بسم الله الرحمن الرحيم
اسم الكتاب / مقالات الدكتور إبراهيم عوض(1/1)
الفرقان الحق
فضيحة العصر - قرآن أمريكى ملفق
بقلم :د. إبراهيم عوض
كلمة سريعة
فى الصفحات التالية دراسة وتفنيد لما يسمَّى بـ " الفرقان الحق " ، وهو عبارة عن مجموعة من السُّوَر تتجاوز الخمسين لفَّقَتْها ، فى الفترة الأخيرة على غرار القرآن الكريم ، بعضُ الجهات التبشيرية المتعاونة مع الصهيونية العالمية بتخطيط أمريكى بغية أن تحلّ مع الأيام فى نفوس المسلمين محل القرآن المجيد. وفى هذه السُّوَر هجومٌ كله إقذاع وفُحْش على سيد الأنبياء والمرسلين ، واتهامٌ بذىء بالكفر والضلال والنفاق له عليه الصلاة والسلام ، وتسفيهٌ لكل شىء جاء به الإسلام من توحيدٍ ونعيمٍ أُخْرَوِىّ وصلاةٍ وصيامٍ وحجٍّ وجهادٍ وطهارةٍ وتشريعاتٍ أسريةٍ … ، وادِّعاءٌ بأن كتاب الله إنما هو وحىُ شيطانٍ إلى شيطان ، وتمجيدٌ للتثليث النصرانى ومداعبةٌ من طَرْفٍ خفى لليهود …
وقد نبَّه عدد من الصحف العربية مؤخرا لهذا الكتاب ، وقدَّم بعضُها عرضًا سريعا له أبرز فيه الغايات التى يهدف ملفقوه إليها. لكن ْ لم يصل إلى علمى أن أحدًا قد حاول أن يدرس دراسةً تحليليةً هذه السُّوَر التى يقدمها ملفقوها إلى القراء بوصفها وحيا إلهيا ، وهذا ما حَفَزنى للقيام بهذه المهمة تبصرةً للأمة بالأخطار التى تتهدد عقيدتها كى تكون على حذرٍ مما يُخَطَّط لها وتأهُّبٍ يقظٍ لما يمكن أن تتمخض عنه الأيام من مصائب ومؤامرات .
(1/2)
وقد استبان لى بعد الدراسة التى قمت بها لتلك النصوص أن أصحابها لم يكونوا بالذكاء الذى تتطلبه مثل هذه المؤامرة ، إذ إن الثقوب فيها كثيرة وشنيعة . وهذا من شأنه أن يؤكد لنا أن الأعداء ، رغم تفوقهم العلمى والاقتصادى والعسكرى ، ليسوا معصومين بل كثيرا ما يقعون فى الأخطاء المضحكة ، وأننا نستطيع أن نضع أيدينا على جوانب ضعفهم وأن نستفيد منها ونحوِّلها إلى نقاط قوة لنا لو صحَّتْ منّا العزيمة وتسلَّحنا بالإخلاص والدأب والصبر والإيمان بالله والثقة بأنفسنا والغيرة على حاضر أمتنا ومستقبلها… كما يؤكد أيضا أن دين الله لا يمكن أن يغلبه غالب مهما تآمر المتآمرون ومهما خطّطوا ومهما رصدوا الإمكانات والجهود . بيد أن هذا لا يعنى أن نغطّ فى نوم عميق ونَنْكِل عن أداء الواجب المَنُوط بنا ، وإلا وَكَلَنا الله للذلة والمهانة واستبدل بنا قومًا غيرنا للتشرف بحفظ دينه والعمل بما فيه من خيرٍ كفيلٍ بإبلاغ من يحرص عليه إلى قمم الذُّرَى العوالى فى القوة والتحضر !
فضيحة العصر - قرآن أمريكى ملفق
(1/3)
قرأت فى بعض الصحف العربية بأُخَرة عن ظهور كتاب بعنوان " الفرقان الحق " يهاجم القرآنَ هجوما شرسا، ويسبّ الرسولَ عليه السلام وأتباعَه أجمعين ، وعلى رأسهم الصحابة الكرام ، مع أن رقبةَ أىّ عِلْج من هؤلاء الذين لفقوا الكتاب لا تساوى قُلامةَ ظُفْر مما يطيِّره المقص من أظافر أرجلهم . وجاء فى بعض ما قرأناه من مقالات عن هذا الموضوع أن جهات تبشيرية وصهيونية محترقة تشرف عليها بعض الدوائر الأمريكية وراء هذا العمل الذى يجسد التعاون الوثيق بين هاتين الجهتين الحاقدتين على سيد الأنبياء عليه السلام والتوحيد النقى الذى جاء به فقَشَع العقائد الوثنية للهمجيين المغرمين بدماء البشر وتقريبها لأربابهم المتوحشين ، وكذلك العُنْجُهيّات القبلية اليهودية التى سوَّلَتْ لبنى إسرائيل ولا تزال أن الله ليس إلا ربًّا خاصًّا بهم دون سائر البشر . وكدَيْدَنِى فى مثل هذه الأحوال أخذتُ أسأل هنا وههنا عن السبيل إلى الحصول على نسخة من ذلك الكتاب كى أفهم الموضوع من مصدره الأصلى ، حتى ألهمنى الله أن أبحث عنه فى المِشْباك ( النِّتْ ) حيث وجدته فى موقع تابع لمركز تبشيرى اسمه : " American Center of Divine Love ".
(1/4)
قلت لنفسى : أقرأ كى ألم بالموضوع قبل أن أكتب عنه حسبما اقترح علىّ بعض من يُولُوننى ظنهم الحَسَن ممن يعرفون اهتماماتى بدراسة مثل هذه الكتب والنشرات ، وقرأت فألفيت أصحاب الموقع يعرضونه على أنه وحى سماوى . أُوحِىَ إلى من ؟ لا أحد يعرف ! متى أُوحِى ؟ لا أحد يعرف ! فى أية ظروف أُوحِى ؟ لا أحد يعرف ! كما وجدته يفيض بالبذاءات فى حق رسولنا الطاهر النبيل الذى لم تنجب الأرض نظيره فى العبقرية والحنان والرحمة والفهم للطبيعة البشرية والحنو على ضعفها والرقة للمستضعفين والمكسورين والمحتاجين والتحمس لبناء حياة إنسانية مجيدة يسودها العمل والإنتاج والابتكار والعدل والمساواة دون تشنجات صبيانية عاجزة أو تهويمات خيالية فارغة أو أحقاد مريضة أو ادعاءات فارغة . باختصار : حياة إنسانية تنهض على دعامتين من المثالية والواقعية على نحو لم تعرف البشرية ولن تعرف له مثيلا ! فمحمد صلى الله عليه سلم ، فى هذا الوحى الشيطانى البذىء ، كافر ومنافق وضال مُضِلّ يفتري الكذب على الله وسارقٌ قاتلٌ زان ٍ، ومصيره جهنم هو ومن آمن به ، وبئس المصير ! وأتباعه كَفَرَةٌ منافقون ضالون لصوصٌ قَتَلَةٌ مثله ، وصلاتهم وصيامهم نفاق ما بعده نفاق ، وحجهم وثنية ، وجنتهم جنة الزنى والخنا والفجور ، والوحى القرآنى ليس وحيا إلهيا ، بل هو وحى تنزّلت به الشياطين الكاذبون على شيطان كاذب مثلهم ! ولم يكد الذين وضعوا هذا الكتاب السفيه ونسبوه تدليسا وافتراء إلى الله يتركون شيئا فى الإسلام إلا خصصوا للهجوم الحاقد البذىء السفيه عليه سورة أو أكثر أرادوا أن يحاكوا بها السور القرآنية ، وهيهات ، رغم أن كل شىء فى ذلك الكتاب تقريبا مسروق من القرآن الكريم بطريقة القص واللزق كما سنوضح لاحقا ، فضلا عن أن مصطلح " السورة " نفسه مسروق من كتابنا المجيد . والانطباع الذى يخرج به على الفور من يقرأ هذا الكتاب هو أن ملفِّقيه مجرمون عُتَاة فى السفالة وقلة الأدب(1/5)
وأنهم تربية شوارع ، ولا يمكن أن يكون كلامهم هذا وحيا إلهيا بحال لأن الألوهية لا يمكن أن تنحدر إلى لغة الصِّيَاعة التى لا يحسنها إلا أرباب السجون المارقون وعصابات الحوارى والمآبين .
(1/6)
وقبل أن نمضى أبعد من ذلك يحسن أن نعرض على القارئ عينة من هذا الوحى المراحيضى كى يستطيع أن يتابعنا فيما يلى عن بينة . تقول مثلا السطور التى سمَّوْها " سورة الأنبياء " : " باسم الآب الكلمة الروح الإله الواحد الأوحد * يا أيها الذين كفروا من عبادنا الضالين إنكم لتقولون قولا لَغْوًا ما كان شعرا ولا نثرا ولا قولا سديدا ( المقصود بذلك هو القرآن ) * إنْ هو إلا لغوٌ مردَّدٌ ترديدا * يرغِّب التابعين ترغيبا ويهدد المعرضين تهديدا * حَسُنَ وقعا فى نفوس عبادنا الضالين واستمرأه الجاهلون * سمٌّ فى دسمٍ ولكن أكثرهم لا يشعرون فلا يَبْغُون عنه محيدا * وحذرنا عبادنا المؤمنين من الرسل الأفاكين ( يقصدون سيد الرسل والنبيين ) فمن ثمارهم يُعْرَفون . فهل يُجْنَى من الشوكِ العنبُ أو من الَحسَكِ التين * أقوال يرتعد منها عبادنا المؤمنون هَلَعًا من التقتيل ونفورًا من الغزو وأَنَفًا من جنة الزنى والفجور * فإذا سمعوها اقشعرت أبدانهم فَرَقًا واستعاذوا بنا من الشيطان الرجيم * وما دَخَلَ الجنةَ من كرر الصلاة لغوا وأما الذين عملوا بمشيئتنا فأولئك هم عباده المفلحون لهم مقام فى الملكوت ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون * إن الظن لا يغنى من الحق شيئا. وما السلام كالقتال وليس من يَلْقَى أخاه المؤمن بغصن الزيتون كمن يُشْرِع عليه سيفا فيقتله ذلك أنه من الكافرين * ونسختم بلَغْوكم قول التوراة والإنجيل الحق فألبستم الحق باطلا وافتريتم أقوالا ما أنزلنا بها من سلطان * وانتحل الوسواس الخناس اسمنا ووسوس فى صدور أوليائه بما ألقى فى رُوعهم من بهت وكفر وهم مصدّقوه فكان بعضهم لبعض ظهيرا * وأَمَرَهم بالمعروف مكرًا منه ونهاهم عن الفحشاء والمنكر والبَغْى قَوْلا إفكًا وحلله لهم تحليلا فكان فعلا مفعولا * وأغوى الجاهلين من عبادنا فاتَّبَعوه وأَبَى الجاهلون إلا ضلالا وكُفُورا * وقد صدَّق عليهم إبليس ظنَّه إذ اتبعوه وأما المؤمنون من(1/7)
عبادنا فما كان له عليهم من سلطان فما أغواهم ولا بدَّد لهم شملا فهم بما أنزلنا موقنون وبحبلنا معتصمون * وما بشرنا بنى إسرائيل برسول يأتى من بعد كلمتنا وما عساه أن يقول بعد أن قلنا كلمة الحق وأنزلنا سنة الكمال وبشرنا الناس كافة بدين الحق ولن يجدوا له نَسْخا ولا تبديلا إلى يوم يُبْعَثون * ولو بشرناهم لما كذّبوا وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه. فأَنَّى نبشِّر بنى إسرائيل برسول ليس منهم وما لسانه بلسانهم وعندهم موسى والأنبياء والمرسلون وقفَّينا على آثارهم بكلمتنا بالحق المبين * وحذّرْنا عبادنا المؤمنين من رسول أفاك تبيَّنوه من ثمار أفعاله وأقواله وكشفوا إفكه وسحره المبين فهو شيطان رجيم لقوم كافرين " .
(1/8)
هذا هو الكلام الذى تفتقت عنه أذهان بل أستاه هؤلاء المآبين ، وزعموا كفرا أنه وحى من لدن رب العالمين ! على أن لى كلمة فى هذا المقام لا أحب أن تفوتنى ، ألا وهى أن بعض المنتسبين إلى الإسلام يتساءلون فى براءة زائفة : لماذا يصف المسلمون غير المسلمين بأنهم كافرون ؟ ألا يُعَدّ ذلك نفيا للآخر وعدوانا عليه وإهانة له ؟ شُفْ يا أخى الرقة والبراءة ورهافة الشعور التى لا تظهر إلا حين يحاول المسلمون أن يدافعوا بعض دفاع عن دينهم ضد بعض ما يوجَّه لهم ولكتابهم ورسولهم من سباب وشتائم ! وواقع الأمر أن ذلك ليس نفيا للآخر ولا عدوانا عليه ولا إهانة له بحال من الأحوال ، فكل أهل دين يعتقدون أنهم على حق ، وبطبيعة الحال فمن لا يؤمن بدينهم يسمَّى عندهم كافرا دون أن يكون فى هذا افتئات على أحد. ذلك أن هذه هى مصطلحات أصحاب الأديان : مؤمن وكافر ومنافق ... إلخ ، بالضبط مثلما كان الشيوعيون يقولون : تقدمى ورجعى ، وطليعى شريف ورأسمالى متعفن ، ومثلما يقول الحداثيون الآن : التنويرية والظلامية ، والفكر المتحضر والفكر المتخلف ... وهَلُمَّ جَرًّا . وهاهم أولاء مزيِّفو هذه السُّخَامات والسَّخَافات يقولون عن نبينا عليه أفضل الصلوات وأزكى التسليمات : أفاك وضال وكافر وكذاب وغير ذلك من الشتائم التى وردت فى النص الذى بين أيدينا وفى غيره من النصوص المشابهة الأخرى ، وما خفى مما لا يجرؤون على ترديده على الملإ ويصلنا رغم ذلك بعضُه لهو أشنع وأبشع ! فيا أيها المؤمنون لا يوسوسنّ لكم الشياطين المنتشرون كالوباء بين أظهركم ممن يحملون أسماء مثل أسمائكم ، ولهم سِحَنٌ كسِحَنكم ، ومكتوبٌ فى هويّاتهم الرسمية أنهم مسلمون مثلكم ، بأضاليلهم التى يجهدون بها أن يَحْرِفوكم عن دينكم ويخوفوكم من التمسك بهَدْى نبيكم بشبهة أنه لا ينبغى فى هذا العصر التنويرى الذى يأخذ على عاتقه الدعوة إلى احترام حقوق الآخر أن نسمى هذا الآخر كافرا! ذلك أنهم(1/9)
يسموننا كفرة ، ولن يَرْعَوُوا عن هذا أبدا حتى لو مزّق الله قلوبهم تمزيقا وبدّلهم قلوبا غيرها. إننا لا نحجر على أحد أن يعتقد فينا ما يشاء ، فهذا حقه ، وليس من حقنا ولا من حق غيرنا أن نتدخل فيما بين المرء وضميره أو نعتدى عليه أو نُكْرِهه على ما لا يحب من عقيدة أو رأى ، لكننا أيضا لا نريد من أحد أن يحجر علينا فى الرد على التهم والشتائم التى توجَّه إلى رسولنا العظيم وأن نبين وجه الوقاحة والبذاءة والبطلان والزيف فيها . ترى هل فى هذا الكلام صعوبة تَعْسُر على الفهم ؟ هم أحرار، ونحن أحرار ، وللناس آذان تسمع ، وأذهان تفكر ، وعقول تميّز وتحكم ، ولهم وحدهم الحق فى اتباع هذا أو ذاك مما نقوله نحن أو يقوله الآخرون .
(1/10)
وقبل أن ندخل فى تحليل هذا الوحى الشيطانى ونبين ما يقوم عليه ويغَصّ به من تفاهة وقلة عقل وتناقض وتكذيب للكتاب المقدس نفسه الذى زيَّف الشياطين هذا الوحى لتعضيده وإقناع المسلمين بصحته وبطلان الكتاب الذى نزل به الروح الأمين من عند رب العالمين على سيد الأنبياء والمرسلين ، والذى لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه دهر الداهرين ، قبل هذا نرى أنه لا بد من إعطاء القراء الكرام فكرة عن ذلك الوحى المسمى زورا وزيفا بـ " الفرقان الحق " ، وما هو فى الواقع سوى " الضلال المبين " بقَضِّه وقَضِيضه ! إن هذا " الضلال المبين " ( وسيكون هذا هو اسمه هنا من الآن فصاعدا ) يشتمل ، حسبما هو موجود فى الموقع المشار إليه آنفا ، على نحو خمسة وأربعين نصًّا يُطْلَق على الواحد منها " سُورَة " تقليدا مفضوحا للقرآن ، وكل من هذه السُّوَر يتكون من عدد من الآيات يتفاوت ما بين عدد أصابع اليد الواحدة أو أصابع اليدين والقدمين لا يزيد عن ذلك . إلا أننى قد لاحظت أن ترقيم هذه السُّوَر غير متسلسل دائما حتى إن أول سورة ، وهى " سورة المحبة " ، قد أخذت الرقم ( 2 ) ، كما أن ترقيم السورة الأخيرة ، واسمها " سورة البهتان " ، هو ( 59 ) ، ومعنى ذلك أن هناك فجوة فى بعض الأحيان بين السورة والتى تليها ، فهل ينبغى أن نفهم من هذا أن هناك سُوَرًا ناقصة ؟ لكن لماذا ؟ وما هى هذه السُّوَر ؟ وأين ذهبت ؟ لا أدرى . كذلك يلاحظ أن أسماء طائفة من سور " الضلال المبين " قد أُخِذَتْ من أسماء سور القرآن الكريم ، مثل " النور والنساء والمنافقين والطلاق " . أى أن من افْترَوْا هذا " الضلال المبين " لم يَسْطُوا فقط على نصوص آيات القرآن ليصنعوا منها هذا الترقيع الرقيع بل سَطَوْا على أسماء بعض سوره الكريمة ، وإن كانوا قد نقلوها من محلها الطاهر الشريف إلى ذلك الكنيف ! أما الأسماء الأخرى التى لم يأخذوها من أسماء سور القرآن الكريم فمنها " الأساطير(1/11)
والغرانيق والجنة والمحرّضين والكبائر والرُّعاة والشهادة والإنجيل "، وإن كانت كلها رغم ذلك فى الهجوم على القرآن : ففى " سورة الأساطير " مثلا يزعمون أن القرآن ما هو إلا أساطير الأولين كما كان وثنيو العرب يقولون قبل أن يكذّبوا أنفسهم بأنفسهم ويؤمنوا به ، وفى " سورة الغرانيق " يدّعون أنه كان فى القرآن آيتان تمجدان الغرانيق ، أى اللات والعُزَّى ومَنَاة ، ثم حُذِفتا فيما بعد. أما "سورة الرعاة " فهى هجاء للصحابة والعرب الأوائل الذين حملوا الإسلام إلى العالمين والذين يحاول أولئك اللصوص السُّطَاة أن ينالوا منهم بالقول بأنهم لم يكونوا متحضرين ولا أغنياء بل كانوا مجرد رعاة ، وكأن التلاميذ الذين كانوا يلتفون حول المسيح كانوا من أصحاب القصور ومن خريجى الجامعات ، ولم يكونوا من صيادى السمك والعُرْج والبُرْص والعُمْى والمخلَّعين والممسوسين والعشّارين والخطاة على حسب ما جاء فى الأناجيل نفسها ! إننا بطبيعة الحال لا نبغى أن ننال من الفقراء والمساكين والمسحوقين ، فنحن لسنا من أغنياء القوم ولا من السادة ، لكننا أردنا فقط أن ننبه هؤلاء المأفونين إلى مدى السخف والسفالة التى ينساقون إليها فى العدوان على ديننا ورسولنا وصحابته الكرام . وبالمناسبة فلم يكن الصحابة جميعا من الرعاة ، بل كان فيهم التجار والزراع والصناع والعلماء والقادة العسكريون ، وكان منهم الأفراد العاديون والرؤساء ، وكان منهم العرب وغير العرب ، كما كان فيهم كثير ممن كانوا هودا أو نصارى ثم أسلموا... وهكذا يستمر هؤلاء الأفاكون المجرمون إلى آخر السُّوَر الشيطانية المفتراة كذبًا على الله .
(1/12)
وأول ما ينبغى التصدى له فى هذا الوحى الإبليسىّ هو المشاكل الغبية غباء مزيِّفيه التى لا يمكن العثور على مخرج من أىٍّ منها ، بل كلما حاول مخترعوه التخلص من بعض ما جرَّتْهم إليه وجدوا أنفسهم يزدادون تورطا ، شأن البقرة الغبية التى تحاول الانعتاق من الحبل الملتف حول رقبتها ، لكنها بدلا من ذلك تدور فى الاتجاه المعاكس فتجده قد ازداد التفافا حتى خنقها وأودى بحياتها. فكيف كان ذلك ؟ المعروف أولا أن النصارى لا يؤمنون بنبىٍّ بعد المسيح لأنهم يَرَوْن أنه قد أنهى فصول المأساة البشرية بموته على الصليب وتكفيره من ثَمَّ عن الخطيئة البشرية الأولى ، وأنه لم يعد هناك مجال لأى شىء إلا لمجيئه فى آخر الزمان ، هذا المجىء الذى سيكون بداية لألفيَّةٍ سعيدةٍ يعيش فيها الناس فى هناءة وسلام ، فلا خصومات ولا عداوات حتى ولا بين الحيوانات العجماوات ، حتى إن الذئب والحمل ، كما يقال ، سوف تقوم بينهما صداقة ومودة فيلعبان معا ويأكلان معا فى غاية الانسجام والتفاهم ! أما اليهود فهم أصلا فى انتظار المسيح الأول لا يزالون لأنهم لا يؤمنون بأن عيسى بن مريم هو المسيح الذى أتى ذكره فى كتبهم . وهذا الكتاب الذى نحن بصدده ليس هو الكتاب الذى ينتظره اليهود مع مسيحهم المنتظر ، فهم يريدون مسيحا من بيت داود يعيد إليهم مجدهم ويبنى لهم مملكتهم ، أما كتاب " الضلال المبين " فلا يؤدى إلى هذه الغاية على الإطلاق ولا نعرف له صاحبا ، فهو كطفل السِّفَاح الذى لا تجرؤ أمه العاهرة أن تُقِرّ به وتنسبه إلى نفسها . كذلك لا يخفى على القارئ أن غرض كل من الفريقين اللذين اشتركا فى تزييف هذا " البهتان الباطل " يتناقض مع غرض الفريق الآخر . وهكذا يأبى الله العلىّ العظيم إلا أن يوقعهم فى شر أعمالهم . وهذه أولى بركات محمد ودين محمد! وعلى كل حال فها هم أولاء المؤلفون الأغبياء يكذّبون أنفسهم بأنفسهم إذ يعلنون بملء أفواههم فى القىء المنتن الذى وَسَمُوه(1/13)
بـ " سورة الأنبياء " ( ومن أفواههم النجسة ندينهم ) قائلين على لسان رب العزة إننا "ما بشَّرْنا بنى إسرائيل برسول يأتى من بعد كلمتنا وما عساه أن يقول بعد أن قلنا كلمة الحق من بعدى وأنزلنا سنة الكمال وبشرنا الناس كافة بدين الحق ولن يجدوا له نَسْخا ولا تبديلا إلى يوم يُبْعَثون " . إذن فليس هناك نبى يمكن أن يجىء بعد عيسى عندهم ، وإلا للزمهم أن يؤمنوا بمحمد ، الذى زعموا أنه لم تأت به أية بشارة لا فى التوراة ولا فى الإنجيل . ليس هذا فحسب ، بل إن كلمة " الفرقان" نفسها مسروقة من القرآن ، لأن كتابهم المقدس بعهديه العتيق والجديد لم ترد فيه هذه الكلمة ، وإلا لذكرها " فهرس الموضوعات الكتابية " . فكيف إذن يزعمون أن الله قد أنزل هذا الوحى مع أنه لم يأت به نبى ، إذ الوحى لا ينزل هكذا من السماء على غير أحد ، اللهم إلا على سُنّة أنبياء آخر زمن من صنف أولئك الأساقفة الذين شرعت أمريكا أم التقاليع والغرائب ترسِّمهم من اللُّوطِيِّين !
(1/14)
لكن ما هى سُنّة أنبياء آخر زمن هؤلاء ؟ هى سنّة المومس التى تحمل سفاحا ( والمومس لا تحمل بالطبع إلا سفاحا ) ، ولا تريد أن يطّلع الناس على ورطتها وخزيها ، فعندما يَئِين الأوان ويحلّ موعد الوضع تراها تلف الطفل المسكين الذى لا ذنب له فيما اقترفته يدها الأثيمة فى خرقة وتأتى به فى ظلام الليل الدامس إلى باب معبد من المعابد فتتركه هناك أو تلقيه قرب أحد صناديق القمامة ، ثم تنصرف وترقب الموقف من بعيد دون أن يعرف أحد أنها هى صاحبة هذا العار ! إنه شُغْل مومسات كما أقول فى بعض كتبى التى أرد فيها على أمثال هؤلاء النُّغُول ! إن الأنبياء كانوا دائما ما يأتون فى ضحوة النهار ولا يستترون هكذا فى ألفاف الظلمات المتراكبة المتكاثفة المريبة شأن محترفى اللصوص والقتلة الذين يَلْبِدُون للفريسة المسكينة فى حقل من حقول القصب أو الذرة حتى يأخذوها غيلة وغدرا ، ثم بعد أن يرتكبوا جريمتهم الوحشية الخسيسة يعودون لبيوتهم فيمارسون حياتهم لا تُثْقِل ضمائرَهم أيّةٌ من خوالج الندم ، إذ قد ماتت قلوبهم وسَوّسَتْ ضمائرهم. ثم إن الوحى الذى ينزل على الأنبياء لا ينزل دفعة واحدة هكذا بل يتتابع مصاحبا للحوادث والمناسبات التى تجدّ ، مما يجعله تجسيدا للتجارب التى خاضها النبى مع قومه ، أما هذا " الضلال " فقد صيغ مرة واحدة ثم لُفَّ فى خرقة قذرة نجسة وأُلْقِىَ به عند صندوق قمامة فى سكون الليل البهيم مع انقطاع رِجْل السابلة .
(1/15)
ثم إن ذلك الرِّجْس مخالف فى الواقع لطريقة أهل الكتاب فى تسمية كثير من أسفارهم باسم الأنبياء الذين تُعْزَى إليهم : فهذا سِفْر يشوع ، وهذا نشيد الأناشيد لسليمان ، وهذه نبوة أَشَعْيا ، وهذا إنجيل متى ، وهذه رسالة القديس يعقوب ، وهذه رؤيا القديس يوحنا... وهكذا. وعلى ذلك فإننا نتساءل : أين النبى الذى أتى بهذا الضلال ؟ ما اسمه يا ترى ؟ من أى بلد جاء؟ إلى أى أسرة ينتمى ؟ ما صنعته ؟ ما سيرته ؟ ما أوصافه ؟ ما أخلاقه ؟ ما رأى الناس فيه ؟ ما الذى دار بينه وبين قومه من أخذ ورد ؟ ماذا كانت استجابتهم لما أتاهم به أولا ثم آخرا ؟ ... ترى أية نبوة هذه يا إلهى ؟ إن القوم لا يحسنون التدليس ، وهم برغم ذلك يتصدَّوْن لحرب القرآن ظانّين أنهم قادرون على محوه من النفوس والصحائف على السواء ! يا لهم من مجانين مسعورين ! وللتفكُّه أذكر أن بعض إخواننا الساخرين أجاب على سؤالى الخاص بشخصية هذا النبى المزعوم قائلا : أتريد أن تعرف مَنْ ذلك النبى ؟ قلت : نعم . قال : ولم لا يكون هو الابن الثانى لله ؟ قلت : لقد قالوا إنه ليس له إلا ابن وحيد مات على الصليب . قال : هذا كان من ألفى سنة . أتظن ذلك الإله لم تشتقْ نفسه للذرية مرة ثانية طوال هذه المدة فأراد أن ينجب ابنا آخر ؟ أم تراه ، حتى لو كان قد حدَّد النسل ، واتخذ الاحتياطات اللازمة لعدم الإنجاب ، لم يحدث أن اخترق طفل جديد هذا الحظر وأفسد تلك الاحتياطات كما يحدث لكثير منا فى مثل هذه الظروف ؟ قلت : وهل يصح أن تقيس الآلهة على أوضاع البشر ؟ قال : لست أنا الذى قاسهم ، بل إلههم هو الذى فعل ذلك . أليس هو الذى أنجب مثلما ننجب ؟ فما الذى يمنع أن يكون له ولد ثان وثالث ورابع ... إلى ماشاء الله ؟ إلى جانب بعض البنات أيضا إرضاءً للسِّتّ التى لا بد أن تتطلع إلى أن يكون لها بنت أو أكثر كى يساعدنها فى أعمال المنزل ... ومضى الصديق الساخر كلما حاولت أن أغلق عليه السبيل فتح بدل(1/16)
الباب أبوابا، حتى وجدت أنه لا بد من غلق هذا الحوار الذى لا يؤذِن بنهاية .
ثم إن أولئك النُّغُول يرددون ما جاء فى كتابنا العزيز من أنه ما من نبى أُرْسِل إلا بلسان قومه ، فما معنى نزول هذا " الضلال المبين " بالعربية ، بل بالعربية المسجوعة ؟ معناه أنه نزل للعرب ، لأنهم هم الذين يتكلمون العربية . أليس هذا هو ما تقتضيه العبارة التى قالها النغول والتى سرقوها بنصها من القرآن المجيد ووضعوها فى هذا الموضع الدنس ؟ بَيْدَ أننا قد سمعناهم يقولون بلسانهم ( الذى ستقطعه زبانية الجحيم يوم القيامة إن شاء الله ثم تشويه أمام أعينهم وتحشره فى حلوقهم طعامًا نجسًا لأفواهٍ نجسة ) إن النبوة لا تكون إلا فى بنى إسرائيل ، فليس للعرب فيها إذن أى نصيب ( حقدا منهم على إسماعيل وأمه هاجر ، التى يقولون إنها أَمَة ، وابن الأمَة لا نصيب له عندهم فى البركة النبوية ). وبطبيعة الحال فالعرب لا يمكن أن يكونوا قوم نبىّ من بنى إسرائيل ، إذ إن بنى إسرائيل هم ذرية يعقوب ، أما العرب فهم ذرية إسماعيل كما هو معروف . وهذا إن غضضنا الطرف عن تأكيدهم أن باب النبوة مغلق إلى ما قبل يوم القيامة حسب اعتقاد النصارى، ، وإلى مجىء مسيح اليهود حسب اعتقاد بنى إسرائيل ، وهو فى الواقع ما لا يمكن غض الطرف عنه أبدا ، لكنها طبيعة الجدل المفحم التى أتبعها عادة مع هؤلاء المتاعيس حتى أبين للقارئ الكريم كيف أن الأسداد قد ضُرِبَت عليهم أَنَّى اتجهوا وأَنَّى ارتدُّوا . وهذه ثانية بركات محمد ودين محمد !
(1/17)
وثالثة هذه البركات المحمدية أن هؤلاء الأبالسة الأغبياء ( وهذه أول مرة يقابل الواحد فى حياته أبالسة أغبياء! لكن ما العمل ، وكل من يقصد دين محمد بِشَرٍّ فإنه لا يُفْلِح أبدا حتى لو كان أبا الأبالسة جميعا ؟ ) ، هؤلاء الأغبياء يَسْطُون على آيات القرآن فى مفارقة غريبة غرابةَ أمرِهم كله وشذوذه ، إذ يتهمونه بأنه وسوسة شيطان إلى شيطان . فإذا كان الأمر كما يقولون فكيف لم يجدوا فى الأرض العريضة كلها ( ولا أقول : فى السماء ، لأن مثل هذا الإجرام لا يمكن أن تصله بالسماء أية آصرة ) إلا هذا الوحى المحمدى الذى يزعمون أنه وحى شيطانى كى يتخذوه وحيا لهم ؟ بالله عليكم أيها القراء مَنِ الشيطانُ هنا ؟ إن المؤمن لينفر من الشيطان ومن كل ما له صلة بالشيطان ولا يفكر مجرد تفكير فى الاقتراب منه أو المرور من الطريق الذى يمكن أن يلقاه فيه . لكن هؤلاء الأبالسة الأغبياء لم يجدوا إلا الوحى القرآنى ليسرقوه ويدّعوه لأنفسهم زاعمين أنه أُنْزِل عليهم من السماء ، مع أن السماء لا يمكن أن ترضى هذا العمل الخسيس . والغريب أن عملهم هذا يزعق بعلوّ حسّه شاهدا عليهم بالسرقة والسطو ، ولكن متى كان لدى هؤلاء المجرمين حياء أو خشية من التى يتحلى بها الآدميون حتى ننتظر منهم أن يستحوا أو يختشوا ؟ إنهم من نفس الطينة التى جُبِل منها أمثالهم سارقو فلسطين والعراق وأفغانستان فى عز الظهر الأحمر ، الذين يزعمون مع ذلك أننا نحن الذين نريد أن نقتلهم وندمر حضارتهم ! والمصيبة أنهم بعد ذلك كله يقولون إن هذا " الضلال المبين " هو من عند الله ، أى أن ربهم لص وكذاب متنفِّج ، وأدنى من الشيطان قدرة على صياغة الكلام والمعانى ، ولذلك يسطو على ما كان هذا الشيطان قد أوحاه ، حسب زعمهم ، إلى محمد ثم يدّعيه لنفسه . ثم إنه مُلْقِيه رغم هذا كله فى قعر الجحيم يوم القيامة لقاء ما استعان به ، وذلك على طريقة الأمريكان ، إذ يظلون يعصرون الحاكم من حكام العالم(1/18)
الثالث حتى يستنزفوه لآخر قطرة فيه ثم ينقلبون عليه آخر الأمر ويجزونه جزاء سِنِمّار ! وهذا دليل آخر على أن مزيفى هذا " الضلال " إنما هم الأمريكان ! إنها نفس الأخلاق المنحطة ، وإن كان الشىء من معدنه غير مُسْتَغْرَب !
(1/19)
ولكن ما مغزى عمل هؤلاء الشياطين ؟ إنه دليل لا يُنْقَض على أنهم يَرَوْن فى أعماق قلوبهم أن أسلوب القرآن معجز ، وإن أنكروا هذا بألسنتهم النجسة ، ولذلك استعانوا به رغم اتهامهم للقرآن كله بأنه من وسوسة الشيطان ! وهنا أيضا لن أفعل شيئا آخر غير الاقتباس من كلامهم ، إذ نجدهم فى الفقرة الأولى من " سورة السلام " يدّعون لبهتانهم هذا أنه وحى معجز . إذن فالقرآن معجز فى رأيهم رغم كل الكذب الذى اقترفوه ضد كتاب الله فى نصوصهم المسروقة كلها تقريبا منه ، وهذا نص ما قالوه : " إنا أنزلناه فرقانًا حقًّا بلسانٍ عربىٍّ بيّن الإعجاز لتتبينوا الضلال من الهدى وتعلموا سوء ما كنتم تفعلون " . ترى ما رأى القارئ الكريم فى ألاعيب هؤلاء النغول الخائبة ؟ إن المسلمين يقولون ، حسبما يقرأون فى كتاب ربهم وحسبما أكده العلماء الأثبات منا ومنهم ، إن أهل الكتاب أساتذة فى العبث بالوحى الإلهى الذى نزل على رسلهم وتحريفه عن مواضعه ، لكنهم دائما ما يتهموننا بأننا نردد كلاما غير صحيح . فهل ، بعد أن بيّنّا ما صنعوه فى هذا " الضلال المبين " ، يمكن لأحد أن يتمارى فيما يتهمهم به القرآن والمسلمون ؟ هل يحتاج بعد اليوم أحد إلى برهان آخر على ذلك العبث والتزييف والتدليس والانتحال ؟ والغريب بعد هذا كله أنهم قد زيَّفوا ، فيما زيفوا من سُوَر ٍ، سورةً بعنوان " الأساطير " تقول أول آية منها للمسلمين : " يا أهل التحريف من عبادنا الضالين " ! لا بل إنهم يتهمون الرسول بأنه قد حرّف الإنجيل نفسه ! إى والله ، الإنجيل نفسه دون أدنى مبالغة ! وهذا ما قالوه فى الفقرة الأولى من "سورة الإيمان " بالحرف الواحد : " وحرَّفْتُم آيات الإنجيل الحق وكتمتم كلمتنا واتبعتم صراطا ذا عِوَج وأوهمتم أتباعكم أنكم على صراط مستقيم " . ولا أدرى بالضبط ما الذى جرى لعقول القوم فأقدموا على هذه الهلاوس التى ليس لها من حل إلا أخذ صاحبها على الفور لمستشفى المجانين خَبْطَ(1/20)
لَزْق ! وصدق المثل القائل : "رمتْنى بدائها وانسلَّتِ" ! الحقّ أن هؤلاء الناس ( هذا إذا تجاوزنا وألحقناهم بالبشر ) لا يعرفون ما يسمَّى فى اللغات بـ " الحياء " !
(1/21)
على أن سرقتهم لكلمات القرآن وعباراته وتركيباته وصوره وفواصله لا تجعل مع ذلك من " بهتانهم " كلاما معجزا . لماذا ؟ لأنهم يفعلون ما يفعله الخياط الغبى الذى يأتى إلى أفخم الحُلَل والملابس فيقتطع من كل منها مِزْعة ثم يشبك هذه المِزَع بعضها مع بعض . وبطبيعة الحال لن ينتج عن ذلك إلا مرقّعة كمرقّعات الدراويش تبعث على السخرية أو على الرثاء أو عليهما معا! ذلك أن هؤلاء الأوغاد لم ينجحوا قط فى أن يضعوا ما يسرقونه من نصوص القرآن فى مواضعها وسياقاتها ، بل يضعونها فى إطار يختلف عن إطارها الذى نُقِلَت منه ، علاوة على أن أولئك اللصوص لا يحسنون عملية لزق النصوص المسطوّ عليها ، إذ كثيرا ما تأتى متنافرة لا انسجام بينها ، فضلا عن أن الفواصل ( أى نهايات الآيات ) ، التى يسرقونها هى أيضا من القرآن ، لم يتصادف أن جاءت ولو مرة واحدة كما ينبغى أن تأتى الفاصلة الجيدة قارَّةً فى مكانها حاسمةً فى موسيقيتها ومعناها ، بل يشعر القارئ أنهم قد اجتلبوها اجتلابا لا لشىء غير أن يُنْهُوا الآية بسجعة والسلام . كذلك فإنهم إذا أضافوا شيئا من عندهم كما يقع أحيانا لم يجيئوا إلا بكلام ركيك ثقيل الظل وخيم الأنفاس ! والسورة التى أوردتُها فيما مضى من صفحات تشهد على ما أقول . زد على ذلك ما تقوم عليه المسألة كلها من سماجة ليس لها من مثيل ، إذ هم يسطون على القرآن ألفاظا وعبارات وتراكيب وصُوَرا وفواصل وينتحلونه لأنفسهم ثم يستديرون له بعد ذلك كله مُزْرِين عليه زاعمين أنه من وسوسة الشيطان ! فالأمر ، كما تَرَوْنَ ، يجرى على أسلوب " حسنة وأنا سيدك ! " . إنهم أشبه بخادمة لِصَّة دنيئة حقيرة قبيحة سليطة اللسان تسرق من سيدتها بعض ملابسها التى لا تستطيع مع هذا أن ترتديها على ما يقتضيه الذوق الراقى أو حتى الذوق السليم ثم تفتعل مشكلة وتترك العمل عندها ، لتأتى بعد ذلك إلى هذه السيدة نفسها وقد ارتدت ما سرقته منها من ملابس فتختال بها(1/22)
أمام عينيها بُغْية إغاظتها غير واعية بما تثيره فى نفوس الناس المحترمين أهل الذوق الراقى الكريم من تهكم بغبائها وجلافتها ودناءتها فى التصرف واللبس والكلام ، وأنها مهما فعلت واستعرضت وحاولت أن تغيظ سيدتها ليست فى نهاية المطاف غير خادمة لصة حقيرة قبيحة سليطة اللسان ذات ذوقٍ فِجّ متخلف ! ترى هل يفيق هؤلاء اللصوص السفلة إلى مدى الفظاعة التى ارتكسوا فيها حين سرقوا القرآن وانثنَوْا بعد ذلك للمسلمين يشمخون عليهم بفعلتهم الشيطانية ؟ أما أنا فمن معرفتى بهم وبطبائعهم وأساليبهم الساقطة لا أعلّق عليهم أملا ولا أتوقع منهم خيرا ، إذ العاقل لا ينتظر من المرحاض أن يُثْمِر تفاحا وخَوْخا أو أن يُزْهِر وردًا وآسًا ورَيْحَانا !
(1/23)
على أن المسألة لم تنته فصولا بعد ، بل ما زال فى جراب الحاوى مفاجآت مضحكة ... مضحكة من الغم لا من السعادة ! تعالَوْا نَرَ مثلا كيف يبدأ اللصوص السارقون معظم سُوَر " ضلالهم المبين ". هل رأيتم أحدا قَطّ يبدأ كلاما جديدا له بواو العطف ؟ إن هذه الواو إنما تعنى أن هناك كلاما سابقا وأن الكلام الحالىّ هو امتداد لفظى ومعنوى له ، وهو ما لا وجود له هنا لأن هذه هى بداية السورة . وهل قبل البداية شىء؟ وعلى رغم وضوح المسألة بل نصاعتها فإن هؤلاء اللصوص لا يراعون هذه البديهية فى عالم النحو والكتابة والأساليب ، فتجدهم يقولون مثلا فى مطلع " سورة الطهر " : " باسم الآب الكلمة الروح الإله الواحد الأوحد * ودعانا الشيطان ( يقصدون الرسول عليه السلام ) بأسماءٍ قُبْحَى غيّبها بأسماء حسنى مكرًا منه ... إلخ " ، وفى مطلع " سورة الرعاة " نقرأ : " باسم الآب الكلمة الروح الإله الواحد الأوحد * ومَثَلُ الرسول الصالح كمَثَل راع أورد رعيته وِرْدا طهورا ... " ، وفى" سورة المحرِّضين " نطالع : " باسم الآب الكلمة الروح الإله الواحد الأوحد * ونَهَيْنا عبادنا عن القتل ووصَّيناهم بالرحمة والمحبة والسلام ... " . وعلى نفس الشاكلة تجرى بدايات سُوَر " الإيمان والحق والطهر والزنى والمائدة والمعجزات والضالين والصيام والماكرين والأمّيِّين والصلاة والملوك والهدى " وغيرها . ترى علام يدل هذا ؟ إنه يدل على أن الأمريكان والصهاينة رغم كل تقدمهم العلمىّ والتقنىّ والعسكرىّ والسياسىّ والتخطيطىّ لا يستطيعون أن يحبكوا تآمرهم على القرآن الكريم الذى يُضْرَب بهوان أتباعه وتخلفهم فى العصر الحالىّ الأمثالُ والحكمُ والمواعظ . فعلام يدل هذا مرة أخرى يا ترى ؟ يدل على أنهم فى حربهم للقرآن إنما يحاربون الله ، والله غالب على أمره . ولو كانت حربهم للقرآن حربا لنا نحن العرب والمسلمين لكان القرآن الآن فى خبر " كان " بعد كل تلك الحروب والمعارك(1/24)
الطاحنة التى لم يكفّوا يوما عن شنها عليه طوال الأربعة عشر قرنا الماضية وجنّدوا لها أعتى العقول عندهم من مبشرين ومستشرقين وسياسيين وعسكريين وكل ما يمكن أن يخطر أو لا يخطر على بالك من صنوف العلماء والمتنفذين لديهم . لكن هاهو ذا واحد مثلى لا فى العير ولا فى النفير وليس بين يديه ولا واحد على الألف مما يتصرف فيه أى مستشرقٍ من الكتب والمراجع والمعاجم والموسوعات والدوريات والمعاونين ، هاهو ذا واحد مثلى منقطع عن بلده ومكتبته الخاصة التى كان من الممكن أن تمده على الأقل بالأساسيات التى يحتاجها كـ " فهرس الموضوعات الكتابية " أو " دائرة المعارف الكتابية " أو حتى " الكتاب المقدس " نفسه الذى استغرق الأمر منى وقتا طويلا واتصالات متعددة كى أحصل على نسخة منه ، أما " فهرس الموضوعات الكتابية " فقد كَلَّفْتُ بموافاتى بما أحتاجه منه بعضَ من أعرف فى أرض الكنانة من خلال نظام الرسائل الفورية بالمِشْباك ، الذى لا أعرف منه أكثر مما يعرف الجاهل بالسباحة عندما يقعد على الشط مكتفيا بغمس قدمه فى الماء ثم يقول إنه قد نزل البحر وعام فيه مع العائمين ! أقول : ها هو ذا واحد مثلى فى هذه الظروف الشحيحة وبهذه الإمكانات الشديدة الضآلة يكرّ على هذا " الضلال " فيُظْهِر عوراته وسوآته بكل بساطة وسهولة . والسبب ؟ السبب هو أننى حين أفعل ذلك إنما أدافع عن القرآن ، أى عن قضية موفَّقة مباركة يسندنى فيها ويقينى من العِثار ربُّ القرآن الذى ابتهلتُ إليه أن يسهّل مهمتى فاستجاب بكرم منه وفضل ، وهو سبحانه أهل الكرم والبر والتوفيق . أما الأمريكان والصهاينة ومن لَفَّ لفَّهم وحذا حَذْوَهم فنبشّرهم بخذلان من الله مبين : " إن الذين كفروا يُنْفِقون أَمْوالَهم ليصُدّوا عن سبيل الله ، فسينفقونها ثم تكونُ عليهم حسرةً ثم يُغْلَبون . والذين كفروا إلى جَهَنَّمَ يُحْشَرون * ليَمِيز اللهُ الخبيثَ من الطيّب ويجعلَ الخبيثَ بعضَه على بعضٍ(1/25)
فيَرْكُمَه جميعا فيجعلَه فى جَهَنَّمَ . أولئك هم الخاسرون " . صدق الله العظيم ! إن الإله الذى لا يعرف كيف يصوغ الكلام ولا يدرى أهو فى أوله أم فى وسطه أم فى آخره لهو إلهٌ سكرانُ أو قد أصابه الخَرَف ! نعوذ بالله من الخرف وآلهة الخَرَف ! لقد كنا نسمع بإله الحرب وبإله الفنون وبإله الحب مثلا ، لكن هذه أول مرة نعرف أن هناك إلها للخَرَف ! ومن يَعِشْ يَرَ! إن مثل هذا الإله لو كان يعيش بين قبائل أفريقيا المتوحشة قديما لقتلوه لانتهاء عمره الافتراضى ، وربما أكلوا لحمه أيضا رغم أنه لحمٌ عجوز لا ينضج بسرعة وليس له حلاوة مذاق اللحم العَجَّالى ، لكن الأمريكان والصهاينة لا يتنبهون لهذا الأمر على وضوحه البالغ فيُبْقُون على هذا الإله المضطرب الذاكرة والعقل الذى يوقعهم فى مآزق محرجة ليس لها من مخرج ! ألم أقل لكم إن من يتصدى للقرآن فإن مصيره إلى البوار ، وبئس القرار ؟
على أن خيبة هذا الإله لا تقف عند هذا الحد بل تتعداه إلى الوقوع فى الأخطاء اللغوية المزرية! قد يجيبنى بعضهم : وماذا تريد من إله أمريكانى خواجة من أصحاب : " مُشْ فِخِمْتُو يا خبيبى "؟ لكننى أستطيع أن أرد عليهم بأن هذا الإله الخواجة لا بد أنه استعان ببعض العرب فى اختراع هذا الوحى الدنس ، وإلا فهذا دليل آخر على أنه ، رغم كل علمه وقوته وتقدمه ، تفوته أشياء مما تفوت عباد الله اللاأمريكيين كما حدث فى حكاية البلح الأصفر الذى كان لا يزال على شماريخ النخل فى عز الخريف فى صور القبض على صدام حسين الشهيرة . وأما إن كان قد استعان ببعض العرب ، وهو ما أنا موقن منه إيقانا ، فمعناه أن بركة القرآن قد آتت أُكُلَها وسطعت ( كما يسطع العبيرُ وضياءُ الشمس جميعا ) نتائجُها الطيبةُ الطاهرةُ فأفشلت هذا التآمر الخسيس ، وانقلب السحر على الساحر الخائب الموكوس ، رغم كل ما معه من خبث وسلاح وفلوس !
(1/26)
وبعد ، فهذه عينة من الأخطاء اللغوية التى سقط فيها سقوطَ الجرادل صاحبُنا الإلهُ الخواجة وأذيالُه من بنى جلدتنا الذين أخجلونا وشمّتوا الدنيا فينا بجهلهم بلغة القرآن المجيد الجديرة بالحب بل بالعشق بل بالوَلَه حتى ممن يكره كتابَها العزيزَ والرسولَ الذى أُنْزِل عليه هذا الكتاب ضياءً وهدًى للعالمين : " وما كان النجسُ والطمثُ والمحيضُ والغائطُ والتيممُ والنكاحُ والهجرُ والضربُ والطلاقُ إلا كومةُ رِكْسٍ لفظها الشيطان بلسانكم " ( الطهر/ 6 )، وصوابها : " كومةَ ركس " بفتح التاء لأنها خبر " كان" ) ، و" كى يَشْهَدهم الناسَ " ( الصلاة / 3 ، بفتح سين " الناس " رغم أنها فاعلٌ حقُّه الرفعُ بالضمة ) ، و" ذلكم هم المنافقون " ( نفس السورة والفقرة ، وهى غلطة لا يمكن أن يقع فيها إلا إله أمريكانى من الذين يقولون : " يا خبيبى ! يا خَبّة إينى " ، أما لو كان رب العالمين هو الذى أنزل هذا الكتاب لقال : " أولئك / أولئكم هم المنافقون " ، إذ إن الكاف التى فى آخر اسم الإشارة لا علاقة لها بالمشار إليه ، الذى هو هنا " الكافرون " ، بل تتغير حسب طبيعة من نخاطبه : إفرادا وتثنية وجمعا وتذكيرا وتأنيثا، أما الذى يتغير حسب تغير المشار إليه فهو اسم الإشارة نفسه . ومادام " المنافقون " جمعا فينبغى استخدام " أولئك " لهم . ترى أَفَهِم الأوباشُ أم نُعِيد الكلام من البداية ؟ ولا بأس عندنا من الإعادة ، ففى التكرار للحمير إفادة ! ) ، و" خلقناكم ذكرا وأنثى يتحدان زوجًا فردا " ( الزواج / 3 ، وهو كلام ركيك من كلام الخواجات ) ، و" الإنتقام " ( الإخاء / 11 ، بهمزة تحت الألف ، وهو خطأ شنيع صحته " الانتقام " دون التلفّظ بالهمزة لأنها همزة وصل لا تُنْطَق ) ، و" وصَّيناكم بألا تَدِنُوا " ( الماكرين / 6 ، يقصد " بألا تدينوا " ، وهذا أيضا كلامٌ خواجاتى ) ، و " سلبتم أقواتِهم " ( الماكرين / 7 ، وهو جهلٌ مُدْقِع أستغرب كيف يقع فيه(1/27)
شيطان ، والشياطين ، رغم شِرّيرِيّتهم ، لا يخطئون مثل هذه الأخطاء البدائية . لكن يبدو أنه من أولئك الشياطين الفاشلين الذين منهم أحمد الشلبى مورّط أمريكا فى العراق . على كل حال فالصواب هو فتح تاء " أقواتَهم " لأنها ليست جمع مؤنث سالما كما يظن الأغبياء بل جمع تكسير ، فلذلك تُنْصَب بالفتحة لا بالكسرة )، و" بإسمنا " ( الماكرين / 15 ، وهى مثل الهمزة فى " الانتقام " لا ينبغى أن تُلْفَظ ) ، و " زَنُوا " ( الماكرين / 17 ، من " الزنى " ، وهو خطأ لا يليق صوابه " زَنَوْا " ) ، و "حضيرة " ( مرتين : الرعاة / 13 ، والمحرّضين / 10 ، والصواب ، كما لا يخفى إلا على جاهل قد طمس الله على عينه وجعل على عقله غشاوة ، هو "حظيرة " ، وهو المكان الذى ينبغى أن يوضَع فيه أمام مذْوَدٍ مملوءٍ تبنًا وبرسيمًا هؤلاء الطَّغَامُ الذين يحاولون بغبائهم أن يطفئوا نور الله بأفواههم النَّتِنَة ) ، و " نقول له : كن ، فيكونَ " ( النسخ / 10 ، بفتح نون " يكون " من غير أى داع ، والواجب ضمّها لأن الفعل المضارع لم يسبقه ناصب من أى نوع ) ، و" أشرك بنا من يشاركنا وِلائِنا لعبادنا " (المشركين / 12 ، بكسر همزة " ولاء " ، وحقها الفتح لأن الكلمة مفعول ثان للفعل " يشاركنا ". وهى ، كما يرى القارئ ، غلطة لا يقع فيها إلا جاهل له فى الجهل تاريخ عريق مؤثَّل ) ، و" مؤمنين منافقين " ( الكبائر / 9 ، ولا أدرى كيف يُوصَف المؤمن بأنه منافق ، اللهم إلا إذا جاز لنا أن نقول : فلان قصير طويل ، وطيب شرير ، وذكى غبى ... إلخ ، أو إلا إذا احتُجَّ علينا بأن قائل هذا هو الله ، الذى لا تُرَد له مشيئة ، فهو لا يُسْأل عما يفعل . لكن فات ذلك المجادلَ الشَّكِسَ أن إرادة الله تعالى لا تتعلق بالمستحيلات وأنها فوق السخافات والسفسطات . أما إذا قبل إنه إله أمريكى يحق له أن يفعل أى شىء دون أدنى حرج ، فإننا نبادر بالموافقة ما دام فاعل هذا من ذلك الصنف من الناس(1/28)
الذين وصف رسولنا الكريم واحدا منهم قديما بـ " الأحمق المطاع " ) ، و" وزعمتم أنكم آمنتم بالكتاب وبأهل الكتاب الذين هادوا والنصارى " ( الكبائر / 9 ، والمخاطَبون هنا هم المسلمون . وفى الكلام ركاكة لا يمكن بلعها ولا هضمها، علاوة على أن المسلمين لا يقولون أبدا إنهم آمنوا باليهود والنصارى ، إذ ليس اليهود والنصارى كتابا سماويا ولا نبيا من الأنبياء حتى يكونوا موضوعا للإيمان ، فضلا عن أننا ، على العكس من ذلك ، نؤمن بأنهم حرّفوا كتبهم وعبثوا بها وأنهم ما زالوا مقيمين على العبث والتحريف حتى هذه اللحظة باختراعهم هذا " الضلال المبين " وزَعْمهم أنه كتاب من عند رب العالمين ، ناسين أن الكتب السماوية لا تنزل على أهل الأُبْنَة اللوطيين ، حتى لو رأت أمريكا أن ترسّمهم أساقفةً وقِسّيسِين ) ، و " إنْ هو ( أى القرآن ) إلا خير شِرْعة أُخْرِجَت للكافرين " ( البهتان / 9 ، وهو وحىٌ حلمنتيشىٌّ خَدِيجٌ لا رأس له ولا ذَنَب ، ولا يمكن أن يدور إلا فى اسْت أحد الممرورين المضطربين . لا شفاه الله من دائه بل أخزاه وجعله عبرة لغيره من الكافرين المخبولين ! آمين يا رب العالمين . ومن الواضح أن الجهلاء يريدون أن يقولوا إنه " شرّ شرعةٍ أُخْرِجت للكافرين " ).
(1/29)
وكما ثبت أن الإله الذى أوحى بهذا " الضلال المبين " هو إله جاهل باللغة التى لفَّق بها كتابه ، فسأثبت للقراء الآن أنه إله جاهل أيضا بالكتب التى يقول إنه أوحى بها قبل هذا ، وأنه إله لا منطق عنده ولا عقل ، وأنه نسّاء كذلك ، إذ لا يستطيع أن يتذكر ما جاء فى القرآن الكريم فينقل الآيات التى فيه خطأً ، مع أنه ، كما قيل لى ، كان يفتح المصحف وهو يفعل ذلك . فهل نقول إنه لا يعرف الكتابة والقراءة جيدا ؟ أم هل نقول إنه يستعين بمن يقرأون له ، لكنهم للأسف يستغلون جهله وأميته فيخدعونه ولا يعطونه المعلومات الصحيحة التى يطلبها منهم ؟ يقول بعد البسملة التثليثية فى أول ما يسمّى بـ " سورة الحق " ، والحق منها ومن مزيفيها براء : " وأنزلنا الفرقان الحق نورًا على نور محقًّا للحق ومبطلا للباطل وإن كره المبطلون * ففضح مكر الشيطان الرجيم ولو تنزَّل بوحى مَلَكٍ رحيم " . بالله هل هذا إله يدرى ما يقول ؟ ما معنى أنه سيفضح مكر الشيطان الرجيم حتى لو جاء به ملاك رحيم ؟ تُرَى كيف يمكن أن يأتى بالوحى الشيطانى ملاك رحيم ؟ هل الملائكة تتصرف من تلقاء نفسها ؟ بل هل يمكن أن يقع منها أى عصيان لأوامر الله ؟ ومثلُ ذلك رقاعةً وسخفًا قولُهم فى الفقرة الثانية من " سورة الطهر " : " ولو كنتم أنبياءَ وأُوتيتُم الحكمة واطلَّعتم على الغيب وأتيتم بالمعجزات دون محبة فلا حول لكم ولا منّة وإنما أنتم مفترون ". كيف بالله يمكن أن يكون إنسانٌ ما نبيًّا مؤيَّدًا بالحكمة وعلم الغيب والمعجزات جميعا ثم يرفض الله تعالى أن يعترف به نبيا؟ فمن الذى أرسله إذن وجعله نبيا وأيده بكل هذه المواهب الإعجازية ؟ إن القوم إنما يصدرون هنا عن الفكر الوثنى ، إذ يتصورون أن هناك إلها آخر يمكن أن يرسل نبيا من لدنه على غير هوى الله فيرفض الله من ثم أن يعترف بنبوته . وفى أول " سورة العطاء " نطالع الآتى : " يا أيها الذين ضلُّوا من عبادنا ، لقد قيل لكم : النفس(1/30)
بالنفس والعين بالعين والسن بالسن ... " ، ليعود الإله الغافل فى الفقرة السادسة فيقول بخصوص هذه الآية نفسها : " ورحتم تُضِلّون المهتدين وتفترون علينا الكذب إنه لا يفلح المفترون ". والآن أيدرى القارئ الكريم من أين أتى القرآن بعبارة " النفس بالنفس ... إلخ " ؟ إنها من التوراة ، ونص القرآن هو : " وكتبنا عليهم فيها ( أى على بنى إسرائيل فى التوراة ) أن النفسَ بالنفسِ ، والعينَ بالعيِن ، والأنفَ بالأنفِ ، والأذنَ بالأذنِ ، والسنَّ بالسنِّ ... " ( المائدة / 45 ) ، ولا أحد فى اليهودية أو النصرانية إلا ويؤمن بأن التوراة هى من عند الله . والقرآن لم يقل شيئا آخر غير هذا ، فما معنى كل ذلك ؟ معناه ببساطة أن الإله الذى أوحى هذا الكتاب المسمى بـ " الضلال المبين " هو إله لا عقل لديه ولا ذاكرة ! وقد بلغ به فقدان العقل والذاكرة أَنْ وصف هذا التشريع بأنه " حكم الجاهلية " ، فضلا عن أنه لم يحسن نقل الآية كالعادة كما لا بد أن القراء قد لاحظوا ، إذ نَسِىَ ثلاث جمل كاملة هى : " والعَيْنَ بالعين ، والأَنْفَ بالأنف ، والأُذُنَ بالأُذُنِ " ، وهكذا ينبغى أن يكون الإله والوحى الإلهى ، وإلا فلا . تصوَّروا! تصوروا أن يعيب إلهٌ شريعته التى أنزلها فى كتاب له أرسل به رسولا من رسله أولى العزم هو موسى عليه السلام بأنها " حكم الجاهلية " ؟ جاء ذلك فيما يسمَّى : " سورة الحكم " ، ونص كلام هذا الهَرِم الفاقد الذاكرة كما جاء فى الفقرة العاشرة من السورة المذكورة هو : " أَفَحُكْمَ الجاهلية تبتغون بأن النفس بالنفس والعين بالعين والسن بالسن إنْ هو إلا سُنَّة الأولين وقد خَلَتْ شِرْعة الغابرين " . ثم يمضى الإله المسكين فى تخبطاته بصورة تدعو إلى الرثاء قائلا فى الفقرة التى تلى ذلك مباشرة : " فلا تنتقموا وتَصَدَّقوا به فهو كفارة لكم إن كنتم مؤمنين " ، جاهلا فى غمرة نسيانه وخَرَفه أن هذا هو ما يقوله القرآن الكريم فى آية سورة(1/31)
" المائدة " التى سبق الاستشهاد بها قبل قليل ، مع فارق مهم هو أن القرآن لا يوجب هذا كما يريد منا مزيفو كتاب " الضلال " بل يكتفى بالحث عليه لمن أراد أن يحرز أجرا عند الله ينفعه يوم القيامة ، وهو ما يتمشى مع أوضاع المجتمعات البشرية التى لا تستطيع أن تُمْضِىَ أمرها دون محاكم وعقوبات ، وإلا لفسد الأمر وعاث المجرمون من أمثال هؤلاء الملفقين بغيا ونهبا وتقتيلا ، إذ ما الذى يردع المجرم عن عدوانه وغَيّه لو أُلْغِيَت العقوبات ؟ إن هذا ما يتمناه كل مجرم له فى الإجرام تاريخ عريق . أما المبالغة فى الأمر بالتسامح والتظاهر به وتصوُّر أن البشر قادرون عليه فى كل الأحوال فهو نفاق رخيص . وليست العبرة بمثل هذه المبالغة ، بل العبرة أن يكون هناك تشريع يحقق العدل ويأخذ لكل ذى حق حقه مع دعوة الناس إلى الصفح ما أمكن ، وهو ما فعله القرآن . أما الكلام الساذج عن إدارة الخد الأيسر لمن يصفعك على خدك الأيمن فهو سذاجة بل بلاهة بل تنطع . وأتحداكم أن تأتوا لى بمن يدعو إلى هذا لأصفعه وأرى ماذا سيفعل ! إنه ما من دولة نصرانية تخلو من المحاكم والعقوبات والسجون ... إلخ مما هو موجود فى كل البلاد ! بل إن الله نفسه يعاقب الأشرار فى الدنيا والآخرة . وعلى اعتقادكم فإنه سبحانه لم يسامح البشرَ إلا بعد أن عاقب ابنه عقابا لم نسمع أن أبا طبيعيا عاقبه ابنه ، بله أن يكون هذا الابن ابنًا بريئًا بارًّا لم يرتكب ذنبا فى حق أحد ! ترى لماذا لم يجر الله على سنة التسامح التى تدعون إليها وتظنون أنكم تتفوقون بها علينا ، مع أننا، مهما صدقنا ادعاءاتكم فينا، لم نقترف عشر معشار ما اقترفتموه فى حقنا وفى حق الآخرين من جرائم وفظاعات وحشية ؟ فلماذا التساخف إذن لمكايدة المسلمين ؟ أما إذا كان الأمر مجرد تنطُّع للمباهاة والسلام ، فإنى على استعداد لعظة الأوباش بألا يكتفوا بإدارة الخد الأيسر لمن يصفعهم على الأيمن بل لا بد من إدارة القفا أيضا(1/32)
ليتلقَّوْا عليه ما لذ وطاب من الضرب واللَّطْس ثم إدارة الأرداف كذلك للاستمتاع ببعض الركلات ، مع كم لكمةً من اللكمات المنتقاة وكم بَصْقَةً من البَصْق الذى يعجبك كى يكون أجرهم عند الله عظيما فى ملكوت السماوات ! وسلِّم لى على التسامح . لو أنكم كنتم صادقين فى هذه المثالية المتنطعة ، فلماذا لا تنسَوْن ما تدَّعون أننا آذيناكم به ولا تزالون حتى الآن تتخذونه ذريعة لسحقنا وسحق أية محاولة منا للنهوض من تخلفنا؟ هذا ، ولم ندخل بعد فى حكاية " من أخذ منك رداءك فأعطه أيضا إزارك " ، وامش بعد ذلك " بلبوصا " تستعرض على الناس فى الشوارع والمجامع سوأتك وأعضاءك التناسلية والإخراجية ، ثم تعال فقابلنى يوم القيامة ! لقد كان من الممكن أن يجوز علينا هذا الكلام لو أننا لم نَخْبُرْكم ونَخْبُر سلوككم وأخلاقكم ! أمّا ، وقد عرفناكم وكان ماضيكم معنا على مدى قرون زفتًا وقَطِرانا ، فكيف يدور فى وهمكم أننا يمكن أن نصدق حرفا مما تقولون ؟ وعلى كل حال فهذا هو نَصّ سورة " المائدة " الذى سلف الحديث عنه قبل قليل : " فمن تصدَّقَ به فهو كفّارة له ". أستغفر الله العظيم! رضينا بالله ربًّا، وبالإسلا م دينًا ، وبمحمد نبيًّا ورسولا ، وتبرَّأْنا من كل دينٍ يخالف دين الإسلام !
(1/33)
ليس ذلك فقط ، فالواقع أن هذا الإله إلهٌ هجّاصٌ أيضا . ذلك أنه يزعم أنه قد أيّد هذا " الضلال المبين " بالمعجزات حسبما جاء فى الفقرتين الرابعة والخامسة من " سورة المعجزات " . فأين تلك المعجزات يا ترى ؟ أفتونى بعلم أيها العقلاء ! إن النبى الكذاب الضَّلاِلىّ صاحب هذا الكتاب لم يجرؤ على الظهور للناس الذين يزعم أنه أُرسل إليهم ، فكيف يمكن أن يكون قد أتى بمعجزات أراناها فصدّقْنا به وبها ، ونحن لم نتشرف أصلا بطلعته الغبية ؟ إنه يعرف تمام المعرفة أنه لو فقد عقله وأرانا خلقته فليس له عندنا إلا البراطيش ننهال بها على وجهه السمج حتى تتورم خدود العِلْج الزنيم فى عَلْقَة لم يأكل مثلَها حمارٌ فى مَطْلع أو حرامىٌّ فى جامع !
(1/34)
وفى تلك السورة نفسها نقرأ هذا الكلام العجيب الذى لا يمكن أن يصدر عن أمّىّ ، بله رب العالمين الذى خلق العقل والبيان ، فلا يُعْقَل من ثم أن يَتَدَهْدَى لهذا الدَّرْك الأسفل من العِىّ والفَهَاهة واللامنطق ، إذ جاء فى الفقرة الثامنة منها وصفًا لـ " الضلال المبين " الذى يسمونه كذبًا ومَيْنًا بـ " الفرقان الحق " : " صِنْو الإنجيل ورَجْع الصَّدَى وبيان للناس كافة وتذكرة للكافرين ونور ورحمة وبشير ونذير وهدى للضالين لعلهم يتذكرون ويهتدون ". ترى كيف يكون بشيرا للضالين ؟ إن البشارة إنما تكون للمهتدين لا للضالين . لكن من أين يأتى لمخترع هذا " الضلالِ " المنطقُ والبيانُ " وقد طمس الله على بصيرة المزيِّف الدجال ؟ ثم إنه ، بسلامته ، قد حسم الأمر بالنسبة لنا نحن المسلمين ورمانا ، فى الفقرة الثالثة من " سورة المنافقين " ، فى سَقَر ، إذ قال : " وأوردكم جهنم جميعا وإنْ منكم إلا واردها وكان عليه أمرا مقضيا " ، كما أنه يقول فى الفقرة السادسة منها عنا : " وطبع الشيطان على قلوبكم وسمعكم وأبصاركم فأنتم قوم لا تفقهون . لا جَرَمَ أنكم فى الآخرة أنتم الخاسرون " . فكيف يجىء بعد ذلك ويتكلم عن الهداية ؟ والعجيب أنه رغم هذا يعود فى هذه السورة ذاتها فى الفقرة الثامنة قائلا : " يُلْقِى بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم يهتدون كلما أوقدوا نار الكفر أطفأناها ويسعَوْن فى الأرض فسادًا فوَيْلٌ للمفسدين " ، مشيرا إلى أنه سوف يأتى علينا يوم نهتدى فيه ، أى نتخلى عن توحيدنا لصالح التثليث الوثنى الذى نفض معظم الناس عندهم فى الغرب أيديهم منه . فكيف يريد هؤلاء المجانين منا أن نأكل ما رماه الغربيون فى صندوق القمامة منذ قرون ؟ إن المجرمين يتخبطون فى المصيدة التى ساقهم بغضهم وكيدهم لمحمد إليها غير مستطيعين التخلص من ورطتهم .
(1/35)
وتعالَوْا ننظر أيضا فى هذا الاضطراب العقلى الذى تعكسه الفقرة حيث نقرأ أننا نحن المسلمين كلما أوقدنا نار الكفر أطفأها الله سبحانه . فها نحن أولاء ، من وجهة نظر هذا الإله المخبول ، نشعل نار الكفر منذ أربعة عشر قرنا ، فلِمَ لَمْ يطفئها ؟ أم سيقال إن عمال المطافئ الذين يشتغلون عنده كانوا مضربين طوال هاتيك القرون عن العمل أو إن أمريكا ضاربةٌ من يومها على مملكته حصارا اقتصاديا يشمل قطع الغيار الخاصة بعربات المطافئ ، فلذلك لا يستطيع تشغيلها بل تقف فى مكانها لا تَرِيم كقطعة الخردة ؟ ثم إنه فى الآية الثالثة عشرة من نفس السورة يعود فيقول : " يا أيها الذين آمنوا من عبادنا ( المقصود هنا النصارى ، وربما اليهود أيضا ) إذا رُفِع لنا دعاء فإنه يستجاب لكم فيهم ولا يستجاب لهم فيكم فأنتم المقسطون وهم المبطلون " . وإننا لنسأل هؤلاء الأوغاد : لماذا ، بدلا من هذه الخَوْتَة ووجع الدماغ وتزييف الكتب الذى تشغلون أنفسكم به ، لا تَدْعُون أنتم وبقية المغفلين أمثالكم لنا بالهداية وتفضونها سيرة وتنصرفون إلى ما يصلح حالكم ، لا أصلح الله لكم حالا ما دمتم تصرون على الكفر والتآمر على عباد الله الموحدين تريدون أن ترجعوهم كفارا بعد أن أنعم الله عليهم بدين التوحيد؟ ألستم تقولون إن الله أوحى لكم هذا الهباب الذى تسمونه " الفرقان الحق " وأكد لكم فيه أن دعاءكم فينا مستجاب ؟ ألستم تريدون لنا أن نؤمن بتثليثكم ؟ بسيطة ! إن الأمر لا يحتاج لأكثر من دعوة ( أو دعوتين إذا لزم الأمر وكان إلهكم نائما نومة القيلولة مثلا أو كان مشغولا بملاعبة ابنه أو مداعبة زوجته ويحتاج من ثَمّ إلى مزيد من التنبيه ) ، وبعدها تجدوننا قد دخلنا فى دينكم وأصبحنا وثنيين مثلكم ، ويرتاح بالكم وتريحوننا من هذه الشتائم التى لا تأتى معنا بنتيجة ؟ صحيح : لم لا تفعلون ذلك ؟ ولكن لا تنسَوْا أن تعطونى الحلاوة إن وفقكم الله ، ولن يوفقكم أبدا لا فى الدنيا(1/36)
ولا فى الآخرة بمشيئته تعالى وحوله وقوته !
كذلك فهذا الإله الضالّ الُمضِلّ لا يستطيع تذكُّر الآيات القرآنية على وجهها الصحيح فتراه يخطئ فى الاستشهاد بها فى معظم الأحيان رغم حرصه على وضعها بين علامتَىْ تنصيص جريا على أسلوب الباحثين حين يريدون أن يؤكدوا أنهم قد نقلوا النص حرفيا: خذ مثلا قوله فى الاستشهاد ، فى الفقرة الحادية عشرة من " سورة القتل " عندهم ، بالآية السابعة عشرة من سورة " الأنفال " : " ولَمْ تقتلوهم ولكن الله قتلهم "، مع أن بدايتها فى القرآن الكريم بالفاء لا بالواو . كما أنه فى أول " سورة الضالين " يستشهد بسورة " الصَّمَد " القرآنية على غير ما جاءت عليه فى القرآن ، إذ يقول بعد البسملة الوثنية : " وألبس الشيطانُ الباطلَ ثوبَ الحق وأضفى على الظلم جلباب العدل وقال لأوليائه : أنا ربكم الأحد لم أَلِد ولم أُولَد ولم يكن لى بينكم كُفُوًا أحد " . وليس هذا نَصَّ سورة "الصمد" كما نعرفها فى القرآن منذ أُنْزِلت على خير البرية . ثم ما الذى يغيظ أى إله فى قولنا عنه إنه واحد أحد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد ، اللهم إلا إذا كان إلها أحمق ؟ فلنتركه لحماقته يهنأ بها كما يحلو له هو ومن يرافئونه على هذا الجنون !
(1/37)
أما فيما يسمى : " سورة الطاغوت " فإنه ، عند مهاجمته لشريعة الجهاد التى يتهمها زورا بالعدوانية والظلم وتقتيل الأبرياء ، ينقل على نحو محرف ما جاء فى سورة " التوبة " من أن " الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتِلون فى سبيل الله فيَقْتُلون ويُقْتَلون وعدًا عليه حقًّا فى التوراة والإنجيل والقرآن " ، إذ يقول : " وافترَوْا على لساننا الكذب : بأنا اشترينا من المؤمنين أنفسهم بأن لهم الجنة يقاتلون فى سبيلنا وعدا علينا حقا فى الإنجيل . ألا إن المفترين كاذبون ... " . وواضح أن الأفاكين قد أسقطوا عدة كلمات من الآية القرآنية الكريمة عمْدًا حتى لا يُضْطَّروا إلى الإقرار بأن فى التوراة أمرا ، لا بالقتال دفاعا عن النفس والعِرْض فقط كما فى الإسلام ، بل بالقتل بدافع الكراهية للأمم الأخرى وإبادتها لمجرد الإبادة . وهو ما يعضد قول من قال إن هذا " الضلال المبين " هو ثمرة التعاون الأثيم بين الصهيونية والصليبية ، فلذلك يعملون على إظهار اليهود فى صورة المسالم البرىء. والنص الصحيح لآية سورة التوبة هو : " وَعْدًا عليه حَقًّا فى التوراة والإنجيل والقرآن " . ولم يقتصر الأمر فى السورة على هذا الخطإ ، بل هناك خطأ آخر فى الفقرة العاشرة حيث أوردوا فى وحيهم الشيطانى الآية السابعة عشرة من سورة " الأنفال " التى تبدأ بقوله تعالى : " فلَمْ تقتلوهم ، ولكن الله قتلهم " على النحو التالى : " وما قتلتموهم ولكن الله قتلهم " .
(1/38)
كذلك نجد فى "سورة النسخ " خطأ آخر من ذات النوع ، إذ يقول إلههم المسطول فى الفقرة الثانية عشرة : " وإذا قيل : " هو قولٌ افتراه ( أى الرسول ) " قلتم : " فَأْتُوا بعَشْرِ سُوَرٍ مثله مفتريات إن كنتم صادقين ". وتعليقا على هذا نقول : أوَّلا ليس فى القرآن عبارة " هو قول افتراه ". ثانيا : لم يتخذ ردُّ القرآن على دعوى الكفار بافتراء النبى للقرآن صيغةً واحدةً فى كل مرة ، بل كان يختلف من موضع إلى آخر . ثالثا: العبارة التى أوردها هذا الإله المائق المأفون لم ترد فى القرآن على هذا النحو ، بل نصها فى الآية الثالثة عشرة من سورة " هود " هو : " فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين " . وفى " سورة الوعيد " نقرأ فى الفقرة الأولى قولهم : " يا أيها الذين ضلّوا من عبادنا ( والمقصود نحن المسلمين ورسولنا ) : لقد توعدتم عبادنا المؤمنين بلساننا افتراءً فقلتم : " يا أيها الذين أُوتُوا الكتاب آمِنوا بما نزَّلْنا مصدِّقا لما معكم من قبل أن نطمس وجوها فنردَّها على أدبارها ونلعنهم كما لعنَّا أصحاب السبت لَعْنًا " ، مع أن النص القرآنى يقول : " أو نلعنهم " ( بـ " أو " لا بالواو ) ، كما أنه يخلو من المفعول المطلق : " لَعْنًا ". وفوق ذلك فإن هذه الآية موجهة إلى اليهود ، فما معنى تسميتهم فى " الضلال المبين " بـ " عبادنا المؤمنين " ، والنصارى يعدون اليهود كَفَرَةً كُفْرًا لا كفر بعده ولا قبله ؟ أترك المخابيل مع هذه المسألة وحدها يحاولون أن يجدوا لها حلا ، وهيهات ! وإلا لكانوا مكذِّبين بالمسيح وبالأناجيل . ولعل القارئ لم ينس أيضا ما نبّهْنا إليه قبل قليل من إسقاط هذا الإله الخَرِف للجمل الثلاث من آية سورة " المائدة " التى تتحدث عن القصاص فى التوراة . ونكتفى بهذه الأمثلة ، ومن يُرِدْ غيرها فليرجع بنفسه إلى هذه النصوص الكفرية المتهافتة السخيفة ! ومرة أخرى أرى أن هذا الإسقاط(1/39)
لبعض كلمات الآية القرآنية هو تعضيد لمن يقولون عن تزييف هذا " الضلال المبين " إنه نتيجة الجهود والمؤامرات المشتركة من جانب اليهود والنصارى فى أمريكا مع الاستعانة بطائفة من العرب الأرجاس الأنجاس !
(1/40)
والطريف المضحك أن كتاب " الضلال المبين " يدور كله من أوله لآخره على المسلمين ونبيهم والكتاب الذى أنزله الله عليه : لا يشتم غيرهم ، ولا يحاول أن يَخْتِل أحدا عن دينه سواهم ، ولا يترك شيئا أىّ شىء فى دينهم دون أن يسفِّهه ويُزْرِىَ به مناديا إياهم فى مفتتح كل سورة تقريبا من سور "ضلالهم المبين" بـ " يا أهل الجهل " أو " يا أهل الظلم من عبادنا " أو " يا أيها الذين ضلُّوا من عبادنا " أو " يا أيها الذين أشركوا من عبادنا الضالين " أو " يا أيها الذين كفروا من عبادنا الضالين " أو " يا أيها المنافقون من عبادنا الضالين " أو " يا أيها المفترون من عبادنا الضالين " أو " يا أهل التحريف من عبادنا الضالين "، وكأن الله سبحانه وتعالى لم تعد له شُغْلَة ولا مَشْغَلَة إلا المسلمون . ولكن لم يا ترى ؟ السبب هو أن المسلمين يوحّدونه ولا ينسبون له ولدا ، سبحانه ! ولأنهم يصلّون له وحده لا يشركون فى عبادتهم له أحدا من خلقه . باختصار : لأنهم لا يتبعون سُنّة الوثنيين فى أىٍّ من عقائدهم أو عباداتهم أو تشريعاتهم . فهذا التوحيد النقى المطلق هو الذى يغيظ ... يغيظ من ؟ لا ، لا يمكن أن يغيظ هذا الإيمانُ الناصعُ الصافى اللهَ سبحانه وتعالى بل إلها أحمق مغفَّلا كهؤلاء الذين يعبدونه وهم يحسبون ، بعقولهم الزَّنِخَة العَطِنة وقلوبهم السوداء العَفِنة ، أنهم يُحْسِنون صنعا! هذا إلهٌ متخلفٌ ينبغى أن يُعْهَد به إلى من يُفَهِّمه ويرشده ويُحَضِّره ويُبَصِّره بمصلحته وما يصحّ وما لا يصحّ فى حقه ، بالضبط كما يفعلون بأولياء العهد فى الدُّوَل الملكية ، إذ يُحْضِرون لهم فى صغرهم أساتذة يعلّمونهم فنون البروتوكول ، حتى إذا جاء عليهم الدَّوْر ليحكموا البلاد كانوا جاهزين لتولى أمور المُلْك ولم يكونوا عارا على بلادهم وأُسَرهم . ولكن يبدو أن هذا الإله لم يجد فى صباه من يأخذ بيده ويعلّمه مقتضيات الألوهية على وجهها الصحيح ، فلذلك نراه(1/41)
يفضّل أن يشرك به عبادُه على أن يُفْرِدوه بالألوهية ويخصّوه بالعبادة والدعاء والتمجيد ! إن هؤلاء الأغبياء ما زالوا سادرين فى أوهامهم التى كانت تجوز على المتخلفين فى العصور الوسطى والتى تخلصت منها أوربا عندما أذَّن فيها المؤذن ببزوغ فجر النهضة ، ناسين أننا الآن فى القرن الواحد والعشرين ! صحّ النوم يا أيها المتخلفون !
أو لم تجدوا فى طول الأرض وعرضها على رُحْبها واتساعها من يحتاج إلى الهداية إلا المسلمين ؟ أولم يأتكم نبأ عُبّاد البقر أو عُبّاد النار أو عُبّاد الشيطان أو الشيوعيين مثلا ؟ أَوَقَدْ نَسِيتم ما كنتم تقولونه فى اليهود الذين تتهمونهم بقتل ربكم ؟ ألا يحتاج أىٌّ من هؤلاء أن تُولُوه شيئا من هذا الحنان الزائف الذى تغدقونه علينا بالإكراه والذى تسمونه : " المحبة " ؟ فلنفترض أننا نحن المسلمين ضالون فعلا كما تزعمون كذبًا ومَيْنًا ، أليس ضلالنا هذا أنظف من ضلال هؤلاء الذين ذكرتُهم آنفا؟ إننا على الأقل نعبد الله ونوحّده ولا نشرك به شيئا ، فضلا عن أننا لم نقتل المسيح ولم نطعن أمه فى عِرْضها مما سنتناوله بالتفصيل فيما بعد ، بل نؤمن به نبيًّا من أنبياء الله ونحترمه ونكرّم أمه تكريما لا يكرِّمها إياه أحد من العالمين . فنحن إذن ، على أسوإ الفروض ، أفضل من غيرنا، فلماذا كل هذه البذاءة والسفالة والوقاحة مع رسولنا ومعنا دون الناس أجمعين ؟ ثم تقولون لنا بعد ذلك إن دينكم هو دين المحبة !
(1/42)
أية محبة تلك التى تسوِّل لكم التطاول علينا واتهامنا مع ذلك كله بأننا نحن المعتدون القاتلون اللصوص السارقون ، فى الوقت الذى تهجمون فيه على بلادنا وتدمرونها تدميرا ، وتقتّلون رجالنا ونساءنا وأطفالنا ، وتسرقون بترولنا ، وتحتلون بلادنا ، وتعذّبوننا وتهينوننا وتنتهكون أعراض نسائنا ، وتضربوننا بالقنابل والصواريخ والطائرات والدبابات والبوارج ... إلخ ؟ إن جنودكم اللوطيين ومجنَّداتكم السحاقيات يعتدون على إخواننا وأخواتنا فى السجون والمعتقلات فى أرض الرافدين ( وهذا مجرد مثال ) بكسر عظامهم ، وإبقائهم عرايا فى صَبَارَّة الشتاء مع غمر الزنازين بالماء الوسخ حتى لا يستطيع المساكين النوم ، وتسليط الكلاب المتوحشة عليهم تنهش خُصَاهم وغراميلهم فينزفون حتى الموت ، فضلا عن إكراههم للأب أن يمارس اللواط مع ابنه والعكس بالعكس ، واغتصاب النساء والفتيات العفيفات اللاتى يفضلن الموت بعد خروجهن من المعتقل على الحياة مع هذا العار ، طالبين منهم ومنهن أن يشتموا الله ورسوله ويرددوا أنهم يؤمنون بالصليب وبيسوع ابن الله ، قائلين إنهم جاؤوا إليهم يحملون رسالة المحبة ، وهم لم يحملوا إلا رسالة اللواط والسحاق والتعذيب والتقتيل والتدمير البربرى الذى لا يترك شيئا يمرّ عليه إلا جعله أنقاضًا وأحجارًا لا يُعْفِى من ذلك مدرسة ولا مصنعا ولا متحفا ولا بيتا ولا مسجدا ؟ أية محبة جئتمونا بها أيها الوحوش ؟ لعنة الله عليكم وعلى ما جئتمونا به ! اغربوا عن وجوهنا ، لا نريد أن نراكم ! أىّ جنون ذلك الذى طوّع لكم أننا يمكن أن نترك توحيدنا الطاهر العظيم وندخل معكم فى تثليثكم وتصليبكم ؟ فلتحتفظوا بهذه المحبة لأنفسكم بدلا من اللهاث وراء إضلال من هداهم الله وعافاهم من هذا الرجس وذلك البلاء ، والعياذ بالله ! لماذا لا توجهون دعوتكم هذه إلى من تركوا منكم دينهم واتخذوا الإلحاد دينا بديلا ، وهم الأغلبية الساحقة فيكم ؟ أنتم تقولون فى "(1/43)
ضلالكم المبين " إننا ذاهبون إلى الجحيم ! ماشٍ ، فلتريحوا إذن أنفسكم ولتوفروا جهودكم وأموالكم وأوقاتكم ، ولتنصرفوا عنا ما دام الأمل فينا مقطوعا. أليس هذا ما يقول به العقل يا من عدمتم العقل ؟
(1/44)
والآن إلى بعض ما يقوله هؤلاء الأوساخ فينا وفى رسولنا وديننا عقيدةً وعبادةً وتشريعًا : " يا أيها المنافقون من عبادنا الضالين : أَنَّى تشهدون بما لم تشهدوا وترددون ما لا تفقهون . لقد شهدتم إفكا وقلتم بَهْتًا ونُكْرا * وبلَّغتم الناس ما ليس لكم به علم . وأنفذتم جاهليتكم على الراسخين فى العلم والدين القويم فأثقلتم كواهلهم وزرا * وشُبِّه لكم الحق فما فهمتم للتجسد معنى وما فهمتم للبنوة مغزى وما أدركتم للفداء مرمى وما علمتم من أمور الروح أمرا * وعلَّم الأميين أمِّىٌّ كافر فزادهم جهلا وكفرا * وأخرجهم من النور إلى الظلمات وأضلهم قسرا " ( الشهادة/ 1- 6 ) ، " إن الذين يُقِيمون الصلاة فى زوايا الشوارع والمساجد رياءً كى يشهدهم الناس ذلكم هم المنافقون وهم فى الحقيقة لا يُصَلّون * فمن نوى أن يصلى فليدخل داره وليغلق بابه ويصلِّ خفيةً نجزيه علانية بعين العالمين * تكررون الكلام لغوا كعَبَدَة أوثان تظنون أنكم بالتكرار تُسْتَجَابون * إننا نعلم سُؤْلكم قبلما تَسْألون * وترددون الدعاء طمعًا بدخول الجنة فلن تُفْتَح أبواب الجنة للمنافقين . أما الذين يعملون بمشيئتنا فهم الذين يدخلون " ( الصلاة / 3 – 7 ) ، " يا أيها المنافقون من عبادنا : إن صيامكم غير مقبول لدينا وغير ممنون * فما كان الصوم تضوُّرًا لأجَلٍ معلوم * تتخمون صُوَّما أكثر منكم مفاطر وكالأنعام تَطْعَمون * ترهقون أجسادكم ونفوسكم نهما فكأنكم ما طَعِمْتم من قبل ولن تكونوا من بعد طاعمين * وتأكلون السنة فى شهرٍ جشعا لضَعَتكم وتضوُّركم فخيرٌ لكم ألا تصوموا فإنه لا أجر للضعاء والمتضورين * وتكلِّحون وجوهكم وتصعِّرون خدودكم للناس لتَظْهَروا صائمين إنما يفعل ذلك القوم المنافقون " ( الصيام / 3 - 8 ) ، " يا أهل العدوان من عبادنا الضالين : تسفكون دماء البهائم أضحيات تبتغون مغفرة ورحمة من لدُنّا عما اقترفت أيديكم من قتل وزنى وإثم وعدوان * إنما أضحية(1/45)
الحق قلبٌ طهيرٌ يتفجر رحمة ومحبة وسلاما لعبادنا ورفقا بالبهائم فلن ينالنا لحومُها ولا دماؤها ولكن ينالنا تقوى المتقين " ( الأضحى/ 7 – 8 ) ، " وهبط الذين اتبعوا الطاغوت إلى دركٍ سحيقٍ فاشْتَرَوُا الحربَ بالسلام والسلبَ بالإحسان والزنى بالعفة والكفرَ بالإيمان فخسرت تجارتهم وكسبوا عذابا وبيلا * واقترفوا الفحشاء والمنكر والبغى سعيًا وراء جنة الزنى يوعَدونها وَعْدًا غَرورًا وثوابًا إفكًا من الشيطان ، ألا بُعْدًا لجَنّة الكافرين وتَعْسًا لمن بها يُوعَدون * وافترَوْا على لساننا الكذب : " بأنا اشترينا من المؤمنين أنفسهم بأن لهم الحنة يقاتلون فى سبيلنا وعدًا علينا حَقًّا فى الإنجيل " . ألا إن المفترين كاذبون . فإنا لا نشترى نفوس المجرمين إنما اشتراها الشيطان اللعين * وأشركونا فى عصبة تقتل وتسلب عبادنا وفرضوا لنا فى خمس ما يغنم الغزاة المجرمون * وبرّأهم المنافقون فقالوا : " وما قتلتموهم ولكن الله قتلهم ". ألا إنا لا نقتل عيالنا لنغنم مع القتلة والمعتدين " ( الطاغوت / 6 – 1 ) ، " يا أيها الذين كفروا من عبادنا الضالين : لقد جعلتم من جناتنا مواخر للزناة ومغاور للقتلة ومخادع رِجْس للزانيات ونُزُل دعارة للسُّكارَى والمجرمين " ( الكبائر / 1 ) ... إلخ .
(1/46)
ومن الواضح أن مَثَلهم حين يتظاهرون بالعيب على دين رب العالمين كَمَثَل المومس التى لا يعجبها عفة الحرائر الشريفات فتذهب تعيبهن قائلةً فى تباهٍ وتشامخٍ كاذبٍ داعرٍ إنها عشيقة لفلان وفلان من أكابر القوم وليست زوجة لرجل لا هو صاحب شهرة ولا ذو منصب كبير من السفلة المجرمين ! ماذا فى إفراد الله سبحانه وتعالى بالعبادة والصلاة والصيام ؟ وماذا فى الصلاة فى المساجد بحيث يُزْرِى عليها الكَفَرَة المارقون ؟ ألا يصلون فى الكنائس ؟ أكل من صلى منهم يذهب إلى مخدعه فيصلِّى؟ إن الصلاة فى الإسلام تجوز فى أى مكان : فى الشارع ، وفى الحقل ، وفى المصنع ، وفى ميدان القتال ، وفى السَّفَر ، وفى الحَضَر... ذلك أن الله سبحانه فى كل مكان ، ولا بد من عبادته فى كل حين ، وإلا فلو انتظر الإنسان حتى يعود إلى كِسْر داره ويدخل مخدعه فلن يصلى ركعة واحدة إن شاء الله ، وهذا ما حدث فى بلادكم ، حيث لا تذكرون الله إلا كل أسبوعٍ مرة . وهذا بالنسبة للعجائز وأمثالهم ، أما الشبان والشابات فإنهم لم يعودوا يعبدون الله ولا مرة كل مائة عام ، فقَسَتْ قلوبهم ، فبئس الاقتراح اللعين من القوم الملاعين ! والعبرة فى كل حال بإخلاص النية وتطهير القلب من الرياء ، أما اتهام الآخرين بالنفاق زورا وبهتانا عاطلا مع باطل ، واحتقار عبادة الموحدين وإظهار التنطُّس والاشمئزاز منها ، فهو بعينه الكِبْر وجمود القلب الذى أَصْلَى المسيحُ عليه السلام اليهودَ بسببه قوارصَ الكلمات وقوارضَ اللعنات ! ثم ماذا فى الصيام ؟ أليس فى دينكم صيام أيضا ؟ وماذا فى الأضاحى ؟ إنكم تُظْهِرون الشفقة عليها ، فهل نفهم من هذا أنكم لا تذبحون الحيوانات ولا تتسمَّمون بها ؟ وهل يكره الله من عباده أن يُطْعِموا من أضاحيهم الفقراء والمساكين ؟ فأين المحبة والرحمة التى تصدِّعون رؤوسنا بها ليل نهار ؟ أم إن اللحم لا يصلح إلا إذا كان من جسد المسيح تأكلونه كما يفعل الوثنيون ؟ كيف يا(1/47)
إلهى يأكل الإنسان جسد ربه ويشرب دمه ؟ ومن غبائكم وجهلكم تسمّونه " الخروف " كما أفهمكم يوحنا فى هلاويسه ( رؤيا / 5 / 6 فصاعدا . وفى إنجيل يوحنا أنه " حَمَل " / 1 / 29 ، 36 ) ، فيا لكم من خرفان غبية بليدة تسمِّى ربَّها خروفا يا أكلة الخنزير الذى حرّمته السماء وحلّله لكم ، تقرُّبًا إلى الوثنيين ، بولس اللعين ( كورنتوس 1 / 6 / 12– 13 ، 9 / 19 – 29 ، وكولُسِّى/ 2 كله ) ، ومهّد له الطريقَ قبلا بطرسُ ذو العقل الثخين ( أعمال الرسل / 9 – 16، و 11/ 2 – 10 ) ، والذى يجعلكم تبغضوننا وتحقدون علينا إلى يوم الدين ! إننا حين نذبح الأضاحى إنما نذبحها ليَطْعَم معنا منها المحتاجون والجائعون لا ليتمتع برائحتها الله رب العالمين ، وكأنه إله من آلهة الوثنيين حسبما صورتموه فى " الكتاب المقدس " لديكم ، ولذلك تُتْرَك فلا يأكل منها أحد. وهذا معنى قوله تعالى : " لن ينال اللهَ لحومُها ولا دماؤها ، ولكنْ يناله التقوى منكم " ( الحج / 37 ) ، الذى سرقتموه كعادتكم ونقلتموه إلى " ضلالكم المبين " دون فهم كالحمار الذى يجلس إلى مكتب ويمسك كتابا بحوافره يظن أنه بذلك سيكون من الآدميين الذين يفهمون ، ثم جئتم تَشْغَبون به علينا فى عنادٍ حَرُون . وهذه أول مرة أسمع بإله يضيق صدره بإطعام الفقراء والمساكين . أىّ إله هذا يا ترى ؟ ومن أية جِبِلَّةٍ جُعِل ؟ هذا إلهٌ قاسٍ غليظ القلب والوجدان ، نعوذ بالله منه وممن صنعوه وعبدوه !
(1/48)
على أن ثمة شيئا خطيرا فات هؤلاء الأوغاد ، ألا وهو أن الإسلام هو الدين الوحيد الذى يشهد كتابه لمريم عليها السلام بالعفة ، فهل من العقل أن يأتى إنسان إلى الشاهد الوحيد الذى يملكه فيسبّه ويتطاول ويتسافه عليه ويكذِّبه ويفترى ضدَّه الأكاذيب ؟ إن ذلك لهو الحماقة بل هو الجنون بعينه ، فضلا عما فيه من قلة أدب ووغادة ! ومعروف ما يقوله ، عن عيسى وأمه ، اليهود الذين يضع الأوغاد الآن أيديهم فى أيديهم ليكونوا علينا إِلْبًا واحدا . إنه عندهم ابن سِفَاح ، وكانوا يعرّضون به قائلين فى وجهه : " لسنا مولودين من زِنًى " ( يوحنا / 8 / 42 ). وبطبيعة الحال لا يمكن إبطال هذه التهمة بأدلة قانونية ، إذ المعروف أن المرأة لا تحمل ولا تلد إلا إذا اتصلت برجل : عن طريق الزواج أو من خلال علاقة غير شرعية . ولم تكن مريم قد تزوجت بعد ، فلم يبق أمام الناس إلا الباب الثانى ، اللهم إلا إذا ثبت بدليل غير عادى أنها لم تَزْنِ ، وأين هذا الدليل إلا فى القرآن الكريم ، الذى يتطاول عليه بَغْيًا وعَدْوًا أغبى من عرفت الأرض من المخلوقات ؟ لقد ذكر المولى فى كتابه أن جبريل عليه السلام قد أتاها رسولا من الله ونفخ فى جيبها فحملت بعيسى . لكن أحدا لم يَرَ جبريلَ وهو يفعل ذلك ، فلم يبق إذن إلا تبرئة القرآن الكريم لها ، فضلا عما حكاه عن كلام عيسى فى المهد دليلا على عفتها! والغريب أن هذا الدليل الذى يقول به القرآن لتبرئة مريم غير موجود فى الأناجيل الموجودة فى أيدى النصارى ! فما معنى هذا ؟ معناه أن هؤلاء الحمقى المغفلين يتركون الدنيا كلها ويتفرغون للتطاول والتباذُؤ والتسافُه وإقلال الأدب والحياء على المسلمين ، الذين يمثلون المخرج الوحيد لهؤلاء البهائم من ورطتهم ! وهذا دليل على الخبال الذى هم فيه ، وهو أمر طبيعى جدا ، إذ ما الذى ننتظره لمثل هؤلاء الأباليس ؟ أننتظر أن يوفقهم الله جزاء كفرهم وبغيهم على رسوله والكتاب الذى أنزله عليه(1/49)
نورًا للعيون وهُدًى للقلوب ؟
ولم يكن اليهود هم الوحيدين الذين ينسبون عيسى عليه السلام إلى أب من البشر ، بل كان الناس جميعا يقولون إن أباه هو يوسف النجار. لا أقول ذلك من عندى ، بل تذكره أناجيلهم التى نقول نحن إنها محرفة فيكذّبوننا عنادا وسفاهة ! لقد كتب يوحنا فى إنجيله ( 1 / 5 ) أن الناس كانت تسميه " ابن يوسف " ، وهو نفس ما قاله متى ( 1 / 55 ) ولوقا ( 3 / 23 ، و 4 / 22 ) ، وكان عيسى عليه السلام يسمع ذلك منهم فلا ينكره عليهم . بل إن لوقا نفسه ( 2 / 27 ، 33 ، 41 ، 42 ) قال عن مريم ويوسف بعظمة لسانه مرارًا إنهما " أبواه " أو " أبوه وأمه ". كذلك قالت مريم لابنها عن يوسف هذا إنه أبوه ( لوقا / 2 / 48 ). ليس ذلك فحسب ، بل إن الفقرات الست عشرة الأولى من أول فصل من أول إنجيل من الأناجيل المعتبرة عندهم ، وهو إنجيل متى ، تسرد سلسلة نسب المسيح بادئة بآدم إلى أن تصل إلى يوسف النجار ( " رجل مريم " كما سماه مؤلف هذا الإنجيل ) ثم تتوقف عنده . فما معنى هذا للمرة الثانية أو الثالثة أو الرابعة ...؟ لقد توقعتُ ، عندما قرأت الإنجيل لأول مرة فى حياتى ، أن تنتهى السلسلة بمريم على أساس أن عيسى ليس له أب من البشر ، إلا أن الإنجيل خيَّب ظنى تخييبا شديدا ، فعرفت أنّ من طمس الله على بصيرته لا يفلح أبدا . ثم إنهم بعد ذلك ، ويا للغرابة ، يجدون فى أنفسهم النَّتِنة الجرأةَ على التَّسَافُه على رب العالمين وإيذاء رسوله الكريم فى صحائفَ ملفقة زاعمين أنها وحى من لدن رب العالمين ، وكأن الله سبحانه وتعالى لم يجد فى كونه الواسع العريض غير المآبين الموكوسين ليتخذ منهم أنبياءه وينزّل عليهم وحيه الشريف !
(1/50)
لكن خيبة هؤلاء السفهاء لا تنتهى عند هذا الحد ، إذ هم يُصِرّون على أنه عليه السلام قد صُلِب ، ويخطِّئون القرآن لنفيه واقعة الصَّلْب ، بل يكفّروننا نحن ورسولنا لهذا السبب ، مع أنهم لو عقلوا لقبلوا أيديهم ظهرًا لبطن ، ثم عادوا فقبلوها بطنًا لظهر ... وهكذا دواليك إلى ما لا نهاية . لماذا ؟ لأن العهد العتيق الذى لا يصح لهم إيمان إلا به يؤكد أن من عُلِّق على خشبة فهو ملعون من الله ( تثنية الاشتراع / 21 / 22 ) ، وعيسى ، بنَصّ ما جاء فى " أعمال الرسل " ، قد عُلِّق على خشبة ( 5 / 30 ، و10 / 39 ) ، أى صُلِب . ولقد شعر اللعين بولس بالوكسة التى وقع فيها محرِّفو الأناجيل ومزيِّفوها حين قالوا بصلبه عليه السلام فأقرّ ، فى رسالته إلى أهل غلاطية ( 3 / 13 ) ، باللعنة التى وقعت على رأس المسيح بتعليقه على الخشبة ، بَيْدَ أنه سارع إلى لىّ الكلام عن معناه مدَّعِيًا أن تحمُّل ذلك النبى الكريم للّعنة إنما كان من أجل البشر. وبطبيعة الحال هو لم يقل عنه إنه نبى بل إله ! إذن فهم أنفسهم يقرون بأن إلههم ملعون ، وهذا يكفينا ، ولا يهم بعد ذلك أن نعرف السبب الذى صار ملعونا لأجله ، فهو لا يقدم فى الأمر ولا يؤخر! أليس من العار أن يعتقد إنسان أن الرب الذى يؤمن به ويعبده ويبتهل إليه ويطلب منه البركة والخير هو نفسه ملعون ؟ فكيف يطلب منه إذن ما لا يملكه بل ما يحتاج من غيره أن يوفّره له ؟ على رأى المثل : جئتك يا عبد المعين تُعِيننى ، فإذا بك يا عبد المعين تُعَان ! والله إنها لمهزلة ! إنها أول مرة يسمع الواحد فيها بإله ملعون ! ولكن لم لا ، وقد جعلوه خروفا ، كما روَوْا فى أناجيلهم المزيَّفة أنه قد مات على الصليب بعد أن أُهين وضُرِب وشُتِم وبُصِق عليه ووُضِع الشوك على رأسه وسُخِر منه وسُمِّرَت يداه ورجلاه فى الخشب وطُعِن فى خاصرته بالرمح وجعلوا من لا يشترى يتفرّج ، وهو فى حال من العجز تامة لا يستطيع أن يصنع هو ولا(1/51)
أبوه شيئا رغم الآلام التى كانت تعذّبه والصرخات التى كان يرسلها فى الفضاء فى مسامع ذلك الأب القاسى الغبى ؟ أما نحن المسلمين فإننا نرفض الصَّلْب أصلا من جذوره ، ومن ثَمَّ فلا لعنة ولا يحزنون ! وبهذا يتبين للقراء البؤس العقلى الضارب بأطنابه على أولئك الطَّغَام الذين يزعمون أنهم أَتَوْا لهدايتنا ، وهم أضلّ خلق الله ! أترى أحدا قد سمع بمثل هذا البؤس من قبل ؟ ألم أقل إن من يغضب الله عليه لا يفلح أبدا ؟
(1/52)
ومع العَمَى الحَيْسِىّ الذى يسدّ السبيل على هؤلاء الأغبياء نمضى ، فماذا نجد ؟ لقد وردت ، فى الفقرة الحادية عشرة من " سورة الزنى " فى " ضلالهم المبين " ، الكلمة التالية : " ووصينا عبادنا ألا يحلفوا باسمنا أبدا وجوابهم نَعَمْ أَوْ لا . فقلتم بأن من كان حالفا فليحلف باسم الإله أو يصمت . وهذا قول الكفرة المارقين " . وأول شىء نحب أن نقوله هو : ما علاقة الحلف بالله بالكفر ؟ وإذا لم نحلف بالله إذا أردنا أو أُرِيدَ منا أن نُطَمْئِن الآخرين فبأى شىء نحلف ؟ أنحلف بسيدى سِحْلِف ، الذى يأكل ويَحْلِف ؟ أنا لا أضحك ، ولكنى أحاول تجنب انفقاع مرارتى ! وطبعا مفهومٌ من الذى يقصده الأوباش بالكفرة المارقين ! إنه نبينا وسيدنا وسيدهم محمد صلى الله عليه وسلم . نعم سيدهم وتاج رؤوسهم ، وإن كانوا لا يستحقون شرف سيادته عليهم . إن الحَلِف موجود فى كل المجتمعات والعصور والديانات بما فيها شريعة موسى التى أكد المسيح ، حسبما تروى عنه الأناجيل ، أنه ما جاء لينقض أحكامها بل ليتمّمها والتى تنظّم عملية الحلف بتشريعات خاصة به جوازا ووجوبا وحرمة ( تكوين / 25 / 3 ، وخروج / 22 / 1، وعدد / 30 / 2 ). فمن أين جاءت المشكلة إذن ؟ إن المسيح فى نفس العبارة التى يؤكد فيها أنه ما جاء لينقض الناموس ( أى شريعة موسى ) بل ليتمّمه يسارع فى التو واللحظة بنقض كل ما أكده فى هذا الصدد قائلا إنه إذا كان قد قيل للقدماء كذا فإنه هو يغيّره إلى كذا . وكان من بين ما غَيَّرَ حُكْمَه القَسَمُ ، وهذا نَصّ ما قاله فى هذا الصدد : " قد سمعتم أيضا أنه قيل للأولين : لا تحنث بل أَوْفِ للرب بأقسامك ، أما أنا فأقول لكم : لا تحلفوا البتة : لا بالسماء لأنها عرش الله ، ولا بالأرض فإنها موطئ قدميه ، ولا بأورشليم لأنها مدينة الملك الأعظم ، ولا تحلف برأسك لأنك لا تقدر أن تجعل شعرة منه بيضاء أو سوداء . ولكن ليكن كلامكم : " نَعَمْ نَعَمْ ، ولا لا " ، وما(1/53)
زاد على ذلك فهو من الشرير " ( متى / 5 / 33 – 37 ). وجاء فى "رسالة يعقوب " ( 5 / 12) : " يا إخوتى ، لا تحلفوا لا بالسماء ولا بالأرض ولا بقَسَمٍ آخر، ولكن ليكن كلامكم نعم نعم ، ولا لا ، لئلا تقعوا فى الدينونة ". وهذا كل ما هنالك . فهل فى هذا الكلام ما يفهم منه أن القسم كفر؟ بطبيعة الحال لا يوجد شىء من هذا لا من قريب ولا من بعيد.
(1/54)
هذه واحدة ، والثانية هى أن الله نفسه قد صدر عنه القَسَم حسبما روى لنا العهد الجديد نفسه ، فما القول إذن ؟ جاء على سبيل المثال فى " لوقا " ( 1 / 73 - 74 ) : " ... القَسَمَ الذى حلف ( الله ) لأبينا إبراهيم أن يُنْعِم علينا * بأن نَنْجُوَ من أيدى أعدائنا ... " ، ويقول كاتب " أعمال الرسل " ( 2 / 31 ) : " كان ( داود ) نبيا وعلم أن الله أقسم له بيمينٍ أن واحدا من نسل صلبه يجلس على عرشه ... ". بل إننا نقرأ فى " رسالة القديس بولس إلى العبرانيين " ( 6 / 13 – 17 ) : " لأن الله عند وعده لإبراهيم ، إذ لم يمكن أن يُقْسِم بما هو أعظم منه ، أقسم بنفسه * ... * وإنما الناس يُقْسِمون بما هو أعظم منهم وتنقضى كل مشاجرة بينهم بالقَسَم للتثبيت * فلذلك لمّا شاء الله أن يزيد وَرَثَة الموعد بيانا لعدم تحوُّل عزمه أقسم بنفسه " . وهذا ما قلناه قبل قليل ، فلماذا إذن التنطع الكاذب وقلة الأدب والسفاهة مع سيد الأنبياء صلى الله عليه وسلم ؟ كذلك فالملاك ، بنص كلام يوحنا فى " رؤياه " ( 1 / 6 ) ، يقسم بالله " الحى إلى دهر الدهور خالق السماء وما فيها والأرض وما فيها والبحر وما فيه " . ليس ذلك فقط ، بل هذا هو بطرس ، خليفة السيد المسيح كما يقولون وأكبر حوارييه ومؤسس كنيسة روما ، يحلف كذبا ، فى آخر حياة سيده أمام الجمع الذى جاء للقبض عليه ، ثلاث مرات متتالية إنه لا يعرفه ولا علاقة له به قائلا : " إنى لا أعرف الرجل ! " ، رغم أن المسيح كان قد نبَّهه إلى أنه سينكره فى تلك الليلة ثلاثًا قبل أن يصيح الديك ، ومع ذلك وقع كالجردل فى الإثم الذى نبَّهه إليه نبيُّه! ( متى / 26 / 72 – 73 ، ومرقس / 14 / 71 ) مستحقا بأثرٍ رجعىٍّ وَسْم السيد المسيح له قبلا بأنه " شيطان " وأنه لا يفطن إلا لما للناس ولا يفطن لما لله ( مرقس / 8 / 32 ) . فماذا يقول الأوغاد فى هذه أيضا؟ ثم إننا نسألهم : ألا تحلفون كلكم فى حياتكم اليومية وفى(1/55)
المحاكم وعند ممارسة الأطباء منكم الطب وتَوَلِّى الحكّام حُكْم بلادهم ... إلخ ؟ ألا يُقْسِم النصارى فى كل لحظة أمامنا بـ " المسيح الحى " و" العذراء " و " الإنجيل " ؟
(1/56)
وبعد ، فهل يشجِّع الإسلام على القَسَم كما يوحى كلام هؤلاء المآبين فى " ضلالهم المبين " ؟ كلا على الإطلاق ، ففى القرآن نقرأ قوله تعالى : " ولا تجعلوا الله عُرْضَةً لأيمانكم " ( البقرة / 225 ) ، " واحفظوا أيمانكم " ( المائدة / 89 ) ، " ولا تُطِعْ كلَّ حَلاّف مَهِين " ( القلم / 10 ) ، وفى الحديث مثلا أن الحَلِف إذا كان مَنْفَقَةً للسلعة ، فهو َممْحَقَةٌ للبركة . إذن فما قاله هؤلاء الفجرة التافهون المتنطعون لا يعدو أن يكون زوبعة فى فنجان ! أما نَهْى الرسول عليه السلام الذى ذكره الأوغاد الفَجَرة فى سورتهم المفتراة المزيَّفة عن الحَلِف بالآباء وأَمْره عليه السلام لمن يريد الحَلِف أن يحلف بالله بدلا من ذلك أو فلْيصمت ، فمعناه بكل وضوح لمن يريد أن يعرف الحقيقة لا مجرد الشَّغَب على سيد المرسلين هو محاربة العصبية القبلية التى كانت متفشية بين العرب أوانذاك وما يرتبط بها من التعظُّم بالآباء والأحساب والأنساب ، فأراد الرسول الكريم أن يبين لهم أن البشر جميعا هم خلق الله وعياله وأنه لا فضل لأحد على أحد بنسب أو حسب ، وأن توجُّه المؤمن ينبغى أن يكون لله وحده بوصفه عبدا له ينبغى أن يكون دائما على ذكْرٍ منه . وهذا هو المعنى الذى أراده الرسول عليه السلام ، وهو معنى إنسانى عظيم لمن لم يطمس الله على بصيرته ويريد أن يفهم . وبداية الحديث وختامه يدلان على أنه صلى الله عليه وسلم لا يحبِّذ الحَلِف ، وهذا واضح من استخدام جملة الشرط ، التى تعنى أنه إذا كان لا بد من الحَلِف فليكن باسم الله لا بأسماء الآباء التى من شأنها إحياء النوازع والنعرات الجاهلية لا أن الحلف فى ذاته مرغوب! ولنفترض أن المسيح قد نسخ حكم التوراة فى الأيمان ، فلم لا يكون من حق سيدنا رسول الله أن ينسخ بدوره ما قاله المسيح ؟ وأغلب الظن أن عيسى عليه السلام ، إن صحّ ما ترويه عنه الأناجيل فى هذا الصدد ، قد لاحظ كثرة لجوء اليهود إلى الحَلِف(1/57)
لأكل حقوق الناس بالباطل ، فأراد أن يضع حدا لهذه الظاهرة ، وإن كان فى عبارته ، كما هى العادة فى الكلام المنسوب إليه فى الأناجيل ، مغالاةٌ أراد أن يوازن بها مغالاة اليهود فى المسارعة إلى استغلال اسم الله فى خداع الآخرين ! فكلا النبيين الكريمين أراد أن يعالج ظاهرة نفسية وخلقية ذميمة رآها منتشرة بين معاصريه . وبالمناسبة فإنهم يعيبون محمدا عليه الصلاة والسلام بأنه أتى بالنسخ ويكفّرونه من أجل ذلك ( سورة الرعاة / 8 – 10 ) ، مع أن المسيح ، حسبما ورد فى الأناجيل كما رأينا ، هو الذى ابتكره رغم أنه أنكر أن يكون قد أتى لينقض الشريعة أو يَحُلّ الناموس ! وهكذا نرى أنه ما من شىء يقوله هؤلاء الأغبياء زورًا وبهتانًا إلا فضحهم الله فيه ! وبالمناسبة فعلماء الإسلام لا يقولون كلهم بوقوع النسخ فى القرآن .
وأخيرا نود أن نجلِّىَ جانبا من جوانب العبقرية الإسلامية فى مجال القَسَم ، فعلى عادة الإسلام نراه ينتهز هذه السانحة لاستخلاص كل ما يمكن استخلاصه منها من فوائد ، إذ يفرض كفارة على من يُقْسِم ثم يحنث بيمينه ، إذ يُوجِب عليه عتق أحد الأرقاء أو إطعام عشرة مساكين أو كساءهم ... وهَلُمَّ جَرًّا ، نافعا بذلك المجتمعَ ومساكينَه وفقراءه بأيسر سبيل . فانظر إلى هذه العبقرية الخلاقة التى تنجز أضخم الإنجازات بأقل الإمكانات ، بدلا من التوقف عند لطم الخدود وشق الجيوب على قلة الإمكانات وعدم الفرص كما يفعل كثير من العرب والمسلمين اليوم حتى فى ميدان الكرة كما هو معلوم . والنتيجة هى هذا التخلف الشامل الذى نعانى منه على كل المستويات وفى كل المجالات !
(1/58)
فهذا عن القَسَم ، ثم ننتقل إلى تعدد الزوجات ، الذى يعده أهل اللواط والسحاق زِنًى وإشراكا بالله ، فكأنهم يؤلهون المرأة ويعدّون من يأخذ معها زوجة أخرى مشركا . ولو أنهم قالوا إن الأفضل الاقتصار على زوجة واحدة ما لم تكن هناك ضرورة لما وجدوا من يخالفهم ، وهذا هو موقف الإسلام ، أما الزعم بأن الزواج بأكثر من واحدة هو زنى وشِرْكٌ فَجُنونٌ مُطْبِقٌ ليس لصاحبه موضع إلا فى مستشفيات الصحة العقلية والنفسية ! ألا يدرك هؤلاء الأغبياء أنهم بهذا يكفّرون أنبياءهم ويَقْرِفونهم بالفحشاء ؟ ألا يعرف هؤلاء المخابيل أن إبراهيم وموسى وسليمان وداود وغيرهم من أنبياء العهد القديم كانوا من أهل التعديد ، بل كان فى حريم بعضهم عشرات النساء ؟ ألا يعى هؤلاء المناكيد أنهم بهذا يلوّثون عيسى نفسه ، الذى ينتمى إلى داود وسليمان ، وكانا من أهل التعديد كما ذكرنا ؟ لكنْ مَتَى كان عند أولئك البلهاء عقل يميّزون به ؟ ألا يذكر كتابهم المقدس " فوق البيعة " أن داود قد رأى زوجة قائده العسكرى أوريّا وهى تستحم عارية فى فناء بيتها المجاور لقصره حين صعد ذات يوم إلى سطح هذا القصر ( ولا أدرى لماذا ، إلا أن يكون من أولئك العَهَرة العرابيد الذين يتجسسون على نساء الجيران ، وبالذات اللاتى ليس فى بيوتهن حمّامات فيُضْطَرَرْن إلى الاستحمام عاريات فى فناء البيت " على عينك يا تاجر " ، وكأننا فى فلم من أفلام البورنو والإستربتيز ! ومن يدرى ؟ فربما كان معه منظار مقرِّب حتى تتم المتعة على أصولها ! ) . المهم أنها وقعت فى عينه وقلبه كما لا أحتاج أن أقول ، فأرسل فأحضرها وزنى بها ( بارك الله فيه ! ) ، ثم لم يكتف بهذا العمل الإجرامى الذى يليق تماما بجدّ الرب الذى يعبده هؤلاء المتاعيس المناحيس ، بل كلف رجاله فى ميدان المعركة أن يخلّصوه من الزوج المسكين بوضعه على خط التَّماسّ مع العدو فى قلب المعمعة ، ونجحت مؤامرته الخسيسة وقَتَل العدوُّ أوريّا ،(1/59)
فألحق داود زوجته بحريمه بعد أن تزوجها وبعد أن مرت أيام المناحة والحداد طبعا ( سفر الملوك الثانى / 16 كله ) . انظروا إلى حرصه الجميل على التقاليد! والله فيه الخير ! وبَتْشاَبَع هذه بالمناسبة هى أم سليمان النبى الملك ! أَنْعِمْ وأَكْرِمْ بهذا النسب الملكى النبوى الإلهى الشريف ! أى أن نسب المسيح ، حسبما يقول كتابهم ، هو نسبٌ عريقٌ فى الفُحْش والإجرام . أما نحن فننزّهه عن ذلك تمام التنزيه لأن أنبياء الله لا يكونون إلا من ذؤابات قومهم شرفًا وفضلا ونبلا . ولعل هذا هو السبب فى أن السيد المسيح ، كما جاء فى " متى " ( 22 / 45 ) ، قد نفى أن يكون من ذرية داود ! والله معه حق ، فإن مثل هذا النسب لا يشرّف أحدا ، وإن كنا نحن المسلمين لا نصدّق حرفا من هذه الحكايات وأمثالها مما سطرته أيدى اليهود الفَسَقة الفَجَرة لتشويه كل قيمة نبيلة وشريفة فى الحياة ! ثم هم بعد هذا يتهموننا نحن بالكفر والشرك والضلال ! عجبى ! لو كنت من أصحاب الأصوات الجميلة لفَقَعْتُ بالموّال وقلت : " خسيس قال للأصيل : ...! " ، لكنى للأسف لست حَسَن الصوت .
(1/60)
ومن المهازل التى لها صلة بقضية تعدد الزوجات نسبةُ كتابهم المقدس إلى الله أولادا من أمهات شتى ، فضلا بطبيعة الحال عن آدم ، الذى لم تكن له أم . ومن هذا الوادى تسمية العهد العتيق للرجال فى بدء الخليقة بـ " بَنِى الله " فى مقابل تسمية النساء بـ " بنات الناس " ( تكوين / 6 / 2 ) ، وقول الله لبنى إسرائيل : " أنتم بنو الرب إلهكم " ( تثنية الاشتراع / 14 / 1 )، وقوله سبحانه لداود : " أنت ابنى . أنا اليوم ولدتك " ( مزامير / 1 / 7 ) . ليس هذا فقط ، بل يجعله بِكْره ( مزامير / 88 / 27 ) ، ليعود بعد ذلك فيقول إن إبراهيم هو بكره ( إرميا / 31 / 9 ) ، ناسيا أنه قد جعل البكورية فى موضع سابق على هذين الموضعين لإسرائيل ( خروج / 4 / 2 )! يا له من إله مسكين ! إنه يذكِّرنا بخَرَاش الذى تكاثرت الظباء عليه فلم يعد يدرى من كثرتها ماذا يصيد منها وماذا يدع . لقد كثر أبناء الله حتى لم يعد يتذكر مَنِ البِكْر منهم ومن ليس كذلك ! معذور يا ناس ! كان " الله " فى عونه ! فإذا كان الإله ، كما يقول كتابهم ، له كل هؤلاء الأولاد الذين جاء بهم من أمهات شتى ، فمعنى هذا أنه هو أيضا كان من المعدّدين مثل من ذكرنا من الأنبياء السابقين ـ فكيف يجرؤون إذن أن يرموا المسلمين ورسولهم وحدهم بالكفر والزنى لنفس السبب ؟ أإلى هذا الحد ينغِّص حقدُكم على سيد الأنبياء والمرسلين ودينه النقى البرىء من الشرك والوثنيات حياتَكم ويخرجكم عن طوركم فلا تستطيعون تفكيرا ولا تحسنون تعبيرا ، بل يأخذكم البِرْسام فتَهْذُون وتَبْذُؤون متصورين أنكم تقدرون على تلطيخ صورته ؟ هيهات ثم هيهات ثم هيهات ... إلى آخر الهياهيت التى فى الدنيا جميعا ! ثم إنكم بعد ذلك لصائرون إلى المكان الذى يليق بأمثالكم ، وأنتم تعرفونه جيدا . ألا وهو مراحيض الغِسْلِين فى قاع سَقَر !
(1/61)
لقد كان التعدد هو شريعة الأنبياء إلى أن حرّف أهل التثليث دينهم وابتدعوا أناجيل ما أنزل الله بها من سلطان ونسبوا للسيد المسيح ، عليه وعلى رسولنا أفضل الصلاة السلام ، أقوالا وتشريعات ينقض هو فى بعضها أحكام التوراة ويفسِّرون هم بعضها الآخر بما ينقض التوراة ، ثم جاء بولس الكذاب اللعين فبَرْجَلَ النصرانية وشَقْلَبَ حالها . لقد ابتدأ حياته فى النصرانية بكذبة بائسة مثله وابتلعها القوم بما يدل على خلوّ رؤوسهم من العقل ، وإلا فهل يصدّق أى شخص عنده مُسْكَة من هذا العقل أنه ، عندما شاهد نورا فى السماء قبل تحوله إلى النصرانية مباشرة وسمع صوتا يسأله لماذا يضطهده ، كان سؤاله لهذا الصوت : من أنت يا رب ؟ ( أعمال الرسل / 9 / 3 – 5 ، و 26 / 14 - 15) . أأنا فى حُلْمٍ أم فى عِلْمٍ يا إلهى ؟ أهذا سؤال يُسْأَل ؟ إن هذا الكذاب قد أجاب فى السؤال على السؤال ، وإذن فما معنى السؤال ؟ لكننا لا ينبغى أن نطرح مثل هذا السؤال ، لأن الأباعد لا يدركون معنى لمثل هذا الجواب أو ذاك السؤال ، وإلا لكانوا قد تركوا النصرانية كلها بسبب بولس وما افتراه من جواب فى هيئة سؤال ! حلوة " من أنت يا رب ؟ " هذه ! دمّها مثل الشربات : شربات الطُّرْشِى ، بل شربات الفسيخ !
(1/62)
لقد كان جواز تعدد الزوجات هو تشريع الأنبياء كما قلنا ، لكن مؤلف إنجيل متى عزا لعيسى كلاما فهم منه القوم أنه يحرم التعدد ، مع أن الكلام لم يكن فى التعدد قط ، بل فى الطلاق ! يقول متى ( 19 / 3 – 12 ) : " ودنا إليه الفَرِّيسِيُّون ليجربوه قائلين : هل يحلّ للإنسان أن يطلِّق زوجته لأجل كل عِلَّة ؟ * فأجابهم قائلا : أما قرأتم أن الذى خلق الإنسان فى البدء ذكرًا وأنثى خلقهم وقال : * لذلك يترك الرجل أباه وأمه ويلزم امرأته فيصيران كلاهما جسدا واحدا ؟ * فليسا هما اثنين بعد ، ولكنهما جسدٌ واحد . وما جمعه الله فلا يفرّقه إنسان * فقالوا له : فلماذا أوصى موسى أن تُعْطَى كتابَ طلاق وتُخَلَّى ؟ * فقال لهم : إن موسى لأجل قساوة قلوبكم أذِن لكم أن تطلّقوا نساءكم ، ولم يكن من البدء هكذا * وأنا أقول لكم : من طلَّق امرأته إلا لعلة زنى وأخذ أخرى فقد زنى * فقال له تلاميذه : إن كان هكذا حال الرجل مع امرأته فأجدرُ له ألا يتزوج * فقال لهم : ما كل أحد يحتمل هذا الكلام إلا الذين وُهِب لهم * لأن من الخصيان من وُلِدوا كذلك من بطون أمهاتهم ، ومنهم من خصاهم الناس ، ومنهم من خَصَوْا أنفسهم من أجل ملكوت السماوات . فمن استطاع أن يحتمل فلْيحتمل " . هذا هو نص الكلام الذى ذكروا أن عيسى عليه السلام قد قاله فى تعدد الزوجات وفهموا منه أنه يحرّم هذا النظام الذى أقره الأنبياء جميعا . ومن الواضح أن عيسى عليه السلام ( إن صدّقنا أنه هو قائل هذا النص ) لم يتطرق لموضوع التعدد من قريب أو بعيد ، إذ كان الكلام كله عن الطلاق . وإذا كان قد عرَّج على سبيل الاستطراد إلى موضوع الإضراب عن الزواج ، فهذا أيضا لا علاقة له بالتعدد من قريب أو بعيد . أما قوله : " ذكرًا وأنثى خلقهم " فلا أدرى كيف يمكن أن يؤدى إلى إلغاء التعديد ، إلا إذا كان الله سبحانه وتعالى قد خلق لكل رجلٍ زوجةً باسمه لا يتزوجها إلا هو ، ولا تموت قبله أو يموت هو قبلها ،(1/63)
وإلا إذا كان عدد الرجال فى كل المجتمعات مساويا تماما لعدد النساء فى كل العصور ، وهذا عكس المشاهد للأسف فى هذه الدنيا الغريبة التى يريد بعض المتهوسين أن يصبّوها فى قوالب من حديد كما كان يفعل أهل الصين مع أقدام بناتهم الصغيرات قديما حتى لا تكبر بل تظل دقيقةً مُسَمْسَمَة ، إذ إن النسبة المئوية لعدد من فى سن الزواج فى المجتمعات كلها تميل دائما لصالح المرأة كما تقول الإحصاءات السكانية . ولا ننس بالذات الحروب ، التى يروح فيها من أرواح الرجال أكثر مما يذهب من أرواح النساء .
