية وقى الله المسلمين شرها " . وبلفظ آخر: " كانت بيعة أبي بكر فلتة فتمت ، وإنها قد كانت كذلك إلا أن الله قد وقى شرها ، من بايع رجلا من غير مشورة من المسلمين ، فإنه لا بيعة له "(15)
2 - الشورى وخلافة الثاني :(22/12)
لو صح ما قاله الدكتور بأن الشورى هي المقوم للخلافة ، فأين هي وأين هو سلطان الأمة في خلافة الثاني ؟ !
لأنك لو ألقيت نظرة سريعة في صفحات التاريخ لعلمت أنها - أي خلافة عمر - لم تكن سوى استخلافا ، يقول ابن قتيبة : " دعا أبو بكر عثمان فقال : أكتب عهدي . فكتب عثمان وأملى عليه : بسم الله الرحمن الرحيم ، هذا ما عهد به أبو بكر بن أبي قحافة آخر عهده بالدنيا نازحا عنها ، وأول عهده بالآخرة داخلا فيها ، إني أستخلف عليكم عمر بن الخطاب . . . "(16)
وزاد ابن الأثير في الكامل في التاريخ أن أبا بكر غشي عليه فأكمل عثمان وكتب فيه استخلاف عمر فأفاق أبو بكر وقال : "اقرأ علي . فقرأ عليه ، فكبر أبو بكر وقال : أراك خفت أن يختلف الناس إن مت غشيتي "(17).
ومن الثابت أيضا قول عمر كما نقل الطبري ، وفي تاريخ الخلفاء : " لو كان أبو عبيدة بن الجراح حيا استخلفته ، ولو كان سالم مولن أبي حذيفة حيا استخلفته "(18).
3 - الشورى في الميزان :
ولنا الحق أن نقول : ترى هل أدرك أبو بكر أن الاستخلاف هو أفضل السبل لإبعاد الأمة عن الفتنة ، وأن الرسول (ص) لم يدرك هذا السبيل ؟ !
نقول أيضا : أترى أن عمر أدرك بنفسه أهمية أن يعين هو أسماء الذين سيشكلون الشورى من بعده ، والنبي (ص) قد خفي عليه هذا ا لأمر ؟ !
وكيف يعقل أن يبين الرسول (ص) صغائر الأمور وأحكامها حتى التخلي وينسى أن يبين للناس أحكام تلك الشورى المزعومة ووظائفها ، التي إليها يرجع مصير الأمة ، فلا يعين أفرادها ولا يبين أحكامها ؟ ! كلها أسئلة ليس لها من جواب ! غير أن الشورى لم تكن مفهوما مرتكزا بين الصحابة حتى عند أبي بكر وعمر، ولا كانت أساسا تبني عليه الأمة صلاحها .(22/13)
والذي يثبت - حقا - أن الشورى ليست هي الجزء المقوم للخلافة ، وما ادعي من دلالة بعض الآيات عليها ليس واضحا ، وهو خارج عن البحث بالإضافة إلى أنها منقدحة بترك الخلفاء لها ، ومجملة لم يبين رسول الله(ص) أحكامها لو صح الاستدلال بها . . .
فيبقى أن نعود إلى النص لنرى مدى صحة ما اعتقد به الشيعة في النص على علي (ع).
ج -أدلة الشيعة على إمامة علي (ع) : قال : ( قالوا بروايات انفردوا بها . . . ) .
لا أدري كيف توصل الدكتور إلى هذه النتيجة ؟ ! مع العلم بأن كتب الشيعة تزخر بالإثباتات والأدلة التي ذكرت في كتب الفريقين ، وقد حققت في محلها، إلا أننا تفنيدا لما ادعي نبحث في بعضها اختصارا، معتمدين على شواهد من القران والسنة يؤيدها حكم العقل ، مع ذكر أهم المصادر لأهل السنة .
1 - فاتحة الكلام :
وهي في مقدمة عقلية مفادها أن الإمامة " كالنبوة ، لطف من الله تعالى ، فلا بد أن يكون في كل عصر إمام هاد يخلف النبي في وظائفه ، من هداية البشر ، وارشادهم إلى ما فيه الصلاح والسعادة في النشأتين، وله ما للنبي من الولاية العامة على الناس لتدبير شؤونهم ومصالحهم واقامة العدل بينهم ورفع الظلم والعدوان من بينهم . وعلى هذا ، فالإمامة استمرار للنبوة ، والدليل الذي يوجب إرسال الرسل وبعث الأنبياء هو نفسه يوجب أيضا نصب الإمام بعد الرسول ، فلذلك نقول : إن الإمامة لا تكون إلا بالنص من الله تعالى على لسان النبي أو على لسان الإمام الذي قبله "(19) .
إذن فالقضية هي أن الإمامة مقتضى لطف الله عز وجل بعباده ، وكماله المطلق ، حتى يعرف الناس طريق سعادتهم وصلاحهم .
2 - من أدلة الشيعة في القرآن :(22/14)
نكتفي منها بآية الولاية ، وهي قوله تعالى : ( إنما وليكم الله ورسوله والذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون ) (20) وهي آية مباركة نزلت في حق علي (ع) وروايات الخاصة والعامة متظافرة على نزولها في حقه (ع) وقد نقل العلامة الأميني في الغدير(21) 66 مصدرا من مصادر أهل السنة ، نذكر منها : ذخائر العقبى - لمحب الدين الطبري -: 102 ، وتفسير ابن كثير 2/ 4 1 ، والنسائي في صحيحه ، وابن جرير الطبري في تفسيره 89/6 2 ، والحافظ الطبراني في معجمه الأوسط ، والزمخشري في الكشاف 1 /347 ، وابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة 275/3 ، والقاضي البيضاوي في تفسيره 1 / 5 34 ، والسيوطي في الدر المنثور 2 /93 2 . . . ولفظ الحديث ، أنه روي : " عن أنس بن مالك أن سائلا أتى المسجد وهو يقول : من يقرض الملي الوفي ، وعلي (ع) راكع يقول بيده خلفه للسائل أي : اخلع الخاتم من يدي .
قال رسول الله : يا عمر! وجبت . قال : بأبي أنت وأمي يا رسول الله ، ما وجبت ؟ !
قال : وجبت له الجنة ، وما خلعه من يده حتى خلعه الله من كل ذنب ومن كل خطيئة.
قال : فما خرج أحد من المسجد حتى نزل جبرائيل بقوله عز وجل : ( إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون ) فأنشأ حسان بن ثابت يقول :
أبا حسن تفديك نفسي ومهجتي وكل بطيء في الهدى ومسارع
أيذهب مدحي والمحبين ضائعا؟! وما المدح في ذات الإله بضائع
فأنت الذي أعطيت إذ أنت راكع فدتك نفوس القوم يا خير راكع
بخاتمك الميمون يا خير سيد ويا خير شار ثم يا خير بائع
فأنزل الله فيك خير ولاية وبينها في محكمات الشرائع(22/15)
ولفظ " الولي " في الآية دال على الإمامة لمن أنصف وترك التعصب ، وتفسيرها بالمحب والناصر خلط للمتعلق بالمفهوم ، على أنه أول ما يتبادر للذهن معنى" الولي " بمعنى المتصرف ، ولذا لا يشك أحد في أن قوله (ص) كما في مسند أحمد : " أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل " على أن المراد منه التصرف لا الحب والنصرة . .
والحاصل أن الروايات التي فسرت الآية لم ننفرد بها ، وهو القدر المتيقن في المقام ، فلا يصح ما قاله الدكتور من أننا انفردنا بالروايات الدالة على إمامة علي (ع)، وسنشير إلى آيات أخرى
من هذا القبيل عند البحث في العصمة.
3- من السنة النبوية:
وهي كثيرة جدا، وانما نكتفي بما يناسب البحث :
* حديث الدار في يوم الإنذار : وهو من الأحاديث التي لا شك في صحتها ، وقد ذكرته كتب الفريقين في الصحاح وغيرها . . . منها : ما أخرجه أبو إسحاق الثعلبي في تفسيره الكشف والبيان عن البراء بن عازب قال : " لما نزلت هذه الآية : ( وأنذر عشيرتك الأقربين ) جمع رسول الله (ص) بني عبد المطلب وهم يومئذ أربعون رجلا. .. ثم أنذرهم رسول الله فقال : يابني عبد المطلب ! إني أنا النذير إليكم من الله عز وجل والبشير ، فأسلموا ، وأطيعوني تهتدوا . ثم قال : من يؤاخيني ويؤازرني ، ويكون وليي ووصيي بعدي ، وخليفتي في أهلي ، يقضي ديني ؟ ! فسكت القوم ، فأعادها ثلاثا ، كل ذلك يسكت القوم ويقول علي (ع) أنا. فقال في المرة الثالثة : أنت . فقام وهم يقولون لأبي طالب : أطع ابنك ، فقد أمر عليك !(22/16)
هذا ، وقد أخرج الحديث بطرق متعددة وفي صور مختلفة ، منها ما ذكره أحمد بن حنبل في مسنده 1 / 111 ، وتاريخ الطبري 2 / 62 ، والكامل في التاريخ 2 / 40 ، والنسائي في الخصائص : 18 ، وابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة 3 / 200 ، والسيوطي في جمع الجوامع 6 /408 ، والحلبي في سيرته 1 / 304. وفي الحديث دلالة واضحة على الوصاية والخلافة من بعده وإن عز على بعضهم الإقرار بها! كما فعل الطبري في تفسيره 74/19 عند قوله (ص) : " أيكم يؤازرني على هذا الأمر على أن يكون أخي ووصيي وخليفتي فيكم ؟ "مستبدلا" الكلمتين الأخيرتين بـ " كذا وكذا" ! ! .
وهكذا فعل ابن كثير في تفسيره أيضا 351/3!! ولا أعتقد أن لهذا مبررا سوى إنه تحريف للكلم عن مواضعه .
* حديث المنزلة : وهو حديث متواتر متفق على صدوره من النبي (ص) ، وقد رواه جمع المحدثين بما فيهم أصحاب الصحاح ، كالبخاري في صحيحه 5 / 24 ، ومسلم في صحيحه 6/ 120 - 121 ، والترمذي في جامع الصحيحين 13 / 175 ، والنسائي في الخصائص : 14 ، وابن كثير في البداية والنهاية 7/ 0 34، وابن الأثير في أسد الغابة 6/4 2 ، وأحمد بن حنبل في المسند 2 / 74 . ونص الحديث - كما في البخاري - أنه لما أراد الرسول الخروج إلى غزوة تبوك خرج الناس معه ، فقال علي : " أخرج معك ؟ " . فقال (ص) : " لا " . فبكى علي ، فقال له رسول الله : " أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى ، إلا أنه لا نبي بعدي ، إنه لا ينبغي أن أذهب إلا وأنت خليفتي ".(22/17)
حديث الغدير : كأن الدكتور قد غاب عن ذهنه أن عمدة الأدلة عند الشيعة الدالة على النص هو حديث الغدير، الذي نص على ولاية أمير المؤمنين (ع) ، وقد تحقق عند الجميع بأنه قد روي ، وثبت عند الفريقين. وقد روى ابن عساكر في تاريخ دمشق 2 / 45 ، قال : " أخبرنا . . . عن حذيفة بن أسيد ، قال : لما قفل رسول الله (ص) عن حجة الوداع نهى الصحابة عن شجرات البطحاء متقاربات أن ينزلوا حولهن ، ثم بعث (22) إليهن فصلى تحتهن . ثم قام فقال : أيها الناس!
قد نبأني اللطيف الخبير، أنه لم يعمر نبي إلا مثل نصف عمر الذي يليه من قبله ، واني لأظن أنه يوشك أن أدعى فأجيب . . . ثم قال : أيها الناس ! إن الله مولاي وأنا مولى المؤمنين ، واني أولى بهم من أنفسهم ، فمن كنت مولاه فهذا علي مولاه ، اللهم وال من والاه ، وعاد من عاداه . ثم قال : أيها الناس ! إني فرطكم وإنكم واردون علي الحوض . . . واني سائلكم حين تردون علي عن الثقلين ، فانظروا كيف تخلفوني فيهما ! الثقل الأكبر: كتاب الله سبب طرفه بيد الله عز وجل ، وطرف بأيديكم ، . فاستمسكوا به ولا تضلوا ولا تبدلوا ؟ والثقل الأصغر : عترتي أهل بيتي ، فإنه قد نبأني اللطيف الخبير انهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض " .(22/18)
وقد ذكر الشيخ أبو طالب تجليل التبريزي في كتابه شبهات حول الشيعة(23) عددا من الأسانيد المنتهية إلى صحابة الرسول (ص) من كتب . أهل السنة وصلت إلى 245 طريقا ذكرت في ؟ مسند احمد بن حنبل 84/1 و 88 و 8 1 1 و 2 5 1 و 1 33، وج 1/4 28 و 0 37 و 372 ، وج 5 /358 و 366 و 0 37 ، الخصائص - للنسائي -: 4 و 1 2 و 4 2 و 26 و 0 4 ، صحيح الترمذي 13 /65 1 ، المستدرك على الصحيحين 109/3 و 116، تفسير ابن كثير 14/2، سنن ابن ماجة 55/1 - 58، تاريخ دمشق : ذكر في ما يقارب 29 موضعا في الجزء الثاني منه ، منها في ص 18 و 9 1 و 28 و 30 و 53 ، تاريخ بغداد 2 /13 و 2 1 /343 و 4 1 / 236 ، مجمع الزوائد ، كفاية الطالب ، الإصابة ، الكنى والأسماء ، مناقب ابن ، المغازلي ، أسد الغابة ، المعجم الكبير ، البداية والنهاية ، ميزان الاعتدال ، فرائد السمطين ، الكنى للبخاري ، الجرح والتعديل ، وغيرها من المصادر التي يطول البحث فيها ولا تدع مجالا للشك في صدور الحديث. كما يمكن الرجوع إلى الجزء الأول من كتاب الغدير العلامة الأميني ، لتعرف أن النص لم ينفرد به الشيعة ، بل رواه 12 صحابيا ، و 84 تابعيا ، و 360 من أئمة الحديث وحفاظه .
نعم ، يبقى النقاش في الدلالة ، وهي واضحة لمن جرد ذاته عن العصبية ، إذ لا معنى لأن يجمع رسول الله (ص) الناس قبل ارتحاله إلى العلي القدير بشهرين وعدة أيام ليحث الناس على نصرة علي دون استخلافه ، إذ إن نصرته تحصيل حاصل يعرفها جميع المسلمين آنذاك فلا بد أن يكون المعنى هو تنصيب علي (ع) خليفة لا غير، وإلا فما معنى أن يعقد رسول الله (ص) مجالس تهنئة وتبريك ، ويأمر أصحابه بالتهنئة لعلي (ع) ومنهم عمر بن الخطاب الذي هنأ عليا بقوله : " بخ بخ لك يا علي ، أصبحت مولانا ومولى كل مؤمن ومؤمنة ) وقد نقل العلامة الأميني في كتابه المذكور لحديث التهنئة ؟ ستين مصدرا من مصادر أهل السنة(24) .(22/19)
حديث الثقلين : وهو حديث مشهور متفق عليه بين المسلمين ، وقد رواه من العامة الترمذي في جامع الصحيح 621/5، الطبراني في المعجم الكبير: 127 و 157 ، الحاكم في المستدرك على الصحيحين 109/3 ، الهيثمي في مجمع الزوائد 9 /63 1 ، المتقي في كنز العقال 1 / 0 34 ، ابن الأثير في جامع الأصول 0 1/ 0 7 4 ، ابن كثير في تفسير القران العظيم 2/5 66، السيوطي في الدر المنثور 2 / 0 6 ، مسلم في الصحيح 4 /873 1 ، ابن كثير في البداية والنهاية 7 / 348 ، وغيرهم. . . ولفظ الحديث - كما في كنز العمال - عن الرسول (ص) قال : " إني تركت ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي : كتاب الله ، حبل، ممدود من السماء إلى الأرض وعترتي أهل بيتي ، ولن يفترقا حتى يردا علي الحوض ، فانظروا كيف تخلفوني فيهما " .
والمفهوم من الحديث أن ضلال الأمة وهديها مرهون باتباع تلك العترة الطاهرة والتمسك بها ، لأنهم - أي أهل البيت - يدورون مدار العزيز ، وهذا دليل على أنهم العالمون بتأويله وتفسيره ، وأنهم السبيل الوحيد للنجاة ، فكيف لا يكون هذا نصا على ولايتهم ، وأنهم الأوصياء على الناس من بعده واليهم يرجع في مختلف شؤون الحياة؟ !
النقطة الثانية : في العصمة : تميزت الإمامية الاثنا عشرية بالقول بوجوب عصمة الإمام دون الفرق الأخرى . . . ولتوضيح هذه المسألة لا بد من تناول نقاط عديدة :
أ - في معنى العصمة وحدها : يقول الشيخ المفيد في كتابه النكت الاعتقادية : " العصمة لطف يفعله الله تعالى بالمكلف بحيث يمتنع منه وقوع المعصية وترك الطاعة مع قدرته عليها"(25). وبمعنى آخر فان العصمة هي أعلى درجات التقوى والابتعاد عن الشهوات . . . فأين هو الغلو بهذا المعنى ؟ !
ب - في أدلة الشيعة على العصمة:(22/20)
قال : ( وهم بدلا أن يقيسوا منصب الإمامة كما صنع أهل السنة على الولاية، قاسوا منصب الإمامة على النبوة والرسالة، فجعلوا الأئمة معصومين كما أن الرسل معصومون، وجعلوهم المرجع للشريعة دون الأمة، وجعلوهم هم الحجة دون الأمة ).
نعم ، نحن نقيس الإمامة بالنبوة والرسالة بخلاف أهل السنة الذين قاسوا هذا المنصب على الولاية والولاة كما ذكر الدكتور ، ولكن نقول له أن هذا أمر منصوص عليه من الشارع ، وبرهانه القرآن الكريم ، وتحديدا في آيات هي دالة نقلا وعقلا على إمامة الأئمة من جهة ، وعصمتهم من جهة أخرى ، منها :
1 - آية الطاعة : وهي قوله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم ..)(26) . وأما نقلا ، فقد روى الحاكم الحسكاني في شواهد التنزيل 1 /149 أنها نزلت في علي بن أبي طالب ، وكذا رواها كل من أبي حيان الأندلسي في تفسير البحر المحيط 278/3 ، ومحمد صالح الترمذي في المناقب المرتضوية : 56 ، والقندوزي في ينابيع المودة : 116 ، والامرتسري في أرجح المطالب : 85 . . هذا من حيث المناسبة على أن " أولي الأمر" مقصود بها علي ، فتكون طاعته واجبة كما هي طاعة الرسول (ص) . وأما عقلا ، فالآية تثبت العصمة لعلي (ع) خصوصا ، ولأولي الأمر عموما ، إذ إن الله قرن طاعة الرسول بالطاعة لأولي الأمر ، فلو قلنا بجواز أن يأمر الله بالطاعة لغير المعصوم ، فإن لازمه جواز الأمر بالطاعة لمن يمكن في حقه فعل المعصية ، ويستحيل أن يأمر الله تعالى ويرخص في اتباع من يجوز في حقه العصيان ؟ لأنه قبيح بحكم العقل ، كما هو الحال في حق النبي (ص) من الاتفاق على عصمته ، حذرا من انقداح الوثاقة في نقله (ص) للأحكام الإلهية " فلو جاز الخطأ عليه لم يبق وثوق بما تعبدنا ، الله تعالى به وما كلفناه ، وذلك يناقض الغرض من التكليف وهو الانقياد إلى مراد الله تعالى "(27) .(22/21)
من هنا لابد أن تكون الطاعة المشار إليها في الآية مختضة بمن هو معصوم ، إذ لولا عصمة أولي الأمر لما أمرنا الله تعالى بطاعتهم ، وللعلة ذاتها ولنفس الملاك الذي في الرسول (ص) من ضرورة العصمة عقلا .
وهذا الإمام الرازي في تفسير الآية(28) يذعن لتلك الحقيقة ، ويصرح بدلالتها على العصمة .
2 - آية التطهير : وهي قوله تعالى : ( إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا) (29) .
وقد وصلت الروايات التي دلت على نزولها في حق أصحاب الكساء : رسول الله ، وعلي ، وفاطمة ، والحسن ، والحسين صلوات الله وسلامه عليهم ، إلى حد التواتر، ومن علماء أهل السنة الذين رووا نزولها في حقهم (ع) الطبري في جامع البيان 6/22 ، وابن كثير في تفسير القران العظيم 458/3 ، والبلاذري في أنساب الأشراف 2 / 104 ، والسيوطي في الدر المنثور5 /198 ، والحاكم النيسابوري في المستدرك على الصحيحين 416/2 ، وابن عساكر في تاريخ دمشق 1 / 250 ، وغيرهم . . . حتى وصلت ما يقارب أربعين طريقا .
وأما الدلالة فواضحة : إذ إن المراد من الرجس في الآية : القذارة ، التي هي أعم من المادية والمعنوية . يقول ابن منظور في لسان العرب إن " الرجس : القذر، وكل قذر رجس ، وفي الحديث : أعوذ بك من الرجس النجس . وقد يعبر به عن الحرام والفعل القبيح والعذاب واللعن والكفر"(30) . وقال الزجاج : " الرجس في اللغة كل ما استقذر من عمل "(31) . وقال ابن الكلبي : " رجس من عمل الشيطان أي مأثم " . والملاحظ أن القرآن قد استعملها عشر مرات في الأمور المادية والمعنوية ، فوصف بالرجس الذين لا يعقلون ، في قلوبهم مرض ، لا يفقهون ، لا يتوبون ، لا يذكرون ، كفروا ، كذبوا ، نافقوا . . إلى آخره ، ولا شك أن المنفي مطلق الرجس ، وأن الآية دالة على عصمة أهل البيت بنفي مطلق الرجس عنهم واختصاصهم بها .(22/22)
ولفظ الحديث عن وائلة بن الأصقع ، قال : " جئت رسول الله (ص) وهو في منزل أم سلمة ، قد جاء الحسن فأجلسه على فخذه اليمنى وقبله ، وجاء الحسين (ع) فأجلسه على فخذه اليسرى فقبله ،ثم جاءت فاطمة فأجلسها بين يديه ، ثم دعا بعلي (ع) فجاء ، فأردف عليهم خيبرياً، كأني أنظر إليه ، ثم قال : ( إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا) .
3 - آية الإمامة : وهي قوله تعالى : ( وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمنهن قال إني جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي ا لظالمين ) ( 32) .
ومن الواضح أن إبراهيم (ع) عندما سأل الإمامة لذريته أجابه عز وجل بأن هذا المقام لا يناله ظالم ، ولا شك أن من أذنب ذنبا في حياته ظالم في حق نفسه ، وظالم لها وان عاد عن ظلمه وارتفع العقاب عنه ، والآية مطلقة تشير إلى كل من ظلم نفسه سابقا وحالا فكيف لو كان الظلم هو الشرك فإنه ظلم عظيم بنص القران الكريم ؟ !
والنتيجة : إن الإمامة لا تصلح إلا لمن خلت نفسه عن الذنب ، وبمعنى آخر فإن شرط الإمامة العصمة ، ومن دونها لا تصح .
النقطة الثالثة : في مسائل متفرقة بين الإمامة والعصمة :
لقد تعرض لمسائل متعددة في قضية الإمامة لا بأس أن نشير إلى بعضها ونترك الأخرى إلى محلها ، وهي كما يلي :
أ -احتكار أو اصطفاء للإمامة ؟ !
قال : (لكن المصريين تعاطفوا معهم..دون أن يتحول هذا التعاطف الى الغلو الذي يجعلهم معصومين، أو الذي يجعلهم يحتكرون الإمامة والخلافة والسلطة دون الأمة).
إن العصمة وانتخاب أفراد معينين من ذرية محمد (ص) للإمامة لا ينافي مصلحة الأمة ، وليس هذا احتكارا ، وإلا لكان اختيار الله عز وجل لآدم ونوح وآل إبراهيم وال عمران على العالمين كذلك ، وقد قال الله تعالى : (إن الله اصطفى آدم ونوحا وال إبراهيم وال عمران على العالمين ذرية بعضها من بعض والله سميع عليم )(33).(22/23)
وقال عز وجل : ( وكذلك يجتبيك ربك ويعلمك من تأويل الأحاديث ويتم نعمته عليك وعلى آل يعقوب كما أتمها على أبويك من قبل إبراهيم وإسحاق إن ربك عليم حكيم )(34).
وقال عز وجل : ( ولقد أرسلنا نوحا وإبراهيم وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب.. ) (35) .
لذا ، نحن نسأل الدكتور هل إن القول بجعل النبوة والكتاب في خصوص ذرية إبراهيم ونوح احتكار لهما ؟ ! ولا أعتقد أن أحدا من المسلمين يتجرأ بنسبة ذلك إلى الله تعالى ، والسبب جلي.
ب - بين النبوة والإمامة :
إن قلت : إن العصمة والإمامة لا يتعدى بهما إلى من هم دون مستوى ا لنبوة . نقول لك : إن علماء المسلمين ومحدثيهم اتفقوا على النصوص التي استند بها الشيعة على إمامة الأئمة ، والتي لها دلالة قاطعة على أن الإمامة هي امتداد للولاية التي كانت قبلهم ، وليس الالتزام بهذا موجبا لمناقضة عقلية إذا أنيطت العصمة لهم على فرض طاعتهم وولايتهم كما فرضت طاعة الرسول(ص) وولايته على الناس .
فلا مانع عندئذ أن يخص الله بعض ذرية محمد (ص) بعلم الكتاب والعصمة لطفا منه كما جعلها في ذرية إبراهيم دون ، النبوة ، للاتفاق والإجماع على أن النبي (ص) هو خاتم الأنبياء .
ومن هنا يعلم معنى قوله (ص) : ( إني تارك فيكم الثقلين ، كتاب الله ، وعترتي أهل بيتي )
إذ إن الأصل يقتضي - بعد انتفاء النبوة بالتسالم والتصريح - بقاء علم الكتاب في ذرية إبراهيم ، وبالتالي في ذرية محمد (ص) إذ لا تصريح على خلافه ، بل إن الحديث المتقدم بالإضافة إلى بعض الروايات التي تشير لهذا المعنى ، والآيات الأخرى من قبيل ( إني جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين ) - وقد مر البحث في دلالتها - يؤكد ما ندعيه .
دفع توهم :(22/24)
إن قيل : إن إبراهيم قد سألها لذريته ولم يجبه الله تعالى . نقول : إن هذا صحيح بمعنى عدم شمولية الإمامية لجميع ذرية إبراهيم (ع) بل إنها مختضة ببعضهم دون بعضهم الاخر، ويشهد بذلك بقاء النبوة في ذرية : إسماعيل ، إسحاق ، يعقوب (ع) . . .
ج - بين الإمامة والأصول : قال : ( إذن هم - شاءوا أم لم يشاءوا - صرحوا أو لم يصرحوا، فمن الناحية العلمية وطالما أنهم وضعوا الإمامة أصلاً من أصول العقائد فلا بد أن يكفروا خصومهم، وأنا رأيي أن هذا هو سر الانقسام الذي نجده في الكتب العلمية التي تكون علماء الدين ).
ا - نحن نسأل الدكتور عن ( شاءوا أم لم يشاءوا، صرحوا أو لم يصرحوا) هل هي عبارة توحي بالحوار الفكري أم إنها تعبر عن تطرف ما في الآراء ؟ !
2 - يقول السيد محسن الخرازي في كتابه بداية المعارف الإلهية في شرح عقائد الإمامية : ( ثم إن الإمامة إذا كانت أصلا من أصول الدين يلزم من فقدها اختلال الدين ، ولكن مقتضى الأدلة التعبدية هو كفاية الشهادتين في إجراء الأحكام الإسلامية في المجتمع الإسلامي في ظاهر الحال ، فلا منافاة بينهما، فلا تغفل .
ولما ذكر يظهر وجه تسمية (الإمامة والعدل ) بأصول المذهب ، فإن معناه - بعد ما عرفت من كفاية الشهادتين تعبدا في ترتب أحكام الإسلام - أن إنكارها يوجب الخروج عن مذهب الإمامية ، لا عن إجراء الأحكام ا لإسلامية " (36) .
ومن هنا يعلم أيضا أن إفراد " العدل " من الصفات - مع أنه يرجع إلى التوحيد الصفاتي - هو لأجل أن يكون مائزا بين الأشاعرة الذين أنكروا التحسين والتقبيح العقليين ، وبين الامامية والمعتزلة الذين أثبتوهما ، ولذا يقول السيد محمد كاظم الطباطبائي في رسالته الفقهية " العروة الوثقى " : " المراد بالكافر من كان منكرا للألوهية أو التوحيد أو الرسالة ( النبوة )، أو ضروريا من ضروريات الدين مع الالتفات إلى كونه ضروريا " ولم يذكر الإمامة.(22/25)
نعم ، زاد بعض الفقهاء ( المعاد) لا غير ، والعجيب في المسألة أن الدكتور لم يقل بضرورة تكفير المعتزلة للأشاعرة لأنهم وضعوا (العدل ) في أصول الدين والاعتقاد !!
د - حلول فاشلة :
قال في حل مشكلة إقحام الإمامة في الأصول الاعتقادية : ( إذا شئنا حلاً لهذه المشكلة فعلى الاثني عشرية أن يصنعوا ما صنع الزيدية..الزيدية شيعة لكنهم لم يجعلوا الإمامة أصلا من أصول الاعتقاد) وكان قد قال : ( الزيديين لا يكادون يختلفون عن الفكر السني، وهم في الأصول قريبون من المعتزلة).
أيها الدكتور ! القول بأن الإمامة أصل من أصول الاعتقاد ليس اعتباطا منا ، إنما تشهد بذلك النصوص وتؤيده الآيات الداعمة وحكم العقل بضرورة نصب الإمام . لذا ، عليكم -أولا - أن تبرهنوا بالأدلة أن الإمامة ليست أمرا سماويا ، ومن ثم تطلبوا منا نزع هذا الاعتقاد لو تمت ، وإلا فهو اجتهاد مقابل النص الصريح عندنا ، ولا نقبل به ، ومثاله فيما لو توقف إسلام عدد من الناس على حلية الخمر، والخمر منهي عنه ، فلا يمكن الحكم بحليته ، لأنه تصرف مخالف للأمر المولوي وان كان عاملا مساعدا في نشر الإسلام ، ومع ذلك فقد حللنا مشكلتكم في ما سبق ، فلا داعي لمثل تلك الحلول.
س - مغلطة دكتور: قال : ( إن أصول الإسلام ليست خمسة (عند الشيعة)، إنما هي ستة، والسادس هو الولاية، وجعلوا هذا الأصل (الإمامة) أهم اصل من أصول ..).
لا أدري من أين حصل الدكتور على هذه المعلومات ! ولكن أصول العقائد عند الشيعة خمسة ولا سادس لها .
خلاصة الكلام حول الإمامة :
والحق أن الإمامة لا شك في أنها من الأمور التي يتوقف عليها إكمال الإيمان ، وكما بينا فإن لنا عليها الأدلة العقلية والنقلية .
في الحديث : ( من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية)(37)(22/26)
دلالة واضحة وغنى وكفاية على مدعانا ، مضافا إلى أن بعض علماء أهل السنة كالقاضي البيضاوي يقول بأن الإمامة من الأصول ، وبعضهم الآخر كالتفتازاني لا يجزم بكونها من الفروع وإنما يقول : "هي بالفروع أليق "(38) ، فلا يصح ما قاله بأن (أهل السنة جميعا متفقون على أن الإمامة والسياسية ليستا من أمهات العقائد، وليستا من أصول العقائد) .
قضايا أخرى
لا بأس أولا ، وقبل الخوض في تلك القضايا الأخرى التي بحثها الدكتور ، أن نتعرض لمسألة تناولها الدكتور بشيء من المغالطة عندما قال : ( تكتب إحدى المجلات، مجلة (تراثنا) التي تصدر في قم بـ(إيران) سلسلة مقالات عن أعداء السنة النبوية، فيكون أول مقال عن العدو الأكبر أبي بكر، والمقال الثاني عن العدو الثاني عمر ..) .وفيه
أولا : إنه ليس في المجلة مثل هذا الكلام ، ولا أن فيها مقالا عن ( العدو الأكبر أبي بكر) ولا عن ( العدو الثاني عمر ) وانما هي ادعاءات لا أساس لها ، وعناوين لم ترد مطلقا في المجلة وليراجع عددها الأول 221 ) السنة السادسة / 1411 هـ
ثانيا : غاية ما هناك أن الباحث ذكر فيها بالأدلة والشواهد المتقنة من المصادر السنية أنهما كانا يمنعان من نشر السنة النبوية بواسطة الصحابة وكذا من تدوينها ، حتى أن الأول قد أحرق قسما مكتوبا منها ، واشترك مع الثاني بمنع الصحابة الرواة للسنة من الخروج من المدينة المنورة والالتقاء بسائر المسلمين . .(22/27)
هذا هو الذي قاله الباحث ، فإن كان استنتاجكم أن ذلك عداء للسنة النبوية فما ذنبه ؟ أ وما ذنب أصحاب المجلة ؟ ! كما أنه لا بأس الإشارة هنا إلى أن منهج المجلة في دراساتها بعيد كل البعد عن النعرات الطائفية والبلبلة المذهبية ، وهدفها حفظ التراث الإسلامي ، والعمل على توحيد كلمة المسلمين تحت راية واحدة ، ومن جال بنظره على أعدادها الصادرة حتى الان وراقبها عن كثب ، يدرك تلك الحقيقة الجلية ، وأن أبحاثها إنما تتميز بالدقة في التحليل والموضوعية في العرض للأفكار والمعلومات المستندة إلى مصادر يمكن الرجوع إليها لكل من أراد الوقوف عليها .
بعدها نعود إلى صدر البحث شاكرين أولا اعتبار الشيعة كجزء من الأمة الإسلامية وهذا منه تكرم وتفضل عليهم !
ثانيا: مستغربين قضية التكفير تلك التي طرحها مشعرا بأن الشيعة إنما يقولون بتكفير الصحابة ، ولذا فإننا سنفرد لذلك بحثا خاصا في هذه القضية .
قضية الصحابة :
قال خلال حواره في الإمامة : ( وتعصب الشيعة لأئمتهم جعلهم يشقون صف الأمة، ويبدأون رفض الصحابة باستثناء ثلاثة أو أربعة من الذين أيدوا الإمام علي : المقداد وسلمان وأبو ذر).
أولا : مصادرة واضحة :
أ -على أي أساس يقال : إن تعلق الشيعة بأئمتهم يشق صف الأمة ؟ !
ألا يمكن أن يقال : إن تعصب أهل السنة للصحابة يشق صف الأمة أيضا !
إن في كلام الدكتور مصادرة واضحة ، لا بل إن مثل هذه الاتهامات هي التي تشق وحدة المسلمين وتبعدهم عن العقلانية والمنطق في التحاور . لذا ، كان الأجدر به أن يحاور وفق أسس بناءة ، لأن ما يراه الشيعة في الأئمة ليس تعصبا بقدر ما هو التزام بالشريعة واحتكام للمنطق والعقل . لا بل إن الشيعة حافظوا على عرى الوحدة ومنعوا من انفصامها ، وليس عليه إلا أن يراجع التاريخ ليعرف كيف أن مؤيدي أمير المؤمنين (ع) من الصحابة وغيرهم إنما منعوا من المواجهة حقنا لدماء المسلمين وحفظا للسلام . .(22/28)
ثانيا : بين العدالة والتكفير :
نعود إلى مشكلة لا زال الدكتور يؤكد عليها في أبحاثه وأرائه التي تدخل في إطار زج الإسلام والمسلمين في أغوار لا يعلم عقباها إلا الله تعالى !
ونقول : أيها الدكتور! إن الشيعة عندما ترفض القول بعدالة بعض الصحابة لا جميعهم ، إنما لأجل فسقهم ولخلل في الإيمان ، والشواهد القرآنية والتاريخية دالة على ما نقول ، منها :
1 - إجماع المفسرين على أن آية ( يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ ! فتبينوا) (39) نزلت في الوليد بن عقبة ، وهو من صحابة رسول الله (ص) ، هذا خلال حياته (ص) (40).
2 - وأما بعد وفاته(ص) فقد روى أصحاب التواريخ أن الوليد بن عقبة شرب الخمر أيام ولايته وصلى الفجر أربع ركعات(41)
3- طليحة بن خويلد ارتد عن الإسلام وادعى النبوة ، وكذلك مسيلمة والعنسي ، وهما أشهر من أن يعرفا. إلى عديد من الشواهد الأخرى من الآيات والأحاديث الدالة على مدعانا ، وهي أن الخروج عن العدالة حقيقة لا ريب فيها ، فأما القول ( باستثناء ثلاثة أو أربعة) فهو مستند إلى ما جاءت به الروايات والآثار المذكورة بتراجمهم من كتب معرفة الصحابة وغيرها ، من كونهم من أهل الجنة وأنها تشتاق إليهم ، ومن حب النبي وأهل بيته لهم ، ولاشك في أن لهؤلاء مواقف مشكورة في سبيل حفظ الدين وجهود رسول رب العالمين ( 42)
ثالثا : شاهد على الصحابة :
ما نقله الدكتور في حديث الرسول (ص) مع عمر بقوله : ( المنافقون في عهد رسول الله (ص) ارتدوا على الإسلام وكانوا كفرة، والنفاق أشد من الكفر، ومع ذلك كانوا جزءا من الأمة، ولما كانت تظهر على أحدهم إمارات وعلامات النفاق ويأتي عمر بن الخطاب ويقول : يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق، يقول له : كلا حتى لا يقال إن محمداً يقتل أصحابه ). وفيه:
1 -إن الحديث من حيث الدلالة يعني أن الصحابة ليسوا جميعا عدولا، وبالتالي ما المانع من رفض بعضهم حتى يؤاخذه علينا ؟ !(22/29)
2 -إن كان المراد منه عدم التعرض للصحابة وان كانوا منافقين حفاظا على الوحدة ، فيكون الخليفة الثاني نفسه قد غفل عنها بعض الشيء ، لأنهم ذكروا أنه أقام الحد على قدامة بن مظعون ، وهو صحابي بدري ، يعد من السابقين الأولين ، ومن المهاجرين الهجرتين ، لشربه الخمر(43) ! وبالتالي يكون قد خالف حكم الرسول (ص) وهذا لا يقول به أهل السنة .
نعم ، الطريق الصحيح لتقويم مسار التحقيق هو الحوار البناء والعلمي الدقيق ، الذي ينظر للآخرين نظرة احترام لأفكارهم ومعتقداتهم ، وبعدها يناقش صحة ما ندعيه ، ونناقش صحة ما يدعيه ، وليكن حوارا تسود فيه أجواء المحبة والإخلاص للأمة ، لا طرح ادعاءات معينة دون براهين وإثباتات تذكر؟
رابعا : سلامة الموقف الشيعي :
إن سمة التشيع : النظر للأمور بواقعية تامة، والحكم في إطار العدل والمساواة بناء على الأدلة والشواهد.
ومن هنا ، فإن الشيعة إنما ينظرون الصحابة نظرة علمية منطقية . . وهذه الصحيفة السجادية للإمام زين العابدين علي بن الحسين (ع) يدعو فيها للصحابة فيقول : ( اللهم وأصحاب محمد خاصة الذين أحسنوا الصحبة، والذين أبلوا البلاء الحسن في نصره.. فلا تنس اللهم ما تركوه لك وفيك، وارضهم من رضوانك، وبما حاشوا الخلق عليك، وكانوا مع رسولك دعاة لك ..)(44).(22/30)
يقول السيد مهدي الحسيني الروحاني في كتابه بحوث مع أهل السنة والسلفية : (... وغير خفي أن هذه الدعوات بما فيها من الإعظام والإكبار ، شاملة لمعظم الصحابة رضي الله عنهم ، وأما احادهم تفصيلا فينظر في تراجمهم وتواريخهم ويحاكمون بمقتضى العدل ، والقول الفصل ، وحكم القرآن ،وكلام نبي الإسلام . . . وعليه فمن ناقش في علم بعض آحاد الصحابة ، أو خطأهم في بعض أفعالهم وأقوالهم ، حسب ما تقتضيه المقاييس الدينية ، فإن ذلك لا يخرجه من الإيمان إلى الكفر ، ولا من السنة إلى البدعة ، إذ ليس آحاد الصحابة وأشخاصهم محور الدين ، والكفر ، والسنة والبدعة " ( 45) .
خامسا : بين العدالة والعصمة :
ولا ينقضي العجب من الدكتور وغيره ائذين يصفون الشيعة بالغلو لأنهم قالوا بعصمة الأئمة الاثني عشر من جهة ، ويرون أن كل الصحابة عدول من جهة أخرى ! ! والعدالة -كما يقال - بأنها ملكة اكتسابية تمنع الصحابي عن الوقوع في الخطأ ، وأما العصمة - كما عرفت - فإنها ملكة نفسانية أو لطف إلهي تمنع المعصوم عن الخطأ .
وبالنظر إلى حقيقة العدالة والعصمة نعرف أن الفرق إنما يكمن لا في النتيجة ، بل في الطريقة..
ومعه ، فلو صح أن يكون اعتقاد الشيعة بعصمة الأئمة الاثني عشر غلوا لكان الاعتقاد بعدالة جميع الصحابة أشد غلوا منهم !
قضية التشيع والوحدة :
قال : ( يقلقني أن يأتي الشيعة ليبشرونا بمذهبهم ويزرعونه في قلب المجتمعات السنية، بنفس القدر الذي يقلقني أن يأتي نفر من أهل السنة ليزرع مذهب أهل السنة في المجتمعات الشيعية،.. فإنما يأتي الشيعة يزرعون مذهب (الإمامة والتشيع) داخل مجتمعات سنية أنعم الله عليها بالوحدة المذهبية، فهم يخلخلون وحدة المذهب، ويصنعون القلق الطائفي داخل مجتمعات برئت من هذه الخلخلة المذهبية والطائفية ).
وفيه :(22/31)
أولا : إن هذا إقفال لباب الحوار ، وقطع للطريق أمامه ؟ لأن المقتضي له طرح المشاكل العالقة بين الفريقين لتحل حلا جذريا يتفق عليه الطرفان ، ولا يتناقض هذا والحوار مع غير المسلمين ، فكيف إذا كان فيما بينهم ؟ !
ثانيا : إن المانع وهو الخلخلة في المجتمعات الإسلامية - إذا صح - أمر مطرد في غيرها ، ولكن الصحيح أن الحوار البناء المبني على قواعد سليمة وأسس متينة لا يولد مثل هذه الخلخلة كما قد يدعى ، وانما انسجام ووحدة في الحقيقة إذا ما خلص لنتيجة معينة ، وطبعا بشرط أن لا تسود هذه المجتمعات مثل تلك الحوارات التي تولد تعصبا في التفكير، وتطرح المغالطات ، لأنها هي التي تصنع القلق الطائفي .
ثالثا : نحن نسأل الدكتور لماذا الخوف من تشيع بعضهم إذا كان ذلك مقنعا لهم وثبت بالبراهين والأدلة الشرعية والعقلية ، التي عبر عنها هو بأنها لم ( ممارسات رعناء هدفها خداع الشباب )، طالما أنهم بقوا في حومة المسلمين ، وأن وحدة الأمة كما قال : ( تسع المذاهب والتيارات المختلفة وتسع ( الألسنة واللغات) والأقاليم المختلفة، بما في ذلك أن تكون هناك ملل ونحل مختلفة في داخل الأمة )؟!
وهل التشيع إلا مذهب من تلك المذاهب المختلفة ؟ !
أم إن هذا باعتقاده خروجا عنهم ؟!!
كما إنه يجب ألا يقلقه أن يأتي أهل السنة ليبشرونا ! لأننا -أولا - لسنا معقدين من فتح باب الحوار عن العقيدة ، لا بل نطلبه .
وثانيا : لأنا نعلم أن ثقافتنا الشيعية تمتلك المؤهلات الكافية للثبات ومواجهة الأفكار الأخرى ، لأن ركيزتها ليست مبنية على التعصب الفكري ، بل على القواعد العلمية والفكرية الدقيقة.
ولعمري إن هذا الكلام الصادر من الدكتور أدل دليل على قوة الفكر الشيعي.(22/32)
وأما التعدد الطائفي فهو ليس خللا - كما يتصور - بل عنصر من عناصر الحيوية في المجتمعات ، لأنها تحرك باتجاه بناء عقائد صحيحة من خلال التعرف على عقائد الآخرين ودفع شبهاتهم ، وليست تلك نظرة قصيرة المدى - كما عبر هو -إذا ما تم تصحيح الاعتقادات ، لعدم الخفاء بأن هذا أهم ما في الإسلام ، وهو أن يكون المسلم على بينة منها ، لا بل إن التقوقع في قالب معين من الاعتقادات دون النظر إلى صحتها وسقمها ، هي نظرة قصيرة المدى ، لأنها لا تنظر إلى الآخرة بعين الحقيقة ، ولا أعتقد أن هنالك هدف أسمى من الآخرة للوصول إلى شاطئ النعيم ، ولذا قال تعالى : ( ولتنظر نفس ما قدمت لغد)(46) والآية مطلقة ، والعجب أن الدكتور اعتبره خداعا !!
ملاحظة : قال : (ُ وفي المقاومة الشعبية لظلم الحكام الفاطميين تدهش عندما تعلم أن المظاهرات كانت تهتف لتغيير الحاكم الفاطمي ).
وهذه دعوى لم يقم الدكتور عليها دليلا بل إن الدليل على خلافه كما يظهر من نصوص تلك الأيام ؟ في تلك الحقبة ، والتي تشير إلى أن أهل السنة كانوا في تقية،خلال ذلك العهد!
قضية الثورية في الفكر الشيعي :(22/33)
قال : ( يزعمون - خاصة بعد الثورة الإيرانية- أن الفكر الشيعي فكر ثوري ، وانه تصدى لنظم الجور والطغيان على مر التاريخ ، وأقول: إن هذا وهم ، وهذه أكذوبة ، الشيعة منذ جعفر الصادق امتنعوا عن الثورة وعن العمل السياسي، وعن الدخول في كل قضايا السياسة ورضوا بكل النظم الحاكمة بصرف النظر عن جورها وعن عدلها، والذي كان يعارض ويناقش و..و.. الخ كان من علماء السنة..إذن الفكر الذي كان يقوم بالثورات - دعنا من الخوارج- وكان له دور في المعارضة والانتقاد والسياسة والعمل السياسي كان هو الفكر السني .. إلى أن جاءت سنة 1920. وأول فتوى تصدر عن الشيعة بالعمل السياسي ..إذن على طول تاريخنا كان الفكر الشيعي وبالذات فكر الاثني عشرية بعيدا عن الاشتغال بالسياسة .. فأين هي الثورية التي يخدعون بها بعض الشباب كي يرجحوا كفة المذهب الشيعي على المذهب السني ؟).
أقول : نحن نجيبك يا دكتور على سؤالك المطروح أخيرا في نقاط :
الأول : ثورية الفكر الشيعي :
إن كون الفكر الشيعي فكرا ثوريا أمر لا يجادل فيه اثنان ، وليست تلك أكذوبة أو وهم كما تدعي ، لا بل إن روح التشيع هي الثورية والتصدي لنظم الجور والطغيان عبر التاريخ ، ولذا قلت أنت يا دكتور إن ( المصريين تعاطفوا معهم لأنهم إضطُهِدوا )!
أوليس ذلك سببه الرفض لتلك الأنظمة الجائرة والعمل على إسقاطها أمرا بالمعروف ونهيا عن المنكر؟ وقد صرحت أيضا في حوارك المتقدم أنه ( كان الشيعة الفاطميون يحزنون في عاشوراء) . وبالتالي نحن نسألك أيها الدكتور ، أليست عاشوراء هي ثورة الإمام أبي عبد الله الحسين بن علي (ع) أم إنك نسيت ذلك ؟!(22/34)
وكأنك تعلم بأن الشيعة إنما يجددون كل سنة تلك الثورة من خلال إقامة المجالس والتذكير بمظلومية هذا الإمام العظيم ووقوفه أمام الجور والطغيان ويرددون كل سنة قوله : ( إني ما خرجت أشرا ولا بطرا ، إنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي رسول الله ) حتى قيل عندنا : ( إن الإسلام محمدي الوجود حسيني البقاء) .
وهذا إنما يعني أن التشيع روحه ثورة الإمام أبي عبد الله الحسين (ع) وبقاءه مرهون ببقائها في الأذهان ، وكفانا أن نعيد تلك الذكرى كل سنة عشرة أيام حتى تتجدد في نفوسنا عزيمة الثورة لمقاومة أنظمة الاستكبار والجور والطغيان ولو تطلب ذلك الاستشهاد في سبيل الله ، ومن هنا تفهم عبارة الإمام الخميني (رض) : " إن كل ما لدينا هو من بركة كربلاء أبي عبد الله الحسين (ع)". ونظرة واحدة في تراجم أئمتهم ، وحركات رجالاتهم ، وانتفاضات الشيعة ، تكفي للبرهنة على ثورية الفكر الشيعي ، ولعل هذا من الأمور الواضحة للمسلمين التي لا يشكك فيها إلا. . .
الثانية : رجالات الشيعة والسياسة :
إنا لا نعلم من أين للدكتور تلك الدعوى من أن الشيعة لم يشتغلوا بالسياسة منذ عصر الإمام جعفر الصادق (ع) حتى عام 1920 م ؟ أ إن هذا لدليل واضح على عدم إحاطته بالتاريخ الشيعي على الأقل ، وإلا لعلم أن الإمام موسىبن جعفر (ع) قضى أيام حياته الأخيرة في سجن بغداد واستشهد مسموما . وأن ولاية العهد التي أوصى بها المأمون للإمام الرضا (ع) أشهر من أن تذكر واستشهد مسموما أيضا .
وأن المعتصم خاف من اجتماع الناس حول الإمام محمد بن علي الجواد (ع) ، فاستقدمه إلى بغداد ودس إليه السم فاستشهد . وأن الإمامين الهادي والعسكري (ع) وضعا تحت الإقامة الجبرية ، وجعلوا عليهم جواسيس يراقبون منزلهما . وأنه بعد وفاة الإمام العسكري (ع) بعث إلى داره من يفتشها ويفتش حجرها وختم على جميع ما فيها(47).(22/35)
إضافة لما حصل للإمام المهدي (عجل الله فرجه الشريف) وهو بحث خلافي يترك إلى محله ...
وكله قبل الغيبة! أما بعد الغيبة ، فلقد كان للشيعة دور كبير في السياسة خفي على الدكتور ظاهرا ، ولو ذكرنا الشهيد الأول محمد بن جمال الدين مكي العاملي ، والشهيد الثاني زين الدين الجبعي العاملي لكفانا افتخارا بما قدمنا ، لا من الشهداء فحسب ، بل من الشهداء العلماء الذين خافت السلطة منهم ، فكان جزاء الأول القتل والصلب والرجم والحرق ! وكان جزاء الثاني أن بعث رأسه إلى السلطان حفاظا على الخلافة من الضياع إذا استمر أمثال هؤلاء في جهادهم ضد الباطل ، وإفتاء الناس بما لا يوافق السلطات الحاكمة آنذاك ! ولو أردنا أن نعد من الشيعة من اشتغل بالسياسة لاحتجنا أن نفرد كتابا خاصا فيهم ، ولكن نذكر منهم من بعد الغيبة وقبل 1920 م ، على سبيل المثال :
1 - أبو الفضل محمد بن الحسين بن العيد ، وزير ركن الدولة ، والد عضد الدولة .
2 - أحمد بن إبراهيم الضبي ، وزير فخر الدولة .
3 - عميد الجيوش ، أبو علي الحسن بن أستاد هرمز، وزير بهاء ا لد ولة .
4 - أبو القاسم الحسين بن علي ، الوزير المغربي .
5 - الخواجة نظام الملك الطوسي .
6 - الحسن بن هارون ، وزير معز الدولة .
7 - الصاحب بن عباد ، وزير مؤيد الدولة وفخر الدولة . . وقد عد منهم صاحب (الأعيان ) ما جاوز الأربعين شخصا ممن كانت لهم المناصب الرفيعة من وزارة أو إمارة ناهيك عن القضاة والنقباء(48) .
وبهذا يتبنين فساد الدعوى التي تقول بأن الشيعة لم يشتغلوا بالسياسة حتى عام 1920 .
الثالثة : الفكر السني المهادن :
ولا يخفى عزيزي القارئ أن من مذهب أهل السنة البخوع والخضوع للسلطة وللنظام القائم حتى لو كان على رأسه فاجر فاسق ! ونكتفي بذكر أقوال بعض أئمة علماء أهل السنة:(22/36)
أ - قال النووي في شرح صحيح مسلم : " وأما الخروج عليهم وقتالهم فحرام بإجماع المسلمين وان كانوا فسقة ظالمين " . . . وقال جماهير أهل السنة من الفقهاء والمحدثين والمتكلمين :
لا ينعزل بالفسق والظلم وتعطيل الحقوق ، ولا يخلع ، ولا يجوز الخروج عليه بذلك "(49) !!
ب - قال الإمام الأشعري : " ويرون ( أهل الحديث والسنة ) العيد والجمعة والجماعة خلف كل بر وفاجر . . . ويرون الدعاء لأئمة المسلمين بالصلاح ، وأن لا يخرجوا عليهم بالسيف وأن لا يقاتلوا في الفتن "(50) .
ج - قال أحمد بن حنبل : "السمع والطاعة للأئمة وأمير المؤمنين ، البر والفاجر . . . واقامة الحدود إلى الأئمة ، وليس لأحد أن يطعن عليهم وينازعهم ، ودفع الصدقات إليهم جائز ، من دفعها إليهم أجزأت عنهم ، برا كان أو فاجرا ، وصلاة الجمعة خلفه وخلف كل ولي ، جائزة إقامته ، ومن أعادها فهو مبتدع ، تارك للاثار، مخالف للسنة " (51).
د - قال الإمام أبو اليسر البزودي : " الإمام إذا جار أو فسق لا ينعزل عند أصحاب أبي حنيفة بأجمعهم وهو المذهب المرضي " !! ثم قال : " وجه قول عامة أهل السنة والجماعة إجماع الأمة ، فإنهم رأوا الفساق أئمة ، فإن أكثر الصحابة كانوا يرون بني أمية وهم بنو مروان حتى كانوا يصلون الجمعة والجماعة خلفهم ويرون قضاياهم نافذة . وكذا الصحابة والتابعون ، وكذا من بعدهم يرون خلافة بني عباس وأكثرهم فساق "(52) ! !(22/37)
كما لا يخفى أيضا أن الصحاح قد نقلت روايات وأحاديث - نراها مفتعلة على لسان رسول الله (ص) لأنها مخالفة لكتاب الله وسنة نبيه (ص)-. فقد روى مسلم ، عن حذيفة بن اليمان ، قلت : " يا رسول الله . . . إلى أن قال : قال رسول الله (ص) " يكون بعدي أئمة لا يهتدون بهداي ، ولا يستنون بسنتي ، وسيقوم رجال ، قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس . قال : قلت : كيف أصنع يا رسول الله إن أدركت ذلك ؟ قال : تسمع وتطيع للأمير وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك ، فاسمع وأطع "( 53) ! !
هذا غيض من فيض ما جاءت به كتب أهل السنة . .. فاقض ما أنت قاض .
قضية الاجتهاد :
قال : (ثم قضية أن المذهب الشيعي فيه باب الاجتهاد مفتوح على عكس مذهب السنة، أقول : إن هذا وهم واسمح لي أن أكون صريحا في هذا الموضوع، فنحن نتكلم كعلماء، الفكر الشيعي صحيح لم يقل بإغلاق باب الاجتهاد ..لكن أين هو الاجتهاد؟ إذا كنت أمام عقل يقول : إن الإمام قد غاب، وأنه حي، وانه ما زال منتظراً وإننا ننتظره، فأين هو العقل والعقلانية ، وأين هو الاجتهاد؟ إذا كنت تقول : إن الأمة غير مؤتمنة على الشريعة ، وإن فردا هو المؤتمن على الشريعة، وان الإمامة والدولة والخلافة والسياسة لا علاقة للأمة بها، ولا علاقة للشورى بها، وان الأمة في هذا كله منزوع سلطانها،فأين هو الاجتهاد، وأين هي العقلانية في هذا الموضوع؟! أقول : الاجتهاد عند فقهاء الشيعة وقف عند أن هناك مرجعاً له كتاب فقهي وله مقلدون، وهل الاجتهاد في فروع الفقه هو الاجتهاد؟
أقول : بصراحة إنها أكثر من اللازم. يعني اجتهادات لدرجة التخيل في فروع الفقه، إنما القضية التي فيها الاجتهاد هي الاجتهاد في المعاملات وفي الأمور العامة وفي شؤون الدولة .(22/38)
هذا هو الذي تعطل فيه الاجتهاد، والشيعة ليس لهم في هذا الميدان اجتهاد.. إذن في الميدان الذي أغلق فيه باب الاجتهاد عند السنة ،الشيعة صفر في هذا الميدان، لأنهم يعلقون الفكر فيه على الإمام الغائب . أما في فروع الفقه فأين هي الاجتهادات المتميزة في المذهب الجعفري التي ليس لها نظائر في مذاهب السنة الأربعة ؟
أولا : الإمام المهدي بين الاعتقاد والاجتهاد :
إن عدم تحري الدقة سمة هذا الحوار مع الدكتور، وبيانه في هذه القضية يقع في نقطتين :
أ -في دفع شبهة:
إذ إن الاعتقاد بغيبة الإمام المهدي (عجل الله فرجه الشريف) ليس اجتهادا ؟ لأن " الاجتهاد : هو النظر في الأدلة الشرعية ، لتحصيل معرفة الأحكام الفرعية التي جاء بها سيد المرسلين "(54) والأمور الاعتقادية ليست من الأحكام الفرعية كما لا يخفى بالإضافة إلى أن الاعتقاد بالغيبة أمر متسالم به عندنا ، فلا يحتاج للنظر إلا في إطار وجوب معرفة إمام زماننا لأنه " من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية " وهو حديث مستفيض ذكر بألفاظ مختلفة(55) .
ب - الاعتقاد بالإمام المهدي في الإمكان العقلي : أعتقد أن العقل الذي قبل غيبة الإمام المهدي وأنه حي ، هو نفس العقل الذي لم يستبعد قوله تعالى : ( ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما)(56). وقوله عز وجل : ( وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن وما تتلوه يقينا * بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزا حكيما)(57).(22/39)
وقد أخرج البخاري ومسلم ، عن أبي هريرة ، أنه قال : " قال رسول الله (ص) : كيف أنتم إذا نزل ابن مريم فيكم وإمامكم منكم "(58) . وفي صحيح مسلم بسنده عن جابر بن عبد الله ، قال: " سمعت النبي (ص) قال : لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة ؟ قال : فينزل عيسى ابن مريم (ع) فيقول أميرهم : تعال صل لنا ، فيقول : لا، إن بعضكم على بعض أمراء تكرمة لهذه الأمة"(59) . . . وبهذا يظهر أن الذي حفظ نوحا 950 سنه للتبليغ في قومه ، وحفظ عيسى إلى آخر الزمان ، ألا يستطيع أن يحفظ الإمام المهدي (عجل الله فرجه الشريف )؟ ! أو إن العقلانية ترفض تلك الآيات والأحاديث أيضا؟ ! ا بالإضافة إلى أن العقل لا يرفض قدرة الله عز وجل بالتحكم في عمر الإنسان بأن يطيله أو يقصره وفقا للمصلحة المقتضية له ، إذ إنه ليس في دائرة المستحيلات العقلية ، لا بل إنها من الأمور الملموسة في حياتنا العملية كـ (شعر الحاجبين ). .
ثانيا : الاجتهاد الشيعي :
ونتناول في المقام مسألتين :
أ -اجتهاد الشيعة في المعاملات : ولا ينقضي العجب من قول الدكتور أن ( الشيعة صفر في هذا الميدان (الاجتهاد في المعاملات ) لانهم يعلقون الفكر فيه إلى الإمام الغائب )(22/40)
إذ إن ما كتبه الشيعة في هذا الميدان أكثر من أن يعد أو يحصى ، لا بل إنك لا تجد كتابا فقهيا إلا وهو على قسمين " كتاب العبادات " و" كتاب ا لمعاملات " . وفي الأخير يبحث الفقهاء عن : التجارة ، الشفعة ، الإجارة ،المزارعة والمساقا ة ، ا لسبق وا لرماية ، ا لشركة ، المضاربة ، الود يعة ، العارية ، اللقطة ، الغصب ، إحياء الموات ، الدين ، الرهن ، الحجر ، الضمان ، الصلح ، الإقرا ر ، ا لوكا لة ، ا لهبة ، ا لوصية ، ا لوقف ، ا لنكاح ، ا لطلاق ، الظهار ، الحدود، ا لقصا ص ، ا لإيلاء ، ا للعا ن ، ا لأيمان ، ا لصيد والذباحة ، الأطعمة وا لأشربة ، الميرا ث ، وا لقضاء . بالإضافة إلى المساثل المستحدثة ، التي بحثها الفقهاء المعاصرون من قبيل : أحكام البنوك ، أطفال الأنابيب ، الخلو ، ويانصيب الحظ ، والتأمين ، وغيرها .
وهل الدولة قائمة إلا على هذه الشؤون من المعاملات ؟ !
وأما إذا كان مراد الدكتور الشؤون العسكرية ، فقد عقد الفقهاء بحثا خاصا لها يسمى بـ " كتاب الجهاد " تناولوا فيه الأحكام الأولية له ، وأما الأحكام الاستثنائية والطارئة فإنما تعهد إلى ولي الأمر العادل الذي تتوفر فيه الشروط المعينة ، من قبيل : الاجتهاد ، ومعرفة أحوال أهل زمانه ، وغيرها . . . ولكن يبقى أن نسأل الدكتور أين تعطل الاجتهاد عند الشيعة ؟ ! !
ب - الاجتهاد والإمامة :
أولا : نقول : بأن الإمامة ليست اجتهادا عندنا ؟
لأنها ليست من الأحكام الفرعية ، بل هي من الأصول .(22/41)
ثانيا : إذا علم أننا نعد الإمامة منصبا إلهيا ، وأنها تختص بأفراد معينين عصمهم الله تعالى من الخطأ، فلا جرم أن يكون هؤلاء مؤتمنين على الشريعة كما كان الرسول (ص) مؤتمنا عليها ، والقرار الأخير هو الصادر منه (ص)، فلا تشاركه الأمة في اتخاذه ( وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم )(60) . ولا تنافيه المشورة ، إلا أن تشخيص المصلحة آخر الأمر يعود له وحده ، ولا خطأ في أفعاله وقراراته (ص) ، فلا مانع من انتقال تلك الصلاحيات كما هي للإمام المنصوب ، الذي هو أيضا لا يخطئ .
ج -الاجتهاد الشيعي المتميز : لعل الدكتور يقصد في قوله ( اجتهادات لدرجة التخيل )
تلك الأحكام التي تتعلق بفروض نادرة أو يتوقع حدوثها ، وهذه في الحقيقة شهادة متميزة للفقه الشيعي ، الذي يتكيف مع مختلف العصور، ومع الوقائع الحادثة حتى النادرة منها ، والتي قد يتفق أن تقع في الحال أو المستقبل ، وهو دليل واضح على أن الفقه الشيعي لديه الأجوبة الشافية والسريعة دائما ، خصوصا في المواقف الحرجة ، ومثاله الصلاة على القمر وإن كانت متخيلة منذ مائة سنة إلا أنها أصبحت واقعا ملموسا وممكنا ، لذا فإن التخيل المذكور يعد غناء في الفقه الشيعي والاجتهادي .
ثالثا : اجتهاد ابن تيمية :
قال : ( أقول هذا لشبابنا ليرى أن الفكر السني على مر تاريخه هو الذي كان يشتغل بذلك .. ابن تيمية كان يحمل السيف ويجاهد ويكتب في السياسة والشريعة ويموت في سجن المماليك، من الذي يقول : إن هذا غير مجتهد، وإن هذا لا يشتغل بالسياسة، وإن هذا غير ثوري، الذي يجاهد التتار، بينما كان هناك (ولا نريد أن نفتح الأبواب )…)
أ-اجتهاد ابن تيمية المخالف :(22/42)
آخر ما كنت أتوقع هو أن يأتي الدكتور بشخصية جهادية في الفكر السني تكون نموذجا للثورية - تحمل السيف وتجاهد ، وتكتب في السياسة والشرعية ، وتموت في السجن - كشخصية ابن تيمية ، ليضعه في خانة الثوريين والأبطال في الفكر السني)
والظاهر أن في الأمر سرا خفي علينا نحن لا نعلمه . .
ولعل الدكتور غاب عن ذهنه مراجعة سيرة هذا الرجل فجعل يصفه بتلك الأوصاف المخلدة لذكراه ، وكأنه لم يعرف سبب جعل ابن تيمية في السجن ، وأنه حبس لا لأجل جهاده العريق ، وإنما بسبب اعتقاداته المنحرفة التي لا تجتمع مع جمهور المسلمين !
يقول ابن كثير - وهو تلميذه -: " وفي ليلة عيد الفطر من تلك السنة 7061 هـ لم أحضر الأمير سيف الدين سلار ، نائب مصر ، القضاة الثلاثة وجماعة من الفقهاء ، فالقضاة : الشافعي والمالكي والحنفي ، والفقهاء : الباجي والجزري والنمواري ، وتكلموا في إخراج الشيخ تقي الدين ابن تيمية من الحبس ، فاستشرط بعض الحاضرين عليه شروطا في ذلك ، منها أنه يلتزم بالرجوع عن بعض عقائده ". . وفي سنة 709 س نفي إلى الإسكندرية ، ومنها عاد إلى القاهرة ، ثم إلى الشام . وفي سنة 720 هـ صدرت منه فتاوى شاذة، فعقد له مجلس حضره القضاة والمعنيون من المذاهب الأربعة ، وحبس خمسة أشهر . حتى جاءت سنة 726 د حين سجن مرة أخرى ، ومات في قلعة دمشق للعلة ذاتها!!
هذا هو من قال عنه الدكتور أنه حبس من أجل جهاده في سجن المماليك . . . وقد تبين أنه كان يجاهد مذاهب جمهور المسلمين وحبس بفتياهم - فتيا فقهاء المذاهب الأربعة - لانحرافه العقائدي(61).
ب -اجتهاد ابن تيمية في ميزان ابن حجر:(22/43)
ب - وأما اجتهاده ! فإني أقتصر على ما نقله العلامة الأميني عن الحافظ ابن حجر في كتابه الفتاوى الحديثة ص 86، قال : ( ابن تيمية عبد خذله الله وأضله وأعماه وأصمه وأذله ، وبذلك صرح الأئمة الذين بينوا فساد أحواله ، وكذب أقواله ، ومن أراد ذلك فعليه بمطالعة كلام الإمام المجتهد ، المتفق على إمامته وجلالته وبلوغه مرتبة الاجتهاد ، ابن الحسن السبكي ، وولده التاج ، والشيخ الإمام العز بن جماعة ، وأهل عصرهم ، وغيرهم من الشافعية والمالكية والحنفية . ولم يقصر اعتراضه على متأخري الصوفية ، بل اعترض على مثل عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب (رضي الله عنهما) ! . والحاصل : أن لا يقام لكلامه وزن ، بل يرمى في كل وعر وحزن ويعتقد فيه أنه مبتدع ضال مضل غال ، عامله الله بعلمه ، وأجارنا من مثل طريقته وعقيدته وفعله ، آمين . . . ) . .. لا تعليق !
الوسطية في اجتهاد أبن تيمية :
إن هذا النموذج الذي أعطاه الدكتور للشباب يهدم كل ما بناه في حواره ، لأن عقائد ابن تيمية تخالف نظريته حول .الوسطية الإسلامية ، إذ إنها لن تبقي من حب أهل البيت شيء لدرجة الإطاحة بكل ( المزارات والمقامات والمساجد لرموز من آل البيت ) المقامة في مصر، التي يباهي بها معتبرا أن وجودها مصداق لوسطية الشعب المصري ؟ لأنها بنظر ابن تيمية شرك وبدعة ! كما هي الحال الآن في مزارات البقيع ! وعندها سلام على الوسطية يوم ولدت ويوم ماتت ! ! . .
قضية ولاية الفقيه :
قال : ( أنا أتصور أن الناس في إيران سواء كانوا من أهل الحوزات العلمية أو من أهل السياسة لا يمكن أن يتصورا أن النموذج الإيراني في ولاية الفقيه صالح للتعميم في العالم السني، وإلا نكون أمام موقف ساذج، فما نرفضه في النموذج الإيراني وهو قضية ولاية الفقيه قد يكون سر قوة هذا النموذج داخل إيران، لكن لا يمكن أن يكون مقبولا خارج الإطار الإيراني، لأن هذا بعد مذهبي ).(22/44)
أقول : بغض النظر عن أن هذا النموذج صالح للتعميم أو لا؟
لأن الإجابة تحتاج لدراسة مطولة تعرض فيها تلك النظرية لترى إمكانية ذلك . .
إلا أن الدكتور - جزاه الله خيرا - قد ساهم مساهمة فعالة في الإجابة عن أسئلة هو طرحها عندما قال :
1-( أين هي الاجتهادات المتميزة في المذهب الجعفري التي ليس لها نظائر في مذاهب السنة الأربعة ). والجواب : إن نظام ولاية الفقيه - الذي سر قوة هذا النموذج- من الاجتهادات الشيعية المتميزة عن المذاهب الأربعة. بشهادتك حين قلت أيها الدكتور : (لأن هذا بعد مذهبي).
2 - (وأن فردا هو المؤتمن على الشريعة.. فأين الاجتهاد.. وأين هي العقلانية في هذا الموضوع ؟ والجواب : إن نظام ولاية الفقيه - الذي هو سر قوة هذا النموذج - يكون الفرد فيه - المتمثل بقائد الثورة الإسلامية - هو المؤتمن على الشريعة والدولة ، وهو الذي يدير دفة البلاد من شرقها إلى غربها مع أنه ليس بمعصوم عندنا ، فكيف هي الشريعة أو الدولة إذا أنيطت بالمعصوم ؟ !
3 - (أقول :الاجتهاد عند فقه الشيعة وقف عند أن هناك مرجعا له كتاب فقهي وله مقلدون ) والجواب : إن نظام ولاية الفقيه - الذي هو سر قوة هذا النموذج - أنيطت السلطة المطلقة فيه للفقيه المجتهد العادل ، الجامع للشرائط ، والعارف بأمور زمانه ، بما فبها شؤون الدولة والسياسة والمجتمع وغير ذلك ، فلا يقتصر على كتاب فقهي ومقلدون.
خاتمة في وسطية عادلة :(22/45)
ما نبغيه هو أن تتحلى الأمة الإسلامية بدرجة من الوعي في إطار تنسجم فيه جميع الأطراف مع بعضها الآخر ، فالوحدة الإسلامية مطلوبة بلا شك ، إلا أن لها أسسا ومبادئ تقوم على الانفتاح الفكري والعقائدي بين جميع الفئات المختلفة . . . ولكن في الطريق مررت بكتاب تحت عنوان ( شيعة . . . لكن لمن ؟ ) لسمير الهضيبي - تفضل بإطلاعي عليه أحد سادتنا العلماء ، عندما عرف بأني في صدد الكتابة حول ما جاء في حوار الدكتور عمارة - والمفاجأة أن الغلاف كان يحمل ثناء وإطراء من الدكتور المذكور للكاتب وقد جاء فيه : " فلقد سعدت بقراءة إبداعك الجديد (شيعة . . . لكن لمن ؟) ويسعدني أن أضع بين يديك - بعد التهنئة على هذا العمل المتميز - هذه الانطباعات والملاحظات : - لقد نجحت في تحويل تاريخ ظهور الإسلام . . . والصراعات التي دارت حول الخلافة ومناهج الحكم في الحقبة الراشدة إلى خريطة حية يتذوقها جمهور من القراء أوسع من جمهور قراء التاريخ . .
- ونجحت في الحفاظ على دقة الحدث التاريخي . .
- وإذا كانت المشاهد الفنية - الروائية - والتي شدتني وأمتعني - كقارئ متذوق - قد جاءت قليلة بالقياس إلى تدفق أحداث التاريخ ونصوص حوارات أبطاله . . . فلقد قام (إحياء) التاريخ مقام (الخيال ) فكان أدبا من لون جديد... الكلاسيكيات التي ينهض فيها الصدق التاريخي ليحل محل الروائيين ! . .
- كذلك نجحت في العرض المتوازن والوافي . . . التي مثلت مذاهب ومدارس التاريخ لهذه الحقبة . . . وكان جميلا أن يظهر الإسلام في مكانه الالهي . . . وأن تظهر بشرية الجيل الرائد الذي أقام هذا الدين .. . لقد نجحت نجاحا عظيما في التمييز بين (المعصوم ) و(غير المعصوم ) على النحو الذي نرجو أن يسهم في حل مشكلات (القداسة) أو (الافتراء) على هذا التاريخ ! . . تلك هي الانطباعات . . . التوقيع د . محمد عمارة ).(22/46)
ترى ، ماذا في الكتاب حتى راح الدكتور يثني عليه بهذه الطريقة مكررا نجاحه ؟ !
هل هو الحفاظ على دقة الحدث التاريخي وأن الشيعة من تأسيس عبد الله بن سبأ اليهودي ؟
أم إنه الأدب الجديد الذي يصور أصحاب أمير المؤمنين كميل بن زياد ومالك الأشتر بأبشع الصور الاستغلالية ؟ ا أو لا ، هو ذلك التمييز بين ( المعصوم ) و (غير المعصوم ) وأن علي بن أبي طالب (ع) كان مولعا بالنساء؟!
أهكذا كان الكاتب يحل مشكلات " القداسة " أو " الافتراء " بنظر الدكتور " المتذوق " ؟!!
إنها مجموعة افتراءات لا يوجد فيها مصدر واحد يعتمد عليه سماها الدكتور صدقا تاريخيا يحل محل خيال الروائيين ! ! وهل هي تلك الوسطية التي أتحفنا الدكتور بها ؟ !
أرى أن القاضي هو المدعي في هذه القضية ، والحال أنه لا بد أن يكون طرفا محايدا . . . مفكر إسلامي شدته وأمتعته قصص سمير الهضيبي الخرافية!!
وهل تنسجم مثل تلك الافتراءات مع الوحدة الإسلامية ؟ ( أين تماسك النسيج )؟!
( إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة )(62)
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يوحد صفوف المسلمين على العقائد الصحيحة ، ويكشف عنهم الكرب والغم ، راجين منه عز وجل أن يحرر أرضهم من أيدي المستكبرين ، ولا سيما الصهاينة منهم ، إنه علي قدير .
والحمد لله رب العالمين .
_________________________
رجال الكشي 297ح 529، عنه بحار الانوار 25 / 297 ح 60
الأحكام - طبعة 1410 هـ 1/ 36
سورة البقرة الآية 42
رسائل الجاحظ - للسندوبي 106
وفيات الاعيان 1/327 رقم 131
شرح المقاصد في علم الكلام 234
الباب الحادي عشر مع شرحه النافع يوم الحشر - للمقداد بن عبد الله الحلي 82
للمزيد من الاطلاع في المسألة راجع كتاب (الامامة في أهم الكتب الكلامية، وعقيدة الشيعة الامامية ) السيد علي الحسيني الميلاني -منشورات الشريف الرضي 44
شرح نهج البلاغة 6/11(22/47)
أنساب الأشراف - للبلاذري 1/587
تاريخ الطبري 3/209
السيرة الحلبية 3/387
مسند أحمد 1/56 ، تاريخ الطبري 3/210
السيرة النبوية لأبن هشام 2/660
راجع السيرة النبوية 2/658 ، تاريخ الطبري 2/446
الامامة والسياسة 1/18
الكامل في التاريخ 2/292
تاريخ الطبري 5/34، تاريخ الخلفاء 127
عقائد الامامية -للشيخ محمد رضا المظفر، منشورات اشكوري ط1413 92
سورة المائدة 5/55
الغدير 3/199 - 205 وهوالعلامة عبد الحسين أحمد الاميني النجفي، مؤسسة الاعلمي بيروت ط1994م
وفي رواية أخرى (غدا) أو (عمد) إلهين .
شبهات حول الشيعة ، الشيخ ابو طالب تجليل التبريزي - دار القرآن الكريم- ايران قم ط 1417هـ
الغدير 1/272 - 283
سلسلة مؤلفات الشيخ المفيد محمد بن محمد النعمان (336-413) دار المفيد، بيروت 1993-37 تحقيق السيد محمد رضا الحسيني الجلالي .
سورة النساء الآية 59
كشف المراد - للعلامة الحلي 391
التفسير الكبير - للفخر الرازي 1/144
لسان العرب 6/94 مادة ( رجس )
معاني القرآن وإعرابه 2/203
سورة البقرة البقرة الاية 124
سورة آل عمران الاية 33
سورة يونس الاية 6
سورة الحديد الاية 26
بداية المعارف الالهية في شرح عقائد الامامية 2/18
العروة الوثقى -آية الله العظمى السيد محمد كاظم الطباطبائي اليزدي -مؤسسة النشر الاسلامي ط 1417هـ 1/143 - 144
حديث مستفيض روته كتب الفريقين تمر عليك بعض مصادره
شرح المقاصد 232
سورة الحجرات الاية 6
راجع تفسير ابن كثير 3/402 ، تفسير الطبري 2/62
راجع الكامل في التاريخ - لأبن الاثير 2/52 ، أسد الغابة 5/91(22/48)
وللشيخ جعفر السبحاني في كتابه الملل والنحل -مؤسسة النشر الاسلامي- 1/201 بحث مهم في عدالة الصحابة ،وكذا للسيد علي الحسيني الميلاني في كتابه الامام في أهم الكتب الامامية) نشر الشريف الرضي قم وانظر فصل: (مشهوران لا أصل لهما ) للسيد علي الحسيني الميلاني في مقالة (التحقيق في نفي التحريف) ، تراثنا العدد 14 لسنة 1409 هـ
راجع اسد الغابة 4/199
الصحيفة السجادية للإمام زين العابدين (ع) من دعائه (ع) في الصلاة على أتباع الرسل ومصدقيهم.
بحوث مع اهل السنة والسلفية -للسيد مهدي الحسيني الروحاني، المكتبة الاسلامية ط 1979-36-37
سورة الحشر الاية 18
يمكن مراجعة مصادرنا في هذا الخصوص .
راجع أعيان الشيعة 1/190-193
شرح صحيح مسلم 12/229، باب لزوم طاعة الأمراء.
مقالات الاسلاميين 323 .
مقالات الاسلاميين 323 .
صحيح مسلم 6/20-21 باب الأمر بلزوم الجماعة، وباب حكم من فارق امر المسلمين .
عقائد الامامية -للشيخ محمد رضا المظفر ، نشر اشكوري ط 1413 - 56
راجع صحيح البخاري 5/ 13 ، صحيح مسلم 6/ 12-22 ح 1894 .
سورة العنكبوت الاية 14
راجع صحيح البخاري 4/205 ، صحيح مسلم 1/136 .
صحيح مسلم 1/136 ح 244 .
سورة الاحزاب الاية 36 .
راجع تكملة السيف الصقيل -للشيخ محمد زاهد الكوثري 100 .
سورة النور الاية 19 .(22/49)
التغلغل الشيعي في جسم الحركات الإسلامية بالمغرب؟
الملف الصحفي
الرباط - منتصر حمادة
يمكن تصنيف تعاطي الحركات الإسلامية بالمغرب مع ظاهرة التشيع في ثلاث مواقف: موقف الصرامة التنظيمية ضد أي شبهة خاصة بالتشيع، وخاصة مع جماعة "العدل والإحسان" وحركة "التوحيد والإصلاح"، موقف الانزلاق نحو التعاطف الكبير مع الشيعة، عند "الحركة من أجل الأمة" و"البديل الحضاري"، لولا أن التعاطف اقتصر برأي المتتبعين على الشق السياسي دون أن يمتد للشق العقائدي، وموقف "الحرب المذهبية"، ذلك الذي تتبناه التيارات السلفية الوهابية.
قد تختلف الفعاليات الإسلامية الحركية بالمغرب عن شرعية السلطة، الموقف من المشاركة في اللعبة السياسية، مدونة الأسرة، الحوار مع اليسار العلماني المعتدل.. ولكنها لا يمكن أن تختلف مع معطى ميداني مصنف ضمن خانة الطابوهات: التغلغل الشيعي في جسم الحركات الإسلامية. المعطيات التي نتوفر عليها تشير إلى أن التغلغل الشيعي لم يستثني أي حركة إسلامية بالمغرب، إما بسبب قابلية التسريع من التغلغل، أو بسبب أخطاء ميدانية ارتكبت من قبل بعض القيادات، ساهمت بشكل أو بآخر في توسيع قاعدة التشيع، ليصبح الإسلاميون متشيعون "موضة" ثقافية إسلامية مثل السلفية العلمية وتجسيدا لتشوه سلوكي وعقدي وتكريسا لاختلال بنيوي في داخل التيار الإسلامي المغربي العريض.
نماذج في التغلغل(23/1)
مع جماعة "العدل والإحسان" مثلا، تأثر الشيخ ياسين بالشيخ محمد ناصر الكتاني وهو سني المذهب، أستاذ بدار الحديث الحسنية، ودرس بجامعة محمد الخامس، وأحد تلامذة مولاي أحمد بن الصديق، ولكنه كثيرا ما تطرق للإشكال الزيدي (نسبة إلى الإمام زيد بن علي زين العابدين بن الحسين بن علي، أخو الإمام الباقر)، وهو عين ما قام به الشيخ عبد السلام ياسين، لولا أن خوض مرشد الجماعة لم يكن في الكواليس أو حتى في جلسات علمية تتطلب حضور عدة فقهية ومعرفية شبه غائبة عند الأتباع، بل تم الترويج عن حسن نية للطامات الشيعية في بعض المؤلفات الموجهة للقراء في غياب أرضية علمية وفقهية مفروض أن تجسد حصانة ضد هذا التغلغل. وبالنتيحة، برزت العديد من الأسماء "العدلية" التي تشيعت، لعل أبرزها المدعو (م. م) الذي حظي بشرف مراجعة بعض مؤلفات الشيخ عبد السلام ياسين، اتهم بالتشيع، وتم فصله حسب مصدر مسؤول من الجماعة، وفي "رواية" لسلفي وهابي، (م. م) قرر الخروج من الجماعة قبل صدور قرار الفصل، وانتقل من نجس إلى نجس (كذا بتعبير السلفي)، ويعيش حاليا بالولايات المتحدة الأمريكية.
"الحركة من أجل الأمة" ومعها جمعية "البديل الحضاري" تأثرتا بشكل كبير بتبعات الثورة الإيرانية، ويتضح ذلك مثلا في دلالات الإسم الذي أطلق على أدبيات الحركة: مشروع البصيرة (البصيرة مصطلح عرفاني شيعي صرف، و"البصائر" هو عنوان إحدى المنابر الفكرية ذات النزوع الشيعي المتشدد، ثم إن مجرد الحديث عن "الحركة من أجل الأمة" يحيل على "ولاية الأمة"، والذي يحيل بدوره على "ولاية الفقيه"، ناهيك عن كون مراسل قناة "المنار" اللبنانية ينتمي لنفس الحركة.(23/2)
يقف (م. ع) (سلفي التوجه) وراء توجيه اتخاذ قرارات مسؤولة بطرد أغلب العناصر الإسلامية التي تبث تشيعهم. وضمن نفس المنظور، تمت الاستعانة بحسن الكتاني، مع فارق أن سلفية هذا الأخير لم تكن سلفية تقليدية، بغية التسريع بالتصدي لأي مد شيعي داخل الحركة.
مع "التوحيد والإصلاح"، سوف يتم طرد المتشيعين في الفترة الممتدة ما بين 1987 و1991، أي العام الذي شهد طرد مجموعة أطلق عليها "مجموعة يعقوب المنصور بالرباط".
خلل بنيوي يكرس تغلغل المجلات الشيعية
"المنطلق الجديد"، "قضايا إسلامية معاصرة"، "المنهاج"، "البصائر"، "المحجة"، "الكلمة"، "الحياة الطيبة"، "الوعي المعاصر"، "فقه آل البيت"... غيض من فيض المجلات الفكرية المشرقية التي يعج بها السوق المغربي، تمول من قبل معاهد ومراكز أبحاث شيعية المذهب أو موالية للشيعة، ولكنها لا تنشر للشيعة فقط، على اعتبار أن العديد من الأسماء السنية تنشر بها، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر، يوسف القرضاوي، محمد عمارة، أحمد كمال أبو المجد، أبو يعرب المرزوقي، خالص جلبي، أحمد صدقي الدجاني..
ولأسباب موضوعية مرتبطة بقلة المنابر الفكرية السنية، خاصة وأن المجلات الإسلامية السنية يطغى عليها الطابع الصحفي الصرف، مقارنة مع الطابع الفكري الذي يميز المنابر السالفة الذكر ويمكن أن نقارن أساسا بين تلك المنابر ومجلات مثل "الوعي الإسلامي"،" منار الإسلام"، "الفرقان".. وكلها من دول الخليج العربي.(23/3)
مجرد استعراض الأسماء المشرفة على إدارة تحرير هذه المنابر يحيل على المرجعية الشيعية الصريحة، ونذكر منهم على الخصوص، عبد الجبار الرفاعي، السيد محمد الهاشمي الشاهرودي، حيدر حب الله، هاني عبد الله، الشيخ أسد الله حسني (عن فصلية المنهاج)، محمد رضا نور اللهيان المهاجر، نجف علي ميرزائي (الحياة الطيبة)، السيد جعفر الشيرازي، مرتضى معاش، عبد الله الفريجي، حيدر الجراح (النبأ)، الشيخ مهدي العطار، علي المؤمن، زينب شوربا، محسن الموسوي (المستقبلية) أو جعفر حسين، متوكل علي، حسن علي (البصائر).
بالنسبة لموضوعات هذه المجلات، فتتيمز بالتنوع والانفتاح على ملفات تجديد علم الكلام، التأويل، التعريف بفقه آل البيت، تمرير ملفات حول المشروع الشيعي العقدي والفكري (كما هو الشأن على الخصوص مع فصلية البصائر التي تروج بين المتتبعين لأطروحات شيعية متشددة).
حتى نستوعب مدى خصوبة الأرضية التي تقتات عليها هذه المجلات، مما يسهل بالتالي فعل الاختراق البطيئ والفعال، نأخذ الحالة المغربية نموذجا، حيث تواضع منتوج المنابر الإسلامية، منها مثلا مجلة "دعوة الحق" الصادرة عن وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، وفي المقابل، نجد فصلية فكرية رصينة تحمل إسم "المنعطف" التي يشرف عليها عدة أسماء لامعة وشابة في وجدة والتي تعاني الأمرين قبل الصدور بحدود أدنى من الإمكانيات المادية، دون أن يمنعها ذلك من أن تنشر لأسماء فكرية تكاد تصنف ضمن خانة "أعلى عليين" (من طينة الفيلسوف المجدد طه عبد الرحمن، المفكر الموسوعي عبد الوهاب المسيري أو المرحوم علي عزت بيغوفيتش)، وطبيعي أن الأفق المعرفي والتنظيري لمثل هذه القمم المعرفية لا يمكن أن تستوعبه مجلة مثل "دعوة الحق"، ومعها المنابر الإسلامية الحركية(1).(23/4)
فطبيعي، في ظل هذا الفارق الصارخ بين أفق "المنعطف" بإمكانيات جد محدودة و"دعوة الحق" بتبني رسمي من لدن الوزارة الوصية، أن تبتهج المنابر الشيعية التمويل لتبعات هذا الخلل، من أجل كسب شريحة لا يستهان بها من القراء، إسلاميين حركيين كانوا، أو باحثين متتبعين ومهتمين بطبيعة الملفات الدينية والفكرية والسياسية التي تنشر في تلك المنابر.
هذا عن الحالة المغربية، ولا يختلف الأمر كثيرا مع باقي الدول العربية ذات الأغلبية السنية، وكل هذه مقدمات ميدانية تكرس تغلغل هذه المنابر، في إطار منظور استراتيجي يندرج بصيغة أو بأخرى ضمن خانة "تصدير المعرفة الإيرانية"، بعد تواضع نتائج "تصدير الثورة الإيرانية".(23/5)
التقارب بين السنة والشيعة
شهدت قضية التقارب بين السنة والشيعة في الفترة الأخيرة نشاطاً ملحوظاً سواء على الصعيد السياسي بفضل سياسة خاتمي الانفتاحية أو على الصعيد الديني من خلال زيارة علماء إيران للأزهر خاصة والتركيز على محاولة إعادة فتح دار التقريب بين المذاهب التي كانت في مصر قديما .
وإن كل مسلم صادق يحب لأمته الوحدة والتعاون ، مصداق قوله تعالى : ( وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون ) .
ولكن هل يصح بعد هذا التاريخ من التجارب الوحدوية في حياة المسلمين أن تكون الوحدة بأي ثمن ؟!. لقد مر بالمسلمين العديد من التجارب الوحدوية سواء كانت بالاختيار مثل الوحدة المصرية السورية أو بالإجبار كالوحدة العراقية الكويتية ، والنتائج دائماً مزيد من الفرقة بسبب عدم توفر أسس للوحدة .
وكذلك التقارب السني الشيعي ، هل يملك أسساً كافية للنجاح ؟ ، إن المحاولات للوحدة قديمة جداً . وقد أحصاها الدكتور ( ناصر القفاري ) في رسالته للماجستير ( مسألة التقريب بين أهل السنة والشيعة ) ، والكتاب جدير بالقراءة لما فيه من جهد كبير موثق .
وللإجابة عن السؤال : هل تملك الدعوة للتقارب بين السنة والشيعة أسساً للنجاح ؟. أذكر لك آراء بعض الذين حاولوا ذلك ومنهم :-
1- الشيخ عبد اللطيف محمد السبكي الذي كتب مقالاً في مجلة الأزهر مجلد ( 24 ) عن دار التقريب ونشأتها والتي كان عضواً فيها قال:- ( ورأينا ويجب أن يرتاب كل عضو بريء أنها تنفق بسخاء دون أن نعرف مورداً من المال ودون أن يطلب منا دفع اشتراكات ...) فمن هو الممول لها ؟؟ .(24/1)
2- الدكتور محمد البهي ، كان من المؤيدين لدار التقريب وبعد أن تبين له حقيقة الدار والدعوة القائمة بها قال ( وفي القاهرة قامت حركة تقريب بين المذاهب .. وبدلا من أن تركز نشاطها على الدعوة إلى ما دعا إليه القرآن .. ركزت نشاطها إلى إحياء ما للشيعة من فقه وأصول وتفسير .. ) كتابه الفكر الإسلامي والمجتمعات المعاصرة ص439 .
3- الشيخ محمد عرفة / عضو كبار العلماء في الأزهر والشيخ طه محمد الساكت : تركوا دار التقريب بعد أن علموا أن المقصود نشر التشيع بين السنة لا التقارب والتقريب ، ذكر ذلك محقق كتاب( الخطوط العريضة) .
4- الشيخ علي الطنطاوي في كتابه ذكريات 7/132 يذكر أنه زار ( القمي ) الإيراني الذي أسس دار التقريب ، وكان عند القمي الشيخ محمد عرفة وأنه ( الطنطاوي ) هاجم القمي لأنه في الحقيقة داعية للتشيع وليس التقريب وأن الشيخ عرفة حاول
تلطيف الموقف .
5- محمد رشيد رضا صاحب تفسير المنار ، حاول المراسلة مع علماء الشيعة فلم يجد إلا الإصرار على مذاهب الشيعة وعلى الانتقاص من الصحابة وحفاظ السنة بين حقيقة مذهب الشيعة في مجلة المنار مجلد 31/291 .
6- الدكتور مصطفى السباعي وكان من المهتمين بالتقارب بين السنة والشيعة وباشر تدريس فقه الشيعة في كلية الشريعة بدمشق وكذلك في كتبه ،لكن وجد الإعراض من الشيعة وعبر عن هذه التجربة في كتابه (السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي ص4 ) مقالاً ( كأنه المقصود من دعوة التقريب ، هي تقريب أهل السنة إلى مذهب الشيعة ) ص9 .(24/2)
7- د. عبد المنعم النمر ، وزير الأوقاف المصري السابق يذكر في كتابه ( الشيعة ، المهدي ، الدروز ) لقائه بالشيخ الشيخري من علماء إيران ، وحواره معه في عُمان عام 1988 حول كتابه فيبين له الدكتور عبد المنعم أنكم مطالبون بالبراءة من مانسب إليكم وكذلك عليكم بالكف عن طباعة أمهات الكتب التي تروج لهذه الأفكار ، بعدة لقاءات ولكن لم تكن هناك إستجابة !
هذه بعض التجارب الشخصية لعلماء ومفكرين من أهل السنة مع الشيعة حول التقارب فهل ستكون فرصة التقارب هذه الأيام أفضل ؟ هذا ما تكشفه الأيام .
لكن حتى تؤتي هذه المحاولة الجديدة ثمارها يجب أن يركز على مصادر النزاع بين السنة والشيعة وأبرزها أمران :-
1- النص في الإمامة على علي وأولاده .
2- مصدر التلقي في الأحكام والعقائد .
3-
مالم يتوصل الجانبان إلى حل هذه المسألة من أن الإمامة بنص أو بدون نص لن يحصل شيء سوى خداع أحد الطرفين للآخر لأن الشيعة إن أصرت على أن الإمامة بنص فما حكم إمامة أبي بكر وعمر وعثمان ؟
وأين النص ؟ وهل خالف جمهور الصحابة النص ؟! ولماذا سكت علي عن حقه ؟!
ولعل رجوع الشيعة لمذهب الزيدية بأن علي أحق يكون ملائماً لهم بدلاً من الطعن في خلافة الشيخين وجميع الصحابة .
وأما مصدر التلقي فإن لم يتفق الطرفان على مصادر الأحكام والعقائد فلن يكون هناك تقارب أبداً .
- إذا كان القرآن عند الشيعة محرفاً أو ناقصاً فكيف يمكن الاستناد إليه ؟!
- وكيف يخلو القرآن من ( الركن السادس للإسلام ) ؟؟
- وكيف يحتوي القرآن على آيات تخالف عقيدة الأئمة بزعمهم ؟!.
- والسنة ؟ لماذا لا يعمل بها الشيعة إلا فيما يوافق مذهبهم ؟؟
- أهل السنة لديهم منهج في تلقي الأحاديث يخضعون له كل ما جاءهم من الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم فلماذا لا يفعل الشيعة ذلك ؟؟.
هل يعقل أن يكون تقارب ؟؟ .(24/3)
وأقوال الأئمة الاثنى عشرية المتعارضة المتناقضة ، لا يجوز بحال أن تناقش ؟!! حتى لو خالفت القرآن والسنة !! يقول الدكتور موسى الموسوي في كتابه ( المتآمرون على المسلمين الشيعة ص110 ) : ( إننا عندما نعرف أن العملية الاجتهادية عند فقهاء الشيعة تتبخر وتصبح هباءاً عندما يكون الإمام في الساحة سواء كان الوصول إليه مباشرة أو عن طريق نواب عينهم بالاسم .) فما هي إمكانية الاجتهاد أذن ؟!
الخلاصة :-
مالم يكن الحوار حول أصول النزاع بين السنة والشيعة والوصول إلى اتفاق واضح فيما يحق الحق ويبطل الباطل ستكون العملية عملية خداع يراد بها جرّ السنة إلى مواقف الشيعة !!
وإلا لماذا لا نرى تطبيقاً عملياً للتقارب بين السنة والشيعة في إيران الدولة الشيعية ذات السلطة والمكانة ؟! فلماذا لا يسمح بمساجد للسنة في العاصمة طهران ؟ لماذا لا يسمح لأهل السنة أن يمارسوا نشاطهم الديني بحرية حتى لو خالف الشيعة ؟ لماذا لا يحصل السنة على حقوق سياسية مساوية للأسف لحقوق اليهود ! نعم اليهود في إيران ؟ انظر إلى الدستور الايراني الذي ينص على مقاعد محددة لليهود وغيرهم في البرلمان بينما السنة لا شيء لهم على أساس أنهم مسلمون ، لكن لو كان هذا صحيحاً لماذا نصوا على أن يكون رئيس الدولة مسلماً جعفرياً وان هذا الشرط لا يجوز تعديله في الدستور ؟ لماذا اضطهاد أهل السنة في إيران حتى ألفت في هذا الموضوع الكتب وأصبح لهم موقع على الإنترنت ( رابطة أهل السنة في إيران ) ؟
إذا كان الشيعة لا يكفّرون الصحابة فلماذا لا يسمون أبناءهم بأسمائهم وأسماء أمهات المؤمنين ؟ .
لماذا يخالفون المسلمين في الأذان وصفة الصلاة التي يبين عدد من الشيعة أنها بدعة في مذهبهم كالدكتور موسى الموسوي في كتابه الشيعة والتصحيح ؟؟
لماذا تواصل إيران طباعة الكتب الشيعية الضخمة التي تحتوي على الطعن في الصحابة وتحريف القرآن ؟(24/4)
وكذلك لماذا لا تنهي إيران احتلال الجزر العربية في الإمارات وهي تريد التقارب ؟؟
نعم نريد التقارب بين السنة والشيعة لكن للحق وليس تقريب السنة للشيعة !!
والله الهادي إلى سواء السبيل(24/5)
تكفير عند الرافضة
رمتني بدائها وانسلت
الرافضة يكفرون مخالفيهم ويتهمونهم بجحود الله لجحودهم عقيدة الإمامة. مما يؤكد مساواتهم للإمام بالإله. لأن إنكار الإمام عندهم يساوي عندهم إنكار الإله.
أنظر تكفير حسن نصر الله للوهابية في مجلة الأمان الإخوانية المتآمرة مع الرافضة في لبنان (عدد 149 تاريخ 31- 3- 1995) ما يلي:
" رأى (السيد) حسن نصر الله أمين عام حزب (الله) أن بعض الحركات التي تسمي نفسها اسلامية تقدم اليوم خدمات جلية لأمريكا واسرائيل على حساب الاسلام، وهناك بعض المجموعات التي تنسب نفسها الى الاسلام تكفر الشيعة وتكفر السنة من كل المذاهب وتقتل الشيعة وتقتل السنة، وأولوياتها قتل المسلمين الذين لا ينتسبون الى خططها وفكرها. قال " انني أتحدث بالتحديد عن الحركات الوهابية التي لا تقوم بأي عمل لتحرير القدس بل تسعى من أجل التطبيع مع العدو وتفتن أمتها لمصلحة الولايات المتحدة. هنا نقول للباحثين: لا نقبل أن تحسبوا الحركة الوهابية على الاسلام وعلى الصحوة الاسلامية" انتهى.
وهم يكفرون مخالفيهم بلا هوادة ثم يتظاهرون بالتورع عن التكفير ويقولون لنا: لماذا أيها السنة تكفروننا؟ وهذا كقول القائل « رمتني بدائها وانسلت» بل صار هذا القول قاعدتهم في التعامل مع الآخرين.
التكفير عندهم مرتبط بمصلحة المذهب لا بحق الله
التكفير عند الرافضة مرتبط بمدى تأثير المخالف على كيان المذهب. فمن كان مع المذهب فلا يمكن تكفيره حتى لو كان يقول بتحريف القرآن.
وفي هذه صور ومواقف متضادة:
القائلون بتحريف القرآن: لم نر من الرافضة إلا التستر عليهم، والدفاع عنهم والاعتذار بأنهم اجتهدوا فأخطأوا. فلماذا لا تعتبرون منكر إمامة الإثني مجتهدا حتى حكمتم بكفره وردته ونصبه وأحللتم دمه؟
وربما قالوا بأن هؤلاء القائلين بتحريف القرآن كانوا يقولون لا إله إلا الله. فكيف نكفرهم وهم يقولون كلمة التوحيد؟(25/1)
وأبو بكر وعمر والصحابة ألم يكونوا يقولون لا إله إلا الله؟ فلماذا ارتدوا عندكم كما سوف تسمعون؟
فاسمعوا ماذا يقولون فيهم:
صورة حسين الفهيد: الذي يعتبرونه أسد الولاية. كما في موقع البينات الرافضي. وهو الذي زعم أن عليا أخذ العهد على بني آدم منذ الأزل ألست بربكم؟وأنه منشئ الأنام وأنه خالق. وأنه مدبر النجوم وأنه المتكلم بالوحي.
صورة حسين فضل الله: يعتبرونه ضالا مضلا بل لوحوا بكفره لأمور هي أقل بكثير من ضلالات الفهيد.
وهناك فرق أخرى كفرقة علي اللاهية التي يعتقد أبناؤها بأن عليا ليس بإله ولا دون الإله. حكم عليهم خامنيئي بأنهم غير كفار ما دام أنهم لا يشركون بالله تعالى. والصحيح أنهم ما داموا عندهم المغالاة في أهل البيت فلا يعود من الهين تكفيرهم.
الشيخية كفار وضلال
وكتبوا كتبا منها كتاب (الرد على الشيخية) لعبد المؤمن البسطامي وكتاب آخر بنفس العنوان لمحمد رحيم الكرماني (تراجم الرجال2/688).
قال علي النمازي « وفي 22 شعبان مات رئيس الشيخية الحاج محمد كريم خان صاحب كتاب إرشاد العوام الذي هو في الحقيقة إضلال العوام« (مستدرك سفينة البحار5/268).
وقد حكم الشيعة بكفر الطائفة من علماء الشيخية. فذكر البروجردي أن السيد الصدر قد حكم بكفر أحمد بن زيد الدين الإحسائي. قال في هامش كتاب الطرائف بأن السبب في الحكم بالكفر ما رأوه من « مخالفة للضرورة من الدين والمذهب كإنكار المعاد الجسماني والمعراج الجسماني والتفويض إلى الأئمة، فالنسبة إليه إن كانت صحيحة فالحكم بالكفر في محله» (طرائف المقال للبروجردي1/61).
الواقفة والفطحية والناووسية كفار مشركون زنادقة
وهم ما تركوا فرقة من فرق الشيعة المخالفة لهم في بعض أصولهم إلا وحكموا بكفرها ناهيك عن تكفيرهم لنا أهل السنة.
فها هي بعض الفرق الشيعية قد حكموا بكفرها وشركها وزندقتها مثل:(25/2)
الواقفة: وهم الذين واقفوا على موسى بن جعفر فلم يقولوا بإمامة من بعده، ذلك أنهم زعموا أن موسى بن جعفر لم يمت بل هو حي، وينتظرون خروجه كما ينتظر الاثنا عشرية غائبهم المزعوم (المقالات والفرق ص 93 للقمي مسائل الإمامة ص47).
والفطحية: أتباع عبد الله بن جعفر بن محمد الصادق، وهو أكبر أولاد الصادق، وسموا الفطحية؛ لأن عبد الله كان أفطح الرأس. النوبختي بأن أكثر مشايخ الشيعة وفقهائها قد مالوا إلى هذه الفرقة، لكن عبد الله لم يعش بعد وفاة أبيه سوى سبعين يوماً فرجعوا عن القول بإمامته (انظر: مسائل الإمامة ص 46 فرق الشيعة للنوبختي ص 77-78 مقالات الإسلاميين1/102 الحور العين ص 163164).
والناووسية: وهم أتباع رجل يقال له ناووس وقيل: نسبه إلى قرية ناووسا. قالت هذه الفرقة بأن جعفر بن محمد لم يمت وهو حي لا يموت حتى يظهر ويلي الأمر وهو القائم المهدي. قال صاحب الزينة « وقد انقرضت هذه الفرقة ولا يوجد اليوم أحد يقول بهذا القول ولكن رجالها لا تزال رواياتهم في كتب الاثني عشرية» (انظر المقالات والفرق ص 80 للقمي فرق الشيعة ص 67 للنوبختي).
روى المجلسي وغيره عن يوسف ابن يعقوب قال: قلت لابي الحسن الرضا عليه السلام أعطي هؤلاء الذين يزعمون أن أباك حي من الزكاة شيئا (يعني الفطحية)؟ قال: لا تعطهم فانهم كفار مشركون زنادقة (بحار الأنوار للمجلسي84/263 و39/69 مسند الإمام الرضا (ع) – الشيخ عزيز الله عطاردي2/460 إختيار معرفة الرجال للطوسي2/756).
وسأله بعض الشيعة عن جواز إعطاء الزكاة لهم فنهاه عن ذلك، وقال: إنهم كفار مشركون زنادقة (حياة الإمام الرضا الشيخ باقر شريف القرشي2/215).(25/3)
وعن محمد بن عاصم قال: سمعت يقول: يا محمد بن عاصم بلغني أنك تجالس الواقفة؟ قلت : نعم جعلت فداك أجالسهم وأنا مخالف لهم. قال: لا تجالسهم فان الله عز وجل يقول (وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره انكم إذا مثلهم) يعني بالآيات الأوصياء الذين كفر بها الواقفة (طرائف المقال علي البروجردي2/343).
ونقل الحر العاملي عن بهاء الدين في مشرق الشمسين عن هذه الفرق الثلاث « وأما هؤلاء المخذولون فلم يكن لأصحابنا الإمامية ضرورة داعية إلى أن يسلكوا معهم على ذلك المنوال وسيما الواقفية فإن الإمامية كانوا في غاية الاجتناب لهم والتباعد عنهم حتى انهم كانوا يسمونهم بالممطورة أي الكلاب التى أصابها المطر وأئمتنا عليهم السلام لم يزالوا ينهون شيعتهم عن مخالطتهم ومجالستهم ويأمرونهم بالدعاء عليهم في الصلوات ويعلمون انهم كفار مشركون زنادقة وانهم شر من النواصب (وسائل الشيعة30/203 رجال الخاقاني الشيخ علي الخاقاني ص200).
الزيدية نواصب وهم بمنزلة الواقفة والفطحية
عن الرضا والصادق أن « الزيدية والواقفة والنصاب بمنزلة عنده سواء» (من لا يحضره الفقيه للصدوق4/543 مستدرك الوسائل7/109 رواية 7774 بحار الأنوار73/34 اختيار معرفة الرجال للطوسي2/495 و761 طرائف المقال للسيد علي البروجردي2/345 جواهر الكلام للشيخ الجواهري6/67 التحفة السنية لعبد الله الجزائري ص 92).
« عن عمر بن يزيد قال سألته عن الصدقة على النصاب وعلى الزيدية ؟؟ قال لا تصدق عليهم بشيء ولا تسقهم من الماء إن استطعت ، وقال الزيدية هم النصاب» (التهذيب4/53 وسائل الشيعة9/222 روايه رقم1884).
عن عمر بن يزيد قال سألت أبا عبد الله عن الصدقة على الناصب وعلى الزيدية؟ فقال لا تصدق عليهم بشيء ولا تسقهم من الماء إن استطعت، وقال في الزيدية: هم النصاب» (مستدرك الوسائل7/108 روايه 7773).(25/4)
« عن ابن أبي عمير عمّن حدثه قال سألت محمد بن علي الرضا عن هذه الآية (وجوه يومئذ خاشعة عاملة ناصبة) قال: نزلت في النصاب والزيدية والواقفة من النصاب». قال المجلسي بعد هذه الرواية: « أقول: كتب أخبارنا مشحونة بالأخبار الدالة على كفر الزيدية وأمثالهم من الفطحية والواقفة وغيرهم من الفرق المضلة المبتدعة» (بحار الأنوار37/34).
التكفير بين الإخبارية والأصولية
أما بداية افتراق الاثني عشرية إلى أصولية وأخبارية فيذكر البحراني أن شيخهم محمد أمين الاستراباذي (ت 1033ه) هو أول من فتح باب الطعن على المجتهدين، وتقسيم الفرقة.. إلى أخباري ومجتهد (لؤلؤة البحرين: ص117).
ومنهم من يذكر أنه أقدم من ذلك وأن الاستراباذي هو الذي جدده (انظر الأصوليون والأخباريون فرقة واحدة ص4).
مجتمع الكراهية من الداخل
هذا وقد جرى بين هاتين الفرقتين ردود ومنازعات وتكفير وتشنيع حتى إن بعضهم يفتي بتحريم الصلاة خلف البعض الآخر (انظر: محمد جواد مغنية/ مع علماء النجف: ص74).
وكان من شيوخ طائفة الأخبارية من لا يلمس مؤلفات الأصوليين بيده تحاشياً من نجاستها، وإنما يقبضها من وراء ملابسه [محمد آل الطلقاني/ الشيخية: ص 9.].
وقد كفر الاستراباذي (الأخباري) بعض الأصوليين ونسبهم إلى تخريب الدين [انظر: لؤلؤة البحرين/ للبحراني: ص 118.] - على حد تعبيره - كما نسب الكاشاني (الأخباري) صاحب الوافي - إلى أحد مصادرهم الثمانية - جمعاً من علمائهم إلى الكفر [انظر: لؤلؤة البحرين/ للبحراني: ص 121.]، ورد عليه بعضهم بأن له من المقالات التي جرى فيها على مذهب الصوفية والفلاسفة ما يوجب الكفر كقوله بوحدة الوجود [وهو البحراني/ انظر لؤلؤة البحرين: ص121.].. وهكذا يكفر بعضهم بعضاً كما كان أسلافهم من قبل، كما صورته جملة من رواياتهم - كما سيأتي [انظر: مبحث الغيبة من هذه الرسالة.] - مع أن الطائفتين كلاهما من الاثني عشرية.
يقول السيد محمد حسن آل الطالقاني:(25/5)
« وأوغل الأخباريون في الازدراء بالأصوليين إلى درجة عجيبة حتى أننا سمعنا من مشايخنا والأعلام وأهل الخبرة والاطلاع على أحوال العلماء : أن بعض فضلائهم كان لا يلمس مؤلفات الأصوليين بيده تحاشيا من نجاستها ، وإنما يقبضها من وراء ملابسه» (جامع السعادات ص1 الشيخية ص39).
ويقول السيد الطالقاني:
« وكان علماء كربلاء قد صمموا على تكفير كل عالم يرأس ويتزعم ويخافون تقدمه وقد كفروا عددا من العلماء ولكنهم لم ينجحوا مما اضطرهم إلى الخجل» ( الشيخية ص93).
ويضيف السيد الطالقاني قائلا:
« بدأ البرغاني يعمل للانتقام من الأحسائي والوقيعة به، وأخذ يتحين الفرص ويتسقط كلامه للحصول على مدخل يلج منه وممسك يتذرع به ... وحانت الفرصة للبرغاني أن يلعب لعبته ويحقق رغبته فأضاف إلى الآراء بعض الكفريات ونشرها بين العوام، ونسب الأحسائي إلى تضليل العوام بآرائه وغلوة في الأئمة وكفره، وانتشرت أخبار تكفير الأحسائي في بقية المدن الإيرانية، وواصل الأحسائي سفره إلى خراسان، وكلما مر بمدينة وجد الانقسام حوله واضحا، ففريق يتجاهله ويعرض عنه وآخر يبالغ في تعظيمه تعصبا، وكتب البرغاني الشهيد الثالث إلى علماء كربلاء بأنه كفر الأحسائي وطلب متابعتهم في ذلك، فاستجابوا وارتفعت الأصوات معلنة كفره وصار الناس في حيرة مما حدث، ثم سادت الخصومة وتوسع الخلاف، وظهر لدى الشيعة مبدأ جديد، وقبرت خلافات الأخباريين والأصوليين وحلت محلها الشيخية وخصومها» (الشيخية ص100).
وتوالت التكفيرات من كل من :
السيد علي الطباطبائي .
السيد مهدي .
الشيخ محمد جعفر شريعة مداري.
والمولى أغا الدربندري .
والمازندراني .
والسيد إبراهيم القزويني .
والشيخ حسن النجفي .
والشيخ محمد حسين الصفهاني .(25/6)
وقد وقف الشيخ علي بن جعفر كاشف الغطاء موقفا حاسما في نصرة الرشتي والدفاع عنه، إلا أن هذا الدفاع لم يستمر إثر خلاف بين الرشتي والشيخ علي بن جعفر كاشف الغطاء على أموال أيتام طالب بها الشيخ كاشف الغطاء، فاعترض الرشتي بأن هذه الأموال لصغار قصر ولا يمكنه التفريط فيها أو هبتها له! فغضب الشيخ كاشف الغطاء ورضي بتكفيرالرشتي وذم الناس له ( الشيخية ص145).
يقول السيد الطالقاني:
« ولم يردع ذلك - أي الزلزال - القوم ولم يكفوا عن عملهم بل عادوا إلى سابق وضعهم بعد أن هدأت الأوضاع بعض الشيء. وعمد بعضهم إلى تاليف كتاب حشاه بالفضائح والكفر والإفك وقول الزور وأقوال الملاحدة والزنادقة ونسبه إلى الأحسائي، وكان له مجلس عصر كل يوم يقرأ فيه تلك الفضائح على ملأ من الناس فتتعالى الأصوات من أرجاء المكان بلعن الأحسائي والبراءة منه ومن معتقداته، وبوجوب مقاومته والقضاء عليه» (هداية الطالبين ص112 الشيخية ص102).
أهل البدع كفار مرتدون
بل حكموا على كل مبتدع بالكفر. مع أنه ليست كل البدع متساوية مع شناعة البدعة من حيث المبدأ.
فقال شيخ الشيعة المفيد « اتفقت الإمامية على أن أصحاب البدع كلهم كفار، وأن على الإمام أن يستتيبهم عند التمكن بعد الدعوة لهم وإقامة البينات عليهم فإن تابوا عن بدعهم وصاروا إلى الصواب وإلا قتلهم لردتهم عن الإيمان، وأن من مات منهم على تلك البدعة فهو من أهل النار» (أوائل المقالات: ص16).
تغييرهم معاني الألفاظ الشرعية
إن العقيدة الشيعية تكشف لنا عن تغيير دين الإسلام حيث تحصر كل معاني الإسلام في بيعه رجل، وتغير معاني الألفاظ الشرعية إلى معان باطلة:
فإقام الصلاة بمعنى تولي الإمام الحق أحد الإئمة الإثني عشر.
والشرك بالله صار بمعنى اتخاذ إمام باطل آخر مع الإمام الحق.
والكفر بالله بمعنى جحود إمامة الإمام.
والمشرك بالله هو من أشرك بمبايعة الإمام الباطل بدءا من أبي بكر إلى نهاية الدنيا.(25/7)
لا تشرك بالإمام إن الشرك لظلم عظيم
الله يقول: لا تشرك بالله. والرافضة يقولون: لا تشرك بالإمام.
الشرك أعظم الذنب لا خروج معه من النار ولا دخول الجنة. لأنه شرك بالله. وقد جعله الرافضة شركا بالإمام.
جاء في الكافي « عن أبي عبد الله قال { ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك } يعني إن أشركت في الولاية غيره» (الكافي 1/353 كتاب الحجة. باب فيه نكت ونتف من التنزيل في الولاية).
قال الرافضة { ولا يشرك بعبادة ربه أحدا } أي: « أي لا تشرك في ولاية علي أحدا» (مجمع النورين ص85 لأبي الحسن المرندي).
وقال الكاشاني في تفسير الصافي في قوله تعالى (ثم قيل لهم أينما كنتم تشركون) قال « أي أين إمامكم الذي اتخذتموه من دون الإمام» (تفسير الصافي4/348 تفسير نور الثقلين 4/536 للحويزي ينابيع المودة للقندوزي الرافضي وإن زعموا أنه حنفي3/402).
عن محمد بن سنان عن الرضا عليه السلام قال { كبر على المشركين بولاية علي ما تدعوهم إليه يا محمد من ولاية علي. هكذا في الكتاب مخطوطة« (الكافي 1/346 كتاب الحجة. باب فيه نكت ونتف من التنزيل في الولاية).
كذلك جاء فيه « عن أبي عبد الله: من أشرك مع إمام إمامته من عند الله من ليست إمامته من الله كان مشركا بالله » (الكافي1/373).
قال شارح الكافي « يحتمل أن يراد بالمشرك الكافر والشرك الكفر» (شرح أصول الكافي6/346).
وذكر الكليني في الكافي أن معصية عليٍّ كفر وأن اعتقاد أولوية غيره بالإمامة شركٌ (بحار الأنوار 390:23 الكافي الحجة1: 52و54 وانظر الكافي 1/353).
فهذه عقيدة يعلنها الكليني حتى لا يقول قائل أن هذه الروايات قد لا تكون صحيحة.
وهكذا صرفوا الناس عن التوحيد الحقيقي وركبوا في أذهانهم هذا التوحيد الجديد بدلا عنه وهو توحيد الإمامة في علي وأبنائه. والشرك بالله هو الشرك مع علي إماما آخر.
وقد عقد المجلسي هذا الباب التالي:(25/8)
« باب أنهم عليهم السلام وولايتهم العدل والمعروف والإحسان والقسط والميزان، وترك ولايتهم وأعدائهم الكفر والفسوق والعصيان والفحشاء والمنكر والبغي» (بحار الأنوار24/187-191).
« باب أنهم الصلاة والزكاة والحج والصيام وسائر الطاعات، وأعداؤهم الفواحش والمعاصي (البحار24/286-304).
كل من قاتلوا علي بن أبي طالب عندهم كفار مرتدون
كذلك اعتبروا كل من حارب عليا كفارا وذلك بالإجماع.
قال المفيد « واتفقت على القول بكفر من حارب أمير المؤمنين عليًا وأنهم "كفار ضلال ملعونون بحربهم أمير المؤمنين وأنهم بذلك في النار مخلدون» (أوائل المقالات ص10).
قلت: هذا الذي زعم المفيد إتفاق الشيعة عليه يخالفكم فيه علي رضي الله عنه.
« فعن هارون بن مسلم عن مسعدة بن زياد عن جعفر عن أبيه عليهم السلام أن عليا عليه السلام لم يكن ينسب أحدا من أهل البغي إلى الشرك ولا إلى النفاق، ولكن كان يقول: إخواننا بغوا علينا» (وسائل الشيعة51/83 للحر العاملي مستدرك الوسائل11/68 للنوري الطبرسي جواهر الكلام للجواهري12/338 فقه الصادق31/118 محمد صادق الروحاني قرب الإسناد ص94 للحميري القمي).
وفي رواية « عن جعفر عن أبيه ان عليا (عليه السلام) لم يكن ينسب أحدا من أهل حربه إلى الشرك ولا إلى النفاق، ولكنه كان يقول: هم إخواننا بغوا علينا» (بحار الأنوار23/324 وسائل الشيعة51/83).
وروى الشيعة عن علي أنه قال « وكان بدء أمرنا أنّا تلاقينا والقوم من أهل الشام، والظاهر أن ربنا واحد وديننا واحد، ودعوتنا في الإسلام واحدة، ولا نستزيدهم في الإيمان بالله والتصديق برسوله ولا يستزيدوننا شيئاً إلا ما اختلفنا فيه من دم عثمان » (نهج البلاغة3/114).
قال الإمام يعني عندهم يساوي قال الله(25/9)
وهذا ضرب لصميم مذهبهم. ولهذا لما رأى الحر العاملي أن في هذه الروايات إشكال كبير اضطر أن يستعمل بلسم التقية المنقذ من كل ورطة وتناقض، فقال « هذا محمول على التقية» (وسائل الشيعة51/83).
الراد على الإمام مشرك لأن قال الإمام هو قال الله
فعن أبي عبد الله قال « الراد علينا كالراد على الله والرد علينا على حد الشرك بالله» (الكافي للكليني1/67 والكافي ص425 للصلاح الحلبي وكتاب الإجتهاد والتقليد ص388 للخوئي وتهذيب الأصول3/147 للخميني بحار الأنوار1/192 و101/262).
وهذا يجعل كلام الإمام بمنزلة كلام الله. فقد زعم المازندراني أنه يجوز لمن يروي عن أبي عبد الله قولا أن يقول (قال الله تعالى) لأن قول الإمام كقول الله. قال: « إن حديث كل واحد من الأئمة الطاهرين هو قول الله عز وجل، ولا اختلاف في أقوالهم كما لا اختلاف في قول الله» (شرح أصول الكافي2/225 للمازندراني).
ولكن يشكل على قولهم هذا بأنهم قد رووا عن الأئمة أقوالا كثيرة مخالفة للصواب وحملوها على التقية. فهل يتكلم الله على التقية؟
المخالف في واحدة كالمخالف في الجميع
قال ابن بابويه « واعتقادنا فيمن خالفنا في شيء واحد من أمور الدين كاعتقادنا فيمن خالفنا في جميع أمور الدين» (الاعتقادات: ص116 وانظر الاعتقادات للمجلسي: ص100).
أول من أسلم هو أول الكفار عند الشيعة
أول الكفار في المذهب الرافضي هم أول من آمن برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهاجر معه وكان ملازما له كالظل ثم كان خليفته بعد موته - صلى الله عليه وسلم - ثم دفن معه. وهو أبو بكر رضي الله عنه.
وثاني الكفار في المذهب الشيعي هو عمر الفاروق الخليفة الثاني، والذي كان ملازما لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حياته وحتى بعد مماته حيث دفن بجانبه.
ثم بعد هذا: كل من كان صحابيا بعد موت الرسول فهو عندهم كافر مرتد.
وقبل أن نذكر الأدلة نتساءل:(25/10)
من لا يتورع عن تكفير أفضل الخلق بعد الأنبياء كيف نأمل منه أن يتقي الله في المسلمين؟
من لا نرجو منه خيرا في حق أصحاب رسول الله كيف نرجو منه خيرا في حق هذه الأمة من بعدهم؟
كل الناس مرتدون بعد الرسول
قال علماء الرافضة « كل الناس ارتدوا جميعا بعد الرسول إلا أربعة (جواهر الكلام21/347 الإمام علي ص657 لأحمد الرحماني الهمداني). بناء على الرواية عن الكافي « كان الناس بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أصحاب ردة إلا ثلاثة: أبو ذر وسلمان الفارسي» (أصول الكافي 245:2). ووصف الكاشاني (تفسير الصافي 1/148 وقرة العيون 1/148) أسانيد هذه الرواية بأنها معتبرة.
فالرافضة حكموا بكفر وردة أفضل الخلق بعد الأنبياء فكيف لا نتوقع منهم تكفير من دونهم.
لقد وصفوا أبا بكر وعمر باللات والعزى والجبت والطاغوت والأوثان والفحشاء والمنكر. وزعموا أن أبا بكر كان يصلي وراء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والصنم معلق على رقبته.
أبو بكر وعمر كافران ومن أحبهما وتولاهما
روى المجلسي من كتاب الحلبي هذا وهو (تقريب المعارف) رواية عن علي بن الحسين أنه سئل عن أبي بكر وعمر فقال: كافران، كافر من أحبهما» وفي رواية أبي حمزة الثمالي « كافران كافر من تولاهما» وكرر المجلسي نفس كلام الحلبي (بحار الأنوار30/384 69/137).
قال المجلسي « الأخبار الدالة على كفر أبي بكر وعمر وأضرابهما وثواب لعنهم والبراءة منهم أكثر من أن يذكر في هذا المجلد أو في مجلدات شتى وفيما أوردناه كفاية لمن أراد الله هدايته إلى الصراط المستقيم» (بحار الأنوار30/399).
واستحسن المجلسي قول أبي الصلاح الحلبي بأن الروايات المروية عن الأئمة عليهم السلام وعن أبنائهم تفيد « أنهم يرون في المتقدمين على أمير المؤمنين عليه السلام ومن دان بدينهم أنهم كفار» (بحار الأنوار31/63).
فإن قالوا: هما ليسا مؤمنين وإنما مسلمين.(25/11)
قيل لهم: قد وصفتموهما بأنهما الجبت والطاغوت. واللات والعزى. فهل الجبت والطاغوت مسلمان عندكم؟
وعثمان نعثل كافر
وكذبوا على عائشة تكفيرها لعثمان. وزعموا أنهم لم يقولوا بكفره وإنما عائشة هي التي فعلت حين قالت « أقتلوا نعثلا فقد كفر» (بحار الأنوار32/143).
وهذه الرواية مكذوبة وفيها نصر بن مزاحم قال فيه العقيلي » كان يذهب إلى التشيع وفي حديثه اضطراب وخطأ كثير« وقال الذهبي » رافضي جلد، تركوه « (الضعفاء للعقيلي4/300 ترجمة رقم (1899) ميزان الاعتدال للذهبي 4/253) ترجمة رقم (9046).
من هم الأوثان الأربعة
يوجب الصدوق على المسلم أن يتبرأ من الأوثان الأربعة (الهداية ص44 للصدوق).
والأوثان الأربعة عند الرافضة هم أبو بكر وعمر وعثمان ومعاوية. ولكنهم يقلبون أسماءهم استهزاء وجريا على سنة اليهود، فكانوا يقولون « الأوثان الأربعة هم أبو فصيل ورمع ونعثل ومعاوية» (بحار الأنوار31/607 تفسير العياشي2/116).
وقد افتضح أمر هذه التقية الجبانة المجلسي والبروجردي والطريحي فقال المجلسي: أبو فصيل يعني أبو بكر (بحار الأنوار28/328 طرائف المقال2/599 السيد علي بروجردي مجمع البحرين1/233 و3/173 للشيخ الطريحي).
التستري حين تحدث عما أسماه بخلافة « فصيل وخلافة ابن الخطاب» ثم رد على من ادعي أن خلافتهما أولى (الصوارم المهرقة ص3).
وأما عمر فقد قلبوا اسمه الى (رمع) وكنوه بذلك لضرورة التقية كما أشار إليه مشايخهم (بحار الأنوار36/101 إختيار معرفة الرجال1/264 للطوسي الحدائق الناضرة18/124 للبحراني).
وكذلك علي بن يونس العاملي الذي وصف أبا بكر بذلك أثناء الكلام على خلافته (الصراط المستقيم3/153).
هل يبقى مع هذا الكفر إسلام؟
وزعم القمي أن الآية نزلت في سورة البقرة هكذا: « إن الذين كفروا وظلموا آل محمد » (أنظر تفسير القمي المقدمة1/10). وهذا يعني أنهم يعتقدون بكفر من ظلم عليا بزعمهم وأخذ منه الإمامة.(25/12)
رووا عن أبي عبد الله في قول الله عز وجل { إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفر لن تقبل توبتهم } قال: نزلت في فلان وفلان وفلان. آمنوا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - في أول الأمر حيث عرضت عليهم الولاية حين قال النبي - صلى الله عليه وسلم - من كنت مولاه فهذا علي مولاه. ثم بايعوا بالبيعة لأمير المؤمنين عليه السلام ثم كفروا حيث مضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم يقروا بالبيعة ثم ازدادوا كفرا بأخذهم من بايعه بالبيعة لهم. فهؤلاء لم يبق فيهم من الإيمان شيء« (الكافي 1/348 كتاب الحجة. باب فيه نكت ونتف من التنزيل في الولاية).
ولزمهم الطعن في علي رضي الله عنه والحكم عليه بالردة حين حكموا على مخالف عقيدة الإمامة بأنه مرتد كافر. فإن قالوا: كان مرغما. قيل لهم هاتوا دليلا صحيحا متواترا على أنه كان مرغما وإلا لزمكم تكفيره.
المجلسي وباب كفر الثلاثة
روى الكليني الملقب بثقة الإسلام في كتابه الكافي « عن حمران بن أعين قال: قلت لأبي جعفر عليه السّلام: جعلت فداك، ما أقلنا لو اجتمعنا على شاة ما أفنيناها؟ فقال: ألا أحدّثك بأعجب من ذلك، المهاجرون والأنصار ذهبوا إلا – وأشار بيده – ثلاثة»
علّق محقق كتاب الكافي شيخهم المعاصر علي أكبر الغفاري على هذا النص قائلا « يعني أشار عليه السّلام بثلاث من أصابع يده. والمراد بالثّلاثة سلمان وأبو ذرّ والمقداد» (الكافي2/244 وانظر رجال الكشّي: ص7، بحار الأنوار: 22/345).
وقد عقد شيخهم المجلسي بابًا بعنوان « باب كفر الثّلاثة ونفاقهم وفضائح أعمالهم» (بحار الأنوار 8/208-252 وقد عد بعض شيوخهم المعاصرين هذا الكتاب بالمرجع الوحيد في تحقيق معارف المذهب. قاله البهبودي في مقدمة البحار، الجزء صفر ص19).(25/13)
وزعم آخرون من مشايخ الشيعة أن أبا بكر كان كافرا كفرا مساو لكفر إبليس، وأنه كان يبطن الكفر ويتظاهر بالاسلام (الصراط المستقيم للبياضي 3/129 إحقاق الحق للتستري 284 وعقائد الإمامية للزنجاني 3/27).
إبليس عندهم خير من أبي بكر وعمر وهو موال لأهل البيت
بل إنهم فضلوا إبليس على أبي بكر. فقد حدثت ضجة مؤخرا في الكويت بسبب تصريح أحد الشيعة أن « أعداءنا بالدرجة الأولى عمر ثم أبو بكر ثم إبليس» قاله ياسر الحبيب.
وهذا ليس بعجيب من قوم روت كتبهم أن إبليس كان يحب عليا ويواليه.
قال شاذان القمي « وبالاسناد يرفعه إلى عبدالله بن عباس) قال لما رجعنا من حج بيت الله مع رسول الله صلى الله عليه وآله فجلسنا حوله وهو في مسجده اذ ظهر الوحى عليه فتبسم صلى الله عليه وآله تبسما شديدا حتى بانت ثناياه فقلنا يا رسول الله مم تبسمت قال من ابليس اجتاز ينفر وهم يتلون علينا فوقف امامهم فقالوا من ذا الذى امامنا فقال انا ابو مرة فقالوا تسمع كلامنا فقال نعم سوأة لوجوهكم ويلكم أتسبون مولاكم علي بن ابي طالب (ع) فقالوا له أبا مرة من اين علمت انه مولانا فقال ويلكم أنسيتم قول نبيكم بالامس من كنت مولاه فعلي مولاه فقالوا يا ابا مرة أنت من شيعته ومواليه فقال ما انا من شيعته ومواليه ولكني احبه لانه من ابغضه احد منكم إلا شاركته في ولده وماله وذلك قول الله تعالى (وشاركهم في الاموال والاولاد) » (الفضائل ص158).
وروى الصدوق عن علي أنه قال « عدوت خلف ذلك اللعين (يعني إبليس) حتى لحقته وصرعته إلى الأرض وجلست على صدره !! ووضعت يدي على حلقه لأخنقه! فقال لا تفعل يا أبا الحسن فإني من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم، والله يا علي أني لأحبك جداً وما أبغضك أحد إلاّ شاركت أباه في أمه فصار ولد زنا فضحكت وخلّيت سبيله» (عيون أخبار الرضا1/77 بحار الأنوار27/149 و39/174 و60/245 الأنوار النعمانية2/168 للجزائري).(25/14)
فماذا تتأمل من مذهب يجعل أول من أسلم برسول الله وهاجر معه شر من إبليس؟
وهل دخل إبليس في قول النبي عن علي « اللهم وال من والاه» فصار مواليا؟
وهل ظهرت قوة علي ضد إبليس بينما كان يستعمل التقية ضد أبي بكر وعمر وعثمان؟
تكفيرالرافضة لأهل البيت وبخاصة عائشة
إن هذه الرّوايات التي تحكم بالرّدة على ذلك المجتمع المثالي الفريد، ولا تستثني منهم جميعًا إلا سبعة في أكثر تقديراتها، لا تذكر من ضمن هؤلاء السّبعة أحدًا من أهل بيت رسول الله باستثناء بعض روايات عندهم جاء فيها استثناء علي فقط، وهي:
عن الفضيل بن يسار عن أبي جعفر قال: صار الناس كلهم أهل جاهلية إلا أربعة: علي، والمقداد، وسلمان، وأبو ذر. فقلت: فعمار؟ فقال: إن كنت تريد الذين لم يدخلهم شيء فهؤلاء الثلاثة (تفسير العياشي1/199 البرهان1/319 تفسير الصافي: 1/389).
وفي رواية أن عمار « حاص حيصة ثم رجع» (بحار الأنوار28/239).
وكأنه ارتد أو حاد عن الصواب عندهم ثم رجع.
لقد حكموا بالردة في نصوصهم التي مر ذكرها، على الحسن والحسين وآل عقيل وآل جعفر، وآل العباس، وزوجات رسول الله أمهات المؤمنين.
بل إن الشيعة خصت بالطعن والتكفير جملة من أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم كعم النبي العباس، حتى قالوا بأنه نزل فيه قوله سبحانه: {وَمَن كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً} [رجال الكشي: ص53، والآية (72) من سورة الإسراء.].
وكابنه عبد الله بن عباس حبر الأمة وترجمان القرآن، فقد جاء في الكافي ما يتضمن تكفيره، وأنه جاهل سخيف العقل [أصول الكافي: 1/247.]. وفي رجال الكشي: "اللهم العن ابني فلان واعم أبصارهما، كما عميت قلوبهما.. واجعل عمى أبصارهم دليلاً على عمى قلوبهما" [رجال الكشي: ص53.].
وعلق على هذا شيخهم حسن المصطفوي فقال: "هما عبد الله بن عباس وعبيد الله بن عباس" [رجال الكشي: ص53 (الهامش).].(25/15)
وبنات النبي صلى الله عليه وسلم يشملهن سخط الشيعة وحنقهم، فلا يذكرن فيمن استثنى من التكفير، بل ونفى بعضهم أن يكن بنات للنبي صلى الله عليه وسلم - ما عدا فاطمة [انظر: جعفر النجفي/ كشف الغطاء: ص5، حسن الأمين/ دائرة المعارف الإسلامية، الشيعة: 1/27.] – فهل يحب رسول الله صلى الله عليه وسلم من يقول فيه وفي بناته هذا القول؟!
وقد نص صاحب الكافي في رواياته على أن كل من لم يؤمن بالاثني عشر فهو كافر، وإن كان علويًا فاطميًا [انظر: الكافي، باب من ادعى الإمامة وليس لها بأهل، ومن جحد الأئمة أو بعضهم، ومن أثبت الإمامة لمن ليس لها بأهل: 1/372-374.]، وهذا يشمل في الحقيقة التكفير لجيل الصحابة ومن بعدهم بما فيهم الآل والأصحاب؛ لأنهم لم يعرفوا فكرة "الاثني عشر" التي لم توجد إلا بعد سنة (260ه).
كما باءوا بتفكير أمهات المؤمنين أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ إذ لم يستثنوا واحدة منهن في نصوصهم.. ولكنهم يخصون منهن عائشة [انظر: أصول الكافي: 1/300، رجال الكشي: ص57-60، بحار الأنوار: 53/90.] وحفصة [انظر: بحار الأنوار: 22/246.]- رضي الله عنهن جميعًا – بالذم واللعن والتكفير.
وقد عقد شيخهم المجلسي بابًا بعنوان "باب أحوال عائشة وحفصة" ذكر فيه (17) رواية [بحار الأنوار: 22/227-247.]، وأحال في بقية الروايات إلى أبواب أخرى [حيث قال: "قد مر بعض أحوال عائشة في باب تزويج خديجة، وفي باب أحوال أولاده صلى الله عليه وسلم في قصص مارية وأنها قذفتها فنزلت فيها آيات الإفك (انظر كيف يقلبون الحقائق) وسيأتي أكثر أحوالها في قصة الجمل" (بحار الأنوار: 22/245).]، وقد آذوا فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم في أهل بيته أبلغ الإيذاء.(25/16)
حتى اتهموا في أخبارهم من برأها الله من سبع سماوات؛ عائشة الصديقة بنت الصديق بالفاحشة، فقد جاء في أصل أصول التفاسير عندهم (تفسير القمي) هذا القذف الشنيع [ونص ذلك: "قال علي بن إبراهيم في قوله: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا} [التّحريم، آية:11] ثم ضرب الله فيهما (يعني عائشة وحفصة زوجتي رسول الله مثلاً فقال: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا لِّلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا} [التّحريم، آية10] قال: والله ما عنى بقوله {فَخَانَتَاهُمَا} إلا الفاحشة، وليقيمنّ الحدّ على فلانة فيما أتت في طريق البصرة، وكان فلان يحبّها، فلمّا أرادت أن تخرج إلى البصرة قال لها فلان: لا يحلّ لك أن تخرجين – كذا – من غير محرم فزوّجت نفسها من فلان..
هذا نصّ القمّي كما نقله عنه المجلسي في بحار الأنوار: 22/240، أمّا تفسير القمّي فقد جاء فيه النّصّ، إلا أنّ المصحّح حذف اسم البصرة الذي ورد مرّتين ووضع مكانه نقط (انظر: تفسير القمّي 2/377).
والنص فيه عدم التصريح بالأسماء، فقوله: "ليقيمن الحد" من الذي يقيم؟ وقوله: "فلان، وفلانة" من هما؟ لكن شيخ الشيعة المجلسي كشف هذه التّقية وحلّ رموزها وذلك لأنه يعيش في ظل الدولة الصفوية فقال: قوله: وليقيمنّ الحدّ أي القائم عليه السّلام في الرّجعة كما سيأتي (وقد نقلت ذلك عن المجلسي في فصل الغيبة، وصرّح بالاسم وأنّها عائشة أمّ المؤمنين، إلا أنه قال بأنه بسبب ما قالته في مارية، فلم يجرؤ أن يصرح مع ذكر الاسم بما صرح به هنا من القذف الصريح) والمراد بفلان طلحة (بحار الأنوار: 22/241).
تكفير الشيعة للسنة
إن من تتبع كتب الشيعة فسوف يلحظ أنهم يحكمون بتكفيرهم لأبناء السنة بل وأنهم شر من اليهود والنصارى.
رب الشيعة غير رب أبي بكر وأهل السنة(25/17)
لقد بلغ الأمر بشيخهم نعمة الله الجزائري أن يعلن عن اختلاف إله الشيعة عن إله السنة فيقول:
« لم نجتمع معهم على إله ولا نبي ولا على إمام، وذلك أنهم يقولون: إن ربهم هو الذي كان محمد صلى الله عليه وسلم نبيه، وخليفته بعده أبو بكر، ونحن لا نقول بهذا الرب ولا بذلك النبي، بل نقول إن الرب الذي خليفته نبيه أبو بكر ليس ربنا ولا ذلك النبي نبينا» (الأنوار النعمانية: 2/279).
موقف الشيعة أئمة المذاهب الأربعة
ولا ننسى أن الشيعة يلعنون الشافعي وأبا حنيفة واحمد بن حنبل.
فقد قال أبو موسى » لعن الله أبا حنيفة، كان يقول: قال علي، وقلتُ« (الكافي 1/45 و46 كتاب: فضل العلم – باب: فضل العلم).
أبو حنيفة مشرك بالله عند الجزائري
ولهذا قال نعمة الله الجزائري « ومن هذا الحديث يظهر لي أن الكوفي كان مشركا بالله لأنه كان يقول في مسجد الكوفة: قال علي وأنا أقول» (نور البراهين2/160).
وجاء في الهداية الكبرى « لعن الله أحمد بن حنبل» (الهداية الكبرى ص246 للحسين بن حمدان الخصيبي أثنى عليه السيد محسن الأمين العاملي وأنه كان صحيح المذهب وأن ما قيل من فساد عقيدته هو كذب لا أصل له كما جاء في مقدمة الكتاب).
وقال محمد الرضي الرضوي » ولو أن أدعياء الإسلام والسنة أحبوا أهل البيت عليهم السلام لاتبعوهم ولما أخذوا أحكام دينهم عن المنحرفين عنهم كأبي حنيفة والشافعي ومالك وابن حنبل« (كذبوا على الشيعة ص 279).
أبيات في لعن الشافعي
وحين نقل الرافضة قولا للشافعي يقول فيه:
لو شق قلبي لرأوا وسطه خطين قد خطا بلا كاتب
الشرع والتوحيد في جانب وحب أهل البيت في جانب
أجابه يوسف البحراني قائلا :
كذبت في دعواك يا شافعي فلعنة الله على الكاذب
بل حب أشياخك في جانب وبغض أهل البيت في جانب
عبدتم الجبت وطاغوته دون الاله الواحد الواجب
فالشرع والتوحيد في معزل عن معشر النصاب يا ناصبي
قدمتم العجل مع السامري على الامير ابن أبي طالب(25/18)
محصتهم بالود أعداءه من جالب الحرب ومن غاصب
وتدعون الحب ما هكذا فعل اللبيب الحازم الصائب
قد قرروا في الحب شرطا له أن تبغض المبغض للصاحب
وأنتم قررتم ضابطا لتدفعوا العيب عن الغائب
بأننا نسكت عما جرى من الخلاف السابق الذاهب
ونحمل الكل عن محمل الخير لنحظى برضا الواهب
تبا لعقل عن طريق الهدى أصبح في تيه الهوى عازب
(عن كتاب مواقف الشيعة3/26 لأحمد الميانجي وأضاف المحقق لهذه الأبيات مصادر أخرى منها روضة المؤمنين ص 125 وعن زهر الربيع ص 323).
السني هو الناصبي عند الشيعة
قال الشبخ حسن آل عصفور « أخبارهم (يعني الأئمة) عليهم السلام تنادي بأن الناصب هو ما يقال له عندهم سنيا… ولا كلام في أن المراد بالناصبة فيه هم أهل التسنن» (المحاسن النفسانية في أجوبة المسائل الخراسانية حسين آل عصفور الدرازي البحراني ص147 منشورات دار المشرق العربي الكبير ص147).
يقول التيجاني « وبما أن أهل الحديث هم أنفسهم أهل السنة والجماعة فثبت بالدليل الذي لا ريب فيه أن السنة المقصودة عندهم هي بغض على بن أبي طالب ولعنه والبراءة منه فهي النصب« (الشيعة هم أهل السنة صفحة 79 مؤسسة الفجر- لندن).
السني ناصبي وإن والى أهل البيت
ويقول نعمة الله الجزائري » الأئمة عليهم السلام وخواصهم أطلقوا لفظ الناصبي على أبي حنيفة وأمثاله مع أن أبا حنيفة لم يكن ممن نصب العداوة لأهل البيت عليهم السلام بل كان له انقطاع إليهم وكان يظهر لهم التودد« (الأنوار النعمانية 2/307 طبع تبريز إيران).
الناصبي عندهم كافر حلال الدم
روى ابن بابويه القمي الملقب بالصدوق عن داود بن فرقد قال » قلت لأبي عبد الله عليه السلام ما تقول في قتل الناصب؟ قال: حلال الدم ولكني أتقي عليك. فافعل. قلت فما ترى في ماله؟ قال: توّه ما قدرت عليه« (علل الشرائع ص601 طبع النجف).(25/19)
وذكر هذه الرواية الحر العاملي في (وسائل الشيعة 18/463 ونعمة الجزائري في الأنوار النعمانية (2/307) إذ صرح بجواز قتلهم واستباحة أموالهم.
الناصبي نجس عند الخوئي وغيره
وذكر الخوئي الأعيان النجسة وآخرها « الكافر وهو من لم ينتحل دينا أو انتحل دينا غير الإسلام أو انتحل الإسلام وجحد ما يعلم أنه من الدين الإسلامي بحيث رجع جحده إلى إنكار الرسالة نعم إنكار الميعاد يوجب الكفر مطلقاً ولا فرق بين المرتد والكافر الأصلي الحربي والذمي والخارجي والغالي والناصب» (منهاج الصالحين1/16 للخوئي).
المخالف لمذهب الشيعة كافر
قال يوسف البحراني بأن الأخبار المستفيضة بل المتواترة دالة « على كفر المخالف غير المستضعف ونصبه ونجاسته» (الحدائق الناضرة5/177 جواهر الكلام4/83).
وذكر المجلسي أن من لم يقل بكفر المخالف فهو كافر أو قريب من الكافر (بحار الأنوار65/281).
ونقل آل عصفور البحراني كلام المفيد ثم قال بعد ذلك « ووافقه الشيخ في التهذيب على ذلك حيث استدل له بأن المخالف لأهل الحق كافر فيجب أن يكون حكمه حكم الكفار إلى آخر كلامه ومنع أبو الصلاح من جواز الصلاة على المخالف إلا تقية ومنع ابن إدريس وجوب الصلاة إلا على المعتقد ومن كان بحكمه من المستضعف وابن الست سنين وكذلك يفهم من كلام سلار ومذهب السيد المرتضى في المخالفين واضح حيث حكم بكفرهم» (حاشية آل عصفور على شرح الرسالة الصلاتية هامش333).
لماذا أجاز مراجع الشيعة الصلاة خلف السنة؟
وقد أجازوا الصلاة معهم تقية بل حثوهم على ذلك لأن « من صلى معهم خرج بحسناتهم وألقى عليهم ذنوبه» (كشف الغطاء1/265 للشيخ جعفر كاشف الغطاء).
كيف يصلي الشيعة على الناصبي(25/20)
زعموا أن الحسين أراد أن يصلي صلاة الجنازة علي ناصبي فقال لمولاه: قم عن يميني فما تسمعني اقول فقل مثله فلما ان كبر عليه قال: الله أكبر. اللهم العن عبدك الف لعنة مؤتلفة غير مختلفة، اللهم أخر عبدك في عبادك وبلادك واصله حر نارك واذقه اشد عذابك» (الكافي للكليني3/189 تهذيب الأحكام للطوسي3/197 وسائل الشيعة للحر العاملي3/71 بحار الأنوار44/202 الحدائق الناضرة للبحراني1/414).
من خالف الكتاب والسنة فقد كفر
« عن أبي عمير عن بعض أصحابه عن الصادق أنه قال: من خالف كتاب الله وسنة محمد فقد كفر» (الكافي1/70).
من اعتقد أن الله فوق العرش فقد كفر
عن أبي بصير ، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: من زعم أن الله عزوجل من شئ أو في شئ أو على شئ فقد كفر» (بحار الأنوار3/333).
معصية علي شرك وكفر
وذكر الكليني في الكافي أن معصية عليٍّ كفر وأن اعتقاد أولوية غيره بالإمامة شركٌ (بحار الأنوار 390:23 الكافي الحجة1: 52و54 وانظر الكافي 1/353).
أهل مكة والمدينة كفار عند الرافضة
وقد روى الكليني في الكافي ما يلي: » إن أهل مكة ليكفرون بالله جهرة وإن أهل المدينة أخبث من أهل مكة، أخبث منهم سبعين ضعفاً« ( الكافي 2/301 كتاب الإيمان والكفر باب في صنوف أهل الخلاف وذكر القدرية والخوارج والمرجئة وأهل البلدان).
وعن أبي بكر الحضرمي قال » قلت لأبي عبد الله: أهل الشام شر أم أهل الروم؟ فقال: إن الروم كفروا ولم يعادونا وإن أهل الشام كفروا وعادونا « (الكافي 2/301 كتاب الإيمان والكفر باب في صنوف أهل الخلاف وذكر القدرية والخوارج والمرجئة وأهل البلدان ).
وعن أبي عبد الله » أهل الشام شر من أهل الروم وأهل المدينة شر من أهل مكة يكفرون بالله جهرة « (الكافي 2/301 كتاب الإيمان والكفر باب في صنوف أهل الخلاف وذكر القدرية والخوارج والمرجئة وأهل البلدان).
مساكين أهل الشام(25/21)
وعن أبي بكر الحضرمي قال » قلت لأبي عبد الله: أهل الشام شر أم أهل الروم؟ فقال: إن الروم كفروا ولم يعادونا وإن أهل الشام كفروا وعادونا « (الكافي 2/301 كتاب الإيمان والكفر باب في صنوف أهل الخلاف وذكر القدرية والخوارج والمرجئة وأهل البلدان ).
منكر المتعة كافر ومجتنبها ملعون
روى القوم عن الصادق عليه السلام بأن المتعة من ديني ودين آبائي فالذي يعمل بها يعمل بديننا والذي ينكرها ينكر ديننا بل إنه يدين بغير ديننا. وولد المتعة أفضل من ولد الزوجة الدائمة ومنكر المتعة كافر مرتد» (منهاج الصادقين ص356 للفيض الكاشاني).
بل رووا عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الملائكة لا تزال تستغفر للمتمتع وتلعن من يجنب المتعة إلى يوم القيامة. (جواهر الكلام30/151 للجواهري).
تكفيرهم من جهل معرفة أسماء كل الأئمة
« حدثنا علي بن محمد رضي الله عنه قال : حدثنا حمزة بن القاسم العلوي رضي الله عنه قال : حدثنا الحسن بن محمد الفارسي قال : حدثنا عبد الله بن قدامة الترمذي ، عن أبي الحسن عليه السلام قال : من شك في أربعة فقد كفر بجميع ما أنزل الله تبارك وتعالى أحدها : معرفة الامام في كل زمان وأوان بشخصه ونعته» (كمال الدين وتمام النعمة للشيخ الصدوق ص 413 بحار الأنوار للمجلسي13/658 و72 / 135 و96/135).
تارك التقية كافر مشرك لا دين ولا إيمان له
روى الرافضة عن جعفر الصادق أنه قال « تسعة أعشار الدين في التقية، ولا دين لمن لا تقية له» (الكافي 2/172).
في الأصول من الكافي (باب التقية 2/217 و219) » التقية ديني ودين آبائي ولا ايمان لمن لا تقية له«.
بل رووا عن الصادق أنه قال « لو قلت إن تارك التقية كتارك الصلاة لكنت صادقا» (بحار الأنوار75/421 مستدرك الوسائل12/254 فقيه من لا يحضره الفقيه2/80 السرائر للحلي3/582 وسائل الشيعة16/211 مجمع الفائدة5/127 للأردبيلي المكاسب المحرمة2/144 كتاب الطهارة4/255 للخوئي بحار الأنوار50/181).(25/22)
واعتبر الخوئي هذه الرواية والتي قبلها من الروايات المتواترة (كتاب الحج5/153).
بل رووا عن أئمتهم أن « تارك التقية كافر» (فقه الرضا لابن بابويه القمي ص338).
بل جعلوا ترك التقية كالشرك الذي لا يغفره الله. فرووا عن علي بن الحسين أنه قال « يغفر الله للمؤمن كل ذنب، يظهر منه في الدنيا والآخرة، ما خلا ذنبين: ترك التقية، وتضييع حقوق الإخوان» (تفسير الحسن العسكري ص321 وسائل الشيعة11/474 بحار الأنوار72/415 ميزان الحكمة محمد الريشهري2/990).
أين هذا من قول الله تعالى { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } .
وهكذا قد نسوا أن يضيفوا ذنب الشرك الذي نص القرآن أنه لا يغفره. مما يؤكد أن دينهم لم يبن على أدلة القرآن. وإنما بناه مراجعهم وفق ما يناسب آكلي السحت.
تارك عقيدة الرجعة كافر
لا إيمان عند الشيعة لمن أنكر الرجعة أعني رجعة المهدي صاحب السرداب كما حكاه المجلسي في الاعتقادات. وهي عند الشيعة اليوم الآخر. فقد روى القمي عن أبي عبد الله قال (فالذين لا يؤمنون بالآخرة) أي لا يؤمنون بالرجعة» (تفسير القمي1/383 تفسير العياشي2/257 تفسير نور الثقلين3/47 بحار الأنوار31/607 و36/104 و53/118 معجم أحاديث المهدي5/209 للكوراني).
وروى الكليني عن الصادق في « قوله تعالى { وما له في الآخرة من نصيب } أي ليس له في دولة الحق مع القائم نصيب» (الكافي1/436 بحار الأنوار24/349 و51/63 تفسير نور الثقلين4/568 تفسير القرآن لمصطفى الخميني3/58 معجم أحاديث المهدي5/396 للكوراني).
وهذا انحراف خطير عن الآية وكأن اليوم الآخر عند الرافضة هو ظهور المهدي فقط.
فما هي أول مهمة يقوم بها المهدي بعد خروجه من السرداب ؟
من سب إماما فهو مرتد
هذا نقله الحلي عن المفيد في المقنعة (مختلف الشيعة9/451 للعلامة الحلي).
وهنا نسأل: أليسوا يعتقدون بأن معاوية كان يسب عليا؟
فلماذا إذن لا يصرحون بأن معاوية مرتد؟(25/23)
الجواب: أن الناس سوف يواجهونهم بالسؤال التالي: كيف يبايع الحسن مرتدا؟ وكيف ساوى علي بين إيمانه وبين إيمان معاوية كما في نهج البلاغة؟
تفضيل الأنبياء على الأئمة كفر
روى الشيعة حديثا مكذوبا وهو « علي خير البشر ومن أبى فقد كفر» وصححوه وزعموا أنه متواتر.
كما صرح به في محمد بن طاهر الشيرازي في (الأربعين في إمامة الأئمة الطاهرين ص456).
ومحمد بن جرير بن رستم الطبري الرافضي في (المسترشد ص281).
وزعم الغفاري أن العامة (يعني السنة) رووه من سبع طرق (هامش من لا يحضره الفقيه3/493).
وزعم أحمد المحمودي محقق المسترشد ص273 للطبري الشيعي أن « الحديث متواتر جدا».
بالطبع كلما كان الحديث ملائما للمذهب كلما زاد تواتره عند القوم.
منكر الإمامة مشرك كافر عابد وثن
وقال المجلسي « ومن لم يقبل الأئمة فليس بموحد بل هو مشرك وإن أظهر التوحيد» (بحار الأنوار99/143). وروى عن جعفر الصادق أنه قال « الجاحد لولاية علي كعابد وثن» (بحار الأنوار (27/181)).
وقال المجلسي « اعلم أن إطلاق لفظ الشرك والكفر على من لم يعتقد إمامة أمير المؤمنين والأئمة من ولده عليهم السلام وفضل عليهم غيرهم يدل أنهم مخلدون في النار» (بحار الأنوار23/390).
وروى الصدوق عن أبي عبد الله « من ادعى الإمامة وليس من أهلها فهو كافر» (كتاب الأعمال ص479). وفي رواية أخرى « والمنكر لهم – أي للأئمة – كافر» (فقيه من لا يحضره الفقيه4/132 حديث رقم5 باب الوصية من لدن آدم. والمفيد في الإختصاص233).
الخوئي يحكم بكفر منكر الإمامة(25/24)
قال الخوئي « ومن أنكر واحدا منهم جازت غيبته.. بل لا شك في كفرهم لأن إنكار الولاية والأئمة حتى الواحد منهم والاعتقاد بخلافة غيرهم.. يوجب الكفر والزندقة وتدل عليه الأخبار المتواترة الظاهرة في كفر منكر الولاية.. ويدل عليه قوله (ع) (ومن جحدكم فهو كافر) (ومن وحده قبل عنكم) فإنه ينتج أي من لم يقبل عنكم لم يوحده بل هو مشرك بالله العظيم..». ثم اعتبره ناصبيا وشرا من اليهود والنصارى، بل وأنجس من الكلب (مصباح الفقاهة1/324) وقال مثله محمد صادق الروحاني (منهاج الفقاهة2/13).
هذا في الوقت الذي لم نجد عنه حماسا مثله في شأن تكفير القائلين بتحريف القرآن. بل اكتفى بأن وصف القول بالتحريف بأنه حديث خرافة وشابهه المظفر فوصفه بأنه مخترق.
يلزمهم تكفير علي بن أبي طالب
ويلزمهم تكفير علي بن أبي طالب لأنه ضرب عقيدة الإمامية حين قال » دعوني والتمسوا غيري فإني لكم وزيرا خير لكم مني أميرا» (نهج البلاغة 181-182). وقال « والله ما كانت لي الخلافة رغبة ولا في الولاية إربة. ولكنكم دعوتموني إليها وحملتموني عليها » (نهج البلاغة 322.).
فإن قالوا: كان مكرها مرغما. قلنا لهم: هذه مسألة في صميم الاعتقاد وأنتم اشترطتم في مسائل الاعتقاد أن تكون مروية بطريق التواتر. فهاتوا لنا رواية متواترة على انه كان مرغما وإلا بقي تكفير علي لازما لكم.
لا أخوة مع المخالفين لو كان المخدوعون بالتقارب يعلمون
يقول محمد حسن النجفي الجواهري « والمخالف لأهل الحق كافر بلا خلاف بيننا… كالمحكي عن الفاضل محمد صالح في شرح أصول الكافي بل والشريف القاضي نور الله في إحقاق الحق من الحكم بكفر منكري الولاية لأنها أصل من أصول الدين».(25/25)
وقال أيضاً « ومعلوم أن الله تعالى عقد الأخوة بين المؤمنين بقوله تعالى (إنما المؤمنون إخوة) دون غيرهم، وكيف يتصور الأخوة بين المؤمن والمخالف بعد تواتر الروايات، وتضافر الآيات في وجوب معاداتهم والبراءة منهم» (جواهر الكلام22/62).
المخالفون يعني السنة كفار
قال الشيخ يوسف البحراني « إنك قد عرفت أن المخالف كافر لا حظ له في الإسلام بوجه من الوجوه كما حققنا ذلك في كتابنا الشهاب الثاقب» (الحدائق بعبارة صريحة واضحة ( 18/53).
وهذا يدل على أن قولهم بأننا مسلمون ولكن غير مؤمنين: إما من جهالتهم بحقيقة الفرق بين الإسلام والإيمان وإما ليتقربوا إلى الله زلفى باستعمال التقية لأن من ترك التقية كفر بالله عندهم.
وقال الجواهري « والمخالف لأهل الحق كافر بلا خلاف بيننا… كالمحكي عن الفاضل محمد صالح في شرح أصول الكافي بل والشريف القاضي نور الله في إحقاق الحق من الحكم بكفر منكري الولاية لأنها أصل من أصول الدين» (جواهر الكلام6/62).
قال الخوئي « فالصحيح الحكم بطهارة جميع المخالفين للشيعة الاثنى عشرية واسلامهم ظاهرا بلا فرق في ذلك بين أهل الخلاف وبين غيرهم وان كان جميعهم في الحقيقة كافرين وهم الذين سميناهم بمسلم الدنيا وكافر الآخرة» (كتاب الطهارة للخوئي2/87).
وقال « فلا يصح الصوم كغيره من العبادات من الكافر وإن كان مستجمعا لسائر الشرائط كما لا يصح ممن لا يعترف بالولاية من غير خلاف» (كتاب الصوم للخوئي1/423).
وقال « واما المخالف فليس بكافر قطعا فلا يشمله حكمه فيجوز بيع العبد المسلم منهم لاقرارهم بالشهادتين ظاهرا وباطنا واما ما دل على كفرهم فلا يراد بظاهرها، فقد قلنا في أبحاث الطهارة ان المراد من الكفر ترتب حكمه عليه في الاخرة وعدم معاملة المسلم معهم فيها، بل يعاقبون كالكافر ولا يثاب باعمالهم الخيرية الصادرة منهم في الدنيا كالصلاة وغيرها» (مصباح الفقاهة السيد الخوئي5/94).(25/26)
الأخوة بين المؤمنين فقط يا دعاة التقريب
أجمع الرافضة على خلود أهل السنة في النار مع الكفار
وقال عبدالله شبر « وأما سائر المخالفين ممن لم ينصب ولم يعاند ولم يتعصب، فالذي عليه جملة من الإمامية كالسيد المرتضى أنهم كفار في الدنيا والآخرة، والذي عليه الأكثر الأشهر أنهم كفار مخلدون في الآخرة» (حق اليقين في معرفة أصول الدين2/188).
قلت: وهذا صريح في أن إسلام أهل السنة محصور في الدنيا فقط، أما كونهم مخلدين في النار فهذا محل إجماع بينهم !
كذلك فعل المفيد
لذا كان كل من اعتقد شرعية خلافة هؤلاء الثلاثة عند الشيعة فاسقاً بل كافراً عند بعضهم. فقد قال المفيد والمجلسي:« إتفقت الإمامية على أن من أنكر إمامة أحدٍ من الأئمة وجحد ما أوجبه الله تعالى من فرض الطاعة فهو كافرٌ مستحقٌ للخلود في النار» (أوائل المقالات ص44 بحار الأنوار للمجلسي8/366).
وذكر الكليني في الكافي أن معصية عليٍّ كفر وأن اعتقاد أولوية غيره بالإمامة شركٌ (بحار الأنوار 390:23 الكافي الحجة1: 52و54 وانظر الكافي 1/353).
الإمامة شرط العبادة
وسئل محمد صادق الروحاني « هل يحكم على السنة بالكفر؟ هم طبعا لا يوالون عليا ولكنهم لا يكرهون أهل البيت ويحبونهم. هل يدخل السنة الجنة؟ وكيف يدخلون النار وهم يشهدون الشهادتين ويصلون الصلوات الخمس ويحجون ويصومون رمضان؟ أريد الجواب الكافي مع الاستدلال عليه؟
أجاب الروحاني « يشترط في صحة العبادات الولاية لأمير المؤمنين عليه السلام، فمع فقد الشرط لا يتحقق المشروط» http://www.alserdaab.com/pics/kufar.gif
لا إيمان بدون ولاية الأئمة(25/27)
قال الخميني « لأن الإيمان لا يحصل إلاّ بواسطة ولاية علي وأوصيائه من المعصومين الطاهرين عليهم السّلام، بل لا يقبل الإيمان بالله ورسوله من دون الولاية.. أن ولاية أهل البيت ومعرفتهم شرط في قبول الأعمال يعتبر من الأمور المسلّمة، بل تكون من ضروريات مذهب التشيع المقدس» (الأربعون حديثا ص512).
يلزمهم أن النبي يونس كافر
عن حبّة العرني قال « قال أمير المؤمنين عليه السّلام: إنّ الله عرض ولايتي على أهل السّماوات وأهل الأرض أقرّ بها من أقرّ، وأنكرها من أنكر، أنكرها يونس فحبسه الله في بطن الحوت حتى أقرّ بها» (بحار الأنوار13/258 و14/391 و26/282، بصائر الدّرجات ص95 لمحمد بن حسن الصفار تفسير الميزان17/170 للطباطبائي تفسير نور الثقلين4/433 تفسير فرات 264 خصائص الأمة ص90 للشريف الرضى مدينة المعاجز2/35 و4/301 ).
وقد قال شارح الكافي المازندراني بأن قوله تعالى (إن الله لا يهدي القوم الكافرين) يدل على أن منكر ولاية علي هو كافر» (شرح أصول الكافي6/143).
الإمامة من شروط لا اله الا الله
لقد ذكر الشيعة من شروط لا إله إلا الله : الإقرار بالإمامة كما أكد ذلك هاشم الحسيني الطهراني في تعليقه على كتاب التوحيد للصدوق (التوحيد للصدوق ص329 وانظر ص330 ).
الجاحد للأئمة كالشيوعي الجاحد لله
عن ابن عباس قال « قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : من أنكر إمامة علي بعدي كان كمن أنكر نبوتي في حياتي، ومن أنكر نبوتي كان كمن أنكر ربوبية ربه عز وجل» (الأمالي ص754 للصدوق بحار الأنوار38/109).
وقد حكى ابن بابويه والمفيد والمجلسي اتفاق الامامية على كفره ومساواته بمن جحد الله ورسله (المفيد في المسائل نقله عنه المجلسي في البحار 8/366).
لا إيمان بدون إمامة(25/28)
قال الشيخ الشيعي محمد رضا المظفر » نعتقد أن الإمامة أصل من أصول الدين لا يتم الإيمان إلا بالاعتقاد بها، فالإمامة استمرار للنبوة« (عقائد الإمامية ص93،94،95،98 منشورات دار التبليغ الإسلامي في إيران)).
الجاحد للإئمة كالجاحد لكل الأنبياء
وأكد المجلسي أن « من أنكر واحدا من الأئمة عليهم السلام لم ينفعه إقراره بسائر الأنبياء» (مرآة العقول2/311).
يقول محمد محسن المعروف بالفيض الكاشاني في منهاج النجاة ( ص 48 ط دار الإسلامية بيروت 1987م) »ومن جحد إمامة أحدهم _ أي الأئمة الاثني عشر _ فهو بمنزلة من جحد نبوة جميع الأنبياء عليهم السلام«.
وقال في بحار الأنوار (25/362) «ومن أنكرهم أو شك فيهم أو أنكر أحدهم أو شك فيه أو تولى أعداءهم أو أحد أعدائهم فهو ضال هالك بل كافر لا ينفعه عمل ولا اجتهاد ولا تقبل له طاعة ولا تصح له حسنات».
وقال في بحار الأنوار »وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : من جحد عليا إمامته من بعدى فإنما جحد نبوتي، ومن جحد نبوتي فقد جحد الله ربوبيته«. ثم قال
» واعتقادنا فيمن جحد إمامة أميرالمؤمنين والائمة من بعده عليهم السلام أنه بمنزلة من جحد نبوة الانبياء عليهم السلام واعتقادنا فيمن أقر بأميرالمؤمنين وأنكر واحدا ممن بعده من الائمة عليهم السلام أنه بمنزلة من آمن بجميع الانبياء وأنكر نبوة محمد صلى الله عليه وآله.
وقال الصادق عليه السلام : المنكر لآخرنا كالمنكر لاولنا. و قال النبي صلى الله عليه وآله : الائمة من بعدي اثنا عشر أولهم أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام وآخرهم القائم، طاعتهم طاعتي، ومعصيتهم معصيتي، من أنكر واحدا منهم فقد أنكرني . وقال الصادق عليه السلام: من شك في كفر أعدائنا والظالمين لنا فهو كافر« .(25/29)
واحتج المجلسي بقول المفيد « وقال الشيخ المفيد قدس الله روحه في كتاب المسائل : اتفقت الامامية على أن من أنكر إمامة أحد من الائمة وجحد ما أوجبه الله تعالى له من فرض الطاعة فهو كافر ضال مستحق للخلود في النار» (بحار الأنوار8/366).
الكفر بالإمام كفر بالله
يقول يوسف البحراني في موسوعته المعتمدة ( الحدائق الناضرة في أحكام العترة الطاهرة ج 18 ص 153 ط دار الأضواء بيروت لبنان) » وليت شعري أي فرق بين كفر بالله سبحانه وتعالى ورسوله وبين كفر بالأئمة عليهم السلام مع ثبوت كون الإمامة من أصول الدين«.
ويقول آية الله الشيخ عبد الله المامقاتي الملقب عندهم بالعلامة الثاني في تنقيح المقال: (1/208 باب القوائد ط: النجف 1952م) »وغاية ما يستفاد من الأخبار جريان حكم الكافر والمشرك في الآخرة على كل من لم يكن اثنى عشريا«.
ويقول الخميني في (الأربعون حديثا ص 512-513) » ولاية أهل البيت عليهم السلام شرط في قبول الأعمال عند الله سبحانه بل هو شرط في قبول الأيمان بالله«.
تكفير الشيعة للأشاعرة:
ويقول نعمة الله الجزائري « فالأشاعرة لم يعرفوا ربهم بوجه صحيح، بل عرفوه بوجه غير صحيح، فلا فرق بين معرفتهم هذه وبين معرفة باقي الكفار.. فالأشاعرة ومتابعوهم أسوء حالاً في باب معرفة الصانع من المشركين والنصارى.. وحاصله أنا لم نجتمع معهم على إله ولا على نبي ولا على إمام.. فظهر من هذا أن البراءة من أولئك الأقوام من أعظم أركان الإيمان، وظهر أن المراد بالقدرية في قوله صلى الله عليه وسلم: (القدرية مجوس هذه الأمة) هم الأشاعرة» (الأنوار النعمانية2/278-279 طبعة مؤسسة الأعلمي.
الأشاعرة عندهم مجسمة
« هذه الشبهة ربما أوقعت الأشاعرة في الهلكة السوداء والبئر الظلماء ، حتى أصبحوا مشركين أو ذاهلة عقولهم عن الدين» (تفسير القرآن الكريم السيد مصطفى الخميني1/103).(25/30)
وروى المازندراني حديث النبي صلى الله عليه وسلم « القدرية مجوس هذه الامة» ثم قال: « هم الأشاعرة وغيرهم من القائلين بالجبر» (شرح أصول الكافي5/11).
أضاف: « فالأشاعرة هم أنذل وأنزل من أن يفهموا هذه المعاني» شرح أصول الكافي محمد صالح المازندراني3/102).
ويقول « إن كثيرا من محدثي العامة والكرامية بل الأشاعرة يثبتون له تعالى صفات الجسم ولوازم الجسمية ويتبرؤن من التجسيم مثلا يقولون إنه على العرش حقيقة، وإنه يرى في الآخرة، ورآه نبينا ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بعيني رأسه وانه ينزل في كل ليلة جمعة ولكن ليس جسما، وهذا تناقض يلتزمون به ولا يبالون، وهذا يدل على عدم تفطنهم لكثير من اللوازم البينة أيضا وعندنا هو عين التجسيم» (محمد صالح المازندراني3/202).
الشيعة يحكمون بكفر الصوفية
ومع أن الصوفية فرع عن الرافضة وبهم قاموا. كما قال ابن خلدون « لولا التشيع لما عرف التصوف». ومع ذلك يحكمون عليهم بالكفر.
يقول شيخ الشيعة ومحدثهم وفقيههم الحر العاملي:
« لا يوجد للتصوف وأهله في كتب الشيعة وكلام الأئمة عليهم السلام ذكر إلا بالذم، وقد صنفوا في الرد عليهم كتباً متعددة ذكروا بعضها في فهرست كتب الشيعة.(25/31)
قال بعض المحققين من مشائخنا المعاصرين: اعلم أن هذا الاسم وهو اسم التصوف كان مستعملا في فرقة من الحكماء الزايغين عن الصواب، ثم بعدها في جماعة من الزنادقة وأهل الخلاف من أعداء آل محمد كالحسن البصري وسفيان الثوري ونحوهما، ثم جاء فيمن جاء بعدهم وسلك سبيلهم كالغزالي رأس الناصبين لأهل البيت.. ثم سرى الأمر إلى تعلق بعضهم بجميع طريقتهم وصار من تبع بعض مسالكهم سندا لهم.. وصارت اعتقادهم في النواصب والزنادقة انهم على الحق، فتركوا أمور الشريعة.. روى شيخنا الجليل الشيخ بهاء الدين محمد العاملي في كتاب الكشكول، قال: قال النبي صلى الله عليه واله وسلم: لا تقوم الساعة حتى يخرج قوم من امتي اسمهم صوفية ليسوا مني وانهم يهود امتي وهم أضل من الكفار وهم اهل النار» (رسالة الإثنى عشرية في الرد على الصوفية ص 13–16 للحر العاملي). ثم عقد فصلا كاملا تحت عنوان : (ذكر بعض مطاعن مشايخ الصوفية وجواز لعن المبتدعين والمخالفين والبراءة منهم) !!
عبادة منكر إمامة علي باطلة
وفي أمالي الشيخ الطوسي (1/314) قال: (لو جاء أحدكم يوم القيامة بأعمال كأمثال الجبال ولم يجيء بولاية علي بن أبي طالب لأكبه الله عز وجل بالنار ) .
وبوب محمد بن الحسن الحر العاملي في موسوعته (وسائل الشيعة إلى تحصيل الشريعة ج1 ص90) بابا بعنوان: بطلان العبادة بدون ولاية الأئمة عليهم السلام واعتقاد إمامتهم.
وروى البروجردي (1/431) عن أبي حمزة قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول » من خالفكم وإن تعبد واجتهد منسوب إلى هذه الآية وجوه يومئذ خاشعة عاملة ناصبة تصلى نارا حامية«.
ولهذا لما سئل أبو القاسم الخوئي كما في كتاب مسائل وردود (1/26 ط مهر قم ) عن الصلاة مع جماعة المسلمين أجاب: تصح إذا كانت تقية.
قلت: ما دام أن التقية ركن من أركان الإيمان وتركها كفر فلماذا لا يفعل ما يزعمون أنه من أركان الإيمان؟
توحيد الله عندهم هو الامامة والشرك عدم اعتقادها(25/32)
التوحيد عندهم هو الإيمان بإمامة علي رضي الله عنه والأئمة من بعده، والشرك : هو الشرك في ولاية علي والأئمة.
من وصف الله بوجه من الوجوه فقد كفر
هذا ما قالوه في وسائل الشيعة. بل إن إثبات الصفات لله عند القوم كفر. فإن كمال التوحيد عندهم نفي الصفات عن الله كما نسبوه لعلي بن أبي طالب.
معصية الإمام كفر والشرك بالإمام شرك بالله
ففي قوله تعالى { ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك } . جاء تفسيرها في الكافي (1/427): (يعني إن أشركت في الولاية غيره ) وفي تفسير القمي (2/251) (لئن أمرت بولاية أحد مع ولاية علي من بعدك ليحبطن عملك ). وانظر البرهان (4/83 وتفسير الصافي4/328).
وفي قوله تعالى { وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون } . جاء في تفسير العياشي (3/134) : (ما بعث الله نبياً قط إلا بولايتنا والبراءة من أعدائنا) ، وفي أصول الكافي (1/437) (ولا يتنا ولاية الله التي لم يبعث نبياً قط إلا بها).
ولقد صرح صاحب مرآة الأنوار (202) فقال: (إن الأخبار متضافرة في تأويل الشرك بالله الشرك بعبادته بالشرك في الولاية والإمامة، أي يشرك مع الإمام من ليس من أهل الإمامة، وأن يتخذ مع ولاية آل محمد رضي الله عنهم (أي : الأئمة الاثنا عشر ) ولاية غيرهم ).
والتناقض في كتب الشيعة كثير، وإليك هذه الرواية التي تبطل مزاعمهم : جاء في تفسير البرهان (4/78) : (عن حبيب ابن معلى الخثعمي قال: ذكرت لأبي عبد الله رضي الله عنه ما يقول أبو الخطاب، فقال: أجل إليّ ما يقول . قال : في قوله عز و جل {وإذا ذكر الله وحده } أنه أمير المؤمنين ، {وإذا ذكر الذين من دونه} فلان وفلان [أي أبو بكر وعمر] . قال أبو عبد الله : من قال هذا فهو مشرك بالله عز وجل ثلاثاً أنا إلى الله منهم بريء ثلاثاً ... ) .
قبول العمل مرهون باعتقاد الإمامة(25/33)
ولكن قبول العمل عند الشيعة الإمامية، لا يكون إلا بالإيمان بولاية الأئمة ! . فمن كان مؤمناً بولاية الأئمة ولو جاء بقراب الأرض خطايا فهو مقبول مغفور له عند الشيعة . ومن جاء بأعمال صالحة كالجبال ولكنه لم يؤمن بولاية الأئمة فهو حابط العمل في النار ! وإليك شيئاً من أخبارهم :
ففي بحار الأنوار (27/169) زعموا أن الله قال لنبيه : (يا محمد لو أن عبداً يعبدني حتى ينقطع ويصير كالشن البالي ثم أتاني جاحداً لولايتهم ما أسكنته جنتي ولا أظللته تحت عرشي ) .
نصوص أخرى
غير الإمامي كافر ومخلد في النار
قال المجلسي « إعلم أن إطلاق لفظ الشرك والكفر على من لم يعتقد إمامة أمير المؤمنين والأئمة من ولده عليهم السلام وفضل عليهم غيرهم يدل أنهم مخلدون في النار» (بحار الأنوار23/390).
كفر المخالف منكر الولاية
وقال محمد حسن النجفي « والمخالف لأهل الحق كافر بلا خلاف بيننا .. كالمحكي عن الفاضل محمد صالح في شرح أصول الكافي بل والشريف القاضي نور الله في إحقاق الحق من الحكم بكفر منكري الولاية لأنها أصل من أصول الدين» (جواهر الكلام6/62 دار إحياء التراث العربي).
ونقل شيخهم محسن الطبطبائي الملقب بالحكيم كفر من خالفهم بلا خلاف بينهم (مستمسك العروة الوثقى1/392 مطبعة الآداب في النجف1970).
وقال الشيخ يوسف البحراني « إن إطلاق المسلم على الناصب وأنه لا يجوز أخذ ماله من حيث الإسلام خلاف ما عليه الطائفة المحقة سلفا وخلفا من الحكم بكفر الناصب ونجاسته وجواز أخذ ماله بل قتله» (الحدائق الناضرة في احكام العترة الطاهرة12/323-324).(25/34)
ويقول يوسف البحراني « وإلى هذا القول ذهب أبو الصلاح وابن إدريس، وسلار، وهو الحق الظاهر بل الصريح من الأخبار لاستفاضتها وتكاثرها بكفر المخالف ونصبه وشركه وحل ماله ودمه كما بسطنا عليه الكلام بما لا يحوم حوله شبهة النقض والإبرام في كتاب الشهاب الثاقب في بيان معنى الناصب وما يترتب عليه من المطالب» (الحدائق الناضرة10/360).
ويقول نعمة الله الجزائري « يجوز قتلهم (أي النواصب) واستباحة أموالهم» (الأنوار النعمانية2/307).
قال محسن الحكيم « أن المخالف لأهل الحق كافر فيجب أن يكون حكمه حكم الكفار إلا ما خرج بالدليل … وكيف فالاستدلال على النجاسة تارة الإجماع المحكي عن الحلي على كفرهم واخرى بالنصوص المتجاوزة حد الاستفاضة بل قيل إنها متواترة المتضمنة كفرهم.. وثالثة بأنهم ممن أنكر ضروري الدين كما في محكى المنتهى مسألة اعتبار الإيمان في مستحق الزكاة وفي شرح كتاب فص الياقوت وغيرها فيعمهم ما دل على كفر منكري الضروري ورابعة بما دل على نجاسة الناصب من الإجماع المتقدم وغيره بضميمة ما دل على أنهم نواصب كخبر معلى بن خنيس…» (مستمسك العروة الوثقى1/392 – 393).
وبعد أن يطيل في مناقشة هؤلاء ينهي الحكيم بقوله: (1/397 – 398): "اللهم إلا أن يقال بعد البناء على نجاسة الناصب ولو للإجماع يكون الاختلاف في مفهومه من قبيل اختلاف اللغويين في مفهوم اللفظ ويتعين الرجوع فيه إلى الأوثق وهو ?ا عن المشهور من أنه المعادي لهم عليهم السلام فيكون هو موضوع النجاسة ولا سيما وكونه الموافق لموثقة ابن أبي يعفور ?و تمت دلالتها على النجاسة ولروايتي ابن خنيس وسنان المتقدمين بعد حملهما على ما عليه المشهور بأن يراد منهما بيان الفرد للناصب لهم عليهم السلام وهو الناصب لشيعتهم عليهم السلام من حيث كونهم شيعة لهم باب صديق العدو عدو وهذا هو المتعين فلاحظ وتأمل".
بماذا يكفر السنة مذهب الرافضة
استغاثتهم بغير الله. وتعلقهم بالموتى.(25/35)
أكلهم التراب المقدس والسجود عليه لمجرد أنه تراب المنطقة التي مات فيها الحسين.
قولهم بتحريف القرآن. قول علمائهم بتواتر الروايات عن آل محمد بأن القرآن منه محرف ومنه على خلاف ما أنزل الله.
تكفيرهم للصحابة
الطواف حول قبور الأئمة والسجود عندها والزحف إليها.
تفضيلهم أبناء الرسول - صلى الله عليه وسلم - على أنبياء الله ورسله.
تفضيلهم كربلاء على مكة.
بماذا يكفر الشيعة السنة
من أنكر الإمامة فهو كافر وإن أظهر التوحيد
من اعتقد أن إبراهيم وموسى وعيسى أفضل من علي وصاحب السرداب فهو كافر.
من لا تقية له فلا دين له وتارك التقية كتارك الصلاة.
متى يتورع الرافضة عن التكفير
القول بتحريف القرآن من الاجتهاد الذي يعذر فيه علماء الرافضة بعضهم بعضا.
ومن أدى إليه اجتهاده أن يقول: القرآن تعرض للتحريف والنقصان فهو ليس بكافر.
ولهذا وجدنا تورع عبد الحميد النجدي عن تكفير القائل بتحريف القرآن. فإنه قال لي: لربما عنده شبهة فلا أستطيع تكفيره.(25/36)
التوظيف السياسي لعاشوراء في الخطاب الشيعي
نجيب نور الدين
شكلت الثورة الحسينية، عبر رمزيتها، قوة توظيف هامة في الخطاب السياسي الشيعي وذلك عبر مراحل عديدة، ومن مرجعيات شيعية متنوعة.
فواقعة كربلاء هي ككل حدث مأساوي يتشكل في الذاكرة الجماعية، فيصبح مادة اولية لتركيب الهيامات حوله، وأيضا مادة دسمة للتوظيف من قبل الآخذين بناصيتها، القادرين على تفكيك رموزها، وإعادة انتاجها كمحفزات وديناميات حركة في الراهن. من هنا، كانت عاشوراء مادة غنية للقراءة وإعادة التأويل، وخضعت لتوظيفات مختلفة.
وقبل ان نلقي الضوء على نماذج من هذه القراءات، لا بد من إيراد نص يعكس تناقضا في فهم الأسباب العميقة لخروج الحسين (ع) الى كربلاء. جاء في كتاب الكافي للكليني حديث يقول: "عن أبي جعفر (ع) قال: أنزل الله تعالى النصر على الحسين (ع) حتى كان بين السماء والأرض ثم خُيّر: النصر او لقاء الله، فاختار لقاء الله".
وحديث آخر ينحو في اتجاه مخالف، رواه لوط بن يحيى بهذه الصورة: "قال عقبة بن بشير الأسدي: قال ابو جعفر محمد بن علي بن الحسين: إن لنا فيكم يا بني أسد دما، قال: قلت: فما ذنبي أنا في ذلك رحمك الله يا أبا جعفر، وما ذلك؟ قال: أتى الحسين (ع) بصبي له فهو في حجره إذ رماه احدكم يا بني اسد بسهم فذبحه فتلقى الحسين دمه فلما ملأ صبّه في الارض ثم قال: رب إن تك حبست عنا النصر من السماء، فاجعل ذلك لما هو خير وانتقم لنا من هؤلاء الظالمين".
يعلق الشيخ الركابي على هذا النص بالقول: "فالحديث السابق الذي رواه الكافي تحدث بإطلاق عن نزول النصر من السماء على الحسين (ع)، لكنه هنا وفي حديث لوط بن يحيى لم يدع نزول النصر، ومع تعارض الخبرين نرجع الى التحقيق فيهما.
طبعا ما يهمنا من استنطاق هذه الرواية، هو التأكيد على هذا الفارق الظاهر بين روايتين تؤديان حكما الى تفسيرين مختلفين لطبيعة موقف الامام الحسين في كربلاء، الاول يفيد بأن الحسين(26/1)
قد اختار لقاء ربه عوضا عن النصر، وهو متوفر له، ومقدور بقدرة الله عليه، وآخر يفيد بأن الله قد حبس النصر عن الإمام الحسين، وهو بالتالي مقدم في مسيرته الى الشهادة حكما، وليس هناك ادنى لبس في الامر. والملفت هنا، أن كلا الحديثين المذكورين مرويات عن من تثق الشيعة برواياتهم، وهما متساويان من حيث التوثيق والتدقيق، وهما بالتالي قابلان بالمستوى نفسه للتبني من قبل القارئين والباحثين، وهما بالتالي قابلان للتوظيف من قبل اي من القراءات التي تريد توجيه الخطاب الشيعي، المستند الى الامام الحسين وكربلاء، بالاتجاه الذي يخدم غايات صاحب ذاك الخطاب الاجتماعية والسياسية.
التوظيف الكلاسيكي لعاشوراء: خطاب الاذعان
ظهرت منذ مطلع القرن العشرين وجهتا نظر لدى علماء الشيعة حول مشهدية عاشوراء في لبنان تمثلتا بما كتبه السيد محسن الأمين والشيخ عبد الحسين صادق.
قاد السيد محسن الأمين عندما قلد المرجعية الشيعية، حركة اصلاح كبيرة داخل الطائفة، معارضا طريقة إقامة مجالس عاشوراء والشعائر التي كانت تمارس، منتقدا بشدة اعتماد اللطم والضرب للتعبير عن الحزن والأسى، ومستندا الى حديث نبوي شريف: "جئتكم بشريعة سهلة سمحاء". يقول السيد محسن الأمين "إن طاعة النبي تنطوي على إلغاء ممارسات كهذه، فهي غريبة عن جبل عامل، وجاء بها اعاجم".
في المقابل، دافع الشيخ عبد الحسين صادق إمام مدينة النبطية آنذاك بقوة عن طقس اللطم والضرب المعتمدين في احياء ذكرى عاشوراء. معللا حجته في ذلك بالآتي: إن الأذى الجسدي الذي يلحقه الشيعة بأنفسهم في عاشوراء، هو لا شيء يذكر بالمقارنة مع معاناة الحسين وآله وأصحابه. وهو عند الشيعة طريقة في احياء تلك المعاناة وعيشها ولو جزئيا ونسبيا.
وجهتا النظر المتعارضة لكل من المرجع الشيعي آنذاك وإمام بلدة النبطية التي اشتهرت بتمثيل المصرع الحسيني سنويا، لم يكن نظريا بحتا، بل كان كل منهما يسعى من وراء ذلك الى بلوغ(26/2)
نتائج عملية. فقد كان السيد محسن الأمين يرمي الى عقلنة المظاهر الكربلائية وإزالة الطقوس الانفعالية التي كانت تمارس آنذاك. وقد تعرض جراء ذلك الى حملات تجريح واتهام عنيفة اعتبره فيها العامة كافرا وزنديقا، فيما اتخذ مخالفوه ومنهم الشيخ صادق دعوته الاصلاحية ذريعة لمهاجمته، وقد ايدهم في ذلك كثير من العامة وقراء العزاء، لأنها جاءت متفقة مع رغبتهم ومصالحهم في ذلك.
وبصرف النظر عمن كان المنتصر في ذاك السجال، فإن الحقيقة القابعة في خلفية المشهد السجالي، تنطوي على ما هو ابعد من النقاش الفكري والفقهي، وتتعداه الى المصالح من الطراز الاجتماعي السياسي. وبهذا المعنى، يصبح من السذاجة النظر الى الموضوع باعتباره نزاعا بين اتجاهات اصلاحية وأخرى سلفية تقليدية او محافظة، لأن التحليل الدقيق والعميق من شأنه ان يضيء الزوايا المظلمة من هذه المساجلة، ليكشف عن الطبيعة الحقيقية لهذا النزاع المستحكم، وهذا لا يمكن الكشف عنه إلا اذا رفعنا النقاب عن الانتماء الاجتماعي السياسي لكل من رجلي الدين الشيعيين. فمن كان عبد الحسين صادق ومن كان محسن الأمين؟ وفي اي شبكة علائق اجتماعية سياسية كانا يندرجان؟
لاحظ فريدريك معتوق انه كانت هناك روابط قرابة تربط الشيخ صادق بكبار ممثلي العائلات المسيطرة على جنوب لبنان آنذاك، فزوجته كانت من العائلات الأكثر نفوذا في جبل عامل، وكانت اختها زوجة كامل الأسعد، زعيم المنطقة. وتاليا، لم تكن بيئة الطبقة المسيطرة في جبل عامل غريبة عنه، وعليه، فإن سبب دفاع الشيخ عبد الحسين صادق عن مظاهر عاشوراء الشيعية بمثل هذه الحماسة، لأنها كانت تشكل اداة ممتازة للهيمنة، ولأن تعديلها كان من شأنه ان يجرد الطبقة السياسية السائدة في جبل عامل من احد اسلحتها القوية.
ومن جهة اخرى كان الأمين يقول بإسلام موحد، ولم يكن مناصرا لأمة تمزقها طوائفها المختلفة. وعليه، لم يكن في استطاعته ان يقف موقفا ايجابيا من(26/3)
شعيرة تفاقم الانقسام، عبر تأجيجها الشعور بالانتماء الشيعي الطائفي.
ويتبين من خلال السياق المتقدم ان ورود اشكالات السيد الأمين لم تكن في سياق مشروع سياسي اجتماعي قابل للتوظيف والتسييس، فاستطاعت الصيغة التقليدية المحافظة ان تقود دلالات عاشوراء باتجاه وجهتها السياسية، لذا بقي بمقدور التحالف السياسي الديني التقليدي، حصر وظيفة كربلاء بالبكاء والندب على هزيمة الامام الحسين ضمانة للسكوت والإذعان السياسي.
الصدر: عاشوراء.. خطاب الاصلاح السياسي
جاء الإمام موسى الصدر ليستحدث للمأساة القديمة قراءة جديدة، فهو لم يجرد كربلاء من حزنها ومأساويتها، وإنما جعل منها حادثة الخيارات الصعبة، المفتوحة على الشجاعة السياسية الرائدة، ومنطلقا للبطولات المثالية التي جسدها الامام الحسين وصحبه الذين استشهدوا معه.
وسعى الامام موسى الصدر الى تحويل الذكرى السنوية لندب الامام الحسين التي كانت مناسبة لتذكير الشيعة بعزلتهم وهزيمتهم الى احتفال للتحدي من جانب الأقلية الشيعية التي تواءمت مع طرحه المغاير، ورفضت الاذعان للظلم.
وهو بذلك عمل على اعادة قراءة عاشوراء بطريقة جديدة، فقد كان يعلم ان نجاح مشروعه السياسي مرهون بإنشاء خطاب اخر، غير خطاب الاستسلام، خطاب يعيد من خلاله تثوير الطائفة المستسلمة، المهمشة، هذه الطائفة التي كانت بنظره بأشد الحاجة الى روح اخرى، سعى الى بثها في كيانها الهامد، انطلاقا من وهج عاشوراء وروح نصها.
وهكذا اصبحت مهمة الامام الصدر الأساسية، تحويل الشعار الكربلائي العاشورائي، من نص مفرط في الحزن، الى نص متحرك وثوري يمكن توظيفه على المستوى السياسي، وأخذ لهذا الهدف يتناول نص عاشوراء في سياق تعبوي آخر، يهدف الى تشكيل قاعدة انطلاق لرؤية المظالم التي تحيط بالشيعة وتتكرر في الراهن، حيث يمكن مماثلة ومماهاة حال الشيعة اليوم، بحالهم ايام الثورة الحسينية.
لقد تعمد الصدر اثناء تمجيده لثورة الامام(26/4)
الحسين مهاجمة التقليد الشيعي السائد في احياء ذكراه، والذي طغى عليه الندب والاستكانة، وذلك في محاولة منه لتشخيص الواقع، وفرز القوى التي كان بصدد الحديث عنها، لقد حاول الصدر بهذه المماثلة بين وقائع ومآسي الماضي والحاضر ان يحقق الوثبة التاريخية المطلوبة، لربط مشهدية الاضطهاد في كربلاء ومشاهد قهر الشيعة في لبنان.
المرجع فضل الله والإمام الخميني:
عاشوراء.. خطاب الثورة والمقاومة
لقد نجح الإمام الصدر في تظهير قراءة ثانية لعاشوراء الإمام الحسين، تخالف تماما قراءة "الندب" التي حاول الشيخ عبد الحسين صادق التأكيد عليها والدفاع عنها امام المرجع الديني السيد محسن الأمين. لكن القراءة الثالثة لعاشوراء، سوف تتجاوز القراءة الثورية الاصلاحية الثانية، لتتحول مع المرجع فضل الله والإمام الخميني الى خطاب الثورة التغييرية الجذرية.
وقبل الدخول في تحليل بنية القراءة الثالثة ومرتكزاتها، لا بد من التأكيد على ان طبيعة القراءات الثلاث لا يمكن فصلها عن الوظيفة السياسية التي اراد اصحابها ان تؤدي في اطار المشروع السياسي لكل منهم. فقد اعد هؤلاء قراءة الشعيرة الكربلائية من منظار ما يجب ان تكون عليه حال الشيعة في اطار المشروع السياسي الراهن، وليس في اطار طقسي مجرد.
لقد تجاوز السيد فضل الله والإمام الخميني القراءة "الندبية" لعاشوراء التي كانت تنتهي معها التعبئة المتصاعدة بمزيد من الانكفاء على المستوى السياسي والاجتماعي، وأيضا تجاوزا القراءة التعبوية التي رسمت للانفعال الناتج عنها حدودا اصلاحية سامية "لم اخرج أشرا ولا بطرا وإنما خرجت لطلب الاصلاح في امة جدي"، وهي القراءة التي قدمها الامام الصدر وأراد من خلالها تحويل الهياج الوجداني العام باتجاه التعبئة الاجتماعية، وتوظيف الانفعال الجماعي العام في خدمة مشروع الاصلاح دون ان يتعدى ذلك الى الثورة التي تقتضي الصدام المسلح مع الآخر.
فالسيد فضل الله والإمام(26/5)
الخميني كانا يريان أنه لا يمكن الاستفادة من عاشوراء الا إذا تم اطلاق شعاراتها الواسعة والعامة، فبدون ذلك لا يمكن بحال من الاحوال تحقيق الغاية القصوى من الشعيرة الكربلائية: "لا تظنوا ان هدف هذه المآتم والمواكب وغاياتها ان تنتهي عند حد البكاء على سيد الشهداء (ع)، فلا سيد الشهداء بحاجة الى هذا البكاء، ولا هذا البكاء ينتج شيئا في حد ذاته، إنما الأهم من كل هذه المجالس تجمع الناس وتوجههم الى وجهة واحدة". والوجهة التي يجب ان نوجه باتجاهها المجالس الحسينية في نظر الامام الخميني هي وجهة سياسية"، فالمجالس ليست مجالس للبكاء فقط وإنما هي لغاية اكبر وأهم.
إذا كما تبين من خلال نصوص السيد فضل الله والإمام الخميني لعاشوراء وظيفة تعبوية ثورية، تهدف الى دفع الشباب للتضحية والاستعداد للاستشهاد في سبيل الله، وهذه التضحية في نظرهما ليست موجهة الى داخل الذات المنفعلة، ولا هي ذات هدف سلمي يقصد منه الاستنهاض الاجتماعي الاصلاحي، بل هي ذات هدف ثوروي جذري حاسم يدفع الى توجيه الانفعال باتجاه الخارج لتحقيق اهداف كبرى. وبالتالي يجب على "الكربلائي" ان يكون على استعداد دائم للقتال والفداء بالنفس. حتى الاستشهاد. والخيبة كل الخيبة هي في عدم الحصول على الشهادة وما يستتبعه الحرمان منها من ندم يشكل بدوره حافزا اضافيا لتزخيم الانفعال الثوري. والتضحية بالنفس لا يجب ان تخضع لموازين القوى، او لحجم استعدادات العدو التي قد تدفع المجاهدين الى الانكفاء والخوف، فالمطلوب هو التماهي التام مع الحسين وثورته وتضحياته وأهدافه.
هذا التوجه في الخطاب العاشورائي جعل فلسفة عاشوراء تتجاوز المناطقية والجغرافيا وتتخذ بعدا أمميا ممتدا لا يتوقف عند غايات موضعية ظرفية مكانية، بل جعل الرفض والمقاومة يمتدان امتداد الثورة الحسينية نفسها وامتداد شعاراتها المطلقة، فلا يكفي ان تنتصر الثورة الاسلامية في ايران لنقول ان غاية الخطاب الكربلائي(26/6)
قد حقق اهدافه، إذ لا تنتهي فاعلية الخطاب الحسيني طالما هناك ظلم في اي مكان من العالم.
* باحث في علم الاجتماع السياسي
السفير
2002/03/19(26/7)
الثورة الإسلامية في إيران ونظرية الوحدة الإسلامية
الصفحة الرئيسية
- بقلم: الشيخ مصطفى ملص
تعتبر نظريات الإمام الخميني (رضوان اللَّه عليه) المستندة إلى فهمه للقرآن الكريم ولسنّة النبي المصطفى صلى اللَّه عليه وآله وسلم ولسيرة الأئمة الأطهار من أهل بيت النبي محمد صلى اللَّه عليه وآله وسلم هي الأسس التي قامت عليها الجمهورية الإسلامية الإيرانية، وما تزال هذه النظريات الثابتة هي المرشد والموجه في اعتماد السياسات العامة. ومن أهم هذه السياسات، سياسة الوحدة الإسلامية التي ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالعقيدة الإسلامية، فإذا كانت السياسات عرضة للتقلب والتغيير فإن نهج الوحدة الإسلامية يعتبر سياسة ثابتة مبدئية غير قابلة للتقلب والتبدل.
لقد ولدت الجمهورية الإسلامية في ظل شعارين مهمين هما: "لا شرقية لا غربية، جمهورية إسلامية"، والشعار الآخر: "لا سنية لا شيعية، جمهورية إسلامية" هذان الشعاران يشكلان على هوية هذه الجمهورية الفتية، فهي لا تميل إلى الشرق الذي كان رمزه الأكبر في حينها الاتحاد السوفيتي، الشيوعي الملحد، ولا تميل إلى الغرب الذي كان رمزه الأكبر الولايات المتحدة الأمريكية دولة المصالح المادية المحكومة بإرادة الشركات الصناعية والتجارية والمالية، والاحتكارات العالمية، هذه القوى المؤلهة للمال، والمتفلتة من جميع القيم الإنسانية فيما يتناول العلاقة بالشعوب ومصالحها وحقوقها المشروعة.(27/1)
فهوية هذه الجمهورية هوية إسلامية تأخذ صفتها ومميزاتها من هذا الدين، وتقوم على مبدأ الشورى الخاضع لرعاية الولي الفقيه، وعلى أسس الحرية والعدالة والمساواة. وقد اختار الشعب الإيراني المسلم نظام الجمهورية الإسلامية بأكثرية 98 بالمائة عبر استفتاء حر، وما يزال مبدأ الشورى يحكم الحياة السياسية في إيران حيث يتم اختيار مجلس الشورى الذي يمثل توجه الشعب الإيراني ويتولى السلطة التشريعية، بانتخابات حرة، وهذه الانتخابات أيضاً هي التي يتم من خلالها اختيار رئيس الجمهورية الذي يرأس السلطة التنفيذية ضمن الضوابط الإسلامية التي تحول دون جعل التنافس على شغل المناصب العامة ألعوبة بيد القوى أو التيارات المعادية للإسلام، وهذه مهمات تتولاها هيئات ومجالس متخصصة، وهذا ما يضمن الحفاظ على الصفة الإسلامية للجمهورية.
وأما ما يدل عليه شعار لا سنية لا شيعية فهو نفي التقوقع في مذهبية عصبية ضيقة، فالجمهورية منفتحة على الإسلام العظيم بأبعاده الاجتهادية والفقهية التي تمثل ثروة فكرية وقانونية وتشريعية واسعة.
وهي تطمح إلى الإسلام العالمي وتُعتبر الطليعة الأولى لهذا الإسلام الذي يهدف إلى إعطاء الشعوب المسلمة حريتها على أرضها وتمكينها من تقرير مصيرها دون تدخل من قوى الشر العالمية، والذي يهدف أيضاً إلى نصرة المستضعفين والمسحوقين في العالم، لأن الإسلام يحمل للعالم شعلة الحرية والعدالة والمساواة.
وأيضاً جاء شعار "لا سنية لا شيعية" ليقول إن هذه الدولة ترى الإسلام إسلاماً واحداً موحداً وليس إسلاماً مشتتاً موزعاً على مذاهب وفرقٍ، مختلفة.
ولعل أهم وثيقة تجلى فيها هذا الفهم هي دستور الجمهورية الإسلامية:
أولاً: الدستور والإسلام:(27/2)
مقدمة الدستور: إن الدستور هو المعبر عن روحية النظام والدولة، وقد جاء دستور الجمهورية الإسلامية في إيران مشبعاً بالروح الإسلامية ومراعياً لأحكام وآداب الإسلام، وتكاد تجد الروح الإسلامية في كل مادة من مواد الدستور.
لقد جاء في مقدمة الدستور التي بدأت بآية قرآنية وهي قوله تعالى: (لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط)(1) ما يلي:
"يعبر دستور جمهورية إيران الإسلامية عن الركائز الثقافية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية للمجتمع الإيراني، وذلك على أساس القواعد والمعايير الإسلامية التي تجسد أهداف الأمة الإسلامية، وآمالها القلبية. ولقد أعرب الشعب صراحة عن هذه الأهداف من خلال وقائع الثورة الإسلامية العظمى التي خاضها، وعن طريق شعاراته وهتافاته المدوية التي شاركت فيها طبقات الشعب كافة.
واليوم وقد حقق شعبنا النصر الساحق فإنه يتطلع بكل وجوده إلى تحقيق هذه الأهداف الكبرى. إن الميزة الأساس لهذه الثورة بالنسبة إلى سائر النهضات التي قامت في إيران خلال القرن الأخير إنما هي عقائدية الثورة وإسلاميتها".
بما أن مقدمة الدستور هي جزء منه فقد دلت هذه المقدمة على أن هذه الجمهورية مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالإسلام وقد جاء هذا الدستور ليحمي إسلامية المجتمع الإيراني الذي اختار بأكثرية 98,2% تأسيس الجمهورة على أساس الإسلام.
وأضافت مقدمة الدستور: "والآن يعبر دستور جمهورية إيران الإسلامية عن الخصائص والعلائق السياسية والاجتماعية والاقتصادية للمجتمع الإسلامي الجديد، ولذا لا بد من أن يكون هذا الدستور وسيلة لتثبيت أركان الحكومة الإسلامية ونموذجاً لنظام حكم جديد على أنقاض نظام الطاغوت السابق"(2).(27/3)
وفي تحديد المقدمة لأسس الحكم والتشريع لإدارة المجتمع نجد ما يلي: "وحيث إن بناء المجتمع يعتمد على المراكز والمؤسسات السياسية القائمة على التعاليم الإسلامية، فإن الحكم وإدارة شؤون البلاد ينبغي أن تكون بيد الأشخاص الصالحين: "أن الأرض يرثها عبادي الصالحون"(3) ويجب أن يتم التشريع في ضوء القرآن والسنّة حيث يبين هذا التشريع الأسس اللازمة لإدارة المجتمع، وعليه فإن من المحتم والضروري جداً الإشراف التام والدقيق عليه من قبل علماء الإسلام المتصفين بالعدالة والتقوى والالتزام (الفقهاء العدول)(4).
وتتحدث المقدمة عن ولاية الفقيه العادل الجامع للشرائط قائد العلماء، الأمناء على حلال اللَّه وحرامه، وعن الاقتصاد القائم على أسس الإسلام باعتباره وسيلة وليس هدفاً بحد ذاته وإنّ برنامج الاقتصاد الإسلامي هو توفير الفرص المناسبة لظهور المواهب الإنسانية المختلفة. ويجعل على عاتق الحكومة الإسلامية مسؤولية تأمين الإمكانات اللازمة بصورة متساوية وأن توفر ظروف العمل لجميع الأفراد.
ويتحدث عن المرأة التي يقع على عاتقها تربية الإنسان المؤمن وتشارك الرجل في ميادين الحياة العملية وبالتالي تتقبل المسؤولية وتحصل بنظر الإسلام على قيمة وكرامة أكبر. ويذكر كذلك الجيش العقائدي حيث تبنى القوات المسلحة للبلاد على أساس الإيمان والعقيدة وحمل لواء الجهاد في سبيل اللَّه.
ويحدد للسلطة التنفيذية مهمة السعي لبناء المجتمع الإسلامي(5).
الإسلام في مواد الدستور:
لقد استوعب الإسلام كل النواحي الإنسانية حتى سلَّم المحققون في الإسلام بقاعدة: "ما من واقعة إلا وللَّه فيها حكم". وقد جاءت بعض النصوص الشريفة لتؤكد هذا الجانب بكل وضوح، فقد ورد في كتاب "الكافي" (ج1 باب الرد إلى الكتاب والسنّة) عن علي بن إبراهيم عن محمد بن عبس، عن يونس بن حماد عن أبي عبد اللَّه (أي الصادق) (ع) قال: سمعته يقول: "ما من شي ء إلا وفيه كتاب أو سنة"(6).(27/4)
ومن هذا المنطلق فإننا نجد الروح الإسلامية تسري في مختلف مواد دستور الجمهورية الإسلامية وهذا ما نلحظه في استعراض إجمالي لبعض هذه المواد.
في المادة الأولى: نظام الحكم في إيران هو الجمهورية الإسلامية... لقد شارك الشعب في هذا الاستفتاء العام انطلاقاً من إيمانه الأصيل بحكومة القرآن الحقة.
في المادة الثانية: يقوم نظام الجمهورية على أساس:
الإيمان باللَّه الأحد (لا إله إلا اللَّه) وتفرده بالحاكمية والتشريع، ولزوم التسليم لأمره.
الإيمان بالوحي الإلهي ودوره الأساس في بيان القوانين.
الإيمان بالمعاد ودوره الخلاق في مسيرة الإنسان التكاملية نحو اللَّه.
الإيمان بعدل اللَّه في الخلق والتشريع.
الإيمان بالإمامة والقيادة المستمرة، ودورها الأساس في استمرار الثورة التي أحدثها الإسلام.
الإيمان بكرامة الإنسان وقيمته الرفيعة وحريته الملازمة لمسؤوليته أمام اللَّه.
وهو نظام يؤمن القسط والعدالة والاستقلال السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي والتراحم الوطني عن طريق ما يلي:
الاجتهاد المستمر من قبل الفقهاء جامعي الشرائط، على أساس الكتاب وسنّة المعصومين سلام اللَّه عليهم أجمعين.
في المادة الثالثة: نجد الحديث عن خلق المناخ الملائم لتنمية مكارم الأخلاق على أساس الإيمان والتقوى في الفقرة (1) وعن توسيع وتقوية الأخوة الإسلامية والتعاون الجماعي بين الناس كافة (الفقرة 15) وتنظيم السياسة الخارجية للبلاد على أساس المعايير الإسلامية والالتزامات الأخوية تجاه جميع المسلمين، والحماية الكاملة لمستضعفي العالم (الفقرة 16).(27/5)
وفي المادة الرابعة: يجب أن تكون الموازين الإسلامية أساس جميع القوانين والقرارات المدنية والجزائية والمالية والاقتصادية والإدارية والثقافية والعسكرية والسياسية وغيرها، وهذه المادة نافذة على جميع مواد الدستور والقوانين والقرارات الأخرى إطلاقاً وعموماً. ويتولى فقهاء مجلس صيانة الدستور تشخيص ذلك.
وتجعل المادة الخامسة: أمر الأمة بيد الفقيه العادل المتقي البصير بأمور العصر الشجاع القادر على الإدارة والتدبير.
وتعتبر المادة السابعة: أن الشورى في كل المجالس والهيئات والمحافظة والقضاء والبلدة والقصبة والناحية والقرية وأمثالها هي طبقاً لقوله تعالى في القرآن الكريم: "وأمرهم شورى بينهم"، وترى المادة الثامنة أن الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مسؤولية جماعية ومتبادلة بين الناس فيحملها الناس بالنسبة لبعضهم البعض، وتتحملها الحكومة بالنسبة إلى الناس والناس بالنسبة للحكومة: "والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر"(7).
المادة العاشرة: تتناول الأسرة باعتبارها الوحدة الأساسية في المجتمع الإسلامي وهي هدف جميع القوانين والقرارات من أجل بنائها والحفاظ عليها على أساس الحقوق والأخلاق الإسلامية.
المادة الحادية عشرة: بحكم الآية الكريمة: "إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون"(8) يعتبر المسلمون أمة واحدة، وعلى حكومة جمهورية إيران الإسلامية إقامة كل سياستها العامة على أساس تضامن الشعوب الإسلامية ووحدتها، وأن تواصل سعيها من أجل تحقيق الوحدة السياسية والاقتصادية والثقافية في العالم الإسلامي.
وتعلن المادة الثانية عشرة: الدين الرسمي لإيران هو الإسلام، والمذهب الجعفري الإثنى عشري، وهذه المادة تبقى إلى الأبد غير قابلة للتغيير.(27/6)
وأما المذاهب الإسلامية الأخرى، والتي تضم المذهب الحنفي والشافعي والمالكي والحنبلي والزيدي فإنها تتمتع باحترام كامل، وأتباع هذه المذاهب أحرار في أداء مراسمهم المذهبية حسب فقههم، ولهذه المذاهب الاعتبار الرسمي في مسائل التربية والتعاليم الدينية والأحوال الشخصية (الزواج والطلاق والإرث والوصية) وما يتعلق بها من دعاوى في المحاكم.
وفي كل منطقة يتمتع أتباع أحد هذه المذاهب بالأكثرية فإن الأحكام المحلية لتلك المنطقة في حدود صلاحيات مجالس الشورى المحلية تكون وفق ذلك المذهب، هذا مع الحفاظ على حقوق أتباع المذاهب الأخرى.
وتختم المادة الرابعة عشرة: الفصل الأول من الدستور ببيان العلاقة بين المسلمين وغير المسلمين من الأديان الأخرى المعترف بها في إيران فتقول: بحكم الآية الكريمة: "لا ينهاكم اللَّه عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن اللَّه يحب المقسطين"(9) على حكومة جمهورية إيران الإسلامية وعلى المسلمين أن يعاملوا الأشخاص غير المسلمين بالأخلاق الحسنة والقسط والعدل الإسلامي، وأن يراعوا حقوقهم الإنسانية وتسري هذه المادة على الذين لا يتآمرون ولا يقومون بأي عمل ضد الإسلام أو ضد جمهورية إيران الإسلامية(10).
وهكذا نرى أن الفصل الأول من الدستور الإسلامي لجمهورية إيران الإسلامية، وهو الفصل الذي احتوى على الأصول العامة قد تبنى الإسلام بكافة أبعاده الإنسانية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وحتم ضرورة بناء الدولة بكافة هيئاتها وأجهزتها ومؤسساتها على أسس الإسلام. ونظم العلاقة مع الدول والشعوب الإسلامية على أساس من أخوة الإسلام والوحدة الإسلامية.
ثم وباستعراض بقية مواد الدستور نجد أن معظمها مطبوعة بالطابع الإسلامي وحيث تجب الإشارة إلى الصفة الإسلامية أو الربط بالمصادر الإسلامية للتشريع فإن الدستور يسارع إلى تأكيد ذلك.(27/7)
ففي المادة (16) نجد التأكيد على تعليم اللغة العربية بعد دورة الدروس الابتدائية مباشرة لأنها لسان القرآن والعلوم والمعارف الإسلامية.
وفي المادة (17) نلاحظ جعل التاريخ الهجري تاريخاً رسمياً للدولة شمسياً كان أو قمرياً.
وتسجل المادة (18) عبارة اللَّه أكبر على علم الجمهورية الإسلامية.
وتنفي المادة (19) كل تمايز عنصري أو تعصب قبلي بين أفراد الشعب.
وتؤكد المادة (20) على أن الجميع رجالاً ونساءً يحميهم القانون ويتمتعون بكل الحقوق الإنسانية التي يقرها الإسلام.
وتوجب المادة (21) على الدولة ضمان حقوق المرأة في جميع الجهات في إطار التعليمات الإسلامية.
ونجد في المادتين (23) و(24) تطبيقاً رائعاً لمبدأ: "لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي"(11).
والمادة (29) تحكي عن تطبيق مبدأ الضمان الاجتماعي في الإسلام عبر وضعه كمبدأ مسلم على عاتق الدولة وتعميمه على المجالات المختلفة منها مجالات التربية والتعليم كما قررت ذلك المادتان (30 و33) واستثمار الحقوق واسترجاعها كما في المواد (34) وما بعدها(12).
ويعالج الفصل الرابع بمواده بين المادة (43) والمادة (55) النظام الاقتصادي على أساس من المذهب الاقتصادي الإسلامي.
وتؤكد المادة (56) على أن الحاكمية المطلقة على الكون والإنسان هي للَّه تعالى.
وفي المادة (67) يقسم ممثلو الشعب في مجلس الشورى على الحفاظ على حريم الإسلام ومعطيات الثورة الإسلامية، وحراسة مباني الجمهورية الإسلامية.
وتؤكد المادة (72) على أن مجلس الشورى الإسلامي لا يمكنه أن يضع قوانين مخالفة للإسلام.
وتقرر المادة (91) تشكيل مجلس حرّاس الدستور للقيام بمهمة حراسة أحكام الإسلام والدستور.(27/8)
وتقرر أيضاً المادة (115) أن رئيس الجمهورية ينتخب من بين المتدينين السياسيين المتصفين بالتقوى والإيمان بمبادى ء الجمهورية الإسلامية. وهو يقسم كما تقرر المادة (121) على الدفاع عن الإسلام وجاء في المادة (144) أن جيش الجمهورية الإسلامية يجب أن يكون جيشاً إسلامياً عقائدياً وشعبياً(13).
وأما المادة (152) فهي تحدد أهداف السياسة الخارجية وأهمها الدفاع عن حقوق جميع المسلمين.
إن دستور جمهورية إيران الإسلامية دستور إسلامي بامتياز ويشكل الإسلام طابعه العام، وهو يؤكد على مسألة الوحدة الإسلامية.
النقاط الوحدوية في الدستور:
إن الحديث عن الإسلام بشكل عام هو عامل ارتياح لدى معظم المسلمين، بخلاف الحديث عن المذاهب التي ربما عجز البعض عن فهم أبعادها الفقهية في الإسلام وأسبابها أو أسباب وجودها. فيترك أثراً سلبياً على تفكيرهم.
ولعل الحديث في معظم مواد الدستور عن الإسلام يمثل إحدى نقاط الوحدة الإسلامية.
ثم تأتي المواد التي تعبر أصدق تعبير عن أن واضع الدستور الإسلامي للجمهورية الإسلامية إنما أراد أن يثبت مسألة الوحدة في هذه المواد الدستورية باعتباره الوثيقة الأعلى بين كل الوثائق الوضعية التي تضبط عمل السلطات وتنظم الصلاحيات بين السلطات.
المادة الثانية من الدستور والتي ذكرنا مضمونها آنفاً بما تضمنته من أسس يقوم عليها النظام تشكل قاعدة يتفق عليها جميع المسلمين.
ومن أهم العبارات الوحدوية ما جاء في البند الخامس عشر من المادة الثالثة وكذلك البند السادس عشر. وفيهما:
15 توسيع وتقوية الأخوة الإسلامية والتعاون الجماعي بين الناس كافة.
16 تنظيم السياسة الخارجية للبلاد على أساس المعايير الإسلامية والالتزامات الأخوية تجاه جميع المسلمين والحماية الكاملة لمستضعفي العالم.(27/9)
إننا نجد أن هذين البندين يركزان على مسألة الأخوّة الإسلامية تجاه جميع المسلمين، وتشير المادة الحادية عشرة والتي سبق ذكرها إلى الآية الكريمة التي تقول: "إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون"، وتقول بالنص الحرفي: "يعتبر المسلمون أمة واحدة، وعلى حكومة جمهورية إيران الإسلامية إقامة كل سياساتها على أساس تضامن الشعوب الإسلامية ووحدتها، وأن تواصل سعيها من أجل تحقيق الوحدة السياسية والاقتصادية والثقافية في العالم".
إن هذه المادة تصرح بأن المسلمين أمة واحدة، على اختلاف مذاهبهم وأعراقهم وانتماءاتهم الإقليمية، وتلزم حكومة الجمهورية الإسلامية بالسعي لتحقيق الأهداف التالية:
1 إقامة كل سياستها على أساس تضامن الشعوب الإسلامية ووحدتها.
2 السعي من أجل تحقيق الوحدة على كل الصعد السياسية والاقتصادية والثقافية في العالم الإسلامي(14).
وهذه الأهداف لا تكاد تجد بلداً إسلامياً ألزم نفسه بها بهذا الشكل الذي ألزمت الجمهورية الإسلامية نفسها وحكومتها به في نص دستورها.
أما المادة الثانية عشرة، وهي التي تضمنت المساواة بين المذاهب الإسلامية جميعها في وجوب الأخذ فيها عند توفر الشروط الموجبة لذلك. وربما استثارت هذه المادة بعض النقاش خصوصاً من أولئك الذين ينظرون إلى الأمور نظرة )طوباوية( وغير واقعية.
لقد نصت هذه المادة على أن الدين الرسمي للدولة هو الإسلام، والمذهب المعتمد هو المذهب الإثنى عشري.
وربما طرح البعض: "لماذا النص على أن المذهب المعتمد هو الإثنى عشري"، واعتبروا أن في هذا طعناً أو عدم اعتراف بالمذاهب الأخرى. أو أن معناه الضمني أنه ليس في المذاهب الأخرى ما يمكن الأخذ به.
والحقيقة تتجلى واضحة لكل من عرف كيف تنص القوانين وكيف تكون الأحكام.(27/10)
إن القاعدة القانونية تنص على أنّ القوانين يجب أن تكون واضحة وثابتة ومتناسقة وغير متعارضة أو متضاربة. وهذا يعني أنه لا بد من اعتماد نص معين، ولا يمكن ترك المسائل تتأرجح بين أكثر من رأي أو نص.
وبما أن معظم الشعب الإيراني المسلم على مذهب الشيعة الإمامية المعروف بالمذهب الإثنى عشري أو الجعفري فمن الطبيعي أن يختار مذهبه ليكون النظام المعمول به في كافة أحكامه ومعاملاته، وهذا لا يشكل مطعناً في أي مذهب آخر، ولا يشكل نقضاً لفكرة الوحدة الإسلامية والدين الواحد. إن الوحدة الإسلامية تعني الإسلام الواحد وليس المذهب الواحد. والمطلوب هو التوحد في الدين الواحد وليس التوحد في المذهب الواحد، خصوصاً وقد رأينا أن معظم بل جميع من تحدثوا في مسألة الوحدة الإسلامية لم يطرحوا التحول إلى مذهب واحد، وإنما رفضوا جميعاً القول بهذه الفكرة معتبرين أنها تنافي الفطرة الإنسانية وتنافي أصل الدين الإسلامي في فهمه للطباع البشرية، وهي فكرة سيئة الأثر إذ إنها تعني أبطال اجتهاد مجتهدي المذاهب الإسلامية الأخرى، الذين كان اجتهادهم وما تركوه من فقه ثروة إسلامية بل وإنسانية لا تقدر بثمن.
وفي حال أي شعب مسلم آخر استطاع أن يقيم حكومة إسلامية فإن عليه اتباع فقه المذهب الغالب على الشعب من أتباعه.
لقد صرحت المادة الثانية عشرة بأوضح تعبير باعتراف الدستور الإسلامي الإيراني ببقية المذاهب الأخرى. وأعطت أصحاب هذه المذاهب الحق في اتباع مذاهبهم ولو كانوا يعيشون ضمن الأغلبية الشيعية. ونصت على أنهم أحرار في أداء مراسمهم المذهبية حسب فقههم.
"وأما المذاهب الأخرى والتي تضم المذهب الحنفي والشافعي والمالكي والحنبلي والزيدي فإنها تتمتع باحترام كامل، وأتباع هذه المذاهب أحرار في أداء مراسمهم المذهبية حسب فقههم.(27/11)
ولهذه المذاهب الاعتبار الرسمي في مسائل التعليم والتربية الدينية والأحوال الشخصية (الزواج والطلاق والإرث والوصية) وما يتعلق بها من دعاوى في المحاكم"(15).
إن إعطاء هذه المذاهب الاعتبار الرسمي يعني أن الأحكام المتعلقة بأحوالهم الشخصية كالزواج والطلاق والإرث وما يتبعها هي أحكام مذاهبهم وليس مذهب الأغلبية من المذهب الآخر وحتى التعليم والتربية الدينية فإنها عائدة لهم وفق ما يراه كل مذهب.
كما إن هذه المادة أي الثانية عشرة من دستور الجمهورية الإسلامية قد ساوت بين المذهب الجعفري الذي هو مذهب أغلبية سكان البلد والمذاهب الأخرى التي يشكل أتباعها أقلية أو أقليات مذهبية إذا جازت التسمية، إذ إن المسلمين في البلد المسلم رغم اختلاف المذهب لا يسمون أقلية. لقد وضعت هذه المادة الدستورية المذاهب الإسلامية على قدم المساواة عندما نصت على ما يلي: "وفي كل منطقة يتمتع أتباع أحد هذه المذاهب بالأكثرية فإن الأحكام المحلية لتلك المنطقة في حدود صلاحيات الشورى المحلية تكون وفق ذلك المذهب. هذا مع الحفاظ على حقوق أتباع المذاهب الأخرى(16).
وهذا يعني أنه في كل منطقة من مناطق إيران تكون أغلبية سكانها من مذهب من مذاهب أهل السنّة فإن الأحكام في هذه المنطقة ولهؤلاء الأهالي هي وفق أحكام مذهبهم مع الحفاظ على حقوق أتباع المذاهب الأخرى.
وبهذا نستطيع القول إن المادة الثانية عشرة من دستور الجمهورية الإسلامية قد جسدت حقيقة الوحدة الإسلامية التي تقوم على الاعتراف بالمذاهب الأخرى واحترام حقوق أتباعها، والوحدة الإسلامية التي ترضى بالتنوع والاختلاف ضمن إطار الدين الواحد.
ثانياً: مبدأ ولاية الفقيه:(27/12)
على الرغم من أن الخلاف بين السنّة والشيعة يعود إلى مسألة الخلافة بعد وفاة النبي (ص) وما تلاها من أحداث في وقعتي صفين والجمل فإن الانقسام لم يترسخ إلا بعد مقتل سبط رسول اللَّه أبي عبد اللَّه الحسين بن علي بن أبي طالب، الذي قتله جيش الشام التابع ليزيد بن معاوية بن أبي سفيان بعد ملحمة كان لها أبعد الأثر في تاريخ الإسلام السياسي والديني ثم استتبع ذلك الخلاف خلاف فقهي، ينبع في حقيقته من احتمال النصوص الدينية من كتاب وسنّة لأكثر من معنى في بعض الآيات والأحاديث، ومن الاختلاف في صحة بعض المروي عن النبي محمد (ص). وكان معظم الخلاف متعلقاً ببعض الفروع في حين كان الاتفاق على الأصول أمراً مسلماً به.