(1/64)
ثم جاء بولس ، الذى قلب كيان النصرانية رأسًا على عقب ، فقال فى رسالته الأولى إلى أهل كورِنْتُس ( 7 / 1 – 2 ) : " أما من جهة ما كتبتم به إلىَّ فحسَنٌ للرجل ألا يَمَسّ امرأة * ولكن لسبب الزنى فلتكن لكل واحدٍ امرأته ، وليكن لكل واحدةٍ رجلها "، وإن فُهِمَ من حديثٍ آخَرَ له أن هذا الحظر إنما هو خاصّ بالشمامسة ( تيموتاوس / 1 / 12 ). وهذا كلام يدل أقوى دلالة على أن هذا الرجل لم يكن يتمتع بأى فهم للطبيعة البشرية : فالإنسان لا يتزوج فقط من أجل ألا يقع فى الزنى ، بل لأن الحياة لا يمكن أن تستمر إلا عن طريق لقاء الذكر والأنثى ، كما أن الحب وممارسة الجنس يشكلان متعةً من أحلى متع الحياة الإنسانية وأعمقها ، متعةً ينبغى على المؤمن أن يشكر المولى عليها لا أن ينظر إليها على أنها بلوى أقصى ما يمكنه تجاهها هو الصبر عليها فى مضض وتأفف . ولو أن نصائح بولس الغبية هذه قد أُخِذ بها لكان فيها نهاية الحياة ! إن هذه النصائح المجنونة إنما تنبع فى الحقيقة من النظرة الدونيّة التى تنظر بها النصرانية ورجال الكنيسة إلى المرأة والجسد الإنسانى ، وهذه النظرة قد ورثتها الكنيسة من العهد العتيق وما يقوله عن قصة الخلق وخروج آدم من الجنة بسبب إغراء حواء له بعصيان النهى الإلهى عن الأكل من الشجرة واستحقاق المرأة من ثَمّ ابتلاء الله لها بعبء الحمل والولادة وإيقاع العداوة بينها وبين الرجل ( تكوين / 3 / 6 – 24 ) ، وهو ما يختلف فيه الإسلام عن النصرانية اختلافًا جِذْرِيًّا ، إذ عندنا أن الذنب الذى أخرج أبوينا من الجنة هو ذنبهما جميعا لا ذنب حواء فقط ، كما أن العلاقة بين الرجل والمرأة هى علاقة السكن والمودة والرحمة كما يقول القرآن المجيد( الروم / 21 ) لا علاقة العداوة والبغضاء. ولقد كانت النتيجة ، وهنا وجه المفارقة ، هو هذا السعار الجنسى الذى اشتهرت به أمم الغرب بعد أن لم تعد تطيق قيود النصرانية التى تعمل على وَأْد(1/65)
التطلعات والغرائز البشرية . ذلك أن غرائز البشر وتطلعاتهم لا يمكن تجاهلها، فضلا عن قهرها أو إلغائها كما يحاول الأغبياء . لكن من الممكن ، ومن المطلوب أيضا ، ترويضها والسمو بها إلى أقصى قدر ممكن ، وهذا ما يفعله الإسلام . ولقد كان رجال الدين النصارى على رأس المنفلتين من هذه القيود الخانقة ، وفضائحهم معروفة للقاصى والدانى فى كل العصور . وهذا أحد الأسباب التى جعلت الأوربيين يكرهونهم ويرَوْن فيهم مثالا للنفاق البغيض ! وما فضائح باباوات روما فى العصور الوسطى واصطحاب بعضهم لعشيقاتهم معهم فى جولاتهم فى أرجاء أوربا لمباركة جموع المؤمنين ، ولا الصلات الجنسية الحرام التى كانت بين بعض آخر منهم وبين أخواتهم بمجهولةٍ لمن عنده أدنى فكرة عن أحوال رجال الدين هناك قبل عصر النهضة الذى تخلص فيه الأوربيون من قيود النصرانية المُعْنِتَة . وحتى فى موضوع الطلاق لا يعدو الكلام أن يكون عبارات شاعرية ساذجة لا دلالة لها على شىء فى الواقع والحقيقة ، إذ ما معنى أن ما جمعه الله لا يفرّقه إنسان ؟ إن الزواج إنما هو اختيار إنسانى قام أيضا بتوثيقه كائن إنسانى ، فشأنه إذن كشأن أى شىء آخر من شؤون الحياة ، فلماذا أُفْرِد وحده بهذا الوضع دون سائر الأمور الإنسانية ؟ أما إن قيل إن الله هو فى الحقيقة خالق كل شىء ، فإن الرد هو أنه لا مُشَاحّة فى هذا ، لكننا ضد إفراد الزواج بذلك الحكم ، ونرى أن هذا الوضع ينطبق أيضا على عملية الطلاق مَثَله مثَل أى شىء آخر . ثم ما الحكمة فى أن يُعْنِت الله سبحانه وتعالى عبادَه فلا يرضى أن يرحمهم من قيود الزواج إذا ثبت أنه لا أمل فى أن يجلب لطرفيه السعادة ؟ إن كثيرا من البلاد النصرانية قد انتهت إلى أنْ تضرب بهذه الأحكام عُرْض الحائط ، إذ وجدت أنها لا تؤدى إلا إلى التعاسة والشقاء . وفى بعض البلاد يُقْدِم الزوج أو الزوجة فى حالات كثيرة إلى ترك النصرانية جملةً والدخول فى الإسلام ، الذى(1/66)
يجدانه أوفق للطبيعة الإنسانية . فإلى متى هذا الخنوع لبعض الألفاظ الشاعرية التى قد تدغدغ العواطف فى مجال التفاخر الكاذب بمثالية أخلاق دينٍ ما ، لكنها لا تجلب للمتمسكين بها إلا العَنَت والإحباط ؟ إن كثيرا من الأزواج فى المجتمعات النصرانية هم فى الواقع مطلَّقون ، لكنْ طلاقًا غير رسمى ، وهم يسمونه : " انفصالا " . وفى هذه الأثناء التى قد تطول سنين ، كثيرا ما يصعب على الزوج والزوجة ، تحت ضغط الغرائز ، أن يمتنعا عن ممارسة الجنس فى الحرام ، فلماذا كل هذا الإعنات ؟ وحَتَّامَ يستمر هذا العناد والنفاق ؟ إن الطلاق شديد البغض إلى الله كما قال صادقا سيدنا رسول الله ، لكن الظروف قد تضطر الواحد منا إلى فعل ما هو بغيض تجنبا لما هو أفدح وأنكى . ومن هنا كان الطلاق عندنا حلالا رغم كونه بغيضا ، أى أن المسلم لا يُقْدِم عليه إلا إذا سُدَّت فى وجهه جميع السبل الأخرى حسبما يعرف كل من له أدنى إلمام بالشريعة الإسلامية .
(1/67)
كذلك يسىء الأوغادُ الأدبَ مع سيدنا رسول الله ، إذ يتهمونه بالكفر والقتل وسفك الدماء والمجىء بدين يقوم على إكراه الناس على اعتناقه برهبة السيف وتهديم بيوت عبادتهم . افترَوْا ذلك عليه فى أكثر من سورة من سورهم المزيفة الكاذبة التى أوحى بها الشيطان إليهم فى أدبارهم كـ " سورة القتل " و" سورة الماكرين " و" سورة الطاغوت " و" سورة المحرِّضين " و" سورة الملوك " ، زاعمين أن دينهم يقوم على المحبة والسلام ! وأَوَّلَ كلِّ شىء لا بد أن نلفت الأبصار إلى أن المسيح لم يمض عليه فى النبوة أكثر من ثلاث سنوات ليس إلا ، ومن ثم لا يمكن التحجج بأنه لم يشرع لأتباعه قتال من يعتدون عليهم . كما أنه لم يكن يعيش فى دولة مستقلة ، فضلا عن أن يكون هو الحاكم فيها مثلما هو الحال مع الرسول محمد عليه السلام ، وإذن فقياس الوضعين أحدهما على الآخر خطأ أبلق وأبله معا. وهذا لو أن السيد المسيح ، حسبما تحكى قصةَ حياته الأناجيلُ التى بين أيدينا ، كان فعلا وديعا متسامحا دائما مثلما يحب النصارى أن يعتقدوا ويعتقد الآخرون معهم . فما أكثر الشتائم واللعنات التى كان يرمى بها فى وجوه اليهود بل فى وجوه تلاميذه أيضا ، من مثل قوله لأحد اليهود : " يا مُرَائى " ( متى / 7 / 5 ) ، وقوله لتلاميذه ينصحهم ألا يهتموا بمن لا يستطيعون فهم دعوته : " لا تعطوا القدس للكلاب ، ولا تلقوا جواهركم قدام الخنازير لئلا تدوسها بأرجلها وترجع فتمزّقكم " ( متى / 7 / 6 ) ، وقوله لبعض الفَرّيسيّين : " يا أولاد الأفاعى " ( متى / 12 / 3 ) ، وقوله لأهل كورزين وصيدا : " الويل لك يا كورزين ! الويل لك يا بيت صيدا ! " ( متى /11 / 21 ، ولوقا / 10 / 13 ) ، وقوله لمن طلبوا منه آية : " إن الجيل الشرّير الفاسق يطلب آية " ( متى / 12 / 38 ، و 16 / 4 ) ، وقوله عن غير الإسرائيليين ممن يريدون أن يستمعوا لدعوته ليهتدوا بها : " ليس حسنا أن يؤخَذ خبز البنين ويُلْقَى للكلاب(1/68)
" ( متى/ 15 / 26 ) ، وقوله لبطرس أقرب تلاميذه إليه حسبما أشرنا من قبل : " اذهب خلفى يا شيطان " ( متى / 16 / 23 ، ومرقس / 8 / 33 ) ، وقوله لحوارييه : " أحتى الآن لا تفهمون ولا تعقلون ؟ أَوَحَتَّى الآن قلوبكم عمياء ؟ * لكم أعين ، أفلا تبصرون ؟ ولكم آذان ، أفلا تسمعون ولا تذكرون ؟ " ( مرقس/ 8 / 17 ) ، وقوله لبعض الفَرِّيسِيّين : " أيها الجهال ... ويل لكم أيها الفريسيون " ( لوقا / 11 / 39 – 50 ) ، وقوله عن فَرِّيسِىّ آخر : " هذا الثعلب " ( لوقا/ 13 / 32 ). ولا ينبغى فى هذا السياق أن نهمل ما صنعه مع الباعة فى الهيكل حين قلب لهم موائدهم وكراسيّهم وسبّهم وساقهم أمامه حتى أخرجهم من المعبد ( مرقس/ 12 / 15 – 17 ) ، وكذلك قوله لحوارييه : " أتظنون أنى جئت لأُلْقِى على الأرض َسلاما؟ لم آت لألقى سلاما لكنْ سيفا * أتيتُ لأفرِّق الإنسان عن أبيه ، والابنة عن أمها ، والكَنَّة عن حماتها " ( متى / 10 / 34 – 35 ) ، وقوله أيضا فى نفس المعنى : " إنى جئت لألقى على الأرض نارا ، وما أريد إلا اضطرامها " ( لوقا / 12 / 44 ) .
(1/69)
من هذا يتبين أن الصورة الوديعة تمام الوداعة التى يرسمها النصارى للسيد المسيح ليست حقيقية ، بل هى من مبالغاتهم التى اشتهروا بها . ولست أقول هذا حَطًّا من شأنه عليه السلام ، فهو نبىٌّ كريم لا يكمل إيماننا نحن المسلمين إلا به ، لكنى أريد أن أقول إن الطبيعة الإنسانية لا يمكن أن تتحمل السماحة والصبر إلى أبد الآبدين ، ولا بد أن تأتى على أحلم الحلماء أوقات يضيق منه الصدر ويثور على المجرمين ، وربما غير المجرمين أيضا، مع أن المسيح عليه السلام لم ينفق فى الدعوة ومخالطة الناس فى ميدانها إلا سنواتٍ ثلاثا لا غير . بل إنهم ، فى سِيَره التى ألفوها وأطلقوا عليها : " الأناجيل " ، قد نسبوا إليه بعض التصرفات التى أقلّ ما توصف به أنها تصرفات جافية تفتقر إلى اللياقة تجاه أمه عليها السلام : من ذلك أنه ، بينما كان يعظ فى أحد البيوت ذات يوم ، أُخْبِر أن أمه وإخوته بالخارج يريدون أن يَرَوْه ولا يستطيعون أن يصلوا إليه من الزحام ، فما كان منه إلا أن أجابهم قائلا : " إن أمى وإخوتى هم الذين يسمعون كلمة الله ويعملون بها " ( لوقا / 8 / 19 – 20 ) ، وحين دعت له امرأة بأنْ " طُوبَى للبطن الذى حملك وللثديين اللذين رضعتهما " ردَّ فى جفاء : " بل طوبى لمن يسمع كلمة الله ويعمل بها " ( لوقا / 11 / 27 – 28 ) . وليس لهذا من معنى ، فضلا عن الخشونة التى لا يصح سلوكها تجاه من حَمَلتْنا وربَّتْنا ، إلا أنها لم تكن هى ولا إخوته ممن يسمعون كلمة الله ويعملون بها ! وفى مناسبة أخرى كان هو وأمه فى عرس فى قانا الجليل ، وفرغت الخمر فنبهته إلى ذلك ، فأجابها فى غلظة : " ما لى ولك يا امرأة ؟ " ( يوحنا / 2 / 1- 3 ). إننا بطبيعة الحال لا نصدّق بشىء من ذلك ، فقرآننا يؤكد أنه عليه السلام كان بَرًّا بوالدته غاية البِرّ ( مريم / 32 ) ، فكأن مؤلفى الأناجيل قد تعمدوا أن يشوهوا سيرته وصورته ! على أن المسألة لا تنتهى هنا وحسب ، بل إنهم(1/70)
ليصورونه ، عقب مقتل النبى يحيى ( الذى كان أبوه زكريا يكفل مريم عليها السلام ، والذى تعمّد هو على يديه فى نهر الأردن ) ، كما لو كان بلا قلب أو مشاعر ، إذ نراه بعد علمه بمقتل هذا النبى الكريم تلك القِتْلة المأساوية المعروفة يأخذ أتباعه ويمضى بهم خارج المدينة ليمارسوا حياتهم ويأكلوا كما كانوا يفعلون من قبل ، وكأن شيئا لم يقع ( متى/ 14 / 12 وما بعدها ، ومرقس / 6 / 28 وما بعدها ) ، وهو ما يدل على تحجر الإحساس ، أستغفر الله ! كذلك كان سائرا ذات مرة فى الطريق فجاع ، ورأى شجرة تين هناك ، فدنا إليها لعله يجد فيها تينا يأكله ، فلما لم يجد فيها ثمرا دعا عليها ألا تثمر إلى الأبد فلا يأكل أحد منها شيئا ، فيبست التينة لوقتها ، وكان هذا فى رأيه برهانا على قوة الإيمان ( متى / 21 / 19 وما بعدها ، ومرقس / 11 / 12 وما بعدها ) . وإن الإنسان ليتساءل : كيف يمكن أن يُعَدّ هذا برهانا على قوة الإيمان ؟ وما ذنب التينة يا ترى ؟ وما الفائدة التى تعود على الناس أو الحياة من اليبوسة التى أصابتها ؟ ألم يكن هناك برهان آخر أكثر نفعًا ومعقوليةً يمكن أن يقوم به السيد المسيح الذى يضرب النصارى به الأمثال فى الحلم والوداعة ؟ ثم إن هذا التصرف من السيد المسيح يناقض ما أراده من المثل الذى ضربه فى موقف آخر عن التينة ، وخلاصته أن رجلا كانت له شجرة تين مغروسة فى كَرْمه ظلت لا تثمر ثلاث سنين ، فطلب من الكَرّام أن يقلعها ليستفيد من مساحة الأرض التى تشغلها ، لكن الكرّام استسمحه أن يتركها هذه السنة أيضا على أن يقطعها العام القادم إذا لم تثمر ، فأجابه صاحب الأرض إلى طِلْبته ( لوقا / 13 / 6 – 9 ). ومغزى المثل أن الله يعطى الفرصة للعاصين مرة واثنتين وثلاثا قبل أن يأخذهم بذنوبهم . فلماذا لم يطبق المسيح عليه السلام هذا المبدأ مع التينة ، التى ليس لها مع ذلك عقل الإنسان ولا إرادته ؟ خلاصة القول إننا لو قارنّاه برسولنا الكريم(1/71)
، عليه وعلى ابن مريم السلام ، لوجدنا أن النبى محمدا كان أحلم وأطول بالا وأوسع صدرا ، وظل هكذا ، لا ثلاث سنوات فقط مثله ، بل ثلاثة وعشرين عاما !
أما فى المدينة فقد كانت هناك دولة ، ومن ثم كان لا بد أن تجد نفسها منغمسةً فى حروب عاجلا أو آجلا شأن ما يحدث للدول فى كل مكان وزمان ما دمنا نعيش فى دنيا البشر لا فى دنيا الملائكة . أما حكاية " من لطمك على خدك الأيمن فحَوِّل له الآخر " فهذا كلام لا يسمن ولا يغنى من جوع ، ولا يترتب عليه إلا خراب المجتمعات والدول ، وفوز الذئاب والكلاب من البشر بكل شىء ، وذهاب الناس الطيبين فى ستين داهية غير مأسوف عليهم من أحد ! ثم أين هذا الصنف الأبله من الناس الذى تضربه على خده الأيمن فيدير لك الأيسر لتَحِنّ عليه بما لذّ وطاب من الصفع والإهانة كيلا يشكو أحد الخدين من التفرقة بينه وبين أخيه ؟ أَرُونِى نصرانيا واحدا يفعل ذلك ! هذه تشنجات لفظية لا أكثر ! بل إن المسيح نفسه لم يفعل هذا ! حتى الصَّلْب ، الذى يزعمون أنه عليه السلام إنما أُرْسِل إلى الأرض ليتحمله فداءً للبشر الخُطَاة ، ظل يسوّف فيه ويحاول تجنبه ما أمكن ، وعندما وقع أخيرا فى أيدى الجنود وأخذوا يعتدون عليه بالشتم والضرب كان يعترض على ما يوجهونه إليه من أذى . بل إنه ، وهو فوق الصليب ، أخذ يجأر إلى ربه كى يزيح عنه تلك الكأس المرة . وهذا كله قد سجَّله مؤلفو الأناجيل أنفسهم !
(1/72)
وعلى كل حال فإن المقارنة بينه وبين الرسول لا تصح إلا على مستوى الحياة الفردية الشخصية ، أما على مستوى الحُكْم فلا ، لأن عيسى عليه السلام ، كما سبق أن وضّحت ، لم يعش بعد النبوة أكثر من ثلاثة أعوام ، ولم يتولَّ أى منصب إدارى ، فضلا عن أن يكون حاكما يرأس دولة ويدبِّر شؤونها ويمارس الحرب والسياسة ويشرّع للناس ويقضى بينهم كرسولنا الكريم . ترى هل يمكن أن تقوم دولة دون محاكم وقضاة وسجون ؟ وبالمناسبة فقد أخطأ الأغبياء هنا غلطة سخيفة سخافة عقولهم ، إذ ظنوا أن قوله تعالى لرسوله الكريم : " فإن تنازعتم فى شىء فرُدّوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر " ( النساء / 59 ) يتناقض مع قوله جل شأنه : " أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون " ( الزمر/ 39 ) ، إذ يتساءلون : كيف يأمر الله رسوله فى موضع بالحكم بين الناس ، ثم يقول فى موضع آخر إن الله هو الذى يحكم بين العباد ؟ ومن هنا اتهموا الرسول بأنه قد نسخ بالآية الثانية ما سبق أن قاله فى الآية الأولى ، وسخروا منه وتطاولوا عليه ( سورة المشركين/ 5 – 6 ). وفات هؤلاء الأغبياء أن الحكم فى آية " النساء " هو الحكم فى خصومات الدنيا ، وهو من مهمة النبى عليه السلام ، بخلاف الحكم فى آية " الزمر " ، التى تتحدث عن الحساب الأخروى ، وهو من اختصاص الله لا يشاركه فيه أحد . فهذان موضوعان مختلفان تماما كما يرى القراء ، بيد أن البهائم لا يفهمون !
(1/73)
كلام السخفاء إذن فى تفضيل المسيح على النبى العربى هو كلام تافه لا قيمة له عند كل من له أدنى فهم للحياة والتاريخ والطبيعة البشرية والمجتمعات الإنسانية ! ثم تعالَوْا بنا إلى واقع الحياة ، فماذا نجد؟ لننظرْ إلى الحروب التى خاضها النصارى وتلك التى خاضها المسلمون ونقارن بينهما . وأول ما يلفت النظر بطبيعة الحال أن النصارى قد خاضوا الحروب وقاتلوا وقَتَلوا ولم يديروا خدهم لا اليمين ولا الشمال لأحد ، اللهم إلا كِبْرًا وبَطَرًا وتجبُّرا . ومع هذا فإنهم ما زالوا سادرين فى سخفهم ورقاعتهم وسماجتهم ومحاضرتهم لنا عن التسامح والمسكنة والتواضع وإدارة خدك الأيسر لمن يصفعك على أخيه الأيمن وترك إزارك له أيضا إذا أخذ منك رداءك . لقد أبادوا أمما من على وجه الأرض فلم تبق لها من باقية : حدث هذا فى أمريكا على يد الأوربيين الذين هاجروا إليها فى مطالع العصور الحديثة وظلوا يشنون الغارات على الهنود الحمر أصحاب البلاد وينشرون بينهم الأوبئة التى لم يكن لهم بها عهد حتى أفنَوْهم عن بكرة أبيهم تقريبا ، وذلك بمباركة القساوسة الناطقين باسم المسيح وحاملى رسالة التواضع والمحبة والتسامح وإدارة الخد الأيسر ، والتنازل عن الرداء والإزار معا وسير صاحبهما عاريًا حافيًا كما ولدته أمه ! وحدث هذا أيضا فى أستراليا نحو ذلك الوقت ! ولقد ناب المسلمين والعرب من هذه المحبة جانب ، إذ بعد أن انتصر فرديناند وإيزابلا على بنى الأحمر فى شبه جزيرة أيبريا وأصبحت الأندلس نصرانية ، رأينا هذين الملكين ينقلبان على المسلمين الذين بَقُوا فى بلادهم لم يغادروها مع من غادرها، فيغدران بهم ويُثْخِنان فيهم تقتيلا وتنصيرا ، ضاربَيْنِ عُرْضَ الجدار بالمعاهدات التى تكفل للمسلمين الأمان والحرية الدينية والاحتفاظ بممتلكاتهم لا تُمَسّ ، حتى لم يعد هناك بعد فترة وجيزة فى تلك البلاد مخلوق يوحّد الله . والبركة فى محاكم التفتيش التى أقامها خلفاء السيد(1/74)
المسيح ناشرو دعوة التسامح والتواضع والمحبة على الورق وفى عالم الدعاية الكاذبة الفاجرة لا غير ، أما فى دنيا الواقع فإنها لا تسمن ولا تغنى عند اللزوم من جوع أو قتل أو حرق أو سلخ أو تكسير للعظام أو سَمْل للعيون أو تغريق فى البحر أو مصادرة للأملاك أو ... أو ... أو ... ! فانظر إلى ما فعله المسلمون حين فتحوا تلك البلاد تدرك الفرق بين النفاق النصرانى المتشدق زورا وبهتانا بالمبادئ الخلقية الورقية التى لم تعرف السبيل يوما إلى التطبيق على الأرض ، وبين المثالية الإسلامية الواقعية التى لا تعرف هذه الشقشقات اللفظية ، لكنها لا تنزل أبدا إلى هذا الدرْك الأسفل من القسوة والتوحش مهما خالفت عن أمر دينها ولم تلتزم به كما يحدث فى دنيا البشر أحيانا! إن المسلمين متَّهَمون دائما بأنهم نشروا دينهم بالسيف ، مع أنه لم يثبت قط أنهم أكرهوا شعبا على ترك دينه كما فعل النصارى فى كثير من الدول التى احتلوها مما ذكرنا منه أمثلة ثلاثة ليس إلا .
(1/75)
ولا يكفّ النصارى أبدا عن الكلام فى الجزية وقسوة الجزية حتى ليخيَّل لمن لا يعرف الأمر أن المسلمين كانوا يصادرون أموال الأمم التى يفتحون بلادها مصادرة ، مع أن المبلغ الخاص بالجزية لم يكن يزيد على بضعة دنانير فى العام عن الشخص الواحد ، فضلا عن أنه لم تكن هناك جزية على الأطفال والنساء والشيوخ والرهبان . وفى المقابل كان غير المسلمين يُعْفَوْن من دفع الزكاة على عكس المسلم ، كما كانوا يُعْفَوْن من الاشتراك فى الحرب . وبهذا يكون المسلمون قد سبقوا كالعادة ، ودون شقشقة لفظية أيضا ، إلى مبدإ الإعفاء من الحرب على أساس مما نسميه الآن : " تحرُّج الضمير " ، إذ لمّا كان أهل البلاد المفتوحة غير مسلمين كانت الحرب تمثّل لهم عبئًا نفسيًّا وأخلاقيا أراد الإسلام أن يزيحه عن كاهلهم بطريقة واقعية سمحة . وفضلا عن هذا فإن المسلمين ، فى الحالات التى لم يستطيعوا فيها أن يحموا أهل الذمة ، كانوا يردون إليهم ما أخذوه منهم من جزية ، إذ كانوا ينظرون إليها على أنها ضريبة يدفعها أهل الذمة لقاء قيامهم بالدفاع عنهم .
(1/76)
ومع ذلك كله يُبْدِئ الشياطين مزيفو " الضلال المبين " ويُعِيدون فى مسألة الحروب الإسلامية مدَّعين بالباطل أن المسلمين كانوا يقتلون أهل البلاد التى يفتحونها إلا إذا دفعوا الجزية : " وحَمَل الذين كفروا على عبادنا بالسيف فمنهم من استسلم للكفر خوفَ السيف والرَّدَى فآمن بالطاغوت مُكْرَهًا فسَلِم وضلَّ سبيلا * ومنهم من اشترى دين الحق بالجزية عن يدٍ صاغرًا ذليلا * ... * وزعمتم بأننا قلنا : قاتلوا الذين لا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يدٍ وهم صاغرون صُغْرا " ( سورة الجزية / 5 – 6 ، 12 ) . والملاحظ أن الشياطين يخلطون عن عمد بين القتال والقتل ، فالآية تقول : " قاتلوا " لا " اقتلوا " ، والفرق واضح لا يحتاج إلى تدخل من جانبى . ومعنى الآية أنه ينبغى على المسلمين أن يهبوا لمقاتلة الروم ، الذين شرعوا فى ذلك الحين يتدخلون فى شؤون الدولة الإسلامية الوليدة متصورين أنها لقمة سائغة سهلة الهضم لن تأخذ فى أيديهم وقتا ، فكان لا بد من قطع هذه اليد النجسة ، وإلا ضاع كل شىء . كما كان لا بد أيضا من أخذ الجزية منهم عن يدٍ وهم صاغرون جزاءً وفاقا على بغيهم واستهانتهم بالمسلمين وتخطيطهم لاجتياح دولتهم دون أن يَفْرُط منهم فى حقهم أى ذنب ! وعلى أية حال فإن النصارى مأمورون بحكم دينهم أن يدفعوا " الجزية " ( هكذا بالنص ) لأية حكومة يعيشون فى ظلها وأن يعطوا ما لقيصر لقيصر ، وما لله لله ، حسبما قال لهم المسيح حرفيا ( متى / 22 / 17 – 21 ، و 12 / 24 – 25 ، ومرقس / 12 / 14 – 17 ) . كما أن بولس ، الذى يخالف فى غير قليل من أحكامه ما قاله نبيُّه ، قد كرر هنا نفس ما قاله السيد المسيح فأمرهم بالخضوع لأية حكومة تبسط سلطانها عليهم وألا يحاولوا إثارة الفتن ، لأن تسلط هذه الحكومات عليهم إنما هو بقَدَر من الله كما قال لهم ، ومن ثم لا ينبغى التمرد على سلطانها ، بل عليهم دفع الجزية والجبايات دون(1/77)
أى تذمر : " لِتَخْضَعْ كلُّ نفس للسلاطين العالية ، فإنه لا سلطان إلا من الله ، والسلاطين الكائنة إنما رتَّبها الله * فمن يقاوم السلطان فإنما يعاند ترتيب الله ، والمعاندون يجلبون دينونة على أنفسهم * لأن خوف الرؤساء ليس على العمل الصالح بل على الشرير . أفتبتغى ألا تخاف من السلطان ؟ افعل الخير فتكون لديه ممدوحا * لأنه خادمُ الله لك للخير . فأما إن فعلتَ الشر فَخَفْ فإنه لم يتقلد السيف عبثا لأنه خادمُ الله المنتقمُ الذى يُنْفِذ الغضب على من يفعل الشر * فلذلك يلزمكم الخضوع له لا من أجل الغضب فقط بل من أجل الضمير أيضا * فإنكم لأجل هذا تُوفُون الجزية أيضا ، إذ هم خُدّام الله المواظبون على ذلك بعينه * أدُّوا لكلٍّ حقه : الجزية لمن يريد الجزية ، والجباية لمن يريد الجباية ، والمهابة لمن له المهابة ، والكرامة لمن له الكرامة " ( رسالة القديس بولس إلى أهل رومية / 13 / 1 – 7 ) . وهذا الكلام خاص بخضوع النصارى للحكومات الوثنية ، فما بالنا بالحكومات المسلمة المؤمنة الموحِّدة التى لم يسمع أحد أنها فعلت بالنصارى ولا واحدا على الألف مما كانت تلك الحكومات تفعله بهم ؟ أَكُلُّ هذه الضجة لبغضكم القتّال لدين محمد بسبب فضحه لوثنياتكم وتثليثكم وبسبب كَسْبه القلوبَ المتعطشةَ لنور التوحيد واستقامة العقل والضمير ؟
(1/78)
وربما يسأل أحدٌ نفسَه : ولكن لماذا كان حكم النصارى بهذه القسوة مع غيرهم رغم الكلام المعسول عن المحبة والتسامح وما إلى ذلك ؟ والجواب أوَّلا هو أن هذا الكلام المعسول إنما يخص العلاقات الفردية لا الدولية ، فالنصرانية لم يكن لها أية سلطة على عهد السيد المسيح ، الذى رأيناه هو وحوارييه ، على العكس من ذلك ، يحاكَمون على يد أعدائهم وبمقتضى قوانين هؤلاء الأعداء . وحتى على المستوى الفردى قد وجدنا أن مثل هذه المبادئ لا تؤكِّل عيشا . وإلى جانب هذا فالنصرانية ديانة لا تقوم على العقل ، بل تطلب من الشخص أن يؤمن دون مناقشة أو تفكير . وهذا أمر طبيعى لأنها مؤسسة على التفكير الخرافى ، إذا صح وصف الخرافات بأنها تفكير ، وعلى ذلك فإنها فى الواقع تفتقر إلى هذا التسامح الذى تدّعيه . ومعروف أنه كلما بالغ الشخص فى الحديث عن مزاياه وأزعج الآخرين بها بداعٍ وبدون داعٍ كان ذلك دليلا على كذبه . فهذا هذا ! ومن ثَمَّ فإنها حين وجدت نفسها ذات سيادة ودولة ورأت أنها لا تملك أية تشريعات تتعلق بالحكم والعلاقات الدولية انكفأت إلى العهد العتيق تستلهمه المشورة فلم تجد إلا الحروب والتشريعات اليهودية التى تتسم بالقسوة الوحشية المفرطة فى معاملة الأعداء فى الحرب وبعد الحرب على السواء دون التقيد بأية التزامات أخلاقية أو إنسانية . ولسوف أقتصر هنا على نص واحد من النصوص التى وردت فى العهد العتيق خاصة بالحرب . جاء فى " سفر تثنية الاشتراع " : " وإذا تقدَّمْتَ إلى مدينة لتقاتلها فادْعُها أولا إلى السلم * فإذا أجابتك إلى السلم وفتحت لك فجميع الشعب الذين فيها يكونون لك تحت الجزية ويتعبدون لك * وإن لم تسالمك بل حاربتك فحاصَرْتَها * وأسلمها الرب إلهك إلى يدك فاضرب كل ذَكَرٍ بحدّ السيف * وأما النساء والأطفال وذوات الأربع وجميع ما فى المدينة من غنيمة فاغتنمها لنفسك ، وكُلْ غنيمةَ أعدائك التى أعطاكها الرب إلهك * هكذا تصنع بجميع(1/79)
المدن البعيدة منك جدا التى ليست من مدن أولئك الأمم هنا * وأما مدن أولئك الأمم التى يعطيها لك الرب إلهك ميراثًا فلا تستَبْقِ منها نسمة * بل أَبْسِلْهم إبسالا ... " ( 20 / 10 – 17 ) . هذا مثال من التشريعات التى وجدها النصارى تحت أيديهم فطبقوها بمنتهى الدقة والإخلاص ( والمحبة والتسامح والتواضع أيضا من فضلك ! ) متى واتتهم الظروف كما حدث فى أمريكا وأستراليا مثلا ، وكما حدث فى الأندلس عندما سقطت فى أيديهم فنكَّلوا بالمسلمين تنكيلا رهيبا ، وكما حدث كذلك فى فلسطين ، التى امتلخوها من العرب والمسلمين وأعطَوْها لليهود. وكدَيْدَنِهم عملوا على أن يصبغوا هذه الجريمة بصبغة إنسانية فزعموا أنهم إنما يريدون أن يعوّضوا اليهودَ عما ذاقوه من ويلات . على يد من ؟ على يد النصارى أنفسهم ، وليس على أيدى العرب والفلسطينيين ! لكن متى كان الإجرام والتوحش يبالى بمنطق أو عدل أو أخلاق ؟ أما الحرب فى الإسلام فلا تُشَنّ إلا للدفاع عن النفس كما هو معلوم ، وليس بحجة أن الله قد أعطانا بلاد الآخرين والسلام ، استلطافا منه لنا ! أما عند هزيمة العدو فإننا نأسره ولا نقتله ، ثم بعد انتهاء الأعمال القتالية فإما أطلقنا سراح الأسرى دون مقابل ، وإما أخذنا منهم الفدية لقاء تركهم يعودون لذويهم . أما المحو والاستئصال الذى يأمر رب اليهود شعبه به فلا مجال له فى الإسلام ! ومع ذلك كله يظل هؤلاء المناكيد يرددون أكاذيبهم عنا وعن قسوتنا وإكراهنا غيرنا على الدخول فى ديننا ... إلى آخر تلك المفتريات اللعينة . ولكن ما وجه الغرابة فى هذا ، وقد اجترأوا على الله نفسه فصنعوا كلاما سمجا كله كفر وقلة أدب وسفاهة وتطاول على رسول الله ، ثم ادَّعَوْا أنه من عند رب العالمين ؟ هل من يفعل ذلك يمكن أن يطمئن له عاقل ذو ضمير ؟ هل من يفعل ذلك يمكن أن يكون فى قلبه مثقال حبة خردل من إيمان ؟ وفى النهاية أرجو أن يكون القارئ قد تنبه لحكاية" الجزية " فى(1/80)
النصوص السابقة المأخوذة من الكتاب المقدس بعهديه العتيق والجديد جميعا ، فإنها تكذِّب الأوغاد المجرمين مخترعى الوحى المزيف وناسبيه لرب العالمين كفرًا منهم وإلحادا ، إذ يزعمون أن الرسول هو الذى اخترع " الجزية " من عنده وأنها لم تنزل من السماء!
(1/81)
وكما يُبْدِئ الأوغاد المجرمون ويُعِيدون فى الزعم بأن الإسلام انتشر بالسيف رغم أنهم هم الذين نشروا دينهم بالسيف والكذب والخداع واستغلال السذاجة عند الشعوب البدائية ... إلخ ، فكذلك نراهم يُبْدِئون ويُعِيدون فى الإزراء على الجنة ونعيمها كما صورها القرآن الكريم ، مدَّعين أنها جنة مادية شهوانية لا تليق بالناس المتحضرين أمثالهم من أصحاب الروحانيات والخلق السامى الكريم ! عجيبٌ أمر هؤلاء الأوغاد عجيبٌ عجيب ! أية روحانيات يتحدثون عنها ، وقد نزلوا بربهم من عليائه إلى دنيا البشر المادية فتجسَّد وأكل وشرب وتجرع الخمر وصنعها آية لضيوف حفل قانا الجليل وتبول وتغوَّط وتألم وحزن ولُعِن وشُتِم وضُرِب وأُهِين وحُوكِم وصُلِب ، ثم مات أيضا " فوق البيعة " كيلا يكون أحدٌ أحسن من أحد ؟ أَوَبَعْد أن جسَّدتم الله تواتيكم نفوسكم على التظاهر بالاشمئزاز من جنة المسلمين قائلين إنها جنة مادية ؟ وماذا فى الجنة المادية ؟ ألا تحبون الأكل ؟ ألا تحبون الشرب ؟ ألا تحبون الجنس ؟ ألا تحبون التمتع بالظلال والجمال والهدوء ؟ ألا تحبون أن تستمعوا إلى الأصوات العذبة الجميلة ؟ ألا تحبون راحة البال وسكينة النفس بعد كل هذا القلق الذى اصطليناه فى الدنيا ؟ إن من يقول : " لا " لأى من هذه الأسئلة لهو ثُعْلُبَانٌ كذابٌ أَشِرٌ عريقٌ فى النفاق والدجل ! فما الحال إذا عرفنا أن هذه المتع الفردوسية ستكون متعا صافية مبرَّأة من كل ما كان يتلبَّس بها على الأرض من نقصان ونفاد وملل أو كِظَّة وغثيان أو قلق وآلام وأوجاع وإفرازات وعلل وتعب وكدح وصراع وخوف ، وكذلك من كل ما كان يعقبها من إخراج وتجشؤ وفتور وإرهاق ونوم ومرض ... إلخ ؟ لقد ذكر القرآن المجيد أنه فى العالم الآخر سوف " تُبَدَّل الأرضُ غَيْرَ الأرض والسماواتُ " ( إبراهيم / 48 ) ، وأن أهل الجنة " لا يَمَسّهم فيها نَصَبٌ ، وما هم منها بمُخْرَجين " (الحجر/ 48) ، وأنهم سيَبْقَوْن "(1/82)
خالدين فيها لا يَبْغُون عنها حِوَلا " ( الكهف / 108 ) ، وزاد الرسول الكريم فى أحاديثه الأمر بيانا فأوضح أن هذه المتع ستكون متعا خالصة تماما لا يكدّرها مكدِّر عضوىّ أو نفسىّ . فما وجه التنطع والاشمئزاز الكاذب إذن ؟ لقد لاحظتُ أن الذين يُزْرُون على جنة القرآن هم من أشد الناس طلبا للدنيا وتطلعا إليها وانخراطا فيها وسعارا محموما خلف لذائذها ، ومنهم هؤلاء المبشرون الفَسَقَة العَهَرَة الذين كانوا ولا يزالون يمثلون طلائع الاستعمار والاحتلال الغربى لبلادنا وبلاد كل الشعوب المستضعفة ، ذلك الاستعمار الذى يريد أن يستمتع بطيبات الحياة دوننا ويترك لنا الجوع والفقر والجهل والمرض والقذارة والذلة والتخلف والشقاء ! أليس مضحكا أن يأتى هؤلاء بالذات ليُظْهِروا النفور من تلك اللذائذ ؟ فمن هم إذن يا تُرَى الذين سُعِروا بحب الجنس على النحو الذى نعرفه فى بلاد الغرب واقعًا مَعِيشًا وأدبا مكتوبا ولوحاتٍ مصوَّرَةً وأفلاما عارية ومسرحياتٍ عاهرة ؟ أفإن جاء الرسول الكريم وقال لنا إنكم ستستمتعون بهذه الطيبات فى الجنة ، لكنْ مصفَّاةً مما يحفّها هنا على الأرض من أكدار وشوائب ، ومصحوبةً بالمحبة بين أهل الجنة ومشاهدتهم لوجه ربهم العظيم ذى الجلال والإكرام وتمتعهم بالرضا الإلهى السامى عنهم وانتشائهم بالتسبيحات الملائكية حولهم ، نَلْوِى عنه عِطْفنا ونشمخ بأنوفنا ونُبْدِى التأفف والتنطُّس ؟ إن هذا ، وَايْمِ الحق ، لَنِفاقٌ أثيم !
(1/83)
سنسمع المنافقين المنغمسين فى شهوات الجسد يتحدثون بتأفف عن هذه اللذائذ التى لا تليق فى نظرهم ببنى الإنسان ، وهم الذين يمارسون اللِّواط والسِّحاق مما ينزل بهذا الجسد وصاحبه أسفل سافلين . وعلى أية حال ما وجه النفور من الجسد وإشباع غرائزه فى اعتدال ؟ أليس هذا الجسد هو أحد الوجهين اللذين تتكون منهما الشخصية الإنسانية ؟ فما الذى يمكن أن يكون فى ذلك من عيب ؟ ترى أمن الممكن أن تقوم الحياة البشرية بعيدا عن الجسد؟ كنت أستطيع أن أفهم وجه الاعتراض لو كنا نقول إن المتع الجسدية هى وحدها المتع التى نريدها ، لأن هذا من شأنه أن يُلْغِىَ الجانب الروحى من الإنسان أو على الأقل يتجاهله بما يسىء إلى هذا الإنسان نفسه . أمّا ، ونحن لا نقول بهذا ، فلست أجد أىّ مسوِّغ للاعتراض إلا العناد الأحمق والنفاق البغيض ! وعلى كل حال فالقرآن والأحاديث يلحّان صراحةً على أن أطايب النعيم هى مما لم تره عين أو تسمع به أذن أو خطر على قلب بشر . ثم يستوى بعد ذلك أن تكون هذه المتع الفردوسية متعا جسدية روحية معا أو روحية خالصة الروحانية . ونصوص القرآن والسنة تحتمل هذا وذاك لمن يريد ، وإن كان العبد الفقير يرى أنها ستجمع بين الحسنيين بالمعنى الذى شرحتُه ، أى أنها ستكون متعا جسدية روحية ، لكنْ على نحو غير الذى نعرفه فى هذه الدنيا . المهم أنها ستكون متعا خالصة والسلام !
(1/84)
لقد استند الثعالب المنافقون فى إنكارهم هذا إلى ما نُسِب للسيد المسيح من رده على اليهود الذين أرادوا أن يضيّعوا وقته فى الأسئلة السخيفة فقال لهم إن الناس " فى القيامة لا يزوِّجون ولا يتزوجون " ( متى / 22 / 23 – 30 ) ، إذ كان سؤالهم عن امرأة مات عنها زوجها فتزوجها من بعده إخوته الستة واحدا بعد موت الآخر ، فلِمَنْ من هؤلاء السبعة ستكون زوجةً فى القيامة ؟ والسؤال ، كما هو جلىٌّ بيِّن ، سؤال سمج سخيف لا يمكن أن يقع إلا فى خيالات المهاويس ولا يراد به إلا التعنت والرغبة فى أن يمسكوا شيئا يتعللون به للتشكيك فى القيامة التى لم يكونوا ، كما جاء فى القصة ، يؤمنون بها لأنهم من طائفة الصَّدُوقِيِّين المنكرين للبعث . وهو أسلوب يبرع فيه أحلاس المجالس والمجامع الذين يعشقون الظهور والرواج عند العامة ، فأراد المسيح أن يقطع عليهم الطريق ولا يعطيهم الفرصة للمضى مع هذا الجدال العقيم ! وبطبيعة الحال لن يكون هناك زواج ولا تزويج ، فنحن لسنا فى الدنيا ، ومن ثم لن نحتاج إلى مأذون أو مسجّل مدنى وشهادات رسمية وما إلى ذلك مما هو معروف هنا فى هذه الحياة الأرضية . وهذا مثل قولنا مثلا إنه لن تكون هناك مطاعم ولا مطابخ فى الآخرة . فهذا شىء ، والخروج من ذلك القول بأنه لن يكون هناك طعام وشراب شىء آخر . وعلى نفس القاعدة فإن قول المسيح إنه لن يكون زواجٌ أو تزويجٌ يوم القيامة لا يعنى أنه لن يكون هناك متع مما يحصِّله الإنسان من الاتصال بالجنس الآخر ، فهذه المتع قد تتم من خلال الزواج ، وقد تتم دون زواج . ومتع الجنة ، كما أشرنا آنفا ، لن يكون فيها شىء من وجع الدماغ الذى شبعنا منه فى الدنيا ، ومن ثم فلا خِطْبة ولا مهر ولا زواج بما يعنيه كل هذا من استعدادات وتكاليف ، فضلا عن أن تكون هناك صراعات بين عدة رجال مثلا على الفوز بامرأة جميلة كل منهم واقع فى غرامها ولا يهنأ له عيش إلا بالزواج منها ، أو بين عدة نساء على(1/85)
الفوز برجل غنى وسيم كلهن مدلَّهات فى هواه فلا تروق لهن الدنيا إلا بالاقتران به .
(1/86)
ومما يؤيد كلامى أن المسيح نفسه فى الفقرات التى سبقت جوابه على سؤال اليهود ، حين أراد أن يوضح ملكوت السماوات ، وهو ما يقابل الجنة عندنا ، ضرب لمستمعيه مثلا من عُرْسٍ أقامه أحد الملوك لابنه أَوْلَمَ فيه وليمةً " على كيفك " قُدِّمَتْ فيها الذبائح والمسمَّنات ، وحضرها المدعوُّون وقد لبسوا الحلل التى تليق بهذه المناسبة السعيدة . فعلام يدل هذا ؟ وهل يختلف يا ترى عما نقوله نحن عن الجنة ؟ أَوَلَمْ يقل المسيح ( مرقس / 14 / 25 ، ولوقا / 22 / 18) إنه سيشرب عصير الكرمة فى ملكوت الله جديدا ، أى على نحو آخر غير ما كان عليه فى الدنيا ، وهو ما يقوله الإسلام ؟ أولم يقل لتلاميذه إنهم سيأكلون ويشربون معه على مائدته فى الملكوت ( لوقا / 22 / 29 – 30 ) ؟ فما الفرق بين الشراب والطعام وبين الجنس ؟ أليست كلها متعا من متع هذه الدنيا التى تتأففون منها نفاقا ورياء ، وأنتم غارقون فيها ، لا إلى أذقانكم فقط كما يقول التعبير المشهور ، بل إلى شُوشَة رؤوسكم ؟ ثم إننا لا ينبغى أن ننسى أن السيد المسيح ، مَثَلُه فى هذا مَثَلُ النبى يحيى ، كان عزوفا عن النساء لأسباب خاصة به قد يمكن أن نجد لها إيماء فى كلامه عليه السلام عن أولئك الذين خصاهم الناس أو خَصَوْا هم أنفسَهم أو كانوا مَخْصِيِّين خِلْقَةً مما مَرَّ بنا من قبل . ثم أين كان آدم وحواء فى بدء أمرهما ؟ ألم يكونا فى الجنة ؟ فماذا كانا يفعلان هناك ؟ يقول كتابكم المقدس إن هذه الجنة كان فيها أشجار حسنة المنظر طيبة المأكل ، وإن الرجل يترك أباه وأمه ويلزم امرأته فيصيران جسدا واحدا ، وإن آدم وزوجه كانا عريانين لا يشعران بخجل ، وإن الله قد ضمن لهما الخلود فيها... إلخ ( تكوين / 2 / 8 – 9 ، 24 ) . فما معنى كل هذا ؟ وماذا كان أبوانا الأوَّلان يعملان فى الجنة ؟ أكانا يكتفيان بتمضية وقتهما فى التأملات الروحانية واضعَيْن أيديهما على خدودهما ليلا ونهارا ؟ كذلك يتحدث بولس(1/87)
فى رسالته الأولى لأهل كورنتس ( 15 / 35 فصاعدا ) عن " الأجساد الأخروية " التى لا تعرف الفساد ولا التحلل والتى يسميها أيضا بـ " الأجساد السماوية " و" الأجساد الروحانية " . وفى السِّفْر المسمَّى بـ " رؤيا القديس يوحنا " وَصْفٌ مفصَّلٌ لكثير من متع الفردوس وعذابات الجحيم ، وكلها مادية كالمتع والعذابات التى نعرفها فى دنيانا هذه ، مع التنبيه بين الحين والحين إلى أن كل شىء من هذه الأشياء سيكون جديدا ولا يجرى عليه ما كان يجرى على نظيره فى الأرض من فساد ونقصان ، وهو ما لا يختلف عما قلناه ، فلم التعنت إذن ومهاجمة الإسلام نفاقا وحقدا ؟
(1/88)
وأَصِل الآن إلى آخر قضية أنوى أن أتناولها فى هذه الدراسة ، وهى التهمة التى وجهها هؤلاء المآفين إلى القرآن الكريم وخصّصوا لها سورة افترَوْها وسمَّوْها : " سورة الغرانيق " ، إشارةً إلى ما يقال من أن سورة " النجم " كانت تحتوى فى البداية على آيتين تمدحان الأصنام الثلاثة : " اللات والعُزَّى ومَنَاة " ، ثم حُذِفتا منها فيما بعد . يريدون القول بأن محمدا ، عليه الصلاة والسلام ، كان يتمنى أن يصالح القرشيين حتى يكسبهم إلى صفه بدلا من استمرارهم فى عداوتهم لدعوته وإيذائهم له ولأتباعه ، ومن ثم أقدم على تضمين سورة " النجم " تَيْنِك الآيتين عقب قوله تعالى : " أفرأيتم اللاتَ والعُزَّى * ومناةَ الثالثةَ الأخرى ؟ " ( النجم /19 – 20 ) على النحو التالى : " إنهنّ الغرانيق العُلا * وإن شفاعتهن لَتُرْتَجَى ". والمقصود من وراء ذلك كله هو الإساءة للرسول الكريم بالقول بأنه لم يكن مخلصا فى دعوته ، بل لم يكن نبيا بالمرة ، وإلا لما أقدم على إضافة هاتين الآيتين من عند نفسه . وهم بهذا يظنون أن محمدا يشبه بولس ، الذى كان يفتخر بأنه يتلون حسب الظروف من أجل إدخال الناس إلى النصرانية بكل سبيل والذى أقدم على إلغاء السبت والختان وأَحَلَّ الخنزير حين رأى أن هذه الأحكام تقوم عقبةً كأداءَ فى طريق الدخول إلى المسيحية ! ونَسُوا أن محمدا نبى من عند رب العالمين ، على عكس بولس ، الذى ما إن دخل المسيحية بكذبته تلك الكبيرة التى لا تدخل العقل ولا تجوز إلا على البُلْه والمعاتيه حتى انطلق كالثور الهائج يقلب كل شىء فيها تقريبا رأسًا على عقب !
(1/89)
وعلى أية حال فهذه بعض من آيات السورة الشيطانية المذكورة : " باسم الآب الكلمة الروح الإله الواحد الأوحد * يا أيها الذين كفروا من عبادنا : لقد ضلَّ رائدكم وقد غَوَى * وما نطق عن الهوى إن هو إلا وحىٌ إفكٌ يُوحَى * علَّمه مريد القُوَى * فرأى من مكائد الشيطان الكبرى وهو بالدرك الأدنى * وردَّد الكفر جهرا وتلا : أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى . إن شفاعتهن لَتُرْتَجَى * كلما مسه طائف من الشيطان زجر صاحبه فأخفى ما أبدى * وإمّا ينزَغَنَّه من الشيطان نَزْغٌ استعاذ بنا على مسمعٍ جهرا * ... * ومن أظلمُ ممن افترى علينا كذبا ثم قال : " أُوحِىَ إِلَىَّ ". وما أُوحِىَ إليه إلا ما تنزَّلَتْ به الشياطينُ افتراءً ومكرا " (1 - 7 ، 15) .
وهذه الفرية هى مما يحلو للمستشرقين والمبشرين أن يرددوها للمكايدة وإثارة البلبلة ، مع أن أقل نظرة فى سورة " النجم " أو فى سيرة حياته صلى الله عليه وسلم كافية للقطع بأن تلك القصة لا يمكن أن تكون قد حدثت على هذا النحو الذى اخترعه بعض الزنادقة قديما وأخذ أعداء الإسلام يرددونها شأن الكلب الذى وجد عظمة فعض عليها بالنواجذ وأخذ ينبح كل من يقترب منه ! بل إن بلاشير فى ترجمته الفرنسية للقرآن الكريم قد أقدم على شىء بلغ الغاية فى الشذوذ والخيانة العلمية ، ألا وهو إثبات هاتين الآيتين المدَّعَاتَيْن فى نص ترجمته لسورة " النجم " بزعمهما آيتين قرآنيتين كانتا موجودتين فيها يوما .
(1/90)
وقد تناول عدد من علماء المسلمين قديما وحديثا الروايات التى تتعلق بهاتين الآيتين المزعومتين وبينوا أنها لا تتمتع بأية مصداقية . والحقيقة إن النظر فى سورة " النجم " ليؤكد هذا الحكم الذى توصل إليه أولئك العلماء ، فهذه السورة من أولها إلى آخرها عبارة عن حملة مدمدمة على المشركين وما يعبدون من أصنام بحيث لا يُعْقَل إمكان احتوائها على هاتين الآيتين المزعومتين ، وإلا فكيف يمكن أن يتجاور فيها الذم العنيف للأوثان والمدح الشديد لها ؟ ترى هل يمكن مثلا تصوُّر أن ينهال شخص بالسب والإهانة على رأس إنسان ما ، ثم إذا به فى غمرة انصبابه بصواعقه المحرقة عليه ينخرط فجأة فى فاصل من التقريظ ، ليعود كرة أخرى فى الحال للسب والإهانة ؟ هل يعقل أن تبلع العرب مثل هاتين الآيتين اللتين تمدحان آلهتهم ، وهم يسمعون عقب ذلك قوله تعالى : " ألكم الذَّكَر وله الأنثى ؟ * تلك إذن قسمةٌ ضِيزَى * إن هى إلا أسماءٌ سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان . إن تتَّبعون إلا الظن وما تَهْوَى الأنفس . ولقد جاءهم من ربهم الهدى " ؟ إن هذا أمر لا يمكن تصوره ! كما أن وقائع حياته صلى الله عليه وسلم تجعلنا نستبعد تمام الاستبعاد أن تكون عزيمته قد ضعفت يوما ، فقد كان مثال الصبر والإيمان بنصرة ربه له ولدعوته . ومواقفه من الكفار طوال ثلاثة وعشرين عاما وعدم استجابته فى مكة لوساطة عمه بينه وبينهم رغم ما كان يشعر به من حب واحترام عميق نحوه ، وكذلك رفضه لما عرضوه عليه من المال والرئاسة ، هى أقوى برهان على أنه ليس ذلك الشخص الذى يمكن أن يقع فى مثل هذا الضعف والتخاذل !
(1/91)
هذا ، وقد أضفت طريقةً جديدةً للتحقق من أمر هاتين الآيتين هى الطريقة الأسلوبية ، إذ نظرت فى الآيتين المذكورتين لأرى مدى مشابهتهما لسائر آيات القرآن فوجدت أنهما لا تمتان إليها بصلةٍ البتة . كيف ذلك ؟ إن الآيتين المزعومتين تجعلان الأصنام الثلاثة مناطا للشفاعة يوم القيامة دون تعليقها على إذن الله ، وهو ما لم يسنده القرآن فى أى موضع منه إلى أى كائن مهما تكن منزلته عنده سبحانه . ولن نذهب بعيدا للاستشهاد على ما نقول ، فبعد هاتين الآيتين بخمس آيات فقط نقرأ قوله تعالى : " وكم مِنْ مَلَكٍ فى السماوات لا تُغْنِى شفاعتُهم شيئا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويَرْضَى " . فكيف يقال هذا عن الملائكة فى ذات الوقت الذى تؤكد إحدى الآيتين المزعومتين أن شفاعة الأصنام الثلاثة جديرة بالرجاء من غير تعليق لها على إذن الله ؟ ثم إنه قد ورد فى الآية الثانية من آيتى الغرانيق كلمة " تُرْتَجَى " ، وهى أيضا غريبة على الأسلوب القرآنى ، إذ ليس فى القرآن المجيد أى فعل من مادة " ر ج و " على صيغة " افتعل " . أما ما جاء فى إحدى الروايات من أن نص الآية هو : " وإنّ شفاعتهن لَتُرْتَضَى " ، فالرد عليه هو أن هذه الكلمة ، وإن وردت فى القرآن ثلاث مرات ، لم تقع فى أى منها على " الشفاعة " ، وإنما تُسْتَخْدَم مع الشفاعة عادةً الأفعال التالية : " تنفع ، تغنى ، يملك " .
(1/92)
كذلك فقد بدأت مجموعةُ الآيات التى تتحدث عن اللات والعُزَّى ومناة بقوله عَزَّ شأنُه : " أ(فـ)ـرأيتم ...؟ " ، وهذا التركيب قد تكرر فى القرآن إحدى وعشرين مرة كلها فى خطاب الكفار ، ولم يُسْتَعْمَل فى أى منها فى ملاينة أو تلطف ، بل ورد فيها جميعا فى مواقف الخصومة والتهكم وما إلى ذلك بسبيل كما فى الشواهد التالية : " قل : أرأيتم إن أتاكم عذابُه بَيَاتًا أو نهارا ماذا يستعجل منه المجرمون ؟ " (يونس / 50) ، " قل : أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزقٍ فجعلتم منه حلالا وحراما ، قل : آللهُ أَذِنَ لكم أم على الله تفترون ؟ " ( يونس / 59) ، " قل : أرأيتم إن كان من عند الله وكفرتم به وشَهِد شاهدٌ من بنى إسرائيل على مِثلِْه فآمن واستكبرتم ؟ إن الله لا يهدى القوم الظالمين " (الأحقاف / 10) ، " أفرأيتم الماء الذى تشربون ؟ * أأنتم أنزلتموه من المُزْن أم نحن المُنْزِلون ؟ * لو نشاء جعلناه أُجَاجًا ، فلولا تشكرون " ( الواقعة / 68 – 70 ) . فكيف يمكن إذن أن يجىء هذا التركيب فى سورة " النجم " بالذات فى سياق ملاطفة الكفار ومراضاتهم بمدح آلهتهم ؟ وفوق هذا لم يحدث أن أُضيفت كلمة " شفاعة " فى القرآن الكريم ( فى حال مجيئها مضافة ) إلا إلى الضمير " هم " على خلاف ما أتت عليه فى آيتى الغرانيق من إضافتها إلى الضمير "هنّ " .
(1/93)
وفضلا عن ذلك فتركيب الآية الأولى من الآيتين المزعومتين يتكون من " إنّ ( وهى مؤكِّدة كما نعرف ) + ضمير ( اسمها ) + اسم معرّف بالألف واللام ( خبرها ) " ، وهذا التركيب لم يُسْتَعْمَل لـ " ذات عاقلة " فى أى من المواضع التى ورد فيها فى القرآن الكريم ( وهى تبلغ العشرات ) إلا مع زيادة التأكيد لاسم " إنّ " بضميرٍ مثله كما فى الأمثلة التالية : " ألا إنهم هم المفسدون / ألا إنهم هم السفهاء / إنه هو التواب الرحيم / إنك أنت السميع العليم / إنك أنت التواب الرحيم / إنه هو السميع العليم / إنه هو العليم الحكيم / إنه هو الغفور الرحيم / إنى أنا النذير المبين / إنه هو السميع البصير / إننى أنا الله / إنك أنت الأعلى / إنا لنحن الغالبون / إنه هو العزيز الحكيم / وإنا لنحن الصافّون / وإنا لنحن المسبِّحون / إنهم لهم المنصورون / إنك أنت الوهاب / إنه هو السميع البصير / إنه هو العزيز الرحيم / إنك أنت العزيز الكريم / إنه هو الحكيم العليم / إنه هو البَرّ الرحيم / ألا إنهم هم الكاذبون / فإن الله هو الغنى الحميد " . أما فى المرة الوحيدة التى ورد التركيب المذكور دون زيادة التأكيد لاسم " إنّ " بضميرٍ مثله ( وذلك فى قوله تعالى : " إنه الحق من ربك " / هود / 17 ) فلم يكن الضمير عائدا على ذات عاقلة ، إذ الكلام فيها عن القرآن . ولو كان الرسول يريد التقرب إلى المشركين بمدح آلهتهم لكان قد زاد تأكيد الضمير العائد عليها بضميرٍ مثله على عادة القرآن الكريم بوصفها " ذواتٍ عاقلةً " ما داموا يعتقدون أنها آلهة . وعلى ذلك فإن التركيب فى أُولَى آيَتَىِ الغرانيق هو أيضا تركيب غريب على أسلوب القرآن الكريم .
(1/94)
مما سبق يتأكد لنا على نحوٍ قاطعٍ أن الآيتين المذكورتين ليستا من القرآن ، وليس القرآن منهما ، فى قليل أو كثير . بل إنى لأستبعد أن تكون كلمة " الغرانيق " قد وردت فى أى من الأحاديث التى قالها النبى عليه الصلاة والسلام . وينبغى أن نضيف إلى ما مرّ أن كُتُب الصحاح لم يرد فيها أى ذكر لهذه الرواية ، ومثلها فى ذلك ما كتبه ابن هشام وأمثاله فى السيرة النبوية .
(1/95)
ولقد قرأت فى كتاب " الأصنام " لابن الكلبى ( تحقيق أحمد زكى / الدار القومية للطباعة والنشر / 19 ) أن المشركين كانوا يرددون هاتين العبارتين فى الجاهلية تعظيما للأصنام الثلاثة ، ومن ثم فإنى لا أستطيع إلا أن أتفق مع ما طرحه سيد أمير على من تفسير لما يمكن أن يكون قد حدث ، بناءً على ما ورد من روايات فى هذا الموضوع ، إذ يرى أن النبى ، عندما كان يقرأ سورة " النجم " وبلغ الآيات التى تهاجم الأصنام الثلاثة ، توقَّع بعضُ المشركين ما سيأتى فسارع إلى ترديد هاتين العبارتين فى محاولة لصرف مسار الحديث إلى المدح بدلا من الذم والتوبيخ (Ameer Ali, The Spirit of Islam, Chatto and Windus, London, 1978, P.134 ). وقد كان الكفار فى كثير من الأحيان إذا سمعوا القرآن أحدثوا لَغْطًا ولَغْوًا كى يصرفوا الحاضرين عما تقوله آياته الكريمة ( فُصِّلَتْ / 26 ) ، فهذا الذى يقوله الكاتب الهندى هو من ذلك الباب . ولتقريب الأمر أمثِّل لهذه الطريقة بواقعة كنت من شهودها ، إذ كان رئيس ومرؤوسه يتعاتبان منذ أعوام فى حضورى أنا وبعض الزملاء ، وكان الرئيس يتهم المرؤوس المسكين بأنه يكرهه ، والآخر يحاول أن يبرئ نفسه عبثا لأنه كان معروفا عنه خوضه فى سيرة رئيسه فى كل مكان . وفى نوبة يأس أسرع قائلا وهو يؤكد كلامه بكل ما لديه من قوة : " إن ما بينى وبينك عميق! " ، فما كان من زميل معروف بحضور بديهته وسرعة ردوده التى تحوِّل مجرى الحديث من وجهته إلى وجهة أخرى معاكسة إلا أن تدخل قائلا فى سرعة عجيبة كأنه يكمل كلاما ناقصا : " فعلا ! عميقٌ لا يُعْبَر ". وهنا أمسك الرئيس بهذه العبارة وعدَّها ملخِّصةً أحسن تلخيص للموقف ولمشاعر مرؤوسه المزنوق الذى يحاول التنصل مما يُنْسَب إليه ! ومن ذلك أيضا ما كان بعض أصدقائنا المدرسين يعابث به تلميذاته إذا رآهن قد أسرفن فى التحمس لقاسم أمين وإبراز أهمية الدور التى تؤديه المرأة فى الحياة ، إذ كان ، كلما(1/96)
ردّدن أمامه العبارة المشهورة فى هذا السياق من أن " وراء كل عظيم امرأة " ، يجيبهن مرة : " طبعا وراءه لا أمامه ، فهو صاحب الصدارة والتفوق ، أما هى فتابعة له "، ومرة : " فعلا وراءه ، والزمان طويل " ، ومرة : " وراءه مسوِّدة عيشته " ... وهكذا .
(1/97)
ورغم أننا قد فنَّدنا هذا السخف الساخف فإنّا لنستغرب ذلك الضجيج الذى يُحْدِثه هؤلاء الأوباش حول رسولنا الكريم بسببه . ذلك أنهم يقولون إنه ما من نبى من أنبياء الكتاب المقدس إلا قد ارتكب خطيئة أو أكثر من العيار الثقيل حسبما جاء فى هذا الكتاب ذاته : فإبراهيم تخلى عن زوجته لفرعون مدّعيا أنها أخته وتركها له يفعل بها ما يشاء خوفًا على حياته ، وكان من الممكن أن ينال الملك ما يشتهى منها لولا أن الله قد ضربه هو وأهله ضرباتٍ عظيمة كما يقول مؤلف " سفر التكوين " ( 12 / 11 – 20 ) ، فعرف أن سارة ليست أختا لإبراهيم بل هى زوجته . وموسى يقدم على قتل المصرى بدم بارد وخسّة حقيرة وجبن واضح . وهارون يصنع العجل لبنى إسرائيل ليعبدوه ويرقصوا وهم يطوفون به عراةً أثناء غياب موسى فى الطور عند لقائه بربه . وداود يزنى بامرأة قائده ثم يدبر مؤامرة إجرامية خسيسة لقتله والتخلص منه ليفوز بالزوجة ، وكان له ما أراد . وسليمان ينظم نشيدا كله عهر وإغراء بالفاحشة ، كما ينزل على رغبات زوجاته الوثنيات فيصنع لهن أصناما يعبدنها فى بيته إرضاءً لهن ... إلخ . وهؤلاء المتنطعون يقولون إن وقوع الأنبياء فى الخطايا أمر طبيعى لأنهم بشر . فإذا كان الأمر كذلك فلماذا ، يا أيها المتنطعون ، لا تنظرون بنفس العين إلى غلطة الغرانيق بافتراض أنها وقعت بالفعل ، وبخاصة أنها لا ترقى أبدا إلى ما فَرَط من أىٍّ من أنبياء كتابكم حسبما تقولون أنتم أنفسكم ، فقد حُذِفت الآيتان المذكورتان فى الحال ولم تُسَجَّلا فى القرآن قط ؟ مرة أخرى أكرر أن هذه الرواية هى رواية مكذوبة لا تثبت على محك النقد العلمى : سواء من ناحية السند أو من ناحية المتن والأسلوب كما رأينا ، لكنى أحاول أن أبين للقارئ الفاضل مدى التواء هؤلاء المخابيل وخبث نفوسهم وكيلهم بمكيالين ، وأن أُوقِفَ هؤلاء المخابيل أمام صورتهم فى المرآة ليَرَوْا قبحها ودمامة ملامحها الشيطانية !
(1/98)
وهنا أحب أن أشير إلى مفارقة غاية فى العجب والغرابة والشذوذ ، فانطلاقا من المفهوم الطاهر للنبوة فى ديننا والإيمان بأن الأنبياء لا يمكن أن يقترفوا مثل هذه الجرائم التى لا تقع إلا من عتاة المجرمين نقوم نحن المسلمين بالدفاع عن أنبياء الكتاب المقدس ضد التهم التى يلصقها هذا الكتاب المحرَّف بهم ، لكن النصارى يردون على هذا الدفاع بالتخطئة مؤكِّدين أن هؤلاء الأنبياء قد ارتكبوا فعلا الخطايا التى تُنْسَب إليهم . ومع ذلك فإنهم عند تناولهم للشبهات الباطلة التى يتعلقون بها للنيل من أخلاق الرسول الأعظم نراهم وقد أخذتهم الحميَّة للأخلاق الكريمة فلا يُبْدُون أى تسامح أو تساهل مع هذه التهم الكاذبة ! أليست هذه مفارقة تحتاج إلى دراسة تحليلية لذلك الالتواء النفسى ؟ ويمكن القارئ أن يرجع مثلا إلى موقع " النور " النصرانى ، ولسوف يجد مقالا بعنوان " عصمة الوحى وخطايا الأنبياء " يتحدث فيه صاحبه عن الخطايا التى اجترحها كل من آدم ونوح وإبراهيم وإسحاق ويعقوب ولوط وإخوة يوسف وداود وسليمان وغيرهم مما أشرنا لبعضه آنفا ، مع تسويغ هذه الخطايا بشبهة أنهم بشر ، لكنه عندما يتناول ما يظنه أخطاءً لسيد الأنبياء والمرسلين يحاسبه حسابا عسيرا ، ولا يرضى أبدا بغض البصر أو التسامح تحت أى بند من البنود !
(1/99)
إننى حين أدافع عن سيد النبيين والمرسلين لا أفعل ذلك لمجرد انتمائى لدينه ، بل أفعله إيمانا منى بعظمته وعبقريته وشموخ شخصيته : فقد أتى بمبادئ لا ترقى إليها أية مبادئ فى أى دين أو فلسفة أو مذهب من مذاهب السياسة والتربية والأخلاق . ثم إنه قد وضع تلك المبادئ موضع التطبيق ، وكان توفيقه فى هذا المجال مذهلا ، ولم يقتصر الأمر معه على مجرد الدعوة لها كما هو الحال مع عيسى عليه السلام ، الذى لم يأت ، حسب ما هو مسطور فى سيرته ، إلا ببعض المواعظ والنصائح المغرقة فى الخيال مما لا يؤكِّل عيشا! والواقع أنه لو أخذت البشرية مأخذ الجِدّ ما دعا إليه السيد المسيح حسبما جاء فى الأناجيل لما كانت هناك حضارة ولا تقدُّم ولا تمتُّع بأى من خيرات الحياة ، فكل الكلام المنسوب له عليه السلام تنفير من الغنى والقوة والدفاع عن النفس وتبغيض فى الدنيا وطيباتها ، وهو يقول بصراحة لا تحتمل أى تأويل إن مملكته ليست من هذا العالم . كما ينظر إلى الغرائز البشرية نظرة التوجس بل الكراهية ، مع أن هذه الغرائز هى وقود سفينة الحياة ، ولولا هى لما رامت هذه السفينة موضعَها إلى الأبد! كذلك لم يترك المسيح أية تشريعات تقريبا ، وبالذات فى مجال السياسة والحكم وتنظيم المجتمع . ومن ثم فإننا إذا أردنا أن نقيم دولة على المبادئ التى خلَّفها لم نجد ما يمكن أن يساعد فى هذا المجال ! ولكن لا ينبغى فى ذات الوقت أن ننسى أنه عليه السلام لم يُكْتَب له أن يعيش بعد اختياره نبيًّا إلا لسنوات ثلاث ، وهى فترة غير كافية لإنجاز أى مشروع على الإطلاق ! ومن هنا كان من الظلم البين له مقارنة عمله بما أنجزه الرسول الأعظم رغم احترامنا له وحبنا إياه وإيماننا بنبوته .
(1/100)
لكن صورة المسيح التى تعرضها علينا الأناجيل هى للأسف صورة ظالمة ، إذ تظهره عصبيًّا جافى الطبع لا يستقر فى مكان ، ولا عَمَلَ له إلا إبراءُ المرضى الذين يلهثون خلفه هنا وههنا فى فوضى مزعجة ، وإلا لَعْنُ اليهود وسبُّهم ومخالفتهم فى كل ما يتمسكون به من تشريعات ، مع الزعم فى ذات الوقت بأنه ما جاء لينقض الناموس الذى أتى به موسى عليه السلام ، ثم لا شىء وراء ذلك ! طبعا سيقول النصارى إنه قد أتى إلى العالم ليفتدى البشرية من خطيئتها الأولى ، لكن أحدا من غير السذَّج لا يمكن أن يأخذ هذه المزاعم المصنوعة على غرار وثنيات القدماء وخرافاتهم مأخذ الجِدّ! ومع ذلك فكلُّ إنسانٍ وما يؤمن ! ونحن لا نتدخل فى عقائد غيرنا ، بيد أننا فى الوقت ذاته لا يمكن أن نتسامح مع من يَمَسُّ سيدنا رسول الله بسوء ! أنتم أحرار فى كفركم به يا من لا تؤمنون برسالته ، فهذا اختياركم ، ونحن لا نصادر حق أى إنسان فى الاختيار . لكن هذا شىء ، والتطاول على شخص الرسول الأكرم والقرآن الذى جاء به شىء آخر مختلف تماما . وأرجو أن تكون الرسالة قد وصلت !
فهرس مفصل لمحتويات الكتاب
_______________________
* كلمة سريعة عن موضوع الدراسة / 3
* " الضلال المبين " المسمى زورا بـ " الفرقان الحق " والجهة التى تقف وراءه زاعمة أنه وحى سماوى / 5
* البذاءات الشنيعة الموجهة إلى سيد الأنبياء وصحابته الكرام ودينه العظيم فى ذلك الكتاب / 6
* عينة من الوحى المراحيضى / 8
* ضيق بعض المنتسبين للإسلام بالدفاع عن ديننا ضد من يتطاولون عليه / 10
* أسماء سور " الضلال المبين " ومضمونها والمصدر الذى أُخِذَتْ منه آياته / 13
* المشاكل الغبية التى يثيرها الوحى الإبليسى لملفقيه / 15
* لماذا لا يمكن أن يكون من جاء بهذا " الضلال الملبين " نبيا من عند رب العالمين ؟ / 16
* أسلوب المومسات الذى جرى عليه من زيفوا هذا الوحى الشيطانى / 17
(1/101)
* النبى الكذاب الذى جاء بهذا الكتاب مجهول الهوية والاسم والنسب والبلد والصنعة / 18
* كيف ينزل وحى إلهى باللغة العربية فى أمريكا التى تتحدث الإنجليزية ؟ / 20
* الأبالسة الأغبياء يسرقون آيات القرآن ويزعمون لكتابهم الملفق الإعجاز ، ثم ينقلبون على كتاب الله المجيد نافين عنه إعجازه وزاعمين أنه وحى من الشيطان / 21
* هذا " الضلال المبين " دليل دامغ على أن القوم ما زالوا ماضين على سنتهم فى تزييف الوحى / 23
* سرقتهم لآيات القرآن لا تجعل من " ضلالهم المبين " مع ذلك كلاما معجزا / 24
* أخطاء فاضحة وقع فيها ملفقو الوحى الشيطانى تدل على أنه لا يمكن أن يكون سماوى المصدر / 26
* الظروف الصعبة التى ألفتُ فيها هذه الدراسة / 28
* الأخطاء والتناقضات المزرية فى " الضلال المبين " / 36
* الإله المزعوم الذى أوحى هذا " الضلال " إله كذاب / 40
* معانٍ تجافى المنطق / 41
* الإله المزعوم لا يتذكر الآيات القرآنية التى يستشهد بها على وجهها الصحيح / 44
* " الضلال المبين " ليس له شغلة إلا المسلمين ولا يحتوى إلا على تسفيههم وشتم نبيهم ودينهم / 47
* أصحاب " الضلال المبين " لم يأتونا برسالة المحبة بل برسالة القتل والتدمير واللواط والسحاق / 50
* بعض من النصوص التى تحتوى على سبابنا وتحاول تلطيخ ديننا ورسولنا الكريم / 51
* الرد على تلك السفالات / 54
* الإسلام هو الدين الوحيد الذى يشهد لمريم بالعفة / 56
* آيات من الأناجيل تنسب عيسى ليوسف النجار / 58
* الصَّلْب يدين عيسى عليه السلام بحسب الكتاب المقدس نفسه / 59
* تطاول الأوغاد على سيد الأنبياء والمرسلين بسبب جواز القَسَم فى الإسلام ، والرد على هذا الغباء من الكتاب المقدس نفسه ، مع إبراز عبقرية الإسلام فى تشريع كفارة اليمين / 61
* تعدد الزوجات بين الإسلام والنصرانية / 67
* لو كان تعدد الزوجات زنى وشركا كما يدّعون لأساء هذا إلى عيسى عليه السلام / 68
(1/102)
* تعدد الزوجات هو شرعة الأنبياء جميعا إلى أن حرّف أهل التثليث دينهم / 71
* تحليل نصوص العهد الجديد التى يزعم النصارى أنها تحرم تعدد الزوجات / 73
* النظرة العدائية التى تنظر بها بها الكنيسة إلى المرأة وأسبابها / 75
* القيود المعنتة التى تفرضها النصرانية على الطلاق ونتائجها البائسة / 76
* اتهام ملفقى " الضلال المبين " لسيد الأنبياء والمرسلين بالكفر والقتل وإكراه الناس بالسيف على الدخول فى دينه ، وتفنيد هذه الفرية / 78
* صورة المسيح فى الأناجيل ليست صورة الرجل الوديع / 79
* التسامح المطلق مستحيل ويؤدى إلى كوارث أخلاقية وحضارية / 80
* الأسباب التى حملت الرسول على خوض المعارك والحروب / 83
* مثال من جهل ملفقى " الضلال المبين " بمعانى القرآن الكريم /85
* حروب النصارى ضد الأمم الأخرى حروب عدوان واستئصال / 86
* مزوّرو " الضلال المبين " يهاجمون تشريع الجزية رغم أمر المسيح وبولس للنصارى بأدائها دون تذمر / 88
* لماذا كان النصارى فى حروبهم وحكمهم لغيرهم من الأمم شديدى القسوة ؟ / 91
* مقارنة بين تشريعات الحرب فى الإسلام وفى العهد العتيق / 92
* إزراء مزيّفى " الضلال المبين " على الجنة ونعيمها عند المسلمين ، وتخطئة شبهاتهم تلك من العهد الجديد ذاته / 94
* حملة المنافقين الكذابين على مطالب الجسد ، والرد على نفاقهم / 97
* نعيم الجنة سيكون شيئا جديدا يختلف عما نعرفه فى الدنيا / 99
* قصة الغرانيق وإثبات زيفها بالتحليل المنطقى والتاريخى والأسلوبى / 102
* النصارى يدّعون على الأنبياء ارتكاب الفواحش والخطايا ولا يرَوْن بأسا فى ذلك ، ثم يتنطعون مع النبى عليه السلام رغم أنه لم يرتكب أية خطيئة فى حياته / 109
* لماذا أدافع عن محمد؟ /(1/103)
قصة الغرانيق فى " الفرقان الحق " والرد عليها "
بقلم :د. إبراهيم عوض
فى هذا المقال نتناول التهمة التى وجهها ملفقو " البهتان الباطل " ( المسمى كذبا وزورا بـ " الفرقان الحق " ) إلى القرآن الكريم وخصّصوا لها سورة افترَوْها وسمَّوْها : " سورة الغرانيق " إشارة إلى ما يقال من أن سورة " النجم " كانت تحتوى فى البداية على آيتين تمدحان الأصنام الثلاثة : " اللات والعُزَّى ومَنَاة " ، ثم حُذِفتا منها فيما بعد . يريدون القول بأن محمدا ، عليه الصلاة والسلام ، كان يتمنى أن يصالح القرشيين حتى يكسبهم إلى صفه بدلا من استمرارهم فى عداوتهم لدعوته وإيذائهم له ولأتباعه ، ومن ثم أقدم على تضمين سورة " النجم " تَيْنِك الآيتين عقب قوله : " أفرأيتم اللاتَ والعُزَّى * ومناةَ الثالثةَ الأخرى ؟ " ( النجم /19 – 20 ) على النحو التالى : " إنهنّ الغرانيق العُلا * وإن شفاعتهن لَتُرْتَجَى ". والمقصود من وراء ذلك كله هو الإساءة للرسول الكريم بالقول بأنه لم يكن مخلصا فى دعوته ، بل لم يكن نبيا بالمرة ، وإلا لما أقدم على إضافة هاتين الآيتين من عند نفسه . وهذه هى بعض من آيات السورة الشيطانية المذكورة : " باسم الآب الكلمة الروح الإله الواحد الأوحد * يا أيها الذين كفروا من عبادنا : لقد ضلَّ رائدكم وقد غَوَى * وما نطق عن الهوى إن هو إلا وحىٌ إفكٌ يُوحَى * علَّمه مريد القُوَى * فرأى من مكائد الشيطان الكبرى وهو بالدرك الأدنى * وردَّد الكفر جهرا وتلا : أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى . إن شفاعتهن لَتُرْتَجَى * كلما مسه طائف من الشيطان زجر صاحبه فأخفى ما أبدى * وإما ينزَغَنَّه من الشيطان نَزْغٌ استعاذ بنا على مسمعٍ جهرا * ... * ومن أظلمُ ممن افترى علينا كذبا ثم قال : " أُوحِىَ إِلَىَّ ". وما أُوحِىَ إليه إلا ما تنزَّلَتْ به الشياطينُ افتراءً ومكرا " (1 - 7 ، 15) .
(1/104)
وهذه الفرية هى مما يحلو للمستشرقين والمبشرين أن يرددوها للمكايدة وإثارة البلبة ، مع أن أقل نظرة فى سورة " النجم " أو فى سيرة حياته صلى الله عليه وسلم كافية للقطع بأن تلك القصة لا يمكن أن تكون قد حدثت على هذا النحو الذى اخترعه بعض الزنادقة قديما وأخذ أعداء الإسلام يرددونها شأن الكلب الذى وجد عظمة فعض عليها بالنواجذ وأخذ ينبح كل من يقترب منه ! بل إن بلاشير فى ترجمته الفرنسية للقرآن الكريم قد أقدم على شىء لا أعلم أحدا غيره قد صنعه ، ألا وهو إثبات هاتين الآيتين المدَّعَاتَيْن فى نص ترجمته لسورة " النجم " بوصفهما آيتين قرآنيتين كانتا موجودتين يوما .
(1/105)
وقد تناول عدد من علماء المسلمين قديما وحديثا الروايات التى تتعلق بهاتين الآيتين المزعومتين وبينوا أنها لا تتمتع بأية مصداقية. والحقيقة إن النظر فى سورة " النجم " ليؤكد هذا الحكم الذى توصل إليه أولئك العلماء ، فهذه السورة من أولها إلى آخرها عبارة عن حملة مدمدمة على المشركين وما يعبدون من أصنام بحيث لا يُعْقَل إمكان احتواء السورة على هاتين الآيتين المزعومتين ، وإلا فكيف يمكن أن يتجاور فيها الذم العنيف للأوثان والمدح الشديد لها ؟ ترى هل يمكن مثلا تصور أن ينهال شخص بالسب والإهانة على رأس إنسان ما ، ثم إذا به فى غمرة انصبابه بصواعقه المحرقة عليه ينخرط فجأة فى فاصل من التقريظ ، ليعود كرة أخرى فى الحال للسب والإهانة حتى آخر السورة ؟ هل يعقل أن تبلع العرب مثل هاتين الآيتين اللتين تمدحان آلهتهم ، وهم يسمعون عقيب ذلك قوله تعالى : " ألكم الذَّكَر وله الأنثى ؟ * تلك إذن قسمةٌ ضِيزَى * إن هى إلا أسماءٌ سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان . إن تتَّبعون إلا الظن وما تَهْوَى الأنفس . ولقد جاءهم من ربهم الهدى " ؟ إن هذا أمر لا يمكن تصوره ! كما أن وقائع حياته صلى الله عليه وسلم تجعلنا نستبعد تمام الاستبعاد أن تكون عزيمته قد ضعفت يوما ، فقد كان مثال الصبر والإيمان بنصرة ربه له ولدعوته . ومواقفه من الكفار طوال ثلاثة وعشرين عاما وعدم استجابته فى مكة لوساطة عمه بينه وبينهم رغم ما كان يشعر به من حب واحترام عميق نحوه ، وكذلك رفضه لما عرضوه عليه من المال والرئاسة ، هى أقوى برهان على أنه ليس ذلك الشخص الذى يمكن أن يقع فى مثل هذا الضعف والتخاذل !
(1/106)
هذا ، وقد أضفت طريقةً جديدةً للتحقق من أمر هاتين الآيتين هى الطريقة الأسلوبية ، إذ نظرت فى الآيتين المذكورتين لأرى مدى مشابهتهما لسائر آيات القرآن فوجدت أنهما لا تمتان إليها بصلةٍ البتة . كيف ذلك ؟ إن الآيتين المزعومتين تجعلان الأصنام الثلاثة مناطا للشفاعة يوم القيامة دون تعليقها على إذن الله ، وهو ما لم يسنده القرآن فى أى موضع منه إلى أى كائن مهما تكن منزلته عنده سبحانه. ولن نذهب بعيدا للاستشهاد على ما نقول ، فبعد هاتين الآيتين بخمس آيات فقط نقرأ قوله تعالى : " وكم مِنْ مَلَكٍ فى السماوات لا تُغْنِى شفاعتُهم شيئا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويَرْضَى " . فكيف يقال هذا عن الملائكة فى ذات الوقت الذى تؤكد إحدى الآيتين المزعومتين أن شفاعة الأصنام الثلاثة جديرة بالرجاء من غير تعليق لها على إذن الله ؟ ثم إنه قد ورد فى الآية الثانية من آيتى الغرانيق كلمة "تُرْتَجَى" ، وهى أيضا غريبة على الأسلوب القرآنى ، إذ ليس فى القرآن المجيد أى فعل من مادة " ر ج و " على صيغة " افتعل " . أما ما جاء فى إحدى الروايات من أن نص الآية هو : " وإنّ شفاعتهن لتُرْتَضَى " ، فالرد عليه هو أن هذه الكلمة ، وإن وردت فى القرآن ثلاث مرات ، لم تقع فى أى منها على " الشفاعة " ، وإنما تُسْتَخْدَم مع الشفاعة عادةً الأفعال التالية : " تنفع ، تغنى ، يملك " .
(1/107)
كذلك فقد بدأت مجموعةُ الآيات التى تتحدث عن اللات والعُزَّى ومناة بقوله عَزَّ شأنُه : " أ(فـ)ـرأيتم ...؟ " ، وهذا التركيب قد ورد فى القرآن إحدى وعشرين مرة كلها فى خطاب الكفار ، ولم يُسْتَعْمَل فى أى منها فى ملاينة أو تلطف ، بل ورد فيها جميعا فى مواقف الخصومة والتهكم وما إلى ذلك بسبيل كما فى الشواهد التالية : " قل : أرأيتم إن أتاكم عذابُه بَيَاتًا أو نهارا ماذا يستعجل منه المجرمون ؟ " (يونس / 50) ، " قل : أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزقٍ فجعلتم منه حلالا وحراما ، قل : آللهُ أَذِنَ لكم أم على الله تفترون ؟ " ( يونس / 59) ، " قل : أرأيتم إن كان من عند الله وكفرتم به وشَهِد شاهدٌ من بنى إسرائيل على مِثلِْه فآمن واستكبرتم ؟ إن الله لا يهدى القوم الظالمين " (الأحقاف / 10) ، " أفرأيتم الماء الذى تشربون ؟ * أأنتم أنزلتموه من المُزْن أم نحن المُنْزِلون ؟ * لو نشاء جعلناه أُجَاجًا ، فلولا تشكرون " ( الواقعة / 68 – 70 ) . فكيف يمكن إذن أن يجىء هذا التركيب فى سورة " النجم " بالذات فى سياق ملاطفة الكفار ومراضاتهم بمدح آلهتهم ؟ وفوق هذا لم يحدث أن أُضيفت كلمة " شفاعة " فى القرآن الكريم ( فى حال مجيئها مضافة ) إلا إلى الضمير " هم " على خلاف ما أتت عليه فى آيتى الغرانيق من إضافتها إلى الضمير "هنّ " .
(1/108)
وفضلا عن ذلك فتركيب الآية الأولى من الآيتين المزعومتين يتكون من " إنّ ( وهى مؤكِّدة كما نعرف ) + ضمير ( اسمها ) + اسم معرّف بالألف واللام ( خبرها ) " ، وهذا التركيب لم يُسْتَعْمَل لـ " ذات عاقلة " فى أى من المواضع التى ورد فيها فى القرآن الكريم ( وهى تبلغ العشرات ) دون زيادة التأكيد لاسم " إنّ " الضمير بضميرٍ مثله ، كما فى الأمثلة التالية : " ألا إنهم هم المفسدون / ألا إنهم هم السفهاء / إنه هو التواب الرحيم / إنك أنت السميع العليم / إنك أنت التواب الرحيم / إنه هو السميع العليم / إنه هو العليم الحكيم / إنه هو الغفور الرحيم / إنى أنا النذير المبين / إنه هو السميع البصير / إننى أنا الله / إنك أنت الأعلى / إنا لنحن الغالبون / إنه هو العزيز الحكيم / وإنا لنحن الصافّون / وإنا لنحن المسبِّحون / إنهم لهم المنصورون / إنك أنت الوهاب / إنه هو السميع البصير / إنه هو العزيز الرحيم / إنك أنت العزيز الكريم / إنه هو الحكيم العليم / إنه هو البَرّ الرحيم / ألا إنهم هم الكاذبون / فإن الله هو الغنى الحميد " . أما فى المرة الوحيدة التى ورد التركيب المذكور دون زيادة التأكيد لاسم " إنّ " الضمير بضميرٍ مثله ( وذلك فى قوله تعالى : " إنه الحق من ربك " / هود / 17 ) فلم يكن الضمير عائدا على ذات عاقلة ، إذ الكلام فيها عن القرآن . ولو كان الرسول يريد التقرب إلى المشركين بمدح آلهتهم لكان قد زاد تأكيد الضمير العائد عليها بضميرٍ مثله على عادة القرآن الكريم بوصفها " ذواتٍ عاقلةً "، ما داموا يعتقدون أنها آلهة . وعلى ذلك فإن التركيب فى أُولَى آيَتَىِ الغرانيق هو أيضا تركيب غريب على أسلوب القرآن الكريم .
(1/109)
مما سبق يتأكد لنا على نحوٍ قاطعٍ أن الآيتين المذكورتين ليستا من القرآن ، وليس القرآن منهما ، فى قليل أو كثير . بل إنى لأستبعد أن تكون كلمة " الغرانيق " قد وردت فى أى من الأحاديث التى قالها النبى عليه الصلاة والسلام . وينبغى أن نضيف إلى ما مرّ أن كُتُب الصحاح لم يرد فيها أى ذكر لهذه الرواية ، ومثلها فى ذلك ما كتبه ابن هشام وأمثاله فى السيرة النبوية .
(1/110)
ولقد قرأت فى كتاب " الأصنام " لابن الكلبى ( تحقيق أحمد زكى / الدار القومية للطباعة والنشر / 19 ) أن المشركين كانوا يرددون هاتين العبارتين فى الجاهلية تعظيما للأصنام الثلاثة ، ومن ثم فإنى لا أستطيع إلا أن أتفق مع ما طرحه سيد أمير على من تفسير لما يمكن أن يكون قد حدث ، بناءً على ما ورد من روايات فى هذا الموضوع ، إذ يرى أن النبى ، عندما كان يقرأ سورة " النجم " ، وبلغ الآيات التى تهاجم الأصنام الثلاثة ، توقَّع بعض المشركين ما سيأتى بعد ذلك فسارع إلى ترديد هاتين العبارتين فى محاولة لصرف مسار الحديث إلى المدح بدلا من الذم والتوبيخ (Ameer Ali, The Spirit of Islam, Chatto and Windus, London, 1978, P.134 ) . وقد كان الكفار فى كثير من الأحيان إذا سمعوا القرآن أحدثوا لَغْطًا ولَغْوًا كى يصرفوا الحاضرين عما تقوله آياته الكريمة ( فُصِّلَتْ / 26 ) ، فهذا الذى يقوله الكاتب الهندى هو من ذلك الباب . ولتقريب الأمر أسوق للقارئ مثالا على هذه الطريقة كنت من شهوده ، إذ كان رئيس ومرؤوسه يتعاتبان منذ أعوام فى حضورى أنا وبعض الزملاء ، وكان الرئيس يتهم المرؤوس المسكين بأنه يكرهه ، والآخر يحاول أن يبرئ نفسه عبثا لأنه كان معروفا عنه خوضه فى سيرة رئيسه فى كل مكان . وفى نوبة يأس أسرع قائلا وهو يؤكد كلامه بكل ما لديه من قوة : " إن ما بينى وبينك عميق! " ، فما كان من زميل معروف بحضور بديهته وسرعة ردوده التى تحوِّل مجرى الحديث من وجهته إلى وجهة أخرى معاكسة إلا أن تدخل قائلا فى سرعة عجيبة كأنه يكمل كلاما ناقصا : " فعلا ! عميقٌ لا يُعْبَر ". وهنا أمسك الرئيس بهذه العبارة وعدَّها ملخِّصةً أحسن تلخيص للموقف ولمشاعر مرؤوسه المزنوق الذى يحاول التنصل مما يُنْسَب إليه !
(1/111)
ورغم أننا قد فنَّدنا هذا السخف الساخف فإنّا لنستغرب ذلك الضجيج الذى يُحْدِثه هؤلاء الأوباش حول رسولنا الكريم . ذلك أنهم يعترفون بأنه ما من نبى من أنبياء الكتاب المقدس إلا قد ارتكب خطيئة أو أكثر من العيار الثقيل حسبما جاء فى هذا الكتاب ذاته : فإبراهيم تخلى عن زوجته لفرعون مدّعيا أنها أخته وتركها له يفعل بها ما يشاء خوفًا على حياته ، وكان من الممكن أن ينال الرجل ما يشتهى منها لولا أن الله قد ضربه هو وأهله ضرباتٍ عظيمة كما يقول مؤلف " سفر التكوين " ( 12 / 11 - 20 ) ، فعرف أن سارة ليست أختا لإبراهيم بل هى زوجته . وموسى يقدم على قتل المصرى بدم بارد وخسّة حقيرة وجبن واضح . وهارون يصنع العجل لبنى إسرائيل ليعبدوه ويرقصوا وهم يطوفون به عراةً أثناء غياب موسى فى الطور عند لقائه بربه . وداود يزنى بامرأة قائده ثم يدبر مؤامرة إجرامية خسيسة لقتله والتخلص منه ليفوز بالزوجة ، وكان له ما أراد . وسليمان ينظم نشيدا كله عهر وإغراء بالفاحشة ، كما ينزل على رغبات زوجاته الوثنيات فيصنع لهن أصناما يعبدنها فى بيته إرضاءً لهن ... إلخ . وهؤلاء المتنطعون يقولون إن وقوع الأنبياء فى الخطايا أمر طبيعى لأنهم بشر . فإذا كان الأمر كذلك فلماذا ، يا أيها المتنطعون ، لا تنظرون بنفس العين إلى غلطة الغرانيق بافتراض أنها وقعت بالفعل ، وبخاصة أنها لا ترقى أبدا إلى ما فَرَط من أىٍّ من أنبياء كتابكم حسبما تقولون أنتم أنفسكم ، فقد حُذِفت الآيتان المذكورتان فى الحال ولم تُسَجَّلا فى القرآن قط ؟ مرة أخرى أكرر أن هذه الرواية هى رواية مكذوبة لا تثبت على محك النقد العلمى : سواء من ناحية السند أو من ناحية المتن والأسلوب كما رأينا ، لكنى أحاول أن أبين للقارئ الفاضل مدى التوائهم وخبث نفوسهم وكيلهم بمكيالين ، وأن أُوقِفَهم أمام صورتهم فى المرآة ليَرَوْا قبحها ودمامة ملامحها الشيطانية(1/112)
المهزلة الأركونية فى المسألة القرآنية
القرآن: مخيال جماعى أم وحى إلهى؟
بقلم :د. إبراهيم عوض
(1/113)
الدكتور محمد أركون أستاذ جزائرى من أصل بربرى، وُلِد عام 1928م، وتعلم العربية وآدابها على يد المستشرقين فى جامعة الجزائر التى أسسها الفرنسيون أيام احتلالهم لبلد "المليون شهيد"، ثم تابع دراساته العالية فى فرنسا حيث حصل على الدكتورية، وانتهى به الأمر إلى تعيينه أستاذا لتاريخ الفكر الإسلامى فى جامعة السوربون فى العاصمة الفرنسية. وكانت أول مرة أسمع فيها بالدكتور أركون فى أواخر سبعينات القرن الماضى حين كنت أتمشى فى بعض شوارع لندن عصر أحد الأيام الصيفية الجميلة، وفجأة وجدت مكتبة لبيع الكتب فدخلتها أسأل عما إذا كان لديهم ترجمات قرآنية، فتصادف أن وجدت ترجمة كازيميرسكى الفرنسية، وفيها مقدمة كتبها د.أركون. وكنت أرجع لتلك الترجمة بين الحين والحين، لكنى لم أعكف على دراستها كما عكفتُ على تلك التى قام بها سافارى أو مونتيه أو بلاشير أو بو بكر حمزة، ومن ثم لم تأت فرصة لقراءة المقدمة المذكورة. وفى الفترة الأخيرة تكررسماعى لاسم الرجل فى بعض الكتابات العربية مقرونا فى بعضها بالمدح الشديد، وفى بعضها الآخر بالذم الحاد، ولا أدرى بالضبط ما الذى دفعنى إلى الاهتمام به اهتماما خاصا حتى إنى فكرت أن أقرأ ما استطيع أن أُحَصِّله من كتبه وأكتب عنها إذا وجدت فيها ما يدفع لذلك. وقرأت فوجدت أن الرجل، رغم انتمائه إلى أسرةٍ وبلدٍ مسلمين، يعمل بكل جهده ووسعه للتشكيك فى القرآن، وإن ادعى وأغرق فى الادعاء أنه يريد دراسته دراسة علمية محايدة، فهو مثلا يسميه: "أساطير"، مما يذكِّرنا بالقرشيين، الذين كانوا كلما حَزَبَهم أمر هذا الكتاب ولم يستطيعوا أن يقفوا فى طريقه أو يردّوا على حُجَجه أو يأتوا بمثله حسبما تحداهم أكثر من مرة صاحوا قائلين: "أساطير الأولين" (الأنعام/ 25، والنحل/ 24، والمؤمنون/ 83، والفرقان/ 5، والنمل/ 68، والأحقاف/ 15، والقلم/ 15، والمطففين/ 13). يقصدون بذلك أن القرآن الذى نزّله الله على نبيه صلى الله(1/114)
عليه وسلم ليس إلا قصصا نقلها النبى عما خلَّفه السابقون وراءهم من قَصَص مسطور. يريدون أن يقولوا إن القرآن ليس وحيا إلهيا بل إنتاجًا بشريًّا، وإن محمدا ليس هو مؤلفه، إنما هو مجرد مردِّد له. ولهذا كان النضر بن الحارث يعمد إلى الأماكن التى يتردد عليها الرسول بغية دعوة المكيين إلى دينه، فإذا ما فرغ، عليه الصلاة والسلام، من تلاوة آيات الذكر الحكيم على جمهور الحاضرين شرع هذا الشيطان يقرأ عليهم من كتاب يتضمن قصص رستم وإسفنديار وملوك الفرس، زاعما أن قصصه أحسن من قصص محمد حسبما ورد فى التفاسير وكتب أسباب النزول . فـ"الأساطير" هنا معناها الكلام المسطور، أى المكتوب. وفى "لسان العرب" و"تاج العروس" على سبيل المثال أن "الأساطير" جَمْع "سطر" أو جمع "أسطار"، الذى هو بدوره جمع لـ"سطر"، وإن كان هناك من يقول إنها جمع "أسطورة"، ومن يقول إنه جمع لا واحد له من لفظه. وقد ذكر بعض اللغويين أنها "الأباطيل" كما جاء فى "الصحاح" و"لسان العرب" أو "الأباطيل أو الأحاديث التى لا نظام لها" حسبما ورد فى "تاج العروس"، وإن لم يكن هذا شرطا فى رأيى، فهو ليس من أصل المادة، بل مجرد إسقاط لموقف الكفار، الذين كانوا يتعنتون على النبى الكريم ويعملون جهد طاقتهم على تكذيبه صلى الله عليه وسلم، على كلمة "أساطير"، لأن المادة التى اشتُقَّت منها هذه الكلمة ليس فيها معنى البطلان، بل هى مادة "السطر والتسطير" أى الكتابة لا غير. وكان ابن عباس يتأولها بهذا التأويل على ما ورد فى تفسير الطبرى للآية 25 من سورة "الأنعام" والآية 24 من سورة "النحل" مثلا. ولو كانت تعنى "البطلان" لقد كان النضر إذن يكذّب نفسه أيضا حينما كان يأتى بقصص رستم وإسفنديار وأخبار الأكاسرة ويقرؤها على الجمهور ليصرفهم عن آيات القرآن التى كان يتلوها على مسامعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا غير متصوَّر بطبيعة الحال! جاء فى تفسير القرطبى أثناء كلامه فى الآية 25(1/115)
من سورة "الأنعام" عن ابن عَبَّاس: أن المشركين "قَالُوا لِلنَّضْرِ بن الْحَارِث: مَا يَقُول مُحَمَّد؟ قَالَ: أَرَى تَحْرِيك شَفَتَيْهِ وَمَا يَقُول إِلا أَسَاطِير الأَوَّلِينَ مِثْلمَا أُحَدِّثكُمْ عَنْ الْقُرُون الْمَاضِيَة، وَكَانَ النَّضْر صَاحِب قَصَص وَأَسْفَار، فَسَمِعَ أَقَاصِيص فِي دِيَار الْعَجَم مِثْل قِصَّة رُسْتُم وإسفنديار فَكَانَ يُحَدِّثهُمْ". وقد أتاها هذا "البطلان" من موقف المشركين نفسه لا من شىء آخر كما قلنا، إذ كانوا يقصدون باستعمالها أن يقولوا إن ما يتلوه محمد ليس وحيا نزل من عند الله، بل هو كلام منقول عن السابقين مسطورٍ فى الكتب ويُتَعلَّم تعلّما ويستطيع أن ينسخه من يريد. فتكذيبهم بالوحى هو الذى خلع، من حيث الواقع العملى، على الكلمة معنى "البطلان"، وإلا فلو كانوا يقصدون أن يتهموا آيات القرآن بأنها قصص باطلة لا أساس لها لقالوا مثلا: "خُرافات" أو "أحاديثُ خُرافة".
(1/116)
وقد تعلق أركون بهذه الكلمة وعضّ عليها بالنواجذ ليصف بها القرآن الكريم بعد أن أعطاها المعنى الذى نستعملها به الآن، وهو معنى "الخرافة" كما سنوضح لاحقا، فلما هاجمه بعض الكتاب المسلمين الذين يغارون على دينهم وعلى الحقيقة التى يمثلها هذا الدين فى أصفى مجاليها وتجلياتها وأظهروا سخف ما صنع، أخذ يتمحّك قائلا إن المسؤول عن ذلك الالتباس هو د.عادل العوا (مترجم كتابه "الفكر العربى"). كما زعم فى محاضرة له بدمشق ضمن نشاط "أيام الفرنكفونية" أنه قد وقع بينهما خصام ومشادة بسبب ترجمته لعبارة "كتاب قصصى" بـ"كتاب أسطورى"! (انظر مقال أنور بدر فى صفحة "أدب وفن" من صحيفة "القدس العربى" اللندنية/ الجمعة 26 مارس 2004م). وهذا كلام عجيب لا يجوز ولا فى عقول البُلْه، إذ الدكتور العوا لم يصنع شيئا أكثر من أنه ترجم الكلمة التى استعملها أركون فى وصف القرآن مرارا وتكرارا فى كتبه ومقالاته وحواراته المختلفة، ألا وهى كلمة "un mythe, mythique"، التى لا تعنى ولا يمكن أن تعنى إلا "أسطورة، أسطورى" حسبما ترجمها العوا. ترى ماذا كان د.أركون يريد من الأستاذ المترجم؟ أكان يريد منه أن يلغى عقله وضميره حتى لا يكشف للقارئ العربى المسلم هذه العورة الفكرية؟ لكن ما الذى أدرى العوا بأن أركون لا يريد أن يعرف ذلك القارئ بهذا الذى يقوله فى القرآن؟ أكان يشمّ على ظهر يده؟ أتراه كان كاهنا، فهو يطلع على الغيب ويعرف مقدما أن د. أركون سوف يغضب من هذه الفضيحة غير المقصودة؟ جاء فى حوار أجراه محمد البنكى مع د. أركون فى عدد 6 يناير 200م من مجلة "أوان" التى تصدرها كلية الآداب بجامعة البحرين إشارة إلى ما كان الكاتب الجزائرى المتفرنس قد قاله فى كتابه الذى ترجمه عادل العوا: "الفكر العربى"، وهو أن "The Quran is a discourse with mythical structure"، ونقله العوا إلى لغة الضاد قائلا: "القرآن خطابٌ أسطورىُّ البنية"، وهى ترجمة سليمة ودقيقة ولا(1/117)
يمكن أن ينتطح فيها عنزان، أو حتى يتصارع دِيكان! وقد ادعى أركون أن هذه الترجمة خاطئة، إذ القرآن يميز (حسبما قال) بين الأسطورة والقصص، فالكتب الدينية، وكذلك الفلسفية، تعتمد القصص والاستعارات والمجازات والرموز لقديم الحقائق والتعاليم الدينية بصورة أدبية، فكيف تترجم هنا بـ"الأسطورة"؟ هكذا يقول ويتساءل كاتبنا الأمين، وقد ارتسمت براءة الأطفال فى عينيه الجريئتين، وكأن الدكتور العوا قد اخترع كلمة "الأساطير" من لدنه وألبسها النص بعد أن لم تكن فيه! الواقع أن الدكتور أركون هو الذى يريد أن "يُلبسنا العِمّة"! لكن للأسف "خَرَجَتْ آوِتْ" يا دكتور! فالمعاجم الفرنسية، وكذلك المعاجم الفرنسية – العربية، تُجْمِع على أن معنى "mythe" هو "أسطورة، خرافة، وهم، تُرَّهة، شخص أو شىء خرافى" كما جاء بالنص فى معجم "المنهل" لجبور عبد النور وسهيل إدريس مثلا، ويؤيد ذلك ما أورده بتوسعٍ كلٌّ من "petit Larousse en couleurs" و"Grand Larousse encyclopedique" و"La Grande Encyclopedie (Larousse)" فى شرح الكلمة ذانها. فأين تهرب يا دكتور أركون؟ أما زلت مصرا على أن الغلط هو من صنع العوا؟ أهذا هو المنهج العلمى الذى تصدغ أدمغتنا بأنك جئتنا به لتعلمنا من خلاله كيف ندرس القرآن؟ يا رجل، إنك لا تقبل ما يقوله الإسلام من أن الوحى وما يتضمنه من عقائد وأخلاق وتوجيهات هو من الله، بل تنحاز إلى تفسير علماء النفس واللغة والأنثروبولوجيا له على أنه نتاج "الذات الجماعية الكبرى المعبرة عن مِخْيالٍ مصعَّد أو متسامٍ" (فى كتابك "الإسلام- أوربا- الغرب"/ ترجمة حبيبك وحواريّك ومروّجك فى السوق العربية د. هاشم صالح/ دار الساقى/ بيروت/ 1995م/ 112)، كما قلت إن الأديان (ومنها بل على رأسها الإسلام بطبيعة الحال لأنه هو المقصود بكلامك وانتقاداتك أولا وآخرا) تقوم على المعرفة الأسطورية لا العلمية (نفس المرجع/ 75)، فأنت إذن تضع "الأسطورى" فى مقابل(1/118)
"العلمى"، مثلما وضعته (فى كتابك "تاريخية الفكر العربى الإسلامى") فى مواجهة "العقلانى" (ترجمة هاشم صالح/ مركز الإنماء القومى ببيروت، والمركز الثقافى العربى بالدار البيضاء وبيروت/ 1998/ 16- 17). كما دعوتَ إلى وضع إستراتيجية تربوية لأكبر عدد من البشر تكون مهمتها "تغيير عقو ل الناس وتفكيك الأراء اللاهوتية القديمة والراسخة فى الذهن أبًا عن جَدّ منذ مئات السنين"، أى استبدال التفسير الأنثروبولوجى بالنظرة القديمة التى تقوم على الإيمان بالوحى الإلهى، وإن غلب عليك التشاؤم فقلتَ إن "الإنتاج المِخْيالى للمجتمعات البشرية والتأسيس الاجتماعى للروح والفكر يستمران فى الهيمنة سوسيولوجيا وسياسسيا"، وإن "التجليات التقليدية للأديان سوف تظل لوقت طويل وسائل جبارة للتعبئة الاجتماعية، وسوف تستمر التصورات التقليدية الموروثة عن الأنظمة اللاهوتية فى تحريك ملايين البشر" (القرآن من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الدينى/ ترجمة وتعليق هاشم صالح/ دار الطليعة/ بيروت/ 2001م/ 78- 79/ هـ1). بل لقد وصفتَ كلام القرآن الكريم عن زيارة إبراهيم عليه السلام لمكة بأنه "خيال اسطورى" لا علاقة له بالتاريخ الحقيقى (الإسلام- أوربا- الغرب/ 75- 76). وهذا موقف طبيعى جدا ممن يؤكد أن "الوظيفة النبوية والخطاب الذى يوضحها أو يجسدها لا يمكنهما ممارسة فعلهما إلا داخل سياق معرفى ومؤسساتى يفضل الأسطورة على التاريخ، والروحى على الزمنى، والعجيب المدهش أو الساحرالخلاب بصفته بنية أنثروبولوجية للمخيال على العقلانى الوضعى" (القرآن من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الدينى/ 86). وبالمناسبة فإن كاتبنا يأخذ على طه حسين أنه لم يطبق النظرية الأنثروبولوجية الخاصة بالمعرفة الأسطورية حين نفى زيارة الخليل إبراهيم لمكة هو أيضا فى كتابه "فى الشعر الجاهلى"، الذى صدر سنة 1926م (المرجع السابق/ 75). ونحب أن نعرّف د. أركون أن رائده المصرى لم يقصّر كما(1/119)
ظن (وبعض الظن إثم)، فقد قام بالواجب وزيادة، إذ قال عن هذه الزيارة وبناء الخليل عليه السلام للبيت الحرام هناك إنها ليست إلا أسطورة يهودية استغلها العرب لأسباب سياسية (فى الشعر الجاهلى/ مطبعة دار الكتب/ 1926م/ 28-29). ليس ذلك فقط، بل إنه زعم أيضا نفس الزعم الذى ينحاز إليه أركون، إذ قال إن الدين لم ينزل من السماء، وإنما نبع من الأرض، فهو نتاج اجتماعى، وإن الجماعة حينما تعبد الله فإنما تعبد (أو فلنقل: تؤله) نفسها (انظر كتابى "معركة الشعر الجاهلى بين الرافعى وطه حسين"/ مطبعة الفجر الجديد/ القاهرة/ 1976م/ 24). لكن يبدو أن معرفة د. أركون بالموضوعات التى يتحدث عنها هى معرفة ضحلة، ومن ثم فهو يحاول أن يغطى على هذا العوار المعرفى بكثرة ترديد المصطلحات الفارغة التى يحسب أنها قادرة على إرباك عقولنا ودفعنا إلى الإقرار بأستاذيته والاستسلام لما يهرف به. مسكين، ورب الكعبة! ثم إن درويشك وقرة عينك ولاعب الدور الأكبر فى تسويقك بين العرب "هاشم صالح" يا د. أركون قد ترجم كلمة "mythe"، فى كل مرة رآك تستخدمها، بـ"الأسطورة"، فلماذا قبلتَها منه ولم تتشاجر معه كما فعلت، أو تدَّعى أنك فعلت، مع د. عادل العوا لو كنت صادقا فى إنكارك على هذا الأخير؟ ألا ترى أنك تتخبط على غير هدى؟ من حقك أن تقول ما تشاء فى القرآن، سواء كان ذلك بعلم أو بجهل، لكن ليس من الحق ولا مما يتسق مع نبل العلم وجلاله أن يلجأ أحد ممن ينتسب للعلماء إلى أسلوب الحواة الذين يلاعبون المغفلين لعبة الـ3 ورقات! إذا كنت تظن أن عندك عقلا فالناس أيضا عندها، والله العظيم، عقول وذكاء قد يفوقان عقلك وذكاءك! ثم هذا هو درويشك وتابعك يقول فى موضوع الأساطير إن "عقلية الناس فى القرون الوسطى كانت ميالة إلى تصديق الحكايات الأسطورية بسهولة، ولم تكن تستطيع أن تميز بين ما حقيقى وما هو أسطورى كما نفعل اليوم، فينبغى ألا نُسْقِط عليهم عقليتنا المعاصرة، وإلا فلن(1/120)
نفهمهم. ولذلك نرى الطبرى يستتشهد بالحكايات الأسطورية الرومانية للبرهنة على صحة ما ورد فى القرآن من قصص! ولا يشعر القارئ بأى تناقض إذ يفعل ذلك. وحتى الحكايات التى رواها عن النبى موسى معظمها أسطورى ولا علاقة له بالحقيقة التاريخية. وأما جلجامش، الذى هو بطل الملحمة الآشورية- البابلية الشهيرة بنفس الاسم، فإنهم ينظرون إليه وكأنه شخصية واقعية أو تاريخية. ينبغى ألا ننسى أن الأديان التوحيدية ظهرت فى منظقة غنية بالأساطير والأديان القديمة من مصرية وبابلية وآشورية..." (القرآن من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الدينى/ 163 فى الهامش). ألا تزال تظن أن بإمكانك المراوغة؟
(1/121)
ولقد حاول د. أركون أن يوحى لنا بأن المقصود هو اعتماد القرآن فى أسلوبه على القصص والاستعارات والمجازات والرموز. لكن هذه أيضا لعبة مكشوفة وسقيمة، فالعب غيرها من فضلك، فالقرآن لا يعتمد دائما على هذه الأدوات، إذ هناك التشريعات والتوجيهات الأخلاقية، وجانب كبير من العقائد أيضا، فأين المجاز أو القصص فيها؟ وحتى مع إدخال القصص والمجازات والاستعارات فى هذا المجال، أيمكن أن يعنى هذا أن بنية القرآن هى بنية أسطورية؟ ثم لماذا يقال هذا فى القرآن وحده، على حين أن الأدب يعتمد كثيرا على هذه الأدوات، ولم يقل أحد ولا حتى كاتبنا الهمام إنه أسطورى البنية؟ إن الناس جميعا يدركون الفرق بين الأسطورة والمجاز والقصص، إلا أن أركون يتعمد خلط الأوراق رغبة منه أن يربكنا ويشتت انتباهنا فلا نستطيع أن نرى يديه وهما تغيران الورقة التى تربح من بين الورقات الثلاث بورقة لا تربح! لكن الحاوى المسكين لا يدرى أنه قد جاء يبيع الماء قى حارة السقائين الذين لا يَرُوج بينهم سقّاء مبتدئ لم يتعلم الصنعة على أصولها! لو أنك قلت لنا منذ البداية فلربما كنا عهدنا بك إلى أحد صبية الحارة ليعلّمك كيف تحمل القربة وتدور بها فى الشوارع وتنادى على الماء بطريقة منغمة تصغو إليها الآذان وتنفتح لها القلوب، وكيف تُفْرِغ الماء فى الأزيار والطُّسُوت والقُلَل والأباريق دون أن تريقه على الأرض أو تبلّ به ملابسك وتجعل من نفسك أضحوكة الحارة! ما كل من ذهب لفرنسا، حتى لو أعطاه المستشرقون درجة الدكتورية ورَقَّوْه وجعلوه منه بروفيسيرا وعيَّنوه فى السوربون، يصلح أن يكون سقّاء أو حاويا فى حارتنا أُمّ البِدَع! فهذه نقرة، وتلك نقرة أخرى! وفى النهاية هأنتذا تقول فى موضع آخر، وبعَظْمَة لسانك أيضا، إن ترجمة الجملة السابقة التى وردت فيها كلمة "أسطورة" وعِبْتَها على د. العوا هى ترجمة "صحيحة وسليمة لغويا" (تاريخية الفكر العربى/10). وهذا نص كلامك كاملا:(1/122)
"فعندما يقرأون ترجمة جملة كهذه: "Le Coran est un discours de nature mythique"، أى "القرآن خطاب أسطورى البنية" كما جاء فى ترجمة الدكتور عادل العوا، فإنهم يصرخون ويدينون... فى الواقع إن الترجمة صحيحة وسليمة لغويا، إلا أن مفهومات "خطاب" و"أسطورة" و"بنية" لم يفكَّر فيها بعد كما ينبغى فى الفكر العربى المعاصر. ولن تؤدى المناقشة إلى أية نتيجة إذا ما تمسك هذا الطرف المذكور بأحكام فقه اللغة التقليدى والتاريخ الروائى- الخَطّىّ واستخدام القرآن لمفهوم الأسطورة". طبعا علينا أن نلغى عقولنا والمعاجم التى بين أيدينا وما اصطلح عليه الناس فى استعمالاتهم اللغوية وننسى ما شرح به د. أركون نفسه معنى "الأسطورة" كما رأينا، ونصدق هذه البهلوانيات. وفوق ذلك كله علينا أن نمسح من ذاكرتنا أنه هو ذاته قد خطّأ عادل العوا فى هذه الترجمة التى يؤكد الآن أنها صحيحة وسليمة لغويا. مسكين أركون! يظن أنه أذكى من الناس مع أنهم قد يفوقونه ذكاء وانتباها! كما يظن أن فى مستطاعه اختراع عربية وفرنسية جديدتين غير اللتين نعرفهما ويعرفهما معنا أصحابهما! وبالمناسبة فإن كلمة "الأساطير" ليست استخداما قرآنيا كما يزعم أركون فى النص الذى فرغنا منه لتونا، بل هو مجرد حاكٍ لما كان الكفار يقولونه. وهذا يذكرنى بما قاله الحاطبُ فى حبله وحبل أمثاله خليل عبد الكريم، إذ زعم هو أيضا أن القرآن الكريم سمَّى أتباعَ نوح بـ"الأرذلين"، مع أن أى طفل صغير قرأ القرآن يعرف تمام المعرفة أن الذى قال ذلك إنما هم الطائفة الكافرة من قوم ذلك النبى الكريم لا القرآن. وقد رددتُ عليه وأشبعتُه ما يحتاجه من تقريعٍ جرّاءَ هذا الجهل الفاضح الذى ارتكبه، وهو الذى لا يريحنا من ثرثراته وطنطناته البغيضة الثقيلة عن المنهجية والعلمية والتوثيقية والمهلَّبية والألماظية والملوخية، وكذلك "الفاصوليّة" (كما ينطقها إخواننا فى السعودية)، والذى سُقْتُ من الأدلة القوية ما يجعلنى(1/123)
أستبعد أن يكون هو مؤلف الكتب التى تحمل اسمه. وهو ما يجده القارئ فى كتابىّ: "لكن محمدا لا بواكىَ له- الرسول يهان فى مصر ونحن نائمون"، و"اليسار الإسلامى وتطاولاته المفضوحة على الله والرسول والصحابة"، الذى كتب هو نفسه عنه عَرْضا فى مجلة "أدب ونقد"مدح فيه العبد لله مدحا لم يمدحنيه أشد الناس حبا لى، ورفعنى للسماء السابعة وجعلنى أوحد زمانى فى الأستاذية، ثم استغفلنى وكتب فى عنوان المقال أن اسم الكتاب هو: "اليسار الإسلامى وتطوراته..." (هكذا بالنص! فانظر، أيها القارئ الكريم، التدليس على أصوله، وكيف يمارسه جَنَابه عينى عينك، مغيرا "تطاولاته" إلى "تطوراته"، وحاذفا بقية الكلام مع الاستعاضة عنها بثلاث نقاط، حتى إذا ما اعترضتُ عليه ادعى أن "تطوراته" هى مجرد غلطة مطبعية، والقلم يغلط يا أخى كما يقولون عندنا فى القرية!).
(1/124)
خلاصة القول أن د. أركون قد أخذ كلمة "الأساطير" التى استعملها المشركون فى تكذيب النبى عليه السلام، ثم أفرغها من محتواها اللغوى القديم وأعطاها معنى الخرافة، وهو المعنى الذى شاع لها الآن ولم نعد نفكر فى غيره، فضلا عن أن نقصده. ثم لم يكتف الدكتور بهذا على فداحته، بل ادعى أنه لا يستعمل هذه الكلمة بالمعنى السئ الذى استعملها به القرآن. وكل دعاواه، كما وضحتُ ورأَى القراءُ معى، هى دعاوى غير صحيحة. كما أنه حريص على تغيير المصطلحات الإسلامية بمصطلحات أنثروبولوجية وألسنية كى يتسلل كالثعلب إلى عقول قرائه المسلمين المقصودين بكل هذه "الهيصة" التى يحدثها هو ودرويشه المنقطع له فلا يثيرهم شىء من انتقاده وتكذيبه للوحى. وقد تناول هاشم صالح هذه النقطة، ولكنه تمحك بالمنهجية والحيادية العلمية فقال فى أحد تعليقاته إن "أركون يستخدم مصطلحات ألسنية محضة للتحدث عن القرآن، فهو يقول: "المنطوقة" أو "العبارة اللغوية" بدلا من "الآية القرآنية"، ويقول: "المدوَّنة النَّصِّيّة" بدلا من "القرآن"...إلخ. وسبب ذلك هو أنه يريد تحييد الشحنات اللاهوتية التى سرعان ما تستحوذ على وعينا عندما نتحدث عن القرآن. فالقداسة اللاهوتية أو الهيبة اللاهوتية العظمى التى تحيط بالقرآن منذ قرون تمنعنا من أن نراه كما هو، أَىْ نَصّ لغوى مؤلف من كلمات وحروف وتركيبات لغوية ونحوية وبلاغية... بمعنى آخر إن المادة اللغوية للقرآن اختفت تماما أو غابت عن أنظارنا بسبب الهيبة العظيمة التى تحيط به. وميزة القراءة الألسنية هى أنها تحيِّد الهيبة، ولو للحظة، من أجل فهم التركيبة النصية واللغوية للقرآن" (القرآن من التفسير الموروث إلىتحليل الخطاب الدينى/ 119 فى الهامش). والذى يسمع كلام صالح دون أن تكون عنده فكرة عن حقيقة الأمر سوف يظن أنه، فى الوقت الذى يتحدث أركون عن القرآن وهو متمالك قواه العقلية والمنطقية، إذا بواحد مثلى ينخرط أثناء الرد عليه فى فاصل(1/125)
لا ينتهى من النهنهات والشهقات والتأوهات ولطم الخدود والرقص والتطوح والصراخ والزعيق كما يفعل المتواجدونن فى حلقات الذكر بسبب ماحدث له من "لُطْف وانجذاب" بتأثير من "الهيبة اللاهوتية الأنثروبولوجية المخيالية" التى تلغى العقل وتُشِلّ الفكر والمنطق، مع سيول من الدموع المنهمرة التى لا تُعَدّ الدموع التى ذرفتْها مريم فخر الدين فى جميع أفلامها مع فريد الأطرش والعندليب الأسمر شيئا بالقياس إليها، والتى استهلكتُ لها قناطير من ورق الكلينكس المستورد كَلَّفَتِ الخزانة العامة مقدارا هائلا من العملة الصعبة كان يمكن أن يُنْفَق على البرنامج الأركونى الهادف إلى تغيير المخيال الجماعى واستبدال "الخيبة" الألسنية بـ"الهيبة" اللاهوتية حسبما مر منذ قليل! وبهذا نكون قد "فكَّكْنا" اللعبة التى أراد سيادته أن يضحك بها على ذقوننا ظنًّا منه أننا "برِيَالة"، وعليه هو أن يلُمّ قِطَعها ويركّبها من جديد إن استطاع! أقول: "فكّكنا" رغم كراهيتى لهذا المصطلح لما أعرفه عمن يستخدمونه من بيننا والنيات التى يضمرونها من وراء هذا الاستخدام! ولا تنس أن تسلِّم لى على "المخيال الجماعى"، ودَعْك من "الهيبة القرآنية"، فهى لا تُؤَكِّل عيشا فى هذا العصر الأركونى!