وبسبب الاختلاف حول مسألة الخلافة وما استتبعه ذلك من اختلافات أخرى، كان هناك رأي أهل السنّة والجماعة القائلين بأن الخليفة ينصب ببيعتهم واتفاقهم عليه، ولا يجب أن يكون هاشمياً، بل قال بعضهم بوجوب أن يكون من قريش فيما رأى البعض أنه يمكن أن يكون من غير العرب.
واشترط أهل السنّة للإمام شروطاً، الماوردي في كتابه الأحكام السلطانية والولايات الدينية قد أفرد لها فصلاً قال فيه: "وأما أهل الإمامة فالشروط المعتبرة فيهم سبعة. أحدها: العدالة على شروطها الجامعة. والثاني: العلم المؤدي إلى الاجتهاد في النوازل والأحكام. والثالث: سلامة الحواس من السمع والبصر واللسان ليصح معها مباشرة ما يدرك بها. والرابع: سلامة الأعضاء من نقص يمنع عن استيفاء الحركة وسرعة النهوض. والخامس: الرأي المفضي إلى سياسة الرعية وتدبير المصالح. والسادس: الشجاعة والنجدة المؤدية إلى حماية البيضة وجهاد العدو. والسابع: النسب وهو أن يكون من قريش لورود النص فيه وانعقاد الإجماع عليه، ولا اعتبار بضرار حين شذ فجوزها في جميع الناس"(17).(27/13)
والمستفاد من هذه الشروط وجوب كون الخليفة متمتعاً بكافة المزايا العقلية والجسدية بالإضافة إلى العلم المفضي إلى الاجتهاد في النوازل، أي ابدأ الحكم الشرعي في أي أمر قد يطرأ على الخليفة أو على الناس وهذا ما لا يستطيعه إلا الفقيه الذي بلغ من العلم والفقه درجة الاجتهاد واستنباط الأحكام.
ومن هذا يتبين أن الخليفة الذي يتولى ولاية المسلمين العليا وإمامتهم العظمى لا بد أن يكون فقيهاً. فهي ولاية فقيه وإن لم تعرف بهذا الاسم اصطلاحاً.
أما الشيعة فقد جعلوا الإمامة في الأئمة من ذرية علي بن أبي طالب سلام اللَّه عليهم أجمعين، وهم جميعاً كانوا أهل علم وفقه واجتهاد، وقد نص وفقاً لمذهب الإمامية على إمامة إثني عشر منهم، وقد كان أولهم علي بن أبي طالب ومن بعده الحسن بن علي، ثم الحسين بن علي، ثم علي بن الحسين، ثم محمد بن علي، ثم جعفر بن محمد، ثم موسى بن جعفر، ثم علي بن موسى، ثم محمد بن علي، ثم علي بن محمد، ثم الحسن بن علي، ثم محمد بن الحسن وهو الإمام الثاني عشر، صاحب الغيبة، المعروف بالإمام المهدي (سلام اللَّه عليهم أجمعين) أو المهدي المنتظر الذي ينتظر المسلمون ظهوره في آخر الزمان ليملأ الأرض قسطاً وعدلاً بعد ما ملئت جوراً.
وبانتظار ظهور المهدي (ع)، ماذا يكون حال المسلمين، ومن يتولى أمرهم ويقيم فيهم حكم اللَّه تبارك وتعالى؟
لقد أطلق الإمام الخميني نظرية ولاية الفقيه وهي مستندة إلى العديد من الأحاديث التي تحدد صفات الإمام والمنسوبة إلى النبي (ص) والأئمة من بعده، ومنها الحديث الوارد في أصول الكافي(18) وفيه: قال (ص) لا تصلح الإمامة إلا لرجل فيه ثلاث خصال: ورع يحجزه عن معاصي اللَّه، وحلم يملك به غضبه، وحسن الولاية على من يلي حتى يكون لهم كالوالد الرحيم.(27/14)
وهذه الشروط التي وضعها الحديث لمن يتولى إمامة المسلمين تستجمع الشروط الواردة عن أهل السنّة والجماعة، وقد تجسدت تلك الشروط في المادة الخامسة من الدستور الإسلامي والتي تقول:
"تكون ولاية الأمر والأمة في غيبة الإمام المهدي (عج) في الجمهورية الإسلامية الإيرانية للفقيه العادل التقي العارف بزمانه الشجاع المدبر الذي تعرفه أكثرية الجماهير وتتقبل قيادته. وفي حال عدم إحراز فقيه لهذه الأكثرية فإن القائد (أو مجلس القيادة المركب من الفقهاء جامعي الشرائط) يتحمل هذه المسؤولية وفقاً للمادة السابعة بعد المائة"(19).
وهكذا نجد أن الشروط المطلوب تحققها في من يلي إمامة المسلمين في زمن غيبة الإمام تتفق تمام الاتفاق مع ما يراه فقهاء السنّة وما يشترطوه من شروط وبهذا تكون رؤية الفريقين للمسألة واحدة، وأن فقهاء السنّة وإن لم يستعملوا هذا المصطلح عند حديثهم عن الولاية العامة (ولاية الفقيه) إلا أنه متضمن في ثنايا الشروط التي اشترطوها في شخصه. وما دام الأمر في جوهره واحداً فإنه لا مشاحة في اختلاف المصطلح.
وبهذا يكون مصطلح ولاية الفقيه فيما نعتقد من الأمور التي تخدم قضية الوحدة الإسلامية، وتعطيها دفعاً إلى الأمام، غير أننا لا ننكر أن القضية بحاجة إلى مزيد من الشروح والتوضيحات والدراسات المقارنة من قبل العلماء والفقهاء والمنظرين من السنّة والشيعة معاً، لأن هناك من يصور الأمر للناس على غير حقيقته ويبث في الناس أقوالاً وإشاعات كادعائه أن الولي الفقيه يكون معصوماً كما هم أئمة الشيعة الإمامية سلام اللَّه عليهم جميعاً. وهذا القول فيه كذب وافتراء، فليس هناك عند الإمامية من يدعي ذلك، فالعصمة بحسب المذهب هي فقط بعد النبي الأكرم (ص) في الأئمة الإثني عشر ولا تتعداهم إلى سواهم ولو كانوا ممن ينتسبون إلى أهل البيت من السادة الأشراف.(27/15)
ونشير في مسألة العصمة إلى أن أهل السنّة يؤمنون بعصمة الأنبياء من البشر، دون سواهم فقط، ولا يؤمنون بعصمة الصحابة أو الخلفاء وفي ذلك قول الإمام مالك المشهور: "كل الناس يؤخذ منه ويرد عليه إلا صاحب هذا المقام" وكان يشير بيده إلى روضة النبي محمد صلى اللَّه عليه وآله وسلم .
الهوامش:
(1) القرآن الكريم الحديد الآية 25.
(2) راجع مقدمة دستور جمهورية إيران الإسلامية الصادر بالعربية عن رابطة الثقافة والعلاقات الإسلامية طبعة 1997م.
(3) القرآن الكريم الأنبياء الآية 105.
(4) دستور الجمهورية الإسلامية في إيران.
(5) المصدر نفسه المقدمة.
(6) حول الدستور الإسلامي في مواده العامة الشيخ محمد علي التسخيري ص59.
(7) القرآن الكريم التوبة الآية 71.
(8) القرآن الكريم الأنبياء الآية 92.
(9) القرآن الكريم الممتحنة الآية 8.
(10) راجع الفصل الأول دستور الجمهورية الإسلامية.
(11) القرآن الكريم البقرة الآية 256.
(12) حول الدستور الإسلامي في مواده العامة ص61-62.
(13) المصدر نفسه ص63.
(14) دستور الجمهورية الإسلامية ص30.
(15) المصدر نفسه المادة 12 ص31.
(16) المصدر نفسه المادة 12 ص31.
(17) الأحكام السلطانية والولايات الدينية للماوردي ص6.
(18) حول الدستور الإسلامي في مواده العامة ص89.
(19) المصدر نفسه ص95.(27/16)
الثورة البائسة
كيف استولت الزمرة الخمينية على السلطة؟ وما هي الاسباب التي ادت الى تلك الخدعة الكبرى في تاريخ ايران؟ الجواب على هذا السؤال يحتاج الى مراجعة التاريخ لقرن مضى ولا سيما تلك الفصول التي تتعلق بنضال الشعب الإيراني بقيادة زعمائه الدينيين مبتدأ بثورة الشيرازي الكبيرة السلمية ضد الانجليز في عام 1891م حتى آخر ثورة شهدتها ايران بقيادة زعمائه الدينين والتي انتهت الى سقوط الملكية واعلان الجمهورية.ان التاريخ يحدثنا بكل وضوح ان الزعماء الروحيون في تاريخ النضال الشعبي كانوا يقودون حركات التحرر بإخلاص القائد الفذ وعندما كانت الثورة تنجح في مقاصدها كان الزعماء الروحيون يعودون الى واجباتهم الروحية ولم يطلبوا لأنفسهم جزاءا ولا شكورا.قاد الشيرازي الكبير الثورة السلمية ضد الانجليز والملك المستبد ناصر الدين ولما رضخ الملك لأمر الإمام والغى معاهدة التبغ التي ابرمها مع الانجليز أبرق له الشيرازي يدعو له بالتوفيق ويطلب منه ان يكون قدوة لكل الحاكمين.وبعد هذه الحادثة بـ15 سنة ثار الشعب الايراني بقيادة زعيم عظيم من زعمائه الروحيين هو الآخوند (الشيخ) محمد كاظم الخراساني ضد الملك المستبد محمد علي شاه الذي الغى الدستور وحل مجلس الامة ليستبد بالامور،وخاض ذلك الزعيم الروحي غمار تلك الثورة الشعبية التي قدمت من التضحيات الكثير لينال الشعب حريته،وأخيرا عزم الأخوندة محمد كاظم الخراساني الملك من وظائفه وخلعه من عرشه واضطر الملك المعزول اللجوء الى سفارة الروس القيصرية في طهران، وثبت الأخوندة محمد كاظم رحمه الله ابن الملك المخلوع احمد شاه ملكا على ايران ولم يطالب لنفسه جزاءا ولا شكورا.كان باستطاعة الخراساني ان ينصب نفسه واليا وآمرا بأمر الله على العباد والبلاد كما فعل الخميني لكنه ارتفع عن هذا المر بل انصرف الى واجباته الروحية من جديد.وفي عام 1950
شهدت ايران ثورة عارمة ضد الانجليز قادها(28/1)
الإمام الكاشاني والدكتور مصدق رحمة الله عليهما وأصبح الإمام الكاشاني هو الحاكم المطلق في البلاد وكان باستطاعته تنصيب نفسه رئيسا للجمهورية وواليا للأمر ولكنه لم يفعل ذلك بل جلس في داره القرفصاء وعندما انتخب رئيسا رئيسا للمجلس النيابي ارتفع عن حضور جلساته وهكذا زهد في الرئاسة والحكم حتى أن احاط الامريكان بمصدق فسجن مصدق ولقي الكاشاني من الهوان الكثير.إذا لم يخطر ببال الشعب الايراني ان زعيما من زعمائه الروحيين يناضل من اجل الاستيلاء على الحكم والسلطة لاسيما اذا كان ذلك الزعيم يؤكد اكثر من مرة بانه لا يطمع بالحكم ، بل لا يخطر في باله. كما ان الشعب الايراني لم يفكر قد ان زعيما دينيا مثل الخميني يكذب بهذه الفضاحة أمام العالم وعندما يصل الى مأربه يجعل الوعود كلها تحت قدميه،وهناك شئ آخر لابد من الاشارة اليه وهو ان الخميني لم يكن هو الزعيم الديني الوحيد في ميدان النضال، بل كان هناك آخرون لهم دور قيادي كبير في نجاح الثورة، وبد نجاح الثورة عادوا الى بيوتهم لا يتعاملون مع الخميني بل هم معه على طرفي نقيض،وهم غير راضين عما وصلت اليه الزعامة الدينية من انحدار وسوط وذل وهوان.ان الامام سيد كاظم الشريعتمداري والإمام القمي والإمام الزنجاني والإمام الطالقاني رحمة الله عليهم، كان لكل منهم دور عظيم وهام في نجاح الثورة وهؤلاء الأمة الأربعة عارضوا استيلاء الخميني وزمرته على الحكم بالنار و الحديد واعتبروا الدستور مزورا والانتخابات مزيفة واعلنوا ان كل ما يبنى على الفاسد فاسد أيضا.إذاً فإن ما يقال من استيلاء رجال الدين على السلطة في ايران بصورة عامة إنما هو في واقعه وحقيقته لا يطابق الواقع وحقيقة الامر، بل هناك طبقة خاصة من بين رجال الدين استطاعت ان تستولي على الحكم وتحتكر السلطة لنفسها والصراع بين الحاكمين من اهل العمائم والمحكومين من الطبقة نفسها على اشده في ايران، أما تفصيل تلك المؤامرة الشنيعة(28/2)
على الحرية والشعب باسم الاسلام والدين فهو كما يلي:لا اعتقد ان الخميني وحده هو الذي وضع خطة احتكار السلطة، بل ان زمرته لعبت دورا هاما في وضع الخطط المناسبة في الموقع المناسب مع الاخذ بعين الاعتبار سذاجة الشعب الايراني وإيمانه بالثورة ومكاسبها وتأثير المواعيد الكاذبة والخطب الرنانة في نفسية هذا الشعب المغلوب على أمره. لم يظهر الخميني في الأيام الأولى بعد نجاح الثورة ما كان يظمره في قلبه من جعل نفسه وليا على العباد والبلاد، بل عين المهندس بازركان رئيسا للوزراء واطلق يده في تعيين وزراءه ما عدا يزدي وجمران وصادق طباطبائي وعاد الى قم يستقبل جماهير الشعب كمرشد للثورة يلقي فيهم الخطب اليومية كما اجتمع على بابه رهط من الناس ولكن في الوقت نفسه استولت زمرته على اربعة من اهم المرافق الحيوية في البلاد: 1. الحرس الثوري، الذي تم تشكيله منذ الايام الاولى من نجاح الثورة.2. اللجان الثورية التي شكلت في المساجد وعلى رأس كل واحد منها رجل من رجال الدين المحسوبين على الخميني.3. المحاكم الثورية التي بدأت بتصفية المعارضين ورجال العهد الملكي فورا.4. الاذاعة والتلفزيون. وفي الاسبوع الاول من العهد الجديد حكمت محكمة الثورة على خمسة من رجال العهدالقديم بما فيهم الجنرال نصيري رئيس السافاك –المخابرات في عهد الشاه- واعدموا فور صدور الحكم على سطح المدرسة التي كان يسكنها الخميني في طهران، وأجريت المحاكمة بصورة سريعة وسرية مما ادهش العالم وذلك ان تلك الشخصيات بما فيهم نصيري كانوا من اهم ركائز العهد القديم وكان يمكن الحصول منهم على معلومات قيمة عن اسرار الدولة التي ولت الأدبار، وأعلن بارزركاك ان لا علم له بهذه المحاكمات وبالاعدامات وانه لا يرضى إلا بمحاكمات عادلة وفق اصول متبعةفي كل انحاء العلم،ولكن نداء بازركان لم يلق اذنا صاغية واستمرت المحاكمة في محاكمتها وظهر للشعب ان الخميني هو وراء هذه المحاكمات وهو(28/3)
الذي يعين القضاة بأمره الخاص،وهكذا ظهرت قوة تنفيذية جديدة تفعل ما تشاء وتحكم ما تريد ولا سلطان للدولة عليها.أما حرس الثورة واللجان الثورية فكان كل منهما دولة في دولة لا تقل شأنا وخطورة على المحاكم الثورية، لقد كان باستطاعة أي منها ان ترسل رجالها الى رئيس الدولة في أي وقت تشاء لتقبض عليه وتجره الى حيثما تريد وتشاء. وبذلك ظهرت في البلاد ثلاثة قوى تنفيذية أضعفها الدولة التي كانت تعتمد على الجيش والشرطة الذي دمر أحدهما تدميرا كاملا والثاني اصبح تحت حكم اللجان الثورية، وهكذا استولت زمرة خميني على السلطة منذ الايام الأولى من نجاح الثورة ولكن صورة غير مباشرة.(28/4)
الثورة الشيعية الإيرانية وزيف النجاح الذي حققته.
بقلم : محمد العلي - الكويت
لقد نجحت الثورة الشيعية الإيرانية-التي قادها (الأمام الخميني!)- في تشويه صورة (الفكر الإسلامي الأصولي)، ونجحت في تمكين الشيطنة-الصهيونية والأمريكية-من رقاب ومقدرات المسلمين، كما قدمت للعالم نموذجاً سيئاً للإسلام، فأصبحت الأصولية في أذهان معظم الناس تعني الانتقام والتخريب والإرهاب والدمار والعودة إلى عهود الغاب والهمجية والبدائية والتخلف، وهي لم تكن في يوم من الأيام كذلك، ولن تكون، فالأصولية تعني إتباع الأصل والحق الذي جاء به محمد-صلى الله عليه وسلم-، وتعني الأخذ من المنبع الأصيل وهما (الكتاب والسنة)، كما تعني فهم وفقه حقيقة وطبيعة الحركة العامة للناس والأشياء على أصولها، وهذا الفهم والفقه سيأتي كنتيجة للأخذ من المنبع الصافي الأصيل.
فالثورة(الإسلامية الشيعية الأثنى عشرية) فشلت في تحقيق (الأمن الإسلامي) فشل ذريع، وهذا الفشل يوضح لنا أن قائد الثورة ومفجرها ومن سمي "بروح الله وأية الله!!!" الإمام المزعوم (الخميني) لم يكن إمام ولا آية ولم يكن عالماً وفقيهاً أصولي كما لم يكن يحوي روح من الله.
فمن سينظر إلى القضية بعاطفته الدينية فإنه لن يصل إلى الحقيقة، ومن سيفكر بها بعقلية مشجع النادي المتعصب لفريق ناديه لن يعقلها، وإن كانت المسألة "هذا ما وجدنا عليه آبائنا" فهي مشكلة أزلية منعت من كان قبلنا من إتباع الحق، وإن كانت القضية التنازل والتخلي عن العقل وتعطيله وتحييده بقول (ضعها برأس عالماً وأخرج سالماً!!!) فلا حول ولا قوة إلا بالله.(29/1)
فمن أجل الوصول إلى حقيقة، أو على الأقل للوقوف على أعتابها، علينا النظر إلى الأمور بموضوعية وبتجرد من الأهواء والعاطفة الخادعة للب والمعتمة للفؤاد، وأنا أعتقد بضرورة توضيح الصورة قدر الإمكان وهذا واجب المؤمن تجاه الآخرين، وإن كانت تلك الصورة ستُرفض عند البعض في الوقت الراهن فعليهم تحويلها ووضعها في مخزن "التدبر والفحص والتحليل والتأمل والمراجعة"، ونرجو عدم حذفها وإلقائها، إن لم توضع في مخزن "حق اليقين"، فمخزن "حق اليقين الفكري" هو الذي يوضع به كل شيء لمسه الإنسان ورآه بعينه وذاق مذاقه وأستطعم طعمه، وأحد هذين الاختيارين هو الذي يجب أن يأخذ به من قبل الإنسان الذي أكرمه الله بالعقل، وخاصة في هذا الزمن الذي اختلطت به الأمور وامتزجت به المواقف وتكاثرت به الفتن وجعلت المسلم المعاصر يقف حائراً أمامها، بل جعلت البعض يرتد عن دينه بسبب تكاثرها وتقاطرها، فإلغاء العقل وتأجيره للآخرين أو تركه لهم للاغتصاب والنهب دون مقاومة هو من صفات الهمج والرعاع والغوغاء المستسلمين استسلاما كامل لكل ما يقدم لهم من أفكار وتصورات، مثل أتباع المتأله والمنكوب بعقله سيئ الذكر صدام حسين، وكذلك مثل العلمانيين من المسلمين الذين وقعوا صرعى الفتن وظنوا أنها تقدم وحضارة، ولم يتصوروا أنها تخلف وانحدار، فإلغاء العقل وتعطيله وتأجيره للغير ليس من صفات المؤمنين.(29/2)
فالثورة الإيرانية، وبلا ريب، كانت ثورة تقودها الشيطنة، فمنذ بداية اندلاع الثورة اتضحت طبيعة الروح التي كانت تقود الثورة الإسلامية المزعومة، فهي كانت روح خبيثة شيطانية ولم تكن روح طيبة ربانية، وهي كانت روح انتقامية تخريبية تأمريه، ولم تكن روح تسامحيه إصلاحية تنموية، فهي استغلت المقهورين وساقت المعبأين للانتقام، واستثمرت مشاعر المظلومين وأصحاب المآسي ووجهتم إلى الجهة الخاطئة. كما شردت معظم المسؤولين السابقين والمعارضين وعائلاتهم ولم تحاول احتوائهم بعد توضيح الصورة الحقيقية وبيانها لهم، فمن المؤكد أن الإمام المزعوم لم يكن يفقه حقيقة الصورة وطبيعتها ولم تكن له القدرة على فهمها وبيانها للآخرين، لأنه لم يكن عالماً وفقيهاً أصولي، ففاقد الشيء لا يعطيه، ولم تأت الثورة لتأمين الناس "فكرياً ونفسياً وروحياً ومادياً"، بل أتت لتدميرهم وتشريدهم وتدمير منجزاتهم المادية والانحدار بها، كما أتت ((لتحيير!!!)) الناس ومنع أرواحهم من السمو والارتقاء ، ولقد استغلت و استثمرت تلك الروح الشيطانية الخبيثة (العاطفة الدينية الجياشة)- وهي من سمات وصفات أتباع المذهب الشيعي وخاصة الأخوة الإيرانيين- وحرصت على بقاء صيوان العزاء الحسيني مفتوح لإثراء تلك العاطفة الجياشة واستثمارها وتوجيهها (لمصلحة النظام الخميني الأصولي!!!).(29/3)
وبعد تلك السنين لا يجد الشعب الإيراني أمامه إلا مجموعة من المعممين-تخرج من قم و حوزاتها "العلمية!"- لتشكل كائنات بشرية طفيلية سريعة التوالد والانتشار-كجرذان الحقل- ،تقتات على مآسي الشعب وتصادر حقوقه وحرياته وتتطاول على مقدراته وتوزعها على المقربين، وتجعل بقية أفراد الشعب حطام بشري تسوقه وتتقاذفه رياح التغريب والشيطنة لتحيله إلى أمة محطمة تهيم على وجهها في ممرات الحياة ومسالكها وتضيع بين دهاليزها وأنفاقها المظلمة، كما جعلتهم يتصارعون مع أنفسهم وغيرهم وشياطين الظلام من أجل توفير لقمة العيش للبقاء ولو في الدرك الأسفل، وهذا من أبرز سمات ونتائج النظم الجاهلية الفوضوية التي تقودها وترعاها الشيطنة، وهي الانحدار والعودة لعصور الغاب والهمجية والبدائية والتخلف، والتي يجاهد المؤمنون من أجل دفع شرورها ولإخراج الناس منها.
ومن بعض نتائج الثورة الإيرانية التي أصبحت واضحة لكل من يتعايش مع الوضع الراهن في إيران ولكل متأمل ومراقب منصف، هي:(29/4)
1-البطالة
2-الحرمان من الزواج
3-الارتداد عن الدين
4-التشرد في دول العالم
5-تدهور الحالة الاقتصادية
6-حرمان فئات الشعب من إثبات الذات
7-تحديد النسل الإجباري
8-استعداء الدول المسالمة مثل الإمارات وغيرها من الدول
9-تدهور الحالة التعليمية وانتشار الجهل
10–اندثار القيم الإسلامية
11-مصادرة الحريات
12دفع الجيش الإيراني والمتطوعين إلى الاستمرار في القتال في الحرب "الإيرانية العراقية" علماً بأن المعتوه المتأله صدام هو الذي قد بدأ الحرب، ولكنه طلب وقف القتال، فلم يستجاب لطلبه من قبل الأمام الأصولي المزعوم!!!، إلا بعد أن استهلكت الحرب أرواح أرضت غرور الشياطين وخلفت ورائها المآسي والبؤس والشقاء، فالصراع كان صراع بين طواغيت
13-وأهمها، وهو الذي كان متوقع، وكالعادة،-الدعوة للانتقال من غي إلى غي جديد تختلف إنارته وبهرجته وشعاراته بعد فشل "المشروع الأصولي الشيعي الخميني"- وتلك الدعوة أتت بعد ظهور طبقة مما يسمون مثقفين وإصلاحيين! بقيادة السيد /خاتمي- أصلحه الله وختم به الشر وأقبره- استشعرت الشرور وتطالب بالعودة إلى (الفوضوية والبدائية الصريحة) (العلمانية)، ولو بالزي والشعار الإسلامي، باسم التقدمية والإصلاح، ونحن قد نجد لهم عذر في ذلك، فذلك مبلغهم من العلم، فإن (الأصوليين)المُعْتَمد عليهم بالإصلاح وعلى رأسهم الإمام المزعوم وبطانته وخلفائه لم يحققوا وعودهم للشعب الإيراني.(29/5)
لقد أخبرني أحد الإيرانيين وهو من عرب إيران ومن أحد ضحايا المذهب الشيعي والثورة الخمينية، بحرص السلطة الحالية على جمع الأشرطة المسجل عليها وعود الإمام المزعوم -للشعب الإيراني- بالرفاهية والتقدم وتحسين الأوضاع المعيشية، ومما قال أيضاً إن بعض الإيرانيين يترحمون على أيام الشاه!!!، عدى التصريحات التي صرح بها المسئول السابق السيد/بني صدر، والتي أوضح فيها عمالة الإمام الأصولي! المزعوم لأمريكا وعلاقته مع اليهود المغتصبين الطارئين في فلسطين، كما بين أن احتلال السفارة الأمريكية كان لأسباب سياسية أستنفع من نتائجها الطرفين، وهذا قيض من فيض، فأهل مكة أدرى بشعابها.
كما إننا نعجب من تلك العقلية الخرافية الأصولية التي تمنع لبس ربطة العنق مع اللباس الغربي، وتقوم بربط عنق الشعب وخنقه وتكبيله بالنظم والمناهج والقيم والتصورات الغربية المتخلفة الفوضوية، مثل الديمقراطية ونظام التعليم للأولاد والبنات وقانون تحديد النسل!!! وغيرها من المناهج والنظم والقوانين والتصورات والمفاهيم والقيم الفاسدة، وهذا من أكبر الأدلة بأن الأمام المزعوم ومن خَلَفه والبطانة لا شأن لهم بالأصولية الحقة لا من قريب ولا من بعيد، فهم لا يفقهون حقيقة وطبيعة الحركة العامة للناس والأشياء وطبيعة حاجاتها المختلفة، كما هم لا يفقهون قوانين الخلق في"النشأة والحياة والمصير" والتي هي من أولويات وضروريات العلم والفقه للقائمين على إدارة شئون الخلق وتسيير الحياة السياسية العامة، وهذا إن دل على شيء إنما يدل على تلوث المصدر الذي يستمدون منه علمهم وفقههم وتصوراتهم وقيمهم، كما يدل على فساد وانحراف العقيدة والمنهج، وهذا الفساد والانحراف أدى إلى انعدام في الرؤية وضياع في المسيرة والعودة إلى عهود الغاب والبدائية والهمجية والتخلف، حسب الأصول المرعية للأحوال والأصولية الشيطانية.(29/6)
وبالرغم من حصول الثورة- الإسلامية الأصولية الخمينية المزعومة- على تأييد عدد لا يستهان به من المخلصين من أصحاب النوايا الطيبة، وبالرغم من تمكنها، وبالرغم من توفر الأسباب لها، لم تستطع تقديم شيء يذكر، ولو كانت أصولية حقه لما استطاعت الشيطنة الصهيونية والأمريكية الصمود أمامها كل هذه المدة، ولما جرأت على الإفساد في الأرض، ولقضت عليها ونحرتها حسب الأصول، ولاستدلت و اهتدت إلى مكان نحرها، ولعرفت أصول وطريقة تعليقها وسلخها، ولو كانت أصولية حقه لأصبحت تلك الجاهلية المتأله الحديثة أطلال وهشيماً تذروه الرياح، ولأصبحت أحاديث وقصص وروايات يتندر بها العجائز فيما بينهم، ويروونها لأبنائهم في ليالي السمر.قال تعالى:"مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ(74)"(الحج).
لا للتقريب ولا للتغريب ونعم للتقرب من الحق.
إن الأصوات الصادرة من بعض أفراد أهل السنة والجماعة والتي تنادي بالتقريب بين معتقد (أهل السنة والجماعة) وبين المعتقد (الباطني الرافضي) والمسمى (بالمذهب الشيعي) هي وبلا شك معظمها أصوات مخلصة، تود الخير والوحدة للأمة الإسلامية، ومنها قد تأثر بالمعاملة الطيبة المخلصة من بعض العوام من أتباع (المذهب الباطني) وخاصة المتمردين منهم والمتجاهلين لفتاوى علمائهم المحرضة على أهل السنة والجماعة والمرفقة بتوصية استخدام التقية تجاههم، أي يأمرونهم بانتهاج نهج مخادع باطني تأمري!!!، وهذا النهج من المستحيل أن يكون نهجا ومنهجاً لمؤمن موحد مكلف بحمل رسالة ربانية، فطيبة وحسن المعاملة وصدقها من بعضهم حقيقة من الصعب تجاهلها، خاصة عند من تعايش معهم وجاورهم وخالطهم ووقف على جميع أحوالهم في السراء والضراء ولمس حسن وطيبة المعاملة والجيرة عند بعضهم، فهم بلا شك كبقية الخلق منهم الطيب ومنهم الفاسد الرديء.(29/7)
ونحن نعتقد أن الدعوة إلى التقريب بين الفرقتين دعوة باطلة، ولا يجب ربطها بحسن الخلق العرفي وبالعواطف والأماني، فالقضية قضية عقيدة ومنهج رباني لا يتغير و لا يتبدل بتغير السنين والأزمنة، ولا يتغير بتغير أحوال الناس وأهوائها، فهو منهج يسع الناس جميعا، وهو منهج صالح لكل زمان ومكان، وهو دين ومنهج له قيمه ونظمه ومناهجه وآلياته الأصيلة التي لا ينهض ولا يتحرك إلا بها، فأي نظم ومناهج وآليات مبتكره ومبتدعة لا تستطيع النهوض به وتحريكه أبداً ولو أتفق جميع الخلق -أنسهم وجنهم- على ذلك، وهي المشكلة التي تعاني منها إيران والمملكة السعودية والسودان- بصفتها دول تطبق الشريعة الإسلامية- فجميعهم يستخدمون نظم ومناهج وآليات مبتكرة مبتدعة لا يمت معظمها- لنظم ومناهج وآليات الدين الإسلامي-بأي صلة، مثل(نظام التعليم للأولاد والبنات ونظام العمل والمنهج السياسي والنظام المالي ونظام التعيين في المناصب...إلخ) فلذلك هم يسيرون إلى الانحدار ولكن بسرعات متفاوتة وبأشكال مختلفة، فالقضية يجب أن تفهم على أساس أن هناك آليات ونظم ومناهج وقوانين وسنن يجب إتباعها والعمل بها، فالقضية ليست فوضى(ومزاج وهوى) كما يظنها البعض، وكثرة التكرار والتصريح بإتباع منهج السنة والجماعة أو السير على خطى أئمة أهل البيت لا يعني أن الأمر صحيح، فالصحيح هو ما ظهر على أرض الواقع ولمسه الناس وذاقوا واستطعموا صحته وتأثروا بها وظهرت على أحوالهم "الفكرية والنفسية والروحية والمادية"، لذا فيجب أن تكون الدعوة إلى التقرب من الحق وإتباعه دون مزايدات، فالحق ساطع وصريح يعبر عن نفسه بوضوح، ولا يراه إلا الباحث عن الحقيقة المتجرد من الهوى المضلل والأماني المريضة والآمال الخادعة.(29/8)
وبعض الأخوة من أتباع المدارس التقليدية لأهل السنة والجماعة مثل(السلفية الوهابية)، وخاصة من أولئك الذين لم يخالطوا (الشيعة) يعتقدون بضرورة مناصبتهم العداء والعمل على حرمانهم من الحقوق التي كفلها الإسلام سواء كانت في الترقية الوظيفية أو الجيرة وغيرها، ويعتبرون ذلك من أساس المعتقد وكمال الإيمان، وهذا التصور والمعتقد أتى نتيجة لاعتقادهم بضرورة الأخذ ببعض الفتاوى القديمة التي أصدرها علماء وفقهاء أهل السنة والجماعة، والتي كانت في وقتها فتاوى صحيحة، حيث إنها كانت تعالج أحداث سياسية وعسكرية ودينية واجتماعية، وقف فيها كل(الرافضة والمتسمين الأن باسم الشيعة) ودون استثناء موقف العداء لأهل السنة والجماعة والأمة الإسلامية، ونحن نعتقد أن تلك الفتاوى القديمة لا تناسب الأوضاع الحالية وذلك بسبب تغير الظروف والأحداث والمواقف مع مرور الزمن وتغير الحالة العامة(السياسية والعسكرية والدينية والفكرية والاجتماعية)، حيث أصبح المتآمرين على الأمة الإسلامية من قيادات الشيعة أو الرافضة يختبئون وراء العوام الغافلين، كما يختبأ بعض علماء وقيادات أهل السنة والجماعة وغيرهم من الفرق الأخرى و الحكام و(العلمانيين)المتآمرين خلف العوام الغافلين، فالمسلم المعاصر يجد نفسه أمام شبكة عريضة معقدة ومتشابكة من المعتقدات والأفكار والتصورات والتوجهات، فتعدد الجبهات وتشعبها واختلاف طبيعتها جعلت المسلم الباحث عن الحقيقة في حيرة من أمره، يخاصم ويحارب من ويصالح من؟!.(29/9)
فنحن نعتقد أن صورة وطبيعة العلاقة التي يجب أن تكون بين(السنة والشيعة) في الوقت الراهن هي علاقة (عدل وإحسان)، فالله سبحانه وتعالى هو المطلع على السرائر والنوايا، فعلاقة العدل والإحسان يجب التعامل بها خاصة مع العوام (المحيرين!!!) في دائرة- متينة مغلقة- من الأوهام والتصورات الخاطئة والقصص والأساطير والروايات الخرافية المغلفة بالعاطفة، والمدعمة بشبكة عريضة متشابكة ومعقدة من الفتاوى المضللة، والمطعمة والمدعمة بأسماء أئمة أهل البيت رضوان الله عليهم-وهم من كل ذلك براء-، وهذا التطعيم والتدعيم وضعه المدلسون منذ القدم ليسهل الأمر للأفكار الخاطئة والأساطير والتصورات الفاسدة التسلل إلى القلب والعقل من أجل تحقيق نوع من الأسر النفسي والإرهاب الفكري الذي يسهل عملية الاغتصاب والنهب الفكري والسلب الروحي، والذي عادة ما يكون كمقدمة للنهب والسلب المادي، فهم ضحايا المكر الوعر الخبيث وضحايا الحرمان الفكري كغيرهم من بعض المسلمين، مثل بعض أتباع المدارس التقليدية لأهل السنة والجماعة، أو(العلمانيين) من المسلمين، فهم يعيشون بغيبوبة وسكرة فكرية تامة، وذلك بسبب الوقوع بالفتن وإتباع الشبهات مع((اختلاف النسب واختلاف طبيعة تلك الفتن والشبهات واختلاف مسافة القرب منها وعمق الإرتكاس بها))، وكذلك بسبب الاغتصاب الفكري والسلب الروحي الذي مورس و هو لا زال يمارس على معظم المسلمين وبأيادي مختلفة وبطرق متنوعة، بل حالهم-أي الشيعة- وخاصة المتعصبين للمذهب وحسب ما أعتقد أدهى وأمر، فهم وضعوا كل ما يملكون من عقل بأيدي سادتهم ولم يبقوا لأنفسهم شيء منه إلا النزر اليسير ليعينهم على بعض شؤونهم الحياتية و المعاشية، فهم ألغوا شيىء أسمه التدبر والتفكير في شؤون العقيدة والدين، وشطبوا من أجنده عقولهم خانة التأمل والتحليل والمراجعة، وأعرضوا عن قراءة آيات الله في الأنفس والآفاق، فهم يأثمون وبلا شك على ذلك، فتلك الدائرة الشيطانية(29/10)
الماكرة المتينة الوعرة وضعهم بها عتاة وأئمة المدلسين، ورعاها سادتهم وعلمائهم لأنهم لا يعلمون و لا يفقهون شيئاً، وبعضهم لا يعلمون بأنهم لا يعلمون، فهم يعيشون بجهل تام، وتلك بحد ذاتها تعتبر من أهم العثرات التي تمنع من الوصول إلى الحق ورؤية الحقائق، فإذا كان ما يسمون علماء وفقهاء لا يعلمون بأنهم لا يعلمون، فكيف بالعوام الذين أسلموا زمام عقولهم ووضعوها بأيد علمائهم- المعاقين عقلياً والمدمرين فكرياً- ليمارسوا عليها أسوأ وأدهى الممارسات، مثلهم مثل بعض علماء أهل السنة والجماعة وغيرهم من أتباع مناهج ونظم السلاطين والحكام، فأهل السنة والجماعة ( من بعض أتباع المدارس التقليدية المصادرة والموظفة من قبل بعض الحكام مثل السلفية والوهابية*) والشيعة مختلفون في العقائد مجتمعون بالنتائج مع اختلاف نسبها وطبيعتها، والمتمثلة بالإعاقة العقلية وانعدام الرؤية السوية، فيجب معالجة النتيجة بعد معرفة السبب!!!، ومن أراد الدليل والوقوف على المزيد من الحقائق لمعرفة الأسباب، عليه كبح جماح هواه للتأمل ولقراءة الصفحات الروحية والمادية للواقع اليقيني بتجرد وبهدوء وروية وتدبر فهي أبلغ دليل، ونعني بالواقع اليقيني هو (البعد المادي والروحي مجتمعين) أو هو (الواقع المادي الملموس والروحي المنظور من خلال الخبر الصادق-الكتاب والسنة- والمتمثل على أرض الواقع والذي لا يراه إلا المؤمنين الذين تجنبوا الفتن والشبهات) وهو واقع يقيني(لا يراه من انفصل فكرياً وعقلياً وروحياً عن الخبر الصادق-الكتاب والسنة-، ولا يراه من يعاني من حالة الانشقاق الفكري*، فبسبب هذا الانفصال و الانشقاق أصبح يعيش بعقل برزخي يرى الأمور بعين واحدة وهي عيني رأسه فيسميها واقع وهو في حقيقة الأمر وهم كبير مجسد على أرض الواقع)، والواقع اليقيني هو الواقع الصحيح الحق الذي لا يتجاهله من المسلمين إلا مكابر أبى إلا أن يعيش بالوهم الكبير والسير وراء السراب والجري(29/11)
وراء الفتن والوقوع بالشبهات ولو بالزي والشعار الإسلامي، والواقع اليقيني هو الواقع الذي لا يراه المعاقين عقلياً والمدمرين فكرياً من العلمانيين الذين استمدوا تصوراتهم وقيمهم وأفكارهم من المنابع الفاسدة للجاهلية الغربية.
إذن يجب أن تكون الدعوة إلى استخدام العقل وتنشيط الفكر، فالقضية لا تحتاج إلى حوار وجدل عقيم فمن سبقونا لم يتركوا شيء، إن المسألة تحتاج إلى حوار صادق مع النفس، وتحتاج للمراجعة والبحث والتأمل والتدبر وطلب التوفيق والهدى من الله.
ونحن ندعوا أنفسنا والمسلمين إلى الحرص على عدم تصعيد الخلاف فمسألة العقائد مسألة مبينة وواضحة ومحسومة في كتب علماء أهل السنة والجماعة، والعقل الواعي السليم الذي لم يدخل بالغيبوبة الفكرية ولم تطاله السكرة التي نتجت عن الوقوع بالفتن وإتباع الشبهات سيستدل عليها بسهولة ويسر، فلا يجب أن تأخذ المسائل بعصبية وتشنج، وتصعيد الخلاف هو مبتغى أعداء الله ورسوله-صلى الله عليه وسلم- خاصة في ظل الظروف الراهنة، وهم أوجدوا هذا الخلاف لتعيش الأمة في فرقة وتشتت دائم تام، يمزق بعضها بعض، ويتربص بعضها ببعض، ويجتهد بعضها على بعض، وينحر بعضها بعض، والشياطين وأعوانهم يرعون جميع الأطراف المتناحرة رعاية متواصلة، فيجب أن يوجه الجهد نحوهم.أي نحو الصهاينة اليهود والنصارى المتآمرين، والعلمانيين من المسلمين المصرين على إتباع الباطل والدفاع عن أهله، وكذلك نحو القوميين والاشتراكيين –كحزب البعث- وكل المنادين بالعودة إلى عصور الغاب والبدائية والهمجية والتخلف، فيجب على المسلم أن لا يجعل من نفسه أداة تنفذ مخطط أعداء الأمة الإسلامية.(29/12)
ونحن نعتقد بأن مسألة التقريب مع الشيعة مسألة مستحيلة بسبب فساد معتقدهم وانحراف مسلكهم، فدولتهم-المتهالكة والآيلة للسقوط- في إيران تشهد على ذلك، فهي مسألة لا تحتاج إلى جدال "فالنقل الصحيح والعقل السليم" يدلان عليها، ((أي أمامنا تجربة وعلينا المشاهدة والاستنتاج لنستدل على نجاحها وصحتها أو فشلها)) ومن أراد تعطيل العقل وتأجيره للغير وتركه للنهب والاغتصاب والاعتماد على النقل الفاسد الذي بين يديه ويتعامى عن النتائج التي يشاهدها بعيني رأسه فهو حر مخير في ذلك، وهو بلا شك يعاني مشكلة ما بعقله المعطل من قبل الهوى والأماني الفارغة المريضة، فحسابه وجزائه على الله، والعاقبة للمتقين، كما إنني أعتقد، والله أعلم، لقد أقيمت الحجة عليهم-عدا الحجج الأخرى- بقيام الدولة (الباطنية) التي ظهرت نتائجها السيئة جلية وواضحة للعيان لا يتجاهلها إلا مكابر أبى إلا أن يعيش بالوهم الكبير والجري وراء السراب.(29/13)
فيجب إعادة تأسيس دولتهم وتدعيمها بالمعتقد وبالمنهج الصحيح الأصيل، ونحن لا نتمنى لهم الدمار والانهيار بل نتمنى لهم العزة والرقي ولا يكون ذلك إلا بالمنهج الصحيح، كما إننا نأمل باندثار وانحسار كل القيم والمعتقدات الباطلة الفاسدة التي أدت إلى هذا الضعف والانهيار، كما نعتقد أنه من الواجب علينا بيان فساد معتقدهم وسوء مسلكهم وتنبيههم إلى خطورته وأثره على"النفس والدين العقل والعرض والمال"وخطورته على قيم الجنس البشري برمته، وهذا من العدل والإحسان، وهذا واجب علينا نؤديه تجاههم لأننا نعتقد بأن هناك الكثير من الخير بهم يجب أن يصب ويوجه إلى الجهة الصحيحة لتنتفع به الأمة الإسلامية قاطبة، وكذلك بالنسبة لأهل السنة والجماعة نجد من واجبنا بيان خطورة التساهل والتهاون وارتخاء القبضة عن الحق الذي بأيديهم، فالتراخي كذلك يؤدي إلى ذهاب العقل وفساد التصورات وانحراف المسير، والأمة الإسلامية لا تنهض ولا ترتقي إلا بجناحيها القويين وهما كتاب الله وسنة نبيه-صلى الله عليه وسلم-،ونحن ندعو للتعايش ببوتقة العدل والإحسان مع الشيعة وغيرهم من المسلمين((مع الحرص على بيان المعتقدات والأعمال الفاسدة المضرة"بالنفس والدين والعقل والعرض والمال"))، للتمهيد و للانتقال بإذن الله وبتوفيقه إلى بوتقة علاقة الأخوة الإيمانية لتنصهر بها الأمة الإسلامية وتصبح متحدة الكلمة متحدة التصور والرؤية متحدة المشاعر متحدة الراية لأنها تعبد رب واحد وبيدها كتاب واحد وتتبع نبي واحد وهو خاتم النبيين والرسل-صلى الله عليه وسلم-.(29/14)
وكذلك نحن ندعو للتقرب من الحق والبحث عن الحقيقة وسط هذا الركام من الأفكار والتصورات والمفاهيم والقيم الفاسدة، ونحن لا ندعو لذلك من أجل الحفاظ على الوحدة الوطنية أو اللحمة القومية كما يقال، فهي دعاوى الغافلين المغيبين عن الوعي، كما هي دعاوى الغوغاء والهمج والرعاع والمستفيدين من الفوضى والتفكك والاختلاف والانهيار، بل ندعو لذلك من أجل الوحدة الإسلامية والتي لا تكون إلا بإتباع الحق ونصرته لكسب رضى الله جل شأنه، والله هو الحق.
فالتقريب دعوة علماء الحكام والسلاطين، وهي دعوة قديمة مُجددة، فعلماء الحكام والسلاطين لا يعنيهم وقوف الناس على الحقائق اليقينية ورؤيتها، ولا يعنيهم حفظ حقوق الناس وصيانتها والمتمثلة بحق حفظ "النفس والدين والعقل والعرض والمال"، بل بعضهم يحرص على بقاء الناس بلا عقل وبلا قيم مثل ما هو حاصل الأن، فذلك سيسهل المهمة على العاملين في تشغيل النظم والمناهج الغربية الفوضوية، وكذلك سيسهل الأمر على الناشطين بتسويق عقائد الشياطين، فعلماء الحكام والسلاطين همهم إرضاء السلطان وتثبيت حكمه ولو على حساب سوء الحالة الإيمانية للرعية، فما يرضي الله جل شأنه لن يرضي السلطان الذي يدير أمور الخلق بآلية ومناهج الشيطنة ونظمها، هذا والله الموفق والعاقبة للمتقين.(29/15)
*آليات العمل في الكويت والمملكة: تدار (بتروس) ونظم ومناهج "الشيطنة" مع اختلافات بسيطة في شكل آلية العمل، والجماعات الدينية (السلفية أو الوهابية وجماعة الإخوان المسلمين (والشيعة-خاصة في الكويت)) يشكلون (تروس) وسط تلك الآلية، وتسهيل العمل لهم وإمدادهم من القبل الحكومات مادياً ودعمهم معنوياً يعتبر كالتزييت الذي يساعد (التروس) على الدوران داخل (المكائن) لتسهيل الحركة العامة "للشيطنة"، وهو كذلك يعتبر إمداد بالطاقة من مصدر ومنبع ملوث التصور والنية ومُختلف الهدف يسمم أفكارهم ويغيبهم عن الوعي، ويشتت جهدهم ويحد من حركتهم، ويصيبهم (بالوهن)، ويجعل بأسهم بينهم شديد،(فالمسألة مسألة قوانين وسنن يجب أن تدرس وتفهم جيداً)، فهم ومع الأسف الشديد أصبحوا جزء لا يتجزأ من آليات العمل ويمدون و من دون وعي منهم آليات ونظم ومناهج "الشيطنة" بالحياة والقوة والحركة لتطحن قيم المجتمع وتجرشها ولتَدرِس أنفس وأرواح الناس وتؤذيها،مثل التربية والتعليم والإعلام والبنوك...إلخ، وهذا العمل يعتبر عمل غير صحيح و غير صالح و لن يكون مصلح،وهو لا يرضي الله سبحانه وتعالى، وصاحبة يأثم عليه أثم كبير مهما كانت الحجج والمبررات، هذا في حالة إحساسه واستشعاره بالنتائج والتعامي عنها من أجل (مصالح خاصة أو عامة محدودة) تضر المجتمع المسلم، فإن كانت الناس تخدع فإن الله سبحانه وتعالى لا يخدع، وأما إذا كان في غفلة من أمره فعليه الانتباه لخطورة الأمر إذا كان من المصلحين، فالحركة مع آليات ونظم ومناهج (الكفر والشيطنة) يعتبر شذوذ عن الفكر الإسلامي الأصولي، وهو تنافر بين الفكر الإسلامي الأصولي والحركة الإسلامية الأصولية، فيجب أن تتوافق الحركة مع الفكر ليتم القضاء على المكر-الذي عاث بالأرض فساداً- حسب الأصول الشرعية للأوامر الربانية.(29/16)
* حالة الانشقاق فكري هي: انفكاك التكامل بين الوحي الصحيح-الكتاب والسنة-من ناحية والعقل الصحيح والحواس السليمة من ناحية أخرى، وهي الحالة التي يعيشها من وقع في الفتن وأتبع الشبهات، ولِبسْ الزي الإسلامي مع قصور في التصور أو مع تنافر الفكر والحركة لا ينجي من تلك الحالة.
"إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإصْلاح مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ(88)"(هود).
ونسأل الله أن يؤلف بين قلوب المسلمين ويرد لهم وعيهم ويلم شملهم ويحفظ بلادهم ويصون أعراضهم ويحقن دمائهم، ويرد كيد الأعداء إلى نحورهم ويشل حركتهم ويبطل مكرهم ويفل حدهم ويعطل آلتهم، اللهم آمين، وأخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين ولا عدوان إلا على الظالمين، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون وسيعلم الكفار لمن عقبى الدار.(29/17)
الثورة الماركسية للخميني قتلت محمد وموسى الصدر
مشاركات القراء
بسم الله الرحمن الرحيم
لاشك أنّ العنوان غريب على أذهان الكثيرين لكنها الحقيقة التي لابد من معرفتها.
وحتى نصل إلى هذه الحقيقة لابد لنا من تعلم بعض القواعد في فهم حركة التشيع السياسية التي من عرفها يمكن له فهم ما جرى وتوقع ما سيجرى .
القاعدة الأولى: الشيعة ليسوا كتلة واحدة بل هم كتل متباينة على مستويات متعددة وهذا تطبيق قوله تعالى ( تحسبهم جميعا وقلبوهم شتى )
فهم إخبارية وأصولية في المذهب
ومحافظين وإصلاحيين في السياسة
وعرب وفرس وترك في القومية
وفى الحكم ولاية الفقيه أو شورى الفقهاء أو ضدهما !
وفى التغير ثورية ماركسية أو ديمقراطية ليبرالية
ويمكن إيجاد فوارق أخرى بالتأمل والبحث ، والمهم هو إيضاح تفرقهم وعدم التعامل معهم على انهم كتلة موحدة .
القاعدة الثانية: هذه الاختلافات قد تتقاطع أو تتوازى أحيانا ، فقد يكون الشخص أصولي ، فارسي ، يؤمن بشورى الفقهاء ، ديمقراطي معادٍ للشيوعية مثل الشيرازي
وآخر اصولى فارسي يؤمن بولاية الفقهاء ثوري متعاون مع الشيوعيين مثل الخميني
فهما أصوليان فارسيان لكن منهج الحكم والتغير متعارضان وقد يكون السبب التنافس الشخصي أو البيئة المختلفة ( الشيرازي / العراق ، الشيوعية قوية وحاكمة ------ الخميني / إيران ، الرأسمالية قوية وحاكمة )
لكن العداء قوى بين الشخصين والمنهجين وحادثة وفاة الشيرازي واعتداء الايرانين على جثمانه مثال على ذلك .
القاعدة الثالثة: هناك صراع قوى وحقيقي بين هذه الأجنحة المختلفة كما سبق في مثال وفاة الشيرازي وهذا تطبيق قوله تعالى ( بأسهم بينهم شديد ) وهذا أمر مشاهد ومعلوم قديما وحديثا لكن غير مستفاد منه في حركة أهل السنة في جهاد الروافض.(30/1)
القاعدة الرابعة: البداية اليهودية للتشيع أمر معروف والتشابه بين التشيع واليهودية في الأفكار والأعمال قد الفت فيه الكتب ( منها بذل المجهود فى إثبات تشابهه الرافضة لليهود لعبد الله الجميلى ) لكن هذه اليهودية ليست شرطا في كل شيعي فقد يكون الشيعي ولو كان مرجع كبير مغفل كبير !
وقد يكون مدرك إبعاد المشروع اليهودي / الشيعي وهؤلاء غالبا من ليس لهم
اصل واضح ( كما يقول الموسوي عن الخميني في الثورة البائسة ص 148) او من يأتى بتطوير في المذهب كالخميني أيضا !!
القاعدة الخامسة: من طبيعة الأمة اليهودية أنها تنجب دوما مذاهب وأفكار جديدة تلائم الوضع المعاصر ومن هذه المذاهب الجديدة الشيوعية ونسبتها لليهودية ليس موضع جدال ، ويبقى البحث عن العلاقة التي سوف تكون بين الأبناء وفهمها حتى لا نقع ضحية الجهل والسطحية .
والعلاقة المفترضة بين التشيع والشيوعية لا تعنى الإلحاد – وان كان التشيع في الحقيقة مذهب ملحد لا يؤمن بالرب بل ببشر يقومون بدور الرب – بل المقصود هو التعاون لتحقيق الأهداف اليهودية من خلال أشكال متعددة فاليهودية ترى أنهم أبناء الرب والكل خدم لهم ولهم حكم العالم والتصرف به .
والتشيع هو مناصرة آل البيت – زعموا – حتى يحكموا العالم ويظهروا عندها القرآن الحقيقي أو الوحي الغائب وعندها سيحكمون بشريعة داود ويقتلون العرب وقريش !!!
والشيوعية هي أن يحكم الشعب ! نفسه من خلال الحزب والحزب تحكمه اللجنة المركزية واللجنة كلها أو اغلبها يهود لأنه لا فوارق دينية بين الشعب !
وهكذا تتحقق الأهداف ولا يهم من الذي وصل إليها أو لا ً .(30/2)
ولا يعنى هذا ان كل شيعي يفهم هذه العلاقة ويعمل من خلالها بل هناك الكثير من الشيعة يحارب الشيوعية لعدم الفهم للاصول اليهودية للتشيع ، وهذا يقع عند السنة ان يحارب بعضهم امور هى اسباب تمكينهم مثل فقه الواقع او التنظيم والعمل الجماعى وغير ذلك فهذا هو الشذوذ الذى يؤكد القاعدة .
بعد عرض هذه القواعد افصل فى مقصد البحث وهو الثورية الماركسية عند الخمينى وكيف انها كانت السبب فى قتل زعيمين بارزين فى الشيعة هما محمد الصدر وموسى الصدر لانهما يحاربان الشيوعيه ويملكان (تنظيمين) يمكن ان يعيقا الخطة الخمينية (تصدير الثورة).
أولا ً: الادلة على ثورية الخمينى الماركسية الشيوعية
1- الدكتور موسى الموسوى شيعى ايرانى معاصر للخمينى بل على علاقة جيدة معه وكان من المشاركين فى صنع الاحداث كتب كتابه الثورة البائسة ليبين حقيقة هذه الثورة فذكر تعاون الخمينى مع حزب توده الشيوعى ص 31 وانهم الذين احتلوا السفارة الاميركية ص 103 وذكر شيوعية الثورة الخمينية صراحة ص 171 وبين الممارسات الثورية الشيوعية من القتل الدموى وانتهاك الاعراض فى المحاكمات الثورية ص136 وحكم عليه ص174 فقال :( لا اجد صعوبة فى رمي الخمينى بالشيوعية مع ما عليه من الطيلسان والعمة والرداء )
2- نص الدستور الاسلامى ! للجمهورية الايرانية على اصول شيوعية منها
التأ ميم فى المادة 108 فى الطبعة الاولى والان اصبحت مادة 44 وتنص على تأميم الصناعات الكبرى والصناعات الام والتجارة الخارجية والمناجم الكبيرة والعمل المصرفى والتأمين والطاقة والسدود ......
كانت المادة 117 تنص على ثورية الدولة ثم رفعت منه وكان خامنئى قد صرح لمجلة الوطن العربى عدد 109 بمناسبة مرور عام ونصف على الثورة عن اهداف الثورة فقال ( اول اهداف حزبنا هو بث التوعية الاسلامية السياسية والتربية الثورية بين صفوف الشعب الايرانى )(30/3)
3- التعاون المطلق مع الشيوعيون بكل الوانهم قبل الثورة واثنائها وبعدها
وهذا ذكره كل من تعرض للثورة الايرانية فسامى ذبيان فى كتابه ايران والخمينى ص 17 عدد اسماء التنظيمات اليسارية التى دعمت الخمينى
ةيقول ص 9 عن المفاهيم التى تحملها الثورة انها( يسارية ماركسية الى يسارية عروبية الى دينية تقدمية ) وانظر وجاء دور المجوس ص285 مع التحفظ على توجيه المؤلف للموضوع و الحقائق التى تخالف ما ذهب اليه.
ثم لما اصبح وجود الشيوعيون فى الصورة مزعج جرى ابعادهم مع استمرار المخطط ولذلك لم يعترض الروس على الابعاد ولم ينقطع التعاون بينهم .
4- الباحث الفرنسى اوليفه روا فى كتابه تجربة الاسلام السياسى يقول عن التشيع المعاصر وتحولاته انه ( يتحول فى القرن العشرين الى اداة للإستيلاء على السلطة وعندئذ إنبثقت على هوامش المذهب تركيبة توفيقية بين السلفية التقليدية والايديولوجية المتمركسة )
5- التعاون والتنسيق مع الروس واتباعهم لهذه الثورة قائم من قبل ان تقوم الثورة نفسها فقد تولت ليبيا وكوريا الدعم المالى والتقنى لتهيئة الكوادر على ارض لبنان وبلغ الدعم 100مليون ! ( ايران مستودع البارود ،ادور سابليهص17 وجاء دور المجوس ص274
وبعد قيام الثورة قدم الروس الدعم الاقتصادى لها بتوقيع برتوكول لتنشيط الاقتصاد شمل قطاع الطاقة والكهرباء والسدود والاسلحة والخبراء الفنيين فى عام 82 ( مجلة الحوادث عدد 1321 ) وهذا فى الوقت الذى كان العالم الاسلامى يقاطع روسيا على غزوه لافغانستان كان الشيوعيون يدعمون الشيعة فى ايران !!!
ودعم الروس الايرانيين بالاسلحة فى حربهم مع العراق واجريت محادثات لعقد معاهدة دفاع مشترك عام 87 ( الراى الاردنية 21/11/87 )
وهذا الدعم الروسى لايران لايزال قائم على اعلى المستويات وهو المفاعلات النووية !
6- ان الدول الصديقة لايران والتى تدعم ايران هى الصين كوريا روسيا وكلها شيوعية.(30/4)
7- اما الخمينى وصدام فقد كا نت العلاقة بينهما جيدة فى الوقت الذى كانت علاقة شيعة العراق به سيئة حيث ان قدوم الخمينى للعراق كان عام 65 وغادرها عام 78 بينما الشيعة العراقين( الصدر) قد تصادموا مع البعث بعد استيلائهم على السلطة عام 63 وهذا يذكره الموسوى فى الثورة البائسة ومن الغريب ان الخمينى مع بقائه فى العراق 13 عاما كان ضعيف الصلة بالصدر !!!مقال الفكر الجديد ص16
هذه ادلة كافية لمعرفة التوجه اليسارى للثورة الايرانية وهذا التوجه يراد به تبنى النظرية اليسارية فى العمل السياسى وهى ( نظرية العنف الثورى )
وذلك ان الشيعة تؤمن مثل اليهود بالانتظار حتى جاء هرتزل الصهيونى بالعمل من اجل صهيون وكارل ماركس الشيوعى بنبذ الاديان ودمج اليهود مع الاخرين حتى يتمكنوا من السيطرة عليهم والخمينى عند الشيعة بعدم انتظار المهدى الذى قد يتاخر الاف السنيين واخترع ولاية الفقيه لمزيد من التوسع انظر حقيقة المقاومة ص23
ثانيا :قصة قتل الخمينى لمحمد الصدر
كنت قد سمعت هذه القصة من استاذى محمود عبد الرؤف القاسم لكن لم اهتم بها حتى وجد ت الشيعة يذكرونها وينادون بدراستها واستخلاص الدروس منها
وسوف اعتمد على دراسة مطولة عن محمد الصدر بعنوان ( الامام الشهيد محمد باقر الصدر مراجعة لما كتب عنه باللغة الانجليزية بقلم د . عبد الرحيم حسن ) نشرت فى مجلة الفكر الجديد القريبة من حزب الدعوة العراقى عدد 6 وحصلت عليها من الانترنت .
وهنا ملاحظة وهى تعدد الكتابات الغربية عن الصدرخصوصا والشيعة عموما وعدمها عند اهل السنة
وهذا فرع من الاستهزاء بالعلوم الانسانية .(30/5)
من المشهور موقف الصدر المعادى للشيوعية ولذلك كتب اقتصادنا ورد على الماركسية وإصطدم بالبعث والصدر قد اسس حزب الدعوة الشيعى وكان يتبنى العمل السياسى وهنا مسألة هامة جدا ذكرها الباحث الفرنسى اوليفه روا فى كتابه تجربة الاسلام السياسى ص178 ( ان الشاه قد دعم الصدرين محمد وموسى فى العراق ولبنان ) لمحاربتهما للشيوعية التى تحارب الشاه.
وهذه الامور تشكل خطر على الخمينى وفكره بعكس بقية المراجع الذين ليس لهم تنظيم اوعداء مع الشيوعية ولما عارضوا ولاية الفقيه تمكن الخمينى من محاصرتهم اوسجنهم دون ان يدافع عنهم احد .
وهذا التميز للصدر عن المراجع الاخرين كان سبب قتله بحيلة ذكية وهى دعوة الخمينى علنا للصدر فى الاذاعة الايرانية القسم العربى بالبقاء فى النجف وقلب نظام الحكم ؟؟!!ومن يعرف طبيعة الاشياء يعرف ان هذه الرسالة لاتصدر إلا من حاقد يريد الإضرار بمن وجهة له الرسالة .
وعلق د . عبد الرحيم كاتب المقال على هذه الرسالة ص 15 ( ما فعله القسم العربى فى اذاعة الجمهورية الاسلامية خلال تلك الشهور العصيبة يستحق ان يصبح موضعا لدراسة مستقلة و تفصيلية خالية من المجاملة بغية الاستفادة من الاخطاء وعدم تكرارها فى تجربة مماثلة ) ولاحظ اللغة الدبلوماسية فى الاتهام للخمينى ! وكان ص 13 ذكر النتيجة التى وصل اليها صاحب مقال دور محمد الصدر فى النشاط السياسى الشيعى من عام 58/80 بقوله: (إنّ الضربة القاضية جاءت من إيران وقد أذاع الامام الراحل السيد الخمينى من ايران رسالة .. توصى الصدر بالبقاء فى الحوزة)
وهذه الرسالة ايضا تعرض لها جودت القزوينى فى مقاله ( اشكالية الفقهاء والدولة وبدايات الحركة الاسلامية فى العراق ) والذى نشر فى مجلة الفكر الجديد عدد 2 فقال ( فوجىء الصدر باذاعة طهران القسم العربى وهى تذيع برقية بعثها اية الله الخمينى تستحثه بعدم مغادرة النجف والتصدى لحفظ الكيان العلمى لهذه المدينة .....)(30/6)
وعلق على البرقية بقوله ( يستلفت النظر امران :1/ ... يلقبه بلقب لايتناسب مع مقامه العلمى ...2/ اسقط الخمينى من حسابه ردود الفعل الرسمية العراقية .....) ويقول ايضا ( ان الصدر لم يكن عازما على مغادرة العراق وكان متألما من العناصر التى سعت الى الخمينى لحثه على كتابة هذه البرقية ) ويعزوهذا الكلام لعامر الحلو فى كتابه تاريخ الحركة الاسلامية فى العراق ص 123
وكانت نتيجة البرقية ان قامت المظاهرات تأيداً للصدر ثم القت السلطات العراقية القبض عليه ووضعته فى الاقامة الجبرية حتى زال الحماس له قتلته فى 8/4/80
وهكذا استطاع الخمينى ان يزيح احد العقبات من امامه دون ان تتلطخ يديه بدمه .!!
ثالثا : إختطاف الصدر !
موسى الصدر هو حفيد عبد الحسين شرف الدين العاملى وهو ايرانى الجنسية لكنه عربي اصلا من لبنان وعاد الى لبنان بناء على طلب من جده ليخلفه فى الطائفة ودعم الشاه هذا التوجه بالمال والجاه !
وموسى ليس من المتدينين اصلا فهو خريج كلية الحقوق والاقتصاد والعلوم السياسية من جامعة طهران وبعدها درس فى الحوزة سنتين منها على الخمينى
وعند مجيئه الى لبنان منح الجنسية اللبنانية فورا .( وجاء دور المجوس 409/ وحقيقة المقاومة 25)
موقف موسى من الشيوعية كان موقفا عدائيا معلنا وذلك مجلة الحوادث فى عددها 8/2/2002 جعلت الموضوع الرئيسى لها ( موسى الصدرالامام الساحر الذى افقد اليسار اللبنانى قاعدته شعبيته ) ولهذا ارسله الشاه للبنان لمقاومة الشيوعية بين الشيعة التى ذكرنا فى النقطة الاولى انها كانت تتخذ من لبنان مركز تدريب لكوادر الخمينى بدعم ليبى التى ستخطف موسى من طريق الخمينى .
و سبق كلام الباحث الفرنسى عن دعم الشاه للصدرين بهدف ايجاد تيار شيعى معارض للشيوعية والذى يمثله الخمينى الذى ازاح الثلاثة من طريقه (موسى ، الشاه ، محمد) حسب الترتيب !(30/7)
وكان موسى يحارب الشيوعية من خلال تدريس كتب محمد باقر اقتصادنا وفلسفتنا فى الحسينيات والتجمعات الشيعية (حقيقة المقاومة 62) وتقول مجلة الحوادث فى العدد المشار اليه عن طبيعة نشاط موسى انه كان يعمل ب( تخطيط مسبق على استعادة الجيل الجديد من الشيعة من حظيرة الاحزاب اليسارية )
والمهم ان موسى صنع للشيعة فى لبنان كيان مستقل ووضعهم على واجهة الاحداث بعد ان كانوا على هامش الاحداث وتبلور لهم تجمع لكنه فى حركته السياسية لن يتقاطع مع اليسارين ( الخمينى وسوريا وليبيا ) ولذلك كان لابد من ازاحته من الطريق وخاصة ان قطف الثمرة الايرانية قد اوشك ولهذا حين زار موسى ليبيا فى 25/8/78 لم يعد ؟؟
وعندها لم يسكت الخمينى على هذا فوجه برقية لليبيا !!! ولكن لم يعد موسى للان بعد 24 عام . والغريب ان العلاقات لم تقطع واى حادثة اعتداء شيعية على مصالح ليبيا لم تقع ! مع ان القوم لايعجزون عن ذلك لو كان هذا على غير مرادهم.( وجاء دور المجوس 424)
ويبين عبد المنعم شفيق فى حقيقة المقاومة ص74 اسباب خطف الصدر
بان موسى الصدر كان له مشروع كبير هو الوصول الى امانة الطائفة فى العالم ( مقابلة علي الجمال لمجلة الشراع 6/9/99 ) كما كان محمد باقر يسعى لحكومة شيعية عالمية (مجلة الفكر الجديد عدد6 مقال عبد الرحيم السابق ص8) وهذا يشكل منافسة خطيرة على الخمينى .
وبهذا يتضح لنا جانب مستور من تاريخ الخمينى والايام كفيلة باظها رمزيد من الوثائق والحقائق ويبقى علينا ان نعرف قواعد الحركة السياسية الشيعية ونتابع تطبيقاتها ونتوقع حركاتها القادمة لنضع العوائق امامها
والله ولي التوفيق
http://www.ansar.org/arabic/marksi.htm(30/8)
الجامع الناسف لجميع الأحاديث الواردة بشأن دستة ال12 إمام .. من كتبهم ..
تبيان الأحاديث الواردة بشأن دستة الأئمة و تبيان خوائها من الحجة
(تم الإستعانة بمصادر أخرى في البحث و يعتبر بتمامه من مجهود الأستاذ أحمد الكاتب بتصرف)
الروايات السنية حول (الاثناعشرية)
ينقل الصدوق في : (اكمال الدين): عن احمد بن الحسن القطان المعروف بابي علي بن عبدربه الرازي قال حدثنا ابو يزيد محمد بن يحيى بن خلف بن يزيد المروزي ،بالري في شهر ربيع الاول سنة 302 عن اسحاق بن ابراهيم الحنظلي في سنة 238 ،المعروف بابن اسحاق بن راهويه عن يحيى بن يحيى عن هشام عن مجالد (خالد خ ل )عن الشعبي عن مسروق قال : بينا نحن عند عبدالله بن مسعود نعرض مصاحفنا عليه اذ قال له فتى شاب (وفي رواية اخرى ص 271 :اعرابي ) : هل عهد اليكم نبيكم كم يكون من بعده من خليفة؟..قال : انك لحدث السن وان هذا شيء ما سألني عنه احد من قبلك ، نعم عهد الينا نبينا انه يكون من بعده اثنا عشر خليفة بعدد نقباء بني اسرائيل .
المصدر 272
ويقول الصدوق : ونقل مخالفونا من اصحاب الحديث نقلا ظاهرا مستفيضا من حديث جابر بن سمرة ، ما حدثنا به احمد بن محمد بن اسحاق الدينوري قال حدثني ابو بكر بن ابي داود عن اسحاق بن بن ابراهيم عن ابن سيرين عن جابر بن سمرة السوائي قال : كنا عند النبي فقال : ( يلي هذه الامة اثنا عشر ) قال فصرخ الناس فلم اسمع ما قال : فقلت لابي ـ وكان اقرب الي رسول الله مني ـ ماقال رسول الله؟.. فقال : قال : ( كلهم من قريش وكلهم لا يرى مثله) .
وفي رواية اخرى : ( يكون بعدي اثنا عشر اميرا ) ثم اخفى صوته ، فقلت لأبي : ماالذي اخفى رسول الله؟ قال قال: (كلهم من قريش ).
المصدر 272
ويعقب الصدوق على ذلك بقوله : وقد اخرجت طرق هذا الحديث ايضا وبعضهم روى ( اثنا عشر اميرا ) وبعضهم روى : ( اثنا عشر خليفة ) فدل على ان الاخبار التي في ايدي الامامية عن(31/1)
النبي والائمة بذكر الائمة الاثني عشر اخبار صحيحة .
الصدوق: اكمال الدين 67 ـ 68
ومع ان الظاهر من هاتين الروايتين من كلمة : (الخليفة) و(الامير) : الحاكم المعروف،اي :الرئيس ،وليس الخليفة بمعنى وصي الرسول، وهو الذي قصده السائل والمجيب، فان الصدوق يبادر الى التفسير بان المقصود هم الائمة .
ويورد الشيخ الطوسي في (الغيبة) رواية ابن مسعود ولكن مع اضافة: قال الله عزوجل (وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا ).
الطوسي: الغيبة 90
ويروي رواية جابر بن سمرة بعدة اشكال فيقول مرة: ( يكون بعدي اثنا عشر خليفة كلهم من قريش ) قال فلما رجع الى منزله اتته قريش فقالوا : ثم يكون ماذا؟..فقال : ( ثم يكون الهرج ) .
المصدر 88
وفي رواية اخرى يقول جابر انه لم يفهم ماذا قال النبي بعد كلمة خليفة ويقول: فقال بعضهم سألت القوم فقالوا : (كلهم من قريش) ،ولا يذكر : (ثم يكون الهرج).
المصدر
وفي رواية ثالثة مختلفة يقول جابر : ان النبي (ص) قال: ( لا يزال اهل هذا الدين ينصرون على من ناواهم الى اثني عشر خليفة ) فجعل الناس يقومون ويقعدون،وتكلم بكلمة لم افهمها فقلت لأبي او لأخي : اي شيء قال؟..فقال: (كلهم من قريش) .
المصدر
ويروي الطوسي هذه الرواية مرة اخرى بسند آخر في اوله عبدالله بن عمر ،وقد جاءت بعض الروايات عن عبدالله بن عمر عن النبي ،فالظاهر ان فيها اضطرابا كبيرا .
المصدر 89
ويروي الطوسي رواية اخرى مشابهة لهذه مع حذف كلمة (اهل) حيث يقول:
ـ لا يزال هذا الدين ظاهرا لا يضره من ناواه حتى يقوم اثنا عشر خليفة كلهم من قريش .
المصدر 89
وذلك من دون ان يذكر اي غموض او كلمة لم يفهمها ، ويروي بعد ذلك روايتين عن عبدالله بن عمر يقول في الاولى :سمعت رسول الله يقول: ـ يكون خلفي اثنا عشر خليفة .
المصدر
ويقول في الثانية مخاطبا ابا الطفيل :
ـ ياابا الطفيل عد اثني عشر من بني كعب بن لوي ..ثم يكون النقف والنفاق(31/2)
.
المصدر
والنقف هو كسر الهامة عند الدماغ او ضربها اشد الضرب برمح او عصا ، وهذه الرواية تشبه بعض الروايات السابقة عن جابر التي تتحدث عن الهرج بعد الاثني عشر خليفة ، ولكن عبدالله بن عمر لم يصرح بروايتها عن الرسول الاكرم ، وفي روايته الاولى لم يذكر كلمة : ( من قريش ) .
مناقشة (الاحاديث السنية)
1 ـ يلاحظ ان الطوسي يروي جميع رواياته بهذا الشأن عن ابي عبدالله احمد بن عبدون المعروف بابن الحاشر عن ابي الحسن محمد بن علي الشجاعي الكاتب عن ابي عبدالله محمد بن ابراهيم المعروف بابن ابي زينب النعماني الكاتب ( ـ 340) عن محمد بن عثمان بن علان الذهبي البغدادي الذي يرسل الروايات الى جابر وعبدالله وابن مسعود ..
3 ـ ان تلك الاخبار لا تحصر الامامة في اثني عشر وانما تتحدث عن وقوع بعض الامور بعد الاثني عشر
وان مضمون هذه الرواية يختلف تماما عما قبلها فلا يحدد هنا عدد الخلفاء بعد النبي وانما يتحدث عن النصر للامة الى فترة انتهاء اثني عشر خليفة ، وهذا ما لا يعضده التاريخ حيث نصر المسلمون بعد ذلك ، وخذلوا قبل ذلك .
4 ـ ان تلك الاخبار لا تعدد الائمة او الخلفاء بالتسلسل العمودي ابنا فابنا كما هو في نظرية (الامامة الاثناعشرية) ، وبالتالي فقد تنطبق على عدد من الخلفاء القرشيين من مختلف البيوت ، وبأي شكل جاؤا.
5 ـ ان تلك الاخبار المروية عند السنة ضعيفة عندهم ولا يلتزم احد منهم بمضمونها ..ويحتمل ان يكون الامويون قد اختلقوها لمكافحة الحركات الثورية الشيعية في بداية القرن الثاني الهجري ، واتهامها بالهرج .او يكون البعض قد اختلقها لتصوير انهيار الدولة الاموية مع انحطاط الخليفة الثاني عشر ، الاموي وليد بن يزيد بن عبدالملك الذي كان يشرب الخمر فمقته الناس لشربه الخمر وخرجوا عليه وقتلوه .(31/3)
مناقشة الجزء الثاني:
الروايات الشيعية حول ( الاثناعشرية )
وقبل ان ندخل في مناقشة سند تلك الروايات التي تقول بوجود الاشارة الى عدد الائمة الاثني عشر او اسمائهم واحدا واحدا او تحديد الثاني عشر بأنه القائم المهدي المنتظر ، يجدر بنا ان نشير الى ان الفرق الشيعية الاخرى كالزيدية و الاسماعيلية والواقفية والفطحية يرفضون بالطبع هذه الاحاديث ولا يعترفون بصحتها ، لأنها مروية عن الفرقة (الاثني عشرية) التي يتهمونها بوضع واختلاق هذه الاحاديث في زمن متأخر .
(راجع : الصدوق: اكمال الدين ص 67 ) .
وان تلك الروايات (الاثني عشرية) صادرة عن رجال متهمين بمحاولة تأييد مذهبهم ونظريتهم الخاصة حول ( الاثني عشرية) ، وقد رفض الشيخ الطوسي في الغيبة) احاديث صحيحة يرويها ثقاة الواقفية الذين لا يشك بصدقهم لأنهم متهمون بجر النار الى قرصهم ومحاولة تأييد مذهبهم ، فقال: ( اما ما ترويه الواقفة فكلها اخبار آحاد لا يعضدها حجة ، ولا يمكن ادعاء العلم بصحتها ، ومع هذا فالرواة مطعون عليهم ، لا يوثق بقولهم ورواياتهم ، وبعد هذا كله فهي متأوّلة ).
الطوسي:الغيبة 29
وقال في رد خبر اورده ابن ابي حمزة : ( هذا خبر رواه ابن ابي حمزة وهو مطعون عليه وهو واقفي ).
المصدر 37
وقال: ( اذا كان اصل هذا المذهب (الوقف) امثال هؤلاء كيف يوثق برواياتهم او يعوّل عليها؟..واما ما روي من الطعن على رواة الواقفة فأكثر من ان يحصى وهو موجود في كتب اصحابنا ).
المصدر 44
ويقول بعد ان يسرد مجموعة قصص صادرة عن الامامية ( القطعية ) ــ وهم الذين قالوا بامامة الرضا ــ في اطار الحرب الاعلامية ضد الواقفة: ( والطعون على هذه الطائفة اكثر من ان تحصى ...فكيف يوثق بروايات هؤلاء القوم؟..وهذه احوالهم واقوال السلف فيهم ، ولولا معاندة من تعلق بهذه الاخبار التي ذكروها لما كان ينبغي ان يصغى الى من يذكرها ).
المصدر 46
واذا اردنا استخدام منطق(31/4)
الطوسي نفسه فانه يمكن القول ان الروايات التي يوردها اصحاب النظرية (الاثني عشرية) و (المهدي الثاني عشر محمد بن الحسن) انها كلها اخبار آحاد لا يعضدها حجة ولا يمكن الادعاء بالعلم بصحتها ، ومع هذا فالرواة مطعون عليهم ، لا يوثق بقولهم ورواياتهم ، لأنهم يجرون النار الى قرصهم ، ومع هذا فهي اخبار متأولة.
ومع ذلك فان تلك الاحاديث ضعيفة بمقاييس علم الدراية والرجال عند (الاثني عشرية) انفسهم ، فهي متناقضة او مرسلة او مروية عن ضعاف او كذابين او غلاة او مهملين او مجهولين او تحتوي على اساطير صارخة او تخالف الحقائق التاريخية الثابتة .
والملاحظة الرئيسية عليها هي : انها مروية من قبل ضعاف في فترة الحيرة التي اعقبت وفاة الامام الحسن العسكري سنة 260 ، وهم ينسبونها لرجال مجهولين او مهملين او مختلقين ، وينهونها الى رجال من الكيسانية او الواقفية او الزيدية او الفطحية او غيرهم ممن لا يؤمن بـ : (الاثني عشرية) ، وذلك من اجل الايحاء بصدورها وتأييدها من قبل الخصوم . ولكنهم لم يستطيعوا ان يثبتوا دعاواهم تلك بأدنى دليل .
وعلى اي حال فقد اعتمدنا في مناقشة سند تلك الروايات على أهم المصادر الرجالية الشيعية واسبقها ككتاب : ( اختيار الرجال) للكشي و( رجال النجاشي) و(الفهرست ) و(الرجال ) للطوسي و(رجال ابن الغضائري )، وهي كما يلي:
1 - محمد بن يحيى عن محمد بن احمد عن محمد بن الحسين عن ابي سعيد العصفوري عن عمرو ابن ثابت عن ابي الجارود عن ابي جعفر قال قال رسول الله )ص(: - اني واثنى عشر من ولدي وانت ياعلي زر الارض يعني اوتادها وجبالها بنا اوتد الله الارض ان تسيخ باهلها فاذا ذهب الاثنى عشر من ولدي ساخت الارض باهلها ولم ينظروا.
الكليني: الكافي ج1 ص534
1 ـ هذه الرواية متناقضة مع نظرية (الاثني عشرية) فهي تشير الى اثني عشر اماما من ولد رسول الله ، وهم مع الامام علي بن ابي طالب يصبحون ثلاثة عشر ، واما(31/5)
سندها فهو كالتالي:
* محمد ابن الحسين بن سعيد الصائغ ( - 269)
يقول عنه ابن الغضائري: كوفي غال ضعيف لا يلتلفت اليه .
ويقول النجاشي: ضعيف جدا ،قيل انه غال .
* محمد بن احمد بن يحيى بن عمران بن عبدالله بن سعد بن مالك الاشعري القمي ابو جعفر ، له كتاب (الامامة ) والمزار ..
الطوسي في الفهرست: اخبرنا بجميع كتبه ورواياته عدة من اصحابنا ...الا ما كان فيه من تخليط ...
و النجاشي: ان اصحابنا قالوا : كان يروي عن الضعفاء ويعتمد المراسيل ولا يبالي عمن اخذ ... وكان محمد بن الحسن بن الوليد يستثني من روايته مارواه عن : محمد بن موسى الهمداني ،او عن رجل ،اويقول : بعض اصحابنا ،او عن محمد بن يحيى المعاذي ،او عن ابي عبد الله الرازي الجاموراني ،او عن ابي عبد الله السياري ، او يوسف بن السخت ،او وهب بن منبه ،او ابي علي النيشابوري ،او محمد بن علي ابو سمينة ، او يقول : في حديث او في كتاب ولم اروه ، اوسهل بن زياد الآدمي ،او محمد بن عيسى بن عبيد بإسناد منقطع ،او ابو يحيى الواسطي ،او احمد بن هلال ،او محمد بن علي الهمذاني ،او عبد الله بن محمد الشامي ،او عبد الله بن احمد الرازي ،او احمد بن الحسين بن سعيد ،او احمد بن بشير الرقي ،او محمد بن هارون ،او ممويه بن معروف ،او محمد بن عبد الله بن مهران ، او الحسن بن الحسين اللؤلؤي ،او جعفر بن محمد مالك ، او يوسف بن الحارث ،او عبد الله بن محمد الدمشقي ..
* ابو سعيد العصفري عباد بن يعقوب الرواجيني ( ـ250 ) زيدي جارودي
* عمر (او عمرو) بن ثابت بن هرمز ابو المقدام الحداد ، كوفي .
يقول عنه ابن الغضائري: ضعيف جدا كما في الخلاصة للحلي : روى عن السجاد والباقر والصادق ، ضعيف جدا .
* زياد بن المنذر ابو الجارود الهمداني ( ـ 150 ).
يقول عنه النجاشي :..الخارفي الاعمى كان من اصحاب الباقر وتغير لما خرج زيد بن علي.
ويقول عنه الطوسي في الفهرست: زيدي(31/6)
المذهب واليه تنسب الجارودية .
وذكره الكشي برقم 104 وقال : سمي سرحوبا ، وتنسب اليه السرحوبية ، سماه بذلك ابو جعفر الباقر ، وذكر ان سرحوبا اسم شيطان اعمى يسكن البحر ، وكان ابو الجارود اعمى ، اعمى القلب ، وروى عن ابي عبدالله (ع) انه قال عنه وعن كثير النوا وسالم بن ابي حفصة : كذابون مكذبون كفار عليهم لعنة الله...يأتونا فيخبرون أنهم يصدقونا وليسوا كذلك ويسمعون حديثنا ويكذبون به .
ويقول عنه ابن الغضائري: حديثه في حديث اصحابنا اكثر منه في الزيدية ، واصحابنا يكرهون ما رواه محمد بن سنان عنه .
وقد ضعفه المامقاني في تنقيح المقال ج 1 ص 459
اذن فالحديث يرويه الكليني عن محمد بن يحيى عن محمد بن احمد الذي يروي عن الضعفاء ، عن محمد بن الحسين الضعيف جدا الغال عن ابي سعيد العصفري الزيدي الجارودي الذي يرفعه الى عمرو بن ثابت الضعيف جدا عن ابي الجارود الزيدي الملعون.(31/7)
محمد بن يحيى واحمد بن محمد عن محمد بن الحسين عن ابي طالب عن عثمان بن عيسى عن سماعة بن مهران قال: كنت وابو بصير ومحمد بن عمران مولى ابي جعفر )ع( في منزله بمكة فقال محمد بن عمران : سمعت ابا عبد الله يقول :
- نحن اثنى عشر محدثا .
فقال له ابو بصير : سمعت من ابي عبد الله ?!..فحلفه مرة او مرتين انه سمعه ?
.. فقال ابو بصير : لكني سمعته من ابي جعفر )ع( .
المصدر
2 - وهذا الحديث ضعيف ، و سنده كالتالي:
* محمد ابن الحسين بن سعيد الصائغ - 269 كوفي ضعيف جدا غال ( راجع رقم 1).
* ابو طالب..مجهول لا يوجد له ذكر في معاجم الرجال.
* عثمان بن عيسى ..الرواسبي ،او الكلابي:
يقول الكشي : كان واقفيا ، وكان بمصر وكان عنده مال كثير وست جواري فبعث اليه ابو الحسن (الرضا) عليه السلام فيهن وفي المال ، فكتب اليه: ان ابي قد مات وقد اقتسمنا ميراثه وقد صحت الاخبار بموته ، واحتج عليه ، فكتب اليه: إن لم يكن ابوك مات فليس لك من ذلك شيء، وان كان قد مات على ما تحكي فلم يأمرني بدفع شيء اليك ، وقد اعتقت الجواري .
ويقول عنه الطوسي في الفهرست: واقفي المذهب .
ويقول عنه النجاشي: كان شيخ الواقفة ووجهها ، واحد الوكلاء المستبدين بمال موسى بن جعفر.
* سماعة بن مهران بن عبدالرحمن الحضرمي :
يقول عنه الكشي انه: واقفي
اذن فالحديث عن ضعيف جدا غال عن مجهول عن عدد من الواقفية الضعفاء .وهو يتضمن مفهوما من مفاهيم الغلاة وهو حديث الملائكة الى الائمة وانهم كانوا (محدثين) .
3 ـ وهذا ضعيف لأن سنده كالتالي:
* علي بن محمد ـ مهمل
* محمد ابن الحسين بن سعيد الصائغ - ضعيف جدا غال .
* سهل بن زياد ابو سعيد الآدمي الرازي ،
يقول عنه النجاشي: كان ضعيفا في الحديث غير معتمد فيه ، وكان احمد بن محمد بن عيسى يشهد عليه بالغلو والكذب ، واخرجه من قم الى الري وكان يسكنها.
كما ضعفه الطوسي في الفهرست وقال: ضعيف .(31/8)
وقال ابن الغضائري: كان ضعيفا جدا فاسد الرواية والمذهب ، وكان احمد بن محمد بن عيسى الاشعري أخرجه من قم وأظهر البراءة منه ونهى الناس عن السماع منه والرواية ، ويروي المراسيل ويعتمد المجاهيل .
وضعّفه العلامة الحلي في الخلاصة وجملة من كتبه الفقهية كـ :(المنتهى) و( المختلف ) وغيرهما.
وضعّفه ابن داود في :(رجاله) .
وقال المامقاني : (التضعيف) هو المشهور بين الفقهاء واصحاب الحديث وعلماء الرجال .
* محمد بن الحسن بن شمون ( -258)
يقول عنه ابن الغضائري: واقف ثم غلا ضعيف متهافت لا يلتفت اليه ولا الى مصنفاته وساير ما ينسب اليه.
ويقول النجاشي: واقف ثم غلا وكان ضعيفا جدا فاسد المذهب ، واضيف اليه احاديث في الوقف .
* عبد الله بن عبد الرحمن الاصم المسمعي .
النجاشي: بصري ضعيف غال ليس بشيء ، له كتاب المزار ، سمعت ممن رآه فقال لي: وهو تخليط .
ابن الغضائري: ضعيف مرتفع القول ، وله كتاب في الزيارات ما يدل على خبث عظيم ومذهب متهافت وكان من كذاّبة اهل البصرة.
* عبد الكريم بن عمرو بن صالح الخثعمي (كرام)
الكشي: واقفي خبيث .
النجاشي: روى عن ابي عبد الله وابي الحسن ، ثم وقف ..
الطوسي في اصحاب الكاظم من (رجاله) : واقفي خبيث .
اذن فالحديث ضعيف جدا وهو مروي عن مجموعة من الضعفاء والغلاة والواقفية الخبثاء .(31/9)
- علي بن محمد ومحمد بن الحسين عن سهل بن زياد عن محمد بن الحسن بن شمون عن عبد الله بن عبد الرحمن الاصم عن ) كر ام ( قال :
- حلفت فيما بيني وبين نفسي ألا آكل طعاما بنهار ابدا حتى يقوم قائم آل محمد .
فدخلت على ابي عبد الله )ع( قال فقلت له : رجل من شيعتكم جعل لله عليه ألا ياكل طعاما بنهار ابدا حتى يقوم قائم آل محمد ? قال : فصم اذا ياكرام ولا تصم العيدين ولا ثلاثة التشريق ولا اذا كنت مسافرا ولا مريضا . فان الحسين لما قتل عجت السموات والارض ومن عليها والملائكة فقالوا ياربنا ائذن لنا في هلاك الخلق حتى نجد هم عن جديد الارض بما استحلوا حرمتك وقتلوا صفوتك . فأوحى الله اليهم : يا ملائكتي وياسماواتي ويا ارضي اسكنوا ...ثم كشف حجابا من الحجب فاذا خلفه محمد )ص( واثنا عشر وصيا له . واخذ بيد فلان القائم من بينهم فقال : ياملائكتي وسماواتي ويا أرضي بهذا انتصر لهذا - قالها ثلاث مرات - .
المصدر
(و هذا هو الحديث الثالث الذي تم نسفه في المقال السابق)(31/10)
(الحديث الرابع و نسفه)
4- محمد بن يحيى عن احمد بن بن محمد بن عيسى ومحمد بن ابي عبدالله ومحمد بن الحسن . عن سهل بن زياد جميعا عن الحسن بن العباس بن الجريش عن ابي جعفر الثاني :
- ان امير المؤمنين قال لابن عباس : ان ليلة القدر في كل سنة . وانه ينزل في تلك الليلة امر السنة . ولذلك الامر ولاة بعد رسول الله ص فقال ابن عباس : من هم? قال : انا واحد عشر من صلبي ائمة محدثون .
المصدر ج1 ص 532
4 ـ وسند هذا الحديث كما يلي:
* سهل بن زياد ..كذاب وضاع ضعيف ( راجع رقم 3) .
* الحسن بن العباس بن الحريش الرازي ..
النجاشي: ضعيف جدا ، له كتاب :(انا أنزلناه في ليلة القدر) وهو كتاب رديء مضطرب الالفاظ .
ابن الغضائري: ضعيف روى عن ابي جعفر الثاني فضل (انا انزلناه في ليلة القدر ) كتابا مصنفا فاسد الالفاظ تشهد مخايله على انه موضوع ، وهذا الرجل لا يلتفت اليه ولا يكتب حديثه.
اذن ففي سند هذه الرواية اثنان ـ على الاقل ـ من اكبر الكذابين الوضاعين الضعفاء، فلا يجوز الاعتماد عليها .
5- - وبهذا الاسناد قال قال رسول الله (ص) لاصحابه : آمنوا بليلة القدر انها تكون لعلي ابن ابي طالب ولولده الاحد عشر من بعدي .
الكليني:الكافي ج1 ص 533
5 - وهذه الرواية ضعيفة جدا كسابقتها لتشابه السند .(31/11)
6- - وبهذا الاسناد ..ان امير المؤمنين قال لأبي بكر يوما : لا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله امواتا بل احياء عند ربهم يرزقون . واشهد ان محمدا ) ص ( مات شهيدا . والله ليأتينك فأيقن اذا جاءك فان الشيطان غير متخيل به فأخذ علي بيد ابي بكر فأراه النبي فقال له : ياأبا بكر آمن بعلي وبأحد عشر من ولده انهم مثلي الا النبوة . وتب الى الله مما في يدك فانه لاحق لك فيه . ثم ذهب فلم ير .
الكليني:الكافي ج1 ص 533
6 - اعتقد اننا لسنا بحاجة الى السؤال من سهل وابن الحريش الكذابين الوضاعين الغاليين الضعيفين عن تفاصيل هذه الاسطورةالعجيبة الغريبة.
7- - ابو علي الاشعري عن الحسن ابن عبيد الله عن الحسن بن موسى الخشاب عن علي بن سماعة عن علي بن الحسن بن رباط عن ابن اذينة عن زرارة قال سمعت اباجعفر يقول :
- الاثنا عشر الامام من آل محمد كلهم محدث من ولد رسول الله و ولد علي بن ابي طالب فرسول الله وعلي هما الوالدان .
المصدر ج1 ص 533
7- - وهذه الرواية ضعيفة لأن في سندها:
* ابو علي الاشعري ـ مجهول.
* الحسن بن عبيد الله ـ مهمل .
* علي بن سماعة.. مهمل
* زرارة .. مات وهو لا يعلم من الامام بعد الصادق ، وقد ارسل ابنه عبيدالله الى المدينة لكي يستطلع له الامام الجديد .
وبالاضافة الى ذلك فانها تحتوي على نظرية (المحدث) وهي من نظريات الغلاة الذين كانوا يشبهون الائمة بالانبياء ، ويقولون بان الملائكة تحدث الائمة في آذانهم ، وانهم يسمعون الصوت ولا يرون الصورة .(31/12)
8 - الحسين بن محمد عن معلى بن محمد عن الوشاء عن ابان عن زرارة قال : سمعت ابا جعفر يقول : - نحن اثنا عشر اماما منهم حسن و حسين ثم الائمة من ولد الحسين .
الكليني:الكافى ج1 ص 533
8 - وهذه الرواية ضعيفة لأن في سندها:
* معلى بن محمد :
النجاشي : مضطرب الحديث والمذهب
ابن الغضائري : نعرف حديثه وننكره .
* الوشاء..وهو مبهم في عدد من الرجال :
زياد بن الهيثم ؟.. مهمل ، او
زياد بن الحسن ؟ .. مهمل ، او
جعفر بن بشير ؟ الثقة او
الحسن بن علي بن زياد ؟ وقد وثقه النجاشي استنادا الى الكشي ، ولكن الطوسي الذي اختار من كتاب الكشي لم يذكر الحسن بعنوان منفرد ،وقال الطوسي في آخر كتاب الخمس من التهذيب انه وقف ثم رجع وقطع .
- - محمد بن يحيى عن محمد بن الحسين عن ابن محبوب عن ابي الجارود عن ابي جعفر عن جابر بن عبد الله الانصاري قال :
- دخلت على فاطمة وبين يديها لوح فيه اسماء الاوصياء من ولدها فعددت اثنى عشر آخرهم القائم . ثلاثة منهم محمد وثلاثة منهم علي.
المصدر ج1 ص 532
9 - ويكفي في ضعف هذه الرواية وجود ( محمد ابن الحسين بن سعيد الصائغ ) الضعيف جدا الغالي في سندها. اضافة الى الارسال من ابن محبوب الى ابي الجارود .
وتوجد لهذه الرواية نسخ متعددة متناقضة تروى عن الصادق عن جابر ـ الذي كان قد توفي قبل اربعين عاما ـ لدى احتضار ابيه الباقر ومطالبة زيد بان تكون الامامة له من بعد اخيه ..وقد ذكرها الصدوق في (اكمال الدين ) .(31/13)
10 - علي بن ابراهيم عن محمد بن عيسى بن عبيد عن محمد الفضيل عن ابي حمزة عن ابي جعفر قال:
- ان الله ارسل محمدا )ص( الى الجن والانس وجعل من بعده اثنى عشر وصيا منهم من سبق ومنهم من بقي وكل وصي جرت به سنة . والاوصياء الذين من بعد محمد على سنة اوصياء عيسى وكانوا اثنى عشر وكان امير المؤمنين على سنة المسيح.
المصدر ج1 ص 532
10 ـ وهذه الرواية ضعيف جدا لأن فيها ارسال و في سندها:
* محمد بن عيسى بن عبيد بن يقطين بن موسى ( ـ 280) :
النجاشي: ذكرابو جعفربن بابويه عن ابن الوليد انه قال ماتفرد به محمد بن عيسى من كتب يونس وحديثه لا يعتمد عليه .
وقال الكشي مشككا فيه : انه اصغر من ان يروي عن ابن محبوب ( -224) وقال :
يونسي ضعيف.
وقال الطوسي في الفهرس : ضعيف استثناه ابو جعفر ابن بابويه من رجال نوادر الحكمة وقال : لا اروي ما يختص بروايته ،وقيل انه كان يذهب مذهب الغلاة .
وهو يروي عن الاصم المسمعي الضعيف الغال .
* محمد بن الفضيل .
الكشي: ضعيف يرمى بالغلو .
النجاشي: روى عن ابي الحسن موسى والرضا.(31/14)
11 - خبر اليهودي الذي جاء بعد وفاة ابي بكر وسأل عمر فأجابه علي :
- محمد بن يحيى عن محمد بن الحسين عن مسعدة بن زياد عن ابي عبد الله .
ومحمد ابن الحسين عن ابراهيم عن ابي يحيى المدائني عن ابي هارون العبدي عن ابي سعيد الخدري قال:
- كنت حاضرا لما جاء اليهودي ...فقال له علي : ان لهذه الامة اثنى عشر امام هدى من ذرية نبيها وهم مني . واما منزل نبينا في الجنة ففي افضلها واشرفها جنة عدن واما من معه في منزله فيها فهؤلاء الاثناعشر من ذريته وامهم وجدتهم وام امهم وذراريهم لايشركهم فيهااحد.
المصدر ج1 ص 531- 532
11 - في طريق هذه الرواية :
* محمد بن الحسين ..الضعيف الكذاب
* ابو يحيى المدائني ..المجهول
* ابو هارون العبدي ..المجهول
واضافة الى ذلك فانها تحتوي على امر غريب هو كون الرسول في منزلة الائمة ومنزلة امهم وجدتهم وام امهم وذراريهم ، وهو امر غير معقول ولم يرو في اية رواية اخرى .
12 - محمد بن يحيى عن محمد بن احمد عن محمد بن الحسين عن ابي سعيد العصفوري عن عمرو بن ثابت عن ابي حمزة قال سمعت علي بن الحسين يقول :
- ان الله خلق محمدا وعليا واحد عشر من ولده من نور عظمته فأقامهم اشباحا في ضياء نوره يعبدونه قبل خلق الخلق يسبحون الله ويقدسونه . وهم الائمة من ولد رسول الله )ص ( .
المصدر ج1 ص 530
12 - وهي ضعيفة جدا لوجود :
* محمد بن احمد ، الذي يروي عن الضعفاء .
* محمد بن الحسين ، الضعيف الكذاب .
* ابو سعيد العصفوري ،الزيدي الجارودي الذي يرسل الى :
* عمرو بن ثابت الضعيف .
اضافة الى روح الغلو البيّن فيها(31/15)
13 - محمد بن يحيى عن عبد الله بن محمد الخشاب عن ابن سماعة عن علي بن الحسن بن رباط عن ابن اذينة عن زرارة قال سمعت ابا جعفر يقول :
- الاثنا عشر الامام من آل محمد كلهم محدث من ولد رسول الله . ومن ولد علي . ورسول الله وعلي هما الوالدان . فقال علي بن راشد وكان اخا علي بن الحسين لأمه وانكر ذلك . فصرر ابو جعفر وقال :أما ان ابن امك كان احدهم .
المصدر ج1 ص 531
13 - وفي هذه الرواية مجهول هو:
* عبد الله بن محمد الخشاب ، ومهمل هو:
* علي بن سماعة . وواقفي هو:
* الحسن بن محمد بن سماعة ، ابو محمد الكندي الصيرفي ( - 263 )
وهو وان كان كان فقيها و ثقة كما يقول النجاشي والطوسي ، الا انه كان متعصبا ومعاندا في الوقف وقد الف كتابا حول (غيبة) الامام الكاظم ، فكيف يعقل ان يروي حديثا ولا يأخذ به ؟(31/16)
14 - علي بن ابراهيم عن ابيه عن حماد بن عيسى عن ابراهيم بن عمر اليماني عن ابان بن ابي عياش عن سليم بن قيس .
ومحمد بن يحيى عن احمد بن محمد عن ابن ابي عمير عن عمر بن اذينة عن ابان بن ابي عياش عن سليم بن قيس قال سمعت عبد الله بن جعفر الطيار يقول :
- كنا عند معاوية انا والحسن والحسين وعبد الله بن عباس وعمر بن ام سلمة واسامة بن زيد فجرى بيني وبين معاوية كلام فقلت لمعاوية : سمعت رسول الله يقول : انا اولى بالمؤمنين من انفسهم ثم اخي علي بن ابي طالب اولى بالمؤمنين من انفسهم فاذا استشهد علي فالحسن بن علي اولى بالمؤمنين من انفسهم ثم ابني الحسين من بعده اولى بالمؤمنين من انفسهم فاذا استشهد فابنه علي بن الحسين اولى بالمؤمنين من انفسهم وستدركه يا علي . ثم ابنه محمد بن علي اولى بالمؤمنين من انفسهم وستدركه يا حسين . ثم تكملة اثنى عشر اماما تسعة من ولد الحسين .
قال عبد الله بن جعفر : واستشهدت الحسن والحسين وعبد الله بن عباس وعمر بن ام سلمة واسامة بن زيد فشهدوا لي عند معاوية .
قال سليم : وقد سمعت ذلك من سلمان وابي ذر والمقداد وذكروا انهم سمعوا ذلك من رسول الله )ص( .
المصدر ج1 ص 529
14 - وفي هذه الرواية :
* علي بن ابراهيم وابوه .. يونسيان غاليان ضعيفان يقولان بتحربف القرآن .
وقد اهمل علماء الرجال هاذين الرجلين ، الا ان النجاشي يوثق علي بن ابراهيم ، ومع ذلك فانه يقول عنه: ان له كتابا يعرف ب:(المشنّد) والله اعلم انه مضاف اليه .
وقد بنينا رأينا فيهما على ما يرويه علي عن ابيه في كتابه المعروف بـ: (تفسير القمي) حيث روى فيه :
ـ (قرأ ابو عبدالله :(هذه جهنم التي كنتما بها تكذبان تصليانها ولا تموتان فيها ولا تحييان) يعني زريقا وبحتر ) في اشارة منه الى الشيخين .
القمي علي بن ابراهيم : التفسير ج2 ص 345
وقال:( نزلت هاتان الآيتان هكذا :قول الله ( حتى اذا جاءنا ـ يعني فلانا وفلانا ـ(31/17)
يقول احدهما لصاحبه حين يراه : ياليت بيني وبينك بعد المشرقين فبئس القرين) فقال الله لنبيه :قل : لفلان وفلان واتباعهما :(لن ينفعكم اليوم اذ ظلمتم آل محمد حقهم انكم في العذاب مشتركون) ثم قال لنبيه:(أفأنت تسمع الصم او تهدي العمي ومن كان في ضلال مبين؟ فاما نذهبن بك فانا منهم منتقمون) يعني من فلان وفلان ، ثم اوحى الله الى نبيه :(فاستمسك بالذي اوحي اليك في علي انك على صراط مستقيم ) يعني انك على ولاية علي وعلي هو الصراط المستقيم.
المصدر ج2 ص286
ويقول :حدثني ابي عن وكيع عن الاعمش عن سلمة بن كهيل عن ابي صادق عن ابي الأعز عن سلمان الفارسي: قال :
ـ بينما رسول الله جالس في اصحابه اذ قال انه يدخل عليكم الساعة شبيه عيسى بن مريم ، فخرج بعض من كان جالسا مع رسول الله ليكون هو الداخل ، فدخل علي بن ابي طالب ، فقال الرجل لبعض اصحابه: أما يرضى محمد ان فضّل علينا عليا حتى يشبهه بعيسى بن مريم ، والله لآلهتنا التي كنا نعبدها في الجاهلية افضل منه فأنزل الله في ذلك المجلس:( ولما ضرب ابن مريم مثلا اذا قومك منه يضجون ) فحرفوها ( يصدون) ( وقالوا أآلهتنا خير ام هو ما ضربوه لك الا جدلا بل هم قوم خصمون ، ان علي الا عبد انعمنا عليه وجعلناه مثلا لبني اسرائيل ) فمحي اسمه عن هذا الموضع ) .
المصدر ج2 ص 286
ويقول في تفسير:(وأيدهم بروح منه) الروح : ملك اعظم من جبرئيل وميكائيل وكان مع رسول الله وهو مع الائمة.
المصدر ج2 ص358
ويقول في تأويل هذه الاية:( يوم يكشف عن ساق ويدعون الى السجود) :يوم يكشف عن الامور التي خفيت ، وما غصبوا آل محمد حقهم ويدعون الى السجود: قال يكشف لأميرالمؤمنين فتصير اعناقهم مثل صياصي البقر .
المصدر ج2 ص 383
ويقول في تأويل هذه الايات: (خلق الانسان) ذلك اميرالمؤمنين (علمه البيان):
علمه تبيان كل شيء يحتاج اليه الناس ، (الشمس والقمر بحسبان) قال هما يعذبان ..انما عناهما لعنهما(31/18)
الله (يعني الشيخين) .
المصدر ج2 ص343
وهذه نماذج من كتابه (تفسير القمي) المليء بالغلو والقول بتحريف القرآن والمعتمد على التأويلات التعسفية ، والاحاديث الضعيفة والمختلقة ، مما يجعلنا نعيد النظر في تقييم هذا الرجل الغالي ونشكك في توثيق النجاشي له ، ونتوقف في قبول رواياته عن ( الاثني عشرية) التي يرويها عن المجاهيل والمهملين .
* ابراهيم بن عمر اليماني :
ابن الغضائري : ضعيف جدا .
* ابان بن ابي عياش:
ابن الغضائري: تابعي ضعيف لا يلتفت اليه وينسب اليه اصحابنا وضع كتاب سليم بن قيس .
* سليم بن قيس الهلالي ..
ابن الغضائري : ينسب اليه الكتاب المشهور باسمه ، وكان اصحابنا يقولون ؛ ان سليما لا يعرف ، ولا ذكر في خبر ، وقد وجدت ذكره في مواضع من غير جهة كتابه ولا رواية ابان بن ابي عياش ..والكتاب موضوع لا مرية فيه ، وعلى ذلك علامات تدل على ما ذكرنا منها ما ذكر ان محمد بن ابي بكر وعظ اباه عند الموت ، ومنها ان الائمة ثلاث عشر ، وغير ذلك .
واسانيد هذا الكتاب تختلف تارة برواية عمر بن اذينة عن ابراهيم بن عمر الصنعاني عن ابان بن ابي عياش عن سليم ، وتارة عن عمرعن ابان بلا واسطة .
ويقول الشيخ المفيد ان الكتاب موضوع ومدلس فيه ويقول :( ان هذا الكتاب غير موثوق به ولا يجوز العمل على اكثره وقد حصل فيه تخليط وتدليس فينبغي للمتدين ان يجتنب العمل بكل مافيه ولا يعول على جملته والتقليد لروايته ، وليفزع الى العلماء فيما تضمنه من الاحاديث ليوقفوه على الصحيح منها والفاسد والله الموفق للصواب) .
المفيد : اوائل المقالات وشرح اعتقادات الصدوق 247.
اذن فالحديث مروي عن مجموعة من الضعفاء عن شخص مجهول ..(31/19)
15 - عدة من اصحابنا عن احمد بن محمد بن خالد عن ابيه عن عبدالله بن القاسم عن حنان السراج )حيان السراج ( عن داود بن سليمان الكسائي عن ابي الطفيل قال شهدت جنازة ابي بكر يوم مات وشهدت عمر حين بويع وعلي جالس ناحيته فأقبل غلام يهودي من ولد هارون حتى قام على رأس عمر .وسأل عدة مسائل ...منها : اخبرني عن محمد كم له من امام عادل ? فقال له الامام : ياهاروني ان لمحمد اثنى عشر امام عادل لايضرهم خذلان من خذلهم ولا يستوحشون بخلاف من خالفهم وانهم في الدين ارسب من الجبال الرواسي في الارض ..
الكليني: الكافي ج1 ص 530
15 ـ وهذه الرواية ضعيفة جدا سندا ومضمونا ، اذ يوجد فيها:
* احمد بن محمد بن خالد البرقي ( ـ280) :
النجاشي: روى عن الضعفاء واعتمد المراسيل.
ابن الغضائري: طعن القميون عليه وليس الطعن فيه ، انما الطعن فيمن يروي عنه فانه كان لا يبالي عمن أخذ على طريقة اهل الاخبار ، وكان احمد بن محمد بن عيسي أبعده عن قم ثم اعاده اليها واعتذر اليه.
الطوسي في الفهرس : كان ثقة في نفسه غير انه أكثر الرواية عن الضعفاء واعتمد المراسيل ، وصنّف كتبا كثيرة منها (المحاسن) وغيرها ، وقد زيد في (المحاسن) ونقص ...
* عبدالله بن القاسم ..البطل الحارثي الحضرمي :
الكشي والنجاشي والطوسي وابن الغضائري : كذاب غال ضعيف واقفي متهافت !
* حيان السراج ..كيساني يرى مهدوية محمد ابن الحنفية وغيبته .
* ابو الطفيل الكناني عامر بن واثلة ( 3ـ100) :
الكشي: كان كيسانيا ممن يقول بحياة محمد بن الحنفية ،وله في ذلك شعر ، وخرج تحت راية المختار بن ابي عبيد .
فالرواية ضعيفة جدا سندا ومضمونا(31/20)
16- عدة من اصحابنا عن احمد بن محمد البرقي عن ابي هاشم داود بن القاسم الجعفرى عن ابي جعفر الثاني قال:
- اقبل امير المؤمنين ومعه الحسن بن علي وهو متكيء على يد سلمان فدخل المسجد الحرام . اذ اقبل رجل حسن الهيئة واللباس فسلم على امير المؤمنين وسأل عدة مسائل ... ثم قال : اشهدان لا اله الا الله ) وتشهد بامامة الائمة واحدا واحدا الى ان قال ( واشهد على رجل من ولد الحسن لا يكنى ولا يسمى حتى يظهر امره فيملأها عدلا كما ملئت جورا.... ثم يغيب هذا الرجل فيعرفون انه الخضر ...
المصدر ج1 ص 525 - 526
16- وهذه الرواية ضعيفة لأن في سندها:
* البرقي .. الذي يعتمد المراسيل ويروي عن الضعفاء .
* ابوهاشم داود بن القاسم الجعفري..
وهو ضعيف وله احاديث شاذة كثيرة وغلو واساطير.
ويقول عنه الكشي: يقال فيه ارتفاع ، ورواياته تدل على ذلك ، وكان مقدما عند السلطان (!) وكان يدعي انه سفير صاحب الزمان ، وهو من اركان نظرية المهدي .