هذا، وأكرر ما سبق أن قلته من أن كلمة "أساطير" لا تعنى "الباطل" فى أصل اشتقاقها، وأنها إن كانت تعنى هذا فى كلام المشركين فهو من أثر موقفهم المتعنت من رسول الله عليه الصلاة والسلام وتكذيبهم له واتهامهم إياه بأنه إنما يتلو عليهم قصص الأولين المسطورة فى الكتب لا وحيا إلهيا. وإذا كنتُ قد سقتُ قبلا الأسباب التى حاجَجْتُ بها عن هذا الفهم، فهأنذا أضيف لما قلته شواهد من الشعر العربى وردت فيها هذه الكلمة بالمعنى الذى شرحته، وليس فيها معنى "البطلان". قال أُحَيْحَة بن الجلاح:
فلم يتركا إلا رسوما كأنها * أساطير وحىٍ فى قراطيس مُقْتَرِى
أى سطور كتاب فى يد قارئ. وقال ابن الرومى:
(1/126)
سطَّر العابثون فيها أساطيـ*ــــــــــــــــــر عَفَتْ متنها فما يُسْتبان
أى سطورًا امَّحَتْ، فلم تعد ظاهرة للعيون. وقال ابن الزقاق البلنسى:
سِيَرٌ تذكِّرنا أساطير الأُلَى * كانوا الدعائم فى الزمان الأولِ
وقال الشريف الرضى:
تمحو أساطير الخطوب كما محا * مَرّ الشمال من الغمام المثقلِ
أى ما خَطَّتْه الشدائد. وقال مهيار الديلمى:
نشرْتَ أساطير الكرام فشوهدَتْ * أخابير كانت تُستراب مع النقلِ
أى ما كُتِب عنهم وعن كرمهم. يقصد أنه بكرمه قد أعاد إلى واقع الحياة ما كان الناس يسمعونه عن الكرام السابقين مجرد سماع، فأصبح أمرا يشاهده المشاهدون لا كلاما يسمعونه دون معاينة. وقال ناصيف اليازجى:
سواد الليالى فى بياض نهارها * أساطير لا تُقْرَا لهنّ حروف
وقال نقولا الترك:
بدا عذار النهار فى سعد طلعته * يحكى أساطير "بسم الله" فى الصحفِ
ولذلك فعندما أراد رفاعة الطهطاوى، فى كتابه "تخليص الإبريز"، أن يترجم مصطلح "mythologie"، الذى سمع به لأول مرة فى حياته فى عاصمة الفرنسيس لم يستخدم كلمة "أساطير"، بل قال ببساطة إنه "علم جاهلية اليونان وخرافاتهم" (المطبعة الأميرية ببولاق/ 1265هـ/ 164)، وهى الكلمة التى قلتُ إن الكفار كان ينبغى أن يستعملوها لو أنهم كانوا يقصدون أن الآيات التى يتلوها عليهم الرسول عليه السلام هى قصص خرافية باطلة بالمعنى الذى نفهمه نحن الآن من كلمة "أسطورة". كذلك حاولتُ أن أجد كلمة "أسطورة" بين موادّ "دائرة معارف البستانى" فلم أجد إلا مادة بعنوان "خرافة: superstition"، ذكر فيها كاتبها أن المترجمين قد عرَّبوا مصطلح "ميثولوجيا" بـ"الخرافة"، ثم أضاف أن "خرافةَ رجلٌ من بنى عذرة استهوته الجن على زعم بعضهم، فلما رجع أخبر بما رأى فكذّبوه حتى قالوا لما لا يُصَدَّق من الأحاديث: "حديث خرافة". وعليه قول بعض الجاهليين:
حياةٌ ثم موتٌ ثم نشرٌ * حديث خرافةٍ يا أم عَمْرِ"
(1/127)
(دار المعرفة/ بيروت/ 7/ 356- 257). أما فى مقدمة سليمان البستانى للترجمة التى عملها للإلياذة فقد تحدث عن "أساطير" العرب وأخلاقها وعاداتها وآدابها فى الجاهلية، كما وصف كلامهم عن أول من نظم الشعر عندهم وهل هو عاد أو ثمود أو حِمْيَر قائلا إن هذا مما لا يتجاوز "الأساطير" الموضوعة ويأباه العقل ويعجز النقل عن إثبات شىء منه" (إلياذة هوميروس منظومة شعرا/ دار المعرفة/ بيروت/ 1/ 7، 108). كذلك نجد عند محمد فريد وجدى فى "دائرة القرن العشرين" (مادة "سطر") أن "أساطير الأولين" هى "ما سطروه من أعاجيب أحاديثهم، وهو جمع "إسطار"، وقيل: "جمع "أسطورة"، وهى ما يعبر عنه الأوربيون بالميتولوجيا" (دار الفكر/ بيروت/ 5/ 128). كما تحدث العقاد عن موضوعنا هذا فى مقال له بعنوان "آراء فى الأساطير" كرر فيه ذكر هذا المصطلح مرارا، وإن كان قد ترجم عنوان كتاب "Myth and Science" لـ Vignoli الإيطالى بـ"الخرافة والعلم" (الفصول/ المكتبة العصرية/ بيروت/ 34- 35. وقد صدر هذا الكتاب للمرة الأولى فى 1922م). وبالمناسبة فما زال من الكتّاب إلى وقت غير بعيد من يقول: "أسطورة" للـ"legend"، أما الـ"myth" فيقول عنها: "ميثة" كما فى قاموس "المعجم الأدبى" لجبور عبد النور. ومن ثم كان كل من عبد الله يوسف على (فى ترجمته الإنجليزية للقرآن) ود. ماسون (فى ترجمتها الفرنسية) موفقا كل التوفيق فى ترجمة "أساطير الأولين" حين قال الأول: "tales of the ancients"، وقالت الثانية: "Anciens’des contes d" فى بعض المواضع، و"histoires racontees par les Anciens" فى المواضع الأخرى، فلم يخلعا على الكلمة شيئا من خارجها ليس لها فى الأصل.
(1/128)
والواقع أننى لا أدرى لم يحاول د. أركون أن يحدث كل هذا الضجيج حول الانتقادات التى وُجِّهت إليه بسبب استخدامه لمصطلح "أسطورة" للقرآن الكريم. أتراه يؤمن أن هذا الكتاب هو من عند الله؟ إن الرجل يعمل على التشكيك فى كل ما يتعلق بالقرآن: نصا وتاريخا وجمعا وتفسيرا وقدرة على أن يكون موضع استلهام للمسلمين فى محاولتهم النهوض من سباتهم كرة أخرى، فلم إذن هذه الضجة المستحدثة حول نقطة لا تقدم ولا تؤخر ما دام هذا موقفه من القرآن؟ تعالَوْا لنرى: إنه أولا يثير زوبعة حول إمكانية دراسة تاريخ النبى عليه السلام والوحى الذى كان ينزل عليه. لماذا يا ترى؟ يقول جَنَابه العالى إن "المعرفة التاريخية بـ"لحظة النبوة" أصبحت خارج نطاق إمكانياتنا إلى الأبد بسبب ضياع وثائق أولى أساسية كثيرة، ضياع لا مرجوع عنه ولا تعويض له" (الإسلام- أوربا- الغرب/ 115. وانظر كذلك كتابه "القرآن من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الدينى"/ 106 فى المتن والتعليق فى الهامش). كما يؤكد أنه ما من أمل أى أمل فى بعث المشروعية الإسلامية (أو "المشروعية التقليدية" كما يسميها على سبيل المراوغة)، وأن المشروعية الوحيدة الحقيقية والعادلة هى التى لا تدين بالولاء إلا للعقل الحر المستقل عن أى ولاء أو خضوع لهيئة أخرى تتجاوزه (الإسلام- أوربا- الغرب/ 115- 116). وهو ما يعنى فى حالتنا هذه رفض الوحى والنبوة المحمدية، إذ ليس الوحى والنبوة من نتاج العقل، بل آتيين من خارجه، وإن لم يكن فيهما بالضرورة ما يرفضه هذا العقل بعد التفكير والتمحيص السليم حسب اعتقادنا نحن المسلمين فى ديننا وفى النبى الذى أتى به. لكن ما هذه الوثائق التى يقول كاتبنا إنها ضاعت ضياعا أبديا، ومن ثم لم يعد بإمكاننا دراسة "لحظة النبوة" كما يسمى الرسالة المحمدية على طريقته فى تغيير المصطلحات وابتداع مصطلحات أخرى بديلة لا يثير انتقادُ مفاهيمها، فيما يَتَصَوَّر، حساسيةً عند المسلمين؟ أليس(1/129)
القرآن بين أيدينا، وكذلك الأحاديث وكتب السيرة والتاريخ والنصوص الشعرية؟ بلى، بَيْد أن الدكتور أركون الذى لا يعجبه العجب يشكك فى النص القرآنى تشكيكا لم يشككه، فى حدود ما أذكر، أعتى المستشرقين والمبشرين كراهية لهذا الدين ونبيه والكتاب الذى أُنْزِل عليه، ودَعْنا من الحديث والسيرة وغيرهما، فما دام القرآن قد أصبح غير ذى موضوع من حيث الثقة به كوسيلة للاقتراب من فهم الرسول ورسالته، فإن أمر تلك الكتب لا يعود يساوى شيئا. أم تراه يقصد أنه كان للنبى عليه السلام متحف وطنى كانت محفوظة فيه وثائق الدولة التى لا يمكن الاطلاع عليها إلا بعد ثلاثين عاما من حفظها، ثم شَبَّ فيه حريق بيد فاعل مجهول من الذين يكثر أمثالهم فى بلادنا أيام جَرْد العُهْدة، أو أحرقه أزلام الاحتلال الأمريكى حين دخلوا المدينة "المنورة" بدباباتهم ومجنزراتهم حاملين معهم عملاءهم الذين ظلوا يزينون لهم احتلالها حتى اقتحموها ودمروها وقطعوا عنها الكهرباء وجعلوها "ظلاما فى ظلام"، ثم زادوا فكلفوا أزلامهم بحرق المتحف الوطنى وصيَّروا عاليه واطيه؟ أم تراه يقصد بالوثائق أفلاما تسجيلية صورها أعداء محمد فى الأوقات التى كان، عليه السلام، يقول إن الوحى يتنزل عليه فيها، وذلك لإثبات أنه لا وحى ولا يحزنون (وإلا فلماذا لم يظهر جبريل ولا فى لقطة واحدة فى فلم من هذه الأفلام؟)، ثم تنبَّه النبى لهذه الأفلام وخطرها على دعاواه فأوعز لرجاله أن يحرقوها حتى لا تقع فى يوم من الأيام بعد أربعة عشر قرنا فى يد رجل ينتسب إلى أمته، ويوافق اسمُه اسمَه، وتخالف سُنّتُه سُنّتَه، وآخر لقبه "واو" و"نُون"، ويربّيه المستشرقون، وينفر منه المسلمون، ويعيش فى مدينة اسمها " عنتريس؟ هردميس؟ دردبيس؟ فسافيس؟ مهاويس؟ متاعيس؟ هاديس؟ سنتريس؟"، حاجة كذا تنتهى بـ"إيس" (آخْ! بَسْ، بَسْ! أتقول: "سنتريس"؟ عرفتُها، عرفتُها: "باريس!"، إذ كثيرا ما ربط زكى مبارك بين قريته "سنتريس"(1/130)
و"باريس" التى حصل منها على الدكتورية! والرجل الذى آخر لقبه "واو" و"نون"، هو "أركون")، ويحاول عن طريق التفكيكية والأركيولوجية والأنثروبولوجية والفينومونولوجية والجوهرانية والبسبسانية أن يَفْتِش الحقيقة ويبين أنه لم يكن ثمة وحى ولا نبوة ولا يحزنون؟ (ولا تسألونى: ما البِسْبِسانية؟ فهى من غريب لغة القطط، فاسألوا أولاد وبنات نَوْنَوْ، ولا تسألونى أنا)، لكنْ أية وثائق "أولى" و"أساسية" و"كثيرة" تلك التى تتحدث عنها يا دكتور؟ أأنت جاد فيما تقول؟ لقد أضحكتنى فى هذه الأيام السوداء التى تمر بها أمة محمد (لا يا دكتور. حاسِب، حاسِبْ، لا أقصد "أمة محمد" أركون، بل "أمة محمد" بن عبد الله الذى تشكك فيه وفى دينه والقرآن الذى نزل عليه، ظنًّا منك أنك ستفعل ما لم يستطعه أحد من أعداء الإسلام، من الوثنيين والشيوعيين واليهود والنصارى وعبّادِ الشياطين وعبّادِ البقر وعبّادِ الخنافس والثعابين وعبّاد ما لا أدرى ماذا أيضا (وكذلك عبّاد ما أدريه، ولكنه لا يقال على الملإ) على مدى أربعة عشر قرنا، ألا وهو تدمير الإسلام، انخداعا بالزَّلَمَة الذى باع لك ترام العتبة ومبانى الميدان كلها بما فيها المطافئ وقسم الشرطة ( كما فعلوا مع إسماعيل يس فى فلم "العتبة الخضراء")، وأخذ يتخيل ويحلم أنه سيأتى الوقت الذى يتبين فيه أن الفكر الإسلامى والعربى بعد أركون شىء آخر مختلف تماما عن الفكر الإسلامى والعربى قبل أركون، أو بعبارته هو: "ربما راح هذا العمل يشطر تاريخ الفكر الإسلامى، وبالتالى العربى، إلى شطرين: ما قبل أركون، وما بعد أركون"! (انظر كتاب أركون: "الفكر الإسلامى- نقد واجتهاد"/ ترجمة وتعليق هاشم صالح/ دار الساقى/ لندن/ 1990م/ 230). يا حفيظ! شف يا أخى الرجل ومطاويه. و"المطاوى" فى العامية المصرية هى الدعاوى العريضة التى لا يصدقها عقل!). أما إن كنت تقصد بالوثائق الضائعة نُسَخَ القرآن التى تخلص منها المسلمون على عهد عثمان(1/131)
درءًا للفتنة، فقد فاتك، لكونك قليل البضاعة من العلم بالموضوع الذى تتناوله رغم كل الطنطنات والمصطلحات العجيبة التى تكثر منها، أن كتب علوم القرآن، وبخاصة تلك التى تتناول تاريخه وطريقة جمعه، قد احتفظت لنا بأشياء كثيرة جدا جدا من المعلومات المتعلقة بهذا الموضوع بصراحة تامة. ليس هذا فحسب، بل إن تلك الكتب قد أوردت حتى القراءات الشاذة والقراء الذين كانوا يقرأون بها... إلخ دون أدنى حرج، اللهم إلا إذا كان د. أركون يقصد بالوثائق المذكورة شيئا آخر، وهو ما لا أستطيع إزاءه شيئا لأنى لا أُنَجِّم ولا أضرب الودع! ومن هذه الكتب، إذا أحب أن يرجع إليها: "تاريخ القرآن" للزنجانى، و"البرهان فى علوم القرآن" للزركشى، و"الإتقان فى علوم القرآن" للسيوطى، و"مناهل العرفان فى علوم القرآن" للزرقانى، و"الجمع الصوتى الأول للقرآن الكريم" للدكتور لبيب السعيد، و"مباحث فى علوم القرآن" للدكتور صبحى الصالح.
(1/132)
إن أركون يزعم أن ثمة تلاعبات قام بها العقل الإسلامى فى النص القرآنى أثناء "المرور من حالة الكلام الشفوى إلى حالة الكلام المكتوب...وهذا ما فعله أيضا ناشرو السيرة النبوية كابن هشام (مات عام 213 أو 218هـ/ 828 أو 833م)" (تاريخية الفكر العربى الإسلامى/ 85)، كما يزعم أنه لم يحدث "إجماع، بعد فترة طويلة من الاحتجاج والاختلاف، على شكل ومضمون النص القرآنى، الذى انضم إليه مؤخرا الحديث النبوى المُنْجَز من قِبَل البخارى ومسلم بالنسبة للسنيين، ومن قِبَل الكلينى بالنسبة للشيعيين" إلا فى القرن الرابع الهجرى (المرجع السابق/ 95). وبالمثل نراه يدّعى "أن المسلمين يرفضون منذ القرن العاشر الميلادى (أى منذ القرن الرابع الهجرى الذى قال إنهم قد أجمعوا فيه أخيرا على نص واحد للقرآن كما رأينا) أن يفتحوا تلك الإضبارة الشائكة المتعلقة بتاريخ تشكل المصحف الرسمى، أو بكيفية تشكل هذا المصحف الرسمى تاريخيا" (الإسلام- أوربا- الغرب/ 79). ولكن أية تلاعبات تلك التى تعرَّض لها النص القرآنى؟ كنا نحب لو أفصح الدكتور حتى نكون على بينة مما يقول ومما ينبغى أن نناقشه، لكنه للأسف لم يحاول أن يبصرنا بما يقصد! وأنا، فى الواقع، لا أستطيع إلا أن أرى فى هذا حيلة ماكرة (حسبما قدَّر، وإن كانت مكشوفة بل مفضوحة عندنا) لإيهام القارئ المسلم أن المسألة من الوضوح والبيان بحيث لا تحتاج لأى تحديد أو تفصيل! والعجيب أنه يحدد القرن الرابع الهجرى، ولا أدرى على أى أساس ما دام قد أقر قبل ذلك بعدة أسطر بأن عثمان، رضى الله عنه وأرضاه، قد استطاع أن يضع حدا للخلاف فى قراءة القرآن فى فترة خلافته، أى بعد الهجرة بسنوات لا بقرون أربعة كما يحاول الكاتب الأمين أن يلقى فى رُوع قرائه! على أنه لا بد أن نوضح للقارئ الذى لا إحاطة له بمسألة جمع القرآن أن الحديث عن الخلاف فى قراءة القرآن لا يعنى أكثر من أن الرسول قد أخبر المسلمين بنزول القرآن الكريم على(1/133)
سبعة أحرف، إذ رُوعِىَ أن الأغلبية الساحقة من العرب آنذاك كان يصعب عليهم أن يتبعوا فى نطقه لهجة واحدة إذ لم يكن لهم قبل الإسلام دولة تضم شتاتهم ولها لغة رسمية يتبعها الجميع. ثم لما تحققت هذه الوحدة فى ظل الإسلام وترسخت مع الأيام، وأصبحت هناك لغة رسمية واحدة لهذه الدولة، رأى الخليفة وكبار الصحابة أنه لم تعد هناك حاجة للحروف السبعة إلا فى أضيق نطاق، كجمع كلمة أو إفرادها مثلا مما تحتمله الطريقة التى كُتِب بها القرآن وتواترت به الروايات، وإلإبقاء على الهمزة أو تسهيلها، وإخلاص المد بالألف أو إمالته، وهو ما يعرف الآن بالقراءات القرآنية، وهى مسألة محسوبة ومقنَّنة وتم مراعاتها فى طريقة كتابة المصحف التى تسمح بالنطقين عادةً دون أية مشاكل. هذه هى حقيقة المسألة التى يتعمد د. أركون أن يكون حديثه عنها مملوءا بالغموض كى يوحى للقارئ أنه بإزاء قضية خطيرة، وما هى بالخطيرة ولا يحزنون. أما بالنسبة للتلاعب الذى يزعم أنه قد وقع فى النص القرآنى عند انتقاله من المرحلة الشفاهية إلى المرحلة الكتابية فهو كلام لا معنى له ولا وجود إلا على ألسنة من يريدون استبلاهنا، فالقرآن إنما تم تسجيله كتابةً منذ اللحظة الأولى إلى جانب حفظه فى الأذهان مما يجعل من المستحيل التلاعب فيه، وبخاصة فى ظل تقديس المسلمين التام له حتى لقد كان الواحد منهم يفزع أشد الفزع إذا سمع أحدا يقرأ على حرف غير الذى يعرفه، ولا يهدأ له بال إلا حين يتضح له أنه حرف صحيح نزل به أيضا القرآن الكريم، وحين تُوُفِّىَ الرسول عليه السلام قام الصحابة بجمعه فى كتاب واحد بعد أن كان مكتوبا لكن دون أن يشكل كتابا يضمه غلاف...إلى أن جاء عثمان ووجد أن بعض المسلمين لم يتنبهوا إلى الحكمة من "الأحرف السبعة" التى نزل بها القرآن فى البداية تيسيرا عليهم، وظنوا أن القراءة التى يقرأ بها غيرهم على حرف مختلف عن الحرف الذى يقرأونه به هى قراءة خاطئة، مما كان من الممكن(1/134)
أن تترتب عليه فتنة لا يعلم مداها إلا الله، فقام بعد استشارة كبار الصحابة بجمع المسلمين على حرف واحد من هذه الحروف تقريبا وألغى الباقى، وقام بهذا العمل، كالعادة فى كل جمع قرآنى، لجنة وضعت لنفسها منهجا علميا سارت عليه كما يعرف ذلك كل من قرأ تاريخ جمع القرآن، وبهذا انحسمت المسألة. لكن د. أركون يتجاهل هذا كله زاعما أن كتابة القرآن (مجرد كتابته: لاحِظْ) لم تحدث إلا فى عهد عثمان (انظر كتابه "الفكر الإسلامى- نقد واجتهاد/ ترجمة وتعليق هاشم صالح/ دار الساقى/ لندن/77). فانظر، أيها القارئ الكريم، الفرق بين ما حدث على أرض الواقع وبين ما يهوّل به الدكتور أركون، الذى لم أر، على طول ما قرأت للكتاب من مستشرقين وعرب، من يدانيه فى المقدرة على اللف والدوران حول الموضوع الذى يتناوله وإرهاق ذهن القارئ بإدخاله فى دوامة لا تكاد تنتهى من تفصيلاتِ تفصيلاتِ التفصيلات دون أن يصل به إلى شىء غير الطنطنة بأسماء العلوم الجديدة ومصطلحاتها، وعلى إحداث الفرقعات المخيفة تقليدا للطريقة التى اتبعتها أمريكا عند احتلالها العراق، طريقة "الصدمة والترويع". لكنْ فات الأستاذ الدكتور أن الرصاص الذى يطلقه فى الهواء هو من النوع الفِشِنْك الذى لا يصلح إلا للعب الصبيا
(1/135)
ثم نصل إلى حكاية الإجماع على النص القرآنى الواحد الذى يقول إنه لم يحدث إلا فى القرن الرابع الهجرى، وكأننا بإزاء مجامع مقدسة كالتى عرفتها النصرانية والتى كانت تبدِّل وتخترع العقائد والطقوس، وتحلّل وتحرّم كما يحلو لها، وكأن الدين مسألة سياسية تخضع للمؤامرات والتربيطات، وليس عقائد وتشريعات ومبادئ خلقية موحًى بها من الله، وينبغى الحفاظ عليها كما أُنْزِلت من لدنه سبحانه وتعالى. وأرجو ألا يظن القارئ أننى، بإشارتى إلى المجامع المقدسة، أعطى كلام أركون معنى أبعد مما يقصد، فهاهو ذا الدرويش التابع يقول بصريح العبارة تعليقًا على كلام شيخه الذى لا يقوم على رجلين: "القرآن لم يُثَبَّت كليا أو نهائيا فى عهد عثمان على عكس ما نظن، وإنما ظل الصراع حوله محتدما حتى القرن الرابع الهجرى حين أُغْلِق نهائيا باتفاق ضمنى بين السنة والشيعة، وذلك لأن استمرارية الصراع كانت ستضر بكلا الطرفين. بعدئذ أصبح معتَبَرًا كنَصٍّ نهائى لا يمكن أن نضيف إليه أى شىء أو نحذف منه أى شىء، وأصبحوا يعاملونه كعمل متكامل على الرغم من تنوع سوره واختلافها فيما بينها من حيث الموضوعات والأساليب" (محمد أركون/ القرآن من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الدينى/ 114- تعليق بالهامش). وهذا كلام ككلام السكارى لا قيمة له! هل رأيت سكران وهو يتطوح فى الخمارة ثم يسقط تحت الأقدام صائحا بملء فمه: "أنا جدع"؟ فهذا مثل هذا، وإلا فليقل لى أركون أو تابعه: أَنَّى لهما بهذا الكلام الذى لم يرد فى كتب الأولين ولا الآخرين؟ ومتى اتفق السنة والشيعة على ما اتفقوا عليه؟ وأين؟ ربما كان ذلك فى شقة الدكتور أركون وبحضور هاشم صالح فى تلك الجلسة التى نزل الدرويش بعدها إلى شوارع باريس يستعجل فى حسرة تقطِّع القلوب (قلبى أنا على الأقل حتى لقد كدت أبكى لولا بقية من تماسك، رغم نفورى من أم الخبائث نفورا فطريا) مجىء اليوم الذى تصبح فيه المدن العربية مثل باريس تعج(1/136)
بخمارات كتلك التى تتلألأ أضواؤها من حوله؟ (الفكر الإسلامى- نقد واجتهاد/ 229- 230). أقول: "ربما"، فأنا لم أكن حاضرا هذا اللقاء التاريخى الذى كان شيخ الطريق ودرويشه يقرران فيه مصير الإسلام. فانظر أيها القارئ الكريم لهذه البهلوانيات التى يراد منا أن نأخذها بجِدٍّ واهتمام بوصفها آخر المنجزات الفكرية. لكن، أيها الدرويش، هل نفهم من أن القرآن ظل نصًّا مفتوحا إلى القرن الرابع الهجرى أنه قد دخله مثلا بعض من رسائل عبد الحميد، على شىء من عبارات الجاحظ، على سطور من سهل بن هارون، على عدة سجعات من أبى العلاء...إلى آخر هذه الزمرة من الكتاب؟ فكيف يا ترى يمكن أن تختلط أساليب أمثال هؤلاء وأفكارهم بأسلوب القرآن وفكره، وهم عندك أنت وشيخك أرقى من محمد، ومخيالُهم الجماعى (الله يخرب بيت هذا المخيال الجماعى الذى رَبَّى لى العَصَبِىّ!) أكثرُ تحضرا وأعمق ثقافة من مخيال المجتمع الذى كان ينتمى إليه محمد؟ طيب، هل تستطيع أنت أو شيخك العبقرى أن تتشطَّر وتدلّنا على رقعة من تلك الرقع الأسلوبية والفكرية التى دخلت القرآن طوال تلك القرون الأربعة؟ ثم أين كانت أمة المسلمين من ذلك كله حتى إنها لم تعترض أو حتى تعلق مجرد تعليق؟ أكانت مغيَّبة عن الوعى كلها على بكرة أبيها (إلا أنت وأستاذك طبعا، وإلا فكيف عرفتما ما عرفتماه؟) إلى أن تم المراد فأعطَوْها حقنة منبِّهة فقامت لتجد نفسها قد فقدت الذاكرة فى تلك الأثناء فلم تعرف ماذا تم؟ أم كانت معك أنت وشيخك فى الشقة فسقيتموها "حاجة أصفرة"، فسقطتْ لتوها لكونها متخلفة لم تتعود على هذا اللون من الشراب، إذ إن شرابها هو الماء القراح الذى لا يعرف غيره عباد الله المتخلفون؟ وعلى نفس النحو من اللامبالاة بالعلم وحقائق التاريخ يدعى د. أركون أن المسلمين لم يحاولوا قط منذ القرن الرابع الهجرى أن يفتحوا الملف الشائك الخاص بقضية جمع القرآن، وهى دعوى كاذبة، فالمعروف أن الكلام والبحث فى(1/137)
تاريخ القرآن وجمعه وقراءاته ورسمه ومكّيّه ومدنيّه وناسخه ومنسوخه وتلاوته وأسباب نزوله وإعرابه لم يتوقف يوما حتى هذه اللحظة. ومن الأسماء التى يمكن أن نذكرها بعد القرن الرابع ممن كتبوا فى ذلك الموضوع هذه العينة الضئيلة جدا، وهى مجرد مؤشّّر لما وراءها: مكى بن أبى طالب (ق 4- 5هـ) والواحدى (ق 4- 5هـ) والدانى (ق 5هـ) والشاطبى (ق 6هـ) والسخاوى (ق6- 7هـ) وابن أبى الإصبع المصرى (ق 6-7هـ) والخراز (ق 7- 8هـ) والعُكْبَرى (ق 7هـ) والزركشى (ق 8هـ) وابن القاصح (ق 9هـ) وابن الجزرى (ق 9هـ) والطبلاوى (ق 10هـ) والسيوطى (ق 10هـ) والدمياطى البنا (ق 12هـ) والصفاقسى (ق 12هـ)، وحفنى ناصف والزرقانى ومحمود خليل الحصرى ولبيب السعيد وصبحى الصالح ومحيى الدين الدرويش وعبد الصبور شاهين (ق 20 م). وهذه الأسماء لم تترك شيئا يتصل بالقرآن من غير أن تناقشه فى حرية وتفصيل ودون أية جمجمة، وقد وُجِد من بين العلماء من يبدون آراء تخالف ما عليه الجمهور بوجه عام قديما وحديثا، وهذا معروف عند دارسى علوم القرآن، علاوة على كتب التفسير المختلفة، وهى لا تكاد تُحْصَر، وتمثل محيطا زخّارا يضم فى جوفه الهائل المهول لآلئ لا تقدَّر بثمن من كل أنواع العلوم القرآنية كما هو معلوم. والقائمة أكبر كثيرا جدا من هذا على ما يعرف الدارسون، لكن أركون يطلق الكلام على عواهنه متصورا أن لَوْكه للمصطلحات الفارغة والتفيهق بها سوف يُشِلّ منا العقول فنخرّ صرعى أمام سحر بلاغته الطنطانة الفارغة، وقد فغرتْ أفواهنا اندهاشا بل انشداها بما يقول. مرة أخرى: مسكين! كان الله فى عونه!
(1/138)
لقد رأينا الدكتور أركون ينحاز للرأى القائل بإرجاع الدين إلى المخيال الجماعى، بمعنى أن الأنبياء ليسوا إلا معبرين عن ثقافة أممهم وتطلعاتها وأوهامها، فلا وحى ولا اتصال بالسماء البتة! وفاته أن يتنبه للواقع الذى يخزق الأعين والذى يجرى بعكس هذا الذى يزعمه تماما، فكلنا نعرف أن الأنبياء والمصلحين إنما يسبحون ضد التيار، ويظلون وقتا طويلا مكروهين من المجتمع الذى ينتمون إليه ويحاولون أن يهدوه سواء السبيل. بل إنهم ليتعرضون أثناء ذلك إلى ضروب من العنت والمشقة والأذى والإهانة والحصار والتضييق فى لقمة العيش، بل السجن والقتل أيضا. وهذا من الشهرة بحيث لا أظن أركون أو غير أركون يستطيع أن يجادل فيه ولو للحظة. ثم إن أممهم لا تؤمن، إن آمنت، إلا بعد اللَّتَيّا والّتِى حتى إن المستشرقين والمبشرين من أساتذتك وأحبابك، وقد فوجئوا بنجاح محمد ودينه على عكس ما كانوا يرغبون، قد زعموا، ويا لبؤس ما زعموا، أنه عليه السلام إنما أكره العرب بالسيف على الدخول فى دينه! كذلك قد يموت النبى أو المصلح دون أن يحدث أى تغيير فى المجتمع الذى قام من أجل تطويره. ولا أدرى كيف نَسِىَ أركون ما أخذ يبدئ فيه ويعيد فى لذة شامتة من أن المشركين، حين أتاهم الرسول بدعوته، قد رفضوا أن يؤمنوا بما يقول إلا إذا جاءهم بدليل. على حين أن الدليل الذى يلح عليه سيادته لم يكن يزيد على بعض المطالب المتعنتة التى أراد المشركون من ورائها تغيير نظام الطبيعة دون أن يحاولوا إعمال عقولهم التى وهبها الله لهم لتُسْتَعْمَل فى مثل هذه المواقف لا لتُهْمَل ويتعلق أصحابها بتلك المطالب الطفولية التى كان لا بد أن تلقيها البشرية خلف ظهرها وتستقبل مرحلة أخرى يقوم الأمر فيها على الدليل العقلى لا الدليل الإعجازى الذى لجأ إليه أنبياءُ كُثْرٌ من قبل، ومع هذا لم يكن حالهم مع أقوامهم ولا النتيجة التى وصلوا إليها مع هؤلاء الأقوام أفضل مما وصل إليه محمد، بل ولا عشر(1/139)
معشار ما وصل إليه محمد! وأذكِّرك يا دكتور، إن كنت قد نسيت على عادة من يغيرون كلامهم فى كل موقف ويلبسون لكل حال لبوسها ناسين كعادتهم أيضا أن يراعوا الحكمة القائلة: "إذا كنتَ كَذوبا فكن ذَكورا"، بأنك قلت إن المشركين فى مطالبهم تلك إنما كانوا يعبرون عن "الذات الجماعية" (القرآن من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الدينى/ 97)! فمن يعبر إذن عن المخيال الجماعى (أو الذات الجماعية: لا فرق ذا بال): الرسول أم المشركون من قومه؟ لقد احترتُ واحتار دليلى معك كما احتار دليل رامى وكوكب الشرق! لكن، أيها القارئ الكريم، لا تأخذ فى بالك، فالأستاذ الدكتور لا يدرى ماذا يقول، بل كل ما يريده هو محاربة الإسلام بأى شكل، على طريقة مبدإ مدربى الكرة الفاشلين عندنا: "الذى تغلب به، العبْ به" دون أن يكون للفن أو الموهبة أو متعة الجمهور أى اعتبار. المهم النقاط الثلاث! والنتيجة هى الصفر المونديالى الكبير! كذلك كيف تفسر لنا يا دكتور أركون كيف أن دين محمد قد انتشر هذا الانتشار الواسع خارج بلاد العرب والمجتمع العربى وما زال ينتشر حتى الآن، ودخل فيه أمثال دينيه وجِرْمانوس ولِنْجز وكاوون وجارودى وماسون وبوكاى وهوفمان وكلاى ويوسف إسلام وغيرهم بالملايين من الأوربيين والأمريكيين، ومنهم الآنسة الفرنسية الجميلة التى حلقت شعر رأسها احتجاجا على القانون الجائر الذى كنتَ من كبار عَرّابيه، وكلُّ شعب من الشعوب التى دخلت الإسلام مِخْيَالُه الجماعى يختلف عن مخيال العرب ومخاييل الشعوب الأخرى؟ يا دكتور، لو لم يكن لك من ذنب إلا أنك كنت المتسبب فى حَلْق هذه البنت رأسها "زَلَبَطَّة" لكفاك لكى تبوء بغضب الله. فكيف، وأنت تريد أن تقضى بتَفَيْهُقاتك وكلامك الفارغ على دين محمد كله لا على شعر الفتيات الجميلات فقط؟ يا دكتور أركون، كيف، وقد فاتك الخوف من الله أو الغيرة على الحرية الشخصية التى فَلَقْتَ دماغنا أنت وأحبابك الفرنسيون بها، لم(1/140)
تتنبه إلى أنك بهذا القانون قد ضربت الجمال والأناقة فى مقتل؟ رُحْ يا رجل منك لله! شعر البنت الفرنسية هذه فى رقبتك إلى يوم الدين! قلبى وربى غضبان عليك ( كما كنت أسمع جدتى، رحمها الله، تقول وأنا صغير)، ولن تفلح إن شاء الله، اللهم إلا إذا كان سبحانه وتعالى قد ادَّخر لك توبة تختم بها حياتك فتُقْلِع عن هذه السخافات الأركيولوبية الفينومينوكَوَنّونُوِيّة المأمآنية (والكلمة الأخيرة من غريب لغة الخِرْفان بالمناسبة! حتى لا يسألنى أحد). ثم ما دامت النبوة والإصلاح هى من بنات "المخيال الجماعى"، فلماذا لا تقول هذا لنفسك وتَرْبَع على ظَلْعك وتريحنا وتستريح معنا، إذ معنى ذلك أن كل ما تتعب قلبك وقلوبنا لكى تقنعنا به لن يكون له أى تأثير علينا ولن يدخل فى عقولنا أو قلوبنا، لأنه ببساطة ليس نتاجا لمخيالنا الجماعى، الذى لا يعرف شيئا اسمه "العلمانية" أو "الحداثة" أو "عقل الأنوار"... إلى آخر هذه الرطانات التى تمضغها وتلوكها عبثا، والتى لا فائدة منها معنا حتى لو ظللت تمضغها وتلوكها وتنقلها عن هذا الشِّدْق لذاك من هنا إلى يوم يبعثون؟ "مخيالنا الجماعى"، يا خواجه أركون، هو مخيال "الفتَّة والطَّبْلِيّة ولعق الأصابع بعد الأكل بها وصلِّ على النبى وقال الله وقال الرسول، و(لا تنس بالمرة) الثلاث طوبات!"، أما هذا الذى تهذى به فهو ليس لنا بمخيال! أرأيت أنك لا تستطيع أن تقول شيئا متناسقا بعضه مع بعض؟ إن كلامك مفكَّك يُنْكِر ذيلُه رأسَه، بل لا رأس له فى الواقع أصلا ولا ذيل، ولا يترتب عليه إلا تصديع أدمغتنا بمصطلحاتك وتحليلاتك المملوءة ثرثرة بغيضة وتعالما وحذلقة ثقيلة الظل والروح! وفضلا عن ذلك هل تحسب أننا من البلاهة بحيث يمكن أن يدور فى وهمنا للحظة واحدة أن الغرب أو تلامذة الغرب وذيوله تهمهم مصلحتنا؟ هل قال لك أحد إننا مختومون على قفانا؟ إن المسألة كلها لا تخرج عن رغبة الغرب الحارقة فى القضاء على الإسلام فى(1/141)
عقولنا وقلوبنا على السواء حتى يكون مضغهم لنا وهضمهم للحومنا سَلِسًا لا غصّة فيه ولا عُسْر هضمٍ أو مَغْص! إنهم ينظرون فيَرَوْن أن المسلمين، رغم كل التخلف الذى هم فيه وقِصَر ذات يدهم علميا وإداريا وعسكريا وصناعيا، ما زالوا يقاومون ويقفون فى طريق المخططات التى يراد منها تركيعهم التركيع النهائى رغم أنه ليس فى أيديهم دبابة ولا قنبلة ولا طائرة لأن حكامهم قد منعوا عنهم الدبابة والطيارة والقنبلة وأغلقوا عليها مخازنهم بالضبّة والمفتاح بعد أن دفعوا فى شرائها دماء الشعب وأخربوا خزينة الدولة، ومع ذلك فإن طائفة من الأمة تتحدى بكل قوةٍ وشراسةٍ الجبروت والطغيان الكفرى الغربى دون أن يبالوا بأى شىء مسترخصين حياتهم وأموالهم فى سبيل الحفاظ على الدين والكرامة، وهذا ما يؤرق الغرب ويعمل بكل ما لديه من قوة على تحطيمه. وهو يعرف أن السر فى هذه القوة التى يرخص فيها كل شىء على نفس المسلم هو الإيمان بالجنة، ومن ثم فلا بد من القضاء على الإيمان بجنة محمد وقرآنه، ولا بد من تجنيد كل الإمكانات التى يؤمِّلون من ورائها بلوغ هذا الهدف الشيطانى، ومنها إطلاق الأذناب التى تتخذ أسماء إسلامية على أبناء الإسلام تشككهم فى دينهم، آملين أن يكون لتشكيكها أثر أقوى وأبعد، وأن تكون مقاومة هذا التشكيك أضعف وأسرع اضمحلالا! ولا تنس، بالله عليك أيها القارئ، أن تقرأ عنّى الفاتحة لسيدى "المخيال"، فسِرّه باتع كما يؤكد الشيخ أركون!
(1/142)
ولكى يكتمل النَّصْب ويكون نَصْبًا على أصوله يزعم هؤلاء أنهم إنما يفعلون ذلك لتحرير العرب والمسلمين. أى أن تشكيك العرب والمسلمين فى دينهم، وهو الورقة الأخيرة فى أيديهم التى يناضلون بها عن وجودهم وكيانهم وشخصيتهم حتى لا ينقرضوا، أو على الأقل حتى لا يذوبوا فى الغربيين ويصبحوا مجرد أذناب تفقد مسوغ وجودها مع الأيام فيقوم المجرمون ببترها لكى يثبتوا صحة نظرية "البقاء للأصلح" التى جاء بها تشارلز داروين. إن هاشم صالح لا يكتفى بترجمة ما يكتبه شيخه، بل يحرص فى كثير من الأحيان على التعليق عليه فى الهوامش تعزيزا وتعضيدا لأفكار شيخه كى يقال عنه إنه قد شارك فى التأليف، أو كما يكتب هو أحيانا على غلاف الكتاب: "ترجمة وإسهام فلان"، وكأن المسألة ناقصة هاشم صالح. فى كتاب لأركون اسمه "معارك من أجل الأنسنة فى السياقات الإسلامية" (يا حفيظ! استر علينا يا رب! أهذا بالله كلام يستحق الانتماء إلى لغة العرب، لغة الوضوح والإشراق والبيان؟ إنه عنوان يذكرنا بوجه الخنزير قُبْحًا، وذنَب الضَّب تعقيدًا! ولكن ما علينا، فلنعصر عليه ليمونة تدفع عنا شعور الغثيان ولنمض فيما نحن فيه!) فى ذلك الكتاب المذكور يتناول أركون كتاب "الإعلام بمناقب الإسلام" الذى وضعه أبو الحسن العامرى (ق 4هـ) يشيد فيه بدين محمد ويثبت أنه الدين الذى يضمن للمؤمنين به سعادة الدنيا والآخرة. وبطبيعة الحال لا يعجب هذا الكلام البروفيسور أركون فيلفّ ويدور كعادته آتيًا كم شقلباظا من شقلباظاته الفكرية ومرصِّعًا كلامه بِكَمْ مصطلح من مصطلحاته البِسْبِسَانية الَمأْمَآنية لزوم الإبهار وتدويخ القارئ العربى وإيهامه بأنه أمام أستاذ خطير نحرير صاحب فكر عميق لا يصلح معه إلا التسليم به والخُرُور عليه فى صَمَمٍ وعَمًى وبَكَم تامّ دون أن يفتح فمه بكلمة ولو ليوحِّد بها الله. ومن بين ما فعله مؤلفنا الشقلباظى فى العيب على الكتاب المذكور والحطّ من شأنه اتهامُه(1/143)
بالدفاع عما سماه هو بلغته البسبسانية المأمآنية: "السياج المغلق"، يقصد أن يقول: الجمود الغبى الذى يسوّل للمسلم بأن يرى فى دينه أفضل الأديان، تعصّبًا منه لعقيدته التى لا تسمح بالمناقشة ولا المراجعة والتى لا تستطيع أن ترى أو تسير إلا فى اتجاه واحد دون عقل أو تفكير! يعنى: كالحصان الذى وضعوا على عينيه غمامتين فهو لا يرى إلا ما أمامه وفى أضيق نطاق. وفى هذا السياق، وبدلا من اكتفاء هاشم صالح بالترجمة بأسلوبه المملوء بالأخطاء اللغوية، وبخاصةٍ لازمته العجيبة: "كما وأَنّ" التى لا أدرى أى شيطان زوَّده بها ونفخ فى رُوعه أن يكثر من ترديدها لدرجة تكاد تفقدنى رشدى لولا لطف الله بعبده الضعيف، نراه يتدخل بتعليقاته التى لا يخطر فى باله مرة أن يعتقنا منها قائلا فى الهامش تعليقا على مصطلح "السياج المغلق": "يمكن اعتبار فكر محمد أركون كله بمثابة تفكيك لهذا السياج المغلق والراسخ منذ العصور الوسطى. وهذا هو معنى نقد العقل الإسلامى. إنها محاولة لتبيان كيفية تشكُّل هذا العقل فى العصور الأولى وكيفية ترسُّخه فيما بعد بصفته عقلا مثاليا مطلقا لا يناقَش ولا يُمَسّ. ومن الواضح (وأرجو أن تأخذ بالك أيها القارئ لما يلى لترى الدَّجَل الشقلباظى كما ينبغى أن يكون، وإلا فلا)، ومن الواضح أنه لا يمكن أن يحصل أى تحرير فى الأرض العربية أو الإسلامية إن لم نبتدئ بتفكيك هذا الانغلاق التاريخى المزمن. فى الواقع إن العقل الإسلامى هو عقل تاريخى، أى أن له لحظة انبثاق تاريخية محددة تماما ويمكن الكشف عنها. وما إن تنكشف تاريخية العقل الإسلامى حتى تحصل زلزلة أرضية تشبه الزلزلة الفكرية التى حصلت فى أوربا بعد الكشف عن تاريخية العقل اللاهوتى المسيحى" (دار الساقى/ بيروت/ 2001م/ 252). ولقد أغنانا الحداثيون والعلمانيون والملاحدة عن أن ننتظر حتى يقع هذا الزلزال لنرى توابعه، فهاهم أولاء من حولنا فى كل مكان، ونعرف أخلاقهم وتصرفاتهم كما(1/144)
نعرف ظهور أَكُفِّنا وزيادة، وندرك جيدا ما الذى ينتظرنا لو نجح هذا المخطط الشيطانى نجاحا تاما ولم يقتصر أمره على هؤلاء الأكروباتيين بل عمَّ الأمة كلها. إن شقلباظيِّينا المفضوحين لا هَمَّ لهم إلا الخمر والجسد والدعوة إلى الحرية الجنسية بوصف ذلك كله وأمثاله حقا من حقوق الجسد وصاحبه. وهاهم أولاء أيضا يقفون على النواصى ويعترضوننا فى الطرقات يسوِّقون التبعية الذليلة لأمريكا والغرب، تلك التبعية التى لا تؤدى إلا إلى الدمار والضياع. ليس ذلك فحسب، بل يقتحم كثير منهم أوطان الإسلام فوق دبابات المستعمر الذى جلبهم معه من بلاده حيث كانوا يعيشون بعيدا عن أمتهم وقد تخَلَّوْا عن دينها ونمط أخلاقها واتبعوا دينه وخلقه وسلوكه. ألم تكفنا العقود الطويلة التى اجتاح الجرادُ الغربىُّ فيها بلادنا ونهَب ثرواتنا وأذلَّنا وعمل كل ما فى طاقته للإبقاء علينا متخلفين لا نفكر فى شىء آخر غير أن نكون خدما بل عبيدا له؟ طيب يا أخى، إذا كانت أوربا قد نَضَتْ عن نفسها رداء الكهنوت الدينى فهذا أمر طبيعى كان ينبغى أن يتم منذ قرون حين جاء محمد صلى الله عليه وسلم بالدين الصحيح ونبَّه أهل الإنجيل إلى ما صنعوه بدينهم من تزوير وتحريف وتوثين وتشويه للعقيدة والتشريع، أى حولوه من دين إلهى إلى فكر بشرى هو بطبيعته ابن الأرض ونتاج التاريخ، علاوة على أن دينهم قد نزل أصلا ليواجه مطالب مرحلة تاريخية فقط ولقوم معينين يعيشون فى بقعة جغرافية معينة، ثم يذهب لحال سبيله بعد أن يشرق نور الإسلام. أما نحن، أصحاب الرسالة العالمية التى لا تحدها أية حدود تاريخية أو جغرافية أو قومية، فماذا عندنا من تحريفٍ أو تشويهٍ لنصوص الوحى أو عبثٍ وتلاعبٍ بالعقائد والتشريعات الواردة فيه حتى نصنع ما صنعته أوربا؟ ألم يسمع مستشارو السوء بقول الرسول العظيم: "لا يكن أحدُكم إمَّعة"؟ بلى لقد سمعوا به وبغيره مما أتى به سيد الخلق لعزّ الدنيا والآخرة، لكنهم يكرهون(1/145)
العزة والكرامة ورسول العزة الكرامة، ويؤثرون عليهما الهوان والانبطاح أمام البلطجيين الدوليين. إن الإسلام لا غيره، رغم قلة إمكانات المسلمين العلمية والاقتصادية والعسكرية والتنظيمية فى هذا الطور المخزى من تاريخهم، هو الذى حرر بلاد العرب والمسلمين من الاستعمار الغربى الكافر المجرم، وهو الذى لا يزال يقف شوكة فى حلوق هؤلاء البلطجية العالميين، وهم يريدون اقتلاع هذه الشوكة بكل الوسائل، ومن بينها أمثال هذه الكتب التى يؤلفها كاتبنا الشقلباظى، ويترجمها له ننُّوس عَيْنه. هذه هى الحكاية بالمفتشر، أما "الشقلباظات" الأركونية، وكذلك "الإسهامات" الهاشمية الصالحية (التى تريد أيضا أن تبعث من رقدة العدم منصور فهمى ورسالته التى شجعه المستشرقون على أن ينال فيها من الرسول والإسلام، إن لم يكن قد كتبوها بأنفسهم له حسبما قرأتُ مرةً لأحد العارفين بخفايا الأمر، ومنحوه عليها درجة الدكتورية، وكان مشرفه فيها هو البهودى ليفى بريل)، فهى شقلباظات وإسهامات ضالّة مضلّة لا تجوز إلا على النَّوْكَى والمغفَّلين، نعوذ بالله أن نكون من النَّوْكى أو المغفَّلين أو الشقلباظيين أو الإسهاميين. آمين، يا أكرم الأكرمين! إن ما ينادى به أركون وتابعه (...) لَيُشْبِه ما تقوم به أمريكا الآن فى العراق، الذى كان عامرا، والحمد لله. إنها تريد إعماره، وبما أنه كان عامرا فلا بد من تدميره إذن وتخريبه حتى يمكن تعميره لأن تعمير المعمَّر مستحيل كما هو معروف: فهذا شىء لزوم الشىء، أى أن الخراب هنا لازم لتحقيق العمار. وعلى نفس المنوال فلا بد أن يزلزل أركون وجماعته الإسلام (الذى يقاوم مخططات الاستعمار وعدواناته الإجرامية الوحشية وقام وما زال يقوم بمهمته التحريرية العظيمة على خير ما يرام) حتى يمكن أن يبثوا فى نفوس المسلمين الروح التحررية، إذ من غير الممكن أن تُبَثّ الروح التحررية فى نفوسهم فى الوقت الذى لا تزال هذه الروح موجودة بداخلهم. أى(1/146)
أن الخراب هنا أيضا لازم لتحقيق العمار! وعند خراب بصرة يكون قد تحقق، بحمدالله، تحرر المسلمين، ولكن مِنْ ماذا؟ من الإسلام طبعا، وهل هناك غيره؟ ومن ثم يكون قد تم القضاء على الروح التحررية تماما فى نفوس المسلمين. وهذا هو المطلوب، وهذه هى المهمة التى يمنّ علينا هاشم صالح بأن أركون يؤديها خدمةً لنا وعشقًا لسواد عيوننا! مسكين أركون وتابعه. إن هذا المنطق الإبليسى الذى يظل يلفّ ويحوم حول نفسه داخل الدائرة الجهنمية ذاتها لا يبارحها لَيُذَكِّرنى بالأغنية الفكاهية التى كنا نسمعها فى المذياع أيام الصبا، وكانت كلماتها تجرى على النحو التالى: "شنطةْ مِين؟ شنطة حمزة! حمزة مين؟ صاحب الشنطة!".
(1/147)
قلنا إن أركون يتباكى على ضياع "وثائق مهمة وأساسية" كانت كفيلة بأن تكشف لنا لغز النبوة لو لم تَضِع، ورغم أننا سخرنا من هذا الكلام المتهافت فإننا سنغضى على ما فيه من تفاهة وسنعامله على أنه كلام يقبل المناقشة: أتراك يا د. أركون لو وصلتْ إليك هذه الوثائق (رغم أنى لا أعرف عن أى وثائق تتحدث)، أكنتَ ستسكت فلا تكفّ عن إثارة الاعتراضات؟ لا إخال أبدا، بل أُرَجِّح، بل أكاد أجزم موقنا، أنك كنت ستتعلل بأنك لا تستطيع أن تصدر حكما فى الأمر لأنك لم تشاهد النبى وهو يمارس النبوة. وحتى لو تحققت لك هذه الأمنية فلا أحسب إلا أنك ستتحجج بأنك تريد أن تَخْبُر تجربة النبوة من الداخل بنفسك وأن تعيشها كما عاشها النبى ولا تكتفى بمشاهدته وهو يتلقى الوحى، أى أن تكون أنت أيضا نبيا. ولم لا؟ هل محمد أحسن منك؟ لكنك نسيت أنّ هذا، وإنْ حَلّ المشكلة بالنسبة لك، فلن يحُلّها بالنسبة للآخرين الذين سيكون من حقهم هم أيضا أن يقولوا، مثلما قلتَ، إنهم يريدون أن يَخْبُروا تجربة النبوة خُبْرًا مباشرا...وهكذا دواليك. وبهذه الطريقة سوف يصبح الناس جميعا أنبياء، ولكن إلى من يتوجهون بدعوتهم؟ إلى لا أحد، وبذلك تفقد النبوة معناها. لقد فاتك، فى الواقع، شىء مهم لم تُرِد أن تلمسه رغم أنه كان ينبغى أن يكون أول شىء تتناوله، ألا وهو دراسة شخصية النبى، والظروف التى كان الوحى ينزل فيها، والأعراض التى كانت تصاحبه، والمضمون الذى اشتمل عليه، والاتهامات التى وُجِّهَتْ إلى متلقى هذا الوحى زاعمة أنه إنما كان يعلمه بشر أو أن القرآن ليس سوى كلام من تأليفه هو...إلخ. فهل فى شخصية النبى ما يجعلك تشكّ فى إلاهية المصدر القرآنى، وبخاصة بعدما فندنا نظريتك المتهافتة فى "المخيال الجماعى" ؟ أقول: "نظريتك" على سبيل المجاز، فأنت لا تزيد على أن وجدتَها فى الفكر الأوربى فوضعتَ يدك عليها وقلت: ما المانع فى أن ننتفع بها فى الشغب على الإسلام؟ ترى هل كان النبى(1/148)
كذابا؟ أم هل كان من المصابين بالهَلاوِس أو الصَّرْع مثلا؟ لقد درستُ هذه الاتهامات بالتفصيل فى كتابى: "مصدر القرآن" وحاولتُ أن أعثر بين أوراق الدعاوى التى يرفعها مكذِّبو النبى فى وجهه على أية شهادة، مكتوبة أو شفوية، ذَكَر فيها أحدٌ ممن اتُّهِم النبى بالإفادة منهم أنه قد تعلم على أيديهم وأخذ مادة القرآن عنهم فلم أجد شيئا من هذا البتة! بالعكس لقد اتضح لى أن هؤلاء الذين اتُّهِم النبى بالاستفادة منهم إما أسلموا أو، إذا كانوا قد ماتوا قبل بعثته عليه السلام، قد أسلم أبناؤهم وأقاربهم. كما كان هناك أمية بن أبى الصلت، وكان قد طمع فى النبوة لنفسه زمنا، فلم يا ترى لم يقل إن محمدا قدتعلم منه، وقد كان شاعرا، وهو ما كان كفيلا أن يجعل كلامه يجلجل فى أرجاء الجزيرة من أقصاها إلى أقصاها ويفضح النبى فضيحة الأبد؟ كذلك لِمْ لَمْ يفتح فمه بحيرا، الذى طالما أبدأ المرجفون باسمه وأعادوا، ويقول: نعم، لقد تعلم محمد منى كذا وكذا؟ لقد كان الرسول فى ذلك الوقت مستضعفا أشد الاستضعاف هو وأتباعه فى مكة، ومن ثم فليس من الممكن أن يتذرع أحد من المتَّهِمين بأن هؤلاء الشهود لم يتكلموا لأنهم كانوا يخشَوْن بأس محمد وسطوته وسلطانه، إذ لم يكن له فى أم القرى أى سلطان. ثم ها هى ذى حياة النبى عليه السلام واضحة جلية تمام الوضوح والجلاء، وليس فيها ما يمكن اتهامه بسببه بالكذب أو المرض النفسى والعصبى، علاوة على أن الأعراض التى كانت تصاحب الوحى لا تشبه من قريب أو من بعيد أَيًّا من أعراض الصَّرْع أو الهلوسات أو الهستريا على ما بَيَّنّا فى كتابنا المومإ إليه. ولعله يحسن فى هذا السياق أن نشير إلى الطريقة التى اتبعها كاتب مادة "Muhammad" فى الطبعة الأولى من "Encyclopaedia of Islam"، وهى تشبه طريقة محمد أركون فى معاندة الحق واعتماد أسلوب اللف والدوران بغية تجنب المواجهة مع ذلك الحق فى عينيه، إذ زعم أن الأطباء النفسيين المحدثين(1/149)
يعترفون بصحة تشخيص الأعراض المصاحبة للوحى على أنها أعراض الصَّرْع، وإن سارع عقب هذا مباشرة إلى القول بأننا "يجب أن ندعهم يقررون بأنفسهم طبيعة حالته بدقة"، وذلك دون أن يذكر لنا اسما واحدا (واحدا فقط) من هؤلاء الأطباء المزعومين، فضلا عما فى كلامه من تناقض ساطع يراه حتى الأكمه، إذ بعد أن يؤكد أن الأطباء قد شخّصوا حالة الرسول صلى الله عليه وسلم على أساس إصابته بالصَّرْع يعود فى الحال قائلا: "فلنتركهم يقررون بأنفسهم طبيعة مرضه بدقة"، أى أنهم لم يقرروا بعدُ طبيعةَ مرضه، وهو ما يكشف أن كاتب هذا الهراء مستشرقٌ محترقٌ وكذابٌ أَشِرٌ من الذين سيَصْلَوْن جهنم فى الدرك السفل منها مع الأنذال الجامعين بين الكفر والنفاق. وغنىٌّ عن القول أن من بين المستشرقين والمبشرين من يعترض على اتهام الرسول بالصَّرْع مثل ألفرد جيوم فى كتابه "Islam" (Pelikan Books, 1964, P. 25). كذلك عندنا مضمون الوحى، فهل فيه ما ينبئ أنه يعكس رغبات النبى وكراهاته أو آماله وآلامه أو أفراحه وأشجانه؟ أبدا، فقد ماتت خديجة مثلا هى وأبو طالب فى العام العاشر للبعثة، وكان حزن النبى عليهما من الشدة والألم أَنْ سُمِّىَ العام الذى ماتا فيه: "عام الحزن"، فهل يجد أحد فى القرآن أية كلمة فى هذا الموضوع؟ وبالمثل مات ابنه إبراهيم، الذى رُزِقَه على كبر، وبعد أن سمع سخفا كثيرا ووقاحة من المشركين فى بداية الدعوة مرارا وتكرارا ينبذونه بـ"الأبتر" جَرّاءَ موت أولاده الذكور واحدا واحدا فى صغرهم، فهل يجد أحد فى القرآن أية كلمة فى هذا الموضوع ولو لتعزية النبى والتسرية عن فؤاده؟ أبدا. ومعروف أنه كان يحب عائشة لجمالها وصباها وذكائها وشدة حبها له ولأنها، فوق ذلك كله، ابنة صديقه الحميم أبى بكر، فهل فى القرآن ما يمكن أن يُشْتَمّ منه رائحة الفرح حين بنى عليه السلام بها، وهو الذى قال المبشرون والمستشرقون فى زواجه منها وفارق السن بينه وبينها وتدلهه فى(1/150)
هواها الكثير؟ إن القرآن الكريم يخلو حتى من مجرد ذكر اسمها كما يعرف الجميع. وبالمثل هل يجد أحد فى القرآن ما يشى بوقع الانتصار العظيم الذى أحرزه المسلمون فى بدر على غير ما كانوا يتوقعون؟ أبدا...وهكذا، وهكذا مما يدل على أن هذا الكتاب لا يمكن أن يكون من لدن محمد على أى نحو من الأنحاء. ويزيد الأمر يقينا الدراسة الطويلة والمفصلة التى قام بها كاتب هذه السطور بعنوان "القرآن والحديث- مقارنة أسلوبية" والتى ثبت من خلالها بطريقة علمية إحصائية أن أسلوب القرآن شىء آخر مختلف تماما عن أسلوب الأحاديث. والكتاب يقع فى 600 صفحة لمن يريد أن يرسو على شاطئ اليقين لا أن يعاند لأن هناك من كلفه بالعناد والشغب على دين محمد. ثم هناك النبوءات، والحقائق العلمية القاطعة التى ذكرها القرآن الكريم، والروح الإلهى الذى يترقرق فى كل آية من آياته والذى يخلو تماما من أى ملمح إنسانى مهما صغر. وفضلا عن ذلك كله فالمقارنة بين القرآن والكتب التى يقال كذبا إنه مأخوذ منها تبرهن بأجلى برهان وأقواه أنه لا يمكن أن يكون قد تأثر بتلك الكتب لأنه كثيرا ما يخالف تلك الكتب ويكون الحق والمنطق وحقائق التاريخ والعلم فى جانبه هو. ويجد القارئ هذه الموضوعات فى كتبى التالية: "مصدر القرآن"، و"دائرة المعارف الإسلامية الاستشراقية- أضاليل وأباطيل" والدراسات التى وضعتها عن سُوَر "طه" و"المائدة" و"يوسف"...إلخ. حتى النصوص التى يزعم فريق من الشيعة أنها كانت فى القرآن ثم حذفها عثمان، وكأن القرآن لعبة فى يد مجموعة من الأطفال يعبثون بها ويحطمونها كما يشاؤون دون أن يجدوا من يعقّب عليهم، هذه النصوص قد اخترتُ من بينها السورة الكاملة، وهى سورة "النورين" التى لا تزيد على صفحتين بحال إن لم تقلّ، وحللتها فى خمسين صفحة كاملة لأجد فى نهاية المطاف أنه لا توجد أية وشيجة بينها وبين أسلوب القرآن ولو فى آية أو جملة واحدة. وهذا، لمن يبحث عن الحق لا المشاغبة،(1/151)
متاح فى كتابى "سورة النورين التى يزعم فريق من الشيعة أنها من القرآن الكريم- دراسة تحليلية أسلوبية"، فوق أن علماء الشيعة جميعا ينفون نفيا قاطعا أنه كان هناك فى يوم من الأيام نصوص قرآنية زيادة على تلك التى فى المصحف المعروف للناس كلهم. ومِثْلُ سورة "النورين" الجملتان اللتان تُسَمَّيان: "آيتَىِ الغرانيق" واللتان أقدم ريجى بلاشير بغَشْمٍ وتهورٍ على إثباتهما فى سورة "النجم" فى ترجمته الفرنسية للقرآن، فقد ثبت من خلال التحليل الأسلوبى المتأنى الذى قمتُ به فى كتابىَّ: "ماذا بعد إعلان سلمان رشدى توبته؟ دراسة فنية وموضوعية للآيات الشيطانية" و"دائرة المعارف الإسلامية الاستشراقية- أضاليل وأباطيل" أنهما لا تمتان لكتاب الله بأية صلة. وأخيرًا، وليس آخِرًا، ما الذى جاء به القرآن فى مجال العقيدة والتوجيهات الأخلاقية والفكرية والاجتماعية والسياسية مما يمكن أن يكون محل انتقاد على أساس أنه يعوق سير الحضارة أو أنه يكبّل العقل البشرى بقيود تمنعه من أداء مهمته فى التفكير والاستكشاف مهما وقع أثناء ذلك من أخطاء؟ أهو التوحيدُ ومحاربةُ الثنويةِ والتثليثِ والوثنيةِ؟ أهو عالميّة الربوبية وعدم اقتصارها على قوم بعينهم مهما أثبتوا بسلوكهم الدنس وأنانيتهم البشعة أنهم لا يستحقون ذرة واحدة من هذا التركيز عليهم دون سائر الخلق؟ أهو الرحمة التى يكرر القرآن أن الله سيعامل بها عباده يوم الحساب، وأن الحسنة ستكون بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى ما شاء الله، على حين أن صاحب السيئة سيُجْزَى عليها بمثلها، وقد يغفرها الله له فلا يكون ثَمَّ حساب عليها أصلا؟ ولا نَنْسَ أيضا البعد الثقافى والافتصادى المتمثل فى الإعلاء من شأن العمل والإنتاج والإبداع والتنفير من الكسل والاعتماد على الآخرين دون موجب، هذا البعد الذى يكمّله الحث الدائم على الصبر، سواء فى ذلك الصبر على المكاره ومتاعب الحياة وحدثانها المزعجة أو على مشقات العمل(1/152)
والجهاد ومكافحة آفات النفس وعوامل الانهيار فى المجتمع، كما يكمّله التبغيض العنيف فى الاستسلام لمشاعر اليأس أو القنوط من رَوْح الله، مع التلويح من الجهة المقابلة بأن الرحمة الإلهية لا تغيب أبدا وأن مع العسر، مهما تكاثف واشتد، يُسْرَيْن لا يُسْرًا واحدا. وبالمثل لا ينبغى أن ننسى البعدَ الاجتماعى فى القرآن الكريم حيث جعل للفقراء والمحتاجين نصيبا مفروضا فى أموال الأغنياء يخرجونه على سبيل الوجوب لا مَنًّا ولا تفضُّلا. كذلك لا يفوتنا هنا أن نشير إلى قول الرسول عليه الصلاة والسلام إن المجتهد إذا أخطأ فله أجر. إنه لم يقل إن عقابه سيخفَّف، أو إنه سيحظى بالعفو، بل قال إنه يأخذ أجرا، وهو ما لا وجود له فى أى دين أو مذهب فلسفى أو أى نظام سياسى أو اجتماعى. والحق أنه لو لم يكن فى الإسلام فى مجال الفكر إلا هذا المبدأ الأخير لكفاه فخرًا واستحقاقًا لأن يُقْبِل الناس عليه إقبالا ويدخلوا فى فسطاطه مباهين!
(1/153)
على أن مناقشتنا للدكتور أركون فى موضوع القرآن لن تقف عند كلامه النظرى فيه، إذ إن له جهودا تطبيقية أراد بها أن يقدم تحليلا للخطاب القرآنى على حد تعبيره بدلا مما سماه: "التفسير الموروث". وهو فى هذه الجهود كثير الدعاوى يركب المراكب الوعرة ملوِّحًا بسوطه فى الهواء محدثًا فرقعاتٍ تلقى الرعب فى قلوب غير المتمرسين، إذ يظنون أن الرجل سوف يكرّ على خصومه فيزلزل الأرض من تحت أقدامهم ويفتك بهم كما تصنع الحمم البركانية بمن قدر له حظه التاعس أن يسكن قريبا من فوهة بركانها، ليفاجأوا به فى نهاية المطاف وقد ثَنَى عِنَان جواده الهزيل "للخلف دُرْ" وأخذ يعدو بأقصى سرعته وكأنه قد برز له عفريت فجأة ألقى الجزع والفزع فى قلبه الخفيف الرهيف. كذلك سوف نراه يتناقض من موضع إلى آخر، وقد يكون مجال التناقض فقرتين متتاليتين. ثم إنه كثيرا ما يَعْلَق فى شَرَكٍ يكون قد وضعه هو بنفسه فى التراب موهما نفسه وإيانا بأنه سوف يصطاد به الذئب ويجىء به من ذيله، لكنه سرعان ما يقع هو لا الذئب فى هذا الشَّرَك، ثم لا يستطيع تخليص نفسه منه ويظل يضرب بجناحه على غير هدى ولا أمل فى الفرج بأية حال. وإليكم البيان: فى إحدى هذه الفرقعات الخنفشارية، وتحديدا فى مدخل محاولته تحليل سورة "الفاتحة"، نراه يضع عدة "إضاءات" يقدم بها لهذا التحليل، وعلى رأس هذه الإضاءات قوله: "إن القرآن مدونة متجانسة...كل العبارات التى يحتويها كانت قد أُنْتِجِتْ فى نفس الوضعية العامة للكلام أو نفس الظرف العام للخطاب" (القرآن من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الدينى/ 114). وقد فسر تابعه "..." معنى الظرف العام للخطاب بأن "كل خطاب أو كلام يقال فى ظرف معين أو أحوال معينة، والذين يحضرون الجلسة التى قيل فيها هذا الكلام يفهمونه بشكل أفضل من الغائبين الذين يطَّلعون عليه قراءةً" (بالهامش). وليس لهذا من معنى إلا أن القرآن كله قد نزل فى نفس الظروف العامة للخطاب، وهى(1/154)
الظروف التى حددها أركون بعد أسطر بأنها ثلاث وعشرون سنة. أى أن القرآن قد انتهى تشكّله فى حياة الرسول، ولم يستمر نصًّا مفتوحا يُزاد فيه ويُنْقَص طَوال عدة قرون كما رأينا قبل قليل! ولعل القراء الكرام يذكرون أن الكاتب العبقرى قد قال فى موضع ثالث إن القرآن قد أخذ صورته النهائية على عهد عثمان. أرأيتم إلى هذا التناقض الفِجّ العارى فى هذه المساحة الضيقة من السطور والصفحات؟
كذلك ففى مقارنته بين طريقته فى تناول النص القرآنى التى يسميها: "بروتوكول القراءة الألسنى النقدى" وبين الطريقة التى يتبعها المفسرون المسلمون والتى يُطْلِق عليها سعادته: "البروتوكول التفسيرى" يبدأ بتعداد المبادئ التى تقوم عليها القراءة التفسيرية كما يراها والتى ينظر إليها بترفع بوصفها أثرا من مخلفات الماضى التى ينبغى أن تُزَال، ذاكرا من بينها أن الحقيقة التى يتضمنها القرآن، والتى هى الحقيقة الوحيدة حسب الرؤية التقليدية للمسلمين، لا يمكن أحدا أن يحددها أو يعرفها إلا "عن طريق الاستعانة بأقوال الجيل الشاهد عليها، أقصد جيل المؤمنين الأوائل الذين تَلَقَّوُا الوحى من فم النبى مباشرة، والذين طبقوه عمليا فيما بعد" (المرجع السابق/ 122). ومن الواضح الذى لا يحتاج إلى فضل بيان أن ذلك يتناقض تناقضا أبلق مع ما سماه: "الوضعية العامة أو الظرف العام للخطاب"، ومع ما شرح به تابعُه معنى هذا "الظرف العام للخطاب" مثلما رأينا قبل أسطر قلائل. فماذا ينبغى أن نسمى هذا أيضا؟ أما أنا فأسميه: "فرقعات خنفشارية". إنها قد تلقى الرعب فى قلوب العامة والصغار فيبصق الواحد منهم فى عُبّه وهو يبسمل لإزالة الخوف من قلبه، أما الذين ودَّكتهم الحياة فإنهم يبصقون، ولكن ليس فى عُبّهم!
(1/155)
هذا، ولم نغادر بَعْدُ "الظرف العام للخطاب"، الذى يحدده البروفيسير (على عادته فى المبالغات والفرقعات الخنفشارية التى تأخذ ذيلها فى أسنانها وتطلق ساقيها للريح عند أول عقبة) بأنه "مجمل الظروف التى جرى فى داخلها فعلٌ كلامىٌّ، سواء أكان مكتوبا أم شفهيا. ويخص ذلك فى آن معا المحيط الفيزيائى- المادى والاجتماعى الذى نُطِق فيه الكلام، كَمَا ويخصّ الصورة التى شكلها المستمعون عن الناطق لحظة تفوهه بالخطاب، ويخص هوية هؤلاء، والفكرة التى يشكّلها كل واحد منهم عن رأى الآخر فيه. كما ويخصّ الأحداث التى سبقت مباشرةً عملية التلفظ بالقول، وبخاصة العلاقات التى كان المخاطبون يتعاطَوْنها فيما بينهم، ثم بشكل أخصّ التبادلات التى اندرج فيها الخطاب المعنِىّ" (السابق/ 114). يا ألطاف السماوات! كل هذا يا دكتور أركون؟ لقد سببتَ لى الدُّوَار يا رجل! بالله عليك متى يمكننا أن ننتهى من فَهْمِ بَلْهَ شَرْحَ أىّ شىء فى القرآن إذا كان علينا أن نحيط بذلك كله قبل البدء فى عملية الفهم؟ إن هذا أمر أخشى، لو بدأنا فيه، أن يأخذنا هبوطا إلى آدم، وصعودا إلى يوم القيامة. ذلك أن الدنيا متشابكة بعضها مع بعض على نحو لا يكاد يُتَصَوَّر! ومع الفرقعات الخنفشارية نمضى خطوة أخرى لنرى إلامَ يأخذنا هذا التنطع الألسنى البِسْبِسَانى وعَمّ ينجلى فى نهاية المطاف! إن الرجل لا يكتفى بهذا على ما فيه من استحالة التطبيق، بل يشترط قراءة كل ما كُتِب فى تفسير سورة "الفاتحة" من تفاسير منذ بداية التفسير القرآنى حتى اليوم ثم التقفية بما يحتاجه ذلك من جرد وفرز. إلا أنه سرعان ما يحيص قائلا إن هذا العمل "لا يمكن أن يقوم به شخص واحد، وإنما فريق كامل من فرق البحوث". وبالمناسبة فما "الفاتحة" إلا مجرد مثال لأية سورة أخرى نريد تحليلها طبقًا لبروتوكوله الألسنى النقدى. هل يمكنك، أيها القارئ الكريم، أن تبلع هذه المطواة؟ (والمطواة: هى الفَشْرَة من فشرات أبى(1/156)
لمعة، وفى رواية أخرى: من فشرات أم لمعة، رضى الله عنهما). إننا لو رُمْنا ذلك فلن ننتهى أبدا من تحليل القرآن كما هو واضح! ثم فلنفترض أننا قد استطعناه، فمن ذا الذى يا ترى يمكنه الزعم بأنه سيكون التحليلَ المثالى الذى لا يخرّ الماء؟ إن هذا أيضا بدوره مستحيل! خلاصة الكلام أن البروفيسير قد انتهى إلى أنْ طامَنَ من غُلَوائه المتنطعة الفارغة وقنع من الغنيمة بالإياب فأخبرنا أنه سيكتفى بتفسير الرازى، الذى زعم أنه "قد جمع فى تفسيره أهم ما أنتجه الجهد التفسيرى خلال القرون الهجرية الستة الأولى السابقة له". لكنه ، ككل معّارٍ مُغْرَمٍ بالمطاوى (و"المطاوى" فى العامية المصرية هى الكلام الواسع الذى لا يصدقه ولا حتى صاحبه كما سبق القول)، قد عزَّ عليه أن ينهزم هكذا على الملإ أمام أول تجربة، بينما لا تزال ترن فى الآذان أصداء فرقعاته الألسنية المأمآنية، فأخذ يؤكد لنا أنه يزمع أن يقدم لتفسير الرازى طبعة محققة مصحوبة بقراءة تهدف للإجابة عما لا أدرى ماذا (السابق/ 135- 137). وليس لدىّ من تعليق على هذا إلا قول الرسول الكريم الذى يبدو وكأنه قد قاله خصيصا فى هذا الوعد: "أَفْلَحَ إنْ صَدَق"! ثم إنه بعد ذلك كله لم يرجع إلى الرازى إلا مرتين اثنتين لا غير نَقَلَ فى الأولى منهما ثلاثة أسطر ونصفا (ص 127)، وفى الثانية فقرةً لا تزيد على ثلاثة عشر سطرا (ص 139- 140)، ولشديد الأسى والأسف لم يحسن الاستفادة من أى النصين. وهكذا ينبغى أن تكون الفرقعات الخنفشارية، وإلا فلا! كذلك فإن تفسير الرازى، الذى تغلب عليه الصبغة الفلسفية، هو مجرد لون واحد من التفاسير لا يغنى عن غيره ولا يغنى غيره عنه، فهناك التفسير بالمأثور والتفسير الاعتزالى والتفسير الصوفى والتفسير الخارجى والتفسير الشيعى والتفسير اللغوى والتفسير الفقهى والتفسير العلمى...وهلم جرا. وحتى لو وافقْنا المؤلفَ على ما يقوله عن قيمة تفسير الرازى وأنه يغنى عن التفاسير(1/157)
السابقة عليه، فماذا نحن فاعلون فى التفاسير التى جاءت بعده؟ وعلى أية حال فلو تحوَّلنا بعد ذلك كله لنرى ماذا أنجز الأستاذ الدكتور فى التحليل الفعلى لسورة "الفاتحة من هذا كله راعَنا كثرة العناوين وتعمد الكاتب انتقاء الكلمات الضخمة التى تسبب الدوار للرأس دون أن يكون وراءها شىء بالمرة، أو على الأقل دون أن تقدِّم لنا ثمرة تستحق كل هذه الطنطنات والفرقعات. كيف ذلك؟ لنأخذ أولا العناوين، وسوف أوردها بالترتيب التى أتت به فى التحليل المذكور: "اللحظة الألسنية أو اللغوية: عملية القول أو عملية النطق، المحدِّدات أو المعرِّفات، الضمائر فى سورة "الفاتحة"، الأفعال فى سورة "الفاتحة"، الأسماء أو التحويل إلى اسم فى سورة "الفاتحة"، البِنْيات النحوية فى سورة "الفاتحة"، النظم والإيقاع. العلاقة النقدية- الفاتحة كمنطوقة أو عبارة: اللحظة التاريخية، النسق اللغوى أو الشيفرة اللغوية، النسق الدينى أو الشيفرة الدينية، النسق الثقافى أو الشيفرة الثقافية، النسق التأويلى أو الباطنى، اللحظة الأنثربولوجية". وهى، كما ترى، عناوين مخيفة تجعل قلب الواحد منا يسقط فى قدميه كما كنا نعتقد ونحن صغار، ثم ظننّا بعد أن كبرنا ونضجنا واتسع أفقنا الثقافى أن سقوط القلب فى الرجلين أمر خرافى ومستحيل...إلى أن وقعتُ على هذا الكلام الذى يقوله الدكتور أركون فتبين لى أن ما كنا نقوله ونحن صغار هو أمر صحيح لا وهم فيه ولا تخريف، فها هو ذا قلبى قد سقط فعلا فى رجلىّ. والتجربة، كما يقولون، خير برهان. ومن لا يرد أن يصدّق فليأت ولْيَرَ بنفسه! إلا أن المسألة لا تخلو مع هذا من الجانب الفكاهى، فهذه العناوين التى تخلع القلوب من أماكنها لا تساوى ثمن الحبر الذى كُتِبت به، إذ لا شىء وراءها، أو إذا كان وراءها شىء فإنه لا يستحق كل هذه الزيطة والزنبليطة. أى لحظات تاريخية؟ وأى بروتوكولات؟ وأى شفرات؟ أنحن داخلون حربا عالمية؟ المهم: لننظر مثلا تحت عنوان(1/158)
"النظم والإيقاع"، وهو، كما ترى معى أيها القارئ، مما يمكن فهمه. فماذا نجد تحته؟ لقد كتب المؤلف العبقرى تحت هذا العنوان أربعة عشر سطرا فى فقرتين: فأما فى الفقرة الأولى فقد أشار سيادته (مجرد إشارة عابرة ع الماشى) إلى أهمية الدور الذى يلعبه التشديد والإيقاع والنغم والمدة وارتفاع الصوت والكثافة فى عملية القول والعلاقة بين علم النحو والنبرة، وأننا فى اللغة العربية، والنص القرآنى بالذات، نمتلك أدبياتٍ (يعنى بلغتنا نحن عباد الله المتواضعى العقل والفهم: كتاباتٍ) غنيةً وغزيرةً خاصةً بالنظم والإيقاع، ولا تزال تنتظر من يدرسها طبقا للمناهج الحديثة فى التحليل العلمى، وأنه "من غير الممكن (فى الحالة الراهنة) المخاطرة بتفسيرٍ مُرْضٍ لنصٍّ قصيٍر كـ"الفاتحة". صحيح أن بروتوكول القراءة الشعائرية (يقصد الطريقة القديمة فى تفسير القرآن، وإن كان كلامه يوحى بأن المقصود هو قراءة القرآن على الجبّانات وفى المآتم، وإلا فما معنى مصطلح "الشعائرية" هنا بالله عليكم؟) وتقنين التجويد يقدمان لنا بعض التعليمات التى لم يُدْرَس تأويلها الصوتى والفونيمى والنظمى- الإيقاعى بشكل جاد حتى الآن" (بالمناسبة: الدكتور أركون دائما ما يقول عن أى شىء فى تراثنا إنه لم يُدْرَس بشكل جاد حتى الآن، أو لم يدرس أصلا لا بشكل جاد أو هازل. هذه شِنْشِنته على الدوام، وتحتاج إلى دراسة نفسية، لا ألسنية ولا شعائرية، ولا مارشات عسكرية، من التى تصاحب المراسم البروتوكولية، فى اللحظات التاريخية! فقط دراسة نفسية. أكرر: "فقط دراسة نفسية"! ويا بخته أنه لم يتقدم به الزمن كم عِقْدًا من السنين أو تأخر الزمن بالشدياق كم عِقْدا، وإلا لكان الكاتب اللبنانى الذى لم يكن يعجبه هذا التنطع الفارغ قد وضعه على السَّفُّود كما فعل مع المستشرقين الذين قُدِّر له أن يعمل معهم فى أواسط القرن التاسع عشر فى ترجمة الكتاب المقدس!). لكن حين جد الجِدّ أخذ ذيله فى أسنانه(1/159)
وولَّى هاربا ولم يعقّب: يا أركون، أقبل ولا تخف، إنك من الآمنين! لكنْ من يقرأ ومن يسمع فى مثل هذا الظرف العصيب؟
(1/160)
وإليك كل ما قاله البروفيسير بعد هذه الطبول والزُّمُور المزعجة التى أصمَّت لنا الآذان وخلعتْ منا القلوب: قال لا فُضَّ فوه، ولا برئ من تباريح ألم الحقد شانئوه: "ولهذا السبب فإننا سنكتفى فقط بالتنبيه إلى الملاحظة البسيطة التالية، وهى وجود قافية "إيم" متناوبة مع قافية "إين" فى سورة "الفاتحة". أما فيما يخص الوحدات الصوتية الصغرى (الفونيمات) فإننا نلاحظ هيمنة الوحدات التالية: "ميم" 15 مرة، و"لام" 12 مرة، و"نون" 12 مرة، و"هاء" 5 مرات. نحن نعلم أن التفسير التقليدى يضفى قيمة رمزية على كل وحدة صوتية وعلى عدد التكرارات، وبالتالى فإن الدراسة النظمية أو الإيقاعية للعلامات أو الكلمات ينبغى أن تتلوها الدراسة الرمزية، أو ينبغى أن تستطيل عن طريق الدراسة الرمزية" (ص 134). أرأيت؟ إن الرجل لم يقدم شيئا على الإطلاق رغم كل الوعود الجبارة التى لا أظن إلا أنه سينجزها يوما ما، عندما تقوم القيامة بإذن الله، وتكون فى يد الواحد منا فسيلة فيغرسها طبقا لنصيحة الرسول عليه السلام ولا يتعلل بأن القيامة ستقوم. فالدكتور أركون حين يُنْفَخ فى الصور وينادى المنادى: "يا دكتور أركون، ألم تنته بعد من إنجاز ما وعدتَ به قراءك فى كتابك عن القرآن؟ سوف تقوم القيامة بعد خمس ثوان، بعد أربع، بعد ثلاث، بعد ثانيتين، بعد ثانية"، الدكتور أركون عندما يسمع هذا التنبيه، وقبل أن يصل المنادى فى عدّه إلى كلمة "بعد ثانية" سيكون قد غرس البحوث والدراسات التى وعد بها، غَرَسَها فى الطين مع سائر الفسائل "لأنها دراساتٌ فَسْلة"، ولسوف تنبت إن شاء الله (ولكن فى العالم الآخر طبعا لأنه قد غرسها فى الوقت الحرج القاتل، أو كما يقولون فى لغة معلِّقى الكرة: فى الوقت الضائع) سوف تنبت أشجارا ضخمة وارفة الظلال مثقلة بالأثمار التى تتساقط فى أفواهنا ونحن نائمون تحتها نتمطى فى كسلٍ يليق بأهل الجنة التى يكذِّب بها الحداثيون والألسنيون والبروتوكوليون،(1/161)
فنمتلئ فى الحال من نعمة المعرفة الألسنية البروتوكولية، ونجد مادة للكلام والنقاش نقطع بها الوقت الطويل الذى نقضيه دون عمل، وندعو للدكتور أركون بأن "يزيده الله مما هو فيه" أنْ أَضْفَى على حياتنا هناك مسحة من الطرافة، إذ أعطانا الفرصة لكى نَرْكَب بتهكماتنا وسخرياتنا هذا الفكر البسبسانى المأمآنى، ونتسلى بما فيه من مأمآت ونَوْنَوَات مثلما كنا نفعل فى الدنيا! وهل وراءنا حاجة؟ الحمد لله، لا شغلة ولا مشغلة رغم ما يقوله بعض القاديانيين من أن حياة أهل الجنة لن تكون حياة سكون ودعة، بل حياة عمل وجهاد من أجل الارتقاء الروحى، تصورًا منهم أن قوله تعالى فى سورة "يس": "إن أصحاب الجنة اليوم فى شُغُلٍ فاكهون" معناه أنهم سيكونون دائما فى شغل وتعب وجهاد، مع أن الآية تحدد طبيعة هذا "الشغل" بأن المؤمنين سيكونون فيه فاكهين، لا عابسين ولا مرهقين ولا بَرِمين، وأنهم سيكونون مع زوجاتهم فى ظلال على الأرائك متكئين كما تقول الآية التى تلى ذلك! فأل الله ولا فألكم يا أتباع غلام أحمد! هل تريدون لنا وجع الدماغ من أول وجديد؟ ألم يكفكم ما نقاسيه فى هذه الدنيا المزعجة حتى تضيفوا إليه إزعاجا آخر فى الجنة؟ فأية جنة هذه يا ربى؟ (انظر The Holy Quran, Edited by Malik Ghulam Farid, The London Mosque, 1981, P. 952, N. 2454).
(1/162)
وعَوْدًا إلى ما قاله د. أركون عن مبادئ البروتوكول التقليدى فى تفسير القرآن وما توجبه من الاستعانة بالنحو وعلم اللغة التاريخى والبلاغة والمنطق للوصول إلى معنى النص القرآنى، والفرق بينها وبين مبادئ بروتوكوله هو التى لا تعرف هذه الاستعانة ولا تبالى بها، نلفت نظر القارئ إلى أنه أمضى الصفحات التى خصصها لسورة "الفاتحة" فى الكلام عما تشتمل عليه السورة الكريمة من ضمائر وأسماء وأفعال وبنيات نحوية، محاولا الوصول إلى شىء من المعنى من وراء هذه الإحصاءات عبثا، ومتخبطا فى أثناء ذلك تخبطا لا يليق بمن يتصدى لتفسير كتاب الله العظيم حتى لو كان من طائفة البسبسانيين المأمآنيين! فمثلا يرى سيادته بعلمه العبقرى أن السورة تحتوى على فعلين مضارعين (هما: "نعبد، ونستعين") أُسْنِدا إلى البشر (جماعة المؤمنين)، وفعلٍ واحدٍ ماضٍ مسند إلى الله (هو: "أنعمتَ")، وأن السبب فى هذا أن الفعل المضارع يدل على استمرار المحاولة وديمومة التوتر، فهو يناسب البشر، بخلاف الماضى الذى يدل على أن الأمر قد تم وانتهى الأمر ولا مرجوع عنه، وهو ما يناسب القدرة الإلهية (القرآن من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الدينى/ 130- 131). وهذا كلامٌ خديجٌ لا نضج فيه، إذ كثيرا ما تُسْنَد الأفعال المضارعة إلى الله، والماضية إلى البشر، والعبرة بالسياق والمعنى لا بصيغة الفعل كما فى الشواهد التالية، وكلها من القرآن الكريم ذاته: "الله يستهزئ بهم ويَمُدّهم فى طغيانهم يعمهون"، "قال إنه يقول إنها بقرةٌ لا فارض ولا بِكْر"، "قد نرى تقلُّب وجهك فى السماء"، "والله يرزق من يشاء بغير حساب"، "يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم"، "الله ولىّ الذين آمنوا يُخْرِجهم من الظلمات إلى النور"، "قل: إن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء"، "ولله ما فى السماوات وما فى الأرض، يغفر لمن يشاء، ويعذب من يشاء"، "يُوصِيكم الله فى أولادكم: للذَّكَر مثل حظ الأُنْثَيَيْن"، "فأولئك يتوب(1/163)
الله عليهم"، "يريد الله أن يخفف عنكم"، "أولئك الذين يعلم الله ما فى قلوبهم"، "ويستفتونك فى النساء. قل: الله يفتيكم فيهن"، "لكنِ اللهُ يشهد بما أنزل إليك"، "يَهْدِى به الله من اتَّبع رضوانه سُبُل السلام"، "قد نعلم إنه لَيَحْزُنك الذى يقولون"- "لقد كفر الذين قالوا: إن الله هو المسيح بن مريم"، "فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه"، "وقالت اليهود: يد الله مغلولة"، "فقد كذَّبوا بالحق لما جاءهم"، "انظر كيف كذَبوا على أنفسهم"، "وَذَرِ الذين اتخذوا دينهم لهوًا ولَعِبًا وغَرَّتْهم الحياة الدنيا"، "وما قَدَروا الله حَقَّ قَدْره"، "وجعلوا لله شركاءَ الجِنَّ"...إلخ إن كان لذلك من آخر. لكنك، يا بروفيسير، لا بضاعة علمية لديك ذات قيمة. إنما هى الحذلقة والانتفاش بما تظن أنه عندك من العلم الخطير العميق، وما هو بعميق ولا خطير. ومما قاله سيادته أيضا فى تحليله للسورة إن أداة التعريف "أل" التى تكررت فى قوله تعالى: "اهدنا الصراط المستقيم* صراط الذين أنعمتَ عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين" تدل على أن "هذه التراكيب هى عبارة عن مفاهيم أو أصناف أشخاص محدَّدين بدقة من قِبَل المتكلم وقابلين للتحديد من قِبَل المخاطب عندما يصبح بدوره قائلا أو متكلما" (ص 127). ويزيد تابعُه "..." الأمرَ بيانا فيعلّق فى الهامش قائلا إن "المقصود بذلك أن كلمة "المغضوب عليهم" أو "الضالين" تدل على أشخاص محدَّدين بدقة فى مكة، وكانوا معادين للرسالة الجديدة، ولذلك دُعُوا بـ"المغضوب عليهم" و"الضالين". ولكن القرآن لا يحدد أسماءهم، وإنما يترك الصياغة عامة شمولية تنطبق على أعداء هذا الدين فى كل زمان ومكان"، مع أن المفسرين لا يذكرون أبدا أن المقصود أحد من أهل مكة ، فضلا عن أن يحددوا هذا "الأحد"، بل الموجود عادة فى كتب التفسير أنهم اليهود والنصارى ، وإن كنت أفهم الكلام فى الآية على أنه عام لا يختص بقوم دون غيرهم. ولو كان(1/164)
القرآن يقصد أشخاصا بأعيانهم كما يزعم بروفيسيرنا لجاء تعبيره مختلفا مثلما هو الحال فى قوله تعالى: "عبس وتولَّى* أنْ جاءه الأعمى"، "أفرأيتَ الذى تولَّى* وأعطى قليلا وأكدَى؟* أعنده علم الغيب فهو يرى؟"، "ذرنى ومن خلقتُ وحيدا* وجعلت له مالا ممدودا* ومهَّدت له تمهيدا* ثم يطمع أن أزيد"، حيث يدل السياق الحكائى والتعبير اللغوى على أن الكلام يدور على شخص بعينه وليس كلاما عاما. أى أنه ليس فى أسباب النزول الخاصة بالسورة ولا فى طريقة التعبير فيها ما يمكن أن يفهم منه أن المقصود بـ"الضالين" و"المغضوب عليهم" أشخاص معينون من أهل مكة، وبخاصة أن "فاتحة الكتاب" هى النص القرآنى الوحيد الذى يجب الصلاة به، وفى كل ركعة منها لا فى واحدة وكفى، ولا تصحّ الصلاة من دونه، فلا يعقل أن يكون مدارها على شخص أو أشخاص بأعيانهم. وهكذا ترَوْن، أيها القراء، كيف أن الرجل الذى يقلل من شأن النحو واللغة فى عملية التفسير القرآنى كما رأينا، لم يستطع أن يتجاهل فيما يسميه: "تحليل الخطاب القرآنى" اللغة ولا النحو، لكن دون أن يستطيع الاستفادة منهما للأسف. ليس هذا فحسب، بل ثمة ارتباك واضطراب فى استعمال المصطلحات النحوية واضحان، وهو ما يؤكد ما قلناه مرارا عن قلة بضاعة البروفيسير من العلم بالموضوع الذى تصدى له رغم أنه هو الميدان الذى تخصص فيه وأصبح أستاذا. وهذا كل ما يقدمه لنا الدكتور أركون من خلال ما يسميه: "تحليل الخطاب الدينى"، وهو لا يشفى غليلا ولا يزيد القارئ علما بشىء فى السورة، فلا رجوع لأسباب النزول ولا تعمق فى تحليل دلالات الاختيارات المعجمية أو الصيغ الصرفية أو التراكيب النحوية التى رُوعِيَتْ فى كلمات السورة وبناء جملها وما فيها من تقديم وتأخير وحذف وذكر وتكرير وما إلى ذلك، ولا التفات لما تريد السورة أن تغرسه فى عقل المسلم وقلبه من عقائد ومشاعر ومفاهيم مما تعج به كتب التفسير، التى لا تعرف هذه البهلوانيات الألسنية(1/165)
الضحلة، ويعمل الأستاذ الدكتور عبثا على التقليل من شأنها. إن ما نطالبه به هو من الأمور الصعبة التى تحتاج إلى صبر وجِدّ، ولا يصلح فيها التنفج الكاذب، ومن هنا ينصرف عنها النابتة الجديدة ممن يُسَمَّوْن بـ"الكتاب الحداثيين" ممن يقبلون بغَشْم على نصوص الأدب والقرآن فيعيثون فيها فسادا كما يفعل الثور الهائج حين يقتحم محلا لبيع تحف الخزف، فهو يدوسها بأظلافه وينطحها بقرونه لأنه لا يدرك قيمتها!
(1/166)
وهذا المتنطس الذى لا يعجبه المنهج الذى يتبعه المفسرون المسلمون والذى يستعينون فيه، ضمن ما يستعينون، بالنحو والصرف والبلاغة، يغرق فى شبر ماء أمام كلمة "أَمْ" الواردة فى الآية التاسعة من السورة الثانية التى يريد تحليلها على منهجه (أو "بروتوكوله" حسب تعبيره، وكأننا بصدد تشريفات ملكية)، وهى سورة "الكهف" فلا يجد إلا ما يقوله الجاهل ريجى بلاشير (الذى أعماه الله سبحانه فى أخريات حياته حتى يكون عَمَاه من العَمَى الحيسى ويجمع بين عمى البصيرة والبصر)، فيردده فرحا به كأنه وقع على كنزٍ شماتةً منه بالقرآن، وكان الأحرى به بدلا من هذا أن يشعر بالخجل لأنه دائم التنفج فى كتاباته بأن منهجه الجديد (الذى هو آخر صيحة فى عالم الأزياء التحليلية) يختلف عن منهج المستشرقين السابقين البالى. إلا أن الكيد للإسلام يستحق أن يلحس أركون كلامه وتنفجاته وينسى ما صدع رؤوسنا به فى كثير من كتاباته ويجرى وراء المستشرقين الذين كانوا لا يعجبونه مرددا كلامهم. فماذا قال بلاشير وردده وراءه أركون دون أن يتمعن فيه؟ قال بلاشير إن "أَمْ" هذه لا تستعمل إلا للتناوب أو المفاضلة بين شيئين، لكن الملاحَظ أنها فى آيتنا هذه لا يسبقها شىء يمكن أن يشكّل الطرف الآخر فى عملية التناوب، ومن ثم فإن الآيات قد تعرضت لعملية تلاعب، وهذا التلاعب يدل عليه غياب الطرف الآخر للتناوب (ص 148). يقصد أن "أم" فى قولنا مثلا: "أتأكل تفاحا أم كمثرى؟" هى للمناوبة بين هاتين الفاكهتين اللتين ينبغى أن تختار واحدة منهما فقط. لكن فات بلاشير ومقلده أن "أم" لا تنحصر فى هذه الوظيفة، بل لها عدة وظائف: ففى قوله تعالى: "سواء عليهم أأنذرتَهم أم لم تُنْذِرهم: لا يؤمنون" نراها تدل على أنه لا فائدة فى هذا أو ذاك، فالنتيجة واحدة فى الحالتين. أما فى قولنا: "أزيد عندك أم عمرو؟" فتدل على الرغبة فى تحديد الموجود من الشخصين. وتسمى "أم" فى هذين التركيبين: "أم المتصلة"،(1/167)
لأنها متصلة بما قبلها، وهذا ما ظن بلاشير ومقلده أنه كل مهمتها. لكنهما قد فاتهما (أو بالأحرى: "فات بلاشير وحده" لأن أركون هنا إنما هو مجرد مردِّد لما قاله بلاشير دون تمعن، فينبغى ألا يُحْسَب له حساب) فات بلاشير أن هناك "أم" أخرى هى "أم المنقطعة" التى ليس للاسم الذى بعدها مناوبٌ قبلها، بل تنشئ كلاما جديدا كما هو الحال فى الآية محور الكلام، ونصها: "أم حَسِبْتَ أن أصحاب الكهف والرَّقِيم كانوا من آياتنا عَجَبا؟"، والتى يقول المفسرون إن معناها هنا "بل أ...؟"، وإن كانت تأتى أحيانا بمعنى "بل" فقط دون همزة كما فى قوله تعالى: "فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة أم من يكون عليهم وكيلا؟" (النساء/ 109). وأنا أضيف حالتين أُخْرَيَيْن: أولاهما تأتى فيها "أم" للمناوبة بين طرفين، لكن الطرف الأول لا يُذْكَر، بل يُفْهَم ضمنيا من الكلام السابق، كما فى قول أحدنا مثلا: "رأيى أن تأخذ فلانا باللين والهوادة وأن تصبر عليه طويلا، ولسوف يَصْلُح حاله بهذا الأسلوب إن شاء الله. أم لك رأى آخر؟". والمعنى: "أتوافقنى على رأيى هذا أم إن لك رأيا آخر؟"، إلا أن عبارة "أتوافقنى على رأيى هذا" ليست مذكورة فى الكلام كما هو واضح، بل تُفْهَم فهمًا من السياق. والأخرى بمعنى: "أَتُراك...؟"، وهذا المعنى الأخير لا يكون إلا فى بعض حالاتِ مجيئها منقطعة، وأنا أفهم الآية على هذا المعنى. ومع ذلك كله لقد كان ينبغى على بلاشير ومقلده ألاّ يُطَنْطِنا بهذا الذى طَنْطَنَا به، فالنبى الذى جاء بالقرآن (أو "اخترعه" كما يقول من لا يؤمنون بنبوته عليه السلام) عربى، ومن ثم فإن ما يقوله هو الصواب لا ما يُرْجِف به هؤلاء الأعاجم. وحتى لو قلنا إن المسلمين قد غيَّروا فى القرآن من بعده صلى الله عليه وسلم، فالذين غيروا فيه هم أيضا عرب، ومن ثم فما يقولونه هو الصواب. أليس هذا ما يمليه المنطق؟ لكن القوم، حين يتعلق الأمر بالإسلام والقرآن، لا يهتمون بمنطق(1/168)
ولا عقل، بل تشغلهم أحقادهم وتُذْهِلهم عن كل شىء! وهذا الاستعمال قد تكرر فى القرآن كثيرا جدا بحيث لا يمكن، مهما تسامحنا مع الببغاوات، أن نظن أنه خطأ فى كل هذه المواضع! اللهم إلا أن يكون العرب والمسلمون من الجهل والبلادة فى لغتهم بدرجة ليس لها نظير فى التاريخ! وقد رجعتُ إلى كتاب النحو الذى وضعه بلاشير (بمشاركة جودفروا ديمومبين) لطلاب الاستشراق فوجدتهما لا يذكران من "أم" إلا المتصلة، وهى التى سبقتها همزة، سواء كاتت همزة استفهام أو همزة تسوية، كما فى المثالين اللذين ضربتهما قبل قليل (Grammaire de L Arabe Classique, Maisonneuve et Larose, Paris, 1966, PP. 218, 469)، فهذه كل بضاعة النحو عند هذا المستشرق، وذلك هو السر فى الخبط الجاهل الذى تناول به الآية وزعم أنه قد سقط قبلها كلامٌ جرّاءَ العَبَث الذى وقع فى القرآن بعد وفاة النبى عليه السلام. وعلى أية حال هأنذا أورد العينة التالية من الشواهد القرآنبة على ذلك الاستعمال لمن يريد أن يطمئن على هذا الذى نقول: "أم حسِبْتم أن تدخلوا الجنة ولَمّا يأتكم مَثَلُ الذين خَلَوْا مِنْ قبلكم؟" (البقرة/ 214، ومثلها كل الآيات التى تبتدئ بعبارة "أم حسبـ(ـتَ/ تم))")، "أم يقولون: افتراه؟" (يونس/ 38، وهود/ 35 مرتين، والسجدة/ 3، والأحقاف/ 8)، "أم اتخذ مما يخلق بناتٍ وأَصْفاكم بالبنين؟" (الزخرف/ 16)، "ما لكم؟ كيف تحكمون؟* أم لكم كتاب فيه تَدْرُسون؟" (القلم/ 37). ومن يُرِدْ شواهد أخرى من القرآن فبمكنته أن يراجع المواضع التالية: البقرة/ 133، والنساء/ 53، والرعد/ 33، والأنبياء/ 21، 24، 43، والنمل/ 20، وفاطر/ 40، والصافات/ 156، وص/ 9، والزمر/ 43، والشورى/ 9، 21، 24، والأحقاف/ 4، ومحمد/ 29، والطور/ 30، والملك/ 20، والقلم/37. ومثلُ "لم" فى هذا استخدامُ القرآن للظرف "إذ" فى أول الكثير من قصصه دون أن يسبقه كلام، وهو ما لا أذكر أنى رأيته خارج القرآن شعرًا أو(1/169)
نثرا.وهذه الـ"إذ" يقابلها قولنا حين نريد أن نحكى لأحدٍ حكاية: "كان يا ما كان" أو "يحكى أن" أو "حدث ذات مرة" أو ما إلى ذلك. ويقول المفسرون بأن معناها: "اذكر"، وهو معنى لا يذهب بعيدا عما قلناه. فهل يصح أن يأتى من يتحامق قائلا إن هذا استعمال خاطئ، وإنه يدل على أنه كان ههنا كلام، ثم حُذِف؟ لكن أين ذهب؟ ألعله أكلته كذلك يقف أركون يفرك يديه ابتهاجا ساذجا إزاء قوله تعالى فى الآية الخامسة والعشرين من السورة ذاتها عن المدة التى بقيها أصحاب الكهف فى كهفهم: "ولبثوا فى كهفهم ثلاثَمائةٍ سنين وازدادوا تسعا"، وَهْمًا منه، وممن يردد كلامهم بعَبَله دون أن يتوقف ليتثبت منه قبل ترديده، أن فيها شذوذا لغويا، إذ كان ينبغى أن يكون الكلام فى رأيهم هكذا: "ثلاثَمائة ِسنةٍ" لا "ثلاثمائةٍ سنين"، وهو ما يرتبون عليه افتراض "العديد من الافتراضات حول شروط أو ظروف تثبيت النص" كما يقول بلاشير (القرآن من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الدينى/ 148). ثم يضيف الدرويش فى الهامش قائلا إن "النقد الفيلولوجى يكشف عن أشياء مذهلة ويطرح تساؤلات عديدة، ولكن من دون أن يستطيع القطع بشىء". يقصد أن منهج المستشرقين السابقين لم يكن يساعدهم على الاستفادة من النتائج التى يتوصلون إليها، بخلاف أركون ومنهجه الذى يسوِّل له أن يطير بكل شبهة سخيفة مطنطنا بها ومخطِّئا القرآن دون تبصر أو مراجعة! ترى هل من المنهج العلمى أن يطير الباحث مع أوهامه دون أن يراجع نفسه لعله قد أخطأ أو تسرَّع أو سَهَا أو فاتته أشياء يجهلها؟ لماذا كلما كان الأمر ينصبّ فى ناحية الإساءة للقرآن والتشكيك فيه نرى أستاذك يفقد حذره ووسوساته التى يفلقنا بها دائما عندما تكون الوقائع كلها فى صف النص القرآنى؟ فمثلا معروف بين العالمين جميعا أن حرص المسلمين على قراءة القرآن فى الصلاة وخارج الصلاة يتعبدون به ويتقربون إلى الله منذ بداية نزوله حتى الآن كان له دور عظيم فى(1/170)
الحفاظ على النص القرآنى فى الذاكرة المسلمة، والدكتور محمد أركون لا يمارى فى ذلك، إذ يقول: "إن الاستخدام الطقسى أو الشعائرى للنص القرآنى ساهم بالتأكيد وبشكل مبكر فى تثبيته" (القرآن من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الدينى/ 155/ هـ1). ويحسب القارئ المسكين أنه لا خلاف إذن بينه وبين الكاتب، بيد أن البروفيسير لا يعطيه فرصة للاستمتاع بهذا الوهم، إذ سرعان ما يسدد ضربة غير قانونية إلى فكه قائلا: "لكن لهذا الاستخدام بالذات تاريخ لا نعرفه، بمعنى أننا لا نعرف متى بدأ المسلمون يستخدمون النص القرآنى كنص عبادى فى الصلوات والطقوس، ولا كيف تطور ذلك على مدار التاريخ" (نفس المرجع والصفحة والهامش). ترى هل يُعْقَل أن أركون يجهل منذ متى شرع المسلمون فى قراءة القرآن فى صلواتهم وعبادتهم؟ إن قراءة القرآن هى فى حد ذاتها عبادة وقربى إلى الله، وهو ما يعنى، لهذا السبب على الأقل، أنها قد بدأت منذ اللحظة الأولى لنزوله. لكن الدكتور أركون لا يستطيع إلا أن يكون تلميذا وفيًّا لذلك الصنف من المستشرقين الذين لا يتركون أى شىء فى الإسلام إلا ويشككون فيه: هكذا "لله فى لله". ولنعد الآن لما كنا بسبيله، ولسوف أطرح عليه وعلى من ينقاد لهم دون تبصر أو تفكير عدة أسئلة لعلهم يحاولون الإجابة عليها فتتضح لهم على ضوء هذه المحاولة حقيقة الأمر، وإن كنت أشك فى ذلك كثيرا: هل يظن المستشرقون أن من حقهم، وهم الأعاجم، وبعد كل هذه القرون المتطاولة، أن يخطِّئوا أسلوب القرآن حتى لو قلنا معهم إن صاحبه هو محمدبن عبد الله؟ أليس ما يقوله محمد هو الصواب الذى يُحْتَجّ به لا الخطأ الذى يُسْتَدْرَك على صاحبه؟ إن محمدا لا يختلف فى هذه الحالة عن أى شاعر أو خطيب جاهلى، فضلا عن أى أعرابى ممن كان العلماء يسعَوْن إلى البادية للالتقاء بهم وأخذ اللغة عنهم، فلماذا هو من دون العرب جميعا الذى ينبغى أن يكون مخطئا؟ الأن هذا التركيب وأمثاله لم ترد فى(1/171)
كتب النحو التى تُدْرَس فى المدارس؟ لكن متى كانت هذه الكتب تستوعب كل إمكانات اللغة العربية فى الجاهلية قبل أن تُفَنَّن القواعد على النحو الذى نعرفه فى كتب النحو والصرف الخاصة بتلاميذ المدارس؟ إن القرآن نفسه رغم كونه المثال الأعلى فى الفصاحة العربية لا يستوعب هذه الإمكانات، فكيف يفكر أحد فى محاكمته إلى كتب الطلاب الصغار الذين أُريد الابتعاد بهم عن كل ما يخرج عن القوالب البسيطة المباشرة ولا يعرفون من هذه الإمكانات إلا أقل القليل؟ إن هذا لأشبه بمن يريد نَطْل البحر بكستبان إبرة! على أن ليس معنى كلامى هذا أننى أغضّ الطرف على التشكيك فى مصدر القرآن الإلهى، بل كل ما أريد قوله أن الحجة التى يستند إليها من يقصد التشكيك فى هذا المصدر هى حجة داحضة لا تثبت على محكّ النقد على الإطلاق، ومن ثم فالاستناد إليها للتشكيك فى إلاهية المصدر القرآنى استناد إلى حائط مائل كما نقول فى مصر. أما إيمان أمثال هؤلاء أو كفرهم فلا يعنينى، فلست موكلا بالقلوب أهديها. إنما أنا واحد من أهل العلم مقتنع بأن هذا القرآن هو من عند الله، ولهذا أرى أنه لا بد من وقف هذه الهجمات الجَراديّة الحمقاء، بالمنطق طبعا والحجة والتدقيق فى الكلام والاستشهاد بالنصوص على الوجه المستقيم...إلخ. ولقد غَبَرَ علىّ زمان كنت أسارع فيه إلى تخطئة أىّ أسلوب لا يجرى على القواعد كما درسناها فى المدارس، والاعتراض على أية كلمة لا أجدها فى المعجم الصغير الذى لم أكن أملك غيره فى شبابى الأول. لكنى كلما كَبِرْتُ واسْتَحْصَدَتْ معارفى واتسع أفقى اللغوى تبين لى أن الأمور ليست كما كنت أظن، وأن اللغة بحرٌ هدّارٌ لا يستطيع السباحة فيه كل من هب ودب، وإلا فعلينا أن نخطّئ معظم الشعراء العرب الأقدمين، إن لم يكن كلهم، لأنهم لا يجرون دائما على قواعد النحو والصرف كما ندرسها فى المدارس، وهو ما لا يقول به أى عاقل، بل الحاقدون الموتورون وحدهم! وفى الكتب التى(1/172)
تُعْنَى بالصحة اللغوية كثير من الأقاويل التى شاعت وذاعت على غير أساس، ومع هذا يرددها الخلف عن السلف كأنها "قرآن منزل" (أكاد أضحك الآن على هذا التشبيه بعد أن ظهر لنا أمثال بلاشير وأركون وجماعات المبشرين الذين يتطاولون على القرآن ويخطّئونه). لنأخذ مثلا تأكيدهم أن تكرار كلمةِ "بين" مع اسمين ظاهرين خطأ، فلا يصح أن نقول: "بين عمر وبين أحمد" بل لا بد أن نقول: "بين عمر وأحمد"، بخلاف ما لو كان أحد طرفَىِ البينيّة أو كلاهما ضميرا مثل: "بين محمد وبينى" أو "بينى وبينه"، مع أن العبد لله قد استطاع أن يضع يده قبل عدة أعوام على نحو ثلاثين شاهدا من عصور الاحتجاج اللغوى لتكرار "بين" مع اسمين ظاهرين أوردتُها فى كتابى "من ذخائر المكتبة العربية" فى آخر الفصل الخاص بكتاب "معجم البلدان" لياقوت الحموى، غير ماعثرت عليه بعد ذلك. كما ثارت بينى وبين زميل لى أحبه وأقدر علمه مناقشةٌ منذ وقت ليس بالبعيد حول مدى الصحة فى مجىء فعلِ" كلما" أو جوابِها مضارعا، وأردت أن أتثبت بنفسى من صواب رأى من يرفضون هذا ويلحّون على أنه لا بد أن يكون فعل هذه الأداة وجوابها كلاهما ماضيا، فإذا بى أجد نحو اثنى عشر شاهدا من الشعر القديم يستعمل فيها أصحابها فعلَ "كلما" وجوابَها مضارعا، وفى الحال تراجع الزميل الكريم عن موقفه الذى كنت فى البداية أكثر ميلا إليه تبعا لما كننت أسمع من تخطئة من يخالفونه. ومثل ذلك ما كنت قد قرأته فى مطلع شبابى عند بنت الشاطئ من أنه لا يصح أن نقول: "قد لا يأتى محمد"، بإدخال "لا" على "قد"، بل لا بد من استعمال "ربما" بدلا من "قد" فى حالة النفى، وإبقاء "قد" للإثبات فقط. ثم تبين لى فيما بعد أن من العرب القدماء من كان يجمع بين "لا" و"قد". إن السبب فى هذه المسارعة إلى التخطئة هو الظن بأننا قد أحطنا باللغة خُبْرا، على حين أن معرفتنا بها ليست بهذه الإحاطة التى يتصورها بعضنا، وقد كنت أنا من هؤلاء البعض يوما.(1/173)
أما الآن، وبعد انتشار الموسوعات والمعاجم الألكترونية، فقد أصبح من السهل علينا أن نعرف فى ثوانٍ قلائل ما كان أجدادنا ينفقون فى تحصيله الشهور، وربما السنين أيضا، وإن لم ينقص هذا من قدرهم، فقد كانوا عباقرة رغم ذلك!
(1/174)
هل هذا كل شىء؟ لا، فما زلنا فى بداية الكلام، فالصَّبْرَ الصَّبْرَ أيها القارئ لترى بنفسك السخف الشيطانى الصبيانى الذى يتعامل به أعداء القرآن مع هذا الكتاب العظيم يظنون أنهم قادرون على أن يطفئوا نور الشمس بنَفَسٍ من أنفاسهم الواهنة المنتنة. معروف أن اللغة العربية، بسبب من إعرابها الذى يحاربه هذه الأيام بعض من يكرهونها ولا يستطيعون أن يرَوْا بهاء محاسنها للرَّمَد الذى فى عيونهم، يعطيها مرونة عالية فى تركيب العبارة، إذ مهما قدّمنا أو أخرنا أو حذفنا فإن الإعراب يُسَهِّل التعرف على وظيفة الكلمة رغم ذلك فى معظم الأحيان، وهو ما لا يتوفر للّغات الأخرى بوجه عام. إن بلاشير، وأركون من ورائه، يتصوران أن اللغة العربية لا تعرف إلا وضعا واحدا لكل حالة من حالات التمييز، ومن هنا فإنهم لا يتخيلون أن من الممكن أن يجىء تركيب الكلام فى تمييز "ثلاثمائة" وأمثالها إلا هكذا: "ثلاثمائةِ سنةٍ، ستمائةِ امرأةٍ، تسعمائةِ كتابٍ" بإفراد التمييز وخفضه على الإضافة كما ترى. لكن هذا، وإن كان هو ما يعرف التلاميذ، ليس كل شىء، إذ كان العرب أيضا يجمعون المعدود فى هذه الحالة مع الإضافة أو قطعها، وإن لم يشتهر الجمعُ اشتهار الإفراد. وما دام هذا الاستعمال قد ورد فى القرآن فمعنى ذلك أنه صحيح، حتى لو كان محمد هو مؤلف القرآن، بل حتى لو قلنا إن القرآن قد تعرض لتدخل من العرب بعد وفاة الرسول حسبما يزعم الزاعمون السخفاء مثلما سبق أن شرحنا. إن القول بغير هذا هو العَتَه بعينه لأنه لا يحدث فى أية لغة فى العالم، إلا أن الحقد المجنون يريد أن يلغى لنا عقولنا فنردد حماقاته دون تبصر، والعياذ بالله! وفى المثال الذى نحن بصدده من سورة "الكهف" يمكننا أن نركِّب الكلام على أكثر من وضع فنقول: "ثلاثَمائةِ سنةٍ، ثلاثَمائةٍ من السنين، سنين ثلاثَمائةٍ، ثلاثمائةٍ سنين، ثلاث مئاتٍ من السنين"، ولكلٍّ نكهتها وظلالها الإيحائية, وأحب أن أقف عند(1/175)
التركيب الذى ظن بلاشير ومقلّده أركون أنه هو وحده لا سواه التركيب الصحيح، ثم أُقَفِّىَ بالكلام عن التركيب الذى اعترضا عليه، أو بالأحرى اعترض عليه بلاشير فاعترض معه آليا د. أركون. فأما التركيب المعتاد فهو يشير إلى "عدد الثلاثمائة" وأنه سنون، والخطاب فيه موجَّه إلى من لا يرى فى العدد ولا فى تمييزه ما يدعو إلى الاستغراب أو الاستنكار. ولذلك فنحن نستخدم هذا التركيب عادة عندما لا نريد أن نعبر عن أى شىء آخر غير هذا المعنى العام. أما إن كان المخاطَب متشككا فيما نقوله له أو يستهوله، كأن يستبعد أن يكون العدد ثلاثمائة أو أن يكون التمييز سنوات لا أياما مثلا، فعندئذ يكون هناك موضع للتركيب القرآنى، فكأن المتكلم يريد أن يقول: نعم، العدد ثلاثمائة، وهذه الثلاثمائة هى سنوات لا أيام ولا أسابيع ولا حتى شهور. إنها سنوات " كلّ سنةٍ تنطح الأخرى" بالتعبير المصرى الدارج. فـ"سنين" فى هذا التركيب الأخير هى بدل من "الثلاثمائة"، أى أن السنين ليست مجرد تمييز لها، بل هى الثلاثمائة نفسها عدًّا وإحصاءً. إن المفسرين ومُعْرِبى القرآن لا يتوقفون طويلا أمام هذا التركيب لأنهم ببساطة لا يجدون فيه شيئا، بخلاف الذين لا علم لديهم ويعترضون على ما يجهلون، فهم يعملون من الحبة قبة! أما أنا فلم أشأ أن أردد فقط ما قاله النحويون فى إعراب الآية، بل أردت أن أضيف لما يقولون ما لعله يكشف شيئا مما وراء ظاهر التعبير من أسرار النفس وأغراض البلاغة. ومثل هذا القلب الذى يقابلنا فى هذه الجملة (إذ هى فى الواقع محولة عن "سنين ثلاثمائة" لا عن "ثلاثمائة سنة") له نظائر فى اللغة كثيرة، فنحن نقول مثلا: "ضُرُوبًا من المنى، وأفانينَ من اللذات" على حين يقول ابن زيدون فى نونيته العبقرية: "مُنًى ضُروبًا ولذّاتٍ أفانينا" فيضفى على العبارة العادية حيوية مدهشة لم تكن لها. كما أننا نقول: "عدةَ سنوات" و"سنواتٍ عدة"، وفى هذه ما ليس فى تلك: فالأولى(1/176)
تعنى "عددا من السنوات"، أما الأخرى فتعنى "عددا كبيرا من هذه السنين"...وهكذا. ومرة أخرى هل هذا كل شىء؟ والجواب: كلا، فما زال هناك ما يقال مما يمكن أن يتعلم منه المستشرقون وصبيانهم لا لأنى أذكى منهم أو أكثر علما، وإن كان هذا جائزا، فلست بالذى يعمل فى هذا المقام على أن يبخس نفسه حقها، ولكن لأنى أبذل كل ما لدىّ من جهد رغم أنى فى الظروف التى أنا فيها الآن لا أملك من المراجع ولا أدوات البحث ما يجده هؤلاء تحت أيديهم، فضلا عما أُحِسُّه فى أعماق ضميرى من الرغبة الحارقة المخلصة للوصول إلى برد اليقين. وعلى هذا فقد أخذت أنقّب بحثًا عن شواهد من خارج القرآن توضح ما أقول، لا لأنى أرى أن القرآن يحتاج لما يعضده (فقد شرحت كيف أن القرآن، حتى لو قلنا إن محمدا هو مؤلفه...إلخ، لا يمكن أن يكون محل شك عند من له مُسْكة من عقل)، بل لمزيد من التوضيح ونزولا إلى مستوى من نناقشهم. فقد قرأنا مثلا أن والدة الإمام الأعظم أبى حنيفة النعمان لم تكن تطمئن إلى ما يفتيها به، إذ كانت رغم كل شىء تنظر إليه على أنه ابنها لا ذلك العالم العملاق، فكانت تقصد أحد تلاميذه ممن تظن أن عنده من العلم ما ليس عند ابنها، وكان هذا يحرج التلميذ إحراجا شديدا. وهو نفسه ما يقاسيه بعضنا عندما يسألنا أحد أولادنا فى المرحلة الابتدائية أو الإعدادية مثلا عن شىء فى تخصصنا فنجيبه بما لم يسمع به فى المدرسة، فينظر إلينا فى تشكك ويأبى أن يقتنع ظنًّا منه أن الكتاب المدرسى والمدرس الذى يدخل عليهم الفصل فيقومون قياما على أمشاط أرجلهم وهم صامتون لدرجة أنك لو رميت الإبرة لَرَنَّتْ لا يمكن أن يخطئا، بل المخطئ هو بابا الذى يراه فى مباذله فى البيت أمامه ليلا ونهارا، ولا يوجب له نظامُ المنزل أن ينتصب له عند دخوله عليه واقفا أو يصمت فلا يتكلم. وعلى ذلك فإننى أسوق الشواهد الشعرية التالية التى جاء فيها المعدود مجموعا لا مفردا، أو مقطوعا لا متصلا، أو(1/177)
الاثنين كليهما، فمن ذلك قول علقمة الفحل:
فكان فيها ما أتاك وفى * تسعين أسرى مقرنين وصفد
وقول عمرو بن كلثوم:
رددت على عمرو بن قيس قلادة * ثمانين سُودًا من ذُرَى جبل الهضب
وقول ربيعة بن ضبع الفزارى:
إذا عاش الفتى مائتين عامًا * فقد ذهب اللذاذة والفتاءُ
وقول السيد الحِمْيَرى:
ثلاثة آلافٍ ملائك سلّموا * عليه فأدناهم وحَيّا ورحَّبا
وقول أبان اللاحقى:
يُجْرِى على أولاده خمسةً * أرغفةً كالريش طيارة
وقول ابن المعتز:
وأجّلونى خمسةً أياما * وطوّقونى مثلكم إنعاما
وقول ابن أبى الحديد:
عام ثلاث ثم أربعينا * من بعد ستمائةٍ سنينا
وقول إبراهيم الحضرمى:
وخمس مثين بعد خمسين درهما
وقول أحمد بن مأمون البلغشى:
من عام خمسة وأربعينا * بعد ثلاث عشرةٍ مئينا
وقول أحمد بن على بن مشرف:
إلى ثلاثمائةٍ سنينا * يخادعون الله والذينا
(1/178)
ومضِيًّا فى سياستى فى النزول على شرط الخصم وعقليته أُضِيفُ، إلى ما سبق، الشواهد التالية مما يسمَّى: "الكتاب المقدس"، وقد يبدو ذلك غريبا، فلهذا أكرر هنا ما قلته من قبل من أننى أربأ بالقرآن أن يكون أى شىء آخر حاكما عليه، إلا أن المسألة لا تتعلق بى، بل بخصوم سخفاء لا يعجبهم العجب. لهذا رأيت أن أستشهد بالكتاب المقدس، فهو كتاب نصرانى كتبه نصارى، ومن ثم لا يمكن أن يقال إنهم يقلدون أسلوب القرآن أو يريدون الدفاع عنه. جاء فى الترجمة الكاثوليكية التى راجعها ونقّح أسلوبها الأديب والعالم اللغوى الشهير الشيخ إبراهيم اليازجى، الذى كان يتشدد فى مسألة السلامة اللغوية تشددا مرهقا: "هذه عشائر القهاتيين بإحصاء كل ذكرٍ من ابن شهر فصاعدا ثمانية آلافٍ وستمائةٍ قائمون بحراسة القدس" (العدد/ 4/ 28)، "وإخوتهم ورؤوس بيوت آبائهم ألفٌ وسبعمائةٍ وستون جبابرةُ بأسٍ لعمل خدمة بيت الله" (أخبار الأيام الأول/ 9/ 13)، "ومن الحبرونيين حَشَبْيا وإخوتُه ألفٌ وسبعمائةٍ ذوو بأس" (أخبار الأيام الأول/ 26/ 30)، "وإخوته ألفان وسبعمائةٍ ذوو بأس" (أخبار الأيام الأول/ 26/32)، وفى الترجمة اليسوعية: "فجعل منهم سبعين ألف حمّالٍ وثمانين ألف قطّاعٍ على الجبل وثلاثة آلافٍ وكلاءَ لتشغيل الشعب" (أخبار الأيام الثانى/ 2/ 18). والآن ماذا يا ترى يمكن أن يقول د. أركون؟ أيرى أنه يتبع فعلا منهجا علميا صارما ومتقشفا كما يلحّ ويكرر دون أن يمل حتى مللنا مللا شديدا من هذا التنفج الكاذب؟ إن الرجل لا يكلف نفسه أن يتعب قليلا للتثبت مما يرمينا به من كل مصيبة علمية وأختها. إنه ما إن يقع على أى شىء يحسب أن فيه إساءة للإسلام حتى يطير به فرحا، ولا أحب أن أصادر حقه فى هذا الفرح، فكل إنسان وما اختار لنفسه، لكنى أحب أن أُسِرّ إليه بنصيحة لعلها تنفعه إن أراد أن ينتصح وينتفع: ألا وهى التثبت مما يقول، ثم فليؤمن بعد ذلك بالقرآن ومحمد عليه السلام أو لا(1/179)
يؤمن، فهذه مسؤوليته هو. والذى أغضبنى هنا ليس أنه لا يؤمن بإلاهية المصدر القرآنى، بل عدوانه الأثيم على الحقيقة العلمية دون أن يطرف له جفن!
(1/180)
على أن د. أركون لا يقف عند هذه النقطة، بل يضيف شيئا آخر يظن أنه يستطيع به أن يسىء إلى النص القرآنى، وهو الابتهاج بما صنعه بلاشير بالآيات من 9 إلى 25، إذ زعم هذا الـ"بلاشير" أن السورة قد خضعت لتحويرات أخرى بعد أن اكتشف أن الآيات المذكورة ينبغى أن يعاد النظر فى ترتيبها، بل إنه رتبها فعلا، فجعل مجموعة الآيات من 9 إلى 16 مضافًا إليها الآيتين 24- 25، ومجموعة الآيات من 13 إلى 16 عبارة عن روايتين لشىء واحد، أى أنهما نصٌّ واحد أُورِدَ بروايتين مختلفتين. وهو ما يعنى أن إحدى المجموعتين زائدة لا لزوم لها (Blachere, Le Coran, Librairie Orientale et Americaine, Paris, 1957, PP. 318- 319. وهذه النسخة التى معى الآن من تلك الترجمة كانت تخص المستشرق البريطانى هاملتون جب، ثم انتقلت ملكيتها إلىّ فى يوليه 1982م. وقد وصلتنى اليوم صورة من صفحاتها التى تحتوى على نص ترجمة سورة "الكهف". ويجد القارئ كلام أركون فى ص 148 من كتابه "القرآن من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الدينى"). من الذى أفتى لبلاشير بهذا؟ لا أحد بالطبع إلا شيطان السخف الاستشراقى الأثيم! وهَبْه كان مقتنعا فعلا بهذا الذى يزعم، أولم يكن ينبغى أن يورد النص القرآنى كما هو بما وقع فيه من عبث أو اضطراب على حسب أوهامه، ثم فَلْيُعَلِّقْ فى الهامش بما يعنّ له؟ لكن هذا ليس هو المراد، ولن يحقق له أهدافه الإبليسية، فالمقصود هو إيقاع الشك والارتياب فى النص القرآنى لإفقاده قدسيته وجلاله فيتعود القارئ على أن يتعامل معه على أنه نص عادى من النصوص التى يصنعها البشر بما يمكن أن يصيبه ما يصيب أى نص بشرى من عبث ونسيان وإضافة وحذف وتقديم وتأخير...إلخ. وهذا الهدف لا يتم على الوجه الناجع إلا إذا تقدم أحدهم ونفذه على أرض الواقع، ولم يكتف بالكلام النظرى الذى لا يمكن أن يكون فى قوة التطبيق العملى. ومن هنا أراد بلاشير أن يكون هو "الفأر الزردوق" الذى يعلّق(1/181)
الجُلْجُل فى رقبة القط ويحصل له الشرف، شرف الإساءة إلى العلم والحق، بل إلى الشرف نفسه! هذه هى حقيقة المسألة، ولا شىء غير ذلك، وما كل هذه الطنطنات الأركونية إلا ألاعيب صغيرة لا تنطلى على من يعرف هذه الأساليب الاستشراقية الخبيثة! إن هذا الصنف من المستشرقين ليس له من عمل إلا التشكيك فى كل ما يتعلق بالإسلام والقرآن، حتى إنهم ليشككون مثلا فى نسب الرسول عليه السلام زاعمين أن "عبد الله" ليس أباه، بل هو مجرد اسم معناه: "إنسان" على اعتبار أن كل إنسان هو "عبد الله"، أى أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن له أب معروف، فلذلك قيل إنه ابن عبد من عباد الله، بما يعنى أنه "ابن رجل"، والسلام. أما مَنْ هذا الرجل؟ فلا أحد يعرف! تالله إن من يقول هذا عن رسول الله إنما هو "مَرَة مِنْ ظَهْر مَرَة"! (مع احترامى الشديد للجنس اللطيف الذى لايمكن أن يدور فى بالى الإساءة إليه بحال، بل هو مجرد تعبير مجازى مغروس فى "المخيال" الشعبى أستعين به لغرض فنى ولإتاحة الفرصة لنفسى كى أتفيهق أنا أيضا، ولو مرةً فى العمر، بكلمة "مخيال"). ومن هذا الوادى أيضا قول مستشرق آخر إن خطبة الجمعة كانت بعد ركعتَىِ الصلاة كما هو الحال فى صلاة العيدين،، ثم أصبحتْ فى العصر الأموى قبلهما. ومنه كذلك زَعْمُ ثالثٍ أن عبد الملك بن مروان قد بنى قبة الصخرة كى يستعيض بها الحجاج الأمويون عن الحج، الذى يستلزم الذهاب إلى الحجاز حيث يبسط ابن الزبير نفوذه، ومن ثم يمكنه أن يؤثر فى ولاء حجاج الشام إذا ذهبوا إلى هناك. ومنه زَعْم هذا الأعمى البصر والبصيرة، متابعةً منه لكايتانى، أن "سدرة المنتهى" ليست شجرة سماوية، بل شجرة فى أطراف مكة، وأن "جنة المأوى" دارةٌ (فيللا) هناك. ألا ما أعجب هذا العلم الخارج من أستاه المستشرقين! هل من المعقول أن أى مستشرق تنبض فى استه فكرة ما تنغّص عليه توازنه وراحة باله لا يجد لها من حل إلا الافتراء على القرآن والزعم بأن هذه(1/182)
الآية أو تلك كان مكانها هناك، لكنها نُقِلت إلى هنا؟ وبالمناسبة فإن ما يقوله بلاشير، ويردده خلفه أركون، ليس له أى أساس من الصحة، لكنها السخافة الاستشراقية التى يدَّعى أركون أن منهجه يتخطاها، ثم يتضح أنه ليس إلا تقليدا لها! وهاتان هما المجموعتان المشار إليهما من آيات سورة "الكهف"، أضعهما تحت بصر القارئ كى يرى بنفسه الرقاعة الاستشراقية: "أم حسبتَ أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا؟/9* إذ أوى الفتية إلى الكهف فقالوا: ربنا، آتنا من لدك رحمة وهَئِّ لنا من أمرنا رشدا/10* فضربنا على آذانهم فى الكهف سنين عددا/11* ثم بعثناهم لنعلم أىُّ الحزبين أَحْصَى لما لبثوا أمدا/12* ولبثوا فى كهفهم ثلاثمائةٍ سنين وازدادوا تسعا/ 24* قل: الله أعلم بما لبثوا. له غيب السماوات والأرض. أَبْصِرْ به وأَسْمِعْ! ما لهم من دونه من ولىٍّ، ولا يشرك فى حكمه أحدا/25" (مج 1) - "نحن نقصّ عليك نبأهم بالحق. إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى/13* وربطنا على قلوبهم إذ قاموا فقالوا: ربُّنا ربُّ السماوات والأرض. لن ندعو من دونه إلها. لقد قلنا إذن شططا/14* هؤلاء قومنا اتخذوا من دونه آلهة. لولا يأتون عليهم بسلطانٍ بيِّن؟ فمن أَظْلَمُ ممن افترى على الله كذبا؟/15* وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون إلا الله فَأْوُوا إلى الكهف ينشر لكم ربكم من رحمته ويهئِّ لكم من أمركم مِرْفَقا/16" (مج2). والآن أيمكن أن يكون لهذا الكلام التافه أية قيمة؟ أويمكن أن المجموعتين كانتا، كما يفترى هذا الأعجمى الخبيث، نصًّا واحدًا لكنه ورد بروايتين مختلفتين؟ ومع ذلك فإن أركون يبتهج به ويشمت رافعا ذيله تيهًا وعُجْبًا! إن كلا من النصين يتناول الموضوع من زاوية مختلفة ويورد تفاصيل مختلفة عما ينظر منه ويورده الآخر، وهذا من الوضوح بمكان إلا بالنسبة لمن أعمى الله قلبه وجعل على بصره غشاوة، فهو لا يهتدى للحق سبيلا!
(1/183)
وبالنسبة للقصص الثلاث التى تحتوى عليها سورة "الكهف" يقول أركون إنها "مغروسة عميقا فى الذاكرة الجماعية العتيقة للشرق الأوسط" (القرآن من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الدينى/ 151)، ومعنى هذا، مرة أخرى، أن القرآن ليس إلا النتاج المخيالى للبيئة التى ظهر فيها على عكس ما يتوهم المفسرون التقليديون الذين يرى سيادته أن منهجهم لا يصلح لتناول القرآن (ص153، 154- 155، 162). وهذا تدليس علمى على أخيب طراز. لماذا؟ لأن القرآن لم يورد هذه القصص الثلاث ابتداءً، بل أوردها ردًّا على التحدى الذى وجهه كفار قريش إلى الرسول بناءً على تحريض من أحبار اليهود، الذين قالوا لهم إن بإمكانهم أن يحرجوه بسؤاله عن أبطالها، على اعتبار أنه لن يعرف كيف يجيب على هذا التحدى، إذ لا علم له بهذه القصص الثلاث. فما معنى هذا؟ معناه أن أحبار اليهود كانوا متأكدين أن محمدا ليس عنده أى علم بهؤلاء الأشخاص، وأن قريشا نفسها لم تكن على علم بهم، وإلا لقالوا لليهود إن ذلك من تراثنا، ومن ثم فسوف يكون بمستطاع محمد الإجابة على السؤال فلا يحصل المراد من التحدى، ألا وهو تكذيبه فى قوله إنه يتلقى الوحى من السماء. أليس هذا هو ما يُفْهَم بكل جلاء من التحدى؟ ثم ينبغى ألا يفوتنا أن الوفد القرشى الذى ذهب إلى يثرب لمقابلة أحبار اليهود فى هذا الشأن كان مكونا من النضر بن الحارث وعقبة بن أبى معيط، أو على الأقل كان النضر وعقبة على رأسه، وهذا موجود فى النص الذى نقله د. أركون عن الطبرى (ص157). ونحن نعرف أن النضر كان يتهم الرسول بأنه إنما يقص فى قرآنه أساطير الأولين، وعلى هذا فإن النضر لا بد أن يكون حريصا على ألا تكون الأسئلة التى يعود بها من يثرب هى من أساطير الأولين التى يمكن أن تطولها يد محمد. أما قول أركون إن هذه الحكايات الثلاث كانت مغروسة بعمق فى الذاكرة الجماعية العتيقة لشعوب الشرق الأوسط، فهو كلام فارغٌ أفرغُ من فؤاد أم موسى! لو كان ما(1/184)
يزعمه أركون صحيحا ما فكر أحبار اليهود الخبثاء أن يحرّضوا قريشا على تحدى الرسول بهذا السؤال، فالإنسان لا يقدم على مثل هذا التحدى الخطير إلا وهو موقن أن الخصم لن ينجح فى الجواب. أليس ذلك كذلك يا بروفيسير؟ وهب أن هذه النقطة قد فاتت اليهود، وهم أخبث أهل الأرض فلا يمكن أن تفوتهم، أفكانت تفوت مشركى قريش؟ وعندنا أيضا الشعر الجاهلى، وهو يخلو من الإشارة إلى أى من الحكايات الثلاث. ثم كيف نفسر تحير المفسرين فى شرح معنى "الرقيم"، وفى تحديد مكان الكهف، وفى معرفة الشخصية الحقيقية للعبد الصالح بل لموسى نفسه، وفى التعرف على مواضع البلاد التى بلغها ذو القرنين والأقوام الذين قابلهم... إلخ؟ كل هذا يجعلنا نلقى بنظرية "المخيال الجماعى" أو "الذاكرة الجماعية لشعوب الشرق الأوسط" فى القُمَامة، وضمائرنا مطمئنة. على أن د. أركون، عندما يدَّعِى أن محمدا قد استمد هذه القصص الثلاث من تراث البيئة التى ينتمى إليها، إنما يردد هنا أيضا مايقوله المستشرقون، الذين لا يكفّ أبدا عن التنفج بأن منهجه يتجاوز مناهجهم ويصل إلى نتائج لا يستطيعون أن يتوصلوا إليها بهذه المناهج. فهذا هو كاتب مادة "Ashab al-Kahf: أصحاب الكهف"، فى الطبعة الثانية من "Encyclopaedia of Islam"، يقول إن "محمدا قد ألمَّ بهذه الحكاية وكثير غيرها من الحكايات ذات الأصول اليهودية والنصرانية، ثم تمثَّلها واتخذ منها فى القرآن أداة للتربية الأخلاقية".
(1/185)
وأخيرا نختم بهذه الطرفة الأركونية: فبروفيسيرنا، بعبقريته البديعة التى لم تأت بمثلها ولاّدة، يتصور أن القرآن، عندما يقول: "إنما مَثَل الحياة الدنيا كماءٍ أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيما تَذْروه الرياح" إنما يريد أن يشبه سرعة زوال الحياة الدنيا بسرعة زوال المطر (ص149). فانظر بالله عليك إلى الرجل: كيف يتصدى لمناطحة القرآن، وهو لا يستطيع أن يعرف الطرف الثانى من التشبيه فى هذه الصورة البلاغية؟ إن المشبَّه به ليس هو الماء النازل من السماء، بل هو نبات الأرض الذى سيؤول رغم كل شىء فى النهاية إلى هشيم! أما ذِكْر ماء السماء فى الآية فلأنه هو الذى يساعد البذور على النمو ويخرجها من باطن الأرض نباتًا يغزر ويملأ الأراضى والحقول! ليس ذلك فحسب، بل إنه ليُقَوِّل كتابَ الله ما لم يقله، إذ يزعم أن "القرآن يلحّ فى أكثر من مكان على أهمية اللغة العربية ومزاياها من أجل التركيز على تمايزه واختلافه قياسا إلى الوحى السابق عليه" (الإسلام- الغرب- أوربا/ 80). ويجد القارئ هذه التقولات الكاذبة أيضا فى كتابه: "تاريخية الفكر الإسلامى" (مركز الإنماء القومى ببيروت، والمركز الثقافى العربى بالدار البيضاء وبيروت/ 1998/ 69)، حيث نقرأ أن مسألة "المكانة المتميزة والخاصة للّغة العربية بالقياس إلى اللغات الأجنبية...غالبا ما وردت فى القرآن. ذلك أنه كان من الضرورى تبرير اختيار اللغة العربية لنقل الوحى إلى البشر من دون سواها، ثم البرهنة على فكرة إعجاز النص القرآنى وعدم قدرة البشر على تقليده أو الإتيان بمثله". ترى أين نجد ذلك فى القرآن؟ إن كل ما يمكن أن يفكر الإنسان فيه فى هذا السياق هو وصف القرآن لنفسه بأنه قد نزل "بلسان عربى مبين"، ومعناه أن أسلوبه هو أسلوب عربى كله جلاء ووضوح. فالكلام، كما نلاحظ، عن أسلوب القرآن لا عن تميز اللغة العربية وتسويغ انتقائها لغةً للوحى القرآنى! أرأيت، أيها القارئ الكريم،(1/186)
كيف أن د. أركون، أستاذ تاريخ الفكر الإسلامى، يجهل المضمون القرآنى إلى هذا الحد، ثم هو يتنفج مع ذلك على المفسرين والمفكرين المسلمين نافشا ريشه عليهم. ثم إنه، بعد ذلك كله، لا يترك المفسرين المسلمين فى حالهم رغم عجزه الفاضح عن مساماتهم، بل يتنقص منهم ويفترى عليهم المفتريات المضحكة، إذ يزعم أنهم، حين يتناولون القرآن بالتفسير، يعتقدون أنهم إنما يعبرون عن مقصد الله على نحو متطابق. وهذا واضح، حسب كلامه، فى أن الطبرى، بعد أن يورد الآية التى يتناولها بالتفسير، يضيف الكلمتين الآتيتين: "يقول الله تعالى:..."، ثم يضع نقطتين على السطر، ويذكر تفسيره للآية على أساس أن ذلك هو مقصد الله، غير واع أن ما يقوله إنما هو مجرد تأويل من التأويلات التى تقبلها الآية (الفكر الإسلامى- نقد واجتهاد/235- 236،291- 292). ووجه الافتراء هنا أن مفسرينا، على الضد من ذلك، كانوا واعين تماما أن ما يقولونه لا يعدو أن يكون مجرد اجتهاد. وهذا واضح من أنهم، بعد قولهم كلمتهم فى تفسير الآية، يردفونه عادة بقولهم: "والله أعلم". ومعروف عن الطبرى، الذى حظى بالنصيب الأكير من هجوم أركون، أنه كان يورد أولا كل الأقوال فى النقطة التى يتناولها فى الآية، سواء كانت لغوية أو تشريعية أو خاصة بأسباب النزول، ثم يوازن بينها قبل أن يقول كلمته هو، التى يقدم لها بالعبارة التالية: "وأولى الأقوال عندى بالصواب قول من قال كذا وكذا" أو ما يشبهها. فأين التعصب الذى يدعيه أركون عليه والاعتقاد بأن ما يقوله هو مقصد الله على وجه التطابق؟ أما القرطبى فهو، بعد إيراده الآراء المختلفة فى الآية، يعقب فى الغالب قائلا: "والرأى الفلانى أصح". كما يقول عادة: "فإن صحَّ هذا فيكون الأمر كذا وكذا"، أو "والله الموفق للصواب"، أو "والله أعلم"، بما يفيد أن المسألة لا تعدو عنده الترجيح بشروطه لا أكثر، وهو ما يكذِّب دعوى أركون على المفسرين القدماء وينسفها من جذورها، وإن(1/187)
لم يعن هذا أنهم لم يكن لهم موقف أو رأى خاص يتمسكون به ويناضلون دونه ويرَوْن أنه هو الرأى الأفضل، إذ إن هذه طبيعة بشرية فينا جميعا. لكن هذا شىء، والزعم بأنهم كانوا يظنون أن ما يقولونه فى تفسير الآية هو مقصد الله سبحانه، وأنهم قد احتكروا الحقيقة المطلقة، شىء آخرمختلف تمام الاختلاف! وقد أشار د. أركون إلى شىء من هذا حين كان يتكلم عن الرازى ومحاولته العثور على الصلة التى تربط الآية التاسعة من سورة "الكهف" بالآيات التى سبقتها، إذ قال: "أما المفسر فخر الدين الرازى فيقترح وجود تمفصل مع الآية السابقة، ولكنه يبدو غير واثق تماما فيضيف قائلا: والله أعلم" (القرآن من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الدينى/ 148). كذلك يدَّعى زورا وبهتانا أنهم لم يتنبهوا إلى أن فى القرآن مجازا واستعارات، وأنهم جميعا، من سنة وشيعة وإباضية...، كانوا يأخذون "كلام النص على حقيقته وكأنه خالٍ من المجاز. هذا فى حين أننا نعلم أن النص الدينى ملىء بالمجاز، بل وينفجر بالمجازات والاستعارات الخارقة والرائعة" (الإسلام- أوربا- الغرب/ 192). والواقع أن من الصعب علىّ أن أعرف عن أى مفسرين يتكلم د. أركون، فالمعروف أنهم كلهم تقريبا يفسرون آيات الجوارح الإلهية على أنها من باب المجاز، فما بالنا بالآيات التى لا تتعلق بهذا الموضوع ولا تثير أية حساسية فى تحليلها مجازيا؟ ومرة أخرى نرى أركون يناقض نفسه فى موضع آخر قائلا عن "المجاز" إنه "قد دُرِس كثيرا بصفته أداة أدبية لإغناء الأسلوب فى القرآن وتجميله"، وإنْ أضاف أنه "لم يُدْرَس أبدا فى بعده الإبستمولوجى بصفته محلا ووسيلة لكل التحويرات الشعرية والدينية والإيديولوجية التى تصيب الواقع" (تاريخية الفكر العربى الإسلامى/ 98)، فضلا عن اعترافه بأن من المفسرين من كان يتناول القرآن تأويلا رمزيا باطنيا فى مقابل من يأخذونه على ظاهره وحرفيته (الإسلام- أوربا- الغرب/193).
(1/188)
وفى النهاية أُحِبّ أن أؤكد أننى لا أعادى العلوم الجديدة كما قد يظن خطأً بعض من يقرأ هذه الدراسة لما يجده فيها من تهكمات على البروفيسير أركون فيحسب أنى أتهكم على تلك العلوم. والواقع أنى إنما أتهكم على من يظنون أن هذه العلوم هى فكرٌ مقدسٌ لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وبخاصة إذا تسرعوا فى تطبيقها على النص القرآنى متصورين أن كلمتها حاسمة فى هذا الموضوع لا ينبغى أن تناقَش، فضلا عن أخطائهم القاتلة فى التطبيق نتيجة لضعف إحاطتهم بالقضايا التى يناقشونها ولما دخلوا به الحَلْبة من موقفٍ مسبقٍ وهوًى فاشٍ غلابٍ لا يخفى على كل من له عينان! كذلك لست أنا بالذى يضيق بمناقشة النص القرآنى، وإلا لتجاهلت ما كتب الرجل وأمثاله ممن يعملون على التشكيك فى كتاب الله من مستشرقين ومبشرين وتابعين لهم من أبناء الإسلام الناشزين عليه ولما قارعت شبهاتهم بحججى شبهة شبهة لا أجمجم ولا أورِّى ولا أنادى أبدا بوجوب الابتعاد بالنص القرآنى عن المناقشة أو حتى التشكيك، بل أرهق نفسى وأغوص هنا وهناك فى كل المصادر والمراجع التىتتصل بالموضوع، مع عدم الرضا فى نهاية المطاف عما فعلتُ لمعرفتى أننى، مهما صنعتُ، فلن أوفى الموضوع حقه من البحث والجلاء. إن كاتب هذه السطور، على العكس من ذلك، يجد لذة عجيبة ورائعة فى قراءة مثل هذه الكتابات، إذ أراها فرصة لمراجعة نظرتى السابقة إلى ما أومن به لعلى أرى شيئا جديدا أضيفه لعلمى أو اقتناعى... إلخ، فضلا عن أنها تحرك منى العقل، وحركةُ العقل عند من يعرفون قيمة هذه النعمة الإلهية لا يمكن تقديرها بمال! ولعل القارئ يرى الفرق بين الطريقة التى يتبعها د. أركون وتلك التى أتبعها أنا، فهو فى كثير من الأحيان يلقى بحُكْمه لا يبالى أين يقع ولا كيف، ودون أن يكلّف نفسه إقامة الدليل على ما يقول أو الرجوع إلى أهل الاختصاص ليسترشد بما قالوا، بل دون أن يهتم مثلا باستنطاق المعاجم أو الاستعانة(1/189)
بالشواهد. وهذا ما يزعجنى فى كتاباته. إنها كتابات متسرعة لا ترفدها قراءات واسعة وعميقة بالرغم من الشقشقات الفارغة بأسماء العلوم ومصطلحاتها مما يحسب أنه يلقى الرهبة فى قلوب قرائه من أبناء العرب الذين يمثلون التخلف فى نظره لعدم انسياقهم معه وراء مايهرف به الغربيون فى ديننا وكتابنا، وفوق ذلك فهى كتابات منفوخة غرورا جَرّاء إحساسٍ حادٍّ ومتضخمٍ بالذات قائم على غير أساس كما أَثْبَتُّ فى هذه الدراسة! أما العلوم الجديدة فمرحبا بها وأهلا وسهلا، على أن نظل مفتَّحى الأعين والعقول والقلوب قلا نتحول إلى عبّاد لها كأننا وثنيون فى معبد أصنام. لقد وقفتُ مثلا ضد ما كان د.محمد مندور قد كتبه فى بداية أربعينات القرن الماضى داعيًا إلى إبقاء النقد الأدبى بعيدا عن العلوم، وبخاصة علم النفس، الذى قال إن نتائجه غير نهائية ولا تنطبق على المتميزين من البشر كالأدباء مثلا، علاوة على أن محاولة تطبيقه فى ميدان النقد الأدبى معرَّضة للخطإ. وكان رأيه أن النقد لا ينبغى أن يستند إلى أى شىء سوى الذوق الأدبى، الذى أكد أنه لا يمكن اكتسابه على نحو مُرْضٍ إلا من خلال قراءة النصوص الأدبية. أما أنا فقد قلت إن النقد الأدبى يحتاج، فوق هذا، إلى أن نتذرع له بكل ما يمكننا تحصيله من علوم ومعارف، وأضفت أنى، رغم موافقتى للدكتور مندور على إمكانية الوقوع فى الخطإ عند تطبيق نتائج علم النفس على الأدب ونصوصه، أرى أن ذلك لا ينبغى أبدا أن يخيفنا، فهذه طبيعة الحياة، لا فى مجال النقد الأدبى فقط، بل فى كل المجالات، إذ لا بد أن تقع الأخطاء مهما احترزنا وأخذنا كل الاحتياطات اللازمة. ومع أنى كنت شديدا فى محاسبة أحد الأطباء النفسيين الذين أخطأوا فى تطبيق بعض مُعْطَيَات علم النفس على شِعْر المتنبى فقد ظللت على رأيى المبدئى فى وجوب الاستعانة بعلم النفس وغيره من العلوم فى مجال النقد رغم ذلك. ويجد القارئ الكريم كل هذا فى مفتتح الفصل الثالث من(1/190)
كتابى "مناهج النقد العربى الحديث"، وهو الفصل الخاص بـ"المنهج النفسى" (مكتبة زهراء الشرق/ 2004م/ 79 وما بعدها).(1/191)
يوسف صديق وأباطيله حول القرآن
بقلم :د.إبراهيم عوض
نشرت صحيفة "القاهرة" المصرية في الصفحة الخامسة " العدد 144 " حواراً مع الأستاذ الدكتور يوسف صديق بجامعة السوربون بعنوان " المفكر التونسي يوسف صديق: نحن لم نقرأ القرآن بعد " أدلى فيه الأستاذ المذكور ببعض الآراء التي استوقفتني ورأيت أنها تحتاج إلى مراجعة لأنها تثير قضايا على قدر عظيم من الأهمية لا يمكن أن يمر كلامه فيها دون تمحيص و تعقيب ـ
و لتكن بداءتنا عنوان الحوار نفسه : " نحن لم نقرأ القرآن بعد", وهو عنوان الكتاب الذي جاء في حديثه إلى الصحيفة أنه بسبيل إعداده, وقد أدلى الرجل بكلامين في هذه المسألة : الأول في بداية الحوار, وهو أننا " كلما تقدمنا وتعمقنا في الفكر و الفلسفة استطعنا أن نفهم القرآن بشكل يتواءم مع التقدم في معرفتنا ". وهذا كلام لا نستطيع إلا أن نتفق معه فيه, فالقرآن أوسع وأعمق وأبعد غوراً من أن يفهم حق الفهم دفعة واحدة, بل ستظل هناك دائماً, مهما طال الزمان, أبعاد تحتاج إلى من يحاول ارتيادها و اكتشاف ما فيها من أسرار . وسبب ذلك أنه من عند الله, فهو يمثل المعرفة المطلقة, أما معارف البشر فهي محدودة ونسبية. لكن الأستاذ صديق قد عدّل كلامه هذا قرب خاتمة الحوار ( والعبرة, كما يقولون, بالخواتيم ) فقال إننا لم نقرأ القرآن بعد, بما يعني بوضوح أن كل ما قمنا به طوال الأربعة عشر قرناً من تلاوة القرآن وتفسيره ودراسته في كتب تعد بالآلاف, فضلاً عما وضع حوله من معاجم واستُخلص منه من علوم ...إلخ...إلخ هو عبث في عبث, و أن الأستاذ الدكتور سيكون أول من يقرأ القرآن من عباد الله, أي أن علينا أن نضرب صفحاً عن كل هذا التراث القرآني الذي شاركت في صنعه عشرات الأجيال ونشتغل فقط بما سيجود علينا به قلمه في هذا الصدد, فهل من يوافق على هذا الكلام الغريب الذي أظن
(1/192)
ـ(وبعض الظن إثم, وبعضه عين العقل بكل يقين ) أنه هو مقصد المؤلف الحقيقي، وإن لم يشأ أن يجابهنا به في بداية الحوار بل مهّد له بأن القرآن " لا يكشف عن دلالاته مرة واحدة ", وهو أسلوب من التدرج يلجأ إليه بعض الكتاب بغية تحذير القارئ المسكين!ـ
وفي السؤال الثاني و الثالث تتساءل مجرية الحوار عما طرحه د. يوسف صديق في كتابه الذي صدر هذا العام باسم " القرآن كتاب مفتوح " ( وإن كان العنوان الفرنسي كما يظهر في صورة الغلاف المنشورة مع الحوار هو " القرآن : قراءة جديدة وترجمة جديدة" ) من فكرة تدعو إلى تفسير آيات القرآن حسب تواريخ نزولها لا حسب ترتيبها في المصحف, وكان جوابه أنه لا يمس سوى عمل بشري لا صلة له بالقدسية. يقصد أن ترتيب الآيات داخل كل سورة هو من عمل الصحابة. وهذا غير صحيح, ولم يقل به أحد إلا هو, إذ ادعى أن الرسول قد ترك القرآن قِطَعاً متفرقة لا تنتظم في سورة, وهو ادعاء باطل ألقى به الأستاذ صديق باستخفاف لا يليق بأستاذ جامعي أو غير جامعي .ـ
(1/193)
لو كان الكلام اقتصر على " تفسير" القرآن حسب ترتيب النزول لآياته فربما لم يجد د. صديق من يختلف معه اختلافاً شديداً, فهذا لون آخر من ألوان الدراسات القرآنية الكثيرة رغم الصعوبة البالغة بل رغم الاستحالة التي تكتنف مثل هذه الدراسة القرآنية لأن كثيراً جداً من آيات القرآن لا نعرف لها سبب نزول, ولأن قسماً من الآيات الأخرى قد اختلف حول سبب نزوله. ومن قبل قام العالم الفلسطيني محمد عزة دروزة بتفسير القرآن حسب الترتيب النزولي للسور مع الصعوبة الشديدة في ذلك لأنه لا إجماع هنالك على مثل هذا الترتيب, علاوة على أن عدداً كبيراً من سور القرآن لم تنزل منه السورة دفقة واحدة ولا دفقات متتالية، قلت : لو كان الكلام اقتصر على " تفسير " القرآن حسب الترتيب الزمني لآياته فربما لم يجد المؤلف من يختلف معه اختلافاً شديداً, بيد أن كلامه في الجواب عن السؤال المذكور يشير بوضوح إلى أن المسألة تتجاوز هذا إلى الدعوة إلى " ترتيب " آيات القرآن كله حسب تاريخ نزولها لا إلى " تفسيرها ". ومعنى هذا أن تنفرط آيات القرآن كما تنفرط حبات المسبحة و ينهار بناؤه إلى أن يهل علينا العبقري الذي يقدر على صنع "المستحيل" فيعيد ترتيبه حسب التاريخ الخاص بنزول كل آية, وهو ما لن يتحقق دهر الداهرين, اللهم إلا إذا قال د. صديق إنه هو ذلك ـ" العبقري المنتظر" ! وهيهات أن نصدقه ! ومرة أخرى نقول إن الكلام في هذا الحوار يبدأ بفكرة بريئة ثم يفاجأ القارئ بأن الأرض الصلبة التي كانت تحت قدميه قد استحالت بقدرة قادر إلى رمال متحركة تريد أن تبتلعه ابتلاعاً .ـ
(1/194)
ولا يقف الإرباك الذي يسببه الحوار للقارئ عند هذا الحد، إذ نجده ينتقل بغتة إلى الحديث عن دعوة الأستاذ التونسي لسور القرآن حسب ترتيب نزولها. وهذا شئ غير ترتيب آياته الكريمة حسب تاريخ وحيها كما أشرنا من قبل وقلنا إنه أمر من الصعوبة جداً بمكان، وهي دعوة يجري فيها الأستاذ الدكتور على درب المستشرقين، وليس هو ابن بجدتها كما يريد أن يوحي للقارئ .ـ
وأمامي الآن ترجمتان إنجليزيتان للقرآن الكريم حاولتا هذه المحاولة : إحدهما للقسيس البريطاني رودويل, والثانية للمدعو داود , وهما تختلفان في ذلك الترتيب اختلافاً بعيداً، كما أن بعض مترجمي القرآن ممن التزموا ترتيب السور حسبما ورد في المصحف يصدّرون ترجمتهم بدراسة عن القرآن يتناولون فيها, ضمن ما يتناولون, مسألة ترتيب الوحي ترتيباً زمنيا محاولين استخلاص السمات المضمونية والأسلوبية التي تميز كل مرحلة في تاريخ نزوله, وإن اقتصر الأمر في ذلك على الخطوط العامة وممن فعل ذلك "إدوار مونتيه" السويسري و" بلاشير" الفرنسي في ترجمتيهما للقرآن إلى الفرنسية.ـ
ويجد القارئ تفصيلاً لهذا الأمر في الباب الثاني من كتابي " المستشرقون و القرآن " وهاتان الترجمتان أمامي الآن وأنا أكتب هذا المقال .ـ
(1/195)
على أن د. صديق (في جوابه عن قلق الأستاذة التي أجرت الحوار معه مما تمثله دعوته تلك من مساس بقدسية النص القرآني ) ينبري مؤكداً أننا نحن الذين قد ابتدعنا هذه القدسية. وهذا كلام خطير جدا, فالقرآن مقدس لأنه من عند الله لا لأننا الذين خلعنا عليه هذه القداسة. صحيح أن من لا يؤمن بأن القرآن وحي إلهي لا يرى فيه نصا مقدساً, لكننا نحن المسلمين نؤمن بقدسيته, و إلا فلسنا مسلمين. هذا أمر بديهي, أليس كذلك ؟ والكاتب يؤكد إيمانه بالقرآن, فكيف لا يراه كتاباً مقدساً؟ أما دعواه بأننا قد "ألَّهنا" الرسول عليه الصلاة و السلام فهي دعوى غريبة بل منكرة, إذ لا يوجد مسلم واحد على وجه الأرض يقول بـ "تأليه" الرسول. صحيح أنه عليه السلام " رجل يمشي في الأسواق مثلنا ويأكل, وله كل المواصفات البشرية" كما جاء في كلام الدكتور لكنه في ذات الوقت ليس بشراً عاديا، بل هو نبي يوحى إليه، وأخلاقه من السمو بحيث لا يدانيه غيره من البشر، وهو ما كنت أحب أن يضيفه د. صديق إلى كلامِه السابق حتى يكتمل المعنى. وفي القرآن الكريم أمر للنبي بأن يقول: ـ" إنما أناَ بَشرٌ مثلكم يُوحَى إلىّ " وفيه أيضا: "وإنك لعلى خُلُقٍ عظيم" ...إلخ, فكان ينبغي ألا يغفل الأستاذ الدكتور في كلامه ذلك البعد الذي يميز الرسول رغم بشريته عن سائر الخلق .ـ
(1/196)
كذلك ترددت في حديث د. صديق الإشارة إلى " مصادر" القرآن ومراجعه, فما الذي يقصده الدكتور بهذا؟ إن للقرآن مصدراً واحداً ليس غير هو الوحي الإلهي، أما الحديث عن " مصادر" و " مراجع " كما لو كنا بصدد دراسة تقدم بها أحد الباحثين ويتذرع لها بما يستطيع أن يضع يده عليه من الكتب السابقة فهو كلام لا يليق بمسلم أن يقوله, ولصاحب هذه السطور كتاب في هذا الموضوع عنوانه " مصدر القرآن" رددت فيه بتفصيل شديد على النظريات الاستشراقية و التبشيرية السخيفة التي تحاول إرجاع القرآن إلى مصادر بشرية. فالقول بأن للقرآن " مصادر و مراجع " هو فرية استشراقية معروفة أساسها قول مشركي مكة عن الرسول عليه السلام: " إنما يعلمه بشر ", وإن القرآن الكريم هو" أساطير الأولين اكتتبها, فهي تُمْلَى عليه بكرة وأصيلا " . وها هي ذى تطالعنا بوجهها القبيح في كلام لأحد المنتسبين للإسلام .ـ
هذا, ويبدئ الأستاذ التونسي ويعيد القول بأنه إنما يريد أن يجعل من القرآن كتاباً عالميا يقرؤه الناس جميعاً ولا ينحصر في العرب المسلمين وحدهم. ولست أدري أجادَّ هو في ذلك أم هازل, فالقرآن كتاب عالمي بطبيعته وبتاريخه : بطبيعته لأنه أنزل إلى الناس " و الجن أيضا" كافة، و بتاريخه لأنه ما من أمة في الأرض إلا وفيها نسبة من المسلمين, قَلّت هذه النسبة أو كثرت. والمسلمون اليوم يقتربون من المليار والنصف من البشر, وهم يقرأون القرآن و يدرسونه ويفهمونه ويضعون المؤلفات فيه و يحاولون أن يسيروا وفق تعاليمه حسبما يستطيعون, ولا ينتظرون حتى يأتيهم د. صديق فيجعل لهم القرآن كتاباً عالميا. بالله أهذا كلام يقوله من يعي ما يقول ؟ ولقد دخل في الإسلام في العصر الحديث أعداد هائلة من الغربيين, ومنهم المستشرقون و القساوسة و الحاخامات و السياسيون والفلاسفة والعلماء و الفنانون ..الخ, وهناك دولة البوسنة والهرسك, وهي دول إسلامية أوروبيةـ
(1/197)
وجزء من تركيا يقع كما نعلم في أوروبا، بل كانت أسبانيا والبرتغال لمدة ثمانية قرون تقريباً دولة مسلمة تعكف على القرآن تلاوة و تدريساً وتطبيقاً, فما كل هذه الطنطنة التي يحدثها د. صديق من لا شئ؟
ونأتي إلى بعض ما قاله سيادته عن الإسكندر المقدوني, إذ زعم أن المسلمين لا يحاولون فهم القرآن بل يكتفون بترتيله " مكرسين غياب المعنى عنه" على حد تعبيره.ـ
وهو كلام عجيب لا رأس له و لا ذنب, إذ أن أحط عوام المسلمين يفهمون أشياء كثيرة من القرآن الكريم, فما بالنا بالمثقفين ؟ وماذا تقول في الألوف المؤلفة من الكتب و الدراسات التي أُلفت حول القرآن؟ أهي مجرد تراتيل قرآنية؟ ذلك ما لا يقوله عاقل. أما تفسيره لـ"ذي القرنين" الذي ورد ذكره في أواخر سورة " الكهف" بأنه هو الإسكندر المقدوني فليس هو أول من قاله, خلافاً لما جاء في كلامه, بل هذا أحد الآراء التي طرحها المفسرون, علاوة على أنه ليس بالتفسير الوجيه, فالآيات تتحدث عن حاكم مؤمن بالله واليوم الآخر قد مكن الله له في الأرض فهو يسوسها بالعدل و الحزم والرحمة, فهل هذا مما ينطبق على الإسكندر المقدوني ؟
و أخيراً نختم بما قاله الدكتور صديق عن كلمة " كوثر" القرآنية وأشباهها مما زعم أنه مأخوذ عن اليونانية. ترى هل بين يديه دليل على هذا؟ إن مجرد التشابه بين " كوثر" و" كاثارسيس" اليونانية لا يكفي. وحتى إذا كان كافياً فلماذا ينبغي أن يكون القرآن هو الذي استعار الكلمة اليونانية ولا يكون الإغريق هم الذين أخذوا كلمتهم من لغة الضاد؟ إن هذا هو أسلوب المستشرقين, والأستاذ الدكتور يحذو حذوهم دائماً للأ(1/198)
من مسلسل الهجوم التافه على الإسلام من أبنائه:
أستاذ جامعى يزعم أن محمدا لم يكن إلا تاجرا
بقلم :د. إبراهيم عوض
كنت أبحث منذ عدة أعوام فى مكتبة جامعة "أم القرى" بالطائف عن كتاب لوالتر سكوت الروائى الإنجليزى المشهور، فإذا بى أعثر بدلا منه على كتاب "Islamic History- A New Interpretation" (مطبعة جامعة كمبريدج 1980م) للدكتور محمد عبد الحى شعبان، الذى كان يشتغل فى جامعة إكستر البريطانية أستاذا للتاريخ الإسلامى ورئيسا لقسم اللغة العربية ومديرا لمركز دراسات الخليج العربى. وكنت قد سمعت به وأنا فى بريطانيا (1976م- 1982م) سماعا عارضا، وكان ذلك فى سياق الحديث عن تهجمه على الرسول عليه الصلاة والسلام واتهامه له بأن غزواته كانت فى الواقع عملا من أعمال قطع الطريق، وهو ما أثار شهيتى لقراءة ما كتبه الرجل عن الرسول عليه الصلاة والسلام فى ذلك الكتاب، وهو فى الفصل الأول منه. وقد قرأت الفصل، وكان لى عليه عدد من المراجعات والتعليقات: بعضها خاص بالمنهج، وبعضها يتصل بالأفكار ذاتها، ولسوف يرى القارئ من خلالها مدى التفاهة الفكرية والسطحية المنهجية التى يعالج بها دينَ محمد كارهوه رغم تصايحهم دائما بالمنهجية العلمية، فهم كلهم من طينة واحدة.
(1/199)
أولى الملاحظات أن المؤلف على طول الفصل الذى نحن بصدده، وهو أساس الكتاب (لأن الكتاب يتناول تاريخ الإسلام، والفصل يتعلق بنبى هذا الإسلام ورسوله) لا يذكر أى مصدر، بل لا يستشهد بأى مرجع عربى، اللهم إلا "قتوح البلدان" للبلاذرى. وفى أى شىء؟ فى معلومة جانبية تافهة هى أنه كان لليهود مركز تجارى فى الطائف، بل إنه لم يكلف خاطره أن يذكر نص ما قاله البلاذرى فى ذلك، واكتفى بما فهمه هو من كلام الرجل. وكل مراجعه فى هذا الفصل مقالان لكِسْتَرْ وآخر لسرجنت، وثلاثة كتب لمونتجومرى وات، وكتاب لبيلاييف. وهذه الكتب هى كتب تحليلية بالدرجة الأولى، فهى لا تقدم معلومات بل تطرح آراء وتفسيرات، وتنطلق كلها تقريبا من التفسير الماركسى للتاريخ وحركة المجتمعات. علاوة على أن مقال سرجنت ليس فى صلب الموضوع، بل عن "الحَرَم" و"الحَوْطَة". ومع هذا كله، وهو مخجل، فإن المؤلف، فى مقدمة الكتاب، يدَّعى بجرأة يُحْسَد عليها أنه قد رجع إلى كل المصادر والمراجع المتاحة! أهذه بالله هى كل المصادر والمراجع المتاحة فى الموضوع لأستاذ جامعى متخصص؟ يا ضيعة العلم والمنهج العلمى!
(1/200)
الكاتب إذن يسطّّر فصلا كاملا عن أول وأهم وأخطر شىء فى التاريخ الإسلامى بهذه الخفة وتلك اللامبالاة، وكأنه يكتب موضوعا فى مادة التعبير عن جمال القمر، أو عبير الورد فى البستان، أو المقارنة بين السيف والقلم. أهكذا يكتب التاريخَ أساتذةُ التاريخ؟ إن كان هذا هو المنهج العلمى فى كتابة التاريخ أو أى فرع آخر من فروع المعرفة فقل: يا رحمن! يا رحيم! أين القرآن الكرم وتفسيراته؟ أين أحاديث النبى الذى يدور حوله هذا الفصل؟ أين كتب السيرة النبوية والغزوات وطبقات الصحابة؟ أين كتب الطبرى وابن الكلبى والواقدى وابن حزم وابن الأثير والمقريزى...إلخ؟ لا شىء من هذا كله ولا من غيره بالمرة! (يمكن الرجوع مثلا إلى كتاب "مصادر السيرة النبوية وتقويمها" للدكتور فاروق حمادة/ دار الثقافة/ الدار البيضاء/ 1400هـ- 1980م، حيث يعرض المؤلف ويناقش عددا كبيرا من المصادر والمراجع الخاصة بسيرة النبى عليه السلام ومدى وثاقة كل منها). هذا، والكاتب بَعْدُ هو أستاذ فى جامعة بريطانية شهيرة، وليس مدرسا فى مدرسة ابتدائية أو إعدادية. فهل هذا هو المنهج الذى يعلمه لطلبته فى الجامعة والدراسات العليا؟
(1/201)
والذى يقرأ الفصل الذى بين أيدينا سيجد د. شعبان يصول ويجول كما يحلو له دون أى قيد، فقد نبذ مصادر الدراسة ومراجعها وراءه ظِهْرِيًّا، وأخذ يسود من الصفحات ما يحلو له ويملؤها بالكلام الذى يعجبه دون رقيب أو حسيب! ولسوف يشعر القارئ بدُوَار هائل من غياب الإحساس بمسؤولية العلم والقلم ومن جرأة المؤلف على الحقائق والتاريخ وشخصية الرسول صلى الله عله وسلم جرأةً يصعب أن نجد لها نظيرا بين من يكتبون التاريخ. إن حَقَدَة المستشرقين والمبشرين لا يفوتهم، رغم سوء نيتهم وخبث كيدهم، أن يذكروا مصادرهم ومراجعهم ويسوقوا كل ما يعين على مراجعتها كى يتمكن القارئ من العودة إليها بنفسه إذا أراد، بغض النظر عن أنهم قد يملخون النصوص من سياقها أو يتلاعبون فيها بطريقة أو بأخرى أو يضفون عليها تفسيرا ليست منه ولا هو منها. أما المؤلف، وهو ذو أصل إسلامى، فإنه يتجاهل هذا كله، وينطلق فيكتب، كما قلت، عن أخطر وأهم وأول شىء فى التاريخ الإسلامى دون الاستنادة إلى أى مصدر أو مرجع عربى، بل ولا إلى أى مرجع أوربى يقدِّم حوادث العصر الذى يدور حوله الفصل وأخبار سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم!
والعجيب الغريب أن المؤلف يأخذ على بيلاييف اعتماده على آراء فردريك إنجلز فى كلامه عن الإسلام والظروف التى أحاطت بظهوره أكثر مما يعتمد على المصادر المتصلة بهذا الموضوع. فهلاّ قال هذا الكلام لنفسه وانتفع به؟ أم هو مجرد كلام والسلام؟ إذن فلا عجب إذا وجدناه يقول كلاما عجيبا ما أنزل الله به من سطان، ويدّعى أشياء لم تحدث قط. أليس يكتب من دماغه دون أى توثيق؟ فما حاجته إذن للالتزام بحقائق التاريخ ووقائعه؟ وما الذى يمنعه أن يلويها على هواه ويفسرها بأى شىء يعنّ له ببال؟
(1/202)
إنه يدعى أن المبدأ الأساسى فى دعوة النبى عليه السلام على مدار حياته كلها كان هو التعاون بين الأغنياء والفقراء، ومن هنا فإنه (كما يقول) كان دائم الإلحاح على أن الشر كل الشر فى تكديس الأموال. كما يزعم أن خططه عليه السلام كان هدفها الأوحد والدائم هو استمرار التجارة فى عصره وازدهارها. أهذا كلا م يقوله رجل يقيم للتاريخ وزنا ويحترم عقول قارئيه؟ فليؤمن المؤلف هو أو غيره أو فليكفر، فهذا شأنه، أما القول بأنه عليه الصلاة والسلام لم يكن يهمه إلا التجارة ولم يَدْعُ طوال حياته (يقصد سِنِى رسالته) إلا التعاون بين الأغنياء والفقراء فهذا ليس مرجعه إلى ما يشاء المؤلف، لأن حقائق التاريخ ووقائعه أكبر مما نشاء، وينبغى احترامها والحرص على نقلها بصدقٍ بغضّ النظر عما نحب أو نكره.
لقد دعا الرسول الأكرم، ضمن ما دعا إليه، إلى البر بالفقراء والمساكين والمحرومين، وجعل الإسلامُ لهم حقا معلوما فى أموال الأثرياء، لكن هذا ليس كل شىء، ولا هو أول شىء فى رسالة محمد صلى الله عليه وسلم. وعجيب أن يقول المؤلف ما قال وكأنه يتحدث عن نبى ذهب فى حِقَب التاريخ الأول قبل نشوء الكتابة والتدوين فلم يَعُد معروفا عنه شىء إلا اسمه! هل هذا معقول؟ وهل معقول أن يكون الدكتور جاهلا بالإسلام ورسالته إلى هذا الحد، وهو المصرى الذى نشأ وتربى فى بيئة مسلمة؟ أهكذا تفعل أوربا بالناس؟ لا أقصد أنها تجعلهم ينبذون ما كانوا يؤمنون به من قبل، فقد قلت إن لكل إنسان الحق فى أن يؤمن أو يكفر كما جاء فى القرآن الكريم، بل أقصد لَىّ التاريخ ومحاولة طمس حقائقه. ولكن ماذا نصنع، وهناك ناس عندهم الجرأة على إنكار الشمس فى رائعة النهار كما يقولون؟
(1/203)
هل يظن المؤلف أنه بما سطَّر من مزاعم سيُقْنِع الناسَ فعلا بأن رسالة محمد لم يكن لها من هدف إلا التجارة والتعاون بين الأغنياء والفقراء فى سبيل نجاحها وازدهارها، وأنه لم يكن فيها وحدانية، ولا بعث وحساب، ولا جنة ونار، ولا ملائكة وشياطين، ولا صلاة وزكاة وحج، ولا صدق وأمانة وكرم وشجاعة وسعى حثيث فى سبيل الرزق، ولا حب ومودة، ولا نظافة ولياقة وتهذيب وذوق اجتماعى مصفًّى...إلخ؟ لقد كان فى رسالة سيد البشر العقائد والعبادات والمعاملات والسلوك والجهاد والأحوال الشخصية، وليست التجارة إلا فرعا واحدا من فروع المعاملات، فأى معنى لاختزال ذلك كله فى شىء واحد ليس إلا؟ أليس فى القرآن والأحاديث وما كتب المسلمون فى علم الكلام والفقه والأخلاق إلا التجارة والتعاون بين الفقراء والأغنياء؟ أليس عجيبا أشد العجب أن يجد الإنسان نفسه مضطرا إلى توضيح البديهيات وتأكيدها؟ ولكن ما العمل، وهذا ما يقوله أستاذ جامعى فى جامعة من أشهر جامعات العالم؟
وهو يقول أيضا: "إن أية محاولة لدراسة أنشطة محمد فى مكة والجزيرة العربية دون الالتفات إلى مسألة التجارة لتساوى بالضبط دراسة الكويت أو الجزيرة العربية الآن دون أخذ البترول فى الاعتبار". قد يكون الشق الثانى من هذا الكلام صحيحا. كذلك فمن المؤكد أنه لا يمكن فهم الإهداء المشحون بعبارات المديح والثناء الطنّان الذى وجهه المؤلف فى صدر الجزء الثانى من كتابه إلى الشيخ أحمد زكى يمانى والذى جاء فيه: "إلى صديقى الشيخ أحمد زكى يمانى، الذى أعادت سياسته إلى الحياة كثيرا من خصال أسلافه العظام" إلا إذا أخذنا "البترول" فى الاعتبار، إذ كان يمانى وقتها وزيرا للبترول فى المملكة العربية السعودية. أما هذه المطابقة بين دعوة الرسول عليه السلام والتجارة فكَلاّ ثم كَلاّ، لأنها عدوان أثيم غشيم على التاريخ وحقائق التاريخ!
(1/204)
ويستمر المؤلف فى غيه وعدوانه على حقائق التاريخ فيزعم أن الرسول عليه السلام حينما عرض على عدد من المسلمين الهجرة إلى الحبشة للاحتماء بملكها العادل الذى لا يُظْلَم عنده أحد إنما أرسلهم بغية إقامة علاقات تجارية مستقلة لولا أن قريشا أحبطت مسعاه. طبعا، والدليل على ذلك أن الجمارك الحبشية بناء على التبليغ الذى قام به رسولا قريش آنذاك فى الحبشة قد ردّت هؤلاء المهاجرين إلى مكة فى "بلاليص" مختومة بالشمع الأحمر، وعليها بطاقة تقول إن هذه البضاعة قد انتهت فترة صلاحيتها. لا تؤاخذنى أيها القارئ الكريم، فإن الكاتب منا إذا لم يضحك إزاء مثل هذا الكلام طَقَّ من الغيظ!
(1/205)
أتدرى من أين استمد المؤلف العبقرى هذا الخبط العجيب؟ إنه يشير إلى مونتجومرى وات وكتابه "Muhammad at Mecca". أما ابن إسحاق وابن هشام والواقدى والسهيلى فكأنْ ليس لهم وجود أو كأنهم لم يكتبوا فى السيرة النبوية وهجرة بعض المسلمين إلى الحبشة شيئا. لقد ذكر ابن هشام مثلا فى سيرته عن ابن إسحاق أنه "لما رأى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ما يصيب أصحابه من البلاء قال لهم: لو خرجتم إلى أرض الحبشة فإن بها مَلِكًا لا يُظْلَم عنده أحد، وهى أرضُ صِدْق، حتى يجعل الله لكم فرجا مما أنتم فيه. فخرج عند ذلك المسلمون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أرض الحبشة مخافة الفتنة وفرارا إلى الله بدينهم" ("السيرة النبوية" لابن هشام/ المكتبة الفاروقية/ ملتان/ باكستان/ 1397هـ- 1977م/ 1/ 204). ثم ذكَر شعورَهم بالأمن بأرض الحبشة وحَمْدهم جِوارَ النجاشى وعبادتَهم الله هناك لا يخافون على ذلك أحدا، وأن النجاشى قد أحسن جوارهم، كما ساق الأشعار التى قالها بعض المهاجرين تعبيرا عن هذه المشاعر. وعقَّب على ذلك بما يقوله اين إسحاق من أن قريشا "لما رأت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أَمِنُوا بها دارا وقرارا ائتمروا بينهم أن يبعثوا فيهم رجلين من قريش جليدين إلى النجاشى فيردّوهم عليهم ليفتنوهم فى دينهم ويخرجوهم من أرضهم التى اطمأنوا بها وأَمِنوا فيها" (المرجع السابق/ 1/ 210). ثم إن النجاشى لم يشأ أن يتخذ أى تصرف قبل أن يسمع من المهاجرين، الذين تلخَّص دفاعُهم عن أنفسهم فى المقارنة بين الشرك الذى كانوا عليه وأكْلهم الميتة وإتيانهم الفواحش وقطْعهم الأرحام وإساءتهم الجوار وأكْل القوى منهم الضعيف وبين الإسلام وما يدعو إليه من الوحدانية والصلاة والزكاة والصيام والصدق والأمانة وصلة الرحم وحسن الجوار، والكفّ عن المحارم والدماء، والانتهاء عن الفواحش وقول الزور وأكل مال اليتيم وقذف المحصنات. ثم قرأوا عليه، بناءً على(1/206)
طلبه أن يسمع منهم شيئا من القرآن الذى جاءهم به نبيهم، آيات من سورة "مريم"، مما أبكى النجاشى حتى اخضلَّت لحيته وجعله يقول: "إن هذا والذى جاء به عيسى لَيَخْرُج من مِشْكاةٍ واحدة". ومع ذلك لم ييأس السفيران وعادا للنجاشى فى اليوم التالى وأخبراه أن المسلمين يقولون إن عيسى عَبْد لا إله، فلم تنجح المكيدة أيضا، إذ أمّن النجاشى على ما يقول المسلمون فى هذا الصدد (السابق/ 1/ 212- 213. ويمكن الرجوع أيضا إلى الترجمة الإنجليزية التى قام بها المستشرق البريطانى ألفرد جِيّوم لسيرة ابن إسحاق: The Life of Muhammad, Oxford University Press, 198o, PP. 146- 153).
(1/207)
هذا ما يقوله ابن إسحاق وابن هشام فى السيرة النبوية، وهو نفسه مايقوله كل كُتّاب السيرة والمؤرخين المسلمين. وليس فيه، كما نرى، أى كلام عن التجارة والمال والاقتصاد، وإنما الكلام عن الوحدانية وعبادة الله والمبادئ الخلقية النبيلة التى جاء بها محمد صلى الله عليه وسلم وأن عيسى ليس إلا عبدا لله ونبيا. وهو أيضا نفس ما يقوله المستشرقون الذين يحرصون على توثيق كلامهم والرجوع إلى مصادر الموضوع ومراجعه كواشنطن إرفنج وجورج سِيل وألفرد جيوم ووليم مُوِير...إلخ، ومنهم مارتن لنجز، الذى كان تخصصه الأصلى فى الأدب الإنجليزى ثم تحول فيما بعد إلى دين محمد واهتم بدراسة الإسلام وكتب سيرة للنبى عليه السلام استند فيها إلى المصادر الإسلامية عنوانها "Muhammad- His Life Based on the Earliest Sources" (انظر ص 80 وما بعدها، طبعة George Allen and Unwin, 1983). وكيف يصحّ كلام المؤلف العجيب، ولم تكن للمسلمين آنذاك دولة حتى يفكر الرسول فى إقامة علاقات تجارية بينها وبين الدول المجاورة؟ بل إنه حتى عندما قامت الدولة الإسلامية فى المدينة لم نسمع قطّ أنه عليه السلام قد فكر فى مثل هذه الخطوة! فانظر بالله عليك أيها القارئ واعجب ما شئت من هذا الكلام الذى لا طعم له ولا لون ولا رائحة!
(1/208)
إن الكاتب، وهو ( كما قلت) عربى مصرى مسلم، يخترع ويؤلف، أو يتابع مونتجومرى وات فى اختراعه وتأليفه، وكأن التاريخ اختراع وتأليف! ومتى؟ بعد وقوع حوادثه بألف وأربعمائة عام! أليس هذا شيئا رهيبا؟ لو أن المؤلف، حين كتب ما كتب، قد اعتمد مثلا على رواية حبشية لحوادث الهجرة تخالف ما عند المسلمين لقلنا له: نعم ونعام عين! ولكن أين هذا المصدر الحبشى؟ أم ترى المؤلف يلجأ إلى أسلوب الكُهّان وضاربى الودع؟ لكن هل يحتمل مثل هذا الموضوع بجلاله وخطره ذلك الهزل؟ إن هذا وَايْمِ الله لعيب كبير! إن المسألة ليست مسألة إيمان أو كفر كما قلت، ولكنها مسألة احترام لمنهج البحث والحقيقة، بل احترام أصحاب الأقلام قبل ذلك لأنفسهم!
(1/209)
وبنفس الطريقة يعلل المؤلف ذهاب الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الطائف حيث تقيم قبيلة ثقيف، الذين يصفهم بأنهم "المشاركون الصغار فى التجارة المكية". وأية تجارة تلك التى قصد محمد الطائف من أجلها يا ترى؟ لقد كان بعض كبار ثقيف يقولون استنكارا لنزول الوحى على محمد من دونهم: "لولا نُزِّل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم؟" (الزخرف/ 31). فهذه إذن هى نظرة رجال ثقيف إلى الأمر. إن عنادهم وكبرهم وغباءهم قد سوَّل لهم أن يكفروا بمحمد لا لشىء إلا لأنه لم يكن فى نظرهم رجلا من رجال مكة والطائف العظماء، أى الأغنياء. لقد كانوا يظنون، بسبب عنجهيتهم وانغلاق عقولهم، أن مكانة النبوة السامية ينبغى أن تكون تبعا للمركز المالى للشخص. فمن أين أتى المؤلف بهذا الكلام عن التجارة؟ ثم من يا إلهى الذى يقرأ دعاء النبى عليه السلام بعد أن طاردته الحجارة وأدمت عقبيه وألجأته إلى أحد البساتين هناك، هذا الدعاء الذى يهز الكيان كله هزًّا ويفجّر الدمعَ فى العيون والحنانَ فى القلوب، ثم تواتيه نفسه بعد ذلك أن يقول إن محمدا قد ذهب إلى الطائف لأغراض تجارية، اللهم إلا أن يكون ذلك الشخص مدخول الضمير؟ ألا شاهت الوجوه! إن من الحجارة، كما جاء فى القرآن الكريم، لما يتفجر منه الأنهار، ولكن بعض الناس أشد قسوة من الحجارة! إنها هى القلوب التى وصفها القرآن بأن عليها أقفالها! والآن إلى هذا الدعاء العجيب: "اللهم إليك أشكو ضعف قوتى وقلة حيلتى وهوانى على الناس يا أرحم الراحمين. أنت رب المستضعفين وأنت ربى. إلى من تَكِلُنى؟ إلى بعيدٍ يتجهَّمنى أم إلى عدوًّ ملَّكتَه أمرى؟ إن لم يكن بك غضبٌ علىَّ فلا أُبالى، ولكن عافيتك هى أوسع لى. أعوذ بنور وجهك الذى أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن تُنْزِل بى غضبك أو تُحِلّ بى سخطك. لك العُتْبَى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك!" ("السيرة النبوية" لابن هشام/ 1/ 261. وهذا الدعاء لا(1/210)
يزال، حتى فى ترجماته الإنجيزية التى اطَّلَعْتُ عليها وأنا بسبيل إعداد هذا البحث، يشع نورا وحنانا وعظمة ونبلا. انظره كاملا فى ترجمة جيوم لسيرة ابن إسحاق/ 193، وكتاب مارتن لينجز: Muhammad- His Life Based on the Earliest Sources, P. 98- 99 ، وفقرات منه فى كتاب H. M. Balyuzi: Muhammad and the Course of Islam, George Roland, Oxford, 1976,P. 40). بالله أهذا كلام رجل كان سفره إلى الطائف لأسباب تجارية؟ إن أحد الباحثين المعاصرين يعلق على ذلك بهذه الكلمات: "ألا ليت كان ثمة فى بعض الصدور البشرية قلب رقيق لكى يدرك صفاء الروح التى أطلقت العِنان لمشاعر فى مثل هذا السموّ كله وسط ظروف فى مثل هذه القسوة كلها!... أى إيمان راسخ بالله كان إيمانه! وأى إذعان بهيج للمشيئة الإلهية كان إذعانه! وأى سعادة روحية محضة كانت سعادته! إن هذه كلها (كذلك قال) لم تكن شيئا مذكورا ما دام يتمتع برضا الله وارتياحه" (مولانا محمد على/ حياة محمد ورسالته/ ترجمة منير البعلبكى/ ط3/ دار العلم للملايين/ بيروت/ 1976م/ 107).
ويقول التاريخ إن عداسا غلام أصحاب البستان الذى التجأ إليه النبى من سفاهة أوباش الطائف وأذاهم عندما جلس إلى النبى، بعد أن قدم له قِطْفًا من العنب وتحاور معه قليلا وسمعه يسمِّى الله قبل أن يأكل، أَكَبَّ على رأسه ويديه وقدميه يقبلها (السيرة النبوية/ 1/ 262)، وذلك لما كان يتمتع به ذلك الغلام من إنسانية وقلب حى. بيد أن أناسا على غير شاكلة عداس، ذلك الغلام الإنسان النبيل، يفضلون أن يقبّلوا شيئا آخر هو أحذية أعداء الإسلام.
(1/211)
ويعزو المؤلف الفتور الذى قابل به اليهودُ وبعضٌ من سكان المدينة انتشار الإسلام فيها إلى التجارة، كما يعزو ترحيب اليثربيين (الذين قابلوه عليه السلام سرا فى مكة) به وبدينه وبهجرته إليهم واستعدادهم للدفاع عنه إلى ذلك العامل أيضا، عامل التجارة. ذلك أنهم، كما يزعم، كانوا على علم بخبرته فى التجارة هو ومن هاجروا معه إليهم.
ونسأل: من أين للمؤلف بهذا؟ أفتح قلب النبى عليه السلام وقلوب أهل يثرب فوجد فيها شيئا آخر غير ما أعلنوه لبعضهم البعض وسجلته كتب الحديث والسيرة والتاريخ من دعوته إياهم إلى الإسلام وقبولهم هذه الدعوة ودخولهم فى دين الله؟ وبالنسبة لليهود، أهذا الذى ذكره هو السبب فى نفورهم من الإسلام وعدائهم لصاحبه وأتباعه؟ إن المؤلف لا يؤمن بطبيعة الحال بقدسية القرآن وأنه وحى من لدن رب العالمين. فليكن، فذلك شأنه. ومن هنا فإذا قلنا إن القرآن يؤكد أن اليهود كفروا بمحمد ودينه حسدًا من عند أنفسهم وبغضًا أن ينزل الله وحيه على إنسان من غير بنى إسرائيل، فلسنا نطالبه بالإيمان بهذا بوصفه وحيا إلهيا بل بوصفه كلاما (مجرد كلام) سمعه اليهود ووَعَوْه، ومع ذلك لم يعترضوا على ما جاء فيه فيردّوا عليه بأن محمدا إِنْ هو إلا تاجر جاء إلى يثرب لينافسهم على لقمة العيش فعادَوْه من أجل ذلك. أم إن هناك مصدرا عبرانيا استقى منه المؤلف هذا الكلام المُمْغِص؟ فلْيُطْلِعْنا عليه إن كان من الصادقين!
(1/212)
ويمضى المؤلف فى تفسيره العجيب ذى النغمة الواحدة المسئمة فلا يرى فى "الصحيفة" التى كتبها النبى لتنظيم العلاقة بين طوائف المدينة بعضها وبعض فى الدِّين والسلم والحرب إلا اتفاقية تجارية. إن الصحيفة تخلو من أية إشارة إلى التجارة وأى شىء يتعلق بها (انظر هذه الصحيفة فى "سيرة ابن هشام"/ 2/ 16 وما بعدها. ويوجد تلخيص لها فى "The Life of Muhammad" لجيوم/ 231 وما بعدها، و"Muhammad- His Life Based on the Earliest Sources " لمارتن لينجز/ 125- 126، و" Muhammad and the Course of Islam" للبليوزى/ 56- 57، و"حياة محمد ورسالته" لمولانا محمد على/ 129- 130). والمؤلف نفسه يقر بذلك، لكن لا تظن أنه ستُعْيِيه الحيلة للخروج من هذه الورطة. أتدرى ماذا قال؟ لقد قال إن مسألة التجارة كانت، فيما يبدو، أمرا مسلَّما به عند الجميع. أى أنه أمر من البداهة بمكان يحيث لا يحتاج إلى النص عليه. إذن ففيم كانت كتابة الميثاق أصلا؟ إن المؤلف لا يفرق، فيما يبدو، يبن النبى عليه الصلاة والسلام وبين ذلك الحاكم العربى الذى كانوا يقولون عنه ساخرين إنه كان يضىء غمّاز سيارته الأيسر ليوهم الناس أنه سينعطف يسارا على خُطَا سَلَفه فى الوقت الذىكان يعمل فيه بكل طاقته وجهده على التعفية على سياسته وتحطيم كل ما كان يدعو إليه وينادى به! بيد أن الرسول شىء، وذلك الحاكم وأمثاله شىء آخر! لكن يبدو أن للمؤلف رأيا مختلفا. فليكن، ولكن أين الدليل؟ أين المصادر؟ هذا هو محك الكلام. إنه إذا كانت كتابة التاريخ بهذا المنهج فلا كان التاريخ ولا كانت الكتابة!
(1/213)
وينظر الكاتب إلى تربُّص المسلمين بقافلة قريش العائدة من الشام على أنها غارة من الغارات التى كان قُطّاع الطرق فى الجاهلية يشنونها على قوافل التجارة المارّة على مقربة من بلادهم، زاعما أن الرسول كان يهدف من وراء هذا العمل إلى التوصل إلى اتفاقية يعطيه القرشيون بمقتضاها إتاوة من المال كى يكفّ أذاه هو وأصحابه عن قوافلهم وتجارتهم. إلا أن قريشا، وقد تيقنتْ أنه سوف يطرح شروطا متشددة، رفضت أن تعقد معه مثل هذه الاتفاقية. إذن فالمسلمون تحولوا بعد الهجرة إلى عصابة من عصابات الطرق! وقد نسى الكاتب أنه لا يمكن بأى حال تسمية عمل المسلمين: "قطْع طريق" حتى لو قلنا إنهم كانوا يهدفون فعلا إلى الاستيلاء على القافلة، بل كانوا يبغون الحصول على بعض حقوقهم التى أخرجهم منها أهل مكة واسْتَوْلَوْا عليها من أرضين وبساتين ودور وأموال، ودعنا من النفوس التى أُزْهِقت ظلما وجبروتا، والجلود التى شُوِيَت بالسياط، والصدور التى كادت أن تخنقها الصخور الملتهبة الراسخة فوقها، والمؤامرات التى لم تكن تنتهى، والسخريات والإهانات من كل جنس ولون! وهل قطاع الطرق يصمدون لأعدائهم إذا جيّشوا جيشا عدد جنوده كعددهم ثلاث مرات، ويضم من الأسلحة والعتاد وحيوانات الحرب ما ليس عندهم وأتَوْا ليحاربوهم به؟ ثم هل علينا أن نغطى على عيوننا ونغلق عقولنا وضمائرنا فلا نحاول أن نفهم مغزى العبارات والتصرفات التى صدرت عن محاربى المسلمين دالةً على عميق إيمانهم ورغبتهم الجارفة فى الاستشهاد؟ أم ترى المؤلف سيقول هنا أيضا: إنهم كانوا يذكرون الشهادة، لكنهم كانوا يقصدون الأموال والتجارة؟ والله إن هذا لعبث!
(1/214)
وعلى سُنَّته فى ظلم الجانب الإسلامى دائما وتفسير كل ما يفعله النبى والمسلمون فى ضوء المصالح التجارية نرى المؤلف يُرْجِع غزوات المسلمين لليهود وعقابه لبنى قُرَيْظة إلى أنه صلى الله عليه وسلم قد وجد أن دخول اليهود أعضاءً فى الأمة لا يتواءم مع مصالحها التجارية. وهو بهذا يتجاهل، كعادته دائما، التاريخ وشهادته. لقد بدأ اليهود بالغدر، وتكررت خيانتهم للشروط التى وقَّعوا عليها فى "الصحيفة" مع غيرهم من طوائف أهل المدينة، وتآمروا على قتل النبى عليه السلام والقضاء على الدين الذى أُرْسِل به. وقد سامحهم صلى الله عليه وسلم فى المرتين الأُولَيَيْن فاكتفى من بنى قينقاع وبنى النضير بترك المدينة حاملين معهم أموالهم، لكنه أمام غدر بنى قريظة، الذى كاد أن يقضى على المسلمين جميعا لولا لطف الله وانكشاف خيانتهم، وأمام تواطئهم مع الأحزاب لطعنه عليه السلام وأتباعه فى ظهورهم بكل خسة ونذالة وحقد سامّ أسود، لم يستطع أن يمضى فى سياسة التسامح هذه، إذ لم يكن هذا التصرف منهم إلا الخيانة العظمى عينها بكل يقين. وعلى أية حال فقد كانت العقوبة التى وُقِّعَت على أولئك الخونة الأنذال أخف كثيرا مما ينص عليه كتابهم المقدس فى معاملتهم للأمم المغلوبة، إذ يوجب عليهم أن يُعْمِلوا السيف فى جميع أفراد الأمة التى يُقَدَّر لها أن تُهْزَم على أيديهم لا يتركون منها ولا نسمة واحدة، لا الخونة من رجالها فقط كما حدث فى عقوبة بنى قريظة! (انظر تفصيل هذا الموضوع فى كتابى: "مصدر القرآن- دراسة لشبهات المستشرقين والمبشرين حول الوحى المحمدى"/ مكتبة زهراء الشرق/ 1417هـ- 1997م/ 43 وما بعدها. أما التشريع المشار إليه عند اليهود فموجود فى سفر "التثنية"/ 20/ 10- 16). كما أن اليهود كانوا قد دخلوا أعضاء فى الأمة منذ أول لحظة، وذلك فى "الصحيفة" التى سوت تماما بينهم وبين المسلمين فى كل شىء، فما معنى الزعم السخيف بأن الرسول لم يكن يريدهم أعضاء فى(1/215)
الأمة؟ إنهم هم الذين لم يحفظوا الجميل التى امتدت إليهم بالخير والمعروف والإحسان، فِعْل اليهود فى كل زمان ومكان، إذ هم مطبوعون على كراهية الغير واحتقارهم لهم لتصورهم أن الله لا يهتم بأحد غيرهم واعتقادهم أنهم أبناء الله وأحباؤه كما يعرف ذلك كل من اطَّلَع على القرآن الكريم والعهد القديم. لكن المؤلف يتجاهل هذا كله وينشئ تاريخا من لدن نفسه، وهذا أمر عجيب غاية العجب!
والكاتب يسمِّى "الزكاة" ضريبة، ويقول إن محمدا قد فرض على القبائل التى أخذت تتقاطر وفودها على المدينة فى أواخر حياته صلى الله عليه وسلم أن تدفعها له. وهو يدَّعِى أيضا أنها ليست إلا إحياء لتلك الضريبة القديمة التى كان على بعض القبائل أن تدفعها إذا أرادت المشاركة فى تجارة مكة.
(1/216)
وهذا كله خلط وخبط وجهل وتهويل سخيف: فالزكاة ليست هى الضريبة، وهذا أمر من الوضوح بمكان، بيد أن المؤلف كدَيْدَنِه لا يبالى بالحقائق التاريخية! إن الزكاة هى حق العاجزين المحتاجين، أما الضرائب فإن الناس يدفعونها للدولة فى مقابل الخدمات التى تقدمها لهم، فهى منهم وإليهم (فى التفرقة بين الزكاة والضريبة انظر على سبيل المثال: أبو الأعلى المودودى/ فتاوى الزكاة/ جامعة الملك عبد العزيز/ 1405هـ- 1985م/ 92- 96، ود. محمود عاطف البنا/ نظام الزكاة والضرائب فى المملكة العربية السعودية/ دار العلوم/ 1403هـ- 1983م/ 13 وما بعدها، و55 وما بعدها). وعلى كل حال فلا الزكاة ولا الضريبة كان يأخذها الرسول، بل كانت تذهب إلى خزانة الدولة. ثم إن حق الفقراء والمحرومين منصوصٌ عليه فى السُّوَر المكية، فليس الأمر إذن، كما يزعم الكاتب، أمر تشدد من جانب الرسول عليه السلام فى شروطه مع الوفود بعد استقوائه بحيث أصبح يوجب عليهم الدخول فى الإسلام ودفع الضرائب له بعد أن كان لا يعبأ بهذا ولا بذاك فى البداية. جاء فى سورة "المعارج" ضمن صفات الناجين من النار: "والذين فى أموالهم حقٌّ معلوم* للسائل والمحروم" (الآيتان 24- 25)، وفال تعالى فى "الذاريات" فى حديثه عن المتقين الفائزين بالجنة وما فيها من نعيم: "وفى أموالهم حق للسائل والمحروم" (الآية 19)، وفى "المؤمنون" فى صفات المؤمنين المفلحين: "والذين هم للزكاة فاعلون" (الآية 4)، وفى "الروم": "وما آتيتم من رِبًا لِيَرْبُوَ فى أموال الناس فلا يَرْبُو عند الله، وما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأولئك هم المُضْعِفون" (الآية 39)، وفى سورة "لقمان" عن المحسنين أنهم هم "الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة، وهم بالآخرة هم يوقنون" (الآية 4). وهو بنصه ما جاء فى الآية الثالثة من سورة "النمل" وصفا للمؤمنين... وغير ذلك من الآيات. كما مرّ بنا أن المسلمين الذين هاجروا إلى الحبشة قد ذكروا أمام(1/217)
النجاشى "الزكاة" ضمن ما جاءهم به النبى عليه الصلاة والسلام. فها نحن أولاء نرى هذه النصوص المكية، وهى متعددة، وهناك آيات أخرى غيرها كما قلت، تتحدث بوضوح شديد عن حق المُعْوَزين العاجزين فى أموال إخوانهم المؤمنين المقتدرين، وبعضها يستخدم لفظة "الزكاة" استخداما صريحا. الزكاة إذن موجودة منذ العهد المكى، وإن لم يفصَّل القول فيها وتُقَنَّن، حسبما يوضح العلماء، إلا فى المدينة على خلاف بينهم فى تحديد تاريخ ذلك: أهو السنة الثانية من الهجرة أم بعدها؟ (انظر مثلا "مناهج المستشرقين فى الدراسات العربية والإسلامية"/ المنظمة العربية للتربية والعلوم والثقافة ومكتب التربية العربى لدول الخليج/ 2/ 211 من دراسة د. محمد أنس الزرقا فى الرد على آراء المستشرق شاخت عن الزكاة، ود. يوسف القرضاوى/ فقه الزكاة/ ط5/ مؤسسة الرسالة/ بيروت/ 1401هـ- 1981م/ 1/ 52- 62، وعبد الله بن محمد الطيار/ الزكاة/ جامعة الملك محمد بن سعود الإسلامية/ 1407هـ- 1987م/ 59- 62).
وليس عجيبا أن يحاول الكاتب تلطيخ المفهوم النبيل والهدف السامى لعبادة الزكاة بالادعاء بأنها ليست أكثر من إحياء للضريبة التجارية القديمة التى كان يجمعها منظمو التجارة المكية، فقد أخذ الكاتب على عاتقه تشويه صورة الإسلام والإساءة إلى الرسول العظيم بكل الوسائل ووضع مبادئه وتشريعاته وتصرفاته فى إطار بشع منفّر!
(1/218)
ويحصر المؤلف جهود الرسول عليه السلام فى المدينة فى أنه قد وضع أساس مركز تجارى كبير يتفوق على المراكز السابقة. وهو كلام كسائر ما يقول المؤلف ليس له رأس ولا رِجْلان، وإلا فأين ذلك المركز التجارى؟ أم كان الرسول يخفيه تحت الأرض ولا يعرفه أحد إلا هو وبعض المقربين منه، ثم بعد أربعة عشر قرنا الأستاذ المؤلف؟ لقد كان الرسول عليه الصلاة والسلام يبلّغ الناس ما ينزل عليه من الوحى، وكان يدير شؤون الدولة بوصفه حاكما سياسيا، كما كان يقود بنفسه الجيش الإسلامى فى أحيانٍ كثيرةٍ، وكان يقضى بين الناس. لكننا لم نسمع قط أنه كان يتاجر أو يشرف على إحدى المؤسسات التجارية أو ينظِّم القوافل. لقد كان بين المسلمين تجار، ولكن كان منهم أيضا صنّاع وزرّاع ورعاة وجنود وقرّاء، فلم يكن للتجارة إذن وضع متميز، ولا كانت المدينة مركزا تجاريا بالمعنى الذى يقصده المؤلف، ولا كان النبى كبير التجار فيها.
وينتهى الدكتور شعبان إلى أن النبى عليه السلام لم يأت بجديد، وأن دينه ليس بالشىء الجديد، وحتى القيم الإنسانية التى أتى بها من وجوب التعاون بين أفراد الأمة ليس فيها أى معنى جديد، فقد سبقه جده هاشم إلى ذلك. بل إنه ينفى أن يكون النبى صلى الله عليه وسلم قد أنشأ دولة أو وحَّد العرب.
(1/219)
هذا ما قاله الدكتور فى أواخر الفصل الذى نحن بسبيل مناقشة ما فيه من آراء وأفكار. ومع ذلك فإنه قد قرر فى بداية هذا الفصل ذاته عكس ذلك تماما، حين كان يناقش بيلاييف فى قوله إن : "الإسلام قد ظهر فى الجزيرة العربية دينًا جديدًا يعكس تغيرات ضخمة فى المجتمع العربى، ألا وهى التفاوت فى الملكية والرق وتطور المبادلات. إن ظهور هذا الدين مرجعه إلى نشوء نظام قائم على الرق داخل مجتمع بدائى فى طريقه إلى الانهيار"، إذ ردّ عليه قائلا: "إن مما لاشك فيه أيضا وجود تغيرات ضخمة فى المجتمع العربى، إلا أن بقية الدعوى لا تستند إلى أى دليل بالغًا ما بَلَغَتْ تفاهته فى المراجع التى بين أيدينا".
وهذا تناقض حاد ورهيب، وفى أول فصل من فصول الكتاب، وفى ما لا يزيد على اثنتى عشرة صفحة، وفى أهم شىء فى الدراسة كلها. وهو من العيوب المنهجية المسيئة التى لا تُقْبَل من باحث مبتدئ، بَلْهَ من أستاذ فى إحدى الجامعات العريقة فى أمة من أكثر الأمم فى عصرنا هذا تقدما وثقافة!
أمّا أن الرسول أتى أو لم يأت بدين جديد فذاك يحتاج إلى شىء من التفصيل. إن الرسالات السماوية كلها نابعة من مصدر واحد، وكلها تدعو إلى الإيمان بالله ووحدانيته وبالبعث وبالأخلاق النبيلة الكريمة من صدق وتحاب وتعاون... إلخ. بيد أنها فى مجال التشريعات تختلف من دين لآخر، وكذلك الأمر فى صور العبادات، وإن قُصِد بها جميعا وجه الله ومرضاته. فهذا هو القول باختصار شديد فى هذه المسألة من الناحية النظرية.
(1/220)
على أن الأمر يمكن النظر فيه من ناحية أخرى، إذ لم تظل الأديان والكتب السماوية السابقة على حالتها الأولى من النقاء والصفاء الذى نزلت به من عند رب العالمين، فجاء الإسلام ليعيد الأمور المعوجَّة إلى استقامتها التى كانت عليها. فالإسلام من هذه الزاوية دين جديد حتى فى مجال العقائد والأخلاق، إذ الوحدانية مثلا شىء مختلف عن التثليث، وعالميةُ الألوهية ليست مما يؤمن به اليهود، لأنهم ينظرون إلى الله سبحانه على أنه إله خاص بهم وحدهم ويحابيهم على غيرهم لا لشىء سوى أنهم بنو إسرائيل. ومثل ذلك تحريم الإسلام للربا تحريما قاطعا، فى حين أن كِتَاب اليهود، كما هو بحالته الراهنة، يحرّمه فقط فيما بين اليهود بعضهم وبعض، أما تعاملهم به مع غيرهم فهو حلال...وهكذا. فضلا عن أن الإسلام هو دين عالمى صالح للناس جميعا فى كل زمان ومكان، بخلاف الأديان الأخرى، فهى أديان محلية خاصة بأقوام أنبيائها فقط.
هذا، ولا أظن عاقلا يمكن أن يوافق المؤلف على دعواه بأن ما فعله الرسول ليس شيئا آخر غير ما فعله جده البعيد هاشم تقريبا. لقد كان هاشم تاجرا ومنظما للقوافل، أما محمد فهو رسولٌ صاحبُ دين. وحتى لو قال الكافرون إن هذا الدين إنما أتى به محمد من عنده، فيبقى أنه مع ذلك دين، والدين شىء مختلف عن تنظيم القوافل والتجارة.
(1/221)
كذلك لا أظن عاقلا له أدنى إلمام بالتاريخ يمكن أن يأخذ مأخذ الجِدّ ما قاله المؤلف من أن الرسول عليه السلام لم ينشئ دولة ولم يوحد العرب. إن أقل ما يوصف به مثل هذا الزعم أنه عبث أطفال، وإلا فما الذى يمكن أن نسمّى به خضوع العرب جميعا فى حياة النبى صلى الله عيه وسلم لحكومة واحدة وحاكم واحد هو محمد، وانخراط القادرين على الحرب منهم فى جيش تلك الدولة...إلخ؟ والله إننى لا أدرى ماذا يمكن أن أقول لصاحب هذا المنطقّ! إن المؤلف يقول إن محمدا قد وجد هذا كله جاهزا، وكل ما فعله أنه أدخل عليه بعض التحويرات الطفيفة! وهو، كما لا يخفى، كلام لا معنى له ولا منطق فيه، ويكذِّبه التاريخ تكذيبا عنيفا. ثم إنه، كما رأينا، قد سلَّم مع بيلاييف بأن التغييرات التى أحدثها النبى فى الجزيرة العربية كانت تغييرات ضخمة.
ويقول المؤلف أيضا إن النظام الذى أقامه الرسول عليه السلام والطاقات الجديدة التى أطلقها فى بلاد العرب قد قُدِّر لهما أن يصلا إلى مدًى لم يكن يخطر له على بال، إذ اضْطَرّ العربَ التراجعُ الاقتصادىُّ المحتومُ الذى أدّت إليه أعمالُه أن يستغلوا تلك الطاقات فى الإغارة على الأرضين المجاورة وفى أن يكونوا بعد وفاته، وعلى غير قصد منهم، أصحاب إمبراطورية!
(1/222)
والسبب فى قوله هذا الكلام هو أنه يصر إصرارا عجيبا على أنه عليه الصلاة والسلام لم يكن إلا تاجرا بارعا فى تنظيم أمور المال كجدّه هاشم، مع أن نصوص القرآن والسُّنّة فى هذا الصدد تصكّ هذا المنطق المتهافت وتفتته بل تسحقه سحقا. فالقرآن يقول: "وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين" (المؤمنون/ 107)، "وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا" (سبأ/ 28)، "هو الذى أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليُظْهِره على الدين كله ولو كره المشركون" (التوبة/33، والصف/ 9)، "هو الذى أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليُظْهِره على الدين كله، وكفى بالله شهيدا" (الحجرات/ 28). وهذه النصوص هى نصوص مكية ومدنية مما يدل على أن عالمية الدعوة لم تكن فكرة طارئة، بل كانت موجودة منذ العهد المكى، واستمرت فى العهد المدنى. ولقد قال الرسول عليه السلام، وهو بصدد التفرقة بينه وبين إخوانه الأنبياء السابقين، إن كلا منهم كان يُبْعَث إلى أمته، أما هو فبُعِث إلى الناس كافة. كما أنه عليه السلام قد بشَّر أصحابه، فى عزّ الحصار القاسى الذى ضربته قريش وحلفاؤها على المسلمين فى غزوة الأحزاب، بغزو فارس والروم والاستيلاء على كنوز كسرى وقيصر مما أثار استغرابَ بعض من سمعوه آنئذ. ومن ذلك أيضا بشارته لهم بفتح القسطنطينية، التى لم يستول عليها المسلمون كما هو معروف إلا بعد أن سُجِّلت الأحاديث بأزمانٍ بحيث لا يمكن أىَّ مناكف سخيف أن يدّعى أن المسلمين هم الذين أضافوا هذا إلى كلامه عليه الصلاة والسلام بعد انتقاله إلى الرفيق الأعلى. وقد بعث الرسولُ صلى الله عليه وسلم، تطبيقا لذلك، برسائل إلى ملوك عصره يدعوهم فيها إلى الإسلام والاعتراف بنبوته. ولم يعد أحد يجادل فى هذا، وبخاصة بعد ما عُثِر على بعض هذه الرسائل. فكيف جرؤ المؤلف مع ذلك كله على القول بأن الأمور قد وصلت إلى مَدًى لم يخطر للنبى عليه السلام ببال، وأن فتح المسلمين للبلاد التى حولهم بعد وفاته وانسياحهم(1/223)
فى الأرض ينشرون فيها دين الله وتكوينهم إمبراطورية إنما كان على غير قصد منهم، أى بضربة حظ عشوائى؟
والناظر فى تحليل المؤلف لشخصية الرسول عليه الصلاة والسلام وتاريخ تلك الحقبة بجد أنه قد اتخذ التجارة عاملا أوحد. وهو يردد أيضا مقولة الماركسيين من أن التراكم الكمى يؤدى إلى تراكم كيفى، أن أن المادة هى العامل الذى يؤثر فى الروح، وذلك عند قوله فى ختام الفصل الذى نناقشه الآن إنه كان للتغييرات غير الملحوظة التى أحدثها الرسول عليه الصلاة والسلام تأثير كمى كانت نتيجته فى نهاية المطاف نشوء دين عالمى. فهذا الدين العالمى هو نتيجة غير مقصودة من محمد، الذى هو فى نظر المؤلف لم يكن أكثر من تاجر عبقرى فى مسائل التنظيم المالى والتجارى، أدت إلى ما لم يكن يطوف له بخيال. إن نشوء هذا الدين ليس عنده إلا تغييرا كيفيا سببه هذه التراكمات الكمية التى أشار إليها.
والمؤلف يجرى فى هذا على منهج الماركسيين فى تحليل حوادث التاريخ وتفسير ظواهره ودراسة شخصياته. وهو منهج ضيق العَطَن، إذ العوامل التاريخية متعددة ومتشابكة. والناس يحركهم عدد من الغرائز والمخاوف والمطامح والمطامع والآلام والآمال والأساطير والقيم الأخلاقية والدينية والوطنية والأشواق الروحية العليا...إلخ، فليس المال والاقتصاد إذن إلا عاملا من عوامل. بل كم رأينا ونرى من يضع هذا العامل وراءه ظِهْرِيًّا فى سبيل مبدإ وطنى أو قومى أو دينى أو سياسى أو إنسانى أجدر فى نظره بأن يُولِيَه وقته وراحته، بل وحياته أيضا إذا اقتضى الأمر. والرسول الكريم أعظم مثال على ذلك، فقد انصرف عن مصالحه الشخصية والأسرية والقبلية أيضا فى سبيل نشر الدعوة التى كلّفه الله بها والمنافحة عنها، وتحمَّل فى ذلك ضروبا من الأذى والإهانة والعنت، وتعرَّضت حياته نفسها للخطر مرات.
(1/224)
ولقد كان للتحليل الاقتصادى للتاريخ والنشاط الإنسانى والحضارات بريقه يوم أن كان للشيوعية إمبراطورية ذات توابع، وكان كثير من حكومات العالم الثالث، بما فيها عدد غير قليل من حكومات الأمم الإسلامية، يرى فى الاتحاد السوفييتى الأم الرءوم التى تأخذهم فى أحضانها لترضعهم لبن العطف والمرحمة وتحميهم من غوائل الاستعمار الرأسمالى. بيد أن الغريب هو أن عددا من هؤلاء الماركسيين أو الآخذين بوجهة النظر الماركسية من ذوى الأصول الإسلامية كانوا يجدون ملجأهم وراحة نفوسهم فى البلاد الرأسمالية، ويَلْقَوْن فيها التشجيع ويكافَأون بالمناصب والأموال وغير المناصب والأموال، مع أن هذه البلاد نفسها، رغم ما فيها من ديمقراطية، لا تشجع أبناءها من الماركسيين أو المتعاطفين مع الماركسية وحكوماتها. والمعنى فى بطن الشاعر!
وأخيرا فإن عنوان الكتاب هو "التاريخ الإسلامى- تفسير جديد"، مع أن المؤلف نفسه يقرر فى أحد هوامش الصفحة الثانية من الأصل الإنجليزى أنه مع شىء من التحوير فإن تفسيرات كِسْتَرْ للظواهر التى بقيت حتى الآن بلا تفسير، وكذلك رجوعه فى كل شىء إلى المراجع المعتمدة، يشكلان الأساس لذلك التفسير الذى يقدمه فى هذا الكتاب. أى أن المؤلف يعترف بأنه لم يأت بجديد، وإنما أخذ تفسيره مع شىء من التحوير من كستر. وهو تناقض يضاف إلى غيره من التناقضات والثقوب التى يعجّ بل يفيض بها كتابه والتى أوردنا عددا منها فى الدراسة التى بين يدى القارئ.
((يجد القارئ ترجمة الفصل المذكور وردّى عليه فى كتابى: "ثورة الإسلام فى ضوء ظروف البيئة التى ظهر فيها"/ مكتبة زهراء الشرق/ القاهرة /1419هـ- 1999م))(1/225)
هل الإسلام فكر بدوىّ قَبَلىّ كما تردّد الببغاوات ؟
بقلم : د. إبراهيم عوض
نسمع هذه الأيام من بين المنتسبين إلى الإسلام من يعملون على التنقص من هذا الدين العظيم من خلال اتهامه بأنه فكر قبلى بدوى متخلف ، على أساس أنه ظهر فى بلاد العرب ذات المجتمعات التى تغلب عليها القبلية والبداوة . وبعض الذين يسمعون هذا الكلام قد يصدقونه، فليس كل الناس عندهم الوقت للتحرى والتقصى ولا النظرة الناقدة التى تمحص ما تسمعه، وبخاصة إذا كان ظاهر الأمر يمكن أن يوحى للمتعجلين بصحة ما يقال ، وعلى وجه أخص إذا جاء هذا الزعم فى مثل ظروفنا الحالية التى لا تخفى على أحد والتى وصل فيها حال المسلمين إلى درك غير مسبوق لا على المستوى العسكرى والسياسى فقط ، بل على المستوى النفسى والفكرى أيضا ، إذ لم يظهر فيهم مِنْ قَبْلُ مِثْلُ هذا العدد الكبير الذى يتبع كل ناعق من مبغضى الإسلام دون فهم أو وعى بما يدبَّر خلف الستار . إنها عملية انتحار حضارى يجمع بين الغباء والإجرام تقوم بها فئة مارقة تريد أن تجرّ معها بقية الأمة لحساب الأعداء الذين يعملون منذ قرون على تدميرنا وتركيعنا وقطعوا فى ذلك أشواطا ، وما زالوا مستمرين فى عملية التدمير والتركيع دون كلل أوملل ودون أن يراعوا عهدا أو ذمة.
(1/226)
وبادئ ذى بدء نقول إن محمدا عليه الصلاة والسلام لم يكن بدويا بأى حال من الأحوال ، إذ كان من أهل مكة ، فهو إذن حضرى لا بدوى ، وإن كان هذا لا يعنى التنقص من المجتمعات البدوية بأى معنى ، فهى طراز اجتماعى مَثَله مَثَل طراز المجتمعات الريفية وطراز مجتمعات المدينة وطراز حياة الغابة وطراز حياة الإسكيمو ... إلخ . ولا يستطيع عاقل أن ينكر التنوع البيئى والاجتماعى الذى تعرفه الكرة الأرضية ، فهو سنة كونية لا يمكن تغييرها ، كما أنه مظهر من مظاهر الثراء الحضارى . ولكم أمدت الباديةُ التاريخَ الإنسانى بالعظيم من الأفكار والرجال، وكان لها دور لا ينكَر فى كثير من عمليات التطور الحضارى . ومن الغباء أن ننظر شزرا إلى المجتمعات البدوية فى كل الظروف والأحوال .هذه نقطة مبدئية أحببت أن أجلّيها قبل أن أدخل فى صميم الموضوع .
(1/227)
والآن نتساءل : إذا كان الإسلام دينا بدويا متخلفا كما تردد الببغاوات التى تقع عقولها فى آذانها لا فى رؤوسها ، فكيف يا ترى استجابت له كل هاتيك الأمم والشعوب التى دخلت ومازالت وستظل تدخل فيه بإذن الله مع اختلاف بيئاتها ونظمها الاجتماعية عن بيئة البداوة ، ومنها الأوربيون والأمريكان ، فضلا عن العراقيين والمصريين والسوريين والفرس والهنود والصينيين ، وهؤلاء أصحاب حضارات عريقة لا كالغربيين الذين لم يعرف معظمهم طعم التحضر إلا بعدهم بأحقاب كما هو معروف لكل من لديه أدنى إلمام بالتاريخ ؟ فليفسر لنا الببغاوات إذن ، أو بالأحرى فليفسر لنا أسيادهم الذين يجرّونهم من أنوفهم كما تُجَرّ البهائم ، تلك الظاهرة ! ألا إن هذه شِنْشِنَةٌ استشراقيةٌ تبشيريةٌ معروفةٌ لكل من اطلع على شىء من القىء الذى تقذف به أفواه الحقد ضد دين رب العالمين . والمستشرقون والمبشرون يعلمون قبل غيرهم أن ما يقولونه فى هذا الصدد إنما هو إفك من الصنف التافه الرخيص ، لكنهم يعرفون أيضا أن كثرة الطنين به قد يأتى بثمرته بين ذوى العقول القرودية السخيفة والضمائر المنكوسة المهزومة الذين يظهرون بين ظَهْرانَىِ الأمم الضعيفة فى أوقات الهزيمة والتحلل ، بالضبط كما يظهر الطفح المرضى على الجلد بسبب اختفاء المناعة أو ضعفها. وكيف يفسرون يا ترى استمساك المسلمين ، ما عدا هذه القلة المارقة الشاذة ، بدينهم رغم أن المغريات بتركه فى المرحلة الأخيرة من تاريخهم كثيرة ؟
(1/228)
كذلك كيف يشرحون لنا السر فى أن هذا الدين قد أنتج حضارة من أبدع وأغنى ما عرفته البشرية من حضارات ؟ ولست هنا بسبيل تعداد المنجزات الحضارية التى أبدعها الإسلام فى كل الميادين ، ولكنى أكتفى فقط بالإيماء إلى ما اقتطفته أوربا من ثمار هذه الحضارة واتخذت منه منطلقا للخروج من وهدة التخلف التى كانت مرتكسة فيها حين كان المسلمون يجسدون المثال الأعلى فى المدنية والثقافة على السواء ، ثم شرعت تضيف إليه بعد أن رسخت قدمها فى مضمار العلم والاختراع حتى صارت إلى ما هى عليه الآن ، وأخذت تعمل على ألا يعود المسلمون كما كانوا مدنية وعلما وقوة . أهذا كله إنتاج بدوى قبلى ؟ إن كان الأمر كذلك فمعنى هذا أن القبلية والبدوية شىء عظيم لا يعاب ، اللهم إلا ممن فى قلوبهم مرض ! ويا من تتشدقون بازدراء الإسلام من ببغاواتنا المنكوسة المنحوسة ، ها أنتم أولاء تعيشون فى مجتمعات حضرية ، فما الذى يمنعكم من أن ترتقوا وتقوَوْا وتقضوا على المشاكل التى تعانى منها أممكم وتناطحوا أمم الغرب التى أذاقتكم الويل والهوان ؟ لكنكم أعجز وأضأل وأذل وأقل وأضل من أن تستطيعوا ذلك ولا عشره ولا واحدا على المائة ولا الألف ولا حتى المليون منه رغم الإمكانات الهائلة التى فى أيديكم بالمقارنة بما كان متاحا للمسلمين الأوائل مما لم يكن يتعدى الصفر ، اللهم إلا قوة العقيدة والإيمان بالله والرسول والقرآن ، هذا الإيمان الذى قلّل فى أعينهم كل شىء ومكّنهم من صنع ما يُعَدّ اليوم من قبيل المعجزات ! إننا الآن مليار ونصف ، وتحت أيدينا من الإمكانات ما يحتاج إلى كُتُبٍ وكُتُبٍ وكتبٍ وكتبٍ وكتبٍ لإحصائه ، ومع هذا فنحن فى ميدان السياسة والإنتاج والقوة الحربية والعلم صفر كبير ، أما المسلمون الأوائل الذين خرجوا من الجزيرة العربية ، وكانوا فى أغلبهم من البدو الذين يظن القرود أنهم قادرون على النيل منهم وتحقير صورتهم وإنجازاتهم الفريدة على مدى الدهر، فكانوا بضع(1/229)
عشرات من الألوف ليس إلا ، ومع ذلك استطاعوا أن يفرضوا صوتهم وشخصيتهم على التاريخ ويُنطِقوه بالعربية ويصبغوه بصبغة الله التى ليس مثلها من صبغة ... إلى أن أخذت قبضتهم على عروة الدين تتراخى فحدث لهم ما حدث مما نعيش عقابيله الآن هما وغما وخوفا وذلة وتخلفا ، بالإضافة إلى السفالة التى يغادينا ويماسينا بها هؤلاء القرود الذين ينتفخون ويشمخون كأنهم سادة ، وما هم فى واقع الحال إلا عبيد أذلاء لا قيمة لهم بأى معيار من معايير الحضارة والكرامة الإنسانية . ينبغى أن نفرق بين الإسلام ، الذى هو دين سماوى عالمى للإنسانية جمعاء ، وبين المسلمين الأوائل الذين جاء كثير منهم من البادية ثم انضم إليهم أهل الحضر من الشعوب التى دخلت بعد ذلك فى دين الله أفواجا وأحبته وخالط منها شغاف القلوب وبذلت فى سبيله المُهَج والأموال رخيصة تبتغى بذلك وجه المولى الكريم . ثم تعالَوْا ننظر ما قدمه الغرب المتحضر غير البدوى لنا على مدار عشرات العقود من إذلالٍ واستعمارٍ ونهبٍ لثرواتنا وتدميرٍ لكل طاقاتنا وآمالنا فى الانعتاق من الضعف والتخلف ومَلْخٍ لفلسطين الغالية وتقسيمٍ لبلادنا وزرعٍ لعوامل التفرقة بيننا، كل ذلك على نحو مخطط مدروس مُمَنْهَج ، إلى جانب القصف اليومى فى هذه الأيام النحسات للعراق الحبيب وأرض الإسراء والمعراج المباركة الغالية وأفغانستان المسكينة بكل أسلحة الفتك الرهيبة وهدم البيوت والمؤسسات وقتل الأطفال والنساء والرجال والشيوخ دون أى ذنبٍ جَنَوْه سوى أنهم مسلمون رِخاص لا يستحقون أن ينعموا ببلادهم وثرواتهم ، وفى تحدٍٍّ صارخ لكل القوانين والأعراف الدولية مما ضج منه الشرفاء والأحرار من كل أنحاء العالم بما فيها أوربا وأمريكا أنفسهما ولا يزالون !
هذا من ناحية الإطار ، فماذا عن المضمون ؟
(1/230)
لننظر فيما كان سائدا فى بلاد العرب عند ظهور الإسلام من قِيَمٍ وأوضاعٍ ونقارن بينه وبين ما جاء به الرسول الكريم لنرى أهذا الذى جاء به هو من نتاج تلك البيئة أم لا . وبذلك نحسم هذه المسألة بدلا من الاستمرار فى الشقشقة بالكلام الذى يمكن أن يطول فيه الجدل إلى ما لا نهاية : وأول شىء نود أن نقف إزاءه هو العقيدة ، فما الذى أتى به الرسول فى هذا المضمار ؟ لقد كان العرب بوجه عام قوما وثنيين ، لكل قبيلة أو عدة قبائل صنمها الذى تعبده وتتعصب له ولا تعرف شيئا عن التوحيد ، لكن الإسلام كانت له هنا كلمة أخرى ، إذ دعا إلى الوحدانية المطلقة التى لا تشوبها شائبة ، فلا أوثان ولا ثنوية ولا تثليث ولا بنوة لله ، ولا اقتصار لربوبيته تعالى على أمة معينة يكون هو ربها من دون باقى الأمم كما هو الحال فى اليهودية حيث يُنْظَر إليه سبحانه على أنه إله بنى إسرائيل فحسب ، فلا يعرف سواهم ولا يقيم وزنا فى رحمته ولا فى تشريعاته لغيرهم مهما انحط اليهود وكفروا ، ومهما آمن غيرهم وعدل وأحسن واستقام . فالإله فى الإسلام هو رب العالمين جميعا لا لقبيلة أو أمة بعينها ، وهو ليس منحصرا فى مكان دون مكان ، وبابه مفتوح دائما للجميع ، ورحمته وسعت كل شىء، وهى سابقة أبدا غضبه ، والحسنة عنده بعشر أمثالها ، والسيئة بمثلها فحسب ، هذا إن لم يمحها محوا ويسترها على صاحبها كأنه لم يرتكب شيئا . والعبرة عنده بحسن النية والإخلاص وبذل الوسع ، وهى أمور فى متناول كل إنسان ، فلا قرابين ولا مُحْرَقات ولا إيمان بأشياء لا تدخل العقل بل تُعْنِت الضمير وتغرق الإنسان فى حيرة وبلبلة وتدفعه لمدابرة المنطق . فأين البدوية والتخلف هنا ، وما جاء به الإسلام يتفوق تمام التفوق على كل ما كان معروفا آنذاك وحتى الآن من عقائد وأديان سواء على مستوى الفكر أو الشعور أو الضمير ؟ ليس هذا فحسب ، بل إنه يترك الإنسان رغم ذلك لاختياره ، فإن شاء آمن ، وإن شاء كفر ، وحتى(1/231)
لو لم يؤمن فليس العقاب الأخروى بواقع عليه ضربة لازب، إذ إن المجتهد مأجور حتى لو أخطأ ، وما دام الحق قد عُمّىَ عليه ولم يبزغ له نوره رغم بذله الجهد وإخلاصه فى رغبة الوصول إليه فإن رحمة الله قريب من عباده المجتهدين المخلصين . كذلك فالعقاب الأخروى لم يكن معروفا عند العرب ، اللهم إلا نفرا قليلا لا تأثير له فى حياتهم .أما فى الإسلام فهناك حساب وثواب وعقاب وجنة ونار ، والإنسان ليس كمًّا مهملا فى الكون يأتى إلى الدنيا ويموت ثم ينتهى أمره عند هذا الحد كما تنتهى الحيوانات العجماء.
(1/232)
وفى المجتمعات البدوية نجد أن ولاء الفرد إنما يكون دائما لقبيلته ، كما أن مفهوم الخير والشر مفهوم قبلى ، فالشر الذى يوقعه الإنسان بواحد من غير قبيلته لا يُعَدّ شرا ، وعلى أبناء القبيلة أن يهبوا لنصرة أى منهم ظالما كان أو مظلوما . كذلك كان التفاخر بالأنساب القبلية بينهم جامحا أشد الجموح ، وكانت المنافرات جزءا من نسيجهم القِيمِىّ والاجتماعى لا يَرَوْن الدنيا إلا من خلاله ، فكأن القبيلة هى كل شىء ولا وجود لأى شىء آخر وراء حدودها . ثم لما بزغت شمس الإسلام كانت هذه المفاهيم والقيم الغبية الضيقة من أول ما انهال عليه بمعول هدمه ، إذ نادى بأعلى صوته أن ليس لقرشى أى فضل على غير القرشى ولا للعربى على العجمى ، واسِمًا الدعوة إلى العصبيات القبلية بأنها منتنة ، ومُحِلاََّ أُخُوّة الإسلام العالمية محل الأخوة القبلية ، ورافضا أن بعتدى المسلم على غير المسلم دون وجه حق لأنهما إن كانا مختلفين فى الدين فإن رابطة الإنسانية تجمع بينهما ، علاوة على الروابط الاجتماعية التى ينبغى عليه أيضا مراعاتها فى التعامل معه بالمودة والحسنى ما دام لم يؤذه أويهدده ، وموجبا كذلك عليه أن يكف أخاه عن الظلم إذا هم به أو شرع فيه ، مفهما إياه أن هذا هو المعنى الجديد لنصرة الظالم التى كانت العقلية القبلية تفهمها على نحو مخالف تماما.لقد انتزع الإسلامُ الإنسانَ العربىَّ من تلك الدائرة الضيقة إلى آفاق أرحب وأسمق وأهدى سبيلا . لقد نقله من القبلية إلى الإنسانية والعالمية فى خطوة واحدة سابحا بكل قوة ونبل وجسارة عكس التيار الذى كان سائدا فى بلاد العرب أوانذاك .فأين الفكر البدوى المتخلف كما تقول ببغاواتنا القصيرة العقل الطويلة اللسان ؟ والله إن كانت هذه هى البداوة فإننى أول المتبدّين ، إذ لا يُعْقَل أن أهجر كل هذا النبل والسموق الفكرى والوجدانى والأخلاقى وأجرى لأكون فى خدمة الغربى الأنانى المتحجر القلب الذى لا يرى لغير الرجل(1/233)
الأبيض أى حق فى الحياة الحرة الكريمة لأن الدنيا فى زعمه الشيطانى المريض إنما خُلِقَتْ له هو وحده . الحق أنه لا يفعل ذلك إلا الببغاوات التى رُكّبَت عقولها فى آذانها لا فى رؤوسها، فهى تحصر نفسها فى الكلمات ، وتؤمن أو تكفر لا بِناءً على ما يؤديها إليه عقلها بل بناءً على ما يحمّله المغرضون للكلمات من معان لا حقيقة لها. إن هذه هى عبودية الفكر والضمير ، وهى أسوأ وأمقت من عبودية الجسد وأدل على انحطاط الجِبِلّة ، لأن الإنسان قد يكون عبدا بجسده ولكنه سيد بفكره ووجدانه ، على العكس من ببغاواتنا المتصايحة دون عقل أو كرامة!
ثم لقد كان العرب ينتفضون إلى الحرب لأتفه سبب مدمرين أنفسهم فى صراعات عبثية فى أكثر الأحوال ، فجعل الإسلام لحياتهم معنى وربطهم بالسماء وبقيم البناء والتقدم والحضارة حتى لقد أصبحوا بناة إمبراطورية فى غضون سنوات قلائل ، إمبراطورية احتلت مكان الصدارة العالمية لقرون طوال ،على حين كانت أوربا أثناءها تعيش عيشة همجية فى كل مناحى الحياة تقريبا ، أوربا التى تصدّع أدمغتنا الآن هى وأذنابها من ببغاواتنا باتهام الإسلام بالبداوة والتخلف ! والله إن هذه قلة أدب قبل أن تكون شيئا آخر !
(1/234)
وكانت عادة الأخذ بالثأر فاشية بين العرب فُشُوًّا فظيعا فوقف الإسلام فى وجهها ودانها وأقام بدلا من هذه الفوضى نظاما تشريعيا يأخذ فيه أولياء القتيل حقهم عن طريق الدولة لا بأيديهم مُنْشِئًا بذلك دولة المؤسسات .كما كان العرب مشغوفين بالخمر ، يتغنى بها شعراؤهم ويَرَوْن فيها إحدى المفاخر العظيمة ، فماذا فعل الإسلام هنا ؟ لقد جاء بتحريمها تحريما قاطعا لا هوادة فيه ، ونجح فى هذا السبيل نجاحا لم ينجحه أى دين أو تشريع آخر فى القديم أو الحديث . وبالمثل كان العرب يعتقدون فى العرافين والكهان والسحرة ويعملون لهم ألف حساب ، فوجّه الإسلام إلى هذه المعتقدات المتخلفة أيضا ضربة مُصْمِية ! وكان كثير منهم يبغضون خِلْفة البنات ، وبعضهم كان يئد بنته الرضيعة تخلصا من شبح الفقر والعار كما ذكر القرآن الكريم ، فوبّخهم الإسلام على هذا السلوك الوحشى وندّد بمرتكبيه وتوعدهم بأفظع ألوان العذاب فى جهنم يوم تُسْأَل المسكينة : بأى ذنب قُتِلَت ؟ وكان توفيقه هنا أيضا توفيقا هائلا . كما كان البدو ينظرون إلى المرأة نظرة دونية لأنها لا تشارك فى الحروب ، ومن ثم لم يكن لها نصيب فى الميراث ، لكن الإسلام لم يرض هذا الوضع وجعل لها حقا فى التركة كما للرجل ، وزاد فأوصى بمعاملتها معاملة كريمة تراعى وضعها وظروفها ، ومن بين ما قاله الرسول العظيم فى هذا الصدد أنه لا يكرمها إلا كريم . حتى قيمة الكرم التى كان العرب يفاخرون بها أشد المفاخرة كان للإسلام فيها نظرة أخرى ، إذ ربطها بالنية وابتغاء وجه الله لا ابتغاء السمعة والرياء، وهو أمر لم يكن العربى يتصوره أو يدور له ببال على الإطلاق . فكيف يمكن لعاقل أن يتهم الإسلام بالبداوة ؟ إذا لم يكن هذا هو التحضر والرقىّ بعينه وقضّه وقضيضه فما التحضر إذن ؟ أجيبونا يا ببغاواتنا الحمقى ، أو فليجب بالأحرى من يصفعونكم على أقفائكم كى تهاجموا دينكم وأنتم تظنون أن هذا الهجوم على دين رب العالمين(1/235)
سيجعل منكم ناسا متحضرين !
(1/236)
وعندنا كذلك ميدان العلم الذى لم يكن للعرب فيه باع أىّ باع ، إذ كانت معارفهم لا تزيد على كونها شذرات بدائية متفرقة لا تقدم ولا تؤخر ، بل كانت الأمية أيضا فاشية فيهم إلى حد رهيب ، وكان الورق يكاد يكون معدوما عندهم ، وكان النبى نفسه أميا ، ورغم هذا نجد القرآن والسنة النبوية يوليان العلم وطلبه والمساعدة عليه والاستزادة منه ورقىّ الدرجات المتتالية فيه اهتماما عظيما ليس له سابقة فى تاريخ الأديان والحضارات: فالعالِم أفضل من العابد مثلما يَفْضُل القمرُ الكواكبَ فى ليلة الرابع عشر ، والرسول ذاته لم يؤمَر فى القرآن بالاستزادة من شىء إلا من العلم . بل إن العلم ليس حقا للمسلم فقط ، بل هو واجب وفريضة يأثم إن لم يقم بها . كما أن العلماء ورثة الأنبياء ، فضلا عن أن المجتهد مأجور حتى لو أخطأ ، وهو ما ليس له ضريب فى أى دين أو فلسفة أو مذهب على مدار التاريخ ، وهذا من شأنه أن بفجر الطاقات الفكرية والابتكارية عند الفرد والأمة على السواء. وكانت النتيجة هى هذه الأعداد الرهيبة من العلماء المسلمين فى جميع ميادين المعرفة . وإن من له أى اتصال بالتراث الفكرى عند أمتنا ليذهل من الأمداء المتناوحة التى كان العقل الإسلامى يصول فيها ويجول بكل جسارة ونشوة . وقد كان من ثمرة ذلك أيضا أن استطاع ذلك العقل أن يبلور ويقنن المنهج الشكّىّ والمنهج العلمى التجريبى اللذين نقلهما الأوربيون أيام نهضتهم فكانا بمثابة المفتاح الذى يمكن الدخول به ، وبه وحده ، إلى مخبإ كنوز على بابا ، إذ لولا هذان المنهجان اللذان وقعت عليهما أوربا غنيمة باردة جاهزة ما استطاعت أن تبلغ شيئا مما بلغته فى مضمار المعرفة والاكتشافات والاختراعات العلمية . أفهذه هى البداوة التى تتحدثون عنها أيها الببغاوات ؟ خيّبكم الله فوق خيبتكم وأخزاكم وسوّد وجوهكم أكثر مما هى مسودّة ! والله إنها لفضيحة الدهر أن يتطاول هؤلاء الأرجاس المناكيد على سيد الأنبياء(1/237)
والدين العظيم الذى أُوحِىَ إليه ، وهم الذين لا يجرؤ أى عُتُلٍٍّ زنيم منهم أن يمس أى دين آخر حتى ولو كان دين عُبّاد البقر فيفتح فمه المنتن بأى انتقاد له رغم أن جميع الأديان الأخرى غير الإسلام هى أديان من قوارير هشّة تنكسر لأقل لمسة! ولكن لا غرابة فى هذا ، فإن الدمى لا يمكنها أن تتصرف من تلقاء عقلها ، لأنها ببساطة ليس لديها أى عقل !
ولقد علّم النبى أتباعه كثيرا من قواعد السلوك والذوق الراقى ، سواء على المستوى الشخصى أو الاجتماعى أو الإنسانى بعد أن كانوا لا يعرفون شيئا فى هذا الصدد تقريبا : لقد عرّفهم مثلا أن إماطة الأذى عن الطريق صدقة ، وأن قضاء الحاجة فى ظل الأشجار أو فى الماء الراكد تصرف آثم ، وأن الرأفة بالحيوان مما يقرّب العبد من ربه ويُجْزَى عليه خير الجزاء ، وأنه لا يليق بالمسلم أن يترك أسنانه دون تسويك أو شعره دون تمشيط أو ملابسه دون عناية وتنظيف ، وأن عليه الاحتراز من أن يؤذى الآخرين بشىء من هذا . ولقد بلغ الأمر فى هذا المجال أن جعل الإسلامُ النظافةَ ركنا أصيلا من أركان الإيمان مما لا نعرف له مثيلا فى غيره من الديانات . كما نبّه معتنقيه إلى أهمية احترام خصوصية الآخرين فلا يدخلون بيوتا غير بيوتهم قبل أن يستأذنوا أصحابها ويؤذَن لهم ، وأوجب على الخدم والأطفال أيضا ألا يقتحموا غرف نوم الآباء إلا بعد الاستئذان ...إلخ ... إلخ إن كان لذلك من آخر . أترى ببغاواتنا المنخوبة العقل والكرامة والضمير ستقول إن هذه أيضا بداوة وقبلية وتخلف ؟ والله رب محمد ما متخلف إلا لَعَقَة فضلات الغرب وزُبالتِه!
(1/238)
وأخيرا نختصر الكلام اختصارا ونقول : أَوَ لَوْ كان الإسلام فكرا بدويا قبليا متخلفا كما تردد الببغاوات أكان العرب البدو يتحزبون ضده ويناصبونه حربا دموية لسنوات وسنوات وينفقون فى معاداته النفس والنفيس ولا بؤمنون به إلا بعد جولات وجولات من المعارك الطحون بينهم وبين النبى عليه الصلاة والسلام ؟ ألم يكن المنطقى أن يسارعوا إلى الإيمان به والدخول فيه ما دام يعبر عنهم ويؤكد ما يعتنقونه ويتمسكون به من عقائد وعادات وتقاليد؟ لقد عرضوا بالعكس من ذلك على النبى أن يبذلوا له ما يريد من مال ومنصب ورئاسة لقاء الرجوع عما جاءهم به والرضا بالأوضاع السائدة ، لكنه رفض ذلك أيما رفض وآثر أن يمضى فى طريقه مع ما يجره ذلك عليه من أذى وترويع وأخطار وفقدان للأمن واحتمال فقدان الحياة أيضا . ترى لم وقع منه ومنهم هذا كله لو كان الذى أتاهم به ليس شيئا آخر غير الذى كان عندهم ؟ فليجب الحمقى من ببغاواتنا ، أو بالأحرى فليجب من يكلفونهم بهذه المهام القذرة التى تناسبهم ثم يَبْقَوْن فى الظلام يرقبون الموقف ويفركون أيدهم حبورا بالخيبة القوية التى جَرّوا إليها فريقا من أبناء المسلمين !(1/239)
التذوق الأدبى بين الشكل والمضمون
بقلم :د. إبراهيم عوض
كثيرا ما نقول إن العمل الأدبى يتألف من شكل ومضمون مما قد يوحى بأن من الممكن فصل كل منهما عن الآخر ، بيد أن شكل العمل الأدبى فى الواقع لا يمكن أن ينفصل عن مضمونه ، وإن اضطررنا فى حديثنا النظرى إلى الكلام عن كل منهما وكأنه مستقل عن صاحبه . ويترتب على هذا أننا حين نتذوق العمل الأدبى فإنما نتذوقه كله لا شكله فحسب ، وهذا من الوضوح بمكان . بيد أن بعض الدارسين الذين يكتبون فى هذا الموضوع يتوهمون أو يحاولون أن يوهمونا أن التذوق ، والنقد الصحيح من ثَم َّ، ينبغى أن ينصبّ فقط على الناحية الشكلية ، أى الجانب الفنى ، من العمل الأدبى بغض النظر عن مضمونه . ولنضرب مثلا توضيحيا من عالم الطعام فنقول إننا لا نستطيع تذوق طبق من الأطباق إلا إذا أكلناه ، أما مجرد معرفة الطريقة الفنية التى تم بها إعداده فلا يوصلنا إلى شىء. وبنفس الطريقة نقول إننا حين نقرأ قصيدة أو قصة مثلا فإن تذوقنا لها ونقدنا إياها لا يقتصر على الجانب الفنى وحده من موسيقى وتصوير وسرد وحوار وعقدة وما إلى ذلك ، لأن هذا الجانب الفنى لا وجود له فى الحقيقة بعيدا عن مضمون القصيدة أو القصة . ترى كيف يمكن أن توجد عقدة القصة مثلا دون أن تكون هناك أحداث تُرَتَّب على هذا النحو أو ذاك ؟ وكيف يمكن أن تكون هناك موسيقى فى القصيدة منفصلة عن الألفاظ وتنسيقها بطريقة معينة ؟ وهذه الألفاظ بدورها كيف يمكن الفصل بينها وبين ما تشير إليه من أشياء أو تدل عليه من أفكار أو تعبر عنه من مشاعر ؟ العمل الأدبى إذن كيان واحد ، كتلة واحدة ، وإن استلزم الأمر فى المناقشات النظرية أن نتحدث عن شكله ومضمونه بطريقة قد يُفْهَم منها إمكان انفصال كل منهما عن صاحبه .
(1/240)
وعلى هذا فإن التذوق الأدبى يشمل الجانبين معا . أى أننى حين أقرأ على سبيل المثال مسرحية أو مقالة أدبية فإن تذوقى لها لا يقف، ولا يمكن أن يقف ، عند التشكيل اللغوى أو البناء الدرامى ...إلخ ، بل يمتد إلى كل شىء فى العمل من لغة وموسيقى وبناء فنى وأفكار وعواطف وخيالات وقيم اجتماعية أو سياسية أو دينية ... وهلم جرا . ومن هنا يرانى القارئ دائما أقول وأكرر القول بأنه لا يوجد ذلك المنهج النقدى الذى يستطيع الزعم بأنه هو وحده المنهج الذى يمكننا من خلاله فهم النص الأدبى والتغلغل إلى أسراره الإبداعية. إن كل منهج من المناهج النقدية إنما يختص فى العادة بجانب من العمل الأدبى ، ومن هنا كان لا بد من الاستعانة بالمناهج النقدية جميعا إذا أردنا أن يكون فهمنا وتذوقنا له أعمق ، وإن لم يمنع هذا أن يعكف ناقد من النقاد فى دراسة له ، لهذا السبب أو ذاك ، على جانب واحد أو اثنين مثلا من ذلك العمل . لكن ذلك لا يعنى، ولا ينبغى أن يعنى ، أن هذا هو كل ما هنالك مما يمكن أن يقال .
(1/241)
إننا ، لكى نتذوق أى نص أدبى ، لا بد لنا من فهمه أولا ، وكلما كان فهمنا له أعمق كان تذوقنا له أقوى وأقرب ما يكون إلى المراد . وهذا الفهم يتطلب فهم ألفاظه وعباراته وتراكيبه وصوره ، وما يتعرض له من موضوعات وقضايا ، وما يصفه من مناظر وأوضاع ومواقف ...إلخ. وأى عجز عن فهم شىء من هذا سوف يؤثر سلبا على عملية التذوق دون جدال .وعلى ذلك فنحن محتاجون إلى الاستعانة بالمنهج النفسى مثلما نحن محتاجون إلى الاستعانة بالمنهج الاجتماعى ، ونفس الكلام ينطبق على المنهج اللغوى أو المنهج البنائى ...إلخ. لكن هذا لا يعنى أبدا ، كما يزعم ضيقو الأفق من النقاد الذين يريدون منا أن نتعبد مثلهم لمنهج نقدى بعينه ، أن ما نقوم به فى هذه الحالة هو عملية تلفيق بين مناهج لا يمكن التوفيق بينها بحال بحجة أن كلا منها يستند إلى رؤية فلسفية لا تلتقى مع المناهج الأخرى . ذلك أننا لا نقول بأخذ هذه المناهج كما هى ، بل على الناقد أن يفرز عناصرها فيُبْقِىَ على ما يراه صالحا ويهمل الباقى ، ثم يكوّن من جُمّاع هذه العناصر الصالحة منهجه التكاملى . والحياة ، وإن قامت على الفردية فى جانب منها ، تقوم فى ذات الوقت على الجماعية والتعاون فى الجانب الآخر ، بل التضافر والتلاحم فى كثير من الأحيان. فلماذا يشذ النقد ، أو بالأحرى يراد له أن يشذ ، عن سنة الحياة ؟
ولعل من المفيد فى هذا السياق أن أورد رأى جيروم ستولنتز فيما يجب على الناقد عمله تجاه العمل الأدبى الذى يدرسه ، إذ " لا بد له ، لكى يبين أن العمل جيد ، من أن يوضح ما الذى يسهم فى قيمته من بين عناصره . وهو قد يتحدث فى هذا الصدد عن عن جماله الحسى أو وضوح بنائه الشكلى أو عن عمق الانفعال الذى يثيره أو دقة الحقيقة التى يعبر عنها . ولا بد له أن يتحدث فى عناصر العمل فرادى ، وكذلك فى علاقتها بعضها ببعض " (1) .
(1/242)
والآن ما الذى بشدنا إلى الأدب ويثير شهيتنا إلى تذوقه ؟ الواقع أنها أشياء كثيرة : فمثلا عندما أقرأ " ملحمة جلجامش " أو"الإلياذة" أو بعض قصائد الشعر الجاهلى أو " ألف ليلة وليلة " فإننى أطّلع من خلالها على العالم الفكرى والاعتقادى والاجتماعى والسياسى عند البابليين والإغريق وعرب الجاهلية ومسلمى العصور المتأخرة على التوالى . إن مثل هذه الأعمال تشبع فضولى الفكرى وتهئّ لى سوانح للعيش مع أولئك الأقوام والتغلغل فى طوايا عقولهم ووجداناتهم وقِيَمهم مما يختلف كثيرا أو قليلا عما لدىّ ، وهو ما من شأنه أن يُغْنِىَ حياتى وثقافتى ويغذّى تطلعى الفطرى إلى التعرف على أشياء جديدة كانت مجهولة لى ، فضلا عن اختلاف أوضاعها عما أعرفه ، وما يؤدى إليه ذلك ، ولو مؤقتا ، من القضاء على الملل والضيق الناتج من جَرْى الأمور حولى على وتيرة واحدة لا تتغير إلا ببطء شديد فى العادة .