واضافة الى ضعف السند فان الرواية تتناقض مع الحقيقة الثابتة بعدم الاعلان المسبق عن اسماء الائمة من قبل ، وعدم معرفة كبار مشايخ الشيعة بهم ، ولا تقول الرواية متى حدثت القصة بالضبط ، ولكن يشتم منهاانها حدثت في عهد الامام علي بن ابي طالب ، وهذا ما يتناقض مع حقيقة موت سلمان في عهد الخليفة الثاني عمر بن الخطاب ، ولذلك فهي ضعيفة.(31/21)
الحزن الكربلائي.. نشيد الشيعة بين الديني والسياسي
2004/08/21
أحمد الدريني وأحمد محمد حسن**
استمع إلى أناشيد شيعية في آل البيت:
نشيد علي أميري
ابتهالات فريق الغدير
مدح فاطمة الزهراء– إنشاد فريق الغدير
نجم في بيت حسين– نشيد لثامر الوندي
لطمية حاء وياء ودال وراء لباسم الكربلائي
لطمية علي علي لباسم الكربلائي
لطمية لا فتى إلا علي لباسم الكربلائي
على أوتار النغم الحزين يعزف الشيعة أنشودتهم، يتغنى بها التاريخ وكأنها صدى يأتي من واد عميق يصرخ بمعاني الألم ليتبدد في الهواء بهمسات تحمل من الشجون والجروح ما لم يندمل إلى الآن، فما زالت كل أرض -عند الشيعة- هي كربلاء وكل يوم هو عاشوراء، فلم ينظر الشيعة إلى آل البيت –رضي الله عنهم– إلا من منظار المظلومية والقهر، وهو ما كان على حساب كافة الجوانب الأخرى في حياة آل البيت، على قول المرجع الشيعي الكبير آية الله السيد محمد حسين فضل الله.
لذلك حينما انطلقت حركة شيعية تروج أناشيد مذهبية شأنها في ذلك شأن كل الفرق والأديان –حاليا- كست أناشيدها ثيابا مخضبة بالدم وعلت أصواتها بالأنين في قصائد الرثاء والبكاء على كربلاء. وما إن تذهب إلى بلدان الشيعة حتى يلاحقك النشيد الشيعي في كل مكان، وخاصة في إيران والعراق والخليج وشيعة المهجر في بلدانهم، وربما يرجع ذلك الرواج الكبير إلى التواجد الشيعي الواسع على الإنترنت وسماح المواقع بتحميل الأناشيد مجانا.
النشيد يروي التاريخ(32/1)
وفكرة النشيد أو الكلمات الملحنة المنغمة المقفاة ليست جديدة على الجمهور الشيعي؛ فقد عرف قبله احتراف "اللطميات"، وهي القصائد الرثائية، فصحى كانت أو عامية، وتعتمد على أسلوب ونطق قارئها وتكون أشبه بالسرد القصصي بصوت حزين عال، ويقوم بها فرد واحد يسمى "الرادود" ويصاحبه الحاضرون بترديد بعض الأبيات مع اللطم، وتتطرق لأماكن الألم في الوجدان الشيعي؛ كالمأساة الكربلائية وحوادث اغتيال أئمة آل البيت وتشريدهم، والتي غالبا ما تكون الموضوع الأساسي لمجالس العزاء الحسينية التي يقيمها الشيعة في أوائل شهر محرم. وقد سار النشيد الشيعي على درب اللطمية، إلا أنه تمرد عليها ليتناول المآسي والأفراح على حد سواء؛ فأنشد الأفراح بميلاد آل البيت وأعياد انتصاراتهم (الفكرية)، وكذلك الفرحة الذاتية للشيعة بمشايعتهم آل البيت، ويختلف النشيد عن اللطمية في أنه استخدم الآلات الموسيقية، ويعتمد على منشد وكورال (مجموعة مرددين) كما انتفت عادة اللطم في النشيد الشيعي.(32/2)
ويرتكز النشيد الشيعي على الجوانب المحورية في التاريخ الشيعي كحادثة الولاية أو الغدير كما يسمونها، وهي الحادثة التي يؤمنون فيها بأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عندما انتهى من حجة الوداع وقفل راجعا إلى المدينة المنورة انتهى موكبه إلى غدير خَم، وعندها هبطَ عليه أمين الوحي يحمل رسالة من السماء بالغة الخطورة حتمت عليه بأن يحطَّ رِحالَه ليقوم بأداء هذه المهمة الكبرى، ومضمون هذه الرسالة هو تنصيب علي -رضي الله عنه- إماما وأميرا للمؤمنين ومرجعا للأمة من بعده، وخطب الرسول صلى الله عليه وسلم قائلا: "أيها الناس، من مولاكم؟ فقالوا الله ورسوله. فقال: اللهم من كنت مولاه فعلي مولاه. اللهم والِ من والاه، وعادِ من عاداه"، والرواية مثبتة في كتب الشيعة، وعلى أساسها يثبتون لعلي حق الولاية والإمامة التي تمتد لأهله من بعده. (في حين لا يثبت أهل السنة لعلي ولآله رضي الله عنهم هذه الخصوصية).
وفي وصف هذه الحادثة يقول النشيد الشيعي: "قف يا محمد، جبريل يهتف بالسما جبريلا. ما كان رب العرش –جل جلاله- إلا ليوضح للأنام سبيلا. وعلي خير الخلق بعدك إنه بالحق عندي أحرز التفضيلا، واليوم في ذكرى الغدير وعيده جئنا نجدد بيعة وقبولا. امدد يديك أبا الحسين فإننا والله لا نرضى سواك بديلا".
والملاحظة أن الأناشيد الشيعية -سواء كانت عامية أو فصحى- تعتمد على النطق واللهجة التي تمد حروفا وتسرع في نطق أخرى فيبدو الكلام موزونا.(32/3)
وتأتي كربلاء في مقدمة الأحداث التي تستنطق الشعراء بآلاف المرثيات، وفي نشيد شيعي يتخيل حوارا بين السيدة فاطمة الزهراء رضي الله عنها مع ابنها الإمام الحسين رضي الله عنه، تقول فيه: "روح يا لكبار روح. ودعوتي وياك. لو تغيب عني يا ابني من أنساك. يا ابني يا زهرة عندي جفوها. من خدوك مني روحي آذوها. روح يا لكبار روح دعوتي وياك"، وتبدو اللغة العامية واضحة جلية في هذا النشيد. أما في الأناشيد الفصحى فقد كان من أشهرها وأكثرها نجاحا ذلك الذي تقول كلماته: "أيها السبط يا ابن البتول قد بكتك عيون الرسول، أي صبرٍ غدا مثل جسم ترتقيه العدا بالخيول؟!"
وفي أناشيدهم تناول المنشدون الشيعة آل البيت؛ بدءًا من الرسول صلى الله عليه وسلم، مرورًا بالزهراء والإمام علي، انتهاء بالإمام الحسن العسكري الإمام الحادي عشر في سلسال آل البيت، وتطرقوا أيضا لبعض الشخصيات التي حازت أدوارا في صياغة هذا التاريخ كالصحابة (سلمان الفارسي، عمار بن ياسر، أبي ذر الغفاري، المقداد بن الأسود) رضي الله عنهم. إذ عرف عنهم شدة محبتهم للإمام علي كرم الله وجهه، وكذلك شخصية المختار بن يوسف الثقفي الذي انتقم لقتل الإمام الحسين –وإن كانوا يرونه نصابا أفاقا!!- فيقول أحد أناشيدهم: "أيتها الأرواح إجلالا قفي وناشدي المختار بن الثقفي. يا أيها المختار قد أخذت الثأر".
استبعاد القضايا العقيدية
وإذا ابتعد النشيد الشيعي بعيدا عن التاريخ والماضي وقف في الحاضر ممتدحا ولاء الشيعة وتشيعهم لآل البيت فيقول: "الليلة فرحة والفرحة حقت علينا.. الليلة يا شيعة مولد الزهراء بضعة نبينا"، وكذلك "علي أميري ونعم الأمير. نصير النبي وخير النصير أبو الحسنين وزوج البتول ووريث طه وأعظم وريث".(32/4)
والجدير بالانتباه هو ندرة الأناشيد التي تتعرض لأغوار العقيدة الشيعية والتي تضفي على آل البيت بعض الصفات الخاصة بهم، ولا نقصد هنا صفات العصمة والاصطفائية والولاية، وإنما صفات الأزلية والقدسية والهيمنة على الكون بإذن الله ونصرة آل البيت للأنبياء. (ويرمي أهل السنة هذه العقائد بالكفر ويوافقهم في ذلك بعض علماء الشيعة أنفسهم). ويتضح هذا في كلمات النشيد الذي ينشده المنشد المشهور "باسم الكربلائي": "علي عالي على كل عالي. علي يا موكل من الرب. علي ما نصبك منصوب لكن بالنص منصب"، وتتوالى كلمات النشيد بعامية خليجية محلية قد يصعب على غير أهلها فهمها، وتتضمن معانيَ كلها تؤكد أن الإمام علي كرم الله وجهه متحكم في الريح والنار بإذن الله، وهو الذي أهلك فرعون والنمرود وقوم عاد وقوم ثمود وأنه عذاب السوط، وهو المختص بتنفيذ العقاب الإلهي على أقوام الكفر والجحود والمعصية.
باسم الكربلائى
وللنشيد الشيعي أساطينه من المنشدين، وأشهرهم على الإطلاق: باسم الكربلائي، ومحمد جواد المالكي، وحسين اللواتي، ومرتضى الخابور، وحسين الأكرف، وطه اللواتي. واشتهرت في هذا المجال فرق بعينها كالإسراء والغدير، وبعضها أقل شهرة مثل فرقة الكوثر، وكلها تحمل أسماء شيعية ترتبط بأحداث وأماكن لها مركزية في العقل والوجدان الشيعي.
ويلاحظ أن المنشد في الاحتفاليات العامة إذا وجد فتورا أو كسلا من الجموع الحاضرة في الترديد فإنه يستحثهم بشدة ويصرخ فيهم مشجعا. كما يصرخ المنشد باسم الكربلائي في إحدى الاحتفاليات في الجمهور قائلا: "هذا رسول الله يا أمة!!"
الإنشاد والسياسة
الخمينى(32/5)
وقد دخلت ظاهرة جديدة على النشيد الشيعي تتمثل في امتداح رموز شيعية تنتمي للعصر الحديث ساهمت بشكل أو بآخر في المذهب الشيعي كالإمام الخميني زعيم الثورة الإيرانية الإسلامية. بل إن الأمر تعدى مرحلة الأناشيد ليصل مرحلة اللطميات، ومعروف أن اللطميات طابعها الشجن، وتنشد عادة في مجالس العزاء الحسينية لتبكي الإمام الحسين وآله من خلال سرد كربلاء بكل تفاصيلها؛ بدءا من خطبة الحسين قبل المعركة، مرورا باستبسال جنود الحسين –عليه السلام- في المعركة، انتهاء بمشهد الإمام الحسين وتصوير الطعنات في جسده الشريف، ومظهر الخيل وهي تدك الجسد، ومشهد احتضار الجسد الشريف. وهو ما يثير تساؤلا عن دوافع تأليف اللطميات للخميني، وهل هي عملية بعث للمعنى الحسيني الاستشهادي السماوي النبيل كان خير من يمثلها الخميني خاصة في ظل غياب رمز يلتف الشيعة حوله يحقق طموحاتهم؟! أم أنه تقديس للخميني كشخص في حد ذاته؟!
لكن سواء بحث الشيعي عن القائد أو لم يبحث؛ فهو في حالة استمداد دائم من النموذج العلوي الهاشمي القيادي الجهادي بكل رموزه؛ بدءا من الإمام علي، مرورا بالإمام الحسين والإمام زيد بن علي بن الحسين والإمام موسى الكاظم، انتهاء بالإمام الحسن العسكري. وهو معنى مستمر اعتاد الشيعة خلعه على كل من يتوسمون فيه القيادة للجمع الشيعي.(32/6)
الحوار السني - الشيعي
12/05/2002
د. أبو يعرب المرزوقي *
المطالع لخريطة الفكر الإسلامي وطبقاته التاريخية لا بد أن يدرك الحاجة لتعلم سنن التاريخ والجهد المطلوب لتوحيد الفكر الإسلامي وتوحيد التاريخ الإسلامي.
وليس التوحيد هنا مقصودا به نفي التعدد ومصادرة الاختلاف الذي يفرزه العقل المسلم في قراءته للوحي وللواقع ومسيرته في التاريخ، وإنما المقصود إدراكه في كليته كما في جدليته، وتبصّر مساره حول محور التوحيد كعقيدة، ووضع النزاعات والاختلافات في سياقاتها التاريخية والمكانية / الزمانية، وهو ما لا يتأتى إلا باعتبار التوحيد قلب هذا الفكر وهذا التاريخ، وهو في الوقت ذاته حده الأدنى الكافي الذي سمح فيما بعده بالتنوع والاجتهاد في النظر الشرعي والخيار الواقعي. وهكذا نرى في فكرنا وتاريخنا سيرورة تجاوزية تعلو على الاقتراب التنازعي لفهم التاريخ الذي صار أيدلوجيا لدى البعض ليقرأ بها الفكر والتاريخ بل وقد يستمد منها شرعية فكره ووجوده هو.
استكمال مشروع النهضة
إن على فكرنا المعاصر تبين سبل استكمال مشروعنا الحضاري، وهو مهمة كل المفكرين المسلمين المؤمنين بضرورة تجاوز خلافات الماضي، والشروع الفعلي في تحقيق شروط النهوض الفاعل.(33/1)
ولعل المشروع الذي يمثله السعي إلى إثبات الوحدة التاريخية كما تعينت في مسألة الخلاف الأساسية بين المذهبين الرئيسيين -السني والشيعي- في الفكر الإسلامي هو المسألة السياسية عامة، ومسألة مبدأ الشرعية التي يستند إليها الحكم خاصة. وموضوع الدراسة اللازم هو إثبات الوحدة العميقة وراء الخلاف الفكري بين المذهبين في الماضي، وهو مشروع مهم جدًا بالنسبة إلى من يسعى إلى توحيد المسلمين في المستقبل، وبخاصة بالنسبة إلى من ينطلق من الفكر الشيعي الذي كان يتجاهل هذا "الماوراء" الواحد؛ فيكتفي بالمقابلة بين الأخيار والأشرار. وسبب تخصيصنا للشيعة بالذكر هنا أنه من النادر أن تجد بين مفكري السنة الكبار من يحط من شأن أهل البيت أو من الإمام علي –رضي الله عنه-، وهنا يجب الفصل بين البعدين: تاريخ الوقائع السياسية، ومنطق المواقف العقدية.
إن التأريخ للواقع السياسي والمذهبي يبدأ ببحث سيطرة الاستبداد، وإعصار الغلبة، وتحليل الأزمة الأصلية التي سيطرت على التاريخ الإسلامي كله، وهي ما ينسب إلى الأمويين من زيغ عن قيم الإسلام، وعودة إلى قيم الجاهلية، ومعالجة ما تولد عن هذه الفتنة من صراع فكري ومذهبي حدد مآل الفكر السياسي الإسلامي كله تحديده للواقع السياسي الإسلامي في مجمله، الذي جعله محكوماً بشراك الاستبداد، خلافاً لما تقتضيه عقيدة الإسلام ورسالته.
إن التجوال في فكر المسلمين يدلنا على أصناف القول في "السياسة"، وهي:
1- الفلسفة العملية، ويمثلها الفارابي خاصة.
2- فقه القانون العام، ويمثله الماوردي خاصة.
3- أدب نصائح الملوك، ويمثله مسكويه خاصة.
4- علم اجتماع السياسة، ويمثله ابن خلدون خاصة.
5- القول العام الجامع للأصناف الأربعة السابقة.
وابن خلدون يمكن اعتباره ممثلاً لتصور هو أقرب ما يكون من التصور السني الذي غلب في تاريخ الحكم. والفارابي ممثل لتصور هو أقرب ما يمكن من التصور الشيعي الذي غلب في تاريخ المعارضة.(33/2)
بالطبع التاريخ الفعلي لا يكاد يخلو من اعتبار المثال، والموقف الثاني يتحدد بظرف التاريخ الخيالي الذي لا يخلو من اعتبار الواقع.
وهنا علينا أن ندرك أن فكر المسلمين لا يمكن أن يصبح فكرًا بحق إلا إذا تعالى على التحدد بكونه سنياً أو شيعياً، بل يتعين بطبيعة موضوعه (سياسي، طبيعي... إلخ)، أو بطبيعة منهجه (علمي، تقني... إلخ)، أو بقصده المعرفي (تفسيري، تأويلي، نقدي.. الخ).. يومها فقط يمكن أن نقول: إن الحوار بين المسلمين بجميع فرقهم العقدية وألوانهم السياسية قابل لأن يصبح حوارًا مثمرًا وفكرًا ناجعًا؛ لكونه يجعلهم مسهمين في التاريخ الإنساني بما يسهم به العقل الإنساني عامة في التاريخ؛ أعني بإبداع القيم الخمس المناسبة لحضارته: الذوقية (جميل - دميم)، والخلقية (خير - شر)، والمعرفية (صدق - كذب)، والتشريعية (حر - مضطر)، والوجودية (شاهد - جاحد)، لتحقيق نسيج الحضارة الإنسانية في خدمة القيم العليا التي يحددها علمنا بالشرائع والطبائع، وما بينهما من تبادل في الاتجاهين ثم وحدة متعالية عليهما وعلى تفاعلهما.
شروط تحقيق المشروع
إن الموقف الذي نهدف لتأكيده والذي يؤمن بوحدة الفكر الفلسفي الإسلامي متجاوزًا الخلافات "الشعوبية" (بين العرب والفرس)، و"العقدية" (بين السنة والشيعة) السطحية، هو الذي تمثله قيادات النهضة الراشدة في الفكر السني والشيعي تخلصاً من الخلافات المذهبية؛ لتحقيق الوحدة الإسلامية أمام الهجمة الاستعمارية في بدايات النهضة.(33/3)
وللسيد محمد خاتمي في هذا الصدد كلام نفيس، إذ استخلص في كتابه "الدين والفكر في شراك الاستبداد" أنه يمتنع أن تتحقق نهضة المسلمين دون التخلص من الخلافات العقدية التي طابقت الخلافات الشعوبية وخاصة بين أقوام الإسلام الخمسة الرئيسية: العرب والفرس والترك والهنود والبربر. فالعرب هم الأصل الأول لكون الرسالة بلغتهم، والفرس يبرزون حضارياً، والترك سياسياً: وثلاثتهم يمثلون القلب. ويضاف إلى هذا القلب جناحاه: البربر والهنود فهم في الجناحين وفي الأقاصي. لذلك فالنسر الإسلامي يحتاج إلى هذا المخمس الذي يمثل قاعدة الانطلاق الدائمة التي فتحت للإسلام كل العالم بأقوامه الأخرى، غربا وشرقا، فضلا عن كون الأقليات المهاجرة من هذه الأقوام الخمسة هي التي تمثل سفراء الإسلام في كل بقاع العالم.
ولأن هذا الاستنتاج الذي وصل له السيد خاتمي فيه بصيرة ويدركه المفكرون من سنة وشيعة بدرجة متزايدة تتضح في الحوارات والمتابعات والجهود المشتركة -لذا فالواجب يقتضي تأييد مشروع الحوار والتعاون من خلال الإسهام في تحقيق هذا الهدف بطلب الحقيقة ومناقشة شروطه وشروط صموده أمام رواسب الصراع المذهبي بين السنة والشيعة أولاً، وأمام ثوابت تأويل تاريخ هذا الصراع في النظريات التي تخلق مناخاً ثقافياً وأكاديمياً سلبياً، خاصة اليسارية.
إن علينا أن ندقق البحث في المسائل التالية تعميقا للحوار حول إشكالية الفكر السياسي في الحضارة الإسلامية بصرف النظر عن المقابلة المذهبية بشكليها التقليدي (بين السنة والشيعة) والحالي (بين يسار التيار التحديثي ويمين التيار التأصيلي)، وهي تلك المقابلة التي تسيطر على قراءة هذا التاريخ قراءة أيديولوجية فتواصل تمزيق كلا المذهبين السني والشيعي إلى فريقين بينهما نزاع متجدد.(33/4)
ولنسأل: لماذا لمْ تكن الوحدة الواقعية والسلوكية بين السنة والشيعة كافية لإيجاد فكر سياسي علمي يمكِّن من تحقيق شرط تجاوز الأيديولوجيا، يتعامل مع الظواهر الإنسانية؛ ويسعى إلى تفسيرها بدلاً من التحسر على كونها ما كانت، أو على عدم كونها على ما كنا نتمنى أن تكون.
وبعبارة أوضح: هل نستطيع أن نقدم علاجاً عملياً لواقع الاستبداد يجتمع عليه أهل المذهبين؟ أم إن المقابلة بين الفكر الشيعي والسني ما تزال في الحقيقة فاعلة مما يسبب الإعاقة المعرفية والتقابل/ التعارض المستمر –وغير النافع- بين خصائص مشروع الفارابي الفلسفي ممثلاً للفكر الشيعي، وخصائص مشروع ابن خلدون الفلسفي ممثلاً للفكر السني؛ إذ إن كلا الفيلسوفين صريح الانتساب إلى أحد الموقفين المعرفيين وكذلك إلى أحد المذهبين؟
هل يمكن أن نحقق مشروع وحدة المسلمين، وهو مشروع نتفق عليه ونطلبه بكل إيمان وثقة؛ مشروع وحدة النهضة الإسلامية الجامعة بين الحرية والعدالة بإنجاز مصالحة بين الموقفين القديمين؟ وأليست هذه المصالحة تتطلب فهم سبب كونها لم تتحقق حتى الآن ليس بين المذهبين فحسب، بل بين أصحاب التصور اليوتوبي وأصحاب التصور العملي للظواهر الإنسانية في كلا المذهبين؟ أليس هذا شرط البحث عن الحقيقة التاريخية وشروط المعرفة العلمية للظاهرة السياسية في التاريخ الإسلامي.. والإنساني؟
الشروط الضرورية والكافية لتحقيق هذا المشروع الطموح (وحدة المسلمين لتحقيق النهضة) تستلزم التخلص من عائقين أساسيين هما:
1- تصور التاريخ كمجرد قالب يحصل فيه ما يحصل بمقتضى إرادة البشر المتحررة من كل مؤثر موضوعي ، الأمر الذي قد ييسر العودة إلى المقابلة/ المواجهة والاستسلام للمسار السالف للمواجهة. (عائق منهاجي/ إبستمولوجي).
2- عرض التاريخ بوصفه صراعا بين الخيّرين بإطلاق والشريرين بإطلاق، الأمر الذي قد ييسر العودة إلى التاريخ المذهبي (عائق إيديولوجي).(33/5)
وبذلك يصبح مشروع توحيد المسلمين بالتغيير السلمي والإدارة السياسية/ الاجتماعية الشورية التي نسعى إليها جميعا ممتنعاً لسببين:
1- سبب إبستمولوجي هو علة سوء تأويل فكرة الثورة كما وصفها ابن خلدون (الغلبة) بدلالاتها القرآنية المنضبطة والإيجابية التي أدرجت ظلماً ضمن النظريات التبريرية للاستبداد، وليس محاولة لتحقيق المعرفة العلمية التي هي شرط في كل تغيير وإبقاء مستوى العنف في أدنى صورة.
2- وسبب أيديولوجي هو التمييز بين علم العمران وفلسفة المدينة الفاضلة وكأنهما منفصلان.
ذلك أن تغيير العالم التاريخي (العمران) مثله مثل تغيير العالم الفيزيائي (الطبيعة) يشترط أن يكون العمران ذا قوانين معلومة، مع عدم استثناء الإيمان الواجب بالقيم.
الوسيلة التي تحقق تلك الغاية -التعاون السني الشيعي- تتطلب التوحيد بين الموقفين السني والشيعي من الاستبداد. فلا يكون التوحيد بين الفكرين السني والشيعي توحيدا ظاهريا يحقق صلحا ظرفيا وسطحيا ويبقي على عمق الخلاف وأساسه البنيوي، ظناً من الطرفين أن السنة عمليون والشيعة يوتوبيون، وكأنهما شرق وغرب لا يلتقيان.
ويعطينا ابن خلدون مثالاً للتوحيد بين الرؤيتين في تحليله لثورة الإمام الشهيد - سيدنا الحسين رضى الله عنه- فنجده يقول:
"فرأى الحسين أن الخروج على يزيد متعين من أجل فسقه لا سيما على من له القدرة على ذلك. وظنها في نفسه بأهليته (معيار خلقي وروحي) وشوكته (معيار سياسي ومادي). فأما الأهلية فكانت كما ظن وزيادة. وأما الشوكة فغلط يرحمه الله؛ لأن عصبية مضر كانت في قريش وعصبية قريش في عبد مناف وعصبية عبد مناف إنما كانت في بني أمية. فقد تبين لك غلط الحسين إلا أنه في أمر دنيوي لا يضره الغلط فيه. وأما الحكم الشرعي فلم يغلط فيه لأنه منوط بظنه وكان ظنه القدرة على ذلك".
منطق الحلول السياسية في الحضارة الإسلامية(33/6)
لا نتصور المسلمين خارجين عن سنن التاريخ البشري؛ لذا فإعادة قراءة منطق الخلاف في سياقاته التاريخية هام.
والمعلوم أن المسألة السياسية قد كانت منطلق الحرب الأهلية/المذهبية التي عاشتها الحضارة الإسلامية منذ مقتل الخليفة عثمان رضي الله عنه إلى الآن بين الفريقين، والمعلوم كذلك أن هذا التاريخ ما يزال يعرض عرضا عقديا فيعتبر صراعا بين حزب الملائكة وحزب الشياطين بلغة القدماء وحزب التنويريين وحزب الظلاميين بلغة المحدثين. ومن عجائب الأمور أن هذا العرض مشترك لعموم المفكرين من السنة والشيعة. وكان الإنصاف يقتضي أن يُقرأ التاريخ بعين ناقدة وموضوعية تبين أن المواقف التي تتغاضى عن شروط بناء الحضارات الجديدة قد حالت دون هؤلاء المفكرين وفهم دور بناة الدولة الإسلامية الأولى والضرورات التي جعلتهم يكونون ما كانوا ويفعلون ما فعلوا، بغير حاجة ولا حكمة من إعادة تدويرنا للتاريخ ولا للنزاع.(33/7)
فالخلاف الذي حصل حول خلافة الرسول صلى الله عليه وسلم عبر عن نفسه بصيغتين، إحداهما كانت صريحة عاد بمقتضاها المسلمون (الذين كان جلهم من العرب في بداية الدعوة) إلى الانقسام بحسب محور لم يتخلص بعد من العصبيات الجاهلية، ويرمز إليها عبارة: "منا أمير ومنكم أمير". والثانية كانت ضمنية وشرع المسلمون في ولوجها، وفيها سيصبح الانقسام بحسب محور بات قريبا من مذاهب الحكم التي ستتحدد لاحقا، ويرمز إليها تأخر الإمام علي في المبايعة. أما الحل الذي حصل في التاريخ فكان بالضرورة أشبه بعدم الحل منه بالحل مما آل بالأمر إلى الحرب الأهلية التي يحدد خصائصها المبدآن اللذان تتضمنهما الصيغتان بعد أن وصلا إلى صورتهما الكلية: فمبدأ العصبية الجاهلية اتسع ليصبح مبدأ العصبية القومية، ومبدأ العصبية السياسية اتسع ليصبح مبدأ العصبية العقدية. وهما المبدآن اللذان حكما الحرب الأهلية التي تكونت في ظلها الحضارة الإسلامية وازدهرت رغم كونها قضت على وحدة الدولة الإسلامية. وقد عمل هذان المبدآن بالتناوب والتصاحب على النحو التالي: فالصراع العقدي تغلب في الأول (الحرب الأهلية كانت عقدية في بدايتها)، ثم انقلب إلى الصراع القومي (حيث تبنت الشعوبية الفارسية الدعوة الشيعية الخالصة بعد أن فشلت محاولة الجمع بين الدعوتين العباسية والعلوية)، ثم عاد الصراع العقدي (ثم أصبح الصراع بين الشيعة عامة بقيادة الفرس والسنة عامة بقيادة الترك)، ثم عاد الصراع القومي (بين الأتراك والعرب) فكان القشة التي قصمت ظهر الخلافة. لكن هذا التناوب لم يستثن التصاحب لكون كل قومية كان الصراع فيها متضمنا للصراع بحسب العقيدة؛ إذ إن كل قومية من قوميات الأمة كانت تتضمن المذهبين مع غلبة التشيع على الفرس لذلك آلت إليهم قيادته حينا، والتسنن على الترك لذلك آلت إليهم قيادته حيناً آخر، فحال هذا الأمر دون التمييز بين البعد العقدي والبعد الشعوبي في الصراع بين المذهبين.(33/8)
وهذه الحرب بدأت منذ توقفت محاولات الخليفتين الأولين تأجيلها بسعيهما الحثيث إلى تخليص الأمة من تطرف المبدأين.
فالمبدأ القبلي انضم إليه بُعْد الشعوبية ليصبح صراعا قوميا فبعث الوعي بالقومية الفارسية وكون الوعي بالقومية العربية (وهو أمر لو لم يحصل لما وجدت آداب الأمتين اليوم بين أيدينا). والمبدأ السياسي انضم إليه بعد المذهب ليصبح صراعا عقديا؛ فكون الوعي بالفهم السني والوعي بالفهم الشيعي للرسالة المحمدية (وهو أمر لو لم يحصل لما وجد فكر الإسلام الفلسفي والكلامي في أهم معضلات الوجود الإنساني عامة والمسألة السياسية على وجه الخصوص). وقد تراكبت المقابلتان تراكبًا جعل الصراعين متواليين في التاريخ الإسلامي بالتداول (بين العرب والفرس ثم بين الفرس والترك ثم بين العرب والترك)، ومتصاحبين دائمًا في كل قوم من أقوام الأمة الإسلامية (بين السنة والشيعة من هذه الأقوام جميعا). وذلك –لحكمة الله- كان هو سر حيوية الحضارة الإسلامية. ولا معنى لهجاء مثل هذه الظواهر ومدح مقابلاتها. فتوسع المبدأ القبلي إلى مبدأ العصبية القومية وتوسع المبدأ الحزبي إلى مبدأ العصبية العقدية لم يقضيا على وحدة الحضارة الإسلامية رغم قضائهما على وحدة الدولة فتمكنت الأمة من تحقيق دورها الكوني بتوحيد غايتها، أعني طموح الأمة الروحي أو نشر الرسالة المحمدية (القضاء على الردة وتوحيد القرآن الكريم في المصحف العثماني) وتوحيد أداتها، أعني طموح الأمة التاريخي أو تكوين دار الإسلام (توحيد المسلمين ضد العدو الخارجي ببداية الفتح خارج الجزيرة)، فكان التوسع الجغرافي والتأثير الحضاري، وكان الجدل الفكري والصراع التأويلي أساسًا لكل الفلسفات الإسلامية.(33/9)
ومن ثم فلا معنى حسب رأينا للموقف المتحسر على ما كان ينبغي أن يكون فما كان حصل وما وقع، والذي علينا أن نفهمه لتكوين من نتمنى تحقيقه بحسب مبدأ العمل على علم. وعلينا أن نبحث في طبيعة الخلاف السياسي الذي لم يكن خلافا طرأ بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، كما يتصور البعض بل كان خلافًا موجودًا حتى في حياته لكونه من جوهر الرسالة الإسلامية ذاتها: فالرسالة التي تختم الرسالات ينبغي أن تتضمن بطبعها أعقد مشكل عرفه العقل الإنساني: كيف يكون الأمر في إدارة الشأن الإنساني الديني والسياسي بعد توقف الوحي الذي يختم الوحي وحتى قبل هذا التوقف كما في حالات تصرف الرسول صلى الله عليه وسلم تصرفًا غير مستند إلى الوحي؟ فأهم مفارقات الدين الإسلامي التي هي جوهره موجودة فيه منذ حياة الرسول حتى وإن لم تبرز بوضوح إلا بعد وفاته. إنها مميزه الأساسي الذي جعله يقوِّم تحريف الدينين المتقدمين عليه صراحة (المسيحية واليهودية)، ويصلح تحريف الفلسفتين المتقدمتين عليه (اليونانية والرومانية).(33/10)
فليس أساس الحكم ربوبيًا (ثيوقراطيًا)، وإلا أصبح ختم الوحي غير قابل للفهم؛ إذ من شرط هذا الحكم أن يكون الوحي محتاجا لتوالي الأنبياء أو لمؤسسة الأوصياء التي تنوب عنهم (الكنيسة: الجماعة الروحية/ أحبار الشعب المختار). وليس أساسه بشريًا (أنثروبوقراطيًا) كما هو الشأن في الفلسفات، وإلا أصبح وجود الوحي غير قابل للفهم؛ إذ من شرط الحكم الأنثروبوقراطي أن يكون العقل مكتفيا بتوالي العقلاء أو بمؤسسة الحكماء التي تنوب عنهم (الجمهورية: الجماعة العقلية). إنما الأساس أمر فريد النوع: وهو تنظيم رابطة بين الديني والسياسي يكون فيها الديني غير مستثن للسياسي والسياسي غير مستثن للديني، وكلاهما على أرضية إنسانية عقلانية، ولهما مظلة من الوحي هادية. وهذا يقتضي أن تكون الأمة كلها -بالشورى الملزمة- مشاركة في السلطانين الروحي والعقلي تحديدا للغايات والأدوات وقياما بالأمرين قياما ذاتيا، والمشاركة فيهما بآليات ومؤسسات وإجراءات تم ترك تحديدها للاجتهاد البشري كفرض عين. وكل تحريف لطبيعة النظام السياسي حصل في تاريخنا كان مصدره جعل هذه المشاركة فرض كفاية، وعجزا عن تصور المؤسسات والآليات التي تحقق فرض العين هذا، أعني أساس البيعة العامة أو الديموقراطية الحقيقية.(33/11)
تلك هي صيغة المفارقة التي كان على الفكر الإسلامي علاجها وهي صيغة طرحها الإسلام لتجاوز الحلين اللذين يعتبرهما محرّفين، أحدهما صراحة، والثاني ضمنا (الحل العبراني المستند إلى الاستبداد الذي تبرره النخبة الروحية، والحل اليوناني المستند إلى الاستبداد الذي تبرره النخبة العقلية). وهما حلان عرفتهما ومارستهما الرقعة الحضارية التي بُعث الإسلام في قلبها. لكن قلة من المسلمين ألغت هذه المفارقة بسرعة عجيبة، وأحلّت جمع خصائص الحل العبراني وخصائص الحل اليوناني، متناسية نفي الإسلام الصريح لفرعي هذين الحلين. ويبدو هذا المهرب من دعوة الإسلام كما جاء بها الرسول صلى الله عليه وسلم معقولاً ومتناسقًا بل وبدهيًا لكونه يعالج ما في ختم الوحي من تناقض ظاهري: إنه حل يعوض اتصال الوحي الذي ينفيه الوحي المختوم بعلم الأئمة المعصومين الموصى لهم بحكم المسلمين وعلمهم الذي يقوم مقام الوحي المتصل (وهذا الحل لم يتغير منذئذٍ ولا يمكن لهذا الحل- الذي لقب منذئذٍ بحل شيعة الإمام علي كرم الله وجهه- أن يتطور حسب رأينا إلا بالتخلص منه). والخوف هو أن يحصل التخلص بالصورة التي تمخضت عن وحدة الحل العبراني واليوناني الحديثة في التوراتية المحدثة الجرمانية، أعني صورة الفصل بين الدين والدولة، وهو ما يجعل الشيعة مرشحة لتحقيق العلمانية إذا لم تتحرر من مهربها السهل من دعوة الإسلام كما جاء بها الرسول صلى الله عليه وسلم. لذلك فلا عجب إذا رأينا في التاريخ الإسلامي كيف أن هذا الإلغاء ازداد تدعيما بفضل الحل الصوفي المستند إلى لدنية علم الأولياء رغم تناقض الحلين. وبفضل الحل الفلسفي لكون التقارب بين الحل العبراني والحل اليوناني تم بتوسط الكلام المسيحي اليهودي في العهد الهلنستي.(33/12)
أما غالبية المسلمين فإنها لم تلغ المفارقة ولم تهرب إلى الحل السهل بل فرضت على نخبها تجريب الحلول الممكنة عقلاً لفهم هذه المفارقة التي لا نظير لها في تاريخ الحل الروحي والحل العقلي المعلومين، أعني التقليد العبراني والتقليد اليوناني. فقد ظل المشكل عندهم معضلة المعضلات وصار فكرهم السياسي بحثا دائمًا عن حله بالتجريب العقلي والفعلي لكل الحلول السياسية الممكنة عقلا. لذلك ففهم منطق هذا التجريب هو المبدأ الذي يساعد على فهم تاريخنا السياسي كما نحاول وصفه وصفًا نسقيًا ومنطقيًا يخرجنا من تحليل الفكر والتاريخ بالاتكاء على المهارب القديمة أو بالاستناد إلى الموقف النفساني التحكمي.
وهذه الوسطية هي التي ينبغي أن ينطلق منها الضمير الإسلامي وكما يقتضي مفهوم الفطرة. فالإسلام يعتبر إطلاق الفصل بين المبدأين عين التحريف الذي يتنافى مع سنن الله. وتحقيق هذه المؤسسات الشورية هو جوهر الثورة التي سعت إليها الرسالة المحمدية من خلال تحديدها شروط المؤسستين الضروريتين لذلك، وهما:
1 - مؤسسة الاجتهاد العقلي التي مبدؤها التواصي بالحق لمعرفته معرفة هي فرض عين على الجميع.
2 - مؤسسة الجهاد العادل التي مبدؤها التواصي بالصبر للعمل به عملاً هو فرض عين على الجميع.(33/13)
ويمثل جدل الفكر السياسي بين السنة والشيعة خاصة وبين كل الفرق عامة في الفكر الديني محاولة لفهم الدلالة السياسية لهاتين المؤسستين ولتجريب الحلول الممكنة عقلا. لكن هذا التجريب غلب عليه الفشل بحكم تأثير تعاضد التحريفين اللذين أرادت الثورة المحمدية إصلاحهما، أعني التحريف الروحي العبراني والتحريف العقلي اليوناني والمرتزقة من الجند والمجرمين الذين استولوا على السلطة السياسية: المؤسستين الشارطتين لتحقيق هذا الوسط الذي يجعل الفعل على الإباحة في الاجتهاد والجهاد ويغني عن مؤسسة الأوصياء المعصومين (الكنيسة) والحكماء المطلقين (الجمهورية أو المدينة الفاضلة) أعني المؤسستين المحرفتين اللتين أفسدتا شرط التغيير الإسلامي النظري كما صاغه الرسول (الاجتهاد النظري بما هو فرض عين أو التواصي بالحق) وشرطها العملي (الجهاد العملي بما هو فرض عين أو التواصي بالصبر).
مشروع الوحدة وأهميته
إذن منطلق الفكر السياسي في حضارتنا كان الخلاف حول السؤال عن أساس الحكم، وهذا السؤال هو: هل الحكم ربوبي (ثيوقراطي) ينتسب إلى العقيدة بحسب العلم المطلق (المتناقض مع ختم الوحي) بالحقيقة الدينية (نظام الوصية والتعيين في الإمامة الشيعية) أم هو بشري (أنثروبوقراطي) ينتسب إلى إدارة الشأن العام بحسب العلم النسبي (الوحيد الممكن بمقتضى ختم الوحي) بالمصالح العامة (نظام الاختيار والمبايعة في الخلافة السنية)؟
ولتحقيق تعاون بين المذهبين أيضاً لا بد أن يتخلص "أهل السنة" من السلبية العملية فتعمل بالجهاد مثل "الشيعة"، وأن تتخلص "الشيعة" من السلبية النظرية فتعمل بالاجتهاد مثل السنة:(33/14)
1- وشرط التخلص من السلبية العملية عند السنة هو العمل الإيماني بالعلم العقلي أو الجهاد المتمم للاجتهاد، فلا يكفي أن يبين ابن خلدون دور القوة في العمل السياسي إذا وضعها بصورة تحول دون عملها في وجودها التاريخي، بل كان ينبغي أن يضع شروط استعمال القوة نفسها لتحقيق الإصلاح السياسي وذلك هو مفهوم الثورة السياسية المستندة إلى المعرفة العلمية. وهذا لا يكون من دون التخلص من نظرية في العمل والتغيير. ففي العالم السني حالت السلبية العملية دون التصدي العملي للفصل بين مبدأي الحكم الطبيعيين: مبدأ تأثير القانون الطبيعي أو القوة، ومبدأ تأثير القانون الخلقي أو العقل، فصار مبدأ الشوكة بيد المرتزقة يحكم الواقع المادي بالقوة العمياء منفصلا عن مبدأ العقل الذي يمثله العلم الاجتهادي. وصار مبدأ العقل منفصلا بيد العلماء يحكم الواقع الرمزي بالفكرة العَزْلى منفصلا عن مبدأ القوة.
2- وشرط التخلص من السلبية النظرية عند الشيعة هو العلم العقلي بالعمل الإيماني أو الاجتهاد المعد للجهاد، فلا يكفي أن يبين الفارابي دور القيم في العمل السياسي إذا وضعها بصورة تحول دون علمها في وجودها التاريخي، بل كان ينبغي أن يضع شروط تحقيق القيم لتحقيق الإصلاح السياسي وذلك هو مفهوم المعرفة العلمية الهادية للثورة السياسية.
ففي العالم الشيعي حالت السلبية النظرية دون التصدي النظري للفصل بين مبدأي الحكم الطبيعيين؛ فأدت إلى نفس النتيجة وإن بدرجة أخف لكون القانون الخلقي يمثله العقل بما هو علم الأئمة المعصوم.
لذلك فليس من المصادفة أن يكون الفكر السياسي الشيعي قد بدأ يحاكي الفكر السني لينظر اجتهاديا في شروط تحقيق قيم الدين جمعا لوجهي الإيمان الحقيقي (بإضافة النظر الاجتهادي بدلا من العلم المعصوم إلى العمل بالقيم الدينية).(33/15)
كما أنه ليس من المصادفة أن يكون الفكر السياسي السني قد بدأ يحاكي الفكر الشيعي ليعمل إيمانيا بشروط تحقيق قيم الدين جمعا لوجهي الإيمان نفسيهما (بإضافة العمل الجهادي بالقيم الدينية إلى النظر الاجتهادي بدلا من دعوى الاستسلام إلى القدر).
وبذلك يتبين التكامل بين فرق الفكر الإسلامي بحيث يصبح مشروع توحيد المسلمين أمرا ممكنا؛ لأنه ضرورة يقتضيها المنطق الذاتي للفكرين في مستوييهما النظري والعملي كما وصفنا.
آفاق الصحوة الإسلامية
الصحوة في جوهرها هي إعادة اكتشاف لمقومات النهضة عبر إعادة اكتشاف السنن الإلهية في كتاب الوحي المسطور وكتاب الكون المنشور، ترتيلا وتفكرا مع سير ونظر.
وسورة العصر وسورة آل عمران تشرحان تعريف الإصلاح من خلال مناقشة مفهوم التأويل لتحديد نظرية الاجتهاد أو الرسوخ في العلم. ومناقشة مفهوم القدر لتحديد نظرية الجهاد أو الرسوخ في العمل وهو ما جعلنا نربط بين السورتين.(33/16)
فسورة العصر: "والعصر* إن الإنسان لفي خسر* إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر" تبدأ بالقسم بالعصر محددة منزلة اللحظة الإنسانية الوسطى وساطة العصر في الصلوات ووساطة الإسلام في التاريخ الكوني وفي العمل بالقيم. وتصف الآية الثانية الإنسان بأنه يوجد في هذه اللحظة أمام الخيار بين الخسر والاستثناء منه. ثم يأتي ذكر شرطي هذا الاستثناء، أعني مضمون الإصلاح أو الإسلام بمستوييه النظري والعملي في صيغة خبرية بالنسبة إلى من اتصف بهذه الصفات في الماضي فيعد من المسلمين (مبدأ قراءة تاريخ الأديان لبيان أنها جميعا إسلام عندما لا تكون محرفة). ويأتي كذلك وفي الوقت نفسه بصيغة إنشائية بالنسبة إلى من سيتصف بهذه الصفات، إذ هي تتضمن دعوة للتحلي بهذه الصفات (شرط الانتساب إلى الإسلام). وكلا المستويين من الإصلاح ذُكِر مرتين مرة ببُعده الشخصي الذاتي ومرة ببعده الجمعي الموضوعي: فالإصلاح النظري تشير إليه الآية بالإيمان شخصيا ذاتيا وتشير إليه جماعيا موضوعيا بالتواصي بالحق, والإصلاح العملي تشير إليه الآية شخصيا ذاتيا بالعمل الصالح وتشير إليه جماعيا موضوعيا بالتواصي بالصبر.
ولما كان التواصي بالحق هو عينه الاجتهاد الذي يعني العلم بحسب معايير إجماعية في غياب العلم المحيط بالوجود (وهو معنى المشاركة في التواصي بالحق)، وكان التواصي بالصبر هو عينه الجهاد الذي يعني العمل بحسب معايير إجماعية في غياب العلم المحيط بالقيم (وهو معنى المشاركة في التواصي بالصبر) -بات من الواجب أن نبحث عن معرفة الشروط الموجبة والسالبة التي يضعها القرآن الكريم لعمل هاتين المؤسستين (الاجتهاد والجهاد في النظر والعمل، سواء كان الموضوع طبيعيًا عالميًا أو شريعيًا تاريخيًا) بوصفهما الأصل الذي تستمد منه السياسة بعديها: النظري والعملي.(33/17)
أما سورة آل عمران فتعالج تحليل أسباب الفساد الناشئ عن الموقفين القائلين بالعلم المحيط (تأويلا للمتشابه) والعمل المحيط (تعليلا بالقدر) فتنقسم آياتها المائتان إلى قسمين: المائة الأولى تعالج تحريف التواصي بالحق الناتج عن تأويل المتشابهات، والمائة الثانية تعالج تحريف التواصي بالصبر الناتج عن التعلل بالقدر الذي هو في الحقيقة أصل كل متشابه. فهي تحدد في الآية السابعة منها العلة الرئيسية التي لأجلها يمكن لتحريف المعرفة الإنسانية أن يحصل: إنها محاولة تأويل المتشابه في أهم موقف نظري من مواقف الحياة, موقف مواجهة المجهول خلال الاجتهاد من أجل الحقائق العقلية التي تجعل العمل يكون على علم. وهي تحدد في الآية الرابعة والخمسين بعد المائة العلة الرئيسية التي لأجلها يمكن لتحريف العمل الإنساني أن يحصل: إنها محاولة التعلل بالقدر في أهم موقف عملي من مواقف الحياة موقف مواجهة الموت خلال الجهاد من أجل القيم الروحية؛ مما يعني أن الرسوخ في العلم لا يمكن أن يكون إلا معرفة اجتهادية تتحرر من وهم تأويل المتشابه، إذ من دون ذلك لا معنى للدين ولا معنى للوحي ولا معنى لانعدام تناهي الطلب النظري. والرسوخ في العمل لا يمكن أن يكون إلا عملا جهاديًا يتحرر من وهم تحليل القدر؛ إذ من دون ذلك لا معنى للحرية ولا معنى للالتزام الخلقي ولا لانعدام تناهي الطلب العملي.(33/18)
ولما كان الوهم الثاني (وهم تحليل القدر) عائدًا إلى الوهم الأول (وهم تأويل المتشابه) تقدمت الآيات التي تدرس تحريف النظر بتأويل المتشابه للتعلل به عن الجحود على الآيات التي تدرس تحريف العمل بتحليل القدر للتعلل به عن القعود. لكن المقصود من الآيات التي يتعين فيها المتشابه والقدر ليست مقصورة على المعنى الفني من كلمة آية (أي: المعنى الدال على مقاطع النص القرآني) فحسب بل المقصود كل الآيات الكونية والشرعية والجامعة بينهما جمعا متشخصًا في العين البشرية وجمعا كليا في التاريخ البشري، أعني الموضوعات التي تتكلم فيها الآيات التي يتألف منها نص القرآن الكريم. الآيات المتشابهة هي إذن أنواع الآيات الخمس التي يتكلم فيها الكتاب الذي أنزل بما فيها هذا المعنى المحدود الذي حُصر فيه النهي عن تأويل المتشابه في الأدبيات التفسيرية التقليدية أو الفلسفية: الآيات الكونية, والآيات الخلقية, والآية الجامعة بينهما في الشخص الإنساني, والآية الجامعة بينهما في التاريخ الإنساني, وآية الآيات أو القرآن الكريم.
ولعل سر الأسرار في الرسالة المحمدية هو إثبات القيام الموضوعي للآيات الخلقية مثلها في ذلك مثل الآيات الكونية واعتبار ذلك معلوما بالفطرة بل هو عين الفطرة الإنسانية كما تتبين من النفس البشرية التي هي وحدة الضربين الأولين من الآيات في قيامهما العيني ومن التاريخ البشري الذي هو وحدتهما في قيامهما الكلي. وليس القرآن الكريم إلا التذكير الخاتم بهذا الأمر من حيث ما لا يمكن للإنسان إلا أن يتدبره لتحقيق شروط الاستخلاف في التاريخ الفعلي وتسيير ذاته بنوره الفطري لكون الرسالات قد ختمت والرسالة الأخيرة ألغت الوسطاء بينه وبين السماء واعتبرت مهمة الدين الرئيسية تحقيق شروط الحرية العقدية والسياسية في العمران الإنساني كما تشير إلى ذلك بوضوح الآية الكريمة : "لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي.(33/19)
فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم" (البقرة 265).
وهذا الأساس القرآني هو في الوقت نفسه شرط تحرير المسلمين والبشرية من العولمة، فمهمة الدين الرئيسية تحقيق شروط الحرية العقدية والسياسية في العمران الإنساني كما تشير إلى ذلك بوضوح آية الكرسي: "لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم".
الخاتمة
الحوار بين فرعي الإسلام الرئيسيين لتجاوز الخلافات المذهبية على أرضية عقدية وفلسفية وعلمية تستند إلى فكر يصل بين سنن فلسفية ودينية ورثناها من تراثنا وسنن تعلمناها من الفكر الإنساني في شكله الحالي خلال القرنين الأخيرين -من الاستفاقة الإسلامية. لذلك فقد سعينا إلى جعل الحوار يجري في مستوى المعرفة بالوحي والعقل والتاريخ.
ومن خلال طبيعة العلاج ومنهجه يتم تقديم البديل ليكون الحوار الجدي في سياق نفس الحضارة.
ومن دون صياغة هذين الوعيين صياغة فلسفية تقبل النقاش بالفحص الداعم أو بالفحص الداحض بالحجج العلمية في الحالتين -فلا يمكن للمسلمين أن يسهموا في التاريخ الكوني بفكرهم النظري والعملي إسهاما يكون بالمواصفات الإيجابية التي تطلبها رسالتهم خاصة وقد مكنهم التاريخ الماضي من تحقيق شرطي هذا الإسهام: الحجم الجغرافي التاريخي والوزن الاقتصادي (أهمية موقع العالم الإسلامي في المعمورة ووزنه الاقتصادي) والمنزلة التاريخية والمغزى الحضاري (منزلة الحضارة الإسلامية في التاريخ ودلالتها الروحية).
والله ولي التوفيق..
---
* أستاذ الفلسفة-كلية الآداب - جامعة تونس الأولى(33/20)
الخطاب الإصلاحى ما بين الرؤى الإيرانية والغربية
د. باكينام الشرقاوي
( مختارات إيرانية : العدد 38 - سبتمبر 2003 )
---
أحيى الانتصار الكبير للرئيس محمد خاتمي في 1997 تساؤلا كبيرا لدى الغرب متمثلا في دوائره الإعلامية والأكاديمية والسياسية وهو إلى أي مدى يستطيع الإسلام خلق شكل للحياة المعاصرة متوائم مع الديموقراطية والرأسمالية وآليات النظام الدولي، وتحكمت الإجابة على هذا التساؤل في نظرة الغرب لمفهوم الاعتدال والإصلاح ليس فقط في إيران وإنما في العالم الإسلامي، وبالطبع لعبت الحالة الإيرانية الدور الرئيسي باعتبارها النموذج الإسلامي الذي ترجم مؤسسيا أيديولوجية ثورية وإسلامية. وتختلف منطلقات الغرب الفكرية والقيمية في تقييم الخطاب الإصلاحي عن الرؤى الإيرانية بثوابتها ومعاييرها الإسلامية آلتي تميزها بالرغم من التفاوت فيما بينها.
يكتسب الخطاب الإصلاحي أهمية قصوى في هذه المرحلة الحاسمة من تطور الجمهورية الإيرانية الإسلامية ومسار نموذجها السياسي الإسلامي، فمستقبل هذا النموذج مرتبط بمآل ومصير هذا الخطاب بمقولاته ورموزه وطموحاته، حيث تسود لغة الإصلاح الشارع الإيراني حتى أن مرشحي الرئاسة العشرة في الانتخابات الرئاسية الأخيرة اجتمعوا على استخدام لغة الإصلاح بالرغم من وجود رموز محافظة بينهم. ولكن ما زال التيار المحافظ المنافس يحوز تفوقا على مستوى المؤسسات المحورية آلتي يسيطر عليها مثل مجلس صيانة الدستور ومجلس تشخيص المصلحة والباسيج والقضاء وجميعها تحت سلطة مرشد الثورة الكبيرة. ومن ثم لا يمكن اعتبار حركة الإصلاح حركة مؤقتة بل هي حركة أصيلة ومتجذرة لدى قطاعات كبيرة من المجتمع الإيراني، ولكنها مستمرة في ظل التنافس مع تيار مواز له حججه ومنطقه المختلف. ولا يجب التعامل مع الخطاب الإصلاحي باعتباره كتلة واحدة، بل باعتباره تيارا رئيسيا في داخله تتعدد الرؤى ولكن في ظل خلفية عامة رئيسية تجمع(34/1)
الإصلاحيين وتميزهم عن المحافظين. فهناك درجة من الانقسام الأيديولوجي تكسر وحدة الحركة الإصلاحية. ولذا من الأهمية معرفة محاور الاختلاف داخل الجناح الإصلاحي وما هي حدوده؟
من ناحية أخري، ما هي رؤية الغرب لهذا التيار، هل يقيمه من معاييره الخاصة ويرى فيه ما يريد أن يراه وليس ما يمثله بالفعل غافلا خصوصية مضامين كثير من المفاهيم المتفق عليها في السياق الإسلامي، ثم هل يسعى التيار الإصلاحي إلى مخاطبة العالم الغربي أكثر من مخاطبته المجتمع الإيراني، ففي ظل حجم المتحقق من دعواه يثور التساؤل حول جدية تطبيق مفاهيم الإصلاح والأدق القدرة على تطبيقها ولذا، قد يكون الاعتقاد السائد هو توظيف هذه اللغة الإصلاحية لقطاع كبير من النخبة الإيرانية لكسب جبهات خارجية لإيران هي في أمس الحاجة إليها على الأقل على الصعيد الاقتصادي. وتكتسب هذه التساؤلات مزيدا من الأهمية في ظل توجه السيد خاتمي للغرب من منطلقات ثقافية بالأساس ومعتمدا على استراتيجيات وأدوات ثقافية في المقام الأول في محاولة لنفى صورة الإرهاب آلتي يحاول الغرب إلصاقها بإيران منذ قيام الثورة.
ومن الأهمية بمكان إدراك التباين أيضا داخل المعسكر الغربي فيما يخص الموقف من التيار الإصلاحي وهى المواقف آلتي تباينت بين عدم الاعتراف بمصداقيته وبين التأييد سواء عن اقتناع بأهمية هذا التيار واقترابه من المفاهيم الغربية أو من منطلق تحجيم التيار المقابل المنافس وهو التيار المحافظ والحد من قدرته على تشكيل النظام الإيراني بشكل متشدد معاد لمنظومة القيم الغربية.
استراتيجية الإصلاحيين:
اختار السيد خاتمي وقطاع عريض من جناحه الإصلاحي تفادى المصادمات الرئيسية مع الجناح المحافظ واختار ألا تنزل الأغلبية العريضة من الإيرانيين إلى الشوارع، خاصة بعد أن خفت حدة التفاؤل في القدرة على تطبيق الإصلاحات المرجوة وآلتي سادت عقب انتخاب السيد خاتمي في 1997، وكان قد كثر الحديث عن(34/2)
انتخاب السيد خاتمي باعتباره ثورة ثانية وربيع طهران وظهرت المقارنة مع ثورة جورباتشوف وأن التغيير قادم وسيحسم صراع السلطة، ثم بدا حاليا أنه لا يمكن كسر هذا الصراع بسهولة وأن التغيير لن يأتي سريعا.
يقوم نهج الرئيس السيد خاتمي على التغيير البطيء التدريجي وترك الملفات محل الخلاف الكبير مثل قضية الانفتاح على الولايات المتحدة وتوسيع الهامش الديموقراطي من خلال تخفيف القيود على تأسيس الأحزاب السياسية، كما انتهج نفس السياسة التي اتبعها في ولايته الأولى القائمة على تحييد التيار المحافظ، من خلال إسناد بعض المسؤوليات الرسمية لعدد من رموزه على الرغم من استفزاز ذلك الإصلاحيين. ويكمل ذلك قيام السيد خاتمي بالابتعاد بمسافة عن التيار الإصلاحي لكي يستفد من دعم المرشد الأعلى الذي يسعى للاقتراب منه.
ووصف محمد على أبطحى هذه الاستراتيجية بأنها مركبة ومعقدة ولكنها منظمة تعتمد خيار التعاون والتنسيق مع المرشد على أمل بلوغ نقطة التحالف معه، لأن أي صدام أو اختلاف بين الرجلين يصل بالأمور إلى طريق مسدود خاصة وأن آية الله خامنئى لا يزال الأقوى أفقيا أي في مؤسسات النظام والدولة والسيد خاتمي هو الأقوى عموديا أي في العلاقة بين الدولة والشعب (بين مؤسساتها والمجتمع( وأي محاولة من السيد خاتمي - رغم شعبيته - لتجاهله لن تفلح.
وبذلك يعمل السيد خاتمي بهدوء من أجل الانخراط النافذ والمثمر في نسيج الدولة والإدارة، وقيل أنه نجح في تعيين ما لا يقل عن خمسة آلاف مسؤول في مواقع أساسية ومفاتيح في الدولة والإدارة بلا ضجيج. باختصار انصب تأكيد السيد خاتمي على تعظيم الاستفادة من المتاح في الدستور.
ونجح بالفعل السيد خاتمي في تفادى أي قطبية فجة ومثيرة للطرف الآخر بالرغم من النقد الذي تعرض له من مسانديه والداعين إلى نهج طريق أكثر تصادمية وتصارعا مع المتشددين مستغلين الدعم الجماهيري لمثل هذه المبادرات. ولكن في الحقيقة نجحت(34/3)
استراتيجية السيد خاتمي في حل كثير من الصراعات من خلال إجراء مفاوضات ناجحة مع المحافظين، مثال ذلك المحادثات آلتي أجريت في ظل قتل بعض النشطاء والكتاب العلمانيين والتي أدت إلى استصدار وزارة الاستخبارات اعترافا عاما معلنا. لقد استطاع أسلوب رجل الدولة الهادئ الذي تبناه السيد خاتمي في كثير من المجالات الأخرى توسيع مجال حرية حركته منها على سبيل المثال، أنه استمر في الإشارة إلى أحقية مجلس الشورى في إبعاد الوزراء حتى بعد إبعاد نورى ولكنه في نفس الوقت اختار موسوى لارى الذي يعد امتدادا لسياسات الأول. من الواضح أن الحلول الوسط والتفاوض والمساومات سواء سرية أو شبه سرية ستستمر بين أجنحة النخبة حيث يعمل قطاع منها على دفع النظام من خلالها إلى مزيد من الانفتاح.
بزغ رأى من داخل الإصلاحيين - يتسع بمرور الوقت - أن هناك نوعا من الوهن والخمول بدأ يسيطر على روح هذه الحركة حيث ظهرت تصورات يائسة محبطة بين المحللين والنخب السياسية فيما يتعلق بتيار الثانى من خرداد; فهناك مجموعة من الأحداث أدخلت المحيط السياسي الإيراني في مرحلة جديدة من الائتلاف شبه المعلن بين التيارين (الإصلاحي والمحافظ) في معادلة سياسية جديدة. يوما بعد يوم يتضح أكثر أن الإصلاحيين داخل الحكومة ليس لديهم الرغبة في تجاوز الخط الأحمر الذي وضعه المحافظون، حيث أن الفشل والتكلفة الباهظة التي دفعوها قد دفعتهم للاعتدال. وتركزت أحاديث معظم الإصلاحيين على سبل التقريب بين مطالب الشعب وقدرات واحتياجات الحكومة ونظام الجمهورية الإسلامية. وسعت القوى السياسية التي كانت تريد إقصاء المحافظين عن السلطة فيما بعد إعادة انتخاب السيد خاتمي إلى إضفاء المعقولية على هذه المطالب وتحجيمها وذلك من خلال قنوات النظام الموجودة وتطبيقها في حدود إمكانيات النظام وبالسرعة والشدة التي يتحملها النظام. وغلب على خطاب الإصلاحيين داخل الحكومة في تلك الآونة كلمات ومصطلحات(34/4)
مثل الاعتدال وترجيح الحد الأدنى للمطالب الشعبية على الحد الأقصى لها والتحرك التدريجي والهدوء الفعال. أما القطاع غير الحكومي والأكثر تهميشا من هذا التيار فقد عمد إلى خطاب نقد الماضي والتوجه المتوازن بين مفهومي الجمهورية والإسلامية، وفى نفس الوقت ظل الجناح الراديكالي للإصلاحيين متمسكا بشعاراته ومطالبه وغير مستعد للإذعان لسلطة المحافظين. وهناك جماعة من مؤيدي حركة الإصلاح تكرس هجوم المحافظين عليها واعتبروها خارج النظام وليس داخله وهى ما سمي بالقوى القومية الدينية التي تريد من السيد خاتمي التصدي لمعارضي الإصلاح بقوة وسرعة أكبر وضخ دماء جديدة لشرايين جسد الإصلاحيين الهزيل لأن فشل الإصلاح يعنى مواجهة خطر الديكتاتورية الشاملة.
ويبدو أنه أمام تزايد حذر السيد خاتمي في ولايته الثانية ظهر قلق عميق لدى مؤيدي الإصلاحات سواء في الداخل أو الخارج من مفهوم الحاكمية الإسلامية وهى تحوطه في التعامل الجدى مع المؤسسات الاحتكارية والسلطوية داخل النظام، وتعجب كثير من المحللين من أن مؤيديه يائسون ومنافسيه مسرورون. ومما لاشك فيه أن هذا النوع من التعامل من قبل السيد خاتمي قد حد من توليد الأزمات المتبعة على يد المحافظين. ويرى بعض مؤيدي الإصلاح أنها ملابسات ضرورية لسياسة الإصلاح ويتحدثون عن أهمية مواكبة المحافظين للإصلاحات، خاصة وأن المصالحة والتوازن الفعلي أمر مفيد للإصلاحات وأن تحويل المحافظين الرافضين للإصلاح إلى مؤيدين له أمر له أهمية كبرى ويمكن أن يقلل من الضغط الواقع على عملية الإصلاح، ولكن منفذى الإصلاح لا يعتبرون هذا المنحى سببا كافيا للتنازلات السياسية المقدمة من قبل زعماء التيار الإصلاحي.
إن أبرز نتائج هذه المعادلة هي السكوت السياسي للسيد خاتمي حيال قص أجنحة القوى القومية الدينية وتأثير هذه المصالحة على معنويات أفراد حركة الإصلاح. وكان الانشقاق الأخير في حزب مكتب تدعيم الوحدة إحدى نتائج(34/5)
التفسخ الذي وقع بين الإصلاحيين. وبذلك سادت النظرة داخل التحليلات الإيرانية إلى التيارالإصلاحى كتحالف بين ثلاثة قطاعات: قطاع من القوى الأكثر محافظة داخل جبهة الثانى من خرداد والممثلة في مجمع روحانيون مبارز، وكوادر البناء حيث إن الحركة قد حققت أهدافها برئاسة المجلس السادس وأن المعادلة السياسية الجديدة مناسبة للحصول على الحد القصى من مطالبه. أما القطاع الأوسط من الإصلاحيين والذي يضم السيد خاتمي وحزب المشاركة الإسلامي فقد لجأ إلى المعادلة الجديدة لمواجهة الهجوم الشامل للمحافظين ويرى أن الوضع القائم أفضل من فقدان إنجازات الثانى من خرداد. في حين أن القطاع الراديكالي من جبهة الثانى من خرداد يتعامل مع المعادلة الجديدة تعاملا مزدوجا، فمجموعة المثقفين والصحفيين والجامعيين من هذه الجبهة ذهبت مذهب السيد خاتمي وأسلوبه المعتدل يهيئ الفرصة لإعادة النظر في أساليب الماضي واستراتيجيات وخطط الإصلاح ولتطبيق برامجه وفضح نتيجة أعمال المحافظين وبذلك فإن تقليل ضربات الإصلاح يهيئ الفرصة لتجديد قواه. وتمثل المجموعة الثانية شخصيات منفردة واتضحت الفرقة بشكل اكثر جدية في القطاع الطلابي منعكسة على مكتب تدعيم الوحدة.
ومن ثم فقد تعرض السيد خاتمي لكثير من الانتقادات من الإصلاحيين الإيرانيين ومن بعض الدوائر الغربية، حيث رأت صحيفة صدا الإيرانية المقربة من التيار الإصلاحي أن القيادة الإصلاحية غير قادرة على وضع خطط استراتيجية دفاعية أو هجومية ضد التيار المحافظ، ويعتقد الكثيرون أن السيد خاتمي منظر جيد لكنه غير قادر على تطبيق البرامج الإصلاحية، وأضاف المحلل الإيراني عماد الدين باقي أن حكومة السيد خاتمي تهاونت وفقدت زمام المبادرة أمام المتشددين وأهدرت قدرات الحركة الإصلاحية وتتحمل مسؤولية الوضع الراهن; كما أعلن الكسندر ادلر أن السيد خاتمي ابن المؤسسة عاجز عن تطويرها لا سلما ولا حربا أو عن الالتزام بوعوده(34/6)
الإصلاحية، إن السيد خاتمي ذاته بات مدركا أنه لا يستطيع تنفيذ برنامجه.
وفى الوقت ذاته ظهرت دعاوى بين الإصلاحيين لضرورة تطوير طريقة مواجهة المحافظين في الفترة الرئاسية الثانية للسيد خاتمي للحيلولة دون أفول نجم المشروع الإصلاحي والعمل على اتخاذ تكتيكات مؤثرة لتحديد التوازن الجديد في القوى قبل تطبيق الإصلاحات ومنها تكريس الاهتمام بالشعبية ونقد الذات وإنشاء مؤسسات مدنية قبل تطبيق الإصلاحات بالإضافة إلى الاستمرار في المباحثات والمساومات حتى تكون المواجهة محسوبة.
بل إن البعض تخطى الحديث عن الاستراتيجية الهادئة إلى الدعوى بتبنى استراتيجية الردع الفعال بهدف التصدي الوقائي للمعارضة المناهضة للإصلاحات، لأن المحافظين قاموا باستغلال تبنى الإصلاحيين لاستراتيجية الهدوء الفعال من أجل إصابة عملية الإصلاح بالشلل الكامل مستخدمين في ذلك آليات شبه قانونية، فبدأ يزيد الإحباط الناجم عن عدم جدوى الإصلاحات وتتدعم نظرية نهاية عملية الإصلاح. وأفاضت منظمة مجاهدى الثورة الإسلامية (التي أغلقت الجريدة عصرما الناطقة باسمها في يناير2002( بأن عدم استغلال الإصلاحيين بشكل كامل للحقوق والصلاحيات الدستورية لديهم لم يقابله مهادنة من المعارضين، بل زادت شدة الضغط الواقع على مجلس الشورى والحكومة ورئيس الجمهورية، حيث انتقلت الضغوط من هيكل الحركة الإصلاحية والطلاب والصحافة غير الحزبية والقوى الاجتماعية إلى المؤسسات الرسمية الإصلاحية والحكومة وكذلك الأحزاب. إن استراتيجية الهدوء الفعال وتعطيل الإمكانات والصلاحيات القانونية من قبل الإصلاحيين (مثال ذلك إيقاف مجلس الشورى مشروع تعديل قانون الصحافة حتى يحول دون خلق أجواء العنف والفوضى( قد زاد من العداء في مواجهة الإصلاحات بدلا من تشجيع حسن النوايا والتعاون. ولذا، رأى هذا الاتجاه أن المقاومة أو الردع الفعال خطوة جديدة في طبيعة ونهج الحركة الإصلاحية، حيث ينبغي على الإصلاحيين(34/7)
الاستفادة من صلاحياتهم القانونية، وألا يفزعوا من ضغوط أعداء الإصلاح وألا يستدرجوا لواحد من الخيارين الخاطئين: التصالح والتسليم أو الانفعال والاستعفاء. فعند قيام النواب الإصلاحيين بالتصويت على تلك المشروعات الإصلاحية بالرغم من علمهم برفض مجلس صيانة الدستور مسبقا فإنهم سيثبتون رغبتهم في الإصلاح وأن المحافظين هم العقبة. ويجب ملاحظة أن هذه الدعوى الجديدة ما زالت في إطار المنطق الإصلاحي والتي تعتمد على الإصلاح التدريجى والطابع السلمى والديموقراطية.
وفى هذا السياق بدت الأزمة الأخيرة ،عندما تم رفض مشروعي القانون اللذين صوت لصالحهما مجلس الشورى الإسلامي: الأول خاص بالانتخاب ويسمح بتوسيع مجال ونطاق الترشيح، والثانى خاص بتوسيع سلطات رئيس الجمهورية بشكل يمكنه من تطبيق الدستور كحام له، كاختبار جديد لاستراتيجية المهادنة التي اتبعها القطاع الأكبر من الإصلاحيين وتأكيد آخر للسلطات الدستورية الضخمة تحت يد المحافظين. ويصبح السؤال الآن إلى متى ستصمد استراتيجية المهادنة وماذا يملك المعسكر الإصلاحي حقيقة لتغيير ميزان القوة بدون تعريض النظام ذاته إلى هزة عنيفة تؤثر عليه تأثيرا عكسيا غير مرغوب فيه؟
قضايا الإصلاحيين:
لم تتفق الكتابات سواء الإيرانية أو الغربية عند تحديد التيار الإصلاحي، فهناك من رآه تحالفا ما بين اليمين المعاصر مع اليسار المعاصر في مقابل التحالف المحافظ ما بين اليمين التقليدى واليسار التقليدي، حيث أن اليمين عموما يميل فيما يخص القضايا الاقتصادية إلى صالح السوق الحرة وإن اختلفوا في داخلهم حول الأبعاد الاقتصادية التي لها الأولوية والاستراتيجيات الاقتصادية الواجب تبنيها، في حين يهتم اليسار أكثر بمسألة العدالة الاجتماعية وكذلك اليسار ليس موحدا في أفكاره حول الاقتصاد. وبدأ الاختلاف حول القضايا السياسية العريضة مثل الانفتاح والديموقراطية يفسر أكثر الانقسام الثنائى الرئيسى للتيارات(34/8)
السياسية الإيرانية. ويشار إلى جبهة الثانى من خرداد باعتبارها اليمين واليسار المعاصرين التي تكونت كتحالف يجمع أكثر من تنظيم وشخصية لدفع إيران بعيدا عن الحكم التسلطي.
فعلى سبيل المثال، تختلف النظرة داخل اليسار الإسلامي فيما يخص الديموقراطية، حيث أن اليسار التقليدى يقف بنموذج الديموقراطية عند المشاركة في حين ينطلق به اليسار الجديد إلى أبعد من ذلك إلى ضرورة توفير النظام للمنافسة حتى تتوافر البدائل التي يختار فيما بينها الشعب. ومن ثم فإن قواعد اللعبة الديموقراطية يجب أن تطبق على الجميع وليس من الضرورى أن يكون اليسار هو التيار الفائز دوما في هذه اللعبة. وفى المجال الاقتصادي فإن اليسار التقليدى يرحب بأي تدخل من الدولة ويعتبره إيجابيا، في حين أن اليسار الجديد لا يرى أن كل تدخل دولة مفيد وأنه يمكن استخدام آلية السوق كآلية لتخصيص الموارد، فالخلاف الرئيسى حول مسائل تخص الحداثة والالتزام بالديموقراطية، فاليسار الجديد لا يوافق على تدخلات الدولة في جميع نواحى الحياة ويدعو لحماية المجتمع المدنى وعدم تحول الجميع إلى خدام الدولة.
من أجل إيضاح التداخل بين التنظيمات عند تصنيفها بحسب التيارات الأيديولوجية، لابد من الفصل ما بين القضايا الاقتصادية- الاجتماعية من جانب والقضايا السياسية- الثقافية من جانب آخر. ففي السياق الإيراني يختص التمييز ما بين اليسار واليمين بالنوعية الأولى من القضايا: فالتيار اليمينى يؤيد توسيع دور القطاع الخاص في حين يدافع اليساريون عن أهمية دور الدولة ومزيد من عدالة توزيع الدخل. أما التمييز ما بين التيار المحافظ والتيار المعتدل الإصلاحي فينصب على المسائل السياسية والثقافية: فالمحافظون يؤمنون بعدم إطلاق الحريات السياسية والثقافية، في الوقت الذي يدعو فيه اليمين لمزيد من الانفتاح السياسي والثقافي. ولا يشترط أن يرتبط اليمين بالاعتدال بل قد يظهر على العكس تنظيم يسارى إصلاحي.(34/9)
ومن ثم لا تناسب منظومة القيم الليبرالية الغربية التي تربط بين السوق الحرة والحريات المدنية والسياسية الواقع الإيراني بحيث تتداخل المواقف الأيديولوجية بالنظر للقضية محل البحث.
انتقل كل من اليمين الإصلاحي واليسار الإصلاحي بعيدا عن منظوره التقليدى بعد انتخاب السيد خاتمي لكى يركز أساسا على تطوير الليبرالية السياسية ولكن في إطار ولاية الفقيه التي يتوسعون في تعريفها. لقد تباينا فيما بينهما حول السياسة الاقتصادية وكيفية تحقيق الليبرالية السياسية والاجتماعية- الثقافية. وحتى قريبا دافع اليسار الإسلامي عن السياسات الاقتصادية الاشتراكية التقليدية وأظهروا اهتماما أقل بتحقيق النمو الاقتصادي أو محاربة التضخم. ولكن انتقل كثير من عناصر اليسار الإسلامي إلى الاقتراب من رؤى الليبرالية الجديدة للوسط واتضح ذلك منذ عام 1999 عندما تعرضت خطة التنمية الموجهة للنمو التي قدمها السيد خاتمي لنقد ضعيف من اليسار. ومن ثم يضم تحالف اليسار والوسط الإسلامي رؤى مختلفة فيما يخص السياسة الاقتصادية وهى الاختلافات المسكوت عنها الآن. في حين أن التباين حول خطوات الإصلاح السياسي والاجتماعي- الثقافى وأدوات تحقيقه أكثر وضوحا وانقساما، مثال ذلك، عدم الاتفاق حول تأييد رافسنجانى في الانتخابات البرلمانية الأخيرة، والتي كان ضعف أدائه سببا وراء إضعاف تيار اليمين الإصلاحي وتراجع بعض عناصره ليقترب من مواقع اليسار الإسلامي ويقلل من الاختلافات فيما بينهما على الأقل مؤقتا.
تحتل قضية التغيير مكانة محورية عند الفصل بين الإصلاحي والمحافظ وغيره حيث تتباين النظرة لمدى أهمية الحاجة إلى التغيير بل ودرجة ومعدل هذا التغيير.
يسود داخل خطاب الإصلاح الإيراني إيمان خاص من قبل السيد خاتمي - كما أشار محمد على ابطحي- بأن الثورة في حاجة إلى التجديد يسمح لها بالتفاعل مع المتغيرات المحلية والدولية ليكتمل ما أرسى خلال عقدين، وبدون ذلك فقد تتعمق(34/10)
الفجوة بين الثورة والشعب تدريجيا مما قد يهددها بالزوال، حيث لا يدعو الإصلاحيون إلى تغيير مبادئ وأسس الحكم. ولقد أكد د. رضا السيد خاتمي أنه على مستوى الشعارات ليس هناك فرق كبير بين الإصلاحيين والمحافظين ولكن تظهر الفروق الجوهرية على مستوى فهم الشعارات والرؤى والبرامج، فالتيار المحافظ يتمسك بالحكم الديني في صورة أكثر تقليدية ، في حين أن الإصلاحيين يسعون إلى تجديد هذه الصورة بما يلبى احتياجات المسلمين المعاصرة.
وتركزت الحملات الانتخابية للإصلاحيين على دور الدين في السياسة وتوزيع القوة بين الرئيس والمرشد والبطالة وتدهور الخدمات العامة. وارتبط هذا الخطاب بقضية محورية هي الديموقراطية.
تتبنى النخبة الإصلاحية الإيرانية ومناصريها من المفكرين والمثقفين خطابا داعيا للديموقراطية مؤكدا على حكم القانون وسيادة الشعب ومزيدا من المشاركة الشعبية في السياسة والحرية الفردية وحرية الصحافة، وبتوسيع هذه المفاهيم فهي تدعو إلى إصلاح وتحويل جميع المؤسسات التسلطية، وتركز إحدى الدعاوى على إصلاح مبدأ سلطة التصديق أو الترشيح التي تستخدمها مؤسسة مجلس صيانة الدستور في كثير من الحالات وأصبح هذا المجلس مستهدفا رئيسيا من الخطاب الإصلاحي الإيراني، ولتحديد سلطته كانت وزارة الداخلية في ظل قيادة عبد الله نورى قد قدمت مشروع قانون لمجلس الشورى لتعديل قوانين الانتخابات وتحديد مسؤوليات مجلس صيانة الدستور لإلغاء حق إبعاد المرشحين للانتخابات. كما وجه نقدا إلى مجلس الخبراء فيما يخص بناؤه وأداؤه: فخلال انتخابات 1998 لمجلس الخبراء أثيرت شروط العضوية وظهرت المطالبة بفتح بابها للنساء وللأشخاص العاديين غير الدينيين، بل امتد الأمر إلى المطالبة بالانتخاب المباشر للزعيم في الصحافة الإصلاحية.
وجاء دفاع السيد خاتمي عن الديموقراطية الدينية ليؤكد أن الحكومة الدينية لا تعنى أن الحاكم أو الدولة تملى التعليمات على الشعب وعليه(34/11)
الطاعة. بل إن تعزيز الجمهورية الإسلامية ديموقراطيا يتم من خلال الإرساء التام لما أسماه سيادة الشعب الدينية.كما أكد أن الثانى من خرداد له هوية دينية واضحة مع الالتزام بحرية الرأي.
ولم يستمر منصب مرشد الثورة بعيدا عن التساؤلات حيث أثيرت مسألتان رئيسيتان شرط الخبرة والمعرفة الدينية لتولى هذا المنصب، وثانيا مدى الممارسة الفعلية لمرشد الثورة لسلطته.
وهناك تفسيرات مختلفة لمبدأ ولاية الفقيه بعضها ديموقراطى والبعض الآخر سلطوي، والتباين فى الرأى يظهر حول ما إذا كان الله أم الشعب هو الذى يعطى للمرشد شرعيته داخل الجبهة الديموقراطية الدينية - على الأقل بين المؤمنين بولاية الفقيه - فهناك من يرى أن حق حكم الذات مكفول للشعب ويمكن لهم إيداع هذا الحق لمن يرتضوه، وينحصر الخلاف الثانى فى علاقة الولى الفقيه بالشعب، ويعتقد اليسار الجديد أنها علاقة تمثيلية وليست شكلا رعويا للسلطة قائما على عدم أهلية الشعب لحكم ذاته. وهناك تباينات أيضا خاصة بحدود سلطة ولاية الفقيه ويرى أن الدستور يحدد هذه الحدود وأن المرشد ليس له الحق فى تخطى هذه الحدود الدستورية والتى تحدد شكل قاعدة العقد معه وبمجرد انتهاكها ينكسر القانون ويصبح عدم لزومية اتباع قيادته. ومن هنا لا يناقش اليسار الجديد مسألة قبول ولاية الفقيه بل إن للجدل مستويات أخرى تدور حول حدود ومساءلة السلطة السياسية وحق الشعب فى حكم ذاته. ويحترم اليسار الجديد المراكز الرسمية ولكنه يعطيها تفسيرات دستورية بمقتضاها يتساوى الزعيم مع المواطن العادى أمام القانون، ويعارض بشدة تفسير مجلس الخبراء لمفهوم ولاية الفقيه، واقترب تنظيم كوادر البناء من تفسير اليسار لهذا المفهوم.
ومن ناحية أخري، أشار على أبطحى أن ولاية الفقيه لم تكن من الالتزامات الأولية القطعية بالنسبة للإمام الخوميني، حيث أن نظرية ولاية الفقيه المطلقة تتبنى عنصر المصلحة، فإذا كان شيء ما يمثل مصلحة للشعب(34/12)
لابد أن يكون متوافقا مع الدين. ومن هنا فبالرغم مما يمثله نقد ولاية الفقيه كمفهوم ومؤسسة من دليل على تصاعد حدة الهجوم على أحد أهم الأسس النظرية للجمهورية الإيرانية الإسلامية، إلا أنه ما زال داخل سياق إصلاح آليات الجمهورية الإسلامية وتقديم صيغة أكثر ديموقراطية للنظام الإسلامي، أى فى نطاق الإصلاح من داخل النظام ومؤسسات الدولة وليس الخروج والثورة عليه من خارجه.
وفى هذا الإطار رأت بعض الأقلام الغربية أن تعرض الإصلاحيين لهذا الموضوع يختص بمدى ملاءمة هذا المنصب أكثر من نقده وإدانته، ورأوا أن تركيز السيد خاتمى ومناصريه فى أكثر من موضع على السيادة الشعبية وضرورة الموافقة الشعبية لشرعية النظام إنما يعنى تركيزه على البعد الجمهورى من النظام السياسى فى مواجهة السلطة الملهمة إلهيا لولى الفقيه، كما تعرضت بعض عبارات السيد خاتمى وفق هذا المنظور بشكل غير مباشر لهذه القضية: مثال ذلك مناقشة قوة التفسير المطلقة لدى البشر مؤكدا على أهمية إدراك السياق المحدد للتفسير البشرى بخلاف الوحى الإلهى المطلق باعتبارها نقدا لسلطة الولى الفقيه. وكانت السلطة القضائية ودورها أيضا هدفا آخر للتحالف الإصلاحى خاصة بعد دورها فى الاعتقالات التى رآها الإصلاحيون غير ملائمة.
ومن القضايا الأخرى المرتبطة بالمسألة الديموقراطية حرية الصحافة والمجتمع المدني. حيث يرى الإصلاحيون أن العقبة الأساسية أمام استقلالية الصحافة ليست مالية بل سياسية وقانونية خاصة وأنه ليس هناك أى حصانة للصحفي، كما أن على الناشرين مسؤوليات ولا حديث عن الحقوق. وكانت مراجعة قانون الصحافة أولى أولويات الإصلاحيين فى مجلس الشورى الجديد (ولكن جاء تدخل آية الله خامنئى ليحد من انطلاقهم فى هذا الموضوع) كما يسعون الى إحداث إصلاح قضائى وإنهاء احتكار الدولة للإذاعة والتلفزة.
ينظر اليسار الجديد الى المجتمع المدنى باعتباره جميع أنواع الجمعيات التطوعية والتى ليست(34/13)
بالضرورة اقتصادية وتضم الأعمال الخيرية والتعاونيات والأحزاب السياسية وتجمعات المواطنين، باختصار أى جمعية تجمع الأفراد سويا وتسمح لهم أن يتبعوا مصالحهم وأهدافهم الجماعية داخل إطار من التنظيم المستقل، ولكن يجب أن يتأسس المجتمع المدنى على منافسة مفتوحة ولكن فى الوقت الذى يتم فيه العمل على حماية الفرد من الدولة القوية لا يجب السماح لتكريس عدم المساواة فى المجتمع، حيث يسعى اليسار الجديد فى هذا الإطار إلى الكفاح من أجل جمع مثاليات المساواة مع الحرية.
إذن يمكن تقسيم المشاركين والمتقبلين لمبدأ الإصلاح وأهميته فى المرحلة الراهنة التى تمر بها الجمهورية الإسلامية ليس فقط بناء على مواقعهم الاجتماعية بل على رؤاهم لمدى ونطاق الإصلاح أيضا إلى ثلاث مجموعات رئيسية: الأولى توافق على الإصلاح بشرط استمراره فى تبرير ولاية الفقيه وآثارها التطبيقية فى السياسات الحكومية والتشريع والحفاظ على الآراء المبنية على ما يسمى بالفقه التقليدي، أما الجماعة الثانية داخل معسكر الإصلاح فتتميز برغبتها فى تطبيق إجراءات إصلاحية أوسع وأشمل تقوم على تبنى الشريعة من منظور يتلاءم مع المتطلبات الحالية، وفى سبيل ذلك هى على استعداد أن تنظم حلقات النقاش الفقهية وأن تتخطى حدود الفقه التقليدي من خلال تطبيق مبدأ الضرورة والمصلحة خاصة عند الحديث عن السياسات الحكومية التطبيقية والعملية، فى حين أن الجماعة الثالثة التى تضم المثقفين الإسلاميين فإنها تدافع عن مفهوم إصلاحى راديكالى لرؤية الإسلام للإنسان والعالم المحيط وتطالب هذه الجماعة بإحلال ولاية الفقيه بما أسمته الإدارة العلمية أى أن يضطلع خبراء معاصرون بمهام إدارة الحكومة ونظرا لأنها جماعة أغلبها من المثقفين فينظر إليها على أنها تعمل خارج النظام.
ومن ثم كان هناك تعددية فى معنى الإصلاح نفسه وهناك المتشددون فيه والذاهبون إلى حد الانفصال التام عن منظومة القيم الإسلامية وهم ما(34/14)
يمكن تسميتهم بالانقلابيين (وهم الأقل عددا)، وهناك التجديديون الذين يقبلون تجديد وإصلاح آليات عمل الجمهورية الإسلامية وإعادة بناء الأدوار المختلفة لمؤسساتها ورسم علاقة جديدة فيما بينها، ومع اختلاف الآراء فى هذه الجماعة إلا أن الإلتزام بالقيم الإسلامية وبمبدأ ولاية الفقيه هو أهم ما يجمعها.
رؤية غربية مختلفة للإصلاح الإيراني:
حددت بعض الأقلام الغربية مسائل أربعة رئيسية للإصلاح: منها الإصلاحات الاقتصادية التى يبغيها معظم الإيرانيين لتوافر فرص العمل وتحد من التضخم وترفع من مستويات المعيشة، وثانيا التخفيف من القيود الاجتماعية والثقافية الإسلامية خاصة الحجاب والعلاقات النوعية والوصول للثقافة والإعلام الغربي، وثالثا علاقات أفضل مع الولايات المتحدة والغرب عامة التى قد تحسن من الاقتصاد وتسهل من السفر والاحتكاك بالخارج وأخيرا يفضل معظم الايرانيين (وفق هذه الكتابات) مزيدا من الليبرالية السياسية التى تزيد من المحاسبة العامة، وبمفهوم أوسع الليبرالية السياسية التى تضم الإصلاح الاقتصادي.
تكمن الأزمة الحالية - وفق الكتاب الغربيين- فى تعريف الإسلام الحقيقي وهى ليست بالجديدة فى إيران. ويكمن الاختلاف الرئيسى بين سوروش وغيره من المفكرين المحافظين فى تفسير مفهوم ولاية الفقيه، والمشكلة الرئيسية عند الأول تنحصر فى مسألة الفرض على الشعب فى حين أنه فى الجمهورية لابد أن يتم حكم الدولة من خلال حقوق الشعب. ومن هنا كثر الحديث عند الغرب عن ماهية الإسلام الحقيقية وأى إسلام نتحدث وكأنه لابد من وجود نسخة وحيدة وسائدة يتبناها المسلمون.
بعد أن ارتبط سوروش بأسلمة المجال الثقافى فى بدايات الثمانينيات تحول لأن يصبح الزعيم الفكرى لليسار الإسلامى ويعمل على تقديم مفهوم نقدى ودستورى للجمهورية الإسلامية وولاية الفقيه. وتركز معظم الكتابات الغربية على سوروش وفكره ويرون انه مثل كثير من المفكرين الدينيين قد انضم إلى(34/15)
صفوف المفكرين العلمانيين بسبب حاجة المجتمع إلى خطاب سياسى جديد، وتعددت كتاباته السياسية التى تناقش علاقة الديموقراطية بالدين والسياسة بالدين، وقدم مفهوم الديموقراطية الإسلامية القائم على مفهوم المنطق الجماعي، وأكد أن المنطق الجماعى فى مجتمع إسلامى سيختار حكومة إسلامية. وترى معظم الكتابات الغربية أيضا أن سوروش بتحجيمه مجال الدين يزيد من استقلالية السياسة والديموقراطية، وعند الحديث عن شرعية الحكومة استخدم المسؤولية الحكومية وشرح الديموقراطية باعتبارها شكل من أشكال الحكومة حيث يكون فيها تنظيم الشعب لقواعده وقوانينه أداء إنسانيا وحقا غير دينى ومن ثم ترى كثير من الكتابات الغربية بل والإيرانية فى بعض الأحيان أن مشروع الديموقراطية الإسلامية يقود فى النهاية إلى العلمانية. ويروا أنه بمتابعة العقبات والصعاب التى يواجهها المفكرون الدينيون فى المجتمع فإن نهاية حلم خلق ديموقراطية إسلامية يقوى من العلمانية والأفكار الديموقراطية مما يفتح المجال أمام الكتاب للدفاع عن حرية التفكير والرأى والكتابة والنشر وكافة الحريات الاجتماعية والفردية. ومن الواضح فى نظرهم ان انضمام المفكرين الدينيين الى صفوف المدافعين عن الحرية سوف يقوى من مكانة المفكرين فى المجتمع. وكأن الدفاع عن الحرية يوازى الدفاع عن العلمانية والمنظومة الغربية بأكملها من ورائها. بل إنهم يرون أن إعلان المفكرين الدينيين أن اقترابهم ليس اقترابا علمانيا إنما هو خطاب دفاعي، وأنه بعد فشل مشروع خلق ديموقراطية إسلامية تغير خطاب المفكرين الدينيين وبدأت تظهر مصطلحات مثل المجتمع المدنى والديموقراطية لتحل محل المجتمع الدينى والديموقراطية الدينية فى الخطاب الجديد. مما يعنى تحولا تجاه خطاب أكثر تسامحا ومتقبلا لحرية الفكر للجميع. ويرى هذا الاتجاه أن سوروش وصل بالتدريج الى قبول واقعى بعلمانية المجال السياسي. ويرحب المفكرون العلمانيون بهذا الاتجاه(34/16)
ويرونه انتصارا ولكنها فرحة خاطئة - وفق البعض الآخر - تجد جذورها فى الرغبة فى إلغاء الآخر ويجب ان تبنى دعاوى القوة العلمانية على المشاركة الديموقراطية للدين فى السياسة وليس لفصل الدين عن السياسة.
واشتركت هذه الرؤى مع نظرة كثير من الكتاب الغربيين أمثال اوليفر روى الذى رأى فشل الإسلام السياسي، وفرانسوا بورجات الذى اقترح ضرورة التحديث فى الإسلام، أو أولفى كارى الذى تحدث عن احتمال العلمانية فى الإسلام، وهى الاقترابات الثلاثة التى رأت اتجاهات غربية أخرى ضرورة مراجعة مبرراتها خاصة وأن الحقائق الاجتماعية فى النظام الإسلامى الذى جاءت بناء على مأسسة الثورة تختلف عن الإسلام السياسى فى الحركات الإسلامية المعارضة، وبذلك فإنه إسلام دولة الآن وليس إسلام معارضة. ومن ثم يوجد داخل كل من الرؤى الغربية والإيرانية جماعة ترى فى الاتجاهات الفكرية الإيرانية الجديدة نوعا من العودة إلى العلمانية وإقرارا بنجاح نماذجها.
يتضح معنى الإصلاح عند هذه الجماعة من المفكرين الغربيين حيث يأملون أن تقع الاصلاحات فى البنية الدينية وما يتبعها من أصل النظام الإسلامى الإيراني، وأن تتوجه ايران نحو نظام علمانى تعددى بحيث يكون للدين فيها دور تابع لغيره من المؤثرات، حتى أن برومبرج اعتبر كتاب بيم موج خطوة إيجابية لتوجيه التراث الفكرى للخومينى صوب الديموقراطية الغربية ويرى أن إيران لديها أكثر من مارتن لوثر واحد لهم أساليب متفاوتة ولكن يسعون وراء أهداف متشابهة وهى القضاء على السلطة السياسية للدين أو الحد منها على الأقل وأنه رغم عدم خوض السيد خاتمى فى مسألة ولاية الفقيه إلا أنها مثارة من قبل كثير من الإصلاحيين التى تضع هذه السلطة موضع تساؤل علني، هو باختصار يرى أن إصلاحات السيد خاتمى هى الليبرالية فنظرية المجتمع المدنى عنده مأخوذة من الفكر السياسى الغربى وأن جميع الإصلاحيين داعمون للحرية السياسية إلا أن الإسلاميين(34/17)
اليساريين متوجسين خيفة من الإصلاحات الاقتصادية.
وشاع أيضا الاعتقاد فى الرؤى الغربية أن دفاع السيد خاتمى عن حكم القانون والمجتمع المدنى خلق أزمة دستورية ميزت مرحلة جديدة فى فترة ما بعد الثورة فى إيران، وأن خطاب السيد خاتمى والتيار الإصلاحي من ورائه للتنمية السياسية فى ظل حكم القانون متناقضا بشكل حاد مع الخطاب الثورى الإسلامى وشعار الحكومة الإسلامية الذى قام عليه، حيث هنا حل الانتخاب الشعبى محل الكاريزما الثورية والتفويض الإلهى كأساس لشرعية الحكم. وبالرغم من عدم تعرض السيد خاتمى لمبدأ ولاية الفقيه إلا أن التناقض بين التفويض الشعبى للرئيس وتفويض المرشد كما نص عليه الدستور برز على السطح بوضوح الآن.
بدا التباين واضحا عند تناول مفهوم الإصلاح لدى الرؤية الغربية من جانب والإيرانية (خاصة القطاع الأكبر من الإصلاحيين( من جانب آخر. فلقد ارتبط الإصلاح فى التحليلات الغربية بمدى الاقتراب من النموذج الغربى الليبرالى والشكل العلمانى للديموقراطية كما هو مطبق فى الغرب; فى حين لم ينفصل خطاب معظم الإصلاحيين عن منظومة القيم الإسلامية الأساسية التى طرحها نموذج الجمهورية الإسلامية.
ولا يعتمد نجاح تجربة السيد خاتمى على هزيمة المحافظين من عدمه وإنما على الحلول الوسط ومدى القدرة على التوفيق التى يقوم بها الإصلاحيون معهم. ويسمح هذا الاقتراب من تحليل التغييرات فى النظام وكذلك فى إسلامية النظام على الطريقة الإيرانية متخطية التحليل الضيق للصراع - الذى ساد بعض الكتابات الغربية - بين الأجنحة النخبوية وجعله صراعا بين المسلمين الغربيين الرجال الطيبين Muslim Western the good guys وهم المعتدلون فى مواجهة الراديكاليين او المحافظين Bad Guys ويصبح الأوائل ضحايا وشهداء الجماعة الثانية. وبالمثل أيضا يجب تخطى التفسيرات المبسطة للتغييرات الحادثة فى النظام الإيرانى باعتبارها مواجهة بين نظام متخلف قهرى من جانب، ومجتمع(34/18)
مدنى طيب يمثل التطور والحرية، فلا يمكن الاعتماد على ثنائية جامدة تفصل بين الدولة والمجتمع تجعل الأول ممثلا للأسوأ والثانى ممثلا للأفضل حيث أن هناك نظاما شموليا يواجهه مجتمع ليس أمامه بديل إلا المقاومة أو القبول، إنما من الأوقع تقدير المساحة المشتركة المتداخلة بين الاثنين، خاصة وأن كلا الجناحين يدرك أهمية الحفاظ على الآخر من أجل الحفاظ على نظام الجمهورية.
وهنا يطرح الغرب تساؤله الهام: ما هو الأمر المتميز دينيا فى هذه الحركة؟ والإجابة هى أن هذه الجماعة ترى أنها مازالت تتمسك بأن الدين والالتزام الدينى يجب أن يكون موجودا بشكل ديموقراطى فى المجال السياسي، ويؤكد اليسار الجديد أن لكل فرد الحق فى اختيار خياراته الشخصية فى حياته الخاصة، فى حين أن المجال العام يجب أن تديره قوانين تعكس إرادة الأغلبية بدون إغفال حقوق الأقلية، حيث تقوم رؤيتهم للدين على تفسيرات جديدة ونقد للتفسيرات التقليدية والتى تتماشى أكثر مع المنطق المعاصر ودفاعا عن التعددية الدينية، وأنه من المقبول أن يتداخل الدين مع السياسة بشرط ترك الحياة الخاصة للأفراد وأن تسيطر القواعد الدينية فى المحيط الاجتماعى من خلال قنوات ديموقراطية.
وعند رؤية الغرب لأهداف الإصلاح ومن ثم نجاحه يظهر اتجاه سائد يرى أنه لا يمكن أن ينجح بدون تحويل الجمهورية الثيوقراطية راديكاليا - ولكن ما هو معيار النجاح عند الإيرانيين أنفسهم؟
باختصار فإن الجمهورية الإسلامية تعنى ببساطة الحكومة الدينية الديموقراطية لأن مواطنيها يختارون بشكل ديموقراطى أن يحكموا مجالهم العام وفقا للمعايير الدينية (وليس العلمانية). كما أن القوانين الضعيفة خير من اللا قانون ومن هنا ينطلق الدفاع عن الدستور بالرغم من مشاكله وتناقضاته. اختلفت النظرة أيضا إلى معدل وسرعة التحول، ولكن سادت تلك النظرة الداعية للتدرج حيث كثيرا ما طرح هذا المنطق: إن تجربة الديموقراطية لا يمكن أن تنجح وتصل(34/19)
الى ذروتها خلال عقدين ولابد من السير بتأمل وتأن فى هذا الاتجاه. ومن هنا تتسم رؤى الإصلاحيين بالواقعية والمرحلية والإيمان بالأسلوب التدريجى المرحلى فى تحقيق الأهداف.
لا يمكن وضع حدود فاصلة ما بين الرؤى الغربية من جانب والرؤى الإيرانية من جانب آخر، فهناك تفاوت فى الآراء داخل كل منظومة يجعل من الأجدر الحديث عن وجود فريقين: جماعة فكرية ترى فى الخطاب الإصلاحى الإيرانى استمرارا لطريق إسلامية النظام سواء أكانت أقلام إيرانية أو غربية، وفريق ثان يرى الإصلاح مرادفا للسعى إلى علمنة النظام معلنة بذلك فشل الإسلام السياسى فى مرحلة التطبيق المؤسسي.
باستعراض سريع لبعض الأدبيات والمقالات الغربية، وجدت صورة لم تكن متوقعة بسبب التداخل الكبير بين الرؤى الإيرانية والغربية، فهناك بعض الكتابات التى بقراءتها كان من المتوقع أن تكون لأقلام غربية فإذا بها إيرانية وصادرة ليست من عناصر المعارضة الإيرانية فى المنفى وإنما من أقلام إيرانية فى الداخل ولها منشورات باسمها، وعلى الجانب الآخر هناك بعض الكتابات الغربية التى تبدو مدافعة أو بمعنى أدق متفهمة للخصوصية الإيرانية ولا تهاجم منظومتها بشكل غير علمى أو غير موضوعي، ووفق معايير غربية خاصة بها بل تحاول أن تضع بالفعل الخطاب الإصلاحى الإيرانى فى سياقه الداخلى والخارجي. ولكن هذا لا يمنع من وجود خلاف بين الرؤيتين الغربية والإيرانية لمفهوم الإصلاح فيما يخص بعض النقاط الجوهرية ومفاهيم بعض الدعاوى الإصلاحية والهدف منها.
كثيرا ما أثار الغرب التناقض بين مبدأين متنازعين للسيادة، الأول خاص بالسيادة الشعبية ويختص الشق الثانى بالسيادة الإلهية، على أساس أنه التناقض الرئيسى الذى يتسم به النظام السياسى الإيرانى ويسبب مشاكل وتوترات كبيرة، وبالتالى فإن الإصلاحيين سيعملون على تكريس الشرعية الشعبية لتدعيم التحول الديموقراطي، فى حين أن خطاب الإصلاحيين فى معظمه لا يرى تناقضا(34/20)
بين إسلامية النظام وجمهوريته، وأن هذه الثنائية ليست تناقضا بقدر ما هى تميزا وتوزيع دستورى للسلطات وأن دور الشعب الأول يتركز فى اختيار إسلامية النظام بشكل ديموقراطي. وبالرغم من إشارة الكتابات الغربية إلى بعض مقولات الإصلاحيين والسيد خاتمى الخاصة التى تؤكد على الدستور باعتباره قاعدة الإجماع الوطنى وأن ولاية الفقيه هى محور النظام، إلا أنها لا تعتمد عليها فى استخراج نتائج تحليلاتها وتركز فقط على جوانب الخلاف الصراعية بين التيارين. وبذلك غلب على الرؤى الغربية وضع الهدف قبل التحليل ثم تسوق التحليل لتحقيق هذا الهدف باعتباره غاية الإصلاح فى إيران.
فى النهاية يقدم التيار الإصلاحى قراءة جديدة لمفهوم الجمهورية الإسلامية وسلطات مؤسساتها ولعلاقة الإسلام بالنظام السياسى والمجال العام الاجتماعى وليس الفصل بينهما وعلمنة النظام كما اتضحت فى بعض الرؤى الغربية.
خطاب طموح وإنجاز محدود:
اتضحت إنجازات الخطاب الإصلاحى على مستوى تطوير وعى وإدراك المجتمع الإيراني وإدخال مفاهيم جديدة فى منظومة تفكيره، كما اكتسب النظام الإيراني ديناميكية ملحوظة عملت على تجديده والابتعاد به عن الجمود.
لقد تركزت مطالب الرئيس على إدارة أكثر كفاءة ودرجة حراك أكبر داخل النخب الحاكمة. فى نفس الوقت لم يرض عن عمليات إغلاق الصحف وفرض حدود على حرية الصحافة. وذكر محمد على أبطحى أن أهم إنجاز تحقق فى هذا العهد حتى الآن هو إدراك الشعب لحقوقه جيدا وتعمقت مفاهيم الحريات العامة والمجتمع المدنى وسيادة القانون ومبدأ الدستور.
ولم يعد أحد يقبل بفكرة أن الولى الفقيه هو هبة من الله وهو المناخ الذى دفع على آية الله خامنئى فى خطابه فى ذكرى وفاة الإمام الخومينى فى 4/6/1002 الى التأكيد على أن شرعية النظام مستمدة من الشعب وإذا جرت محاولة العودة للوراء ستكون التكاليف باهظة وسيدفع النظام الإسلامى ثمنا غاليا.
وأظهرت الحركة الإصلاحية مرونة واضحة(34/21)
كدليل على تفاؤلها وثقتها فى المستقبل، ومن مؤشرات ذلك أنه بعد إلغاء كثير من الصحف الإصلاحية يتم إنشاء غيرها ومازالت تنظم المظاهرات. فمن أهم إنجازات الحركة الإصلاحية حتى الآن نمو الإعلام الصحفى المستقل وثبوت قدرته على الاستمرار بالرغم من ثقل الضغوط.
عند محاولة وضع عملية الإصلاح فى سياق الخريطة السياسية الإيرانية، يتضح محدودية إمكانيات إدخال السيد خاتمى إصلاحاته خلال ولايته الثانية، ولكن استطاع الخطاب الإصلاحى الهادئ المعدل للسيد خاتمى أن يعطى للدول الأجنبية انطباعا بإمكانية إجراء تعديلات هامة على السياسة الإيرانية مما يتطلب دعم السيد خاتمى والعمل على فك الحصار عن إيران وهو رأى الدول الأوروبية التى تجرى ما يسمى بالحوار النقدى مع إيران. كما نظر بعض المراقبين الغربيين أن وجود السيد خاتمى حاليا داخل السلطة السياسية إنما هو نوع من امتصاص لغضب الشارع الإيرانى والذى كان من المحتمل أن يؤدى إلى فرض إصلاحات جذرية للنظام السياسى وكأن ظهور السيد خاتمى زاد من عمر النظام الإسلامى وفق بعض الرؤى الغربية. وينظر الغرب بحذر للتجربة الديموقراطية الإيرانية حتى أن بعض المراقبين يعتبرونها مجرد تقسيم للأدوار يحسن من صورة إيران الخارجية باعتبارها دولة ديموقراطية تتصارع داخلها التيارات السياسية وفق انتخابات تنافسية نزيهة، وبالفعل نجحت إيران فى إضعاف الموقف الأمريكى المتمسك بعزل إيران واختلفت الدول الأوروبية معها.
ومن الأهمية إدراك خصوصية الصراع السياسى الداخلى الإيرانى لأنه ليس مباراة صفرية بل غير صفرية حيث يستطيع كل من طرف أن يجنى مكاسب حتى وإن تكبد خسائر. وينظر المحافظون على سبيل المثال الى الإصلاحيين باعتبارهم يمثلون اختلافا فى الرؤى ولكنهم لايقدمون بديلا حقيقيا منافسا.
ومن ناحية أخري، أصرت كوادر الإصلاح على الأرضية العريضة حتى يتفادوا نظاما حادا جامدا مما يسمح بخلق وتكوين قاعدة عريضة. وكأن(34/22)
التحالفات الواسعة والغطاء الفضفاض أمر تتطلبه المرحلة الحالية، ويرى معظم الإصلاحيين أنه الأسلوب الأنسب فى المرحلة الحالية من أجل توحيد الجهود أمام القطاع النخبوى الأكثر تحفظا. ولن تثار التساؤلات حول مرحلة ما بعد السيد خاتمى وما قد تفرزه من انقسامات حادة داخل صفوف الإصلاحيين.
ومن الواضح أن هناك مشكلة على مستوى التطبيق ونطاق التنفيذ ترجع الى مشاكل تخص العلاقة بين التيار الإصلاحى ومنافسه وإلى التعددية الواضحة داخل هذا التيار ذاته، وإلى ما اتسم به الخطاب الإصلاحى فى معظمه بالعمومية الواضحة فمازال الحديث كثير عن ماهية الإسلام الحقيقى وضرورة إيجاد حلول عصرية بدون تحديد فى معظم الأحيان، ومازالت العموميات تحكم الخطاب الإصلاحى أكثر من التفاصيل الإجرائية وآليات التنفيذ.
وبغض النظر عن النقد الذى يمكن توجيهه للرؤى الغربية التى تتجاهل الخصوصية الإسلامية والإيرانية عند تحليلها الخطاب الإصلاحي، إلا أن الأمر المؤكد أن هناك ترحيبا غربيا شبه عام بهذا الخطاب وبمقولاته وإن اختلف الغرب فى داخله حول أسباب ذلك. ولقد تمثلت أهم نجاحات التيار الإصلاحى فى كسر العزلة التى كانت مفروضة على إيران (خاصة من الولايات المتحدة) وتغيير صورة إيران من دولة دينية تسلطية إلى دولة تسير بخطى واسعة تجاه تدعيم نموذجها الديموقراطى ولم تعد النظرة العدائية لإيران هى السائدة فى الدوائر الغربية، مما يجعل مكاسب الخطاب الإصلاحى خارجية أكثر منها داخلية.
الإراء و الأفكار الواردة في كافة المواد المنشورة في الموقع تعير عن وجهات نظر كاتبيها فقط و لا تعبر بالضرورة عن رأي او سياسة المركز
كافة الحقوق محفوظة - مركز الأهرام للدراسات السياسية و الإستراتيجية - مؤسسة الأهرام - شارع
الجلاء - القاهرة - مصر هاتف رقم 2025786037
فاكسميلي 2025786833 أو 2025786023(34/23)
الخطة السرية لآيات الشيعة في إيران
-----------------------
تم تحميل هذا الملف من موقع البرهان
http://www.albrhan.com
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
نشرت رابطة أهل السنة في إيران - مكتب لندن – هذه الرسالة السرية للغاية الموجة من شورى الثورة الثقافية الإيرانية إلى المحافظين في الولايات الإيرانية. ومتن الرسالة على درجة من الوضوح بحيث لا أرى حاجة إلى التعليقات المفصلة، ولذا اكتفيت ببعض التعليقات الضرورية. وهذه الخطة (البروتوكول ) موجهة إلى المناطق السنية في إيران، من جهة، وموجهة إلى دول الجوار من جهة أخرى لاسيما وأن إيران بعد فترة من المقاطعة الغربية لها رأت أن ذلك ليس في مصلحتها، وسياسات تصدير الثورة لم تعد ذات جدوى بل ضررها عليها أكبر، فنشأ الاتحاد الأقل تطرفا والداعي إلى الحوار والتهدئة والذي نشأ منه بروز ( تيار خاتمي ) وبخاصة بعد تولي إيران رئاسة ( المؤتمر الإسلامي ) بعد مؤتمر طهران فهل سيعدل القوم من رسالتهم؟ لا نظن ذلك، وهذه الرسالة تؤكد ذلك وحدها، وهذا ما أعلناه ونحذر منه إخواننا في كل مكان. والله المستعان.
بقلم
دكتور / عبد الرحيم البلوشي
1419هـ
نص الرسالة: (( إذا لم نكن قادرين على تصدير ثورتنا إلى البلاد الإسلامية المجاورة فلا شك أن ثقافة تلك البلاد الممزوجة بثقافة الغرب (1) سوف تهاجمنا وتنتصر علينا.
وقد قامت الآن بفضل الله وتضحية أمة الإمام الباسلة دولة الاثنى عشرية في إيران بعد قرون عديدة، ولذلك فنحن – وبناء على إرشادات الزعماء الشيعة المجلين – نحمل واجبا خطيرا وثقيلا وهو تصدير الثورة، وعلينا أن نعترف أن حكومتنا فضلا عن مهمتها في حفظ استقلال البلاد وحقوق
---
(1) قارن هذا الاعتراف بما يردده بعض الببغاوات بأن إيران دولة إسلامية، فيا لها من غفلة.
الشعب، فهي حكومة مذهبية (1) ويجب أن نجعل تصدير الثورة على رأس الأولويات.(35/1)
لكن نظرا للوضع العالمي الحالي والقوانين الدولية – كما اصطلح على تسميتها – لا يمكن تصدير الثورة بل ربما اقترن ذلك بأخطار جسيمة مدمرة.