إن حياتنا اليومية محكومة بأوضاع توشك أن تخنق الخيال وتمنعه من الرفرفة فى فضاء الله العريض ، وإن قراءتنا لهذا اللون من الإبداع الأدبى يحررنا ، ولو إلى حين ، من هذه القيود المزعجة ، فنعاشر السيكلوب ، ذلك المخلوق الوحشى القبيح ذا العين الواحدة الذى يتصدى للبطل محاولا أن يمسك به ويفترسه (2)، ونشاهد الحصان المجنَّح الذى يطير بصاحبه فى الهواء ، ونرى البلورة السحرية التى يشاهد فيها الأخ أخاه الموجود فى بلاد سحيقة ، ونصاحب الشاعر الجاهلى وهو واقف على أطلال حبيبته لا يرى من حوله إلا الرمال وبضعة مخلفات تافهة تركتها قبيلة الحبيبة وراءها لا قيمة لها فى ذاتها ، لكنها قادرة رغم هذا على زلزلة وجدانه ، وإلا غرابا أبقع هنا أو بقرة وحشية هناك مما أصبح جزءا من الماضى الذى ولَّى واندثر ولم يعد من المستطاع عودته بحال .
(1/243)
ولا تقتصر هذه الجاذبية على الأعمال الأدبية التى تنقلنا إلى العصور الماضية لنعيش معها أساطيرها وخرافاتها وخوارقها وأوضاع مجتمعاتها البائدة ، بل تمتد لتشمل كذلك الإبداعات التى تصور مجتمعات من عصرنا الحديث تختلف عن مجتمعاتنا . لنأخذ على سبيل المثال روايات القُصّاص الإنجليز مثل " جوزيف أندروز " لفيلدنج ، و "مرتفعات وذرنج " لإميلى برونتى ، و "عودة ابن البلدة" لتوماس هاردى . إن هذه الروايات هى بمثابة نوافذ تنفتح أمامنا لنطل منها على عوالم كانت مغلقة فى وجوهنا ، عوالم يتحدث الناس فيها لغة مختلفة ، ولهم عادات وتقاليد مختلفة ، ويتحركون فى أماكن ذات مناظر مختلفة : بأمطارها التى لا تكاد تكف عن الهطول ، وثلوجها التى تغطى الحقول والبيوت بلونها الأبيض العجيب ، وأشجارها وغاباتها التى ليست لنا بها معرفة ، ويعيشون كذلك فى بيوت مختلفة لها مداخن ومدافئ لا تعرفها بيوتنا ...إلخ.
(1/244)
وتمثل كتب الرحلات رافدا آخر فى هذا المجال . مَنْ مِنَ الذين قرأوا رحلة ابن فَضْلان أو رحلة ابن جُبَيْر أو رحلة ابن بطوطة يستطيع أن ينسى النشوة التى استشعرها فى صحبة هؤلاء المؤلفين العظام وهم يصفون مشاهداتهم وتجاربهم وأحاسيسهم وآراءهم لدى مرورهم بالبلاد التى جابوها أو اندماجهم مع أهليها ، والمواقف التى عاشوها بين أَظْهُرهم ، والمفارقات التى نتجت من اختلاف ثقافاتهم وخلفياتهم الاجتماعية والدينية عما يحيط بهم من أوضاع جديدة ؟ بل إن كتب الرحلات التى وضعها الغرباء عنا وعن بلادنا ومجتمعاتنا لا تقل فتنة عن تلك التى كتبها أبناء جلدتنا عن البلاد والأمم الأخرى. إن هؤلاء الغرباء ، وإن لم يحدّثونا عن أشياء جديدة علينا، يتناولون هذا الذى نعرفه ، ولكن من زاوية جديدة وبإحساس لم نخبره من قبل ، ويلتفتون إلى أشياء لم تجذب أنظارنا قَطّ خالعين عليها أبعادا تخالف ما تعودنا عليه...وهلم جرا. ولقد قرأت عددا غير قليل من هذه الرحلات لمستشرقين ومبشرين وصحافيين ورجال سياسة من أمريكان وبريطانيين وفرنسيين وروس ...إلخ ، فكنت أشعر وكأنهم يتحدثون عن أمة أخرى غير الأمة التى أنتمى إليها. ذلك أن العادة التى أماتت دهشتنا تجاه الأشياء والأوضاع من حولنا ليس لها تأثير على هؤلاء الرحالة الأجانب الذين أصبحنا نرى الآن بأعينهم ونسمع بآذانهم ، فإذا بنا نعود فنرحل بدورنا معهم إلى أوطاننا التى نعيش فيها منذ أن رأينا نور الدنيا ، ونكتشفها من جديد كأنها بلاد لم يكن لنا بها علم ولا عهد من قبل . إن العبرة هنا بالإحساس والرؤية لا بالأشياء فى حد ذاتها فقط .
(1/245)
بل إن فى المجتمعات التى ننتمى إليها بيئات لا نعرف عنها ولا عن تقاليدها وقيمها إلا القليل ، وتتكفل الأعمال الأدبية التى تتعرض لها بتجليتها وإطلاعنا منها على أشياء لم تكن متاحة لنا ، كما هو الحال مثلا فى روايات إحسان عبد القدوس عن بعض البيئات القاهرية التى لم يكن لنا نحن الآتين من الريف بها من صلة ولا نعرف شيئا عما يسود العلاقات بين الشبان والفتيات فيها من حرية غريبة علينا ، وكما هو الحال أيضا فى بعض روايات نجيب محفوظ التى تصور عالم الدعارة واللصوصية والإجرام ، وكما هو الحال فى رواية فتحى غانم " الرجل الذى فقد ظله " ، التى تزيح الستار عن كثير من الخبايا والمؤامرات فى عالم الصحافة والصحافيين ، أو روايته الأخرى " الجبل " التى تعرض جانبا من جوانب الحياة فى الصعيد مما نكاد نجهله نحن أهل الوجه البحرى جهلا تاما ، وكما هو الحال فى " النهر " لعبد الله الطوخى ، الذى يقص علينا فى عمله هذا تجربة السفر فى النيل على سفينة شراعية برفقة بعض المراكبية من جنوب البلاد ...إلخ. حتى الريف الذى وُلِدْتُ ونشأتُ فيه وأعرف الكثير جدا عنه يستحيل على يد المازنى فى صورته الفكاهية التى يقدمها لنا عن حلاق القرية.إن هذا الحلاق الذى ظل يقص لنا شعورنا أعواما طوالا نفاجأ به وقد أعاد قلم المازنى تشكيله من جديد، فكأنه لم يحلق لنا قط ولم يسبق لنا أن رأيناه .
(1/246)
إن هذه كلها وكثيرا غيرها من المعلومات نجنيها من قراءة الإبداعات الأدبية . وهى ، كما قلت ، إحدى المتع التى تزودنا بها هذه الأعمال . ولعل من يتسرع فيعترض علينا بقوله إننا نستطيع الحصول على مثل هذه المعلومات من الكتب غير الأدبية على نحو أسرع وأسهل وأكثر مباشرة . لكن هذا المتسرع ينسى شيئا فى غاية الأهمية ، ألا وهو أن الكتب غير الأدبية تَعْرَى عن تلك الفتنة التى تزودنا بها إبداعات الأدب ، إذ لا تمدنا إلا بمعلومات مجردة باردة ، على عكس ما نجده فى الأعمال الأدبية التى إنما تقدم لنا الحياة ذاتها بلحمها ودمها وسخونتها وصخبها وروائحها ، فضلا عن أننا حين ننظر أو نسمع فإنما يكون نظرنا وسمعنا من خلال عين الأديب وأذنه ، فهى رؤية عجيبة وسماع عجيب لا يستطيع الذين ليسوا بأدباء أن يخبروهما بأنفسهم . لقد قرأت فى بداية اهتمامى بالعقاد وإقبالى على مؤلفاته ورغبتى فى معرفة سيرة حياته أنه كانت له تجربة غرامية مع فتاة شامية لعوب تركت أثرا لا يمّحى على رأيه فى المرأة ، ثم قرأت بعد ذلك روايته " سارة " ، التى بسط فيها تلك التجربة ذاتها . فهل هذه هى تلك ؟ شتان ثم شتان ! لقد كنت فى الأولى أقرأ قراءة العقل النائى ، أما فى الثانية فقد وجدت نفسى فى قلب المعمعة : أبتهج لابتهاج العقاد ، وأحبس أنفاسى معه حين تمسك الحيرة بتلابيبه وتكاد أن تخنقه ، وأتلظى فى جحيم الشك كما يتلظى ، ثم أشعر فى نهاية المطاف بزوال الكابوس الجاثم على صدرى عندما أراه ، بعد العذاب الرهيب الطويل ، قد استطاع أن يضع قلبه تحت قدمه مؤثرا على حبه التمسك بكرامته . فيا لها من ساعات مليئة بل مشحونة عشتها مع الرواية ! فأين من هذا تلك المعلومات الفاترة التى لا تخاطب منى فى العادة غير العقل الهادئ ؟ ومع ذلك يصدّع أدمغتنا هذه الأيام بعض النقاد زاعمين أن لغة الإبداع الأدبى هى لغة تشكيل فقط ، بخلاف لغة الحياة اليومية التى ليست سوى لغة توصيل كما(1/247)
يقولون . ترى بالله إذا لم تكن الإبداعات الأدبية تقوم ، إلى جانب ما فيها من تشكيل جمالى ، بمهمة التوصيل ، فماذا نسمى هذا الذى نقرؤه فى تلك الإبداعات مما أشرنا إلى بعضه لتَوّنا ؟ إن من البشر فريقا قد جُبِلوا على الجدل والمماحكة والإصرار على إنكار البدهيات التى يراها حتى الأعمى ، ويسمعها حتى الأصم ! ولله فى خلقه شؤون!
ومما يعمل الأديب أيضا على توصيله ، ويحرص القارئ على معرفته ويستمتع به آراؤه فى قضايا الحياة من دينية وفلسفية وسياسية واجتماعية وأخلاقية ... إلخ. إن الأدباء هم من صفوة أهل الفكر والثقافة ، أو هكذا ينبغى أن يكونوا ، أو على الأقل هذا ما يتوقعه القارئ منهم ، أو يسعده أن يكونوه ، ومن هنا كان حرصه على الإلمام بآرائهم وأفكارهم ومواقفهم نحو المسائل التى تشغله وتشغل الناس من حوله ، وبخاصة أن عرضهم لهذه المسائل ليس عرضا جافا كالذى يجده فى الكتب العلمية والدراسات التحليلية ، كما أنه لا يقوم على الترتيب المنطقى المفصل للمقدمات والنتائج وبسط الأدلة والجدال دونها فى نزعة منطقية لا تخاطب إلا الذهن وتتطلب منه اليقظة الش ديدة ، وقد تسبب له الإرهاق ، فضلا عن أنها لا تضع المشاعر فى حسبانها أو تعمل على فك الطاقات الخيالية من قيودها لتسبح فى عالمها الرحيب العجيب ، بل هو عرض حىّ يستولى على النفوس استيلاءً، فيوقظ الأحاسيس الغافية ، ويؤجج الخيال المكبول ، ويبعث فى النفس نشوة وسحرا (3) .
(1/248)
ومن هذا الوادى مسرحية " أوديب ملكا "، التى أراد سوفوكليس أن يعبر فيها عن رأيه فى القدر وأنه واقعٌ واقعٌ لا محالة بصاحبه حتى لو اطّلع عليه واحترس منه غاية الاحتراس واتخذ له جميع الاحتياطات الممكنة . وتمثل معلقة زهير بن أبى سُلْمَى موقفه من الحرب التى مزقت قبيلتى عبس وذبيان ورغبته فى إطفاء نارها التى كادت تأتى على الأخضر واليابس . كما تعرض رسالة "حى بن يقظان" لفيلسوفنا العربى المسلم ابن الطُّفَيْل رأيه فى إمكان استقلال العقل البشرى بمعرفة وجود الله وعظمته وقدرته المطلقة ، واليوم الآخر بما فيه من ثواب وعقاب ، فضلا عن مقدرة الإنسان ، بوساطة هذا العقل ، على مواجهة مشاكل الحياة والتغلب على الصعوبات التى تنجم كل يوم . وبالمثل تتضمن " رسالة التوابع والزوابع " لابن شُهَيْد أفكاره حول عدد من الموضوعات الأدبية والنقدية التى كانت تشغل رجال القلم فى عصره . وفى رواية "سيلاس مارنر " نجد الكاتبة البريطانية الملقبة بـ "جورج إليوت " تحاول أن تنتصر للرأى القائل بأن العبرة فى الأبوة ليست فى مجرد الإنجاب ، بل فى من يهتم بالطفل ويربيه ويحبه ويحوطه بألوان الرعاية حتى يكبر ، أما الأب الذى يتخلى عن ابنه وهو طفل صغير ولا يقوم بواجبات الأبوة فليس له الحق فى أن يعود ، بعد أن يكبر الطفل ويصبح رجلا ملء السمع والبصر والفؤاد ، فيطالب باسترداده من ذلك الشخص الذى ظل طول عمره يؤوى ويُطْعِم ويسهر ويمرّض ويغدق الحنان ، والذى بهذا وبغيره يُضْحِى هو الأب الفعلى لذلك الابن ، وإن لم يكن أباه إنجابا.
(1/249)
وعندنا خطب عبد الله النديم أثناء المعارك التى دارت رحاها بين العرابيين والجيش البريطانى عشية احتلال الإنجليز لمصر عام 1982م، ثم خطب مصطفى كامل بعد أن وقعت الواقعة ودنّس هؤلاء الملاعين الأنجاس أرض الكنانة وأطبق اليأس على القلوب . لقد بذل كل من الزعيمين غاية جهده لإشعال جذوة الوطنية فى النفوس وتحريض الناس على مقاومة المعتدى الغشوم وبث الأمل فى قلوبهم واستنهاض عزائمهم. ولنأخذ أيضا قصة " الثائر الأحمر "، التى كتبها باكثير فى الأربعينات من القرن الماضى وجسّد فيها موقفه من الفكر الشيوعى الذى كان له آنذاك بريق وهاج يُعْشِى أبصار بعض المفكرين والأدباء العرب ، إذ بيّن أن المظالم الاجتماعية والسياسية من شأنها أن تشحن قلوب المكتوين بنارها حقدا ورغبة فى التدمير، وتزيغ عقولهم وتدفعهم إلى التمرد والعدوان على الدين والسلطان والرعية جميعا بما يؤدى إليه ذلك من خسائر رهيبة فى الأرواح والأموال ، وأننا إذا أردنا أن نقضى على مثل هذه الآفة المُبِيرة فلا بد من إشاعة العدل والرحمة والعمل على توزيع الثروة توزيعا إنسانيا يضمن لكل فرد حقه فى الحياة الحرة الكريمة . وهناك مسرحية " السلطان الحائر " لتوفيق الحكيم وما تصور من رأيه فى أن الحاكم المثالى هو الذى ، إذا أَلْفَى نفسه فريسة للصراع بين العُنُوّ للحق والخضوع للقانون وبين الرغبة فى اللجوء للقوة لفرض هيمنته على رعيته بالباطل ، لا تأخذه العزة بالإثم بل ينتصر للقانون على القوة الغشوم .
(1/250)
وفى قصيدة "هوامش على دفتر النكسة " ، التى كُتِبَت عقب هزيمة 1967م ، يهاجم نزار قبانى الرئيس جمال عبد الناصر هجوما مؤلما، منتقدا سياسته الاستبدادية وقمعه للحريات واعتماده على الدعاية الطنانة الكاذبة التى لا تثمر إلا الكوارث .وقد تلهف الناس فى ذلك الوقت عليها وأخذوا يتناقلونها ويرددونها . وهى ، كما نرى ، تعبير واضح عن رأى الشاعر السورى فى الحكم الاستبدادى الذى بستعيض عن الانتصارات الحقيقية بالشعارات المجلجلة ، فتكون النتيجة هى الهزائم المروّعة (4) . وأخيرا وليس آخرا فكلنا يعرف المغناطيسية التى كانت خطب الشيخ كشك تتمتع بها فتجذب جماهير المصلين أيام الجمع جذبا إلى مسجده بحدائق القبة بالقاهرة ليستمعوا لآرائه فى الأوضاع السياسية والاجتماعية والأخلاقية ويستمتعوا بما فيها من فن خطابى فاتن . وبعد ، فما هذه إلا شواهد عجلى سجلتها كما وردت على ذاكرتى وأنا اكتب هذه السطور ، وهى ليست بدعا فى ميدان الأدب بل يوجد منها الكثير والكثير مما يعرفه القاصى والدانى ، وإن أصر بعض من يمسكون القلم على إغماض عيونهم عنه ظانين أنهم بتجاهلهم إياه سوف يستطيعون إلغاءه من الوجود ! ويا له من وهم !
(1/251)
وهناك ألوان أخرى من المتع يَخْبُرها بل يطلبها متذوق الأدب طلبا ، منها البحث عن السلوى والأمل . إن المأزوم أو الفاشل عاطفيا إذا قرأ قصيدة مثلا أو قصة تتحدث عن مثل تجربته ومعاناته يحس أنه ليس وحده الذى يقاسى الهجران والحرمان ، فها هو ذا بطل القصة ، أو الشاعر مؤلف القصيدة ، يتلظى بنفس اللهيب الذى يحرقه . وكم هو صادق قول أحمد شوقى : " إن المصائب يجمعن المصابينا "! ذلك أن البلايا يخفّ محملها حين ينظر الإنسان حوله فيجد أن هناك مبلُوِّين مثله يتألمون كما يتألم ، ويتطلعون إلى الخلاص مما هم فيه كما يتطلع . وقد يكون جزء من شعور الراحة الذى يحسه القارئ فى مثل هذه الحالة راجعا إلى أن ما يقرؤه ينسيه نفسه وآلامه ويجعله ينشغل بآلام الشاعر أو بطل القصة ، شأن من لا يعانى من شىء. فالقراءة فى تلك الحالة أشبه بالمرهم الذى يوضع على الجرح فيلطف من قسوته . على أن العزاء الذى يجده القارئ فى الإبداعات الأدبية لا يقتصر على ميدان الفشل العاطفى ، فما أكثر ألوان الألم والعذاب التى تمتلئ بها الحياة : فهناك آلام اليتم ، وآلام الاضطهاد ، وآلام الفقر ، وآلام الإخفاق فى الامتحانات ، وآلام المرض ، وآلام الشائعات الخبيثة التى تحاول اغتيال السمعة بالباطل ، وآلام الترمل ، وآلام الاحتلال ... إلى آخر ما تعج به الدنيا من مآس ومواجع . أما إذا انتهى العمل الأدبى بنجاح البطل فى قهر الصعاب التى تسد عليه طريقه والتغلب على الألم الذى يضنيه ، أو بشَّر على الأقل بانفتاح أبواب الأمل أو حتى بقرب انفتاحها ، كان ذلك قمينا أن يجعله أكثر عزاء وأقدر على إمداد القارئ بأسباب الرضا . إن الذين تعرضوا لخيانة الأصدقاء أو الأتباع والأنصار يجدون فى رواية " اللص والكلاب " لنجيب محفوظ متنفَّسا عما قد تراكم فى قلوبهم من الغم واليأس ، فتراهم يتابعون ما يحدث لسعيد مهران بكل ما عندهم من اهتمام وتشوق ، متعاطفين معه ومشفقين عليه ومتمنين له ألا(1/252)
يجترح من الأخطاء ما يوقعه تحت طائلة القانون ، ومتوجسين من سقوطه فى قبضة رجال الشرطة الذين يقتفون أثره فى كل مكان، ومقدِّرين الحب والحنان اللذين تغدقهما عليه نور ، وآملين أن يصغى لصوت ضراعتها له وإلحاحها عليه أن يترك طريق الانتقام والقتل الذى أوقعه فيما هو فيه وأن يعيشا معا حياة هادئة هانئة ، وساخطِين على زوجته وصبيه اللذين غدرا به وهو فى السجن وتزوجا بعد أن حصلت الزوجة على حكم بالطلاق ، وناقمِين على رءوف علوان ، الذى كان يزين له طريق الحقد على الأغنياء ويضع فى رُوعه أن ما يسرقه منهم إن هو إلا استرداد لحقه الذى اغتصبوه منه هو وأمثاله ، ثم لما أصبح صحفيا مشهورا وودع حياة الفقر والعَوَز، وودّع معها أيضا أحقاد الشيوعيين وأفكارهم المدمرة ، انقلب عليه بدوره وشرع يندّد به ويصمه بالإجرام ويحرّض على مطاردته والإمساك به والاقتصاص منه .
(1/253)
وعلى نفس الشاكلة يجد الذين فقدوا ابنا أو بنتا لهم فى السطور التى رثى بها المازنى ابنته الصغيرة فى مقدمة كتابه " فى الطريق " سلوى ، وأىّ سلوى ، وإن آلمتهم فى ذات الوقت ، فكأنه ألم التطهير الذى تحدث عنه أرسطو فى تحليله لتأثير المسرحيات المأساوية على مشاهديها . لقد قرأت هذا الرثاء المازنى الفريد ( الذى لا أبالغ أى قدر من المبالغة إذا قلت إننى لم أر له حتى الآن نظيرا فيما قرأت من رثاء ، سواء فى أدبنا أو الآداب التى لى اطلاع عليها ) وأنا فى الرابعة والعشرين من عمرى ، وكنت آنئذ عَزَبا ، فهزنى من أعماق كيانى ، واخترته لأدرّسه لطلاب قسم اللغة الفرنسية بآداب عين شمس، الذين كنت أعطيهم بعض المحاضرات فى ذلك الحين . ثم كنت أعود إليه كلما وقع فى يدى الكتاب المذكور فأُلْفِى له ذات التأثير الرجّاج ... إلى أن عثرت على نسخة من الكتاب عند أحد باعة الكتب القديمة فى الصيف الماضى فاشتريتها ، ثم بدا لى أن أجدد العهد بتلك السطور التى لا أدرى بالضبط سر تأثيرها الطاغى رغم بساطة ما يقوله المازنى فيها واقتصاره على إيراد إحدى ذكرياته مع فتاته الصغيرة حين كانت تدخل عليه وهو يكتب على المرقم فتسحب الورقة من الآلة الكاتبة وتضعها على وجهها ... إلى آخر ما قال ، وهو قليل وبسيط ، وليس فيه دمعة تُذْرَف ، ولا شهقة تُصَعَّد ، ولا كلمة عن وجيعة الفقد ، ولا ... ، ولا ... وفتحت الكتاب وقلت لزوجتى : اسمعى ما يقوله المازنى فى رثاء ابنته. ثم شرعت أقرأ ، وفى ظنى أن الأمر لا يعدو استرجاع ذكرياتى مع سطور المازنى ، لكن ما إن توسطت الصفحة حتى أخذ صوتى يتهدج ، وأنفاسى تبطئ ، و... ، و ... مما أترك للقارئ تخيله بنفسه ، وهو قريب مما حدث لزوجتى ، وذلك رغم أننا ، والحمد لله ، لم نفقد ، وأبتهل إلى الله ألا نفقد، أحدا من أبنائنا ، وإن نزلت أول بنت لنا سقطا . ترى ماذا كنا فاعلَيْن لو كنا قد مررنا ، لا قدر الله ، بنفس المحنة التى مر(1/254)
بها المازنى ؟ لقد مات المازنى ، رحمه الله ، منذ أكثر من نصف قرن ، وماتت معه آلامه الأبوية التى كان يحبسها فى دخيلته ويدّخرها للذكرى حين يخلو إلى نفسه كما قال فى كلمته عن فتاته ، لكن أثرها المزلزل ما زال يفعل فعله بالقلوب: إيلاما أول الأمر ، ثم غسلا للنفس بعد ذلك وتطهيرا لها من أدران الحياة اليومية وشواغلها التافهة الحقيرة التى تعمل على أن تخنق فينا مثل هذا الصوت الإنسانى النابع من أعماق النفس البعيدة ! أيصح بعد هذا أن يقال إن اللغة فى الأدب ليست أداة توصيل ؟
وما دمنا نتحدث عن السلوى التى تُمِدّنا بها بعض الأعمال الأدبية فلعل من الملائم هنا أن نشير إلى الأدب الفكاهى بألوان طيفه المتعددة ما بين دعابة وهزل وتهكم وهجاء وتصوير كاريكاتيرى . والحياة الإنسانية بطبيعتها كثيرة الأحزان والإحباطات والمخاوف والسأم والقلق . ولقد قال القرآن الكريم : " لقد خلقنا الإنسان فى كبَد " (5) . فهى إذن حياة مشقات ومكابدات ، وإن لم تخل فى ذات الوقت من مسرات ليست بالقليلة ، إلا أن تطلع الإنسان إلى الكمال وكراهيته الفطرية للآلام والمنغصات يجعلان إحساسه بالجانب المظلم منها أشدّ وأحدّ . والبشر دائما ما يتطلعون إلى التغلب على أحزانهم وأوجاعهم وضيق صدورهم ويلتمسون إلى ذلك الوسائل التماسا . ومن هذه الوسائل مطالعة الآداب الفكاهية التى تدفعهم إلى الضحك ، أو ترسم الابتسامة على وجوههم على أقل تقدير، لتنسيهم فى غمرة الضحك أو الابتسام ما يعانونه من مزعجات الحياة حتى يستطيعوا مواصلة رحلتها ، وإلا انفجروا قهرا وكمدا . وهذا أحد الوجوه التى تطالعنا بها الأعمال الأدبية ويقع عليها تذوقنا .
(1/255)
ترى كيف كانت تكون الحياة بالنسبة لعشاق الأدب ومتذوقيه لو لم يوجد أمثال الجاحظ وأبى الشمقمق والحمدونى وابن الرومى وبديع الزمان الهمدانى وعبد العزيز البشرى وحافظ إبراهيم والمازنى ومحمود طاهر لاشين وسويفت وجوجول ومارك توين ...إلخ ...إلخ ؟ لكم أضحكنا تصوير الجاحظ لبخلائه وهم يحاولون بأساليبهم الملتوية تسويغ آفة الشح البغيضة وتزيينها فى أعيننا ، وبخاصة عندما يلبسون ، تحت وطأة الظروف القاهرة ، ثوب الجود والكرم ، لكن طبيعتهم المتأصلة فيهم تأبى إلا أن تتمرد على هذه المحاولة المتعسفة فتظهر فى هذه الصورة أو تلك من صور البخل الذى يتخذ سمت التدبير والخوف من بَطَر الإسراف ! ولكم أضحكنا أبو الشمقمق بأشعاره التى يصور بها فقره وجوعه ورثاثة حاله وخلو بيته من الطعام حتى لتستأسد الجِرْذان الواغلة على هِرّه لما يعانيه الهرّ من هزال وضعف يُعجِزانه عن رد عدوانها ، بَلْهَ صِيَالَه عليها وافتراسه إياها ! ولكم أضحكنا أيضا الحمدونى الشاعر العباسى على الشاة العجفاء التى أهداه إياها أحد أصدقائه، فجعل منها مادة للتندير والتهكم بها وبمهديها ، فلا ينتهى من تصويرها الكاريكاتيرى فى مقطوعة من الشعر حتى يبدأ قطعة أخرى أشد مبالغة فى السخرية وأمضى فى إثارة قهقهاتنا . أما ابن الرومى فليس من الميسور نسيان مقطوعاته فى الأحدب والفطائرى وأمثالهما مما وقف عنده وأبدى افتتانه به عدد من كبار النقاد العرب المعاصرين . وهناك بديع الزمان الهمدانى ومقاماته التى بلغ فن الفكاهة فى بعضها مقاما عاليا لا تسهل مباراته ، كما هو الحال فى " المقامة المَضِيريَّة " مثلا التى حازت إعجاب نقادنا المعاصرين .
(1/256)
ولا يسعنى فى هذا السياق أن أغفل محمود طاهر لاشين ، الذى كان هو وأعماله القصصية موضوع أطروحتى فى الماجستير أوائل سبعينات القرن الماضى ، والذى كثيرا ما أضحكتنى قصصه القصيرة وأتاحت لى أوقاتا هانئة فى دار الكتب القديمة بوسط القاهرة ، إذ رجعت إليه ، رحمه الله ، منذ سنوات قلائل فاستخرجت مجموعتيه " سخرية الناى " و "يحكى أن "، اللتين كنت اشتريتهما أثناء ذلك ، وأقبلت على قراءتهما من جديد لأرى إلى أى حد كنت مصيبا فى إعجابى به وبفنه وفكاهته ، فإذا بى أجد أنه أفضل كثيرا مما ظننت فى بداية شبابى أسلوبا وتصويرا وتشخيصا وتهكما ، حتى لقد عدت أقهقه ثانية ، ولكن بجلجلة أقوى هذه المرة ! أما المازنى فحَدِّثْ ولا حرج عن أستاذيته فى هذا الباب ، تلك الأستاذية التى تجعل منه هو نفسه موضوعا للتهكم دون أن تتلطخ صورته رغم هذا فى أذهاننا بما ينال منه أو يسىء إليه أدنى إساءة . اقرأ مثلا ما كتبه عن تورطه فى شراء كتاب لتعليم العربية للسائحين ، ورغبته ألا تضيع النقود التى أنفقها على الكتاب هدرا ، وتقمُّصه من ثَمَّ شخصية أحد السائحين واستئجاره عربة حنطور ورطانته مع الحُوذِىّ بعربية مكسورة ملتوية ، ورجوعه فى كل خطوة إلى الكتاب للبحث عن الجمل التى ينبغى استعمالها فى هذا الموقف أو ذاك ... إلى آخر ما كتب فى ذلك الموضوع مما لا أملك نفسى ، وأنا أتذكره الآن ، من الضحك ملء أشداقى رغم شحوبه فى ذهنى لتطاول الزمن !
(1/257)
وفى باب الهجاء لا يمكننا ، فى مقامنا هذا ، أن نتغافل مثلا عن بعض نقائض جرير والفرزدق التى يتوارى فيها السباب الجارح مفسحا مكانه للفكاهة المعجبة ، أو عن رائية بشار فى التهكم المُصْمِى بذلك الأعرابى الذى حاول التحقير من شأن الشاعر الكبير وعبقريته ، فانصب عليه بصواعقه انصبابا ، أو عن " رسالة التربيع والتدوير "، التى طوى الجاحظ فيها معاصره أحمد بن عبد الوهاب ونَشَرَه ، وفلطحه وثناه كيفما شاء له فنه العبقرى ، أو " الرسالة الهزلية " ، التى صنع فيها ابن زيدون بابن عبدوس منافسه فى حب ولاّدة ما صنعه الجاحظ بابن عبد الوهاب ... إلى آخر القائمة الطويلة من ذلك اللون الهجائى فى الشعر والنثر على السواء .
وفضلا عما مر فقد يُقْبِل المرء على العمل الأدبى هربًا من صخب الواقع إلى مشاهد الطبيعة التى تصورها بعض الإبداعات أُمًّا رءوما تأخذ فى صدرها أبناءها وتمسح على قلوبهم وأحزانهم ، أو عاتيا جبارا يبث الهول فى النفوس ، أو رغبةً منه فى صحبة الأبطال الرومانسيين الذين لا يعرفون الخَتْل والمؤامرات ولا ينحدرون إلى فاحش القول أو دنىء السلوك . إن للواقع الذى نعيشه وطأة ثقيلة على النفس بسبب زحامه وضجته وما يمتلئ به من انحراف وشر وضمائر ملوثة ، وكثير منا يهفو إلى أن يفر من هذا العالم ولو إلى حينٍ ملقيا بنفسه بين أحضان الطبيعة برقتها وسكونها أو جلالها وجبروتها . وفى كثير من قصائدنا القديمة تطالعنا لوحات طبيعية ساحرة بدءا من الأطلال التى تبسط الوحدةُ والسكونُ عليها جناحَهما ، ولا تقابل العينُ عندها سوى الرمال والنُّؤْى وبعض ما خلّفته قبيلة الحبيبة وراءها من بقايا أو ما أحدثته الريح والأمطار من خطوط فى التراب ، ومرورا بالمشاهد التى تسجلها مصورة الشاعر وهو راكب ناقته منطلقا فى الفيافى والقفار ، كقطعان الحُمُر الوحشية عند ينبوع ماء أو السيول الهاطلة التى تجرف فى طريقها كل شىء ... وهلم جرا .
(1/258)
وممن لا يصح تجاوزهم فى هذا المجال الشاعر الأموى ذو الرمة ، الذى أبرز د. يوسف خليف فى كتابه عنه مقدرته الفنية الفائقة فى رسم اللوحات الآسرة لمشاهد الصحراء وحيوانها . كذلك لا ينبغى أن ننسى أيضا المنظر الجميل الذى قدمه لنا أبو تمام لقُمْرِيَّتين واقفتين على فَنَن شجرة تتساقيان كؤوس الغرام ، أو الصورة العجيبة التى رسم فيها ابن الرومى الشمس وهى تجنح نحو المغيب كأنها مريضٌ مُدْنَف قد وضع على الأرض خدا ضارعا ، أو أبيات المتنبى التى تصور بحيرة طبرية ، أو أشعار البارودى فى وصف جمال الريف المصرى ، أو قصائد الهمشرى فى مغانى صباه ، أو الصفحات التى تناول فيها ابن فضلان بعض مشاهد الطبيعة فى بلاد البلغار ، أو تلك التى أبدعتها يراعة محمد حسين هيكل فى تصوير القرية المصرية أوائل القرن العشرين بحقولها وجداولها وأشجارها وطيورها ولياليها المقمرة الساجية ، أو تلك التى وصف فيها صالح مرسى من كتابه عن " البحر " أمواجه الهائجة والمواقف التى تأخذ بأنفاس ركاب الباخرة فى ذلك الظرف العصيب ...إلخ ...إلخ . وبالمثل لا أستطيع أن أنسى لوحات تورجنيف عن الريف الروسى فى القرن التاسع عشر ، أو أوصاف توماس هاردى المسهبة للكنائس والجسور والأبنية الأثرية فى الريف الإنجليزى ، أو ما كتبه المستكشف سكوت عن القطب الشمالى والتجارب والأهوال التى خاضها هو ورفاقه هناك وسط الأجواء الطبيعية الرهيبة ، والمناظر الفذة التى ليس لها نظير .
(1/259)
ومما يبحث عنه القارئ فى الإبداعات الأدبية أيضا الإثارة التى تهز النفس هزا وتخرجها من خمولها المعتاد . إن الحياة اليومية تخلو إلى حد كبير من التجارب القوية التى يحس الإنسان معها بالامتلاء , وحتى عندما يمر أحدنا فى الواقع تجربة سعيدة أو مؤلمة فإنها تستغرقه بحيث لا يستطيع أن يتملاها براحته ويستخرج منها تلك النشوة الفنية التى يجدها فى الأعمال الأدبية . كما أن تجارب الحياة عادةً ما تكون مهوّشة غير واضحة المعالم والأطراف ن بخلاف التجارب التى تقدمها لنا إبداعات الأدباء ، إذ يتم التركيز على عناصرها الأساسية مع نفى ما لا صلة له بها أو ما لا دور له واضح فيها ، فضلا عن أن كل شىء فى هذه التجارب يقدَّم لنا معلولا ومترابطا مع غيره . فإذا أضيف َإلى ذلك أن التجربة التى يقدمها لنا العمل الأدبى لا يكتبها شخص عادىّ بل أديب حباه الله بحساسية خاصة فى الرؤية وفى الأداة على السواء ، استطعنا أن نتبين السر فى أن التجارب التى تتضمنها الإبداعات الأدبية تتفوق عادة على تجارب الحياة المباشرة ، إذ تمدنا بالامتلاء والشعور المكثف بالنشوة .
(1/260)
إن جميل بن معمر مثلا فى قصائده التى تصور حبه لبثينة إنما يركز على هذا الحب ونسمات السعادة التى تهب عليه بين الحين والحين وسط لوافح الجحيم التى يصطليها معظم الأوقات ، فلا يتطرق إلى شواغل الحياة اليومية ولا إلى آلاف الأمور التى تقع له أو منه أثناء ذلك ، بل تظل عينه طَوال الوقت مشدودة إلى العناصر الأساسية فى تجربته العاطفية والمحور الذى تدور عليه هذه التجربة، ألا وهو حبيبته بثينة . إنها تجربة مصفّاة مقطّرة لا يختلط بها ما يشعشعها ويهوّشها ويُفْقِدها خاصة التركيز . ومثل ذلك قصيدة مالك بن الريب التى يرثى بها نفسه والتى تعزل القارئ عن كل شىء آخر مما لا علاقة له بما كان يشعر به الشاعر حين لدغته حيةٌ مَقْفِلَه من خراسان وأحس بالمنية بدنو منه فى كل لحظة وقد فغرت فاها لتلتهمه وتغيّبه فى جوفها الرهيب . وقل الشىء نفسه فى همزية ابن قيس الرقيات التى يأسى فيها على مصير قريش حين مزقها التناحر على الحكم فخاف أن يكون فى ذلك فناؤها بعد أن كانت ملء السمع والبصر مجدًا وانتصارًا ودفاعًا عن دين الله ، فهو لم يعد يرى أو يسمع أو يحس إلا بهذه الفادحة التى اعتمد فى تصويره لها على أسلوب الإلحاح والتضخيم حتى إننا لا نرى إلا ما يراه ولا نشعر إلا بما يشعر به . وعلى نفس الشاكلة ينتزعنا أبو تمام فى بائيته من كل شواغل الدنيا فلا يتبقى أمامنا إلا انتصار المسلمين فى عمورية على الروم المعتدين الذين ظنوا أنهم يستطيعون إيذاء امرأة مسلمة مع الإفلات من التأديب والعقاب . إننا فى هذه القصيدة نطير إلى أعالى السماء ونلامس النجوم شاعرين أن الكون كله يجلجل فرْحةً بهذا النصر العظيم ، وهو ما يشحن نفوسنا حماسة وابتهاجا ويخرجنا من حالة التخثر والتبلد التى تعترينا فى كثير من الأحيان .
(1/261)
وفى " رسالة حى بن يقظان " نصاحب بطل ابن الطفيل الذى ألقت به المقادير ، منذ كان رضيعا ، بين الغزلان تحنو عليه وترضعه فى جزيرة معزولة لا يؤنسه فيها صوت بشرى ، مجابها وحده كل التحديات والمعوقات ، مجتهدا أن يشبع حاجته إلى الطعام والملبس والمسكن ، ومحاولا أن يفسر الظواهر الطبيعية من حوله ، إلى أن يتوصل إلى الإيمان بوجود الله وعظمته ووحدانيته ، والإيمان بأن هناك ثوابا وعقابا فى حياة أخرى بعد هذه الحياة ... إلى آخر ما ذكره الفيلسوف المسلم فى كتابه مما يمكن أن نرى فيه تصويرا موجزا ومكثفا لمسيرة التاريخ البشرى كله على ظهر الأرض لا حكاية لأحداث حياة إنسانٍ فردٍ بعينه . وتستولى الرهبة على نفوسنا ونحن نتابع ابن يقظان فى هذا الجو الغريب منذ كان طفلا رضيعا حتى أصبح رجلا ناضجا . ومن الأعمال الأدبية التى تستثير أيضا الخيال والتشوق والحيرة والقلق رواية " روبنسون كروزو "، وهى تقوم فى أساسها على إطارمقارب لقصة " حى بن يقظان "، إلا أنها ، على العكس منها ، تخلو من التفكير الفلسفى ، كما أن فيها عددا من المشاهد المرعبة كمشهد المتوحشين وهم يلتهمون جثة بشرية ويتركون وراءهم عظامها مما لا وجود لشىء منه فى رسالة ابن الطفيل. وفى هذا الصدد لا يصح أن نُغْفِل رائعة إميلى برونتى " مرتفعات وذرنج " ، التى تهز النفس بل تزلزلها زلزالا بما تضمه من شخصيات عنيفة غاية العنف فى مشاعرها ، غريبة أشد الغرابة فى أطوارها وتصرفاتها ، وبما تسرده من أحداث صاعقة ، وبما تصفه من مشاهد تتجلى فيها عناصر الطبيعة فى جبروتها . ولا ننس مسهد جثة كارولين فى تابوتها حين استخرجه هيثكليف بعد موتها بزمن وأخذ يتملى وجه حبيبته القديمة التى حُرِم منها وظل طول عمره مدلَّها فى هواها ، وفجأة هبت الريح فطيرت ذرات الجثة التى كانت قد تحللت رغم تماسكها الظاهرى ، فإذا بملامح الوجه تضيع فى لحظة مثلما تنطمس الخطوط المرسومة على صفحة الرمال مع ثورة(1/262)
العاصفة ... والأمثلة كثيرة أكثر من أن تُحْصَى .
ونأتى إلى الجانب الفنى فى الموضوع ، وهو يتمثل فى الألفاظ واختيارها ، وفى التراكيب التى تنتظم فيها هذه الألفاظ ، وفى العبارات التى تنتج عن هذه التراكيب ، وفى الصور التى يشكلها الأديب ، وفى الموسيقى التى يوفرها لعمله ، وفى الشكل الذى يضفيه عليه ، وفى الروح التى يبثه إياها. إن الأديب يمتاز بحساسية لغوية لا تتوفر لغيره : فمحصوله المعجمى أوسع ، ومقدرته على التمييز بين الصيغ المختلفة للّفظ الواحد وبين التراكيب بعضها وبعض أعظم ، ومن ثَمَّ كان من السهل عليه التقاط الكلمات التى تؤدى المعنى المطلوب وتشع بالإيحاءات المبتغاة ، وكذلك بناء التراكيب وتشكيل الصور التى تكفل له التعبير عما يريد ، واستخراج ما فى اللغة من جَرْسٍ موسيقىّ يعضد المعنى المقصود وينقل ما يحيط به داخل نفسه من شحنات وجدانية ، والاهتداء إلى أكثر الأشكال الفنية ملاءمة لعمله .
لنأخذ على سبيل المثال كيف استخدم تأبّطَ شَرًّا الفعل المضارع" أَضْرِب " فى وسط الأفعال الماضية التى يحكى بها ما وقع له من عراك مع الغول قائلا :
وإنى قد لقيت الغول تهوِى بسُهْبٍ كالصحيفة صَحصحانِ
فقلت لها: كلانا نِضْو أينٍ أخو سفرٍ ، فخلّى لى مكانى
فشدّت شدّةً نحوى فأَهْوَى لها كفِّى بمصقولٍ يمانى
فأضربها بلا دهش فَخَرَّتْ صريعا لليدين وللجِرانِ
بل أراد الشاعر أن يوحى لنا بأن المعركة إنما تدور رحاها الآن تحت أبصارنا ، وذلك بغية التركيز على ضربه للغول وإبرازه لنا (6).
وفى وصف امرئ القيس لصاحبته أسماء بأنها :
نَزِيفٌ إذا قامت لوجهٍ تمايلت تُراشِى الفؤاد الرَّخْصَ أن يتختَّرا
(1/263)
يلفت انتباهنا استخدامه لكلمة " نزيف " ( بمعنى " منزوفة " ) التى يصف بها بطء مشية الحبيبة والعناء الذى تقاسيه من جَرّاء السمنة، وما توحى به هذه الكلمة من أنها لم يعد لديها من الطاقة والجهد ما يمكنها من مجرد المشى حتى إنها لتحاول أن ترشو قلبها لعله أن يتماسك فلا يخذلها (7) .
ولنقف كذلك أمام البيت التالى لعمرو بن كلثوم الشاعر الجاهلى المشهور الذى يفتخر فيه بشرب الخمر ردًّا على محاولة الملك الحِيرىّ عمرو بن هند إهانته بتجاهله له عند أمره بإدارة كؤوس الشراب على الحاضرين :
وكأسٍ قد شربتُ ببعلبكٍّ وأخرى فى دمشق وقاصرينا
فقد ذكر الشاعر ثلاثا فقط من المدن المشهورة آنذاك بتقديم الخمر للشاربين رغم أنه لا يقصد الاقتصار على هذه المدن وحدها ، لكنها طبيعة الشعر . ولو كان كلامه نثرا لقال : " بعلبك ودمشق وقاصرين و... و... " وذكر غيرها من المدن . إلا أن الشعر لا يعرف عادةً هذا التطويل ، بل الشاعر الجيد هو الذى يدل بأوسع لفظ على أو سع المعانى وأحفلها بالتفاصيل ، فالمهم هو أن يدفع بخيال القارئ فى الاتجاه الذى يريد الدفعةَ الأولى تاركًا له مهمة القيام بالباقى . كذلك فظاهر الكلام فى البيت أن ابن كلثوم لم يشرب إلا كأسا واحدة فى بعلبك، وكأسا أخرى فى دمشق وقاصرين معا . لكن من غير الممكن أن يكون هذا هو قصده ، وإلا فمعنى ذلك أنه ، بعد أن شرب رشفات من هذه الكأس الثانية فى دمشق ، قد استبقاها حتى أكمل شربها فى قاصرين ، وليس هذا ليس فعل الشاربين ، بل المقصود : " وأخرى فى دمشق ، وثالثة فى قاصرين ...إلخ " ، ولكنها مرة أخرى طبيعة الشعر . ثم إن الشاعر لا يقصد أبدا أنه شرب كأسا واحدة فحسب فى كل مدينة ، بل الكأس هنا تعنى كؤوسا كثارا (8) .
ولنأخذ أيضا قول عمر بن أبى ربيعة عن الفتيات اللاتى دبَّرْن من وراء ظهره ميعادا لمقابلته :
فلما توافقنا وسلَّمْتُ أشرقتْ وجوه زهاها الحسن أن تتقنّعا
(1/264)
فهو من بليغ الكلام وفاتنه ، فهذه الوجوه ( الوجوه لا الفتيات ، لاحِظْ) قد بلغ إحساسها بحسنها وجمالها الحد الذى أبت معه أن تتنقب . فانظر كيف تشعر الوجوه بحسنها وتُزْهَى به وتأبى أن تتغطى ، وكأنها بَشَرٌ تدرك وتشعر وتريد ! (9) .
وفى بيت المتنبى الذى يقول فيه من مدحة له فى سيف الدولة :
ودون سُمَيْساطَ المطاميرُ والمَلاَ وأوديةٌ مجهولةٌ وهجولُ
واصفا المسافات الشاسعة التى كان على جيش سيف الدولة أن يقطعها فى غزوه لبلاد الروم ، نلاحظ مدى التوفيق العجيب فى اختيار ألفاظ البيت كلها تقريبا ذات مدّات : " سميساط ، المطامير، الملا ، مجهولة ، هجول " بما يعبّر من خلال الجرس الموسيقى نفسه عن طول تلك المسافات . وعلى الشاكلة نفسها يةحى الجرْس الموسيقى ، فى قوله من نفس القصيدة عن القائد الحمدانى : " رمى الدَّرْب بالجُرْد الجياد إلى العِدا " ، وقوله عن تلك الخيول : "وكرَّتْ فمرَّتْ فى دماء مَلَطْيةٍ"، بوقع حوافر الجياد على الأرض وسرعة تتابعها : فتكرُّر الراء والدال والجيم فى الشطر الأول يكاد أن يجسم هذا الوقع الذى نعبر عنه فى العامية المصرية بقولنا : " دِرِجِنْ دِرِجِنْ دِرِجِنْ " ، كما أن تتابع الراء مع تضعيفها فى كلمتين متتاليتين تليها تاء ساكنة فى الشطر الثانى يشعرنا بمنتهى القوة بتتابع ذلك الوقع .
ويقول العقاد فى قصيدته "سلع الدكاكين فى يوم البطالة " على سن تلك السلع المحبوسة فى الدكاكين المغلقة فى ذلك اليوم والتى يرمز بها إلى البشر ورغبتهم فى المجىء إلى الدنيا وإيثارهم الجارف للحرية والانطلاق، رغم ما يصاحبهما من شقاء وهلاك ، على العدم وسكونه وخلوّه من هموم الحياة وما تنتهى به فى آخر المطاف من موت :
فى الرفوفْ تحت أطباق السقوفْ
المدى طال بنا بين قعود ووقوفْ
أطْلِقونا أرْسِلونا
بين أشتاتٍ من الشارين نسعى ونطوفْ
(1/265)
فانظر كيف جاء طول الجملة فى البيت الثانى متوائما مع الشكوى من طول الحبس على الرفوف ، على حين أن البيت الثالث يتكون من جملتين جِدِّ قصيرتين كل منهما تشبه طلقة الرصاص إيحاءً بشدة الضيق الذى لم يعد باستطاعة السلع تحمله أطول من ذلك . ثم تأمَّلْ أيضا كلمتَىْ " نسعى ونطوف " اللتين تذكّراننا بشعائر الحج وتخلعان من ثَمَّ ، على الانطلاق المنشود ، معنى القداسة التى لتلك الشعائر بما يوحى بتمسك السلع بقيمة الحرية بكل ما لديها من إيمان وحماسة جارفة (10).
وفى رحلة ابن جُبَيْر نجد وصفا لعروس صليبية فى موكب زفافها وقد لبست أبهى زينتها وأخذت تتهادى بين رجلين يمسكانها من يمين وشمال ساحبة أذيال الحرير المذهب ، وعلى رأسها عصابة من ذهب ، وعلى لَبَّتها شبطة من ذهب أيضا ، " وهى رافلة فى حليها وحُلَلِها تمشى فِتْرًا فى فِتْرٍ مشْىَ الحمامة أو سيْرَ الغمامة " (11) . فأى براعة فى قوله : "فترا فى فتر " دلالة على تماديها فى البطء والدلال ! وليوسف إدريس عبارة لا أذكر أنى قرأتها عند كاتب قبله يقول فيها عن امرأةٍ لَحِيمَةٍ إنها كانت " تجلس واضعة فَخِذًا على فَخِذ " بدلا من " واضعة ساقا على ساق " ، وذلك للإيحاء بما فيها " من شحم وبدائية " كما تقول د. نعمات أحمد فؤاد (12).
(1/266)
وهناك البناء الفنى للعمل الأدبى ، قصةً كان ذلك العمل أو مقالا أو قصيدة أو غير ذلك : ففى الرواية مثلا تطالب قواعد النقد الحالية الكاتب أن يتجنب كل ما لا صلة له بتطوير الحوادث إلى غايتها النهائية ، وأن ترتبط هذه الحوادث بعضها ببعض ، وألا يسمح لأى شخصية بالدخول فيها ما لم يكن لها دور تؤديه ، وأن يكون سلوك كل شخصية متناسبا مع مستواها الفكرى والاجتماعى ...إلخ. ويستوى فى ذلك أن تبتدئ الرواية من أبكر نقطة فيها أو من نهايتها أو من وسطها ، أو أن تُرْوَى بضمير الغائب أو بضمير المتكلم . المهم ألا يكون هناك تفاوت فى التوقيت أو إحالة فى الأحداث والتصرفات . ومن ثَمَّ فقد أخذتُ على طه حسين أنه ابتدأ روايته "دعاء الكروان" ( المروية بقلم بطلتها أمينة ) قبل النهاية بقليل ، مع رواية الجزء المتبقى من أحداث الرواية على طريقة معلقى المباريات الرياضية ، أى روايتها أثناء وقوعها ، وهو ما لا يمكن أن يكون ، إذ ثمة فرق بين رواية ما أشاهده مما يحدث لغيرى وبين روايتى كتابةً لما يقع لى أنا ، فليس هناك وجود لذلك الشخص الذى يعلق على كل ما يفعله ويقوله أوّلاً بأوّل ، فضلا عن أن يكون هذا التعليق كتابة لا شفاها . كما أخذت عليه أنه لم يكن مقنعا البتة فى تصوير شخصية أمينة ، التى كانت خادمة أمية فقيرة من أعماق الصعيد فارّة من أهلها بعد أن قتل خالها أختها لتفريطها فى شرفها ، ثم استطاعت رغم ذلك كله ، ورغم افتقارها إلى الذكاء والطموح وفراغ البال والوقت اللازم ، أن تتعلم القراءة والكتابة من تلقاء نفسها، بل وأن تتعلم الفرنسية أيضا من مجرد الاستماع إلى المدرس الخصوصى وهو يعلم بنت الأسرة التى تشتغل بخدمتها ، وأن تصبح مدمنة للكتب إلى درجة الحرص على الانفراد بنفسها فى إحدى الغرف لمطالعتها دون أن يقطع عليها أحدٌ لذة المطالعة (13).
(1/267)
وقد تحدث جان برتلمى عن لذة التذوق الجمالى ، تلك اللذة التى " تنتزعنا فى هدوء وبقسوة فى آن واحد من ملابسات الحياة اليومية وتذهب بنا إلى حياة أفضل " قائلا إنها حين تسلبنا من هذا العالم إنما "تكشف لنا عن عالم آخر ، وتُعِدّنا لهذا النوع من الوجود الذى يتصف بالثروة والكمال والنشوة والهدوء الذى نهدف إليه شعوريا أو لاشعوريا ...ولهذا كان التأمل الجمالى علاجا عظيما لضجر الحياة"، وإن سارع فأكد أن هذه النشوة قصيرة العمر تنتهى بفراغنا من مطالعة العمل الفنى الذى فى أيدينا (14). وبالنسبة للقصة مثلا يرى إروين إدمان أنها تمكننا من المشاركة بخيالنا دون أن ندفع شيئا من ثمن انتصارات شخصياتها أو خيبة آمالها . كما أنها تتحدث عن ألوان من الحب لم يسبق لنا معرفتها ، وتساعدنا على أن نعيش حياتنا على نحو أكثر تركيزا ، وترهف تفكيرنا فى الحياة والناس ، فالقصاص ( كما يقول ) إنما يُضَمِّن أعماله القصصية فلسفته وآراءه فى الحياة من خلال ما يورده من أحداث أو يصوره من شخصيات أو يقيمه من بناء (15).
وبعد ، فهذا هو ما يقع عليه التذوق فى الأعمال الأدبية . وإذا كنا قد فرزنا عناصر الإبداع ما بين لغة وبناء ومضمون لقد كان ذلك لغرض الدراسة ليس إلا ، أما فى واقع الأمر فإن التذوق يقع على العمل الأدبى كله كتلة ًواحدة . ومن القراء من يتذوق ذلك العمل دون أن يُعَنِّىَ نفسه بشىء منها ، ومنهم من يكون متنبها لها أو على الأقل يمكنه أن يضع يده عليها رصدا وتحليلا ، وإن ظل جانب من الذوق رغم ذلك يستعصى على التعليل ، أو بعبارة إسحاق الموصلى: " تحيط به المعرفة ، ولا تؤديه الصفة " . كذلك من الممكن أن يفوت بعضَ القراء التنبهُ إلى هذا العنصر أو ذاك منعناصر العمل الأدبى أو الشعور به بقوة على الأقل ...إلخ. على أن هذه العناصر ليست متساوية فى تأثيرها على جميع القراء ، فلكل عمل ولكل قارئ ظروفه ، بل لكل قراءة سياقها الخاص بها ...وهكذا.
(1/268)
لكن الشىء الذى لا يمكن التسليم به هو الزعم بأن من الممكن اقتصار التذوق على الجانب الفنى من إبداعات الأدب ، فضلا عن القول بأن هذا اللون من التذوق هو أفضل ألوانه حسبما يُفْهَم من كلام محمد أحمد خلف الله عن تجارب علماء النفس فى هذا الموضوع (16). إن العمل الأدبى هو فى الحقيقة كالورقة الواحدة ، وما الشكل والمضمون إلا وجهاها اللذان لا يمكن انفصالهما . وفى هذا يقول جيروم ستولنتز إنه " لا بد للناقد ، لكى يبين أن العمل جيد، من أن يوضح ما الذى يسهم فى قيمته من بين عناصره . وهو قد يتحدث فى هذا الصدد عن جماله أو وضوح بنائه الشكلى أو عن الانفعال الذى يثيره او دقة الحقيقة التى يعبر عنها . ولا بد له أن يبحث فى عناصر العمل فرادى ، وكذلك فى علاقتها بعضها ببعض" (17). وفى ذات الاتجاه يمضى إروين إدمان ، إذ يتميز الشعر عنده ، بل الأدب كله ، بما فيه من موسيقى لغوية وكونه فى نفس الوقت قالبا اتصاليا محركا للخيال . كما أن القصيدة ، فى رأيه، هى حلم أو خيال تندمج فيه الصور والتأملات والأفكار فى وحدة واحدة (18). ذلك أن الشعر ليس موسيقى فحسب ، بل كلمات ذات معان لها قصد منطقى ومضمون نفسى وظلال إيحائية ، وهذه الكلمات هى وسيلة الشاعر التى يعبر من خلالها عما استثار فكره وحرك وجدانه (19). بل إنه ليهاجم من يزعمون وجود خصومة بين الفلسفة ذاتها والشعر ، مؤكدا أن الحيوية والحرارة تدبان فى الأفكار إذا نُظِمَتْ شعرا (20).
(1/269)
ومن هنا فنحن لا نستطيع موافقة د.محمود البسيونى فى قَصْره عمليةَ التذوق على الجانب الجمالى من العمل الفنى فحسب ، إذ الذوق عنده هو " الاستجابة الوجدانية لمؤثرات الجمال الخارجية ، هو اهتزاز الشعور فى المواقف التى تكون فيها العلاقة الجمالية على مستوى رفيع فيتحرك لها وجدان الإنسان بالمتعة والارتياح " (21)، كما أن هدف النقد الأدبى هو " أن يكون مدخلا للتذوق والاستجابة للقيم الجمالية المتوفرة فى العمل " (22). إن العمل الأدبى (23)، فى الواقع ، هو شىء أوسع من مجرد التشكيل اللغوى أو البناء الفنى ، إذ يتضمن إلى جانب ذلك أفكارا ومشاعر وخيالات ومواقف ، لكن على نحو غير مباشر . وقد بين الأستاذ أحمد الشايب فى كتابه " أصول النقد الأدبى " أن مقاييس ذلك النقد لا تنحصر فى الجانب الشكلى وحده ، بل تشمل العاطفة والخيال والفكرة والصورة الأدبية . وهذه هى عناصر الأدب كما يقول (24).
--------------------
(1) جيروم ستولنتز / النقد الفنى/ ترجمة د. فؤاد زكريا / ط 2/ الهيئة المصرية
العامة للكتاب /1981 م /570 .
(2) ولكنها معاشرة من بعيد، ولعل هذا هو سر حلاوتها وإمتاعها، إذ لا يصيبنا من ذلك السيكلوب وأمثاله أى ضرر
(3) لست بحاجة إلى القول بأننى إنما أتحدث هنا عن الأدباء الممتازين ، أما أصحاب المواهب الضئيلة الضحلة فهم بطبيعة الحال لا يستطيعون أن يصلوا إلى هذا الأوج ، ومن ثَمَّ لا يحظَوْن برضانا، بل يثيرون نفورنا ويبوؤون بانتقاداتنا.
(4) والطريف أن د.عبد المنعم تليمة ، فى إحدى محاضراته أوانذاك ، قد تعرض بالنقد لتلك القصيدة ، فكان اهتمامه كله منصبًّا على مضمونها السياسى وعلى موقف نزار الذى تحول فجأة من موضوعات المرأة والجنس إلى ميدان السياسة ، ولم يتطرق إلى الجانب التشكيلى فى القصيدة بأى حال ، مما يؤكد أن ما يقوله عن أن مهمة الشعر " تشكيل " لا " توصيل " ( على ما سوف نرى ) هو مجرد كلام نظرى لا قيمة له .
(1/270)
(5) البلد / 4.
(6) انظر كتابى " فى الشعر الجاهلى - تحليل وتذوق " / مكتبة زهراء الشرق / 1418 هـ - 1998 م /13.
(7) المرجع السابق / 31.
(8) السابق / 69 - 70.
(9) عن كتابى " فى الشعر الإسلامى والأموى - تحليل وتذوق " / مكتبة زهراء الشرق / 1419 هـ - 1999 م / 143.
(10) انظر تحليل هذه الرائعة العقادية فى كتابى " فى الشعر العربى الحديث - تحليل وتذوق " / مكتبة زهراء الشرق / 1418 هـ - 1997 م / 101 وما بعدها.
(11) يجد القارئ الوصف الكامل للعرس والعروس فى " رحلة ابن جبير " / دار صادر ودار بيروت / 1384 هـ - 1997 م / 378 - 379.
(12) د. نعمات أحمد فؤاد / عرض رواية " العيب " ليوسف إدريس / المجلة / نوفمبر 1962 م / 115.
(13) يحسن بالقارئ الرجوع إلى الفصل الثانى من كتابى " فصول من النقد القصصى " ، الذى خصصته لنقد رواية طه حسين ( مكتبة الشباب الحر ومطبعتها / 1986 م ).
(14) جان برتلمى / بحث فى علم الجمال / ترجمة د. أنور عبد العزيز، ومراجعة د.نظمى لوقا / دار نهضة مصر / 383 - 38.
(15) انظر إروين إدمان / الفنون والإنسان - مقدمة موجزة لعلم الجمال / ترجمة مصطفى حبيب / مكتبة مصر / 85.
(16) انظر كتابه "من الوجهة النفسية فى دراسة الأدب وتذوقه" / ط 2/ معهد البحوث والدراسات العربية / 1390 هـ - 1970 م / 55- 69.
(17) انظر إروين إدمان / الفنون والإنسان - مقدمة موجزة لعلم الجمال / ترجمة مصطفى حبيب / 57 - 58.
(18) المرجع السابق / 64 - 65.
(19) السابق / 68 - 69.
(20) السابق / 80 - 81.
(21) د. محمود البسيونى / تربية الذوق الجمالى / دار المعارف / 1986 م / 49.
(22) المرجع السابق / 68.
(23) وهو ما يهمنا فى هذه الدراسة .
(24) انظر أحمد الشايب / أصول النقد الأدبى / ط 8 / مكتبة النهضة المصرية / 1973 م / 32 وما بعدها ، و76 وما بعدها.(1/271)
الذوق الأدبى
بقلم : د. إبراهيم عوض
إذا أُطلقت كلمة "الذوق" ومشتقاتها انصرف الذهن من فوره إلى الطعام والشراب وتذوق الإنسان لهما عن طريق الفم ، واللسان هو حاسة التذوق ، ومن هنا رأينا "لسان العرب" مثلا يفسّر "المذاق" بأنه "طعم الشيء" ، و "الذَّوَاق" بـ"المأكول والمشروب" , كما جاء في التعريفات للجرجاني أن "الذوق" هو قوة منبثة في العصب المفروش على جِرْم اللسان تُدّرَك بها الطعوم بمخالطة الرطوبية اللعابية في الفم للطعوم ووصولها إلى العصب , وبالمثل نجد "المعجم الوسيط" يحدد "الذوق" بأنه "الحاسة التي تُميَّز بها خواص الأجسام الطعمية بوساطة الجهاز الحسّي في الفم , ومركزه اللسان" .
فالكلمة ذات أصل ماديّ ككثير من الكلمات الأخرى كما نرى , ثم اتسع معناها بحيث لم تعد تقتصر على الطعام والشراب فقط , بل أصبحت تُطْلَق على ما يدركه الإنسان من خلال حواسّه الأخرى , ثم ما يدركه بعقله ووجدانه . وقد نص "لسان العرب" مثلا على ذلك بقوله : "من المجاز أن يُستعمل الذوق , وهو ما يتعلق بالأجسام , في المعاني" , ثم ضرب لذلك قوله عزّ شأنه : "فذاقوا وبال أمرهم" . كما أورد عدداً من العبارات التي توسَّع العرب فيها في استعمال هذه اللفظه كقولهم : "ذقت ما عنده" , أي خبرتُه ، وقولهم : " أمرٌ مستذاق" , أي مجرب معلوم .
(1/272)
وإذا كان قد روي عن ابن الأعرابي ( حسبما ورد في "لسان العرب" ) أن "الذوق يكون بالفم وبغير الفم" فليس المقصود , فيما أحسب , أن هذا هو المعنى الكلمة في أصل وضعها ، بل المراد أن هذا هو ما انتهى إليه الإستعمال . أي أن العربية قد انتهت إلى استخدام "الذوق" في المأكولات والمشروبات والملموسات والمسموعات والمرئيات والعقليات والوجدانيات , فأصبحنا تقول ، كما جاء في "لسان العرب" , إن "ما نزل بالإنسان من مكروه فقد ذاقه" , و "ذق هذه القوس" , أي شُدّ وترها لتخبر مدى لينها أو شدتها , وهو ما عبّر عنه الشماخ بن ضرار الشاعر المخضرم بقوله عن قوس رام صاحبها أن يجرّبها :
فذاق فأعطته من اللين جانباً كفى ولها أن يُغْرِق النّبْلَ حاجِزُ
ومنه قولهم : "ذاق الرجل عُسَيْلة المرأة" , "وذاق فلان حنان أمه صافيا" , أو "تذَّوَق القصيدة أو اللوحة أو الأغنية" , أو " اليتم مرّ المذاق" , أو "فلان ليس عنده ذوق" , أي في سلوكه أو كلامه جلافة تصدم الناس وتنفرهم منه لعدم مراعاته الآداب المتعارف عليها في التعامل بين الناس . ومن ذلك أيضا قول الواحد منا إنه لا يستطيع تذوق مادة الكيمياء أو الجغرافية أو كتابات الكاتب الفلاني أو أفلام الرعب أو المسرحيات المكتوبة بالعامية أو المدرسة السريالية أو التجريدية في التصوير .... إلخ , وهو ما يدلنا على مدى الاتساع الشديد الذي اتسعته هذه الكلمة بحيث أضحت تضمّ كل ألوان الطيف في عالم الإحساس الجسمي والشعور الوجداني والإدراك العقلي . وفي ضوء هذا يمكننا فهم ما أورده الزبيدي في "تاج العروس" عن بعض مشايخه من أن "الذوق"هو"مباشرة الحاسة الظاهرة والباطنة , ولا يختص ذلك بحاسة الفم في لغة القرآن ولا في لغة العرب".
(1/273)
أما متى بالضبط انتهى الأمر إلى التوسع في معنى "الذوق" على هذا النحو فليس في مكنة أحد الوصول إلى الإجابة عليه لأن ذلك يحتاج إلى نصوص مدوّنة تُواكِب اللغة منذ ميلادها , وهو ما لا وجود له في حالتنا هذه . ومع ذلك فإن في شعر الجاهليين و المخضرمين شواهد غير قليلة على استعمال كلمة "الذوق" خارج دائرة المطعوم والمشروب , وأحيانا خارج دائرة الإحساسات الجسمية كلها . ومن هذه الشواهد قول عنترة :
فإذا ظُلِمْتُ فإن ظُلمَى باسلٌ مُرٌّ مذاقته كطعم العلقمِ
وقول طفيل الغنوي :
فذوقوا كما ذقنا غداة محجَّر من الغيظ في أكبادنا والتحوُّبِ
وقول ابن مقبل :
أو كاهتزاز رُدَيْنيٍّ تذاوقه أيدي التجار فزادوا متنه لينا
وقول نهشل بن جرّيّ :
وعهد الغانيات كعهد قيمٍ ونَتْ عنه الجعائلُ مستذاقِ (1)
وقول الشماخ بن ضرار عن قوس :
فذاق فأعطته من اللين جانباً كفى ولها أن يُغْرِق النّبْلَ حاجِزُ (2)
كذلك فمن بين المواضع التي وردت فيها هذه الكلمة أو مشتقاتها في القرآن المجيد ، وهي تربو على الستين موضعا ، لا نجدها قد استُعْمِلت في الطعام والشراب إلا في نطاق جد ضئيل لا يعدو ثلاث آيات هي :"فلما ذاق الشجرة" (3) , "لايذوقون فيها بردا ولا شرابا" (4) , "هذا , فليذوقوه , حميم وغسّاق" (5) .
(1/274)
أما بقية المواضع فقد استُعملت فيها الكلمة خارج ذلك النطاق , مثل : "فذاقت وبال أمرها" (6) , "ذاقوا بأسنان" (7) , "وتذوقوا السوء بما صددتم عن سبيل الله" (8) , "بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب" (9) , "وذوقوا عذاب الحريق" (10) , "ذوقوا ما كنتم تعلمون" (11) , "ذوقوا فتنتكم" (12) , "وقوامسٌ سقر" (13) , "فأذاقها الله لباس الجوع والخوف" (14) , "فأذاقكم الله الخزي في الحياة الدنيا" (15) , "أذاقكم منه رحمة" (16) , "كل نفس ذائقة الموت" (17) , والملاحظ أن بعض مترجمي القرآن يبقون على كلمة "الذوق" في اللغة التى يترجمونه إليها حين يكون الحديث عن ذوق الوبال أو البأس أو العذاب أو الرحمة مما يستعمل فيه "الذوق" مجازا كما فعل مثلا مترجمو تفسير القرآن الذي قام به العالم الهندي الشهير مولانا أبو الكلام أزاد (18) إلى اللغة الإنجليزية , وذلك على عكس ما صنعته مثلا د . زينب عبدالعزيز في ترجمتها كتاب الله الكريم إلى الفرنسية ، فإنها في الآيات التي اسُتْعِمل فيها "الذوق" للعذاب مثلا قد ترجمته بكلمة Subir “ “, ومعناها "التحمل والمكابدة" , رغم أن الفرنسيين والإنجليز يستخدمون لفظ "الذوق" في المعنى أيضا كما سنرى بعد قليل , فلم يكن هنا إذن داع إذن لتنكُّب هذه الكلمة في ترجمة الآيات المذكورة (19) .
فإذا تحوّلنا إلى أحاديث الرسول عليه الصلاة والسلام فإننا نجد أنها , في استعمالها لهذه الكلمة , لا تختلف عن القرآن الكريم , وهذه بعض أمثلة على ما تقول : ( ذاق طعم الإيمان من رضى بالله ... ) (20) , ( وذاق بعضهم بأس بعض ) (21) , ( حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك ) (22) , ( لا أذاقه الله عذابا أليما ) (23) , ( أذقْتَ أول قرين نكالا , فأذِقْ آخرهم نوالا ) (24) , ( إني وجدت الموت قبل ذوقه ) (25) , ( إن الله لا يحب الذواقين ولا الذواقات ) (26) .
(1/275)
وليس هذا الأمر بمقصور على لغة الضاد , ففي لغة جون بول يستخدمون كلمة “Taste” لذوق الطعام والشراب , ومن ثم نراهم يقولون : “ Taste – buds” الحُلَيْمات الموجودة على سطح اللسان , والتي من خلالها تتم عملية تذوق الطعام والشراب . لكنهم يستخدمون الكلمة أيضا في "الرغبة والميل والتجربة وأدب السلوك" وما إلى ذلك , كما في قولهم : I have no taste for excitement” : لست من عشاق الصخب" , و He has never tasted defeat” : لم يذق طعم الهزيمة قط" ,وA man of taste” : رجل سليم الذوق" .و في الفرنسية يقولون : “gouter” للتصبيرة التي يتناولها الإنسان , وفي ذات الوقت نراهم يقولون إن فلان عنده gout pour la peinture”: ميل إلى الرسم " أو إنه : s`habiller avec gout” يتأنق في ملابسه" أو : gouter la musique” يتذوق الموسيقى" أو : gouter les tous métiers” جرّب جميع المهن" أو : gouter la mort” ذاق الموت" . كما يصفون لوحة مثلا بأنها : taleleau dans le gout moderne” لوحة حسب الطراز الحديث" , أو يقول الواحد منهم معبرا عن رأيه في مسألةٍ ما : : a mon gout” في رأيي , أو من وجهة نظري " ... وهكذا .
ولعل القارئ قد تنبّه إلى أن الفرنسيين يستخدمون للتصبيرة عندهم كلمة “gouter” أي أن التذوق عندهم إنما يقع على القليل من الطعام والشراب , وهو ما نجده عندنا أيضا , ففي "تاج العروس" مثلا أن "أصل الذوق فيما يقل تناوله , فإن ما يكثر منه ذلك يقال له : الأكل" , وأن القرآن إذا كان قد اختار لفظ "الذوق" للعذاب الأخروي رغم طوله وشدته على عكس ماهو متعارف عليه من أن "الذوق" للقليل , فلكي يُعْلِِم أن الكلمة صالحة مع ذلك للكثير أيضا .
(1/276)
والواقع أن المسألة تحتاج إلى شي , من التفصيل , إذ لا ريب في أن التذوق قد يقع فعلا بلقمة طعام أو رشفة شراب , لكن إذا كانت هناك مثلا مأدبة حافلة بالآكال والمشاريب المختلفة ومدعوٌّ لها طائفة من الأصدقاء المقربين ليتناولوا طعامهم على ضوء الشموع وأنغام الموسيقى في الوقت الذي يقدَّم لهم الطعام طبقاً بعد طبق , فإن التذوق في هذه الحالة لا يتم بالقليل , أو لابد أن يأخذ الطاعم راحته ليستمتع بهذا الجوّ ( أو فلنقل : "ليتذوقه" ) كما ينبغي . وبالمثل لا يستطيع قارئ القصيدة أو الرواية أن يتذوقها بمجرد قراءته لسطر أو سطرين أو صفحة أو صفحتين أو فصل أو فصلين , بل لثلاثة فصول أو أربعة ... , بل لا مناص من إتمام المطالعة إلى نهاية العمل , وربما احتاج الأمر بعد ذلك كله إلى معاودة مطالعته ثم التأمل المستأني له كي يقدر على النفوذ إلى أغواره وقممه وتذوقه كما يجب. أي أن المسألة نسبية : فإذا كان المقصود مجرد الإحساس بطعم الأكل أو الشرب ففي هذه الحالة تكفي لُمْجة , أما إذا أريد الاستمتاع الحقيقي فلا مفرّ من أكلةٍ تُتناول على مهل ويتخللها الحديث الودود مع الحاضرين على خلفية من الموسيقى ...إلخ . وهكذا كله في الأكل والشرب , أما في ميدان الأدب والفنون فإن الأمر يحتاج بكل تأكيد إلى طويل وقت حتى ينتهي المتذوق من قراءة العمل أو استماعه أو تأمله إلى نهايته .
(1/277)
والآن , وبعد أن تعرضنا لمعنى كلمة "الذوق" حقيقة ومجازا , نشير إلى أن "الذوق" يحتل عند المتصوفة وفي الآداب والفنون والنقد مكانة متميزة , فهو لدى العارفين "منزل من منازل السالكين أثبت وأرسخ من منزلة الوجد" كما جاء في "تاج العروس" . وقد عرّفه الجرجاني في "تعريفاته" بأنه "عبارة عن نور عرفاني يقذفه الحق بتجليه في قلوب أوليائه يفرقون به بين الحق والباطل من غير أن ينقلوا ذلك من كتاب أو غيره" . أما في "الاصطلاحات الصوفية" لكمال الدين فـ"الذوق" هو أول درجات شهود الحق بالحق في أثناء البوارق المتوالية عند أدنى لبث من التجلي البرقي . فإذا زاد وبلغ أوسط مقام الشهود يسمى "شربا" . فإذا بلغ النهاية يسمَّى "ريّا" , وذلك بحسب صفاء السرّ عن لحوظ الغير" حسبما نقله التهاوني في "كشاف اصطلاحات الفنون".
وفي المادة التي خصصتها "الموسوعة الفلسفية العربية" لكلمة "ذوق" يذكر د . أبو الوفا التفتازاني أن هذا الاصطلاح يشير إلى طبيعة المعرفة عند صوفية للإسلام , "فهي عندهم ليست حسية أو استدلالية عقلية , وإنما هي حاصلة عن طريق الذوق" , ويمضي قائلاً إن استخدام هذا المصطلح يعود إلى تاريخ مبكر , إذ أورده القشيري في رسالته وذكر أنه يمثل المرحلة الأولى من مراحل ثلاث هي على التوالي : "الذوق" , أي فهم المعاني , ثم "الشرب" , وهو السكر بالأحوال , ثم "الريّ" , ويعرفونه بأنه "صحو بالحق يقترن بالفناء عن كلّ حظّ" (27) .
(1/278)
وهذا الكلام يعيدنا إلى ماقيل في تعريف "الذوق" لغويا من أنه إنما يختص بالقليل , بخلاف " الأكل" فإنه للكثير , وإن كان المتصوفه قد استعاضوا عن "الأكل" بـ"الشرب" اتساقاً مع حديثهم عن الخمر الإلهية , إذ الخمر تُشْرَب ولا تؤكل . وقد بينا رأينا في مسألة القلة والكثرة بالنسبة للذوق , وليس من داعٍ إلى إعادة القول فيه كرة أخرى . لكن لابد من أن تقول كلمةً في تفسيرهم للذوق , إذ يتحدثون , كما نرى , عن تجلي الله في قلوب أوليائه . فإن كانوا يقصدون أن المتصوف يشاهد الله سبحانه فهو كلام غير مقبول , إذ إن موسى عليه السلام , على جلال النبوة , لم يتحقق له ذلك وخرَّ صعقاً عندما تجلى ربه للجبل كما جاء في الآيه 143 من سورة "الأعراف" , كما أكدت عائشة رضي الله عنها أن من ادّعى أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد رأى ربه فقد أعظم الفِرْية . فكيف يزعم المتصوفة لأنفسهم ما لم يقع للأنبياء ؟
(1/279)
كذلك فقولهم إن "الذوق" الذي يعانيه الصوفي يغنيه عن إدراكات الحواس والدراسة وقراءة الكتب والتفكير العقلي هو أيضا دعوى جامحة تتسم بالغلو ولا تستحق غير الرفض , لأن هذه الحالة لا تتحقق لغير الأنبياء , إذ ينزّل الله سبحانه عليهم وحيه فيقوم لهم مقام الكتب والدراسة بالنسبة لنا نحن البشر العاديين , الذين لا يمكننا اكتساب أية معرفة إلا من خلال القراءة و الاستماع وسائر الحواس , فضلاً عن التجارب التي نمرّ بها في رحلة الحياة . وعلى هذا فأي شعورٍ يحسّه المتصوف مما يزعمونه تجليا لله سبحانه على قلبه ليس إلا محصلة ما اكتسبه من معارف تعلمها من الكتب أو أخذها عن المشايخ أو استقاها من تجارب الحياة اليومية وما أداه إليه عقله من أفكارٍ و وجدانات . هذه هي حقيقة الأمر , ولا شيء غير ذلك ! ولو أنهم قد عرّفوا "الذوق" بأنه اللذه التي يشعر بها الصوفيّ جراء إخلاصه في عبادته وإقباله على ربه إقبال الخشية والإخبات , أو زهده في حطام الدنيا وقيامه على مساعدة المحتاجين والضعفاء بما يملك من مالٍ أو صحة أو علم مثلا , لقلنا : نعم , ونَعام عين ، أما تلك الدعوى الجامحة فكلا وألف كلا !
ولعل هذا ما تومئ إليه كلمات د . التفتازاني حين ذكر أن المعرفة عند أهل التصوف "ذات طبيعة وجدانية ذاتية تماما" , وأن "اعتبار المعرفة الصوفية ذوقا يجعل من التصوف شيئا أقرب إلى الفن , الذي يقوم على الخبرة الذاتية والمعاناة , منه إلى العلم . وهذا يفسر اختلاف الصوفية في التعبير عن معارفهم لأن كل صوفي إنما يعتمد في التعبير على ذوقه الخاص وتجربته الشخصية" (28) .
(1/280)
ومع ذلك فالملاحظ أن تعريف الصوفيين للذوق لا يقف به عند الناحية الوجدانية فقط بل يمده ليشمل الجانب العقلي أيضا , وهو ما يصدق على "الذوق" في مجال الأدب , بخلاف تذوق الطعام أو الموسيقى أو النسيم العليل أو العطر وما أشبه مما لا يحتاج الإنسان معه إلى أن يفهمه بعقله قبل أن يتذوقه . أستبق فأقول هذا الآن قبل أن أعود إليه بالتفصيل فيما يأتي من صفحات لأن بعض النقاد في الآونة الأخيرة يدعون إلى أن يدخل القارئ على العمل الأدبي مباشرة دون محاولة الاستعانة على فهمه بالاطلاع على أخبار مُبْدعه مثلا أو معرفة الظروف التي أحاطت بإبداعه .... إلخ , وهو ما يقف بيقين حاجزا بين القارئ وتذوق النص , لأنه في مجال الآداب لا تذوُّق دون فهم . كما أنه كلما زاد فهم النص والتغلغل في أغواره وأبعاده ازدادت اللذه الحاصلة من تذوقه .
(1/281)
وقد استُعْمِلت كلمة "الذوق" في النقد العربي القديم متذوقت مبكر : ففي مقدمة "عيار الشعر" مثلا لابن طباطبا العلوي (ت322 هـ ) نقرأ أن الشعر "كلام منظوم بائن عن المنثور الذي يستعمله الناس في مخاطبتهم بما خُصّ به من النظم الذي إن عُدِل به عن جهته مجّته الأسماع وفسد في الذوق . ونظْمه معلوم محدود , فمن صح طبعه وذوقه لم يحتج إلى الاستعانه على نظم الشعر بالعروض التي هي ميزانه , ومن اضطرب عليه الذوق لم يستغن عن تصحيحه وتقويمه بمعرفة العروض والحذق به حتى تعتبر معرفته المستفاده كالطبع الذي لا تكلف فيه" (29) . وفي "دلائل الإعجاز" لعبد القاهر الجرجاني (ت 471هـ ) يقابلنا على سبيل المثال هذا النص الذي يقول فيه ذلك الناقد الكبير : " واعلم أنه لا يصادف القول في هذا الباب (30) موقعا من السامع ولا يجد لديه قبولا حتى يكون من أهل الذوق والمعرفة فأما من كانت الحالان والوجهان عنده سواء ... فما أقل ما يجدي الكلام معه . فليكن من هذه صفته عندك بمنزلة من عدم الإحساس بوزن الشعر والذوق الذي يقيمه به والطبع الذي يميز صحيحه من مكسوره ... "في أنك لا تتصدى له ولا تتكلف تعريفه"(31). بل إن ابن الأثير (ت 637هـ) "الذوق السليم", ويقصد به الملكة الفطرية التي يدرك بها الإنسان مواطن الجمال في الأدب , و "ذوق التعليم" , وهو الذوق المصقول الذي درس صاحبه قواعد البلاغة والنقد . يقول : "اعلم أيها الناظر في كتابي أن مدار علم البيان على حكم الذوق السليم الذي هو أنفع من ذوق التعليم" (32) . كذلك نقرأ لابن أبي الحديد (ت ) أن " معرفة الفصيح والأفصح والرشيق والأرشق من الكلام لا يدرك إلا بالذوق , ولا يمكن إقامة الدليل عليه" (33) . وبالمثل نرى ابن خلدون يجعل مدار البلاغة على الذوق , إذ يقول : " اعلم أن لفظة "الذوق" يتداولها المعتنون بفن البيان , ومعناها حصول ملكة البلاغة للسان , واستعير لهذه الملكة عندما ترسخ وتستقر اسم "الذوق"(1/282)
، الذي اصطلح عليه أهل صناعة البيان , وإنما هو موضوع لإدراك الطعوم . ولكن لما كان محل هذه الملكة في اللسان من حيث النطق بالكلام , كما هو محل لإدراك الطعوم , استعير لها اسمه . وأيضا فهو وجدان اللسان , كما أن الطعوم محسوسة له , فيقل له : ذوق" (34) ... وهكذا .
أما بالنسبة للنقد الأوروبي فقد جاء في “A Dictionary of Literary Terms” أن لفظة "الذوق : taste" قد أصبحت مصطلحا نقديا أواخر القرن السابع عشر الميلادي , إذ نجد مثلا في كتاب “Les caractees” للناقد الفرنسي لابرويير أنه في الأمور الفنية : il y a donc un bon et un mauvais gout” هناك ذوق سليم وذوق فاسد" , كما يحدد إديسون في بداية القرن الثامن عشر الميلادي "الذوق" بأنه تلك الملكة النفسية التي من شأنها إدراك نواحي الجمال في نتاج كاتب ما والتلذذ بها , وكذلك الالتفات إلى جوانب النقص فيه والنفور منها . ثم استقر هذا الاصطلاح في ميدان النقد الأدبي في القرن الثامن عشر لينتشر بعد ذلك في الكتابات التي تبحث في فلسفة العلوم والجمال(35).
ويؤكد هذا ما جاء في كل من “Gerand Larousse de la Langue Francaise”(36) و“The Oxford English Dictionary”(37) , إذ يقول قاموس لاروس الكبير إن استعمال كلمة “gout” للدلالة على الملكة التي ندرك من خلالها الجمال والقبح , وكذلك الكمال والنقص في الإبداع الأدبي والفني , يرجع إلى أواسط القرن السابع عشر . وهو يستشهد على ذلك بعبارات مأخوذه عن فولتير وتين و لابرويير وغيرهم . كما نقرأ في قاموس أكسفورد أن دلالة كلمة “taste” على الشعور بما هو لائق او منسجم أو جميل , وعلى القدرة على إبصار الجمال وتقديره سواء في الطبيعة أو في ميدان الفنون , وعلى نحو خاص الملكة التي ندرك بها و نستمتع بما هو ممتاز في الفن و الأدب وما أشبه , يعود تاريخها على القرن السابع عشر . وقد مثل لهذا بنصّ من ملتون و آخر من كونجريف في ذلك القرن .
(1/283)
والملاحظ أن بعض النصوص التي تتحدث عن "الذوق" بمعناه الأدبي والفني تحصر مهمته في إدراكه الجوانب الجميلة في العمل الأدبي والفني , غافلاً عن أن الذوق في معناه الأصلي , أي ذوق المطعوم والمشروب , لا يقتصر على الحلو وحده بل يشمل الحلو والمرّ والمِلْح والمزّ والحامض ... إلى آخر الطعوم . وليس يُعْقل أن تكون وظيفة الذوق الأدبي هي إبصار الجميل فقط , بل الجميل والقبيح , والحسن والرديء , والممتع والمنفّر .. وهلم جرا . وهذا من الوضوح بمكان بحيث يعجب الإنسان كيف فات أولئك النقاد الالتفات إليه , فقارئ النص الأدبي أو الناظر إلى اللوحة المصورة أو المستمع إلى القطعة الموسيقية مثلا قد يجد في العمل الذي بين يديه ما يسره ويثير نشوته وأريحيته , أو قد يجد فيه ما يهيج منه النفور ويجعله يلوي عِطْفه و يزورّ بوجهه ضيقاً وضجرا . ومبعث هذا وذاك هو الذوق الأدبي أو الفني . ومن النصوص التي قصرت الذوق على إدراك الجوانب الجميلة في الإبداعات الأدبية والفنية ما جاء في “Current Literary Terms” من أن الذوق “taste” هو الملكة التي ندرك بها ونحبّ ما هو جميل , وبخاصة في الآداب والفنون "(38) . ومثله ما يقوله د . جميل صليبا في تعريفه للذوق الأدبي بأنه "قوة إدراكية لها اختصاص بإدراك لطائف الكلام ومحاسنه الخفية"(39) .
ومن هنا فإننا مع التعريف الذي ساقه د . جبور عبدالنور للذوق الأدبي من أنه "ملكة الإحساس بالجمال والتمييز بدقة بين حسنات الأثر الفني وعيوبه وإصدار الحكم عليه"(40) . والواقع أن الإنسان لا يستطيع أن يميز الجمال ويستمتع به إلا إذا كان قادرا في ذات الوقت على تمييز القبح والإشمئزاز منه , فبضدها تتميز الأشياء كما هو معروف .
(1/284)
بَيْد أن القارئ لا يمكنه تذوق العمل الأدبي إلا إذا فهمه أولا , وذلك على العكس من تذوق الطعام والشراب أو الإستمتاع بالعطر الفواح أو الانبهار بمنظر البحر عند الغروب أو الضيق بالأصوات المزعجة أو الاشمئزاز من رائحة الجيف المنتنة مثلا , إذ الشعور بتلك الأشياء والتلذذ بها أو النفور منها لا يحتاج إلى أن نفهمها أولا بل يقع مباشرة و دون الحاجة إلى بذل أي جهد من جانبنا . وفهم العمل الأدبي يقتضي أولاً أن نفهم اللغة التي كُتِب بها , وأن نفهم ثانيةً مضمونه . ويزداد فهمنا له ويعمق إذا أضفنا إلى ذلك معرفة كل ما نستطيع الوصول إليه من معلومات تتعلق بمبدعه بالظروف التي أبدعه فيها...إلخ
(1/285)
ولا ريب أن القارئ إذا لم يكن عارفا باللغه التي كُتِب بها العمل الأدبي فلن يفهم منه شيئا , ومن ثم لن يكون بمقدوره أن يتذوقه . على أن يكون مفهوماً أن معرفة اللغة درجات متفاوتة , فمنّا من يعرف اللغة التي ينتمي إليها العمل الأدبي معرفة عامةً دون أن يفهم نحوها وصرفها مثلاً أو يعرف شيئا عن بلاغتها في التعبير , كما قد يكون محصوله اللغوي من الألفاظ والتعبيرات غير كافٍ , أو ربما لم يكن مهيأ للتعامل إلا مع لغة العصر الذي يعيش فيه بحيث لا يستطيع أن يفهم أي عمل أدبي ينتسب إلى عصر من العصور الأدبية السابقة...إلخ . ترى هل يستطيع القارئ العادي في عصرنا هذا أن يفهم قصيدة من قصائد الشعر الجاهلي مثلا؟ الجواب : "كلا" بكل تأكيد . وهل يستطيع القارئ الذي لا يعرف شيئاً عن البحر والسفن أن يفهم , كما ينبغي أن يكون الفهم , روايةً تصف حياة البحارة على ظهر السفن والمحيطات والعمل الذي يؤدونه في مثل هذه الظروف ؟ لا أظن ذلك . ولقد حاولتُ منذ نحو عشرين عاماً قراءة رواية "موبي دك" لهرمان ملفيل ( الكاتب الأمريكي المعروف ) في لغتها الأصلية , وهي تدور على حياة البحر , ومضيت في قراءتها إلى منتصفها تقريبا . إلا أن غرابة الجوّ الذي تتحدث عنه , سواء على أثباج الموج أو في الحانات التي يرتادها بحارة السفينة , وكذلك جهلي المطلق بالمصطلحات البحرية التي تكتظ بها , فضلاً عن غرام المؤلف المفرط بوصف كل شيء وصفا مفصّلا لا يكاد يغادر منه كبيرة أو صغيرة إلا أحصاها , كل ذلك جعل تقدمي في القراءة عملاً في غاية الصعوبة مما صرفني عن متابعة السير فيها إلى النهاية .
(1/286)
كذلك أعترف أن في الشعر الجاهلي الذي قرأتُه ( وما أكثره ! ) أبياتاً كثيرة لا أحقق لها معنى , أو على الأقل لا أحقق معناها على وجه الدقة , ومنها على سبيل المثال فحسب الأبيات التي يتحدث فيها امرؤ القيس في معلقته عن نجوم الثريا وتعرضها كتعرض أثناء الوشاح المفصَّل . إن الأبيات تعالج موضوعاً من موضوعات الفلك لابد من إقراري بأني لا أعرف منه شيئا , على حين كان الجاهليون يعرفونه كما يعرفون ظهور أيديهم حسب التعبير الإنجليزي المشهور ! ومثل ذلك كل المقاطع التي يخصصها كثير من شعرائنا القدامي لوصف ناقتهم التي كانوا يرتحلون عليها وكانوا يجدون لذة أي لذة في الوقوف طويلا عندها عُضْواً عُضْواً , على حين لا أفهم أنا هذا الوصف إلا فهماً عامّاً مقارباً , وأحيانا لا أكاد أفهم شيئا رغم معرفتي بكثير من مفردات ذلك الوصف وتراكيبه واستعانتي بالمعاجم وشروح نقادنا ولغويينا القدماء في معرفة الباقي . والسبب ؟ السبب هو أن الموضوع غريب عليّ إلى حد كبير , فأنا من أسرة تجار , ومن ثم لا أعرف شيئا عن البادية والناقة , فضلا عن أن تجربة السفر على ذلك الحيوان هي تجربة مجهولة لدينا نحن المصريين تماماً , ودعك من ان الحياة قد تغيرت منذ العصر الجاهلي حتى الآن تغيرا شاملاً أو يكاد ! ولهذا السبب يجدني القارئ , في كتابي عن النابغة الجعدي, أبدي ضيقي بمثل هذه الأشعار وأقول بخلوها من الشاعرية .
(1/287)
وبالمثل أحب أن أذكر للقارئ تجربة ثالثة لي في القراءة تتصل بما نحن فيه , إذ كنت قرأت عدداً من الدراسات حول شعر الشاعر العراقي المعاصر بدر شاكر السياب , وظل هناك رغم ذلك حائل بيني وبين النفوذ القوي إلى روح ذلك الشاعر وشعره , إذ كنت لا أستطيع تحقيق نوع من المرض الذي كان يعاني منه , كما كنت أجهل جوانب كثيرة من حياته الأسرية والشخصية ... إلى أن وقع في يدي في العام الماضي بقَطَر كتاب د . حجر أحمد حجر البنعلي "معاناة الداء والعذاب في أشعار السياب" , الذي جلا فيه طبيعة مرض الشاعر المسكين , وألقى الضوء على بعض الأمور التي كانت خافيةً عليَّ في حياته وفي علاقته بأسرته وزوجته وأصدقائه وما إلى ذلك , فانفتحت أمامي إلى الشاعر وشعره أبواب أخرى غير التي كانت مفتوحةً لي من قبل , واستطعت لذلك فهم أشياء من شعره على نحو أفضل ... وهكذا . ومثل ذلك كتابان قرأتهما بأخره (هما "أيام مع طه حسين" للدكتور محمد الدسوقي , و " مسامرات نقدية" للدكتور عبدالكريم الأشتر) جعلاني أتعاطف مع طه حسين وظروفه أكثر من ذي قبل , وأبصر نتاجه الأدبي بعين غير العين التي كنت أراه بها إلى حدّ ما , وإن لم يتغير موقفي من فكرة وما كتبه عن الإسلام أيام ان كان يعتسف الحديث عن دين محمد عليه الصلاة والسلام اعتسافاً لا يعرف التبصر .
(1/288)
على أن ذلك كله ؛ مع أهميته الشديدة ، لا يكفي , إذ لا بد للقارئ , إذا كان يريد أن يكون تذوقه للعمل الذي يقرؤه أقوى و أعمق , أن يعرف أيضاً طبيعة الجنس الأدبي الذي ينضوي تحته ذلك العمل . إن لكل جنس أدبي خريطته ومفاتيحه , و إذا لم يرد القارئ أن يضرب في أرجاء العمل الذي في يده على غير هدى فعليه أن يلمّ بقواعد الجنس الذي ينتمي إليه . ترى هل يتم تذوق سليم لقصيدة شعرية دون أن يعرف القارئ شيئا عن الوزن والقافية مثلاً ؟ الحق أنه بدون مثل هذه المعرفة لن يكون بمستطاعه إدراك كثير من نواحي الجمال أو النقص فيها بكل يقين . وقل مثل ذلك فيمن يقرأ رواية للدكتور طه حسين مثلاً فيُفْتَن بأسلوبه الساحر ولا يتنبه إلى أن فن الرواية ليس أسلوبا فحسب , بل هناك عناصر أخرى من تشخيص وسرد وحوار ووصف وبناءٍ لا يتم تذوق أي عمل روائي بعمق أو الحكم عليه حكما دقيقا دون الإحاطه بها .
إن العمل الأدبي , بالنسبة للقارئ الذي لا يعرف اللغة التي كُتب بها , ليشبه شيئا تراد رؤيته لكنه غارق تماما في ظلام دامس , فليس من وسيلة لإبصاره . فإذا عرف تلك اللغة انجاب بعض من ذلك الظلام. فإذا عرف طبيعة الجنس الذي ينتسب إليه العمل انجاب بعض آخر . فإذا عرف ظروف تأليفه انجاب بعض ثالث . فإذا عرف حياة مؤلفه وشخصيته تكاثرت أشعة الضوء المبددة للظلام ...وهكذا دواليك . الفهم إذن هو الوسيلة إلى التذوق , وفي ضوء هذا يمكننا أن نقرأ عبارة الشاعر والناقد الإنجليزي كوليردج التي يقول فيها إن "الذوق الجيد , مثله مثل كثير من الأشياء الجيدة , هو نتاج الفكر والدراسة المخلصة لأفضل النماذج " (41) . وهذا يأخذنا إلى ما يسمى بـ"تفسير النص" , وهو ما يطلقون عليه في الإنجليزية : “exegesis” , وفي الفرنسية : “exegese” .
(1/289)
وفي "المعجم الوسيط" مثلا : "فسَّر الشيء : وضَّحه" , و "فسَّر آيات القرآن الكريم : شرحها ووضح ما تنطوي عليه من معانٍ وأسرار وأحكام " , و"التفسير" هو "الشرح والبيان" , و "تفسير القرآن" هو "توضيح معاني القرآن الكريم وما انطوت عليه آياته من عقائد وأسرار وحكم وأحكام" . وفي "الصحاح في اللغة والعلوم لنديم وأسامة مرعشلي" أن "التفسير" هو "البيان" , أما في الاصطلاح النقدي
(بما يقابل “exegese / exegesis” ) فهو عبارة عن "شرح لغوي أو مذهبي لنصّ ما , وبوجه خاص للنصوص الدينية" . وقدر عرَّفه “Current Literary Terms” بما لا يقع بعيدا عن هذا , إذ قال إن الـ”exegesis” هو توضيح للنصوص , وبخاصة نصوص الكتاب المقدس . ( وإن كان قد أضاف أنه يعني أيضا تصنيف النص ) (42) , وهو ما نجده كذلك عند إبراهيم فتحي في "معجم المصطلحات الأدبية" ،
فقد عرف المصطلح “exegesis” (الذي ترجمه إلى "تفسير تأويلي") بأن المقصود به تفسير العمل الأدبي وشرحه , مضيفا أن الكلمة "تطلق عادة على تحليل فقرة ليست عادية من ناحية الصعوبة في الشعر أو النثر" وأنها تشير بوجه خاص "إلى تفسيرات وشروح تتعلق بأجزاء من الكتاب المقدس"(43) . ويتوسع Cuddon و Deutsch بعض التوسُّع في الكلام عن هذا المصطلح في المادة التي خصصاها له في معجمهما الخاص بالمصطلحات الأدبية قائلين إن "الرومان كان لديهم وظيفة رسمية يقوم بها محترفون مهمتهم تفسير الرؤى والتعاويذ والقانون المقدس وما يصدر عن الكهان من أقوال , ومن ثم أصبحت كلمة “exegesis” تدل على الشرح والتفسير , وغالباً ما يراد بها الدراسات التي تتناول الكتاب المقدس . أما في مجال الأدب فالمقصود بها التحليل النقدي للنصّ وإزالة ما فيه من صعوبات وغموض"(44) .
(1/290)
وواضح أن هذه الكلمة , سواء عندنا أو عند الغربيين , كانت تعني في البداية شرح النصوص المقدَّسة , ثم تُوُسِّع فيها وأصبحت أحد مصطلحات النقد الأدبي , وهو ما يقول به أيضاً كريس بولديك في معجمه المسمَّى : (45)“Oxford Concise Dictionary of Liteiary Terms” .
وعوداً إلى ما سبق أن قلناه من أن عملية فهم النص الأدبي تتطلب أشياء غير قليلة نذكر أن تفسير القرآن , كما هو معروف , يستلزم الإلمام الجيد بطائفة كبيرة من العلوم العربية والشرعية و الإنسانية , وهي النحو والصرف والمعاجم والمعاني والبديع والبيان والقراءات والفقه وأصوله وأسباب النزول والقصص والناسخ والمنسوخ والمكي والمدني والأحاديث النبوية وكتب التفسير والتاريخ وعلم الاجتماع وعلم النفس والاقتصاد والسياسة والفلك والطب والجيولوجيا وغير ذلك مما لا غنى عنه في تفسير آيات الكتاب المجيد . فإذا انتقلنا بهذه الكلمة إلى مجال النقد الأدبي , وتذكرنا ما قلناه من أن تفسير نصوص الأدب هو وسيلتنا إلى فهمها الفهم الصحيح كي نستطيع تذوقها كما ينبغي , تبين لنا على نحو جليّ أن عملية الفهم هذه ليست بالبساطة التي قد يظنها المتعجلون وأننا لم نبالغ البتة عند حديثنا عن أبعادها , بل العكس هو الصحيح , فقد اختصرنا في الواقع الكلام اختصارا واكتفينا بمجرد الإيماءة السريعة مع إيراد بعض الأمثلة العارضة على ما نقول .
(1/291)
ومع ذلك كله يدعو فريقٌ من أدعياء النقد في السنوات الأخيرة إلى الدخول في النص الأدبي مباشرة دون الاستعانة بأي شيء من خارجه , فالنص عندهم شيء مغلق لا يقبل أن يُفَسَّر بسواه . وهي دعوى عجيبة , وأرحج الظن أنهم يريدون أن تكون الساحة خالية لهم ولأمثالهم لكي يعيثوا في النص فساداً وينطقوه بما لا يجنّه , بل وبما لا يمكن أن يجنه , ضميره . وبهذه الوسيلة الشيطانية يستطيعون , في حماية النقد الأدبي , أن يخلعوا أفكارهم الضالة المضلة على النصّ المسكين الذي لا يستطيع أن يقول لهم : "ثلث الثلاثة كم ؟" بعد أن أخرسوا صاحبه من قبل بحجة أن الأديب ما إن يفرغ من إبداع عمله حتى يموت , أي لا يعود من حقه على أي نحو من الأنحاء أن يفتح فمه بكلمة اعتراض على السخف الذي به يهرفون ! وفي هذا السياق يحسن أن أومئ إلى كتاب د . عبدالله الغذامي"الخطيئة والتكفير" الذي تناول فيه أدبَ الشاعر السعودي حمزة شحاته , فكانت النتيجة أن خلع على الرجل المسكين , رحمه الله , عقائد وأفكارا كنسية , إذ (حسبما زعم) كان يؤمن بأنه قد جاء إلى العالم ليفتديه من خطيئته الأصلية . وهو كلامٌ جِدُّ خطير , فليست هناك أية علاقة البته بين شعر الرجل ونثره وبين تلك الفكرة الصليبية , فشعره إنما يدور في موضوعات الشعر العربي المعروفة من غزل ووصف ... وما إلى ذلك , لكن الكاتب المذكور قد التوى بهذا الشعر الواضح البسيط إلى متاهه "الخطيئة والتكفير" لتسلل عقائد الكنيسة على هذا النحو إلى مهد الوحي المحمدي من خلال ذلك المنهج النقدي العجيب!
(1/292)
نحن لا نقول إن النص لا يمكن أن يعني , منذ يظهر إلى نور الوجود إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها , إلا شيئاً واحداً , إذ من الممكن جدا أن يرى فيه هذا الناقد أو ذلك القارئ ما لم يلحظه غيره بل وما لم يتنبه إليه صاحبه وهو يؤلّفه . بيد أننا في ذات الوقت ندعو ونلح في الدعوة إلى أن يظل العمل الأدبي في ذهن القارئ والناقد طوال الوقت : ينطلقان دائماً منه , ويعودان دائما إليه , ويحرصان على احترام قواعد اللغه والجنس الأدبي والتقاليد الفنية التي ينتمي إليها , ولا يقحمان عليه ما ترفضه بنيته أو يقسرانه على ما لا يقبل القول به ... وهكذا . ولا شدة أن الاستعانة بمعرفة كل ما يتعلق بالنصّ تمثل أحد أهم الشروط الكفيلة بتحقيق ذلك .
يقول د . محمد النويهي في كتابه "ثقافة الناقد الأدبي" , الذي قرأته في أول السبعينيات فُأعْجِبْتُ به رغم مغالاته في بعض ما ينادي به , ولا أزال أعجب به حتى الآن : "أفيظن أحدنا أنه يستطيع أن يفهم الشعر الجاهلي صحيحا دون إلمام حسن بعلم الحيوان , أو ببسائط الفلك ؟ أم يظن أنه يستطيع أن يفهم شعر ابن الرومي صحيحا دون إلمام حسن بشتى حقائق علوم الأحياء والدراسات النفسانية ؟ أما عن تقريري الأول عن فهم الشعر الجاهلي فما أظن أن في الشرق العربي كله غير المتخصصين في علم الفلك عشرة يفهمون هذا البيت المشهور لإمرئ القيس : إذا ما الثريا في السماء تعرَّضَتْ تعرُّضَ أثناء الوشاح المفصَّلِ
أو هذا البيت الجميل لأبي ذؤيب :
فوردْن والعيّوق مقعد رابى الضُّرَباء فوق النجم لا يتتلّع
(1/293)
وكيف يفهمونها , وهم إن عرفوا هيئة الوشاح فكيف كانت تلبسه المرأة العربية فهم لا يعرفون نجوم الثريا , وكيف تكون هيئتها قبل أن تصل السمت , ولم يرقبونها ساعة بعد ساعةٍ تسير في مسلكها حتى تتوسط السماء ثم تنحدر من السمت , ولا يعرفون الجوزاء ونظمها , وما شاهدوها تطلع , ولا شاهدوا العيّوق يبرق فوقها البريق الأخاذ كأنه يرقبها واقفاً له بالمرصاد ؟ ... ) وما أظن في الشرق العربي كله من رجال الأدب والنقد خمسة يفهمون وصف علقمة للظليم الذي يبدأ بقوله :
كأنها خاضبٌ زُعْرٌ قوادمه أجنى له باللِّوى شَرْيٌ وتنّومُ
وكيف يفهمونه , وهم لا يفهمون أبسط الحقائق عن حياة الحيوان ومواسم إنتاجه و هياجه الجنسي وما يعتري كثيرا من أجناسه في هذه المواسم من تغييرات جسمانية , ولا يعرفون أحوال النعام خاصة وعلاقته بأنثاه وبفراخه وبيضه , ولم يقرأوا وصفا لرقصه البديع مع أنثاه ؟"(46)
ثم يستمر الكاتب في حديثه عن أهمية إلمام الناقد الأدبي الذي يبغي دراسة ابن الرومي وشعره بعددٍ من المعارف العلمية , مبيّنا كيف أن العقاد قد أحسن أعظم الإحسان في الكتاب الذي ألفه عن ذلك الشاعر بفضل اطلاعه على عدد من المباحث البيولوجية والنفسية ساعده أيما مساعدة على التغلغل إلى أغوار شخصية الشاعر العباسي , ومن ثم على فهما أشعاره فهم أدق وأعمق , وإن لم يعن هذا (كما يقول) أن العقاد قد أصاب في كل ما قال , إذ في دراسته أشياء لم يتنبه إلى قول العلم فيها فجاء تفسيره لها خاطئاً . ويوصي كاتبنا النقاد بأن يهتموا بالاطلاع على البحوث العلمية إذا أرادوا النجاح في مهمتهم , مضيفاً أنه لا يطلب إليهم أن يعرفوها معرفة المتخصصين لها , فهو نفسه لا يستطيع هذا ولا يطيقه , بل أن يلمّوا بالكتابات العلمية المبسطة التي وُضِعت للقارئ العادي بغية تقريبها إلى عقله , وأن يأخذ من هذه الكتابات ما يحتاج إليه عقله حسب الموضوع الذي يدرسه (47) .
(1/294)
وفي آخر الكتاب نراه يضيف نحو الأستاذ الدكتور عشرين صفحة لمناقشة د . محمد مندور في موقفه من الاستعانة بمباحث العلوم الطبيعية وعلم النفس والاجتماع في مجال النقد وتذوق الأدب , إذ يراه يحمل على هذه الاستعانة داعياً إلى الاقتصار على التحلي بروح العلم فقط ليس غير . ولستُ محتاجاً لأن أقول إن د . النويهي قد اتخذ جانب الأستاذ محمد خلف الله أحمد , الذي قال مندور ما قال في الردّ عليه وتخطئة مناداته بالاستعانة بعلم النفس وغيره عندئذ دراسة الأدب ونقده , ودعوته النقاد والمتذوقين على التركيز على الأدب بوصفه فنا لغويا ليس إلا (48) .
وفي خلال مناقشته لمندور يضرب الدكتور النويهي له مثلاً مما كتبه هو نفسه عن أبي العلاء المعري وفسَّر فيه نفسيته في ضوء آفة العمى التي كان منها , إذ يتساءل قائلا : "افرض أنه لم يعرف أنه كان أعمى , أفكان يعاني يفهم نفسيته إذن ؟ فما رأيه في آفات جسمانية لا تقل عن العمى تأثيرا في تكوين الشخصية , وإن لم تكن بادية على سطح الجسم كالعمى , ولا يعرفها إلا من يلم بقدر من الدراسات العلمية ؟ " (49) .
كذلك ظهر منذ سنوات قلائل كتاب بعنوان "العلاقة بين الطب والأدب" للدكتور الطبيب محمود عبدالعزيز الزعبي قدم له د . سليمان الأوزاعي بكلمة تلقي الضوء على بعض ما جاء في الكتاب جاء فيها قوله إن "محاولة الدكتور الزعبي (قد تميزت)بغنًى استثنائي وهو يحاول استنطاق النص الإبداعي العربي القديم أو الحديث من داخله , ومن حيث يرى الطبيب ما قد لا يراه الناقد , بحكم تسلحه بسلاح إضافي يلمس القارئ جدواه ونجاعته في كثير من المواقع التي يتوقف فيها الكاتب عند نصوص مبدعين مُتْعَبين أو مرضى من القدماء أو المحدثين " (50) .
(1/295)
وبعد , فلستُ أستطيع , رغم ذلك كله , الزعم بأنه الناقد أو المتذوق إذا استعان بما دعوت إلى الإستعانة به عند مواجهة العمل سوف ينجح لا محالة في محالة فهمه وتذوقه بدقة وعمق , فالخطأ قرين الجهود البشرية مهما احتطنا وسددنا الثغرات . كما أن من المتذوقين والنقاد من سيسىء التطبيق ويقدم تفسيرات خاطئة للأعمال التي يكتب عنها . إلا أن هذا لا ينبغي أن يشككنا في جدوى الاستعانة بالمعارف العلمية وغيرها مما يتعلق بالعمل الأدبي , بل يدفعنا إلى مزيد من الحذر والتحوط , مع التنبه دائماً إلى أن بلوغ الكمال في مجال النشاط الإنساني هو أمر مستحيل . إن أهمية فكرة "الكمال" تكمن في أنها تستحثنا على مواصلة الجهود والعمل على رتق
الفتوق والتطلّع دائماً إلى الآفاق العليا لا في أنها ستتحقق يوماً ما على الأرض .
على أني لا أحب أن يفوتني التنبيه هنا إلى أن هناك من يضعون عملية الاستعانة بالمعارف المختلفة عقب عملية التذوق : فتذوق العمل الأدبي يقع عندهم أولا , ثم يحاول المتذوق أن يحلّل ويعلّل هذا الذوق الذي حصل له من قراءة العمل فيلجأ حينئذ إلى ما يعينه على هذه المهمة من معارف وعلوم . ومعنى هذا أنهم يحسبون ( أو على الأقل : هذا ما نفهمه من كلامهم )أن التذوق يتم مباشرة دون أن يسبقه فهم وشرح وتوضيح . وأضرب مثلاً
(1/296)
لذلك ما جاء في كتاب "في فلسفة النقد" للدكتور زكي نجيب محمود , إذ ذكر الأستاذ الدكتور أن خلافا قد وقع بينه وبين د . محمد مندور حول السؤال التالي : هل يكون النقد الأدبي قائما على الذوق أو قائما على العلم ؟ "وكان الدكتور مندور في ذلك الصراع ينادي بأن النقد قوامه ومرجعه كله إلى التذوق , فقلت له فيما قلت إن في ذلك خلطا بين قراءتين : فالقارئ الذي سيصبح ناقدا إنما يقرأ القراءة الأولى فلا يسعه بحكم الذوق الأدبي الخالص إلا أن يحب ما قرأه أو أن يكرهه . وقد يقف عند هذا الحد , وعندئد لا يكون ثمة نقد قد وُلِد بعد , لكنه قد لا يقف عند هذا الحد , ويهم بالكتابة ليوضح وجهة نظره . أعني : ليعلل رأيه بالعلل التي تسنده وتؤيده ... وإن الناقد في تحليله ذاك أو تعليله ليستخدم كل ما يستطيع استخدامه من علوم تتصل بعلمه , فهو يستخدم علم النفس بكل ما وصل إليه من نتائج , وذلك حين يحاول النظر إلى العمل من هذه الوجهة التي تتسلل من خلال النص إلى أعماق اللاشعور عند كاتبه . وهو يستخدم الأنثروبولوجيا ... لتعينه على استخدام العناصر الأسطورية المتصلة بحياة الإنسان في طفولتها وبكارتها ... وكذلك يستخدم الناقد الدراسات اللغوية الحديثة ... بل إن الناقد ليستخدم العلوم الطبيعية الحديثة نفسها في عمله ... إلخ"(51) .
(1/297)
إن مثل هذا الكلام قد يوهم على الأقل أن الذوق يمكن أن يقع دون شرح وتفسير وفهم , وهو ما لا يمكن أن يكون بعد أن وضحنا فيما مرّ من صفحات كيف أن الذوق في ميدان الأدب يختلف عنه في الأطعمة والأشربة و العطور والأنغام والمناظر . إن الذوق في الأدب ليس مسألة وجدانية فحسب بل هو أمر عقلي أيضاً , وهذا العنصر العقلي لابد أن يجيء أولاً إذا ما أردنا أن يكون هناك تذوق ثانيا . ومع ذلك فلابد أن أنبه إلى أن عملية التذوق لا تستلزم التعمُّق في الاطلاع على المعارف والعلوم المساعدة على شرح النصّ الأدبي وإزالة ما يكون فيه من غموض ... إلخ , بل يكفي من ذلك كله الحد الأدني , ثم يأتي التعمق بعد هذا حين ينتقل القارئ من مرحلة التذوق إلى مرحلة التعليل والتحليل . على أن يكون مفهوماً رغم ذلك أن التذوق في هذه المرحلة الأخيرة سيصبح أدق وأعمق وأوسع , إذ (كما قلنا) كلما انزاح جانب من الظلام (أو حتى الغَبَش) الذي كان يغلّف العمل الأدبي ازدادت الفرصة لتذوقه ووصول هذا التذوق إلى أبعاد أطول وأعمق .
(1/298)
قد يجادل البعض بأن من القراء من يتذوقون الأعمال الأدبية بمجرد قراءتها دون أن يستعينوا في ذلك بأية معارف أو علوم . وهذه حجة داحضة , وإن بدت صحيحة في ظاهر الأمر , إذ لا ينبغي أن يغيب عن بالنا أن أولئك القراء قد سبق لهم أن بلغوا الحد الأدني على الأقل من المعرفة باللغة التي كُتِب بها العمل , والقواعد التي تحكم بناء جنسه الأدبي , والأسلوب الذي كُتب به , والأفكار السياسية والاجتماعية التي يتناولها أو يدعو إليها ... إلخ . أي أنهم لا يبدأون من نقطة الصفر التي يبدأ منها من يتناول قصيدة أو رواية مثلاً مكتوبة بلغة لم يتعلمها . ومع ذلك فإن استعانتهم بعد القراءة بما يعمّق معرفتهم بالعمل الأدبي سيجعل تذوقهم له أفضل بكل تأكيد(52) . فالتذوق الأدبي معرفة القارئ باللغة والأسلوب والاتجاه الفني الذي صيغ علىأساسه العمل الأدبي والمضامين التي يشتمل عليها ... وهكذا . بل ما أكثر ما يحتاج العمل الأدبي إلى أكثر من قراءة حتى يستطيع الإنسان أن يجد ثغرة ينفذ منها إليه , أو أن يجد فيه , بعد أن يكون قد نفذ إليه , باباً سريا يوصّله إلى أعماق أبعد فيه(53) .
(1/299)
نخلص من ذلك كله إلى أن فهم النصّ الأدبي , شعرا كان أو نثرا , شرط لابد منه لإمكان تذوقه . وهذا الشرط مما يميز التذوق الأدبي عن تذوق التصوير أو النحت أو الموسيقى , فالإنسان يمكنه أن يتذوق لوحةً أو تمثالاً أو مبني أو رقصة أو لحناً بمجرد أن يقع بصره أو سمعه عليه . إنه لا يحتاج إلى تعلم لغةٍ ولا إلى فك رموز ولا إلى الإلمام بهذا الموضوع أو ذاك من موضوعات المعرفة البشرية . أمّا النص الأدبي فلا بد من معرفة لغته أولاً , واللغة (كما نعرف) نظام من الرموز ينبغي لمن يريد فكّ شفراته أن يعرف كيف تُكتَب الحروف وكيف تُنْطَق , وكيف يتم تركيبها كتابة ونطقا , وما الذي تعنيه كل كلمة على حدة , وما الذي تعنيه داخل سياقها التعبيري والتركيبي ... إلخ , مما لا مثيل له في الفنون الأخرى . ثم لابد له ثانياً أن يكون على معرفة كافية بالموضوع الذي يتناوله العمل الأدبي , وإلا لم تغنه معرفته بنطق الكلمات ومعناها المعجمي ودلالاتها داخل تراكيبها .
(1/300)
وصحيح أن تذوق الفنون غير الأدبية يرهُف بازدياد المعرفة الفنية وارتقاء الثقافة واتساع خبرة الحياة , لكن تذوقها سوف يتّم دون شيء من ذلك . وفرق بين وقوع التذوق وبين ازدياده رهافةً وحساسيةً , أما في الأدب فإن التذوق لا يقع على الإطلاق دون أن تسبقه عملية الفهم كما سبق أن قلنا . ذلك أنه فن لغوي , واللغة إشارات ورموز , فلابد من فهمها أولاً كي يكون هناك تذوق . أما الفنون الأخرى فإنها تُرينا الشيء المراد تذوقه أو تُسْمعنا إياه مباشرة دون أن تقيم بيننا وبينه حاجزا من الرموز . ومن هنا فإننا , في الوقت الذي لا نستطيع أن نتذوق فيه قصيدة أو قصةً أو حتى مثلاً سائراً أو صورة بلاغية إذا مكتوبة بلغة غريبة علينا , يمكننا على الككس من ذلك تماماً أن نتذوق اللوحة أو التمثال أو اللحن أو المبنى أيا كانت جنسية مبدعه أو لغته . إنها فنون عالمية بهذا الاعتبار , على حين أن الأدب فن قومي من جهة الأداة التي يستخدمها , إذ لا يستطيع أن يتذوقه إلا من كان على معرفة باللغة التي كُتِب بها . في الفنون غير الأدبية أنت تتعامل مع الشيئ المراد تذوقه تعاملا مباشرا , ومن ثم فإن تذوق الأعمال الفنية غير الأدبية يتم مباشرةً , على حين لابد أن تسبقه خطوة أخرى في مجال التذوق الأدبي هي خطوة الفهم , أو الخطوة الخاصة بفكّ شفرات هذه الرموز .
(1/301)
على أن الشيء الذي يشير إليه الرمز اللغوي في العمل الأدبي لا يمكن , بعد هذا كله , أن يقع عليه الحواس بل يتم إدراكه بالعقل والخيال , ما عدا الجرس الموسيقي الذي ندركه بالأذن . وهذا يقودنا إلى فرق آخر بين التذوق الأدبي وتذوق الفنون الأخرى ,ففي مجال الأدب يمكن نسخ أي عدد نريده من العمل الإبداعي بحيث يكون لكل متذوق نسخته التي عن طريقها يستطيع أن يصل إلى العمل نفسه , بخلاف الحال في التماثيل واللوحات والعمارات , أما الموسيقى فانها تشذ عن هذه الفنون , رغم قيامها على نسخ أعمالها الإبداعية (54) , فإن النسخ فيها يختلف عن نسخ الأعمال الأدبية , فمتذوق الموسيقى يتعامل في كل الأحوال مع الأنغام مباشرة لا من خلال الرموز كما هو الأمر في إبداعات الأدب .
إن العمل الإبداعي الأدبي يظل هو سواء كانت حروفه كبيرة أو صغيرة ؛ وباللون الأسود أو الأخضر أو الأحمر وبالخط النسخي أو الرقعي أو الفارسي , وباليد أ, بالحجر أو باللنيوتيب أو بالأوفست أو بالحاسوب , وعلى ورق أبيض أو ورق صحف , هنا ليست غلا رمزاً نجد من بوابته إلى شيء كامن خلفها , وما من طريقة من طرق النسخ التي ذكرتُها هنا إلا وتعطينا ذلك الرمز الذي يوصّلنا إلى المفاهيم العقلية و المشاعر الواجدانية والصور والصور الخيالية والإيقاعات الموسيقية الكامنة في النص الأدبي . قد يقال إن اللوحات يمكن نسخها هي أيضا , وهذا صحيح , لكن النسخة ليست هي اللوحة الأصلية بحال, بل هي مجرد صورة لها , أما في النص الأدبي
(1/302)
فالذي يُنْسَخ إنما هو الرمز , الذي يوصلنا إلى الإبداع الكامن وراءه والذي نستحضره دون تغيير من خلال أية نسخة ننسخها من الأصل الذي كتبه المؤلف بخط يده . وهي مفارقة عجيبة , إذ قد رأينا أن الأدب فن قومي الأداة, ومن ثم كان نطاق تذوقه أضيق من نطاق تذوق سائر الفنون , لكن ضيق دائرة الذين يتذوقونه بالقياس إلى متذوقي تلك الفنون لم يمنع أن يكون لكل واحد من متذوقيه نسخته الأصلية من العمل الإبداعي , على العكس من إبداعات الفنون الأخرى التي لا يمكن أن يكون لكل منها إلا نسخة واحدة أصلية , والباقي مجرد صور لهذا الأصل : وإلا فأين القماش الأصلي الذي رُسمت عليه اللوحة مثلا ؟ وأين الألوان نفسها التي استعملها المصوّر في رسمها ؟ ... إلخ . وعلى ذلك فإن زيادة عنصر التعقيد في الإبداع الأدبي التي تجعل دائرة متذوقيه أضيق تقابلها سهولة اتصال كل واحد من هؤلاء المتذوقين بذلك الإبداع في صورته الأصلية , بخلاف الفنون الأخرى , ما عدا الموسيقى , التي تختلف حتى في هذه النقطة عن الأدب كما أوضحنا آنفا .
(1/303)
ليس ذلك فحسب , بل إن تذوق الأدب يمكن أن يتم عن طريق البصر , ويمكن أيضا أن يتم عن طريق السمع , كما يمكن أن يتم عن طريق اللمس . ذلك أننا قد نجده مكتوباً فتكون وسيلة اتصالنا به وتذوقنا له هي العين , وقد نخبره منطوقا فتكون الوسيلة هي الأذن , وقد يُكْتَب للمكفوفين بطريقة برايل فتكون الوسيلة آنئذ هي الأصابع (55) . ولن نعرف هل يقدَّر له في مُقْبل الزمن أن يدرَك من خلال الأنف كذلك أو لا . إن التقدم العلمي قد أمكنه تحقيق ما كان يبدو لنا من قبل مستحيلا , فمن يدري إذن ؟ وعلى أية حال فهذه سمة أخرى من السمات الفارقة بين تذوق الأدب وتذوق غيره من الفنون , إذ لكل من هذه الفنون حاسته التي تختص بتذوقه لا تشاركه فيه حاسة أخرى , أما الأدب فكما بيَّنَّا يمكن تذوقه بوساطة ثلاث حواس . والسبب ؟ السبب هو أننا , كما قلنا ونقول , نتعامل فيه مع رموز تشير إلى مفاهيم فكرية وصور خيالية ومشاعر وجدانية ... إلخ , وهذه الرموز يمكن ان تتمثَّل بأكثر من طريقة وتخاطب بأكثر من حاسة , على عكس الأمر في الفنون الأخرى التي ندرك فيها
الشيء المتذوَّق إدراكا مباشرا وليس عن طريق الرموز .
(1/304)
كذلك يختلف التذوق الأدبي عن تذوق سائر الفنون في أنه يمكن أن يتم عبر لغة أخرى , وهو ما نسميه الترجمة , وإن لم تستطع الترجمة أن تنقله نقلا أمينا يساوي الأصل مهما بذل المترجم من جهد واتخذ من احتياطات وحرص على الإخلاص كل الإخلاص في عمله , إذ لكل لغة عبقريتها وأسلوبها الذي ينضح على ما يؤدَّى من خلالها . والسبب في إمكان التذوق الأدبي عبر لغة أخرى , كما سبق أن أشرنا , هو أننا نتعامل مع رموز , ولا يهم تغير الرموز ما دامت كلها تؤدي بنا إلى نفس المفاهيم والصور والمشاعر (56) . أما أعمال النحت والتصوير والموسيقى فلا رموز فيها , بل يتم الاتصال بها مباشرة دون حائل من رموز , ومن ثم لايمكن ترجمتها , إذ الشيء ذاته لا تمكن ترجمته بل الذي يُتَرْجَم هو الرمز الذي يشير إليه ويدل عليه . إننا لا نترجم شعور "الكره" أو معنى "الحرية" مثلا من العربية إلى الإنجليزية أو إلى أية لغة أخرى , بل نترجم الرمز الكتابي أو الصوتي الذي يدل على كل منهما , فنستبدل بكلمة "كُرْه" كلمة “hatred”. وقس على ذلك سائر الألفاظ من أفعال وأسماء وحروف , فضلا عن التركيبات التي تنظم هذه الألفاظ . الخلاصة أن الأدب قوميّ الأداة كما قلنا , فلا مناص إذن لمن لا يعرفون هذه الأداة أن يتذوقوه في لغتهم هم أو في لغة أخرى يعرفونها , أما الفنون الأخرى فعالمية بهذا الاعتبار , ومن ثم لا حاجة بها إلى الترجمة . ومما يمكن أن نلحقه بالترجمة كتابة النص الأدبي بطريقة الاختزال “shorthand” لمن يعرفون كيف يقرأونه بها, وعندئذ لا يتغير فيه شيء سوى طريقة الرمز لا غير , أما المدلولات من أفكار وعواطف وأحداث وزمن , وكذلك العلاقات التي تقوم بين هذه الأشياء , فتبقى كما هي دون تغيير .
(1/305)
شيء آخر يختلف فيه التذوق الأدبي عن تذوق غير الأدب , ألا وهو أن الطريقة التي يعبر بها المتذوق الأدبي عن رأيه في العمل الإبداعي وحكمه عليه وتحليله لذلك وتعليله هي ذات الطريقة التي يعبر بها الأديب عن إبداعه , ألا وهي طريقة الرموز الكتابية أو النطقية . أما في الفنون الأخرى فلا يوجد هذا التطابق بين طريقة التعبير التي يلجأ إليها المبدع وتلك التي ينتهجها المتذوق , إذ ليس أمام هذا الأخير إلا نفس الطريقة التي يستعملها متذوق الأدب . فليكن العمل الإبداعي الذي نتذوقه ما يكون , فلا توجد أمامنا , إذا أردنا نعبّر عن تذوقنا له ورأينا فيه , إلا استخدام الرموز الكتابية أو النطقية . إن متذوق الموسيقى لا يعبّر عن رأيه فيما سمع بالعزف على الآلات الموسيقية , ومشاهد اللوحة لا يعبّر عن تذوقه لها برسم لوحة , والمعجب بتصميم مبنى ما لا يعبر عن إعجابه بهذا التصميم أو استهجانه إياه بتشييد مبنى هو أيضا , بل كلهم يمسكون بالقلم أو يتحدثون فيسجلون ما يرون ويحسّون , أي أنهم يستعملون ( كما قلت ) رموزا كتابية أو نطقية كما يفعل متذوق الأدب في هذا الموقف سواء بسواء .
(1/306)
كذلك فالملاحظ أن متذوق الأدب (ومِثْل الأدب في ذلك الموسيقى) يبدأ من الجزء وينتهي بالكل , وهو ما يحدث عكسه بالنسبة لمتذوق الفنون غير الأدبية : فقارئ القصة مثلا أو سامع الخطبة أو القصيدة الشعرية لا يستطيع أن يلم بها كلها إلا إذا تابعها من البداية كلمة فكلمة , وجملة فجملة , وفقرة ففقرة ... حتى يفرغ منها , وعندئذ (وعندئذ فقط) يتم له إدراكها في جملتها , أما مشاهد اللوحة أو التمثال أو القصر فإنه يراه , أول ما يراه , كاملاً ثم يعود فينظر في أجزائه , أو هذا هو ما يحدث عادة , أو في أقل تقدير من الممكن حدوثه . وتعليل ذلك أن الأدب (والموسيقى أيضا) فن زماني , فلا يمكن إدراكه وتذوقه إلا في لحظات زمانية متتابعة : كل لحظة تقابلها جزئية من جزئياته , أما الفنون التشكيلية والمعمارية ففنون مكانية . إن كل عمل إبداعي منها موجود هناك في مكانه تاماًّ ينتظر من يأتي إليه ليراه , وهذا الذي يأتي ليراه يأخذه عادةً في البداية بنظرة كلية , ثم يثنّي بالنظرات الجزئية الفاحصة المدققة . صحيح أن الكتاب أو الشريط الصوتي المسجَّل فيهما العمل الأدبي موجودان هما أيضا هناك في مكانيهما ينتظران من يأتي للقراءة أو السماع , لكن الموجود في هذه الحالة إنما هو الرمز لا الإبداع نفسه , وهذا الرمز لا يمكن أخذه في نظرة أو استماعة واحده أبدا , بل لا مفرّ من متابعة وحداته وحدةً وحدةً خلال الزمان إلى أن نفرغ منها جميعا , فعندئذ يتحقق لنا الإلمام بالعمل الإبداعي إلماماً كليا .
(1/307)
بقي أن نضيف أن الموسيقى , رغم اتفاقها مع الأدب في أنها فن زماني , تختلف عنه في كونها تُدْرَك بالأذن, أما الأدب فيُدْرَك بالعقل والخيال , اللهم إلا الجانب الموسيقي الموجود في الرمز اللفظي من سجع وجناس وتوازن ووزن وقافية وتناغم بين جرس الحروف والكلمات المتقاربة ... إلخ , أما فيما سوى ذلك فلا وسيلة لإدراكه إلا بالخيال : يصدق ذلك على الصُّوَر والروائح والأصوات والأماكن والسطوح والكتل التي يقدمها لنا . إننا لا نراها بأعيننا , ولا نسمعها بآذاننا , ولا نشمها بآنافنا , ولا نلمسها بأصابعنا, بل نتصورها بعقولنا وخيالاتنا . وهذا أيضا أحد الفروق بين تذوق الإبداع الأدبي وتذوق الإبداعات الفنية الأخرى : في الإبداع الأدبي يعتمد المتذوق على خياله , أما في الفنون الأخرى فيتصل بالشيء المذُوق بحواسّه اتصالا مباشرا , فيرى اللوحة والتمثال بعينه , ويسمع اللحن بأذنه . ثم إن هنا فرقاً آخر أيضا , وهو أن المتذوق الأدبي , وإن استعمل خياله , فإنه بهذا
الخيال يتعامل مع مدركات الحواس , وإن لم يستخدم أية منها . وهي من المفارقات الغريبة كذلك في هذا المضمار . إن التذوق الأدبي , كما نرى هنا أيضا , أعقد من التذوق في مجال الفنون الأخرى .
(1/308)
ومما يميز التذوق الأدبي عن غيره من التذوقات الفنية أيضاً أن متذوق الإبداعات الفنية الأخرى مقيَّد بما يشاهده أو يلمسه أو يسمعه ... , إذ العمل الإبداعي حاضرٌ أمامه لا يترك له فرصة لتصوره على أي نحو آخر , أما العمل الأدبي فلاعتماده على الخيال , كما أوضحنا , لا يتقيَّد بهذا الحضور الماديّ الملازم للإبداعات الفنية الأخرى , بل أمامه فرصة واسعة للانطلاق مع ذلك الخيال غير متقيد إلا بالخطوط العامة الموجودة فيما يقرؤه من شعر أو رواية مثلاً , إذ بالغةً ما بلغت دقة الأديب في الوصف والتحديد فإن هذه الدقة لا تستطيع تجسيد ما تصف أو تصويره أو تحويله إلى صوتٍ بحيث يمكن مشاهدته بالعين أو سماعه بالأذن أو لمسه باليد أو شمّه بالأنف , ومن هنا كانت الفرصة مواتية للخيال لكي يتصوره فيما لا يكاد يحصى من الأشكال والأوضاع . فهذه الحرية الكبيرة في التخيل والتصوّر مما يميز التذوق الأدبي عن غيره من تذوقات الفنون الأخرى .
(1/309)
لكل هذه الأسباب كان أثر الإبداع الأدبي أقوى من أثر الإبداعات الفنية الأخرى وأعنف حتى لقد يبكى متذوق العمل الأدبي بدموعه ويضحك ملء شدقيه , بل قد يهب ثائراً لتصحيح وضع معوج أو الانتقام من شخص ما ... إلخ , مما يحدث لكثير منا عندما يقرأون عملاً أدبيا أو يستمعون إليه . كما أن العمل الأدبي كثيراً ما يستغرق متذوقَه لدرجة الفناء فيه فيصير شخصاً من شخوصه لا مجرد متابعٍ لهم ولما يقع منهم من تصرفات أو يعتريهم من أحوال, وهو ما لا أعرف أنه يحدث لمتذوقي الفنون الأخرى . إنني مثلاً لا أستطيع أن أنسى ما كان يصيبني من رجة بل زلزلة عنيفة كلما قرأت رواية إميلي برونتي "مرتفعات وذرنج" , التي قرأتها عدة مرات : ملخصةً وفي نصها الكامل , وبالعربية والإنجليزية , أو "ثلاثية" نجيب محفوظ (57) , أو حالة الأسى العذب الذي يغزو قلبي عند قراءتي رواية "شمس الخريف" لمحمد عبدالحليم عبدالله , وبخاصة في نصفها الأول الذي تدور أحداثه في الريف والحقول قريبا من مدينة الإسكندرية قبل عشرات السنين مما يفجّر في خيالي أحداث طفولتي وصباي في قريتي بمحافظة الغريبة بمصر ويردّني إلى ذلك الزمن البعيد ضاغط على قلبي ضغطاً مؤلماً ولذيذا في ذات الوقت , أو ما يعتريني في كل مرة أقرأ السطور التي يرثي بها المازني ابنته الصغيرة في مقدمة كتابه "في الطريق" , هذا الرثاء الذي يجعل الدموع تترقرق في عيني رغم بساطته وبعده عن الصياح والولولة وخلوه من أية كلمة تتصل بالألم أو الحزن ! وكم من قصيدةٍ أو خطبة دفعت كثيرا ممن يستمعونها إلى المسارعة بالتضحية بأنفسهم فداءً لدينهم أو وطنهم . وهذا كله معروف لا حاجة بي إلى المضيّ في ضرب الأمثلة عليه أو الحجاج دونه .
(1/310)
ولا يقتصر تأثير الإبداعات الأدبية على مثل هذه الحالات الفردية , بل يمتد فيشمل حركات الإصلاح والانقلابات والثورات . إن أحدا لايجهل الدور الذي قام به الأدب في التمهيد للثورة الفرنسية مثلاً أوالثورة الروسية أوثورة الثالث والعشرين من يوليه في مصر . وبالمثل كان لروايات تشارلز ديكنز في بريطانيا أثرها القوى في حركة الإصلاح الاجتماعي هناك , كما كان للروايات الأمريكية التي تصور مآسي العبيد أثرها في صدور القوانين التي تعمل على إنصافهم ومساواتهم بالبيض ومعاملتهم معاملة إنسانية . كذلك كان للأشعار والقصص التي تبرز بؤس الطبقات الفقيرة في مصر , أو تدعو إلى رفع الغبن والقيود الظالمة عن المرأة أثرها في رفع الظلم عن كاهل الفلاحين والعمال والمرأة . بل إن أعظم التغيرات التاريخية والحضارية , أعني الأديان السماوية وانتشارها وما استتبعه ذلك من صراعات ومعارك وتحويل لمجرى حياة الأمم تحويلا جذريا , وإنما كانت نقطة إنطلاقه الكلمة لا اللوحة ولا التمثال ولا اللحن . إنه الوحي من قرآن وإنجيل وتوراة وزبور وصحف . ومعروفٌ ما لهذه الكتب من سلطان على نفوس أتباعها الأولين , سلطانٍ بلغ من قوته أن جعلهم يتحملون في صبر بل في رضاً واستعذابٍ آلام الجوع والضرب , وكذلك التضحية بأموالهم وأرواحهم في سبيل الدين الذي يؤمنون به .
(1/311)
ولأمرٍ ما يحتل اللسان والبيان والقلم مكاناً بارزاً في لوحة الامتنان الإلهي على البشر :"ومن آياته خَلْقُ السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم . إن ذلك لآيات للعالمين" (58) , "الرحمن .علّم القرآن . خَلَقَ الإنسان . علّمه البيان" (59) ,"ألم نجعل له عينين . ولسانا وشفتين ... ؟ " (60) , "ن . والقلم وما يسطرون ..."(61) . ويقول رسولنا الكريم : "إن من البيان لسحرا" . كما أن ما يأتيه الإنسان في هذه الدنيا إنما يُسَجَّل عليه"كتابةً" في لوح الأعمال , ويوم القيامة سوف "تَنْطِق" الأعضاء بما اجترحه صاحبها بها قبل أن يموت , وسوف يتم الحساب "كلاماً" بين الله سبحانه وبين عباده , أو بينهم وبين أعضائهم . وقبل ذلك جميعه هناك القضاء والقدر, الذي يقول فيه الرسول عليه الصلاة والسلام : "رُفِعَت الأقلام , وجفّت الصحف" . اللغة ! اللغة ! هي أعقد وسيلة من وسائل التعبير عن النفس وعما يريد الإنسان توصيله للآخرين , والإبداع الأدبي ( ذلك الإبدع الذي يتوسل باللغة ) هو أعقد الإبداعات الفنية طرا .
(1) القين : هو الحداد . و المستذاق : هو من تَخْبُره فلا تحمد مخبرته .
(2) ذاق القوس : اختبرها ليعرف مدى لينها من شدتها .
(3) الأعراف / 22
(4) النبأ / 24
(5) ص / 57
(6) الطلاق / 9
(7) الأنعام / 148
(8) النحل / 94
(9) النساء / 56
(10) الأنفال / 50
(11) العنكبوت / 55
(12) الذاريات / 14
(13) القمر / 48
(14) النحل / 112
(15) الزمر / 26
(16) الروم / 33
(17) آل عمران/185
(18) المسمى "ترجمان القرآن"
(1/312)
(19) أما إدوارد وليم لين (E .W. Lane) في "مدَّ القاموس" فإنه كان يترجم بعض العبارات العربية المجازية الخاصة بـ"الذوق" أحيانا بـ “To taste” وأحيانا بـ”To experience” , وأحيانا بالكلمتين معاً واصفاً إحداهما بين معقوقتين إشارة إلى أن كلتا الترجمتين صحيحة . ولهذه الطريقة الثالثة نُمثِّل بترجمته لقولهم : "ذاق الرجل عسيلة المرأة" , إذ جاءت على النحو التالي :
(20) “ The man [tasted or] experienced the sweetness of the carnal enjoyment of the woman “
(21) صحيح مسلم / إيمان / 56 .
(22) مسند أحمد بن حنبل / 5 / 135 .
(23) صحيح البخاري / شهادات / 3 .
(24) مسند أحمد بن حنبل / 1 / 428 .
(25) صحيح الترمذي / مناقب / 65 .
(26) موطأ مالك / مدينة / 15 .
(27) الموسوعة الفلسفية العربية / معهد الإنماء العربي / 1986م / 1 / 457 .
(28) الموسوعة الفلسفية العربية / معهد الإنماء العربي / 1986م / 1 / 457 .
(29) ابن طباطبا / عيار الشعر / تحقيق طه الحاجري ومحمد زغلول سلام / المكتبة التجارية / 1956م .
(30) (27) يقصد نظريته القائمة على أن النظم هو لباب البلاغة .
(31) عبدالقاهر الجرجاني / دلائل الإعجاز / مطبعة المنار / 1321هـ / 225 .
(32) ابن الأثير / المثل السائر / مكتبة نهضة مصر / 1959م / 1 / 38 .
(33) نقلاً عن "الإتقان" للسيوطي / / 218 .
(34) مقدمة ابن خلدون / المطبعة البهية / القاهرة / 516 .
(35) J.A. Cuddon & Andre Deutsch, A Dictionary
of Literary Terms, London, 1977, P, 670 .
(36) Libairie Laroussel , 1973 , Tome 3 , P.2269 .
(37) Oxford , 1989 , ed.2 , Vol . XVII , P.650 .
(38) A.F. Scott , Current Literary Terms, Mac millan, London & Basingstole , 1980 , P.288.
(39) د . جميل صليبا / المعجم الفلسفي / دار الكتاب اللبناني / 1982م / 1 / 597 .
(1/313)
(40) A.F. Scott, Current Literary Terms, P.288 .
(41) A.F. Scott, Current Literary Terms, p.107.
(42) إبراهيم فتحي / معجم المصلحات الأدبية / المؤسسة العربية للناشرين المتحدين / 1986م / 98 .
(43) J.A. Cuddon & Andre Deutsch, A Dictionary
(44) of literary Terms, London, 1977, p, 670 .
(45) (4) Chris Baldick , Oxford Concise Dictionary of Literary Criticism , Oxford Ueniversity Press , 1996 , P.76 .
(46) د . محمد النويهي / ثقافة الناقد الأدبي/ مكتبة الخانجي ودار الفكر / 1969م / 70-72 .
(47) المرجع السابق / 72 وما بعدها .
(48) السابق / 381 وما بعدها .
(49) السابق / 392 .
(50) (3)ص 18 من الكتاب المذكور/ المؤسسة العربية للدراسات والنشر / بيروت / 1997م .
(51) د . زكي نجيب محمود / في فلسفة النقد / دار الشروق / 1399هـ - 1979م / 115 – 118 .
(52) كما هو الحال معي مثلاً بالنسبة لأشعار السياب كما شرحت من قبل .
(53) وقد يجد القارئ نفسه في بداءة الأمر عاجزا عن الدخول إلى العمل أو عن المضي فيه لجهله بكلمة السرّ التي تفتح له الأبواب , مثلما حدث لي حين بدأت أقرأ "الآيات الشيطانية : The Satanic Verses" عند صدورها في أواخر ثمانينات القرن الماضي , لكنّ حثّ بعض الأصدقاء لي على دراسة الرواية والكتابة عنها , والصبر الذي تذرعتُ به في محاولة فكّ شفراتها , قد أعاناني على تذليل كثير من العقبات المزعجة التي سدّت طريقي في البداية , كما أن استعانتي ببعض المراجع في تفسير ما في ذلك العمل من رموز وإشارات خاطفة قد ذلّل بعضاً آخر منها , فاستطعت في نهاية المطاف أن أكتب دراسة مطولة عن رواية رشدي وبنائها الفني وأسلوبها اللغوي ومافيها من هلوسات وخلط تاريخي وجغرافي , وإن بقيت رغم ذلك كله أشياء أرى أني لم أنجح في فهمها وتذوقها .
(1/314)
(54) لأنه بدون هذا النسخ لا يمكن الاتصال بها إلا مرةً واحدةً فحسب هي المرة الأولى التي عُزِفتْ فيها .
(55) بعد أن كتبت هذه الصفحات وقع في يدي كتاب د . علي عبد المعطي محمد "الإبداع الفني وتذوق الفنون الجميلة" فوجدته يذكر فيه تقسيم موريس نيدونسل للفنون حسب الحاسة التي تدرك كل فن وتصنيفه لـ"الأدب" بين الفنون السمعية كالموسيقى ( ص335 من الكتاب المذكور / دار المعرفة الجامعية / الإسكندرية / 1985م ) , وكأن جميع متذوقي الآداب في كل زمان ومكان هم من الأميين الذين لا يستطيعون القراءة . والواقع أن الأدب فن سمعي بصري لمسيّ كما وضَّحنا . وإذا كان إدراكه في الماضي عن طريق اللمس مستحيلا , أو كان الآن محصورا في نطاق ضيق , فسوف يتسع هذا النطاق على مر الأيام مع زيادة الاهتمام الملحوظة حاليا بتوفير الفرصة للمكفوفين لكي يقرأوا كل الكتب مثلهم مثل المبصرين تماماً . ومثل نيدونسل في ذلك سوريو , الذي يجعل المعطيات الأساسية للأدب شعره ونثره "أصواتا ذات مقاطع" (المرجع السابق / 336 ) .
(56) وإن اختلف الأمر في الترجمة كما قلنا بعض الشيء , فرغم حرص كل مترجم على أن ينقل لنا المعنى كما هو فإن المعنى يأتي في أحسن الأحوال مقاربا لا مطابقا .
(57) وفي هذا السياق أرى من اللازم الإشارة إلى مقال كتبه محمد فهمي (عبداللطيف ؟) في مجلة "المقتطف" (ديسمبر 1947م) يأخذ فيه على نجيب محفوظ ما يسود رواياته من قتامة مؤلمة وأنه لا يرخي لشخصياته في حبل المسرات إلا لكي يبترها بعد ذلك بترا قاسيا عنيفا وكأن بينه وبينها عداءً عجيبا . وكم من شهقات ألم ندّت عن حناجر قراء المنفلوطي ودموع حارة سفحتها عيونهم وهم يتابعون مصائر أبطاله في كتاب "العبرات" !
(58) الروم / 22 .
(59) الرحمن / 1- 4 .
(60) البلد / 8 -9 .
(61) القلم / 1 .(1/315)
"المعذبون فى الأرض"
لم يكن طه حسين قصاصا بارعا، فأين تكمن جاذبيته إذن؟
بقلم :د. إبراهيم عوض
(1/316)
سبق أن تناولتُ بالنقد رواية الدكتور طه حسين "دعاء الكروان" قبل نحو عشرين سنة، وكان رأيى أنها ليست من فن القصة بمكانٍ يُذْكَر، وذكرتُ الحيثيات التى أقمتُ عليها هذا الحكم. وهذا النقد موجود فى كتابى "فصول من النقد القصصى"، الذى صدر فى طبعته الأولى سنة 1984م (ثم ظهرت له بعد ذلك طبعتان أُخْرَيَان)، فيمكن الرجوع إليه لمن يريد أن يطَّلع على رأيى فى هذه الرواية وتحليلى لها فى الفصل الثانى من الكتاب المذكور. ومع ذلك فإنى لا أخفى أبدا حبى لقراءة طه حسين، فأنا فعلا أستمتع بكتاباته بوجه عام بما فيها قصصه ورواياته رغم رأيى السئ فيها، فما السبب فى ذلك يا ترى؟ إننى دائم الرجوع لأعمال الرجل بين الحين والحين، وكلما قرأت له شيئا أجد أن متعتى بما أقرأ لا تزال كبيرة وقوية، بل أحيانا ما أجد أنها قد ازدادت قوة مع الأيام بفعل تنامى قدرتى على التذوق العميق واستطاعتى إبصار أوجه الجمال وتعليل هذا الجمال الذى تتمتع به، وذلك رغم اختلافى العنيف مع ما يقوله الدكتور طه فى بعض القضايا التى تمس الإسلام والعروبة والمعايير التى ينبغى أن تحكم علاقتنا نحن المسلمين بالغرب وحضارته. فأما كتاباته التى ليس فيها شىء مما أختلف مع المؤلف فيها اختلافًا حادًّا فأمرها مفهوم، سواء كانت فى الأدب أو النقد أو الإسلام مما لا يحتوى على شىء من آرائه أو مواقفه المتهافتة ضد دين النبى محمد مما يوجد مثلا فى كتابيه: "فى الشعر الجاهلى" و"مستقبل الثقافة فى مصر". وأما فى الكتابات التى يتخذ فيها (أو فلنقل: التى نرى أنه يتخذ فيها) مواقف ويعلن آراء لا تتماشى مع ديننا، بل ربما ناقضته وعملت على التخوّن منه وتدميره، فإننا نجد، إلى جانب الضيق بهذه المواقف وتلك الآراء، بل والسخط عليها وعلى الفكر المنحرف الذى يقف وراءها ويسيّرها، غير قليل من المتعة التى نجدها فى كتاباته الأخرى، ومثلها فى ذلك رواياته وقصصه القصيرة التى نرى أنها ليست من الفن(1/317)
القصصى بمكان يُذْكَر كما سلف القول، ولكننا مع ذلك نستمتع بها من زاوية أخرى. فما السر يا ترى؟ إننى مثلا كثيرا ما أؤكد للطلبة أن كتاب طه حسين فى "ذكرى أبى العلاء"، رغم أنه قد ألفه وهو لا يزال شابا غض العود لم يبرح مصر ويتصل بالثقافة الغربية فى مهادها اتصالا مباشرا لا مجرد سماع أو ملامسة عن طريق القراءة وحدها، ورغم أنه، فيما أتصور، لم يكتبه تحت توجيه مشرف بالمعنى الذى نعرفه اليوم فى رسائل الماجستير والدكتوراه، بل رغم أنه ليس فى الواقع رسالة ماجستير أو دكتوراه بالمعنى المعروف بل بحثا كان عليه أن يكتبه فى نهاية دراسته فى الجامعة المصرية القديمة قبل أن يتخرج، ورغم أن ثمة شططًا وغلوًّا فى بعض الآراء الواردة فيه، وكذلك فى المنهج الذى اتبعه صاحبه والذى يرى أن الإنسان بوجه عام (ومن ثم أبو العلاء أيضا) هو نتيجة حتمية لبيئته لا يستطيع عن ذلك خروجا، وإن كان قد رجع عن هذا الرأى فى بعض كتاباته فيما بعد ثم عاد إليه كَرَّةً أخرى على ما وضحتُ فى كتابى "مناهج النقد العربى الحديث" (ط 2/ مكتبة زهراء الشرق/ 2004م/ 194- 162)، هذا الكتاب قلما يستطيع باحث من باحثى هذه الأيام السطحيين أن يكتب مثله، سواء فى الأسلوب أو فى التخطيط بغض النظر عن موافقتنا على آرائه فى هذا الكتاب كلها أو بعضها أو لا. وبالمثل فإننى، رغم انتقادى الشديد لبعض قصص "المعذَّبون فى الأرض" لما فيها من سطحية وسذاجة فى الفن القصصى أو فى النظر إلى الحياة ذاتها على السواء، ورغم أنى أرى فى كلام من يُثْنُون عليها من النقاد من الناحية القصصية ويحاولون أن يُبْرِزوا أثرها الاجتماعى مبالغة شديدة لا تنهض على أساس من الواقع، رغم هذا وذاك فإنى أقرؤها الآن وأجد فيها متعة، ومتعة كبيرة فى بعض الأحيان، لا كفن قصصى بل كأسلوب لغوى متميز وروح تهكمية وتصوير فنى ليس إلا. وهذا هو ما أريد أن أوضحه هنا.
(1/318)
لقد قيل كلام كثير عن أثر كتاب "المعذبون فى الأرض" فى فضح التفاوت الطبقى الرهيب الذى كان سائدا فى بلادنا قبل الثورة وقوانين الإصلاح الزراعى والعمل والعمّال التى صدرت بعد قيامها بقليل، ذلك التفاوت الذى يقول طه حسين إنه جعل يلتفت إليه ويحس بما يترتَّب عليه "من هذه الفروق الحائلة بين الأغنياء المترفين والفقراء البائسين" منذ اتصل بـ"جريدة" أحمد لطفى السيد، وبمن حوله من المطربشين أصحاب الثراء العريض والمنزلة الاجتماعية العالية (الأيام/ ط 29/ دار المعارف/ 1981م/ 2/ 173). لكن الذى يقرأ الكتاب بعيدا عن هذه الدعاوى (أو فلنقل: بعيدا عن هذه الدعاية) سوف يفاجأ بأن الأمر ليس على هذا النحو دائما، وليس إلى هذا الحد أيضا: فبعض القصص لا علاقة لها بالمشكلة الطبقية من قريب أو بعيد كما فى قصة "خديجة"، الفتاة التى تَقَدَّم لها رغم فقرها النسبى شاب من أسرة أيسر من أسرتها، لكنها لم تكن سعيدة مع ذلك بهذا الزواج وانتهى أمرها بالانتحار، ولا ندرى لماذا، وهو ما يشكِّل عيبا كبيرا فى القصة، لكن هذه نقرة أخرى. وبعضها رغم علاقته بمشكلة الفقر بوجه عام لا تتناول هذه المشكلة من الناحية الطبقية ولا من الناحية الوطنية، أى على مستوى القطر كله، بل من ناحية الوضع الذى يحكم العلاقة بين بعض الأغنياء فى هذه القرية أو تلك وبعض الفقراء الذين يقومون بخدمتهم أو يتصلون بهم عن قرب فيُنْعِمون عليهم ببعض ما يفيض عن حاجتهم من طعام أو لباس أو ما إلى ذلك، وتنتهى المسألة عند هذا الحد.
(1/319)
بل إننا لنرى أن المؤلف، فى القِصَص التى نحس أنه قد أراد فيها فعلا أن ينبّه إلى حدة المشكلة الطبقية، لم يقدر على أن يُشْعِرنا بأن هناك مشكلةً حادة، إذ إن أحداث القصة وطريقة معالجته لها لا تعطينا هذا الانطباع، بل تقول إن حل المسألة بسيط سهل، فها هى ذى ربة البيت الميسور مثلا لا تتوانى عن التصدق بما تستطيع على هذا الطفل المحروم أو تلك البنت التعيسة، وبذلك ينتهى الأمر. أليس الطرف الأول قد أدى واجبه الدينى والإنسانى وأخرج من ماله ما سدَّ به حاجة الطرف الثانى؟ ثم أليس الطرف الثانى المحتاج قد حصل على ما كان ينقصه وانصرف به قرير العين؟ إذن فما المشكلة؟ إن القارئ لا يستطيع أن يحس بفداحة المشكلة بسبب ضعف الفن القصصى لدن الدكتور طه. إنه ليس قصاصا موهوبا، بل ولا ناقدا قصصيا ممتازا، فهو يصرف معظم نقده القصصى فى تلخيص العمل الذى ينقده دون أن يستطيع تحليله فنيا إلا فى أضيق نطاق، أو حتى تقديمه فى انطباعات حية تغرى بقراءته كما كان الدكاترة زكى مبارك مثلا يفعل حين يتناول عملا قصصيا على ندرة ما كان يتناول هذا اللون من الأعمال الأدبية مثلما هو الحال فى كتابه الذى جمعت فصوله ابنته كريمة بعد وفاته وسَمَّتْه: "زكى مبارك ناقدا"، إذ نجد فيه نقدا لرواية محمود تيمور: "نداء المجهول"، ومجموعة "الأجنحة المتكسرة" لجبران، وإن كان للدكتور طه مع هذا أسلوب ندر أن يُرَى له نظير رغم أن بعض من فُتِنوا بهذا الأسلوب قد عملوا بكل جهدهم على احتذائه والنسج على طريقته كما هو الحال مثلا مع إبراهيم الإبيارى فى كتابه الذى ترجم فيه لنفسه وقلّد فيه كتاب الدكتور طه: "الأيام" فسماه بدوره: "مع الأيام"، إذ إن هؤلاء المقلدين، وإن أمكنهم اصطناع بعض سمات الأسلوب الطَّاهَوِىّ، لا يستطيعون فى الحقيقة نقل روحه ونكهته الخاصة التى تستعصى على التقليد، علاوة على أنهم فى تقليدهم يفتقدون إلى المرونة التى فى الأصل.
(1/320)
لقد سلف القول بأننى قد تناولت فى كتابى: "فصول من النقد القصصى" رواية "دعاء الكروان" للدكتور طه حسين بالنقد، وكان رأيى فيها غير طيب بالمرة لما فيها من سذاجة فى تصوير الحياة والشخصيات وخَلَل فى البناء السَّرْدِىّ وعلوّ لغة الحوار كثيرا عن مستوى المتكلمين، وبخاصة أمينة بطلة الرواية، وغير هذا مما يجده القارئ فى الفصل الثانى من الكتاب المذكور. وهأنذا أعود لقراءة "المعذبون فى الأرض" بعد أن كنت قرأتها منذ سنوات طوال جدا، فأجد أن رأيى فيها لم يتغير، فهى مملوءة بالعيوب الفنية التى تنبئ عن أن طه حسين ليس قصاصا كبيرا: فهو مثلا قد يبدأ قصته بمقال قد يكون فى نفسه قطعة أدبية ممتعة، لكنه لا يمكن أن يُعَدّ جزءا عضويا من القصة بحال، بل نصًّا منفصلا قد أُلْصِقَ بها إلصاقا. ففى بداية قصة "المعتزلة" (ص 80- 87) نجده يمضى فيتكلم عن التفاوت الطبقى بين الفقراء والأغنياء ويقول كلاما جميلا عن وجوب الأخذ بناصر المحتاجين، مع توبلة ندائه هذا بشىء من التهكم الخفى الذى يبدو وكأنه يبارك هذه الأوضاع الإنسانية المزعجة، بينما هو فى الحقيقة يحمل عليها بكل قوة، بَيْدَ أن ذلك كله لا يشفع فنّيًّا لهذه الإضافة المجتَلَبَة اجتلابا. إنها، كما قلت، قد تكون مقالا رائعا فى حد ذاته، لكنها لا يمكن أن تكون جزءا عضويا من القصة. إنها عبء إذا نظرنا إليها من الناحية القصصية، ومتعة بارعة إذا قرأناها على أنها مقال منفصل لا علاقة له بالعمل القصصى. ثم إن الكاتب، بعد ذلك، يستمر فى الطيران خارج سماء العمل فيدخل فى الحديث عن القواعد التى يضعها النقاد لضمان جودة الكتابة القصصية مؤكدا أنه لا يبالى بما يقوله هؤلاء النقاد لأنه لا يحب لأحد أن يحجر على حريته فى كتابة ما يريد أن يكتب عنه، وبالطريقة التى تعجبه... إلى آخر هذا الكلام الذى سبق أن قاله أو قال شيئا شبيها به فى تضاعيف قصة "صالح" (ص 14 فصاعدا) قاطعًا تيارها فى أكثر من موضع ليدخل(1/321)
مع القارئ فى حوار من طرف واحد ينتهزه ليعلن رأيه فى القواعد المذكورة ومؤكدا هنا أيضا حريته التامة فى أن يقول ما يشاء عمن يشاء، وبالأسلوب الذى يشاء، وهو نفسه أو قريب منه ما فعله فى الصفحات الأولى من قصة "صفاء" (ص 121 وما بعدها).
كذلك فإن هذه الأقاصيص يغلب فيها العنصر السردى على الحوار فلا يترك له مجالا كافيا يتنفس فيه بحرية، وهذا عيب من العيوب التى كانت القصص والروايات تعانى منها على أيدى غير الموهوبين فى هذا الفن فى بعض مراحله السابقة. كما أن الحوار الذى يجريه الكاتب على ألسنة أشخاص قصصه لا يتناسب عادة معهم لا من الناحية اللغوية ولا من الناحية النفسية. إن طه حسين لم يستطع هنا أن ينسى أنه طه حسين، ومن ثم لم ينجح فى أن يتخلى عن أسلوبه العذب الجميل فاصطنعه دائما لأبطاله بغض النظر عن مستواهم الاجتماعى أو الثقافى، فكلهم يتكلم بلسان طه حسين ويستعمل لغته الأنيقة العذبة التى لا نكران فى أنها ممتعة فى حد ذاتها بوصفها لغة طه حسين الأديب الذى نعرفه ونحب أن نقرأ له مقالاته ودراساته، وليس بوصفها لغة هذه الشخصية أو تلك من شخصيات قصصه. وفضلا عن هذا كله فإن نهايات بعض القصص تفاجئنا بما لا يقنعنا، أو تعانى من بعض الغموض، أو يبترها الكاتب بترا ولا يعطيها الوقت والعناية اللازمين لإنضاجها وإقناعنا بها وجعلها مريحة فنيا بدل القلق الذى تبذره فى ذهن القراء من جراء العيوب التى تحدثنا عنها آنفا.
(1/322)
لنأخذ مثلا هذه العبارات التى التقطتُها من أفواه بعض شخصيات المؤلف من بين الفلاحين والصيادين المُدْقِعين ومن على شاكلتهم. ترى أمن الممكن أن تتحدث بنتٌ أُمِّيّةٌ ريفيةٌ شديدةُ الفقر إلى أمها بهذا المستوى اللغوى الراقى وفى الظروف الذى قيل فيها: "تريدين أن تعلمى أين ذهبتُ، وماذا كنت أصنع حين انسللتُ من البيت فى ظلمة الليل. فاعلمى إذن أنى لقيت زوج عمتى غير بعيد من مزرعته وأقمتُ معه ما أقمت، ثم رجعتُ حين كاد الصبح أن يُسْفِر. أعلمتِ الآن ما كنتِ تجهلين؟ أراضية أنت بما عملتُ؟" أو أن ترد عليها أمها قائلة: "ومتى لَقِيَتِ الفتياتُ أزواجَ عماتهن فى جنح الليل؟ إنك لَتَلْقَيْنَه فى وضح النهار" (ص 55)؟ كذلك فإن خاتمة قصة "رفيق" تأخذنا على حين بغتة، ولا تفصح لنا عما يريد الكاتب أن يقوله. ذلك أن القصة تتحدث عن حب بين فتى وفتاة نصرانيين انتهى بالاتفاق بين الأسرتين على ما يشبه خِطْبتهما. لكن ما طرأ من ارتقاء فى المستوى الاجتماعى لأسرة الفتاة قد أدى إلى تجاهلهم تلك الخطبة التى اتُّفِق عليها وقبول خطيب آخر لها يتفوق على الأول مكانة ووظيفة ومالا، مما آلم الفتى وجعله ينطوى على نفسه، فيظن أهله أنه قد نسى المسألة، على حين أنه كان يدبر فى نفسه أثناء ذلك أمرا لم يفصح أى من تصرفاته عنه أو يومئ إليه بل أومأ إليه المؤلف نفسه من بعيد، لنفاجأ فى نهاية القصة بأنه كان نائما على قضيب القطار ينتظر الموت حتى جاء القطار فشطر جثته شطرين، وأن البنت "قد أصبحت مزوَّجة كالمطلقة، ففصمت تلك العروة التى عقدها القسس والتى لا يفصمها إلا الموت" (ص 149). وهكذا تنتهى القصة وأم الفتاة ووالدا الفتى يبكون جميعا ويندبون حظهم التعيس. وهذا كل ما هناك! فالكاتب لم يحاول أن يتدسس إلى نفس القتى لنعرف ماذا كان يزمع أن يفعل، أو على الأقل ماذا كانت مشاعره بالضبط تجاه فصم الاتفاق الذى كان بين الأسرتين، علاوة على أن ما قاله كاتبنا عن(1/323)
استجابة الفتاة لذلك الفسخ ولو ظاهريا قد أوهمنا أن الأمر لم يزعجها كثيرا، إذ هى بنت، ومتى كان للبنات فى مثل هذا المجتمع رأى غير ما يقوله رجال البيت؟ كما أن الهدايا التى أخذت تتتالى عليها من خاطبها الجديد وكونه موظفا ذا مكانة ومرتب مضمون قد أدخل على قلبها شيئا من السلوى بحيث إننا نؤخذ على غرة بنهاية القصة وما فيها من إشارة إلى أنها "قد أصبحت مزوَّجة كالمطلقة". ترى ماذا يقصد المؤلف بالضبط؟ إنه، لِشديد الأسى والأسف، قد اختصر الكلام اختصارا فلم يستطع، كما سبقت الإشارة، أن يمهد لهذا الذى قد حدث، بل لم يستطع أن يساعدنا فى فهم هذا الذى قد حدث!
(1/324)
ليس ذلك فحسب، بل هناك السذاجة المتمثلة فى إثارة بعض الأشياء التى لا يستلزمها الفن القصصى بوجه عام ولا القصة التى يكون الكاتب بصدد حكايتها لنا بوجه خاص: ففى مفتتح قصة "قاسم" الصياد الفقير الذى ستزلّ ابنته مع زوج عمتها بسبب إغوائه إياها ببعض الأساور التافهة الحقيرة التى تَكْلَف بها بنات الريف ولا يجد كثير منهن ما يشترينها به من مال رغم قلته وتفاهته وما إلى ذلك، نرى الكاتب يصف لنا فى عدة صفحات منعطفات الطريق الذى كان يسلكه الصياد فى طريقه إلى النهر ومشاعر الخوف التى تنتابه وهو يمشى وحده فى ظلمة الليل قبيل الفجر قاصدا الماء وكيف كان يدفعها بقراءة بعض آيات الذكر الحكيم الكفيلة فى اعتقاده بطرد العفاريت...إلخ (ص 42- 45)، رغم أنه لا علاقة لشىء من ذلك كله ببقية أحداث القصة، وبالذات بنهايتها. وبالمثل نرى المؤلف يبذل جهده فى نفى ما يمكن أن يعترى القارئ فيدفعه إلى الظن بأن خديجة بطلة القصة التى هو بسبيل روايتها "قد نزلت من السماء كما تنزل الملائكة رحمةً ورَوْحًا على الأرض، أو خرجت من النهر كما كانت العذارى يخرجن فى الزمن القديم من الجداول والأنهار ومن العيون والينابيع، أو حملها إلينا السحاب أو أرسلها إلينا نجم من النجوم، بل نشأت فى القرية" (ص65)! الله أكبر! ومتى كان الناس فى مصر أو فى غير مصر، فى عصرنا هذا على الأقل، يمكن أن يقعوا فى هذا الظن حتى يجهد المؤلف نفسه فى نفى هذا الوهم؟ إن مثل هذا الكلام، من ناحية أصول الفن القصصى، هو ترف سخيف لا معنى له ولا داعى لتضييع الوقت والحبر والصفحات والجهد فى تحبيره! لكنه من ناحية اللغة التى كُتِب بها شىء آخر له جاذبيته وحلاوته. فما هى إذن تلك السمات التى تميز أسلوب الدكتور طه وتجعل لكتاباته هذه الجاذبية والحلاوة حتى ليمكن أن نستعيض بها عن العيوب الفنية التى فى أدبه القصصى كما هو الوضع فى كتاب "المعذبون فى الأرض"؟
(1/325)
من أهم ما يستلفت نظرنا فى أسلوب د. طه بروز الطابع القرآنى فيه بروزا قويا غلابا. لكن هذا الطابع لا يأخذ شكل الاقتباس المباشر عادة، ولا يتوقف عند التأثر ببعض العبارات فحسب، وإلا لما تميز الأسلوب الطَّاهَوِىّ عن كثير غيره من الأساليب التى تحتذى أسلوب القرآن ثم تتوقف فى الغالب عند نقل هذه العبارة أو تلك منه إليها. إن المسألة لدى طه حسين تتخذ أشكالا أُخَرَ عادة، أما الاقتباس المباشر فهو قليل. وعجيب أن يكون تأثير القرآن على الدكتور من القوة إلى هذا المدى، وهو الذى استفتح محاضراته فى الأدب العربى بالجامعة المصرية بالتشكيك فى هذا الكتاب! لكن ما العمل، وهذا هو الواقع الذى لا يمكن أىَّ مكابر أن يجادل فيه؟ إنه يدل على أن للقرآن سطوة غلابة، وأنه إذا كان طه حسين قد تطاول عليه يوما فإنه فى أعماقه يرى فيه رأيا آخر. ومظاهر تأثر أسلوب الدكتور طه بالقرآن متعددة: فقد يتمثل ذلك فى استعماله لفظا قرآنيا نستعمل نحن الآن بوجه عام لفظا آخر غيره، وقد يتمثل ذلك فى لجوئه إلى صيغة صرفية وترك صيغة أخرى أكثر شيوعا لا لشىء سوى أن الأولى هى الصيغة التى وردت فى القرآن. وقد يتمثل ذلك فى اقتباسه عبارة قرآنية، وإن كان الدكتور فى العادة يحدث فيها بعض التحويرات أو يوردها فى سياق يختلف عن سياقها القرآنى بحيث لا يلتفت الذهن إلى قرآنيتها رغم وضوحها. وقد يتمثل التأثر فى استخدامه تركيبا قرآنيا لم يعد أحد يستعمله إلا الأقلون إن وُجِدوا. والمهم أن الدكتور فى كل هذا يفعل ذلك بثقة وبساطة وكأنه يتنفس حتى إننا لا نجد فى الأمر أية غرابة إلا إذا وقفنا ودقَّقْنا النظر.
(1/326)
والآن مع هذه الشواهد التى يقتبس فيها الدكتور طه، على طريقته، بعض عبارات القرآن الكريم، وكلّها من "المعذبون فى الأرض": "والصبى على ذلك كله باسطٌ يدَه إلى رفيقه بهذه الطاقة الساذجة الخشنة من زهر الحقول" (ص 17). وهى مأخوذة من قوله تعالى فى الآية 14 من سورة "الرعد": "كباسطِ كَفَّيْه إلى الماء ليبلغ فاه". ويستطيع القارئ أن يدرك بسهولة ما يميز بين الاستعمالين: فـ"الكفّان" فى القرآن تحولتا إلى "اليد" عنده، كما أن الإضافة هناك بين "باسط" و"كفّيْه" قد فُكَّتْ هنا، فضلا عن اختلاف السياق هنا وهناك كما هو ظاهر، إذ هنا "رفيق"، وهناك "ماء". ومن الشواهد أيضا على هذه السمة قوله: "فلم يكن بُدٌّ إذن من تفقّد هذه الأختام...وعقاب الصبى أو الفتى إذا مُحِيَت آية الختم عن فخذه قبل الأوان" (ص 29)، الذى يتعلق أشد التعلق بقوله سبحانه: "فمَحَوْنا آية الليل وجعلنا آية النهار مُبْصِرة" (الإسراء/ 12) رغم اختلاف السياق والجو والموضوع والتركيب، هذا الاختلاف الذى يدل على أن تأثر طه حسين بأسلوب القرآن هو من العمق بحيث يتسلل حتى إلى المناطق التى لا يُتَّوَقَّع ظهوره فيها. ومن هذه الشواهد أيضا قول كاتبنا: "ولكن الأتراب والرفاق أعرضوا عن صالح وأمين واتخذوهما عَدُوًّا" (ص 30)، وهو يجرى فى أثر قوه جل جلاله مخاطبا البشر يحذرهم من إبليس: "إن الشيطان لكم عدو، فاتخذوه عَدُوًّا" (فاطر/ 6). ومنها كذلك قوله: "وجعلوا يكيدون لهما ويمكرون بهما" (ص 30)، فهو من قوله سبحانه: "كذلك كِدْنا ليوسف" (يوسف/ 76)، أما غير طه حسين فيقولون: "يتآمرون عليهما". ومن هذا الوادى قول المؤلف: "الذين يسوقون الأحاديث لا يقدّمون بين يديها هذه المقدمات" (ص 35)، فهو يراعى قوله عزَّت قدرته: "يا أيها الذين آمنوا، لا تقدِّموا بين يَدَىِ الله ورسوله" (الحجرات/ 1) رغم ما بين الأصل والفرع من اختلاف فى المجال وفى بناء الكلام. ومن هذا الوادى أيضا قوله:(1/327)
"ولكنى أعلم أن أبا أمين راح إلى أهله حين تقدم الليل" (ص 41)، فهو يردد صدى قوله تعالى عن إبراهيم عليه السلام: "فراغَ إلى أهله فجاء بعجلٍ سمين" (الذاريات/ 26)، والفرق لا يزيد عن تبديل "غين" الفعل فى الجملة القرآنية إلى "حاء"، ومع ذلك فمن ذا الذى يستطيع أن يتنبه إلى هذا التأثير القرآنى فى جملة طه حسين بسهولة؟ ومنه قول الكاتب: "فاحْفَظْ هذه الآية من القرآن وردِّدْها فى قلبك أو فى لسانك، فإنها تُؤْمِنك من خوف، وتُؤْنِسك من وحشة" (ص 43)، الذى يضع نصب عينيه قوله سبحانه فى الآية الرابعة من سورة "قريش": "فَلْيَعْبُدوا رَبّ هذا البيت* الذى أَطْعَمَهم من جوعٍ، وآمَنَهم من خوف" رغم اختلاف السياقين معنًى وتركيبًا وترتيبا. كما أنه فى قوله: "إن حكمة الله بالغة، فقد ضحكتما منى، وأضحكتمانى منكما" (ص 49) يحذو حذو الآية الكريمة التى تتحدث عن قو نوح وما أرسل الله عليهم من العذاب فتقول: "ولقد جاءهم من الأنباء ما فيه مُزْدَجَر* حكمةٌ بالغةٌ فما تُغْنِى النُّذُر" (القمر/ 4- 5). وبالمناسبة فالعبارتان كلتاهما تتحدث عن حكمة الله، بيد أن عبارة القرآن لا تسندها إلى الله صراحة كما فى عبارة طه حسين، كما أن التركيبين مختلفان مثلما هو واضح لا يحتاج لشرح، وهذان هما السبب فى أن ملاحظة التشابه بين العبارتين لا تتأتى من أول وهلة. وهناك أيضا قوله: "اشتهى جمالها وطمع فى محاسنها وابتغى إليها الوسائل" (ص 58)، وهو ترديد لقوله عز سلطانه: "يا أيها الذين آمنوا، اتَّقُوا الله وابتغُوا إليه الوسيلة وجاهِدوا فى سبيله" (المائدة/ 35). أما قول طه حسين: "فأقبل يسعى" فوجه التأثر فيه بالقرآن ليس مباشرا، إذ العبارة القرآنية هى: "ثم أدبر يسعى" (النازعات/ 22)، ووجه التشابه شديد الوضوح رغم أن بين الفعلين طِباقا لا تطابقا. كذلك فقوله: "هيهات! هيهات! إنما ذلك تعليل للنفس بالأمانى الباطلة" (ص 192) هو تقليد لقوله عز وجل فى الآية 36(1/328)
من سورة "المؤمنون" على لسان الكافرين الذين ينكرون يوم القيامة: "هيهات هيهات لما توعَدون". وبالمثل فقوله: "وما من شك أن الشمس قد أشرقت بعد ذلك بنور بربها" (ص 63)، وكذلك قوله: "ويُسْفِر الصبح شاحبا كئيبا، وتشرق الشمس بنور ربها" (ص 149) مأخوذان من قوله عز شأنه: "وأشرقت الأرض بنور ربها ووُضِع الكتاب" (الزمر/ 69)، مع ملاحظة أنه قد أدخل فى العبارة بعض التحويرات، فـ"الشروق" فى القرآن هو شروق يوم القيامة لا الشروق الدنيوى الذى نعرف. كما أن شروق" القرآن هو شروق الأرض، أما "الشروق" عند طه حسين فهو شروق الشمس، فضلا عن أن الجِرْم المشرق فى عبارة المؤلف الأولى قد أتى اسما لـ"أن"، على حين أنه فى القرآن فاعل، وأن الفعل فى عبارة د. طه الثانية هو فعل مضارع، بينما هو فى الشاهد القرآنى فعل ماضٍ. وقد كرر الدكتور طه العبارة بعد ذلك بقليل، ولكن مع مزيد من التحوير، إذ قال: "تطلع الشمس مشرقةً عليهن كل يوم بنور ربها" (ص 64). أما فى العبارة التالية فالأمر يحتاج إلى مزيد من التنبه كى نستطيع اقتناص وجه التأثر. يقول الكاتب عن "محبوبة" إنها كانت تدور فى بيوت القرية تساعد النساء فى صنع الخبز، ثم تعود منتصف النهار إلى بيتها الوضبع الحقير حسبما وصفه، "وقد حملتْ طائفةً من هذا الخبز تضيفها إلى طائفة" (ص 69)، ولا يفد على الخاطر بسهولة أن هذه العبارة متأثرة بقوله تعالى عن المسيح عليه السلام واستجابة قومه لدعوته ما بين مؤمن به وكافر: "فآمنتْ طائفةٌ من بنى إسرائيل، وكفرتْ طائفة" (الصف/ 14). ذلك أن التركيبين متباعدان، فضلا عن الاختلاف التام بين السياقين هنا وهناك، إذ أين الخبز من الدعوة إلى دين الله؟ وأين الحواريون والكافرون الغلاظ القلوب والرقاب من بنى إسرائيل من ألوان الخبز المختلفة؟ لكن هذه الصعوبة لا نجدها فى المثال التالى حيث يقول الكاتب: "لقد رَأَيْنَ الفتاةَ تُزَفّ إلى زوجها شاحبة الوجه ممتقعة اللون زائغة(1/329)
البصر لا تمسك نفسها إلا بمشقة وجهد كأنما كانت تُسَاق إلى الموت وهى تنظر إليه" (ص 78)، إذ إن الشُّقَّة بين هذه العبارة وبين قوله جَلَّ من قائل عن فريق من المؤمنين إبان غزوة بدر كانوا لا يريدون الحرب: "يجادلونك فى الحق بعدما تبيَّن كأنما يُسَاقون إلى الموت وهم ينظرون" (الأنفال/ 6) غير واسعة، فكل الخلاف لا يزيد عن أن الفعل هنا مسند لجمع الرجال، بينما هو هناك للمفردة المؤنثة، وأنه هنا مضارعٌ خالص المضارعة على حين أنه هناك ماض مستمر، أى مضارع مسبوق بـ"كان"، وأن المضارع الثانى فى عبارة طه حسين (وهو الفعل "تنظر") قد أُلْحِق به جار ومجرور، فى الوقت الذى عَرِىَ نظيره منهما فى العبارة القرآنية. وكلها، كما ترى، أشياء شكلية. وفى قول كاتبنا: "ما خَطْبها؟وما مصدر هذه الكآبة التى تغمر نفسها، وهذه الدموع التى تغمر وجهها؟" (ص 77)، "ما خَطْبه؟ وما خَطْب أمه؟" (ص 101)، "وخَطَرَ لى أن أسأل عن العفريت: ما خَطْبه؟ وكيف يكون؟" (ص 117) احتذاء بقوله تعالى على لسان العزيز يخاطب نسوة المدينة اللاتى راوَدْنَ يوسف عن نفسه: "قال: ما خَطْبُكُنَّّ إذ راوَدْتُنَّّ يوسُفَ عن نفسه؟" (يوسف/ 51) وقوله سبحانه على لسان موسى للفتاتين اللتين كانتا لا تستطيعان أن تسقيا مواشيهما بسبب الزحام على الماء: "قال: ما خَطْبُكما؟" (القَصَص/ 23). ومنه أيضا قول كاتبنا: "أصحاب اليمين" و"أصحاب الشمال" بدلا من مصطلحَىْ: "اليمينيين واليساريين" (ص 89)، وهو بهذا يستخدم مصطلحين قرآنيين معروفين، لكن فى معنى غير المعنى الذى يستخدمهما القرآن فيه، إذ هما فى كتاب الله يعنيان "أهل الجنة" و"أهل النار"، أما هنا فالدكتور طه يقصد بهما "الرأسماليين" و"الاشتراكيين". وهذا هو التحوير الذى أدخله مؤلفنا على استعمال هاتين الكلمتين والذى يجعل التنبه إلى أنهما مأخوذتان من القرآن المجيد بطيئا وضعيفا. ومنه كذلك قوله: "ليستْ منهم وليسوا منها فى كل شىء"(1/330)
(ص 95)، الذى يسير على خُطَى قوله عز من قائل: "إن الذى فرَّقوا دينَهم وكانوا شِيَعًا لستَ منهم فى شىء. إنما أمرهم إلى الله" (الأنعام/ 159)، وإن كان قد زاد كلمة "كلّ" قبل "شىء"، مع اختلاف ضمير الفاعل وتكرير الفعل "ليس" مرتين، مما تسبب فى ألا ينتبه الذهن بسهولة لهذا الاحتذاء بأسلوب القرآن. ومن التأثر بالأسلوب القرآنى أيضا قول الكاتب: "وظهرت سعادتهما وقحةً مسرفةً فى القِحَة لا تتحفظ ولا تحتشم ولا ترجو لشىءٍ وقارا" (ص 113)، وهو ما يذكرنا بقوله تعالى على لسان نوحٍ لمشركى قومه: "ما لكم لا ترجون لله وقارا؟" (نوح/ 13). ومن ذلك قول مؤلفنا: "هذا الرجل يداعب امرأته الشابة ويلاعبها راضيا مغتبطا مسرورا ولم يمض على دفن أمنا إلا يوم وبعض اليوم" (ص 115)، وهو قريب جدا من قوله سبحانه: "قال: لبثتُ يومًا أو بعضَ يوم" (البقرة/ 259)، "قالوا: لبثنا يوما أو بعض يوم " (الكهف/19، والمؤمنون/ 113) رغم التحويرات التى نالته. ولست أستطيع أن أتذكر أنى قابلت هذا التعبير عند أحد فى العصر الحديث غير طه حسين. كذلك لا أستطيع أن أذكر أنى وجدت كاتبا غير طه حسين يستخدم التعبير القرآنى: " أدنى الأرض" فى قوله جل جلاله: "غُلِبَت الروم فى أدنى الأرض" (الروم/ 2)، أى فى أقرب البلاد إلى جزيرة العرب، كما فى قوله: "وهاجرت أُسَرٌ أخرى إلى أدنى الأرض" (ص 116)، مع التحوير المتمثل فى تبديل الحرف "إلى" بالحرف "فى". ومثله قوله: "ويهمّ أن يراجعنى،...ولكنى أُعْرِض عنه بوجهى، وأنأى عنه بجانبى" (ص 124)، الذى استلهمه طه حسين من قوله عز شأنه: "وإذا أنعمنا على الإنسان أعرضَ ونأى بجانبه" (الإسراء/)، مع بعض التحويرات التى تتمثل فى تحويل الماضى إلى مضارع، وإدخال شِبْهَىْ جملةٍ على الفعل "أعرض" بعد أن كان فى النص القرآنى غير محدد بشىء معين. ومنه قوله: "فلم ينشئه فى التجارة ليخلفه فى الحانوت" (ص 127)، الذى ينظر إلى قوله عزَّت قدرته عن(1/331)
النساء اللاتى كان العرب ينظرون إليهن على أن خِلْفَتهمن عارٌ، وأىُّ عار: "أوَمَنْ يُنَشَّأُ فى الحلية، وهو فى الخصام غير مبين؟" (الزخرف/ 18). وهذا أيضا مما لم أتنبه إلى أن أحدا غير طه حسين يفعله. ومنه قوله: "ويتركون آباءهم وأمهاتهم وأخواتهم يَشْقَوْن بالنقص فى الأموال والثمرات، بل يَشْقَوْن بالبؤس والجوع والحرمان" (ص 131) المتأثر بكل قوة بقوله تعالى: "ولنبلُوَنَّكم بشىء من الخوف والجوع ونقصٍ من الأموال والأنفس والثمرات" (البقرة/ 155)، رغم التحويرات المتعددة التى أصابته. ومنه قوله: "ثم لا يكاد الصبح يتنفس حتى يراه فى الطريق العامة غاديا على عمله" (ص 132)، الذى يدور فى فلك قوله جل شأنه: "والصبح إذا تنفَّس" (التكوير/ 18). ومنه قوله: "وقد صَبَرَتْ حنينةُ نفسَها عن هذا المكروه فلم تتحدث فيه إلى ابنتها" (ص 140)، وهو مأخوذ من قوله سبحانه: "واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغَداة والعَشِىّ يريدون وجهه" (الكهف/ 28) مع شىء من التحوير تمثل فى استبدال حرف الجر "عن" بالظرف "مع". ومنه قوله: "بعد أن تقطعت الأسباب بينه وبين هذا الحب" (ص 142)، الذى ورد فى القرآن، لكن على نحو مختلف فى التفاصيل بعض الشىء: "وتقطّعتْ بهم الأسباب" (البقرة/ 166). ومنه قوله: "وحِيلَ بين مرجانة وبين الرضا عن ابنها والإعجاب به" (ص 144)، "فقد حِيلَ بينهما وبين اللقاء" (ص 147- 148) مما يكاد يتطابق وقوله عز من قائل عن المشركين يوم القيامة: "وحِيلَ بينهم وبين ما يشتهون" (سبأ/ 54). ومن ذلك الوادى أيضا قول المؤلف: "وإنما أسبغ الله نعمته ليستمتع بها الناس جميعا" (ص 158)، فهو مأخوذ من قوله تعالى: "وأَسْبَغَ عليكم نِعَمَه ظاهرةً وباطنة" (لقمان/ 20). أما فى قوله: "يجهلون ما حولهم من البؤس والضنك والضيق والموت: يضعون أصابعهم فى آذانهم حتى لا يسمعوا، ويجعلون على أبصارهم غشاوة حتى لا يَرَوْا، ويجعلون على قلوبهم أَكِنَّةً(1/332)
وأقفالاً حتى لا يصل إليهم ما يثير فيها شيئا من تضامن أو تعاطف أو رحمة أو إشفاق" (ص 176) فإن التحوير معقّد بعض الشىء، إذ قد مزج الكاتب فى كلامه بين عدة عبارات من آيات متباعدة، وهى: "يجعلون أصابعهم فى آذانهم من الصواعق حَذَرَ الموت" (البقرة/ 19)، "ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم، وعلى أبصارهم غشاوة" (البقرة/ 7)، "وقالوا: قلوبنا فى أكنَّة مما تدعونا إليه" (فصلت/ 5)، " أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوبٍ أقفالُها؟" (محمد/ 24)، علاوة على تغير السياق وإدخال العبارات والألفاظ القرآنية فى جمل ذات تراكيب مختلفة. وبالمثل نجد د. طه فى قوله: "نرى الشقاءَ يُصَبّ عليه صَبًّا" (ص 184) قد مزج فى استلهامه للقرآن الكريم بين قول الحق جل وعلا عن صب الماء من السماء لرىّ الأرض آخذا منه تركيب الكلام: "فلْينظر الإنسان إلى طعامه* أنّا صببنا الماءَ صبًّا* ثم شققنا الأرض شقًّا* فأنبتنا فيها حَبًّا* وعنبًا وقَضْبًا*..." (عبس/ 24- 28) وبين قوله سبحانه أيضا فى الكلام عن تعذيب الكفار فى الدنيا، آخذا منه استخدام "الصبّ" فى العقاب: "فصبَّ عليهم ربُّك سَوْطَ عذاب" (الفجر/ 13). وأخيرا نسوق من الشواهد على هذه السمة فى أسلوب كاتبنا قوله: "ثم ننظر إليه فنجده من أجل ذلك خائفا يترقب" (ص 185)، وهو ما يُخْطِر على البال قوله تعالى فى وصف موسى حين قتل مصريا دون قصد وفى فورة من فورات الاندفاع انتصارا لما رأى أنه الحق ثم فر من مصر كلها خوفا مما كان فرعون وملؤه يدبرونه للإيقاع به: "فخرج منها خائفا يترقب" (القَصَص/ 21)، وكذلك قوله: "ولكن العيد أخلفهم موعده" (ص 191)، وأصله قوله عز وجل على لسان بنى إسرائيل لموسى حين عاد من لقائه بربه فوق الجبل فوجدهم قد عبدوا العجل: "قالوا: ما أَخْلَفْنا موعدك بمَلْكِنا" (طه/ 87).
(1/333)
ومن استلهام طه حسين القرآن فى أسلوبه استخدامه للصيغ الصرفية القرآنية التى لا نستخدمها الآن، وربما لم تكن تستخدم فى العصور القديمة على نطاق واسع، مثل كلمة "ضيف" فى كثير من الأحيان بدلا من "ضيوف" كقوله: "وقد كثرت على هذه الصينية الأطباق فيها من كل أصناف الطعام التى قُدِّمَتْ للضيف" (ص 19. وقد تكررت هذه الكلمة عدة مرات فى الكتاب/ ص 14، 15، 16، 17، 18، 20)، ولم ترد فى القرآن إلا بصيغة المفرد رغم أنها لم تستخدم فيه إلا لجماعة الضيوف لا للضيف الواحد مثل: "فاتقوا الله ولا تُخْزون فى ضيفى"، أى ضيوفى (يونس/ 78)، "هل أتاك حديث ضيف إبراهيم المُكْرَمين...؟" (الذاريات/ 24). ومثلها استخدامه كلمة "عَدُوّ" بصيغة الإفراد أيضا للمثنى والجمع كما فى هذه الجملة: " ولكن الأتراب والرفاق أعرضوا عن صالح وأمين واتخذوهما عَدُوًّا" (ص 30)، وفى القرآن نقرأ قول الحق تبارك وتعالى عن الأوثان على لسان سيدنا إبراهيم: "فإنهم عدوٌّ لى إلا رب العالمين" (الشعراء/ 77)، وقوله سبحانه موجها الخطاب للمؤمنين: "يا أيها الذين آمنوا، لا تتخذوا عدوّى وعدوَّكم أولياء تُلْقون إليهم بالمودّة" (الممتحنة/ 1)، وقوله عن موسى عليه السلام حين استغاثه الإسرائيلى على المصرى: "فاستغاثه الذى من شيعته على الذى من عدوه" (القَصَص/ 15)، أى من أعدائه. ومن ذلك كلمة "تساقط" فى قوله: "فإذا امرأة تساقط دموعها غِزَارا" (ص 61)، وهى موجودة فى القرآن فى الآية 25 من سورة "مريم": "وهُزِّى إليك بجذع النخلة تساقط عليك رُطَبًا جَنِيًّا". وأرجو أن تتنبه إلى أن الفعل فى الحالتين مسند إلى المفردة المؤنثة مما يقرب بين الشاهدين ويؤكد أن يكون طه حسين قد تأثر بالقرآن هنا لا بغيره. ولا شك أن الأمر فى عبارة "مسَّهم الضُّرّ قبل الوباء" (ص 82) لا يحتاج إلى شىء من الجهد كى يتنبه الذهن إلى أنها تنظر من قريب جدا إلى قوله تعالى: "قالوا: يا أيها العزيز، مسَّنا(1/334)
وأهلَنا الضُّرّ" (يوسف/ 88). ومنه أيضا قوله: "ويحمّلنا هموما ثقالا" (ص 86) بدلا من "هموما ثقيلة" كما هو المعتاد فى وصف جمع غير العاقل سواء كان ماديا أو معنويا أو فى الإخبار عنه. وفى القرآن: "حتى إذا أَقَلَّتْ سحابا ثقالا سُقْناه لبلدٍ ميت" (الأعراف/ 57)، ولاحظ كيف أن العبارتين كلتيهما تتحدثان عن "حمل" شىء ثقيل. وهناك أيضا: "السحاب الثقال" (الرعد/ 12)، ولكن الآية الأولى أقرب كثيرا لعبارة الكاتب كما لا يخفى. ومن هذا الضرب قول المؤلف فى وصف فتاة: "وكانت على ذلك ماكرة حديدة اللسان" (ص 111) بدلا من "حادة اللسان"، وذلك متابعة لقول القرآن فى وصف البصر يوم القيامة بالحدّة مستخدما صيغة "فعيل" لا صيغة اسم الفاعل: "حادّ": "فبَصَرُك اليوم حديد" (ق/ 22). "ويجرى هذا المجرى قوله: "حُجُبًا صِفَاقًا وأستارًا كِثَافا" (ص 142)، وأشهد أنى لم أر كاتبا يقول: "كِثافا، وصِفاقا" بصيغة الجمع، إنما رأيت من يقول: "صفيقة، وكثيفة").ومن ذلك قوله: "لنُنْفِقْ سائر الليل معا" (ص 119)، الذى يُحْضِر فى الأذن والعقل معا قوله تعالى جَدُّه: "لِيُنْفِقْ ذو سَعَةٍ من سَعَتِه" (الطلاق/ 7). كذلك يذكرنا قول المؤلف: "وما لهم لا يُهْرَعون إليه، وهم كانوا يشعرون بحبه لهم وعطفه عليهم؟" (ص 159) بقول الحق سبحانه: "وجاءه قومه يُهْرَعون إليه، ومِنْ قَبْلُ كانوا يعملون السيئات" (هود/ 78) حيث تتطابق عبارتا "يُهْرَعون إليه" أولا، وتعقبهما "واو الحال" هنا وهناك ثانيا، ثم يأتى بعد هذه الواو الفعلُ "كانوا" تتبعه جملة خبرية فعلية فعلها مضارع.
(1/335)
ومن ذلك أيضا إكثار مؤلفنا من استعمال الفعل: "أُنْسِيت"، ببناء الفعل المزيد بهمزة للمجهول، بدلا من الفعل المجرد المبنى للمعلوم: "نسيت" كما فى الجمل التالية: "وأُنْسِىَ الصبى بهذا كله صلاةَ الشيخ والضيف والنبأ الذى كان يجب أن يحمله إلى أمه" (ص 18)، "وكان قد أُنْسِىَ قصة صالح، ولم يذكر إلا أنه سيعود معه آخر النهار إلى الدار" (ص 27)، "أريدُ أسرةً مصريةً بائسةً كنتُ أُنسِيتُ أمرها" (ص 80)، "شُغِلْتُ عن الجنين وعن أمه البلهاء، وأُنْسِيتُ أم تمام وابنيها" (ص 101)، وذلك تأثرا بقول القرآن على لسان ساقى الملك فى الآية 63 من سورة "الكهف": "وما أنسانيه إلا الشيطان أن أَذْكُره" بدلا من "وقد نَسِيتُ أن أذكره"، وقول الحق تبارك وتعالى عن الكافرين: "استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله"، بدلا من "فنَسُوا ذكر الله" (المجادلة/ 19). وهناك شاهدان آخران على الاستعمال القرآنى لهذا الفعل (يوسف/ 42، والحشر/ 19). وقد وقف د. البدراوى زهران عند هذا الاستعمال الطّاهَوِىّ وردَّه إلى ميل صاحبه بوجه عام، نظرا لظروفه الخاصة التى تجعله قادرا بغيره، إلى استخدام الأفعال المبنية للمجهول بما تدل عليه من أنه لا يقوم بفعل الشىء عادة، بل يعتمد فى فعله على غيره، وأن دوره فى الغالب دور سلبى لا فاعل. بيد أنى، وإن كنت لا أريد أن أعترض على هذا التعليل فيما يخص صيغة المبنى للمجهول لدى الدكتور طه بوجه عام، أوثر أن أركز النظر فيما يخص الفعل "أنسى" على التأثير القرآنى على طه حسين وأسلوبه. وقد رأينا أن مسألة تأثره بلغة القرآن لا تقف عند هذه الصيغة من الفعل "نَسِىَ"، بل تمتد إلى أشياء أخرى كثيرة متنوعة. صحيح أن القرآن يستعمل الفعل المجرد أكثر، لكن طه حسين يستعمل أيضا الفعل "نسى" كثيرا، ومع ذلك فإن مجرد استعماله للفعل "أنسى" يومئ إلى إعجابه بلغة القرآن وحبه لاستلهامها. علاوة على أن صيغة المبنى للمجهول من هذا الفعل لا تساعد(1/336)
على الاختصار، وهو السبب الذى يعلل به الأستاذ الدكتور انتشار هذه الصيغة فى كتابات الدكتور طه، بل تزيد حروف الفعل حرفًا هو حرف الهمزة. كما أن صيغة المبنى للمجهول تُعْفِيه من نسبة النسيان الذى يصيبه أو يصيب من يتحدث عنهم إلى الشيطان حسبما ورد فى ثلاث حالات من الحالات الأربع التى وردت فى القرآن. وحتى فى الحالة الرابعة التى أُسْنِد فيها "الإنساء" إلى الله سبحانه فى قوله تعالى فى سورة "الحشر": "ولا تكونوا كالذين نَسُوا الله فأنساهم أنفسهم"، فإن السياق هو سياق الذم لمن وقع عليهم هذا الفعل. ومن هنا فإننى أرى أن طه حسين، حين نبذ صيغة المبنى للمعلوم إلى المبنى للمجهول، قد أراد أن يتجنب هذه الإيحاءات، فجعل الفاعل مجهولا كى ينصرف الذهن فى هذه الحالة إلى الظروف الإنسانية المختلفة لا إلى الشيطان أو إلى رب العزة بما يحصر المعنى فى دائرة العيب والإدانة. أى أن طه حسين قد أراد عامدا متعمدا، على العكس مما رأى د. زهران، تجنُّب نسبة الفعل إلى نفسه أو أبطاله حتى يبعد بهم عن مجال تأثير الشيطان أو سخط الله (انظر، فى رأى د. البدراوى زهران فى هذا الموضوع، كتابه "أسلوب طه حسين فى ضوء الدرس اللغوى الحديث"/ دار المعارف/ 1982م/ 81- 84).
(1/337)
ومن مظاهر تأثر طه حسين بالقرآن فى أسلوبه استخدامه بعض الكلمات فى سياقاتٍ أو معانٍ لا نستخدمها فيها الآن إلا على ندرة: فمثلا من منا يستخدم الآن كلمة "هنالك" لظرف الزمان؟ إننا إذا استعملناها فإنما نستعملها عادة لظرف المكان لا الزمان. أما طه حسين فى الجمل التالية فيجرى على طريقة القرآن: "هنالك وَجَمَتْ أم الصبى شيئا" (ص 14)، "هنالك كانت أمّونة تخرج متباطئة فتُلِمّ بهذه الدار أو تلك" (ص 46)، "هنالك استأنف العُودُ تمزيقَه لجسم الفتاة" (ص 55)، "هنالك ينهض عمر للقاء هذه الأزمة العنيفة الجائحة" (ص 159)، "هنالك يكتب عمر إلى عماله فى الأقاليم" (ص 161)، "هنالك لم نرفع الأكتاف ولم نهزّ الرؤوس" (ص 184)، أى عندئذ" أو "فى تلك الأثناء". وهذا كقوله تعالى عن زكريا حين جاءته الملائكة وهو قائم يصلى فى المحراب بأن الله يبشره بابنٍ عفيفٍ سيدٍ شريف: "هنالك دعا زكريا ربه، قال: رَبِّ، هَبْ لى من لدنك ذرية طيبة" (آل عمران/ 83) وقوله واصفًا الظروف الحرجة التى أحاطت بالمسلمين أثناء غزوة الأحزاب: "هنالك ابْتُلِىَ المؤمنون وزُْلْزِلوا زلزالا شديدا" (الأحزاب/ 11). ومنها أيضا استعماله كلمة "اتخذ" بمعنى "استعمل" أو "لجأ إلى" أو "لبس" أو "جعل لنفسه"...إلخ كما فى قوله: "فرأت ابنها وبنتها قد اتخذا ثوبين باليين كذلك الثوب القديم" (ص 39) بدلا من "لبسا"، وقوله: "فاتخذ هذه المرأةَ له زوجا واستقر فى حياة مطمئنة" (ص 57) بدلا من "تزوج هذه المرأة"، وقوله: "وكادت تتخذها لنفسها صديقا" (ص 74) بدلا من "صادقتها"، "يتخذون من قصصهم أغشية لهذه المواعظ والعِبَر" (ص 88) بدلا من "يجعلون"، وقوله: "وقد اتخذت فى إحدى يديها حقيبة صغيرة" (ص 114)، أى أمسكت أو حملت، وقوله: "قد اتخذ له حانوتا يبعد عن داره بعض البعد يبيع فيه سِقْط المتاع من هذا الخرز الملون الذى يتخذ النساء منه أساور أو دوائر مفرغة يدخلن فيها سواعدهن" (ص 126)، أى(1/338)
يصنعن. وهذا كقوله سبحانه: "أتتخذونه وذريته أولياء من دونى، وهم لكم عدوّ؟" (الكهف/ 50)، "وقالوا: اتَّخَذ الرحمنُ وَلَدًا" (مريم/ 88)، "أم اتخذ مما يخلق بناتٍ وأصفاكم بالبنين؟" (الزخرف/ 16). ومن ذلك اللون من التأثر بأسلوب القرآن قول كاتبنا: "هنالك وَجَمَتْ أم الصبى شيئا" (ص 14)، "وَجَمَتْ أمّونة شيئا" (ص 55)، بدلا من "وَجَمَتْ أمّونة بعض الوجوم"، وهو مثل قوله تعالى: "إنهم لن يُغْنُوا عنك من الله شيئا" (الجاثية/ 19). أى أن الدكتور طه استعمل نائب المفعول المطلق بدلا من المفعول المطلق نفسه، وهو كما يرى القارئ استعمال تفوح منه عراقة القديم الجزل الأصيل. ومنه استخدامه الحرف "قد" مع المضارع فى معنى التحقيق، وهو المعنى الذى نستخدمه فيه الآن مع الفعل الماضى فقط، بخلاف ما لو جاء مع المضارع، فإنه فى هذه الحالة يدل على الشك أو الظن لا أكثر. يقول طه حسين: "فقد يجب لتستقيم القصة أن يُحَدَّد الزمان والمكان" (ص 22)، "كانت سيرة أم تمام وبنيها تمنع جيرانها من أن يعرفوا شيئا من أمرها، فقد كانوا يعتزلون الناس اعتزالا غير مألوف. ولكن أوان الحديث عن هذا الاعتزال لم يئن بعد، فقد ينبغى أن نعرف قبل ذلك أم تمام هذه" (ص 92). وقد تكرر هذا الحرف فى القرآن بهذا المعنى عدة مرات: "قد نعلم إنه لَيَحْزُنك الذى يقولون" (الأنعام/ 33)، "ألا إن لله ما فى السماوات والأرض. قد يعلم ما أنتم عليه" (النور/ 64)، "قد يَعْلَم اللهُ المُعَوِّقين منكم والقائلين لإخوانهم: "هَلُمَّ إلينا"، ولا يأتون البأس إلا قليلا" (الأحزاب/ 18). وكل الشواهد، كما ترى، تدور على تأكيد علم الله. ومن ذلك استعماله حرف الجر "على" مع الفعل: "غدا يغدو" بدلا من "إلى" التى نستعملها عادة فى هذا السياق، فهو يقول: "لن تغدو على الكتّاب إذا كان الصبح" (ص41)، "ثم لا يكاد الصبح يتنفس حتى يراه فى الطريق العامة غاديا على عمله" (ص 132) متابعة للعبارة(1/339)
القرآنية: "وغَدَوْا على حَرْدٍ قادرين" (القلم/ 25). ومنه قوله: "قد اكتسب ثروةً مكانَ ثروة، وكَنَزَ مالاً مكانَ مال" (ص 166)، الذى بناه على غرار قوله جَلَّ مِنْ قائل: "بدّلنا آيةً مكانَ آية" (النحل/ 101).
(1/340)
ولا يقف التأثر الطاهوى بالقرآن عند هذا الحد، بل يمتد إلى التأثر بتراكيبه: ومن ذلك قوله: "وهم يريدون أن أذكرهم أنا...، وإن كانت حياتهم تلك الأولى لأهون من أن يفكر فيها أصحابها" (ص 124)، وهو ما نجد أصله فى القرآن فى كثير من الايات مثل:"وإن كانوا من قَبْلُ لَفِى ضلالٍ مُبِين" (آل عمران/ 164)، "وإن كان أصحاب الأيكة لَظالمين" (الحِجْر/ 78)، ومنه كذلك: "ليس هو نائما، وليس بيقظان، وإنما هو شىء بين ذلك" (ص 62)، "يتيح له أن يكفل لأهله حياة إن لم تكن رخية كل الرخاء فلم تكن ضيقة كل الضيق، وإنما كانت شيئا بين ذلك" (ص 126)، حيث نرى المؤلف يستخدم "بين ذلك" بدلا من "بين هذا وذاك"، التى نستعملها نحن الآن جريا على أن "البينية" تستلزم وجود طرفين هما "هذا" و"ذاك"، أما "بين ذلك" فتبدو وكأنها قد اكتفت من البينية بطرف واحد دون الآخر. وهذا غير صحيح، فالعرب يعدون "ذلك" فى هذا التركيب بمثابة "هذا وذاك"، وهذا ما جرى عليه القرآن، وإن كنا لا نجد ذلك الاستعمال فى الأساليب الحديثة، وهو ما لفتنى بقوة إلى وجوده فى كتابات طه حسين وإلى تسجيله. ومن شواهد ذلك فى القرآن قول رب الجلال: "ويريدون أن يتخذوا بين ذلك (أى بين الله ورسله) سبيلا" (النساء/ 150)، "وكان بين ذلك (أى بين الإسراف والتقتير) قَوَاما". ومن التراكيب القرآنية أيضا فى أسلوب طه حسين: "ثم تثوب الشيخة إلى نفسها بعد أن شكَّت غير طويل" (ص 139)، "فكَّر غير طويل" (ص 181)، الذى يصطنع فيه التركيب الموجود فى قوله تعالى عن هدهد سليمان: "فمَكَث غير بعيد" (النمل/ 22). ومن ذلك أيضا قوله: "ولكن الله قد أراد بى خيرا" (ص 49)، وفيه تأثُّرٌ بقوله تعالى: "يريد الله بكم اليُسْر، ولا يريد بكم العُسْر" (البقرة/ 185)، قالت: ما جزاء من أراد بأهلك سوءا...؟" (يوسف/25)، " وأنّا لا ندرى: أشرٌّ أُريدَ بمن فى الأرض أم أراد بهم ربهم رَشَدا؟" (الجن/ 10)...إلخ. ووجه التركيب هنا(1/341)
أن حرف الجر المستعمل مع الفعل "أراد" هو "الباء" لا "اللام"، فنحن نقول عادة: "أراد فلان لى كذا وكذا"، أما "أراد بى كذا" فليس بالشائع. إنما هو استعمال قد تكرر فى القرآن، فقام طه حسين، بحسه اللغوى الرهيف وحرصه الشديد على توفير جو من الفخامة والجلال لأسلوبه، بالتقاط هذا الاستعمال ضمن ما التقط من درارى القرآن المجيد. ومن هذا نرى كيف أن أثر القرآن الكريم منتشر فى أسلوب الدكتور طه حسين انتشارا واسعا وقويا مختلِف الألوان ومندمجا فى معظم الأحيان فى تضاعيفه، فهو بهذه الطريقة أقرب إلى الخيوط الذهبية والفضية الداخلة فى نسيج الثوب منه إلى الحلية المنفصلة كمشبك الصدر مثلا الذى يوضع على الثوب فيزينه، لكنه يمكن أن يُنْزَع من موضعه بسهولة بالغة متى أردنا. والمعروف أن طه حسين قد حفظ القرآن الكريم فى صباه فى الكتاب، واشتغل عريفا صغيرا مع "سيِّدنا" يحفِّظ الصبيان الآخرين القرآن بدوره. كما أنه سلخ أعواما غير قليلة من شبابه فى الأزهر، والدراسة فى ذلك الجامع العريق تقوم أول ما تقوم على القرآن، سواء كان ذلك على نحو مباشر أو غير مباشر. زد على ذلك أنه، سواء فى قراءاته فى التراث أو فى محاضراته فى قسم اللغة العربية بكلية الآداب أو فى كتاباته، كان قريبا جدا من القرآن الكريم. وأهم من هذا كله أن الله سبحانه جَلَّتْ قدرته قد أسبغ على الرجل حافظة لاقطة أذكاها حرمانه من نور البصر واعتماده على سمع الأذن، كما وهبه ذوقا أدبيًّا رائقا بحيث لا يمكن أن يفلت من إسار هذا الكتاب الجميل الجليل العجيب حتى وإن كان يجرى فى بعض ما كتب على عكس ما يدعو إليه هذا الكتاب. وعلى أية حال فمن الملاحظ أن الإنسان لا يقتصر تأثره فقط على ما ينال موافقته ورضاه. ومعنى هذا أنه على الرغم مما تعرض له طه حسين فى الكتّاب من مواقف محرجة غاية الإحراج مع سيدنا وحِفْظ كتاب الله على ما حكى لنا هو نفسه فى رائعته "الأيام"، فمن الواضح أن القرآن(1/342)
كان له فى نفسه مكان راسخ عميق حسبما تقول لنا هذه الشواهد الكثيرة المتنوعة (وما هى إلا غَيْضٌ من فَيْضٍ) على قوة تأثره بأسلوب القرآن وعمق هذا التأثر.
(1/343)
وفى أسلوب طه حسين ألوان من الموسيقى: فكثيرا ما نجد عنده الموازنة: أحيانا مع السجع والجناس، وربما مع المطابقة أو الترادف أيضا، وأحيانا أخرى عارية عنها جميعا أو عن بعضها دون بعض. ثم إن هذه الموازنة قد تكون فى الجملتين كاملتين أو فى الجملة الواحدة كلها أو فى جزء فقط منها. ومن ذلك قوله: "إنك لطويل اللسان، كثير الكلام" (ص 14)، "فأنا أبعد الناس عن التحكم، وأزهدهم فى التجنى" (ص 23)، "أقل منهم غنًى، وأضيق منهم ثراءً" (ص 27)، "وانغمس فى القناة كأحسن ما تعود أن ينغمس، وعام فى القناة كأحسن ما تعود أن يعوم" (ص 33)، "وأقام فى الدار مُلْقًى فى زاوية من زواياها يُهْمَل فى ازدراءٍ، ويُمَرَّض فى عنف" (ص 40)، "فهذا البيت هو الذى أوثره على السوق وما يُعْرَض فيها من السلع، وما يدار فيها من التجارة" (ص 51)، "كأنما دفعها إلى الوثوب لولب فى الأرض، أو جذبها إلى الوقوف سبب فى السقف" (ص 54)، "وجعلت عيناه تبرقان، وشفتاه تنفرجان" (ص 61)، "لم يبق إذن إلا أن تسرق قتُدْخِل الشر على أهلها، وتزيد عيشهم ضيقًا إلى ضيق، وحياتهم شقاءً إلى شقاء" (ص 72)، "وأسرة خديجة تسمع أول الأمر ولا تصدّق، ثم تعرف بعد إنكار، وتقبل بعد تردد فيه كثير من الأمل الذى يُحْيِى النفوس، والخوف الذى يُمِيت القلوب. وما يمنع هذه الأسرةَ البائسةَ أن تجد فى الخِطْبة رَوْحًا من الله سيتيح لها رخاءً بعد شدة ، وسَعةً بعد ضيق؟" (ص 75)، "ثم آثَرْتُ آخر الأمر أن أُخَيِّر القارئ بين العنوانين، وأن أُهْدِىَ الحديث إلى الفريقين" (ص 83)، "وأنا أريد دائما أن أكون كاتبا ذا خطر، فأُرْضِى قرائى وأُسْخِطهم، وأَسُرّ قرائى وأسوءهم" (ص 83)، "وما الذى يَعْنِينى من أن يُتْرَف المترفون حتى يقتلهم الترف، ومن أن يشقى الأشقياء حتى يهلكهم الشقاء" (ص 84)، "وكان الرجل مرتفع القامة، مَهِيب الطلعة، ظاهر النعمة" (ص 103)، "فلْيغير ذات نفسه، ودخيلة ضميره" (ص 114)،(1/344)
"ولكنى أُعْرِض عنه بوجهى، وأنأى عنه بجانبى" (ص 124)، "لا يحتاج إلى كثير من ثقافة، ولا إلى إلحاح فى عمل، ولا إلى فضل من جهد، ولا إلى طويل من وقت" (ص 128)، "يرى فيها مزيدًا من رقىٍّ، وفضلاً من رخاء" (ص 139)، "ورَدَّ نفسَها إلى الإجداب بعد أن كادت تُخْصِب، وإلى الفقر بعد أن كادت تَغْنَى" (ص 143)، "وإنما هى حيلةٌ واسعة أولاً، وجراءة جريئةٌ ثانيا" (ص 145)، "ولكن الصبر لا يُطعِم العارىَ، ولا يكسو الجائع" (ص 152)، "فإن فعل فقد زكَّى نفسه تزكيةً، وطهَّر ماله تطهيرا" (ص 170).
كما أنه قد يجعل النعت صفة مشتقة من المنعوت، محدثا بذلك تجاوبا صوتيا بين اللفظين المتجاورين، وهو مما لا يجده القارئ عند غيره من الكتّاب إلا فى النَّدْرة الشديدة مثل: "البؤس البائس" (ص 86)، "جهدا جهيدا" (ص 93)، "فتنة فاتنة" (ص 112)، "جراءةٍ جريئة" (ص 145)، "عنفٍ عنيف" (ص 161)، "الرحمة الرحيمة" (ص 161)، "الهول الهائل" (ص 175). ويلحق بهذا العبارات التالية: "ثم أجد فى أقصى هذه الحارة الحقيرة حجرة حقيرة" (ص 51)، "نجمٌ من النجوم" (ص 65)، "صياح امرأةٍ تصيح، وبكاء امرأةٍ تبكى" (ص 71)، "كأنما دَفَعه دافع" (ص 105)، "كان لَعِبًا مُتْرَفًا فى حجرةٍ مُتْرَفة" (ص 110)، ديوان من الدواوين" (ص 128)، "فتًى كريم من أسرة كريمة" (ص 139)، "أَقْوَى قُوّةً" (ص 145)، "أَرَقَّ رِقّة" (ص 96)، "أَشَقّ المشقّة" (ص 96).
(1/345)
وكثيرا أيضا ما يتعاقب عنده لفظان (أو أكثر) متساجعان متجانسان أو يكادان، كما فى الشواهد التالية: "خفيفةً ظريفة" (ص 14)، "الصدور والظهور" (ص 27)، "الجزع والهلع" (ص 27)، "الضجيج والعجيج" (ص 31)، "فرِحًا مرِحا" (ص31، 33)، "الظهور والصدور" (ص 39)، "ضئيلاً نحيلا" (ص 43، 45)، "لم يخطر له قط أن للَّيْل جلالاً وأن للنهار جمالا" (ص 45)، "لم يكن يجِدُّ ولا يكِدّ" (ص 45)، "واجمةً ساهمة" (ص 55)، "جامدةٌ هامدة" (ص 61)، "جسمه الضئيل، وقلبه العليل الضئيل" (ص 61)، "رائعًا بارعًا" (ص 66)، "بلَفْظٍ أو لَحْظ" (ص 70)، "فَرِحاتٍ مَرِحات" (ص 79)، "لا يكون فيه عسر ولا يسر" (ص 83)، "لا أريد أن أُعَلِّم جاهلاً، ولا أريد أن أعظ غافلاً ولا أن أنبه ذاهلا" (ص 88)، "لم أخترعها، ولم أبتدعها" (ص 90)، "النحيل الضئيل" (ص 92)، "النحيلة الضئيلة" (ص 112)، "حُسْنٌ رائع، وجمالٌ بارع" (ص 112)، "يداعبها ويلاعبها" (ص 115)، "نعيمٍ وجحيم" (ص 115)، "أجهَلَ وأكسَل" (ص 133)، "رشيقًا أنيقا" (ص 136)، "ما كرٌ ماهر" (ص 134)، "لاعبين مداعبين" (ص 138)، "ساهيًا لاهيا" (ص 142)، "يُلْغُون الهمزة فيُلْقون فتحتها على اللام فيقولون:..." (ص 144)، "ليس بينه وبين صفاء جدارٌ ولا ستار، ولا حائلٌ رقيقٌ أو صفيق" (ص 145)، "الغافلة الذاهلة" (ص 148)، "يتشوَّفون ويتشوَّقون" (ص 149)، "لا يُغْنِى فيهم التحذيرُ ولا النذير" (ص 150). "يأخذ بحظه مما يصيبها من النعماء والضراء، وما ينوبها من السراء والضراء" (ص 157)، "قد هلك الزَّرْع، وجفَّ الضَّرْع" (ص 161)، "الساحقة الماحقة" (ص 192)،"وأُلْقِيه على نفسى حين أُمْسِى" (ص 192)، "التضامن والتعاون" (ص 192).
(1/346)
ومن مظاهر الموسيقى فى أسلوب طه حسين كثرة المفاعيل المطلقة المؤكدة لعاملها. وموسيقيتها ناتجة مما تحدثه مع عاملها من تجاوب صوتى يتمثل فى تكرير حروف الكلمة. فهذا التركيب التأكيدى يحدث جرسا موسيقيا، وهذه الموسيقى بدورها تؤكد المعنى... وهكذا. ومن الأمثلة على ذلك قوله: "يلقيه بين يدىْ أمينة إلقاءً" (ص 45)، "يكاد السقم يُفْنِيه إفناءً" (ص 45)، "فانكبّ نحو الأرض انكبابًا" (ص 53)، "لقد أُكْرِهت خديجة إكراهًا على الزواج" (ص 80)،"اقتطعتُها من نفسى اقتطاعًا" (ص 90)، "يختلس الوسائل اختلاسا" (ص 134)، "تُرَدُّ إليه رَدًّا، وتُكْرَه عليه إكراهًا" (ص 143)، "احتزّ القطارُ رأسها احتزازًا" (ص 149)، "وجب على الدولة أن تأخذهم به أَخْذًا" (ص 163)، "نرى الشقاءَ يُصَبّ عليه صَبًّا" (ص 184). وللعلم فلهذا التركيب حضوره الملحوظ فى القرآن الكريم كما يتضح من النصوص التالية: "رأيتَ المنافقين يصُدّون عنك صدودا" (النساء/ 61)، "ويسلِّموا تسليما" (النساء/ 65)، "وكلّم الله موسى تكليما" (النساء/ 164)، "ولِيُتَبِّروا ما علَوْا تتبيرا" (الإسراء/ 7)، "وفضَّلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا" (الإسراء/ 70)، "فتفجِّرَ الأنهار خلالها تفجيرا" (الإسراء/ 91)، "ونزَّلناه تنزيلا" (الإسراء/ 106)، "ونَمُدّ له من العذاب مَدًّا" (مريم/ 76)، "تؤزُّهم أَزًّا" (مريم/ 83)، "فقدَّره تقديرا" (الفرقان/ 2)، "ورتّلناه ترتيلا" (الفرقان/ 32)، "ومكروا مَكْرًا، ومكرنا مَكْرًا" (النمل/ 50)، "ويطهِّرَكم تطهيرا" (الأحزاب/ 32)، "إنْ نظنّ إلا ظنًّا" (الجاثية/ 32)، "يوم تمور السماءُ مَوْرًا* وتَسِير الجبال سَيْرًا" (الطور/ 9- 10)، "إذا رُجَّت الأرض رجًّا* وبُسَّت الجبال بَسًّا" (الواقعة/ 4-5)، "وأسررتُ لهم إسرارا" (نوح/ 9)، "ويُخْرِجُكم إخراجا" (نوح/ 18)، "وتبتَّلْ إليه تبتيلا" (المزمل/ 8)، "ومهّدتُ له تمهيدا" (المدثر/ 14)، وذُلِّلَت قطوفُها(1/347)
تذليلا" (الإنسان/ 14)، "وكذَّبوا بآياتنا كِذَّابا" (النبأ/ 28)، "أنّا صببنا الماء صَبًّا* ثم شققنا الأرضَ شَقًّا" (عبس/ 25- 26)، "دُكَّت الأرض دكًّا دكًّا" (الفجر/ 21). ولا أظن إلا أن الدكتور طه قد تأثر فى ذلك الملمح الأسلوبى بهذه النصوص وأمثالها.
(1/348)
كذلك من مظاهر الموسيقى لدن الدكتور طه كثرة التكرار الذى يتخذ صورا مختلفة: فمنها مثلا تكراره للكلمة مرتين متتاليتين بعطفه إياها على نفسها أو بجرّها إلى نفسها للدلالة على اتصال الحدث واستمراره كما فى الأمثلة التالية: "وانقطع صالح عن الكتّاب يومًا ويوما" (ص 33)، "أعادت عليها أمها المسألة مرة ومرة" (ص 53)، "يومًا بعد يوم" (ص 130)، "وأما عبد السيد فيثور ويثور" (ص 141)، "وجعلتُ أتضاءل وأتضاءل"، (ص 184)، "حُسْنًا إلى حُسْن، وروعة إلى روعة" (ص 59)، "وتخرج أم تمام من بيتها مع الصبح أياما وأياما فتستقبل بوجهها الغرب تتنسم ريح الموت فلا يحملها إليها النسيم" (ص 98)، أو تكراره لكلمة أو أكثر تكرارا متقاربا مرتين أو أكثر كما فى هذه الشواهد: "المواطن التى يقال فيها الحق، والمواطن التى يقال فيها الباطل" (ص 31)، "وأستطيع أن أُسَخِّرها فى عمل من الأعمال...، فقد أُسَخِّرها لبيع الخُضَر، وقد أسخرها لبيع الفاكهة، وقد أكلِّفها أن تصنع الخبز فى بيوت الأغنياء...، وقد أكلفها أن تغسل الثياب فى هذه البيوت" (ص 36)، "ونهض وهو لا يقدر على النهوض، وسعى وهو لا يقدر على السعى" (ص 47)، "فأنا أستطيع أن أذهب معه إلى السوق...، وأنا أستطيع أن أذهب معه إلى هذه الدُّور...، وأنا أستطيع أن أترك قاسما يشترى من السوق ما يشاء، وأن أترك سيدنا يطوف بالدور..." (ص 50)، "وقد استقبلتا النهار بائستين كما استقبلتا الليل بائستين" (ص 51)، أحستا نهوضه فى جوف الليل فلم تنهضا معه ولم تقولا له شيئا. ولِمَ تنهضان؟وما عسى أن تفعلا؟ ولِمَ تقولان؟ وما عسى أن تقولا؟" (ص 52)، "أفاض على وجهها بهجة زادتها حُسْنًا إلى حُسْن، وروعةً إلى روعة" (ص 59)، "وإذا امرأة تساقط دموعها...، وإذا فتاةٌ تنتحب...، وإذا قاسم واجم أول الأمر...، وإذا امرأته تردّ عليه...، وإذا يداه تسترخيان، وإذا هذا الخير...يسقط إلى الأرض، وإذا عيناه تنطفئان، وإذا شفتاه(1/349)
تلتقيان ثم تمتدان، وإذا هو يسعى إلى حصيره...، وإذا امرأته تسمع صوتا خافتا..." (ص 61)، "ولم ير الجيران فى ذلك اليوم أمّونة...، ولم ير الجيران فى ذلك اليوم دُخَانًا...، ولم يشم الجيران فى ذلك اليوم رائحة الطعام..." (ص 62)، "وفتيان القرية يتسامعون بقصة خديجة...، وفتيان القرية يتحدثون عن جمال خديجة...، وفتيان القرية يُسِرّون فى أنفسهم حبا لخديجة..." (ص 47)، "وكان الكتّاب ...أشبه شىء بخلية النحل: كلّه حركة، وكلّه نشاط، وكلّه دوىّ..." (ص 102)، "بين أصوات الصِّبْية النحيلة الضئيلة...، وأصوات الصِّبْية التى أخذت تمتلئ...، وأصوات الشباب التى كادت تشبه أصوات الرجال...، وكانت هذه الأصوات...تحمل إلى الأذن شيئا حلوا رائقا..." (ص 102- 103)، "فى دار ليست بالمسرفة فى السعة، وليست بالمسرفة فى الضيق" (ص 125)، "فى حجرات قليلة لا يظهر عليها الثراء، ولا يظهر عليها الضر، ولا يظهر عليها ما يلفت إليها أحدا" (ص 125)، "فهو إذن سيد نفسه، وهو يقبض فى آخر الشهر مرتبا كالذى يقبضه هو، وهو يريد أن يكون له أخا" (ص 139)، "وكذلك كانت نفس الفتاة تضطرب بمثل ما كانت تضطرب به نفس الفتى من الألم والحزن واليأس، وكان قلب الفتاة يجد ما كان قلب الفتى يجد من اللوعة والحسرة والأسى، وكان أحب شىء إليها أن تُفْضِىَ إلى الفتى بذات نفسها، وأحب شىء إلى الفتى أن يُفْضِىَ إليها بذات نفسه" (ص 147)، "فيكون الاقتراض، ثم يكون العجز عن أداء الدين، ثم يكون امتناع القادرين عن الإقراض، ثم يكون الحرمان...، ثم يكون الحرمان...، ثم يكون الضيق بالحياة، ثم يكون الالتجاء إلى الأغنياء...، ثم يكون إعراض الأغنياء عن هؤلاء اللاجئين البائسين" (ص151- 152)، "فانتشار الوباء فى غير مشقة، وانتشار الفساد الخلقى، وانتشار الظلمة فى الضمائر والقلوب، وانتشار الذلة والمسكنة والهوان، وانتشار الإذعان للظلم والاستسلام للعسف والانقياد للاستبداد بالحرية(1/350)
والكرامة... كل هذه الآفات والمخازى ليس لها مصدر إلا هذا الشقاء" (ص 154)، تصيب منه ما تشاء كما تشاء، ومتى تشاء، وحيث تشاء" (ص 186)، "فإذا نحن نراه عرضة للوباء، بل مرتعا للوباء. وأىّ وباء؟ وباء الكوليرا..." (ص 187).
ومن هذه المظاهر الموسيقية عند طه حسين كذلك تقليب الأمر على وجهيه سلبا وإيجابا باستخدام الألفاظ والتراكيب ذاتها تقريبا كما هو الحال فى العبارات التالية: "ولكنى لا أحب أن يتحكم القارئ فىّ ولا أن يتجنى علىّ، ولا أن يُخْضِعنى لذوقه كما لا أحب أن يُخْضِعنى لذوقه" (ص 23)، "تمتد فيه الخطوط الحديدية من الشَّمال إلى الجنوب، ومن الجنوب إلى الشَّمال" (ص 41)، "فأدى صلاته لم يكلم أحدا، ولم يكلمه أحد" (ص 44)، "خبزٌ حافٍ تبعدان به الجوع عن نفسيهما، أو تبعدان به نفسيهما عن الجوع" (ص 52)، "وكأن دنوّ امرأته من الشيخوخة أو دنوّ الشيخوخة من امرأته قد حوَّل نفسه عن القناعة والرضا إلى المجانة والطمع" (ص 57)، "ثم لم يحسّ شيئا، ولم يحسّه شىء" (ص 63)، "كأنه حلم يُلِمّ بنفوسهن فى آخر عهدها بالنهار وأول عهدها بالليل" (ص 79)، "لا أريد أن أغير منها قليلا أو كثيرا، ولا أحب أن يتغير منها قليل أو كثير" (ص 89)، "ليست منهم وليسوا منها فى كل شىء" (ص 95)، "لم يحاول أحد أن يعينها، ولم تحاول هى أن يعينها أحد" (ص 98)، "لم يسمع أهل المدينة عنه شيئا، ولم يسمع هو عنهم شيئا" (ص 115)، "تعبث بالناس، ويعبث الناس بها" (ص 116)، "أساور...يُدْخِلْن فيها سواعدهن، أو يُدْخِلْنها فى سواعدهنّ" (ص/ 126)، "فى همسٍ سريعٍ أو سرعةٍ هامسة" (ص 139)، "وتمضى الشيخة فى وجومها الباكى، أو بكائها الواجم " (ص 148)، "وأظن أنك رأيت الخطر الذى يسعى إلينا مسرعا، أو نسعى إليه مسرعين" (ص 155)، "وأحب أن يقف القارئ معى عند ما فى هذا الحديث من سذاجة رائعة أو روعة ساذجة" (ص 168).
(1/351)
وقد عزا المازنى فى "قبض الريح" سمة التكرار والإعادة عند الدكتور طه إلى أنه كان، بسبب كفّ بصره، يملى ما يريد كتابته ولا يكتبه بيده، كما أن طول اشتغاله بالتدريس قد أكسبه التبسط فى الإيضاح والإطناب فى الشرح والتفصيل (انظر محمود مهدى الإستانبولى/ طه حسين فى ميزان العلماء والأدباء/ الكتب الإسلامى/ بيروت ودمشق/ 1403هـ- 1983م/ 594- 595). أما مصطفى صادق الرافعى فقد عَدَّ هذا التكرار "شعوذة مطبعية"، وسخر منه وتهكم به قائلا إنه كان يقرأ مقالةً افتتاحيةً فى جريدة "السياسة"، ومعه أديب، فدفعها إليه وسأله: لمن هذه المقالة؟ فقال إنها بدون توقيع، فردَّ الرافعى بقوله: "لا يجب أن يكون التوقيع فى ذيل المقالة، بل قد يكون فى أثنائها"، فسأله صاحبه: "فأين هو؟"، فردَّ عليه متهكما: اسمع، هذا هو التوقيع: "فعلوا هذا. نعم فعلوه. فعلوه. أقسم لقد فعلوه. فعلوه" (المرجع السابق/ 632، نقلا عن كتاب الرافعى "تحت راية القرآن"). كذلك عاد الرافعى إلى التهكم بهذا الأسلوب مؤكدا أنه فى كل ما قرأ من أساليب العرب لم يقابل قَطّ مثل الأسلوب الذى يصطنعه طه حسين كقوله فى صدر قصة المعلمين التى نشرتها له جريدة "السياسة" يومذاك: "نعم قصة المعلمين، فللمعلمين قصة، وللمعلمين قضية. وكنا نحب ألا تكون للمعلمين قصة، وألا تكون للمعلمين قضية، لأننا نربأ بمقام المعلمين عن أن تكون لهم قصة أو قضية، ولكنْ أراد الله، ولا رادَّ لما أراد الله، أن يتورط المعلمون فى قصة، وأن يتورط المعلمون فى قضية. ليست قضيتهم أمام المحاكم، وإن كانت أوشكت فى يوم من الأيام أن تصل إلى المحاكم، وليست قصتهم مُفْزِعة مُهْلِعة، وإن كانت أوشكت فى يوم من الأيام أن تكون مفزعة مهلعة". ثم يعقِّب الرافعى على ذلك قائلا: "فهذه عشرة أسطر صغيرة دارَ المعلمون فيها عدد أيام الحسوم، وحُكِيَت القصة ست مرات، وكان للقضية فيها ست جلسات، غير ما هنالك من "مُفْزِعة" و"مُهْلِعة" قد(1/352)
أفزعت وأهلعت مرتين، وغير ما بقى مما هو ظاهر بنفسه. ولا ريب أن الأستاذ إما أن يكون قد نحا بهذا نحوا لا نعرفه وقصد إلى وجه لم نتبينه، فهو يدلنا عليه لنُجْرِيَه فيما أجريناه من أساليب البلاغة ونؤرخ له فى الذوق الجديد، وإما أن يكون عند ظننا به فى اعتبار هذه الكلمات رُقًى وطلاسمَ للتسخير بقوتها ورُوحانيتها. فإذا قرأ المعلمون هذه المقالة عشر مرات انحلّت المشكلة وجاءهم الرزق وهم نائمون" (السابق/ 592- 593، نقلا عن كتاب الرافعى "تحت راية القرآن"). ولا شك أن تكرار طه حسين فى كتاباته لا يصل عادةً إلى حد الثرثرة المضحكة التى تطالعنا هنا، إذ إن ما يتسم به أسلوبه المتأنى المنبسط من موسيقى وفخامة وأصالة ووضوح وسلاسة ودفء وتهكم وثقافة واسعة متنوعة الألوان يغطى فى كثير من الأحيان على هذه الثرثرة المتحذلقة، أو قل: يحولها إلى ثرثرة فنية لذيذة.
(1/353)
كذلك فإن الموازنة والتكرار وما يمتلئ به أسلوب طه حسين من نغمات موسيقية لا يجرى على وتيرة واحدة، بل كثيرا ما يخرج الأسلوب عما هو متوقع، فتراه لا يمضى لآخر الطريق مع هذه السمة أو تلك، وهو ما يشيع فيه مرونة وحيوية وإنعاش. ولنأخذ بعض الأمثلة لتوضيح ما نقول، فعلى سبيل المثال نراه فى النص التالى لا يتابع التناظر فى موازنته إلى نهاية الشوط، بل يكسرها بما يخرج القارئ عن استنامته لما يجرى: "رأى ابنة هذا الرجل فتاة كاعبا تستقبل الحياة فى قوة وجمال، وفى بؤس وشقاء أيضا، فلم يرقّ لبؤسها ولم يرحم شقاءها، وإنما اشتهى جمالها، وطمع فى محاسنها، وابتغى إليها الوسائل" (ص 58). فانظر كيف كَسَر التناظرَ فى النص بزيادة كلمة "أيضا" بعد كلمة "شقاء"، وإجراء جملة "وابتغى إليها الوسائل" على تركيب مخالف للتركيب الذى صب فيه الجملتين السابقتين عليها. وقس على ذلك هذه العبارة: "لا ترفع صوتا بإعوال، ولا تخفض صوتا بنحيب. لا تلطم وجهها، ولا تخمش صدرها، ولا تصنع صنيع أحد من النساء" (ص 97- 98)، التى كان يتوقع قارئها أن تأتى الجملة الثالثة من الجزء الثانى منها على نفس النسق التركيبى الموجود فى الجملتين السابقتين عليها، وبخاصة أن الجملتين فى الجزء الأول قد رَشَّحَتا لهذا التوقع، لأنهما أيضا تتناظران، ودون أن يحدث ما يعكر صفو هذا التناظر. بيد أنه يفاجَأ بإتيان الكاتب بجملةٍ تركيبُها يختلف عن هذا التركيب. وبالمثل تجرى العبارة التالية: "وقد وجد الصبى شيئا من كبرياء، فقد أصبح معلما بعد أن كان متعلما، وأصبح مقرئا بعد أن كان قارئا، ووجد فى نفسه شيئا من الفرح والابتهاج لاتصال الأسباب بينه وبين هذين الزميلين المترفين اللذين يلبسان اللباس الأوربى ويضعان على رأسيهما الطربوش..." (ص 108). ونَفْسَ الشىء قُلْ فى مظاهر الموسيقى عند الكاتب، فهو لا يلتزمها دائما، كما أنه لا يأتيها فى أى وقت ولا على نظام معلوم بحيث يمكن أن يتوقعها(1/354)
القارئ سلفا، بل تأتى فجأة مثلما تنصرف فجأة كما هو الحال مثلا فى قوله: "وامتلأ الجو من حوله ضياءً يوقظ الأشياء، وغناءً يوقظ الأحياء، ويدعو الناس إلى الصلاة" (ص 63). فالجملة الأخيرة لا تتناغم مع سابقتيها، إذ ليس بينها وبينهما التناظر الموسيقى المتوقع لا فى التركيب ولا فى الفاصلة. وعلى هذا النحو نفسه تسير العبارة التالية: "ومضى الفتى فى حياته الكسلة العاملة، ويقظته الغافلة الذاهلة، واتصل النشاط واشتدت الحركة فى دار صفاء" (ص 148).
ونمضى فنذكر بقية ما تنبهتُ إليه من سمات أسلوبية فى كتابات الدكتور طه حسين: فمن ذلك أنه حريص فى غير قليل من الحالات على التأكيد بأنه لا يشك فيما يرويه من أحداث أو يورده من أحاديث. ووجه التفاتى إلى هذه السمة أنه اشتهر أول ما اشتهر بإنكاره الشعر الجاهلى وإقامته هذا الإنكار على منهج الشك المنهجى أو الديكارتى، وذلك فى كتابه "فى الشعر الجاهلى"، وإن ظهر لدارسى هذا الكتاب أنه للأسف لم يحسن فهم هذا المنهج ولا تطبيقه على الشعر الجاهلى، ومنهم المرحوم مصطفى صادق الرافعى، الذى كان أفهم منه لهذا المنهج رغم أنه لم يطنطن به ولا أطال الكلام فيه مثلما أطال هو وطنطن كما وضحتُ فى كتابى "معركة الشعر الجاهلى بين الرافعى وطه حسين". وإلى القارئ بعض الأمثلة على ما نقول: "وما أشك فى أن القارئ سيقف عند هذا الموضع" (ص 34)، "ولست أشك فى أن القارئ سيضيف إلى هذا السؤال ملاحظة" (ص 34)، "الشىء الذى لا أشك فيه ولا ينبغى أن يشك فيه القارئ أن صالحا لم يكن يتيما" (ص 35)، "ما أشك فى أن السيدة ستُسَرّ بهذا الصيد" (ص 48)، "والشىء الذى لا شك فيه أن الفتاة قد اطمأنت إلى هذا الرجل ووثقت به" (ص 59)، "ولكن الشىء الذى ليس فيه شك هو أن هذا الموظف من موظفى الدولة عاجز عن أن..." (ص 152)، "والشىء الذى ليس فيه شك أن هذا الموظف ليس وحيدا فى بؤسه" (ص 153).
(1/355)
ويشبه هذا عنده تأكيدُه المفعولَ المطلق بكلمة "كلّ" مثل: "يُغْنِى كل الغَناء، ويفيد كل الفائدة" (ص 25)، "ولكنها بعيدة كل البعد عن الإعدام" (ص 74)، "راضٍ عن حياتنا التى نحياها كل الرضا، مطمئن إليها كل الاطمئنان" (ص 89)، "راضٍ عن نفسه كل الرضا، مستقر فى الحياة كل الاستقرار" (ص 104)، أو جعلُ المفعول المطلق أفعل تفضيل مثل: "وانغمس فى القناة كأحسن ما تعلَّم أن ينغمس، وعام فى القناة كأحسن ما تعوَّد أن يعوم" (ص 33)، "ضاق القراء بهذه المقدمات أشد الضيق" (ص 35)، صُنِع فى تمهل وتأنُّق وأناة كأحسن ما يتمهل المثّال البارع ويتأنق ويستأنى بعمله" (ص 66)، "وأُعْجِب قرائى حتى يَكْلَفوا بى أشد الكَلَف، وأَغِيظهم حتى يمقتونى أعظم المَقْت" (ص 83- 84)، "يخطئ أشد الخطإ إن ظن بى هذا الإسراف" (ص 87)، "لكن الدار كانت منظمة أدقّ النظام وأشقّه" (ص 111)، "مزدحمين أشد الازدحام، ملحّين أعظم الإلحاح" (ص 124).وقد سبق أن ذكرنا أيضا المفعول المطلق المؤكد لعامله، وهو لا يقل كثيرا فى هذا الباب عن نظيريه.
ومما لاحظت تكرره عند طه حسين استخدام اسم الإشارة تابعًا يليه تابعٌ آخر أو أكثر، مثل: "وافتقدتْ صاحبَنا ذاك المهذار" (ص 18)، "عند رفيقه ذاك الصبى" (ص 24)، "انصرفْ إلى حديدك هذا الذى فى زاويتك" (ص 31)، "وكنت تراها...عائدة إلى بيتها ذاك الوضيع الحقير" (ص 68)، "ثم ألقى تحيته بصوته ذاك المرعب المخيف" (ص 106)، "وكان حديثها ذاك الملتوى...يسحر نفس الصبى" (ص 111)، "لم يبلغه أحد من رفاق الصبى أولئك الذين عرفتُهم فى الكتّاب" (ص 116)، "استطاع أن ينقل نفسه من مدينته تلك البعيدة" (ص 137)، وسيستأنف حياته تلك الغريبة المشردة" (ص 140)، "ليس وحيدا فى بؤسه هذا المنكر، وفى عبئه هذا الثقيل" (ص 153).
(1/356)
كذلك يكثر فى كلام كاتبنا هذا التركيب: "ما كاد/ لم يكد فلان...حتى..."، والغالب، فيما يخيل إلىّ، أن يقال هذه الأيام: "ما إن حدث كذا حتى...". ومن أمثلة التركيب المذكور: "ولم يكد يجاوز الدار حتى رفع صوته بالدعاء" (ص 19)، "ولا يكادون يخرجون من بيوتهم من الكتّاب حتى يسرعوا إلى الماء" (ص 29)، "ثم لم يكد يفرغ من غَدَائه حتى خرج ليشهد صلاة الظهر" (ص 32)، "ولكنه لم يكد يجلس حتى هبَّ مرتاعًا وَجِلاً" (ص 48)، "فلا يكاد الأذكياء منهم يقرأون حتى يستكشفوا مكر الكاتب" (ص 88)، "ولكن النهار لا يكاد ينتصف حتى يحمل الفلاحون جثة قد شاع فيها الموت" (ص 99)، "ولم يكد يبلغ داره...حتى أعاد على أمه ما سمع من حديث" (ص 107)، "فلا يكاد يصيب معهم شيئا من الطعام...حتى يأوى إلى مضجعه" (ص 131- 132)، "فلم يكد عمرو بن العاص...يقرأ هذا الكتاب...حتى كتب إليه" (ص 161).
(1/357)
ومن التراكيب اللافتة للنظر فى أسلوب الدكتور طه النفى بـ"ليس" مع مجىء خبرها فعلا (مضارعا بطبيعة الحال)، والغالب فى أساليب العصر الحالى استخدام "لا" بدلا منها. وهذه شواهد من الكتاب الذى بين أيدينا على ما نقول: "ولست أدرى أيعرف القارئ أو لا يعرف أن العَرِيف فى الكتّاب قد كان رمز الرشوة والفساد" (ص 29)، "ولست أشك فى أن القارئ سيضيف إلى هذا السؤال ملاحظة فيها شىء من القسوة" (ص 35)، "وليس يعنينى ما يريد غيرى من الناس" (ص 35)، "وهنا ليس يحتاج القارئ...إلى أن أمضى به فى هذا الحديث البغيض" (60)، "ولست أدرى ماذا كان من أمر الجمع المحتشدين بعد هذه الفضيحة" (ص 115)، "ولست أعرف ما هذا الذى أردنا إليه" (ص 119)، "ولست أكره أن أؤدى للقارئ حقه فى هذا" (ص 123)، "ولست أستطيع أن أبين لذلك سببا" (ص 124)، "لست أبغض شيئا كما أبغض إلقاء الدروس فى الوعظ والإرشاد" (ص 150)، "لست أدرى أتصحّ هذه الأخبار...أم لا تصح" (ص 173). ومن الواضح أن الفاعل فى كل هذه الأمثلة تقريبا هو "تاء المتكلم".
(1/358)
وتتكرر عند كاتبنا أيضا "كان" التامة، وهو استعمال لا يعرفه كتاب العصر الحديث عادة. وهذه شواهد من أسلوب الكاتب على هذه السِّمَة: "وسأدفع نصفه الآخر إلى صالح ليؤديه إلى العريف إذا كان الغد" (ص 32)، "لن تغدو على الكتّاب إذا كان الصبح" (ص 41)، "على أن يستأنفا سعيهما إلى الكتّاب إذا كان الغد" (ص 106)، "ولم يكن شكٌّ فى أنه ضابط تركى قديم" (ص 106)، "لا يكادون يستقرون فى حجرتهم...حتى تلُمِ ّربة الدار فيكون الحديثُ الرفيقُ والحنانُ الرقيق" (ص 110)، "وطبيعى ألا ينهض هذا المرتب الضئيل بحاجة هذه الأسرة الضخمة فيكون الاقتراضُ، ثم يكون العجزُ عن أداء الدين، ثم يكون امتناعُ القادرين عن الإقراض...، ثم يكون الحرمانُ...، ثم يكون الضيقُ بالحياة، ثم يكون الالتجاءُ إلى الأغنياء بطلب المعونة، ثم يكون إعراضُ الأغنياء عن هؤلاء اللاجئين البائسين..." (ص 151- 152).
ومن التراكيب التى تكررت أيضا على نحو يلفت النظر عند د.طه جملة "جَعَلَ" الشروعية بدلا من "أَخَذَ"، التى يشيع استخدامها فى عصرنا، وربما فى غير عصرنا أيضا: "ومنذ ذلك اليوم جعل الحاج محمود يسعى بالخير بين حين وحين إلى هذه الأسرة البائسة" (ص 59)، "وأخذتْ بيد ابنتها وجعلتا تسعيان فى بطء نحو الغرب" (ص 99)، "وجعل الفتى يقبض أجره آخر الشهر" (ص 131)، "وجعلتْ مرجانة وحنينة تلتقيان حين يُسْفِر الصبح وحين يتقدم النهار" (ص 133)، "وإذا اللقاء الذى كاد يكون بينهما على غير موعد قد جعل يصبح شيئا تُدَبَّر له الخطط...، وإذا الحديث الذى كاد يكون بينهما فارغا...قد جعل يصبح مليئا وراءه كثير من الأشياء" (ص 135)، "وقد جعل هذا الخاطرُ يتردد فى ضمير الفتى يقظان" (ص 145)، "وجعلتْ ألوان الطُّرَف وفنون الهدايا تستبق إلى الدار" (ص 146)، "وقد جعلتْ منذ حين لا تراه إلا مخالسة" (ص 146).
(1/359)
وفى كثير جدا من الأحيان نرى طه حسين يتحول عن حكاية الوقائع المنصرمة من خلال الفعل الماضى إلى حكايتها من خلال الفعل المضارع، يريد أن يقيم أمام أعيننا حوادث الزمان الذى ولَّى وكأنها تقع الآن مباشرة: "وإنها لتتحدث إلى بناتها هذه الأحاديث...وإذا الصبى يقطع عليها حديثها" (ص 21)، "وإن الفتاة لفى ذلك وإذا بالباب يطرق طرقا خفيفا" (ص 48)، "ولكنها فى ذلك اليوم قد أُعْجِلت عن حمل الطبقين، ولا تذكرهما إلا حين رأت أمها مقبلة تحملهما" (ص 73)، "وفتيان القرية يتسامعون بقصة خديجة هذه" (ص 74)، "وقد استقامت الأمور بين الأسرتين، ولكنها لم تستقم فى نفس خديجة، فهى تمتنع على هذا الزواج وتلحّ فى الامتناع" (ص 75)، "فقد خُطِبت تفيدة، وما هى إلا أسابيع حتى يقبل قوم من القاهرة، وحتى تقام فى الدار أعياد، ثم يعود الزائرون من حيث أتَوْا" (ص 111)، "والحياة مع ذلك ماضية فى طريقها" (ص 112)، "وإنهم لفى ذلك بعد أن صُلِّيَت العصر، وإذا امرأة شابة تخرج من الدار وتتوسط جمع الناس" (ص 114)، "ولكنى أصل إلى القاهرة وأسأل عن صاحبى فأعلم أن حُمَّى التيفوئيد قد أسلمته إلى الموت أثناء الصيف" (ص 120)، "والسنّ تتقدم بالمعلم حتى يحس الضعف عن النهوض بأعبائه، والفتى يتقدم فى العلم بمهنة أبيه متباطئا متثاقلا" (ص 133). هذا، وهناك ألفاظ وصيغ معينة يغرم طه حسين بترديدها فى هذا الكتاب وفى سوى هذا الكتاب أيضا، مثل "نُجْح" بدلا من "نجاح"، و"مِزاج" عوضا عن "مزيج"، وقد تكررت كلتاهما مرات. ومثلهما فى ذلك كلمة "سَرَف"، التى لم أقع عليها مع ذلك فى الكتاب الحالى. وبالمثل نراه يكثر هنا من استعمال كلمة "شىء" فى سياقاتٍ وظلالٍ مختلفة: "هنالك وجمت أم الصبى شيئا"، أى بعض الوجوم (ص 14)، "مهما يكن من شىء فقد غدا الصبى...على كتّابه" (ص 27)، "والواقع من الأمر أنى لا أكلِّف أم صالح شيئا من هذه الأعمال التى ذكرتها" (ص 36)، "الشىء الذى لا أشك فيه(1/360)
ولا ينبغى أن يشك فيه القارئ هو أن صالحا لم يكن يتيما وأن أمه لم تكن ميتة" (ص 35)، "لا تستطيع أن تصوّر إلا حزنا هادئا فيه شىء من أمل يسير" (ص 46)، "وجمت أمونة شيئا ثم قالت مستخذية:..." (ص 55)، "ليس هو نائما، وليس يقظان، وإنما هو شىء بين ذلك" (ص 62)، "وربما يقسو فيشتمل على شىء من شماتة" (ص 95)، "قد تقدمت به السن شيئا" (ص 103)، "وأشعل سيجارته فى شىء من أنفة، ونهض فى شىء من كبرياء" (ص 121)، "واضطَرّ الأسرةَ إلى شىء من الفقر البغيض الثقيل الذى لايطاق لولا شىء من فسحة الأمل" (ص 129)، "ثم هُمْ، على كثرة ما يملكون، ...أشبه شىء بالصخرة المصمتة" ( ص 173)...وهكذا. وإذا كان الشىء بالشىء يُذْكَر فإن الدكتور طه، حين تناوله كاتبه السابق فريد شحاتة فى مذكراته بما يسوؤه ويفضحه ذاكرًا أنه قد تم تعميده فى كنيسة بالجنوب الفرنسى تمهيدًا لزواجه من سوزان، قد دفعه الغيظ إلى أن يطلق عليه: "هذا الشىء الذى أسمّيه: فريد شحاتة" (سامح كريم/ ماذا يبقى من طه حسين؟/ دار الشعب/ 1975م/ 124- 125).
(1/361)
وبعد هذا التحليل الأسلوبى المرهق أرجو أن أكون قد قَدَرْتُ على إبراز بعض من السمات التى تميز لغة الدكتور طه حسين وتضفى عليها تلك النكهة الخاصة الحلوة السهلة المتأنية الفخمة المغرية بل المخدِّرة فى كثير من الأحيان. على أن جاذبية كتابات الرجل لا تتوقف هنا، بل ثمة أشياء أخرى فى هذا الكتاب لا بد من الإشارة إليها: فمثلا قد يجد القارئ، فى خروج طه حسين عن تيار الحكاية وانحرافه إلى الحديث عن أصول القصة كما يرسمها النقاد ويطالبون القصّاص بالتزامها، ما يشدّه إلى هذا اللون من الكلام. فها هو ذا المؤلف يشركه معه فى مناقشة أمر من أمور الأدب والنقد بما يشى بثقته فى عقله وذوقه ومقدرته على أن يرتفع إلى مستواه فى هذا المجال، وهو لون من التواضع يحبب الناس فى صاحبه، وبخاصة إذا ما بدا وكأنه يريد أن يستطلع طلعهم ويأخذ رأيهم فى هذه القضايا مما يعنى أنهم قد أصبحوا مثله فهمًا لقواعد الفن القصصى ومقدرةً على تكوين رأى فى مسائله، وبالذات إذا كان تناول الدكتور طه للأمر تناولا سهلا سريعا لا يمس أعماقه، بل يكتفى منه فى الغالب بلمس السطوح القريبة التى لا تعنت الذهن ولا تثقله بالتحليلات المفصّلة وتتبُّع الدقائق واستعراض الآراء المختلفة فى المسألة ومناقشتها واحدا واحدا. إن طه حسين بهذا يكتسى ثوب الرجل الديمقراطى الذى ينزل إلى مستوى ناخبيه (أو قل: قارئيه) يبادلهم الحديث ويستمع إلى آرائهم. ثم إنه هنا يجرِّئ القراء على كسر القواعد التى يتهمها بالظلم والعسف والاستبداد، ومن يا ترى يستطيع أن يكره الدعوة إلى تعرية الظلم والعسف والاستبداد؟ أما القراء الذين لا تجوز عليه تلك الحيلة الفنية فإنهم يَرَوْن فى ذلك لونا من الخروج على المألوف يتمثل فى قيام القَصّاص بكشف أسرار العملية الذهنية الإبداعية أثناء ممارسته لتلك العملية ذاتها. وأذكر أننى قد تناقشت ذات ليلة أنا وزميل يمنىّ (كان يدرس فى بريطانيا للحصول على درجة(1/362)
الدكتورية من جامعة أوكسفورد فى الأدب الإنجليزى) حول هذا الاستطراد الذى انتهجه طه حسين فى "المعذبون فى الأرض" ومدى جواز قبوله أو لا. وأذكر أيضا أننا قلنا إنه قد يُغْتَفَر لطه حسين ما لا يُغْتَفَر لسواه. نقصد أن أسلوبه العذب الجميل ومكانته التى حققها فى دنيا الكتابة يشفعان له ألا نحاسبه على مثل هذا الانحراف عن قواعد كتابة القصة. وفوق ذلك فطه حسين لا يكتفى بمناقشة النقاد والسخرية من قواعدهم وأصولهم فحسب، بل يضيف إلى هذا ما يمكن أن نقول: مناكفته للقراء، هذه المناكفة الفنية التى تخيِّل لمن لا يعرف الأمر أن هناك من القراء من يعترض على طريقته هذه أو تلك فى معالجة القصة التى بين يديه، على حين أن الأمر لا يعدو رغبة الكاتب فى استفزاز اهتمام قرائه وإثارة شعور الرضا عن النفس لديهم كما سبق أن وضحنا، وبالذات إذا كان الكاتب حريصًا حِرْصَ الدكتور طه على تجنب ما يمكن ان يُشْتَمّ منه رائحة اتهام القراء بعدم الإلمام بما يعلمه هو، إذ يصوِّر الأمر على أنه مجرد رغبة منه فى ألا يخضع لما يريده النقاد والقراء الذين يمكن أن يظاهروهم عليه من الاستبداد به والعمل على خنق حريته الفنية!