ولهذا فإننا خلال ثلاث جلسات وبآراء شبه إجماعية من المشاركين وأعضاء اللجان وضعنا خطة خمسية تشمل خمس مراحل، ومدّة كل مرحلة عشر سنوات، لنقوم بتصدير الثورة الإسلامية إلى جميع الدول المجاورة نوحد الإسلام أولا (2)، لأن الخطر الذي يواجهنا من الحكام الوهابيين وذوي الأصول السنية (3) أكبر بكثير من الخطر الذي يواجهنا من الشرق
---
(2) أي أن التشيع جميع الدول المجاورة، وفي نهاية الرسالة بيان لهذه العبارة الواضحة.
(3) وفي العبارة الأصلية: المتسننين.
والغرب(4)، لأن هؤلاء ( الوهابيين وأهل السنة) يناهضون حركتنا وهم الأعداء الأصوليون لولاية الفقيه(5) والأئمة المعصومين، وحتى إنهم يعدّون اعتماد المذهب الشيعي كمذهب رسمي دستورا للبلد أمرا مخالفا للشرع والعرف (6)، وهم بذلك قد شقوا الإسلام إلى فرعين متضادين (7).
---
(4) ولذا قالت المخابرات الإيرانية للعلامة الشهيد محمد صالح ضيائي قبل أن يمزقوا إربا إربا: إن الطلاب الذين أرسلتهم للدراسة في الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة أخطر علينا من صواريخ صدام حسين!!
(5) ولاية الفقيه هي الحكم المزعوم بأنه إلهي لنائب إمام المهدي الذي بإمكانه أن يعطل الصلاة والحج، وبإمكانه أن يعطل توحيد الله كما كان يقول الخميني ويردد ذلك أتباعه ليلا ونهارا!!
(6) وهذا الذي قاله الشيخ عبد العزيز ملا زاده نائب أهل السنة في بلوشستان في مجلس الخبراء للكتابة الدستور قائلا للخميني: إن الدولة الإسلامية لا يوجد لها مذهب رسمي في دستورها، فلماذا تكرسون الخلاف والاختلاف إلى الأبد يجعلكم للبلد مذهبا رسميا في الدستور، ألا يكفي أن يكون دين الدولة هو الإسلام: ثم انسحب من المجلس.(35/2)
(7) وهذا الكلام للاستهلاك المحلي وإلا فهم يعرفون جيدا إنهم هم الذين فرقوا المسلمين ثم هاهم يطلبون منهم الاعتراف بالإمامة وإعادة حقوق أهل البيت المغصوبة في زعمهم!
بناء على هذا: يجب علينا أن نزيد نفوذنا في المناطق السنية داخل إيران، وبخاصة المدن الحدودية، ونزيد من عدد مساجدنا و( الحسينيات) (8) ونقيم الاحتفالات المذهبية أكثر من ذي قبل، وبجدية أكثر، ويجب أن نهيئ الجو في المدن التي يسكنها 90 إلى 100بالمائة من السنة حتى يتم ترحيل أعداد كبيرة من الشيعة من المدن والقرى الداخلية، ويقيمون
---
(8) الحسينية هي المكان الذي يجتمعون فيه، خاصة في شهر المحرم، للضرب الخدود وشق الثياب في ذكر استشهاد الحسين- رضي الله عنه- مع سب عظماء الإسلام، ونقد تاريخ المسلمين. ويهتمون بهذه الحسينيات أكثر من اهتمامهم للمساجد وأما في خارج إيران فأصبحت مراكز تجس للإيران كما نشرت ذلك بالتفاصيل جريدة ( انقلاب إسلامي ) لأبي الحسن بني صدر – أول رئيس إيراني بعد الثورة – في العام الماضي وأعلنت عن المراكز الجاسوسية الإيراني في دولة الخليج – خاصة في الإمارات – بالاسم والعنوان والتاريخ وكيف أن المخابرات الإيراني تجمع الأموال من التجار الإيرانيين في الإمارات دون أن تدخل هذه المبالغ الطائلة إلى البنك المركزي!!الإيراني ودون أن تعلم الدولة عنها شيئا، لكن هل من قومنا من يقرأ؟!!
فيها إلى الأبد للسكنى والعمل والتجارة، ويجب على الدولة والدوائر الحكومية أن نجعل هؤلاء المستوطنين تحت حمايتها بشكل مباشر ليتم إخراج إدارات المدن والمراكز الثقافية والاجتماعية بمرور الزمن من بدء المواطنين السابقين من السنة(9) – والخطة التي رسمناها لتصدير الثورة- خلافا لرأي حتى رد فعل من القوى العظمى في العالم، وإن الأموال التي تنفق في هذا السبيل لن تكون نفقات دون عائد.
---
(9) وقد بدئ بكثير من هذه الخطط بالفعل.(35/3)
طرق تثبيت أركان الدولة: نحن نعلم أن تثبيت أركان كل دولة والحفاظ على كل أمة أو شعب ينبني على أسس ثلاثة:
الأول: القوة التي تملكها السلطة الحاكمة.
الثاني: العلم والمعرفة عند العلماء والباحثين.
الثالث: الاقتصاد المتمركز في أيدي أصحاب رؤوس الأموال.
إذا استطعنا أن نزلزل كيان تلك الحكومات بإيجاد الخلاف بين الحكام والعلماء، ونشتت أصحاب رؤوس الأموال في تلك البلاد ونجذبها إلى بلادنا، أو إلى بلاد أخرى في العالم، نكون بلا ريب قد حققنا نجاحا باهرا وملفتا للنظر، لأننا أفقدناهم تلك الأركان الثلاثة.
وأما بقية الشعوب التي تشكل 70 إلى 80 % من سكان كل بلد فهم أتباع القوة والحكم ومنهمكون في أمور معيشتهم وتحصيل رزقهم من الخبز والمأوى، ولذا فهم يدافعون عمن يملك القوة.
ولاعتلاء أي سطح فإنه لابد من صعود الدرجة الأولى إليه.
وجيراننا من أهل السنة والوهابية هم: تركيا والعراق وأفغانستان وباكستان وعدد من الإمارات في الحاشية الجنوبية ومدخل ( الخليج الفارسي )! التي تبدو دولا متحدا في الظاهر إلا أنها في الحقيقة مختلفة.
ولهذه المنطقة بالذات أهمية كبرى سواء في الماضي أو الحاضر كما أنها تعتبر حلقوم الكرة الأرضية من حيث النفط، ولا توجد في العالم نقطة أكثر حساسية منها، ويملك حكام هذه المناطق بسبب بيع النفط أفضل إمكانيات الحياة...
فئات شعوب المنطقة: وسكان هذه البلاد هم ثلاث فئات:
الفئة الأولى: هم البدو وأهل الصحراء الذين يعود وجودهم في هذه البلاد إلى مئات السنين.
الفئة الثانية: هم الذين هاجروا من الجزر والموانئ التي تعتبر من أرضنا اليوم، وبدأت هجرتهم منذ عهد الشاه إسماعيل الصفوي، واستمرت في عهد نادر شاه أفتشار وكريم خان زند وملوك القاجار وأسرة البهلوي، وحدثت هجرات متفرقة منذ بداية الثورة الإسلامية (10).
والفئة الثالثة: هم من الدول العربية الأخرى ومن مدن إيران الداخلية.(35/4)
أما التجارة وشركات الاستيراد والتصدير والبناء فيسيطر عليها في الغالب غير المواطنين، ويعيش السكان الداخليون من هذه البلاد على إيجار البنايات وبيع الأراضي وشرائها، وأما أقرباء ذوي النفوذ فهم يعيشون على الرواتب العائدة من بيع النفط.
---
(10) هؤلاء المهاجرون كلهم من السنة طبعا، هذا من وقت طرح هذه البروتوكولات التآمرية، أما الآن فقد حدث هجرات كثيرة كما خططوا لها في جميع المناطق السنية في إيران.
أما الفساد الاجتماعي والثقافي والأعمال المخالفة للإسلام فهي واضحة للعيان. ومعلم المواطنين في هذه البلاد يقضون حياتهم في الانغماس في الملذات الدنيوية والفسق والفجور!
وقد قام كثير منهم بشراء الشقق وأسهم المصانع وإيداع رؤوس الأموال في أوروبا وأمريكا وخاصة في اليابان إنجلترا والسويد وسويسرا خوفا من الخراف والمستقبلي لبلادهم.
إن سيطرتنا على هذه الدول تعني السيطرة على نصف العالم.
أسلوب تنفيذ الخطة المعدّة: ولإجراء هذه الخطة الخمسينية يجب علينا بادئ ذي بدء أن نحسن علاقتنا مع دول الجوار ويجب أن يكون هناك احترام متبادل وعلاقة وثيقة وصداقة بيننا وبينهم حتى إننا سوف نحسن علاقتنا مع العراق بعد الحرب وسقوط صدام حسين(11)، ذلك اًن إسقاط ألف صديق أهون من إسقاط عدو واحد.
وفي حال وجود علاقات ثقافية وسياسية واقتصادية بيننا وبينهم فسوف يهاجر بلا ريب عدد من الإيرانيين إلى هذه الدول، ويمكننا من خلالهم إرسال عدد من العملاء كمهاجرين ظاهراً ويكونون في الحقيقة من العاملين في النظام، وسوف تحدد وظائفهم حين الخدمة والإرسال.
لا تفكروا أن خمسين سنة تعد عمراً طويلاً، فقد احتاج نجاح ثورتنا خطة دامت عشرين سنة، وإن نفوذ مذهبنا الذي
_______________________(35/5)
(11) لأن هذا البروتوكول كما أشرنا من قبِل كان وقت الحرب ولم يستطيعوا إسقاط صدام حسين، فغيروا التكتيك ولكن الخطة مستمرة اتجاه تحسين العلاقات وكما نعلم أن طه ياسين رمضان نائب الرئيس العراقي التقى مع الرئيس الإيراني خاتمي على هامش المؤتمر الإسلامي المنعقد في طهران في 11/12/1997 م.
يتمتع به إلى حد ما في الكبير من تلك الدول ودوائرها لم يكن خطةَ يوم واحد أو يومين، بل لم يكن لنا في أي دولة موظفون فضلا عن وزير أو كيل أو حاكم (12)، حتى فرق الوهابية والشافعية الحنفية والمالكية والحنبلية كانت تعتبرنا من المرتدين وقد قام أتباع هذه المذاهب بالقتل العام للشيعة مرارا وتكرارا، صحيح أننا لم نكن في تلك الأيام، لكن أجدادنا قد كانوا، وحياتنا اليوم ثمرة لأفكارهم وآرائهم
---
(12) ونرى من عملائنا بوضوح هنا في لندن في الجرائد الفارسية المخالفة للنظام من مشايخهم الذين كانوا من وعاظ الشاه ولآن يكتبون في الجرائد الفارسية والعربية من الدجل والنفاق باسم الوحدة ما تريده إيران وتطبقه بالفعل ولكن باسم مخالفة النظام الإيراني، ولبعضهم جوالات في البلاد العربية باسم الوحدة الإسلامية ولكنهم يطبقون بالفعل ما تتكلم عنه هذه البروتوكولات الآتية، ولذا شن أهل السنة في إيران هجمة شعواء لما أعلنت الرابطة أنباء اضطهاد أهل السنة في إيران، وبدأ هذه المشبوه يسب سيدنا عثمان وتاريخ المسلمين، وكانت الافتراءات والاتهامات دون أدنى وازع إنساني أو ديني أو علم أو بحث علمي، ومع هذا يعتبر نفسه من أبطال الوحدة الإسلامية!!(35/6)
ومساعيهم وربما لن نكون نحن أنفسنا في المستقبل لكن ثورتنا ومذهبنا باقيان. ولاكن يكفي لأداء هذا الواجب المذهبي التضحية بالحياة والخبز والغالي والنفيس، بل يتوجب أن يكون هناك برنامج مدروس، ويجب إيجاد مخططات ولو كانت لخمسمئة عام مقبل فضلا عن خمسين سنة، فنحن ورثة الملايين الشهداء الذين قتلوا بيد الشياطين المتأسلمون ( السنة) وجرت دماؤهم منذ وفاة الرسول في مجرى التاريخ إلى يومنا هذا، ولم تجف هذه الدماء ليعتقد كل من يسمى مسلما بـ( علي وأهل بيت رسول الله ) ويعترف بأخطاء أجداده ويعترف التشيع كوارث أصيل للإسلام (13).
---
(13) فليسمع هذا جيدا ولٌيعهِ الببغاوات الذين ينادون بالوحدة معهم.
مراحل مهمة في طريقنا:
: ليس لدينا مشكلة في ترويج المذهب في أفغانستان وباكستان وتركيا والعراق والبحرين، وسنجعل الخطة العشرية الثاني هي الأولى(14) في هذه الدول الخمس، وعلى ذلك فمن واجب مهاجرينا – العملاء – المكلفين في بقية الدول ثلاثة أشياء:
1- شراء الأراضي والبيوت والشقق، وإيجاد العمل ومتطلبات الحياة وإمكانياتها لأبناء مذهبهم ليعيشوا في تلك البيوت ويزيدوا عدد السكان.
2- العلاقة والصداقة مع أصحاب رؤوس الأموال في السوق والموظفين الإداريين خاصة الرؤوس الكبار والمشاهير والأفراد الذين يتمتعون بنفوذ وافر في الدوائر الحكومية.
---
(14) لكونهم تجاوزوا الخطة الأولى إلى الخطة أو البروتوكولية الثانية.
3- هناك في بعض الدول قرى متفرقة في طور البناء، وهناك خطط لبناء عشرات القرى والنواحي والمدن الصغيرة الأخرى، فيجب أن يشتري(15) هؤلاء المهاجرين العملاء الذين أرسلناهم أكبر عدد ممكن من البيوت في تلك القرى ويبيعوا ذلك بسعر مناسب للأفراد والأشخاص الذين باعوا ممتلكاتهم في مراكز المدن، وبهذه الخطة تكون المدن ذات الكثافة السكانية قد أخرجت من أيدهم.(35/7)
ثانيا: يجب حث الناس ( الشيعة ) على احترام القانون وطاعة منفذي القانون وموظفي الدولة، والحصول على تراخيص رسمية للاحتفالات المذهبية – بكل تواضع – وبناء
---
(15) طبقوا بعض هذه الخطط في قرى سوريا وتشيع من أبنائها عدد من المسلمين ورأينا منهم من يشتغل في المركز الثقافي الإيراني في الساحة المرحة في دمشق من هؤلاء المشيعين وأصاب الأقلام المرتزقة من الدول العربية من العلمانية والمنافقة والمتصوفة وغيرهم الذين يلتقونك هناك.
المساجد والحسينيات لأن هذه التراخيص الرسمية سوف تطرح مستقبلا على اعتبار أنها وثائق رسمية.(35/8)
ولإيجاد الأعمال الحرة يجب أن نفكر في الأماكن ذاب الكثافة السكانية العالية لنجعلها موضع المناقشة في المواقع الحساسة، ويجب على الأفراد في هاتين المرحلتين أن يسعوا للحصول على جنسية البلاد التي يقيمونه فيها باستغلال الأصدقاء وتقديم الهداية الثمينة، وعليهم أن يرغّبوا الشباب بالعمل في الوظائف الحكومية والانخراط خاصة في سلك الجندية. وفي النصف الثاني من هذه الخطة العشرية يجب – بطريقة سرية وغير مباشرة – استثارة علماء السنة والوهابية ضد الفساد الاجتماعي والأعمال المخالفة للإسلام الموجودة بكثرة في تلك البلاد، وذلك غبر توزيع منشورات انتقادية باسم بعض السلطات الدينية والشخصيات المذهبية من البلاد الأخرى، ولا ريب أن هذا يسكون سببا في إثارة أعداد كبيرة من تلك الشعوب، وفي النهاية إما أن يلقوا القبض على تلك القيادات الدينية أو الشخصيات المذهبية أو أنهم سيكذبون كل ما نشر بأسمائهم(16) وسوف يدافع المتدينون عن تلك المنشورات بشدة بالغة وستقع أعمال مريبة(17) وستؤدي إلى إيقاف عدد من المسؤولين السابقين أو تبديلهم، وهذه الأعمال ستكون سببا في سوء ظن الحكام بجميع المتدينين في بلادهم، وهم ذلك سوف لن يعملوا على نشر الدين وبناء المساجد والأماكن الدينية، وسوف يعتبرون كل الخطابات الدينية ولاحتفالات المذهبية أعمالا مناهضة لنظامهم، وفضلا عن هذا سينمو الحقد والنفرة بين العلماء والحكام في تلك
---
(16) وكلاهما ينفع أتباع ابن سبأ هؤلاء لأنها تثير الفتن في كلتا الحالتين، وسيقع الخلاف بين الحكام والعلماء، وهذا الذي يريدونه، ومن نسي أعمالهم هذه في التاريخ فعليه بكتب صغيرة ومهم وهو: "" برتوكولات آيات طهران وقم "" للدكتور ناصر الغفاري.
(17) أي أن أئمة الشيعة هم الذين سوف يرتكبون أعمالا مريبة وفتنا للوقعة بين الحكام والعلماء واستعداء الحكومات على الدين ودعاته.(35/9)
البلاد وحتى أهل السنة والوهابية سيفقدون حماية مراكزهم الداخلية ولن يكون لهم حماية خارجة إطلاقا.
ثالثا: وفي هذه المرحلة حيث تكون ترسّخت عملائنا لأصحاب رؤوس الأموال والموظفين الكبار، ومنهم عدد كبير في السلك العسكري والقوى التنفيذية وهم يعملون بكل هدوء وأدب، ولا يتدخلون في الأنشطة الدينية، فسوف يطمئن لهم الحكام أكثر من ذي قبل، وفي هذه المرحلة حيث تنشأ خلافات وفرقة وكدر بين أهل الدين والحكام فإنه يتوجب على بعض مشايخنا المشهورين من أهل تلك البلاد أن يعلنوا ولاءهم ودفاعهم عن حكام هذه البلاد وخاصة في المراسم المذهبية، ويبرزا التشيع كمذهب لا خطر منه عليهم، وإذا أمكنهم أن يعلنوا ذلك للناس غبر وسائل الإعلام فعليهم ألا يترددوا ليلفتوا نظر الحكام ويجوزوا على رضاهم فيقلدوهم الوظائف الحكومية دون خوف منهم أو وجل في هذه المرحلة ومع حدوث تحولات في الموانئ والجزر والمدن الأخرى
في بلادنا، إضافة إلى الأرصدة التي سوف نستحدثها سيكون هناك مخططات لضرب الاقتصاد في دور المجاور. ولا شك في أن أصحاب رؤوس الأموال وفي سيبل الربح الآمن والثبات الاقتصادي سوف يرسلون جميع أرصدتهم إلى بلدنا، وعندما نجعل الآخرين أحرارا في جميع الأعمال التجارية والأرصدة البنكية في بلادنا فإن بلادهم سوف ترحب بمواطنينا وتمنحهم التسهيلات الاقتصادية للاستثمار.(35/10)
رابعا: وفي المرحة الرابعة سكون قد تهيأ أمامنا دول بين علماءها وحكامها مشاحنات، والتجار فيها على وشك الإفلاس والفرار، والناس مضطربون ومستعدون لبيع ممتلكاتهم بنصف فيمتها ليتمكنوا من السفر إلى أماكن آمنة، وفي وسط هذه المعمعة فإن عملائنا ومهاجرينا سيعتبرون وحدهم حماة السلطة والحكم، وإذا عمل هؤلاء العملاء بيقظة فسيمكنهم أن يتبوؤوا كبرى الوظائف المدينة والعسكرية ويضيّقوا المسافة بينهم وبين المؤسسات الحاكمة والحكام ومن مواقع كهذه يمكننا بسهولة بالغة المخلصين لدى الحكام على أنهم خونة، وهذا سيؤدي إلى توقيعهم أو طردهم أو استبدالهم بعناصرنا، ولهذا العمل ذاته ثمرتان إيجابيتان.
أولا: إن عناصرنا سيكسبون ثقة الحكام أكثر من ذي قبل.
ثانيا: إن سخط أهل السنة على الحكم سيزداد بسبب ازدياد قدرة الشيعة في الدوائر الحكومية، وسيقوم أهل السنة من جرّاء هذا بأعمال مناوئة أكثر ضد الحكومة، وفي هذه الفترة يتوجب على أفرادنا أن يقفوا إلى جانب الحكام، ويدعوا الناس إلى الصلح والهدوء، ويشتروا في الوقت نفسه بيوت الذين هم على وشك الفرار وأملاكهم.
خامسا: وفي العشرية الخامسة فإن الجو سيكون قد أصحب مهيأ للثورة لأننا أخذنا منهم العناصر الثلاثة التي اشتملت على: الأمن، والهدوء، والراحة، الهيئة الحاكمة ستبدو كسفينة وسط الطوفان مشرفة على الغرق تقبل كل اقتراح للنجاة بأرواحهم.
وفي هذه الفترة سنقترح عبر شخصيات معتمدة ومشهورة تشكيل مجلس شعبي لتهدئة الأوضاع، وسنساعد الحكام في المراقبة على الدوائر وضبط البلد، ولا ريب أنهم سيقبلون ذلك، وسيجوز مرشحونا وبأكثر مطلقة على معظم كراسي المجلس، وهذا الأمر سوف يسبب فرار التجار والعلماء حتى الخدمة المخلصين، وبذلك سوف نستطيع تصدير ثورتنا الإسلامية إلى بلاد كثيرة دون حرب أو إراقة للدماء.(35/11)
وعلى فرض أن هذه الخطة لم تثير في المرحلة العشرية الأخيرة، فالمخلصين، وبذلك سوف نستطيع تصدير ثورتنا الإسلامية إلى بلاد كثيرة دون حرب أو إراقة للدماء.
وعلى فرض أن الخطة لم تثمر في المرحلة العشرية الأخيرة، فإنه يمكننا أن نقيم ثورة شعبية ونسلب السلطة من الحكام، وإذا كان في الظاهر أن عناصرنا – الشيعة – هم أهل تلك البلاد ومواطنوها وساكنوها، لكنا نكون قد قمنا بأداء الواجب أما الله والدين وأمام مذهبنا، وليس من أهدافنا
إيصال شخص معين إلى سده الحكم- فإن الهدف هو فقط التصدير الثورة، وعندئذ نستطيع رفع لواء هذا الدين الإلهي، وأن نُظهر قيامنا في جميع الدول، وسنقدم إلى عالم الكفر بقوة أكبر، ونزين العالم بنور الإسلام والتشيع حتى ظهور المهدي الموعود )) أ. هـ.
هذه رسالة سرية واحدة وفقنا الله تعالى لنشرها، وهناك كتب ورسائل وبحوث مهمة جدا ألفها كبار آياتهم ومراجعهم ودعاتهم تنطوي على كيد كبير بأهل السنة.
اغتيالات علماء السنة بعد مجيء خاتمي *:
اغتيالات علماء السنة وتوقيفهم المتتالي والعشوائي مستمر في إيران حتى بعد مجيء خاتمي، وقد بدأت أمواج الاضطهاد تتسرب من مدن أهل السنة إلى قراهم، وفي الأسبوعين
---
*- رابطة أهل السنة في إيران.(35/12)
الأخيرين اقتيد الشيخ نظام الدين روانيد ابن الشيخ عبد الله- رحمه الله – العالم والشاعر الشهير في بلوشستان الإيرانية إلى السجن، وكان الشيخ نظام الدين بصدد بناء مسجد، وكان يدير مدرسة صغيرة، ولم يعرف مصيره حتى الآن، علما أن بناء المسجد أو مدرسة دينية للسنة في إيران يعتبر من الجرائم التي لا تغتفر. كما اغتيل في الأسبوع الماضي الشيخ يار محمد كهرازهي إمام جمعية أهل السنة في مدينة خاش الذي كان يدير مدرسة دينية أيضا، وجميع الشواهد تدل عل أن المخابرات الإيرانية في التي اغتالته، لأنها اغتالت قبل سنتين ونصف تقريب مدير المدرسة نفسها: الشيخ عبد الستار – رحمه الله- إمام الجمعة والعالم الشهير لأهل السنة في مدينة خاش البلوشية، وذلك ضمن حملتها المسعورة بقيادة مرشد الثورة خامنئي لإخلاء إيران من علماء السنة، ليتسنى لهم تشيع البلد كليا بعد ذلك كما كتبوا ذلك في مخططاتهم الخمسينية السرية.
وأما الخلفية الشيخ وهو يار محمد- رحمه الله – فقد كان يخضع لاستجواب المخابرات الإيرانية كغيره من مشايخ السنة، وطلب منه فضل الطلاب من غير أبناء المنطقة – ليقطعوا أدنى صلة بين السنة في إيران حيث يعيشون في أطراف: إيران الأربعة- وحين رفض الشيخ ذلك ألقي القبض على الطلاب وتم إعادتهم – بعد السجن والتعذيب – إلى بلادهم، وكان للشيخ يار محمد موقف مشهور في الدفاع عن هؤلاء الطلاب.
هذه في بلوشستان الواقعة في جنوب شرقي إيران، أما بالنسبة للتركمان السنة الساكنين في شمالي إيران فقد وصلنا الخبر التالي:(35/13)
هاجمت عناصر المخابرات الإيرانية في الساعة الثانية والنصف ليلا( من شهر آب) 1997م منزل الشيخ آخوند ولي محمد ارزانش الذي هرب من إيران ولجأ إلى تركمانستان (أسوة بمئات من طلبة العلم من السنة الإيرانيين الذين هربوا إلى البلاد المجاورة )، وعندما لم يجدوه في المنزل أوسعوه ابنه ضربا، ثم استولوا إلى بعض الصور والمستندات والوثائق المتعلقة بالتركمان، وغادروا البيت بعدما هددوا أهله بالموت إذا هم أخبروا الشرطة، وهذه الحادثة كانت هي الثانية من نوها، إذ إنه فش شهر نيسان إبريل 1997م هجم شخص مجهول ( من مجاهيل إمام الزمان لديهم وفي كناية عن المخابرات ) مسلح بسكين على منزل الشيخ ولي محمد ليقتله ونجا الشيخ بعدما أصيب مجروح خطيرة، ولك هذه الأعمال والقرائن المتعلقة بها تدل على ضلوع المخابرات الإيرانية في مثل هذه الأعمال التي بدأت بأمر من الخامنئي بالتصفية الجسدية والاغتيالات والإعدام ودس السم والقتل بالطرق المتعددة لعلماء السنة في الداخل والخارج.
ونحن نناشد المسلمين النصرة: ونناشد الهيئات الدولية والمنظمات الإنسانية لتقصي الأمور وإدانة التعصب الطائفي لعل هذا يردعهم عن الاستمرار في هذه الممارسات، فيتوقفوا عن قتل العلماء الأبرياء وهدم المساجد والمدارس، ويتركوا أهل السنة يعيشون في إيران موطن آبائهم وأجدادهم كغيرهم من الأقليات، علما أنهم ثاني أكبر نسبة في إيران، إذ إن عددهم يصل إلى ثلث البلد أي من 15 إلى 20 مليون نسمة.
نسأل الله أن يوفق إخواننا أهل السنة لمعرفة هذه المخططات الشيطانية وأن يرد – سبحانه – كيد من يريد بالمسلمين شرا إلى نحورهم.
والله من رواء القصد(35/14)
"الخمس".. قوة مراجع الشيعة
2003/08/02
د. مصطفى اللباد
الخمس وفر قوة واستقلالا لمراجع الشيعة
الزكاة هي التعبير القرآني عن قيم التكافل في المجتمع الإسلامي، وهى في أحد وجوهها المرادف الموضوعي للضرائب بالمعايير الغربية الحالية، والتي تعد الأساس لقيام الدولة الحديثة بالتزاماتها أمام مواطنيها، وفي أداء واجباتها الأساسية من دفع الأجور والمرتبات للعاملين بجهاز الدولة، وفي حفظ الأمن وبناء المرافق وصيانتها.
وبالإضافة إلى الزكاة كمفهوم شامل لقيم التكافل الإنساني التي يمارسها عامة المسلمين باعتبارها أحد أركان الدين يطبق المسلمون الشيعة نوعًا إضافيًا من التكافل الاجتماعي؛ هو نسبة الخمس التي تميز المسلمين الشيعة عما سواهم.
ونسبة الخمس يؤديها المسلم الشيعي استنادًا إلى أحد تفسيرات الآية الكريمة: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ للهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى}[1].
وتذهب نسبة الخمس المخصصة لآل بيت النبي صلى الله عليه وسلم بحسب التفسير الشيعي المعتمد للآية إلى الفقهاء الذين يوزعون هذه الزكاوات على مستحقيها ويصرفونها في مصارفها الشرعية؛ الأمر الذي حقق للفقهاء الشيعة بالتبعية هامشًا كبيرًا من الاستقلالية عزت على نظرائهم من المسلمين السنة، وهو ما حفظ مكانتهم من تدخل حكام الدنيا ومن ضغوط حكام دولهم؛ وهو ما عزز بالمحصلة من قدرة هؤلاء الفقهاء على مقاومة السلطة الحاكمة اقتصاديا وسياسيًا، بل وحتى مناهضة توجهاتها الاجتماعية إن لزم الأمر.
وإن كانت الزكاة في العالم السني تدار بواسطة الأوقاف الإسلامية التابعة للدولة في أغلب الأحايين؛ فإن نسبة الخمس كانت -ولا تزال- تدار بواسطة الفقهاء الشيعة مباشرة ودون تدخل ووساطة حكوميين؛ وهو ما صب في الحساب الأخير باتجاه استقلالية إضافية للفقهاء الشيعة تجاه الحكام والفئات الفاعلة بالمجتمع.(36/1)
الفارق بين الخمس والزكاة
ويفرق الفقه الشيعي بين الخمس والزكاة على أن الزكاة هي ضريبة للحكومة الإسلامية، تؤخذ على تسعة أجناس إذا تحققت فيها الشروط، وهي: 1-الإبل، 2- البقر 3- الغنم 4- الذهب 5- الفضة 6- الحنطة (أي القمح) 7- الشعير 8- التمر 9- الزبيب.
أما الخمس فهو أحد الحقوق الواجبة في الإسلام -على ما يعتقد الشيعة- التي تتعلق بالأمور السبعة التالية عند توافر شروطها، وهي:
1- الغنائم المأخوذة بالقتال من الكفار. 2- المعادن. 3- الكنوز (أي الأموال المدفونة في موضع ما). 4- الأشياء البحرية الغالية كاللؤلؤ والمرجان وما يؤخذ عن طريق الغوص. 5- المال الحلال المختلط بالحرام بنحو لا يتميز ولا يعلم مقداره ولا مالكه. 6- الأرض التي يشتريها غير المسلم من المسلم. 7- ما يزيد عن مؤنة السنة من الأرباح التي يجنيها المكلف بالفرض.
ويُقسَّم الخمس نصفين: نصفا للإمام ويلزم رفعه على الأحوط إلى المرجع الأعلم المطّلع على الجهات العامة أو وكلائه، وعليهم أن يصرفوه في موارد إحراز رضا الإمام من قبيل إغاثة الملهوفين المؤمنين، وتشييد مباني الدين، وإقامة الحوزات الدينية ونحوها، والنصف الآخر يدفع إلى فقراء السادة الهاشميين.
تأسيسًا على ذلك كانت الزكاة ونسبة الخمس هي الركن الأساسي لبناء "الدولة الشيعية" إن جاز التعبير في مخيلة المؤمنين، وكانت (أي هذه النسبة) بمثابة العروة الوثقى التي تجمع أبناء المذهب على اختلاف أصولهم وطبقاتهم الاجتماعية ومطارح عيشهم الجغرافية.
تمويل المشاريع الخيرية
وقد تحولت الزكاة ونسبة الخمس المتوفرة لدى فقهاء الشيعة من أساس مادي لبناء "دولة متخيلة" إلى دعم وتمويل وإنشاء "المؤسسات الاجتماعية" المختلفة مثل "الحسينيات"، وهي تشبه دار المناسبات عند السنة والمستشفيات والمشاريع الخيرية.(36/2)
كما أنه بفضل المراجع أيضا تحققت وحدة موضوعية بين أبناء المذهب الشيعي على اختلاف أماكنهم؛ فالشيعي الموجود بالعراق مثلا يدفع الزكاة ونسبة الخمس للمرجع الموجود في إيران أو العكس، مثل حال باقي الشيعة في لبنان ومنطقة الخليج.
وبتعاظم الإمكانات نرى أن المرجع يعين له وكلاء في البقاع الجغرافية المختلفة ليتسلموا هذه الأموال، ومعها أيضا الأسئلة التي يطرحها المريدون، ويقوم الوكيل بإرسالها للمرجع الذي يبعث بفتاواه وتوجيهاته للمؤمنين بدوره عن طريق هؤلاء الوكلاء.
وتنوعت اهتمامات الفقهاء الشيعة فيما بين الإفتاء في أمور العبادة، وتسيير المعاملات المالية بين التجار، وتلقي زكاة الخمس وإنفاقها في مصارفها الشرعية، والإشراف على مؤسساتها الاجتماعية والرعوية، وصولا إلى تثبيت ولاء المؤمنين بصيغة "مرجع التقليد".
و"مرجع التقليد" هو أحد الفقهاء الشيعة الكبار الذين يتوجب على المؤمنين اتباع نهجهم وتقليدهم في أمور الدنيا، وللتابع أو المريد أو المقلِد أن يختار بين أحد المراجع؛ أي الفقهاء الكبار الأحياء ليكون مرجع تقليده.
وإلى "مرجع التقليد" شخصيا يحتكم المقلِد في أمور دينه وعبادته، وعند هذا المرجع أيضا يكون الجواب في أمور الدنيا مثل الزواج والطلاق والمعاملات المالية. واستمر الاتصال قائمًا بين المؤمنين الشيعة ومراجعهم، حتى لو كان المرجع بعيدًا عن المريد جغرافيًا؛ حيث كان وكلاء المرجع وممثلوه منتشرين في غالبية أماكن تواجد المريدين في قارات الدنيا، بمثابة همزة الوصل أو فلنقل "سفارة" للمرجع.
وصار مفهومًا من وقتها أن يتغلغل نفوذ المرجع في أدق دقائق حياة المريد، حتى إن الإمام الخميني يقول في هذا الصدد: "يبطل عمل العامي في غير الضروريات إذا صدر من غير تقليد"[2].
دولة موازية(36/3)
وبتعاظم الإيرادات تحولت الزكاة ونسبة الخمس إلى "دولة موازية" للدولة على المستوى الاقتصادي الاجتماعي في مناطق انتشار المسلمين الشيعة وبالأخص في إيران، وتبلغ ميزانية بعض المراجع المتولدة من نسبة الخمس الآن حدًا من الضخامة يجعله يزيد عن ميزانيات دول في العالم الثالث، لكن يظل هناك عدم إعلان عن أرقام هذه الميزانيات.
أما على المستوى السياسي القانوني؛ فقد صار الفقهاء جزءًا أساسيًا من مشروعية الحكم في إيران منذ تحول "الدولة الإيرانية" رسميًا إلى مذهب الشيعة الإثنا عشرية في عصر الصفويين بالقرن السادس عشر الميلادي.
ولم ينجح الشيعة الإثنا عشرية في إقامة أي دولة حتى ذلك التاريخ في أي مكان بالعالم الإسلامي؛ فالشيعة الزيدية المنتسبون إلى زيد بن علي بن الحسين أقاموا 3 دول: الأدارسة في المغرب، والزيدية في اليمن، والزيدية الناصرية في طبرستان. أما الشيعة الإسماعيلية أتباع إسماعيل بن جعفر الصادق فقد أقاموا الدولة الفاطمية بمصر والعبيدية في شمال أفريقيا.
جاء إعلان المذهب الشيعي الإثنا عشرية مذهبًا رسميًا للدولة الإيرانية في القرن السادس عشر الميلادي إذن مواتيًا لأماني المؤسسة الدينية التي يقودها الفقهاء، فنقلها نقلة نوعية كبيرة وأولى في تاريخ الشيعة؛ حيث قفزت نوعيًا مكانة المؤسسة الدينية من "دولة متخيلة" لها بعض المقومات المادية بسبب الزكاة ونسبة الخمس إلى "دولة داخل الدولة" أو "دولة موازية" بعد ذلك الإعلان.(36/4)
ولكن العلاقة بين المؤسسة الدينية الشيعية والدولة الإيرانية لم تكن علاقة تحالف فقط، بل إن الأمر وصل في أحايين كثيرة إلى حد الصدام عند تعارض المصالح؛ فالعالم الفقيه ميرزا هداية الله كان من كبار علماء إيران في القرن الثاني عشر الهجري، وعارض استيلاء السلطة الأفشارية الحاكمة على أموال الناس من طريق الضرائب والمصادرات، وقاوم اختلاس الأمير نادر ميرزا (حفيد نادر شاه) لأموال النذور والصدقات في ضريح الإمام الرضا بمشهد أو "العتبة المقدسة الرضوية"، ومات دون ذلك؛ فسمي من وقتها الميرزا هداية الله الشهيد المشهدي.
ولأن المعتقد الشيعي الجعفري أو الإثنا عشري ينطلق من وجود اثني عشر إماما للمسلمين بعد وفاة الرسول يبدءون بأمير المؤمنين علي بن أبى طالب -كرم الله وجهه- وينتهون بأحد أحفاده وهو محمد بن الحسن العسكري (المهدي المنتظر)، الذي اختفى في كهف بمدينة سامراء ولكنه سيعود ليملأ الأرض قسطًا وعدلا بعد أن امتلأت بالظلم والجور.
وبناء على هذا التسلسل يظهر في الفقه الشيعي غيبتان: "الغيبة الصغرى" وهي المستمرة حوالي 69 عامًا، ويقصد بها وجود 4 وكلاء للمهدي المنتظر يتلقون تعليماته من مخبئه في عصر غيبته.
أما "الغيبة الكبرى" فهي الممتدة منذ وفاة آخر الوكلاء علي بن محمد السمري وحتى يومنا هذا. وجاء "آية الله أحمد نراقى" في أواخر القرن الثامن عشر بكتابه "عوائد الأيام"، حيث تعرض في هذا الكتاب إلى 10 موارد في شؤون ولاية الفقهاء، منها: الإفتاء وإقامة الحدود، وحفظ أموال الأيتام والمجانين والغائبين، وكذلك التصرف في أموال الإمام المعصوم (الخمس).
الخميني والخمس(36/5)
وفي بداية القرن العشرين شهدت إيران فورانًا لدور الفقهاء في المجتمع الإيراني خصوصًا ولدى جماهير الشيعة عمومًا؛ بسبب تعاظم التجارة التي تصب في الاستقلالية المالية الكبيرة للفقهاء إزاء الدولة الناتجة من ضريبة الخمس، وجاء التحالف بين المؤسسة الدينية مع البازار وأهله ليزيد من ثقل هذه الحقيقة؛ وهو ما انعكس في أول دستور لإيران وهو دستور "المشروطة" في عام 1906 الذي جاءت مواده متناغمة مع مصالح الفقهاء ورجال البازار.
وعند ظهور الإمام الخميني في ساحة الفقه والسياسة في إيران منذ بداية الستينيات من القرن العشرين كانت نسبة الخمس محوراً رئيسياً لأفكاره، حتى يؤكد بها على فكرته القائلة بضرورة قيام الحكومة الإسلامية؛ حيث يقول: "السادة الهاشميون ليسوا بحاجة إلى كل ذلك؛ إذ خمس أرباح سوق بغداد يكفي للسادة ولجميع الحوزات العلمية، وجميع فقراء المسلمين، فضلاً عن أسواق طهران وإستانبول والقاهرة وسائر الأسواق؛ فتعيين ميزانية بهذه الضخامة يدل على أن الهدف هو تشكيل حكومة وإدارة بلد"[3]. وهو الأمر الذي نجح الإمام الخميني بتحقيقه منذ عام 1979 في إيران، مستندًا على نسبة الخمس في إبراز دور الفقهاء وفي قيادتهم لجماهير الشيعة هناك للإطاحة بحكم الشاه السابق محمد رضا بهلوي.
وهكذا نرى أن نسبة الخمس التي يدفعها المسلمون الشيعة كأحد أشكال الزكاة قد ذهبت في التاريخ الاقتصادي الاجتماعي للشيعة عمومًا وفي إيران خصوصًا على أنها إحدى الخصوصيات والعلامات الفارقة لهم؛ وهو ما قد يفسر جوانب القوة لسلطة الفقهاء الشيعة وسطوتهم، ليس في مجال الإفتاء في أمور الدين فقط، ولكن أيضًا كسلطة سياسية فرضت نفسها على المجتمع الإيراني منذ القرن السادس عشر.. وحتى اليوم.
---
[1] سورة الأنفال، الآية 40.
[2] الإمام الخميني، "زبدة الأحكام"، نشر منظمة العمل الإسلامي، طهران.(36/6)
[3] الإمام الخميني، "الحكومة الإسلامية"، ص 56، مؤسسة تنظيم ونشر تراث الإمام الخميني، طهران، 1996.(36/7)
الخميني.. الثورة بالصدور المحتقنة
17/02/2002
مصطفى عاشور
آية الله الخميني
تمثل حياة الإمام الخميني زعيم الثورة الإسلامية في إيران فترة خصبة في تاريخ إيران الحديث، فقد عاش الرجل تسعة وثمانين عامًا تعتبر ملخصًا وافيًا لتاريخ المجتمع الإيراني وتفاعلاته السياسية والدينية والاجتماعية والاقتصادية، وما يختزنه الشعب من طاقات جبارة استطاعت أن تزيح نظامًا قويًا عن قواعده وحكمه، وتقيم نظامًا جديدًا لعبت فيه الإرادة والإصرار الشعبي دورًا بارزًا قل نظيره في الثورات العالمية في العصر الحديث.
فالخميني لم يكن مجرد فقيه أو عالم دين شيعي فقط أو ثائر فقط، وإنما جمع بين الزعامة الدينية والزعامة الثورية، بين الوعي والفقه الديني والوعي السياسي، لذا كانت زعامته كارزمية احتشدت خلفها كل القوى الإيرانية المختلفة، وقبلها الشعب في مشهد عجيب يحتاج إلى دراسة عميقة عن قدرة الزعيم على حشد الأمة من خلفه بأسرها؛ فحياة الخميني تحتاج إلى قراءة بعيدًا عن التعصب المذهبي والسياسي.
البداية(37/1)
اسمه روح الله بن مصطفى موسوي، ولد في [30 جمادى الأولى 1318هـ=24 سبتمبر 1900م] في قرية خمين التي تبعد (80) ميلاً جنوب غربي مدينة "قم" الشهيرة، حيث كان أبوه أحد علماء الدين المعروفين، إلا أنه قُتل على يد بعض عملاء أحد كبار الملاك، عندما أطلق النار عليه فأرداه قتيلاً؛ لأنه دافع عن بعض حقوق بعض المستأجِرين الفلاحين؛ فكانت حياته ثمنًا للوقوف بجانب الحق. كان عمر روح الله لم يتعدَّ شهورًا عند وفاة والده، فاعتنت أمه بتربيته حتى وفاتها سنة [1337هـ=1918م]، فذهب للعيش مع أخيه الأكبر الفقيه "باسند يداه موسوي"، وانضم إلى الحوزة العلمية لآية الله عبد الكريم الحائري، أحد رجال الدين الكبار في مدينة "آراك" التي تبعد 30 كم عن خمين مسقط رأسه، وفي سنة [1341هـ=1922م] قرر الحائري أن ينقل حوزته العلمية إلى "قم" المدينة العلمية في إيران، فانتقل معه روح الله، وكانت تلك أول مرة تقع فيها عيناه على تلك المدينة، ولم يكنل له فيها مكان يعيش فيه حيث كان فقيرًا جدًا؛ لذلك أقام في المسجد الذي تُعقد فيه الحلقات العلمية، فكان يفترش الأرض، الأمر الذي لازمه طيلة حياته، فلم يستعمل السرير قط.
ولما أتم المرحلة الأولى من تعليمه ودراسته حصل على درجة علمية تسمى "محلة السطوح الحالية"، وبدأ في مساعدة أستاذه في التدريس في مادتي الفلسفة والمنطق، ودرّس مقرر الأخلاق، إلا أن رجال الشاه منعوه من إلقاء هذه الدروس بحجة أن الأمور السياسية كثيرًا ما تتردد في دروسه.
وتزوج الخميني وهو في سن (25) من سيدة تدعى "خديجة بنت محمد الثقيفي" وأنجبا عدة أولاد منهم "مصطفى" الذي اغتالته السافاك (المخابرات الإيرانية إبان عهد الشاه)، وأحمد الذي كان يعتبر من كبار مساعديه، وثلاث بنات هن: فريدة وصادفة وفاطمة، تزوجن من علماء دين.(37/2)
والمعروف أن آيات الله (كبار علماء الشيعة) يكنّون بأسماء القرى والمدن التي أتوا منها؛ لذلك أطلق على روح الله "آية الله الخميني".
إيران على حافة البركان
كانت إيران تعيش في حالة من الاضطراب السياسي والاجتماعي والاقتصادي، واحتقان شعبي شديد، يأخذ مكانه على الساحة في شكل هبات وانتفاضات جماهيرية بسبب الأوضاع الاقتصادية المتدهورة التي يعاني منها غالبية الشعب، رغم الثروة البترولية الضخمة التي تمتلكها البلاد، بالإضافة إلى القبضة الحديدية التي لا تسمح بالمعارضة في ظل حكم الشاه محمد رضا بلهوي، الذي اتبع أساليب عنيفة لتصفية معارضيه بالاغتيال والنفي والسجن، وما يتردد من أخبار عن فساد الشاه وأسرته وإسرافهم وبذخهم الشديد، كل هذه الأمور وغيرها جعلت المعارضة ضد النظام السياسي للشاه تزداد، وكان أكثر المعارضين هم العلماء، وعلى رأسهم آية الله الخميني الذي كان يدرس في مدرسة الفياضية في قم، ويحتشد الآلاف لخطبه ومواعظه الدينية، وأسس الخميني "الاتحاد الإسلامي" وكان يرفض كل ما يصدره الشاه، ويرفض كل ما يصدره المجلس النيابي من قوانين أو يصادق عليه؛ لأنه يصدر عن هيئة غير مخولة، ولا تنطبق عليها الصفة الشرعية.(37/3)
كان الخميني يكرر دائمًا وصية الإمام علي بن أبي طالب –رضي الله عنه- لأبنائه: "فلتكونوا دائمًا حماة الضعفاء وأعداء الظالمين" لذلك حينما قام الشاه بإعطاء الحصانة السياسية للخبراء والمستشارين الأمريكيين، وأعلن عن "الثورة البيضاء" التي تهدف في حقيقتها إلى إخضاع رجال الدين للدولة عن طريق سحب جزء كبير من الأراضي التي يمتلكونها من الوقف، وتهديد كبار الملاك الزراعيين بنزع ملكياتهم، وأعطى حق التصويت للمرأة، استغل الخميني كل هذا في الدعاية ضد الشاه وسياساته، واتهمه بأنه ضد الشريعة والدستور، وأنه باع إيران للأمريكيين، وكانت المناسبة الأولى التي ظهر فيها اسم الخميني أثناء احتفالات الشيعة بذكرى استشهاد الإمام الحسين في يوم عاشوراء؛ حيث دعا إلى التظاهر والإضراب، واستجابت الجماهير لنداءاته، وانقلبت مواكب عاشوراء إلى تظاهرات عام [1383هـ=1963م] اصطدمت بقوات الأمن، وسقط ألفا قتيل من المتظاهرين، وأظهر ذلك تأثير الخميني البالغ في الجماهير.
وقد نجح الشاه في قمع المظاهرات دون اللجوء إلى قوات الجيش، وتوجه بنداء إلى العلماء ليلتزموا الهدوء، ووعد بعدم المساس بأراضي الأوقاف، وأُلقي القبض على الخميني، ثم أُمر بنفيه إلى خارج البلاد.
الحياة في المنفى(37/4)
تم نفي الخميني بعد هذه الأحداث الدموية بشهور إلى تركيا، وعاش فيها ما يقرب من أحد عشر شهرًا، لكنه اختار بعد ذلك أن يعيش في النجف الأشرف بالعراق، وبدأت الأوضاع تعود إلى الهدوء الظاهري في إيران، وأصبح النجف مركز اهتمام كبير وبؤرة تجمع كل المعارضين لنظام الشاه خارج إيران، تحت زعامة الخميني الذي أخذ في إلقاء الخطب والمحاضرات المؤثرة عن الأوضاع في إيران، ويتناقلها أتباعه ومريدوه، وتجد صدى واسعًا بين الإيرانيين. وكان رجال الدين والمعارضة قد بدءوا في البحث عن وسيلة للإطاحة بالشاه، واختاروا لتحقيق ذلك حرب العصابات منذ مطلع [1390هـ=1970م]، وظهرت جمعيتان ثوريتان هما: "فدائيو خلق" الماركسية، و"مجاهدو خلق" التي يقودها بعض الرجال الذين تعلموا على يد المفكر البارز "علي شريعتي" الذي يعتبر المنظر الأول للثورة الإيرانية.
وقد حاول النظام العراقي سنة [1394هـ=1974م] الحصول من الخميني على تأييد ديني وسياسي أثناء خلافاته مع إيران، إلا أنه رفض ذلك الأمر، وعندما وقّعت بغداد وطهران اتفاقية الجزائر [1395هـ=1975م] طلبت العراق من الخميني السكوت عن معارضته للشاه، وإلا فعليه الرحيل إلى أي مكان آخر، فآثر الخميني السكوت المؤقت حتى تتغير الأوضاع، ثم تكرر طلب السافاك والشاه بعد عامين لدى العراق بأن يوقف الخميني نشاطاته، فخيرته بغداد بين البقاء صامتًا أو الرحيل، فآثر الثانية، غير أن الشاه أدرك خطورة مغادرة الخميني العراق وطلب من العراقيين منعه من الخروج. وقبيل هذا الأمر وقعت له مأساة شديدة عميقة تمثلت في اغتيال ابنه الأكبر الذي يضطلع بالدور الأكبر في حمل رسائله إلى مؤيديه في إيران في كمين دبره له رجال السافاك.(37/5)
وتحول الحزن على مصطفى إلى مناسبة ليظهر فيها الناس ولاءهم للخميني وتأييدهم له وعداءهم للشاه، وحاول ألوف الإيرانيين اختراق الحدود العراقية الإيرانية لتقديم العزاء للخميني في النجف الأشرف، لكن الشرطة منعتهم وسقط بعض القتلى، فردوا على ذلك بإقامة المآتم في طهران وبقية المدن الإيرانية، وكثرت الوفود لتعزيته، عندها وجه الخميني رسالة إلى مؤيديه تحت عنوان: "لقد سكبنا ما فيه الكفاية من الدموع" وطالبهم بتعليمات أربعة، ملخصها أن يقاطعوا المؤسسات الحكومية، وأن يسحبوا كل أشكال التعاون معها، وألا يسهموا في أي نشاط يفيدها، وأن يقيموا مؤسسات إسلامية في جميع المجالات.
ولأن فتوى العلماء مقدسة كدماء الشهداء، فإن الإيرانيين أخذوا فتواه على محمل الجد والعمل، واتسع نطاق التظاهر داخل إيران، مع تدفق آلاف من أشرطة الكاسيت تحمل صوت الخميني وتحريضه على التمرد والعصيان.
نوفل لوشانو.. والعالمية
أُجبر الخميني على مغادرة العراق، فقرر أن يذهب إلى الكويت، فصدر أمر بإغلاق الحدود في وجهه، فعاد إلى النجف ومنها إلى دمشق، ثم توجه إلى باريس في [شوال 1397هـ =أكتوبر 1977م] واستقر في بيت صغير في ضاحية نوفل لوشانو على بعد (20) ميلاً غربي باريس، وأصبحت تلك الضاحية الهادئة مقرًا لقيادته لحين عودته إلى إيران. وفي باريس انتقل من زعيم محلي إلى العالمية، وكان وجوده هناك نقطة تحول في تاريخه وفي تاريخ بلاده، فسلطت عليه وسائل الإعلام المختلفة أضواءها، وكان يقضي معظم وقته أمام عدسات التليفزيون، أو محاوري الصحافة، فخلال ثلاثة أشهر قضاها في باريس أدلى بخمسمائة حديث لوسائل الإعلام، وفي إحدى حواراته مع صحيفة "لوموند" الفرنسية تحدث باعتباره زعيمًا مصلحًا ورئيسَ دولة متوقعًا، فأعرب عن وجهة نظره في القضايا المطروحة على الساحة الإيرانية بمنظور عصري؛ حديث يخرج عن نطاق الوعظ والإرشاد والنقد المبهم للفساد.(37/6)
تمتع الخميني في باريس بحرية كبيرة هو وأنصاره، ويبدو أن فرنسا تصرفت بناء على وصية سفيرها في طهران، الذي قال: "إن الشاه قد انتهى، وإن صفحته قد طويت نهائيًا"، وأخذت المعارضة تلقي قيادها له، فأعلن مهدي بازركان –أحد قادة الجبهة الوطنية- أن أغلبية الشعب في إيران قد اختارت الخميني ليكون قائدًا لها.
وكانت أشرطة الخميني المسجلة تحرك الشارع ضد الشاه؛ ففي [ربيع أول 1398هـ=فبراير 1978م] خرجت المظاهرات من مساجد "تبريز"، ولم تستطع قوات الأمن السيطرة عليها، فخرجت فصائل من الجيش، وسيطرت على الموقف، وفُرض حصار بري وبحري على المدينة، وزادت حدة المظاهرات في رمضان التي تطالب بإغلاق المطاعم، والبنوك الربوية. وفي يوم الجمعة [6 شوال 1398هـ=8 سبتمبر 1978م[ وقعت مصادمات بين الشرطة والمدنيين سقط خلالها أربعة آلاف قتيل، وسمي ذلك اليوم "الجمعة الدامي"، وأُعلنت الأحكام العرفية، وفُرض حظر التجول، إلا أن المتظاهرين تحدوا ذلك في مدينة قم، وخرجت المظاهرات وسقط أكثر من ألفي قتيل، وأعلن علماء الشيعة الحداد وامتنعوا عن الخطب، وفي هذا الجو المشحون بالمآسي أقام الشاه حفلات باذخة؛ فكانت سببًا في زيادة حدة الغضب الشعبي.
معًا ضد الشاه(37/7)
نبهت أحداث تبريز المسؤولين الإيرانيين الموالين للشاه إلى ضرورة البحث عن حلول للمشكلة المتفاقمة في إيران، ومن ثم بدأت وسائل الإعلام تجري نقدًا ذاتيًا لمؤسسات الدولة، ولنشاط حزب "رستاخيز" الحاكم بغرض امتصاص الغضب الشعبي الذي شمل طهران وقم وتبريز، غير أن الشاه تمسك بموقفه الرافض للاعتراف بالمعارضة سواءً المعتدلة أو المتشددة، بل وصفهم بالقتلة الخارجين على النظام، وكان هذا الرفض القاطع منه بمثابة الضوء الأخضر للمعارضة لتتحد ضده، متناسية خلافاتها الجوهرية. كذلك رفض الشاه نصائح الجنرال "ناصر مقدم" مدير السافاك بأن يسمح بتكوين أحزاب، وبالعمل على إجراء انتخابات حرة، وتطهير أجهزة الدولة من الفساد.
دفع هذا التعنت السياسي للشاه إلى مطالبة جميع القوى الوطنية بإسقاطه، وشاركهم في ذلك كبار التجار أصحاب البازارات (الأسواق التجارية) التي تضم (250) ألف صاحب محل، وكان هؤلاء التجار يتمتعون بعلاقات متينة مع علماء الدين. والمعروف أن الأسواق كانت تغلق أبوابها في إيران عندما يثور التجار، وأن التجار كانوا يعتصمون في المساجد إذا أرادوا إعلان احتجاجهم في مواجهة السلطة، كما أن الشاه قام بسجن ثمانية آلاف تاجر من أصحاب المحال التجارية؛ لذلك ألقى البازار في إيران بثقله وقوته في كفة الخميني ضد الشاه.
وقد امتدت المظاهرات في إيران إلى أربعين مدينة، وقاطع الطلاب الدراسة، ورفض الخميني إجراء أي حوار سياسي مع الحكومة الإيرانية، فسقطت الحكومة، وكُلف رئيس الأركان "غلام رضا أزهري" بتشكيل حكومة جديدة، وتطرق بعض قادة الجيش في عروضهم لإنهاء المظاهرات، فاقترح الجنرال "غلام أوفيسي" حاكم طهران على الشاه تدمير مدينة قم، وتوقع أن يكون ضحايا هذا التدمير مليون قتيل، فلم يوافق الشاه على هذا الاقتراح، فترك أوفيسي البلاد.
الخميني والجيش(37/8)
كان الخميني يدرك أثر الإعلاميات (رسائله الصوتية) في إشعال الثورة الإيرانية، ولم تكن السافاك تقلقه رغم قوتها وبشاعة أساليبها؛ لأنه يعلم أن (50) ألف عميل من السافاك لن يستطيعوا مواجهة (35) مليون ثائر، وخلص إلى أن المشكلة الرئيسية التي تعترض نجاح الثورة وإسقاط الشاه هي الجيش الذي تزيد قواته عن نصف مليون جندي ذات تسليح جيد وتدريب راقٍ، لذا رأى أنه من الضروري تحييد الجيش في الصراع بين الشعب والشاه، وضرورة تحطيم الروابط القوية بين الجيش والشاه، فخصص جزءًا كبيرًا من إعلامياته إليه، تضمنت ألا يخدم الجيش الشاه لأنه طاغوت، في حين أنهم جنود الله المستضعفون، ودعاهم ألا يطلقوا النار على إخوانهم المسلمين؛ لأن كل رصاصة تصيب قلب مسلم تصيب قلب القرآن، ونصحهم بأن يعودوا إلى قراهم ومدنهم وأن يعودوا إلى الله.
وكان لنداءاته أثرها في الجيش؛ فبدأت التقارير تسجل حالات هروب من الخدمة، عندها كثف إعلامياته على الجيش، وطلب من الفارين أن يأخذوا أسلحتهم معهم أثناء الهرب لأنها أسلحة الله، فقامت كتيبة كاملة مضادة للطائرات من (500) جندي تعسكر قرب مشهد بالهرب بكامل أسلحتها، فأدى ذلك إلى اتساع نطاق الاضطرابات ولم تستطع الشرطة والسافاك مواجهتها.
وطلب الخميني من الشعب الثائر ألا يصطدم بالجيش تحت أي ظرف، وأعلن صيحته المشهورة: "لا تهاجموا الجيش في صدره؛ ولكن هاجموه في قلبه"، "إذا صدرت إليهم الأوامر بإطلاق النار عليكم، فلتعروا صدوركم، فدماؤكم والحب الذي ستظهرونه لهم وأنتم تسلمون الروح لبارئها سوف يقنعهم؛ فدماء كل شهيد هي ناقوس خطر يوقظ آلافًا من الأحياء".. استخدم الخميني كلمات وتعابير تثير الوجدان وتهز الأعماق، وأدرك نقاط الضعف في الجيش، واستطاع أن يفصل بين الجنود البسطاء والضباط، وبذلك تمكن من نزع سلاح الجيش، بل ومن نزع الجيش من يد الشاه قبل قيام الثورة.
العودة منتصرًا(37/9)
رفض الخميني أية حلول وسط مع حكومة "شاهبور بختيار" الجديدة، واستمرت الاضطرابات والمظاهرات العارمة التي قضت على قدرة بختيار على التأثير في الأحداث، وأعلن الخميني أنه سيرفض أية حكومة طالما بقي الشاه، وأنه لن يقبل إلا سقوط الشاه وإقامة جمهورية إسلامية، وأمام ذلك غادر الشاه إيران في [7 صفر 1399هـ=16 يناير 1979م] إلى القاهرة بعدما استولى هو وأسرته على مئات الملايين من الدولارات من البنوك.
وفي [4 ربيع الأول 1399هـ=1 فبراير 1979م] وصل الخميني إلى طهران، وكان في استقباله في المطار ستة ملايين شخص، وأحاطت هذه الجموع بالرجل ذي الثمانين عامًا، وكاد الحب يقتله، فاستقل طائرة هليكوبتر ليكمل رحلته فوق رؤوس البشر الذين احتشدوا لاستقباله. ومع قدومه ذابت الدولة وسلطتها وحكومتها أمام شخصيته، وانضمت بعض وحدات الجيش إلى المتظاهرين، وأعلن عدم شرعية حكومة شاهبور بختيار، وعين "مهدي بازركان" رئيسًا للوزراء، فأعلن بختيار الحكم العسكري، فرد عليه الخميني بإعلان العصيان المدني، وكتب ورقة نُقلت صورتها على شاشة التلفاز الذي استولى عليه أنصاره، فيها: "تحدوا حظر التجول" فتدفق الشعب إلى الشارع، وتصاعدت حدة المواجهات، واستولى المتظاهرون على كميات كبيرة من أسلحة الجيش، فجاء القائد الأعلى للقوات المسلحة الجنرال قرباغي إلى الخميني وأعلن استسلامه وحياد الجيش في المواجهات التي تحدث في المدن بين مؤيدي النظامين، وعادت القوات العسكرية إلى مواقعها، وأعلن الخميني قيام الجمهورية الإسلامية الإيرانية، بعدما استمرت الثورة عامًا كاملاً سقط خلاله أكثر من (76) ألف قتيل، وفر شاهبور بختيار إلى خارج إيران.
من الثورة إلى الدولة الإسلامية(37/10)
بعد إعلان قيام الجمهورية الإسلامية في إيران، تشكل عدد من اللجان الثورية لمحاكمة أعداء الثورة ورجال النظام السابق، وحُكم بالإعدام على كثيرين، وصودرت أملاك الشاه وأسرته وتم تخصيصها للمستضعفين، وشكل بازركان الوزارة الجديدة، وعين كبار الضباط المناوئين للشاه في رئاسة المراكز العليا للحفاظ على الجيش. أما الخميني فسعى لتدعيم وتقوية المؤسسة الدينية، وأنشأ "مجلس قيادة الثورة" الذي كان يشرف على الحكومة المؤقتة وقيادات الجيش، وبدأت الخلافات تظهر بين الخميني وبازركان حول مفهوم الجمهورية؛ حيث تمسّك الخميني بالاقتراع على الجمهورية الإسلامية فقط، واستطاع علماء الدين الشيعة اختراق جميع مؤسسات الدولة، ولم يصبح أمام بازركان مجال للمنافسة معهم، وأصر الخميني –أيضًا- أن تكون رئاسة الدولة تحت ولاية الفقيه، ومنح الدستور هذا الفقيه سلطات مطلقة، وأمام هذا الأمر استقال بازركان بعد شهور من قيام الثورة.
وتوترت علاقة إيران الإسلامية بالولايات المتحدة بعد احتجاز أكثر من خمسين رهينة أمريكية داخل السفارة الأمريكية في طهران، وكان ذلك سببًا في قطع العلاقات الدبلوماسية بين البلدين.
واختار الخميني "أبو الحسن بني صدر" رئيسًا للجمهورية الإسلامية، وحصل أبو الحسن على أعلى الأصوات؛ فكان أول رئيس للجمهورية الإسلامية في [ربيع أول 1400هـ=يناير 1980م]، وبقي الخميني مشرفا على شؤون الدولة الموجهة لها، إلا أن الخلافات تصاعدت بين الرجلين، فتوارى الرئيس، وصدر أمر بمنعه من مغادرة البلاد، ثم تم التصويت على عزله، وانتُخب "محمد علي رجائي" رئيسًا للبلاد.
وشهدت فترة ولاية الخميني على الجمهورية الإيرانية تفجر الحرب العراقية الإيرانية التي استمرت ثماني سنوات.(37/11)
وقد وقعت عدة محاولات انقلابية ضد الخميني لكنها أُحبطت، واستمر الصراع السياسي والاجتماعي في إيران، والعزلة المفروضة عليها دوليًا بسبب سياساتها في تصدير الثورة حتى وفاة الخميني في [29 شوال 1409هـ=3 يونيو 1989م] بعدما رفع لأول مرة في التاريخ المعاصر مسألة حيازة السلطة من قبل الفقهاء، وتأسيس حكومة إسلامية تقاد من جانبهم.(37/12)
الخمينية، الفاطميون والكتاميون
المشروع السياسي والمشروع العقائدي
الملف الصحفي
بقلم: عبد الحق بوقلقول
تاريخيا، لا يمكن الفصل بين التشيع والدولة الفاطمية، إذ أن الأقدمين والأحدثين أجمعوا على أن أول دولة قامت على أساس المذهب الشيعي بمفهومه الفقهي والسياسي هي الدولة الفاطمية التي حملت هذا الاسم نسبة إلى السيدة فاطمة الزهراء رضي الله عنها وذلك بمدينة المهدية على ضفاف البحر المتوسط بتونس الحالية.
وإذا كان السرد التاريخي وفق هذا المنحى غير واف بالنظر إلى طبيعة موضوعنا في حد ذاته إلا أن هذا لا يمنعنا من أن نشير إلى أن الدعوة التي سبقت قيام هذه الدولة قد انطلقت من الجزائر وتحديدا من منطقة فرجيوة بالقبائل الصغرى وتزعمها المسمى أبو عبيد الله الفاطمي الذي تمكن من خلال جمع من أنصاره أن يصنع لنفسه مركزا معتمدا على نسبه الشريف ومستندا على البنية الإجتماعية لسكان المغرب الإسلامي عموما والتي هي أساسا شخصية تتميز بالروح الإندفاعية الثائرة والتي إذا ما أضفنا إليها حبا جارفا لآل البيت وعاطفة دينية جياشة فإننا نحصل على أمثل الظروف التي قلما تتوفر في مكان آخر لأجل قيام دولة قوية.
ولكن السؤال الذي بقي عالقا لدى الباحثين لماذا لم تثبت الدولة الفاطمية في شمال افريقيا، فبمجرد إقدام الخليفة الفاطمي المعز لدين الله على نقل عاصمة دولته من المهدية إلى المدينة التي بناها على ضفاف النيل وأسماها القاهرة حتى كانت تلك الخطوة بمثابة الآلة التي تجر وراءها المذهب الشيعي ودعاته بعد أن أعقبتها وبشكل سريع موجة اندثار تدريجي لهذا المذهب على الرغم من أن الفاطميين، كما تذكر كتب التاريخ، لم يدخروا جهدا في سبيل حمل رعاياهم حيثما حلوا على التمذهب به.(38/1)
والدولة الفاطمية نموذج غريب في التاريخ، فالمكان الذي مثل مهد الدولة الفاطمية وانطلاق دعوتها سرعان ما قطع حبال الوصل مع المركز الجديد. ويبقى التفسير المباشر لهذه الحالة من القطيعة السريعة أن الفاطميين ركزوا في بداية دعوتهم على المشروع السياسي المناهض لمظالم العباسيين، دون أن يتطرقوا بشكل مفصل لمشروعهم العقائدي، وهذا ما جعل المناهضين للظلم السياسي يلتفون حولهم وخصوصا الرجال الأشداء من قبائل الكتاميين شمال الجزائر وتونس (بجاية، جيجل، سكيكدة، المهدية)، الذين اشتهروا بحفظ الأسرار (الكتمان) وهو الشرط الأساسي في قيام الدول في العصر الوسيط.
بيد انه بعد أن انتقل الفاطميون إلى مصر واستقر بهم المقام هناك بدا المشروع العقائدي يكشف عن نفسه بشكل سافر وواضح الأمر الذي أدى إلى تعجيل القطيعة بين مقام دعاة الفاطميين ومهد دعوتهم من الامازيغ الكتاميين الذين رفضوا المقولات المغالية الجديدة. وحتى قبائل بني سليم وبني هلال العربية التي هاجرت من شبه الجزيرة إلى صعيد مصر ثم منه وبإيعاز من الفاطميين إلى المغرب لأجل كسر شوكة الأمازيغ الذين أعلنوا العصيان قد نجحت في إخماد هذه الثورات إلا أنها لم تتمكن من إعادة الارتباط المذهبي بالدولة في القاهرة بل واضطرت القبائل الوافدة هي الأخرى إلى الانصهار في المذهب المالكي وتبني العقيدة الأشعرية. وهذا الأمر يتكرر أيضا مع دولة الاداريسية بالمغرب حيث أن رأس هذه الدولة إدريس الاول وحامل دعوتها الذي فر من وجه العباسيين بعد أن انهزم الشيعة في معركة "صخ" الشهيرة التي وقعت على مشارف بغداد وجاء فارا من المشرق إلى المغرب حاملا المشروع العلوي، واستقبلته القبائل البربرية المغربية التي ولته السلطة السياسية حبا في آل البيت ولكن بعد أن تخلص من لبوسه العقائدي وانصهر كليا في المنظومة السنية المتماسكة في شمال إفريقيا.(38/2)
انتهى التاريخ الشيعي في شمال إفريقيا في حدود هذا الانقلاب والانقلاب المضاد، او قبول الشق السياسي من الدعوة ورفض شقها العقائدي، ولا يحدثنا التاريخ عن دولة شيعية او داعية شيعي باتم معنى الكلمة، ولعل الامر المميز هو ان اهل السنة أنفسهم تبنوا فكرة النسب الشريف، وأصبحت جزء من الانثربولوجيا الاجتماعية بالانساب لآل البيت دون أن يعني ذلك ولاء لعقيدة الإمامية، ومن ثم لم تعرف هذه المنطقة القطيعة بين المنظومة السنية في العقائد وحب آل البيت في العواطف كما هو الأمر في المشرق الإسلامي.
قيام النموذج الإيراني
لم يكن لوصول آية الله الخميني إلى تولي مقاليد السلطة في إيران مطلع العام 1979 عظيم الأثر في إيران وحدها وإنما كان لهذا الوصول نفس أثر الصدمة التي تحدثها الأجسام عندما تلامس سطح الماء الهادئ ، فلقد امتد هذا الارتجاج إلى كل العالم الإسلامي بالنظر إلى الشخصية الكاريزماتية التي يتمتع بها الخميني.
كان المرشد الأعلى لإيران ـ كما يسمى ـ شخصا على قدر واسع من المعرفة والإطلاع وكان دائما يبهر محاوريه ويجعلهم يعجبون بملكاته السياسية فهو يتفادى دوما التطرق إلى الخلافات العميقة التي تميز المذهب الشيعي فلا تراه متحدثا إلا عن ضرورة الثورة والتغيير ومحاربة الفساد وإعادة مجد الإسلام وهذا منذ سني منفاه الباريسي وحتى وصوله طهران في جو إحتفالي أسطوري.(38/3)
كانت إذن مصادفة تاريخية عجيبة أن يزامن صعود نجم الخميني في سماء طهران إندثار نجم آخر في سماء أخرى . تلك السماء كانت سماء الجزائر وذاك النجم الذي هوى كان نجم الرئيس الأسبق هواري بومدين الذي مات " فجأة" وهو في أوج قوته أواخر عام 1978 ليخلفه رئيس آخر هو العقيد الشاذلي بن جديد وهو الاستخلاف الذي سوف يقابل في تاريخ الجزائر المعاصرة جملة كبيرة من التحولات التي عرفها النظام الحاكم فيها من خلال سياسة الإنفتاح التدريجي والإتجاه الحذر نحو الليبرالية الثقافية على الأقل والإستعداد لتغيير النمطية الفكرية اليسارية التي أوجدتها الذهنية البومدينية خلال خمس عشرة سنة من الحكم بذراع حديدية.
هنا يجب أن نشير إلى أن الجزائر بقيت في هذه الأثناء من بين الدول القليلة التي احتفظت بعلاقات ديبلوماسية عادية مع رجالات طهران الجدد إن لم نجزم أن هذه العلاقات كانت ممتازة بالعودة إلى الدور المحوري الذي لعبته الديبلوماسية الجزائرية في تفكيك ما عرف تاريخيا بأزمة الرهائن الأمريكان في إيران.(38/4)
نعود بعد هذه اللفتة الإضطرارية إلى وصف تلك الجملة من التحولات التي بدأت تعرفها كل من إيران والجزائر كل على حدى، فعلى الجانب الشرقي من العالم الإسلامي تولى زمام السلطة أشخاص نذروا على أنفسهم مهمة تصدير الفكر الثوري الجديد نحو بقية أصقاع الأرض من خلال غرس مفاهيم جديدة في كل المقتربين من هذا النموذج وكل المعجبين بالأداء السياسي لنظام الملالي الناشئ وهؤلاء المنبهرين بالحلم الخميني وجدوا ضالتهم في المصطلحات التي أبدعتها وزارة الإطلاعات " المخابرات" وريثة السافاك على شاكلة : الإستكبار ، الشيطان الأكبر والمستضعفين وما إلى ذلك من إبداعات ما زالت تلازم هذا النظام حتى تاريخ كتابة هذه السطور. وعلى الجانب الجزائري بدأ نظام الرئيس بن جديد كما قلنا في عملية إضفاء هامش دقيق من الحرية الثقافية والفكرية لأجل الحد من التأثير الكبير لليسار الشيوعي الذي تقوى خلال سنوات بومدين أكثر من اللازم وهي القوة التي كان لابد من أجل التصدي لها إطلاق يد اليمين ممثلا في التيار الإسلامي حتى يقف في وجه الزحف الأحمر الذي بات يقلق كثيرا صناع القرار في الجزائر.
كانت إستراتيجية التغاضي هذه تعني بالأساس الاتجاه نحو المشرق العربي وقد كانت أوضح علامات هذا التوجه الحديث تكفل الدولة وقتها بتنظيم ملتقيات للفكر الإسلامي ودعوة شخصيات مرموقة للمشاركة في فعالياتها وكذا تنظيم معارض للكتب حيث أقبل الناس على إقتناء كل العناوين الوافدة من دور النشر اللبنانية والسورية وهي البضاعة الرخيصة التي جعلت السلطة تزهد في مراقبتها وتمحيص الغث من السمين بينها.(38/5)
إنتشرت الكتب الشرقية إذن بشكل غير مسبوق وعجت رفوف المكتبات بعناوين تختلف إختلافا غريبا في مضامينها ومنطلقاتها إذ يكفيك وقتها أن تتجول في مدن الجزائر لترى بأم عينيك كتابات الشهيد سيد قطب والمودودي وحسن البنا وسعيد حوى ورسائل عبد العزيز بن باز وعبد الحميد كشك والسباعي وعودة إلى جانب كتب باقر الصدر وعلي شريعتي والخميني ـ عليهم جميعا رحمة الله ـ وغيرهم من أساطين الفكر الإسلامي الحديث. كان يكفيك أن تطلب الإسم الذي تبحث عنه لتجد ضالتك فلا أحد يهتم بمضمون الكتب وأصحابها.
هذه حال الكتب، أما حال ملتقيات الفكر فقد كانت بحق شمعة أضاءت جزءا كبيرا من الدرب الإسلامي ووجد كثيرون من المدعوين في الجزائر متنفسا لهم وخصوصا أولئك الذين قدر لهم في المستقبل القريب بعد ذلك لعب أدوار جوهرية في العمل الإسلامي كالترابي والغنوشي على الرغم من أن هؤلاء الرموز لم يكونوا وحدهم من شارك في هذه المنابر الفكرية إذ يجب أن نضيف أيضا أن آية الله علي تسخيري كان قد جعل لنفسه عادة تستلزم منه في كل مرة المشاركة والإدلاء برأيه وإبلاغ صوت الفكر الشيعي الغائب حتى ذلك التاريخ.
هذا الأخير يشغل حاليا منصب الأمانة العامة لدار التقريب بين المذاهب الإسلامية في إيران وهو أيضا كان شخصية تتمتع بقدر عظيم من التحصيل المعرفي وصاحب ملكات خطابية هائلة تجعلك تصغي إلى ملقيها باهتمام وتبدي إعجابك بما يقول ولا تلاحظ أنه لا يسمعك إلا ما ترغب في سماعه ولا يعرج مطلقا على تلك القضايا التي عششت عبر القرون الطوال.(38/6)
إستمرت الحال إذن على أكمل وجه ووجدت الدعوة الشيعية في الجزائر أرضا خصبة وعاطفة قوية صادقة "ساذجة" لكل ما هو وافد شرقي في مقابل جهل أو تجاهل ـ لست أدري بالضبط ـ من قبل وزارة الشئون الدينية المخولة دستورا لأمر التصدي لمثل هذه الدعوات التي تهدد كل الإرث الثقافي للأمة إذ أذكر شخصيا أن صورة الإمام الخميني كانت منتشرة على نطاق واسع في البيوت الجزائرية وما زالت تلك الصورة التي كان يلصقها أحد أصحاب المقاهي في مقابل مدخل محله عالقة بذهني حيث يقف الزعيم الخميني معمما وملتحفا السواد رافعا يده لتحية الجماهير العطشى لكل ما هو إسلامي .. كنا نجهل أن ذلك الوقار الكبير وتلك اللحية الناصعة البياض تحمل معها أيضا رصيدا فكريا لا يمكن أن يكون بالضرورة قريبا من حمولتنا البريئة فزيادة على صغر سننا وقتها لم يكن آباؤنا يعلمون مثلا أن إيران هذه أرض لا يتكلم سكانها اللغة العربية .. كانت الغالبية الساحقة منا لا تفرق بين العروبة والإسلام...بكل بساطة.
أكتوبر ... بداية أم نهاية؟؟
كانت فترة الثمانينات ، بغض النظر عن تناقضاتها، فترة التاريخ الذهبي للعمل الإسلامي وحلم التغيير الذي أجهض ولما يشتد عوده .. كانت انتفاضة أكتوبر نهاية ذلك الهدوء الرخيم وانتقلت البلاد من بعدها من مرحلة إلى أخرى ، وإن شئت قل ، من عصر إلى آخر.
أفرزت هذه الانتفاضة حالة هذيان غريبة وأنتج الدخول المتسرع وفقها عصر الحرية، إلى حين، جملة من الصراعات وجعلت من التناقضات التي لم ننتبه إليها أرضية إجتماعية جديدة كانت كفيلة بأن تجعل كل التيارات السابحة في عمق المجتمع تطفو إلى السطح وخرجت كل الدعوات مرغمة إلى النور.
لم تكن الدعوة الشيعية بأي حال من الأحوال فوق القوانين الطبيعية وخرجت هي الأخرى إلى طور جديد.
أولى بوادر العلن(38/7)
على الرغم من أن معطيات كثيرة تلزم للحكم بمثل ما سأقول إلا أن شعورا غريبا يدفعني إلى أن أجزم أن مدينة باتنة كانت ولا تزال مركزا لهذا الفكر الوافد لجملة من الملاحظات سوف أشير إليها في حينها.
كانت مرحلة ما بعد أكتوبر كما قلنا مرحلة إغراء كبير فأنت تجد أن الجزائر فجأة امتلأت بالنوادي الفكرية والجمعيات الثقافية وحتى أحزاب سياسية إذ كان يكفي أن تجمع نفرا من الناس وتضع لنفسك قانونا أساسيا لتجد نفسك على رأس تشكيلة تتكلم باسمها وتعارض أو تساند ما شئت أنّى شئت.
وبما أن باتنة لم تكن مدينة معزولة عن الجزائر فإن حمى الاجتماع بلغتها هي الأخرى وصارت مكاتب الإدارات تعج كل يوم بطلبات اعتماد جديدة على اختلاف مشارب الناس ونزعاتهم.
من بين هذه الجمعيات التي نالت شرف الاعتماد جمعية قيل أنها ذات طابع محلي سميت مجازا "جمعية الإصلاح الاجتماعي والتربوي" وأذكر أن هذه الجمعية قد أعلن عن تأسيسها رسميا في مسجد " عبد الحميد بن باديس" وسط المدينة وحضر هذا الإعلان جمع غفير من الناس بسبب أن الدعاية لها قد لعبت دورا كبيرا في ذلك وكنا جميعا نعتقد أن هذه الجمعية ستكون جمعية لكل الإسلاميين وقتها.
في هذه الفترة بالذات أبلغنا أحد أساتذتنا بالثانوية أن داعية إسلاميا جزائريا كبيرا سوف يلقي محاضرة "قيمة" بقاعة دار الثقافة فلم نتردد لحظة في غزو تلك الدار على أمل الإغتراف من هذا النهل الصافي.
حين دخلنا هذه القاعة ذهلنا لمنظر تلك الحشود الهائلة من القادمين حتى أننا اضطررنا إلى الصعود إلى الشرفة المقابلة لمنصة المحاضر ولست بحاجة إلى القول أن التململ قد بدأ ينتابنا بسبب أن المحاضر الفذ قد تأخر عن موعده المعلن كثيرا.(38/8)
جلسنا ننتظر وشربنا من عرقنا حتى ارتوينا وقد كان منظر أولئك الذين عجلوا بالوصول قبل الموعد بساعات من أجل الظفر بمكان قريب من داعيتنا الكبير يضفي علينا نوعا من الصبر فنحن في أسوأ الأحوال أفضل منهم حالة ، لقد كانت حالتهم على درجة كبيرة من التعفن.
وأخيرا وصل صاحبنا وقد بدى لنا مظهره غير مألوف فهو كان يرتدي بذلة أنيقة ويضع نظارات طبية لا شك أنها بسبب مشقة طريق الدعوة التي خاضها ثم قدمه لنا أستاذ آخرـ عضو قيادي بالجمعية سالفة الذكر وهو الآن من أكبر رؤوس هذا التيار أو فلنقل أنه الرأس الكبيرة أصلا ـ عرفنا من خلال ضيفنا أنها المرة الأولى التي يسمح له فيها بدخول الجزائر دون أن يعتقل بالمطار منذ أكثر من عشر سنين.
كانت القضية الأهم وقتها بالنسبة لصاحبنا هي قضية سلمان رشدي صاحب آيات شيطانية والذي أصدر الخميني فيه فتوى تبيح دمه وهي قضية معروفة ما تزال فصولها حتى الآن.
كان بإمكان صاحبنا أن يثني على هذه الفتوى إلا أن إصراره على تعظيم الزعيم الإيراني ونظام طهران عموما قد أصابنا بخيبة أمل عريضة فنحن جئنا أساسا لنستمع إلى هموم الدعوة والدعاة بالجزائر وكنا قد مللنا وقتها ذرعا بالضجة التي صاحبت هذه القضية على وجه الخصوص فهي قضية أخذت حجما أكبر من حجمها.
كل هذا لم ينتبه له محاضرنا الذي أطنب في ذكر مناقب هذا الرمز وراح في إصرار عجيب يعدد محاسن طهران ويكشف عيوب خصومها من الخليجيين وما إلى ذلك حتى بدأ الحضور في الانصراف.
هنا جاءت المفاجأة التي لم يتوقعها أحد والنقلة النوعية التي لم تخطر ببال بشر فمباشرة ودون سابق إنذار وبعد أن عدد بعضا من الافتراءات التي حملها الكتاب القضية قفز الأستاذ الدكتور إلى لغة لم يسمعها سوى من اعتاد موائد القمار وأسواق ..، أطلق الأستاذ العنان للسانه وأسمعنا وابلا من الكلام الذي لا أجرؤ على نقله الآن.(38/9)
هي محطة عشتها مع هذا الداعية المتأثر حد الجنون بالفكر الشيعي الخصب والذي هو الآن يجوب أقطار الأرض يبشر بعهد الخلاص الإيراني غير مكتف بالشروحات السياسية بل وناقلا للخزعبلات الفكرية التي تجعل المستمع ينأى جانبا عن الخوض فيها والإنصات إليها.
منذ ذلك اليوم بدأت عقولنا الصغيرة تتفتح على عالم جديد محايث لعالمنا، إنه عالم "المتشيعة"، أو هؤلاء الذين قادهم ثقب السياسية إلى ساحة العقيدة.(38/10)
الخواء الروحي وفقر الخطاب وراء انتشار التشيع في الجزائر!!
متابعة: فريد مسعودي
لم تكن ولادة الجبهة الإسلامية للإنقاذ عام 1989 ضربة قاصمة لهذا التيار ورموزه في الجزائر فحسب ولكن الإطار الفكري الخصب الذي كان يمثله تيار البناء الحضاري على الخصوص كان سدا منيعا في وجه هذه الدعوة التي أضطرت بعد هذا إلى الركون إلى الظلام مجددا بسبب أن حملات التوعية التي ساقتها التجمعات الحاشدة للجبهة والأسلوب الأخاذ الذي كان يملكه الشيخ علي بن حاج كان الجدار الذي تتوقف عنده كل الإيديولوجيات والتناقضات العقدية فليس بإمكان أحد وقتها أن يقف في وجه هذا الشيخ الشاب الذي استطاع أن يجمع الملايين من حوله ويجعل كل معارض يخشى أن يتطرق إليه بالاسم...كان التشيع مع فترة المد الجبهوي تهمة قاتلة على الصعيد الاجتماعي وعلى الصعيد النفسي لكل من ألصقت به.
ولما وقع الذي كان عاد هذا التنظيم من جديد يبحث عن معتنقين جدد على الرغم من أن السلطات كانت دائما تصر على أن لإيران دور جوهري في الإقتتال الذي دارت رحاه بالجزائر بغض النظر على أنه من المستبعد عقلا أن يكون لهذه الدولة أي دور في ذلك حتى ولو أصرت مصادر صحفية أن أحد أمراء الجيا وهو شريف قوسمي المكنى أبا عبد الله أحمد والذي قتل في كمين ببئر خادم خلال شهر سبتمبر 1994 كان على علاقة وثيقة بطهران لسبب بسيط يعرفه كل من يعرف الإسلاميين ويعرف أن إلتقاء التيار السلفي الجهادي وتيار التشيع هو سابع المستحيلات.
المد الشيعي يعود بقوة(39/1)
الإنتصارات التي حققها حزب الله في جنوب لبنان والتطور المذهل الذي عرفته وسائل الإتصال وأعني بالخصوص قناة المنار الفضائية كلها عوامل ساعدت في استعادة هذا التيار لعافيته وتزايد أتباعه ولا يحتاج الأمر حاليا لمن يرغب في التأكد من هذا سوى لأن يقوم بزيارة لمسجد عقبة بن نافع الفهري بحي بوعقال الشعبي بباتنة، دائما، ليرى بناظريه مدى تطور هذا التيار وحضوره.
لنبدأ الآن بالسفر في حياة هؤلاء مع وجوب أن يتذكر كل واحد منا هنا أن أمر الكلام مع واحد منهم مشكلة غير قابلة للحل أما حلم الحديث الصحفي معه فتلك معضلة ربما لن يستطيع حتى معاوية بن أبي سفيان ـ الذي يلعنونه صباح مساء ـ حلها.
أنا شيعي أصلا
أول من إقتربت منه كان المدعو سمير وهو تاجر ألبسة نسوية كثير الأسفار خصوصا نحو سوريا وسمير هذا شخص وسيم جدا يضع لحية خفيفة على وجهه ويلبس خاتم العقيق في خنصره الأيمن كرمز لا يفقهه إلا المطلعون على تقاليد المتشيعة .
دخلت محله واستدرجته بالسؤال عن رغبتي في الحصول على خاتم من النوع الذي يلبسه وأعلمته أنني لا يمكنني أن أجد ضالتي إلا عنده بما أن التجار في جواره كلهم أشاروا علي بالتوجه إليه هو تحديدا لأنه الوحيد الذي يسافر إلى المشرق حيث ضالتي.
في البداية لم يبد صاحبي إهتماما فلقد أعلمني أنه تحصل على خاتمه من أحد أصدقائه بالمشرق فهو بالتأكيد توجس مني خيفة، ولكنني سارعت إلى طمأنته بالقول.
إنفرجت أسارير هذا التاجر وأحسست انه بدأ يتجاوب مع رغبتي في نسج علاقة معه إلا أنني وحرصا مني على طمأنته، إعتذرت له بأنني لا أستطيع الحديث معه كثيرا ولا بد لي من المغادرة إمعانا في التهيئة للصداقة التي سوف أضطر لنسجها معه، ثم خرجت وحددت معه موعدا بعد يومين من هذا.(39/2)
في اليوم الموعود رجعت إلى صديقي الجديد ووجدت محله مليئا بالزبونات وهو في كامل زهوه ونشوته قبل أن يراني ويعجل بإضفاء صورة جدية على ملامحه. في هذه المرة لم أجد عناءا كبيرا في الحديث معه فلقد وجدته مهيئا لإفراغ كل ما يكتمه عن مذهبه وانتمائه وراح بمجرد خروج النسوة يصب جام غضبه على هؤلاء "السنة" الحمقى والمتخلفين ذهنيا الذين يسرقون دوما من محله عند أول فرصة ولا يعرفون للعهد معنى مستشهدا ببعض من مواقفه مع التجار الشيعة في دمشق الذين كانوا يعطونه سلعهم دون السؤال عن ثمنها إلى غاية عودته من الجزائر وبيعها.
هنا قفزت على الفرصة السانحة وسألته إن كان قد عرف هذا المذهب هناك في سوريا فأجابني بالتأكيد ولكنه أصر على أنه لم يكتشف في سوريا مذهبا جديدا وإنما اكتشف أنه ولد شيعيا وأن سابق عهده بالسنة لم يأت سوى من خلال المدرسين المشارقة الذين احضروا معهم هذا المذهب في متاعهم، وهنا يلاحظ التوافق بين هذا القول لتاجر متواضع المعارف، وقول الجزائري المثقف في الشريط المتداول مما يوحي بان الشريط يمثل أحد أهم الأدوات الخاصة بالاستقطاب التنظيمي لعالم التشيع الجزائري.
لقد أعلمني أنه لم يمتلك شجاعة التحول إلا بعد أن قرأ كتاب "المراجعات" وهذا الكتاب هو لمن لا يعرفه مناظرة فكرية بين أحد أقطاب المذهب الشيعي في الأربعينات والمسمى "عبد الحسين شرف الدين" والشيخ " سليم البشري" شيخ الأزهر في تلك الفترة والكتاب هذا تجعل منه حركة الدعوة الشيعية مرجعا قاصما لكل محدودي العقل، ومحدودي الاطلاع على التاريخ الإسلامي ومقررات العقائد الإسلامية.(39/3)
أما عن صاحبي فحججه بكل تأكيد ليست من بنات أفكاره لأنه أوضع من أن يعرف حقيقة صراعات النخب الإسلامية ببساطة وإنما هي أقوال يجترها نقلا عن مصدر آخر هو شخص سوف أسميه ـ درءا للتشهير ـ محمود وهذا الأخير معروف هنا بمدينة باتنة ويعرفه العام والخاص بهذا الانتماء بل إن شهرته تجاوزت حدود المدينة لتبلغ كل القطر مما يجعل الانطباع السائد حاليا أن محمودا هذا هو المنسق الوطني لهؤلاء بالنظر إلى طول العلاقة التي ربطته بالنظام الإيراني إضافة إلى مركزه الاجتماعي وحتى القبلي فهو يملك مؤسسة سياحية أي ما يعني الغطاء الأمثل للتحرك بكل حرية داخل الوطن وخارجه.
حاولنا الاتصال به إلا أننا أبلغنا أنه في سفرية حاليا فاستنتجنا أنه في مكان ما يحيي المجالس الحسينية أو العاشورائية تقليدا لهذه البدعة التي تندب كل عام إماما طاهرا هو الآن في عليين.
إلى هنا توقف حديثي مع سمير ولم أحاول أن أتقدم بالحديث اكثر بسبب أن هذا قد يثير شكوكه " المفطور عليها" ووعدته بزيارة قادمة في اقرب الآجال.
كلكم أمويون
ثاني النماذج التي اقتربنا منها شخص تلوح على محياه ملامح التشيع حتى لكأنه إيراني صميم على الرغم من أنني متأكد من اصله "الشاوي" القح.
صاحبنا، ولنسمه حسين، لا يبذل أدنى جهد في إخفاء حقيقته المذهبية فهو كما يقول شيعي منذ عشرات السنين ولقد كنت عرفته صدفة بواسطة أحد معارفي وهو يناديني "الأموي" على الرغم من أنني حاولت مرارا أن اشرح له حقيقة نظرتنا إلى التاريخ الإسلامي ، وبأننا لا نقدس يزيدا بل نعتبره أحد اكبر طغاة فجر الإسلام.
تحدثنا كثيرا عن الخلاف القائم بين جناحي العالم الإسلامي وأعترف أن حسين على إطلاع واسع بالساحة الاوروبية التي يبدو انه يزورها بشكل متواصل حتى أنه ليحدثك عن أدق تفاصيل العادات الأوروبية، هو لا يعرف المدن الأوروبية فحسب ، إنه يعرف شوارع هذه المدن شارعا شارعا.(39/4)
الحديث معه بالحقيقة ممتع فهو يملك مؤهلات سياحية هائلة ويحدثك بطلاقة إلا أنك تصدم وتتهاوى كل تلك الصور الجميلة التي يضعها أمامك بمجرد أن تسوقه للحديث عن النظرة الاجتماعية والعلاقات الأسرية، وهنا تبرز شخصية أخرى كانت متوارية وراء تلك المعلومات السياحية، تتجاوران في ذاته دون أن يتقاطعا، عندما تبرز الثانية تختفي الأولى مثل شخصية جنكيل وديك.
إكتشفت من خلال جلستي معه أنه "مدمن" لزواج المتعة فهو يسافر إلى سوريا ومنها إلى جنوب لبنان كلما سمحت له الظروف بذلك وأذكر أنه يتحسر دوما ويتأفف حد الأسى كلما عرج على وصف الجمال "اللبناني" الأخاذ، حسب وصفه، ولا أعتقد أنني مضطر بعد هذا للقول أن هذا الهيام الغرائزي "الذي يرى فيه حسين سنة حميدة يؤجر فاعلها" هو سبب تعلق هذا الشخص بهذا المذهب..
من خلال حسين عرفت أن المذهب الآن يشهد ارفع مراحل نموه " فالاخوة" في المنار يبدعون في استقطاب المتعطشين "للجنس المأجور" وحينما سألته عن عدد إخوانه أطلعني أنه لا يمكن حصرهم ببساطة لأنهم كثر وهم حاليا منتشرون عبر كل ولايات الجمهورية أما أهمهم فلقد أكد لي أنه المدعو "محمود" الذي يحظى باحترام كبير في كل الحوزات العلمية في العراق ولبنان وحتى في قم.
حسين هذا حقا مصدر معلومات لا ينضب لقد أضاف أن دكتورا آخر يقيم حاليا في فرنسا حيث يعمل بأحد مخابر البحث في العلاقات الأورو- متوسطية هو المكلف بالتنسيق بين الداخل والخارج.
شخصية أخرى قال لي محدثي أنها تقوم بدور دعوي كبير وهي شخصية شيخ يسمى "الشيخ حمو" الذي يقيم حسب حسين بحي "لا غلاسيار" بالجزائر العاصمة حيث يحيط به جمع غفير من الشباب المتعطش للمتعة وأن عدد هذا الشباب في ازدياد دائم.
قبل فوات الأوان(39/5)
حين سألت أحد الأصدقاء "السنة بالوراثة" عن نظرته للظاهرة الشيعية قال لي :" إن الأمر لم يبلغ بعد حد الظاهرة" وإن كانت إجابة صاحبي صائبة في البداية إلا أن النظر إليها من زاوية أخرى يترك إنطباعا آخر مختلف كثيرا عن الرأي الأول.
إن المتأمل في ساحة الدعوة الإسلامية في الجزائر، يلاحظ التراجع الكبير في الخطاب الإسلامي العقلاني لحساب خطاب آخر، يقوده السلفيون المهادنون والذي يؤسس رؤيته للعالم وللكون على مبدأ التسليم، دون أية محاولة لإحداث بناء برهاني معرفي وخصوصا في عالم العقائد. فنظرة بسيطة على مكتبة العقائد التي يروج لها الخطاب السلفي نجد الحزمات الاستدلالية غائبة تماما، أما طرح قضايا العالم مثل العولمة والاقتصاد وهموم الإنسان في العصر الرقمي والإجابة عن تطلعات الشباب المعاصر الذي يتلقى أمواجا عاتية من الغرب المتاخم لنا وخصوصا عبر وسائل الاتصال الحديثة والقنوات الفضائية الأوروبية التي تطرح إشكاليات معرفية معقدة، وقضايا التحديث المتاخمة لرغبة الشباب في التطور والنمو وتغيير أوضاعهم الحضارية إلى الأفضل، وهذه الإشكاليات لا وجود لها في الخطاب السلفي وليست محل اهتمام بل تدخل في نطاق الابتداع. وهذا الفراغ الذي يحدثه الخطاب الشكلي، الذي يبدو انه أصبح محميا من الجهات العليا للبلاد بسبب الشق السياسي الذي ينزل بردا وسلاما على قلب النظام، يمهد الطريق بشكل مباشر لأي نوع آخر من أنواع الخطاب الذي يعالج هذه القضايا ويجيب على تساؤلات القرن الواحد والعشرين.(39/6)
وبما أن الخطاب السلفي يطرح نفسه كممثل وحيد لأهل السنة، وان غيره من الحركات والمذاهب والتيارات الفكرية ليست إسلامية او ليست من أهل السنة، فالخطاب السلفي يتنكر بشكل فج لكل الميراث الذي تطور تحت المظلة الكبيرة التي كانت تسمى اهل السنة، مستثنيا النتائج الفقهية والعقائدية لمدرسة أهل الحديث التي يعتبرها الممثل الوحيد للإسلام وهذا أدى بالضرورة إلى التنكر إلى حزمات هائلة من العقلانية التي تؤسس العقائد على البرهان. فمتن ابن عاشر المعروف في كل شمال افريقيا والذي يطرح برنامجا تصوريا متكاملا في الفقه والسلوك والعقائد، يؤسس النظر العقائدي على الاستدلال البرهاني في أبيات قوية المبنى وسهلة الحفظ، وقد ألفها صاحبها كمقرر تعليمي للأميين وعلى حد قوله"في نظم أبيات للأمي تفيد". هذا النوع من التراث يشكل الإطار العاصم من كل مقولات الخرافة والغنوصية ومقولات الغيبة الكبرى والرجعة وعصمة غير الانبياء وما يصاحبها من نظر غنوصي يرتفع بالبشر إلى نطاق ما وراء البشر.
لقد تم إخراج كل هذا التراث من دائرة أهل السنة بجرة قلم، والبديل الجاهز هو كتيبات تقريرية لا تبني تصورا ولا تقيم معنا وخصوصا إذا راعينا ظروف الصراع الفكري الذي يمر به عالمنا الإسلامي المعاصر.(39/7)
الكوابح أمام انتشار المذهب الشيعي في الجزائر تعد ذاتية بالدرجة الأولى لأن وسائل الدعاية المتبعة تعتمد على الانتشار السري، بسبب عوائق موضوعية تتعلق بمدى قابلية المحيط لهذا النوع من الفكر، بمعنى أنه قد لا يتطور إلى درجة الظاهرة الاجتماعية، ولعل أهم ما يقف دون تطوره في الفترة الحالية هي الصرامة التنظيمية التي تتميز بها الحركات الإسلامية العاملة في الساحة والتي لا تتردد في نقد الخطاب الشيعي الغنوصي وبعده الخرافي، والعامل الثاني الذي أصبح يمثل كابحا في وجه الاستقطاب التنظيمي لهذا المحفل السري هو الظاهرة الإيرانية السياسية التي كانت تمثل محل جذب واستقطاب ولم تعد كذلك بل بالعكس في ظل الموازنات الدولية الأخيرة والدور الإيراني المشبوه في الساحة العراقية جعل القراءات التي تنطلق من هذه التجربة تعود إلى الوراء وتراجع حساباتها. وكثير من الشيعة العراقيين أنفسهم بدؤوا يفصلون بين خياراتهم الإستراتيجية وبين حسابات إيران المصلحية، مما يعيد قراءة المشهد الشيعي برمته.(39/8)
الدكتور أحمد إدريس
الفكر السياسي في الإسلام
وجهة نظر أخرى
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
محتويات الكتاب
بهدوء
القيادة إمامة وخلافة
صياغة الفكر السياسي
ممارسات السلف
بيعة أبي بكر
بيعة عمر
بيعة عثمان
معاوية والثورة المضادة
الفكر السياسي في الإسلام:إسلامي أم سلطوي ؟
انقسام الأمة والقيادة
الرأي الآخر
نقد الفكر السياسي عند الشيعة
خاتمة
مراجع البحث
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بهدوء ...
الفكرالسياسي في الإسلام موضوع نقاش منذ عقود من السنين يؤمن البعض بأنه مكتمل وينقض البعض هذا الكمال. وقد كثرت فيه الكتابات من قبل فلاسفة التنظيمات والأحزاب الإسلامية مما جعل كثيراً من الناس يعتقدون بوجود فكر سياسي كامل ناضج لا يراد له أن يصل إلى الحكم.
ونحن وإن اتفقنا ـ أحياناً ـ مع النصف الثاني من هذه المقولة إلا أننا لا نتفق مع نصفها الأول، ذلك أن هذا الفكر بشكله الحالي ـ في رأينا ـ ليس ناضجاً ولا كاملاً وهذا الرأي الذي ارتأيناه يتأكد كلما وصل أصحاب هذا الفكر إلى السلطة فلا نضجاً نرى ولا كمالاً.(40/1)
ولقد تأسست على هذا الفكر جماعات وأحزاب في بلاد عدة من العالم الإسلامي صاغت فلسفتها السياسية مستوحية أصولها من فترة الخلافة الراشدة، وسعت في كثير من الأزمان ـ وما زالت تسعى ـ للإمساك بأزمة الحكم ولم تنجح إلا قليلاً، ومن نجح منها بانت عوراته حين راح يطبق ما يعتقده من فكر، فتأكد للناس خلو الصيحات العامة من الضوابط التفصيلية التي تحبك النظرية حبك صانع متقن وبدأ الناس يتساءلون : هل في الإسلام نظرية سياسية حقاً ؟ هل الخلافة الراشدة ونظامها كانت نظاماً إلهياً وتطبيقاً فعلياً نموذجياً لهذه النظرية ؟ وإن كانت كذلك فلماذا لم تستمر أكثر من هذا كما استمرت دول المغول والأتراك والبيزنطيين وغيرهم قروناً مع أنها دول بشرية ؟ وهل صحيح ما يقال من أن نظرية الإسلام في الحكم كاملة تامة تفضل جميع نظريات الشرق والغرب قديماً وحديثاً ؟ بحيث إن عرضناها على العلم المتحضر استحسنها وفضلها على ماعنده ؟ وهل إذا طبقنا هذه النظرية في عالمنا الإسلامي اليوم قضينا على الفوضى السياسية التي نعاني منها وعشنا في ظل نظام مستقر ثابت يضمن للمعارضين كما يضمن للمؤيدين حقوقهم ويحل المشكلات السياسية ؟ وما هي النظرية الإسلامية التي استخرجها علماؤنا ومشايخنا استناداً إلى النموذج الذي أقامه السلف الصالح في الحكم والسياسة ويطالبنا المتحمسون باتباعه والسعي لإعادته ؟ وكم لهذه النظرية من حظ ديني ؟ أي ما هي أدلتها وأسسها التي قامت عليها ...إلى آخر ما قد يطول من أسئلة تطرح نفسها على الباحثين ـ والمتحمسين أيضاً ـ كلما حدث حادث يتعلق بالفكر السياسي الإسلامي فى السودان أو باكستان أو الجزائر أو أفغانستان أو إيران أو أي قطر من أقطار المسلمين.(40/2)
وبحث جميع مسائل السياسة في كتاب واحد أمر عسير يحتاج إلى أكثر من باحث وبحث ووجهة نظر ومن ثم اخترنا موضوعاً واحداً منها فقط وحاولنا أن ننظر فيه ونفحص ما لدينا عنه على سبيل العينة. هذا الموضوع هو أهم موضوعات السياسة في أية نظرية وأعني به : الطريقة التي تُحدَد بها قيادة الدولة أي كيف تُختار هذه القيادة ؟ أو كيف تفرز الأمة قيادتها ؟ أو كيف ينبغي أن يصل الحاكم إلى الحكم وفق ما يسمونه بنظرية الإسلام السياسية ؟
وسبب اختيار هذا الموضوع أنه من أهم ما في علم السياسة قديماً وحديثاً، دينياً كان هذا العلم أم مدنياً، وأن هذا الموضوع لم يحسم بعد في الفكر الإسلامي بل لم يناقَش بشكل جاد أصلاً من قبل فلاسفة ما يسمى بالإسلام السياسي سلفاً وخلفاً ومن تناوله منهم إنما تناوله وهو خائف لشدة ما به من حساسية ولارتباطه بأمور يختل نظامها إذا تزعزعت المعتقدات المتوارثة بشأنها منذ قرون حتى ولو كانت معتقدات خاطئة.كذلك دفعنا إلى اختيار هذه المسألة للبحث أنها عنصر قوي التأثير في فكر جميع التيارات والفرق والأحزاب والتنظيمات الإسلامية المعاصرة التي أقامت فلسفتها بل وهياكلها التنظيمية على أساسها مستلهمة ذلك من الخلافة الراشدة، فهناك حبل متين بين جميع الأشكال الحركية الإسلامية المعاصرة فكراً وعملاً وبين موضوع هذا البحث.
وليس الهدف من كتابنا تحقير أي من الجماعات أو الانتصار لنظرية من النظريات أو الطعن في جيل مضى أو آخر أتى، إنما الأمر لا يعدو قراءة ثانية أو وجهة نظر أخرى أو تناولاً من زاوية مختلفة لأمور ترددها الألسنة وتسمعها الآذان.
على أني أعترف مقدماً بصعوبة المسلك وقلة الداعين إليه والمدركين لأهميته والفاهمين لأسلوبه خاصة في زمن اقترن فيه الفكر والرأي لا بالعقل بل بالإرهاب، والأنظمة والمتحمسون في ذلك شرع سواء.(40/3)
في هذا الكتاب نعيد القراءة ونعيد النظر..في هدوء.
الدكتور أحمد إدريس
بروكسل ـ أغسطس ميلادية
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 القيادة : إمامة وخلافة
مشكلة القيادة من المشكلات التي صاحبت الفكر الإسلامي منذ بدايته بعد انقطاع الوحي بوفاة مؤسس الدولة عليه وعلى آله الصلاة والسلام. ولأن القيادة صمام الأمان في كل مجتمع، وجدنا مجتمعاتنا فوضى تزرع ولا تجني غير قبض الريح.
ويميل بعض فلاسفة السياسة الي رد الفشل في إفراز قيادة واعية إلى سوء الشعب أو [ القوم ] نفسه، بينما يرى الآخرون عكس ذلك، وكل من الفريقين يسوق في دعم رأيه أدلة وبراهين. والحقيقة أن العلاقة بين القيادة والشعب أو القوم أو الجمهور أو غير ذلك من مترادفات اصطلاحية سياسية للتعبيرعن [الناس] إنما هي علاقة ديناميكية يؤثر كل شريك فيها في صاحبه ويتأثر به.
ولقد ظهرت مشكلة القيادة في المجتمع الإسلامي فور وفاة مؤسس الدولة والمشرف علي سيرها، ثم اختلفت المذاهب الإسلامية فيما بعد في تسميتها فهي عند الشيعة [إمامة] وعند السنة حيناً [خلافة] وحيناً [إمامة] على نحو مخلوط كما هو واضح من مطالعة كتب الكلام والعقيدة والسياسة لدى الفرق الإسلامية. لكني أستعمل هنا اصطلاح [القيادة] بدلاً من كلا الاصطلاحين القديمين لأسباب :
الأول : أن القيادة اصطلاح قريب إلى فهم المسلم المعاصر، سهل عليه تصوره
الثاني : أن القيادة اصطلاح توحيدي تتفق عليه المذاهب الإسلامية باعتبار المعنى سواء سموا هذا المعنى إمامة أم خلافة أم شيئاً آخر، لأن الإمامة عند الشيعة والخلافة أو الإمامة عند السنة : قيادة في أمور الدين والدنيا ونيابة عن النبوة فيهما.(40/4)
الثالث : أن الاصطلاحين القديمين ارتبطا عبر تاريخنا بنزاع مذهبي بغيض تركت اصطلاحاته أثرها في الأنفس والأذهان، ولا أحب تكرارها. غير أني ـ مع هذا ـ قد أضطر إلى استعمال ألفاظ كالشيعة والسنة وما شاكل ذلك على سبيل التعريف لا التمزيق والتفريق، وهذه ضرورة أملتها طبيعة الكتاب وموضوعاته وآراء المتكلمين فيها ووقائع تاريخنا المسطور وأعتذر عن هذا سلفاً حتى وإن لم يعجب اعتذاري البعض هنا أو هناك.
والحقيقة أن مطالعة ما عند الفرق الإسلامية من بضاعة في موضوع الإمامة والخلافة تؤكد أن أهل السنة يخلطون الإمامة بالخلافة برئاسة الجمهورية، ويستخدمون كلاً من هذه الاصطلاحات للتعبير عن معنى واحد فقط هو إدارة الدولة، فاصطلاحاتهم سائحة غير محددة يستوي في ذلك القدماء كالماوردي وابن خلدون، والمحدثون مثل المودودي ورشيد رضا وأبي زهرة، لكننا لا نقف على شئ من هذا الخلط عند الشيعة قديماً وحديثاً.
وما يهمنا في هذا كله ـ وقد أغمضنا العين عن الخلط ـ حكم الإمامة أو الخلافة أو القيادة عند كل من الفريقين، فهي عند الشيعة أصل من أصول الدين (1) يسوقون في تأييده أدلة عقلية ونقلية كثيرة لا يهمنا إيرادها هنا فالمجال مختصر محدود. وهي عند السنة فرض كفاية(2) كصلاة الجنازة ورد التحية وتشميت العاطس فهي أقل في منزلتها بكثير من الاستنجاء مثلاً وهو ما يوضح بذاته أهمية هذا المنصب الخطير في فكرهم السياسي. أما الدليل على أنها فرض كفاية، فليس عندهم غير إجماع الصحابة، دون نص من كتاب أو سنة.(40/5)
ولست أبغي ـ في هذا المجال الضيق ـ استقصاء آراء الأصوليين في هذه النقطة، وهل يتقرر الفرض فرضاً بإجماع الصحابة قولاً أو فعلاً ـ إن كان هناك إجماع ـ وأسأل إذا كان الصحابة (رض) قد أدركوا خطورة هذا المنصب وأهميته فأجمعوا على ضرورة إيجاده ـ وهذا كله عملية عقلية محضة ناتجة عن إعمال العقل في غياب النص ـ فهل يُتوقع منهم العقل وإدراك حاجة الدولة ونظامها ولا يتوقع ذلك من الله ورسوله رغم النص على اكتمال الدين؟[اليوم أكملت لكم دينكم] المائدة3
وأختلف بشدة مع ابن خلدون في أن الخلافة ـ وهي عندي كما قلت قيادة ـ لم تكن مهمة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم(3) ومن ثم لم يترك فيها شيئاً.