(1/363)
والآن مع نص من النصوص التى يناقش فيها طه حسين نقاد القصة والقواعد التى يَدْعون إلى مراعاتها ويتناول الكلام عن موقفه منها، والنص مأخوذ من قصة "صالح"، وهى عن صبى فقير كان بطلُ القصة (وهو صبىٌّ مثله، وأغلب الظن أنه طه حسين نفسه فى صباه)، يدعوه إلى بيتهم ليصيب معه من أطايب الطعام التى تصنعها أمه فى بعض المناسبات الاجتماعية: "وما أشك فى أن القارئ سيقف عند هذا الموضع من الحديث وسيسأل نفسه، ولو استطاع لسألنى أنا: ألم يكن من الخير أن نعرف من أول القصة أن صالحا قد فقد أمه، وأنه كان يعيش يتيما ينعم بما يختلس من حب أبيه سرًّا ويشقَى جهرًا بما يُصَبّ عليه من بغض هذه الضَّرّة التى قامت مقام أمه فى البيت؟ ولست أشك فى أن القارئ سيضيف إلى هذا السؤال ملاحظة فيها شىء من القسوة والسخرية والغيظ فيقول فى نفسه: لو أن الكاتب سلك فى قصته هذه الطرقَ الممهَّدةَ والسبيل المعبَّدة التى رسمها النقاد للقصة لعرَّف إلينا صالحا فى أول حديثه ولأنبأنا بموت أمه وتزوُّج أبيه، ولأعفانا من هذه المفاجأة التى لم نكن فى حاجة إليها. ولكنى أعيد على القارئ ما قلتُه آنفا من أنى لا أضع قصة، وإنما أسوق حديثا. وأضيف إلى ذلك أن الذين يسوقون الأحاديث لا يقدّمون بين يديها هذه المقدمات التى يبيّنون فيها الموطن والبيئة والأسرة والزمان والمكان...إلى آخر هذا الكلام الثرثار الفارغ الذى يلهج به النقاد. ولو أنى بدأت هذا الحديث برسمٍ واضحٍ دقيقٍ لشخصية صالح وأمين ومن يتصل بصالح وأمين من الناس لضاق القراء بهذه المقدمات أشد الضيق ولقال بعضهم: تَجَاوَزْ حديث الطوفان وصِلْ إلى غايتك، فلسنا من الغباء والغفلة بحيث نحتاج إلى كل هذا التمهيد. وبَعْدُ، فمن أنبأ القارئَ بأن صالحا يتيم وبأن أمه قد ماتت؟ الشىء الذى لا أشك فيه ولا ينبغى أن يشك فيه القارئ هو أن صالحا لم يكن يتيما وأن أمه لم تكن ميتة، وإنما كانت حيَّة أكثر مما ينبغى أن يحيا الناس(1/364)
إن صَحَّ أن تَكْثُر الحياة وتَقِلّ. وسواء رضِىَ القارئ أم لم يرض فقد كانت أم صالح حية من غير شك، لأنى أنا أريد ذلك، وليس يعنينى ما يريد غيرى من الناس، فأنا الذى اخترع صالحا من لاشىء، أو أخذ صالحا من عُرْض الطريق، لأن صالحا موجود ولأنه غير موجود: موجود فى حقيقة الأمر لأننا نراه فى كل ساعة وفى كل مكان، وغير موجود فى حقيقة الأمر أيضا لأنه يملأ المدن والقرى ويسرف على نفسه وعلى الناس فى الوجود، والشىء إذا زاد عن حده انقلب إلى ضده كما يقال. فأنا إذن وحدى، كما كان يقال أيضا، أعرف من أمر صالح ما لا يعرف غيرى من الناس، وأقرر أن أمه لم تترك الدار لأنها طُلِّقَت، وأنا أستطيع أن أصنع بأمه بعد الطلاق ما أشاء: أستطيع ان أدعها مطلقة تعمل خادما فى بعض الدُّور، وأستطيع أن أجد لها زوجا تعيش معه سعيدة موفورة، وأستطيع أن أسخِّرها لعمل من هذه الأعمال التى يعيش منها أمثالها من البائسات: فقد أسخّرها لبيع الخضر، وقد أسخِّرها لبيع الفاكهة، وقد أكلِّفها أن تصنع الخبز فى بيوت الأغنياء وأوساط الناس، وقد أكلِّفها أن تغسل الثياب فى هذه البيوت، وقد أجد لها ما أشاء من الأعمال غير هذا كله لأنى حُرٌّ فيما أحب أن أسوق إلى القارئ من حديث ولأن القارئ مضطر إلى أن يتلقى حديثى كما أسوقه إليه، ثم هو حُرٌّ فى أن يقبله أو يرفضه، وفى أن يرضى عنه أو يسخط عليه. والواقع أنى لا أكلِّف أم صالح شيئا من هذه الأعمال التى ذكرتُها ولا أفرض عليها شيئا من هذه الخطط التى رسمتُها لأنى، على حريتى فى أن أصنع بها ما أشاء، أُوثِر الأمانة فى رواية التاريخ. وقد حدثنى التاريخ بأن خديجة أم صالح قد كانت شاذة الخلق سيئة العشرة..." (ص 35- 37).
(1/365)
ومع هذا فمن الكتاب من يضيق بهذا الكلام من طه حسين وينتقده عليه انتقادا شديدا، ولكلٍّ وجهةُ نظره ورأيُه الذى يرتئيه. ومن هؤلاء محمود عبد المنعم مراد، الذى قال: "إن طه حسين فى مقدمة قصة "المعذبون فى الأرض" يقول: "لا أضع قصة فأُخْضِعَها لأصول الفن، ولو كنت أضع قصة لما التزمت إخضاعها لهذه الأصول لأننى لا أومن بها ولا أعترف بأن للنقاد مهما يكونوا أن يرسموا لى القواعد والقوانين مهما تكن، ولا أقبل من القارئ مهما ترتفع منزلته أن يدخل بينى وبين ما أُحِبّ أن أسوق من الحديث، وإنما هو كلامٌ يخطر لى فأُمْلِيه ثم أُذيعه. فمن شاء أن يقرأه فليقرأْه، ومن ضاق بقراءته فلينصرفْ عنه". ثم يعلله قائلا إنه يضع نفسه فوق النقد ولا يحب أن يسمعه ولا يعترف به ولا يرى أن يُقيم له وزنا! ولماذا؟ لأنه يريد أن يكون حُرًّا فيما يكتب ويُذِيع على الناس! وكيف إذن بنى طه حسين مجده الأدبى؟ ألم يكن ذلك على حساب غيره من الأدباء: القدماء والمُحْدَثين على السواء؟ يخيَّل إلىّ أن الذى ألجأ طه إلى هذه الثورة الغاضبة على النقاد والقراء هو إحساسه فى ذلك الموضع من كتابه أنه يتعرض للنقد، فأراد أن يقطع الطريق على هؤلاء الفضوليين. ولا أعرف فى التاريخ كله كاتبا مَهْمَا تبلغ عبقريته يستطيع أن يقول للناقد: "قف! من أنت؟"، ولن يستطيع طه بهذا الكلام الذى ساقه أن يمنع قارئا من أن يُبْدِىَ إعجابَه بما كتب أو سُخْطَه عليه" (محمود مهدى الإستانبولى/ طه حسين فى ميزان الأدباء والعلماء/ 496، نقلا عن جريدة "المصرى" القاهرية فى 30 يناير 1953م. على أن ههنا كلمة تعقيب أحب أن أُدْلِىَ بها، فقد ذكر الأستاذ مراد أن طه حسين قد قال كلامه هذا فى مقدمة قصة "المعذبون فى الأرض"، على حين أن هذا الكلام لا يوجد فى هذا الموضع بل فى تضاعيف قصة "قاسم" فى الصفحة الثانية والعشرين من الطبعة التى بين يدىّ، كما أن الكتاب هو فى الواقع مجموعة من القصص القصيرة(1/366)
والمقالات، وليس قصة واحدة كما قال الأستاذ مراد). إن الأستاذ مراد إنما يأخذ طه حسين بالقواعد التى ينبغى على كاتب القصة مراعاتها والالتزام بها، ومن هنا فإنه ينتقده لقوله إنه غير ملزم بهذه القواعد، وإن من حقه الخروج عليها إذا أحب. لكن ينبغى الالتفات إلى أن الدكتور طه قد قال أيضا إنه لا يكتب قصة حتى يلتزم بأساليب القصة، وإنما يسجل تاريخا. حسنٌ، فنحن إذن عندما نستمتع رغم ذلك بما كتبه طه حسين هنا فإننا لا ننظر إليه على أنه قصة، بل على أنه أسلوب جميل متميز له نكهة خاصة عجيبة حاولنا فيما مضى من صفحات أن ننبه على بعض خصائصها، فضلا عما سنضيفه لذلك لاحقا. وعلى أى حال فقد قال مراد إن هذا الكلام الذى ساقه طه حسين عن القواعد وعدم وجوب خضوعه لها لن يستطيع أن يمنع قارئا من أن يُبْدِىَ إعجابَه بما كتب أو سُخْطَه عليه. وعلى هذا فإن شقة الخلاف بيننا وبين محمد عبد المنعم مراد ليست بالتى تُذْكَر.
(1/367)
ومما يتميز به أسلوب طه حسين البراعة فى الوصف وفى سرد الذكريات. إنه يرتقى مرتقًى عاليًا حين يتحدث عن صباه وشبابه وما جرى أثناءهما من أحداث وما اتصل بهم من أشخاص، وبخاصة الأحداث البائسة والشخصيات الشعبية الفقيرة. وفى "المعذبون فى الأرض" صفحات يبلغ فيها فنُّ الرجل سماواتٍ عليا يصعب مجاوزتها إلى ما فوقها، ومنها على سيل المثال تلك الصفحات التى خصصها لأم تمام فى قصة "المعتزلة"، حيث يحكى قصة أسرة قروية بائسة تتكون من أم عجوز قبيحة شديدة القِصَر متلاشية الصوت، قد فقدت بعض أسنانها وانحنى أعلاها على أسفلها على نحو بشع جعلها أقرب ما تكون إلى العجماوات، وإذا مشت خُيِّل للناظر أنها كرة تتدحرج على الأرض، تجمع روث البهائم من الطرقات وتصنع منها أقراصا تجففها وتبيعها وقودا تستعين بثمنه على ضروريات الحياة، وولدين يشتغلان فى بناء الأكواخ يوما وينقطعان أياما، وبنتٍ فى نحو الثالثة عشرة يتصارع فى وجهها وملامحها القبح والجمال ولا تشتغل بشىء. وكانت هذه الأسرة رغم فقرها المدقع ورثاثة حالها تعتصم بكرامتها فلا تمد يدها إلى أحد ولا تقبل معونة من أحد مما أكسبها احترام الناس وكراهيتهم معا. ولنترك المؤلف نفسه يحكى لنا قصتها:
(1/368)
"كانت أم تمام قصيرة مسرفة فى القِصَر، منحنية مسرفة فى الانحناء، همّت قامتها أن ترتفع فى الجو فلم تستطع أن تستقيم، وإنما انعطف أعلاها على أسفلها كأنها خُلِقَتْ لتلتصق بالأرض التصاقا. وكانت من أجل ذلك أشبه بذوات الأربع منها بالإنسان ذى القامة المعتدلة والقَدّ المستقيم، وكانت من أجل هذا إذا مشت خَيَّلَتْ إليك أنها تتدحرج كما تتدحرج الكرة. وكان مشيها بطيئا رفيقا، فكان يشبه حركة الكرة عندما تخفّ عنها قوة الدفع فتضطرب مبطئةً تسعى إلى السكون. وكان صوت أم تمام نحيلا ضئيلا، وكانت قد فقدت بعض أسنانها، فكان صوتها النحيل الضئيل يستحيل إذا تكلمت إلى هواء خافت لا يكاد السامع يتميّز حروفَه إلا بمشقة وجهد...
ولم تحاول أم تمام قَطّ ولم يحاول أحد من بنيها قَطّ الاتصال بالناس إلا حين كانت الضرورة المُلِحّة تضطرهم إلى ذلك اضطرارا، فقد كانوا يحتاجون أحيانا إلى أن يشتروا الطعام ليقيموا أَوَدهم. وكانت أم تمام تحتاج أحيانا إلى أن تبيع، فقد كان يعرض لها فى بعض الوقت أن تخرج إلى الطريق الزراعية العامة، وأن تلتقط من هذه الطريق رَوْث البقر والجاموس تقطعه قِطَعًا متقاربة وتجففه على سقف بيتها وتتخذ منه وقودا لتطبخ إن أُتيح لها الطبخ، وتبيع فَضْله بين حين وحين لبعض نساء القرية بالقروش أو بعض القروش توسِّع بذلك على نفسها وبنيها. ولم يخطر، فيما أعلم، لأحد من المُوسِرين ولأهل الدارين اللتين كانتا تكتنفان بيتها أن يَبَرّوا هذه الأسرة بقليل أو كثير من الخير، لا لأن الموسرين كانوا يبخلون بالمعونة على الذين يحتاجون إلى المعونة، بل لأنهم فى أكثر الظن قد همّوا أن يَبَرّوا هؤلاء الناس فردّوا أيديهم فى شىء من التعفف الذى لا يُحَبّ من الفقراء، فكفَّ الموسرون عن محاولة الرفق بهم والتوسيع عليهم فى الرزق...
(1/369)
وكذلك نظر أهل القرية إلى هذه الأسرة على أنها أسرة ثقيلة سمجة ليست منهم وليسوا نها فى كل شىء. وكان أهل القرية مع ذلك يتحدثون فيما بينهم عن هؤلاء الناس فى إشفاق كثير لا يخلو من سخرية، وربما يقسو، إن أمكن أن يكون الإشفاق قاسيا، فيشتمل على شىء من شماتة. كانوا يَرَوْنَ هذين الغلامين يحتملان أشد العناء وأشق المشقة ليكسبا القروش القليلة فى بعض الأيام، ويتساءلون كيف تعيش هذه الأسرة من هذا الكسب القليل. وكانوا يَرَوْنَ هذين الغلامين وقد بَلِيَتْ ثيابهما فكشفت عن مواضع من الجسم من حقها أن تُسْتَر، ورُقِّعَتْ حتى ملَّت الترقيع. وكانوا يَرَوْنَ سعدى فى أسمالها البالية فيرحمون هذا الصِّبا النَّضْر فى هذا الغشاء المبُْتَذَل ويقول بعضهم لبعض: لولا الكبرياء لأصاب هؤلاء الناسُ عيشا أرقَّ رِقّةً وأرفه لينا...
ويُلِمّ الوباء بالقرية فيما يلم به من المدن والقرى، ويفجع الناس فى أنفسهم وأبنائهم وذوى قرابتهم ومحبتهم، وتكون أم تمام فى طليعة الذين يفجعهم الوباء، فهو يختطف ابنيها فى أقل من خمسة أيام، وهى مع ذلك هادئة ساكنة مطرقة بجسمها كله إلى الأرض، لا يرتفع لها صوت بالإعوال، ولا ينخفض لها صوت بالنحيب، وإنما هى مقيمة فى بيتها، وقد آوت إليها ابنتها كأنما تنتظران أن يُلِمّ الوباء بهما ويختطفهما كما اختطف الغلامين. ولكن الوباء قد أرضى حاجته من هذا البيت فهو لا يعود إليه، فإذا طال انتظار أم تمام له فى غير طائل نظر الناس فإذا أطوارها قد تغيرت من جميع جوانبها، وإذا حياتها قد بُدِّلَت تبديلا، فهى لا تألف بيتها ولا تحب الاستقرار فيه، وإنما تمسك فيه الصبيّة وتحرّج عليها أن تخرج منه، وتنطلق هى مع الشمس المشرقة لتعود إلى بيتها وابنتها حين ينشر الليل ظلمته على الأرض، ويسعى الموت والمرض مستخفيين إلى البيوت.
(1/370)
كانت أم تمام تخرج من بيتها حين تشرق الشمس ملففة فى شقتها السوداء مطرقة بجسمها كله إلى الأرض فتقف أمام بيتها وقفة قصيرة تستقبل الغرب وترفع رأسها فى تكلف شديد إلى السماء، وتمد بصرها أمامها ثم تلتفت إلى يمين وإلى شِمَال تجذب الهواء بأنفها جذبا كأنما تحاول أن تتنسم رائحة الموت تندفع إلى يمين أو إلى شِمَال، ثم لا يراها الناس أثناء النهار كله إلا فى دار من هذه الدور التى ألم بها الموت وقام فيها المأتم يندين ويبكين. وكانت أم تمام تصل إلى هذه الدار أو تلك فلا تقول لأحد شيئا ولا تلقى إلى أحد سمعا، وإنما تقصد المأتم الباكيات وتجلس حيث ينتهى بها المجلس، لا ترفع صوتا بإعوال ولا تخفض صوتا بنحيب. لا تلطم وجهها ولا تخمش صدرها ولاتصنع صنيع أحد من النساء، وإنما تجلس ساكنة منعطفة على نفسها كأنها قطعة من صخرٍ سُوِّيَتْ على عجل ونُحِتَتْ فى غير نظام، وفاض من عينيها دمعٌ غزير غير منقطع كأنه بعض تلك الينابيع الضئيلة التى يتفجر عنها الصخر فى الجبال. حتى إذا بلغت حاجتها من البكاء فى هذه الدار تركتها إلى دار أخرى ثم إلى دار ثالثة. وما تزال كذلك حتى ينقضى النهار، لا تكلم أحدا ولا يكاد يكلمها أحد، ولا ترد على الذين يكلمونها رجع الحديث.
(1/371)
أكانت تبكى ابنيها أم كانت تبكى أبناء تلك الأسرة التى كانت تلم بها أم كانت تبكى صرعى الوباء جميعا أم كانت تبكى نفسها وابنتها بين الذين لم يصرعهم الوباء؟ وكيف كانت تعيش؟ وكيف كانت تتيح لابنتها الصبية أن تعيش؟ لم يستطع أحد أن يعرف من ذلك قليلا ولا كثيرا. لم يحاول أحد أن يعينها، ولم تحاول هى أن تستعين بأحد، وإنما أنفقت أيام الوباء تتنسم ريح الموت حين يُسْفِر الصبح، وتسفح دموعها فى منازل الموت أثناء النهار، وتعود إلى بيتها وبنتها حين يُقْبِل الليل. وتنجلى غمرة الوباء، وتخرج أم تمام من بيتها مع الصبح أياما وأياما فتستقبل بوجهها الغرب تتنسم ريح الموت فلا يحملها إليها النسيم، فترجع أدراجها وتدخل بيتها وتغلق من دونها الباب، ولا يراها النهار إلا حين تخرج مع الصبح لتتنسم ريح الموت!
(1/372)
ويراها أهل القرية ذات يوم قد خرجت قبل أن يرتفع الضُّحَى، وأخذت بيد ابنتها وجعلتا تسعيان فى بطء نحو الغرب، فيقول بعضهم لبعض: "هذه أم تمام قد ملَّت البطالة وسئمت السكون وشَقَّ عليها وعلى ابنتها الجوع، فخرجتا تلتمسان الرزق وتبتغيان من فضل الله". ولكن النهار لا يكاد ينتصف حتى يأتى نفر من الفلاحين يحملون جثة قد شاع فيها الموت، وجثة أخرى تمتع على الموت امتناعا، قد رأَوْا أم تمام تغرق نفسها وابنتها فى القناة الإبراهيمية، فأسرعوا إلى استنقاذهما، ولكن الموت سبقهم إلى الشيخة وسبقوه هم إلى الصبية". وتصاب الفتاة من جَرّاء ذلك بالجنون ويراها الناس دائما مشردة تسعى فى الطرقات كأنها السلحفاة أو تعدو كأنها الأرنب ، أو جالسة إلى شط القناة تنظر إلى الماء أو تتطلع إلى المساء. وتظلّ فى حالها هذا يعطف عليها الناس مرة ويسخرون منها مرات...إلى أن فوجئوا ببطنها ذات يوم منتفخا، فعلموا أن أحد الذئاب البشرية قد استغل بلاهتها واعتدى على عِرْضها. ثم تفرّق الأيام بين الراوى وسعدى فلا يدرى ماذا حدث لها، إلى أن يعود الوباء كرة أخرى فيتذكر أم تمام وابنتها البلهاء، وإن ظل لا يعرف من أمر الفتاة شيئا (ص 87- 101).
(1/373)
أرأيتَ إلى فن الكاتب العجيب فى وصف الأم وابنتها وسرد ما وقع لهما؟ ترى كيف استطاع طه حسين، وهو الكفيف، أن يصور أم تمام فى انحنائها ومشيها وتقريصها روث البهائم وتنسُّمها ريح الموت، وهو الذى لم أجد له فى هذا الكتاب من ألفاظ الألوان تقريبًا إلا الأبيض والأحمر: الأبيض والأحمر بإطلاق؟ وكيف استطاع أن يوحى لنا بفظاعة الفقد وجوّ الموت الذى لا يرحم، وأن يتدسَّس إلى قلب أم تمام الملتاع على ولديها ويصوّرها وقد كَظَمَتْ آلامها فلم تُعْوِل بالصياح ولم تلطم خَدًّا، بل اكتفت بالبكاء الصامت وانتظار شبح الموت الشنيع، حتى إذا استبطأته بعد طول انتظار أخذت زمام المبادرة فألقت بنفسها وابنتها فى الترعة التماسًا للراحة من العناء الذى يَؤُود الظهر والفؤاد، لتموت هى وتعيش الابنة، لكنها عيشةٌ الموتُ أفضل منها آلاف المرات! كيف يا إلهى استطاع طه حسين أن يفجر الدمع على هذا النحو فى جوامد العيون؟ إنه حديث الذكريات الذى يبرع كاتبنا فى تناوله بل فى استحيائه براعةً عجيبةً قَلَّ أن يباريه فيها نظير، وهو نفسه ما صنعه فى كتابه "الأيام"، وبخاصة فى وصفه موت أخته الصغيرة ذات أعوام الأربعة التى كانت ريحانة الأسرة، وأخيه الذى كان قد قُبِل ذلك الصيف طالبًا فى مدرسة الطب وكان يساعد الأطباء فى معالجة المصابين من أهل قريته أثناء انتشار الكوليرا فى مصر فى بداية القرن العشرين، فالتقط العدوى من بعض المرضى وسرعان ما اغتاله الموت بعد أن برّحت به الآلام تبريحا فظيعا، مخلِّفا حسرةً فى قلب أمه إلى آخر حياتها، وهو وصف أبكانى عندما أعدت قراءة ذلك الكتاب فى الصيف قبل الماضى، وكأن الصبيّة والفتى ابناى أنا، وكأن موتهما لم يمرّ عليه سوى أيام معدودات (الأيام/ ط 63/ دار المعارف/ 1988م/ 1/ 118- 137، وهو الفصل الثامن عشر من الكتاب)! وقد بلغ من قوة الأثر الذى خلّفه وصف الدكتور طه لموت أخويه أن زكى مبارك كتب فى أوائل الأربعينات يقول إنه(1/374)
فكر أن يرسل له برقية عزاء رغم مرور ما يقرب من أربعين عاما على وفاتهما (كريمة زكى مبارك/ زكى مبارك ناقدا/ دار الشعب/ 1978م/ 65)!(1/375)
لأدب وعلاقته بالدين والأخلاق
بقلم :د.إبراهيم عوض
لا يتعلق الذوق الأدبى فى حقيقة الأمر بالشكل الفنى فحسب ، بل به وبالمضمون معا ، إذ هما مرتبطان بل ملتحمان بحيث لا يمكن الفصل بينهما، اللهم إلا على المستوى النظرى فقط ، أما فى الواقع فالفصل غير ممكن. والذين يظنون أن التذوق الأدبى لا علاقة له إلا بالجانب الفنى فى القصيدة أو المقال أو المسرحية ...إلخ هم ناس يهيمن فى الفراغ أو يجرون وراء الأوهام، إذ أين يمكن أن نجد الشكل الفنى منفصلا عن مضمونه ؟ إننا لو عملنا على مسايرة هؤلاء النقاد وحاولنا التوصل إلى شكل قصيدة من القصائد ، فأين يا ترى نجد الوزن دون الكلمات التى وُزِنَتْ عليه ؟ وأين نجد البناء بعيدا عما احتوته من أغراض أو أفكار أو أحداث أو مشاعر أو ما إلى ذلك ؟ وأين نجد حرف السين مثلا الذى يكثر فى البيت الفلانى للإيحاء بجو الهمس والإسرار ، إلا إذا أوردنا الألفاظ التى يظهر فيها هذا الحرف؟
الواقع أن هناك من البشر من رُزِقوا القدرة على الجدال فى البدهيات وإثبات المستحيلات دون أن يطرف لهم جفن !
والعجيب أن أمثال هؤلاء النقاد كثيرا ما تجرهم تحليلاتهم التى يحاولون أن يثبتوا بها دعاواهم إلى عتبات الحقيقة الساطعة سطوع الشمس فى رائعة النهار ، فيظن القارئ الطيب أنهم بسبيلهم إلى الإفاقة من غاشيتهم والتسليم بالحق الذى كانوا من قبل يكابرون فيه ، لكنه لدهشته الشديدة يفاجأ بهم وقد استداروا على أعقابهم يَعْدُون بأقصى ما يستطيعون من قوة عائدين من حيث أتََوْا ، أو يراهم وقد أغلقوا عيونهم كيلا يَرَوْا ما هو ماثل أمامهم، ثم زادوا فعصبوا تلك العيون بأغطية تحول تماما بينها وبين الشعور بأن هناك بالخارج ضوءا!
(1/376)
وللأسف فإن بين هؤلاء السابحين وراء الوهم فى الفراغ كتّابا كبارا كالدكتور زكى نجيب محمود . خذ مثلا ما يقوله عن الشعر ومادته : " مادة الشعر الكلمات ، والكلمات فى نشأتها الأولى رموز تواضع عليها أبناء الجماعة الواحدة لترمز إلى شىء سواها حتى ليستطيع المتكلم أن ينيب كلمة عن مسماها ، فإذا أراد أن يحدّث سامعه عن "شجرة" لم تكن به ضرورة أن يذهبا معا إلى حيث يريان شجرة ماثلة أمام بصريهما ، بل تكفيه الكلمة بديلا عن مسماها... ومن ثَمَّ كانت اللغة فى نشأتها الأولى أداة اجتماعية بالضرورة ، فما خُلِقَت إلا لأن أكثر من شخص واحد قد اجتمعوا على أهداف مشتركة : فمنهم المتكلم ، ومنهم السامع . ولو نشأ إنسان واحد بمفرده فى جزيرة معزولة ما تكلم . لكن هذه الأداة اللغوية سرعان ما تحولت عن طبيعتها تلك الأولى إلى طبيعة ثانية فأصبحت لها طبيعتان ، ولمن يستخدمها من الناس حق اختيار إحدى الطبيعتين وفق الغاية التى يريد تحقيقها . فأما هذه الطبيعة الثانية فهى أن نقف عند حد الأداة اللغوية لا ننفذ منها إلى شىء وراءها ، فليست هى فى هذه الحالة مستخدمة لتنوب عن أشياء أخرى ، بل هى عندئذ تُطْلَب لذاتها . أرأيت طفلا يهمّ بفتح باب مغلق ، فيدير مقبضه فتعجبه حركة المقبض فى يده ، فيتحول عن غايته الأولى إلى غاية ثانية لا يكون فيها المقبض وسيلة إلى ما عداه ، بل يُطْلَب لذاته وللنشوة المتولدة عنه ؟ فهكذا اللغة : فإما استخدمتَها لما خُلِقَتْ له أول الأمر ، وهو أن تشير إلى أشياء ، وإما استخدمتَها غايةً فى حد ذاتها يمتعك سماعها بغض النظر عن دلالتها الخارجية ، والشعر هو هذه الحالة الثانية . فلئن كانت مادة الشعر كلمات ، إلا أنها كلمات نُسِّقَتْ على نحو يمتع السمع لما فيها من صفات ليس بينها صفة كونها مطابقة للأشياء والحوادث كما هى واقعة فعلا فى دنيانا التى نعيش فيها . فإذا كان بين الشعر من جهة وأشياء الواقع من جهة أخرى تطابق فهو(1/377)
تطابق غير مباشر ، وليس هو كالتطابق الذى يكون بين اللغة والأشياء فى أحاديث التفاهم التى نألفها فى حياتنا اليومية الجارية " (1).
وهذا النص للأسف مملوء بالمغالطات : فهو يقول مثلا إن اللغة إنما خُلِقَتْ للتفاهم بين الناس بحيث لو نشأ إنسان بمفرده فى جزيرة منعزلة ما تكلم ، ثم يعود رغم ذلك فيؤكد أن الشعر ، وإن كانت مادته اللغة والكلمات ، لا يُقْصَد به توصيل شىء ما ، بل مجرد التلذذ بالكلمات ذاتها ، وهى الوظيفة التى تحولت إليها اللغة فحادت بها عن مهمتها التى كانت لها فى البداية . ولقد نَسِىَ الدكتور أن يبين لنا متى حدث هذا التحول ، وكيف . لقد كان عليه أن يفعل ذلك كى يكون كلامه مقنعا ، لكنه لم يفعل ، ولا أظنه هو أو غيره يستطيع شيئا من هذا ، إذ الكلام هنا عن ماضى البشرية السحيق الذى انطوى فى غمار الزمن ، وليس لعودته من سبيل ، اللهم إلا إذا استطاع التقدم العلمى يوما أن يستعيد لنا ما مضى فى غياهب التاريخ . وإذن فعلينا أن ننتظر ، وإن كنت أخشى أن يطول الانتظار، وربما إلى الأبد! إن هذا الكلام لا معنى له إلا أن اللغة العادية التى ليست بشعر ولا أدب تخلو مما يمتع ويسر الأذن والعقل والخيال ، فهل هذا صحيح؟ إن كثيرا جدا من كلامنا العادى مملوء بالصور الفنية والتنغيمات الموسيقية. حتى النساء فى الأحياء الشعبية يستخدمن فى مشاجراتهن عبارات ممتعة فى تصويرها وتنغيمها وتركيبها ومفرداتها، وفى ذات الوقت تعبر عما تكنه الواحدة منهن لغريمتها من حقد أو
احتقار أو ما تنوى أن تفعله بها من ضرب أو طرد أو جر إلى قسم الشرطة ...إلخ. فكيف يقال إن اللغة كانت لها فى البداية
وظيفة واحدة فقط هى توصيل الأفكار والمشاعر وما إلى ذلك ، ثم طرأت لها وظيفة أخرى لا تلتقى بالأولى ولا علاقة لها بها هى مجرد التلذذ بالكلمات والانتشاء بها ؟
(1/378)
إن هذه الوظيفة الثانية المدّعاة لا يمكن أن تتحقق إلا إذا كان هِجِّيرَى الشاعر الانقطاع إلى الألفاظ والعكوف عليها يعبث بها كما يحلو لهواه دونما التفات إلى القواعد التى تَحْكُم صياغتها فى ذاتها وفى تركيبها بعضها مع بعض بغية الحصول على عبارات وصور . وكل ما سوف نحصل عليه فى هذه الحالة هو مجرد تتابع أصوات لا معنى لها، أصوات قد يكون فيها جَرْس موسيقى ، لكنها لا تدل على شىء البتة. فهل هناك شاعر أو أديب يفعل هذا ، اللهم إلا أن يكون ملتاثا أو عابثا أو مستهترا ؟ لكن أحدا لا يأخذ العابث أو الملتاث على محمل الجِدّ ، فضلا عن أن يقول عنه إنه شاعر أو أديب ! ثم إذا كان الأمر كذلك فمعناه أن ما يقوله الأستاذ الدكتور من أن الإنسان إذا نشأ وحده فى جزيرة منعزلة ما كُتِب أن يتكلم هو قول باطل ، إذ ما دامت اللغة تتحول إلى غاية فى ذاتها يتلذذ الإنسان باللعب بها وبالنشوة المتولدة عن هذا اللعب ، فليس شرطا أن يكون هناك طرف آخر يسمع ، بل يكفى وجود مستعمل اللغة فحسب . أرأيت أيها القارئ إلى هذا التناقض العارى؟
(1/379)
ولقد أغنانا د.زكى نجيب محمود عن أن يتصدى لنا من يدَّعِى أنه لم يقصد إلى هذا ، إذ ضرب لنا هو نفسه مثال الصبى ومقبض الباب. فمن الواضح أن الصبى هنا يلعب ويعبث ، ولا أحد يسميه " فنانا " بأى معنى من معانى الفن . ولسوف يسارع أبوه أو أمه بنهيه عما يفعل وصرفه إلى شىء يفيده أو على الأقل يجنّبهما ما يُحْدِثه من ضجة أو ما يمكن أن يؤدى إليه هذا العبث من تلف المقبض أو الباب! ومقطع الصواب فى هذا ، إذا أردنا أن نُبْقِىَ على المثال الذى ضربه الدكتور أو نَبْقَى على الأقل قريبين منه ، أن نقول إن هناك طريقتين للاستئذان على من بداخل الغرفة : فإما أن ننقر الباب النقر الذى ينقره الناس عادة إلى أن نسمع الإذن لنا بالدخول فندخل ، وإما أن ننقره نقرا منغما فنؤدى بذلك وظيفتين : إمتاع من بالداخل ، واستمتاعنا نحن الناقرين . وكذلك الأدب والشعر فى واقع الأمر وحقيقته . إنه يهدف إلى توصيل شىء ما لقارئه أو مستمعه ، لكن بطريقة فنية ممتعة . أما أن يقال إنه بطبيعته لا يعنى شيئا لغير صاحبه فذلك ضرب من السفسطة العجيبة !
(1/380)
ولقد شعر كاتبنا أن قدمه ستنزلق إلى الاعتراف بالواقع الذى يفقأ عين المكابرين ، بل إنه أوشك أن يتراجع . بيد أنه ، مثل أى معاند ينكر سطوع الشمس فى ضحى الصيف ، قد سارع فأغمض عينيه ووضع يديه عليهما ظنا منه أنه ما دام لا يرى فى هذه الحالة ضوء الشمس فإنها لن تكون من ثَمَّ مضيئة ! لقد أنكر إنكارا تاما فى البداية وجود أية دلالة للكلمات فى القصيدة على أى شىء وراءها ، لكنه عندما كرر هذه الفكرة بعد قليل نافيا وجود أى تطابق بين الكلمات وبين الأشياء والحوادث ضيَّق الكلام بعض التضييق قائلا إنها " كلمات نُسِّقَتْ على نحو يمتع السمع لما فيه من صفات ليس بينها صفة كونها مطابقة للأشياء والحوادث كما هى واقعة فى دنيانا التى نعيش فيها " . بل إن رجله قد انجرّت خطوة أخرى نحو الحق الذى يأبى الاعتراف به ، إذ أضاف عُقَيْب هذا أنه " إذا كان بين الشعر من جهة وأشياء الواقع من جهة أخرى تطابق ، فهو تطابق غير مباشر ، وليس هو كالتطابق الذى يكون بين اللغة والأشياء فى أحاديث التفاهم التى نألفها فى حياتنا اليومية " (2).وأحسب أن التراجع فى كلامه واضح غاية الوضوح ، ومع ذلك يصر على أن الشعر لا يُقْصَد يه توصيل أى شىء إلى السامع أو القارئ . وبالمناسبة فهناك خطأ آخر كبير وقع فيه ناقدنا ، ألا وهو قَصْره متعة الشعر على الأذن والسمع كما هو واضح من السطور الماضية ، مع أن الشعر ليس أنغاما فقط ، بل أنغام وصور وتعبيرات وأفكار ومشاعر وبناء فنى ، وفى كل شىء من هذا كله من المتعة ما فيه .
(1/381)
إلا أن تراجع الأستاذ الدكتور لم يقف عند هذا الحد ، إذ ذكر بصريح العبارة أنه ليست هناك أية مشاحَّة فى أن الشعر المسرحى ، وكذلك شعر المديح والهجاء والاستنهاض ، إنما قيل لتوصيل معنى إلى جمهور المشاهدين والمستمعين ، لكنه رغم ذلك يأبى إلا الاستمرار على مكابرته قائلا إن هناك لونا آخر من الشعر يناجى فيه الشاعرُ نفسَه ، وإن هذا هو الشعر الذى يقصده ، رغم اعترافه أن معظم شعرنا العربى قديمه وحديثه قد قيل فى المدح والهجاء والاستنهاض وما إلى ذلك. بل إنه ليُخْرِج من الشعر الذى يعنيه شعرَ الغزل بشبهة أن الشاعر لا يناجى فيه نفسه بل حبيبته ، فهو يتجه بالخطاب إليها ولو نظريا على الأقل ، ولا يُعْقَل أنه يخاطب فيه الهواء (3). وبالمثل نقول نحن : وحتى عندما ينظم الشاعر قصيدة يناجى فيها ذاته فإنه إنما يخاطب الآخرين عارضا عليهم أفراح نفسه وأشجانها ، وآمالها وآلامها ، وطماحها ويأسها ...إلخ، خضوعا منه لطبيعته البشرية التى لا يستطيع التنكر لها فى هُفُوّها للتواصل مع الآخرين بحثا عن التعاطف والسلوى من جهة ، وتطلعا إلى تقديرهم لإنجازه الأدبى من جهة أخرى ، وإلا فلماذا تَحْفَى أقدام الأدباء والشعراء لينشروا ما يكتبون ولا يكتفون بالإبداع فى ذاته فيحبسوه فى الأدراج ويريحوا أنفسهم من تعب النشر وما يُنْفَق فيه من مال ، وما قد يُبْتَذَل أيضا من كرامة ؟
(1/382)
ويستمر انزلاق قدم كاتبنا فيعترف أن الشاعر الذى ينظم شعر المناجاة الذاتية هو أيضا يفكر فى الآخرين وفى توصيل شعره إليهم ، لكنه يظل على مكابرته قائلا إن هذا إنما يتم فيما بعد ، إذ هو لا يفكر فى شىء من هذا أثناء النظم ، أما بعد الفراغ من القصيدة فالأمر يختلف ، إذ " يرد الناس الآخرون إلى خاطره فينشر فيهم قصيدته ليقرأها من هو فى مثل حالته فينفِّس بها عن كربه ، ولينقدها ناقد فيعلم الشاعر من خلال نقده كيف جاءت نفثته " (4).إذن فالشاعر حين ينظم شعره ، ومثله الأديب عموما فى سائر إبداعات الأدب ، إنما يريد توصيل شىء للآخرين . وليس يهمنا أهو يعى ذلك منذ بداية إقباله على إبداع القصيدة أم إنه يطرأ له فيما بعد ، فهذه مسألة ثانوية لا تقدم ولا تؤخر . ولقد كررها كاتبنا بمنتهى الوضوح فى قوله إن " الشعر ، كائنة ما كانت صورته ، يجاوز حدود الشاعر إلى سواه ". الله أكبر ! ففيم إذن كل هذا الجدال والعناد ومحاولة إنكار البدهيات ؟ لكنْ صَبْرًا أيها القارئ ، فالدكتور لا يزال قادرا بل مصرًّا على الجدال والعناد إلى آخر لحظة ، فـ " الشعر ، إذ ينقل شيئا من قارئه إلى سامعه ، فهو لا ينقل خبرا معينا عن شىء أو عن فرد معين ، بل ينقل حالة من الحالات الخالدة التى ما تنفك تتكرر كأنها قانون قانون سرمدى فى الكون وفى الناس من الأزل إلى الأبد " (5). يقصد أن الشاعر إذا تحدث مثلا عما يحس به من سأم فهو لا يتحدث حينئذ عن سأمه هو فلان الفلانى ، بل عن السأم البشرى الذى يحسه الناس جميعا وسيظلون يحسونه إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها . ثم يعقّب قائلا إنها " حقيقة خالدة ندركها عن طريق موقف جزئى " ، ليختم حديثه بقوله : " فلْيَتَغَنَّ الشاعر لنفسه أولغيره ، فهو فى كلتا الحالتين يُنْشِد للناس أناشيد الحقائق الخالدة ؟ (6).
(1/383)
هكذا ينقض الكاتب كل ما قال ، لكن دن أن يقر بأنه قد تراجع عن رأيه ، فهو حتى آخر لحظة لا يكف عن افتعال الاستدراكات والاشتراطات واختراع القيود والحدود التى لا وجود لها إلا على لسانه فقط ، فمن الواضح أنه غير مقتنع بما يقول ، أو إذا أحسنّا به الظن قد بدأ مقاله بفكرة حسبها صحيحة ، لكنه كلما مضى معها خطوة بدا له شىء من عُوارها حتى تبخرت تماما فى النهاية ، إلا أنه عَزَّ عليه أن يعترف بأنها فكرة متهافتة ، بل ظل يدافع عنها فى سفسطة عجيبة أستغرب أن يكون صاحبها هو الدكتور زكى نجيب نفسه ! ومن الطريف أن ينكر مع ذلك أن الشاعر ، حين يتحدث فى شعره عن سأمه أو حيرته أو قلقه مثلا ، إنما يخبرنا عن شىء ، بل ينقل لنا حالة من الحالات النفسية ...إلى آخر ما قال . لكن ماذا بالله نسمى صنيع الشاعر هذا ؟ إنه ، والله العظيم ثلاثا ، إخبار لنا عن هذه الحالة ، سواء قلنا إنها حالته هو الخاصة أو قلنا إنها حالة البشر بوجه عام . إن الشاعر هنا إنما يريد أن يوصّل لنا ما يقوله ، وليست اللغة فى يديه مجرد كلمات لا يشير بها إلى شىء ولا يبغى من ورائها سوى إمتاع أذنه بجرْسها الموسيقى .
(1/384)
ليس هذا فحسب ، فالأستاذ الدكتور فى كل نقده التطبيقى ينسى ما قاله من أن اللغة فى يد الشعراء تكفّ عن أن تكون أداة تهبهم النشوة من خلال ما تُحْدِثه من جرْسٍ موسيقىّ تَلَذّه آذانهم ، ينسى هذا كله ويُقْبِل على القصيدة التى ينقدها إقبال من يؤمن أنها إنما نُظِمَتْ لتقول لنا شيئا بل أشياء ، بل هو يقول ذلك بنفسه ولا يتركه لنا نستشفّه استشفافا . إن له مثلا مقالا عنوانه " فلسفة العقاد من شعره " (7)، ولا أظن إلا أن العنوان واضح تمام الوضوح فى أن العقاد قد نظم شعره ليوصّل إلينا آراءه ومواقفه من الكون والحياة والناس . فهو إذن يقول شيئا ، وليس الأمر مجرد كلمات يقوم بتقليبها وتركيبها على نحو تَلَذّه أذناه . كما أن لكاتبنا مقالا آخر عن " شكسبير فى عصره وفى كل عصر " يؤكد فيه أن رسالة ذلك الشاعر " هى تحليل هذا التعارض العجيب الذى كأنه لازمة من لوازم النفس البشرية بين دواعى النجاح العملى من جهة ومقتضيات الأخلاق من جهة أخرى " (8).وكذلك له مقال ثالث عن شعر صلاح عبد الصبور فى ديوانه " الناس فى بلادى " عنوانه " ما هكذا الناس فى بلادى " (9) يؤكد فيه أن ما يقوله الشاعر فى ذلك الديوان عن مواطنيه غير صحيح وأن الصورة التى رسمها لهم هى صورة زائفة . فما معنى هذا يا تُرَى ؟ معناه ، بالخط العريض ، أن الشاعر إنما ينظم شعره ليقول لنا شيئا ويوصّل إلينا معنى وشعورا وموقفا وصورة لشىء وراءه ، وليس مجرد كلمات يعكف عليها لا يبغى من ورائها سوى التلذذ بما تُحْدِثه فى أذنه من رنين . وفى مقال رابع عن ديوان أحمد عبد المعطى حجازى يكتب ناقدنا عن القصيدة التى عُنْوِن بها الديوان قائلا : " فى القصيدة صوت واحد مسموع هو صوت الشاعر نفسه يصف ويروى ويوجه الخطاب إلى غائبة لا تجيب " (10). وفى مقال خامس نراه يشكك فى أن يبقى لشعر أدونيس قوته وتأثيره بعد أن تمر عليه القرون ولا يجد الناس حولهم ما يضىء لهم ظلمات غموضه وإلغازه (11)،(1/385)
ومعنى هذا إقراره ضمنيا بأن وظيفة الشعر ، أو من وظيفته على الأقل ، توصيل شىء من الشاعر للناس ، وإلا فما الذى يضير فى ألا يبقى لقصائد أدونيس أثرها وقوتها بعد قرون أو عقود ما دام الشعر عنده لا يخرج عن كونه كلمات لا تشير إلى شىء وراءها ، وليس لها من فائدة سوى أن يعكف الشاعر على تشكيلها بما يمتع أذنه ؟
(1/386)
وقد شرح الأستاذ الدكتور فى مقال له عنوانه " تحليل الذوق الفنى " المذهب الذى يجرى عليه فى نقد الأدب ، وهو مذهب " مؤداه أن ينصبّ تحليل الناقد الأدبى على العمل الفنى نفسه لا لننفذ خلاله إلى نفس الفنان ولا إلى العالم الخارجى بماضيه وحاضره ، بل لنقف عنده هو ذاته فنرى كيف تأتلف عناصره مما قد أدَّى إلى حسن وقعه على ذوق المتذوق . نعم نحصر أنفسنا فى العمل الفنى نفسه فلا نسمح لأى عامل خارجى أن يتدخل فى حكمنا كنفس الفنان ومشاعره أو حوادث التاريخ أو الأساطير الدينية (12) وغير الدينية أو المبادئ الخلقية أو الأفكار الفلسفية أو المذاهب السياسية ، فلا يجوز للناقد... أن يسأل عن لوحة مثلا قائلا : ما مغزاها ؟ أو ما معناها ؟ لأنه لا مغزى ولا معنى فى الفنون ، إذ الفن " خَلْق " لكائن جديد. هل نسأل عن جبل أو عن نهر أو عن شرق أو غرب قائلين : ما مغزى ؟ وما معنى ؟ أو هل ترانا ننظر إلى التكوين وحده معجبين أو نافرين ؟ ... وهكذا ينبغى أن يكون موقفنا إزاء العمل الفنى لأنه خَلْق وإنشاء ، وليس كشفا عن أى شىء كان موجودا بالفعل ثم جاء الفن ليصوره . العمل الفنى...معياره هو الفن نفسه : فمعيار الشعر هو الشعر ، ومعيار الموسيقى هو الموسيقى ، ومعيار التصوير هو التصوير ... وهكذا. أعنى أن تقاليد كل نوع من أنواع الفنون وقواعده الخاصة به هى السند فى أحكامنا النقدية . ولا يجوز لناقد اللوحة التصويرية مثلا أن يقوِّمها على أساس من موقعة حربية أو من أسطورة أو من كلمة فلسفية أو من مبدإ خلقى . كل هذه أشياء لها قيمتها فى مضمارها ، لكنها ليست من فن التصوير ذاته . فمادة التصوير لون ، أعنى أن مادته هى الضوء، كما أن مادة الموسيقى هى الصوت . ولا بد أن نحاسب الفنان على الطريقة التى وزع بها هذا اللون أو هذا الضوء على لوحته بغض النظر عن الشىء المرسوم ، لأن هذا الشىء لا يزيد عن كونه تكأة اتخذها الفنان اتفاقا ليرتكز عليها فى تكوين(1/387)
الكُتَل الضوئية على اللوحة " (13).
هذا هو مذهب الأستاذ الدكتور فى النقد عرضناه من خلال ما كتبه هو نفسه بقلمه وبيَّنّا ما فيه من مغالطات وتناقضات وأخطاء ، وأرَيْنا القارئ فوق هذا كيف أنه ، فى نقده التطبيقى ، لم يجر البتة على ما دعا إليه ، بل كان يردد ما نقوله ونرى أنه الحق الذى لا مرية فيه ، ألا وهو أن الشاعر ، بل الأديب بوجه عام ،حينما ينظم قصيدة أو يؤلف رواية مثلا إنما يريد أن يعبر عن شىء ما وأن يوصّله إلينا . وهذا الشىء قد يكون فكرة أو شعورا أو صورة لشىء ما فى الطبيعة من حوله أو فى داخل نفسه أو خيالا تخيله ...إلى آخر ما يمكن أن تقوله لنا القصيدة أو الرواية أو المقال أو الخطبة . أما الزعم بأن الشاعر مثلا إنما يقف عند الكلمات لا يعدوها إلى شىء وراءها ، إذ كل غايته من شعره العكوف على الكلمات وما يمكن أن تنطوى عليه من أنغام موسيقية تلَذُّها الأذن ، فقد بان لنا خطؤه وخطله ، وظهر مملوءا بالثقوب الفاغرة .بل لقد رأينا الأستاذ الناقد نفسه وهو يحاول سدّ هذه الثغرات دون جدوى . ولست أدرى فى الواقع ما الذى يحدو بكاتب كبير كالدكتور زكى نجيب إلى هذه المكابرة وتلك السفسطة فى الدفاع عن مذهب فى النقد متهافت كالمذهب الذى يدعو إليه ويُعْلِى من شأنه ويزعم أنه هو وحده المذهب الصحيح !
(1/388)
والآن ، وبعد أن فرغنا من مناقشة الأستاذ الدكتور وأظهرنا ما فى رأيه من ثغرات واسعة لا يمكن رتقها ، لا نجد لزاما أن نقف بهذا التريث إزاء ما يقوله د.عبد المنعم تليمة ، وبخاصة أنه لا يقول جديدا ، بل يردد ما سمعناه لدى د. زكى نجيب محمود من أن مهمة الشاعر إنما هى مهمة " تشكيل " لا " توصيل " ، فهو " لا يتوجه بمعنى مسبق يسعى إلى توصيله ، كما أنه لا يتوجه إلى غرض يسعى إلى التعبير عنه ، ولكنّ تَوَجُّهه إنما إلى أن يثير فى اللغة نشاطها الخالق حتى يكتمل له التشكيل الجمالى الذى يوازى به رمزيا واقعه النفسى والفكرى والروحى والاجتماعى " (14).وأرجو من القارئ أن يلاحظ هذه الموازاة التى يشير إليها الكاتب ، فهى تومئ إلى ما لا يريد أن يُقِرّ به صراحة أولئك الذين يزعمون أن الشاعر ليس عنده شىء يريد توصيله للآخرين . إنهم يدورون ويلفّون حول أنفسهم محاولين شَغْل القارئ بهذه الحركة الدائرية عن تهافت موقفهم وفهاهة فكرتهم . ولو أنصفوا لأراحونا واستراحوا معنا وأقروا بالحق الذى يعلو ولا يُعْلَى عليه ، لكنه العناد والمكابرة !
(1/389)
وسوف يقول الباحث بعد ذلك إن التشكيل اللغوى فى الشعر يرتبط بأدوار دلالية ، وهذه الأدوار الدلالية تمثل الجانب الثانى فى السياق الشعرى ، كما تكلم أيضا عن معنى القصيدة وبنائها الفكرى (15). ولهذا وذاك دلالته التى لا تخفى . وفى موضع آخر نراه يقول إن الشاعر إنما " ينتج…شكلا معرفيا خاصا ، هذا الشكل المعرفى هو نفسه ثمرة لتعرُّف خاص على الواقع . أى أن الشاعر يتعرف على واقعه تعرفا خاصا وينتج ضربا من المعرفة بهذا الواقع … إن ماهية هذا الضرب الخاص من المعرفة ماهية جمالية ، ومادته الطبيعة والمجتمع بمظاهرهما وظواهرهما ، ومجاله الحياة النفسية العاطفية الروحية ، وأداته القوة المدركة والطاقات الذائقة " (16). ويلاحظ القارئ هنا أيضا نفس الحيرة والتخبط اللذين شاهدناهما لدى د. زكى نجيب محمود ، ونفس المحاولة الفاشلة لإقناع القارئ بما ليس فيه مقنع ، لكن دون أن يكون هناك الأسلوب المحكم الأنيق أو الشرح الواضح والأمثلة المضيئة التى تتميز بها كتابات الأستاذ الدكتور !
(1/390)
العمل الأدبى إذن ، شعرا كان أو نثرا ، هو شكل ومضمون ، والتذوق إنما ينصبّ عليهما جميعا . وهذا أشبه بطبق من الطعام وُضِع أمامى لأتذوقه وأقول رأيى فيه ، فلا أظن أن هناك من يمكن أن يجادل فى أن عملية التذوق لا تقتصر على إلمامى بالطريقة التى أُعِدَّ بها ، بل لا بد أن أمدّ يدى للطبق وأذكر اسم الله عليه وأغمس اللقمة وآكل ، وعندئذ ( وعندئذ فقط ) أستطبع أن أقول إننى قد تذوقته ، وأن أصدر حكمى عليه داعيا لمن طبخته أن يسلِّم الله يدها ، أو مقطبا جبينى ومشيحا بوجهى عنه وعن من أعدّته . ونفس الشىء فى العمل الأدبى ، وكذلك فى الأعمال التشكيلية التى تدور حول موضوع من الموضوعات ، إذ لا يمكن اقتصار التذوق فيه على الشكل الفنى ، وإلا فالسؤال هو : أين ذلك الشكل الفنى منفصلا عن الموضوع ؟ وسرعان ما يأتى الجواب باترا كالسيف أن الشكل الفنى بهذا الوضع لا وجود له . إنه رابع المستحيلات ، بل هو فى الحقيقة أولها . كما أن موضوع العمل الأدبى ليس مجرد مادة تاحت للأديب فأظهر من خلالها الشكل الفنى الذى كان فى ذهنه طِبْقًا لما يريد منا د. زكى نجيب أن نسلم به . إن ثمة تلاحما بين الشكل والمضمون لا يمكن انفصامه ، وهذا التلاحم قد أرّق الأديب وعذّبه زمنا إلى أن خرج إلى نور الوجود فأحس عندئذ براحة الخلاص من هذا العناء الثقيل المبرِّح ، فكيف تسوِّل لكاتبنا نفسه أن يتجاهل ذلك كله ويزعم أن الأمر برُمَّته فى التذوق الأدبى إنما مردّه إلى الشكل الفنى ليس غير ؟
(1/391)
ولقد يسأل سائل : ولماذا هذا الخلاف كله ؟ وما الذى سيترتب على أخذنا بهذا الرأى أو ذاك ؟ الواقع أن لكل من الرأيين نتائجه التى لا تخطر على بال المتعجلين : ذلك أننا إذا قلنا إن العمل الأدبى ليس إلا مجرد شكل فنى ن وإن التذوق من ثَمَّ لا يتعلق إلا بهذا الشكل الفنى ولا علاقة له بمضمون العمل ، فإننا نحصر أنفسنا فى مسألة الشكل ، الذى قلنا إنه لا وجود له مستقل عن ذلك المضمون ، ولا نبالى حينئذ بأى شىء يتضمنه العمل الأدبى أيًّا كانت مصادمته للعقيدة التى نعتقدها ، أو للأخلاق التى نتمسك بها ونرى أنها هى السبيل لسعادتنا وسعادة الأمة التى ننتمى إليها ، وأيًّا كانت إساءته للتاريخ الذى نتشرف بالاعتزاء إليه ، إو للرموز الإنسانية التى نضعها دائما نُصْبَ أعيننا ونتخذ منها مثلنا العليا ...إلخ.
تُرَى كيف يمكن أن يسكت مسلم على الصورة التى رسمها جرجى زيدان لمحمد بن أبى بكر الصديق المشهور بالزهد والورع فى روايته " عذراء قريش " ، وهى صورة العاشق الذى يتدلّه فى هوى فتاة تدلُّهًا يدفعه إلى الثورة على عثمان ، ويدخل من ثَمَّ فى منافسة مع الحسين بن علىّ على حبها وتقع بينهما الغيرة العنيفة بسببها ، مع أن ذلك كله لا حقيقة له باعتراف المؤلف نفسه الذى قال إنه قد أدخل فى كل رواية من رواياته الإسلامية حكاية غرامية كى يغرى القراء بمطالعتها ؟ أم ترى كيف يقبل المسلم النهاية الغريبة التى يزعم زيدان فى روايته " شارل وعبد الرحمن " أن قائد الفرسان المسلمين فى معركة بواتييه جنوب فرنسا قد وضعها لحياته ، إذ قام بإغراق نفسه فى النهر يأسا بعد هزيمة المسلمين أمام شارل مارتل ؟ (17). إن ذلك لهو المستحيل بعينه ، لأنه بكل بساطة لم يقع ! ومثل هذه الحادثة ليست من التفاهة وهوان الشأن بحيث يمكن للضمير المسلم أن يمر عليها مرّ الكرام فلا ينبس ببنت شفة !
(1/392)
لقد هاج صنيعُ زيدان فى رواياته عن تاريخ الإسلام الغيارَى على هذا التاريخ فانتقدوه وأظهروا أخطاءه بل خطاياه . وعبثا يحاول كاتب مادة " زيدان " فى " The Encyclopaedia of Islam " أن يَعْزُوَ هذا النقد إلى تعصب المسلمين المحافظين الذين ضايقهم ، كما يقول ، تناول أحد المؤلفين النصارى لموضوعات إسلامية (18). وهو رد متهافت ، فإن أولئك النقاد قد ساقوا الأسباب التى حدت بهم إلى انتقاد زيدان ، وهى أسبابٌ جِدُّ مقنعةٍ على ما فصّلْتُ فى الفصل الرابع من كتابى " نقد القصة فى مصر : 1888 – 1980 م " (19).ثم إنهم لم يَنْهَوْه عن الكتابة فى تاريخ الإسلام ، بل كل ما طالبوه به هو ألا يفتئت على الحقيقة التاريخية ، أو يفترى عليها بالأحرى . أما حكاية " المحافظين " و " الثوريين " فهى لعبة مكشوفة لا تجوز عندنا ، فنحن نعرف أن المستشرقين والمبشرين ومن يلوذ بهم من الذيول فى بلادنا من كل من تورَّم قلبه بغضا لدين محمد يتهمون كل من يغار على دينه منا بأنه " محافظ " ، أى رجعى متخلف ، أما من يشايعهم على كراهية الإسلام وتاريخه ورجاله فإنه من العباقرة المتنورين.
(1/393)
وفصل القول فى هذه القضية أن الإنسان لا يمكن أن ينقسم على نفسه فيمدح عملا أدبيا يسىء إلى ما يؤمن به من دين أو يستمسك به من خُلُق ، وإن لم يعن هذا بالضرورة أن عليه مدح أى عمل يعلى من شأن هذا أو ذاك حتى لو كان مستواه رديئا . ليس من المعقول أن أومن بالإسلام وأن محمدا رسول من رب العالمين وأنه كان على خلق عظيم ثم أتلقى بعصب بارد الهجوم عليه أو على دينه بحجة أنى أطالع عملا أدبيا وأن كل ما يهم فى العمل الأدبى هو جانبه الفنى ليس إلا.كذلك ليس من المعقول أن ينفر المسلم بطبيعة دينه من الزنا وشرب الخمر ثم لا يبالى بمسرحية تدعو إلى حرية الفاحشة أو تزين أم الخبائث . إن من يفعل ذلك إما أن يكون مصابا بانفصام فى شخصيته ، أو ضعيف الوازع الدينى لا يجد حرجا فى مقارفة المعصية وتزيينها ، أو منافقا يُظْهِر الإسلام ويُبْطِن خلافه.
ومن المناسب أن أذكر فى سياقنا هذا ما قاله د. محمد حسين هيكل فى كتابه " ولدى " عن مسلم ومسلمة كانا يشاهدان فى الكوميدى فرانسيز فى عشرينات القرن الماضى مسرحية تاريخية تدور حول الحروب بين مسلمى الأندلس ونصارى أوربا ، ويقوم بدور شارلمان فيها ممثل فرنسى يسب المسلمين ودينهم واصفا إياهم بالكفار وداعيا إلى قتالهم ، فبلغ من إعجابهما بالممثل وأدائه أنْ أخذا يصفقان رغم كل الإهانات والشتائم الموجهة لدينهما . وكان تعليق الدكتور هيكل على ذلك أن " سمو فن الكاتب وعظمة الممثل وبراعته قد أنست السامعين كل ما سوى الفن والإعجاب به . ذلك بأنه أخذ بالمشاعر جميعا فأنساها الحياة الوضيعة وسما بها إلى حيث لا يقدّر شيئا غيره كائنة ما كانت المعانى التى يعبر عنها والصور التى يجلوها والعواطف التى يُجِيشها " (20).
(1/394)
هذا تعليق كاتبنا على سلوك هذا المسلم وتلك المسلمة اللَّذَيْن أرجو من الله سبحانه ألا يكونا هيكل وزوجته ، التى كانت ترافقه فى هذه الرحلة . أما تعليقى أنا فهو ( بالفن الملآن ) أن هذا كلام فارغ ، إذ لا يمكن أن يطغى الشعور الفنى لدى المسلم الحق على شعوره الدينى أبدا . إن مثل هذين الشخصين لا يمكن أن يكونا مسلمين صادقين . وعجيب أن يفسر هيكل سلوكهما ذاك بأنه سمو عن الحياة الوضيعة ! أية حياة وضيعة تلك التى يشير إليها ، وإنما هو الدين والغيرة عليه عند كل مسلم ينبض قلبه بحرارة الإيمان ؟ أهذه هى الحياة الوضيعة فى نظره ؟ حَرِىٌّ بالذكر أن هيكل فى ذلك الوقت كان بعيدا عن الإسلام يدعو بدعوة الفرعونية قبل أن تعود جذوات الإيمان التى كانت مطمورة تحت الرماد فى أعماق قلبه إلى الاشتعال من جديد بعد أعوام قلائل ، فينتضى قلمه ويشرع فى الكتابة مدافعا عن الإسلام ونبيه ، مسفها ما يزعمه بشأنه المستشرقون والمبشرون (21).
(1/395)
وعلى ضوء ما قلناه الآن نستطيع أن نفهم موقف أولئك المنتسبين إلى الإسلام الذين وقفوا إلى جانب سلمان رشدى فى روايته " الآيات الشيطانية " وحيدر حيدر فى وايته " وليمة لأعشاب البحر " بشبهة الانتصار لحرية الإبداع الأدبى رغم أن الروايتين مفعمتان بالإساءات البذية المتجاوزة لكل الحدود إلى ربنا ورسولنا والقرآن الذى أُنْزَل علبه والدين الذى جاء به والقيم الخلقية التى نغار عليها ونؤمن ألا نجاة لنا فى الدنيا والآخرة إلا بالتزامها . إنهم يزعمون أن دفاعهم عن هذين العملين إنما هو دفاع عن حرية التعبير ، وأن العبرة بالجانب الفنى فى المسألة . وهذا كذب وتدجيل ، والحقيقة أنهم يبتهجون بكل ما يسىء إلى الإسلام ويرحبون بكل من يتطاول عليه . هذه هى القضية فى وضعها الحقيقى ، ولو كانت الرواية تهاجم شيئا مما يؤمنون به لانهالوا عليهما وعلى صاحبيهما تمزيقا . ولقد غَبَرَ على كثير منهم زمن كانوا يلحون على الأدباء والشعراء أن يهاجموا الإقطاعيين والرأسماليين وعلماء الدين المسلمين ، اما من يشتَمّون فى كتاباته رائحة الخروج على اتجاهاتهم التخريبية فكانوا يسلقونه سلقا ! أما فى مواجهة الإسلام فيرفعون لافتة " الحرية الإبداعية " ، مع أن الأمر لا يخرج عن كونه اختلافا بين ما نؤمن به نحن أو نعتنقه من قِيَم وما يؤمنون به هم أو يعتنقونه من قِيَم ، إن كان لأمثالهم قِيَم ! هذه هى خلاصة الموضوع برُمّته دون لف أو دوران مفضوح !
(1/396)
وتحضرنى هنا رواية " حين تركنا الجسر " لعبد الرحمن المنيف وما فيها من تطاولات على الذات الإلهية من صياد ينفق وقته سعيا وراء إسقاط طائر من طيور الليل ، وهى تطاولات لا مسوّغ لها ، إذ ليس الصيد بالميدان المناسب لمثل هذا التجديف الوقح ، كما أن حياة الصياد تخلو تماما مما يمكن أن يدفعه إلى تلك السفاهة ، فضلا عنه لم يحدث على مدى الرواية ما نستطيع أن نقول إن الصياد قد فقد بسببه عقله وحياءه على هذا النحو (22). ومعروف أن أبطال الرواية شىء ، ومعتقدات كاتبها شىء مختلف ، والخلط بين الأمرين هو علامة على الركاكة الفنية قبل أن يكون علامة على أى شىء آخر !
(1/397)
ولقد سبق أن درست هذه القضية بشىء غير قليل من التفصيل فى كتابى " وليمة لأعشاب البحر بين قيم الإسلام وحرية الإبداع – قراءة نقدية " ، ويستطيع القارئ الرجوع إلى ما كتبته هناك ، ولكنى أود ان أضيف هنا ملخصا سريعا للفصل الذى كتبه جيروم ستولنتز فى كتابه " النقد الفنى – دراسة جمالية وفلسفية " بعنوان " النقد والأخلاق " ، رغبةً منى فى إلقاء مزيد من الضوء على هذه القضية مستعينًا بناقدٍ أمريكىّ معاصر كيلا يظن من ليسوا ملمّين بالموضوع أن ما قلناه فى الصفحات الماضية إنما يعكس كلام المتحمسين للإسلام لا غير . وهذا الفصل يستغرق زهاء خمسين صفحة من القطع الكبير يستعرض فيها الكاتب هذه المسألة النقدية منذ أيام أفلاطون حتى عصرنا ، مع التوقف بوجه خاص أمام ثلاثة من أعلام الفلسفة والنقد الذين يغلِّبون الأخلاق على اعتبارات الجمال الفنى ، وهم أفلاطون الفيلسوف الإغريقى ، وليو تولستوى الروائى الروسى ، ورالف بارتون الأمريكى ، عارضا أفكارهم ومناقشا وجهة نظرهم فى أناة . ونستطيع نحن بدورنا أن نضم ستولنتز إلى القائمة التى ترى أنه لا بد من وضع الاعتبارات الأخلاقية فى الحسبان ، وإن لم يتشدَّد تشدُّد أفلاطون وتولستوى مثلا (23). وهو يصور القضية على أنها صراع بين الذين يُعْلون من شأن القيم الأخلاقية ويخشَوْن من تأثير الأعمال الفنية التى لا تبالى بتلك القيم ، وبين أولئك الذين لا يهتمون إلا بأن يعيشوا حياتهم بتلذذ وامتلاء غير ملقين بالا إلى ما يسمَّى بـ " الأخلاق " ولا إلى ما يمكن أن يؤدى إليه ذلك من مشاكل فردية واجتماعية (24). وفى رأيه أنه لا بد، فى أمور الفن والأدب ، من مراعاة الجانب ا لجمالى والجانب الخلقى معا ، على ألا يكون هناك تشدد من قِبَل الأخلاقيين أكثر منا ينبغى . ورغم هذا فهو يرد على دعاة الحرية المطلقة فى الفن بأنه ليس من حق الفن المطالبة بوضع متميز ، بل تنبغى معاملته كأى نشاط بشرى آخر ، ومن ثَمَّ فلا(1/398)
بدمن خضوعه للرقابة إذا جر وراءه ضررا . لكنه يشترط فى الرقيب من ذلك أن يجمع بين احترام الحرية والحساسية المرهفة لقيم الجمال الفنى وبين التقدير الواعى لمصلحة المجتمع (25).
ومن قبل كتبتُ فى هذا الموضوع أن " بعض الناس ينادون بالحرية المطلقة للإبداع والمبدعين ، لكن ليس هناك فى الحقيقة حرية مطلقة فى أى ميدان من ميادين الحياة ، إذ ما من إنسان إلا وتحيط بعصمه القيود من كل لون ، مع قدر لا بأس به من الحرية . والعاقل هو الذى لا يتجاهل هذا أو ذاك . والذين ينادون بحرية الإبداع المطلقة إنما يقصدون أنهم لا ينبغى أن يطالَبوا بالخضوع لمبادئ وقواعد أخلاقية معينة لأنهم يعتنقون مبادئ وقواعد أخرى . هذا كل ما هنالك دون لف أو دوران ودون مماحكات لفظية زائفة " (26).ويمكن ترجمة كلام ستولنتز فى رفضه المطالبة بإعطاء الفن وضعا متميزا ودعوته إلى معاملة الإبداع الفنى مثل أى نشاط بشرى ، بما نقوله فىحياتنا اليومية من أنه " ليس على رأسه ريشة " ! والواقع أن الدعوة إلى معاملة الأدب على أنه فوق الدين والقانون والأخلاق هى ، فى حقيقتها ، دعوة إلى تأليهه ، مع أنه لا يوجد إلا إله واحد! أما بالنسبة للرقابة الرسمية على الأعمال الأدبية فقد اكتفيت فى كلامى المومإ إليه بعرض وجهتى النظر المتعارضتين فيها تاركا الأمر بشأنها معلقا (27).
(1/399)
وبالمناسبة فكاتب هذه السطور لا يذهب مع المتشددين إلى المدى الذى يوجبون فيه على الأدباء أن يطرقوا موضوعات بعينها ويتجنبوا موضوعات بعينها أخرى ، بل أقول إن من حق الأديب أن يتناول أى موضوع يحلو له ، بشرط واحد هو أن يبتعد عن التطاول على الله ودينه ورسوله وعن تزيين الفجور والشذوذ وخيانة الوطن والأمة وما إلى ذلك . من حقه مثلا أن يعالج موضوع الإيمان والإلحاد أو الخيانة الزوجية ، لكن دون أن يدفع شخصياته إلى التجديف فى حق الله أو يغرق فى تفصيلات الفواحش بما يهيج الشهوات ، فيصبح بذلك من الذين يحبون أن تشيع الفاحشة فى الذين آمنوا (28).
إننا نعرف جيدا أن فى الإنسان ضعفا فطريا ، وأن المجتمع ، مهما تكن درجة تمسكه بالخلق الكريم ، لن يكون مجتمعا من الملائكة ، وأن الشر كان ولا يزال وسيظل موجودا فى كل مكان يوجد فيه بشر . بَيْدَ أن هذه الحقيقة لا يمكن أن تكون مسوغا للعمل على تحويل الناس إلى شياطين من خلال تجريئهم على مقام الألوهية أو النفخ فى جمرات غرائزهم حتى تستحيل نارا تتلظَّى وتأتى على الأخضر واليابس . إن القضاء على الشر قضاء مبرما وإلى الأبد لهو أمر مستحيل ، لكن هذا لا ينبغى أن يدفعنا إلى ترك الحبل له على الغارب ، بل لا بد من العمل على محاصرته فى أضيق نطاق ممكن : فعشرة فى المائة شرًّا خير من خمسة عشر ، وهذه أفضل من عشرين ، وعشرون افضل من خمسة وعشرين ...وهلم جرا.
(1/400)
ولعل من المناسب أن نشير هنا إلى مقال للدكتور زكى نجيب محمود عن " طبيعة الشعر وصلتها بالأخلاق " يؤكد فيه أن مجال الفن والأدب غير مجال الأخلاق ، وأنه ليس من وظيفة الشعر الحث على الفضائل ، وإن كان من الممكن مع هذا أن يساعد عَرَضًا فى تقويم المعوجّ من السلوك البشرى .يؤكد سيادته هذا رغم قوله قبل ذلك بقليل إن قِيَم الحق والخير والجمال " تلتقى كلها فى الإنسان " وفى أنها "معايير نلجأ إليها طلبا للهدى " (29). وهذا ما أحب أن نحاكمه إليه فنقول إنه ما دامت هذه القيم تلتقى كلها على هذا النحو فى الإنسان ، فلماذا نعمل على المباعدة بينها بحجة أن مجال كل منها مختلف ؟ فليكن الأمر كذلك ، أفينبغى أن يكون اختلاف مجالاتها ذريعة للتغاضى عما يمكن يقع بينها من تناقض يُفْسِد حياة الإنسان ؟ إن لكل من الإدارات الحكومية مثلا مجاله الذى يختلف عن مجالات الإدارات الأخرى ، بيد أنها رغم هذا يجب أن تعمل متناغمة متعاونة ، وإلا اضطرب نظام العمل ولم يعطنا الثمرة المرجوّة ، بل ربما أدى إلى تفكيك الجهاز الحكومى ومؤسسات المجتمع كلها ونتج عن ذلك ما لا تُحْمَد عقباه . وقل الشىء نفسه فى أجهزة الجسم التى تختلف أيضا وظائفها والتى لا بد من تضافرها جميعا رغم هذا ، وإلا فسدت صحة الإنسان بل حياته كلها.
(1/401)
ولقد يقول قائل : ولكن إذا كان هناك تعارض بين الخير والجمال ( أو فلنقل : بين الدين والأخلاق من جهة ، والأدب والفن من جهة أخرى ) ، فلماذا ينبغى أن تكون الأولوية للأخلاق على الأدب ؟ والإجابة سهلة ، وهى أن الشر يسمّم الحياة ولا يبقى معه مجال للاستمتاع بأى شىء . ترى ما الذى يستفيده المظلوم مثلا إذا قلنا له : دونك هذه الأعمال الأدبية المغرية بالشر والفساد ، فاستعِضْ بما فيها من فن عما وقع عليك من غبن ؟ وشىء آخر مهم ، وهو أن الأديب ، إذا طُلِب منه الإقلاع عن الترويج للشر والفساد فى عمله ، يستطيع أن يجد موضوعات أخرى لا تُحْصَى يبدع فيها أدبا يستمتع القراء به ، فلا هو إذن ولا القراء سيفوتهم ما يَنْشُدونه من متعة ، أما إذا تركنا الأدباء المنحلّين يُغْرون بالفاحشة ويعملون على نشر الإباحية ...إلخ، فلن يمكن تدارك الأمر بحال . ثم شىء ثالث ، وهو أن تماسك الأمم وقوتها أهم مليارات المرات من متعة فنية تجلب وراءها التفكك الخلقى والانحرافات النفسية والآفات الاجتماعية.
(1/402)
إن غض البصر عن الأدب المنحرف هو بمثابة من ينشئ مستشفًى للأمراض الصدرية مثلا ، ثم لا يكف مع ذلك عن تلويث الهواء وتوفير لفائف التبغ والطباق بوفرة والدعاية الوسعة لها وتشجيع المدخنين وإعطائهم الجوائز ، غير واجد شيئا فى هذا التناقض ! إنه كمن ينفخ فى قربة مقطوعة أو من يحاول ملء غِرْبال بالماء ! وهذا هو المستحيل بعينه والجنون ! لكن هذا كله شىء ، والقول بأن العمل الأدبى لا بد أن يدعو إلى التدين والتمسك بالأخلاق الكريمة شىء آخر مختلف تمام الاختلاف ، إذ كل ما نطلبه هو ألا يعادى الدين أو القيم الأخلاقية الرفيعة المنبثقة منه . فالقاعدة التى نريد إرساءها هنا ، كما ترى ، هى قاعدة سلبية ، بمعنى ألا يكون هناك تناقض بين الإبداع الأدبى وما تؤمن بد من دين أو نعتز به من خُلُق ، فلا يتحول الأدب إلى الدعوة للكفر والانحلال الخلقى والإغراء به ...وهكذا ، لا أن يكون بوقا للوعظ والإرشاد المباشر كأنه درس دينى ، على أهمية الدروس الدينية فى مجالها مع ذلك ، إذ ليست هذه مهمة الأديب . ونحن مع د.زكى نجيب محمود فى تلك النقطة (30). نحن لا نُلْزِم الأديب بشىء معين ، لكننا لا نستطيع أن نسكت عن هجومه عما نستمسك به ونعتز من دين ومبادئ وقيم عظيمة . هذا كل ما هنالك .
(1/403)
بَيْدَ أن هذا الأمر لا يقف عند هذا الحد ، فمضمون العمل الأدبى لا ينحصر فى مسائل الدين والخلق ، بل يتسع لأشياء أخرى يمكن أن تكون موضع انتقاد : منها المعلومات الخاطئة ، وتصوير العادات والتقاليد تصوير زائفا ، وعرض الإجراءات الفنية فى بعض الحرف كالمحاماة والطب مثلا على غير حقيقتها ، ونسبة الأفكار والآراء إلى غير زمانها أو أصحابها ، وغير ذلك مما يمكن أن يقع فيه الأديب فى الغلط ويفسد على القارئ أو السامع تذوقه . ولست محتاجا إلى القول بأن مثل هذه الأخطاء لن تعكر على متلقى الأدب صفو تذوقه إلا إذا تنبه لها . ولا يقولنّ أحد مرة أخرى إن مثل هذه الأغلاط إنما تتعلق بالمضمون لا بالشكل الفنى ، ومن ثَمَّ فلا دخل لها فى مسألة التذوق ، فقد رأينا موضوع العلاقة بين الشكل والمضمون على حقيقته وتبين لنا أنهما ملتحمان التحاما لا يسمح بفصلهما إلا لأغراض الدرس ، وعلى المستوى النظرى فحسب . ومُضِيًّا مع مثال طبق الطعام الذى ضربناه قبلا نقول إن الأخطاء التى نتحدث عنها هنا هى بمثابة القَذَى الذى يقع فى الطعام . إنه ، بطبيعة الحال ، لا علاقة له بالطريقة التى أُعِدَّ بها ، وهى الجانب الفنى فى عملية الطبخ كما قلنا ، لكنه كفيل رغم ذلك بتنفير الآكل من الطعام ، وربما تقايأ ما ابتلعه منه ، أو على الأقل لم يستطع أن يمضى فيه قبل أن ينفى عنه ما أصابه من قذى . وحتى إذا كان هناك من لا يبالى بمثل هذا القذى ولا بنفيه عن الطعام بل يستمر فى الأكل بذات الشهية ، فتلك حالة شاذة ، والشاذ المنحرف لا يمكن أن يُتَّخَذ مقياسا لأصحاب الذوق السليم بَلْهَ الرهيف !
(1/404)
ولنضرب بعض الأمثلة على كلامنا هذا : ففى مسرحية " عنترة " لأحمد شوقى يعتّر ضرغام ( منافس عنترة ) عن حبه لعبلة قائلا : " أحبها حُبِّىَ العُزَّى ، وأعبدها عبادة اللات " (31). ولست أظن أن التعبير عن شدة حب الرجل للمرأة بأنه يعبدها كان مما يجرى على ألسنة شعراء الجاهلية . وبالمثل لا أظن أن عبلة كانت من المعرفة بتاريخ بنى إسرائيل ودور أنبيائهم فى الحفاظ على كيانهم وهُوِيَّتهم بحيث تتمنى فى أحد مشاهد المسرحية أن يتاح للعرب بطل يلتفّون حوله ليحررهم من التبعية للفرس كما التفّ بنو إسرائيل حول موسى مُعْتِقهم من ربقة الرِّق لفرعون .وهذا هو كلامها كما ورد فى المسرحية :
ألا بطلٌ نلتقى حوله كإسرال حول لواء الرسلْ
يفكّ من الرقّ أعناقنا كما فكَّ موسى رقاب الأُوَلْ(32)
ليس ذلك فقط ، بل إنها لتردّ على أبيها ، وقد توتر الجو بينهما حين تقدم لخِطْبتها صخر فرفضته ، وتحمس أخوها له أشد التحمس ، قائلة إن من الممكن تزويجه بأخيها ما دام متحمسا له على هذا النحو ، وهو جوابٌ قاسٍ ومهينٌ بحيث لا يمكن ان ينحصر رد فعل أبيها فى قوله :
أُزَوّج الرِّجَال بالرِّجَالِ؟ ذاك لَعَمْرِى منتهى الخَبالِ
أو أن يكون كل ما أجابها به أخوها هو : " استهترت أختى فما تبالى (33). أهذا كل ما يمكن أن يكون من رد فعل شيخ قبيلة عربية فى الجاهلية على كلام ابنته الذى تطعن به أخاها فى صميم رجولته ، فضلا عن أن يكون جواب الأخ هو ذلك الكلام اللين الذى لا يليق بالرجال ؟
(1/405)
وفى مسرحية " السلطان الحائر " لتوفيق الحكيم يستغرب الإنسان أشد الاستغراب اختزالها المجتمع الإسلامى فى العصر المملوكى الذى تدور أحداثها فيه إلى عاهرة وخمار وإسكاف ونخّاس ومؤذن لا قداسة عنده للمسجد ولا للأذان . وبامثل يفاجئنا أبطال المسرحية ، وكذلك جموع المشاهدين المحتشدين فى الميدان انتظارا لتننفيذ حكم الإعدام فى النخاس ، بأنهم جميعا يشربون الخمر ! وفوق هذا فقد جرت على ألسنة أبطال المسرحية بض المصطلحات التى لم تكن معروفة قبل العصر الحديث ، مثل " المواطن " و" الهدف الوطنى " و" الغاية القومية " و" الأغلبية " و" الرأى العام " . إن هذه الأخطاء من شأنها أن نفسد الجو التاريخى الذى أراد المؤلف إضفاءه على عمله ، وتكدر على قارئ المسرحية ومشاهدها صفو متعة التذوق .
وفى مسرحية " الزهرة والجنزير " يقترف محمد سلماوى أخطاء سمجة سخيفة لا تُغْتَفَر ، فهو يدَّعِى مثلا على لسان إحدى المصريات اللاتى يعملن فى السعودية أن النساء هناك ، إذا أردن أن يشربن فى مكان عام ، لا يرفعن النقاب عن أفواههن ، بل يشربن من فوقه (34).والواقع أن المسرحية من أولها إلى آخرها يعجّ بهذا السخف الذى لا يدانيه سخف ،فضلا عن ركاكتها الشنيعة فى الأسلوب والبناء والتشخيص . ومرجع سخفها وركاكتها هو هذه الأخطاء التى تنم عن الجهل الفادح بعادات المجتمعات وتقاليدها ، وبالطبيعة البشرية ومنطق الحياة ...إلخ. وهى كلها ، كما يلاحظ القارئ ، أمور خاصة بامضمون ، او على الأقل ترتبط به أكثر مما ترتبط بالشكل الفنى . بل إنى لأزعم أن مبدأ مراعاة الواقعية إنما ينصبّ على مضمون العمل الأدبى لا على شكله وبنائه .
(1/406)
وقريب من ذلك الأخطاء التاريخية المضحكة التى سقط فيها جمال الغيطانى فى رواية " الزينى بركات " والتى لا يخطئها تلميذ صغير ، فقد جاء فى هذه الرواية أن اليهود هم الذين رَمَوْا النبى عليه السلام من فوق أسوار الطائف عندما رحل إليها من مكة يدعو أهلها إلى الدين الجديد عَلَّهم أن يكونوا أحكم من قريش وأدنى إلى الاستماع إلى صوت الحق . وكأن هذا الجهل المخزى بسيرة سيد البشر ليس كافيا ، إذ يضيف هذا الكاتب أن التى أكلتْ ( لاحِظْ : " أكلتْ " لا " لاكَتْ " ) كبد حمزة عليه رضوان الله امرأة من يهود ! (35)
بالله كيف يسقط فى مثل هذا الشُّنْع إنسان ينتسب إلى الإسلام ويشتغل فى ميدان الكتابة ؟ أم كيف سوّلت له نفسه أن يجعل مسؤولا مسلما كبيرا بدولة المماليك يقرّ بصلب عيسى عليه السلام ؟ (36).إن هذا أمر لا يمكن أن يدور فى عقل مسلم ، وبخاصة فى تلك العصور القديمة ، بل لم يقترب منه أحد سوى القاديانيين المارقين فى العصر الحديث . ومع ذلك فإنهم لم يذهبوا إلى هذا المدى من مصادمة ما جاء فى القرآن المجيد ، إذ غاية ما قالوه أن المسيح عليه السلام قد وُضِع على الصليب ، لكنه لم يمت فوقه ، بل كتب الله له النجاة من أيدى أعدائه فهاجر من فلسطين إلى كشمير ليدعو يهودها إلى دينه ومات هناك عن عمر يربو على المائة والعشرين عاما (37).وثالثة الأثافى أن ذلك المسؤول المملوكى نفسه فى رواية الغيطانى المهلهلة يشهد لليهود والنصارى والبوذيين بالإيمان ، لا فرق بينهم وبين المسلمين (38).إن ألفباء العمل القصصى أن يدع المؤلف أبطاله يعيشون فى عصرهم هم ، وينطقون بألسنتهم هم ، ويحسون بمشاعرهم هم ، أما إذا فرض عليهم ما يدور فى ذهنه هو ، أو على الأقل ما لا يتواءم وشخصياتهم كان ذلك دليلا دامغا على فشله .
(1/407)
وفوق هذا فقد أجرى الغيطانى على لسان ذلك المسلم المسؤول فى دولة المماليك فى القرن العاشر الهجرى كلمة " المسيحيين " بدلا من " النصارى " ، مع أن مصطلح " المسيحيين " لم يكن معروفا لدى المسلمين فى ذلك الوقت " بل لقد حاولت أن أجد هذه الكلمة فى معجم " تاج العروس " للزبيدى ، وهو من الكتب التى أُلِّفَتْ بعد ذلك بعدة قرون ، أو فى معجم " مَدّ القاموس " للمستشرق البريطانى إدوارد وليم لين ، الذى كان يعيش فى القرن التاسع عشر ، فلم أعثر عليها . وفى " عجائب الآثار " نلاحظ أن مؤرخنا العظيم عبد الرحمن الجبرتى ، وهو من أهل القرن الثامن عشر والتاسع عشر ، لا يستخدم إلا كلمة " النصارى " . وحتى فى أول منشور أصدره نابليون بونابرت لدن غزوه مصر نراه يقول : " النصارى " لا " المسيحيون " . ونفس الشىء نجده عند رفاعة الطهطاوى بعد ذلك فى كتابه " تخليص الإبريز " (39)، اللهم إلا مرة يتيمة واحدة استعمل فيها عبارة " الملة المسيحية " ، وكانت فى سياق ترجمته لما قاله المطران الأكبر بباريس عن انتصار " الملة المسيحية " على " الملة الإسلامية " ، يقصد احتلال فرنسا للجزائر عام 1830 م (40). كذلك قلّبْتُ صفحات كتاب " علم الدين " لعلى مبارك فوجدته هو أيضا يقول : " النصارى " (41) ، وإن كان قد أورد تعبير " الملة العيساوية " مرة واحدة ، فيما لاحظت ، على لسان أحد الإنجليز (42).لكن ثقافة الغيطانى لا تدرك قيمة مثل هذه الأشياء فى الإبداع الأدبى ، فكلّه عنده صابون !(1/408)
من معركة الشعر الجاهلى بين الرافعى وطه حسين
اتهام الرافعى لطه حسين فى دينه
بقلم : د. إبراهيم عوض
لمصطفى صادق الرافعى الكاتب والشاعر المعروف كتاب بعنوان "تحت راية القرآن" كان فى الأصل مقالات فى جريدة "كوكب الشرق" ردَّ فيها على ما قاله طه حسين فى كتابه "فى الشعر الجاهلى" الصادر عام 1926م والذى سُحِب من الأسواق إثر هذه المقالات الرافعية التى فضحت ما فيه، ثم أعيد طَرْحه العام الذى يليه بعنوان "فى الأدب الجاهلى" بعد أن حُذِف منه ما يسىء للقرآن الكريم وللإسلام وأضيف إليه عدة فصول جديدة. وقد تناول الرافعى فى هذه المقالات طه حسين وكتابه المذكور من عدة جوانب، بيد أننى سأقتصر هنا على مناقشة ما قاله فى دين الرجل، وهو نفس الموضوع الذى أثاره الكتّاب والمعلقون فى جريدة "شباب مصر" فى الأسابيع الأخيرة، وذلك بغية مزيد من التوضيح لبعض ما قالوه فى هذا الصدد. وأود أن أنبه إلى أن ما سأكتبه هنا مأخوذ من كتابى "معركة الشعر الجاهلى بين الرافعى وطه حسين" الصادر فى عام 1987م. وهذا نص ما قلته هناك بدءا من الفقرة الثالثة من الفصل الثانى من الكتاب المذكور (ص/ 15- 26):
(1/409)
"لن نكتفى هنا بترديد رأى الرافعى فى طه حسين بل سنعرضه على النصوص ونقلّبه على كل وجوهه. وأريد أن أصارح القارئ منذ الآن بأن العلم لا يعرف تلك الحساسية التى تصيب بعض الناس حينما يرون من ينتقد هؤلاء الذين يعظّمهم، وتدفعهم إلى القول بأننا ينبغى ألا نتعرض لإيمان هذا الشخص أو ذاك، على أساس أن هذا تدسُّس إلى القلوب نَهَى عنه الإسلام. إن هذا الاعتراض يصح لو أن الباحث يرجم فى هذه القضية بالغيب، لكن إذا كانت هناك نصوص مقطوع بنسبتها إلى قائلها لا يمكن تأويلها فمعنى ذلك أن للباحث الحق فى دراسة الأمر. وقد سبق أن تناول كثير من الدارسين عقائد أمثال يزيد بن الوليد وابن المقفَّع والمتنبِّى والمَعَرّى والحاكم بأمر الله، فلم نسمع من ينكر عليهم، فلِمَ الكيل بمكيالين إذن؟ أيا ما يكن الأمر فإننا هنا بصدد تناول رأى الرافعى فى عقيدة طه حسين، وهذا الرأى جزء من تراثنا الفكرى والأدبى لا أظننا نكون أمناء لو أهلنا التراب عليه. كذلك فإننا لا ندَّعِى أن ما سنصل إليه من نتائج هو كلام لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فلا يقول هذا إلا جاهل أو مغرور، وإنما هو اجتهاد علمى قد يصحّ وقد يخطئ. وإذا كان طه حسين قد رأى أن من العلم أن يقول ما قال فى القرآن الكريم، فلماذا نعيب الرافعى إذا رأى فى موقف طه حسين هذا رأيا؟
(1/410)
إن الرافعى يرى أن طه حسين أداة أوربية استعمارية (تحت راية القرآن/ ط3/ مطبعة الاستقامة/ القاهرة/ 1953م/ 186)، غرضها توهين عُرَى الإسلام (ص/ 199)، ويأخذ عليه أنه لم يصلّ على النبى مرة واحدة فى كتابه ولو بحرف "ص" كما يفعل نصارى العرب (ص/ 207)، ويسميه: "المبشر طه حسين" مرة، و"المستر حسين" أخرى (ص/ 122، 177)، ويشبّه الجامعة (فى مجال العلم) بمستشفيات المبشِّرين (فى مجال الطب) (ص/ 145)، ويكنّيه "أبا مرجريت" و"أبا ألبرت" (ص/ 200، 344، 373)، ويشير إلى دور زوجته فى حياته وتأثيرها عليه (ص/ 349)، ويتهمه بالزندقة (ص/ 129- 130)، وبالإلحاد (ص/ 214، 216، 218) ، ويورد أيضا اتهام الشيخ مفتاح له بأنه كافر وتحديه له أن يقاضيه (ص/ 242- 243). وهو من ثم يدعو إلى إبعاده من الجامعة وحماية النشء من أفكاره (ص/ 188)، ويحرض عليه وزارة المعارف لأنه، كما يقول، يناقض بآرائه ما يقال للطلبة فى كتبها ومدارسها، والمفروض فى نظره ألا يكون هناك تناقض، وإلا فعليها أن تعلن صحة آرائه وتتابعه عليها (ص/ 171).
وحين يدافع أحمد لطفى السيد عن طه حسين على أساس حرية الفكر يردّ الرافعى بأنه لا ينازعه فى معانى حرية الرأى وأشباهها، ولكن النزاع فى الجدل والكفر (ص/ 314، وإن كان ظاهر كلامه قد يوحى بغير هذا). ومن هنا نراه يهاجم حرية الفكر إذا أدت إلى الكفر وتقطيع الأرحام (ص/ 306)، وإن عاد فسلَّم للجامعة بحرية الكفر لا الفكر فقط (يأسا منه، فيما هو واضح، أن يُصِيخ المسؤولون فى الجامعة إليه فى هذه النقطة)، وركز على "الغلطات التاريخية والأدبية التى وقع فيها أستاذها" (ص/ 273).
(1/411)
واتهام الرافعى لطه حسين بالكفر قائم على أساس أن هذا الأخير يرى أن القرآن تأليف لا وحى، وأن النبى عليه الصلاة والسلام رجلُ سياسةٍ لا رسول، وأنه يهاجم الصحابة (ص / 205)، وأنه يرفض الحديث الصحيح (ص/ 194، 205). وفى رأى الرافعى أن طه حسين يهاجم الأدب العربى "لأنه أساس فى حضارة القرآن، ولأن القرآن أساس فى الدين، ولأن الدين ينافى مذهبهم فى الحضارة الغربية التى يعملون لها جهد طاقتهم" (ص/ 306).
(1/412)
والرافعى، رحمه الله، لا يلقى اتهاماته بغير دليل، بل يسوق ما قاله طه حسين من أننا "يجب حين نستقبل البحث عن الأدب العربى وتاريخه أن ننسى قوميتنا وكل مشخصاتها، وأن ننسى ديننا وكل ما يتصل به" (ص/ 140- 141، والنص موجود فى ص 12 من كتاب "فى الشعر الجاهلى"/ مطبعة دار الكتب/ 1926م)، وقوله: "للتوراة أن تحدثنا عن إبراهيم وإسماعيل، وللقرآن أن يحدثنا عنهما أيضا، ولكن ورود هذين الاسمين فى التوراة والقرآن لا يكفى لإثبات وجودهما التاريخى، فضلا عن إثبات هذه القصة التى تحدثنا بهجرة إسماعيل وإبراهيم إلى مكة... ونحن مضطرون إلى أن نرى فى هذه القصة نوعا من الحيلة فى إثبات الصلة بين اليهود والعرب من جهة، وبين الإسلام واليهودية، والتوراة والقرآن من جهة أخرى" (تحت راية القرآن/ 145- 146، وفى الشعر الجاهلى/ 26)، وما قاله أيضا من أن قريشا "كانت فى هذا العصر (يقصد عصر ما قبل الإسلام) ناهضة نهضة مادية تجارية، ونهضة دينية وثنية. وهى بحكم هاتين النهضتين كانت تحاول أن توجد فى البلاد وحدة سياسية ودينية مستقلة، وأنه "إذا كان هذا حقا، ونحن نعتقد أنه حق، فمن المعقول أن تبحث هذه النهضة الجديدة لنفسها عن أصل تاريخى قديم يتصل بالأصول التاريخية الماجدة التى تتحدث عنها الأساطير. وإذن فليس ما يمنع قريشا من أن تتقبل هذه "الأسطورة" التى تفيد أن الكعبة من تأسيس إسماعيل وإبراهيم كما قبلت روما قبل ذلك، ولأسباب مشابهة، "أسطورة" أخرى صنعها اليونان تثبت أن روما متصلة بإينياس بن بريام صاحب طروادة" (تحت راية القرآن/ 147، وفى الشعر الجاهلى/ 28- 29)، وكذلك قوله إن القرآن "يَذْكُر التوراة والإنجيل ويجادل فيهما اليهود والنصارى، وهو يذكر غير التوراة والإنجيل شيئا آخر هو صحف إبراهيم. ويذكر غير دين اليهود والنصارى دينا آخر هو ملة إبراهيم، هو هذه الحنيفية التى لم نستطع إلى الآن أن نتبين معناها الصحيح. وإذا كان اليهود قد استأثروا(1/413)
بدينهم وتأويله، وكان النصارى قد استأثروا بدينهم وتأويله، ولم يكن أحد قد احتكر ملة إبراهيم ولا زعم لنفسه الانفراد بتأويلها فقد أخذ المسلمون يردّون الإسلام فى خلاصته إلى دين إبراهيم (تحت راية القرآن/ 148، وفى الشعر الجاهلى/ 81)، وقوله أيضا: وليس يعنينى هنا أن يكون القرآن قد استأثر بشعر أمية بن أبى الصلت أو لا يكون" (تحت راية القرآن/ 141- 150، وفى الشعر الجاهلى/ 83)، وكذلك قوله فى الرد على المستشرق كليمان هوار وزَعْمه أن النبى قد استعان بشعر أمية بن أبى الصلت فى تأليف القرآن: "من ذا الذى يستطيع أن ينكر أن كثيرا من القصص كان معروفا بعضه عند اليهود، وبعضه عند النصارى، وبعضه عند العرب أنفسهم، وكان من اليسير أن يعرفه النبى، كما كان من اليسير أن يعرفه غير النبى. ثم كان النبى وأمية متعاصرين، فلم يكون النبى هو الذى أخذ من أمية، ولا يكون أمية هو الذى أخذ من النبى؟" (فى الشعر الجاهلى/ 85)، وهو ما يَلْمَح فيه الرافعى تعريضا من طه حسين بأن النبى هو مؤلف القرآن، وهو نفسه ما يفهمه من قوله فى تعليل مخالفته لمن يرون أن إنكار الشعر الجاهلى يسىء إلى القرآن (على أساس أن القرآن ليس فى حاجة إلى شواهد من الشعر على ألفاظه ومعانيها عند العرب): "إن أحدا لم ينكر عربية النبى فيما نعرف"، فهو يرى فى الإشارة الأخيرة أن القرآن هو كلام النبى، وقوله إنه يوجَد "نوع آخر من تأثير الدين فى انتحال (يقصد: "نحل") الشعر وإضافته إلى الجاهليين، وهو ما يتصل بتعظيم شأن النبى من ناحية أسرته ونسبه فى قريش، فلأمرٍ ما اقتنع الناس أن النبى يجب أن يكون صفوة بنى هاشم، وأن يكون بنو هاشم صفوة بنى عبد مناف، وأن يكون بنو عبد مناف صفوة مُضَر، ومضر صفوة عدنان، وعدنان صفوة العرب، والعرب صفوة الإنسانية كلها" (تحت راية القرآن/ 194، وفى الشعر الجاهلى/ 72- 73)، فالرافعى يرى أن هذا تهكم واستهزاء بالحديث الصحيح التالى: "إن الله اصطفى(1/414)
كنانة من وَلَدِ إسماعيل، واصطفى قريشا من كنانة، واصطفى من قريش بنى هاشم، واصطفانى من بنى هاشم" (نفس المرجع والصفحة). ومثل هذا تكذيبه بوجود امرئ القيس مما يُعَدّ رفضا للحديث الصحيح الذى ورد بذكر هذا الشاعر (ص/ 197)، وقوله: "إن يزيد صورة صادقة من جده أبى سفيان فى السخط على الإسلام وما سنَّه للناس من سُنَن" (ص/ 211).
وبعد، فهذا جُلّ لا كُلّ ما رآه الرافعى رحمه الله مطعنا فى إيمان طه حسين بالإسلام وكتابه ونبيه. والحقيقة أن من الصعب تماما الدفاع عن طه حسين، اللهم إلا فى بعض النقاط الفرعية التى لا تقدم ولا تؤخر فى اتهام الرافعى له، إذ قد يمكن القول مثلا إنه حينما قال إنه لا يعنيه أن يكون القرآن قد تأثر بشعر أمية أَوْ لاَ لم يُجَوِّز الاحتمالين كما فهم الرافعى، بل قصد أن هذا ليس موضع الرد على كليمان هوار ولا أوانه، لأنه مشغول فقط ببحثه فى الشعر الجاهلى، وإن كان هذا فى الحقيقة لونا من التأويل المتعسف لكلامه. كما قد يمكن القول إن حكمه على أبى سفيان إنما هو رأى ارتآه على سبيل الاجتهاد، ومهما يكن قد أخطأ فيه فإن إحسان القول فى أبى سفيان ليس من دعائم الإسلام، أو إن طه حسين إذا كان يرفض الحديث الشريف الذى ينص على أفضلية الرسول وأسلافه فلأنه يراه غير صحيح رغم وروده فى كتب الصحاح. ثم قد يقول المجادلون إن النبى عليه الصلاة والسلام لا يضره أن يكون أسلافه أو لا يكونوا أفضل البشر...وهكذا. وقد نقبل جدلا كلامه فى عميد الأمويين، لكن هل من السهل أن تخفى علينا نبرة التهكم فى تناوله الحديث الذى يؤكد أفضلية الرسول على جميع البشر؟ وهل يليق بمسلم أن تكون هذه نظرته إلى الرجل الذى يؤمن بنبوته وما يعنيه اصطفاء الله له للقيام بهذه الرسالة العظيمة التى لا يُجْتَبَى لها إلا أفذاذ الأخيار من البشر؟
(1/415)
أيا ما يكن الأمر، فما القول فى مناداته بأن على من يريد دراسة الأدب العربى التجرد من دينه؟ إن هذا معناه شىء واحد هو أن الإسلام يناقض البحث العلمى، فكيف يجمع طه حسين بين الإيمان بالإسلام والإيمان بالمنهج العلمى، وهو يرى أنهما متناقضان؟ إن عليه أن يختار واحدا منهما ما دام الأمر كذلك، لأن من المستحيل، إلا على ذى عقل مضطرب أو مريض بانفصام فى شخصيته، أن يجمع بينهما.
إن طه حسين يعلن أنه، فى شكه فى الشعر الجاهلى، إنما يجرى على منهج ديكارت، فكيف إذن تجاهل أحد القوانين الفطرية التى رأى ديكارت أنها تعلو فوق كل شك، ألا وهو "قانون عدم التناقض"، الذى بمقتضاه لا يمكن أن "يكون" الشىء و"لا يكون" فى نفس الوقت، بل إما أن "يكون" فقط أو "لا يكون"؟ إن تطبيق هذا القانون على النقطة التى نحن بصدها يستلزم أن يؤمن طه حسين إما بالدين أو بالمنهج العلمى ما داما فى رأيه متعارضين (انظر مادة "Descartes"، وبالذات ص 85 من "A Dictionary of Philosophy, Pan Books, 1979" لمؤلفه Antony Flew).
(1/416)
أما قول طه حسين: "إن فى كل منا شخصيتين متمايزتين: إحداهما عاقلة تبحث وتنقد وتحلل وتغير اليوم ما ذهبت إليه أمس، والأخرى شاعرة تلذّ وتألم وتفرح وتحزن وترضى وتغضب فى غير نقد ولا بحث ولا تحليل، وتساؤله: ما الذى يمنع أن تكون الشخصية الأولى عالمة باحثة ناقدة، وأن تكون الثانية مؤمنة دَيِّنة مطمئنة طامحة إلى المثل الأعلى؟ ما لك لا تدع للعلم حركته وتغيره، وللدين ثباته واستقراره؟" (انظر "تحت راية القرآن"/ 349- 350) فهو مغالطات بهلوانية: فأولا إذا كان هو يعتقد أن الدين يتميز بالثبات والاستقرار فكيف يطالب باطّراحه والتجرد منه أثناء البحث؟ لقد كان الأحرى به أن يعرف أن بحث الأدب العربى لا يدخل فى نطاق الدين، ومن ثم لم تكن به حاجة (لو كان فعلا يعنى كلامه هذا) إلى دعوته المريبة تلك. وثانيا أنا لا أفهم العلاقة بين الرضا والغضب واللذة والألم والفرح والحزن وبين الإيمان. إن الإيمان هو اقتناع بعقيدة وتشريع ما، والاقتناع من شأن العقل لا من شأن المشاعر، التى كما يصورها هو نفسه لا تستقر على حال، مع أنه قال إن الدين يتميز بالثبات والاستقرار. إن الإسلام هو دين العقل لا التسليم القلبى دونما فهم أو بحث أو اقتناع، على عكس الأديان الأخرى التى يقع المؤمن بها فريسة للصراع بين عقله وعلمه وبين إيمانه وتسليمه، هذا الصراع الذى يظل يؤرقه ولو فى أعماق نفسه إذا حاول أن يكبته هناك فى تلك الأعماق المظلمة بعيدا عن وعيه، أو يدفعه فى نهاية الأمر إلى الكفر.
(1/417)
من هنا يرى الرافعى أن مقال طه حسين الذى اقتطف هو منه ما سبق (وكان طه حسين قد نشره فى جريدة "السياسة" تسويغا لموقفه وآرائه التى بثها فى كتابه "فى الشعر الجاهلى") إنما هو تفسير وتعليل لكفره على أساس من العلم، إذ "يريد أن يثبت فيه أنه من الممكن أن يكون مِثْلُه كافرا أشد الكفر على اعتبار أنه عالم يبحث بعقله، ثم لا يمنع ذلك أن يكون مؤمنا أقوى الإيمان فى شعوره" (المرجع السابق/ 350- 351)، كما يرى أن تسمية الشعور شخصية، والعقل شخصية أخرى، معناه أن النسيان هو أيضا شخصية، والذِّكْر شخصية، والإنسان عدة شخصيات، وأنه حين ينتقل من حالة إلى أخرى إنما ينتقل من شخصية إلى أخرى ويصبح رجلا غير الذى كان، بل يصبح كأن روحا تقمَّصته (السابق/ 351). وكذلك يرى أنه لا بد من التوفيق بين الدين والعلم فيما يختلفان عليه، وإلا كان أحدهما لغوا وعبثا (السابق/ 354)، وهو ما قلناه من قبل. لقد كان على طه حسين فى الحقيقة، بدلا من اللف والدوران، أن يحدد موقفه من الدين، وهو ما فعله فى نفس المقال الذى نحن بصدده، إذ قال: "إن العالِم ينظر إلى الدين كما ينظر إلى اللغة، وكما ينظر إلى الفقه، وكما ينظر إلى اللباس، من حيث إن هذه الأشياء كلها ظواهر اجتماعية يُحْدِثها وجود الجماعة وتتبع الجماعة فى تطورها. وإذن فالدين فى نظر العلم الحديث ظاهرة كغيره من الظواهر الاجتماعية، لم ينزل من السماء ولم يهبط به الوحى، وإنما خرج من الأرض كما خرجت الجماعة نفسها، وإنْ رأى دوركايم أن الجماعة تعبد نفسها، أو بعبارة أدق أنها تؤلِّه نفسها" (السابق/ 348- 349).
(1/418)
بهذا يكون موقف طه حسين آنذاك واضحا: فهو لا يؤمن بالإسلام، إن آمن به، على أنه دين سماوى أوحاه الله إلى نبيه محمد، بل على أنه اختراع بشرى. وإذن فالرافعى لم يكن متجنيا عليه قِيد شعرة حين رماه بالكفر والإلحاد. وأحب أن أبادر هنا إلى القول بأننى لا أريد بهذا أن أسىء إلى طه حسين، بل أبحث فقط الأمر بحثا علميا. وإذن أيضا فإن طه حسين حين أعلن من قبل (فى الخطاب الذى أرسله، على أثر الهجوم عليه بسبب كتابه، إلى مدير الجامعة أحمد لطفى السيد) أنه مسلم يؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر لم يكن يعنى ما يقول (السابق/ 165)، إلا أن يكون الخطاب من تأليف لطفى السيد نفسه، وهو فى الواقع به أشبه. ذلك أن الإنسان لا يمكنه أبدا أن يؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وهو فى ذات الوقت لا يؤمن بوحى ولا بإله، ما دامت الجماعة إنما تؤله نفسها وتعبد فى الحقيقة ذاتها، وما دام الدين لم ينزل من السماء، وإنما نبع من الأرض اختراعا بشريا.
(1/419)
أما قوله إنه لم يتعمد فى كتابه الخروج على الدين فهو خداع لا يجوز فى العقول، لأنه إذا لم يكن وصْف بعض قصص القرآن بأنها أساطير مخترَعة لغايات سياسية، والقول بأن المسلمين هم الذين ردّوا الإسلام فى خلاصته إلى دين إبراهيم وغير ذلك مما سبق أن أوردناه، هو الخروج على الدين فإنه لا يوجد شىء إذن اسمه الخروج على الدين. وأما تأكيدات طه حسين فى الخطاب الذى أرسله إلى مدير الجامعة بأن دروسه فى المحاضرات قد خلت خلوًّا تامًّا من التعرض للديانات "لأنى أعرف أن الجامعة لم تنشأ لمثل هذا"، فقد سبق أن قلنا إنه ليس تحت أيدينا ما يثبت أو ينفى ذلك. لكن السؤال الذى يلح على الذهن هو أنه إذا لم يكن قد تعرض للأديان فى محاضراته، والكتاب مملوء بالتعرض للأديان، والإسلام منها بالذات، فما الذى كان يقوله إذن فى تلك المحاضرات؟ على أن الدكتور طه عاد فأدلى لصحيفة "الإنفورماسيون" بما يلى: "قيل لهؤلاء البسطاء إنى أطعن فى الإسلام، فشهروا الحرب علىّ جميعا. على أنى أقول عاليا إنه ليس فى كتابى كلمة يمكن أن تُؤَوَّل ضد الدين. والعبارة التى يمكن أن أُنْتَقَد من أجلها تضع النصوص المقدسة بعيدة عن قسوة المباحث التاريخية" (السابق/ 252). وهو كلام لا ظل له من الحقيقة كما بيّنّا. وقد دعت هذه المخادعة الأستاذ الرافعى إلى تكذيبه ووصفه بعدم الحياء والعناد والمكابرة والكذب والسخرية بعقل الأمة (السابق/ 243).
(1/420)
والغريب أن الصحفى السورى سامى الكيالى، الذى رمى من اتهموا طه حسين فى دينه (بسبب ما ورد فى كتابه "فى الشعر الجاهلى") بالرجعية والجمود هو نفسه الذى طبع ونشر لإسماعيل أدهم بحثا بعنوان "طه حسين- دراسة وتحليل" (مطبعة مجلة "الحديث"/ حلب/ 1938م). وفى هذا البحث يمدح أدهم الدكتور طه واصفا إياه بالإلحاد والثورة على الدين، كما يشير إلى رأيه الذى يَعُدّ فيه الدين نتاجا بشريا. والغريب كذلك أن هذا البحث قد أُعِيد نشره فى عدد من أعداد مجلة "الحديث" نفسها التى كان يصدرها الكيالى، وكان ذلك فى نفس العام (عدد نيسان= إبريل)، ولكن بعد أن حُذِفت منه العبارات التى تتحدث عن إلحاد طه حسين وثورته على الدين ونظرته إليه على أنه نتاج بشرى، ووُضِع مكانها بعض النقط. إن هذا يبين حقيقة موقف ذلك الصحفى الذى لا ينبغى أن يخدعنا كلامه، وإلا فكيف يكون وصف طه حسين بالإلحاد من جانب إسماعيل أدهم جميلا، ووصفه بذلك من شيوخ الأزهر وعلماء مصر رجعية وتزمتا؟ كذلك من اللافت للنظر أن الكيالى لم يورد مما قاله طه حسين فى حق القرآن إلا جملة واحدة، ويا ليته أوردها كما هى، بل حرَّفها بما أذهب شناعتها، وزعم فوق هذا أنه إنما قالها على سبيل الاستطراد. فتأمَّل مدى الأمانة العلمية! (انظر كتابه "مع طه حسين"/ سلسلة "اقرأ"- عدد 112/ 1/ 56 وما بعدها)".
(1/421)
وبعد أن فرغنا من مناقشة ما قاله الرافعى فى آراء طه حسين ننتقل إلى تحليل ما قاله فيه هو نفسه. وقد ذكرنا أنه سماه: "المبشر"، وكنّاه: "أبا ألبرت" و"أبا مرجريت"، وقال إن سلطان زوجته عليه شديد. والحقيقة أن هذه الاتهامات، رغم عدم تفصيل الرافعى للقول فيها، تشير من بعيد إلى ما ذكره كاتب (سكرتير) طه حسين بعد ذلك بعشرات السنين، وهو فريد شحاتة النصرانى (أقول: "النصرانى" حتى لا يُتَّهَم مثلما اتُّهِم الرافعى وغيره بالرجعية والجمود)، إذ كتب أن طه حسين قد تعمَّد لاعتناق النصرانية عند زواجه من سوزان الفرنسية، وكان ذلك فى كنيسة إحدى القرى فى فرنسا (انظر مقال أحمد حسين "العودة لطه حسين مفخرة مصر"/ مجلة الثقافة / نوفمبر 1979م/ 4، وكذلك مقاله "لقد حُسِمت القضية وتحدد موقف طه حسين فى تاريخ مصر"/ مجلة الثقافة/ فبراير 1980م/ 8- 9).
(1/422)
والحقيقة أننا، جريا منا على المنهج الصارم الذى نتبعه فى كتاباتنا، لا نستطيع أن نجزم جزما بأن هذا قد حدث، إذ ليس بين أيدينا وثيقة مقطوع بصحتها تشهد على ما قاله كاتب طه حسين، الذى عاشره فى بيته وخارج بيته عشرات السنين واطَّلع عنه على ما لم يطَّلع عليه سواه، وإن كان هذا لا يمنع أن تظهر هذه الوثيقة يوما إن صحت رواية الرجل. كذلك فإن فريد شحاتة بالطبع لم يكن حاضرا طقوس التعميد الذى يشير إليه، فهو لم يكن قد عرف الدكتور طه بعد، وإن كان الحق يقتضى أن أذكر أن فريد هذا كان لصيقا بقلب طه حسين قبل أن يتركه، كما كان موضع أسراره الخطيرة لعشرات من السنين. ويمكن الرجوع فى هذا إلى الحوار الذى أجراه محمد شلبى مع الدكتور طه حسين فى كتابه "مع رواد الفكر والفن" (الهيئة العامة للكتاب/ 1982م/ الحوار كاملا، وبخاصة ص 132). ومع ذلك فهناك عدة ملاحظات لها دلالتها: فزوجة طه حسين، رغم أنها لم تترك شيئا فى حياة زوجها إلا ذكرته فى الكتاب الذى وضعته بعد وفاته عن حياتها معه، ورغم حرصها على أن تصدّ عنه هجوم من هاجموه حتى فى الأمور التى لا تمسها كقضية الشعر الجاهلى مثلا، لم تفتح فمها بكلمة واحدة تدفع بها عنه هذا الاتهام، مع أنها هى الوحيدة المتبقية (فيما أظن) ممن كانوا حاضرين هذا التعميد المشار إليه، بل هى السبب فيه (إن كان قد حدث) باعتبار أن هذا كان شرطا لزواج طه حسين منها، فما معنى عدم نفيها لما قاله واحد من أقرب المقربين إلى زوجها وأسرته؟ ترى لو كان هذا اتهاما باطلا أكانت ستسكت عليه مهما كان تديّنها وحبها لنصرانيتها ورغبتها فى أن تتكثر لدِينها من الأتباع والمتحولين إليه من الديانات الأخرى؟ بل لماذا لم تحاول أن تنفى هذه الدعوى بالباطل لو صح أنها حقيقة؟ أيمكن القول إنها خافت أن تُكَذِّبها سجلات تلك الكنيسة التى قال فريد شحاتة إن عميد الأدب العربى قد تم تعميده فيها إذا عَنّ يوما لأحد الباحثين المهتمين بهذا(1/423)
الموضوع أن يطَّلِع عليها أو ترى الدوائرُ المعنيّةُ فى فرنسا أن تُخْرِج هذه الوثيقة، إن كان لها وجود، وتُذِيعها على الناس عندما تُقَدِّر أنه قد حان الأوان لكشفها من أجل هذا الغرض أو ذاك؟ تلك أسئلة لا يستطيع الباحث فى الظروف الحاليّة أن يجيب عليها إجابة علمية قاطعة تَشْفِى الغليل، ولا يملك إلا أن يقول: فلْننتظر!
(1/424)
على أن الباحث مع ذلك لا يمكنه أن يمر مرور الكرام على الحقائق التالية: أن زوجة طه حسين لم تكن تحبه حين قبلته زوجا. وليس هذا تخمينا منا، فقد ذكرتْ هى هذا ذكرا صريحا فى أكثر من موضع من كتابها (انظر سوزان طه حسين/ معك/ دار المعارف/ 1979م/ 10، 16)، كما ذكر طه حسين قبلها ذلك بنفسه (الأيام/ 3/ دار المعارف/ 1945م/ 108 وما بعدها، 118.وانظر أيضا مقال أحمد حسين "لقد حُسِمت القضية وتحدد موقف طه حسين فى تاريخ مصر"/ مجلة الثقافة/ فبراير 1980/ 9- 10، وسامى الكيالى/ مع طه حسين/ 1/ 29) قائلا إن الذى حثها أو على الأقل شجعها على الزواج منه هو عمها القسيس الكاثوليكى (انظر "معك/ 17، وسامى الكيالى/ مع طه حسين/ 1/ 29 نقلا عن روبير لاندرى الكاتب الفرنسى). ومتى حصل هذا التشجيع من جانب العم القسيس، الذى كان طه حسين يقول عنه إنه أحب رجل إلى نفسه، ويرى فيه مثله الأعلى ودليله فى الحياة (معك/ 17)؟ فى الربع الأول من القرن العشرين حين كان المد الاستعمارى لبلاد المسلمين ولمصر فى أَوْجِه، ونظرة الأوربيين إلينا على أننا شعوب من الهمج على أشدها، وكراهيتهم لنا بوصفنا مسلمين فى قمتها. أليس غريبا أن يجهد قسيس كاثوليكى فرنسى فى العقد الثانى من القرن العشرين جهده فى إتمام زواج ابنة أخيه من شاب مسلم (أى كافر من وجهة نظره)، وترضى ابنة الأخ بهذا الشاب الذى لم يكن يتمتع بما تصبو إليه الفتيات عادةً من غِنًى أو منزلة اجتماعية عالية أو أناقة أو وسامة، ودَعْنا من أنه كان كفيفا، وكانت فرنسيته بالطبع فى ذلك الوقت مكسَّرة بحيث كان من الصعب عليه، حتى لو كان من أمهر الغَزِلين، أن يستميل قلبها بالكلام الخيالى المنمق. كذلك من المهم أن نلاحظ أنها هى نفسها كانت شديدة التمسك بنصرانيتها. أى أن افتراض لامبالاتها بكونها نصرانية وكونه مسلما ( أى كافرا من وجهة نظرها) هو افتراض غير مقبول. وثمة أمر آخر أرى أن له مغزاه، فقد ذكر طه حسين(1/425)
أنه حينما أتاه خطاب سوزان من قريتها فى الجنوب الفرنسى (هذا الخطاب الذى كان علامة بينهما على أنها رجعت عن موقفها فى رفضها الزواج منه لأنها لا تحبه) قد سافر وحده إلى هناك، ولم يستمع لزملائه المصريين الذين حاولوا أن يصدّوه عن الذهاب إشفاقا عليه (الأيام/ 3/ 112). يعنى أنه، حين أُعْلِنت خِطْبته على سوزان، بل أثناء أشهر ذلك الصيف كله، كان طه حسين وحده بين تلك الأسرة الفرنسية الكاثوليكية، وفيها ذلك العم القسيس الذى عضّد هذا الزواج، بل أغلب الظن أنه هو السبب فى تغيير ابنة أخيه لموقفها فى مدى شهر!
لقد حاول زملاؤه، كما مرّ، أن يصدّوه مشفقين عليه، لكنه أصرّ إصرارا على موقفه، وكان له ما أراد، فلم يحضر معه مصرى ولا مسلم هذه الخِطْبة. أليس لهذه الوقائع دلالتها الخطيرة؟ وتشير زوجة طه حسين إلى أن عمها القسيس، الذى كان متحمسا لزواجها به رغم نفورها منه، قد اصطحب خطيبها، حين زارهم فى قريتهم فى الجنوب الفرنسى، ساعتين تجولا أثناءهما فى الحقول وحدهما. بيَْدَ أنها لم تذكر لنا فيم تحدَّثا، أو ما الذى أخذه عليه العم من عهود قبل أن يعطيه ابنة أخيه. من هنا فإننا من الوجهة التاريخية الموثَّقة نجد أنفسنا كلما اقتربنا من هذه المسألة نصطدم بالصمت. فأى نوع من الصمت هذا؟ حتى الصحفى سامح كريم، الذى ينقل ما كتبه الآخرون عن طه حسين، عندما أتى إلى هذه النقطة أخذ يحوم حولها من غير أن يسميها، مكتفيا بالحديث عن فريد شحاتة ومذكراته عن عمله مع الدكتور طه وغَيْظ هذا منه ووَصْفه له بـ"هذا الشىء الذى أسمّيه: فريد شحاتة"، كل ذلك من غير أن يعرف القارئ الخالى الذهن عَلاَمَ يدور الكلام، وهو ما يجافى أمانة النقل (انظر، فى رحلة الحقول هذه، "معك"/ 17. وبالنسبة لصمت سامح كريم عن الاتهام المذكور انظر كتابه "ماذا يبقى من طه حسين؟"/ دار الشعب/ 1975م/ 124- 125).
(1/426)
كذلك من الملاحظات الدالة المتصلة بتكنية الرافعى لطه حسين: "أبا مرجريت" و"أبا ألبرت" أن السيدة سوزان، فيما أذكر، لم تشر فى كتابها "معك" إلى أنه كان يوجّه أولاده توجيها إسلاميا، ولا أظن من السهل الجواب على ذلك بأنها كنصرانية لا يهمها أن تشير إلى هذا، فإن هذه الملاحظة تصدق أيضا على كتاب "الأيام"، الذى كتبه هو وأفاض فيه القول عن كل شىء يتعلق به وبحياته وحياة أسرته. وبالمناسبة فالذى أعرفه هو أن "مؤنس" ابن الدكتور طه كان يسمَّى فى البيت: "كلود" لا "ألبرت".
ولعله يكون من المناسب هنا أن نشير إلى أن والدة طه حسين حين أخذ طه زوجته إلى كوم أمبو بعد عودته من فرنسا للتعرف إلى أسرته هناك، قد سألته، على حسب ما حكت لنا سوزان نفسها، أىّ نوع من النبيذ يجب شراؤه من أجلها (معك/ 31). فإذا كان هذا هو موقف والدته من أم الكبائر، وهى سيدة صعيدية عجوز غير متعلمة، وفوق ذلك طبعا مسلمة، ومتى؟ فى الربع الأول من القرن العشرين، وكل ذلك من أجل خاطر العروس الوافدة (لاحِظْ أن كل ظروف والدة طه حسين كان من شأنها أن تدفعها إلى الفزع الشديد من مجرد دخول الخمر إلى بيتها)، ألا يساعدنا هذا فى تخيل موقف طه حسين نفسه من أمر ذلك الزواج كله والضريبة التى كان عليه أن يدفعها فى مقابله، وهو الذى كان مُدَلَّها أشدَّ التدله فى سوزان، وكان فوق ذلك معجبا أقوى الإعجاب بالحضارة الأوربية وانغمر فيها فى بلادها انغمارا مطلقا؟
(1/427)
ولا يقف الأمر عند هذا الحد، فالمعروف أن طه حسين كان يختار سكرتيريه عادة من النصارى، فهل ينبغى أن نمر بهذه الحقيقة أيضا دون أن نلتفت إلى مغزاها؟ لقد اشتغل توفيق شحاتة كاتبا وقارئا له، ثم خلفه أخوه فريد، صاحب القصة الخاصة بتعميد طه حسين قبل زواجه من سوزان، التى لم تكن تحبه وكانت ترفض بفظاظة أن تسمع منه كلمة "الحب" أو أن يتحدث معها مجرد حديث فى موضوع الزواج إن أراد لزمالتهما وصداقتهما أن تستمر، والتى غيّرت رأيها فجأة بعد أن بصَّرها عمّها بمزايا الزواج من هذا الشاب الذى أطراه لها مؤكدا أنه سيتجاوزها باستمرار (انظر، فى هذه النقطة الأخيرة، سامى الكيالى/ مع طه حسين/ 1/ 28-29، وسوزان طه حسين/ معك/ 17). وإن الباحث ليتساءل: "يتجاوزها فى ماذا؟". وهناك غير الأخوين شحاتة سكرتيران آخران على شاكلتهما، وهما ألبير برزان (أول سكرتيريه) وسليم شحاتة، وإن كان هناك دكتور أزهرى قُدِّر له أن يشتغل مع طه حسين فترة من الوقت قال عنه د. زكريا البرى وزير الأوقاف الأسبق إنه قد لاحظ أن أسلوب حياة الدكتور طه يجرى على غير المعهود فى البيوت المسلمة (انظر مقاله: "الشيخ والأستاذ والدكتور والإمام" بجريدة "النور" فى 11 صفر 1407هـ- 15 أكتوبر 1986م).