ومع أن أبا يعلى قال إن وجوبها السمع لا العقل(4) إلا أنه لم يقدم لنا نصاً مسموعاً منقولاً يؤيد مذهبه، إلا أن يكون قد أراد سماع أحداث السقيفة وما تلاها فنعود إلى نفس العقدة، وهي محل ألف نظر.
كما أن أحكام مشايخنا ـ نحن أهل السنة ـ واعتبارهم القيادة من أمور الدنيا والمصالح العامة المتروكة للخلق يفعلون بها ما شاءوا(5) تتناقض وتاريخنا، فلولا أنها حجر زاوية في ديننا لما راحت في سبيل تطهيرها الأرواح قديماً وحديثاً، فهل هي حقاً من أصول الدين كما يعتقد إخواننا الشيعة ؟(6) وإذا كانت من أمور الدنيا فلماذا نقيد أنفسنا ونحن في القرن الحادي والعشرين بآراء هؤلاء وقد عاشوا في مجتمعات غير التي نعيش فيها. أفلا يحق لنا أ ن نصرخ صرخة قوية في وجه علمائنا أن يجتهدوا ويبينوا لنا وفق روح العصر منزلة القيادة في الإسلام. ولئن كنت أعتقد أن قحط الرجال قد عم وغلب فلا أعتقد أن البقية الباقية من الرجال قد أصيبت بقحط الفكر.(40/6)
ولقائل أن يقول إن ابن تيمية اعتبرها من أعظم واجبات الدين. وأقول هذا صحيح، وقد قال: [ إن ولاية أمر الناس من أعظم واجبات الدين، بل لا قيام للدين إلا بها فإن بني آدم لا تتم مصالحهم إلا بالاجتماع لحاجة بعضهم إلى البعض، ولابد لهم عند الاجتماع من رأس حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم : إذا خرج ثلاثة في سفر فليولوا أحدهم…فالواجب اتخاذ الولاية ديناً وقربة المسألة ليس فيها نص مما جعل ابن خلدون والماوردي وغيرهما يجتهدون ويفتون بما قالوا، فلماذا نقيد حياتنا في يتقرب بها إلى الله، فإن التقرب إليه فيها بطاعته وطاعة رسوله من أفضل القربات ] (7) لكن كلامه هذا عن جميع المناصب لا عن القيادة بالمعنى الذي ذكرناه، فدخل فيه إمارة بيت المال والقضاء وغيره من مناصب الدولة. كما أنه أيضاً لم يأت بدليل صريح من كتاب أو سنة يسند قوله في أنها من أعظم واجبات الدين، بل استنبط رأيه بالعقل من أحاديث عامة كما ترى. وآخر ما يقال هو أن رأيه لا يمثل أغلب أهل السنة بل قلتهم، كما أنه لم يذكر كيف تعين القيادة بل ردد نفس الأقوال التي مررنا عليها وسنمر على غيرها مما ذكره الآخرون.
صياغة الفكر الديني السياسي
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ(40/7)
ليس بعيب أن نعترف بسذاجة الفكر السياسي عندنا أهل السنة، إذا اعتبرنا ما تركه لنا علماء المذهب منذ القرنين الرابع والخامس بعد الهجرة من آراء وأوراق فكراً سياسياً، فإن هذا المتوارث المتروك هش متناقض في بعضه يشبه الغربال لكثرة ما فيه من ثقوب، ومن هنا لا أعتقد أنه يصمد أمام نقاش علمي. والسبب في أنني لا أرى في الاعتراف بهذا عيباً أنه ركام موضوع على أساس آراء أشخاص ماتوا لكنهم ما زالوا يحكموننا من قبورهم رغم بعد الأزمان والمسافات. ولئن كان هذا الكتاب لا ينصب على هذا الموضوع رأساً، إلا أنه سيلمس ـ من بعيد ـ هذا الفكر لمساً خفيفاً عل هذا اللمس يوقظ عقولاً في نصف غيبوبتها أو تكاد تفيق.
وكانت نتيجة اعتمادنا على هذا التراث المتروك وتقديسنا له ولواضعيه دون فحص لعلاقاتهم بالأنظمة التي حكمتهم، وبالقوى السياسية الأخرى التي تفاعلت في مجتمعاتهم آنذاك، أن عجزنا على مر السنين عن أن نفرز قيادة واحدة، وأفرزنا أميراً في كل حارة ومفتياً في كل شقة، وإذا الكبير والصغير منا أمام ظاهرة دينية وسياسية خطيرة، بعضنا يمصمص لها شفتيه ويحوقل، وبعضنا يعجب منها ولا يعرف لها سبباً، ومنا من يعرف أصلها وفصلها لكنه يغمض عينيه ويؤثر السلامة.
والذين أزعجهم هذا الأمر، لم يردوه إلى جذوره ويبحثوا في الماضي ليفهموا الحاضر، بل على العكس، تحزب كل منهم لجماعته، وتعصب لموقف شيوخه ـ أحياءً وأمواتاً ـ فازداد طيننا بلة.(40/8)
واعتقادي أن الحاضر البائس الذي نعيشه مربوط بالماضي، ولا يمكن فهمه إلا بالرجوع إلى الأصل، والكشف عن الجذر ومعالجته، لأن المجتمعات البشرية ـ خصوصاً الفكرية [الأيديولوجية] ـ عملية حيوية ودورة دائمة كالدورة الدموية لا تقف إلا إذا مات البشر كلهم، ومن هنا فإن حاضر المسلمين السياسي ليس إلا امتداداً لماضيهم، بل لا أبالغ إن قلت إنه امتداد للوضع السياسي الأول الذي واجهوه بعد وفاة النبي عليه وعلى آله الصلاة والسلام.
فالذين تميزوا بوضوح الرؤية من رجال الجيل الأول، وتبلورت لديهم المفاهيم، تمسكوا بها،وبقوا بعيداً عن السلطة، وتعرضوا للتقتيل والتشريد والمصادرة والحرمان السياسي والاقتصادي شأنهم في ذلك شأن المعارضين الشرفاء في كل زمان ومكان كل بحسب نظريته، فنضجت أفهامهم واستوت وتماسكت نظريتهم أكثر إذ كان عليهم تقديمها للناس محبوكة قوية، وظلوا كذلك منذ البداية خصوصاً أنهم رفضوا كل الحكومات التي اعتلت المسلمين بغير سند.
والذين وصلوا إلى السلطة، وارتكبوا ما هو مسطور في تاريخنا بما أملته عليهم السلطة، لم يحتاجوا إلى نظرية محبوكة، فهم أهل السلطة القادرون على قمع المخالفين والتعامل معهم لا بالحجة والمنطق بل بما تتعامل به السلطة ـ أي سلطة ـ مع القوى السياسية التي لا يعجبها حالها.(40/9)
وتبلور الوضع العام في تاريخنا على هذين المحورين، وعاش أهل السلطة كما شاءوا، وبقي المعارضون كما هم، وامتدت القرون. ولفترة ما، حاول المعارضون أن يتحركوا فلم ينجحوا، إلى أن تحولوا في النصف الثاني من القرن الثالث الهجري تقريباً إلى المقاومة السلبية. وفي الفترة الأولى عبروا عن أنفسهم في شكل انتفاضات وثورات نصف ناضجة أو غير ناضجة، وسلكت معهم السلطة سياسة ذات محورين الأول: إبعادهم عن مسرح الحياة السياسية بل عن حياة الناس العامة، مرة بالقهر ومرة بالتشويه والثاني: تصفية رموز المعارضة جسديا، وقمع نهضاتهم على حساب كل الحرمات والمقدسات.
حتى إذا جاء دور كتابة السير والتاريخ ـ بعد قرون من وقوع حوادثه ـ إذا بمن كتبوه يصوغونه من وجهة نظر رجال السلطة لا وجهة نظر الذين اختلطت دماؤهم بحوادث التاريخ وشاركت في صنعه، ولذلك مجدوا في الغالب من في السلطة، وقدحوا في كل من عارضهم، ولم يعطوا الثورات والانتقاضات العظيمة حقها من التأريخ أو حتى الإنصاف والأمانة العلمية وكان الخلاف المذهبي أكبر عامل وراء صياغة الأحداث التي نقرؤها اليوم لأن كتابة التاريخ بدأت بعد نشوء الفرق والمذاهب، ففرض من كتبوا الأحداث عقائدهم ووجهات نظرهم على ما كتبوا في أغلب الأحيان. واستمر الحال على هذه الوتيرة إلى أن نزل إلينا في الأصلاب، وورثناه أباً عن جد فإذا بما فشا في أيدينا عبر قرون وقرون يصور لنا من في السلطة على أنهم أهل الحق ومن عارضوها على أنهم خارجون عن الجماعة. وصدقناهم دون أن ننظر إلى تآريخهم نظرة تحليل تدرس الظروف الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي عاش فيها هؤلاء الكتاب، وما تأثروا به ومن أثر فيهم، إلى غير ذلك من العوامل التي تفرض نفسها عليهم أثناء صياغتهم لأحداث التاريخ والسير.(40/10)
ولما دارت الدوائر، ونفذ القانون الحضاري في الخلق، واشتاقت قلوب المتحمسين لأن تعيد مجد الخلافة، وجدوا أنفسهم خارج السلطة، ووجدوا السلطة في يد آخرين، فأرادوا إزاحتهم وولوا وجوههم شطر الماضي المسطور يستفتونه ويستلهمون منه السياسة ونظام الحكم، فلم يجدوا في أيديهم غير كتابات ونظريات سلطانية أو سلطوية فلم تنفعهم لأن فكرالسلطة لا يقاوم بفكر السلطة، ولا بكتابات سلطوية مهما امتد البعد الزمني بين السلطتين.
أما الذين بقوا في المعارضة أربعة عشر قرناً فقد تراكم لديهم تراث سياسي وحركي أكثر نضجاً وعمقاً صاغوه على مهل من خلال تجاربهم وهم يعارضون كل الأنظمة لأنها عندهم غير شرعية. فلما دارت الدوائر وقضت قوانين التاريخ أن يقع الصدام بينهم وبين امتداد سلطوي، كانوا فاهمين جاهزين يعرفون كيف يتعاملون مع السلطة فأزاحوها، لأن التجربة التاريخية عبرالقرون أكسبتهم مراساً وقوت عظمهم. أنا أشير هنا إلى ما وقع في إيران.
ولئن كان الفكر السياسي الديني عند الشيعة لم يقع في مأزق إلا بعد وصوله إلى السلطة، فإن الفكر السياسي الديني عندنا أهل السنة واقع في مأزق منذ أربعة عشر قرناً، وإن كنا نريد الخروج من هذا المأزق فأول ما علينا هو أن لا نقبل ما في أيدينا من نظريات في هذا الموضوع على أنه مسلمات لا يرقى إليها الشك مهما كانت تمس شخصيات لها مكانة في المذهب، بل إني أرى الشك في هذه الكتابات أفضل، من أجل تحرير الإرادة والفكر، ولابد من فحص صلة كتابها بالقوى السياسسية في المجتمعات والعصور التي عاشوا فيها، وتأثرهم بشيوخهم، ووضعهم الاجتماعي آنذاك ومعتقداتهم الفرقوية، والجو السياسي والاجتماعي الذي عاشوا فيه، ودوافع تأليف الكتب، من أجل أن نقيم رأياً في المادة السياسية التي يعرضونها ونرى ما إذا كانت موضوعية نزيهة، أم منحازة قليلاً، أم متأثرة بعوامل تحيل شكنا يقيناً.(40/11)
ثم علينا ونحن نستخلص موقفنا السياسي أن ننزع برقع الحياء، ولا نخجل في تحليل وقائع تاريخنا مهما بلغ المشاركون في صنعها من علو المنزلة بعد رسول الله. فإن أدرنا وجوهنا عن هذه الوقائع وقلنا تلك أمة قد خلت، فعلينا أن نرد على من يسألنا : لماذا إذن تريدون استعادة نظام أمة مضت، وممارسات أجداد خلوا. وإن كنا نعتبرها مثالاً لنا، ونؤمن حقاً ـ لا مجرد كلام ـ أنها كانت من البشر، ونعيب على غيرنا عصمتهم للبشر، فلا مفر إذن من أن نعرض تصرفاتهم وممارساتهم على الحق الذي نعتقده فنعرف أهله به، ولا نقدس أشخاصاً ولو كانوا قادة أجلة، ثم نعتبر كل ما صدر عنهم من قول أو فعل أو حتى صمت حقاً لا يأتيه الباطل من أي مكان.
نحن في هذا أمام خيارين إما أن ننظرلأحداث ماضينا نظرة علمية ترشدنا إلى الحق، أو أن نبقى على نظرتنا العاطفية فلا نهتدي إلا إلى امتداد الأخطاء، واتصال حلقاتها، وتراكم كمها وكيفها.
فنحن نقرأ ـ مثلاً ـ في كتب السير والتاريخ أن الخلافة ـ وهي مثلنا الأعلى ـ انقلبت ملكاً عضوضاً منذ سنة إحدى وأربعين بعد الهجرة، أما لماذا انقلبت ؟ فهذا ما لم نقف أمامه بجرأة وشجاعة أو حتى بمنطق وعقل. وسكوتنا عن نقد أنفسنا شجع غيرنا على أن يغمس كل منهم مغرفته في تاريخنا ويستخرج منه ما يحلو له، وينظر له بعيداً عن سياق واقعي معترف به من قبل أهله.
وأعجب من العجب أولئك الذين عز عليهم الاعتراف بأن الخلافة الراشدة انقلبت وانتهت بعد ثلاثين عاماً فقط من وفاة النبي، فألحقوا بنظام الإسلام ممارسات النظامين الأموي والعباسي، وأفعال الملوك والسلاطين ودافعوا عن ذلك دفاعهم عن الإسلام نفسه، فاختلط الأمر على من جاء بعدهم.(40/12)
وربما كانت نواياهم حسنة، لكن طريقتهم في معالجة قضايا الحكم والسياسة لم تكن علمية ولا إسلامية بل في كثير من الأحيان لجأت إلى تحسين القبيح جهلاً بوسائل الدفاع، فعانت أجيال المسلمين من منهجهم هذا.
إن التحولات الاجتماعية والسياسية في أي مجتمع لا تقع في يوم وليلة بل هي نتيجة عملية اجتماعية لها قوانينها وضوابطها التي وضعها الخالق وحتمها، ثم اكتشفها المخلوق ودونها وصاغها في شكل علم يدرس ويستفاد به، إذ الإسلام إلهي من حيث النظرية بشري من حيث التنفيذ. وسقوط الخلافة على يد معاوية أمر بشري مرتبط بالتنفيذ لا بالإسلام من حيث هو دين، فلماذا نخجل من تحليل وقائع السقوط بصراحة وهو الحدث الذي تضافرت فيه عدة عوامل على مدى حقبة من السنين، فأنتجت ما هو مسطور في كتبنا، حي أمام أعيننا؟(40/13)
وعادة ما يحدث في مسيرة نشوء وارتقاء الدول الفكرية التي تقوم على نظرية ـ أياً كانت هذه النظرية ـ أن يقع الانحراف بعد وفاة المؤسس ولو خفيفا كالشعرة، أو بدرجة واحدة غير ملحوظة، ثم إذا به ـ إن أُهمل ـ يتسع يوماً بعد يوم حتى يصل إلى مائة وثمانين درجة، فإذا بنا نرى ما هو عكس النظرية تماماً لكنه يحمل اسمها. هذه العملية التحولية هي ما لابد من أنها حدثت ـ وفق قوانين التاريخ والاجتماع ـ في فترة الثلاثين عاماً منذ وفاة النبي المؤسس وحتى انقلاب معاوية. والاعتقاد بأن الجيل الأول منزه عن الخطأ أثناء التنفيذ وهوعملية اجتماعية بشرية، أو أنهم خلوا من انفعالات النفس البشرية من حب للإمارة وتنافس عليها وتحيز لذوي قربى أو صحبة أو مخالفة لأحكام الإسلام ـ أحياناً ـ إلى غير ذلك من مقتضيات النفس البشرية قول يناقض سيرتهم المدونة، وأفعالهم وأقوالهم المأثورة، وليس في ذكره اليوم واستخلاص النتائج منه ما يشينهم أو يشيننا مادام القصد علمياً والهدف مشروعاً، وفرق ـ بالطبع ـ بين هذا المنهج وأسلوب حثو التراب في وجوه الناس بلا روية أو دراية.(40/14)
لقد كنا خير أمة أخرجت للناس، فإذا بخير أمة يلي أمرها البيت الذي ظل يقاتل على الكفر نبي الله ورسالته حتى آخر وقت، وإذا بدفة الحكم في يد من لعنهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كمروان بن الحكم، ومن أباح دمه كابن أبي سرح، وأخيراً تربع على عرشها من لو وُزن المسلمون آنذاك في ميزان الكفاية والخلق والدين لكان أقلهم كيزيد بن معاوية. ولم تكن ممارسات هؤلاء وأشباههم إلا ثورة مضادة على الإسلام المحمدي، ومتى؟ في غضون ثلاثين عاماً فقط. نحن أمام حالة اجتماعية وسياسية ـ والله ـ جديرة بالدراسة، إذ المفروض في نظام سياسي منزل من عند الله بزعمهم أن يستمر ـ إذا طبق ـ قروناً قبل أن يدب في أتباعه الوهن. وما حدث من التدهور السياسي السريع يضعنا أمام خيارين أثناء تحليل الأحداث لا ثالث لهما : إما أن هذا النظام وُجد نظرياً لكنه لم يُطبق أصلاً، أو أن ما طُبق منه واعتبرناه وسميناه نظرية الإسلام السياسية، كان ـ ومازال ـ على درجة من الضعف لم يستطع معها ملاءمة بقية جوانب الإسلام، فانهار بعد ثلاثين عاماً فقط. وسواء كنا مع الرأي الأول أوالرأي الثاني أم ملنا إلى غير ذلك فإن هذا التحول السياسي الضخم في تاريخنا ينبغي أن نحلله وفق مبادئ الإسلام نفسه وقواعده التي وضعها في هذا الشأن، وحسب قوانين هذا العلم وسنن التاريخ لكي نميز رأسنا من أرجلنا بدلاً من أن نعيش كقطع الفلين على ظهر الماء يأخذها الموج معه في اتجاهات متعاكسة دون أن تدري من أمر نفسها شيئاً.
على أنني أدرك تماماً أن هذه المهمة صعبة للغاية في زمن نرى فيه ما نرى. وأهون نتائجها أن يرمى المضطلعون بها بشتى التهم، أو يهدر دمهم ظلماً. لكن الأصعب والأخطر أن نسكت ونتعامى ونترك الناس حيرى فهذا ذنب عظيم.(40/15)
ندخل بعد هذا في أهم نقطة في الباب كما ذكرنا من قبل وهي موضوع تعيين القيادة في الدولة الإسلامية، وهو سؤال يوجع رأسنا باحثين كنا أم غير باحثين : كيف يتم تنصيب القيادة في الدولة الاسلامية أياً كان شكل هذا التنصيب ؟ وإن كان لدينا ـ نحن أهل السنةـ منهج واضح في هذا فما هو؟ وكيف طبقه الجيل الأول؟ وإن لم يكن لنا في هذا بضاعة فما هي النظرية وما هو المنهج الذي نستطيع استنباطه من ممارسات الجيل الأول في ضوء السير والتاريخ المكتوب باعتبار هؤلاء قدوة قد نقتدي بها في غياب النص؟
والجواب على هذا يكون بطريقتين :
الأولى: أنه لا يوجد في هذا نص محدد، وأن الأسلاف اجتهدوا، ومنهم من أصاب ومنهم من أخطأ وسبب كارثة، والكل مأجور مهما فعل، وهذا مذهب ابن خلدون وابن كثير وغيرهما من المؤرخين وفلاسفة السياسة الشرعية إذ أقروا بأن [كله تمام] وأن الجميع حتى هارون الرشيد وبعض أبنائه كانوا على صواب، وأن المأثور عن الأسلاف من ممارسات من لدن وفاة النبي حتى بني العباس هو السياسة الشرعية التي على المسلم ألا يترك التمسك بعروتها. وهذه الإجابة تفضي بنا إلى نتيجة حتمية هي أن الإسلام ليس فيه نظام سياسي محدد، ولا القيادة فيه يمكن تعيينها أو تنصيبها بدقة، وأن أفعال الجيل الأول على وجه الخصوص من قتل لبعضهم البعض، وسبي للمسلمات، وهدم للكعبة وهتك لحرمات الصحابيات واغتصابهن، وقتل وسبي لأبناء الرسول وبناته كان حلالاً مشروعاً، ومن فعلوه مأجورون حتى وإن أخطأوا في ذلك.(40/16)
والثانية: أن الإسلام له في ذلك نظام محدد، لكن الجيل الأول غلبته النفس البشرية، فخالف ما هو مرسوم في هذا الصدد اقتضاء لماعليه االفطرة البشرية، فارتكب البعض أخطاء، وانحرفوا عن الدستور شعرة، ثم ما لبث هذا الانحراف أن اتسع وتعاظم حتى أفلت زمام الأمور من أيديهم، وأن التحول السياسي والاجتماعي الذي طرأ على الدولة الاسلامية فجعل رأسها مكان أرجلها إنما وقع تدريجياً نتيجة أخطاء أولية تراكمت عليها أخطاء فأخطاء مما أدى إلىسقوط الدولة. وهذه الإجابة تقودنا إلى تحديد الانحراف وبالتالي معرفة الصواب، ثم إصلاح المسيرة البشرية في العصر الحاضر إن كان يمكن الإصلاح.
لكن ـ بألف حسرة وأسى ـ راقت الإجابة الأولى للكثرة وأعجبتها على ما فيها من سذاجة ومخالفة للمنطق والعقل، ومن هنا فقدت الكثرة المنهج التحليلي السليم، وانساقت وراء هزات العواطف ـ ومشايخنا أساتذة مهرة في هزها ـ ثم خطت خطوة أكبر فكفرت كل من حاول أو يحاول أن يجيب إجابة مختلفة عن إجابتها، وهكذا ظلت الأمة دون فكر محدد، تريد أن تصلح حاضرها في الوقت الذي تخجل فيه من أن تشير بإصبعها إلى ما كان من ماضيها يستحق الإصلاح.
وانتقلت وجهة النظر العاطفية من صلب إلى صلب، وأنزلوها منزلة العقيدة، فإذا بها تؤثر على الفكر الديني الإسلامي بشكل عام، فدخل في دوامة المتناقضات.
وقد يكون من الأجمل استعراض الأحداث السياسية الكبرى في تاريخنا ـ آن كنا خير أمة ـ مما هو متصل بموضوع تنصيب القيادة لنرى كيف أثرت هذه الأحداث واستولت على وجدان الأمة وعقلها الباطن وكمنت فيه لتحكم من بعد سلوك الأفراد وتوجه تصرفاتهم. وأهم من هذا كله لكي نرى كيف وقف علماؤنا تجاهها، وما استنبطوه منها من أحكام واستخرجوه من مواد دستورية فرضوها على المسلمين وأمروهم بتقديسها على أنها فكر سياسي إسلامي، ونظرية إلهية في الحكم.(40/17)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1ـ الشيعة في عقائدهم وأحكامهم،أمير محمد الكاظمي ص42وما بعدها، لبنان1972.
2 ـ الأحكام السلطانية للماوردي ص3 طبع المحمودية، مصر بدون تاريخ، الأحكام السلطانية لأبي يعلى الحنبلي ص3، مصر1938المقدمة لابن خلدون ص 191، لبنان 1984، الطبعة الخامسة.
3ـ المقدمة : ص 213.
4ـ الأحكام السلطانية : ص 3.
5ـ المقدمة ص 212،الملل والنحل للشهرستاني هامش ص144ج1مصر1948.
6ـ الكافي: حديث رقم(1) من باب فضل الإمام وصفاته
7ـ السياسة الشرعية : ص 165ـ166، دار المتنبي بغداد، بدون تاريخ.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
2 ممارسات السلف
تعتبر فترة الخلافة الراشدة عندنا أهل الإسلام الفترة الذهبية للدين والدولة بعد انقطاع الوحي بوفاة الرسول عليه وآله الصلاة والسلام، ومن ثم نتخذها نموذجاً وقبلةً ونتخذ رجالها قدوة. والذي لا شك فيه أنها كانت بالفعل كذلك، ومنزلتها في الفكر السياسي الديني عند المسلمين جميعا ًلا تنكر إذ أن وقائعها بحلوها ومرها هي التي صاغت هذا الفكر عند كل الفرق الإسلامية بلا استثناء.(40/18)
لكننا ـ حتى الآن ـ لم ننظر إلى أحداث تلك الفترة نظرة تحليل موضوعية، بل قدسناها وبنينا على أساسها معتقدات ـ بصرف النظر عن موقف الإسلام من هذه المعتقدات ـ دخلت في صلب الدين ونخاع الفكر، وشكلت أغلب ما لدينا من بضاعة في الفكرالديني بوجه عام والديني السياسي بوجه خاص، وصارت عند الجميع الميزان الذي يوزن به إيمان المسلم ومصيره، بل لا نبالغ إذا قلنا إن ما لدينا اليوم أصداء لما وقع آنذاك رسخت في عقولنا الباطنة حكاماً ومحكومين، وغلبت على بؤرات الشعور رغم بقائها في هوامشه.
ونحن من هذه العقائد على قسمين : قسم مطلع يقرؤها ويدرسها كنموذج أمثل فهو يعتقدها عن وعي، ويذب عنها بربع أو ثلث علم. وقسم آخر يستمع دون تأمل، ويردد بلا وعي، ويعتقد بلا بصر. وكلا الفريقين عاطفي في موقفه وتصرفه، توجهه قداسة غير حقيقية لتصرفات وحوادث الجيل الأول بعد وفاة النبي.(40/19)
على أننا إذا كبحنا جماح العاطفة قليلاً، وقلنا هلم بنا نبحث الموضوع بطريقة الباحثين عن الحق، انتهينا إلى نتائج تخالف بلا ريب تلك التي انتهينا إليها ونحن نتحدث تحت سلطان العواطف. ولئن كان الإسلام يذم الموقف الأول من القضايا الهامة، ويحض على تبني الموقف الثاني خصوصاً حين يعالج المسلم قضايا ترتبط بقوانين العمران والحضارة والسياسة والاجتماع ـ وموضوعنا واحد منها ـ ويخاطبنا عن سير الأولين [ أفلا تنظرون ] [أفلا يتدبرون] إلى آخر ما نحفظه من كتاب الله، إلا أن الاتجاه السائد يسيرفي تيار عكس هذا. ومع ذلك فهناك من يريدون أن يسبحوا ضد التيار ـ وإن قلوا ـ استجابة للأمر القرآني الذي يضيئ لنا لجج البحر الذي تعالت أمواجه. ورجاؤنا من الكثرة أن تصبر علينا ونحن نسبح سباحة الباحثين عن الحق والحقيقة حتى نتم شوطنا، فإن أعجبتهم سباحتنا فلينزلوا معنا ليصدوا التيار، وإلا فليتركونا في حرية علّنا نخرج لهم بلؤلؤة تنفعهم أو در يضعونه في متاحفهم فربما ينير لهم ولو بشعاع بسيط وهم يبحثون عن بصيص في وقت يعم فيه الظلام، وعندئذ يذكروننا.
تعالوا إذن نستعرض أكبر الوقائع التاريخية التي في سجل عصرنا الذهبي مما يتعلق بموضوع القيادة، ونعيد قراءتها بعيداً عن العواطف، وننظر ما تؤدي إليه من نتائج.
بيعة أبي بكر
ــــــــ
توفي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وانشغل بتغسيله وتجهيزه ودفنه بعض أهله كعلي بن أبي طالب، وعمه العباس وولديه، وبعض مواليه وانشغل فريق آخر من الصحابة في نفس الوقت بحسم مشكلة القيادة على نحو رواه عمر بن الخطاب، فقال :(40/20)
[..فلا يغرن امرءاً أن يقول إن بيعة أبي بكر كانت فلتة، فقد كانت كذلك غير أن الله وقى شرها، وليس منكم من تقطع إليه الأعناق مثل أبي بكر. وإنه كان من خبرنا حين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن علياً والزبير ومن معهما تخلفوا عنا في بيت فاطمة، وتخلفت عنا الأنصار بأسرها واجتمع المهاجرون إلى أبي بكر، فقلت لأبي بكر: انطلق بنا إلى إخوتنا هؤلاء من الأنصار، فانطلقنا نؤمهم، فلقينا رجلان صالحان قد شهدا بدراً، فقالا : أين تريدون معشر المهاجرين ؟ فقلنا نريد إخواننا من الأنصار،قالا: فارجعوا فاقضوا أمركم بينكم، فقلنا : والله لنأتينهم، وهم مجتمعون في سقيفة بني ساعدة وإذا بين أظهرهم رجل مزمل، قلت : من هذا ؟ قالوا : سعد بن عبادة، فقلت : ما شأنه ؟ قالوا : وجع، فقام رجل منهم فحمد الله وقال : أما بعد فنحن الأنصار وكتيبة الإسلام، وأنتم يا معشر قريش رهط نبينا، وقد دفت إلينا من قومكم دافة. فلما رأيتهم يريدون أن يختزلونا من أصلنا، ويغصبونا الأمر، وقد كنت زورت في نفسي مقالة أقدمها بين يدي أبي بكر، وقد كنت أداري منه بعض الحد وكان هو أوقر مني وأحلم، فلما أردت أن أتكلم قال : على رسلك، فكرهت أن أعصيه، فقام فحمد الله وأثنى عليه، فما ترك شيئاً كنت زورت في نفسي أن أتكلم به لو تكلمت إلا قد جاء به أو بأحسن منه وقال : أما بعد يا معشر الأنصار، فإنكم لا تذكرون منكم فضلاً إلا وأنتم له أهل، وإن العرب لا تعرف هذا الأمر إلا لحي من قريش وهم أوسط داراً ونسباً، ولكن قد رضيت لكم أحد هذين الرجلين فبايعوا أيهما شئتم، فأخذ بيدي وبيد أبي عبيدة بن الجراح .....فلما قضى أبو بكر كلامه، قام منهم رجل فقال : أنا جذيلها المحكك وعذيقها المرجب، منا أمير ومنكم أمير يا معشر قريش، فارتفعت الأصوات وكثر اللغط، فلما أشفقت الاختلاف قلت لأبي بكر: ابسط يدك أبايعك، فبسط يده فبايعته، وبايعه المهاجرون والأنصار، ثم نزونا على سعد حتى قال(40/21)
قائلهم : قتلتم سعد بن عبادة، فقلت : قتل الله سعداً. وإنا والله لم نجد أمراً أقوى من مبايعة أبي بكر، خشينا إن فارقنا القوم ولم تكن بيعة أن يحدثوا بعدنا بيعة، فإما أن نتابعهم على ما نرضى أو نخالفهم فيكون فساد](1)
وقد روى المؤرخون قالوا :
[ اجتمعت الأنصار في سقيفة بني ساعدة وتركوا جنازة رسول الله يغسله أهله، فقالوا نولي هذا الأمر بعد محمد سعد بن عبادة، وأخرجوا سعداً إليهم وهو مريض.... فحمد الله وأثنى عليه، وذكر سابقة الأنصار في الدين وفضيلتهم في الإسلام وإعزازهم للنبي وأصحابه وجهادهم لأعدائه حتى استقامت العرب، وتوفي الرسول وهو عنهم راض، وقال (أي سعد) استبدوا بهذا الأمر دون الناس، فأجابوه بأجمعهم : أن قد وفقت في الرأي وأصبت في القول ولن نعدو ما رأيت، نوليك هذا الأمر ](2)(40/22)
سمع أبو بكر وعمر بذلك فأسرعا إلى السقيفة، وتكلم أبو بكر فحمد الله وأثنى عليه،ثم ذكر سابقة المهاجرين في التصديق بالرسول دون جميع العرب، وقال : [ فهم أول من عبد الله في الأرض، وآمن بالرسول وهم أولياؤه وعشيرته وأحق الناس بهذا الأمر من بعده، ولا ينازعهم ذلك إلا ظالم ] ثم ذكر فضيلة الأنصار وقال : [ فليس بعد المهاجرين الأولين عندنا بمنزلتكم، فنحن الأمراء وأنتم الوزراء، لا تفتاتون بمشورة ولا نقضي دونكم الأمور، فقام الحباب بن المنذر وقال : يا معشر الأنصار املكوا عليكم أمركم فإن الناس في فيئكم وفي ظلكم، ولن يجترئ مجترئ على خلافكم، ولا تختلفوا فيفسد عليكم رأيكم، وينتقض عليكم أمركم، فإن أبى هؤلاء ما سمعتم فمنا أمير ومنهم أمير. فقال عمر: هيهات لا يجتمع اثنان في قرن....والله لا ترضى العرب أن يؤمروكم ونبيها من غيركم، ولكن العرب لا تمتنع أن تولي أمرها من كانت النبوة فيهم وولي أمرهم منهم، ولنا بذلك على من أبى الحجة الظاهرة والسلطان المبين، من ذا ينازعنا سلطان محمد وإمارته ونحن أولياؤه وعشيرته إلا مدل بباطل أو متجانف لإثم أو متورط في هلكة ؟ فقام الحباب بن المنذر وقال : يا معشر الأنصار املكوا على أيديكم ولا تسمعوا مقالة هذا وأصحابه فيذهبوا بنصيبكم من هذا الأمر، فإن أبوا عليكم ما سألتموهم فأجلوهم عن هذه البلاد، وتولوا عليهم هذه الأمور، فأنتم والله أحق بهذا الأمر منهم فبأسيافكم دان لهذا الدين من لم يكن يدين به، أنا جذيلها المحكك وعذيقها المرجب، أما والله إن شئتم لنعيدنها جذعة. قال عمر: إذن يقتلك الله قال : بل إياك يقتل، فقال أبو عبيده : يا معشر الأنصار إن كنتم أول من ناصر وآذر فلا تكونوا أول من بدل وغير، فقام بشير بن سعد أبو نعمان بن بشير فقال : إنا والله لئن كنا أولى فضيلة في جهاد المشركين، وسابقة في هذا الدين ما أردنا به إلا رضا ربنا وطاعة نبينا والكدح لأنفسنا، فما ينبغي أن نستطيل على(40/23)
الناس بذلك، ولا نبتغي به من الدنيا عرضاً، فإن الله ولي النعمة علينا بذلك ألا إن محمداً صلى الله عليه وسلم من قريش وقومه أحق به .ولما رأت الأوس ما صنع بشير بن سعد، وما تدعوا إليه قريش، وما تطلب الخزرج من تأمير سعد بن عبادة قال بعضهم لبعض : والله لئن وليتها الخزرج عليكم مرة لا زالت لهم عليكم بذلك الفضيلة، ولا جعلوا لكم معهم فيها نصيباً أبداً، فقوموا فبايعوا أبا بكر، فقاموا إليه فبايعوه فانكسر على سعد بن عبادة وعلى الخزرج ما كانوا أجمعوا له من أمرهم ](3)
وفي رواية أخرى:
[ فقال أبو بكر هذا عمر وهذا أبو عبيدة فأيهما شئتم فبايعوا، فقالا: والله لا نتولى هذا الأمر عليك ...وقام عبد الرحمن بن عوف وتكلم فقال : يا معشر الأنصار إنكم وإن كنتم على فضل فليس فيكم مثل أبي بكر وعمر وعلي وقام المنذر بن الأرقم فقال : ما ندفع فضل من ذكرت، وإن فيهم لرجلاً لو طلب هذا الأمر لم ينازعه فيه أحد، يعني علي بن أبي طالب ](4) ولما كثر اللغط واشتد الاختلاف، قال عمر لأبي بكر : ابسط يدك أبايعك وتمت البيعة. وفي رواية أن عمر قال مهدداً بقتل من يخالف ما هو وأصحابه عليه : [ والله ما يخالفنا أحد إلا قتلناه ](5)
ورفض سعد بن عبادة بيعة أبي بكر، وقال حين أرسلوا إليه ليبايع: [ أما والله حتى أرميكم بما في كنانتي من نبل، وأخضب سنان رمحي، وأضربكم بسيفي ما ملكته يدي، وأقاتلكم بأهل بيتي ومن أطاعني من قومي، فلا أفعل وأيم الله لو أن الجن اجتمعت لكم مع الإنس ما بايعتكم حتى أعرض على ربي وأعلم ما حسابي ] فكان سعد لا يصلي بصلاتهم، ولا يجمع معهم ويحج ولا يفيض معهم بإفاضتهم (6) وبقي كذلك حتى توفي أبو بكر وولي عمر. وقيل: إن عمر أرسل إليه رجلاً في خلافة أبي بكر يدعوه إلى البيعة فإن أبى فليقاتله، فلما أبى سعد البيعة رماه بسهم فقتله.(7)(40/24)
وأما الآخرون ممن رفضوا بيعة أبي بكر فتحصنوا في بيت فاطمة بنت رسول الله، وكانوا جماعة من بني هاشم، وجمعاً من المهاجرين والأنصار بزعامة الإمام علي، والعباس بن عبد المطلب، وسلمان الفارسي وعمار بن ياسر، والبراء بن عازب، وأبي ذر الغفاري، وأبي بن كعب وغيرهم. وقد روت هذه الواقعة كتب السير والتاريخ والصحاح والمسانيد ومنهم من صرح بما جرى فيها، ومنهم من تعامى عنها. وممن صرح ببعض ما جرى فيها البلاذري، فقال :
[ بعث أبو بكر عمر بن الخطاب إلى علي رضي الله عنهم حين قعد عن بيعة أبي بكر، وقال : ائتني به بأعنف العنف، فلما جرى بينهما كلام فقال (أي علي) احلب حلباً لك شطره، والله ما حرصك على إمارته اليوم إلا ليؤثرك غداً ] (8) وذكر المؤرخون أن أبا بكر أرسل جماعة منهم عبد الرحمن بن عوف وخالد بن الوليد بزعامة عمر بن الخطاب ليخرجوهم من بيت فاطمة وقال لهم : إن أبوا فقاتلوهم، فأقبل عمر بقبس من نار على أن يضرم عليهم الدار، فلقيتهم فاطمة فقالت : يا بن الخطاب أجئت لتحرق دارنا ؟ قال : نعم أو تدخلوا فيما دخلت فيه الأمة (9) واقتحموا دار سيدة نساء العالمين بنت رسول الله لملاحقة المعارضين وقتالهم وتحريقهم بالنار حتى يبايعوا أبا بكر قسراً. وبقي علي وبنو هاشم لم يبايعوا أبا بكر ستة أشهر حتى توفيت السيدة فاطمة، وانصرف الناس عن علي فضرع إلى مبايعة أبي بكر.
هذا ما هو مسطور في تراثنا عن أول أزمة سياسية ودستورية واجهتها الدولة الوليدة يوم وفاة مؤسسها.فلو صحت هذه الروايات، وربطنا بين ماضينا وحاضرنا استطعنا أن نرى بصماتها مطبوعة واضحة في حياة المسلمين عامة،لأنها شكلت ـ وما زالت ـ خلفية الفكر الديني السياسي لدى المسلمين جميعاً. فإذا نظرنا إلى هذه الأزمة الدستورية بعين السابحين ضد التيار، الباحثين عن منهج سياسي في الإسلام، رأينا فيها ما لا يراه أرباب العواطف الموجهة.(40/25)
فأول ما نراه فيها : أن بيعة أبي بكر لم تتم في ظروف عادية، بل تمت دون أن يعلم بها الناس جميعاً، أو على الأقل جميع أكابر الصحابة، أو حتى زعماء الاتجاهات السياسية الموجودة على الساحة. فقد اجتمع في السقيفة نفر من الأنصار ليبتوا في أمر القيادة في غياب الآخرين، ثم لحق بهم نفر من المهاجرين لينافسوهم، ويمنعوا القوة السياسية الأنصارية من الانفراد بالقيادة ولم يعلم بالأمر أكبر وأهم قوة سياسية ودينية آنذاك وهي بنو هاشم ـ آل بيت القائد المؤسس ـ بعد أن انتهز هذا النفر القليل من المهاجرين والأنصار انشغالهم بتغسيل وتكفين النبي، وتم ما تم دون إعلام الناس، وبغير انتظار لتهدأ مشاعر الأمة التي حلت بها كارثة غياب القائد الذي لا يملأ فراغه أحد. فالسياق الذي تمت فيه هذه البيعة بعد رسول الله لم يكن طبيعياً ولا يمكن أن تستريح له أنفس الناس باحثين وغير باحثين.(40/26)
ثم إن القوم لم يتفقوا على مرشح بعينه في السقيفة [ فكثر القول حتى كاد يكون بينهم في السقيفة حرب، وتوعد بعضهم بعضاً، فوثب عمر فأخذ بيد أبي بكر ] (10) بل إن في رواية عمر نفسها ما يدل على أن بيعة أبي بكر تمت في ظروف غير طبيعية، وبطريقة غير سليمة وذلك حين قال: [ فارتفعت الأصوات وكثر اللغط ] أي أنه ـ كما رأينا ـ بعد عرض مرشح الأنصار للأسباب التي اعتقد على أساسها استحقاق حزبه للقيادة، ثم عرض أبي بكر لأحقية المهاجرين بها، لم تسفر هذه المداولات عن اتفاق الموجودين ـ وهم نفر قليل جداً من الأمة ـ على شخص يتصدى للقيادة، بل ارتفعت الأصوات تتنازع، فانتهز عمر الفرصة وحسم الأمر بالطريقة التي تحسم بها الصفقات والمزادات في الأسواق، وهو ما أكسبته المهنة إياه، إذ كان سمساراً يعقد الصفقات في الأسواق كما هو مسطور في سيرته. ومال معه المؤيدون لأبي بكر، ووجد الآخرون أنفسهم في مأزق، فبايع من بايع، ورفض من رفض، ولذلك اعتبرها عمر نفسه فلتة غير أن الله وقي شرها، كما اعتبرها الضحاك بن خليفة [ فلتة كفلتات الجاهلية ] (11) ولما رأى أبو بكر نفسه أنه لا إجماع على أحد من الموجودين عرض تقسيم السلطة بين مؤيديه وبين الأنصار فقال : نحن الأمراء وأنتم الوزراء،لاتفتاتون بمشورة ،ولا نقضي دونكم الأمور،وهو ما رفضته الأنصار ورأت المشاركة المتساوية في الحكم [ منا أمير ومنكم أمير ].
ولأن السياق السياسي الذي تمت فيه البيعة، والطريقة التي حسمت بها القيادة لم تكن مقنعة، ندم أبو بكر على تقمصها حين حضرته الوفاة اقتضاءً لطبيعة النفس البشرية، وتمنى لو سأل رسول الله عمن ينبغي أن تؤول له القيادة بعد وفاته (12) فإن صحت هذه الرواية كانت دليلاً على أنه هو نفسه كان في شك من أحقيته بالقيادة.(40/27)
ثانياً: أن الذين اجتمعوا في السقيفة ـ إن صحت روايات المؤرخين ـ لم يضعوا الإسلام ولا نظرية الدولة وفكرها، ولا مصلحة الأمة العامة أمامهم وهم يحسمون قضية القيادة، كما أنهم لم يجلسوا ليبحثوا عن هداية في ضوء نص من كتاب أو سنة يهتدون به في هذا الوقت العصيب بل قدم كل منهم نفسه على أنه [ مهاجر ] أو[ أنصاري ] ثم وصل الأمر ببعضهم إلى أن طالب بطرد المهاجرين من المدينة على نحو يشعرك بأن الإسلام آنذاك لم ينجح في اقتلاع جذور الجاهلية من النفوس. فمن نابوا عن قريش ـ القبيلة ـ تحدثوا باسمها وبمنزلتها، ومن مثلوا الأنصار سلكوا نفس السبيل. ثم خطا القوم خطوة أوسع في هذا الباب إذ أحيوا الأحقاد القبلية القديمة، وإذا بالأوس تنضم إلى قريش، لا لكونها على الحق بل نكاية في الخزرج وزعيمها، بعد أن خافت أن تؤول القيادة إليها فتسبقها في الفضل، تماماً كما كان التنافس بينهما في الجاهلية.
ثالثاً: أن رأي الأمة أو الجمهور لم يستطلع أصلاً في مسألة القيادة وإنما قرر مصير الأمة كلها نفر قليل، تزعم النقاش منهم خمسة أفراد فقط، وقرروا مستقبل الشعب والدولة.
وقد يصرخ أحدنا غاضباً : يا رجل، لقد كانوا أهل حل وعقد، فأقول : ألم يكن في الناس غيرهم أهل حل وعقد ؟ فلماذا لم ينتظروا إخوانهم ليشاركوهم الرأي ؟ ثم كونهم أهل حل وعقد ليس عليه دليل من كتاب أو سنة، لأن هذا الاصطلاح من نحت مشايخنا الذين كتبوا في هذا الموضوع بعد قرون لتبرير الوقائع، والأولى بنا أن نعيد النظر في هذه التحديدات والآراء السلطانية الموروثة التي نرددها بلا وعي.(40/28)
والخلاصة أن السلوك الذي سلكته القدوة في السقيفة من تجاهل لرأي الناس لأنهم رعاع وغوغاء كما وصفهم بذلك الصحابي الثري عبد الرحمن ابن عوف (13) وعدم اعتبار رأيهم، والاكتفاء برأي النخبة بل النخبة الثرية في حسم القضايا المصيرية، وعدم إعطاء كل تيار سياسي ـ ولا أقول كل مسلم ـ حقه في التعبير عن رأيه بحرية، كل هذا ورثناه، وتشربته أنسجة مجتمعاتنا سداة ولحمة، وانسكب في الأصلاب جيلاً بعد جيل، فإذا بكل أمور المسلمين في الوقت الراهن تقررها طغمات تدير أنظمة، أو نخبات تقود أحزاباً ومنظمات دون اعتبار لما يجيش في نفوس القاعدة العريضة التي يقوم عليها المجتمع.
إن ما حدث في السقيفة ـ إذا نظرنا إليه بعين الخائضين في السياسة وأردنا تقديمه للناس في العصر الحديث ـ لا يمكن اعتباره إجراء سليماً يتفق ومبادئ الإسلام، وأقل ما فيه من مخالفة أنه أعطى صوتاً لكل قبيلة حضرت ـ وهذا أيضاً فيه تساهل منا ـ ولم يعط صوتاً لكل مسلم، بل ولا لكل قبيلة من قبائل العرب، ولا حتى لكل اتجاه سياسي أو وجهة نظر، ومن ثم تجاهل القطاع الأعرض من الناس وحرمهم حقهم في المشاركة في اتخاذ القرار واختيار القيادة. ثم يزعم البعض بعد ذلك أنه كان اختياراً حراً ديموقراطياً على الدولة الإسلامية في عصرنا ـ إن قامت ـ أن تعيده وتتمسك به فهو جزء من نظرية الإسلام في الحكم التي لو طبقت لأكل الناس ـ مسلمين وغير مسلمين ـ من فوقهم ومن أسفل منهم.(40/29)
رابعاً: أننا إذا أخذنا بشروط الأهلية التي ذكرها كل من أبي بكر وعمر فيمن ينبغي أن يكون في منصب القيادة بعد رسول الله وفق معايير العصر وبيئة العرب آنذاك، وجدنا أنها لم تكن تنطبق على أي منهما قدر انطباقها على آل بيت الرسول، فلقد قال أبو بكر: [ وإن العرب لا تعرف هذا الأمر إلا لحي من قريش هم أوسط داراً ونسبا ً] (14) وقال : [ أول من عبد الله في الأرض وهم أولياؤه وعشيرته ] (15) وقال عمر: [ العرب لا تمتنع أن تولي أمرها من كانت النبوة فيهم وولي أمورهم منهم، ولنا بذلك على من أبى الحجة الظاهرة والسلطان المبين، من ذا ينازعنا سلطان محمد وإمارته ؟ إلا مدل بباطل، أو متجانف لإثم، أو متورط في هلكة ] (16) فإن كانت هذه شروط الأهلية، كان الأولى بالقيادة بعد النبي آل بيته إذ لم يكن في العرب أوسط منهم داراً ونسباً، وهم أولياء النبي وعشيرته، وفيهم النبوة، وأول من عبد الله في الأرض، وبيتهم مهبط الوحي ومحف الملائكة. ثم إن مقالة عمر بذاتها تنص على أن من نازع من هم بهذه الصفات منصب القيادة فهو مدل بباطل أو متجانف لإثم أو متورط في هلكة.
إن مرشح الأنصار لم يلق إجماعاً من النفر القليل الذين اجتمعوا في السقيفة، ولا مرشح المهاجرين، ولم تكن الشروط العرفية ـ إن جاز لنا التعبير عن عبارة عمر بهذه الألفاظ ـ متوفرة في مرشحهم رغم ادعاءهم لأنفسهم، ومع ذلك حسم الأمر في غياب الحزب أو الاتجاه السياسي الذي لو أعطي رئيسه الفرصة لترشيح نفسه ما نازعه أحد، وهو علي بن أبي طالب كما قال الصحابي المنذر بن الأرقم(17)(40/30)
وحتى لو أخذنا برأي ابن خلدون في قيام الدول وما اشترط لذلك من العصبية، وهي نظريته التي يرى القرشية بها ضرورة لازمة لتأسيس الدولة من وجهة نظر السياسة والعمران لأن القرشية عصبية، فإن العصبية كانت تامة كاملة مكثفة في آل بيت النبي ففيهم اجتمعت عصبية القبيلة والفكر والعقيدة والدين ومن ثم فكون الإمام أو القائد من آل البيت ـ وفق نظرية ابن خلدون ـ أمر تفرضه قوانين السياسة والعمران التي ذكرها،بل إن القائد في هذه الحالة يكون أمتن وأكفأ مما يجعل الدولة أرسخ وأقوى، لكن الرجل قدم النظرية ثم حاد عنها وهو يطبقها.
إن حسم القيادة بهذا الشكل، وفي غياب الأصلح أسفر عن شرخ في كيان السلمين عانوا منه الويلات على مدى القرون الطويلة الماضية ومازالوا، [ لأن عامة المهاجرين وجل الأنصار ما كانوا يشكون أن علياً هو صاحب الأمر بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم](18)(40/31)
خامساً: إن أسلوب التعامل مع المعارضين والمخالفين في الرأي خلال هذه الأزمة السياسية لم يكن متسقاً ومبادئ الإسلام، التي نسيناها ووضعنا مكانها تصرفات البعض كنموذج نطالب الناس باحتذائه، فصارت من بعد أسلوب حياة للمسلمين حكاماً ومحكومين حتى يومنا هذا.نعم كان كبار الجيل الأول وهم في السلطة لا يغضبون إن أمسك امرؤ من العامة بتلابيب أحدهم، وطالبه بحق من حقوقه كما تقول الروايات، لكن هذه كانت نماذج فردية تتعلق بأمور غير السلطة والحكم والقيادة، فأما حين كانت المعارضة للسلطة من حيث هي كذلك وجدنا أسلوبهم مختلفاً، فأصّل ذلك في مجتمعاتنا التجبر واضطهاد المخالفين وانتهاك الحرمات في سبيل السلطة ولو كانت حرمة بنت رسول الله. فسعد بن عبادة ـ مثلاً ـ [ قتله الله ] كما قال عمر لأنه عارض رأيه، وهو منافق يستحق القتل (19) عنده أيضاً لأنه رفض البيعة، ولم يستريحوا حتى قتلوه لأنه يشكل خطراً سياسياً. غير أن مؤرخينا انقسموا فمنهم من استحى أن .يذكر واقعة قتله لأنها مخالفة شرعية لقوانين الإسلام الذي لا يبيح قتل من اختلف في الرأي أو عارض السلطة، ومنهم من استخف بعقول الناس فنسب قتله إلى الجن (20) لكنه فشل في تقديم أسباب عداء الجن له أو دواعي الخلافات بينه وبينهم مع أنهم لم يكونوا في السلطة آنذاك.
ليس هذا فحسب، بل إن الإقدام على إحراق المعارضين بالنار وفيهم بنت رسول الله، وابن عمه وغيرهما من صلحاء الأمة لمعارضتهم شرعية بيعة أبي بكر كما سبق تفصيله، كان أبشع نموذج لقمع المخالفين واضطهاد المعارضين استهل به قدوتنا تاريخهم السياسي وهم ـ عندنا أهل السنة ـ أفضل الخلق بعد رسول الله، والحجة علينا بعده، والمثال الذي يحتذى، ولذلك ظل أبو بكر يندم على هذه الواقعة ويردد : [ ليتني لم أفتش بيت فاطمة بنت رسول الله، وأدخله الرجال ولو كان أُغلق على حرب](21)(40/32)
هذه التصرفات التي ارتكبها كبار السلف لم تمر هكذا بلا أثر، بل حفرت بأظفارها في عقل الأمة الباطن، ونقشت شخصها وروحها، فإذا بمن علينا من حكام يقلدونها ـ عمداً أو عن غير عمد ـ فإن ذهبنا إلى التنظيمات التي تريد إعادة الخلافة، أو إلى الأنظمة التي قامت لترد الناس إلى طريق أهل البيت الذين فُعل بهم هذا، رأيناها ـ قصداً أم بلا قصد ـ تمارس نفس الأسلوب فأصبح الجو كله في عالمنا جواً إرهابياً، لا يُطاق فيه رأي مخالف ولا يُسمع فيه لصوت عقل لأن المعارضة الواعية لا يتحملها المسلمون سواء كانوا في السلطة أم خارجها بحكم ما تغلغل في فكرنا بعد أن أضفينا الشرعية على الممارسات غير الشرعية وقدسنا أصحابها قروناً طويلة، ولسنا على استعداد لأن نناقش موقف الإسلام الحقيقي منها، لأننا لو فعلنا ذلك اضطررنا إلى تخطئة أشخاص هم عندنا أقدس وأرفع منزلة من الحق والإسلام نفسه.
سادساً: أنه لو قيل إن سبب التعجيل بحسم مشكلة القيادة ببيعة أبي بكر وجوب أن لا تبقى الأمة والدولة بلا قيادة يوماً واحداً، وهو ما ذكره عمر وأن هذه قاعدة عامة في الإسلام من أجل المصلحة القومية العليا،قلنا فلماذا أبقى هو نفسه على الدولة ثلاثة أيام بلا قيادة للتشاور في أمرها كما سيأتي بيانه ؟ فإن قيل: إن مجلس الشورى آنذاك كان في محل القيادة، قلنا : فكيف بقيت الدولة بلا قيادة لمدة أسبوع ـ وفي رواية أكثر من هذا بكثير ـ بعد وفاة عثمان، مع أن الظروف وقتها كانت تستدعي فرض الأحكام العرفية أو حالة الطوارئ بتعبير عصرنا، إذ انتفضت الأمصار على الخليفة، وحاصره الثائرون أربعين يوماً مطالبين بخلعه ثم قتلوه (22) فقاعدة المصلحة العليا إذا تمسك بها البعض في بيعة أبي بكر لم يجد لها وجوداً فيما تلاها من ظروف اقتضتها بشدة، وبالتالي فلم تكن قاعدة في العرف آنذاك أو كانت قاعدة لكنها طبقت وفق المزاج والهوى.(40/33)
سابعاً: أن الاهتمام بالقيادة وتعيينها أساس في الإسلام باعتبار روحه وإن لم توجد نصوص صريحة في هذا عندنا أهل السنة، وكونها كذلك مستنبط من اهتمام الرسول في حياته بتعيين القيادات في البعوث والأسفار والحج وغير ذلك من المهمات.وقد وضع الإسلام تفاصيل الأمور الصغيرة كالغسل وتكفين الموتى واللباس والأكل والشرب والتبول والتبرز، فكيف يهتم بهذا ولا يهتم بتعيين القيادة بعد وفاة مؤسس الدولة ؟ وكيف يشغل هذا الأمر أبا بكر وعمر فيعين كل منهما القيادة بعده، ولا يهتم الله ورسوله بشيء من هذا ؟(40/34)
ونحن إن أغمضنا أعيننا عن وجهة نظر الشيعة في أن الوصية بقيادة الأمة بعد النبي كانت لعلي بن أبي طالب، بل افترضنا ـ لإراحة من قد يشمون في كلامنا رائحة تشيع ـ أن جميع أهل البيت لم يكن لهم وجود في التاريخ أصلاً، فإن أهمية منصب القيادة في الإسلام وروح هذا الدين وطبيعة تعاليمه تقتضي أن يكون الرسول قد ترك في مسألة تعيين القيادة شيئاً. ونذهب بخيالنا أبعد من هذا فنفترض أن مؤسس الدولة أوصى بالقيادة بعده لهذا أو ذاك من الصحابة، أو بتشكيل مجلس، أو بشكل آخر من أشكال تحديد القيادة، ولو جملة تكون لها منزلة الدستور الذي تسير عليه الدولة مثلها مثل الدول التي أسست على الدين كما هو مدون في تاريخ الديانات المسيحية واليهودية والبوذية والمجوسية والهندوسية وغيرها، لأن دستور الدولة أياً كان مسألة طبيعية بل بدهية في تاريخ الدول والأمم، وأول ما في هذا الدستور تحديد قيادة الدولة، إذ من المستحيل عقلاً أن يكون الإسلام وحده من بين أديان البشر قبل الميلاد وبعده، توحيدية وثنوية وتثليثية، قد ترك الفصل في قيادة الأتباع لمزاج الناس وعصبيات القبائل، وضغائن النفس البشرية ..أقول إذا افترضنا أن مؤسس الدولة ترك لها دستوراً يحدد القيادة ولو لفترة ما، كان اجتماع من اجتمعوا في السقيفة، والإجراء الذي اتخذوه أول مخالفة دستورية وأول درجة من الانحراف الذي ظل ينفرج ويزداد حتى أصبح ثورة مضادة كاملة المعالم، شاخصة أمام الأبصار.
ثامناً: أنه لو صحت روايات المؤرخين التي ذكرت أن من اجتمعوا في السقيفة استدلوا في شأن أبي بكر باستخلافه في الصلاة على استخلافه في القيادة، وقالوا : ارتضاه رسول الله صلى الله عليه وسلم لديننا أفلا نرضاه لدنيانا(23) وقعنا في عدة إشكالات :(40/35)
الأول: أن القيادة وفق هذا الرأي من أمور الدنيا لا من أمور الدين وهذه مقولة نشأت فيما بعد، وأدخلت في الفكر الديني السياسي عند المسلمين حسب اعتقاد المتحمسين، فإن صحت الرواية دلت على اعتقاد الصحابة بانفصال الدين عن الدولة والصلاة عن السياسة. ومادامت القيادة من شئون الدنيا فلماذا نسعى لها اليوم ونطالب بإبعاد الآخرين عنها ؟ بل لماذا اقتتل الصحابة عليها ؟
الثاني: أن إمامة الصلاة أهم من إمامة الدولة وقيادتها، وهي النتيجة التي انتهى إليها ابن خلدون اتكاءً. على هذه الرواية (24) والعقلاء يعتقدون أن العكس صحيح، فمن يصلح لإمامة الصلاة بمعايير الإسلام لا يصلح بالضرورة لقيادة الدولة، أما من ينفع لقيادة الدولة ـ أيضاً وفق معايير الإسلام ـ ينفع بالضرورة لقيادة الصلاة وإمامتها.
ولو سلمنا بأن كل من يصلح لإمامة الصلاة يستطيع قيادة الدولة انجر بنا ذلك إلى فساد عظيم لا يخفى على أحد. ومن أسف أن الرأي الأول اخترق أجيالاً، ووصل إلينا في الأصلاب فصار كل من استطاع أن يؤم الناس في ركعتين مفتياً وأميراً وقائداً وزعيماً. وللشاعر الثائر محمد إقبال شعر في هذا يقول فيه : ما الذي أدرى إمام الركعتين المسكين بالشعوب وإمامتها ؟(25)
واعتقاد البعض بأن من يصلح لإمامة الصلاة يصلح لقيادة الدولة يوقعنا في تناقض، فالصلاة ـ عندنا أهل السنة ـ جائزة خلف كل بر وفاجر(26) بينما إمامة الفاسق والفاجر لا تجوز، لقوله تعالى : [ إني جاعلك للناس إماماً قال : ومن ذريتي، قال : لا ينال عهدي الظالمين ](البقرة 124)(27)(40/36)
الرابع: أنه لو صح استخلاف أحد في الصلاة ـ أثناء أزمة سياسية ـ دليلاً على استخلافه في قيادة الدولة، كان أولى الناس بالقيادة بعد عمر صهيب الرومي إذ استخلفه في الصلاة بعد وفاته ثلاثة أيام بينما أسند أمر تحديد القيادة إلى مجلس الشورى الذي ضم ستة آخرين لم يكن هو منهم. كذلك صلى بالناس حين حُصرعثمان أبو أيوب وسهل بن حنيف وخالد بن زيد (28) ولم يفتح أحد فمه ويردد نفس القاعدة، ويرى أياً منهم أحق بالقيادة بعد عمر. فهل كانت هذه قاعدة آنذاك ؟ وإن كانت كذلك، فهل هي من عند الله أو من عند رسوله أم من اجتهادات قائلها أم من إدخال المؤرخين ؟ ولو افترضنا أنها كانت قاعدة، فلماذا عُمل بها في حق أبي بكر، ولم يعمل بها في حق الآخرين ؟
هكذا تم تعيين القيادة في الدولة الإسلامية الوليدة بعد وفاة مؤسسها ببيعة أبي بكر على النحو الذي رأيناه، فنظر فيها مؤرخونا وعلماء سياستنا ـ الشرعية ـ وأفتونا بأن تحديد القيادة في الأمة، واختيار القائد في الدولة الإسلامية يتم ببيعة خمسة أو ثلاثة أو حتى واحد كما سنرى في الصفحات القادمة ووضعوا ما وضعوا في ضوء هذا الحدث التاريخي من أفكار ونظريات سموها إسلامية فشاعت في المسلمين روحها، واستقرت في عقولهم الباطنة وانعكست على سلوكهم السياسي، وشكلت خلفية الفكر الديني السياسي لدى المسلمين متحمسين وغير متحمسين، وقد عرضناها هنا عرضا شديد الاختصار وأشرنا في اقتضاب إلى نتائجها ومتضمناتها، ناظرين إليها بعين المنطق الواعي والعقل السليم.
بيعة عمر
ــــــــ(40/37)
لم يكن انتقال القيادة بعد أبي بكر إلى عمر أمراً غير متوقع إذا نظرنا إليه في إطار سياسة السقيفة وما تلاها على مدى عامين، إذ كان عمر أشد الناس فعالية في إتمام بيعة أبي بكر، كما لعب دوراً سياسياً بارزاً في الداخل خلال هذه الفترة. وكان الإمام علي ابن أبي طالب أول من توقع انتقال القيادة إلى عمر، وذلك حين بعث أبو بكر عمر إليه ليأخذ منه البيعة بالجبر والإكراه فقال علي لعمر كما مر بنا : [ إحلب حلباً لك شطره، والله ما حرصك على إمارته اليوم إلا ليؤثرك غداً ] (29) وفي رواية أخرى :[ احلب يا عمر حلباً لك شطره، اشدد له اليوم أمره ليرد عليك غداً، لا والله لا أقبل قولك ولا أتابعه ] (30) لذلك رأينا أبا بكر في مرضه يرفض مقترحات من استشارهم ويدفع الاعتراضات التي أوردها بعضهم ويصر على دفع القيادة إلى عمر(31) حتى دعا عثمان وحده، فقال [ أكتب بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما عهد به أبو بكر بن أبي قحافة إلى المسلمين، أما بعد، ثم أُغمي عليه فذهب عنه، فكتب عثمان أما بعد فإني قد استخلفت عليكم عمر بن الخطاب، ولم آلكم خيراً منه، ثم أفاق أبو بكر فقال : اقرأ عليّ، فقرأ عليه فكبر أبو بكر وقال : أراك خفت أن يختلف الناس إن افتلتت نفسي في غشيتي، قال : نعم، قال : جزاك الله خيراً عن الإسلام وأهله، وأقرها أبو بكر رضي الله تعالى عنه من هذا الموضع ] (32) وهذه الرواية أيضاً تؤيد ـ إن صحت ـ ما ذهبنا إليه من أن دفع القيادة إلى عمر كان أمراً متوقعاً، توقعه علي وعثمان وربما كثير غيرهم ممن لم يذكرهم المؤرخون، حتى أن عثمان كتبه من نفسه دون أن يمليه عليه أبو بكر، ولو لم يكن الأمر يقيناً عنده ما كتبه في هذا الموضع دون أمر الخليفة وإملائه. أما لماذا لم يشهد هذه الواقعة غير عثمان ؟ أو لماذا لم يدع أبو بكر غير عثمان ؟ ولماذا لم يعهد بهذا العهد أمام الناس أو أمام جمع منهم ؟ ولم انتظر حتى آخر لحظة ولم يخش على الأمة(40/38)
الانقسام إذا لم يفق من غشيته ؟ وهل ما تم كان مبادرة شخصية من عثمان أثناء الغيبوبة التي اعترت أبا بكر وفي مقابلها رد له عمر الجميل على النحو الذي يضمن وصوله إلى سدة الحكم بالطريقة التي سنقرؤها بعد قليل ؟ ولماذا اقتصر أبو بكر على عثمان دون غيره ؟ فكل هذه أسئلة من حق البشرـ أي بشر ـ أن يطرحها وهو يحاول فهم تصرفات بشر مثله بما في البشرية من طموحات ورغبات وولاءات قد تعلو أحياناً فوق الشرائع أو تدفع صوب المخالفات وجلس عمر في طرقات المدينة وفي يده الجريدة المكتوبة وهو يقول للناس : [ اسمعوا وأطيعوا قول خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنه يقول إني لم آلكم نصحا ً](33)
وانتقلت القيادة إلى عمر بن الخطاب بالعهد، ولم يُشترط لها رضا الناس وعُينت القيادة الجديدة هذه المرة وفق قاعدة جديدة غير الأولى ليس لها أيضاً سند من كتاب ولا سنة وفي غياب دستور الدولة، ثم تأسس عليها فيما بعد مبدأ نقل القيادة والسلطة من شخص لآخر بالعهد دون رضا الناس واختيارهم كما تفعل الحكومات العربية المعاصرة. ولئن كان النظام الملكي بملامحه المعروفة قد ابتدعه معاوية في الإسلام، إلا أن عهد أبي بكر لعمر كان أول درجة من الانحراف إلى هذا الطريق قبل معاوية بأربعين عاماًً، ثم أخذ يتسع درجة درجة حتى استوى واكتمل بتولية يزيد أمر المسلمين ثم سارت الدولة من بعد في هذا الطريق باسم الإسلام، ذلك أن التغييرات السياسية كما ذكرت ـ تبدأ بدرجة، ثم تتسع وتكبر.(40/39)
وبناء على هذه السابقة التاريخية التي صدرت عن بشر لم يطالبنا الإسلام باتباعه إن أخطأ، اعتبر فلاسفة الإسلام السياسي تعيين القيادة في الدولة الإسلامية بالعهد أصلاً إسلامياً، ولا اعتبار في هذا لرأي الناس، فقال الماوردي : [ والصحيح أن بيعته منعقدة، وأن الرضا بها غير معتبر لأن بيعة عمر رضي الله عنه لم تتوقف على رضا الصحابة، ولأن الإمام أحق بها ](34) ومع أن القيادة آلت إلى عمر كما رأينا دون مشورة من المسلمين بل بعهد من سابقه إلا أننا نجد في كتبنا ما هو مروي عن عمر نفسه من إدانة لمن فعل هذا كما في قوله : [ من بايع رجلاً من غير مشورة من المسلمين فلا يبايع هو ولا الذي بايعه تغرة أن يقتلا ](35)
وقد يقول أحدنا إن اختلاف هذه الطرق في ذاته يعطي الحرية لشعوب المسلمين فيختار كل شعب منها ما يناسب مجتمعه وبيئته، وعلى هذا فكل هذه الأشكال والطرق صحيحة. لكننا نقول في جوابه : إن هذا الكلام صحيح لو كان الإسلام قد ذكر في ذلك شيئاً. فإن قيل : القاعدة الأصولية أن سكوت الشارع عن شئ يعني إباحته، قلنا : نعم، ولكن هذا ينطبق على المتغيرات، والقيادة من الثوابت. فإن وضع الإسلام قاعدة الشورى ـ مثلا ـ وسكت عن طريقة تنفيذها أو العمل بها، فهمنا أن هذا متروك لكل قوم وعصر بما يناسبه. لكن أن يسكت الإسلام عن مسألة أساسية بل هي أم المسائل فهذا ما فيه ألف نظر. ولئن سكت الإسلام فلا يسكت عن الفوضى الدستورية والسياسية التي انتشرت في الدولة دون مبرر عن طريق التغيير السريع لأسلوب تعيين الأمة لقيادتها.(40/40)
إن تغيير أسلوب التنفيذ، أو بلغة عصرنا الإصلاحات الدستورية عملية طبيعية في حياة المجتمعات لكنها مرتبطة بالمستجدات من الظروف التي تقتضي التعديل. فلو افترضنا أن أسلوب السقيفة صحيح وأنه المقرر في الإسلام فما هي الظروف التي طرأت خلال عامين من حكم أبي بكر وجعلت تغيير هذا الأسلوب أمراً ضرورياً فإذا بالقيادة تتحدد بالعهد ؟ وإن كان العهد هو الصواب فما الذي حدث من أمور جديدة استدعت تغييره إلى مجلس شورى ؟ وهل القيادة وما يتعلق بها من أمور أتفه في الإسلام من الجماع والتبول والتبرز فيسكت عنها ؟ مع أن الأمة كلها إن أخطأت في التبول والتبرز ما وقعت كارثة، وما اختل النظام أو فسدت حياة الناس، بينما لو أخطأت في إفراز قيادة لكان ذلك كارثة، بل والله أم الكوارث.(40/41)
فإن قال أحد : إن القاعدة العامة هي الشورى، سألناه : وأين الشورى في استخلاف عمر؟ وإن قال ـ كما يحلو للبعض أن يشبهوا أحداث السقيفة بذلك ـ إنها الانتخابات الحرة، تساءلنا : فأين بيعة أبي بكر من هذه ؟ وأعجب ما قيل في هذا قول ابن خلدون وهو يعقب على هذه الأحداث وما تلاها من حروب واقتتال وبغي وتزوير، إذ اعتبر أن كل الأطراف على صواب، فالحسين مصيب ويزيد أيضاً مصيب، وعلي على حق ومعاوية كذلك على حق، والقاتل في الجمل وصفين على هدى والمقتول أيضاً كذلك وأسلوب تولية أبي بكر صحيح وطريقة إسناد القيادة إلى عمر صواب، وكل الناس كانوا على حق، ثم قال ما نصه : [ واعتقد ـ كذا بكسر الألف وسكون الدال ـ أن اختلافهم رحمة لمن بعدهم من الأمة ليقتدي كل واحد بمن يختاره ويجعله إمامه وهاديه ودليله ] (36) !!! وذلك عنده لأن كل واحد منهم اجتهد، فمنهم من فاز بأجرين ومنهم من نال أجراً واحداً، ولنا أن نقتدي بمن نحب. فإن قامت في بقعة من ديارنا دولة شرعية وخرج عليها بعضنا وأراق دم المسلمين، وأسقط نظام هذه الدولة فهو على حق لأنه اقتدى بمعاوية. وإذا ركبنا حاكم فاسق خليع ظالم عن طريق شراء الأصوات وتزييف البيعات كما فعل معاوية لابنه يزيد فهو على صواب، ومن قام في وجهه وثار عليه، ودفع دمه في سبيل الإصلاح أيضاً على حق وصواب، لأن قدوة الأول وإمامه وهاديه يزيد وقدوة الآخر وإمامه وهاديه الحسين. وإن أعطى أحد حكامنا قيادة الدولة بعده لأحد أصدقائه دون أخذ رأي الشعب فله في السلف الصالح أسوة حسنة. وإن سلك في توليته طرقاً يشك فيها، أو رفع عائلته على رقاب الناس أو أغدق عليهم أموال الدولة أو فعل أكبر من ذلك أو أصغر فله في كبار الصحابة الذين أخذنا عنهم الدين والوحي قدوة، لأن كل ذلك مباح مشروع اكتسب شرعيته من ممارسة السلف الصالح له، أ فهذا بالله فكر سياسي نقدمه للناس في العصر الحديث، ونطرحه على الشرق والغرب مباهين به الأمم،(40/42)
مفاخرين بهذه الفوضى السياسية والدستورية نظمهم المستقرة، بل ومطالبين إياهم بالتخلي عنها وتبني هذا النظام ـ الإسلامي ـ الذي بدونه لا فلاح ولا نجاة ولا جنة زاعمين أن ما وقع عندنا من أخطاء كان اجتهاداً، أم آن الأوان لأن نميز الحق من الباطل، والصواب من الخطأ لنصل إلى شئ محدد نعرضه على الناس في ثقة ؟ وإن كان اختلافهم رحمة كما يقال لنا، فمالنا محرومين من هذه الرحمة منذ اختلفوا قبل أكثر من أربعة عشر قرناً ؟ ومالنا لم نر من هذا الاختلاف إلا اختلافاً مماثلاً أو أشد، وفوضى سياسية كتلك التي وضعوا أساسها واستسغناها وبلعناها،لأن مشايخنا قالوا لنا إنها كانت اجتهاداً، ولم يسموها لنا باسمها الحقيقي ؟
Part 2 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1ـ تاريخ الطبري:2/446ـ447،مصر1939،صحيح البخاري، كتاب الحدود باب رجم الحبلى من الزنا.
2ـ الطبري :2/456.
3- الطبري :2/456 ـ 458، السيرة النبوية لابن هشام : 4/337 ـ 339 القاهرة 1937.
4ـ تاريخ اليعقوبي :2/103العراق 1358، الموفقيات للزبير بن بكار، ص 579 نقلاً عن معالم المدرستين لمرتضى العسكري 1/117 ايران1406.
5ـ سيرة ابن هشام : 4/338.
6ـ الطبري : 2/459.
7ـ أنساب الأشراف للبلاذري : 1/589، مصر 1959، العقد الفريد لابن عبد ربه : 4/260، مصر 1944.
8ـ أنساب الأشراف : 1/587.
9ـ العقد الفريد:4/260، تاريخ أبي الفدا:1/156، مصر 1325 هجرية. الطبري/443،أنساب الأشراف :1/586، الرياض النضرة للمحب الطبري:1/218، مصر 1953، تاريخ اليعقوبي: 2 / 105وفيه أن عمر صارع علياً بسيفه فصرعه علي وكسر سيفه.
10ـ السيرة النبوية لابن هشام : 4/336، الرياض النضرة : 1/214.
11ـ الطبري : 2/459
12ـ الطبري : 2/619-620.(40/43)
13ـ الطبري :2/445، ابن هشام : 4/336.
14ـ الطبري : 2/446،ابن هشام :4/339
15ـ الطبري : نفس الموضع.
16ـ الطبري :2/457.
17ـ تاريخ اليعقوبي :2/103.
18ـ الموفقيات للزبير بن بكار: ص 580 نقلاً عن معالم المدرستين: 1/119، وانظر تاريخ اليعقوبي : 2/103.
19ـ الطبري : 3/459
0ـ الرياض النضرة :1/218، الاستيعاب لابن عبد البر :2/599، طبع نهضة مصر بتحقيق البجاوي، بدون تاريخ البلاذري :/589، العقد الفريد : 4/260.
21ـ تاريخ اليعقوبي:2/115، وانظر البلاذري:1/587 والطبري:2/619.
22ـ انظر الطبري :3 /441 ـ 443، وص 457.
23ـ مقدمة ابن خلدون: ص 219
24ـ المقدمة : ص 219.
25ـ كليات إقبال : ص487، طبع غلام علي، باكستان، مارس 1982.
26ـ شرح الفقه الأكبر، ملا علي القاري، ص 91، الهند بدون تاريخ.
27ـ أحكام القرآن، أبو بكر الجصاص:1/80، مصر 1347 هجرية.
28ـ الطبري : 3/447.
29ـ البلاذري :1/587.
30ـ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد الشافعي :6/11، مصر 1959.
31ـ الطبري : 2/618.
32ـ نفس المصدر : 2/618ـ 619.
33ـ الطبري : 2/618.
34ـ الأحكام السلطانية : ص 8.
35ـ صحيح البخاري : كتاب الحدود، باب رجم الحبلى من الزنا.
6ـ المقدمة : ص 213.
بيعة عثمان
ـــــــــ(40/44)
يبدو أن كثيراً من الناس ـ وعلى رأسهم عمر ـ أدركوا حين هدأت العاصفة أن بيعة أبي بكر كانت فلتة، ولم تكن وفق سياق طبيعي، وأن بيعة عمر كانت بغير مشورة من المسلمين، ولذلك تكرر كثيراً ـ كما مر بنا وكما ذكرت عشرات الكتب التي تحفظ لنا الحديث والتاريخ والسير ـ أن فلاناً من الصحابة قال عن هذه البيعات كذا وكذا، إلى أن اعترف عمر بهذه الحقائق قائلاً : [ إن رجالاً يقولون إن بيعة أبي بكر فلتة وقى الله شرها وأن بيعة عمر كانت عن غير مشورة من المسلمين، والأمر بعدي شورى ](37) فهذه الرواية ـ إن صحت ـ دلت على اعتراف صريح من عمر بأن تحديد القيادة في المرة الأولى والثانية لم يكن بالشورى بل كان ـ كما رآه الناس ـ فلتة مرة وبلا مشورة أخرى، ولهذا قرر الخليفة حسم المسألة وتحديد القيادة بالشورى في المرة الثالثة وقبل وفاته.(40/45)
ولما طعن عمر، ورأى أنه ذاهب إلى ربه، وضع صيغة سياسية جديدة لتعيين قيادة خير أمة وخير دولة، فدعا علياً وعثمان وعبد الرحمن بن عوف والزبير بن العوام، وقال لهم : [ فإذا مت فتشاوروا ثلاثة أيام، وليصل بالناس صهيب، ولا يأتين اليوم الرابع إلا وعليكم أمير منكم،ويحضر عبد الله بن عمر مشيراً ولا شئ له من الأمر، وطلحة شريككم في الأمر، فإن قدم في الأيام الثلاثة فأحضروه معكم وإن مضت الأيام الثلاثة قبل قدومه فاقضوا أمركم ....وقال لأبي طلحة الأنصاري : يا أبا طلحة إن الله عز وجل طالما أعز الإسلام بكم، فاختر خمسين رجلاً من الأنصار فاستحث هؤلاء الرهط حتى يختاروا رجلاً منهم وقال للمقداد بن الأسود : إذا وضعتموني في حفرتي فاجمع هؤلاء الرهط في بيت حتى يختاروا رجلاً منهم، وقال لصهيب : صل بالناس ثلاثة أيام وأدخل علياً وعثمان والزبير وسعداً وعبد الرحمن بن عوف وطلحة إن قدم وأحضر عبد الله بن عمر ولا شئ له من الأمر وقم على رؤوسهم فإن اجتمع خمسة ورضوا رجلاً وأبى واحد، فاشدخ رأسه أو اضرب رأسه بالسيف، وإن اتفق أربعة فرضوا رجلاً وأبى اثنان فاضرب رؤوسهما، فإن رضي ثلاثة رجلاً منهم وثلاثة رجلاً منهم فحكموا عبد الله بن عمر فأي الفريقين حكم له فليختاروا رجلاً منهم، فإن لم يرضوا بحكم عبد الله بن عمر، فكونوا مع الذين فيهم عبد الرحمن بن عوف واقتلوا الباقين إن رغبوا عما اجتمع عليه الناس ...فلما دفن عمر جمع المقداد أهل الشورى في بيت المسور بن مخرمة، ويقال في بيت المال، ويقال في حجرة عائشة بإذنها، وهم خمسة معهم ابن عمر، وطلحة غائب... فتنافس القوم في الأمر وكثر بينهم الكلام...فقال عبد الرحمن : أيكم يخرج منها نفسه ويتقلدها على أن يوليها أفضلكم ؟ فلم يجبه أحد، فقال : أنا أنخلع منها، فقال عثمان : أنا أول من رضي......فقال القوم : قد رضينا ](38) وبعد مداولات كثيرة، قال عبد الرحمن بن عوف: [ إني قد نظرت وشاورت، فلا(40/46)
تجعلن أيها الرهط على أنفسكم سبيلاً. ودعا علياً فقال : عليك عهد الله وميثاقه لتعملن بكتاب الله وسنة رسوله وسيرة الخليفتين من بعده قال : أرجو أن أفعل وأعمل بمبلغ علمي وطاقتي، ودعا عثمان فقال له مثل ما قال لعلي قال : نعم، فبايعه ](39)
وفي رواية أخرى أنه سأل علياً : [ هل أنت يا علي مبايعي على كتاب الله وسنة نبيه وفعل أبي بكر وعمر ؟ فقال : اللهم لا، ولكن على جهدي من ذلك وطاقتي، فالتفت إلى عثمان فقال : هل أنت مبايعي على كتاب الله وسنة نبيه وفعل أبي بكر وعمر ؟ قال : نعم ] (40) ثم نهضوا إلى المسجد فصعد عبد الرحمن المنبر، ونادى علياً ثم أخذ بيده وقال : [ هل أنت مبايعي على كتاب الله وسنة نبيه وفعل أبي بكر وعمر ؟ فقال : اللهم لا ولكن على جهدي من ذلك وطاقتي، فأرسل يده، ثم نادى : قم إليّ يا عثمان، فأخذ بيده ـ وهو في موقف علي الذي كان فيه ـ فقال هل أنت مبايعي على كتاب الله وسنة نبيه وفعل أبي بكر وعمر ؟ قال : اللهم نعم، فرفع رأسه إلى سقف المسجد ويده في يد عثمان، ثم قال : اللهم اسمع واشهد، اللهم إني قد جعلت ما في رقبتي من ذلك في رقبة عثمان، وازدحم الناس يبايعون عثمان ](41)
وإذا حاولنا أن نفهم هذه القصة بلغة عصرنا لا بأسلوب المؤرخين الذي قد يصعب على كثير منا، قلنا : إن برنامج الخليفة الثاني لتعيين القيادة اشتمل على البنود التالية : 1 ـ تشكيل مجلس شورى من سبعة أعضاء أحدهم لا يحق له ترشيح نفسه لكن له أن يكون حكماً ـ وهو ابنه ـ والثاني مشاركته غير يقينية، فقد يأتي وقد لا يأتي. هؤلاء الأعضاء هم :
ـ علي بن أبي طالب : وكان مرشحاً للقيادة.
ـ عثمان بن عفان : وكان مرشحاً آخر منافساً للأول.
ـ عبد الرحمن بن عوف : وهو زوج أم كلثوم بنت عقبة
بن أبي معيط أخت عثمان من أمه أروى بنت كريز، فعبد الرحمن زوج أخت عثمان.
ـ سعد بن أبي وقاص : ابن عم عبد الرحمن بن عوف.(40/47)
ـ طلحة بن عبيد الله :عضو مشكوك في مشاركته لغيابه عن المدينة خلال تشكيل المجلس.
ـ الزبير بن العوام : ابن خال فاطمة بنت رسول الله زوج المرشح الأول.
ـ عبد الله بن عمرابن الخليفة، ومواقفه من المرشح الأول معروفة مسجلة في تواريخ تلك الحقبة.
2 ـ عند تساوي الأصوات تؤول سلطة الفصل إلى ابن الخليفة، فإن رُفض قراره رُجّح المرشح الذي يميل معه عبد الرحمن بن عوف.
3 ـ قتل من حاز على نسبة أقل أو حتى متساوية من الأصوات ورفض مبايعة من وقع عليه الاختيار.
4 ـ مدة التشاور ثلاثة أيام .
نعم كان لكل واحد من أعضاء المجلس حق الترشح للقيادة، إلا أن الرأي العام وجميع الأعضاء كانوا يفهمون أن السباق ليس إلا بين علي وعثمان ومن ثم ذكرت كلاً منهما على أنه مرشح. وفي كلام الإمام علي تأييد لهذا كما سنرى فيما بعد. ثم أسفر المجلس عن إيكال سلطة حسم المشكلة إلى عبد الرحمن بن عوف بناء على اقتراحه هو نفسه، ولم يكن في الدستور الذي تركه الخليفة، فصار لعبد الرحمن وضع القيادة المؤقتة التي أنيطت بها مسئولية اختيار القيادة الجديدة وكانت هذه السلطة المؤقتة التي أجرت الانتخابات بمفهوم عصرنا تميل مع أحد المرشحين، وتربطها بها صلة قرابة قوية. وانتهى الأمر بتولية عثمان وهي النتيجة التي يدركها كل من قرأ قصة مجلس الشورى قبل أن يصل إلى نهايتها.
وإذا تدبرنا هذه القصة كما جاءت في الروايات ـ إن صحت ـ وفهمناها، رأينا فيها ما يلي:(40/48)
أولاً: أن خلع ابن عوف نفسه، ليتحول في النهاية إلى حكم يحسم الأمر لم يكن في صيغة الشورى التي تركها عمر وهو ما يجعلنا نبحث عن مبرر لهذا الفعل، فإما أن ذلك كان فقرة سرية بينه وبين الخليفة، أو أنه أقدم عليه ليتحكم في الأحداث على النحو الذي رأيناه، ويضع من الشروط ما يحلو له دون نص واضح من الخليفة يمكن الاعتماد عليه كدستور. وسواء كانت الأولى أم الثانية فإن الإجراء في ذاته لا يمكن اعتباره إجراءً شرعياً لا في الشريعة البشرية ولا في الشريعة الإلهية.
ثانياً: أن تشكيل المجلس وانتقاء أعضائه لم يتم على أساس مفهوم واضح، فما هي شروط الأهلية هنا ؟ ولماذا لم ينتق الخليفة غير من انتقى؟ ولماذا لم يمثل فيه الأنصار وهم قوة سياسية في المجتمع ؟ ومن المخجل حقاً أن يعترف الخليفة بأن الأنصار ـ كما مر بنا ـ طالما أعز الله بهم الإسلام، ومع ذلك لا يعطيهم إلا دور خفر مجلس الشورى.(40/49)
ثالثاً: أن تشكيل مجلس من ستة أعضاء منهم ثلاثة أقرباء فيما بينهم ومنهم أحد المرشحين، ثم تركيز سلطة حسم القيادة عند التساوي في يد ابن الخليفة الذي يؤيد هذا المرشح، فإن لم يكن ففي يد ابن عوف زوج أخت نفس المرشح دون سبب شرعي لهذا كله، أمر لا يفهم منه سوى وضع هذه الصيغة السياسية والدستورية بحيث يصبح فوز عثمان بن عفان أمراً محتوماً، وتبقى المسألة شورى صورية لذر الرماد في الأعين، والتخييل على الناس بأن الأمر تم عن طريق شورى حقيقية، وهو الأسلوب الذي تصمم وتنفذ به وزارات الداخلية في دولنا المعاصرة ما يسمى بالانتخابات والاستفتاءات التي تشرف عليها. وأقل ما يوصف به مثل هذا المجلس في عرفنا ـ على الأقل من ناحية التشكيل ـ أنه منحاز غير نزيه، لأن مجموعة الأقارب التي تربطها وشائج النسب وعلاقات المصالح يُمتَنَعُ أن تتفق على غير مرشحها فإن تساوت الأصوات كانت سلطة الفصل في يدها، وبالتالي فالمرشح الآخر لا قيمة له، ولا فرصة أمامه بحال من الأحوال.(40/50)
من أجل ذلك رأينا علياً يسخر من مجلس شورى عمر في بعض كلامه، ويقول : [ حتى إذا مضى لسبيله(أي عمر) جعلها (أي القيادة) في جماعة زعم أني أحدهم فيا لله ويا للشورى....فصغا رجل منهم لضغنه، ومال الآخر لصهره ] (42) ويعلق على الصيغة السياسية التي وضعها عمر فيقول : [ قَرَن بي عثمان، وقال كونوا مع الأكثر، فإن رضي رجلان رجلاً ورجلان رجلاً فكونوا مع الذين فيهم عبد الرحمن بن عوف فسعد لا يخالف ابن عمه عبد الرحمن، وعبد الرحمن صهر عثمان لا يختلفون، فيوليها عبد الرحمن عثمان أو عثمان عبد الرحمن، فلو كان الآخران معي ( يعني طلحة والزبير ) لم ينفعاني، بل إني لأرجو إلا أحدهما ](43) أي أنه كان لا يتوقع بقاء طلحة في صفه وهو ما حدث. ولذلك أكرم عثمان طلحة، وخصه بالعطاء طوال مدة خلافته حتى حُصر، فكان أشد الناس عليه [ فكان طلحة إذن يمثل نوعاً خاصاً من المعارضة رضي ما أتاح الرضا له الثراء والمكانة، فلما طمع في أكثر من ذلك عارض حتى أهلك وهلك ](44)(40/51)
رابعاً: أن إصدار عمر أمره قبل وفاته بقتل من حاز على أصوات أقل أو تساوى في الأصوات ولم يبايع ليس له سند من كتاب ولا سنة. فإن حصل مرشح على أصوات أقل فما الداعي لقتله ؟ وبأي شريعة يقتل ؟ وهل يبيح الإسلام قتل من لم يبايعوا أو من كانوا في الأقلية أو من لم يفوزوا في الانتخابات مثلاً ؟ أليس هذا من باب إرهاب الطرف الآخر كي يبايع ؟ وربما يقال إن عمر أمر بهذا خشية الفتنة ـ وهي الشماعة التي يعلق عليها مؤرخونا وفلاسفة الإسلام السياسي كثيراً من أخطاء السلف تقديساً لهم وتعظيماً ـ لكننا نسأل : أفي الإسلام أن يقتل المرء ـ مسلماً أو غير مسلم ـ بمجرد الخوف والتحسب دون أن يرتكب ما يستوجب القتل فعلاً ويثبت عليه ذلك بالدليل المؤكد ؟ وهل تأييد مرشح لم يحصل على عدد كاف من الأصوات ـ بالاحتيال أم بغير الاحتيال ـ يستحق المساءلة والعقاب في الإسلام ؟ أم يستحق المساءلة والعقاب ذلك القائد أو الخليفة الذي يتحايل لإنجاح من يريد ؟ ثم آخر ما نسأل : هل لا بد من أن تكون نسبة فوز القائد في الانتخابات مائة في المائة بدون معارضة ؟ وماذا نقول لو أن واحداً ممن علينا الآن فعل في معارضيه ما فعل عمر أيكون على حق ؟ فإن قيل لا، فله أن يقول : لي في عمر أسوة حسنة، وهو في هذا قدوتي وإمامي ومن منكم ينكر منزلة عمر؟ وإن قيل : نعم، قلنا : فلا ينبغي إذن أن نعترض إذا انتقى الحاكم مجلس شوراه على عينه، وسلك كل السبل ليأتي في الحكم بمن أراد، وقتل من عارضوا أو خسروا الانتخابات خشية الفتنة. أترون الصلة بين ماضينا وحاضرنا ؟(40/52)
خامساً: أن العهد الذي أخذه عبد الرحمن بن عوف من المرشحين كشرط لتولي القيادة أيضاً فيه كلام. فعلي ـ كما هو معروف ـ كان أعلم من في الأمة، وكانت فيه بلا شك كبرياء العلماء، ولا يصح إقرانه بغيره بإجماع المسلمين قديماً وحديثاً. وإلزامه باتباع الكتاب والسنة أمر جد مقبول ولا غبار عليه، أما إلزامه باتباع أعمال أبي بكر وعمر فقد كان استفزازاً، كما أنه ما أنزل الله به من سلطان. فأين الدليل على أن الالتزام بما فعل أبي بكر وعمر شرط للخلافة أو لتولي القيادة، وأن إدارة الدولة لا تفلح إلا به ؟ ولقد كان لعلي دون ريب مآخذ على أخطاء سياسية ارتكبها الشيخان خلال مدة حكمهما، وكان أعلم منهما وأفهم، فهل يصلح أن يكون الالتزام بأخطاء السلف دستوراً للعمل في الدولة ؟ وطبيعي أن رجلاً مثل علي لا يقبل الإقرار بهذه المخالفات التي ندم عليها من فعلوها أنفسهم. ولو كان علياً من قماش غيره لهادن وقال نعم حتى يأخذ القيادة ثم يتخلص مما وعد كما فعل الآخرون لكنه رجل صدق وعهد ومبدأ ودين، وتصرفه في هذا الموقف يرفعه على كل من سواه دون منافس.
سادساً: أن هذا الشرط الذي وضعه ابن عوف لتولي القيادة لم يكن في الدستور الذي تركه عمر ـ إذا جاز لنا اعتبار ما تركه بمنزلة دستور الدولة ـ ولم يكن الإصرار على الالتزام بممارسات أبي بكر وعمر إلا تعديلاً تعسفياً في الدستور أدخله ابن عوف بمزاجه إما لحاجة في نفسه، أو نتيجة لخوفه من الإضرار بمصالح الأثرياء وهو منهم إذا تغيرت السياسة عما كانت عليه أيام الشيخين، أو لعله كان فقرة غير معلنة اتفق عليها هو والخليفة في الفترة التحضيرية التي سبقت تشكيل مجلس الشورى ولم تصلنا رواية عنها.(40/53)
ودعنا نفترض جدلاً صحة هذه الفقرة شرعاً ـ أي ضرورة الالتزام بأعمال الشيخين ـ فهل سار عليها عثمان في حكمه ؟أم انحرف عنها وعن كثير كثير غيرها كما هو مسجل في التاريخ ؟ ولماذا لم يذكر أحد هذا الشرط حين رأوا المخالفات ؟ ولماذا لم يُعزل لإخلاله بالشرط الذي لولاه ما نال القيادة ؟
والاستفزاز الذي ذكرناه لتونا، فطن إليه الإمام علي حين خلا به عبد الرحمن بن عوف ثلاث مرات يسأل : لنا الله عليك إن وليت هذا الأمر أن تسير فينا بكتاب الله وسنة نبيه وسيرة أبي بكر وعمر، حتى قال له علي في المرة الأخيرة : [ إن كتاب الله وسنة نبيه لا يُحتاج معهما إلى إِجّيري (بكسر الهمزة وتشديد الجيم أي الطريقة والسنة) أحد، أنت مجتهد أن تزوي هذا الأمر(أي القيادة) عني](45)(40/54)
والواقع أن تشبث ابن عوف بضرورة الالتزام بأعمال أبي بكر وعمر ينبغي فهمه في ضوء التيارات السياسية والتغييرات الاجتماعية والاقتصادية التي طرأت على المجتمع الإسلامي بعد وفاة الرسول عليه السلام، ونتيجة للسياسة الاقتصادية بوجه خاص التي سارت عليها الدولة في عهد الشيخين لا سيما عمر. ذلك أن هذه السياسة أدت إلى تغييرات في الدولة، ورفعت فئة على فئة بسبب محاباة نفر من المهاجرين في توزيع الأراضي على النحو الذي ذكره سيد قطب في كتابه العدالة الاجتماعية. وكان الإمام علي معروفاً بمخالفة هذه السياسة، مشهوراً بفقره وزهده وتشدده في المساواة بين الناس وإنصاف الفقراء، فبرز كقائد ديني وسياسي لهذا التيار فالتفت حوله فئة المساكين والبؤساء أو أنصار المساواة الاقتصادية. وكثيراً ما روي عن عمر أنه كان يرغب في تولية علي لكنه خشي أن يسير بالناس على طريق الحق والعدل مهما كلفه هذا!!! فقال ـ مثلاً ـ [ قد كنت أجمعت بعد مقالتي لكم أن أنظر فأُولي أمركم رجلاً هو أحراكم أن يحملكم على الحق، وأشار إلى علي ] (46) وقال : [ لله درهم إن ولّوها الأُصَيلِع (يقصد علياً) كيف يحملهم على الحق وإن كان السيف على عنقه قال محمد بن كعب: فقلت أتعلم هذا منه ولا توليه فقال : إن تركتهم فقد تركهم من هو خير مني ] (47) وقال أيضاً عن علي : [ أحر به أن يحملهم على الحق ] (48) وقال لابنه : [ إن ولّوها الأجلح يسلك بهم الطريق المستقيم ـ يعني علياً ـ فقال ابن عمر : فما منعك أن تقدم علياً ؟ قال : أكره أن أحملها حياً وميتاً ] (49) وقد روى كثير من كتب الحديث والسير والتاريخ هذا المعنى عن عمر بروايات وألفاظ مختلفة مما يدل على أن عمر ورفاقه كانوا يعرفون أن علياًً إذا جاء إلى السلطة سار بالدولة على طريق الحق، واشتد فيه دون محاباة وهو ما يضر بمصالح الفئة التي أصبحت طبقة أرستقراطية في المجتمع آنذاك ليست على استعداد لتحمل تبعة سياسة علي(40/55)
في العدل والإنصاف الاقتصادي، والمساواة في المزايا والعطايا, وهي السياسة التي سار عكسها الشيخان، وندم على ذلك عمر قبل موته(50) هذا التحول الاقتصادي والاجتماعي الذي غُرست بذوره في زمن الشيخين وزهت أزهاره وثماره في عهد عمر إلى أن استفحل وعصف بالدولة عصفاً في زمن عثمان هو ما دفع عمر وابن عوف وسعد وغيرهم إلى تفضيل السير في نفس الاتجاه رغم إدراكهم خطأه، وتحويل القيادة عن علي لإيمانهم بأنه سيعيد الأمور ـ وبالذات الاقتصادية ـ إلى نصابها.
ولم أقف على أحد من القدماء أو المحدثين تناول بالتأريخ عصر الخلافة الراشدة إلا وأشار من قريب أو بعيد، تلميحاً مرة وتصريحاً عشرات المرات، إلى أن سياسة عثمان الاقتصادية خاصة والإدارية عامة كانت سبب تنافس كثير من الصحابة واقتتالهم فيما بعد. فلقد أحدثت سياسته المالية والاقتصادية الخاطئة انقلاباً هائلاً في وضع المجتمع العربي آنذاك الذي كان قد شهد انحرافاً تدريجياً في هذا الاتجاه زمن الشيخين، فبرزت في نسيجه في عهد عثمان قطع وانخفضت أخرى، وفقد المجتمع وحدة الانتماء الاقتصادي وطابع المساواة الذي تركه عليه مؤسس الدولة، وظهرت الطبقات بملامحها الواضحة [ وبلغ نظام الطبقات غايته بحكم هذا الانقلاب فوجدت طبقة الأرستقراطية العليا ذات المولد والثراء الضخم والسلطان الواسع، ووجدت طبقة البائسين الذين يعملون في الأرض ويقومون على مرافق هؤلاء السادة ووجدت بين هاتين الطبقتين المتباعدتين طبقة متوسطة هي طبقة العامة من العرب الذين كانوا يقيمون في الأمصار ويغيرون على العدو ويحمون الثغور ويذودون عمن وراءهم من الناس وعما وراءهم من الثراء، وهذه الطبقة المتوسطة هي التي تنازعها الأغنياء ففرقوها شيعاً وأحزاباً ] (51) وكان علي زعيماً للبؤساء والمحرومين [ ولم يكن الخدع والحيل من مذهب علي عليه السلام، ولم يكن عنده غير مر الحق ] (52)(40/56)
فمواقف رجال الشورى أثناء بيعة عثمان لا يمكن فصلها عن مشاعر البشر والمكاسب التي حققوها في ظل سياسة اقتصادية معينة، فكانت المفاضلة بين عثمان وعلي لا على أساس الأكفأ والأحق بل على أساس الحفاظ على الوضع الراهن والسياسة المفيدة، ومن هنا نفهم الإصرار على ضرورة اتباع سيرة أبي بكر وعمر وممن ؟ من قبل ابن عوف وهو من أثرى الأثرياء آنذاك، ثم الميل من بعد إلى من يرجى منه عدم المساس بالمكاسب المادية والاجتماعية التي نالوها فيما سبق.
نقل ابن خلدون في مقدمته عن المسعودي قوله : [ في أيام عثمان اقتنى الصحابة الضياع والمال، فكان له يوم قتل عند خازنه خمسون ومائة ألف دينار، وخلف إبلاً وخيلاً كثيرة، وبلغ الثمن الواحد من متروك الزبير بعد وفاته خمسين ألف دينار وخلف ألف فرس وألف أمة، وكانت غلة طلحة من العراق ألف دينار كل يوم، ومن ناحية السراة أكثر من ذلك، وكان على مربط عبد الرحمن بن عوف ألف فرس وله ألف بعير وعشرة آلاف من الغنم، وبلغ الربع من متروكه بعد وفاته أربعة وثمانين ألفاً، وخلف زيد بن ثابت من الفضة والذهب ما يكسر بالفؤوس غير ما خلف من الأموال والضياع بمائة ألف دينار. وبنى الزبير داره بالبصرة وكذلك بنى بمصر والكوفة والإسكندرية وكذلك بنى طلحة داره بالكوفة، وشيد داره بالمدينة وبناها بالجص والآجر والساج وبنى سعد بن أبي وقاص داره بالعقيق، ورفع سمكها وأوسع فضاءها وجعل على أعلاها شرفات ] (53)
هكذا كان وضع أعضاء مجلس الشورى وما حققوه من مكاسب اقتصادية واجتماعية وسياسية لا يمكن إغفال دورها في صياغة الأحداث عند تقييمنا لوقائع تاريخنا الهامة التي بُني على أساسها صرح الفكر الديني السياسي في الإسلام .(40/57)
ولقد روى ابن سعد نصاً يستحق النظر خلاصته أن سعيد بن العاص أتى عمر يستزيده في الأرض ليوسع داره، فوعده الخليفة بعد صلاة الغداة وذهب معه حينئذ إلى داره. يقول سعيد : [ فزادني وخط لي برجليه فقلت يا أمير المؤمنين زدني فإنه نبتت لي نابتة من ولد وأهل، فقال: حسبك، واختبئ عندك ( أي اجعل الكلام في سرك ) أنه سيلي الأمر من بعدي من يصل رحمك ويقضي حاجتك. قال فمكثت خلافة عمر بن الخطاب حتى استُخلف عثمان وأخذها عن شورى ورضا، فوصلني وأحسن، وقضى حاجتي وأشركني في أمانته ] (54)
فإن صحت الرواية كانت نموذجاً من نماذج سوء توزيع الأراضي، كما أنها تجعلنا نتساءل : كيف عرف عمر وهو حي أن عثمان سيلي الأمر من بعده ؟ أكان ذلك ضرباً من الكشف أم أمراً اتفق الكبار عليه في خفاء ؟ وإن كان كشفاً فلماذا يأمره بأن يجعل الكلام في سره ولا يخبر به أحداً ؟(40/58)
وهناك رواية أخرى تضع مسئولية ما حدث على رأس عمرو بن العاص وتقول : [ إن عمرو بن العاص كان قد لقي علياً في ليالي الشورى فقال: إن عبد الرحمن رجل مجتهد وإنه متى أعطيته العزيمة كان أزهد له فيك ولكن الجهد والطاقة،فإنه أرغب له فيك. ثم لقي عثمان فقال : إن عبد الرحمن رجل مجتهد وليس والله يبايعك إلا بالعزيمة فاقبل ] (55) يعني أن ابن العاص خدع علياً وقال له : إذا سألك عبد الرحمن أتبايع على كتاب الله وسنة نبيه وسيرة أبي بكر وعمر فقل له: بل جهدي من ذلك وطاقتي، لأن هذا يعجبه. ثم قال لعثمان أن يقول له نعم إذا سأله لأن ذلك يجعله فيه أرغب !! ومع أنني لا أعتقد بصحة هذه الرواية أبداً لكونها من طراز قصة ابن سبأ ولاستحالة إطاعة علي لابن العاص، ولقوة شخصية علي ونزاهتها عن الانتهازية وسلوك أي سبيل لتصل إلى الحكم، إلا أنها بفرض صحتها فهي تدل على أن الأمر لم يخل من خدعة. وسواء كانت لعبة مجلس الشورى أم قصة ابن العاص، فإن القرار الذي أصدره الإمام علي بشأن ما حدث في تولية عثمان أنه [ خدعة وأيما خدعة ] (56) أما معاوية فقد قال عن مجلس شورى عمر فيما بعد : [ لم يشتت بين المسلمين ولا فرق أهواءهم ولا خالف بينهم إلا الشورى التي جعلها عمر إلى ستة نفر ] (57)
ولأنها كانت كذلك، ولم تكن صافية بلا شوائب حتى في نظر معاوية المحارب لعلي، أدت إلى ما نعرفه من حوادث. وكما ندم أبو بكر على تقمصها قبل موته ندم ابن عوف على ما فعل حتى قال لعلي : [ إن شئت أخذت سيفك وآخذ سيفي فإنه خالف ما أعطاني، وروي كذلك أنه قال لبعض الصحابة في المرض الذي مات فيه : عاجلوه قبل أن يطغى ملكه ](58) وعاش عبد الرحمن ابن عوف لا يكلم عثمان أبداً حتى مات(59)(40/59)
وسبب المخالفة ـ علاوة على الفساد الإداري والمالي ـ أن عثمان أكثر العطاء لذويه وأقاربه خاصة فبرزوا فئة مميزة بالثراء والنفوذ عن بقية المهاجرين وكبراء قريش وعامة المجتمع وأثرياء الشورى، فنقم عليه أغنياء كعبد الرحمن ابن عوف وطلحة وغيرهما. تلك كانت بيعة عثمان أو الشكل الثالث من أشكال تحديد القيادة في جيل حمل الرسالة فاقتدينا به. فإن تأسى أحد بهذه الأسوة، وأتى من الأفعال ما يشابه أفعال قدوتنا فكيف نوقفه عند حده ؟ وكيف نمنعه مادامت هذه الممارسات تتحكم في عقولنا الباطنة وتوجه مشاعرنا من حيث لا ندري لأننا قدسنا فاعليها وقدسناها معهم، ولا يجوز لنا الاعتراض عليها أو عليهم. وأقل ما يمكن أن يزحف إلى عقولنا الباطنة هو التغاضي عن هذه الأفعال إذا صدرت عمن حكم، لأن الأغلبية العظمى من أهل السنة تفضل عدم اتخاذ موقف من هذه الأحداث .
معاوية والثورة المضادة
ــــــــــــــ
أدت سياسة عثمان التي ارتكزت على محاباة بني أمية وسوء توزيع الثروة في الدولة ورفع أسوأ الناس على رقاب الصلحاء من عامة القوم وخاصتهم، وارتكاب المخالفات الشرعية، وتركيز السلطة في يد عائلته دون اعتبار للأهلية ـ كما هو مفصل في تاريخنا ـ إلى غضب الشعب، وتذمر كبار الصحابة حتى انتهى الأمر بقتله، وسقوط الدولة الناشئة في دوامة صراع سياسي خطير. وأخذت الأخطاء التي بدأت قبل سنوات بدرجة واحدة تتسع على مر الأيام ويزداد انفراجها إلى أن وصلت الأمور إلى تحول معاكس للخط الذي تأسست عليه الدولة.(40/60)
ولأن الثورة على نظام الحكم ـ أي نظام ـ حرام لا تجوز في اعتقاد مؤرخينا الذين نشأ أغلبهم وتربوا في ظل نظم غير شرعية، كان لا بد من البحث عن تبرير خارج نطاق العقل والمنطق ـ كالعادة ـ لإقناعنا بأن ما أسقط الدولة وأشاع الفتنة إلا العناصر الخارجية. فهم لم يربطوا بين المسببات وأسبابها، ولم يُرجعوا المعلولات إلى عللها، ولم يفتشوا عن أسباب ثورة الناس على عثمان لأن هذا المنهج ـ رغم علميته وإسلاميته ـ سيؤدي إلى تخطئة بعض الشخصيات التي يريدون من كل مسلم تقديسها واعتبار تصرفاتها مهما كانت جزءاً من الدين من أجل هذا اخترعوا شخصية خيالية لم توجد في التاريخ أصلاً وسموها عبد الله بن سبأ أو ابن السوداء وأطلقوا لخيالهم العنان فتخيلوا أنه لابد أن يكون يهودياً، ثم نسبوا إليه كل الفساد، ووضعوا على رأسه مسئولية الثورة والتذمر وقتل الخليفة الراشد.(40/61)
فتعيين الخليفة مجلس إدارة الدولة من أسوأ أقربائه ممن لعنهم أو نفاهم الرسول عليه السلام كمروان بن الحكم(ابن عمه) وعبد الله ابن عامر(ابن خاله) وعبد الله بن سعد بن أبي سرح (أخيه من الرضاعة) الذي ارتد عدة مرات وحارب الدولة ومؤسسها حتى أمر النبي بقتله يوم فتح مكة ولو وجد متعلقاً بأستار الكعبة، فجعله عثمان واليه على شمال أفريقيا كله وأغدق عليه أموال الدولة، والوليد بن عقبة (أخيه لأمه) الفاسق بنص القرآن والذي نزلت فيه الآية [ إن جاءكم فاسق بنبأ ] وسعيد ابن العاص وغيرهم(60) مع وجود الأخيار من الصحابة لم يكن سبباً كافياً عند المؤرخين. وإطلاق يد العائلة المالكة في تغيير الدولة واللعب بمقدراتها وشئونها، وإشاعة الفوضى السياسية والقانونية، وتعطيل الشرع، وحماية الخليفة لهم، ووعده بإصلاح الأمور عدة مرات وإخلافه لهذا الوعد وإصراره على صحة سياسته التي احتج عليها كل الصحابة إلا المستفيدين، كل ذلك ليس سبباً كافياً لتذمر الناس. وتعيين عثمان لابن أبي سرح والياً على مصر وفيها أجلاء مثل عمار بن ياسر ومحمد بن أبي بكر ومحمد بن أبي حذيفة وغيرهم ثم قيام هذا الوالي بنهب خزانة مصر واضطهاد الأقباط وإذلال الناس..ذلك كله ليس علة للثورة والغضب، وإنما لابد من أن يكون وراءه يهودي هو عبد الله بن سبأ !! ولابد من أن يكون الصحابة الذين ثاروا على فساد نظام الدولة أتباعاً لهذا اليهودي، تماماً كما تقول الأنظمة المعاصرة عمن ثار عليها، لأن الثورة على النظم الفاسدة حرام وفتنة وإراقة دم. وكما تقول التنظيمات الإسلامية عمن خالفها في الرأي هذا عميل وذاك ماسوني والثالث شيوعي .. أرأيتم مرة أخرى امتداد الفكر نفسه من ذلك اليوم إلى هذا اليوم؟(40/62)
ونظرية ابن سبأ التي ساقها مشايخنا لتبرير الكارثة يستحي منها كل طفل مسلم به عقل لأنها تعني أن الخلافة الراشدة والدولة المحمدية كانت من الضعف بمكان حتى قلبها يهودي واحد بغير عناء ودون وجود لوبي صهيوني أو دولة عبرية أو مخابرات أمريكية آنذاك. كما أنها تعني أن كبار الصحابة الذين لم يوافقوا على سياسة عثمان لم يكونوا يعرفون دينهم فانساقوا وراء مقولة يهودي ودمروا الدولة الإسلامية، وإذا كانوا بهذا الشكل فكيف نأخذ عنهم الدين إذن ؟؟
ثم ليت مؤرخينا استطاعوا أن يثبتوا دورابن سبأ في الأحداث، لأنك تراهم يذكرون اسمه في البداية فقط ثم تجري الأحداث مجراها الطبيعي محكومة بقوانين العمران والسياسة المنطقية، ووفق عللها الطبيعية من تنافس بين الصحابة، وسوء إدارة الدولة، والمحسوبية، وفساد الشورى، وضغائن القبائل وما إليها.(40/63)
ولأن العلة التي ذكرها المؤرخون ـ أي ابن سبأ ـ علة وهمية، تجدهم على غير يقين منها، فمرة قالوا ابن سبأ ومرات قالوا إن محرك الفتنة عمرو ابن العاص الذي كان يؤلب الناس على عثمان حتى رعاة الغنم المتفرقين في الصحراء، وأحياناً يعلقون المسئولية في عنق الصحابي الثائر محمد بن أبي بكر، وأخرى يضعونها على رأس مروان بن الحكم(61) وكثير من المؤرخين يقولون إن الأسباب التي نقمها الناس على عثمان كثيرة وخطيرة، وإنهم رأوا الإعراض عن ذكرها أفضل، ولم يذكروا إلا ما سمحت به أنفسهم وجادت به وجهات نظرهم، فنحن بهذا لا نقرأ إلا ما سمحوا لنا بقراءته والاطلاع عليه لا ما وقع كله، وما يدريك لعل فيما وقع ولم يذكروه مفاتيح معضلات كثيرة، أو ربما فيه من الحقائق التاريخية ما يكشف كثيراً مما لم يزل عندنا طلاسم غير مفهومة. ومهما يكن، فإن الثورة على عثمان وما آلت إليه الأمور فيما بعد لم يكن وراءه يهودي ولا نصراني بل كانت وراءه العلل والأسباب السياسية والاقتصادية والإدارية والاجتماعية والنفسية والفكرية التي اجتمعت معاً وسارت وفق سنن التاريخ.
ومن الأدلة على ذلك أن الصحابة لم يذكروا ابن سبأ قط بل منهم من تنبأ بما وقع من الأحداث الكبرى.فانقلاب معاوية على الخليفة الشرعي وتأمره على الناس بالسيف تنبأ به كعب وغيره(62) وانعكاس حال الدولة رآه علي(63) كما تنبأ به عثمان نفسه حين ثار عليه الناس، فقال : [ والله لئن فارقتهم ليتمنُن أن عمري كان طال عليهم مكان كل يوم بسنة مما يرون من الدماء المسفوكة والإحن والأثرة الظاهرة والأحكام المغيرة ] (64) ذلك أن حال الدولة وخط سيرها كان واضحاً أمامهم جميعاً فاستطاعوا رؤية المصير قبل وقوعه لأنه كان أمراً بدهياً، ولم يروا يهودياً ولا نصرانياً.(40/64)
لقد كانت الدولة في عهد عثمان قد دخلت مرحلة خطيرة من تاريخها تسير فيها بخطىً واضحة نحو نظام مختلف وكانت هذه حقيقة سياسية يعرفها أكثر الناس. انظر إلى مروان بن الحكم ـ مثلاً ـ وقد حاصر الناس عثمان فخرج عليهم ليقول لهم : [ جئتم تريدون أن تنزعوا ملكنا من أيدينا ؟ ارجعوا عنا ](65) لأن طريقة تفكير من عاشوا خلال الأحداث كانت مختلفة عن طريقة تفكيرنا التي ورثناها عن مشايخنا ومؤرخينا، ولذلك لم يؤثر عن أحد قوله إن سياسة الدولة كانت مضبوطة، وإن سبب الفساد كان هذا أو ذاك من اليهود أو النصارى. وكيف كان من الممكن توقع غير ما انتهت إليه الحال في الوقت الذي كان يعتبرها مروان ملكاً له ولعائلته والخليفة الراشد حي بين الناس؟(40/65)
قتل الخليفة، وأدرك الناس أن الدولة قد حلت بها كارثة، فهرعوا إلى علي يبايعونه، وقالوا : [ إن هذا الرجل قد قتل ولابد للناس من إمام، لا نجد اليوم أحق بهذا الأمر منك، لا أقدم سابقة ولا أقرب من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال : لا تفعلوا فأَن أكون وزيراً خير من أن أكون أميراً، فقالوا : والله ما نحن بفاعلين حتى نبايعك، قال : ففي المسجد فإن بيعتي لا تكون خفية ولا تكون إلا عن رضا المسلمين ](66) وفي رواية أخرى أنه [ حين قتل عثمان رضي الله عنه واجتمع المهاجرون والأنصار وفيهم طلحة والزبير فأتوا علياً فقالوا : يا أبا الحسن هلم نبايعك، فقال : لا حاجة لي في أمركم أنا معكم، فمن اخترتم فقد رضيت به فاختاروا فقالوا : والله ما نختار غيرك. فاختلفوا إليه بعد ما قتل عثمان رضي الله عنه مراراً، ثم أتوه في آخر ذلك فقالوا : إنه لا يصلح الناس إلا بإمرة، وقد طال الأمر، فقال لهم : إنكم قد اختلفتم إليّ وأتيتم، وإني لقائل لكم قولاً إن قبلتموه قبلت أمركم وإلا فلا حاجة لي فيه. قالوا : ما قلت من شئ قبلناه إن شاء الله. فجاء فصعد المنبر، فاجتمع الناس إليه فقال : إني قد كنت كارهاً لأمركم فأبيتم إلا أن أكون عليكم، ألا وإنه ليس لي أمر دونكم إلا أن مفاتيح مالكم معي، ألا وإنه ليس لي أن آخذ منه درهماً دونكم، رضيتم ؟ قالوا نعم. قال : اللهم اشهد عليهم، ثم بايعهم على ذلك ](67)
وهذه الروايات ـ إن صحت ـ دلت على أمور :
الأول: أن طريقة اختيار القيادة هذه المرة اختلفت عن المرات الثلاث الماضية وهذه هي المرة الأولى التي ذهب الناس فيها مراراً يلحون على شخص أن يتولى قيادتهم دون أن يتم ذلك فلتة، أو بالعهد دون مشورة، أو بمجلس شورى منتقى ملفق.(40/66)
الثاني: أن علياً ظل يرفض هذا المنصب ربما لأنه كان يعلم أن الدولة قد سارت في طريق وعر، وتغير حال الناس فيها اقتصادياً واجتماعياً وهو ما سيسبب له بالتأكيد مصاعب في إدارتها ورد الأمور إلى مجراها الأصلي.
وربما رفض مراراً ليثبت لكل ذي عينين أنه لم يختلس الأمر، ولم يسارع إليه أو يلفق له الطرق ويخترع الحيل، وإنما كان اختياره حراً من قبل الناس الذين اختلفوا إليه مراراً، وأصروا على اختياره إصراراً.
الثالث: أن الانحراف الذي سبب الكوارث الماضية كان في أساسه اقتصادياً ومالياً بالدرجة الأولى، وهو ما يظهر من عبارته، ولو لم يكن لهذا الأمر علاقة بما جرى ما أفرده بالذكر في عهد البيعة الذي له منزلة الدستور.
الرابع: أن السياسة الاقتصادية والمالية التي سيتبعها الإمام أو القيادة الجديدة ستقوم على الإنصاف والمساواة وإحقاق الحق وعدم المحاباة والالتزام الشديد بقوانين الدولة. أعتقد أن هذا هو ما أدركه من كانوا يستفيدون من السياسة المالية الخاطئة فيما مضى، ألبهم عليه، وخلق له المشكلات.
وتمت بيعة الإمام بعد أن كانت الدولة قد شهدت تغييرات هائلة في جميع جوانبها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والقانونية، فغاصت في بحر تعالت أمواجه، وهزت كيانها هزاً عنيفاً.(40/67)
وما إن تولى الأمر حتى بدأ يعيد عربة الدولة إلى الخط الذي خرجت عنه، فعزل العصابة التي استولت على مناصب الدولة الكبرى، وولى مكانها الأصلح، وسوى بين الناس في الأنصبة، فكانت ولايته فرصة لإصلاح الأمر غير أن السياسات الخاطئة التي كان قد سار عليها المجتمع ربع قرن من الزمان أسفرت عن خلق خط سياسي معاد لأية إصلاحات تمس بمصالحه لاسيما أن كبار أهل الأثر والنفوذ ـ أو أغلبهم ـ كانوا ممن استفادوا من هذه السياسة، وتغير وضعهم الاجتماعي، وأصبحت لهم مكاسب ومصالح مشتركة يدافعون عنها، ويحافظون عليها بأي ثمن. من هنا كانت أزمة الإمام علي الحقيقية، إذ تسلم السلطة والحمل ثقيل، والمهمة صعبة، أضف إلى ذلك عناصر أخرى كازدهار بني أمية سياسياً، وضعف أتباع علي لكونهم من البسطاء الفقراء، واستفحال الضغائن القبلية والأحقاد الشخصية، وتبني سياسة الانتقام من علي الذي وتر بسيفه كل بيوتات الكفر التي تصدت للإسلام وحاربته خلال المعارك الماضية.(40/68)
تزعم حركة زعزعة الدولة وإسقاطها فريقان : الأول بزعامة معاوية وكان أقوى وأكبر، كما كانت له مطامع قبلية وضغائن قديمة معروفة، وهو من البيت الذي ظل يحارب الإسلام ودعوته حتى فتحت عليه مكة، واضطر للدخول في الإسلام قبل أشهر قليلة من وفاة النبي عليه الصلاة والسلام. وهذا الفريق نجح في استقطاب الناس بالعطايا والوعود والرشاوى والنساء وغير ذلك من السبل، واتخذ من دم عثمان حجة للثورة على الخليفة الشرعي، ونشر الفوضى. والثاني: بقيادة أم المؤمنين عائشة وطلحة والزبير، وهذا الفريق أقل وأضعف، لكنه استتر أيضاً في المطالبة بدم عثمان دون وجه حق إذ لم يكونوا أولياءه الشرعيين مع افتراضنا صحة دعواهم في طلب القصاص. ووراء الفريقين كمنت دوافع أخرى مفصلة يعرفها من طالعوا تواريخ هذه الحقبة. فعائشة كانت بنفسها تحرض الناس على قتل عثمان، وتقول لهم صراحة : [ اقتلوا نعثلاً فقد كفر ](68) كذلك فعل طلحة وكان من أكبر المساعدين على قتله(69) ثم بايع هو والزبير علياً في البداية، فلما رفض طلبهما ولاية البصرة والكوفة انقلبا عليه، وادعيا أنهما بايعا مكرهين(70)!!!
نعم ندمت عائشة على ما فعلت ـ كما تقول الروايات ـ كما ندم غيرها لكنهم ندموا بعد أن عم الخراب. واضطر علي لأن يواجه ثلاث حروب طاحنة في أقل من خمس سنوات هي مدة حكمه. فانهزم له الفريق الثاني في موقعة الجمل، وأوشك الفريق الأول على الهزيمة في صفين،فلجأ إلى حيلة التحكيم ورفع المصاحف كما هو مشهور لدينا معروف، وانتهى الأمر بتثبيت البغاة في الحكم بالكذب والخداع، فظهر إلى الوجود فريق ثالث هم الخوارج الذين انهزموا أمام علي في معركة النهروان، وعاش علي ولا سلطان له على الشام مركز معاوية، وأقام البغاة دولة داخل الدولة إلى أن قتل الإمام علي على يد ابن ملجم المصري.(40/69)
ولأن الأمة لم تكن ترى أحداً من زعماء الفريقين المذكورين يستحق القيادة، بايعوا الحسن بن علي، فرأى أن يهادن قليلاً إلى أن تستتب الأمور وتهدأ العاصفة، لكن نفراً من أتباعه تواطأوا مع البغاة وثاروا عليه وهاجموه وجرحوه ونهبوا متاعه، فاضطر للتفاوض مع البغاة ليحقن دماء أتباع أهل البيت الذين كادت تستأصلهم السيوف الباغية من جذورهم.وشرط له معاوية شروطاً لم يف بأي منها بعد أن تمكن من السلطة بحد السيف عام41 هجرية وهو ما قيل للمسلمين عنه أنه عام الجماعة، ولم يكن غير عام الفرقة والاستسلام للبغي. ثم دس معاوية السم للحسن في النهاية، وانفرد بالحكم، وهذا كله مفصل في كتب التاريخ كلها فليرجع إليها من أراد، وقد أعرضنا عن تفصيله لما يقتضيه المقام من شدة الاختصار.
اعتلا معاوية السلطة، ووقف بعدها ليعلن علمانية الدولة صراحة، ويقول :
[ يا أهل الكوفة، أترونني قاتلتكم علي الصلاة والزكاة والحج وقد علمت أنكم تصلون وتزكون وتحجون، ولكني قاتلتكم لأتأمر عليكم وألي رقابكم، وقد أتاني الله ذلك وأنتم له كارهون. ألا إن كل دم أصيب في هذه مطلول، وكل شرط شرطته فتحت قدمي هاتين ](71) وهذا إعلان صريح بما يلي:
1ـ أن العبادات قد فصلت عن القيادة والسياسة، فالأولى لكم فيها اتباع الشرع وما قال الله وقال الرسول، وأما الثانية فهي لي وأنا حر فيها.
2ـ أنه قاتل الناس ليتأمر عليهم، ويأخذ القيادة بحد السيف.
3ـ أنه يعلم أن الناس كارهون له.
4ـ التخلص من العهود والمواثيق والشروط التي قطعها على نفسه أثناء احتياله للوصول إلى السلطة مع الأشخاص والقبائل أما الدماء التي أريقت في سبيل ذلك، والحروب التي خيضت وقُتل فيها عشرات الألوف من المسلمين فلا حساب عليها ولا قود ولا عقاب، وعلى الأمة إذن أن تنسى ما كان،وتبدأ صفحة جديدة من تاريخها الذي ستبدأ أحداثه وفق تصور جديد وسياسة مغايرة.(40/70)
ثم قاد معاوية الثورة المضادة بمعنى الكلمة، فأسس جهازاً لتشويه أهل الحق، وآخر لتصفية المعارضين جسدياً، واخترع الأحاديث، ولفق التفاسير وأنشأ الفرق الفكرية المعارضة، ونشر بين المسلمين السكوت على الظلم والظالمين بل وتأييدهم، وأن الأسلم لهم عند احتدام المعركة بين الحق والباطل الفرار إلى رؤوس الجبال خشية الفتنة، وأرهب الآمنين من الناس وصادر أموال المعارضين ظلماً وعدواناً، وأغدق أموال الدولة على مؤيديه وعطل العمل بالقوانين الإسلامية، وابتدع في الدين على النحو المفصل في تاريخنا الذي يعرفه المطالعون.
غير أن خطورة ما فعله معاوية تكمن في أنه ما فعله باسم نظرية أخرى أو ديناً آخر صراحة بل باسم الإسلام، فإذا الإسلام الذي قدمه للناس شئ آخر يعاكس الإسلام المحمدي، فكان ثورة مضادة لكنها تحمل اسم الإسلام القديم.
وأخطر من هذا كله أن مشايخنا غلفوا هذا السم الزعاف بطبقة حلوة المنظر، وقالوا لنا إنه لم يكن انقلاباً على الإسلام بكل معنى بل كان اجتهاداً وأخذنا نحن من أيديهم هذا السم المدسوس، واعتقدنا أنه الدواء الناجع الذي يشفي ما بنا ـ بل وما بالأجيال المسلمة وغير المسلمة إلي يوم القيامة ـ من كل الأسقام فهو الحل ولا حل غيره، واشتركنا معهم في هذه الجريمة وضللنا معهم أنفسنا وأبناءنا والأجيال التالية، ولم نفكر لحظة في أن ما قاله مشايخنا ينبغي فحصه والتروي في قبوله، وأن الأخطاء المخالفة للإسلام لابد أن نعترف بها ونتجنبها في كل مسيرة ليكون ما عندنا واضحاً رائقاً. وأطلقنا العنان للعواطف تجرنا وتقودنا، فإذا بنا اليوم في مآزق وحفر عميقة قفزنا فيها بإرادتنا دون وعي ولا نستطيع أن نخرج منها. والأغبى من هذا أننا نبصق في وجه كل من ألقى لنا حبلاً من عقل لنمسك به ونخرج من هذه الحفر إلى حيث الهواء النقي والفكر الإسلامي الحر الذي لا يقدس الأوراق ولا الأشخاص، إلا ما كان منها يستحق التقديس حقاً.(40/71)
هكذا رأينا كيف اختار المسلون قيادتهم بإرادتهم في النور ـ حين اختاروا علياً ـ بعد أن كان الوقت المناسب قد مضى، وهو ما يعتبر شكلاً آخر من أشكال تعيين القيادة يختلف عما سبق.
ثم ما إن تولت القيادة الجديدة حتى بدأت الطوابير الخفية في العمل لإقصائها، فرأينا شكلاً وأسلوباً آخر لإفراز المجتمع الإسلامي للقياده هو ما فعله معاوية، وهو ما يقودنا إلي نتائج تستحق إمعان الفكر:
أولاً: أن بيعة علي إذا كانت هي الصواب أو الطريق الطبيعي لاختيار القيادة فما حكم ما فعله معاوية ؟ وإن كان ما فعله معاوية لا غبار عليه فكيف يمكن الدفاع عن بيعة علي ونحن أهل السنة نؤمن بخلافته الراشدة وبيعته السليمة ؟
ثانياً :أن الطريقة التي وصل بها معاوية إلى الحكم وتصدر القيادة إن كانت صحيحة ـ ولا أعتقد بصحتها أبداً ـ فكيف يمكن إغلاق باب البغي والانقلابات العسكرية، خاصة ما كان منها ضد الحكومات الشرعية ؟ وما موقفنا أو بالأحرى موقف الإسلام من هذه الانقلابات ومن يقوم بها بشرط أن يكون هذا الموقف متسقاً مع تاريخ الفكر الديني السياسي عندنا ؟ لأننا إذا آمنا بما فعل معاوية، ثم أدانت أجيالنا الانقلابات العسكرية كطريقة للوصول إلى السلطة والتصدي للقيادة،وقعنا في تناقض يعطي من قام بالانقلاب فرصة ليقول: والله أسوتي في ذلك معاوية، وأنتم لستم بأعلم منه، ولا يعتقد مشايخنا ومن يسمون بفلاسفة الإسلام السياسي بخطئه، فماذا نقول له ؟(40/72)
ثالثاً: أننا لا نستطيع اعتبار طريقة معاوية إسلامية ثم في نفس الوقت نؤمن بعدم شرعية النظم التي تماثل نظامه، خاصة في الدول الإسلامية، لأن كل هذه النظم في حقيقة الأمرامتداد لنظام معاوية، تستمد منه شرعيتها في الاستيلاء على قيادة الأمة، وتقتدي به. وربما يقول أحدنا: يا عزيزي إن عدم شرعيتها في أنها لا تطبق الإسلام، ولا تحكم بما أنزل الله. فأقول: قد فعلها النميري، وضياء الحق والبشير فهل صارت نظمهم شرعية ؟ إن هذا الفكر الساذج السائد الذي يقول إن الحاكم أو النظام إذا شرع في تطبيق الإسلام وجب علينا اعتباره حاكماً ونظاماً شرعياً بصرف النظر عن طريقة وصوله إلى الحكم، لو تمسكنا به فإنا لله وإنا إليه راجعون، لأن الشرعية شئ آخر ولها معايير مختلفة، وهو ما سأشير إليه في الباب القادم. إن الفكر الإسلامي السياسي أمام معضلة ـ علاوة على المعضلات الكثيرة الأخرى ـ عليه أن يحدد موقفه منها أو يحلها: إما أن يكون أسلوب معاوية وفعله خطأ، وبالتالي فالأنظمة التي تشاكله في تاريخ الإسلام القديم والحديث خطأ كذلك، أو أن هذا الأسلوب صحيح فلا ينبغي الاعتراض على هذه الأنظمة لأنها إذن شرعية يجب تأييدها.
يقول معاوية لسفيان بن عوف الغامدي أحد قادته العسكريين وقد بعثه ليغير على المسلمين في العراق:
[ إن هذه الغارات يا سفيان على أهل العراق ترعب قلوبهم، وتفرح كل من له هوى فينا منهم، وتدعو إلينا كل من خاف الدوائر، فاقتل كل من لقيته ممن ليس على رأيك، واخرب كل ما مررت به من القرى، واحرب الأموال فإن حرب الأموال شبيه بالقتل، وهو أوجع للقلب ](72)(40/73)
هذا مثل واحد من ألوف الأقوال والسياسات التي أثرت عنه وحفظتها لنا كتب التاريخ، فلماذا نغضب حين يقتدي به الحكام ونسب ونلعن ؟ أليس الإقرار بشرعية حكمه جزء من الإسلام السياسي، ولا إدانة له أو براءة منه حتى الآن. وإذا قال الحكام: أصحابي كالنجوم، ولنا في معاوية أسوة وقدوة وقد فعل ما فعل والصحابةأحياء، وسكتوا وهم أهل الحل والعقد، فماذا نقول لهم ؟ وإذا راق للبعض أن يقول: أولئك كانوا صحابة ولسنا كهم، قلنا:
أفنزلت الشريعة للكل سواء أم استُثني الصحابة منها ومن أحكامها ؟ أم أن لدينا شريعتين واحدة للصحابة والجيل الأول، والثانية للمسلمين من الدرجات الثانية والعاشرة أمثالنا ؟ فإن كان لدينا دليل على أن ما ينطبق عليهم لا ينطبق علينا فأين هو ؟
إن وصول معاوية إلى قيادة خير أمة لم يكن غير نتيجة طبيعية لأزمة القيادة التي ألقى الأمة والدولة في دوامتها نفر من كبار الجيل الأول لأسباب ليس من بينها مصلحة الدين والدولة، فظلت مخالفاتهم تتعاظم يوماً بعد يوم حتى وجد المسلمون أنفسهم أسوأ حالاً من غيرهم من الأمم، وتوارثوا هذه السياسات، يحكمون بها بعضهم بعضاً ويحكمهم بها من اعتلاهم، لا فرق بين ماضينا وحاضرنا، فما نراه اليوم ليس إلا صورة عصرية لما مارسه السلف في غياب نظرية محددة واضحة المعالم في السياسة والحكم.
لكن مصيبتنا السوداء أننا اعتبرنا هذه الممارسات فكراً سياسياً وسميناه إسلامياً، ونعيش على فتاته، نلوك حوادثه، ونمضغ سيرة السلف وعيوننا مغمضة دون أن نزيل ما علق بها، فيتحول كل ما فيها في دمائنا دون أن نحس، لأن هذه التصرفات حُوّلت إلى معتقدات تُقدّم لنا ملفوفة في أوراق إسلامية، وعليها أسماء مشاهير.(40/74)
إن ممارسات السلف فيما يتعلق بالسياسة وإدارة الحكم تجعل المتحمسين للإسلام السياسي أمام خيارات صعبة : إما أن يكون السلف قد تصرفوا في الأمر بناء على اعتقادهم بانفصال الحكم عن الدين فراعوا في أموره ما يراعيه البشر في أي مكان ومن أي دين وبالتالي فتصرفاتهم مقبولة من منطلق لا دين في السياسة ولا سياسة في الدين لأن الدولة الإسلامية علمانية في اعتقاد السلف، وهذا لا يعجب أصحاب الإسلام السياسي. أو أنهم تصرفوا خلافاً لمبادئ وأحكام الدين مرجحين عليها رغبات النفس وولاءات القبائل ومصالح النخبة، وبالتالي فهم أول من خالف وبدل، وما وصلنا عنهم في هذا الأمر ـ بل وفي غيره ـ ينبغي فحصه وإعادة النظر فيه، وهذا أيضاً لا يعتقده هواة الإسلام السياسي. أو أن تكون هذه الوقائع مكذوبة وبالتالي فما بُني عليها لا يصح، وهذا أيضاً مرفوض.
على أي حال، هذا هو المدون المسطور، وعلى أساس هذه الوقائع صاغ فلاسفتنا ومفكرونا ما سموه لنا بالفكر السياسي في الإسلام، وليتهم تركوا لنا ـ مع ذلك ـ الخيار لنزن ما يقوله المعارضون بل شنوها حرباً على من عارضوا السلطان، ورموهم بالكفر والزندقة، فغدا المسلم اليوم لا يطيق أن يسمع رأياً معارضاً، ولا يرى بين المسلمين مسلماً غير نفسه ومن على رأيه، ولا يعتقد صحة أمر إلا إذا وجده في كتب ابن فلان وابن فلان، مع أن هذا الذي يعتقدونه ليس فكراً إسلامياً في الحقيقة بل فكراً سلطانياً أو سلطوياً كما سنرى في الفصل القادم.
Part 3
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
37ـ أنساب الأشراف للبلاذري : 5/15.
38ـ الطبري : 3/294ـ295، العقد الفريد :4/275ـ276.
39ـ الطبري :3/296ـ297.
40ـ الطبري : 3/310.
41ـ الطبري :3/301ـ302،والتفاصيل في العقد الفريد:4/273وما بعدها.(40/75)
42ـ نهج البلاغة بتعليق صبحي الصالح ص 49،بيروت 1967.
43ـ الطبري : 3/249.
44ـ الفتنة الكبرى، طه حسين، ص 150، مصر 1962.
45ـ تاريخ اليعقوبي :1/162.
46ـ الطبري :3/293 ، العقد افريد :4/274.
47ـ الرياض النضرة : 2/95.
48ـ الطبري :3/294.
49ـ الرياض النضرة :2/95.
50ـ الفتنة الكبرى :ص 8 وانظر التفاصيل في العدالة الاجتماعية لسيد قطب.
51ـ الفتنة الكبرى : ص 109.
52ـ الفخري لابن طباطبا : ص 63،مصر 1339 هجرية.
53ـ المقدمة : ص 204ـ 205.
54 ـ طبقات ابن سعد : 5/31، بيروت 1957، وراجع سيرة سعيد بن العاص في كتب السير لمعرفة قرابته من عثمان ولعن النبي له وموقفه منه ومن أسرته.
55ـ الطبري : 3/302.
56ـ الطبري :3/302.
57ـ العقد الفريد : 4/281.
58ـ الفتنة الكبرى : ص 172.
59ـ العقد الفريد :4/2.
60ـ راجع سير هؤلاء في الاستيعاب وأسد الغابة، وانظر كذلك الطبري والكامل لابن الأثير والبداية والنهاية لابن كثير وشروح البخاري باب مناقب عثمان وتفسير إن جاءكم فاسق بنبأ في كتب التفاسير.
61ـ انظر تفصيله على سبيل المثال في الطبري:3/378 حتى398
62ـ الطبري : 3/381.
63ـ نفس المصدر : 3/456.
64ـ نفس المصدر:3/393، وانظر كذلك 3/425.
65ـ الطبري : 3/379.
66ـ الطبري : 3/450.
67ـ الطبري : 3/450ـ451
68ـ الطبري : 3/477.
69 ـ الفخري لابن طباطبا : ص 60 قال : وهذا تشهد به جميع التواريخ.
70 ـ الطبري : 3/451ـ452، والتفاصيل في كتب التاريخ المعتبرة.
71ـ الكامل لابن الأثير : 6/220،مصر 1356 هجرية.(40/76)
72 ـ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد الشافعي : 2/85ـ86.
3 الإسلام السياسي : إسلامي أم سلطوي ؟
هذه الأحداث التي ذكرناها في الفصل السابق باختصار، هي أهم جزء في تاريخ الإسلام السياسي، ومن هنا فليس بمستغرب أن تكون هي الأعمدة التي قام عليها صرح الفكر الديني الدستوري والسياسي المنسوب للإسلام.
كما أن هذه الأحداث العظيمة كان لها أسوأ الأثر على كيان الأمة الواحدة ـ وهي خير أمة ـ لأنها قسمتها ثلاثة قطاعات : قطاع استولى على السلطة بهذه أو تلك من الطرق التي رأيناها، وبالممارسات التي سجلت لنا بعضها كتب التاريخ والحديث والسير. وقطاع آخر معه شئ آخر كان ينبغي سماعه ودراسته، وهؤلاء حرموا حق التعبير عن أنفسهم في شكل كيان سياسي مستقل وحوصروا إعلامياً وقوطعوا اقتصادياً، ثم قتلوا وشردوا، فبقوا في زوايا التاريخ متمسكين بما عندهم، معارضين لكل النظم، يقولون إن الحق كان مع فريق المعارضين ولم يعط لهم فانهارت الدولة. وقطاع ثالث رأى تنافس القطاع الأول واستئثاره بالسلطة فظل ينظر إلى الكبار وأفعالهم ويأسف لها ولا يبدي رأياً، وساعده على الاعتزال قوة شوكة الكبار من القطاع الأول وعدم إشراكهم له في أمر له فيه حق، وهؤلاء هم العامة من الناس. وظل الوضع على هذا. نعم كان من هم في السلطة يشعرون بخطر المعارضين لكنهم لم يقاوموهم فكرة بفكرة إذ جعلتهم قوة الحكم والسلطان في غير حاجة إلى فكر متين، فأسفر ذلك عن أمور:
الأول: أن الفكر السياسي عند أهل السنة بدأ متأخراً جداً إذا قورن بفكر شيعة أهل البيت الذين بقوا في المعارضة. ولما قرر علماؤنا أن يكتبوا في السياسة والدستور، وجدوا أن هذا العلم قد تبلور واستوى ووضعت مصطلحاته في غفلة منهم على يد أنصار أهل البيت المعارضين. فلما شمروا عن سواعدهم وسيقانهم ليخوضوا في هذا البحر، وتكلموا فيه جاء كلامهم سطحياً وكتاباتهم غير مؤصلة.(40/77)
الثاني: أن ما يسمى عندنا بعلم السياسة الإسلامية ما كان يملك نظرية سياسية واضحة وقائمة برأسها يتخذها أساساً لما يريد أن يتكلم فيه، ومن ثم جاءت كتابات من كتبوا فيه ردود فعل لآراء المعارضين، فبدت كأنها إجابات ـ مجرد إجابات ـ لرد أقوالهم، وسد الخانات بأي شكل وأي كلام. وأول من تكلموا في هذا الفرع من المعرفة بشكل واضح كالماوردي وأبي يعلى وابن العربي المالكي وابن خلدون والجويني وغيرهم عاشوا ما بين القرنين الخامس والسابع الهجريين، وكان الآخرون قد سبقوهم بأربعة قرون على الأقل.
الثالث: أن هؤلاء العلماء لم يحاولوا تقديم نظرية مختلفة، ولكن نحوا منحىً خطيراً للغاية إذ أسسوا كتاباتهم على أربعة أسس:
الأول: المصادقة على الأمر الواقع، واعتبار أن نتائج الأحداث التي وقعت هي عين ما كان ينبغي أن يكون بل هي نظرية الإسلام السياسية.(40/78)
الثاني: أنهم في تأييد ذلك فتشوا في القرآن والحديث عن نصوص فأولوها تارة ولووا أعناقها تارة أخرى ليلائموا بينها وبين الأحداث بصرف النظر عن موقف الإسلام الحقيقي. وهذه العملية التي مارسوها لأسلمة وقائع ونتائج ربما كانت غير إسلامية، أجبرتهم على تفصيل حلل وأثواب من الأدلة الواهية، فأدى ذلك إلى أمرين، الأول: إضفاء القداسة على أحداث التاريخ البشري الخاص بتلك الحقبة، فاعتبرناه عبر أجيال طويلة جزءاً من الدين له قداسته واحترامه بكل ما فيه ولو كان مخالفاً للدين في بعض الأحيان. والثاني: أن كتاباتهم ـ أو دعنا نقول ما قدموه من نظرية سياسية إسلامية ـ جاءت تبريرية تهيئ للحكام ـ كل الحكام صالحهم وفاسدهم ـ أدلة شرعية لتبرير أفعالهم. ولعل لافتة الاجتهاد التي لصقوها على أفعال الحكام جميعاً منذ وفاة النبي حتى العصر العباسي هي أوضح نموذج لهذه الأدلة التبريرية، مع التغاضي عن موقف الإسلام الصحيح خلال كل هذه الممارسة وحملنا هذا كله معنا في أوردتننا وشراييننا، وتناقلته خلايانا الوراثية عبر قرون وقرون، فإذا بالحكام اليوم يرتكبون الأخطاء، ونحن نتساءل : وما حكم الإسلام في هذا ؟ وتجدهم ـ أي الحكام ـ يلجأون إلى المشايخ يطلبون منهم التبريرات، فيخرجون لهم من بطون الكتب ما شاءوا ويفصلون للأفعال غير الإسلامية أثواباً إسلامية مرصعة بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية. هي عملية متصلة منذ قديم،فكما فعلوا في الماضي يفعل أمثالهم في الحاضر. فإن قيل: إن أهل الحاضر يقلدون أسلافهم، قلنا: فمن كان قدوة الأسلاف ؟ إن المسألة معكوسة تماماً ليس فيها تقليد، بل هي مدرسة فكرية واتجاه سياسي توارثناه، لأن طبيعة ما يسمى بالفكر الديني السياسي عندنا تبريرية هدفها التعايش مع الواقع ومع كل الأنظمة أياً كان نوعها.(40/79)
الثالث: أنهم فهموا الشرعية القانونية بفهم سقيم ـ وإن كان له في العصر الحديث من يؤيده ـ فاعتبروا التمكن هو الشرعية، والقيادة المتمكنة هي القيادة الشرعية بصرف النظر عن طريقة تمكنها وأسلوب وصولها. فإن وصل رجل ما ـ أي رجل ـ إلى مركز القيادة، وتمكن من أعنة الحكم فهو حاكم شرعي وقيادة شرعية نتعامل معها على النحو الذي يأمر به الإسلام فيصبح واجبنا السمع والطاعة، ويصبح أسلوب وصوله إسلامياً.وهذا سفه فكري لأن الشرعية في جميع قوانين الأرض والسماء غير التمكن وتقوم على مواصفات إن وجدت أصبح الشيء شرعياً وإلا فلا، مهما بلغ حجم التأييد فيما بعد. لأن وجود الشيء بالفعل لا يعني شرعيته، ولو سلمنا بهذا كان علينا الاعتراف بشرعية كل الأنظمة فهي متمكنة من السلطة، وهذا رأي فاسد. على أن ضمير الأمة ووجدانها الديني والاجتماعي ظل يرفض هذه النظرية ومازال ومن هنا وجدنا في العصور الأولى من كان يعرف اصطلاحاً بالإمام بالفعل de factoوالإمام بالحقde jure فالأول هو الشخص المتمكن من السلطة فعلاً ولديه القوة، والثاني هو الإمام الشرعي الذي كان ينبغي وجوده في السلطة ولم يحصل. وعادة ما كان الناس يوالون الثاني ويحترمونه رغم كونه لا حول له ولا قوة، وأمثلة هذا في تاريخنا كثيرة لا داعي لذكرها فنحن نخشى الإطالة.(40/80)
إن السلطة ـ أي سلطة ـ حقيقة واقعية ملموسة وموجودة أمام الناس بأشكال مختلفة،لكن شرعيتها ليست في مجرد كونها كذلك أو في وجودها الفعلي في حيز الزمان والمكان بل في كونها جاءت بالطريق الشرعي وتمثل الإرادة العامة الحقيقية لأفراد المجتمع، والعقل العام للمجتمع من حيث هو مجموعة آدميين ينتمون إلى نظرية ما. وكان من نتائج اعتبار الشرعية مرادفاً لمجرد الوجود مهما كانت طريقة تحقيق هذا الوجود أن وقع الانفصام بين المجتمع والسلطة على مدى تاريخنا الإسلامي ولازلنا نرى هذا الفصام حقيقة شاخصة أمامنا، لأن المذهب السياسي هو بعينه لم يتغير بعد،ويعتمد ـ كما كان من قبل ـ على المعيار الصوري للشرعية لا المعيار الموضوعي لها. فهناك دساتير رسمية أقرتها وتقرها مجالس نيابية مختلفة، وهناك هيئات تشريعية تسن القوانين وتضع القواعد،وهناك أحزاب وصحف ومنابر لكن هذا كله غير مبني على المعيار الموضوعي للشرعية وهو ما يرتكز على ركيزتين الأولى: أن يكون هذا كله نابعاً من الإرادة العامة للناس أو المجتمع فما أسهل تلفيق الدساتير، وطبخ القوانين وتزوير الانتخابات والاستفتاءات. والثانية ـ وهي الأهم ـ أن تكون خلف كل هذا نظرية هي في ذاتها شرعية، فإن وجدت النظرية الشرعية، أو قل المشروعة، ثم اتخذت إجراءات شكلية لتسيير الأمور لا يتوفر فيها المعيار الموضوعي للشرعية، أدى ذلك إلى مهالك أقلها انفصام المجتمع وعقله العام عن السلطة الحاكمة، فتصبح هي في واد والشعب في واد.(40/81)
الرابع: أنهم وضعوا لأسلمة الأحداث والإجراءات التي رأيناها وإضفاء الشرعية عليها أساساً واهياً هو عدم اعتراض الناس أو عدم اعتراض جمهور العلماء. أي أن سكوت أفراد المجتمع عن شئ يعني شرعيته وهذا أساس مختل لأن أسباب السكوت قد تكثر وتتنوع. فربما سكت الناس بسبب الانفصام بينهم وبين السلطة،أو بحكم القوة أو بفعل الخوف أو الجهل،أو سلبية التعبير عن الرفض أو ربما غير ذلك فهذه علل يمكن أن تظهر في هيئة سكوت، فالسكوت إذن ليس دليلاً على الرضا أبداً. ثم إذا أخذنا بهذه القاعدة الآن كان علينا التسليم بشرعية كل النظم غير الشرعية، لأن الناس أو على الأقل الأغلبية الساحقة ساكتة لا تتحرك ضدها. وأساس السكوت هذا هو ما تعتمد عليه هذه الأنظمة في إثبات شرعيتها للعالم الخارجي، وجلنا يعرف سبب السكوت، ولا يؤمن بشرعيتها.
هذا النقد المختصر لمذهب من كتبوا لنا في السياسة والتاريخ منذ القدم ونسبوا ما كتبوه للإسلام ليس تجنياً عليهم، ولا هو من باب تحويل الحبة إلى قبة بل هو فعلاً منهج مدون مطبق، وفي سبيل إثباته أستعرض هناً بعض آرائهم فيما يخص موضوع الكتاب ـ أي تعيين أو تحديد القيادة أو ما اصطلحوا عليه بالإمامة أو الخلافة ـ وهو موضوع واحد فقط من موضوعات السياسة.(40/82)
فتحديد القيادة أو ـ البيعة ـ حسب اصطلاحهم [ تنعقد من وجهين أحدهما باختيار أهل الحل والعقد، والثاني بعهد الإمام من قبل. فأما انعقادها باختيار أهل الحل والعقد فقد اختلف العلماء في عدد من تنعقد به الإمامة منهم على مذاهب شتى. فقالت طائفة لا تنعقد إلا بجمهور أهل الحل والعقد من كل بلد ليكون الرضا به عاماً والتسليم لإمامته إجماعاً، وهذا مذهب مدفوع ببيعة أبي بكر على الخلافة باختيار من حضرها، ولم يُنتظر ببيعته قدوم غائب عنها. وقالت طائفة أخرى: أقل ما تنعقد به الإمامة خمسة يجتمعون على عقدها، أو يعقدها أحدهم برضا الأربعة استدلالاً بأمرين أحدهما أن بيعة أبي بكر رضي الله عنه انعقدت بخمسة اجتمعوا عليها ثم تابعهم الناس فيها وهم عمر ابن الخطاب وأبو عبيدة بن الجراح وأسيد بن حضير وبشر بن سعد وسالم مولى ابي حذيفة رضي الله عنهم. والثاني أن عمر رضي الله عنه جعل الشورى في ستة ليُعقَد لأحدهم برضا الخمسة، وهذا قول أكثر الفقهاء والمتكلمين من أهل البصرة. وقال آخرون من علماء الكوفة : تنعقد بثلاثة يتولاها أحدهم برضا الإثنين ليكون حاكماً وشاهدين كما يصح عقد النكاح بولي وشاهدين!!! وقالت طائفة أخرى تنعقد بواحد ](1)
وأوضح إمام الحرمين عبد الملك الجويني هذه النقطة فقال: [ لا يشترط في عقد الإمامة الإجماع بل تنعقد الإمامة وإن لم تجمع الأمة على عقدها والدليل عليه أن الإمامة لما عقدت لأبي بكر ابتدر لإمضاء أحكام المسلمين ولم يتأن لانتشار الأخبار إلى من نأى منالصحابة في الأقطار،ولم ينكر عليه منكر،ولم يحمله على التريث حامل.فإذا لم يُشترَط الإجماع في عقد الإمامة، لم يثبت عدد معدود ولا حد محدود فالوجه الحكم بأن الإمامة تنعقد بعقد واحد من أهل الحل والعقد ](2)(40/83)
وقال القرطبي في معرض تفسيره لقوله تعالى ( إني جاعل في الأرض خليفة ) البقرة 30 [ فإن عقدها واحد من أهل الحل والعقد فذلك ثابت .... ودليلنا أن عمر عقد البيعة لأبي بكر، ولم يُنكر عليه أحد من الصحابة ذلك.. ...قال الإمام أبو المعالي: من انعقدت له الإمامة بعقد واحد فقد لزمت، ولا يجوز خلعه من غير حدث وتغير أمر، قال : وهذا مجمع عليه ] (3) وكرر نفس الكلام القاضي عضد الدين الإيجي(4)
[ وأما انعقاد الإمامة بعهد من قبله فهو مما انعقد الإجماع على جوازه ووقع الاتفاق على صحته لأمرين عمل بهما المسلمون ولم يتناكروهما أحدهما أن أبا بكر رضي الله عنه عهد بها إلى عمر رضي الله عنه فأثبت المسلمون إمامته بعهده، والثاني أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عهد بها إلى أهل الشورى فقبلت الجماعة دخولهم فيها وهم أعين العصر اعتقاداً بصحة العهد بها.... والصحيح أن بيعته منعقدة وأن الرضا بها غير معتبر لأن بيعة عمر رضي الله عنه لم تتوقف على رضا الصحابة ولأن الإمام أحق بها ](5)
[ وإن كان ولي العهد ولداً أو والداً فقد اختُلف في جواز انفراده بعقد البيعة ](6) وساق الماوردي في ذلك ثلاثة آراء بعضها يجيز بلا شرط وبعضها يجيز بشرط والحاصل أنه يجوز للإمام عقد البيعة لولده ووالده.
[ فأما عقدها لأخيه ومن قاربه من عصبته ومناسبيه فكعقدها للبعداء الأجانب في جواز تفرده بها ](7) أي لا إشكال فيه.(40/84)
[ ولو عهد الخليفة إلى اثنين أو أكثر ورتب الخلافة فيهم، فقال: الخليفة بعدي فلان فإن مات فالخليفة بعد موته فلان، فالخليفة بعده فلان، جاز وكانت الخلافة منتقلة إلى الثلاثة على ما رتبها ....فقد عمل بذلك في الدولتين (يقصد بني أمية وبني العباس) من لم ينكر عليه أحد من علماء عصره. هذا سليمان بن عبد الملك عهد إلى عمر بن عبد العزيز، ثم من بعده إلى يزيد بن عبد الملك....وقد رتبها الرشيد رضي الله عنه (كذا) في ثلاثة من بنيه: في الأمين ثم المأمون ثم المؤتمن ](8)
وزاد أبو يعلى على هاتين الطريقتين في تحديد القيادة ـ أقصد البيعة ولو من واحد والعهد وما تفرع عنهما ـ طريقة ثالثة إذ نقل عن أحمد بن حنبل قوله : [ ومن غلبهم بالسيف حتى صار خليفة وسُمي أمير المؤمنين فلا يحل لأحد أن يبيت ولا يراه إماماً عليه براً كان أو فاجراً، فهو أمير المؤمنين. وقال أيضاً في رواية المروزي : فإن كان أميراً يعرف بشرب المسكر والغلول، يغزو معه، إنما ذلك له في نفسه ](9)
وإذا ارتاح بعضنا لفكرة أهل الحل والعقد وتخويلهم سلطة اختيار القيادة، فكيف يستريح المرء إذا سأل نفسه : من يا ترى يختار أهل الحل والعقد هؤلاء ؟ هل يجوز للخليفة أن يختارهم ؟ [ يجوز لأنها من حقوق خلافته ](10) وما أكثر حقوق الخليفة فيما يسمى بالسياسة الإسلامية.
وأين الشعب ؟ وما هو دور جماهير المسلمين في هذا ؟ لا شئ، بل [ ولا يجب على كافة الناس معرفة الإمام بعينه واسمه، إلا من هو من أهل الاختيار ](11)!!!
والاسترسال في سرد آراء مشايخنا في هذا الموضوع وإن كان نوعاً من الفكاهة وضرباً من التسلية، إلا أنه بلا ريب مضيعة للوقت، ولذلك أكتفي بهذا القدر.(40/85)
غير أني أراني مضطراً لذكر رأي لهم أكدوا عليه مرات وهم يبحثون عن حل لمشكلة سياسية غريبة تخيلوا إمكان وقوعها وهي : ماذا لو تنازع القيادة اثنان متكافئان في كل الصفات ؟ قالوا: [ يقرع بينهما ](12) ربما لأنه لا يوجد عبد الرحمن بن عوف فيفوز من مال معه. وربما نسي مشايخنا هنا عدل عمر بن الخطاب وحكمه بقتل أحدهما ؟ سألت نفسي ثم تذكرت القرعة وكيف كنا نجعلها وسيلة لفض المنازعات ونحن صبية نلعب في الحارة، وكيف جعلها مشايخنا وسيلة لتحديد قيادة الأمة، وتخيلت معهم قيادة الأمة الإسلامية ـ خير أمة ـ وقد عُينت بالقرعة (كلوا بامية) فضحكت حتى ابتلت لحيتي بدموعي نعم جاء في الحديث الاقتراع بين الزوجات وفي بعض الأمور الأخرى ذات الشأن القليل لكن فقهاءنا قاسوا هذه على تلك وجعلوا القرعة أيضا وسيلة لتحديد قيادة الأمة وهو شئ مضحك.فهم قد فعلوا ذلك في أمر النكاح فقاسوا عقده على عقود البيع والشراء، فانغرس في عقل الناس الباطن هذا القياس الفاسد، وأدى إلى اعتبار المرأة سلعة أو كالسلعة.
ثم هم ـ كما رأيت ـ قاسوا البيعة وتحديد القيادة على عقد النكاح فهان أمرها وانحط شأنها. وليس معنى كون القيادة عقداً بين الحاكم والمحكوم أن يقاس أو يشبه بعقد النكاح، لبعد ما بين المشبه والمشيه به، واختلاف هذه القضية عن تلك، فأي شبه بالله بين العقدين حتى يقاس أحدهما على الآخر؟ وإن صلحت القرعة وسيلة لإرضاء متنازعين ـ عاطفياً ـ في اصطحاب أو سفر أو كرة قدم أو تسابق على أذان أو غير ذلك من أمور صغيرة، كيف تنفع أساساً لحل نزاع دستوري ؟(40/86)
هذه هي بضاعتنا التي نريد العالم أن يتبعها معنا ويترك ما عنده من نظم معقولة مستقرة،ونسميها إسلامية وليست من الدين في شئ إذ لا يسندها سند مقدس بل هي من نحت من كتبوها بعد أن نظروا في ظاهر الأحداث والتغييرات التي طرأت على مجتمعات المسلمين في أدوارهم الأولى فبرروها وألبسوها ثياباً شفافة لم تسترما بها من عورات عيون المبصرين.
فهذه الآراء التى عرضننا بعضها آنفاً تعني في بساطة أن أية مجموعة من المسلمين من خمسة أو ثلاثة، بل إن واحداً أيضاً يجوز له أن يحدد قيادة الأمة بمبايعته لهذا أو ذاك، وتصبح بيعته هذه ملزمة لا تُنقض، ويتحدد برأي واحد أو ثلاثة أو خمسة مستقبل الأمة. وتجوز البيعة أيضاً بالعهد اقتداءً بأبي بكر وبني أمية وبني العباس،لأنها إن كانت لا تجوز بهذا الطريق كانت هذه النظم باطلة، ومؤسسوها أعز علينا وأقدس. ويجوز لواحد أن يحدد مستقبل الناس والدولة لقرون طويلة إذا ولّى من بعده بالعهد أكثر من واحد على التوالي، ولا حد ولا عد، لأن بني أمية وبني العباس فعلوا ذلك ولم يعترض عليهم علماء عصرهم !! ولا يهم رضا الناس ولا عقل الأمة ووجدانها وإرادتها لأن ذلك لم يلزم لإمضاء بيعة أبي بكر وعمر. ويجوز التأمرعلى الناس بالسيف أو بالدبابة والصاروخ والجيش بعد تقدم التكنولوجيا الحربية ومن ثم فالانقلابات العسكرية من صميم الإسلام أسوة بما فعل معاوية. وطوبى للمسلمين لأن إسلام المشايخ يأمرهم بالسمع والطاعة للفاجر والظالم والفاسق والسارق إذا تأمر عليهم بأي طريق فهو أمير المؤمنين. أما الشعب والأمة والجمهور فلا دخل له في هذه الأمور، وحرام عليه أن يتكلم في السياسة إذ لا يلزمه على شريعة مشايخنا أن يعرف قيادته ولا إمامه بعينه وشخصه واسمه لأن هذا حق أهل الاختيار، أو الحل والعقد وهو اصطلاح لم يؤت به من كتاب ولا سنة واختلفوا هم أنفسهم فيه حتى جعل ابن خلدون بني أمية أهل الحل والعقد.(13)(40/87)
وأهل الحل والعقد يختارهم وينتقيهم الخليفة على عينه، وهم بدوره يختارونه، لأن الخلافة أصلاً شئ ضئيل القدر، وهي من المصالح العامة المفوضة إلى نظر الخلق، ولم تكن مهمة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم.(14)
ولا أدري لماذا لم يلفت نظر مشايخنا الكثير من الأحاديث التي كان من الممكن الاستضاءة بها أثناء تدون ما يسمونه بالفكر السياسي أو الدستوري في الإسلام رغم كثرة هذه النصوص مادامت القيادة مسألة اجتهادية متروكة لنظر الخلق. خذ لذلك مثلاً تحريم الانقلابات العسكرية كوسيلة لتحديد القيادة ما رواه العالم السني الجليل السيد محمد بن عقيل العلوي إذ قال : [ جاء في الصحيح عن رسول الله أنه قال : ستة لعنتهم ولعنهم الله وكل نبي مجاب: الزائد في كتاب الله، والمكذب بقدر الله، والمتسلط بالجبروت فيعز من أذل الله ويذل من أعز الله، والمستحل لحرمة الله، والمستحل من عترتي ما حرم الله والتارك لسنتي. أخرجه الترمذي عن عائشة وابن عساكرعن ابن عمر](15)
ولماذا نستسيغ الكم الهائل من الأحاديث التي روتها الكتب الستة وغير الستة في تحريم الثورة على الحاكم وإن كان فاجراً فاسقاً، وتلقين الناس السمع والطاعة للنظم والحكومات أياً كانت، وحض المسلمين على أن لا يخوضوا في الفتن ـ أي الخلافات السياسية ـ وأن يلجأوا إلى رؤوس الجبال أو يعضوا على جذع شجرة، ويصبروا كي لا يموتوا ميتة جاهلية، وهي أحاديث مروية في أبواب الفتن والإمارة والأمر بلزوم الجماعة وغيرها من الأبواب في الصحاح والمسانيد، وهو ما جعل المسلمين أرانب مستأنسة ؟(40/88)
لا، أنا لا أنكر الحديث، بل أفرق بين حديث رسول الله عليه وآله الصلاة والسلام وبين كتب ومجموعات الأحاديث، لأنها لم تصنف وترتب إلا في أواخر القرن الثاني وأوائل القرن الثالث الهجري، بعد ظهور الفرق وسيطرة من لم يكن له حق في السيطرة، وبعد تغير الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية. ولا أرى ضرورة لتقديس الأشخاص، لأن التاريخ عندنا امتزج بالحديث، وكتاب التاريخ في أغلبهم محدثون وهم ـ أي علماء الحديث ـ حين وضعوا كتبهم إنما وضعوها كل وفق رأيه الشخصي ومعتقداته الذاتية التي لا يلزم الناس اتباعها. فهم كأهل التاريخ لم يسمحوا لنا بقراءة ما خالف رأيهم. ومن أجل معرفة رأيهم لا ينبغي إغفال العناصر المؤثرة في تشكيل المناخ الثقافي لكل عالم على حدة في ضوء دراسة طبيعة النظم التي عاشوا تحتها، وعلاقتهم بحكومات عصرهم، ووضعهم الاجتماعي والاقتصادي وموقف الأنظمة التي عاشوا في ظلها من أهل الحق من المعارضين ومن العلماء الصادقين، إلى آخر ذلك من العوامل التي لا بد من أخذها في الاعتبار عند تقييم العمل العلمي والعلماء، لأن من حقنا أن نسأل لماذا لم يرو هذا أو ذاك شيئاً من الأحاديث ضد الحكومة التي كانت عليه ولماذا روى منها ما يدعم سلطانها، ويثبط الناس عن الثورة ؟ على أن رأيي هذا ليس بالطبع عاماً، ولا أتهم أحداً وإنما أشير فقط إلى أن عملية تدوين الأحاديث والتاريخ ينبغي أن تدرس بأسلوب الباحثين لا المعجبين بكل ما هو موروث، فليس كل ما ورثناه صحيحاً،وليس كل من ترك لنا كتاباً ينبغي أن نقدسه هو وكتابه.(40/89)
ولئن كان القرآن قد نص على أن هذا الدين سيظهره الله على الدين كله فالمؤكد أن هذا لا ينطبق على ما يسمى بالفكر السياسي الديني بالطريقة المدون بها هذا الفكر عندنا، لأن الموجود بين يدينا من هذا الفكر قد لا يصلح للظهورعلى حارة أو مدينة وعلينا أن نعيد فيه النظر ونصل إلى شئ محدد في قضايا علم السياسة ونقدمه للناس بطريقة مقنعة، لأن العالم لا يقبل شيئاً بمجرد مدحنا نحن لهذا الشئ بل ينظر ويعقل ـ وهو في القرن الحادي والعشرين ـ ويقارن ثم يتخذ موقفاً ويصدر قراراً. والذين كتبوا في موضوعنا في العصر الحديث غالباً ما اعتبروا الشورى قاعدة انطلقوا منها في تصوير نظام الحكم في الإسلام، لكنهم تغافلوا عن شكل الشورى كما طبقه الأوائل، ومالوا إلى الشكل الغربي الديمقراطي الحديث مع أن الشورى كما مارسها الأوائل ما كانت غير استشارة نخبة النخبة ـ لا كل النخبة والصفوة ولا كل المسلمين ـ استشارة غير ملزمة، لا قيمة لها ولا معنى.
وإن كان من فصلوا الدين عن السياسة أو جعلوا نظام الحكم في الإسلام مسألة اجتهادية متروكة لاستصواب الناس ـ مثل مصطفى عبد الرازق في كتابه الإسلام وأصول الحكم ـ قد انتهوا إلى تفضيل النظام الديمقراطي الغربي على اختلاف بينهم في الدرجات، فإن الذين دافعوا عن النظرية الإسلامية ولم يفرقوا بين الدين والسياسة انتهوا إلى نفس النتيجة على اختلاف بينهم في الألوان، والسبب في وحدة النتائج رغم اختلاف المشارب ـ كما يتهيأ لى ـ يرجع إلى طبيعة المذهب نفسه إذ يخلو كما ذكرت من شئ محدد نمسكه في يدنا بثقة. يقول أحد أعضاء الفريق الثاني:
[ فالحكومات التي تجمع في حصيلتها من دلائل الرضا أكثر من أمارات السخط هي خير الحكومات وأرشدها وأصلحها(16)(40/90)
[ إن الحاكم أياً كان من العدل والاستقامة وسلامة القصد لن يبلغ من المحكومين موضع الرضا المطلق فذلك غاية لا تدرك، وخير الأحوال فيه كما قلنا أن تتعادل كفتا الرضا والسخط في ميزان حكمه، وأحسن من هذا أن ترجح كفة الرضا على كفة السخط، أما أن يحوز رضا الناس كلهم فذلك ما لا ينال أبداً ](17)
ولأن المسائل السياسية عندنا مبهمة غير واضحة تقول فيها الأقدمون برأيهم كما تقول المحدثون، فهمنا أن المسلمين في حاجة إلى إعادة صياغة فكرهم السياسي أو على الأقل تحديد الأمور الأساسية فيه.
يقول الدكتور طه حسين وهو يناقش الأزمة الدستورية التي واجهها المسلمون بعد وفاة النبي:
[ كان المسلمون في حاجة إلى أن ينشئوا لأنفسهم في حدود القرآن والسنة دستوراً مكتوباً يبين الحدود والأعلام، يعصمهم من الفرقة والاختلاف ....فلم يُتح للشيخين وأصحابهما من الوقت ولا من الفراغ والدعة ولا من التطور والاتصال بأسباب الحضارة ما كان من شأنه أن يمكنهم من وضع هذا النظام، إنما السبي علىالذين جاءوا بعدهم فأتيحت لهم السعة والدعة والفراغ، ولم يفكروا مع ذلك في أن يضعوا نظاماً لتداول الحكم ولا في أن يضعوا نظاماً يكفل رعاية العدل السياسي والاجتماعي، وإنما أهملوا ذلك إهمالاً، وآثروا أنفسهم بالحكم والغلب والاستعلاء ](18)
لكن أجيالنا تنكرت لهذه النداءات التي أطلقها كثير من الباحثين، وبدلاً من أن نعكف على دراسة ما نحن فيه وما تحتاجه مجتمعاتنا حقاً، إذا بنا نضع أصابعنا في آذاننا ونسير في الاتجاه المعاكس لنقدس أوثاناً وأصناماً نحتها لنا قدماء المشايخ على هيئة اصطلاحات ألزموا أعناقنا الخضوع لها فصرنا نسجد لها ونطالب المسلمين في كل مكان بالسجود لها، وإلا فهم رفضة مارقون. ومن الأصنام في عصرنا ما نُحت بتوجيه أجنبي خفي أو جلي في شكل كتب أو أشخاص أضفينا عليهم القداسة واعتبرنا ما يقولونه وحياً منزلاً.(40/91)
ولا أرى ـ إن كان من حقي أن أرى ـ علاجاً لما نحن فيه إلا إتاحة جو عام من التفكير والنقاش العلمي وطرح المعطيات والمقدمات باستقلال، ثم بعد ذلك استخلاص النتائج، معنا كانت هذه النتائج أم علينا. نحن في حاجة إلى ثورة في أسلوب التفكير قبل ثورة الفكر وثورة التنفيذ لأننا لا نعرف حتى الآن كيف نتعامل مع الفكر وكيف نفكر وما ينبغي أن نكون عليه من فكر، وفي غياب كل هذا نتصرف فإذا بتصرفنا كتصرف رهبان الكنيسة في عصورها الوسطى بل وأسوأ.
إن الانقسام الذي نراه بيننا، والفصام الذي نعايشه بين السلطة والشعب وبين القيادة والقاعدة، وإن كان واقع المسلمين الناطق وحاضرهم التعيس، إلا أنه عتيق له جذور تمتد إلى ذلك العهد البعيد حين اختلف سلفنا الصالح واقتتلوا على القيادة ثم ساهم المسلمون عبر القرون الطويلة بصمتهم وتركوا السوس ينخر في الجذور، وقتلوا الأطباء، وقاطعوا كل دواء.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- الأحكام السلطانية للماوردي ص 4 - 5.
2- الإرشاد للجويني ص 242 ، مصر 1369 هجرية.
3- الجامع لأحكام القرآن للقرطبي : 1/268-272 ، مصر 1387 هجرية.
4- المواقف : 8/351-353 ، مصر 1325 هجرية.
5- الماوردي ص 8.
6- نفس المصدر ونفس الصفحة.
7- الماوردي ص 9.
8- نفس المصدر ص 11.
9- أبو يعلى ص 4.
10-نفس المصدر ص 10.
11- الماوردي ص 13 ، أبو يعلى ص 11.
12- أبو يعلى ص 9 ، السياسة الشرعية ص 27.
13- المقدمة ص 206.
14- نفس المصدر ص 212-213.
15- النصائح الكافية ص 29 الطبعة الرابعة 1966 بدون مكان.
16- الإمامة والخلافة لعبد الكريم الخطيب ص 149 لبنان 1975 ، وانظر الخلافة والملك وتدوين الدستور الإسلامي للمودودي.
17- الإمامة والخلافة ص 197.
18- الفتنة الكبرى ص 41-42.(40/92)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
4 انقسام الأمة وانقسام القيادة
لاحظنا في الفصول السالفة كيف تحددت قيادة الأمة بعد وفاة مؤسسها خمس مرات يمثل كل منها نموذجاً مختلفاً عن غيره، ولاحظنا كذلك ما أملته الطبيعة البشرية على كبراء الجيل الأول فاختلفوا واقتتلوا، إذ تصرفوا في الأمرـ بعد إهمال الضوابط والنصوص ـ كما يتصرف البشر، فانتهى الحال إلى استئثار قريش بصالحها وطالحها بقيادة الدولة وراحت الغلطة الصغيرة الأولى تكبر وتكبر إلى أن انتهت الدولة في مدة وجيزة.
[ ذلك أن قريشاً فهمت قول أبي بكر (في السقيفة) على غير ما أراده هو وعلى غير ما فهمه أصحابه في ذلك الوقت فاستيقنت أن الإمامة حق لها لا ينبغي أن يعدوها إلى غيرها وأنه حق لها لمكانتها من النبي. وقد كانت قريش في هذا الفهم خاطئة متكلفة ما في ذلك شك ولو قد صح فهمها وتأويلها لظهرت عليها حجة بني هاشم ولكان بنو هاشم أحق المسلمين بالإمامة ما استطاعوا أن ينهضوا بأعبائها...ومهما يكن من شئ فقد نشأت هذه الأرستقراطية القرشية فجأة على غير حساب من الناس وكانت أرستقراطية قد غُلط بها، أراد أبو بكر أن تكون الإمامة في المهاجرين ما وجد بينهم الكفء القوي على النهوض بها، فحولت قريش ذلك فيما بعد إلى منافعها وعصبيتها وخرجت بذلك عن أصل من أصول الإسلام ] (1)(40/93)
وليس في اعترافنا بغلبة النفس البشرية وطبائعها وميولها على رجال الجيل الأول ونسائه واقترافهم أخطاء سياسية وغير سياسية لأسباب ودوافع بشرية ما يخرجنا من الملة لأن [ أمور الحكم إنما تستقيم حين يكون التعاون والتضامن بين الحاكمين والمحكومين في الأصول التي يقوم عليها النظام، فليس يكفي أن يكون الحاكم يقظ الضمير مؤثراً للعدل مصطنعاً للمعروف حريصاً على رضا الله كافياً بعد ذلك لمشكلات السياسة خراجاً منها إذا ادلهمت، وإنما يجب أن يكون لرعيته حظ من الضمير الحي اليقظ ومن حب العدل وإيثار المعروف والحرص على رضا الله وهذه هي المشكلة الأولى التي واجهها النظام الجديد.فلم يكن العرب كلهم أصحاب رسول الله بل لم تكن كثرة العرب قد صاحبت النبي واتصلت به، وإنما كان أصحاب رسول الله كالشعرة البيضاء في الثور الأسود أو كالشعرة السوداء في الثور الأبيض ولم يكن إيمان العرب بالدين الجديد مطابقاً أو مقارباً لإيمان هذه الطبقة من أصحاب النبي، وإنما كان من العرب من حسن إيمانه ومنهم من أسلم ولم يؤمن ....بل كان من العرب من جرت كلمة الإسلام على لسانه ولكنه احتفظ بجاهليته كاملة في قلبه ونفسه وضميره....فلم يكن هناك توازن بين الحاكم والمحكوم....وأخرى لا ينبغي أن ننساها ولا ينبغي أن يضيق بها المتحرجون الذين يغلون في حسن الظن بالإنسان وهي أن هذا الضمير الديني الحي اليقظ قد يتعرض للفتنة والمحنة وقد يلقى أخطاراً كثيرة من الأحداث والخطوب فما أكثر ما يخلص الإنسان نفسه وقلبه وضميره للحق والخير والعدل والإحسان ثم تلم به أسباب الفتنة وتلح عليه وتسرف في الإلحاح حتى تضطره إلى أن يتأول في بعض الأمر، ثم ما يزال ينتقل من تأول إلى تأول ومن تعلل إلى تعلل ومن تحلل إلى تحلل حتى ينظر ذات يوم فإذا بينه وبين الإخلاص الأول أمد بعيد ....فليس من الغريب في شئ أن يتعرض كثير من الصالحين ومن أصحاب النبي أنفسهم لأسباب الفتن ودواعي الغرور،(40/94)
وأن يطرأ عليهم من الأحداث والخطوب ما يباعد بينهم وبين عهدهم الأول حين كان الإسلام غضاً وحين كانوا يتصلون بالنبي مصبحين وممسين ](2)
هذا رأي رجل فاهم. لكني لا أتفق بحال مع الأستاذ عبد الكريم الخطيب فيما ذهب إليه من أن الصحابة خاضوا المعارك التي خاضوها فيما بينهم وهم على غير يقين من صحة تصرفاتهم أو خطئها، واستشهاده بموقف سعد ابن أبي وقاص من علي بن أبي طالب وبموقف الزبير أيضاً حين تحول واعتزل قتاله بل إني لا أتفق معه أبداً حين يقول : [ هذه المعارك التي دارت بين المسلمين في موقعة الجمل وفي صفين وفي الحروب الكثيرة التي جاءت بعد ذلك مع الخوارج والأمويين والعلويين والعباسيين، هذه المعارك كلها كانت باسم الدين ولحساب الدين ](3) فهذا رأي لا يستبين به حق من باطل. ونحن حين نرى في أفعال هؤلاء رأياً لا ينبغي أن نخرج من تحليل مواقفهم وآرائهم كما هي مدونة في التاريخ إلى أبعد من ذلك، لا لأنهم في منزلة بين البشر والملائكة بل لأن الإسلام يمنع السباب عامة .
يقول الأستاذ المودودي :(40/95)
[ وهناك فرق أساسي بين نظرتي ونظرة الآخرين في هذا الأمر كثيراً ما يسيئون بسببه فهم موقفي. فالناس يفهمون أن العظيم لا يخطئ أبداً وأن من يخطئ فليس عظيماً ومن ثم لا يريدون أن يقال عن أي فعل من فعال العظماء إنه خطأ، إلى جانب أنهم يظنون أن من يقول عن فعل من فعال العظماء إنه خطأ لا يعتبرهم عظماء. أما رأيي ونظرتي فعلى عكس هذا. فعندي أن أي فعل صادر عن عظيم ـ غير الأنبياء ـ يمكن أن يكون غلطاً ومع ذلك يظل العظيم عظيماً. ولا أقول بخطأ فعل من فعال عظيم من العظماء إلا عندما يثبت لدي بالوسائل والطرق الموثوق بها أنه خطأ وعندما لا يمكن تأويل فعله بأي دليل معقول. غير أني حين أرى ـ مع هذا الشرط ـ أن فعلاً من فعاله غلط أقول إنه غلط وأقف في نقدي عند هذا الحد.وفي رأيي أن العظيم لا تتأثر عظمته بهذا الخطأ ولا ينقص احترامه أو يقل فإني لا أرى ضرورة على الإطلاق لإنكار الأخطاء الواضحة التي أخطأها من أعتبره عظيماً فأداريها وأسويها وأخفيها أو أثبت صحتها بالتماس تآويل لها غير معقولة وغير منطقية لأن النتيجة المحتومة للقول عن الخطأ إنه صواب هي انقلاب معيارنا وتبدل مقياسنا للصواب والخطأ، واجتماع كافة الأخطاء التي أخطأها مختلف العظماء فرداً فرداً وتراكمها فينا. فإخفاء ما هو ظاهر وساطع سطوع الشمس ـ في رأيي ـ لا يكون فيه نجاح وفلاح بل انحراف وزلل آخر ](4)
ويقول الدكتور طه حسين :(40/96)
[ أما نحن فلسنا نعاصرهم ولا نشاركهم فيما شجر بينهم من الخلاف وليس من المعقول لذلك أن نقحم عواطفنا في أمرهم إقحاماً وإنما سبيلنا أن ننظر في أعمالهم وأقوالهم من حيث صلتها بحياة الناس وأحداث التاريخ، وأن نخطئ من نخطئ ونصوب من نصوب منهم من هذه الجهة وحدها دون أن نقضي في أمر دينهم بشيء فإن الدين لله، ودون أن نستبيح لأنفسنا أن نقول كما كان يقول أنصارهم وخصومهم هؤلاء مؤمنون وهؤلاء كافرون وهؤلاء في منزلة بين بين، وهؤلاء في الجنة وهؤلاء في النار، ذلك شئ لا نخوض فيه وليس لنا أن نخوض فيه، وإنما أمره إلى الله وحده. فأما الذي إلينا فهو أن نتبين من أعمالهم وأقوالهم ما يلائم الحق والعدل والصواب وما لا يلائمه وهذا في نفسه كثير ولكن لابد مما ليس منه بد ](5)
فالوقائع التي قرأناها على الصفحات الماضية لا يصح أن نسميها فتنة لكي نلقي بالتبعة على من يبتلي الناس بالفتن ونبرئ ذمة أشخاص نعزهم ونجلهم، كما أنها لم تكن ـ كما مر من قبل ـ لله وفي الله، ولا فعلوها وهم لا يدرون من أمر أنفسهم شيئاً، ولا هي ـ كما قال كثير في القديم والحديث ـ اجتهاد، فذلك كله مراوغة ومدافعة وإنما هي أخطاء وانحرافات ارتكبوها بطبيعتهم البشرية التي ألهمها خالقها فجورها أولاً قبل تقواها.
هذه الأخطاء حين تراكمت أدت إلى انقسام مزدوج في بناء الدولة وكيانها لم يلتئم منذ ذلك اليوم إلى هذا اليوم الذي نحن فيه، فهو قد وقع في القيادة كما وقع في النسيج الاجتماعي المكون من أفراد الأمة.(40/97)
فأما الانقسام الذي وقع في القيادة فهو الأساس والأخطر لأن انقسام الأمة والناس لم يكن في الحقيقة إلا نتيجة له. ولأن الإسلام دين شامل كان لابد من كون القيادة التي تنفذه كاملة مستوعبة لجميع جوانب نظريته الواسعة فتقود الحرب وتفقه الدين وتدير الدولة وتخط السياسة وتعلم أسرار الدين وتفهم الشريعة وتشبع الأرواح وتحق الحق ولا تحابي قريباً أو نسيباً وتحفظ أموال الناس وتسوي بين أفراد المجتمع، قيادة تكون باختصار على مستوى النظرية التي تأسست عليها الدولة وتكون أعلم بهذه النظرية وأفهم. وكان مؤسس الدولة المختار من الله والمحاط بوحيه وعنايته خير نموذج للقيادة المطلوبة لكونه نبي الله المرسل لتطبيق هذه النظرية، فلما توقف بوفاته كان لا بد من أن تحل محله قيادة أشبه به وأقرب إليه من غيرها وأفهم الموجودين للنظرية وأعلمهم بها كي تضمن سير الدولة الوليدة في الخط الذي وضع لها.لكن ما حدث كان خلاف هذا فلقد كانت الدولة تحتاج إلى من هو أفضل ولا شك في أفضليته لأن الدول المؤسسة على نظريات فكرية تحتاج إلى الاستمرار فترة على نفس خط المؤسس حتى تستقر لها الأمور، وقد رأينا كيف تم تحديد القيادة بعد المؤسس مرات وكيف لعبت المصالح الشخصية والعصبيات القبلية دورها في كل هذه الأحداث، فأخذ الانحراف الأول البسيط ينتقل بالدولة والناس خطوة بعد خطوة حتى انتهى الأمر إلى ما رأينا وإذا بخير أمة أخرجت للناس يقودها بعد الخلفاء الأربعة أشد الناس عداوة للإسلام وآخرهم دخولاً فيه وأقلهم معرفة برسول الله وأكثرهم تطاولاً عليه من الملاعين وأبناء الملاعين والمطاريد وأبناء البغايا والعاهرات(6)(40/98)
ولأن هذه الأشكال لم تكن صالحة للقيادة جامعة لمواصفاتها انقسمت القيادة في ثلاثة اتجاهات متفرقة كان من المفروض أن تجتمع في شخص واحد : الجانب القانوني المتعلق بالشريعة وأحكامها والجانب الروحي والجانب السياسي، وتفرقت هذه الاتجاهات عن بعضها واستقل بكل جانب منها قيادة لا تجمع الثلاثة في آن واحد.فاستقل بالجانب القانوني من عرفوا بعد ذلك بالفقهاء ثم انحصر مفهوم الشرع على يديهم في المعنى الفقهي الاصطلاحي الضيق لأن هؤلاء طلقوا السياسة وساحوا في الأرض يعرفون الناس بأحكام الشرع وأمور الدين التي انتهج كل منهم في فهمها وشرحها وجهة شخصية لما فهم هو من الدين. نعم أدى هؤلاء الفقهاء خدمات علمية بارزة لكن تفرق علمهم في الناس مع كونهم ليسوا بأعلم من في الأمة أدى إلى اختلاف الناس باختلاف آراء الفقهاء، وشهد تاريخ الأمة نشأة وانقراض أفقهة كثيرة تبعاً لكل من خاض في هذا المضمار، ثم انقرض أغلبها لظروف سياسية وبقي منها ما نعرفه اليوم .
وأما الجانب الروحي فلم يجد من هؤلاء في الغالب حظاً من الاهتمام فاستقل به من اهتم بشئونه وغلبتهم همومه فانقطعوا عن الدنيا، واصطُلح على تسميتهم فيما بعد باسم الصوفية. صحيح جرت محاولات لربط الجانبين الروحي بالفقهي كما فعل أبو حامد الغزالي لكن محاولته اقتصرت على الجمع بين الجانبين القانوني والروحي وبقيت بعيدة عن الجانب السياسي أو قد أهملته إهمالاً.(40/99)
هذا وذاك ـ أعني الجانب القانوني والجانب الروحي ـ يمكن أن نطلق عليهما مجازاً القيادة الدينية مع أنها تسمية غير دقيقة وبقي الثالث ـ السياسي ـ وهو ما انفرد به من لا علم لهم بالشرع ولا بالروح وعوالمها ومقاماتها وأحوالها، وغالباً ما أخذ بزمام الأمور في هذا الميدان أسوأ الناس في تاريخ الأمة وإن قذف المقدور بنفر معدود من الصالحين إلى كراسي الحكم لم يحاولوا الجمع بين جوانب القيادة المتفرقة فكانوا كضوء خاطف وسط الظلام ظهر ثم انقضى سريعاًً ربما قبل أن يدرك الناس وجوده.
ساد الأمة إذن فصام بين القيادة الدينية بجانبيها القانوني والروحي وبين القيادة السياسية فانفصلت هذه عن تلك وتنفر هؤلاء من أولئك وكثيراً ما تحول هذا الفصام إلى صراع وعداوة.(40/100)
[ ظل النفور والتصادم ـ أو على الأقل عدم التعاون ـ السمة الغالبة على ما بين القيادتين من علاقة، فالقيادة السياسية قليلاً ما كانت تساعد القيادة الدينية في القيام بواجبها كما أن القيادة السياسية لم تقبل إلا قليلاً من العون الذي كانت القيادة الدينية تقدمه لها لأن الثمن الذي كان عليها أن تدفعه للقيادة السياسية نظير مساعدتها لها ما كان إيمانها ولا ضميرها يرضى بدفعه،وكذلك كان الناس أنفسهم قليلاً ما يثقون فيمن اقترب من أفراد القيادة الدينية من السلاطين أو نال منهم منصباً أومنحة أوعطاءً فأضحى معيار أهلية القيادة الدينية وصلاحيتها في نظرهم انقطاعها واستغناءها عن الحكام وصمودها أمام غضبهم وقهرهم وبأسهم فإن شذ أحد أفرادها عن هذا المعيار نظر الناس إليه نظرات ثاقبة شديدة وامتنعوا عن الاعتراف بعظمته اللهم إلا إذا رفض المساومة والمهادنة على أمر الدين رغم قربه من الحاكم، بل إن نفس من كانوا يبيعون أنفسهم للقيادة السياسية ـ فضلاً عن عامة المسلمين ـ ما كانوا ليقبلوا إماماً وزعيماً دينياً يبيع نفسه للحاكم مثلهم أو يحرف أحكام الدين تحت ضغط القوة والجبر. هكذا انفصل طريق القيادة الدينية عن القيادة السياسية منذ منتصف القرن الأول الهجري ](7)
ونحن وإن لم نتفق مع كل مفردات هذا التحليل إلا أننا نستشهد به على وقوع الفصام في القيادة والشعب منذ القرن الأول الهجري بل وما قبله. هذا الانقسام ظهر في عهد الصحابة وأمام أعينهم حتى وجد في الدولة الإسلامية ثلاثة خلفاء مبايعين في آن واحد [ فكان مروان بن الحكم خليفة مبايعاً في الشام ومصر وعبد الله بن الزبير خليفة مبايعاً بالحجاز والبصرة والمختار الثقفي خليفة مبايعاً في الكوفة ](8)(40/101)
فما إن استقر الملك لبني أمية حتى راح يتداول الحكم في الأمة من لا دين لهم ولا خلق، ثم امتدت سلسلتهم إلى يومنا هذا. فلئن كانت مشكلة تحديد القيادة قد أدت إلى أن يوجد في جيل الصحابة وعلى رؤوسهم وفوق كرسي دولتهم من استحل حرمات الله والناس فأحرق الكعبة وضربها بالمجانيق واستباح مدينة الرسول لجنده فاغتصبوا نساءها من صحابيات وتابعيات حتى أن [ الرجل من أهل المدينة بعد ذلك كان إذا زوج ابنته لا يضمن بكارتها ويقول لعلها افتضت في وقعة الحرة ](9) [ وحبلت ألف امرأة في تلك الأيام من غير زواج ](10) فإن نفس المشكلة التي لم تُحل بعد قد سلطت على رقاب المسلمين في مختلف العصور من ارتكبوا ويرتكبون ما هو أكثر من ذلك لأن المشكلة بعينها لم تزل، وما النظم الحالية في ديار المسلمين إلا امتداد لذلك النظام القديم مربوطة به بحبل وثيق.
أما انقسام الأمة الذي جاء نتيجة انقسام القيادة فكان له صور وأشكال وظهر واضحاً في أكثر من مجال.ففي
المجال الاجتماعي والاقتصادي اندثرت المؤاخاة التي سوي بها المؤسس تسوية تامة بين أفراد المجتمع ونتأت مكانها طبقات غير متساوية هنا وهناك [ فوجدت طبقة الأرستقراطية العليا ذات المولد والثراء الضخم والسلطان الواسع ووجدت طبقة البائسين الذين يعملون في الأرض ويقومون على مرافق هؤلاء السادة ووجدت بين هاتين الطبقتين المتباعدتين طبقة متوسطة هي طبقة العامة من العرب الذين كانوا يقيمون في الأمصار ويغيرون على العدو ويحمون الثغور ويذودون عمن وراءهم من الناس وعما وراءهم من الثراء وهذه الطبقة هي التي تنازعها الأغنياء ففرقوها شيعاً وأحزاباً ](11)(40/102)
وفي مجال الفكر والعقيدة انقسم المسلمون فرقاً لأن التذبذب الذي عاشوه جعل أمور الفكر والاعتقاد موضع بحث ونقاش، فنشأ لكل فريق من الجيل الأول حماة ومعارضون ونشأت فرق أخرى إما كرد فعل لبقية الفرق أو بوحي من السلطان وإشارة، فإذا بالنسيج السوي يتمزق قطعة قطعة وإذا بالفكر مشتت والعقيدة مختلف في تفاصيل أمورها ومسائلها، وإذا بعامة الناس منفصلة عن صراعات الفكر ودوامات الفرق وازدادت الشقة بين الفرق وبعضها فاعتبرت كل منها نفسها الناجية دون غيرها. ولما رأى العامة ذلك انكب كل فرد على مصالحه وشأنه فأعطى ما لقيصر لقيصر وما لله لله مؤثراً السلامة تاركاً مساندة الحق ولو كان يعرفه.
وأتصور ـ إن كان ذلك من حقي ـ أن السبب في الانحراف الذي اتسع ثم الانقسام الذي وقع أن الدولة الإسلامية ـ وهي دولة فكرية ـ تحتاج إلى مرجع يضم في صدره علماً يقينياً محدداً ويعرف التفاصيل وتتوفر فيه خصال العلماء والساسة والزهاد والعباد فيكون أقرب إلى الشخصية الكاملة، شخصية المؤسس.هذا المرجع تكون له هيمنة المشرف على شئون الدولة كي لا يتلاعب بها متلاعب أو يتأول قانونها متأول أو يتحلل منه متحلل. مرجع يكون الفيصل إذا نشبت والقائل بكلمته إذا الأمور ادلهمت لما له من علم شامل واسع بما لم يطلع عليه غيره وقد وُجد هذا المرجع فعلاً وبهذه المواصفات فكان إماماً يسلم الكل بإمامته ويحتاجون إلى رأيه ويلجأون إليه في المعضلات حتى حفظت لنا كتب التاريخ رأيهم فيه إذا واجهوا مشكلة ثم صار هذا الرأي فيما بعد مثلاً يجري على ألسنة الناس ( معضلة ولا أبا الحسن لها ).
لكنهم مع هذا ـ ورغم وجود المرجع بينهم واستشارتهم له ـ لم يجعلوا لرأيه إلزاماً فكانوا يستحسنونه ثم يتحررون فيعملون به أو لا يعملون ومن هنا وقعت المخالفات لأنهم سلموا للمرجع بمنزلته ولم يضعوا في يده سلطة التنفيذ فصار رأيه بلا وزن هذه واحدة.(40/103)
والثانية أن من وصلوا إلى سلطة الدولة الوليدة ما كانوا يصلحون للمرجعية والإمامة وإن صلح بعضهم لبعض مهام الحكم، فلما سارت الدولة برأي الجهاز التنفيذي متحررة من سلطة المرجع كانت كدولة بلا مرشد وسفينة بلا ربان فوقع ما وقع.
وإذا تذكرنا أن قواعد وضوابط الدولة ونظام الحكم وتفاصيل الأمور لم تكن تكتب آنذاك أدركنا ضرورة وجود من يعرفها ويعلمها علم اليقين ومن ثم فالنص عليه من قبل الله ورسوله أمر طبيعي لكونه الأعلم والأشجع والأقرب إلى المؤسس والألصق به. وعلى هذا فرأي الشيعة له وزنه وما يعاضده.
وإذا تذكرنا أيضاً أن منفذ سياسة الدولة وبرامج حكومتها لا يشترط فيه أن يكون الأعلم وإن اشترط له العلم،ولا يشترط له ما يشترط للمرجع كان عدم تعيينه والنص عليه بشكل قاطع وترك اختياره للناس ـ مادام هناك من يضمن سير الدولة على الطريق المرسوم وله سلطة إعطاء الضوء الأخضر والأحمر ـ أمراً مفهوماً وبالتالي فرأي أهل السنة صحيح وفق ما لديهم من خلط بين المناصب والمراتب فالإمام عندهم هو الخليفة ورئيس الجهاز التنفيذي في الدولة لأن الاصطلاحات عندهم ـ كما قلت ـ سائحة مخلوطة.
وقد لا يعجب هذا الكلام أهل التشيع أو بعضهم، وقد يضيق به أهل التسنن أو جلهم لكنه رأي مبني على مفهوم كل من الفريقين لمنصب القيادة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- الفتنة الكبرى ص 36-38.
2- الفتنة الكبرى ص 31 ، 39 ، 40.
3- الإمامة والخلافة ص 132-133.
4- الخلافة والملك ص 208-209 ، الكويت 1978.
5- الفتنة الكبرى ص 41.
6- راجع سيرة مروان بن الحكم وابن أبي سرح وسعيد بن العاص والحكم بن العاص وزياد بن سمية وعبيد الله بن زياد وغيرهم في كتب السير.
7- الخلافة والملك ص 137.
8- الفخري في التاريخ ص 86.
9- نفس المصدر ص 84.(40/104)
10- البداية والنهاية لابن كثير 8/372 ، 219 ، 221 مطبعة السعادة ، مصر.
11- الفتنة الكبرى ص 109.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
5 الرأي الآخر
رأينا فيما طوينا من صفحات هذا الكتاب كيف عينت القيادة وفق مبدأ الشورى، وما تخلل هذا من ثغرات دستورية، ورأينا كذلك النتائج التي أدت إليها المخالفات والانحرافات وأهمها سوء صياغة الفكر الديني السياسي عندنا، وانقسام القيادة والناس في فرق وشعب.
وكأني برجل يشيح بيده في وجهي ويصرخ : كفاك يا عم لقد أسمعتنا ما نكره، فماذا عن الآخرين الذين عارضوا.
قبل أن نفحص ما عند الآخرين أراني مضطراً لأن أقف وقفة عند لفظ واحد من الألفاظ الاصطلاحية التي يستخدمها الآخرون ويثير في نفوسنا اشمئزازاً لا مبرر له كلما سمعناه أو قرأناه لأنه ارتبط عندنا ـ كغيره من الاصطلاحات ـ بمعنى آخر، فصارت أحرفه تعطينا إحساساً منفراً لأننا ـ كالعادة ـ لم نبحث عن مدلولاته في كتب القوم وتراثهم بل استسلمنا لكتابات أعدائهم القدامى والجدد واتكأنا عليها لنقيم عنهم رأياً وعقيدة، فكنا كمن استفتى الرئيس الأمريكي في الشيوعية دون أن يلتمس النظرية في كتبها الأصلية وكتب المعتدلين من مفكريها، وهذا عندي ـ وعند كثير غيري ـ يخلو من النزاهة والإنصاف. أنا أتحدث عن العصمة، فليس في مصطلحات القوم لفظ أكثر من هذا اللفظ تنفيراً لأهل السنة.(40/105)
لم يؤثر عن الصحابة الكلام في عصمة الأنبياء، بل لا نجد لهذا المعنى ذكراً في حياة الرسول نفسه، والشيعة أول من تكلموا فيه، ثم جاء علماء السنة فيما بعد واضطروا للبحث فيه لرد مقولات الشيعة. فأما عصمة الأنبياء فالخلاف فيها بين الطرفين ليس بواسع لأن السنة يسلمون بها للأنبياء على خلاف بينهم في أنها مطلقة أم في حدود الرسالة فقط ؟ وليس في هذا الكتاب مجال مناقشة اختلافات أهل السننة في حدود عصمة الأنبياء. إنما الخلاف الأساسي بين المذهبين هو في كون غير الأنبياء معصومين أم لا. فأهل السنة لا يرون من الناحية النظرية غير الأنبياء معصومين، أما الشيعة فيؤمنون بعصمة اثني عشر إماماً فقط بين جميع البشر يتصل وجودهم الزمني منذ وفاة النبي عليه وآله الصلاة والسلام حتى سنة 255 هجرية.
لكن عصمة غير الأنبياء عند الشيعة ليست كعصمة الأنبياء إذ ليس ثمة وحي ولا نبوة إنما العصمة في هذه الحالة موهبة يمنحها الله ولطف منه يجعله في فطرة بعض النفوس والأرواح المختارة نظراً لاستعدادها الذاتي فتمتنع عن مقارفة الذنوب كبيرها وصغيرها إلا السهو والنسيان وما شابه ذلك لشدة تمسكها بالشرع واتباعها الدقيق للأحكام.هي إذن حالة ذهنية ونفسية خاصة تنتج عن الالتزام بالأوامر والنواهي إلتزاماً قائماً على العلم اليقيني.هذا الالتزام يقع من أنفس يهبها الخالق استعداداً فطرياً مطابقاً ومن ثم ينعدم احتمال صدور الخطأ عن هذه الأنفس.هذا ما فهمته من مطالعة تعريفات مختلفة ذكرها علماؤهم.
نعم غالى بعضهم في هذا كما غالى في أشخاص الأئمة إلا أن هذا مردود بأقوال الأئمة أنفسهم وبكتابات المعتدلين من الشيعة فلا اعتبار إذن لأقوال الشواذ والغلاة.
وقد وافق رأي ابن خلدون ـ وهو من المعارضين للشيعة ـ رأيهم في العصمة بالمعنى الذي ذكرته لكنه فتح الباب فيها لجميع المؤمنين الصادقين ولم يقصرها على اثني عشر شخصاً، فقال :(40/106)
[ إن المطلوب من التكاليف كلها حصول ملكة راسخة في النفس يحصل عنها علم اضطراري للنفس هو التوحيد وهو العقيدة الإيمانية وهو الذي تحصل به السعادة وأن ذلك سواء في التكاليف القلبية والبدنية ويتفهم منه أن الإيمان الذي هو أصل التكاليف وينبوعها هو بهذه المثابة ذو مراتب أولها التصديق القلبي الموافق للسان وأعلاها حصول كيفية من ذلك الاعتقاد القلبي وما يتبعه من العمل مستولية على القلب فيستتبع الجوارح وتندرج في طاعتها جميع التصرفات حتى تنخرط الأفعال كلها في طاعة هذا التصديق الإيماني وهذا أرفع مراتب الإيمان وهو الإيمان الكامل الذي لا يقارف المؤمن معه صغيرة ولا كبيرة إذ حصول الملكة ورسوخها مانع من الانحراف عن مناهجه طرفة عين كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ....ومعناه أن ملكة الإيمان إذا استقرت عسر على النفس مخالفتها شأن الملكات إذا استقرت فإنها تحصل بمثابة الجبلة والفطرة وهذه هي المرتبة العالية من الإيمان وهي في المرتبة الثانية من العصمة، لأن العصمة واجبة للأنبياء وجوباً سابقاً، وهذه حاصلة للمؤمنين حصولاً تابعاً لأعمالهم ](1)
فإن جازت العصمة بهذا الشكل لكل المؤمنين فكيف نعيب على الشيعة اعتقادهم بعصمة أهل بيت النبي الذين أذهب الله الرجس عنهم وطهرهم تطهيراً ؟ أو تشمئز قلوبنا لقولهم بعصمتهم.(40/107)
ولئن كان أهل التشيع قد عصموا اثني عشر إماماً فحسب من سلالة النبي، فإن أهل التسنن عصموا مئات الألوف من الصحابة بما في ذلك الفسقة والبغاة بنص القرآن كالوليد بن عقبة ومعاوية وأبي سفيان وأشباههم. صحيح لا يقول أهل السنة بهذا في كتبهم صراحة، لكن الشعور العام والأصول الفقهية التي وضعوها لاستخراج الأحكام الفقهية في جميع مذاهبهم تقوم على العصمة الفعلية وافتراض أن كل ما يصدر عن الصحابي ـ وهو عندهم من رأى رسول الله ولو برهة ـ صواب لاحتمال سماعه أو رؤيته شيئاً في ذلك من رسول الله.
ولقد تنازع الطرفان موضوع العصمة كما تنازعا غيره، واعترض كل منهما على معتقدات الآخر وحاول كل فريق منهم تأييد موقفه على النحو المفصل في كتب العقيدة والكلام.
لكني أعتقد أن مسألة العصمة مسألة سياسية تشريعية بالدرجة الأولى وأننا إذا حاولنا فهمها بهذا الاعتبار استساغتها العقول الواسعة ولم تجد فيها ما قد يوحيه اللفظ المجرد من سياقه السياسي والتشريعي. ما علاقة العصمة بالسياسة إذن ؟
يعتقد المسلمون في كل مكان أن الإسلام وكتابه يقيني لا ريب فيه كما هو معلن من البداية [ ذلك الكتاب لا ريب فيه ] (البقرة 2) فانتفاء الشك والريب يقتضي وجود معصوم بعد النبي يعلم ما في الكتاب من صغيرة وكبيرة علماً يقينياً ييسر تطبيقه ويعصم الناس من الخلاف لأن النبي لم يفسر القرآن قبل موته ولم يترك في كل حال مستجد أمراً بل هناك من الأمور ما وقع بعد النبي واختلف الناس فيه لعدم وجود شئ فيه.
ولأن عملية التشريع عملية مستمرة متواصلة لكونها مرتبطة بالأحداث والمستجدات، لذا وجب أن تكون القيادة على يقين فيما تقول وتفتي به لأنها لو أخطأت فسدت على الناس حياتهم.(40/108)
ثم إن الله أمر بطاعة القيادة فقال : [ يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم ] (النساء 4) فنص على أن أولي الأمر تجب طاعتهم كما يجب أن تكون أحكامهم وأوامرهم ونواهيهم موافقة للشرع مطابقة لأحكام الدين لأن هذا هو شرط الطاعة وأساسها. ومطابقة أوامر ونواهي وأحكام أولي الأمر للدين لا تتم إلا بعصمتهم لأن ولي الأمر إذا أخطأ وجب إصلاحه والإنكار عليه وهذا يتناقض وأمر الله بطاعته. ويختلف الشيعة عن السنة في تفسير معنى أولي الأمر ، فهم يرون المقصود بأولي الأمر الأئمة الإثني عشر من آل البيت في حين يرى أهل السنة أنهم الحكام في كل عصر. فتفسير الشيعة لأولي الأمر يفتح الباب أمام الإطاحة بالحاكم وإسقاط الأنظمة اتساقاً مع طبيعة فكرهم الذي صاغوه وهم كما قلت في المعارضة المضطهدة، في حين يغلق تفسير أهل السنة لنفس اللفظ كل باب أمام الثورة على الحاكم بل يجعل طاعة الحكام أمراً من الله لا ينبغي مخالفته وهو تفسير يتسق مع فكرهم السياسي التبريري المصاغ على أساس الاعتراف بكل الأنظمة والحكام كما رأينا. وهذه النقطة تفتح لك باب موضوع شائك آخر هو تأثير معتقدات الفرق ـ وجميعها نشأ بعد النبي بزمان ـ على تفسير النص القرآني.(40/109)
ولم أجد من علماء أهل السنة أشد على الشيعة وعقائدهم من ابن تيمية وفخر الدين الرازي، لكني وجدتهما قد سلما بالعصمة باعتبارها ضرورة سياسية وتشريعية واضطر كل منهما لأن يعصم أحداً ما فانتقل الخلاف من كونه على مبدأ العصمة نفسه إلى خلاف على شخص المعصوم أو من ينبغي أن يكون معصوماً. فابن تيمية سلم بضرورة عصمة أهل التواتر من الصحابة (2) لأن أحكام الشرع تروى عنهم بينما عصم الرازي أهل الحل والعقد لأن من أمر الله بطاعته لابد من كونه معصوماً. ولما كان الرازي يخالف الشيعة في تفسيرهم لمعنى أولي الأمر بالأئمة، فسرها هو بأهل الحل والعقد, ففي تفسيره للآية يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم (النساء 4) قال ما نصه : [ إن الله تعالى أمر بطاعة أولي الأمر على سبيل الجزم في هذه الآية ومن أمر الله بطاعته على سبيل الجزم والقطع لابد وأن يكون معصوماً من الخطأ، إذ لو لم يكن معصوماً عن الخطأ كان ـ بتقدير إقدامه على الخطأ ـ يكون قد أمر الله بمتابعته، فيكون ذلك أمراً بفعل ذلك الخطأ، والخطأ لكونه خطأً منهي عنه، فهذا يفضي إلى اجتماع الأمر والنهي في الفعل الواحد بالاعتبار الواحد وأنه محال. فثبت أن الله تعالى أمر بطاعة أولي الأمر على سبيل الجزم، وثبت أن كل من أمر الله بطاعته على سبيل الجزم وجب أن يكون معصوماً، فثبت قطعاً أن ولي الأمر المذكور في الآية لابد وأن يكون معصوماً....ووجب أن يكون ذلك المعصوم الذي هو المراد بقوله وأولي الأمر: أهل الحل والعقد من الأمة ](3)
ولا أدري من أين جاء مفهوم أهل الحل والعقد في هذه الآية ليس فقط في جيل الصحابة بل في الأمة كلها وطبعاً في كل زمان ومكان !!(40/110)
على أي حال هكذا يمكن أن نفهم أن العصمة موضوع سياسي في أساسه تعددت بشأنه آراء الفرق والمذاهب الإسلامية كل حسب موقفه من أحداث أزمة القيادة التي واجهتها الدولة بعد وفاة مؤسسها. بل إن البحث في عصمة الأنبياء لم يشغل مفكرينا كما شغلهم البحث في عصمة السلطة السياسية والتشريعية في الدولة الإسلامية، أما المبدأ نفسه ـ مبدأ عصمة غير الأنبياء ـ فمما اضطروا للتسليم به.
ونحن إذا ألقينا نظرة خاطفة على المذاهب السياسية في الفكر البشري شرقاً وغرباً رأيناها تقول بالعصمة وإن اختلفت أشكالها فلقد عصم اليونان الحاكم كما عصمه الرومان والفراعنة، وعصمه الفارابي في مدينته الفاضلة وعصمه فلاسفة الألمان مثل هيجل وفيخته وعصمه أتباع المذهب الديكتاتوري. بل إن النظم الديمقراطية المعاصرة تعصم الأغلبية فالقرار الذي تتخذه هو الصواب مشابهين في ذلك من عصم نخبة أهل الحل والعقد أو الإجماع أو التواتر أو غير ذلك لكن السؤال الذي يظهر برأسه أمامنا هنا : هل قرار الأغلبية دائماً على صواب ؟ فإن قلنا نعم كذبتنا تجارب القرون، وإن قلنا لا وقعنا في ورطة لأننا نكون قد سلمنا بوجوب العصمة ولم نحدد بعد من ينبغي أن تكون له العصمة.
لا فرق إذن بين الشيعة وغيرهم من المذاهب كل ما هنالك أن عدد المعصومين عندهم قليل محدد وعند غيرهم ـ خاصة أهل السنة ـ كثير لا حد له وسائح لا شكل له ومتفرق لا اتفاق عليه.
وأعود بعد هذا الاستطراد إلى بداية حديثي عن الرأي الآخر:(40/111)
هم يعتقدون أن مؤسس الدولة عيّن القيادة قبل انتقاله إلى ربه وأوصى بها إلى أفضل وأعلم من في الأمة بعده وهو الإمام علي بن أبي طالب وأن القادة بعده تم تشخيصهم وتحديدهم بأسمائهم وشخوصهم أيضاً وهم بقية الأئمة الإثني عشر من بيت النبوة الطاهر الذي اختاره الله لرسالته ووضع فيه العلم والنبوة ، ويوردون في هذا نصوصاً جمة موجودة كلها في كتبهم وكتب أهل السنة فليرجع إليها طلابها.
ولما كان تحدبد القيادة بالطرق التي رأيناها خلافاً لهذه النصوص لذا كان ذلك تعدياً على حق من عينه الرسول لهذا المنصب بعده. وباصطلاح عصرنا يعتبرون حكومة من حكموا قبل علي بن أبي طالب وبعده حكومة غير دستورية لأنها قامت على غير الدستور ( الوصية ) الذي تركه النبي كما تولاها مفضولون كان في الناس أفضل منهم مما أدى إلى انهيارها ولذلك لا يجوز الشيعة ولاية المفضول مع وجود الأفضل.
وأهلية الأئمة القادة من أهل البيت ترجع إلى عصمتهم واختيارهم من جانب القائد المؤسس، وعلمهم الشامل بتفاصيل الدين كما علمهم إياها جدهم فليس ثمة من يفضلهم علماً ونسباً وطهراً والتعدي على حقهم في القيادة ودفعها إلى من هم أضأل علماً وأقل فهماً هو السبب الرئيسي عند الشيعة في الانحراف الذي طرأ على النظام السياسي وجر الدولة والناس إلى المصير الذي نعرفه.
وليس في هذا التسلسل طابع وراثي إذ النظام الوراثي يقوم على إسناد الحكم للعائلة بأفرادها من حيث هم عائلة مالكة تربطهم وشيجة النسب أما أئمة أهل البيت فمعيار اختيارهم بأشخاصهم هو أعلمية كل منهم في عصره وأن الوراثية بينهم هي وراثية العلم الذي وضعه الله في كل منهم وأطلع عليه رسوله ولذلك لم تنتقل الإمامة من أب لابنه الأول ثم الثاني وهكذا وفق النظام المعروف في النظم الملكية القديمة والمعاصرة بل استثني منها كثيرون يحق لهم تولى السلطة في ظل أي من هذه النظم .(40/112)
ويعتقد الشيعة أن سلسلة الأئمة المحددين لقيادة الأمة انتهت بغياب آخرهم المهدي عليه السلام عام 255 هجرية ثم أوصى الأئمة بأن تكون القيادة بعدهم للعلماء المجتهدين الذين تتوفر فيهم الشروط من علم وعدالة وشجاعة وكفاية وغيرها. فالقيادة عندهم مرت بمرحلتين الأولى حُددت فيها القيادة بعد النبي والثانية تُرك فيها الخيار للأمة مع وضع مواصفات خاصة وشروط عامة ينبغي توافرها فيمن يتصدى للقيادة, هذه الشروط تكاد تطابق ما عند أهل السنة حسب ما أوضحه من كتبوا في هذا الموضوع من عدالة وعلم وسلامة حواس وسداد رأي وبصيرة سياسية وشجاعة(4) فكل هذا مما لاخلاف عليه. غير أن أهل السنة اشترطوا في الإمام ـ ومفهومه عندهم مائع كما قلت ـ أن يكون قرشياً، وهذا شرط يصعب تطبيقه في عصرنا، أما الشيعة فقد فهموا المراد من القرشية أهل البيت لأنهم أفضل بيت في قريش وهو ما يسلم به أهل السنة، لكنهم لم يشترطوها في المرحلة التالية لمرحلة الأئمة، وجعلوا القيادة في هذه المرحلة للأشجع الذي يتصدى لها ويقوم ضد النظام الفاسد بشرط أن يكون جامعاً للشروط الأخرى التي ذكرناها ومذهبهم هنا في تطبيق شرط القرشية مرن واقعي إذ من الصعب في عصرنا تطبيق هذا الشرط، وإصرار أهل السنة عليه راجع إلى اعترافهم بكل الأنظمة وطبيعة وجهة نظرهم التبريرية التي تحكمت في صياغة فكرهم السياسي كما أسلفنا، فالخلفاء الراشدون كانوا من قريش وبنو أمية وبنو العباس كانوا قرشيين ولأن أهل السنة يعترفون بشرعية وإسلامية هؤلاء جميعاً ـ وكلهم من قريش ـ لذا رأوا القرشية شرطاً مفسرين بذلك حديث [ الأئمة من قريش ].(40/113)
وهم ـ أي الشيعة ـ يقولون بأن الاختيار والشورى قد يصلح في المرحلة الثانية بعد وفاة المؤسس لا الأولى، لأن الدول التي تنشأ عن طريق ثورات تسقط أنظمة وتقيم مكانها نظماً ثورية إنما تمر بثلاثة أدوار : دور التأسيس ويمتد بحياة المؤسس، فإن انتقل إلى ربه بدأ الدور الثاني وتحتاج الدولة فيه إلى قيادة تكون مستوعبة للنظرية التي قامت عليها الدولة فتطبقها حتى ترسخ جذورها فلا يخشى عليها من العواصف والأزمات الدستورية والسياسية ـ وهم هنا أشبه بما في الفكر السياسي المعاصر من القول بحكومة الحزب الواحد في الأنظمة الثورية ـ بعدها يمكن أن تنتقل الدولة إلى الدور الثالث راسخة دعائمها، قوي بناؤها، محددة أمورها. وفي هذا الدور الثالث يمكن إطلاق حرية الأحزاب أو التعددية أو الديمقراطية أو غير ذلك من الأشكال التي تكفل الاختلاف السياسي في داخل إطار النظرية الأساسية التي قام عليها نظام الدولة. أما إذا انتقلت الدولة بعد وفاة المؤسس إلى المرحلة الثالثة مباشرة بما فيها من حرية وقبل ترسيخ المفاهيم والفكر وممارسة نظرية نظامها وهو ما يتم في المرحلة الثانية، وقفت في مهب الريح، فإن هبت عاصفة سياسية أو دستورية اقتلعتها من جذورها وأطاحت بنظامها وبنائها، وهذا ما حدث للدولة الإسلامية.
هكذا نرى أنهم لا يرفضون الشورى ـ إذا كان معناها حرية اختيار القيادة ـ لكنهم يجعلونها في مرحلة معينة كما أوضحت سابقاً.
وهم يلزمون العامة بتقليد العلماء المجتهدين في المجتمع من أجل منع الفوضى الفكرية والقانونية، ويأخذون بنظام المجتهدين الأحياء فلا يجوز عندهم تقليد المجتهدين الأموات الذين لا يدرون ما يحدث من تغييرات ومستجدات تتطلب أحكاماً وحلولاً شرعية.(40/114)
وفي نفس الوقت تنص نظريتهم على أن القيادة أو الثورة أو عملية قلب النظام الفاسد إذا تصدى لها عالم مجتهد جامع للشروط، ووُجد معه في نفس الوقت مجتهدون غيره وجب عليهم تأييده لا منازعته، وبهذا يضمن نظامهم صعود قيادة واحدة إلى القمة مع وجود صف ثان وثالث من الصالحين للقيادة، فإذا انتقل القائد إلى ربه وُجد في الدولة من يقودها.(5)
غير أن الفكر الشيعي بعد عام 255 هجرية وبعد انتهاء سلسلة الأئمة مر بعدة تقاعسات كان أخطرها ما انزلق فيه أتباعه من تعطيل للحياة وذلك لأنهم فسروا اصطلاح الإمام بأنه الإمام المهدي، فإن قيل لا حج إلا بإمام كان معنى ذلك الانتظار إلى حين ظهور المهدي، وكذلك الحال في بقية أحكام الدين حتى جاء الإمام الخميني رحمه الله وأصلح الفكر الشيعي ورأى أن المقصود بالإمام هنا إمام الدولة أو من ينوب عن إمام أهل البيت في غيابه، أي هو الفقيه الجامع للشرائط لأن القيادة في مرحلة ما بعد عصر الأئمة الإثني عشر آلت إلى العلماء المجتهدين.
نعم هناك أصوات في تاريخ الفكر الشيعي نادت بنفس المقولة لكنها كانت أصواتاً خافتة إذ نادت بذلك وهي خارج السلطة أما الخميني فقد أثمرت فكرته ـ أياً كان الموقف منه ومنها ـ لأنه تمكن من إسقاط نظام وإقامة نظام جديد أمسك هو فيه بعنان الحكم ومن ثم اكتسبت آراؤه قوة من قوة الحكم والسلطان، وتعرف نظريته هذه بولاية الفقيه أي أن تكون للفقيه المجتهد الجامع للشروط المفترض توفرها في القيادة الولايةُ العامة على أمور الدولة، فيسير أجهزتها الخبراء المختصون بينما يشرف عليها العلماء ليضمنوا سلامة سيرها وعدم مخالفة التكنوقراطيين وأهل الخبرة المدنية لمبادئ وأحكام الشرع ومع ذلك خالف بعض كبار علماء الشيعة هذا الرأي مخالفة نظرية لم تصل إلى حد تشكيل حركة عملية مضادة.(40/115)
على أي حال فإن ما يهمنا ذكره هنا أنه وإن اختلف أهل السنة مع الشيعة على الموقف الذي ينبغي وقوفه من الدور الأول بعد وفاة المؤسس فلا ينبغي لأحد أن يتعامى عن أمور :
الأول: أنه في ضوء حقائق التاريخ المدونة لم ينجح النظام السياسي الذي أقيم بعد وفاة النبي في أن يشق بالدولة طريقاً واضحاً مرسوماً وذلك للثغرات البشرية التي لا بد من أننا فهمناها خلال مطالعة االصفحات الماضية من هذا الكتاب.
الثاني: أن بقاء الفريق الآخر بما عنده من فكر سياسي ـ أياً كان ـ خارج الحياة ومقاطعتنا لأهله وما عندهم بتضليل من مؤسسات السلاطين الخائفين ومشايخ الأبلطة قد حرمنا فرصة الاطلاع على الرأي الآخر وفهم وتقييم ما عنده.
الثالث: أن الفكر السياسي عند كل من السنة والشيعة لم يصمد أمام التجربة العملية المعاصرة في قيام الدولة بدرجات مختلفة ولأسباب مختلفة كما سترى في نقدنا لفكر الشيعة الديني السياسي في الباب القادم.
رابعاً: أن الخلاف وإن كان عميقاً بين الفريقين حول فترة ما بعد المؤسس، إلا أن فكر الشيعة السياسي الحديث لم أجد من عقلاء أهل السنة الفاهمين يرفضه اللهم إلا من كان منه ذلك لدوافع مادية وأسباب تجارية يعرفها الراسخون في العلم بهذا الميدان. أما من الناحية النظرية فلا أجد في مذاهب أهل السنة ما يمنع من إقامة نظام المجتهدين أو الأخذ بنظرية ولاية الفقيه.
والواقع أن الفكر الإسلامي في العالم السني يعاني بين ما يعاني من مشكلة أخرى مرتبطة بمشكلة القيادة ارتباطاً قوياً وهي مشكلة شكل التحرك.
فإطار الحركة كما في ذهن المتحمسين شيوخاً وشباباً لم يخرج خلال تجاربهم في العصر الحديث عن واحد من ثلاثة:(40/116)
الأول: الانقلاب العسكري فذلك مما يؤمن به الكثيرون أسلوباً لتنفيذ ما يعتقدونه نظاماً إسلامياً وهؤلاء لم يفهموا قطعاً طبيعة الإسلام ومبادئه ولذلك فشلت جميع محاولاتهم من هذا النوع في باكستان والسودان.
الثاني: العمل السري وقد جربه المؤمنون به ولم ينجح إضافة إلى أنه ناتج عن جهل تام بالدين نصاً وروحاً ولم يسفر إلا عن دمار وخراب لا حد له وقد أضر بالدين نفسه على نحو لم يشهده تاريخ الإسلام في أي عصر من عصوره.
الثالث: التحرك على طريقة الأحزاب السياسية العاملة في النظم البرلمانية وهي الحفرة التي وقعت فيها الجماعة الإسلامية بباكستان ولم تخرج منها منذ عام 1941 بل أوقعت فيها غيرها من الجماعات كالإخوان المسلمين في مصر منذ عام 1985وهو ما لا مجال لذكره هنا. والسالكون هذا الطريق يعاملون الإسلام كما يُعامل حزب الليكود أو العمال أو المحافظين هنا وهناك إذ الإسلام عندهم يمكن تطبيقه عن طريق البرلمانات وقنوات الأقلية والأكثرية وهذا في ذاته دليل خلل عقلي وجهل ديني لا مجال لشرحه في هذا المقام شديد الاختصار.
هذا الغبش كله راجع في أصله إلى عدم وضوح الرؤية فيما يتعلق بالقضايا الأساسية وعلى وجه الخصوص ما يتصل بالنظام السياسي ومن ثم يمكن القول في اطمئنان بأن الفكر السياسي عند أهل السنة قديماً وحديثاً يعاني من نقاط ضعف كثيرة لم تعالج منذ قرون وإن المناداة بتطبيق هذا الفكر ـ بما هو عليه وكما بيناه ـ لن يكون غير كارثة اجتماعية وسياسية.(40/117)
ولا أعني بفكر أهل السنة الذي يحتاج إلى إعادة نظر ما جاء من آيات أو أحاديث تحض على العدل والمساواة بين الناس والحكم بالقسط وما إلى ذلك بسبيل فهذه كلها نصوص عامة توجد أمثالها في الأديان الأخرى بل وفي فلسفات البشر عبر أدوار التاريخ، إنما أعني به ذلك الصرح الضخم الذي بناه أصحابه من القدماء والمحدثين على أساس تآويل لهذه النصوص قد لا تصح والتمسوا له تفاسير لا يعلم حالها إلا الله واستنبطوا له مبادئ وقوانين لم تكن في أصلها وفصلها إلا آراء بشر كونها أصحابها في عصور تختلف عن عصرنا ومجتمعات غير مجتمعاتنا متأثرين في ذلك بما يحفهم من ظروف اجتماعية وسياسية واقتصادية غير ما نحن فيه وبالتالي فتفاسيرهم لهذه النصوص لا تعكس إلا وجهات نظر شخصية وتجارب فردية لا يمكن التسليم بها في كل عصر ومصر على أنها القول الفصل والتفسير النهائي لنصوص لا يعلم تأويلها إلا الله.
أما الفكر الديني السياسي عند الشيعة فمشكلته من نوع آخر كما سنرى في الفصل القادم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) المقدمة : ص 461ـ462.
(2) المنتقى من منهاج الاعتدال للذهبي:409ـ419، مصر1374هجرية.
(3) مفاتيح الغيب : 3/241ـ242،مصر1308 هجرية وقد مر رأينا في أهل الحل والعقد فراجعه.
(4) الماوردي : ص 4، أبو يعلى : ص 4(40/118)
(5) المعلومات الواردة في هذا الباب مأخوذة من : أصل الشيعة وأصولها لآل كاشف الغطاء، عقائد الإمامية لمحمد رضا المظفر، الشيعة في الإسلام للطباطبائي، معالم المدرستين لمرتضى العسكري، الحكومة الإسلامية للخميني، الأمة والإمامة للدكتور علي شريعتي، خلافة الإنسان وشهادة الأنبياء للشهيد باقر الصدر، الإمامة حتى ولاية الفقيه لعبد الحسين بقال، بين ولاية الفقيه وحكم الشعب لحسن طاهري، نظرية الإمامة عند الشيعة الإثنى عشرية للدكتور أحمد محمود صبحي، لمحة فقهية للشهيد باقر الصدر، المذهب السياسي في الإسلام من منشورات وزارة الإرشاد بإيران، مع الشيعة الإمامية لجواد مغنية.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
6 نقد الفكر السياسي عند الشيعة
رأينا كيف صاغ الشيعة فكرهم السياسسي قديماً وحديثاً وكيف جاء هذا الفكرـ في الإطار الديني والسياق التاريخي ـ أكثر معقولية من فكر أهل السنة.وهذا النضج السياسي مرده كما قلت إلى أنهم جلسوا في مكان المعارضة قروناً فصاغوا آراءهم وفلسفتهم على مهلهم وحبكوها في تؤدة.
غير أن ما رأوه من رأي سياسي في القديم ودعموه بأدلة من القرآن والسنة والحجج المنطقية ربما كان أقوى مما استدل به أهل السنة على آرائهم لكنه هو الآخر علهم لا ينزلقون فيما انزلق فيه أهل السنة من حفر كالتي أشرت إليها في فصول هذا الكتاب ، إلا أنه واجه صعوبات حين دخل مرحلة التطبيق.(40/119)
فالفكر السياسي القديم عند الشيعة لم يفرق بين الإمامة ورئاسة الجهاز التنفيذي في الدولة والممثل في شخص رئيس الجمهورية، لكن فكرهم الحديث فرق بين المنصبين على نحو واضح فحل بذلك واحدة من أهم معضلات الفكر السياسي في الإسلام دون جدال وهذا ما يكتب في التاريخ لأطروحة ولاية الفقيه. ومع هذا فولاية الفقيه لم تحظ بإجماع ديني من قبل مراجع الشيعة وكبار مجتهديهم بل خالفها الكثير منهم. وربما كان ما صادفه تطبيقها من مصاعب هو ما أساء إليها وأخفى بريقها.
فلئن كان تمرسهم السياسي عبر التاريخ جعلهم لا ينزلقون فيما انزلق فيه أهل السنة من حفر كالتي أشرت إليها في فصول هذا الكتاب، إلا أن فكرهم واجه أزمته الحقيقية حين وصلوا به إلى السلطة وأقاموا على أساسه دولتهم في العصر الحديث.
فالفكر السياسي القديم عند الشيعة لم يفرق بين الإمامة ورئاسة الجهاز التنفيذي في الدولة والممثل في شخص رئيس الجمهورية، لكن فكرهم الحديث فرق بين المنصبين على نحو واضح فحل بذلك واحدة من أهم معضلات الفكر السياسي في الإسلام دون جدال وهذا ما يكتب في التاريخ لأطروحة ولاية الفقيه.(40/120)
ومع هذا فولاية الفقيه لم تحظ بإجماع ديني من قبل مراجع الشيعة أو حتى بتأييد أغلب مجتهديهم بل خالفها أكثرهم. وربما كان فشل تطبيقها هو ما أساء إليها وأخفى بريقها النظري. فحين طُبقت بشكل سيئ جعلت الدولة ـ التي كان من المفترض أن يسيرها الخبراء تحت إشراف إمام عالم مرجع ـ دولة يسيطر رجل الدين فيها عالماً وغير عالم على جميع مناصبها الهامة مع استثناءات قليلة لأن المنفذين وضعوا في كل مكان في الدولة من يعرف [ بمندوب الفقيه ولي الأمر ] أي الذي له الولاية على الدولة، ولما كان رجل الدين غير ملم بكثير من الأمور التي تفرضها الحياة اليومية الحديثة أثناء التعامل مع مختلف القضايا في شتى الميادين المندرجة تحت عنوان [ إدارة الدولة ]، التف حوله أهل التزلف والتزويق فحسنوا له القبيح وقبحوا الحسن فأدى ذلك إلى أخطاء عطلت نظام الدولة وشوهته ونفرت الناس وأبعدتهم عن الدين كله.
والمثير أن الفكر السياسي عند الشيعة في العصر الحديث واجه وضعاً مماثلاً لما واجهه المسلمون الأوائل إذ لم يترك المرجع الديني الأعلى في الدولة وصية لأحد بتولي الولاية العامة على شئونها بعده، فعين المسيطرون السيد علي الخامنئي مخالفين بذلك أكبر أصل من أصول عقيدتهم الدينية والسياسية إذ لا يجوز عندهم ولاية المفضول مع وجود الأفضل، ولم يكن السيد علي االخامنئي ـ مع كامل احترامنا لشخصه ونضاله الطويل ـ أفضل الموجودين بل كان مفضولاً في العلم، وكان هناك ومازال من يفضله في تولي هذا المنصب الروحي والديني والسياسي العام الذي يمكنه من الإشراف الكلي على شئون الدولة وبهذا سمح الفكر الشيعي السياسي الحديث بمبدأ سني وقام عليه. فالفكر السني يجوّز ولاية المفضول مع وجود الأفضل وهو أمر مرفوض في عقائد الشيعة وعلى أساسه يرفضون ولاية أبي بكر وعمر وعثمان لأنها تمت رغم وجود الأفضل وهو علي بن أبي طالب.(40/121)
ثم إن ما قيل لدعم تولية الخامنئي هو أن الإمام الخميني رحمه الله سئل ذات يوم في إحدى المناسبات عن إدارة الدولة ومن يصلح لها فقال أليس فيكم الخامنئي؟ وهذه عبارة لا تصلح دليلاً يحتم تولية الخامنئي مرجعاً عاماً للدولة كما لا يفهم منها وصية الإمام إلى إمام بعده بل هي عبارة تشبه إلى حد كبير [ مروا أبا بكر فليصل بالناس ] وهي العبارة التي يرفضها الشيعة دليلاً على تفضيل أبي بكر. وحتى لو قبلنا عبارة الخميني في حق الخامنئي فهي تصلح لتزكيته لمنصب رئاسة الدولة لا لمقام المرجعية والولاية العامة.
ولماذا لم يترك الخميني وصية لمن يخلفه ولم يوص لمن ينبغي أن تؤول له الولاية ونحن في العصر الحديث والدولة فيها أشرطة التسجيل المسموعة والمرئية والكمبيوترات وآلات الطباعة ووسائل الاتصال والتسجيل الأخرى ؟
وما حدث بعد ذلك من تولية السيد الخامنئي كان رأي قلة لا رأي الكل ولا رأي الأعلم، تماماً كما حدث في تاريخ الإسلام المبكر . فكأن الفكر الشيعي الحديث حين طبق إنما طبق وفق أصول الفكر السياسي السني وإن حمل إسماً شيعياً ورموزاً شيعية وهذا في نفسه يعكس أزمة الفكر الديني السياسي عند الشيعة أيضاً مع أنه كان يمكن أن تحدد فيه الأمور بشكل أفضل والمجتمع الإيراني لا ينقصه الفكر ولا المفكرون ولا الأوراق ولا الأقلام ولم يكن حول الإمام الخميني قبيل وفاته عمر ولا عائشة ولا غيرها يتغافلون عن طلبه قرطاساً ـ إذا طلب ـ ليكتب للناس كتاباً لا يختلفون عليه من بعده.(40/122)
ومما يؤخذ على الفكر الشيعي أيضاً أنه يصعب تطبيقه في المجتمعات الإسلامية الأخرى التي يسير المسلمون فيها على مذهب آخر غير المذهب الجعفري ومعنى هذا أن الفكر السياسي الشيعي مرتبط بوجود مجتمع تكون أغلبية سكانه العظمى من الشيعة (1) ولذلك فهو حبيس الحدود الجغرافية الإيرانية ما لم تتحول الأكثرية العظمى لشعب من الشعوب المسلمة أصحاب المذاهب الأخرى إلى التشيع ويمضي عليها زمن طويل في تشيعها ترسي خلاله قواعد النظام الديني الذي يعمل في المجتمع بالشكل الإيجابي الذي يمكنه من الوصول إلى النتائج المطلوبة، ذلك أن الفكر السياسي الشيعي يتطلب نظاماً دينياً واجتماعياً خاصاً يلزم العامة بتقليد المجتهدين الذين يفرزهم النظام الديني المحكم المعمول به في منذ قرون، ويتطلب معتقدات ومواقف خاصة تجاه العلماء تربط القاعدة بالقمة ربطاً محكماً.
ويتطلب تنظيماً دقيقاً من قبل كل مجتهد لأتباعه بحث إن أمرهم نزلوا ملايين إلى الشارع وهم يعلمون أن فيه رصاصاً وقنابل (انظر الرسم التوضيحي لفهم هذا النظام).
ويتطلب تحديداً لهوية المجتمع الفقهية أو المذهبية فيمكن أن يقال إنه مجتمع جعفري أو شافعي من الناحية الفقهية، فهو فكر لا يثمر في مجتمعات يقال لها عليكم بالكتاب والسنة دون مذاهب فقهية ويترك الناس بعد ذلك سائحين حيرى في تحديد المراد من الكتاب والسنة ذلك أن غياب الشخصية المذهبية في أي مجتمع ليس إلا تفككاً وضياعاً.(40/123)
ويتطلب الفكر السياسي الشيعي كذلك استقلالاً اقتصادياً للعلماء يضمن لهم العزة والحرية والكرامة فلا ينخرطون في سلك الوظائف الحكومية، ولا يلعبون في دائرة المعارضة في الدول التي فيها هامش رقيق من هذا الشئ ثم إذا بهم يتسكعون على أبواب السفارات طلباً للعون المالي الذي يحتاجون إليه لممارسة أنشطتهم فيقبضون ويؤيدون كما رأينا الكثير من هؤلاء إبان سنوات الحرب العراقية الإيرانية, أو يخرجون في إعارات أو ينشئون مشروعات مصرفية أو تعليمية إسلامية خاضعين فيها لكلمة الممولين فهذه كلها أنماط تعايشية تضمن للعلماء في المجتمعات السنية مواردهم المالية في غياب الاستقلال الاقتصادي الذي يتوفر لإخوانهم في ظل الفقه الجعفري الذي يلزم المقلد القادر بأداء الخمس إلى المجتهد الذي يقلده، والخمس هنا خمس ما يتبقى من ماله بعد نفقاته ونفقات من يعول لمدة عام.
باختصار شديد لا يمكن تطبيق الفكر الشيعي السياسي حتي ولو كان خالياً من الثغرات في مجتمعات غير شيعية وهذا في ذاته مقتل خطير. ولو فهم الهائجون ضد إيران هذا لما خشوا مما يسمى بتصدير الثورة ـ وإن أعلن قادتها هذا رسمياً ـ فالثورات ليست بطاطس فتصدر، إنما هي ناتجة عن تفاعلات محلية كثيرة لا يمكن أن تتشابه إلى الحد الذي يجعل نتيجتها واحدة في كل مكان.
ومما يؤخذ أيضاً على المنادين بالإسلام السياسي على المذهب الشيعي ارتكابهم لمخالفات عظيمة لا يسمح بها المذهب وما كانوا يقبلون ارتكابها ضدهم وهم بعيدون عن السلطة، وكذلك سنهم قوانين لا سند لها في الفقه الجعفري نفسه، مثل عقوبة الإعدام لمن يسخرمن القيادات الدينية، وإنما كان الدافع وراءها تثبيت السلطة فقط، وإعطاء رجال الدين منزلة مميزة ترفعهم على عامة الناس وهذا كله ليس له سند في المذهب الجعفري. فاحترام القيادة ـ دينية أو غير دينية ـ ينبغي أن ينبع من قلوب الناس ورضاهم دون أن يفرض بالقوانين.(40/124)
لذلك يمكن أن يقال إن الإسلام السياسي عند الشيعة بعد مجيئه إلى السلطة تخلى عن شيعيته، وترك الالتزام بأخلاق أهل البيت عليهم السلام وآثر أن يصبح سلطوياً يهمه الحفاظ على السلطة ولو خالف في سبيل ذلك ما قال الله وررسوله وأهل بيته مع أن التجارب التي خاضها أئمة أهل البيت عليهم السلام عبر قرون من الاضطهاد القاسي كان من الممكن أن يستفيد منها النظام السياسي القائم باسمهم ويستنبط منها قوانين ـ خاصة في مجال الحياة السياسية والاجتماعية ـ تجعل الإسلام قدوة تحتذى في حرية الفكر والتعبير والاعتقاد والقول والاحتجاج وما إلى ذلك مما يعرف دولياً باسم حقوق الإنسان.
فالفكر الديني السياسي ـ عند أهل السنة ـ تحرر من قيود الدين حين كانت المسألة مسألة سلطة، وتصرف الحكام فيه بصفتهم ـ في أغلب الأحوال ـ حكاماً بشراً يقدمون السلطة علي غيرها من الأمور، ثم جاء من بعد من كتبوا لنا النظرية السياسية واعتبروا هذه التصرفات عقيدة وديناً لا يخالف. أما الشيعة فقد صاغوا فلسفتهم السياسية ـ نظرياً ـ على نحو أفضل فبقيت براقة لمن يدرسها ويفهمها ماداموا بعيداً عن السلطة، فلما وصلوا إلى كراسي الحكم صاروا أهل سنة في التطبيق لأنهم ـ كالآخرين ـ قدموا السلطة على ما سواها فاستوى الطرفان وهو ما يؤكد عدم وجود نظام سياسي سني أو شيعي وإنما الأهم لدى الحاكم ـ شيعياً كان أم سنياً ـ هو [ السلطة ] والنفوذ والحكم، فالحاكم دينه السلطة ومذهبه استقرار حكمه، أما الحديث عن الالتزام بالدين والانتساب إلى هذا أو ذاك من المذاهب فليس إلا طلاء قد ينخدع به البسطاء الذين لا شك في حبهم لدينهم شيعة وسنة.
ـــــــــــــ
(1) هذا مع اعتقادي بإمكانية تطبيق النظام الديني الشيعي لدى أهل السنة من الناحية النظرية كما أوضحت ذلك في حديثي عن الاجتهاد وعن الاستقلال الاقتصادي للعلماء في كتابي مقالات في الحركة الإسلامية، طبع باكستان 1986.(40/125)
*************
الرسم التوضيحي
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الخاتمة
[ الفصل الرابع والثلاثون ]
{ في أن العلماء من بين البشر أبعد عن السياسة ومذاهبها }
[ والسبب في ذلك أنهم معتادون النظر الفكري والغوص على المعاني وانتزاعها من المحسوسات وتجريدها في الذهن أموراً كلية عامة ليُحكم عليها بأمر العموم لا بخصوص مادة ولا شخص ولا جيل ولا أمة ولا صنف من الناس، ويطبقون من بعد ذلك الكلي على الخارجيات وأيضاً يقيسون الأمور على أشباهها وأمثالها بما اعتادوه من القياس الفقهي فلا تزال أحكامهم وأنظارهم كلها في الذهن ولا تصير إلى المطابقة إلا بعد الفراغ من البحث والنظر ولا تصير بالجملة إلى المطابقة وإنما يتفرع ما في الخارج عما في الذهن من ذلك كالأحكام الشرعية فإنها فروع عما في المحفوظ من أدلة الكتاب والسنة فتطلب مطابقة ما في الخارج لها عكس الأنظار في العلوم العقلية التي تطلب في صحتها مطابقتها لما في الخارج. فهم متعودون في سائر أنظارهم الأمور الذهنية والأنظار الفكرية لا يعرفون سواها والسياسة يحتاج صاحبها إلى مراعاة ما في الخارج وما يلحقها من الأحوال ويتبعها فإنها خفية ولعل أن يكون فيها ما يمنع من إلحاقها بشبه أو مثال وينافي الكلي الذي يحاول تطبيقه عليها ولا يقاس شئ من أحوال العمران على الآخر، كما اشتبها في أمر واحد فلعلهما اختلفا في أمور فتكون العلماء لأجل ما تعودوه من تعميم الأحكام وقياس الأمور بعضها على بعض إذا نظروا في السياسة أفرغوا ذلك في قالب أنظارهم ونوع استدلالاتهم فيقعون في الغلط كثيراً ولا يؤمن عليهم ] ابن خلدون ـ المقدمة
Contents(40/126)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مراجع البحث
ابن أبي الحديد،عبد الحميد بن هبة الله شرح نهج البلاغة مصر 1959
ابن الأثير،علي بن محمد الكامل في التاريخ مصر 1356
ابن تيمية،تقي الدين أحمد السياسة الشرعية بغداد ب.ت
ابن خلدون،عبد الرحمن بن محمد المقدمة لبنان 1984
ابن سعد،أبو عبد الله الطبقات الكبرى لبنان 1957
ابن طباطبا،محمد بن علي الفخري في الآداب السلطانية مصر 1339
ابن عبد البر،أبوعمريوسف بن عبد الله الاستيعاب نهضة مصر ب.ت
ابن عبد ربه،أبو عمر،أحمد بن محمد العقد الفريد مصر 1944
إبن كثير،أبو الفدا عماد الدين البداية والنهاية، مصر ،الحسينية ب.ت
ابن هشام،أبو محمد عبد الملك سيرة النبي مصر 1937
أبو زهرة،محمد المذاهب الإسلامية،مصر،وزارة التعليم
أبو الفدا، عماد الدين المختصر في أخبار البشر مصر 1325
أبو يعلى،محمد بن الحسين الأحكام السلطانية مصر 1938
أحمد محمود صبحي،دكتور نظرية الإمامة عند الشيعة مصر 1969
إقبال،محمد كليات اقبال باكستان 1982
آل كاشف الغطاء،محمد الحسين أصل الشيعة وأصولها لبنان 1982
الإيجي،عضد الدين المواقف مصر1325
باقر الصدر،آية الله السيد محمد خلافة الإنسان النجف 1399
باقر الصدر،آية الله السيد محمد لمحة فقهية النجف 1399
البخاري،أبو عبد الله محمد الجامع الصحيح اسطنبول1981
بقال،عبد الحسين محمد علي الإمامة حتى ولاية الفقيه إيران 1402(40/127)
البلاذري،أحمد بن يحيى أنساب الأشراف مصر 1959
الجصاص،أبو بكر أحمد بن علي أحكام القرآن مصر 1347
الجويني،إمام الحرمين عبد الملك الإرشاد مصر 1369
الخطيب،عبد الكريم الإمامة والخلافة لبنان 1975
الخميني،آية الله الموسوي الحكومة الإسلامية مصر بتعليق ح.حنفي
الذهبي،شمس الدين محمد المنتقى من منهاج الاعتدال مصر 1374
الرازي،فخر الدين محمد بن عمر مفاتيح الغيب مصر 1308
رشيد رضا،محمد الخلافة والإمامة العظمى مصر 1341
الزبير بن بكار الموفقيات
سيد قطب العدالة الاجتماعية مصر،دار الشروق
الشهرستاني،أبو الفتح محمد الملل والنحل مصر1948
صبحي الصالح،دكتور نهج البلاغة بتعليقه لبنان 1967
طاهري،السيد محمد حسين بين ولاية الفقيه وحكم الشعب ايران 1405
الطباطبائي،السيد محمد حسين الشيعة في الإسلام مؤسسة البعثة،ايران،ب.ت
الطبري،محمد بن جرير تاريخ الأمم والملوك مصر 1939
طه حسين،دكتور الفتنة الكبرى مصر 1962
العسكري،السيد مرتضى معالم المدرستين ايران 1406
العلوي،محمد بن عقيل النصائح الكافية بدون مكان 1966
علي شريعتي،دكتور الأمة والإمامة ايران 1367 ه.ش
علي عبد الرازق الإسلام وأصول الحكم مصر 1925
القاري،ملا علي شرح الفقه الأكبر الهند، بدون تاريخ
القرطبي،أبو عبد الله محمد الجامع لأحكام القرآن مصر 1387(40/128)
القزويني،أمير محمد الشيعة في عقائدهم وأحكامهم لبنان 1972
الكليني،أبو جعفر محمد الكافي ايران 1388
الماوردي،أبو الحسن علي الأحكام السلطانية طبع المحمودية،مصر
المحب الطبري،أبو جعفر أحمد الرياض النضرة في مناقب العشرة مصر1935
المظفر،محمد رضا عقائد الإمامية مصر 1381
مغنية،محمد جواد مع الشيعة الإمامية دار العرفان صيدا ب.ت
المودودي،أبو الأعلى الخلافة والملك الكويت 1978
وزارة الإرشاد بإيران(لجنة التأليف) المذهب السياسي في الإسلام،ايران 1405
اليعقوبي،أحمد بن أبي يعقوب تاريخ اليعقوبي النجف 1358(40/129)
الرد على ملف حوزة النجف وقم وشيراز والجنس
كتبه: المنار
---
مقدمة
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الأخ بو حسن المحترم
حين قرأت العنوان ظننت أنك تستغيث ولكن ما أن قرأت المقدمة حتى شممت رائحة سعد الحمد وثابت وعلامتي الاستفهام (( ؟؟ )) حيث تحولت استغاثتك فجأة إلى تحدٍ بقولك: وإذا كانت لديكم إجابات موثقة فأجيبوا!!!
وجئتنا بالبحث من غير سابق سؤال لك حتى ترينا أنك تريد الإجابة فعلاً .
ولكن ما على ذلك من حيف وسنجيبك و نستجيب لصرختك ونرى ما سيؤدي هذا الملف اللطيف ... وعليكم الصبر والتحمل ولو تكلفاً ، وقد فرحت كثيراً بهذا البحث فيجب على المؤمنين أن يتحصنوا لمعرفة دينهم .. ويجب على المتلاعبين بالشرع أن يلوذوا بالفرار وأن يخزيهم الله حيث يريدون أن يحرموا الحلال ويحللوا الحرام .
وسأجيب بمرحلتين الأولى التحقق من هذه الفتاوى وشرح الصحيح في النقل منها والثانية في الفتاوى المقابلة حتى تعرفوا بأن هذه أحكام مجمع عليها في أغلبها وأنتم على ضلال مبين فيها .. وفشلكم محتم كحتمية دوران الأرض المنفية عندكم !.
والذي أرجوه أن يوفقني الله لأن تكون هذه الإجابة شاملة و دليلية لمثل هذه الاعتراضات الجاهلة بأسس الشريعة الإسلامية والمعتدية على كل المسلمين بلا استثناء .
أغلب المطروح جاء من قصر فهم وجهل وعدم معرفة ... كما فهم الجامع لهذه الفتاوى من فتوى السيد الخوئي بقوله : " الخوئي يبيح لعب الرجل بعورة الرجل" بأن المقصود هو اللعب بما يستقبح ذكره من السوءتين !! وقد فاته بأن الخوئي عنده عورة الرجل والمرأة من السرة إلى الركبة ، وقد استشكل الكثير من مقلديه في مسألة ما إذا وضع أحدهم يده ولو مزاحاً على ركبة الآخر أو ما فوق الركبة بحائل وهي عورة عنده فهل ذلك من مس العورة أم لا ؟!!..
تهانينا على الفهم العظيم ...
ملاحظة هامة : سوف لن نناقش ما أورده عن الكشميري إلا إذا اعتبر كتاب أبو معشر(41/1)
الفلكي أو شمس المعارف للبوني من كتب الفقه السنية !! عند ذلك سنبحث في هذا الفقه العظيم من استخراج المخبوء والتزاوج بالهواتف والزواج من الجان وعمل الجلب والجذب والمحبة ومعرفة الظالم والخائن والفاسق بالأرقام والأعداد والحروف ألخ ..
مقدمة : لا بد منها للمسلم ليعرف أخطر ما يدور حوله .
إن هذه الاعتراضات مبنية على جملة أمور :
1 - تأسيس مصدر جديد من مصادر التشريع لا يعرفه المسلمون .
2 - تسويق استعراض الموروث الشعبي على أنه قانون .
3 - المداخلة بين العقيدة الفقه .
4 - المراهنة على جهل الناس بالفقه وعدم مراجعة المطروح بعد القراءة ( نظرية التلقي المجرد السياسية ) .
5 - استخدام مبدأ التشويش في المراجعة من خلال تغيير أرقام الصفحات في المراجع ومن ثم الاقتطاع الفني للنص والكذب في التوصيف .
وسأشرح باختصار كل نقطة عل حدة ليكون مجموع الشرح مقدمة للجواب التفصيلي .
أولاً : تأسيس مصدر جديد من مصادر التشريع لا يعرفه المسلمون :
كل التعليقات وطريقة التوليفة للانتقاد يدور حول معيار مقبول عند الناس - لسر سنتكلم عنه في النقطة الثانية - وهو معيار « الغيرة » على العرض وإعطاءه صفة التشريع أو الباعث إلى التشريع أو كما يسمى فقهيا ملاك التشريع ، وهذا معيار لا وجود له في الفقه الإسلامي ولا أي فقه وقانون في العالم و إنما هو من خزعبلات ذوي الأهداف السياسية للتأثير على عقول العامة والدهماء .
إن « الغيرة » هي حالة من حالات النفس لا ضابط لها ولا ميزان وهي بالأساس تأخذ قسماً كبيراً من مشروعيتها من القانون نفسه بمعنى أنه هو مصدرها ، فإذا زادت عن الحد تحولت إلى مرض عقلي وقد يؤدي إلى المخالفة القطعية للشريعة كما هو حال غيرة النساء المفرطة .
وأما الغيرة المحمودة هي ما أمر بها الشرع الشريف ، ومفادها : « الغيرة من كل مخالف للشرع » وهذا قد تركز في نفوس المتشرعة من كل الشرائع والأمم ، ولكن ما حدث في هذه(41/2)
الورقة إنما هو العكس تماماً حيث بنى على أن « الغيرة » هو المحرك للحكم الشرعي وهو الأساس للتشريع وإن أي حكم شرعي ينافي هذه « الغيرة » المدعاة سيكون باطلاً وتسقط أهليته مهما تكن هناك من أدلة شرعية .
وهذا خلاف أي تشريع بل هو من وجهة نظر إسلامية عين " الجاهلية و أحكامها " التي تحركها النوازع النفسية البعيدة عن الحق والعدل والقانون، فالشرع الإسلامي يتقيد بالنصوص الشرعية وبالقواعد الشرعية ولا علاقة له بمسائل مثل « الغيرة » وغيرها وعلى « الغيرة » أن تتابع الشرع الإسلامي .
فالقانوني والفقيه لا يعرف مصدراً من مصادر التشريع اسمه « الغيرة » و إنما يعرف الأدلة الشرعية من نصوص وإجماع وقواعد شرعية وأصول عملية ، فالأدلة هي الحكم.. والذي يريد أن يناقش حكماً شرعياً عليه مناقشة دليل الفقيه وقواعده التي بنى عليها حكمه ، وبخلاف ذلك فهو من عفاط العيارين وكلام أهل الرذيلة حيث ينتقدون القانون الإسلامي بمعاييرهم العامية وفكرهم المنحط .
ثانياً : تسويق استعراض الموروث الشعبي على أنه قانون :
هناك توجه سياسي يقوده اليهود سراً لأجل تدمير البنية السياسية للتشريع الإسلامي وغيره من التشريعات التي يريدون تدميرها في المجتمع ، وهذا المبدأ يستند إلى تشخيص الموروث الشعبي وتحويله تدريجياً إلى قانون موازٍ للقانون المراد ضربه كالتشريع الإسلامي ، وذلك بدفع العادات والتقاليد النابعة من التطور الاجتماعي وتطور الامتثال للأحكام الشرعية ، بنفس الاتجاه ولكن بقيم غير موجودة أساساً في ذلك التشريع حتى تتحول العادات والتقاليد المنافية للإسلام هي القانون التي يتحاكم عليه الناس وهي العرف الذي يسود تفكير الإنسان وبالتدريج يجد الإسلام والقرآن نفسه خارج حياة الناس وهو مجرد تحفة فنية معلقة على الجدران .
إن خطورة تسويق استعراض الموروث الشعبي تتمثل في استبدال تشريع بدل تشريع ، واستبدال دين حقيقي بدين مزيف قد يسمى بنفس(41/3)
التسمية ولكن لا علاقة بينهما .. ومن قلة فهم الناس أنهم لا يستطيعون تمييز هذه اللعبة وفك دورتها فهي في دائرة محكمة غير منتجة منطقياً ؛ فالتقاليد السليمة هي ما أخذ من الشرع في الأساس ولكن التسويق للتراث الشعبي يريد أن يجعل الشرع تابعاً لهذه التقاليد ، فدار الأمر دورة عجيبة فأيهما يأخذ من الثاني ؟!
وما هو المقبول ؟!!
وما هو الخطأ ؟!!!
في ظرف كهذا لا يمكن معرفة رأس الخيط الذي يفرق بين الحقيقة والخطأ ، وها نحن في عالمنا قد تحولت الكثير من التقاليد إلى دين يخالف دين الإسلام مثل في العيد الإسلامي أصبح تدريجياً يوماً للفساد الأخلاقي والعادات الغريبة عن جوهر الإسلام ، ويقابلها تحويل العادات والتقاليد البدوية الخشنة تجاه الأموات إلى دين يعادي الأموات والقبور. له خصائص دينية عجيبة غريبة لم يسمع بها الفقه الإسلامي وما هي إلا عادات بدوية جاهلية بدأت تتحول إلى دين شديد الخطورة وشديد العداء لرموز الإسلام بسبب العداء لقبورهم . وهذا كله لا علاقة له بالفقه الإسلامي بكل اتجاهاته .
حتى الاتجاه والمذهب الذي يُدّعى بأنه الأصل الذي يعتمده الهاجمون على الاسلام وهو المذهب الحنبلي. و الذي يتشدق به المعاديون للإسلام على اعتبار انه متشدد. ليس فيه أبداً مثل هذا التوجه أو التوجيه للعادات الشعبية الجلفة ففي المذهب الحنبلي كتب ودراسات عن عظمة قبر إمام المذهب أحمد وكرامات القبر إلى آخره مما لا يجوز التطويل فيه .(41/4)
وها نحن نواجه قضية أكثر خطورة وهي اختراع أسس جديدة للتشريع على الطريقة الأمريكية حينما بدأ الفاسقون منهم بالضغط على الكنيسة للتخلي عن شروط الطلاق في الكنيسة حيث أوجدوا مقاييس مكونة من مجموعة من الأهواء والمنطق اللا ديني لفرضه على الدين وإعطاء صبغة الدين لفسقهم ، فلوريا صوفين تمكنت من تحصيل أمر بأمومتها لبنتها من الزنا بعد اثنتي عشر سنة بحكم أن تكوّن الطفلة كان من صداقة وحب ، وهذا ما يقبله المجتمع الأمريكي ، وهنا الخطورة من إيجاد أسس للتشريع من خارج حدود الشرع ، وكاتب هذه الصفحات يريد منا هذا بالضبط فهنا يطالبنا بالغيرة لتغيير أحكام الله وهناك يطالبنا بكره الرموز الإسلامية وتحويل عداء القبور إلى عقيدة وتشريع وغيرها من التلاعب بالمعايير ومصادر التشريع بما لم ينزل الله بها سلطاناً .
وهذا تسويق خطير لأفكار لابد للمسلمين عموما أن يلتفتوا لها ويجدوا حلاً لهذا التخريب للشريعة باسم الشريعة .
ثالثاً : المداخلة بين العقيدة الفقه :
عادة حينما يتحاور أصحاب المذاهب والديانات يكون أول بحثهم في مسائل العقيدة ونواحيها ولا يتطرقون إلى مسائل فقهية لأن ملاكات الفقه تنحدر من العقيدة. ابتداءً من نظرية المعرفة وانتهاء بنظرية التكليف وكيفية براءة الذمة ، فتكون كل أبحاث الفقه فضلة بالنسبة للباحث عن الديانة وعن المبدأ ، ولكن لأن المسألة هنا فيها غش وفيها مسائل لا علاقة لها ببحوث الدين و إنما هي بحوث شغبية تؤمن بقاء المسلمين لا يفرقون بين الناقة والجمل ..
فأصبح من المألوف أن يقول لك أحدهم أنت كافر لأنك تقول بالتقية !!..
أو لأنك تصلي على الأرض وما انبتت عدا ما يؤكل ويلبس !!..
أو لأنك تقول بالمتعة وما شابه ذلك !!..
بينما قوله « أنت كافر » يعني مخالفة العقيدة والأسباب التي يدعيها هي فقه ولا علاقة لها بالعقيدة من قريب أو بعيد فيقوم بالمداخلة بين العقيدة والفقه ويحكم بكفرك بناءاً على المخالفة(41/5)
مع رأيه الفقهي الفطير ، وهكذا يتم التحكم بمعايير لا عقلائية لتمشية أمر التكفير والتفسيق وبهذلة الإسلام والمسلمين ، وهذه القضية لا يعانيها الشيعة وحدهم من هؤلاء بل حتى السنة بمختلف اتجاهاتهم يتعرضون لهذه الهجمات بل حتى رؤوسهم أنفسهم يتعرضون لنفس الجزاء في بعض الأحيان .
فهذه مسألة زواج المسيار والزواج بشرط الطلاق بعد ساعة التي قال بها شيوخهم .. تجد هؤلاء وبكل وقاحة يصفونها بأنها باطل وكفر وفسق وخروج على الإسلام ! ( من حفر حفرة لأخيه وقع فيها ) .
ومسألة خلط الفقه بالعقيدة مسألة في غاية الخطورة لأنها تدل على عدم القدرة على تصنيف المواضيع وعدم استيعاب فكرة تقسيم الإسلام لحدود التزاماته الفكرية والقانونية والعبادية ، وهذا أخطر ما يواجه المسلم في الحقيقة وتفصيله ليس هنا.
رابعاً : المراهنة على جهل الناس بالفقه وعدم مراجعة المطروح بعد القراءة ( نظرية التلقي المجرد السياسية ) .
إن مما يساعد هؤلاء المندسين في الإسلام معرفتهم بالتسطيح الثقافي عند المسلمين فالمسلم في الغالب لا يقرأ ولا يقبل أن يتحقق من معلومة قرأها ولا يستثنى من ذلك الباحثين ، فهذه البحوث الإسلامية كأنها استنساخ لمقالات ليس إلا ...
فما أن يكذب أحدهم في بحث فستجد البحوث كلها قائمة عليه سواء ذُكر ذلك البحث كمصدر أم لا ، وتبنى عليه بنايات من دون تحقيق وليس ببعيد عنا الدراسات التافهة الكاذبة التي تربط بين التشيع والمجوسية أو عبد الله بن سبأ الشخصية المختلف في وجودها ، ولكن غير المختلف على أسطورية تأثيرها في العالم الإسلامي .
وكل ذلك مبني على التأكد من عدم الرغبة في التحقق من المعلومة عند المثقف العربي ، والمنظور الفعلي هو لنظرية التلقي المجرد وخلق مبدأ الاستهلاك بدل الإنتاج لضمان تلهي الشعوب بثقافات مجهزة مسبقاً في الكواليس ومصاغة بشكل يساهم باتجاهين مزدوجين الأول الإلهاء والتحييد والثاني التحديد الفكري بالأطر(41/6)
الجاهزة .
وقد ثبت أن المسلم العادي يمكن تلقيه لأي نظرية فقهية من دون أن يلتفت إلى ثوابته ، وهنا كان مبدأ مثل هذه الاعتراضات على المسائل الفقهية وتزييف المعايير ومصادر التشريع لأن المسلم ليس من عادته أن يسأل : من أين لك هذا ؟!!
فثقة المسلم بطول اللحية والتأشير بالمسواك عالية جداً ، ولا يستطيع أن يتخيل بأن وراء ذلك كارثة حضارية ودينية .. وإذا بدأ يشك بالمظهر الديني فهذا أيضاً مطلوب من تلك الدوائر التي تختلق هذه المعايير حيث أن الشك بالمظهر الديني سيحول الشاك إلى لا ديني وهذا من أعظم انتصاراتهم ؛ فهي ظرب عصفورين بحجر واحد .
فإن هذه الانتقادات للفتاوى لها أكثر من سنة وقد أجيب عليها بشدة ولكن فاعليها يعيدونها بلا خجل أو حياء. لتشخيصهم لطبيعة المجتمع وعدم إجراء تفحص لما يقولون وأن الشعوب العربية لا تسأل عن معايير الحكم الذي جاء به صاحب الورقة ما دامت فيها شبهة القبول بمواد مثل الغيرة والشرف والكرامة ، وهم يعلمون علم اليقين بأن الدوائر اليهودية حينما بدأت تسرب عبر الأفلام السينمائية فكرة كرامة المرأة حتى اعتقدتها النساء المسلمات كجزء من حق تشريعي ، وباتت معضلة فكرية لم يفكر حتى القضاء في معالجتها كمعيار خاطئ ، وكهذا أصبحت المرأة المسلمة ترفض الزواج المتعدد نهائياً وهي مستعدة لعمل حتى الكفر في سبيل عدم مس « كرامتها » ! هذا المعيار المفتعل والذي يحيّر حتى القوانين الشرعية في طلب الزوجة الطلاق بسبب زواج الزوج من ثانية .
وهذه التجربة وغيرها هي بنظر صانع هذه الورقة فهو يعرف بأنه يستطيع خلق الخطأ بطريقة التلقي المجرد، من قبل المستهلك.
خامساً : استخدام مبدأ التشويش في المراجعة من خلال تغيير أرقام الصفحات في المراجع ومن ثم الاقتطاع الفني للنص والكذب في التوصيف .
وهنا نأتي إلى تقنيات التشويش على عقل من يريد التأكد من المعلومات .. فإن صانع هذه الورقة يعلم علم اليقين أنه ليس(41/7)
بمقدوره دائماً إيجاد معيار جديد يتحكم به في عقول الناس حيث يحتاج في كثير من الأحيان إلى مادة ليستشهد بها ويجعلها مركز بحثه ..
ولكن ماذا يفعل إذا لم يجد بالطريقة التي يريد ؟!
سيقوم عند ذلك بعمليات تحريفية وتزوير في الوثائق ( تدليس ) بحيث يوجه النص كما يريد ، ويعمد قبل كل شيء إلى نص يرى أنه أكثر النصوص قابلية لتطبيق معاييره ويهجم عليه بصورة كبيرة ويجعله أول النصوص ليخلق حالة نفسية لتقبل التطبيق للمعايير على التي بعدها وإن كان نفس معياره لا ينطبق على تلك النصوص بدقة .
فمثلاً ما علاقة « غيرة » المسلمين في مسألة النظر إلى السافرات المتعريات في الشوارع بدون شهوة ؟؟!!
فهو يعرف إن معياره إذا طبق فعلاً ينبغي أن لا يجوز السكن أو المشي في المدن التي ينتشر فيها السفور. بينما نجد إن أصحاب هذا المعيار أنفسهم في حركة مكوكية في بلدان الغرب بين العراة و بحسب الفقه الإسلامي فكل المجتمع كاشف عن عورته لأن المرأة كلها عورة ما عدا الوجه واليدين وهن شبه عاريات في بلاد المسلمين!!.
فأين « الغيرة » وتطبيقها وهل يمكن أن يكون هناك ضحك على الذقون كهذا ؟!!
ومن هنا يقوم بعملية تزوير وإعطاء أوليات فنية ولكن يمكن أن ينكشف التزوير فماذا سيعمل ؟!
سيقوم بتزوير ثان ؛ وهو تعمية أرقام الصفحات وتغيير المواقع فالباحث حينما يريد التأكد من مثل هذه الفتيا لن يجدها فيقول لعل هناك خطأ في الطبعة أو لعل المؤلف رفع هذه الفتوى ويبقى في شك من نفسه ولا يكمل البحث. لعدم وجود المادة المشار إليها في مكانها !!
وسآتيكم بمثال من هذه المقالة فقط على مسألتين من كتاب السيد الخميني رحمه الله .. مثلاً يقول صاحب الورقة ما هذا نصه :
( يقول الخميني في كتابه تحرير الوسيلة ص241 مسالة رقم 12 )
وكذلك المسألة الثانية :
( يقول الخميني في تحرير الوسيلة ص241 مسألة رقم 11 )
وتحرير الوسيلة مكون من جزأين ، الأول في العبادات والثاني(41/8)
في المعاملات ، فلم يحدد في أي جزء !!
وحينما تبحث في الجزأين لن تجد النتيجة ، فما المشكلة إذن ؟!
سيقول لك خطأ طباعي !!.
ولكن حينما نرى الاقتطاع والتزوير نعرف بأنه ليس لخطأ طباعي و إنما لتصعيب عملية المتابعة والتحقيق .
بينما تجدها في الواقع في الجزء الثاني ص 216 المسالة 11 والمسألة 12 !!
وهي في ملحقات الوطء من باب النكاح ولا علاقة لها بالمتعة بالصغيرة وما شابه ذلك!!!.
و أما ما أورده من الزواج بالزانية فاختلاف الصفحة غريب حيث أنه أوقعها خارج باب النكاح فقال ( تحرير الوسيلة ج2 ص292) والحال أن هذه الصفحة في كتاب الطلاق ، بينما المسألة هي في ج 2 ص 261 وهذه أمثلة للتضييع والتشتيت المتعمد ، وذلك يعتمد إستراتيجية واضحة في تضييع القدرة على المتابعة والتحقيق فيما يقول وإعطاء صفة الموثوقية لنقده ومن ثم يتمكن من مقصده المزدوج بشتم الشيعة وتحطيم مباني الإسلام سنيه وشيعيه .
وهناك مسألة المداخلة بين الموضوع الفقهي وبين كتب الأحراز ! وحساب الجمل !! في مقابل الفتوى !!!
سنبيّن مدى الخيانة في التناول .. وسنبين الاقتطاع للنص حين دراسة النص المبتور .. وهذا كله يبين مدى الولع بالحقد والكره تجاه الفقه الإسلامي وتجاه أهل البيت خاصة بحيث يقرءون بلا عقل مفهرس فيداخلون ما لا يتداخل .
وعلى كل حال فإننا سنشرع ابتداء من الحلقة الثانية في دراسة كل فتوى أوردها على حدة لنرى مدى علم ومصداقية صاحب المعايير الجديدة ...
فتقبلوا تحيات أخوكم / المنار ..
رداً على موضوع ( الخميني يبيح التمتع بالرضيعة )(41/9)
في هذه الحلقة سنشرع بدراسة إحدى الفتاوى التي أوردها صاحب المعايير المختلقة ونستشف من خلال ذلك الهدف الحقيقي لأمثال هؤلاء ...
أولاً : الفتوى الأولى التي طرحها .. هكذا يقول صاحب الملف :
الخميني يبيح التمتع بالبنت الرضيعة :
يقول الخميني في كتابه تحرير الوسيلة ص241 مسالة رقم 12 ( وأما سائر الاستمتاعات كاللمس بشهوة والضم والتفخيذ فلا بأس بها حتى في الرضيعة ) !
انتهى قوله ....
وما هي الحقيقة ؟؟!
يجب أن ننقل كامل النص ثم نعلق :
تحرير الوسيلة في ج 2 ص 216 وهي على النحو التالي :
مسألة 12 – لا يجوز وطء الزوجة قبل إكمال تسع سنين ، دواماً كان النكاح أو منقطعاً ، وأما سائر الاستمتاعات كاللمس بشهوة والضم والتفخيذ فلا بأس بها حتى في الرضيعة ، ولو وطأها قبل التسع ولم يفضها لم يترتب عليه شيء غير الإثم على الأقوى ... الخ .
وهنا ملاحظات :
أولاً : الفتوى ليس في باب المتعة إنما هي في باب النكاح عموماً .
ثانيا : الفتوى ليست في صدد إباحة التمتع أو عدم إباحته ، وإنما بصدد بيان لواحق الزواج بالزوجة الصغيرة وهل يجوز وطؤها أم لا ، فالجواب لا يجوز قبل إكمال التسع كما هو واضح .. هناك سؤال ثاني يسأل إذن يجوز الاستمتاعات غير الوطء ، الجواب نعم .
ثالثاً : بيان حد الصغر ، أجاب بأن لا حد للصغيرة في الزواج حتى الرضيعة .
رابعاً : لو عبث بها لما دون الإفضاء - وهو اتحاد الموضعين - هل عليه حد أو غرامة ؟!. الجواب : لا حد عليه ولا غرامة .. ولكن عليه إثم شرعي .
خامساً : أراد أن يؤكد بأن هذه الأحكام هي لعموم النكاح بكل صوره فقال : دواماً كان النكاح أم منقطعاً ، وهنا نقول :
1 - تبيّن كذب وتحريف هذا الكاتب حين صورها بأنها في « المتعة » وأنه يجيز التمتع بالصغيرة !.
2 - أوردها مورد الشتم والحقيقة إن هذه الفتوى مما أجمع عليه المسلمون ، وإني أتحدى أي فقيه أن يقول أن هذه الفتوى خلاف الفقه بكل(41/10)
المذاهب .. فعلى صعيد المذاهب الأربعة يرون بالتسليم واليقين أن رسول الله فعل ذلك بالسيدة عائشة فتزوجها بنت ست سنوات ودخل بها بعد بلوغها التاسعة ، وهذا يكشف عن جواز الزواج من الصغيرة غير البالغة وعدم جواز وطئها قبل التاسعة ، وباقي الاستمتاعات مسكوت عنها ينطبق عليها عموم حقه في زوجته والأصل عدم التحريم فيما لا نص عليه .
3 - يُشم من شتمه للفتوى رائحة اليهود والنصارى في شتمهم لرسول الله ص بتجويز الزواج من الصغيرة ، ورد هذا الاعتداء ليس تكليفنا فقط و إنما هو تكليف كل مسلم يدافع عن إسلامه ونبيّه أمام هذه الهجمة الكافرة غير المنطقية .. الذين لا يملكون الدليل على عدم صحة هذا الحكم غير التنطع والتكلم بكلام غير مفهوم وغير واقعي من قبيل ظلم البنت والوحشية وما شابه ذلك فأي ظلم إذا كان على الزوج الإكرام والمحبة والنفقة ولا يجوز له العبث بها وأي ظلم في تعلق الحق بالعقد وإعطاءها صفة القيمة العقدية كإنسان كامل .
ولو أن الكاتب كشف عن هويته النصرانية أو اليهودية لأريناه ما في كتبهم من جرائم وفضائح تجاه الأطفال والبشر والقوميات مما يندى له الجبين ، ولكنه متستر بستر الإسلام تحت لواء اللا هوية .. والمشكلة أنه يتكلم باسم إخواننا أهل السنة بما هم براء منه .
4 - فهذا الحكم عند جميع المسلمين من المسلّمات .. وللاختصار أورد بعض النصوص الفقهية من كتب أهل السنة – لأنه يتشدق بهم - ولا أستقصي لعدم الحاجة فهو من المسلمات الفقهية عند جميع المسلمين .
المبسوط ، للإمام السرخسي : المجلد الثامن ، الجزء 15 ، كتاب الإجارات .
( ولكن عرضية الوجود بكون العين منتفعاً بها تكفي لانعقاد العقد ، كما لو « تزوج رضيعة » صح النكاح )
فهذا نص صريح بجواز الزواج من رضيعة وحلية تعلق الاستمتاع بالمنفعة إذ لا معنى لعروض المنفعة على العين المعقود عليها غير الانتفاع بشكل من الأشكال .
وما تقول فيمن عنده زوجة رضيعة أرضعتها(41/11)
زوجته الكبيرة ؟؟
المبسوط، الإصدار للإمام السرخسي : المجلد العاشر (الجزء 19) ، كتاب تفسير التحريم بالنسب ، باب نكاح الشبهة :
قال ولو أن رجلًا له امرأتان إحداهما كبيرة والأخرى صغيرة وللكبيرة لبن من غيره ولم يدخل بها « فأرضعت الكبيرة الصغيرة » بانتا منه بغير طلاق لأنهما صارتا أماً وبنتاً وذلك ينافي النكاح ابتداء وبقاء والفرقة بمثل هذا السبب تكون بغير طلاق .
أقول : ما سيقول حينما يجد حقيقة وهي افتراض أن الصغيرة ثيب أو حامل في الفقه السني وهل تكون ثيباً أو حاملاً إلا بما يلزم ؟؟!!
وهل يكون حمل من دون رواج بالبواعث النفسية والجسدية ليتقرب البلوغ البيولوجي ؟!! أم لكم عقول لا تفكرون بها ؟!!
أقرأ :
الفقه على المذاهب الأربعة لعبد الرحمن الجزيري : الجزء الرابع ، مباحث العدة ، مبحث انقضاء العدة بوضع الحمل :
– « عدة الزوجة الصغيرة الحامل » - عدة الحبلى بوطء الشبهة – أو ... .
المبسوط، الإصدار للإمام السرخسي : المجلد الثاني، (الجزء 4) ، كتاب النكاح.
وقوله : ( والثيب تشاور ) دليل على أنه لا يكتفي بسكوت الثيب فإن المشاورة على ميزان المفاعلة ، ولا يحصل ذلك إلا بالنطق من الجانبين و بظاهره يستدل الشافعي على أن « الثيب الصغيرة » لا يزوجها أحد حتى تبلغ فتشاور ، ولكنا نقول هذا اللفظ يتناول ثيباً تكون من أهل المشاورة ، والصغيرة ليست بأهل المشاورة فلا يتناولها الحديث.
المبسوط للإمام السرخسي : المجلد التاسع الجزء (17) ، كتاب الدعوى ، باب الولادة والشهادة عليها :
قال : (( رجل طلق « امرأته الصغيرة ومات عنها فجاءت بولد » فهذا على ثلاثة أوجه : إما أن تدعي الحبل أو تقر بانقضاء العدة أو كانت ساكتة فإن ادعت حبلاً ثم جاءت بالولد لأقل من سنتين منذ مات الزوج أو فارقها ثبت النسب من الزوج )) ..
ثم إذا كان قد اطلع صاحبنا على الفقه كان لابد أن يعرف بأن في كتب الفقه السنية أن الصغيرة لا(41/12)
عورة لها فما الذي يضير من النظر إليها وغيره في غير الزواج حتى يضير في الزواج بناءاً على مبانيهم . فليقرأ :
فتح الباري ، شرح صحيح البخاري ، للإمام ابن حجر العسقلاني : المجلد التاسع ، كِتَاب النِّكَاحِ ، باب النَّظَرِ إِلَى الْمَرْأَةِ قَبْلَ التَّزْوِيجِ .
وقال أيضاً : في الاحتجاج بهذا الحديث للترجمة نظر ، لأن عائشة « كانت إذ ذاك في سن الطفولية فلا عورة فيها البتة » ، ولكن يستأنس به في الجملة في أن النظر إلى المرأة قبل العقد فيه مصلحة ترجع إلى العقد .
المبسوط، الإصدار للإمام السرخسي : المجلد الخامس (الجزء 10) ، كتاب الاستحسان . وجدت الكلمات في الفصل :
وهذا فيما إذا كانت في حد الشهوة فإن كانت صغيرة لا يشتهى مثلها فلا بأس بالنظر إليها « ومن مسها » لأنه ليس لبدنها حكم العورة ولا في النظر والمس معنى خوف الفتنة .
وهل الصغيرة إذا فعلت الزنى تكون زانية ليقرأ صاحبنا وليجيبنا بأيهما أهم الزواج من الصغيرة أم الزنا بالصغيرة ولا يعد زنى ؟؟!
المبسوط، الإصدار للإمام السرخسي : المجلد الخامس (الجزء 9) ، كتاب الحدود ، باب الشهادة في القذف :
وقوله زنيت وأنت صغيرة محال شرعاً ؛ « لأن فعل الصغيرة لا يكون زناً شرعاً . ألا ترى أنها لا تأثم به » .
وهل وطء الصغيرة في نهار الصائم يوجب الكفارة ؟؟!!
اقرأ يا صاحبي الفهيم :
الفقه على المذاهب الأربعة لعبد الرحمن الجزيري : الجزء الأول ، كتاب الصيام ، ما يوجب القضاء والكفارة :
وأما وطء البهيمة والميت والصغيرة التي لا تشتهي فإنه لا يوجب الكفارة ويوجب القضاء بالإنزال.
ومعناه أنه لو لم ينزل لما وجب عليه حتى القضاء !! تحياتي ..
فأين دين فرويد يا نسل فرويد ؟!!
تابعوا معنا بقية الحلقات استجابة لصرخة الزميل بوحسن !!
رداً على موضوع ( الخميني يبيح وطء الزوجة من الدبر )(41/13)
ثانياً : الفتوى الثانية .. يقول صاحبنا :
الخميني يبيح وطء الزوجة في الدبر :
يقول الخميني في تحرير الوسيلة ص241 مسألة رقم 11 ( المشهور الأقوى جواز وطء الزوجة دبراً على كراهية شديدة ) !
قلت: نشكر الخميني على قوله ( على كراهية شديدة ) ، ولا نملك إلا ذكر قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ( ملعون من أتى امرأة في دبرها )
انتهى قوله ..
ما هي الحقيقة ؟؟!
أولاً : ننقل المسألة من موقعها الصحيح وبنصها الكامل ثم نعلق عليها ...
تحرير الوسيلة في ج 2 ص 216 ( وهي بنفس صفحة المسألة السابقة وقبل تلك المسألة بمسألة ) :
مسألة 11 - المشهور الأقوى جواز وطء الزوجة دبراً على كراهية شديدة ، والأحوط تركه ، خصوصاً مع عدم رضاها .. انتهت المسألة....
فنبدأ بشرح لبعض المفردات في الفتوى :
1 - المشهور : يعني وجود فتويين وهذه اشهر من الثانية.
2 - الأقوى : يعني وجود دليلين ودليل هذه المسألة أقوى من الأخرى.
3 - على كراهية شديدة : يجتمع بين المنع ومنافي المروءة .
4 - والأحوط تركه : يعني بأن السيد لم يركن إلى المشهور لخدش فيه ومال إلى الأصل العملي وهو الاحتياط ، ومؤداه الترك .. ويعني عدم التأكد من توفر المعذورية لمن فعله حيث لم يركن إلى دليل المشهور.. ويتأكد الاحتياط بحالة عدم رضاها.
( وهناك تفسير ثان لهذا الاحتياط وهو التردد في المسألة لتعارض الدليلين والركون إلى الأصل العملي الذي هو المرجع حين فقد الدليل أو اشتباهه فيكون الاحتياط هنا محمول على المبغوضية العامة خصوصاً بناءاً على مصطلح الاحتياط المسبوق بفتوى ) ..
النتيجة عدم إطلاق اليد بالجواز والحكم بالكراهة المشددة والاحتياط ... فأين ما فهمه صاحبنا الذي يقرأ بالمقلوب ؟؟!.
وكيف دلس ورفع اعتراضه على المشهور بقوله « والأحوط تركه » !! الذي لم يكمل به النص ولا بما بعده!!.
فهذا ما يكشف سبق التحضير للتزوير لأجل الشتم وإثارة الفتن(41/14)
الطائفية بما يوقف نمو الفكر الإسلامي وتمكين الغرب الكافر من السيطرة على المسلمين وتدمير الإسلام من أساسه.
التعليق :
هذه المسألة من المسائل التي اختلف فيها المسلمون قديما في بداية الإسلام وفيها نصوص متعارضة عند الطرفين ، وقد استقر الفقه السني المتأخر على التحريم .
ولكن المشكلة في الحقيقة هو الاستقرار في الفقه السني بعد القرن الرابع أو الخامس هجري .. وسوف نرى هل أن السنة الأوائل كان على رأيين أم رأي واحد !!.
ومن دراسة الموضوع أن فقهاء السنة كانوا على رأيين، ويبدو بأن الفهم غير دقيق للأدلة بينما الأصل الأولي يقتضي الجواز لعموم صور الانتفاع والتلذذ بين الزوج والزوجة بمقتضى نفس الزوجية المزيلة للموانع الجسدية ما لم يخرج بدليل قطعي وأما العموم القرآني فلا شك فيه ولكنهم خدشوه برواية آحاد وظن شخصي بالتخصيص وكلاهما ليس بحجة خصوصاً إذا كان خبر الواحد معارضاً بمثله أو زيادة ولعل روايات سبب النزول رافعة لتخصيص خبر الآحاد .
وأطرف ما في الباب هو مناظرة الإمام الشافعي مع محمد بن الحسن في تخصيص الآية بالظن الشخصي .
وهنا سنبين بأن الفقه السني القديم فيه الاتجاهين ، ودليل الجواز أقوى من دليل الحرمة ، ولكن لأسباب مجهولة تبنى الفقه الدليل الضعيف في قرون متأخرة عن زمن التشريع .
ونأتي على الأدلة بالتفصيل :
أدلة الحرمة :
الدليل الأول :
========= رواية « ملعون من أتى امرأة في دبرها » =========
ونبدأ الرواية التي أوردها صاحبنا في ملفه بقوله : ولا نملك إلا ذكر قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ( ملعون من أتى امرأة في دبرها ) .
فهذا أولاً - وقبل كل شيء - مطعون سنداً ، وهو غير مسلم بالصحة .
ولكن الأهم فإنه مطعون متناً إذ هو ليس في حال الزوجة وإنما في حال المرأة غير الزوجة ولأن نكاح الدبر في المرأة لا يسمى زنا ( سيتبين فيما بعد ) فيكون اسمه هكذا « إتيان المرأة في دبرها » ..(41/15)
فهذا أجنبي تماماً عن محل البحث ، وهو نهي عن اللواط بالمرأة وهذا مما لم يختلف عليه مسلم وهكذا فهمها الإمام مالك ( انظر التعليق على الرواية تحت في فيض القدير ) ، وقد أورد أحدهم للنص بـ ( أتى امرأته ) ولكن لم يتابعه عليه أحد لأنه تصحيف قطعي .
وهنا سنعرض لتصحيح هذا الحديث :
فيض القدير، شرح الجامع الصغير، للإمامِ المناوي : الجزء السادس [ تابع حرف الميم ] الحديث رقم :
8204 - ( ملعون من أتى امرأة في دبرها ) أي جامعها فيه فهو من أعظم الكبائر إذا كان هذا في المرأة فكيف بالذكر وما نسب إلى مالك في كتاب السر من « حل دبر الحليلة » أنكره جمع .
(حم د) وكذا النسائي وابن ماجه كلهم في النكاح من طريق سهل بن أبي صالح عن الحارث بن مخلد (عن أبي هريرة) قال ابن حجر: والحارث بن مخلد ليس بمشهور وقال ابن القطان: لا يعرف حاله وقد اختلف فيه على سهل اهـ "فرمز المصنف لصحته غير مسلم"
هذا وقد ورد بلفظ آخر يدل على إرادة غير الزوجة ، أنظر:
فتح الباري، شرح صحيح البخاري، الإصدار 2.01 للإمام ابن حجر العسقلاني : المجلد الثامن. كِتَاب تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ. باب نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ الْآيَةَ.
وأخرجه الترمذي من وجه آخر بلفظ " لا ينظر الله إلى رجل أتى رجلا أو امرأة في الدبر " وصححه ابن حبان أيضاً .
كشف الخفاء للإمام العجلوني ، حرف الميم ، الحديث رقم :
2331 - ملعون من أتى امرأة في دبرها.
.. وقال المناوي رحمه الله تعالى (( وسنده صحيح ونوزع )) .
أي نوزع في القول بالصحة لأن راويه مجهول والآخر مختلف فيه ولكن هناك رغبة شديدة بتصحيحه ، فحتى لو صح فهو لا يدل على المطلوب أي في الحليلة ، ولا يرتفع إلى مرتبة المخصص.
فهذا دليل ظني لا ينهض بنقض الأصل ولا بتخصيص العموم القرآني ؛ فهو منازع في سنده ومطعون في متنه حيث إن الأقرب إرادة غير الحليلة(41/16)
فيه كما يدل على ذلك عموم لفظ امرأة وحديث فيض القدير في أنه بالدبر المحرم كدبر الرجل والمرأة .
ملاحظة هامة جداً :
وهي إن الفقهاء القدامى لما قبل القرن الخامس لم يستدلوا مطلقاً بهذه الرواية في الموضوع لأسباب مجهولة وكان جل استدلالهم بالرواية الآتية ورواية ابن عباس النافية لرواية بن عمر ، وبالاجتهاد في الفهم وسيأتي طرق ذلك.
الدليل الثاني :
========= حديث عمر هلكت حولت رحلي =========
يبدو أن أول من ثبته في كتب الحديث هو الإمام أحمد في مسنده كما تتبعت ذلك ..
مسند الإمام أحمد ، المجلد الأول ، مسند عبد الله بن العباس بن عبد المطلب عن النبي صلى الله عليه وسلم.
حدثنا عبد الله حدثني أبي حدثنا حسن حدثنا يعقوب يعني القمي عن جعفر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال:
- جاء عمر بن الخطاب الى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله هلكت قال : وما الذي أهلكك قال : حولت رحلي البارحة قال : فلم يرد عليه شيئا قال: فأوحى الله إلى رسوله هذه الآية : نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم أقبل وأدبر واتقوا الدبر والحيضة.
( قالوا في تفسير حولت رحلي :
(قوله: « حولت رحلي الليلة » : كنى برحله عن زوجته أراد به غشيانها في قبلها من جهة ظهرها لأن المجامع يعلو المرأة ويركبها مما يلي وجهها فحيث ركبها من جهة ظهرها ، كنى عنه بتحويل رحله ، إما نقلاً من الرحل بمعنى المنزل أو من الرحل بمعنى الكور وهو للبعير كالسرج للفرس كذا في المجمع .
( أقبل ) أي جامع من جانب القبل .
( وأدبر ) أي أولج في القبل من جانب الدبر .
( واتق الدبر ) أي إيلاجه فيه ..
قال الطيبي رحمه الله : تفسير لقوله تعالى جل جلاله (( فأتوا حرثكم أني شئتم )) ..) تحفة الأحوذي.
والحديث يوصف بالغرابة والحسن وهو يعني خبر واحد تفرد به الراوي الأول له ؛ وفي بعض رواته ما لم يصل إلى حد الضبط ، وقد نص المباركفوري بأن اثنين من رجاله قليلي(41/17)
ضبط ( يهم ) فأنتبه.
مجمع الزوائد للحافظ الهيثمي : رواه أحمد ورجاله ثقاة .
نيل الأوطار للإمام الشوكاني : رواه أحمد والترمذي وقال حديث حسن غريب .
سنن الترمذي وشرح العلل للإمام الترمذي : هذا حديث حسن غريب .
تحفة الأحوذي للمباركفوري : (( قوله : ( أخبرنا يعقوب بن عبد الله ) بن سعد الأشعري أبو الحسن القمي بضم القاف وتشديد الميم صدوق « يهم » من الثامنة ( عن جعفر بن أبي المغيرة ) الخزاعي القمي ؛ قيل اسم أبي المغيرة دينار صدوق « يهم » ، من الخامسة )) .
والنص الذي أورده الإمام أحمد يختلف عن نص الطبراني في معجمه حيث لم يورد كلمة واتق الدبر والحيضة وإنما أورد أمراً آخر وهو : اتقي الدم والحيض ليشمل النفاس والاستحاضة بقوله الدم ؛ وهذا معقول جداً لأنه من جنس واحد ولتكميل الممنوع القطعي.
معجم الطبراني الكبير ، باب الظاء ، أحاديث عبد الله بن العباس بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف ، سعيد بن جبير عن ابن عباس .
حدثنا الحسين بن إسحاق التستري ثنا الحسين بن أبي السري العسقلاني ثنا يونس بن محمد ثنا يعقوب القمي عن جعفر بن أبي المغيرة عن سعيد بن جبير عن بن عباس قال جاء عمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله هلكت قال وما أهلكك قال حولت رحلي فلم يرد عليه شيئا حتى نزلت نساؤكم حرث لكم فائتوا حرثكم أنى شئتم يقول أقبل وأدبر « واتق الدم والحيض » (12/ 11) .
والتعليق على الحديث بشكل عام :
1 - الحديث ليس بالصحيح و إنما هو حسن غريب ، فهو خبر واحد فيه شبهة عدم الضبط فلا يسلم من الخدش .
2 - الحديث فيه شبهة التصحيف حيث رواه الطبراني بتبديل كلمة دبر بكلمة دم وهي أولى في المقام حيث إن الحديث بصيغة الدبر فيه سكوت عن دم النفاس و الاستحاضة وهذا مخالف للإجماع.
فتكون كلمة « دم » أولى من كلمة « دبر » من هذه الجهة .. وبهذا يخرج الاستدلال بهذا الحديث من المنع إلى الجواز .
3 - لا تناسب(41/18)
بين مقدمة الحديث وبين تاليه :
فقول الخليفة عمر (( هلكت )) : يدل على فعل غريب لم يفعله أحد وخشي أن يكون فيه حرمة ..
فلو كان بالمعنى الذي ذكروه من تحويل الرحل وهو أن يأتيها من خلفها في قبلها فالروايات تنص على أن أهل مكة ومنهم عمر كانوا يفعلون ذلك جميعاً ولكن نساء المدينة اشتكين من ذلك !!
وفي روايات إنما استنكر ذلك اليهود ولا علم للمسلمين بهذا المستنكر !!
اقرأ النص التالي وهو يختصر صفحات من النصوص المشابهة للنص الذي نقلته من الدر المنثور للإمام السيوطي :
وأخرج ابن أبي شيبة عن مرة قال : كانت اليهود يسخرون من المسلمين في إتيانهم النساء ، فأنزل الله {نساؤكم حرث لكم...} الآية .
وأخرج ابن عساكر عن جابر بن عبد الله قال : كانت الأنصار تأتي نساءها مضاجعة ، وكانت قريش تشرح شرحاً كثيراً ، فتزوج رجل من قريش امرأة من الأنصار، فأراد أن يأتيها فقالت : لا ، إلا كما يفعل .
وأخرج ابن جرير من طريق سعيد بن أبي هلال أن عبد الله بن علي حدثه : أنه بلغه أن ناساً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم جلسوا يوماً ورجل من اليهود قريب منهم ، فجعل بعضهم يقول : إني لآتي امرأتي وهي مضطجعة .. ويقول الآخر : إني لآتيها وهي قائمة ، ويقول الآخر : إني لآتيها وهي باركة ..
فقال اليهودي : ما أنتم إلا أمثال البهائم ، ولكنا إنما نأتيها على هيئة واحدة ؛ فأنزل الله (( نساؤكم حرث لكم ...)) الآية .
فإذن قولهم بأنه أراد بتغيير الرحل ما ذكروه إنما هو فبركة واضحة وتصحيف وحرف للكلمة عن معناها وكذبة لم يستطيعوا الثبات عندها ؛ لأن قولهم صريح بأنه فِعلُ أهل مكة فكيف يستنكر بعد عشرين سنة من إسلامه تقريباً ؟!!.
4 – بعد أن ثبت بأن التفسير لتحويل الرحل تبرع غير مناسب يتبين بأن الإضافة بكلمة « اتق الدبر » تعني إثم الخليفة في هذه المسألة وهم يوردوها بغير هذا المعنى بل بمعنى تنزيهه ولا يكون له تنزيهاً إلا بما رواه(41/19)
الطبراني بقوله اتق الدم ؛ لأنه لم يتق الدبر قطعاً بشهادة كل الروايات التي تنص على أن هذا المستنكر إنما هو فعل القرشيين من أهل مكة فليس بوارد أن يشك هو في فعل بعد عشرين سنة من إسلامه وممارسته نفس الفعل .
5 - في القول « اتق الدبر والحيضة » مشكلة في التخصيص لأن كلمة « أنّى » إذا كانت (( زمانية )) فلا معنى للتخصيص بالدبر لأنه مكان !
وهذا خارج موضوع العموم !!.
وإن كانت (( مكانية )) فلا معنى للتخصيص بـ « الحيضة » لأنها (( زمانية )) فهي خارجة موضوعاً !!
ولكن لو كان القول هو « الدم والحيض » يكون منسجماً مع القول بالزمانية ، وإن كان هناك رأي بأن « أنّى » تشعر بالعموم الاستغراقي كما يراه بعض المحققين فتكون غير قابلة للتخصيص ولذلك قال بعضهم بأنها مكانية ولا مخصص للمكان وأما الأزمان فهي محددة سلفاً ولا تعلق لها بـ « أنّى شئتم » فهناك أوقات الدم وأوقات الحيض وحين العبادة كالصوم والصلاة والحج وغيرها من الأزمنة والحالات التي لا تمثل المكان من جسد المرأة كثيرة في المنع ولا علاقة لها بشأن جسد المرأة نفسها.
وروى الربيع في (( الأم )) عن الشافعي قال : احتملت الآية معنيين أحدهما أن تؤتى المرأة حيث شاء زوجها ، لأن « أنى » بمعنى أين شئتم ) ..فتح الباري ، المجلد الثامن ، كِتَاب تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ .
وهذا هو فهم الأغلب بأن « أنّى » مكانية فلا يتناسب هذا العموم الاستغراقي بالتقييد كما لا يخفى .. وسيأتي الكلام .
الدليل الثالث :
========= رواية بن عباس في توهيم ابن عمر =========
والبحث فيها سيأتي في نفس رواية نافع عن ابن عمر وهي رواية نافية لرواية ابن عمر وقالوا بأن النافي لا يحج المثبت لجواز عدم إطلاعه على ما غاب عنه ؛ وهي في سبب نزول الآية والرواية مخالفة لروايات كثيرة تقابلها في الصحة تنص على سبب مخالف لما قاله بن عباس .. وعلى فرض الصحة للروايتين فيكونان متعارضتان متساقطتان .(41/20)
أدلة الجواز :
1 - عموم النص القرآني .
2 - الفتاوى الأولى للصحابة كعبد الله بن عمر .
3 - عموم حق الزوج في الانتفاع وعدم سلامة المعارض .
الدليل الأول :
========= عموم النص القرآني =========
وقد استدلوا بالآية الكريمة وسبب نزولها ، وهي قوله تعالى : (( نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم وقدموا لأنفسكم واتقوا الله واعلموا أنكم ملاقوه وبشر المؤمنين )) سورة البقرة ، الآية : 223 .
والآية بعمومها تدل على أن النساء كسب والإنسان يفعل بكسبه ما يشاء ، ونحن نفهم وجوب الاستثناء بالموانع الشرعية الثابتة ، ولا يجوز الاستثناء بالظن والمظنونات كخبر الواحد والظن الشخصي غير الثابت من الدلالة .
وقد اعترضوا على دلالة الآية على العموم في هذا المورد بنوعين من الاعتراض :
الأول : مفاد الحرث .
الثاني : مفاد « أنّى » هل هي مكانية غير قابلة للتخصيص أم زمانية فتكون غير شاملة للتعميم .
الأول : لقد أشكلوا بأن معنى الحرث مضيّق وموجّه وهو الزرع لا الكسب مطلقاً . ومعناه طلب الولد ؛ فيكون المسموح إنما هو مكان طلب الولد !
وقد أشكل عليهم إشكالاً عظيماً بوجوب التزام تحريم ما عدى ذلك لأنه لا يشمله الإذن وهذا باطل إجماعاً وهو من الوضوح بمكان .. وأجمل ما ورد من إشكال هو المناظرة بين الإمام الشافعي ومحمد بن الحسن وهي تغنينا عن البحث في هذا الجانب وصحته أو عدم صحته ، واليك نص المناظرة :
وروى الحاكم في « مناقب الشافعي » من طريق ابن عبد الحكم أنه حكى عن الشافعي مناظرة جرت بينه وبين محمد الحسن في ذلك ، وأن ابن الحسن احتج عليه بأن الحرث إنما يكون في الفرج ..
فقال له : فيكون ما سوى الفرج محرماً ، فالتزمه .
فقال : أ رأيت لو وطئها بين ساقها أو في أعكانها أنى ذلك حرث ؟
قال : لا.
قال : أ فيحرم ؟!
قال : لا.
قال : فكيف تحتج بما لا تقول به ؟!.
أنظر فتح الباري ، شرح صحيح البخاري للإمام ابن حجر(41/21)
العسقلاني ، المجلد الثامن.
وفي الختام أورد ما أورده الفيروزآبادي في القاموس المحيط من معنى كلمة حرث وهو يبين بكل وضوح بأن التضييق إنما هو تحكم تبرعي محض لا دليل عليه فالكلمة تعني هنا الكسب ويطبق على نفس النكاح وغيره .... أنظر:
الحَرْثُ: الكَسْبُ، وجَمْعُ المالِ، والجمعُ بين أربعِ نِسْوَةٍ، والنِّكاحُ بالمُبالَغَةِ، والمَحَجَّةُ المَكْدودةُ بِالحَوافِرِ، وأصْل جُرادنِ الحِمارِ، والسَّيْرُ على الظَّهْرِ حتى يُهْزَلَ، والزَّرْعُ، وتَحْريكُ النارِ، والتَّفْتيشُ، والتَّفَقُّه، وتَهْيئةُ الحَراثِ، كسَحابٍ، لفُرْضَةٍ في طَرَفِ القَوْسِ يَقَعُ فيها الوَتَرُ، وهي الحُرْثَةُ بالضم أيضاً، فِعْلُ الكُلِّ: يَحْرِثُ ويَحْرُثُ.
وهذا يكفي للعاقل أن يحكم بعدم جدوى هذا التضييق للمعنى : فلا اللغة تساعد ولا لوازم المعنى تساعد كما أشار الإمام الشافعي .
الثاني : النقاش في مفاد « أنّى » هل هي مكانية غير قابلة للتخصيص أم زمانية فتكون غير شاملة للتعميم ؟!.
حسب ما توصلت إليه إن هذا النقاش على كلٍ من الوجهين لا يمنع من أي من الرأيين ، ولكن لو تم الإدعاء بأن « أنّى » استغراقية وهي (( مكانية )) فتكون غير قابلة للتخصيص بالمكان وهو الدبر فتسقط روايات التخصيص ، وهذا ما تشكك به بعض الروايات السنية والشيعية حيث تعد « أنّى » زمانية .
ولكن اللغة لا تأبى المكانية إلا أنه ما الفائدة فروايات التخصيص السنية ساقطة سنياً أساساً لأنها لم تصل لحد الصحة ولم تصل إلى أكثر من كونهما روايتين مبهمتين متناً وموهنتين سنداً !
وهما من أخبار الآحاد المعارضة بغيرها ، وهذه لا تنهض لتخصيص النص القرآني. وإلا لكان القرآن لا معنى له حيث يخصصه الفهم الخاطئ ورواية الآحاد المعارضة !.
الدليل الثاني :
========= الفتاوى والروايات وسبب النزول =========
والعمدة في هذا الموضوع هو الرواية الجامعة المسماة رواية نافع .. وقد رأيت(41/22)
أن العلامة ابن حجر العسقلاني قد أغنى الباحثين عن بحث رواية نافع عن ابن عمر وقد أوسعها بحثاً وأتى بكل التشكيك فيها وبما ينفيها وقد توسع فيها بما لا يقبل الشك ولكن بما أن بحثه طويل جداً فسنأتي بمقتطفات مستوفية للبحث .. والعسقلاني يقرر ما يلي :
1 - إن البخاري قد تصرف بالرواية وحذف وحرّف في الرواية لسبب مجهول .
2 - أن الرواية تم تكذيبها في وقتها وقد جرى الحلف باليمين من أن نافع سمعها وأنها ليست مفردة بل لها ما يشابهها من بقية الصحابة والتابعين .
3 - هناك محاولة لتحريف معناها تجدها غير سليمة وغير منطقية .
4 - قد أثبت على العموم صحة الرواية وصحة مفادها وتلائمها مع عموم القرآن ولكنها رفضت فتوائياً .
وهذه هي الرواية و أهم مقاطعها وكل ما فيها هو من نفس الموضع من كتاب فتح الباري :
1 - الحديث : فتح الباري ، شرح صحيح البخاري ، للإمام ابن حجر العسقلاني ، المجلد الثامن ، كِتَاب تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ ، باب نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ الْآيَةَ.
الحديث:
حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ أَخْبَرَنَا النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ أَخْبَرَنَا ابْنُ عَوْنٍ عَنْ نَافِعٍ قَالَ :
كَانَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا إِذَا قَرَأَ الْقُرْآنَ لَمْ يَتَكَلَّمْ حَتَّى يَفْرُغَ مِنْهُ فَأَخَذْتُ عَلَيْهِ يَوْمًا فَقَرَأَ سُورَةَ الْبَقَرَةِ حَتَّى انْتَهَى إِلَى مَكَانٍ ، قَالَ : تَدْرِي فِيمَ أُنْزِلَتْ ؟؟!
قُلْتُ : لَا .
قَالَ : أُنْزِلَتْ « فِي كَذَا وَكَذَا » (( !! ))
ثُمَّ مَضَى .
وَعَنْ عَبْدِ الصَّمَدِ حَدَّثَنِي أَبِي حَدَّثَنِي أَيُّوبُ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ « قَالَ يَأْتِيهَا فِي » (( !! ))
رَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ(41/23)
عَنْ ابْنِ عُمَرَ .
2 - تصرف البخاري فيها:
في موضعين :
أ - ( قَالَ أُنْزِلَتْ فِي كَذَا وَكَذَا )
ب - ( قَالَ يَأْتِيهَا فِي )
قال : أنزلت في كذا وكذا ثم مضى ) هكذا أورده مبهماً لمكان الآية والتفسير ...
وقد عاب الإسماعيلي صنيع البخاري فقال : جميع ما أخرج عن ابن عمر مبهم لا فائدة فيه ، وقد رويناه عن عبد العزيز - يعني الدراوردي - عن مالك وعبيد الله بن عمر وابن أبي ذئب ثلاثتهم عن نافع بالتفسير ، وعن مالك من عدة أوجه ا هـ . كلامه.
ورواية الدراوردي المذكورة قد أخرجها الدار قطني في « غرائب مالك » من طريقه عن الثلاثة عن نافع نحو رواية ابن عون عنه ولفظه : « نزلت في رجل من الأنصار أصاب امرأته في دبرها، فأعظم الناس في ذلك فنزلت.
قال : فقلت له من دبرها في قبلها ، فقال : لا إلا في دبرها » .
وأما رواية عبد الصمد فأخرجها ابن جرير في التفسير عن أبي قلابة الرقاشي عن عبد الصمد بن عبد الوارث حدثني أبي فذكره بلفظ يأتيها في الدبر ، وهو يؤيد قول ابن العربي ويرد قول الحميدي .
وهذا الذي استعمله البخاري نوع من أنواع البديع يسمى الاكتفاء ، ولا بد له من نكتة يحس بسببها استعماله . (؟؟؟؟)
وأما رواية محمد بن يحيى بن سعيد القطان فوصلها الطبراني في « الأوسط » من طريق أبي بكر الأعين عن محمد بن يحيى المذكور بالسند المذكور إلى ابن عمر قال :
" إنما نزلت على رسول " الله صلى الله عليه وسلم (نساؤكم حرث لكم) رخصة في إتيان الدبر ، قال الطبراني : لم يروه عن عبد الله ابن عمر إلا يحيى بن سعيد ، تفرد به ابنه محمد ، كذا قال ..
ولم يتفرد به يحيى ابن سعيد فقد رواه عبد العزيز الدراوردي عن عبيد الله بن عمر أيضاً كما سأذكره بعد ، وقد روي هذا الحديث عن نافع أيضاً جماعة غير ما ذكرنا ورواياتهم بذلك ثابتة عند ابن مردويه في تفسيره وفي « فوائد الأصبهانيين لأبي الشيخ » و « تاريخ نيسابور للحاكم » و « غرائب مالك(41/24)
للدار قطني » وغيرها. (؟؟؟؟)
قوله : ( يأتيها في ) هكذا وقع في جميع النسخ لم يذكر ما بعد الظرف وهو المجرور ، ووقع في « الجمع بين الصحيحين للحميدي » يأتيها في الفرج ، وهو من عنده بحسب ما فهمه . (!!!!)
ثم وقفت على سلفه فيه وهو البرقاني فرأيت في نسخة الصغاني « زاد البرقاني يعني الفرج » وليس مطابقاً لما في نفس الرواية عن ابن عمر لما سأذكره ، وقد قال أبو بكر بن العربي في « سراج المريدين » :
أورد البخاري هذا الحديث في التفسير فقال : « يأتيها في » وترك بياضاً ، والمسألة مشهورة صنف فيها محمد بن سحنون جزءاً ، وصنف فيها ابن شعبان كتاباً ، وبين أن حديث ابن عمر في إتيان المرأة في دبرها . (؟؟؟؟)
قوله : ( رواه محمد بن يحيى بن سعيد ) أي القطان ( عن أبيه عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر ) هكذا أعاد الضمير على الذي قبله ، والذي قبله قد اختصره كما ترى ، فأما الرواية الأولى وهي رواية ابن عون فقد أخرجها إسحاق بن راهويه في مسنده وفي تفسيره بالإسناد المذكور.
وقال بدل قوله حتى انتهى إلى مكان " حتى انتهى إلى قوله نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم " ..
فقال : أتدرون فيما أنزلت هذه الآية ؟!
قلت : لا.
قال : نزلت في إتيان النساء في أدبارهن!.
وهكذا أورده ابن جرير من طريق إسماعيل بن علية عن ابن عون مثله ، ومن طريق إسماعيل بن إبراهيم الكرابيسي عن ابن عون نحوه ، أخرجه أبو عبيدة في « فضائل القرآن » عن معاذ عن ابن عون فأبهمه فقال في كذا وكذا.
3 – توثيق الرواية :
وتابع نافعاً في ذلك على زيد بن أسلم عن ابن عمر وروايته عند النسائي بإسناد صحيح .. وتكلم الأزدي في بعض رواته ورد عليه ابن عبد البر فأصاب قال :
ورواية ابن عمر لهذا المعنى « صحيحة مشهورة » من رواية نافع عنه بغير نكير أن يرويها عنه زيد بن أسلم. » » » » ( المشهور يقرب من المتواتر قيمة )
قلت : وقد رواه عن عبد الله بن عمر أيضاً ابنه(41/25)
عبد الله أخرجه النسائي أيضاً وسعيد بن يسار وسالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه مثل ما قال نافع ، وروايتهما عنه عند النسائي وابن جرير ولفظه " عن عبد الرحمن بن القاسم قلت لمالك : إن ناساً يروون عن سالم : كذب العبد على أبي !
فقال مالك : أشهد على زيد بن رومان أنه أخبرني عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه مثل ما قال نافع !
فقلت له : إن الحارث بن يعقوب يروي عن سعيد بن يسار عن ابن عمر أنه قال أف ، أو يقول ذلك مسلم ؟!
فقال مالك : أشهد على ربيعة لأخبرني عن سعيد بن يسار عن ابن عمر مثل ما قال نافع !!
وأخرجه الدار قطني من طريق عبد الرحمن بن القاسم عن مالك وقال : هذا محفوظ عن مالك صحيح ا هـ.
وإن كانت الرواية فيه صحيحة على قاعدته.
ولم ينفرد ابن عمر بسبب هذا النزول ، فقد أخرج أبو يعلى وابن مردويه وابن جرير والطحاوي من طريق زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخضري :
(( أن رجلاً أصاب امرأته في دبرها ، فأنكر الناس ذلك عليه وقالوا : نعيرها ، فأنزل الله عز وجل هذه الآية )) ..
وعلقه النسائي عن هشام بن سعيد عن زيد ، وهذا السبب في نزول هذه الآية « مشهور » وكأن حديث أبي سعيد لم يبلغ ابن عباس وبلغه حديث ابن عمر فوهمه فيه ، فروى أبو داود من طريق مجاهد عن ابن عباس قال :
(( إن ابن عمر وهم والله يغفر له، إنما كان هذا الحي من الأنصار وهم أهل وثن مع هذا الحي من يهود وهم أهل كتاب فكانوا يأخذون بكثير من فعلهم ، وكان أهل الكتاب لا يأتون النساء إلا على حرف ، وذلك أستر ما تكون المرأة ، فأخذ ذلك الأنصار عنهم ، وكان هذا الحي من قريش يتلذذون بنسائهم مقبلات ومدبرات ومستلقيات ، فتزوج رجل من المهاجرين امرأة من الأمصار فذهب يفعل فيها ذلك فامتنعت ، فسرى أمرهما حتى بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله تعالى : ( نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم ) مقبلات ومدبرات ومستلقيات ، في الفرج )) ..
4 -(41/26)
محاولة تحريف المعنى .
ووقع في « الجمع بين الصحيحين للحميدي » يأتيها في الفرج ، " وهو من عنده بحسب ما فهمه " .
ثم وقفت على سلفه فيه وهو البرقاني فرأيت في نسخة الصغاني « زاد البرقاني يعني الفرج » وليس مطابقاً لما في نفس الرواية عن ابن عمر لما سأذكره ، وقد قال أبو بكر بن العربي في « سراج المريدين » : أورد البخاري هذا الحديث في التفسير فقال : « يأتيها في » وترك بياضاً ..
5 - إثبات صحة الرواية والعمل خلافها :
قلت : وقد رواه عن عبد الله بن عمر أيضا ابنه عبد الله أخرجه النسائي أيضاً وسعيد بن يسار وسالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه مثل ما قال نافع ، وروايتهما عنه عند النسائي وابن جرير ولفظه :
عن عبد الرحمن بن القاسم قلت لمالك : إن ناساً يروون عن سالم : كذب العبد على أبي ، فقال مالك : أشهد على زيد بن رومان أنه أخبرني عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه مثل ما قال نافع ، فقلت له : إن الحارث بن يعقوب يروي عن سعيد بن يسار عن ابن عمر أنه قال أف ، أو يقول ذلك مسلم ؟ فقال مالك : أشهد على ربيعة لأخبرني عن سعيد بن يسار عن ابن عمر مثل ما قال نافع ، وأخرجه الدار قطني من طريق عبد الرحمن بن القاسم عن مالك وقال: هذا محفوظ عن مالك صحيح ا هـ.
وإن كانت الرواية فيه صحيحة على قاعدته.
ولم ينفرد ابن عمر بسبب هذا النزول ، فقد أخرج أبو يعلى وابن مردويه وابن جرير والطحاوي من طريق زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخضري (( أن رجلاً أصاب امرأته في دبرها ، فأنكر الناس ذلك عليه وقالوا : نعيرها ، فأنزل الله عز وجل هذه الآية )) وعلقه النسائي عن هشام بن سعيد عن زيد ، وهذا السبب في نزول هذه الآية مشهور ، وكأن حديث أبي سعيد لم يبلغ ابن عباس وبلغه حديث ابن عمر فوهمه فيه ..
الفتوى بخلافه : برواية بن عباس .
وقال المازري : اختلف الناس في هذه المسألة وتعلق من قال بالحل بهذه الآية ، وانفصل عنها من قال(41/27)
يحرم بأنها نزلت بالسبب الوارد في حديث جابر في الرد على اليهود ، يعنى كما في حديث الباب الآتي .
قال : والعموم إذا خرج على سبب قصر عليه عند بعض الأصوليين ، « وعند الأكثر العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، وهذا يقتضى أن تكون الآية حجة في الجواز » ، لكن وردت أحاديث كثيرة بالمنع فتكون مخصصة لعموم الآية ، « وفي تخصيص عموم القرآن ببعض خبر الآحاد خلاف » ا هـ.
وذهب جماعة من أئمة الحديث – كالبخاري والذهلي والبزار والنسائي وأبي علي النيسابوري – إلى أنه لا يثبت فيه شيء .
قلت : لكن طرقها كثيرة فمجموعها صالح للاحتجاج به ، ويؤيد القول بالتحريم أنا لو قدمنا أحاديث الإباحة للزم أنه أبيح بعد أن حرم والأصل عدمه ، فمن الأحاديث الصالحة الإسناد حديث خزيمة بن ثابت أخرجه أحمد والنسائي وابن ماجه وصححه ابن حبان ، وحديث أبي هريرة أخرجه أحمد والترمذي وصححه ابن حبان أيضاً ، وحديث ابن عباس وقد تقدمت إشارة إليه .
ورواية ابن عباس هي رد على نفس هذه الرواية وهي تذيل لها ولكن اتهم بن عباس انه لم يطلع على ذلك :
فروى أبو داود من طريق مجاهد عن ابن عباس قال: " إن ابن عمر وهم والله يغفر له، إنما كان هذا الحي من الأنصار وهم أهل وثن مع هذا الحي من يهود وهم أهل كتاب فكانوا يأخذون بكثير من فعلهم، وكان أهل الكتاب لا يأتون النساء إلا على حرف، وذلك أستر ما تكون المرأة، فأخذ ذلك الأنصار عنهم، وكان هذا الحي من قريش يتلذذون بنسائهم مقبلات ومدبرات ومستلقيات، فتزوج رجل من المهاجرين امرأة من الأمصار فذهب يفعل فيها ذلك فامتنعت، فسرى أمرهما حتى بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله تعالى ( نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم ) مقبلات ومدبرات ومستلقيات ، في الفرج "
وهذا التوهيم يشك في صدوره من ابن عباس لتضافر الروايات عن غير بن عمر في سبب نزول الآية الذي يخالف هذا السبب .. وهو يعلم أنه ليس من حقه النفي ما لم(41/28)
يعلم يقيناً بالواقعة ، والأمر مشكوك فيه بالنسبة لابن عباس لصغر سنه فقد مات رسول الله وابن عباس عمره ست سنوات وقيل عشر وهذا عمر لا يساعد على حضور الواقعة فلا بد من وجود واسطة لشهود الحدث وهو منفي في الرواية .
والخلاصة بأن رواية ابن عمر ثابتة ومعناها واضح ولكنها متروكة لأسباب يقال عنها وجود المعارض الأقوى بينما الموجود هو العكس لأن الدليل هو عموم الآية وسبب النزول نص صريح لتلك الحالة بينما الروايات المعارضة غير تامة المعنى والمتن بالإضافة إلى عدم التسليم بالحسن فضلاً عن الصحة .
الدليل الثالث على الجواز :
======== عموم حق الزوج في الانتفاع وعدم سلامة المعارض ========
هذا الموضوع لا يحتاج إلى مزيد كلام وتطويل بحث فإن من المسلّمات إن أي عقد يجري على عينٍ يبيح التصرف فيها ما لم يدل نص على المنع وهنا القضية واضحة فالعقد على الزوجية يبيح تصرف أحدهما في الآخر والمنع مخدوش ولم يصل إلى حد اليقين التشريعي .
خلاصة مسألة إتيان الحلائل في الأدبار لا فرق بين السنة والشيعة في توفر الاتجاهين في المسألة .. واعلم بأن اتجاه الجواز بالنسبة لحاق الدليل عند السنة أقوى من المنع والتحريم ولكن الفتوى على خلافه ما عدى ما ينسب للإمام مالك وما يبدو من تلميذه الشافعي بخلاف تلميذه الآخر محمد بن الحسن. حيث النص على الجواز صراحة.
وقد ذهب السيد الخميني في فتواه إلى ترجيح أدلة المنع على تردد وهذا يتفق مع الاتجاه السائد في الفقه السني والشيعي .. ولو ذهب للطرف الآخر من الدليل لكان معه حجة أيضاً خصوصاً على الموازين السنية ولكن قادته مبانيه وأصوله الاجتهادية للتوقف في أدلة الجواز والركون إلى الأصل العملي.
فلا مجال لهذا الصراخ الزائف وتغيير الحقائق واستغلال جهل الناس بالفقه الإسلامي للاعتداء على فقيه محترم لم يقل أصلاً في المسألة بخلاف ما يستسيغه الناس وما هو مقرر في الفقه السني ... رغم جهل الناس(41/29)
بحقائق الأمور !!.
تقبلوا تحياتي ..
أخوكم / المنار .
رداً على موضوع ( الخوئي يبيح لعب الرجل بعورة الرجل )
الفتوى الرابعة : يقول صاحبنا :
(( الخوئي يبيح لعب الرجل بعورة الرجل والمرأة بعورة المرأة من باب المزاح !
سؤال 784 : هل يجوز لمس العورة من وراء الثياب من الرجل لعورة رجل آخر ، ومن المرأة لعورة أخرى ، لمجرد اللعب والمزاح ، مع فرض عدم إثارة الشهوة !
الخوئي : لا يحرم في الفرض ، والله العالم .
صراط النجاة في أجوبة الاستفتاءات ج3 ( مسائل في الستر والنظر والعلاقات )
نصيحة أخوية صغيرة : أحذر من مجالسة مقلّد للخوئي يكثر المزاح ! والله المستعان )) انتهى كلامه.
تبتني هذه المسألة على أمرين :(41/30)
1 - عدم جواز لمس الرجل لعورة الرجل وكذا المرأة بغير حائل وجوازها بحائل بغير شهوة ، وهذا متفق عليه فقهياً .
ولا يعرف سبب النقد الذي وجهه صاحب الملف هل هو للإسلام عموماً أم لكونه جاهل لا يعرف ما هي الأحكام ، وهذا مرجح لأن كل ما وجدناه في هذا الملف هو من هذا القبيل .
2 - والأمر الثاني هو تعريف العورة فإن صاحبنا تبادر إلى ذهنه معنى « السوءة » لأنها حاضرة في ذهنه مسبقاً بحسب طبيعة تفكيره ..
والواقع أن السيد الخوئي عنده أن العورة من السرة إلى الركبة ؛ وهذا ما ولد هذا السؤال لأن من غير المعتاد أن يمزح الإنسان المسلم باللعب والمزاح بالسوءة ؛ بل هو الضرب على الفخذ أو الركبة .. وهذا كثير الابتلاء به بين المسلمين عموماً لمن يقول بأن العورة من السرة إلى الركبة .
والنصوص الفقهية في هذا الباب من الكثرة إلى حد عدم إمكان الإتيان بها جميعاً .. ولكن لا بأس بالإتيان بعينات مما يدل على المطلوب لمن لم يطلع نهائياً على الفقه كصاحبنا واضع الملف !! لأن المعنى المطروح مسلّم بين جميع الفقهاء المسلمين ، ولو التفت إلى تعميمات الفقهاء لوجدهم يتغافلون كثيراً عن موضوع الشهوة والريبة وما إليها من تعابير .. فيقولون إن بمجرد الحائل يجوز .
ولكن فرض السؤال الذي أجاب عليه السيد الخوئي هو مع عدم الشهوة فليلتفت إلى ذلك .
تحفة الأحوذي للمباركفوري : 42 ـ كتاب الاستئذان والاَداب عن رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم . باب مَا جَاءَ في كَرَاهِيَةِ مبَاشَرَةِ الرّجُلِ الرّجُلَ وَالمَرْأَةِ المَرْأَة :
2869 ـ حدثنا عَبْدُ الله بنُ أَبي زِيَادٍ، أخبرنا زَيْدُ بنُ حُبَابٍ، أخبرني الضّحّاكُ بن عُثْمَانَ، أخبرني زَيْدُ بنُ أَسْلَمَ عن عَبْد الرّحْمَن بنِ أَبي سَعِيدٍ الخدري عن أَبِيهِ، قالَ : قالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم : "لاَ يَنْظُرُ الرّجُلُ إِلَى عَوْرَةِ الرّجُلِ ، وَلاَ تَنْظُرُ الْمَرْأَةُ(41/31)
إِلَى عَوْرَةِ المَرْأَةِ ، وَلاَ يُفْضِي الرّجُلُ إِلَى الرّجُلِ في الثَوْبِ الْوَاحِدِ ، وَلاَ تُفْضِي الْمرْأَةُ إِلَى المَرْأَةِ في الثّوْبِ الْوَاحِدِ ".
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ صحيحٌ.
(وفي الحديث تحريم ملاقاة بشرتي الرجلين « بغير حائل » إلا عند ضرورة ، ويستثنى المصافحة ) .
عون المعبود شرح سنن أبي داوود للآبادي : 27 - كتاب الحمام. 1493 - باب في التعري . الحديث رقم : 4015
( قال في المصباح : أفضى الرجل بيده إلى الأرض مسها ببطن راحته ، وأفضى إلى امرأته باشرها وجامعها ، وأفضيت إلى الشيء وصلت إليه ، وفيه النهي عن اضطجاع الرجل مع الرجل في ثوب واحد ، وكذلك المرأة مع المرأة سواء كان بينهما حائل أو لم يكن بينهما حائل بأن يكونا متجردين .
قال الطيبي: لا يجوز أن يضطجع رجلان في ثوب واحد متجردين وكذا المرأتان ومن فعل يعزر انتهى.
قال النووي: فهو نهى تحريم إذا لم يكن بينهما حائل، وفيه دليل على تحريم لمس عورة غيره بأي موضع من بدنه كان وهذا متفق عليه، وهذا مما تعم به البلوى ويتساهل فيه كثير من الناس باجتماع الناس في الحمام ، فيجب على الحاضر فيه أن يصون بصره ويده وغيرها عن عورة غيره ، وأن يصون عورته عن بصر غيره ويد غيره من قيم وغيره ، ويجب عليه إذا رأى من يخل بشيء من هذا أن ينكر عليه.)
الكلام صريح جدا بأن شرط الحرمة إزالة الحائل وأما مع الثياب والحائل فلا حرمة .. بل أن العورة لا تكون عورة مع الحائل أنظر :
المبسوط للسرخسي : المجلد الخامس (الجزء 10). كتاب الاستحسان :
( ولأن بسبب الستر ينعدم معنى العورة )
معنى العورة عند السيد الخوئي :
كما قلنا فإن الفقه الجعفري فيه ثلاثة آراء في حد العورة :
الرأي الأول : هو ما بين السرة والركبة .
والرأي الثاني : هو السوءتين ورأي بتفصيل بين حكم العورة للتخلي وعورة حكم العورة للصلاة ، كما يسمى بالفقه السني عورة مخففة وعورة مغلظة(41/32)
.. وهذا التفصيل نفسه عند باقي المذاهب والأمر فيه نقاش طويل عريض لا داعي لذكره بطوله ولكن نختار مقتطفات مما وافق رأي السيد الخوئي من أنه ما بين السرة والركبة احتياطاً ومما وافق غيره من فقهاء الشيعة .. بشكل نماذج من النقول والفتاوى.
قال السيد الخوئي : ( وفي حكم العورة ما بين السرة والركبة على الأحوط ) وهنا الاحتياط وجوبي . بمعنى عدم إحراز المعذورية بالترك . وهذا في أحكام التخلي وذكره فيها ...
منهاج الصالحين ج1 صفحة 21 ..
قال هذا بعد أن نقل المشهور من معنى العورة في مبحث التخلي وهو مقام يختلف فيه الحكم عن غيره كستر العورة في الصلاة لأن في التخلي يجب ستر العورة المغلظة كما يذهب إليه أغلب الفقهاء هو ( يجب حال التخلي بل في سائر الأحوال ستر بشرة العورة - وهي القبل والدبر والبيضتان - عن كل ناظر مميز عدا الزوج والزوجة .. ) ؛ وهذا الموجود في الفقه الشيعي هو كما يذهب إليه الفقه السني كما: ( وستر العورة في الصلاة وغير الصلاة واجب – « وفيه عند الخلوة خلاف » - قاله الجزري في النهاية ) .. والخلاف هو في حدها وليس في سترها أو عدم سترها لعدم القائل بعدم وجوب ستر العورة عند التخلي في الفقه السني .
== الرأي بأن العورة هي السوءة :
الدر المنثور للسيوطي : (وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس في قوله {خذوا زينتكم عند كل مسجد} قال: كان رجال يطوفون بالبيت عراة فأمرهم الله بالزينة ، والزينة اللباس ، وهو ما يواري السوءة وما سوى ذلك من جيد البز والمتاع.)
صحيح مسلم ؛ الجزء الأول . 3 – (كتاب الحيض). (18) باب جواز الاغتسال عرياناً في الخلوة. وجدت الكلمات في الحديث رقم: 75 - (339)
(السوءة هي العورة ، سميت بذلك لأنه يسوء صاحبها كشفها.)
فمما يقطع به المرء أن ما فوق الركبة أو الفخذ ليس مما يسوء صاحبه كشفه كما وردت أحاديث بكشف رسول الله فخذه .. وأعتمدها من يقول بأن العورة هي(41/33)
السوءتين من فقهاء السنة .
المبسوط للسرخسي المجلد الخامس (الجزء 10). كتاب الاستحسان.
وكان أبو بكر محمد بن الفضل - رحمه الله تعالى - يقول إلى موضع نبات الشعر ليس من العورة أيضاً لتعامل العمال في الإبداء عن ذلك الموضع عند الاتزار .
== الرأي بأن العورة هي ما بين الركبة والسرة :
المبسوط للسرخسي المجلد الخامس (الجزء 10) كتاب الاستحسان.
(لحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده - رضي الله عنهم - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (عورة الرجل ما بين سرته إلى ركبته) ..
وفي رواية : (ما دون سرته حتى يجاوز ركبته) وبهذا تبين أن السرة ليست من العورة بخلاف ما يقوله أبو عصمة سعد بن معاذ أنه أحد حدي العورة فيكون من العورة كالركبة بل هو أولى لأنه في معنى الاشتهاء فوق الركبة)
(فأما نظر المرأة إلى الرجل فهو كنظر الرجل إلى الرجل لما بينا أن السرة وما فوقها وما تحت الركبة ليس بعورة من الرجل وما لا يكون عورة فالنظر إليه مباح للرجال والنساء كالثياب وغيرها )
== الرأي بالتفصيل بين العورة الخفيفة والعورة الغليظة :
المبسوط للسرخسي المجلد الخامس (الجزء 10). كتاب الاستحسان.
(فأما الآية فالمراد بالسوأة العورة الغليظة وبه نقول أن العورة الغليظة هي السوأة ولكن حكم العورة ثبت فيما حول السوأتين باعتبار القرب من موضع العورة فيكون حكم العورة فيه أخف فأما الركبة فهي من العورة عندنا)
الفقه على المذاهب الأربعة لعبد الرحمن الجزيري : الجزء الأول. كتاب الصلاة. [مباحث عامة]. مبحث ستر العورة في الصلاة.
(المالكية قالوا: إن العورة في الرجل والمرأة بالنسبة للصلاة تنقسم إلى قسمين: مغلظة؛ ومخففة، ولكل منهما حكم، فالمغلظة للرجل السوءتان، وهما القبل والخصيتان، وحلقة الدبر لا غير والمخففة له ما زاد على السوءتين مما بين السرة والركبة، وما حاذى ذلك من الخلف، والمغلظة للحرة جميع بدنها ما عدا الأطراف والصدر، وما(41/34)
حاذاه من الظهر، والمخففة لها هي الصدر، وما حاذاه من الظهر والذراعين والعنق والرأس، ومن الركبة إلى آخر القدم، أما الوجه والكفان ظهراً وبطناً فهما ليستا من العورة مطلقا) ....
وقد حكموا بأن انكشاف العورة المخففة في الصلاة لا توجب الإعادة إذا فات وقتها وإذا كان في الوقت عليه الإعادة .. بينما إذا انكشفت العورة المغلظة بطلت الصلاة ويجب الإعادة سواء في الوقت أو خارجه .
ــ مفهوم الشهوة عند الفقهاء :
لم أجد تحديداً لمفهوم الشهوة عندهم ويبدو أنهم أخذوا بالقدر المتيقن من مظاهر الشهوة ولم يعتنوا بمجرد الإرادة والطلب لها فقد نقل الجزيري ( وكان اللامس شهوياً - « فقصد اللذة ولكنه لم يجدها » - فإن وضوءه لا ينتقض بمجرد قصد اللذة ...) بينما نقل عن الحنفية ما يلي: الفقه على المذاهب الأربعة : الجزء الأول . كتاب الطهارة . مباحث الوضوء . مبحث نواقض الوضوء . (القسم الثاني من النواقض بغير الخارج: لمس من يشتهي ، سواء أكان امرأة ، أم غلاماً ).
وتكلم عن ذلك عند الأحناف ( وبقيت صورة أخرى ، وهي أن يتلاصق رجل مع آخر وهما عاريان ، كما قد يقع في الحمام حال الزحام ، وحكم هذه الحالة هو أن لا ينتقض وضوءهما - « إلا إذا كان اللامس منتصباً» ) فالانتصاب هو تمام الدليل على الشهوة عندهم .
فهل عند صاحبنا اعتراض على الفقه السني ؟!...
وهذه الأحكام والتعاريف متفق عليها ، ولا يوجد بين المسلمين اختلاف .. فعلى أي أساس وجه نقده وسبه وشتمه ؟؟!
والاستهزاء بالتحذير من مقلدي الخوئي فما سيقول لمقلدي الفقه السني الذي يعتبر الحائل مغيّر لمعنى العورة ولم يذكر قيد بعدم الشهوة ؟؟!
إذن عليه أن يحذر الناس من كل مسلم وهذا دليل صهيونية صاحب مثل هذا الاتجاه.
في انتظار إجابته ..
وإلى أن ألتقي بكم في الحلقة القادمة تقبلوا تحياتي ..
أخوكم / المنار ..
رداً على موضوع ( فضل الله يبيح النظر إلى النساء و هنّ عاريات )(41/35)
الفتوى الثالثة : لننظر ماذا يقول صاحبنا ملفق الملف .. ونرى مقدار جهله بالفقه !!
يقول :
(( فضل الله يبيح النظر إلى النساء وهن عاريات !
يقول فضل الله في كتابه النكاح ج1 ص66 ( فلو أنّ النساء قد اعتادت الخروج بلباس البحر جاز النظر إليهن بهذا اللحاظ. ) إلى أن قال ( وفي ضوء ذلك قد يشمل الموضوع النظر إلى العورة عندما تكشفها صاحبتها ، كما في نوادي العراة أو السابحات في البحر في بعض البلدان أو نحو ذلك )
قلت : أي دين وأي منطق هذا ؟ لكنها مخرجات الحوزات التي ذكرنا في مقالة ( ماذا يقول الخوئي عن المخدرات ) أنها كانت مرتعاً للفساد ! فإنا لله وإنا إليه راجعون )) انتهى نقله وقوله.(41/36)
== التحقيق في الفتوى ==
ليس تحت يدي الكتاب الذي أشار إليه ولكن بقراءة النص المنشور الآن يتبين مدى جهل واضع هذا الملف بالفقه وأصوله فهذه فتوى مطابقة لكل أصول الفقه الإسلامي عموماً .. وليس فيها أي مخالفة فقهية من ناحية إجرائية كتطبيق للقواعد العامة .
رغم رغبتي بوجود شرط عدم تقصد النظر في نص الفتوى ؛ وان كان يفهم من المسألة ذلك ولكن التصريح ضروري .. وبما أن الكلام مقطّع الأوصال فلا يمكن تمني تغيير النص لجواز أن يكون غير خالٍ مما نرغب بوضعه فيه .. ولكن يد التحريف والعبث نالت من النص .
ولا ننسى أن صاحب الفتوى له منهج معروف في تبسيط الفتاوى مما يضطره إلى التنازل عن المصطلح الفقهي وإجراء العملية الفقهية على أصولها في الصياغة وإنما يصير إلى الصياغة الأدبية وذلك جائز في التبليغ ، ويمكن لصاحب هكذا منهج أن ينفي قصده للجواب الفني الفقهي بدقته من ذكر الشروط والقيود الاحترازية.
غير أن حبنا للمؤمنين يجعلنا أن نتمنى منهم السعي إلى فهم المنهج الفقهي بدل أن نطلب من الفقيه تنازلا عن الصياغة العلمية لأجل التفهيم فما أحلى أن نفهم بدقة بدل أن نطلب التبسيط المخل في كثير من الأحيان .. وعلى المبلّغ أن يدرب اتباعه على مثل هذه الدقة في المصطلح والعرض .
ومع ذلك فان الفتوى المشار إليها - كما قلنا - لم تكن خارجة عن القواعد العامة للفقه الإسلامي ، وليس من حق الجاهل بدقائق الفقه أن يعترض فيما لا يعلم وهذه المسألة بالنسبة للفقه السني لم تحرر في المجاميع الفقهية بشكل واضح لغير المتخصص لأن الفقه السني لم يعالج موضوع النظر إلى غير المحترم شرعاً رغم توفر النصوص فيه وبعض الاجتهادات الدائرة حول المسألة .
وليس في ذلك عيب لأن الفقه غالباً وليد المواجهة للمشكلة ولم يكن الفقه القديم قبل إيقاف الاجتهاد قد واجه مشكلة حقيقية في هذا كالسفور والتعري والنظر إلى ما أبداه المنظور إليه متعمداً .. فهذه مشكلة(41/37)