(1/428)
والآن بعد أن رأينا هذه المسألة من كل جوانبها المتاحة فإننا نتساءل: هل نما إلى الرافعى فى ذلك الوقت المبكر ما أشار إليه فريدشحاتة بعد ذلك؟ لكن لماذا لم يذكر هذا صراحة، وهو الذى لم يكن هيّابا فى كتاباته؟ لقد لاحظنا أنه لم يجمجم فى تسمية الدكتور طه بـ"المبشر طه حسين" وتكنيته: "أبا مرجريت" وأبا ألبرت"، فهل بلغه ذلك الأمر أو شىء منه، لكنه لسبب أو لآخر لم يذكره؟ إن كان الجواب بالإثبات فمن الذى بلّغه إياه يا ترى؟ إن د. نجيب البهبيتى يتحدث فى كتابه "المدخل إلى دراسة التاريخ والأدب العربيَّيْن" عن أسرار أخرى تتعلق بأسرة سوزان والمهنة التى كانت تمارسها هى فى باريس...إلخ، وهى أسرار إن كانت جديدة علينا نحن الآن فلا شك أن المبعوثين المصريين فى العاصمة الفرنسية فى ذلك الوقت كانوا يعرفونها، فهل نقل إلى الرافعى واحدٌ من هؤلاء المبعوثين أو ممن لهم بهم اتصالٌ سرَّ هذا التعميد، الذى لا نستطيع مع ذلك من الوجهة التاريخية الموثَّقة أن نجزم به؟ الجواب طبعا: لا نعرف.
ومما قاله الرافعى رحمه الله فى د. طه حسين اتهامه إياه، كما رأينا، بأنه أداة أوربية استعمارية. ويتصل بهذا أنه ينقل، فى كتابه "تحت راية القرآن"، ما كتبته مجلة "الفتح" بعد شهرين من نشره لمقاله المسمَّى: "عصبية طه حسين على الإسلام"، ونَصّه: "ليقل لنا طه حسين كم يتقاضى من رجال التبشير، أو بعبارة أدق: من رجال الدول الغربية من أجرٍ على دعايته تلك لهم وعمله لصالحهم وجهاده من أجلهم، هذا الجهاد الطويل العنيف الذى لا يرهب فيه أمة بأسرها. إن ذلك الأجر لا بد أن يكون عظيما جدا كما يتحدث الناس فى أنديتهم" (تحت راية القرآن"/ 195- 196)، كما سمى فرنسا: وطن طه حسين الجديد (المرجع السابق/ 370).
(1/429)
والواقع أن الباحث الذى يريد أن يحقق هذا الأمر يجد نفسه أمام عدة حقائق لا يستطيع، إذا كان باحثا أمينا، أن يُغْفِلها. وهذه الحقائق، وكلها مستمدة مما كتبه طه حسين نفسه وزوجته، هى: علاقته الحميمة إلى حد مذهل بالأساتذة الأجانب فى الجامعة، حتى إنهم ليجتمعون عنده فى بيته كل أسبوع مرة، وذلك يوم الأحد (لاحظ!). ومن هؤلاء الأساتذة جريجوار وإميل برهييه وجريدور وسكايف ولالاند وسانياك (معك/ 74- 75). كما أنه هو الذى استقدم كازانوفا الفرنسى للتدريس فى الجامعة، مع أن طه حسين كان لا يزال فى أولى درجاته الجامعية فى سلك التدريس حينذاك، فمن أين له هذا الثقل الوظيفى والإدارى فى الجامعة؟ ومن الذى كان يقف وراءه؟ إن هذا الأستاذ كان هو المشرف على رسالة طه حسين فى باريس، وحين أتى إلى القاهرة كان طه حسين يزوره كل يوم (المرجع السابق/ 76، وانظر "الأيام"/ 3/ 121، وكذلك سامح كريم/ ماذا يبقى من طه حسين؟"/ 76). ومن لا يعرف هذا المستشرق نُحِيله إلى كتابه "Mahomet et La Fin du Monde" ليعرف آراءه السُّود فى الإسلام ونبيه، الذى يتهمه بتلفيق القرآن من عنده، كما يتهم الصحابة الكرام بالعبث بنصه عندما اتضح أن ما قاله الرسول عليه السلام عن قرب قيام الساعة كان محض هراء، فكان لا بد فى زعمه من زيادة بعض النصوص التى تمحو أثر هذه النبوءة الكاذبة. وقد حزن طه حسين لوفاته حزنا شديدا، وأشار إلى ذلك المرحوم الرافعى بقوله إنه حين هلك كان طه حسين هو "نادِبَته" الوحيدة فى مصر (تحت راية القرآن/ 275. كما وصفه بحق بأنه "كَذَبَنُوفا"/ 294).
(1/430)
ويشبه هذا ما كان من ود وتفاهم بين مرجليوث وطه حسين، حتى إن الدكتور طه، حين سافر إلى أوكسفورد لحضور مؤتمر المستشرقين هناك سنة 1928م، نزل هو وأسرته ضيفا عليه، وقامت زوجة هذا المستشرق المتطاول والحاقد على الإسلام ونبيه برعاية طفله المريض (معك/ 91). لقد عاش كاتب هذه السطور عدة سنين فى تلك المدينة التى كان يدرس فى جامعتها للحصول على درجة الدكتورية، ويعرف جيدا كراهية الأساتذة فى تلك الجامعة لكل ما هو مسلم أو إسلامى. ومرجليوث هذا بالذات من أشد المستشرقين بغضا للإسلام وكتابه ونبيه. إنه من هذه الناحية يأتى هو ولامانس البلجيكى فى المقدمة.ومن يرغب فى أن يأخذ فكرة عن هذا البغض القَتّال فليرجع فقط إلى كتابه "Muhammad and the Rise of Islam"، الذى يأخذ فيه جانب وَثَنِيِّى مكة فى كل موقف حتى فى تعذيبهم للمسلمين، كما وقف فى صف اليهود فى جميع مؤامراتهم لقتل النبى الكريم ومحاولتهم تدمير الإسلام الناشئ تدميرا نهائيا. وقد بلغ من سخطه على الرسول ودينه أنْ قد حمل على أحفاد القردة والخنازير حملة شعواء لأنهم، كما يقول، لم يحكموا أمرهم ويتخلصوا منه قبل أن يلتفت لتآمرهم عليه ويتخلص منهم أوّلاً. ولقد وصف هذا الرجل الوقح رسولنا الكريم بأنه "شيخ منسر: a robber- chief" (D. S. Margoliouth, Muhammad and the Rise of Islam, New York- London, 1905, P. 238). وكان يرى أنه ينبغى ألا نعير كلامه صلى الله عليه وسلم كبير ثقة (المرجع السابق/ 263). كما قال عن أبى عامر الراهب (هذا العميل البيزنطى الحاقد على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى نجاح دينه، والذى بنى له المناقون مسجدا فى أطراف المدينة بعيدا عن عيون المسلمين المخلصين ليلتقوا به فيه لحبك المؤامرات ضد الإسلام ونبيّه وأتباعه) إنه كان عنده قبل هجرة الرسول إلى يثرب ميل إلى الإصلاح الدينى، بيد أن القليل الذى خَبَرَه من محمد بعد هجرته قد أقنعه بأفضلية الوثنية(1/431)
(المرجع السابق/ 290- 291)، وغير ذلك ممما يعج به الكتاب من أقوال شنيعة لا تحترم حقائق التاريخ ولا تلقى بالا للقيم الإنسانية النبيلة التى أرساها محمد عليه الصلاة والسلام، وكان أول وأحسن من استمسك بها. فكيف يمكن أن تقوم مودة حميمة بين مسلم يحب دينه ويؤمن برسوله ولا يقبل أن يسىء إليه أحد وبين مثل هذا المستشرق الوغد الذى كان يكرهه عليه السلام كراهية العمى؟
وممن كانت له علاقة حميمة بالدكتور طه حسين المستشرق الفرنسى لويس ماسينيون، الذى كان يبدى اهتماما شديدا به فى أزماته التى يثيرها، والذى عَرَض عليه ذات مرة وظيفة فى الولايات المتحدة الأمريكية (معك/ 101)، وكان شديد الاحتفاء بابنه مؤنس أثناء دراسته بباريس، إذ كان يأخذه بعد خروجهما من محاضراته التى كان يَحْضُرها له مؤنس فيمشيان معا ويستعلم منه باهتمامٍ وُدِّىٍّ عن كل ما يقوم به أبوه من عمل أو يخطط للقيام به (المرجع السابق/ 253- 254). وماسينيون هذا هو أحد أعمدة الاستعمار الفرنسى فى الشرق الإسلامى العربى. وقد تحدث عن دوره هذا: الصحفى اللبنانى إسكندر الرياشى فى كتابه "رؤساء لبنان"، فليراجعه من شاء. وإننا لنسأل: ما سر هذا الاهتمام الزائد من جانب ماسينيون الاستعمارى وأمثاله بطه حسين؟ لعل ما يلقى بصيصا من الضوء على جواب هذا السؤال أن طه حسين كان يشتغل أثناء الحرب العالمية الثانية مراقبا لإذاعة فرنسا الحرة التى كانت تبث برامجها من دار الإذاعة المصرية.كما أنه قد استقبل الجنرال ديجول حين مجيئه للقاهرة فى إبريل سنة 1941م (السابق/ 129).
(1/432)
ولم تنس السيدة سوزان أن تتحدث عن جوانب من الصداقة الحميمة لزوجها بالمستشرق الفرنسى ريجى بلاشير أيضا. وبلاشير هذا هو الذى عبثت يده النجسة بآيات القرآن الكريم تقطيعا وتقديما وتأخيرا أثناء ترجمته لكتاب الله المجيد، وبلغت به الجرأة أن خطّأ القرآن نحويا وأسلوبيا فى مواضع غير قليلة، كما أضاف إلى سورة "النجم" الجملتين اللتين تسميان بـ"آيتى الغرانيق"، وهو ما لم يجرؤ أحد أن يفعله فى حدود علمنا جاعلاً إياهما جزءا من القرآن، وتعمد تشويه كتابنا الكريم بتفسيرات لا يمكن أن تخطر إلا فى خيال مريض يهذى، كقوله مثلا (مع كايتانى وشبرنجر) إن "جنة المأوى" التى ورد ذكرها فى سورة "النجم" هى فيلا فى ضواحى مكة، وإن "سدرة المنتهى" المذكورة فى ذات السورة هى شجرة بجوار تلك الفيلا. وبطبيعة الحال فالرجل ليس مريضا يهذى، لكنه حاقد يتعصب ضد القرآن ويحاربه بهذه الأساليب السافلة (انظر الهوامش التى خصصها ذلك المستشرق لتلك الآيات فى ترجمته للقرآن، وكذلك الفصل الذى درستُ فيه تلك الترجمة من كتابى "المستشرقون والقرآن"، وهو الفصل الثالث من الباب الأول).
(1/433)
ومن اهتمام المستشرقين والدوائر العلمية الغربية بطه حسين أن المستعرب الإيطالى نلينو مثلا فى مؤتمر المستشرقين الذى انعقد بإيطاليا أثناء الحكم الفاشى قد تنازل لطه حسين عن رئاسة القسم الذى كان يرأسه، وهو ما لم يحدث من قبل كما تقول السيدة سوزان (معك/ 123)، وأن الدكتوراهات الفخرية قد أُغْدِقت عليه إغداقا من الجامعات الأوربية على اختلافها (المرجع السابق/ 162، 172، 177، 180، 251مثلا). إن الصحفى السورى سامى الكيالى المعجب بطه حسين وباتجاهه الدائم نحو قبلة أوربا إعجابا أعمى يشير بفخر إلى هذا الاهتمام الزائد من جانب الجامعات الأوربية بطه حسين (مع طه حسين/ 1/ 123- 124)، مع أن هذا الاهتمام هو دليل على أن الرافعى لم يكن يلقى الكلام على عواهنه حين وصفه بأنه أداة أوربية، وإلا فما هذا الاحتفاء الغريب المريب بطه حسين من دون المفكرين والأدباء العرب الذين كانوا معاصرين له؟ أعَقُمَتْ بلاد المسلمين والعرب ومصر فلم تلد إلا طه حسين؟ إن هؤلاء المحتفين بطه حسين هم أنفسهم الذين يبغضوننا ويبغضون ديننا وأدبنا ولغتنا، وهم الذي استعمرونا وأذاقونا كأس المذلة مُتْرَعَةً ونهبوا بلادنا وقتلوا آباءنا، واقتطعوا من جسدنا وروحنا فلسطين وأعطَوْها لليهود، الذين ساعدهم طه حسين على النجاة بجلدهم عند اقتراب الألمان من العلمين، وهم الذين يُمِدّون إسرائيل بالمال والرجال والسلاح ليذبحونا. فهل يمكن أن يحتفى هؤلاء بأى واحد منا لو رَأَوْا أنه نافع لأمته؟ إن لدينا، والحمد لله، عقولا تفكر!
(1/434)
ومن مظاهر اهتمام المستشرقين بطه حسين كذلك أن بعضهم، حينما أُبْعِد الرجل عن الجامعة، قد أعلنوا أسفهم الشديد وهاجموا المسؤولين عن ذلك وعدّوه من المناضلين عن حرية الفكر. وأعلن برجشتراسر، وكان أيامها أستاذا بالجامعة المصرية، أنه لن يعود إلى الجامعة إلا إذا عاد إليها طه حسين (معك/ 109- 110). وهذا كله مع أن مئات الأساتذة الجامعيين المسلمين يُفْصَلون ويُسْجَنون ويُقَتَّلون فى أنحاء العالم المختلفة، ولم نسمع من أحد من هؤلاء المستشرقين ولو كلمة مجاملة من باب ذر الرماد فى العيون. وبالمناسبة فقد نابنى من الحُبّ جانبٌ بسبب الكتاب الذى أنقل منه هذا الفصل (أو إذا آثرنا الصراحة: بسبب طه حسين وما اقتحمتُه فى ذلك الكتاب من محرّمات وأقداس لا ينبغى أن يقترب منها أحد، وإلا تم التنكيل به حتى يكون عبرة لغيره)، فأوذيت أذى شديدا لم أُوذَه فى حياتى العلمية والوظيفية، ولم يكلِّف أحد من المتباكين على الحرية الفكرية عَيْنَه أن تذرف ولو دمعة واحدة من دموع التماسيح على سبيل التجمُّل، فضلا عن أن يثير الأمرَ فى وسائل الإعلام المحلية، بَلْه العالمية. وكان ذلك قبل مسألة د. نصر أبو زيد بقليل، الذى أخذت وكالات الأنباء فى كل أرجاء الدنيا تطيّر أخباره وتغطى الاحتجاجات التى كانت تظاهره من كل صَوْبٍ وحَدَب، وكأننا بصدد حرب كونية ثالثة! وأحب رغم ذلك ألا يفهمنى أحدٌ خطأً فيتوهم أنى مع اضطهاد الفكر، ولكنى فقط أتساءل عن سر هذا الاهتمام الغريب من قِبَل الدوائر العالمية المعادية للإسلام بطه حسين وأمثاله وقَصْره عليهم، وعليهم وحدهم! ومن المضحك الذى ينبغى إيراده هنا، وشر البلية ما يضحك كما يقول المثل المشهور، أن يبلغ التحمس لطه حسين عند أحد القساوسة المصريين، وهو كمال ثابت قلته (فى رسالته للماجستير عن الدكتور طه)، أن يهاجم، وهو رجل الدين النصرانى، شيوخ الأزهر ويتهمهم بالرجعية واصمًا إياهم بأنهم لم يفهموا الإسلام كما(1/435)
فهمه طه حسين. فالحمد لله الذى جعل هذا القس يفهم الإسلام خيرا من مشايخنا ويقوم فوق ذلك بدور القاضى بينهم وبين الأزهرى السابق الشيخ طه، ويصدر فى النهاية هذا الحكم المهذب العادل (انظر كتابه "طه حسين وأثر الثقافة الفرنسة فى أدبه"/ دار المعارف/ 90- 92).
(1/436)
فإذا عدنا إلى الرافعى واتهامه لطه حسين وجدنا من الصعب أن نرميه بالتجنى وإرسال القول على عواهنه. ومن المؤكد أنه، رحمة الله عليه، كان يعرف عن طبيعة علاقات طه حسين بالمستشرقين ورجال الدين والسياسة الغربيين الشىء الكثير بحكم المعاصرة، وبحكم اهتمامه كأديب ومفكر بقضايا الأدب والتاريخ العربى والإسلامى، وبحكم انغماسه التام فى الحياة الثقافية واتصاله بأقطاب الفكر والأدب والنهضة الإسلامية، وبحكم وجود الاستعمار البريطانى الدنس على أرض المحروسة مما يشجع من لهم علاقة بدوائر الغرب العلمية والسياسية على عدم الاستتار بهذه العلاقات، بالضبط كما هو حادث الآن فى الظروف السُّود التى يمر بها الوطن العربى بل أمة محمد على بكرة أبيها. ويمكن، لمن يريد التعرف إلى بعض العلاقات التى كانت لطه حسين بهذه الدوائر، الرجوع إلى الصفحات التالية: 162، 173- 174، 178، 190، 195، 197، 199، 202، 204، 266...إلخ من كتاب "معك" الذى وضعته زوجته عنه بعد وفاته والذى كان مرجعا أساسيا من مراجعنا فى هذا الفصل. ودعنا من رحلته التى قام بها إلى فلسطين وزار فيها الجامعة العبرية سنة 1927م، تلك الجامعة التى بذل طه حسين جهوده (المشكورة والمقدورة) حتى نجح فى تذليل الاعتراض الذى أبداه رجال البعثات فى مصر على ذهاب أحد الطلاب إليها (المرجع السابق/ 83، 186). وكذلك دعنا من إشرافه على مجلة "الكاتب المصرى" اليهودية، وتسهيله لأصدقائه من اليهود الخروج من مصر عند اقتراب الألمان من العلمين (السابق/ 140). ولعل من الطريف أن نشير هنا إلى ما ذكرته السيدة زوجته فى هذا الكتاب من أن أم وأخت أحد الشبان الإخوانيين، وكان قد حُكِم عليه ضمن آخرين مثله بالإعدام أيام الرئيس عبد الناصر لارتكابهم جرائم قتل (!) كما تقول، ألحتا على الدكتور طه أن يتدخل لإنقاذ الشاب. ولكنه لم يفعل بطبيعة الحال، ربما لأنه لم يكن يهوديا. ومع ذلك فهذه القصة غير مقنعة، إذ لا أظن أن(1/437)
سمعة طه حسين بين الإخوان وأسرهم كانت تشجع المرأتين على أن ترجوا تحقيق مثل هذا الطلب على يديه، وهو الذى هاجمهم أشد هجوم فى بعض ما كتب فى تلك الفترة.علاوة على أننى لا أعرف أن الإخوان قد ارتكبوا جرائم قتل فى عهد عبد الناصر أو حتى اغتيالات سياسية. وفى النهاية فإنى لا أعرف لماذا لم تذكر السيدة الكاتبة اسم الشاب. أغلب الظن أن مثل هذا الشاب وأمه وأخته ليس لهم وجود! والله أعلم.(1/438)
فضيحة بجلاجل فى برنامج "الاتجاه المعاكس"
بقلم : د. إبراهيم عوض
بثت قناة الجزيرة مساء (الثلاثاء 5/ 10/ 2004) حلقة من برنامجها الأسبوعى: "الاتجاه المعاكس"، الذى يقدمه د. فيصل القاسم المتخصص فى إشعال الحرائق الفكرية وتأريث نار الخصومة بين ضيفيه لاستخراج ما فى مستكن أضغانهما. وقد دارت حلقة هذا الأسبوع حول مدى ترحيب المسلمين بحذف نصوص دينية إسلامية معينة من المناهج الدراسية أو رفضهم لذلك، وكانت نتيجة تصويت المشاهدين على المشباك (النت) فى صالح الرفض لهذا الحذف بأغلبية ساحقة، بل إنه ليمكن القول بأن الإجماع تقريبا قد انصبَّ فى هذا الاتجاه إذا أخذنا فى الاعتبار أن نسبة الـ8% التى صوتت بالموافقة يدخل فيها غير المسلمين، سواء من العرب أو من غير العرب أيضا!
والواقع أن هذه الحلقة بالذات كانت بكل المقاييس "فضيحة بجلاجل" للعلمانيين المتغربين السائرين فى ركاب أعداء هذه الأمة الراقصين على ما يعزفونه لهم من أنغام، النابحين كل شريف من أنصار محمد صلى الله عليه وسلم كلما شامُوا فى الأمة ضعفا، والمسارعين إلى الدخول فى أوجارهم أذلّةً ضاغين ضارعين إذا استقام ميزان الأوضاع وعادت الأمور لطبيعتها الأصلية. أما كيف كانت "فضيحة بجلاجل" لهؤلاء الخَلْق فإليك، أيها القارئ، التفصيل:
(1/439)
لقد ظهر من مناقشات القوم أنهم لا يحترمون القرآن ولا الحديث، وهما أساسا الدين لهذه الأمة، وبغيرهما لا يكون المسلم مسلما. كما ظهر من هذه المناقشات قدرتهم العجيبة على الكذب والتدجيل دون أن يطرف لهم جفن أو هُدْب، مما يدل على أن هذه الآفة سجية متأصلة فيهم، وأن الواحد منهم "كذاب قرارى" كما يقول المصريون! أو "كذاب من الطراز الأول بامتياز" كما نقول بالفُصْحَى حماها الله! وفضلا عن هذا وذاك هناك الجرأة الخبيثة على التلاعب بتفسير النصوص الدينية، والقرآنية يالذات، تفسيرا ما أنزل الله به من سلطان. ومن لا يعجبه هذا التفسير العجيب فليشرب من البحر، أو إذا لم يكن قريبا من البحر فليخبط رأسه فى الجدار الذى أمامه أو الذى وراءه (لا يهم! المهم أن يخبطه، والسلام!)، ولا يجشم نفسه تعب القيام من مكانه للذهاب إلى البحر! وهذه الجرأة الخبيثة الوقحة فى التلاعب بتفسير النصوص الدينية يرفدها جهل غليظ لا يستحى صاحبه من إعلانه على الناس. ولِمَ يستحى، والأمر إنما يتعلق بالإسلام، وهو دينٌ بلا صاحب، أو هو فى أحسن الأحوال دينٌ ليس لدى أهله قنابل أو صواريخ أو أسلحة نووية كما عند ماما (أو بالأحرى: امرأة بابا) أمريكا ومن لفَّ لِفَّها، دينٌ ها هى ذى الدنيا تستعد لتشييعه إلى مثواه الأخير كما تخيِّل لهم أوهامهم النجسة مثلهم، ولا عزاء فيه لأحد: لا للسيدات ولا للرجال، ولا حتى للأطفال الصغار؟ ترى هل يستطيع أحد من المسلمين أن يجرؤ على فتح فمه؟ هكذا يفكر أولئك الخلق! وفوق هذا وذاك فالقوم لم يعودوا يخفون شيئا من أهدافهم ونياتهم: فهؤلاء هم المسلمون يُذَبَّحون وتُدَكّ بيوتهم فوق رؤوسهم ورؤوس الذين نفضوهم وتُغْتََصَب حرائرهم وتُبْقَر بطون أطفالهم وتُلَطَّخ أجساد رجالهم بالخراء ويُكْرَهون على أن يأتى الأب منهم أولاده، والأولاد أباهم، بأوامرَ، وعلى مرأًى ومسمعٍ، من السحاقيات الأمريكيات واللوطيين الأمريكيين فى العراق، وتُسَلَّط(1/440)
الكلاب المتوحشة عليهم تأكل أعضاءهم التناسلية وهم عرايا مقيدون قد أُبْعِد ما بين ساقيهم بآلات حديدية حتى لا يستطيعوا أن يداروها عن الكلاب المتلمظة التى يسلطها عليهم كلاب البشر! رهيب! رهيب! رهيب! ثم يأتى أولئك الخلق فيصيحون بنا أنْ كونوا متحضرين أيها الأغبياء يا من لا تزالون تعيشون وتعششون كالخفافيش فى عصر الظلام الذى كان يعيش فيه محمد وأصحابه البدو المتخلفون! ما لكم تريدون أن ترجعوا عقارب الساعة إلى الوراء، وقد مات ذلك الـ"محمد" منذ أربعة عشر قرنا وشبع موتا، وينبغى أن يلحق به قرآنه وحديثه اللذان لا مكان لهما فى عالم اليوم الذى استولت فيه أمريكا على عرش الألوهية بقوة السلاح كما استولت على بلاد الهنود الحمر بعد أن أبادتهم وجعلتهم أثرا من بعد عين، وحوَّلتهم إلى حكايات تُرْوَى وأفلام تُمَثَّل على الشاشة للتسلية وإدخال السرور على قلوب المشاهدين، ولم يعد هناك مكان لإله محمد يا أيها الحمقى، بل يا أيها البهائم؟ ألا تريدون أبدا أن تفيقوا من هذيانكم وظلامكم وتكونوا، ولو مرة واحدة، قوما متحضرين؟ استيقظوا وافركوا أعينكم وقلوبكم وعقولكم جيدا، فهذا الأوان أوان "الكاوبوى بوش" لا "محمد راعى الجِمَال" يا أيها الصُّمّ البُكْم العُمْى الذين لا يبصرون ولا يسمعون ولا يتكلمون كلاما يفهمه العاقلون! هذا، أيها القراء، هو الأمر باختصار، ومن يرد مزيدا من البيان فليتابع معنا غير مأمور، بل له كل الاحترام، وله كذلك الثواب من رب الثواب: رب محمد بطبيعة الحال كما لا أظننى بحاجة إلى التوضيح، فأنا من أولئك الذين ما برحوا، رغم كل شىء، يؤمنون بمحمد ودين محمد ورب محمد، لا أعرف لى دينًا ولا نبيًّا ولا ربًّا سواه!
(1/441)
لقد بدأت الحلقة، ولم نكن نعرف مَنْ ضيفاها، ولكن ما إن رأيت د. إبراهيم الخولى حتى شعرت بالسرور، إذ سبق لى أن شاهدته (ولأول مرة فى حياتى) فى الحلقة التى قارع فيها د. محمد أركون العام الماضى فقَرَعه بل أجهز عليه بالضربة القاضية حتى لقد رأيت أركون وقد استولى عليه الذهول عند انتهاء المناقشات، وهو يكاد يضرب كفا بكف (أو ربما ضربهما فعلا) لأن الحلقة قد انتهت دون أن يستطيع شيئا مما ظن أنه فاعله، تصوُّرًا منه أن د. الخولى رجل أزهرى "دقة قديمة"، فهو يقدر أن يضحك عليه بكلمتين من كلامه الذى يترجمه لنا حواريّه هاشم صالح (الذى كتب ذات مرة عقب حوار دار بينه وبين أستاذه فى العاصمة الفرنسية قائلا إنه يتطلع إلى اليوم الذى تنتشر فيه الخمارات فى أرجاء البلاد الإسلامية كما تنتشر فى باريس) معلنًا فى جرأة لم أرها ولم أسمع بها فى الغابرين ولا فى المحدَثين، ولا أحسب أحدا سوف يُكْتَب له أن يسمع بها فيما يُسْتَقْبَل من الزمان إلى يوم الدين، أن الإسلام قبل أركون ليس هو الإسلام بعد أركون! والحمد لله أنه لم يَدْعُ إلى ترك التقويم الهجرى والميلادى والقبطى والعبرى والفارسى والصينى والجريجورى وتدشين تقويم جديد للعالم كله يحمل اسم شيخ طريقته أركون، فيقال: حدث هذا فى السنة الرابعة والخمسين مثلا أو فى القرن العاشر من ميلادِ (أو من وفاةِ، أو من صدور أول كتابٍ لـ)سيدنا أركون، صلى "الغرب" عليه وسلّم صلاةً وسلامًا دائمين متلازمين يأخذانه آخر المطاف يوم القيامة إلى المكان الذى يستحقه جزاءً وفاقًا على ما صنعت يداه! مَدَدْ يا سيدى أركون! مَدَااااادْ! ولا شك أن هذا منتهى التواضع: من الشيخ الأكبر، ومن الدرويش الأصغر على السواء! لكن الذى حدث هو أن الدكتور الأزهرى قد لقن الشيخ الأكبر درسا لا أظنه هو ولا من وراءه أو أمامه أو عن أيمانه أو عن شمائله من دراويشَ تابعين أو سادةٍ متبوعين سيَنْسَوْنه أبد الآبدين ولا دهر(1/442)
الداهرين! لقد بدأ الدكتور الأزهرى كلامه بالحمد لله والصلاة على النبى واستعاذ بالله من شرور النفس ومن سيئات الأعمال، وأطال فى هذه الديباجة، وأنا أستحثه بينى وبين نفسى أن يدخل فى الموصوع خوفا من أن يقاطعه فيصل القاسم فى الوقت الحرج ويقول له كعادته: "الوقت يداهمنا". لكنى لم أكن أعرف أن كلمات الشيخ ستنزل على رأس الأركون كما تنزل "تعزيمة الرفاعى" على رأس الحَنَش الذى يريد استدراجه من داخل الجدار، فتطيّر صوابه فلا يستطيع حَوْلا ولا طَوْلا، بل يقع فى يده ويستسلم كما يخرج الثعبان من الشق الذى يختبئ فيه رافعًا الراية البيضاء لراقى الثعابين! أعاذنا الله من الثعابين ومن شر الثعابين: من المنسوبين إلى جنس الآدميين، قبل ثعابين الحَيَاوين! قولوا معى بصوتٍ واحد، وعلى قلب رجلٍ مؤمنٍ واحد: آمين، يا رب العالمين! وأَسْمِعُونى كذلك الصلاة على نبينا محمد سيد الأولين والآخرين! المهم أننى من يومها كلما جاءت سيرة الحلقة أجدنى أردد قائلا: "لقد أكل الشيخُ الأزهرى الاستاذَ السربونى!". لهذا، ولكل هذا، ولا شىء غير هذا، ألفيتُنى أبتهج لمرأى د. الخولى وأتشوق إلى متابعته مرة أخرى وهو يتكلم بطريقته المميزة راسمًا بذراعه ويده اليسرى زوايا قائمة فى الهواء ومشيرًا بسبابتها فى حسمٍ وحدّةٍ ناحية الخصم كأنه يفقأ بها عين الباطل اللئيم قائلا على نحو خاطف: "ثمّ"، ومتمهلا قليلا قبل أن يشفعها بالجملة التالية ثم سائر الجمل من بعدها بحروفها التى تبدو وكأنها صادرة جميعها من الحلق، وعلى رأسه طاقيته الداكنة المكبوسة الظريفة التى يكمن فيها السحر والظرف كله! وأشهد أن الشيخ الأزهرى لم يخيب ظنى ولا رجائى هذه المرة أيضا، بل إنى لأعتقد أنه قد تفوق فيها على نفسه. وكان من بركاته أن استفز خَصْمُه مقدِّمَ الحلقة مُنْكِرًا ما كان قد قاله قبل الدخول إلى مكان التصوير وأعلن ما تكنه أطواء ضميره من كراهيةٍ للإسلام وهجومٍ تجاوز جميع(1/443)
الحدود على آيات القرآن مما لم يستطع أن يواجه به الجمهور ولا أن يصمد به للشيخ فى الحوار الذى دار بينهما على الهواء أمام الملايين، فما كان إلا أن وجَّه له د. فيصل القاسم بدوره لكمة أخرى جعلته يترنح وهو يتصايح مُنْكِرًا ومستنكرا دون جدوى، والقاسم يؤكد بقوة واستخفاف أن كل شىء قاله قبل بدء الحلقة مسجَّل، وأنه لا يفترى عليه فى قليل أو كثير! وهكذا لحق محمد ياسر شرف بأركون (الذى جعله الله سَلَفًا ومثَلاً للآخِرين) غير مأسوف على أى منهما! وهذا الرجل بالمناسبة، حسبما أخبرنى صديقٌ حلبىّ البارحةَ عقبَ انتهاء البرنامج، هو أستاذ سورى كان يشتغل ناظرا لإحدى المدارس الثانوية بدمشق قبل أن يسافر للعيش فى لندن.
(1/444)
وهكذا بدأت الحلقة، وكانت بداية القصيدة كفرا، إذ لم يترك لنا أ.شرف فرصة نستعد فيها لما يقول، بل أخذ يمطرنا من البداية باتهام معلِّمى اللغة العربية والدين فى المدرسة جميعا بالكذب قائلا إن مدرس العربية يكذب على التلميذ زاعما له أنه سوف يبدأ معه من الآن دراسة الفصحى، أما ما كان يتكلمه قبل ذلك فليس من اللغة العربية فى شىء. ومن ثم فهذا المدرس، حسب زعم أ.شرف، يحكم على الفترة التى قضاها الطفل قبل أن يبدأ درس النحو بأنها ضاعت من حياته دون جدوى! ولا أدرى أين يوجد ذلك المدرس خارج أوهام المتحدث الرديئة السخيفة. لقد درَسْنا القواعد النحوية والصرفية فى المرحلة الابتدائية والإعدادية والثانوية والجامعة، فلم نقابل مثل هذا الأستاذ. بل إن كثيرا من أساتذة اللغة العربية ليشرحون دروسهم بالعامية. وكل ما كانوا يقولونه فى هذا الصدد أن الفصحى هى لغة القراءة والكتابة، أما العامية فللكلام والمطالب اليومية فى البيوت والشوارع والمقاهى والأسواق وما إليها، مثلما قلنا ونقول، وسنظل نقول، إن المنامة للبيت والسرير، بخلاف البدلة، فهى للحفلات والمناسبات الاجتماعية والرسمية الهامة. فأين الكذب هنا؟ والعجيب أن الرجل كان يتكلم بلغة فصحى سليمة إلى حد كبير، ودون تلكؤ أو تلعثم. والفضل بطبيعة الحال، بعد الله، لمدرسى اللغة العربية الذين جازاهم سعادته جزاء سنمار! ترى بأية لغة غير العامية المتخلفة كان سيتكلم لولا فضل هؤلاء الأساتذة الذين يرميهم سيادته بالكذب جريا على أسلوب المثل السائر: "رمتنى بدائها، وانسلَّتِ"؟ ثم لماذا يَقْصِر الاتهام بالكذب على مدرسى اللغة العربية دون سائر المدرسين، وهؤلاء يقعون فيما هو أشد عيبا مما يتهم به أولئك زورا وبهتانا؟ ألا يقول مثلا مدرس الكيمياء لتلاميذه إن ذرة الماء تتكون من ذرة أوكسجين وذرتى هيدروجين؟ أوقد عاين أىٌّ منا ذلك؟ إننا لا نعرف ماءً إلا ذلك الذى ينزل من الصنبور أو يجرى فى الترع(1/445)
والقنوات أو يهطل من السماء! لكن الأستاذ المتكلم إنما قصد ذلك قصدًا بغية التحقير من شأن اللغة العربية لأنها لغة القرآن الكريم رغم أن موضوع الحلقة لا تربطه أية واشجة بدروس النحو والصرف! وهذا ما عناه القرآن المجيد حين تحدث عن طائفة من الناس فنبَّه الرسولَ عليه السلام إلى أن من السهل معرفتهم من لحن القول، وهو هو نفسه أو شىءٌ جِدُّ قريبٍ منه ما نسميه بـ"فلتات اللسان".وكما قصد الرجل أن يحقر من لغة القرآن باتهام مدرسيها ضلالاً منه ومَيْنًا بأنهم، حين يعلّمون التلاميذ قواعد النحو والصرف، إنما يمارسون كذبا بشعا عليهم، كذلك قصد الإساءةَ الجِلْفَة الغبية للدين حين اتهم مدرسى الفقه، ضلالاً أيضا منه ومَيْنًا، بأنهم إنما يكذبون أفظع الكذب على التلاميذ حين يقولون لهم إن ما يُغْسَل من أعضاء الجسم فى آخر الوضوء هو الرجلان إلى الكعبين، بينما الذى يحدث فى الواقع هو غسل المشطين إلى الكعبين، وهو خطأ فى زعمه، إذ الرِّجْل عنده إنما هى الساق والفخذ. وهذا كلام فى منتهى الخطورة، فتهمة الكذب والجهل فيه موجهة، فى الحقيقة، لا إلى مدرسى الفقه، بل إلى الرسول والقرآن. ترى من أين أتى مدرسو الفقه بتفسيرهم هذا؟ أليس من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ إذن فلو كان هناك كذب وجهل لكان مصدرهما هو الرسول، الذى لم يشأ صاحبنا أن يتهمه اتهاما مباشرا، بل آثر أن يلدغ لدغته السامة على نحو خبيث خفى، فلا يمكن المشاهد اكتشافها إلا فيما بعد عندما يبدأ ذهنه بالعمل، ويكون سعادة الأستاذ قد فَطَّ راجعا إلى لندن! نفس الطريقة الخبيثة التى تحدث عنها أخ له من قبل فى مصر قائلا إن أسلوبه (يقصد أسلوبه فى الكيد للإسلام) هو: اضرب، واهرب قبل أن يتمكنوا من الإمساك بك!
(1/446)
والواقع أن الكذب والجهل إنما هما نصيب من يتهم الرسول والقرآن بهما، فمعروف أن أول معنى من معانى "الرِّجْل" فى اللغة هو "القدم". وهذا واضح من قولنا: فلان راجل، أو ماشٍ على رجليه، أو مترجِّل عن دابته. ومنه قول القرآن فى الآية الخامسة والأربعين من سورة "النور": "والله خلق كل دابّة من ماء: فمنهم من يمشى على بطنه، ومنهم من يمشى على رِجْلَيْن، ومنهم من يمشى على أربع"، وقوله فى الآية المائة والخامسة والتسعين من سورة "الأعراف": "ألهم أرجلٌ يمشون بها؟". ومنه أيضا قوله عز شانه: " َلأُقَطِّعَنَّ أيديكم وأرجُلكم من خِلاف" (الأعراف/ 124، والشعراء/ 49)، وقوله جل جلاله: "يومَ يغشاهم العذاب من فوقهم ومن تحت أرجلهم" (العنكبوت/ 55)، وقوله سبحانه لعبده داود: "اركض برِجْلِك" (ص/ 42)... إلخ. أم ترى الفلحاس يفهم من تلك العبارات أنهم يمشون على أفخاذهم وسيقانهم أو أن العذاب سوف يأتيهم من تحت أفخاذهم وسيقانهم أو أن داود عليه السلام كان يركض على فخذيه وساقيه؟ إن مصير من يفهم مثل هذا الفهم لمعروف، ألا وهو أخذه إلى أقرب مستشفى للأمراض العقلية! وعلى هذا فلا كذب ولا جهل إلا عند الشتّام الهجّام بلا وازع أو لجام! وحتى لو أدخلنا فى معنى "الرِّجْل" الفخذ والساق ، فالمفهوم أن تكون بداية الرِّجْل من القدم لا من الساق أو الفخذ، إذ القدم هى الجزء المنفصل من الرِّجْل، أما الساق والفخذ فهما متصلان بغيرهماـ وعلى ذلك فعندما يقول القرآن: "وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين" فليس لذلك من معنى فى حالة الوضوء إلا غسل القدمين من أسفلهما صعودا إلى الكعبيين، وإلا فهل يريد حضرته منا، إذا ما أردنا أن نتوضأ ونغسل أرجلنا فى المسجد، أن نخلع سراويلاتنا وتبابيننا ونكشف عن سوآتنا على ملإ من الناس أجمعين؟ وهل تراه هو يفعل ذلك، أقصد: هل كان يفعل ذلك أيام أن كان يصلى ويتوضأ؟ انظروا إلى هذا التننطع الثقيل الظل والروح لتعرفوا إلى أى(1/447)
مدى يتساخف تلامذة الاستعمار والمستشرقين والمبشرين فى حربهم للإسلام!
(1/448)
وكان الرجل قد أتى للحلقة ليدعو بما يدعو به الأمريكان من وجوب حذف النصوص القرآنية والحديثية التى تحض على الجهاد فى سبيل الله أو تصف من لا يؤمن بمحمد والقرآن بالكفر، من المقررات الدراسية. ومن الواضح أنه، فى النقاش الذى دار بينه وبين د. فيصل القاسم قبل بدء الحلقة، قد أعلن عن نفسه وأهدافه بكل وضوح، أما على الهواء وأمام الجمهور فكان يلف ويدور، ولكن على من؟ لقد كانت اللعبة مكشوفة تماما رغم الزعم الكاذب بأنه لا يريد حذف هذه النصوص، بل مجرد تأجيلها لمرحلة لاحقة. إلا أن هذه البهلوانيات اللفظية والفكرية لم تستطع أن تخفى سوأة نياته وأهدافه، إذ لما سئل: ومتى يمكن للتلاميذ أن يتعلموا هذه النصوص؟ كان جوابه أن قراءتها لا بد أن تقتصر على المتخصصين لا تعدوهم. أى أنه لن يقرأ هذه النصوصَ إلا طلبةُ الدراسات العليا، ولا سبيل إلى وضعها بين أيدى غيرهم بأية حال، وهو ما يعنى أنها ستتحول إلى نصوص ميتة لا غناء فيها، اللهم إلا لمن يريد أن يبلّها ويتناولها على الرِّيق فتطرد البلغم من صدره، والديدان من أمعائه! وسلِّم لى على الجهاد والعزة والكرامة يا أبو كرامة! أما أنتِ يا أمريكا فقد "خلا لك الجوّ، فبِيضِى واصْفِرى، ونقِّرى ما شئت أن تنقِّرى". نعم خلا لك المجال الجوى فى بلاد المسلمين فطِيِرى بطائراتك وأطلقى صواريخك وقنابلك فيه وامرحى على راحتك تماما، واصفرى بقنابلك التى تدمر البيوت على رؤوس من فيها من المساكين الوادعين الذين لم يدوسوا لك على طرَف، وانقرى عيونهم وابقرى بطونهم ولا تأخذك بأحد منهم رحمة، فهم أولاد كلب وخنازير لا يستحقون مصيرا أفضل بل أسوأ من مصير الهنود الحمر! أليسوا أبناء محمد؟ أليسوا قد تخرجوا من مدرسة القرآن؟ اضربى يا أمريكا بكل ما عندك من وحشية وجبروت، فالفرصة الآن سانحة كما لم تسنح لك من قبل، فها هو فريق من أبناء المسلمين أنفسهم ينصرك على بنى قومه، ويمدك بما تريدين أن تعرفيه من(1/449)
أخبارهم، وينشر بينهم التخذيل والإحباط والتيئيس وروح الهزيمة والتشكيك فى القرآن والحديث ونبوة محمد وحضارة العرب والإسلام، ويقوم بدلا منك بالمهام القذرة. ترى ماذا تريدين أفضل من هذا؟ اضربى! اضربى الرجال والنساء والأطفال والبيوت والمدارس والمستشفيات والمصانع والمتاحف والمساجد والمخابئ والحقول والجسور والمطارات والسيارات... اضربى بكل قسوةٍ هؤلاء البهائم الذين لا يفهمون ولا يتحضرون ولا يريدون أن يسلّموا لك رقابهم طواعية كى تجزريهم وتمصمصى عظامهم براحتك دون أن يعكّر عليك الجَزْرَ والمصمصمةَ مجاهدٌ منهم لئيمٌ أو عالمٌ زنيم. ثم ما هذه السحنة العابسة المكرمشة التى يطالعك بها أمثالُ الشيخ إبراهيم الخولى؟ وما هذه اللغة الأزهرية التى أكل عليها الدهر وشرب؟ لماذا لا يتقمَّع ويتقمَّش ويتحذلق بمصطلحاتك الفارغة من المضمون والتى تخترعينها وتغادين بها الدنيا صباح مساء لتبرجلى بها عقول المتخلفين ويبتسم تلك الابتسامات اللزجة السخيفة التى يبتسمها المستر شرف والمسيو أركون؟ لا، لا. اقتلوه هو وأمثاله يَخْلُ لكم وجه الدنيا وبترولها وكل لذائذها. لقد فعلتموها بكل نجاح واقتدار مرة من قبل مع الهنود الحمر، وفعلها الإسبان مع أجدادهم فى الأندلس، وها هى ذى الفرصة مواتية الآن تمام المواتاة لكى تفعلوها كرة أخرى، فهيا هيا يا أبناء العم سام يا سادة العالم، وأروا هؤلاء البهائم النجوم فى عز الظهر الأحمر! ثم لا تنسَوْا فى ذات الوقت أن تتهموا أولئك الجواميس والأبقار بالإرهاب. قولوا لهم: أنتم قتلة! أنتم لا تحترمون إنسانية الآخر. أنتم ما تزالون تؤمنون بدينكم، وهذا يزعجنا وينغص علينا بالنا، أفلا تفهمون؟ إننا سادة العالم، ولا نريد لأحد أن يفتح فمه أمامنا بكلمة. وأنتم لا تكفون عن الكلام، فليس لكم عندنا إلا الإبادة. إننا نعرف أن كثرة كلامكم ليست إلا مظهرا من مظاهر عجزكم عن الدفاع عن أنفسكم فى مواجهتنا، لكننا لا نريد(1/450)
منكم ولا حتى الكلام لأنه مزعج لراحتنا وآذاننا.
كذلك انبرى أ.شرف هو ومعضِّداه اللذان دخلا على الخط من أوربا فى فاصل من الحِنِّيّة والعطف والتباكى على أهل الكتاب المساكين الملائكة الطيبين الذين كتب عليهم حظهم التعيس أن يعيشوا فى بلاد الإسلام، متهمين المسلمين بأنهم ينفون الآخر ولا يعترفون بحقه فى الاعتقاد على النحو الذى يريد! ولو أن الكلام اقتصر على هذا السخف لهان الأمر ولما بالينا بالرد عليه، فالمسلمون الآن لا يستطيعون أن يقتلوا ذبابة، والأقليات فى بلادهم هى أعز الأقليات فى العالم جانبا بما فى ذلك دور عبادتهم وأوقافهم ورجال دينهم، بل هى فى بعض الأحيان أعز منهم هم أنفسهم. لكن الطامة العظمى أن المتكلمين قد اندفعوا فى معزوفة من المغالطات الوقحة والاتهامات الحقيرة الموجهة إلى الرسول الكريم والقرآن الذى جاء به بما لا يمكن أن يكون له من معنى إلا أن محمدا هو مؤلف القرآن وأنه كان شخصا ميكيافيليا فى أخلاقه وسياسته، جريئا على تطويع النصوص والتلاعب بها حسبما يحلو له بما يخدم مصلحته ويتناقض مع كل قيمة أخلاقية كريمة دون أن يَزَعه عن ذلك وازع! كيف ذلك؟
(1/451)
لقد ادعَوْا أن الرسول، صلى الله عليه وسلم، قد أثنى على أهل الكتاب فى مكة حين كانت العلاقة بين الفريقين صافية لم تتكدر كما تكدرت لاحقا فى المدينة بعد مهاجَره عليه السلام إليها واحتكاكه باليهود هناك واشتعال الخلافات والمعارك بينهما مما كان من نتيجته توالى الآيات التى تلعنهم وتكفّرهم، ناسيا أنه كثيرا ما شهد لهم بالإيمان فى قرآنه أيام مكة قبل أن تتوتر بينه وبينهم الأمور. لكن هل هذا صحيح؟ إن هذا هو بعينه ما يقوله المستشرقون والمبشرون، أى أن أصحابنا لم يأتوا بشىء من عندهم. وهو كلام قديم لا يكف الدارسون الغربيون عن لَوْكه فى تنطع وسخف ما بعده سخف رغم معرفتهم التامة أنهم يكذبون. وهذا مثل دعوى بوش وبلير بأن العراق يمتلك أسلحة دمار شامل، وهما يعرفان قبل غيرهما أن ذلك كذبٌ أبلق، لكن الهدف البعيد يستحق أن ترتكب أمريكا وبريطانيا له الكذب والقتل والتدمير للعراق وأهل العراق وحضارة العراق، مع تشغيل الإسطوانة الأخرى بأنهم إنما جاؤوا للعراق ليعيدوا إعماره وينشروا فيه الديموقراطية! ومن الطبيعى أن إعادة الإعمار تستلزم أن يكون هناك خراب، ولما لم يكن العراق على أيام صدام خربا كان لا بد من نشر الخراب والدمار فيه حتى يمكن أن يكون هناك إعمار. كذلك فالعراقيون الحاليّون غير مستعدين للديمقراطية، أو لا يستحقونها بالأحرى، ومن ثم فلا بد أيضا من استئصالهم وإفساح الطريق أمام جيل جديد يستطيع أن يتذوق الديمقراطية التى جلبتها له أمريكا: فهذا شىء لزوم الشىء!
(1/452)
والواقع أن فى القرآن الكريم آيات مكية وأخرى مدنية بعضها يثنى على أهل الكتاب، وبعضها يحمل عليهم ويكفّرهم، فليس الأمر إذن كما زعم أصحابنا كذبا ومَيْنا أن السياسة الميكيافيلية هى التى اقتضت أن يمدح محمد أهل الكتاب فى مكة، ثم ينقلب عليهم فيذمّهم فى المدينة! لكن يبقى هناك سؤال مهم، ألا وهو لماذا مدحهم القرآن أحيانا، وذمَّهم أحيانا أخرى؟ وجوابنا أن لكل فرد أو جماعة من البشر عدة جوانب بحيث يمكن أن نمدحهما باعتبار، ونعيبهما باعتبار آخر، وأهل الكتاب لبسوا بدعا بين البشر حتى يمكن استثناؤهم من ذلك. والقرآن حين يمدح أحدا من أهل الكتاب فإنه لا يمدحه بوصفه يهوديا أو نصرانيا بل بوصفه مسلما قد آمن بمحمد وانصاع للحق الدى جاء به، ولم يدفعه التعصب الأعمى لما ألفى آباءه عليه إلى رفض الدعوة النبيلة العظيمة التى أتى بها الرسول من لدن رب العالمين. وسوف أجتزئ ببعض الآيات من كل من الوحى المكى والمدنى للتدليل على ما أقول حتى يسقط الهراء الباطل السفيه الذى يصدّعنا به الدارسون ورجال الدين الغربيون ومن جرى فى ركابهم وتعلق بأذيالهم من بيننا.
(1/453)
لقد ادعى أصحابنا، كما رأينا، أن القرآن الذى نزل بمكة لا يذكر أهل الكتاب إلا بخير، فما رأيهم فى النصوص المكية التالية التى تحمل عليهم حملة شديدة وتدمغهم بأحكام عنيفة؟ قال تعالى: "ومِنَ الذين هادوا حرَّمْنا كل ذى ظُفُر، ومن البقر والغنم حرَّمْنا عليهم شحومهما إلا ما حملت ظهورُهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم. ذلك جزيناهم ببغيهم، وإنا لصادقون" (الأنعام/ 146). وفى سورة "الأعراف" التالية لسورتنا هذه يحكى القرآن الكريم فى آيات بعد آياتٍ قصة موسى مع بنى إسرائيل، فلم يترك مثلبة إلا ودمدم بها على رؤوسهم ولعنهم وتوعدهم بمصير فظيع جرّاء عنادهم وكفرهم بنبيهم وكتابهم وعصيانهم لربهم وصلابة رقابهم وعقولهم وقلوبهم مما يجده القارئ بدءا من الآية 138 حتى الآية 178، ومثله موجود فى سورة "طه". فما القول فى هذا أيضا؟ كما نجد فى أوائل سورة "الإسراء" نبوءة خاصة بالإفسادين اللذين سيرتكبهما بنو إسرائيل والتأديب الذى قدّره الله عليهم جزاء لهم على الإفساد الأول منهما... إلخ. فما القول فى هذا أيضا؟ كذلك نسمع فى ختام صدر سورة "مريم" حملة على ما انحرف إليه بعض أتباع عيسى من عبادتهم له عليه السلام وُصِفوا أثناءها بالكفر فى عبارة صريحة لا تحتمل لبسا ولا تأويلا: "ذلك عيسى بن مريم قولَ الحق الذى فيه يمترون* ما كان لله أن يتخذ مِنْ وَلَد. سبحانه! إذا قضى أمرا فإنما يقول له: كن، فيكون* وإن الله ربى وربكم، فاعبدوه. هذا صراطٌ مستقيم* فاختلف الأحزاب من بينهم، فويلٌ للذين كفروا من مشهد يوم عظيم"، ومثله موجود فى سورة "الزخرف". فما القول فى هذا أيضا؟
(1/454)
هذا فى جانب الذم، أما فى جانب المدح فإلى القارئ هذه الشواهد التى يمكنه أن يقيس عليها ما لم نذكره. قال سبحانه: "والذين آتيناهم الكتاب يفرحون بما أُنْزِل إليك" (الرعد/ 36). فما القول فى هذا؟ وقال أيضا عز شأنه: "وقرآنا فرَقْناه لتقرأه على الناس على مُكْث، ونَزَّلناه تنزيلا* قل: آمِنوا به أو لا تؤمنوا. إن الذين أُوتُوا العلم من قبله إذا يُتْلَى عليهم يخِرّون للأذقان سُجَّدا ويقولون: سبحان ربنا! إنْ كان وعد ربنا لَمفعولا* ويخِرّون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعا" (الإسراء/ 106- 109). فما القول فى هذا أيضا؟ وقال جل جلاله: " ولقد وصَّلْنا لهم القولَ لعلهم يتذكرون* الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون* وإذا يُتْلَى عليهم قالوا: آمنّابه. إنه الحق من ربنا. إنا كنا من قبله مسلمين" (القَصَص/ 51- 53). فما القول فى هذا أيضا؟
(1/455)
ومثل هذا فى المعنى والتفسير ما نجده من ثناء على بعض أهل الكتاب فى الوحى المدنى من مثل قوله جل جلاله: "وإِنّ مِنْ أهل الكتاب لمََنْ يؤمن بالله وما أُنْزِل إليكم وما أُنْزِل إليهم خاشعين لله، لا يشترون بآيات الله ثمنًا قليلا. أولئك لهم أجرهم عند ربهم" (آل عمران/ 199). فما القول فى هذا؟ وحتى آيات سورة "المائدة" الخاصة بالنصارى والتى كثيرا ما يساء تفسيرها عمدا وخبثا أحيانا، وعن سذاجة من جانب بعض المسلمين الذين لا يفهمون فى بعض الأحيان الأخرى، هذه الآيات لا تمدح ذلك الفريق من أهل الكتاب بوصفه من أتباع النصرانية التى تسفِّهها كثير من الآيات السابقة عليها بدءا من الآية الرابعة عشرة، بل تمدحه لمسارعته للإيمان بالرسول محمد والآيات التى أنْزِلت عليه، ولخشوع قلبه وفيضان دمعه من شدة الوجد والتأثر بكلمات القرآن المجيد! والآيات موجودة لمن يريد أن يقرأها مفتوح العينين والقلب، وأرقامها هى 82- 8. وتبقى النصوص المدنية التى تحمل على أهل الكتاب، وهذه لا تمثل أية مشكلة، ومن ثم فلست أجد أى داع لإيراد شىء منها.
(1/456)
والآن، هل تشكل هذه الآيات التى تصم هؤلاء القوم بالكفر عدوانا على حقوق الإنسان؟ أبدا لا تمثل شيئا من هذا القبيل على الإطلاق، فكل أهل دين ومذهب وفلسفة ونظام، سياسيا كان أو اقتصاديا أو اجتماعيا، يعتقدون أنهم على الحق، وغيرهم على الباطل. وإن أمريكا نفسها التى برعت فى الآونة الأخيرة فى رفع هذه اللافتات والشعارات لتردد جهارا نهارا أن نظامها السياسى وقيمها الاجتماعية وفلسفتها الاقتصادية هى المثال الأعلى الذى يجب على البشر جميعا، شاؤوا أم أبَوْا، أن يعتنقوه، وهاهى قد أتت للعراق لكى تسقيه لنا، لا بالملعقة الصينى التى كان يُضْرَب بها المثل قديما على الترف والدلال، بل بالملعقة الأمريكانى، أقصد بالجزمة الأمريكانى التى لا توقِّر شيئا ولا أحدا فى الدنيا مهما كان قدره! بل إن مسؤوليها ليتسابقون إلى شتم ديننا ورسولنا وربنا، فإذا ما اعترض بعضنا ممن لا يفقهون قيل لهم: هذه حرية تفكير وتعبير! طيب يا أخى، نحن ايضا نحب عيشة الحرية! أليس كذلك؟ بلى هو كذلك ونصف وثلاثة أرباع، لكننا قد نسينا شيئًا مهمًّا جدًّا، وهو أننا لسنا أمريكيين، وهنا مربط الفرس (أو الحمار، لا فرق). إذن فليس فى الاعتقاد بأننى ناج يوم القيامة، ومن يخالفنى ذاهب فى ستين داهية، ما يمكن أن يكون افتئاتا على أحد، و بالمناسبة فهذا الآخر يعتقد بدوره فِىَّ ما أعتقده فيه. كل ما هو مطلوب ألا يكون مثل هذا الاعتقاد سببا فى عدوان أى منا على الآخر، سواء بالقول أو بالعمل. والمسلمون لا يقولون: "شَكَل للبيع"، فهم يقرأون قرآنهم لأنفسهم، ولا يجبهون به غيرهم. أما إذا آذاهم هذا الغير فى دينهم ولم يحترم رسولهم أو كتابهم فإنهم لا يملكون إلا الرد على هذا التهجم، ولا معنى فى هذه الحالة لاعتبارات المجاملة الزائفة التى تكبلهم وتذلهم وتحرم عليهم أن يدفعوا عن أنفسهم صائلة العدوان. فهل فى الإسلام ما يتعارض مع هذا الكلام المنطقى الإنسانى؟ ولا شَرْوَى نقير! إن(1/457)
الإسلام يحرِّم على أتباعه تحريما قاطعا أن يبدأوا أحدا بالعدوان مهما كانت كراهيتهم له (المائدة/ 8)، بل إنه ليمنعهم حتى من سب الأوثان كيلا يكون ذلك سبيلا إلى سب الذات الإلهية واندلاع الفتنة من ثم، منبِّها المسلمين إلى أن كل قوم يَرَوْن دينهم أحسن الأديان (الأنعام/ 108).(1/458)
هكذا تكلَّم جورج بوش: قريبا يتنصَّر المسلمون جميعا، ويختفى الإسلام إلى الأبد!
بقلم :د. إبراهيم عوض
ibrahim_awad9@yahoo.com
(1/459)
جورج بوش (1796- 1859م) الذى نتكلم عنه الآن هو جدّ الرئيس الحالىّ للولايات المتحدة الأمريكية، وكان واعظا قسيسا، وأستاذا للغة العبرية والآداب الشرقية بجامعة نيويورك، وترك وراءه عددا من الدراسات التى تدور حول أسفار العهد القديم، إلى جانب الكتاب الذى وضعه فى سيرة سيد الأنبياء والمرسلين بعنوان "The Life of Mohammed; Founder of the Religion of Islam, and of the Empire of the Saracens"، وهو الكتاب الذى نتناوله هنا بالدراسة، والطبعة التى فى يدى هى طبعة "Harper and Brothers, New York,1844". ويحتوى هذا الكتاب على سردٍ لأحداث السيرة النبوية وتحليل لشخصية النبى صلى الله عليه وسلم من وجهة نظر عدائية ترى فيه عليه السلام دجّالاً دعيًّا وإنسانًا خاطئًا أثيمًا وهرطيقًا نصرانيًّا هيأ الله له الظهور وعبَّد له سبيل الدعوة إلى دين جديد يُضِلّ به النصارى الذين انحرفوا عن سواء السبيل كى ينتقم سبحانه منهم إلى أن يَفِيئوا إلى سابق عهدهم، وعندئذ يتفكك المسلمون من الداخل ويسقطون من عليائهم ويتركون دينهم ليلتحقوا بدين الصليب الذى يؤلِّه عيسى عليه السلام! وقد ألحق المؤلف بكتابه عدة فصول عن الكعبة والقرآن الكريم ومبادئ الإسلام، إلى جانب تفسيره لنبوءة دانيال ورؤيا يوحنا اللتين يرى فيهما إشارة رمزية إلى الإسلام ورسوله وأتباعه بالمعنى الذى سلفت الإشارة إليه، وكذلك ألوان الأذى التى أَوْقَعَها ولا يزال يُوقِعها دينُ محمد بالكنيسة ورجالها ورعاياها حَسْبَ زعمه الكاذب...إلى أن يقدِّر الله لها أن تعود عن ضلالها الذى ارتكستْ فيه، وساعتَها يتم سقوط المسلمين من الداخل ويهجرون دينهم ويدخلون دين الثالوث، ولا يعود ثمة إسلام ولا يحزنون بعد أن أدى المهمة التى أوجده الله من أجلها. وسوف يكون كلامى هنا عن النبوءة الدانياليّة والرؤيا اليوحانيّة والطريقة التى أوَّلهما بها الكاتب. ومعروف أن كل شىء فى الكتاب المقدس يحيط به شك(1/460)
كبير: بدءا من شخصية كاتب السِّفْر، ومرورًا بالتاريخ الذى كُتِب فيه، وصحة نصه ووثاقته، واللغة التى أُلِّفَ بها، بالإضافة إلى تحديد المعانى التى يتضمنها فى غير قليل من الأحيان...إلخ. ولسنا نحن وحدنا الذين نقول هذا، بل يقوله علماؤهم وباحثوهم وكثير من رجال دينهم. ولن نذهب بعيدا فى التدليل على كلامنا هذا، فالناظر مثلا فى التمهيدات التى تُفْتَتَح بها أسفار الكتاب المقدس فى الترجمة الكاثوليكية، وكذلك التعليقات المثبتة فى آخر كل من العهدين القديم والجديد، يجد مصداق ما نقول. ورغم ذلك، ورغم ما تتصف به نبوءات الكتاب المقدس عموما، وهاتان النبوءتان على وجه الخصوص، من غموضٍ مُرْهِقٍ وعموميةٍ فضفاضةٍ تجعلهما تقبلان أى تفسير يميل إليه هوى المفسِّر، فإن الكاتب يتناول النبوءتين المذكورتين بجِدٍّ دونه كل جِدّ بغض النظر عما تتسم به الطريقة التى يتبعها فى التأويل من سذاجةٍ وطفوليةٍ وتناقضٍ مضحكٍ ونزعةٍ عاميّةٍ خرافيةٍ تُدَابِر العلمَ ومنطقَ العقل، فضلاً عن عدم جَرْيه فى هذا التأويل على وتيرة واحدة، إذ تارةً ما يأخذ الكلامَ فى النص على الحقيقة، وتارةً ينظر إليه على أنه مجاز.
(1/461)
وسوف أبدأ بنبوءة دانيال، وهى النبوءة التى يشتمل عليها الإصحاح الثامن من السفر المسمَّى باسمه. ولكن قبل ذلك يستحسن أن أسوق نبوءة أخرى لذلك الرجل تعطينا فكرة عن طبيعة السِّفْر وما يسوده من غموض وعَثْكَلة وصعوبة فادحة ينوء فى مواجهتها العقل. وهى تغطِّى الفصل السابع من ذلك السِّفْر، وهذا نَصّها: "فِي السَّنَةِ الأُولَى لِبَيْلْشَاصَّرَ مَلِكِ بَابِلَ رَأَى دَانِيالُ حُلْماً وَرُؤَى رَأْسِهِ عَلَى فِرَاشِهِ. حِينَئِذٍ كَتَبَ الْحُلْمَ وَأَخْبَرَ بِرَأْسِ الْكَلاَمِ* قَالَ دَانِيالُ: كُنْتُ أَرَى فِى رُؤْيَاىَ لَيْلاً، وَإِذَا بِأَرْبَعِ رِيَاحِ السَّمَاءِ هَجَمَتْ عَلَى الْبَحْرِ الْكَبِيرِ* وَصَعِدَ مِنَ الْبَحْرِ أَرْبَعَةُ حَيَوَاناتٍ عَظِيمَةٍ، هَذَا مُخَالِفٌ ذَاكَ* الأَوَّلُ كَالأَسَدِ وَلَهُ جَنَاحَا نَسْرٍ. وَكُنْتُ أَنْظُرُ حَتَّى انْتَتَفَ جَنَاحَاهُ وَانْتَصَبَ عَنِ الأرض وَأُوقِفَ عَلَى رِجْلَيْنِ كَإِنْسَانٍ وَأُعْطِىَ قَلْبَ إِنْسَانٍ* وَإِذَا بِحَيَوَانٍ آخَرَ ثَانٍ شَبِيهٍ بِالدُّبِّ فَارْتَفَعَ عَلَى جَنْبٍ وَاحِدٍ وَفِي فَمِهِ ثَلاَثُ أَضْلُعٍ بَيْنَ أَسْنَانِهِ، فَقَالُوا لَهُ: قُمْ كُلْ لَحْمًا كَثِيرًا* وَبَعْدَ هَذَا كُنْتُ أَرَى، وَإِذَا بِآخَرَ مِثْلِ النَّمِرِ وَلَهُ عَلَى ظَهْرِهِ أَرْبَعَةُ أَجْنِحَةِ طَائِرٍ. وَكَانَ لِلْحَيَوَانِ أَرْبَعَةُ رُؤُوسٍ وَأُعْطِىَ سُلْطَانا* بَعْدَ هَذَا كُنْتُ أَرَى فِى رُؤَى اللَّيْلِ وَإِذَا بِحَيَوَانٍ رَابِعٍ هَائِلٍ وَقَوِىٍّ وَشَدِيدٍ جِدًّا، وَلَهُ أَسْنَانٌ مِنْ حَدِيدٍ كَبِيرَةٌ. أَكَلَ وَسَحَقَ وَدَاسَ الْبَاقِىَ بِرِجْلَيْهِ. وَكَانَ مُخَالِفًا لِكُلِّ الْحَيَوَاناتِ الَّذِينَ قَبْلَهُ. وَلَهُ عَشَرَةُ قُرُونٍ* كُنْتُ مُتَأَمِّلاً بِالْقُرُون،ِ وَإِذَا بِقَرْنٍ آخَرَ صَغِيرٍ طَلَعَ بَيْنَهَا وَقُلِعَتْ(1/462)
ثَلاَثَةٌ مِنَ الْقُرُونِ الأُولَى مِنْ قُدَّامِهِ، وَإِذَا بِعُيُونٍ كَعُيُونِ الإِنْسَانِ فِي هَذَا الْقَرْنِ وَفَمٍ مُتَكَلِّمٍ بِعَظَائِمَ* كُنْتُ أَرَى أَنَّهُ وُضِعَتْ عُرُوشٌ وَجَلَسَ الْقَدِيمُ الأَيَّامِ. لِبَاسُهُ أَبْيَضُ كَالثَّلْج،ِ وَشَعْرُ رَأْسِهِ كَالصُّوفِ النَّقِىِّ، وَعَرْشُهُ لَهِيبُ نَار،ٍ وَبَكَرَاتُهُ نَارٌ مُتَّقِدَة* َنهْرُ نَارٍ جَرَى وَخَرَجَ مِنْ قُدَّامِهِ. أُلُوفُ أُلُوفٍ تَخْدِمُهُ، وَرَبَوَاتُ رَبَوَاتٍ وُقُوفٌ قُدَّامَهُ. فَجَلَسَ الدِّينُ وَفُتِحَتِ الأَسْفَارُ* كُنْتُ أَنْظُرُ حِينَئِذٍ مِنْ أَجْلِ صَوْتِ الْكَلِمَاتِ الْعَظِيمَةِ الَّتِى تَكَلَّمَ بِهَا الْقَرْنُ. كُنْتُ أَرَى إِلَى أَنْ قُتِلَ الْحَيَوَانُ وَهَلَكَ جِسْمُهُ وَدُفِعَ لِوَقِيدِ النَّارِ* أَمَّا بَاقِى الْحَيَوَاناتِ فَنُزِعَ عَنْهُمْ سُلْطَانُهُمْ، وَلَكِنْ أُعْطُوا طُولَ حَيَاةٍ إِلَى زَمَانٍ وَوَقْتٍ* كُنْتُ أَرَى فِى رُؤَى اللَّيْل، وَإِذَا مَعَ سُحُبِ السَّمَاءِ مِثْلُ ابْنِ إِنْسَانٍ أَتَى وَجَاءَ إِلَى الْقَدِيمِ الأَيَّامِ فَقَرَّبُوهُ قُدَّامَهُ* فَأُعْطِىَ سُلْطَانًا وَمَجْدًا وَمَلَكُوتًا لِتَتَعَبَّدَ لَهُ كُلُّ الشُّعُوبِ وَالأُمَمِ وَالأَلْسِنَةِ. سُلْطَانُهُ سُلْطَانٌ أَبَدِىٌّ مَا لَنْ يَزُولَ، وَمَلَكُوتُهُ مَا لاَ يَنْقَرِضُ* أَمَّا أنا دَانِيالَ فَحَزِنَتْ رُوحِى فِي وَسَطِ جِسْمِى وَأَفْزَعَتْنِى رُؤَى رَأْسِى* فَاقْتَرَبْتُ إِلَى وَاحِدٍ مِنَ الْوُقُوفِ وَطَلَبْتُ مِنْهُ الْحَقِيقَةَ فِي كُلِّ هَذَا، فَأَخْبَرَنى وَعَرَّفَنى تَفْسِيرَ الأُمُورِ:* هَؤُلاَءِ الْحَيَوَاناتُ الْعَظِيمَةُ الَّتِى هِىَ أَرْبَعَةٌ هِىَ أَرْبَعَةُ مُلُوكٍ يَقُومُونَ عَلَى الأرض* أَمَّا قِدِّيسُو الْعَلِىِّ فَيَأْخُذُونَ الْمَمْلَكَةَ وَيَمْتَلِكُونَ الْمَمْلَكَةَ إِلَى(1/463)
الأَبَدِ وَإِلَى أَبَدِ الآبِدِينَ* حِينَئِذٍ رُمْتُ الْحَقِيقَةَ مِنْ جِهَةِ الْحَيَوَانِ الرَّابِعِ الَّذِي كَانَ مُخَالِفًا لِكُلِّهَا وَهَائِلاً جِدًّا، وَأَسْنَانُهُ مِنْ حَدِيد،ٍ وَأَظْفَارُهُ مِنْ نُحَاسٍ، وَقَدْ أَكَلَ وَسَحَقَ وَدَاسَ الْبَاقِىَ بِرِجْلَيْهِ* وَعَنِ الْقُرُونِ الْعَشَرَةِ الَّتِي بِرَأْسِهِ، وَعَنِ الآخَرِ الَّذِى طَلَعَ فَسَقَطَتْ قُدَّامَهُ ثَلاَثَةٌ. وَهَذَا الْقَرْنُ لَهُ عُيُونٌ وَفَمٌ مُتَكَلِّمٌ بِعَظَائِمَ، وَمَنْظَرُهُ أَشَدُّ مِنْ رُفَقَائِهِ* وَكُنْتُ أَنْظُرُ، وَإِذَا هَذَا الْقَرْنُ يُحَارِبُ الْقِدِّيسِينَ فَغَلَبَهُمْ* حَتَّى جَاءَ الْقَدِيمُ الأَيَّامِ وَأُعْطِىَ الدِّينُ لِقِدِّيسِىِ الْعَلِىِّ، وَبَلَغَ الْوَقْتُ فَامْتَلَكَ الْقِدِّيسُونَ الْمَمْلَكَةَ* فَقَالَ: أَمَّا الْحَيَوَانُ الرَّابِعُ فَتَكُونُ مَمْلَكَةٌ رَابِعَةٌ عَلَى الأرض مُخَالِفَةٌ لِسَائِرِ الْمَمَالِكِ فَتَأْكُلُ الأرضَ كُلَّهَا وَتَدُوسُهَا وَتَسْحَقُهَا* وَالْقُرُونُ الْعَشَرَةُ مِنْ هَذِهِ الْمَمْلَكَةِ هِىَ عَشَرَةُ مُلُوكٍ يَقُومُونَ، وَيَقُومُ بَعْدَهُمْ آخَرُ، وَهُوَ مُخَالِفٌ الأَوَّلِينَ وَيُذِلُّ ثَلاَثَةَ مُلُوكٍ* وَيَتَكَلَّمُ بِكَلاَمٍ ضِدَّ الْعَلِىِّ وَيُبْلِى قِدِّيسى الْعَلِىِّ وَيَظُنُّ أَنَّهُ يُغَيِّرُ الأَوْقَاتَ وَالسُّنَّةَ، وَيُسَلَّمُونَ لِيَدِهِ إِلَى زَمَانٍ وَأَزْمِنَةٍ وَنِصْفِ زَمَانٍ* فَيَجْلِسُ الدِّينُ وَيَنْزِعُونَ عَنْهُ سُلْطَانَهُ لِيَفْنَوْا وَيَبِيدُوا إِلَى الْمُنْتَهَى* وَالْمَمْلَكَةُ وَالسُّلْطَانُ وَعَظَمَةُ الْمَمْلَكَةِ تَحْتَ كُلِّ السَّمَاءِ تُعْطَى لِشَعْبِ قِدِّيسى الْعَلِىِّ. مَلَكُوتُهُ مَلَكُوتٌ أَبَدِىٌّ وَجَمِيعُ السَّلاَطِينِ إِيَّاهُ يَعْبُدُونَ وَيُطِيعُونَ* إِلَى هُنَا نِهَايَةُ الأَمْرِ. أَمَّا أنا(1/464)
دَانِيالَ فَأَفْكَارِى أَفْزَعَتْنِى كَثِيرًا، وَتَغَيَّرَتْ عَلَىَّ هَيْئَتِى، وَحَفِظْتُ الأَمْرَ فِي قَلْبِى".
(1/465)
هذه نبوءة دانيال الأولى. وهى، كما يرى القارئ، كثيرة التفاصيل متداخلة الأحداث غير واضحة المعالم بحيث يمكن أن يفسرها كل إنسان حسبما يحلو له: فمثلا من هو القديم الأيام ذلك الذى لِبَاسُهُ أَبْيَضُ كَالثَّلْجِ، وَشَعْرُ رَأْسِهِ كَالصُّوفِ النَّقِىّ، وَعَرْشُهُ لَهِيبُ نَار،ٍ وَبَكَرَاتُهُ نَارٌ مُتَّقِدَةٌ، وجَرَى وَخَرَجَ نَهْرُ نَارٍ مِنْ قُدَّامِهِ، وتَخْدِمُهُ أُلُوفُ أُلُوفٍ، وَرَبَوَاتُ رَبَوَاتٍ وُقُوفٌ قُدَّامَهُ؟ وماذا كان يفعل هناك؟ وما تلك الحيوانات الأربعة؟ وما معنى تخالُفها ما بين أسد ودب ونمر ورابع لم تحدَّد هويته بين أصناف الحيوانات؟ ثم من هم الملوك الذين ترمز إليهم القرون العشرة؟ ومن هم قدّيسو العلىّ؟ وكيف يغلبهم القرن الصغير رغم ما قيل من أنهم "َيَأْخُذُونَ الْمَمْلَكَةَ وَيَمْتَلِكُونَ الْمَمْلَكَةَ إِلَى الأَبَدِ وَإِلَى أَبَدِ الآبِدِينَ"؟ وأين ومتى وكيف تمت هذه الغلبة يا ترى؟ ثم كيف لنا أن نصدق ما قيل مرة أخرى عن ملكوت الشعب التابع لقِدِّيسِى العلىّ وكيف أنه سيكون مَلَكُوتًا أَبَدِيًّا، وَجَمِيعُ السَّلاَطِينِ إِيَّاهُ يَعْبُدُونَ وَيُطِيعُونَ ما دام الحبر الذى كُنِبَتْ به النبوءة السابقة الكاذبة عن قِدِّيسِى العَلِىّ أنفسهم ودوام مملكتهم إلى الأبد لم يجفّ بعد؟وهل عرف التاريخ يوما مَمْلَكَةً مُخَالِفَةً لِسَائِرِ الْمَمَالِكِ َأكلت الأرض كُلَّهَا وداستها وسحقتها؟ فما هذه المملكة يا ترى؟ ليُخْبِرْنا المؤرخون والجغرافيون بما عندهم من علم فى هذا السبيل، ولن يفعلوا، لأن مثل هذه المملكة لم يكن لها يوما وجود! وعلى أية حال فهذه الرؤيا الغامضة بتفاصيلها الكثيرة المتداخلة تقبل، كما سبق القول، أى تفسير يعنّ لأى إنسان، فهى كسَمَادِير السُّكارَى التى تتراءى لهم فى خُمَارهم دون أن يكون لها معنى، ومن ثم لا يمكن لعاقل أن يأخذها مأخذ الجِدّ! وينبغى أن نكون على ذكْر من أن(1/466)
كاتب هذا الكلام شخص مجهول حسبما ورد فى التمهيد الذى كتبه للسفر المذكور مترجمو النسخة الكاثوليكية من الكتاب المقدس، وإن كان هؤلاء المترجمون أنفسهم (ويا للعجب العاجب!) قد وصفوه بـ"المؤلف المُلْهَم" مرة، وبـ"المؤلف المقدَّس" مرة أخرى. ترى كيف تُوَاتِى بعضَ الناس نفوسُهم على الثقة بشخص مجهول والنظر إلى هذا الهراء الذى يقوله على أنه وحى مقدس وتنبؤ صادق بالغيب؟ وفى نهاية الكلام يثور السؤال التالى: لماذا يقول دانيال إن أَفْكَاره قد أَفْزَعَتْه كَثِيرًا وَتَغَيَّرَتْ عَلَيه هَيْئَته ما دام السلطان قد رجع كرة أخرى وإلى الأبد لشعبِ قِدِّيسِى العَلِىّ؟ ترى هل فى شىء من هذا ما يُفْزِع القلب ويغيِّر الهيئة؟ أتراه كان يؤثر أن تنهزم شعوب قِدّيسِى العلىّ؟ فهذه هى النبوءة التى يحاول القوم أن يوهمونا بأنها تفسر تاريخ البشرية إلى يوم القيامة. ترى أمن الممكن أن نصدق بوجود مثل هذه النبوءة؟ إن كاتب مادة "Daniel, Book of" فى "JewishEncyclopedia.com" يرى من المحتمل جدا أن يكون كاتب السفر قد استقى هذه الرؤيا من رؤى الأنبياء السابقين، الذين يؤكد أنه لم يكن نبيا مثلهم بل مجرد تلميذ من تلاميذهم ليس إلا، ثم جعلها إطارا لما كان يعرفه قبلا من حوادث تاريخية وقعت بالفعل.
(1/467)
والآن مع النبوءة التى أوردها المؤلف فى كتابه واعتمد عليها (هى و"رؤيا يوحنا") فى الادعاء بأن الكتاب المقدس قد تنبأ بمجىء محمد عليه الصلاة والسلام، ولكن بمعنى غير المعنى الذى يقصده المسلمون: فالمسلمون يقولون، حسبما جاء فى القرآن الكريم، إن الكتاب المقدس قد تنبأ بنبوة الرسول الكريم، أما بوش فيزعم أن النبوءة التى وردت فى ذلك الكتاب إنما تنبأت بمجىء محمد الكاذب المدَّعِى الذى يسخِّره الشيطان فى أغراضه الشريرة ويُضِلّ الله به النصارى ويعاقبهم على يديه جزاءً على ضلالهم وانحرافهم عن دينهم الذى ارتضاه لهم. لقد أورد المؤلفُ هذه الرؤيا كى يوهم قرّاءه السُّذّج أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم ولعن من يفترى عليه الكذب ويحاول التطاول عليه والإساءة إليه كفرا وبهتانا وإجراما، ليس هو الرحمة المهداة للبشرية جمعاء، بل النقمة التى قدّرها الله ليبلو بها النصرانية ثم يقضى عليها بعد أن تؤدى دورها هذا المؤذى وتغيب بعدها إلى الأبد. وهذا نَصّ الرؤيا المذكورة: "فى السنة الثالثة من ملك بيلشاصر الملك ظهرت لى أنا دانيال رؤيا بعد التى ظهرت لى فى الابتداء* فرأيت فى الرؤيا، وكان فى رؤياى وأنا في شوشن القصر الذي فى ولاية عيلام. ورأيت في الرؤيا وأنا عند نهر أولاى* فرفعت عينىّ ورأيت، وإذا بكبشٍ واقفٍ عند النهر، وله قرنان، والقرنان عاليان، والواحد أعلى من الآخر، والأعلى طالعٌ أخيرا* رأيت الكبش ينطح غربا وشمالا وجنوبا فلم يقف حيوان قدامه، ولا منقذ من يده، وفعل كمرضاته وعَظُم* وبينما كنت متأملا إذا بتيسٍ من المعز جاء من المغرب على وجه كل الأرض ولم يمسّ الأرض، وللتيس قرنٌ معتبَرٌ بين عينيه* وجاء إلى الكبش صاحبُ القرنين الذي رأيته واقفا عند النهر وركض إليه بشدة قوته* ورأيته قد وصل إلى جانب الكبش، فاستشاط عليه وضرب الكبش وكسر قرنيه، فلم تكن للكبش قوة على الوقوف أمامه، وطرحه على الأرض وداسه، ولم يكن للكبش منقذ من(1/468)
يده* فتعظَّم تيس المعز جدا. ولما اعتزّ انكسر القرن العظيم وطلع عوضا عنه أربعة قرون معتبرة نحو رياح السماء الأربع* ومن واحد منها خرج قرن صغير وعَظُمَ جدا نحو الجنوب ونحو الشرق ونحو فخر الأراضى* وتعظَّم حتى إلى جند السماوات وطرح بعضا من الجند والنجوم إلى الأرض وداسهم* وحتى إلى رئيس الجند تعظّم، وبه أُبْطِلَتْ المحرقة الدائمة وهُدِم مسكن مقدسه* وجُعِل جُنْدٌ على المحرقة الدائمة بالمعصية، فطرح الحق على الأرض وفعل ونجح* فسمعت قُدّوسا واحدا يتكلم، فقال قدوس واحد لفلان المتكلم: إلى متى الرؤيا من جهة المحرقة الدائمة ومعصية الخراب لبذل القدس والجند مَدُوسِين؟* فقال لى: إلى ألفين وثلاثمائة صباح ومساء، فيتبرأ القدس* وكان لما رأيت أنا دانيال الرؤيا وطلبت المعنى إذا بشبه إنسان واقف قبالتى* وسمعت صوت إنسان بين أولاى فنادى وقال: يا جبرائيل، فَهِّم هذا الرجلَ الرؤيا* فجاء إلى حيث وقفت. ولما جاء خفتُ وخَرَرْتُ على وجهى، فقال لى: افهم يا ابن آدم أن الرؤيا لوقت المنتهى* وإذ كان يتكلم معى كنت مسبِّخا على وجهى إلى الأرض، فلمسنى وأوقفنى على مقامى* وقال: هأنذا أعرّفك ما يكون فى آخر السخط لأن لميعادٍ الانتهاء* أما الكبش الذى رأيته ذا القرنين فهو ملوك مادى وفارس* والتيس العافى ملك اليونان، والقرن العظيم الذي بين عينيه هو الملك الأول* وإذا انكسر وقام أربعة عوضا عنه فستقوم أربع ممالك من الأمّة، ولكن ليس فى قوته* وفى آخر مملكتهم عند تمام المعاصى يقوم ملكٌ جافى الوجه وفاهم الحيل* وتَعْظُم قوّته، ولكن ليس بقوته. يهلك عجبا وينجح ويفعل ويبيد العظماء وشعب القديسين* وبحذاقته ينجح أيضا المكر فى يده ويتعظم بقلبه، وفى الاطمئنان يُهْلِك كثيرين ويقوم على رئيس الرؤساء، وبلا يدٍ ينكسر* فرؤيا المساء والصباح التى قيلت هى حق، أما أنت فاكتم الرؤيا لأنها إلى أيام كثيرة* وأنا دانيال ضَعُفْتُ ونَحَلْتُ أياما، ثم قمتُ(1/469)
وباشرتُ أعمال الملك، وكنتُ متحيّرا من الرؤيا، ولا فاهم".
(1/470)
وبعد أن قرأنا هذا السِّفْر نلاحظ أن ما رأيناه هناك هو نفسه فى روحه وفى خطوطه العامة ما نراه هنا: فالغموض هو الغموض، والعموميات هى العموميات، وكثافة الأحداث والرموز هى هى، فضلا عن أن فى هذه النبوءة ما لا يمكن تصوره، وإلا فكيف يستطيع عقل عاقل أن يقتنع بما جاء فيها من أن القرن الصغير قد "تعظَّم حتى إلى جند السماوات وطرح بعضا من الجند والنجوم إلى الأرض وداسهم* وحتى إلى رئيس الجند تعظَّم وبه أُبْطِلَت المحرقة الدائمة وهُدِم مسكن مقدسه* وجُعِل جند على المحرقة الدائمة بالمعصية فطرح الحق على الأرض وفعل ونجح"؟ إن جند السماء، حسبما يتبادر إلى الذهن، وبخاصة مع اقترانهم بالنجوم، هم الملائكة لا شعب الله المختار كما يقول باطلاً التعليقُ الموجود فى آخر العهد القديم، ذلك الشعبُ الذى تُدَمْدِم أسفارُ الأنبياء، بما فيها سِفْر دانيال، باللعنات والتهديدات الإلهية المنصبّة على رأسه من السماء بحيث لا يمكن أن يكون هو المقصود بـ"جند السماوات"، أما رئيس جند السماوات فهو الله نفسه لا أحد سواه كما يقول مترجمو النسخة الكاثوليكية من الكتاب المقدس فى تعليقاتهم على هذا الإصحاح! فهل ُيْعْقَل أن يتصور مؤمن أن قرنا من القرون بل أن القرون جميعا يمكن أن تتعظم على الله سبحانه وعلى ملائكته؟ إن هذا كلام قد غاب عنه العقل والإيمان تماما فليس إلا هلوسات، أو إن شئت: فتجديفات! إن مثل هذه النبوءة فى عموميتها وإمكان انطباقها على أى شىء وعلى كل شىء لتُذَكِّرنى بما قاله العقاد عن رجل كان يدّعى الإلهام فى أسوان على أيام تلمذته قد حثَّه على أن يهتم اهتماما خاصا بإحدى مواد الدراسة مما دفع الحاضرين إلى حثّ التلميذ الصغير على وجوب تخصيص هذه المادة بمزيد من الاهتمام ما دام الرجل الملهم قد نبهه إلى هذا. لكن الصبىّ الذكىّ أجابهم بأنه أيًّا ما تكن الدرجة التى سيحصل عليها فى امتحان هذه المادة فإن الرجل سوف يستغلها فى الادعاء بأنه(1/471)
كان على حق يوم أن نبهه إلى وجوب إعطائها مزيدا من العناية: لأنه إن نجح فيها بدرجة عالية فسيقول إن هذا راجع إلى تنبيهه إياه إلى أهميتها، وإن كانت الأخرى فسيقول إن الطالب البليد لم يأخذ بنصيحته فلم يهتم بما طلب منه الاهتمام به...وهكذا. والسبب هو أن النبوءة، فيما عدا ما نصَّتْ عليه نصًّا بالاسم، قد صيغت صياغة عامة مبهمة تحتمل، كما قلت، أى شىء وكل شىء!
(1/472)
وأنا لن أقف فى هذه النبوءة إلا عند ما له صلة بديننا لأنه هو الذى يهمنا هنا. إن بوش يزعم أن القرن الصغير هو الإسلام، ودليله على هذا الزعم هو أن الإسلام بدأ صغيرا. أرأيتم تفسيرا تافها وساذجا وأحمق كهذا التفسير؟ ألا يَصْدُق هذا الكلام على أى شىء فى الوجود؟ ألا تبدأ كل المخلوقات من حيوان وإنس ونبات وجماد وفِكْر صغيرةً ضعيفةً ثم تقوى مع الأيام؟ ثم ألا ينطبق هذا على اليهودية والنصرانية أيضا؟ إذن فلم إفراد الإسلام بهذا الكلام كأنه لا يشاركه فيه شىء أو أحد آخر؟ فما رأى القراء لو قلت لهم إن مترجمى الكتاب المقدس الكاثوليك، فى تعليقهم على هذا الإصحاح فى آخر العهد القديم، يفسرون القرن الصغير هنا بأنه أنطيوخس الشهير الذى تولى الحكم فيمن تولَّوْه بعد انقسام مملكة الإسكندر الأكبر عقب وفاته، والذى حارب مصر جنوبا، وفارس شرقا، وغزا فَخْر الأراضى، وهى البلاد اليهودية فى اعتقادهم، كما تنبأ دانيال. وهو نفسه ما جاء فى مادة " Daniel, Book of" فى"JewishEncyclopedia.com"، لكن مؤلفنا الضلالىّ يدّعى أن القرن الصغير هو الإسلام، مع أن الإسلام لم يتوسع جنوبا البتة لأنه لا شىء فى جنوب بلاد العرب إلا المحيط الهندى! أما إن قلنا مع المؤلف إن المقصود بالجنوب هو جنوب بلاد العرب على أساس أن نقطة انطلاق الإسلام هى المدينة وحدها (P. 183) لا بلاد العرب كلها، فلا يمكن فى هذه الحالة أن نصف توسع الإسلام جنوبا بـ"العظيم" حسبما جاء فى النبوءة لأن مجال انتشاره فى جنوب بلاد العرب هو من الضِّيق بمكانٍ كما لا يخفى على أحد. وفضلا عن ذلك فالإسلام لم يقتصر انتشاره وتوسعه على الجنوب والشرق كما جاء فى النبوءة، بل ضمَّ الشمال والغرب أيضا حسبما يعرف كل إنسان: الشمال متمثلا فى الشام وفلسطين وتركيا، ثم شرق أوربا بعد ذلك، والغرب متمثلا فى مصر وبلاد المغرب، ودعنا الآن من شبه جزيرة أيبريا. ومعنى هذا أن تلك النبوءة، إن صدَّقْنا أصلا(1/473)
أنها نبوءة حقيقية، لا يمكن أن تنطبق على الدين الذى أنزله الله على محمد صلى الله عليه وسلم.
(1/474)
ثم إن الإسلام هو الدين الوحيد الذى لا يمكن اتهامه بالتعظّم على الله أو على الملائكة، وهذا من الوضوح بحيث لا أظننى محتاجا إلى التدليل عليه، إذ لم يبلغ دين من الأديان هذا المدى الذى بلغه الإسلام وحافظ عليه فى مجال التوحيد وتمجيد العلىّ القدير وإفراده بالعبادة والابتهال، واحترام الملائكة والإيمان بأنهم معصومون لا يخطئون، ولا يمكن أن يعصوا ربهم بل يفعلون كل ما يؤمرون. وهذا من جهة العقيدة، أما من الناحية الشخصية فقد كان الرسول يعرف حدوده تماما مع ربه، إذ كان يستغفر فى اليوم الواحد مائة مرة، وكان كثيرا ما يصوم النهار، ويقوم الليل ويظل فى ابتهالٍ وتسبيحٍ وحَمْدٍ هزيعًا طويلا، كما كان يصف نفسه بأنه يمارس حياته كما يمارسها أى عبد من عباد الله المتواضعين لا ممارسة الملوك المتجبرين، وبأنه ليس إلا ابنًا لامرأة كانت تأكل القديد بمكة. وفى القرآن نقرأ قوله تعالى: "قل: ما كنتُ بِدْعًا من الرسل، وما أدرى ما يُفْعَل بى ولا بكم"، "أفأنت تُكْرِه الناس حتى يكونوا مؤمنين؟"، "لستَ عليهم بمسيطر* إلا من تولَّى وكفَر* فيعذِّبه اللهُ العذابَ الأكبر* إنّ إلينا إيابَهم* ثم إنّ علينا حِسابَهم"، "ليس لك من الأمر شىء أو يتوبَ عليهم أو يعذِّبَهم، فإنهم ظالمون"، "استغفِرْ لهم أو لا تستغفرْ لهم. إن تستغفرْ لهم سبعين مرةً فلن يغفر الله لهم"، "ولو كنتَ فَظًّا غليظَ القلب لانفضُّوا مِنْ حولِك، فاعفُ عنهم، واستغفرْ لهم، وشاورْهم فى الأمر"، "قل: سبحان ربىّ هل كنتُ إلا بشرًا رسولا؟"، "ولو تقوَّل علينا بعضَ الأقاويل* لأخذْنا منه باليمين* ثم لقطعْنا منه الوَتِين* فما منكم من أحدٍ عنه حاجزين". وحتى لو أخذنا بتفسير الكاتب لـ"جُنْد السماء" بأنهم رجال الدين (وبطبيعة الحال فجُنْد السماء لا يمكن أن يكونوا إلا ناسا صالحين أتقياء أنقياء)، فكيف يتسق معه القول بأن الله إنما دَبَّرَ ظهورَ محمد وانتشارَ دينه للانتقام من(1/475)
الكنيسة ورجالها جَرّاءَ انحرافهم عن طريقه المستقيم؟ إن الله عَزَّ وجَلَّ لا ينتقم من الصالحين، حاشاه سبحانه! على أن بلايا كاتبنا الجهول لا تقف عند هذا الحد، إذ إن رجال الدين، كما يفهم من كلامه فى هذا السياق عن بنى إسرائيل وعن مدينة القدس التى سماها: "تاج الجمال وإكليل البهاء لشعب إسرائيل"، هم رجال الدين اليهود (PP. 183- 184)، فأى مصيبة هذه؟ ترى كيف يجرؤ نصرانى أن يقول عن هؤلاء الذين تولَّوْا كِبْر الكفر بعيسى واضطهدوه وصلبوه حسبما يؤمن الكاتب وأمثاله: إنهم "جند السماء"؟ إن هذه وحدها لَلطَّامّة الكبرى! ومع ذلك فقد عاد فتحدث عن الرعاة الروحيين لكنيسة الرب بما يفيد أن المقصود هم رجال الدين النصارى (184- 185 PP.)، فيا له من تخبطٍ أعمى! ثم كيف يمكن القول بأن المقصود بلقب "جند السماء" التشريفى هذا هم رجال الدين النصارى الذين يأفك هذا المخرِّف واصفا الرسول الكريم بأنه ليس أكثر من نقمة سلَّطها الله عليهم بما يقتضى أنهم ضالون منحرفون، ومن ثم لا يستحقون أبدا أن يلقَّبوا بذلك اللقب؟
(1/476)
ليس ذلك فحسب، بل إن الكاتب يمضى فيزعم أن "رئيس جند السماء" هو السيد المسيح قائلا إن المسلمين قد تطاولوا عليه وتعظَّموا حسبما تقول النبوءة. يقصد أن الإسلام قد نزل بالمسيح من مرتبة الألوهية إلى مرتبة النبوة التى يحتلّ فيها النبى محمد موقع الزعامة (P. 185). لكن الواقع الذى يفقأ عين كل مكابرٍ دجّال هو أن الرسول والمسلمين لم يحدث أن تطاولوا على السيد المسيح، والقول بخلاف هذا هو كَذِبٌ بَوَاح، إذ الإسلام هو الدين الوحيد الذى دافع عن المسيح عليه السلام وفنّد ما تقوّله اليهود عليه وعلى أمه الطاهرة الشريفة كما يعلمه القاصى والدانى. أما النزول به عليه السلام من مرتبة الألوهية إلى مرتبة النبوة فهو، فى الحقيقة، تبرئة له من تهمة التعظّم على الله سبحانه، إذ هو بشرٌ ليس إلا، فالله لا يمكن أن يتجسَّد أو يموت لا على الصليب ولا على غير الصليب، تعالى الله الأزلى الأبدى الذى لا يموت ولا أول له ولا آخر عن أن يتجسّد وينحصر فى حيّزٍ محدودٍ من الجسمية والمكانية! ونَصّ تبرئة السيد المسيح من تهمة التطاول على مقام الألوهية موجود فى قوله تعالى: "وإذ قال الله: يا عيسى بن مريم، أأنت قلتَ للناس: اتخِذونى وأُمِّىَ إلهين من دون الله؟ قال: سبحانك! مايكون لى أن أقول ما ليس لى بحق! إن كنتُ قلتُه فقد علمتَه. تعلم ما فى نفسى، ولا أعلم ما فى نفسك! إنك أنت علام الغيوب* ما قلتُ لهم إلا ما أمرتَنى به أَنِ: اعبدوا الله ربى وربَّكم. وكنتُ عليهم شهيدا ما دُمْتُ فيهم. فلما تَوَفَّيْتَنى كنتَ أنت الرقيبَ عليهم، وأنت على كل شىء شهيد* إنْ تُعَذِّبْهم فإنهم عبادك، وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم" (المائدة/ 116- 118). وهكذا يتبين أن الطرق مسدودة فى وجه هذا الأفّاق الأفّاك الذى ينفخ الشيطان فى أنفه مُسَوِّلا له أنه يستطيع التطاول على رسول الله صلى الله عليه وسلم والإفلات بجريمته النكراء دون أن يعقّب أحد عليه ويفضح زيفه(1/477)
وإجرامه.
أما قول المؤلف إن الإسلام قد أبطل المحرقة الدائمة فلا أدرى ماذا يريد من ورائه، فليس فى النصرانية محارق كما نعرف. وعلى أية حال فتقديم الأضاحى جزء من شريعة الإسلام فى الحج والعيد الأكبر، لكنها لا تُذْبَح لمجرد إحراقها إرضاءً للذة الشم لدى الله كما يقول العهد القديم (تكوين/ 8/ 21، و17/ 7)، وكأنه سبحانه وتعالى إلهٌ وثنىٌّ مغرمٌ بالدماء والحرائق، بل لإطعام الفقراء والمساكين وبرّ الأصدقاء والأقارب: "لن ينال اللهَ لحومُها ولا دماؤها، ولكن يناله التقوى منكم" (الحج/ 37). وأما هدم مسكن قدس الله فأمر مضحك، إذ إن عبادة الله فى الإسلام هى أنفى عبادة له سبحانه وأنآها عن الشرك والوثنيات وأشدها إخلاصًا لما يليق بجلاله وعظمته، فكيف إذن يزعم هذا الكذاب أن الإسلام قد هدم مسكن قدس الله، وهذه المساجد فى كل مكان لا تتوقف فيها الصلوات والأدعية لحظة من ليل أو نهار؟ بل إن "المسجد" فى الإسلام (أو "مكان قدس الله" بتعبير الرؤيا الدانيالية التى يعض عليها بنواجذه الشيطانية مؤلفنا الأمريكى المتطاول لغرضٍ شرّيرٍ حقيرٍ فى نفسه) لا ينحصر فى المعنى الشائع لهذه الكلمة، بل الأرض كلها مسجد حسبما ورد فى كلام سيد البشر عليه الصلاة والسلام، ومن ثم فالمسلم يؤدى صلواته وابتهالاته فى كل زمان وفى كل مكان. أى أن "مكان قدس الله" فى دين محمد عليه الصلاة والسلام مفتوح لا ينغلق أبدا مهما تكن الظروف. وحتى على المعنى الذى يقصده المؤلف الهجّام فإننا نتساءل: هل هُدِمت كنائس النصارى ومعابد اليهود فى بلاد الإسلام؟ كلا، فهذه هى الكنائس والمعابد لا تزال قائمة فى بلاد الإسلام لم يتوقف تجديد القديم منها ولا بناء الجديد الذى لم يكن له وجود من قبل. أى أن الادعاء بأن الإسلام قد "هدم مسكن قدس الله" حتى بهذا المعنى هو ادعاء كاذب خاطئ أيضا.
(1/478)
ثم إن النبوءة التى لا تقنع حتى الأطفال تنصّ على أن العدوان المزعوم على جند السماء ومسكن قدس الله ومحارقه لن يزيد عن ألفين وثلاثمائة يوم من أيامنا هذه العاديّة المكونة من صباح ومساء كما جاء فى الكلام المنسوب لدانيال. ومعنى ذلك أن العدوان المزعوم، حتى لو أخذنا بما يقوله المؤلف وأمثاله بعد أن نعصر عليه عشر ليمونات، قد انتهى منذ دهور طويلة ولم يعد قائما الآن البتّة. وعلى هذا الأساس يفسر مؤلفُ مادة " Daniel, Book of" فى " JewishEncyclopedia.com " الأمرَ قائلاً إن أنطيوخس إبيفانِس قد نجّس هيكل بيت المقدس واستبدل بالمذبح الذى تقدَّم عليه القرابين إلى الله مذبحًا آخر فضّيًّا لتقديم القرابين الوثنية، وهو نفسه ما قاله كاتب مادة "Book of Daniel" فى "The Catholic Encyclopedia" (على موقع "New Advent")، مع تحديد المدة التى استغرقها هذا التعدّى بثلاث سنوات ونصف. كذلك تقول النبوءة إن الملك الجافى الوجه (الذى يفسره بوش على أنه هو الأمة الإسلامية جمعاء) عند تمام مملكته سوف ينكسر بلا يد، وهو ما يؤوِّله الكاتب بما معناه أن أمة الإسلام فى آخر المطاف (أى عندما يؤدِّى الإسلام مهمته الانتقامية التى لم يُخْلَق إلا لها ويتم تأديب الكنيسة فترجع عن انحرافها وتعود لدين الله كرة أخرى ولا يبقى له دور يؤديه) سوف تنهزم وتختفى من تلقاء نفسها دون أن تمتد إليها يد من أعدائها بالتدمير، وإن هذا سيكون عند ابتداء الألفية النصرانية (أى على رأس أحد آلاف السنين من مجىء السيد المسيح) عن طريق دخول المسلمين كلهم فى دين النصارى واعتناقهم الإنجيل (P. 194). ومن الواضح أن هذا أيضا لا حقيقة له، فها هى ذى الصليبية الدولية بالتعاون الأثيم مع الصهيونية العالمية تخطط وتدبر وتعتدى على ديار المسلمين وأعراضهم وثرواتهم وتعمل بكل سبيل على تدمير حاضرهم ومستقبلهم وإنسائهم ماضيهم ومحوه من ذاكرتهم، وإشاعة الاضطراب فى مفاهيمهم، وتشكيكهم(1/479)
فى عقائدهم وقِيَمهم، وإفقادهم ثقتهم بأنفسهم. فكيف يراد لنا أن نصدق هذا الكلام، وهو مثل غيره من كلام النبوءة المخرِّفة، لا ينطبق فى قليل أو كثير على أوضاع المسلمين، لا منذ الآن فقط، بل منذ بدأت الحروب الصليبية، بل قبل أن تبدأ الحروب الصليبية؟ ولعل إشارة بوش إلى بداية الألفية التى تتزامن وتدمير أمة الإسلام واختفاؤها من على مسرح التاريخ البشرى تساعدنا على فهم ما يجرى فى منطقتنا الآن عند مفتتح الألفية الثالثة بعد ظهور عيسى عليه السلام، وإعلان البابا أن القرن الجديد سيكون قرن النصرانية، وهجوم الصليبية الوحشىّ المدمِّر على بلاد المسلمين. أى أنه لن يكون هناك إسلام بعد الآن فيما يؤمّلون ويخططون، والمسلمون رغم ذلك فى مياه المجارى نائمون! وأخيرا لا ينبغى أن يفوتنا مغزى قول دانيال، بعد أن أوقفه جبريل قبالته وأخذ يشرح له رموز الرؤيا ويفهِّمه إياها، إنه رغم ذلك كله كان يشعر بالحيرة ولا يفهم من الأمر شيئا. وهنا أقول له بملء فمى وبأعلى صوتى: صدقت يا رجل، فهذه ليست إلا أضغاثَ أحلام، وكل ما يحتاجه الإنسان معها هو أن يتغطى جيدا ويعاود الشخير!
(1/480)
ومن هذا كله يتبين لكل ذى عقل أن هذه النبوءة لا تتصل بالإسلام من قريب أو بعيد، ولكن ماذا نفعل مع غُلْف القلوب والعقول الذين ما إن يأتى ذكر الإسلام أمامهم حتى يركبهم ألف عفريت فلا يفهمون شيئا ولا يهتدون سبيلا؟ نعوذ بالله من العفاريت والشياطين ومن كل من له صلة بالشياطين والعفاريت! لكننى أود من القارئ أن يتوقف هنا لحظة ليقارن بين ما نؤمن به نحن المسلمين من أن الله تعالى قد أسس الدنيا على سنّة الاختلاف بين البشر حتى فى الأديان حسبما أكد القرآن الكريم، على حين أن أعداءنا الذين يتهموننا بالإرهاب والعدوان، ونحن منه بَرَاءٌ كبراءة الذئب من دم يوسف، يعملون بكل ما فى مستطاعهم على تدميرنا وإخراجنا من ديننا ظنًّا إجراميًّا منهم أن البشر لا بدّ أن يكونوا كلهم على دين واحد هو دين النصرانية. فهذا هو الفرق بيننا وبينهم: فنحن متسامحون، أما هم فأصحاب تعصب بغيض لا يرى للآخر حقا فى الوجود والحرية، ومع ذلك تراهم يلصقون بنا عيوبهم ودنَسهم. وعلى رأى المثل: "رَمَتْنِى بدائها وانسلّتِ"!
(1/481)
والآن مع رؤيا يوحنا الملقب بـ"اللاهوتى"، وهى رؤيا متناوحة الطول تمتد على مدار اثنين وعشرين إصحاحا كاملا وتجلب الصداع والدوار لمن يسوقه حظه التعيس البئيس إلى قراءتها وتخرجه عن عقله وانضباط فكره لأنها أشبه بالهلاوس منها بأى شىء آخر، إلا أن جورج بوش قد اجتزأ منها بعدة فقرات تَوَهَّم أنها يمكن أن توصله إلى غرضه من الإساءة الدنيئة إلى سيده وسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهذه هى الفقرات المذكورة، وهى تغطى الإصحاح التاسع كله تقريبا من السفر المسمى بـ"رؤيا يوحنا اللاهوتى": "ثم بوَّق الملاكُ الخامس فرأيتُ كوكبا قد سقط من السماء إلى الأرض وأُعْطِىَ مفتاح بئر الهاوية* ففُتِح بئر الهاوية فصعد دخان من البئر كدخان أتونٍ عظيم فأظلمت الشمس والجو من دخان البئر* ومن الدخان خرج جراد على الأرض فأُعْطِىَ سلطانا كما لعقارب الأرض سلطان* وقيل له أن لا يضر عُشْبَ الأرض ولا شيئًا أخضرَ ولا شجرةً ما إلا الناس فقط الذين ليس لهم خَتْم الله على جباههم* وأُعْطِىَ أن لا يقتلهم بل أن يتعذبوا خمسة أشهر. وعذابه كعذاب عقرب إذا لدغ إنسانا* وفي تلك الأيام سيطلب الناسُ الموتَ ولا يجدونه، ويرغبون أن يموتوا فيهرب الموت منهم* وشَكْل الجراد شِبْه خيلٍ مهيّأة للحرب، وعلى رؤوسها كأكاليلَ شِبْه الذهب ووجوهها كوجوه الناس* وكان لها شعر كشعر النساء وكانت أسنانها كأسنان الأسود* وكان لها دروع كدروع من حديد وصوت أجنحتها كصوت مَرْكَبات خيل كثيرة تجرى إلى قتال* ولها أذنابٌ شِبْه العقارب، وكانت في أذنابها حُمَاتٌ، وسلطانها أن تؤذي الناس خمسة اشهر* ولها مَلاَك الهاوية مَلِكًا عليها. اسمه بالعبرانية أبدّون وله باليونانية اسم أبوليون* الوَيْل الواحد مضى. هو ذا يأتى وَيْْلاَنِ أيضا بعد هذا* ثم بوّق الملاك السادس فسمعتُ صوتا واحدا من أربعة قرون مذبح الذهب الذي أمام الله* قائلا للملاك السادس الذي معه البُوق: فُكّ الأربعة(1/482)
الملائكة المقيدين عند النهر العظيم الفرات* فانفك الأربعة الملائكة المُعَدّون للساعة واليوم والشهر والسنة لكى يقتلوا ثلث الناس* وعدد جيوش الفرسان مئتا ألفِ ألفٍ، وأنا سمعت عددهم* وهكذا رأيتُ الخيل في الرؤيا والجالسين عليها لهم دروعٌ ناريةٌ وأسمانجونيةٌ وكبريتيةٌ، ورؤوسُ الخيل كرؤوس الأسود، ومن أفواهها يخرج نار ودخان وكبريت* من هذه الثلاثة قُتِل ثلث الناس من النار والدخان والكبريت الخارجة من أفواهها، فإن سلطانها هو فى أفواهها وفى أذنابها لأن أذنابها شِبْه الحيّات، ولها رؤوس، وبها تضرّ* وأما بقية الناس الذين لم يُقْتَلوا بهذه الضربات فلم يتوبوا عن أعمال أيديهم حتى لا يسجدوا للشياطين وأصنام الذهب والفضة والنحاس والحجر والخشب التى لا تستطيع أن تُبْصِر ولا تسمع ولا تمشى، ولا تابوا عن قتلهم ولا عن سِحْرهم ولا عن زناهم ولا عن سرقتهم".
(1/483)
وواضح أن هذا الكلام هو أيضًا من العمومية والضبابية بحيث يقبل التأويل على ما يهوى كل إنسان، وقد أوَّله بوش قَسْرًا على أن المقصود به سيد الأنبياء والمرسلين. ولكن قبل أن ندخل فى السخافات والتفاهات التى أمطرنا بها ألفت انتباه القارئ إلى وصفه هو نفسه لكلام يوحنا هنا بقوله إن "الآلية الشعرية التى وراء تلك الرؤيا يُفْتَرَض أنها مأخوذة من كهوف العِرَافة المقدسة عند الوثنيين القدماء، تلك الكهوف التى كان يُظَنّ أنها متصلة بالبحر أو بالهاوية العظيمة والتى كانت تحظى بتقديرٍ خاصٍّ حين تنفث (كما هو الحال فى دلفى) أبخرة مُسْكِرة" (P. 197). وفى هذا الكلام الكفاية بل ما هو أكثر من الكفاية فى التعريف بطبيعة تلك الرؤى وقيمتها، إذ يربطها المؤلف نفسه لا سواه بممارسات الوثنية والأبخرة المُسْكِرة التى تنبعث من مغاور الكهوف، والعياذ بالله. وأول شىء نقف عنده فى هذا التأويل هو قوله إن الشارحين لهذه الرؤيا فى العصر الحديث مجمعون كلهم تقريبا على أن نفخ البوق هنا إشارة إلى ظهور الدجال العربى ودينه الزائف وأتباعه الأفاقين، وأن المقصود بالكوكب الذى هوى من السماء هو محمد نفسه رغم أن ذلك الرمز الأخير إنما يعنى عادةً المعلمين النصارى المرتدين، وهو ما ينبغى أن يُفْهَم منه أن الإسلام ليس فى الواقع إلا ثمرة لإحدى الهرطقات النصرانية كبدعة آريوس وأمثاله من المنحرفين عن طريق الحق كما زعم (P. 196). ولمن لا يعرف من القراء نذكر له أن آريوس هذا هو من رجال الدين النصارى الأوائل الأطهار الأنقياء الموحِّدين الذين كانوا يرفضون تأليه السيد المسيح ولا يرون فيه أكثر من أنه نبى، ولهذا وصفه المؤلف بأنه مبتدع مرتد! وواضح أن المؤلف يتخبط فى كلامه ويوجه النص على هواه، يساعده فى ذلك أن عبارات النص فضفاضة واسعة تسمح بدخول أى شىء فيها وخروج أى شىء منها، وهو ما يذكِّرنا بضاربات الودع حين تقول الواحدة منهن للمرأة التى تستفتيها فى(1/484)
أمر مستقبلها: "أمامك، يا شابّة، سكة سفر تحقق لك السعادة التى تتطلعين إليها فى خلال نقطتين". وعلى المستمعة الحائرة المسكينة أن تفسر "سكة السفر" بما يعنّ لها ويتوافق وظروفها (وهل يخلو الواحد منا أن تكون أمامه "سِكّة سَفَر" بأى معنى من معانى السِّكَك والسَّفَر؟)، وأن تحدِّد "النقطتين" بدقيقتين أو ساعتين أو يومين أو أسبوعين أو قل: بشهرين أو عامين أو عِقْدين أو قرنين أو دهرين! ومُتْ يا حمار حتى يأتيك العَلِيق! ولماذا لا نقول إن المقصود بالنفخ فى البوق هو ظهور بوش وشيعته ممن يتهجمون على سيد الأنبياء والمرسلين، وإن الكوكب الهاوى فى البئر هو كتابه هذا المفعم بالضلالات والتخريفات والتجديفات، أو إن المراد هو هجوم أمريكا الإجرامى على العالم الإسلامى وانفضاح مزاعمها الكاذبة عن رغبتها فى نشر الحرية فى بلاد العرب والمسلمين وتطهير العالم من مخاطر أسلحة الدمار الشامل الموجودة كذبا وبهتأنا فى أرض الرافدين؟ وأستطيع أن أستمر من هنا للصبح فى تفسير تلك العبارة دون أن أَكِلّ أو أَمَل،ّ وأن أُورِد كلامًا أَوْجَهَ من كلام جورج بوش بمراحل وأكثر إقناعا من ضلالاته هذه التى لا تدخل عقل عاقل ما دام تفسير النبوءات التى يقال إنها وحى من الله هو من الهوان إلى هذه الدر ثم من قال له إن دين محمد عليه الصلاة والسلام مأخوذ مما يسميه "هرطقات نصرانية"؟ أعنده برهان بهذا؟ لقد مرَّ حتى الآن أكثر من أربعة عشر قرنا، ولم يستطع أى دعىٍّ أفاكٍ أن يُخْرِج لنا دليلا ولو تافها على أن الرسول الكريم قد تعلم على يد أى من أهل الكتاب أو من غير أهل الكتاب، وإلا فلماذا لم يتكلم أحد من هؤلاء الذين قيل زورا وبهتانا إنهم علَّموه فيقول: "نعم، أنا الشخص الذى تعلم محمدٌ على يدىّ وأخذ منى دينه"، أو يظهر على الأقل أىٌّ من أقاربهم أو من معارفهم ليحدثنا عن هذا التعليم المزعوم؟ لقد قيل كلام عن ورقة وجَبْر ويسار وسلمان الفارسى، بَيْدَ أن(1/485)
التاريخ قد كذّب القائلين بهذا وصكّهم فى وجوههم وأفواههم حين أخبرنا بلسانه الطلق الفصيح أن هؤلاء الأشخاص قد صدّقوا بمحمد وآمنوا به! فإذا كانوا هم أنفسهم قد تبعوه، فكيف يتنطَّع بعض الناس بجعل التابع متبوعًا، والتلميذ أستاذا؟ كما قيل شىء من ذلك عن الراهب بحيرا الذى تذكر "بعض" الروايات أنه عليه السلام قد قابله فى صباه الأول مرة يتيمة فى صحبة عمه أبى طالب والقافلة التى كانا فيها سَفْرَتَهم إلى الشام، فلم يا ترى خَرِس بحيرا وأقارب بحيرا وزملاء بحيرا والذين نفضوا بحيرا والذين رَأَوْا محمدا وهو يتعلم على يد بحيرا فلم يتحدثوا بشىء من ذلك؟ وهذا إن كان لنا أن نصدق هذه الرواية التى يشك فيها حتى نفرٌ من المستشرقين أنفسهم وأن نقتنع بإمكان تلقين صبى صغير لا يتجاوز الثانية عشرة من عمره أصول دين ومعالمه وتشريعاته وآدابه بهذه البساطة وفى دقائق معدودات على طريقة "كيف تتعلم الإنجليزية فى ثلاثة أيام بدون معلِّم؟"؟ (راجع المسألة كلها بالتفصيل فى كتابى: "مصدر القرآن- دراسة فى شبهات المستشرقين والمبشرين حول الوحى المحمدى/ مكتبة زهراء الشرق/ 1417هـ- 1997م/ 104- 127). لو أن الأقراص المدمجة كانت معروفة آنذاك لقلنا إن الراهب الطيب قد زوّد تلميذه الصغير بقرص منها ودسَّه فى جيبه على حين غفلة من الموجودين ناصحا إياه أن يعكف على سماعه براحته فى خلواته وأوقات فراغه بعيدا عن أعين المتلصّصين حتى يعى ما فيه جيدا ويحفظه ويستطيع أن يخترع بنفسه من ثم دينًا جديدا! لكن للأسف الشديد لم تكن مثل تلك الأقراص قد اختُرِعت بعد! يا حرام! لكنْ "خيرها فى غيرها، والجائيات أكثر من الرائحات" كما كان يقول الكابتن لطيف رحمه الله! وعلى أية حال لماذا لم يفضح محمدًا بذلك أىٌّ من أفراد القافلة الذين تأخروا فى الدخول فى دينه وحاربوه فى بداءة أمره؟ لماذا لم يستغلَّ تلك الواقعةَ أبو سفيان أو أبو لهب أو أبو جهل وأمثالهم من زعماء(1/486)
المعارضة الوثنية؟ أو لماذا لم يحرجه بهذا عمُّه أبو طالب نفسه، على الأقل حين اشتدت عليه الضغوط من زعماء قريشٍ مطالبة إياه بالتخلية بينهم وبين ابن أخيه يَرَوْنَ فيه رأيهم ويتخذون من الإجراءات ما يحمى عقائدهم وتقاليدهم التى كانوا يخافون عليها المخاوف من جرّاء دعوته الجديدة؟ أم كيف غاب ذلك عن اليهود الذين كانوا يتربصون بمحمد وبدينه الدوائر ويخططون المؤامرات للإيقاع به فطلبوا من المكيين (الذين ذهبوا يستعينون بهم بغية إحراجه صلى الله عليه وسلم) أن يسألوه عن فتية الكهف والعبد الصالح وذى القرنين ما دام معروفا عنه أنه يتعلم على يد هذا الشخص أو ذاك من أهل الكتاب، ومن ثم فهو حقيقٌ أن يكون عنده علمٌ بهذه المسائل الكتابية ولن تشكِّل له من ثَمَّ أى قدر من الإحراج؟ بل لماذا ذهب المكِّيُّون أصلا للاستعانة بهم وهم يعرفون عنه هذا؟ ثم كيف يا ترى سوَّل الشيطان لجورج بوش أن بمستطاعه إقناعَنا زورًا وضلالاً بأن توحيد محمد النقىّ الكريم هو من مبتدَعات الهراطقة، وأن تثليثه هو وأمثاله إنما هو الحق الذى لا يرضى الله سبحانه وتعالى بشىءٍ سواه؟ إن ذلك قلبٌ تامٌّ للموازين لا يقول به إلا من أضلّه الله على علم، وختم على قلبه وعقله، وجعل على بصره غشاوة! لقد كان الأحرى به أن يعرف أن هذه الرؤيا، إذا لم يكن بد من تصديقها أوّلاً ثم تفسيرها فى ضوء المقارنة بين النصرانية والإسلام ثانيًا، إنما تنطبق، لا على دين محمد التوحيدى الأصيل، بل على دينه هو بتثليثه الذى لا يمكن أبدا أن يكون من وحى السماء.
(1/487)
وبالمناسبة فهناك من رجال الدين النصارى أنفسهم من يشككون فى أن يكون يوحنا هو صاحب السفر الذى وردت فيه هذه الرؤيا، بل هناك تيار قوى من علمائهم يرفض أصلا أن يكون ذلك السفر إلهامًا سماويًّا. ويمكن الرجوع، فى "The Catholic Encyclopedia"، إلى مادة "Apocalypse" التى جاء فيها أيضا أن الرؤيا كثيرًا ما اتُّخِذَتْ مُتَّكَأً للتنفيس عن التعصب العرقى والكراهية الدينية، ومن ثم وجد فيها كل قوم ما يريدون أن يجدوه: فبعضهم قال إنها تتحدث عن الإمبراطورية الرومانية أو بالأحرى: قيصر، وبعضٌ ثانٍ زعم أن الكلام فيها عن الرسول محمد، وبعضهم قال إن المقصود هو البابا وكرادلته، وبعضٌ أكّذ أن المراد هو نابليون...وهكذا. كذلك نقرأ فى مادة "Revelation of John" من "The International Standard Bible Encyclopedia" على موقع "SearchGodsWord"أن طبيعة "رؤيا يوحنا" وعلاقاتها المتشابكة تجعل منها أصعب كتب العهد الجديد استعصاءً على التفسير المُرْضِى، فَضْلاً عما نجده فى هذا المقال من استعراض للنظريات المختلفة التى تعاورت تفسير هذه الرؤيا. ومن هذا كله يتبين لنا ما يمتلئ به التأويل الذى قدمه بوش لتلك النبوءة من سخف وتحكم وتفاهة. كذلك فالكواكب التى تهوى من السماء إنما هى الكواكب التى فى طريقها إلى الانطفاء والانتهاء، وهو ما ينسف الفكرة الشيطانية التى يريد بوش أن يوهم بها قراءه من أساسها، إذ إن محمدا ودينه حسب تفسيره يمثلان القوة الجديدة فى بدء ظهورها لا القوة المولِّية فى انهزامها وإدبارها، فكان أخلق بالرمز الذى يومئ إليها أن يكون كوكبًا يطلع بازغًا فى أفق السماء لا كوكبًا ساقطًا فى الهاوية من أعالى الفضاء!
(1/488)
ويستمر الكاتب المسكين فى تخرّصاته وتُرّهاته فيزعم أن الجراد المنتشر فى النبوءة رمز إلى أتباع النبى العربى الذين اكتسحوا العالم. وحجته، أو بالأحرى: شبهته، هو أن الجراد يكثر فى شبه جزيرة العرب، كما أنه قد ورد ذكره فى إحدى الحكايات العربية القديمة بوصفه شعارا وطنيا للإسماعيليين، يقصد العرب والمسلمين (PP. 197- 198). وهذا كله خَبْطٌ لا عقل له ولا فهم ولا منطق: فالجراد ليس مقصورا على بلاد العرب، بل هو آفة تصيب أى إقليم تقريبا. ومنذ أشهر معدودات كانت أسرابه تهجم هجوما كاسحا على وادى النيل آتية من شمال إفريقيا بعد أن بَعُدَ عهدنا به منذ عقود، إذ كنا ونحن أطفال صغار نراه بكثرة فى الحقول، وبخاصة بين حطب القطن، وكنا نمسك به آنذاك ونلعب به فرحين، ومصر ليست من بلاد العرب. أما ورود ذكره فى إحدى الحكايات بوصفه شعارا على العرب فلست أدرى من أين أتى الرجل بهذا الكلام، ولا كيف خطر له هذا التفسير بفرض صحة كلامه. إن هذا، والحق يقال، ليس أكثر من كلام مرسل لا يساوى شيئا، فهو لم يذكر اسم هذه الحكاية ولا أورد النص المشار إليه، والعِلْم لا يعرف مثل هذه البهلوانيات. وحتى لو كان ما يقوله عن تلك الحكاية المجهولة حقيقيا، فهل يصح الاعتماد على شاهد واحد فى تقرير مثل هذه الفكرة الخطيرة؟
(1/489)
وعلى أية حال فهل يصح وصف الرسول الكريم وأتباعه بالجراد المدمِّر؟ صحيحٌ أنه قد عقَّب بأن ذلك الجراد لا يأكل العشب ولا الشجر، لكنْ صحيحٌ أيضا أنه، حسبما قال، يفعل ما هو أسوأ من ذلك كثيرا، إذ يقع أذاه على البشر. لقد جاء الإسلام ليصحح للناس عقائدهم الفاسدة، وينقلهم من الشرك إلى الإيمان الصافى النقى، ويشرع لهم القوانين العادلة، ويأمرهم بمكارم الأخلاق، ويحضهم على فعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة والتعاون على البر والتقوى، وينهاهم عن الظلم والزنا والسرقة والقتل والكذب والنفاق. فكيف يُوصَف الرسول الذى أتى بهذا الدين المجيد هو وأتباعه بأنهم جرادٌ مدمِّرٌ للبشر؟ الحق أنه قد جاء ليحيى العباد ولينير لهم طريقهم حتى يكونوا على بينة من أمرهم لا ليدمّرهم أو يُعَمِّىَ عليهم. ثم إنه لم يكن يَمَسّ أحدا بأذى لا ممن "ليس فى جباههم ختم الله" كما جاء فى النبوءة ولا ممن فى جباههم هذا الختم، ما داموا لم يبدأوه بعدوان كما هو معروف من تعاليم القرآن الكريم وسنّة النبى العظيم وما أُثِر من الوصايا السياسية والحربية عن خلفائه النبلاء الراشدين حسبما هو معروف.
(1/490)
وتمضى النبوءة أو الرؤيا فتقول إنه قد "أبيح للجراد لا أن يقتلهم بل أن يعذبهم خمسة أشهر، وتعذيبه كتعذيب عقرب إذا لدغت إنسأنا". ويفسر بوش هذا المقطع قائلا إن "اليوم" فى النبوءات يساوى عاما، وعلى هذا فخمسة أشهر تساوى مائة وخمسين عاما، على أساس أن الشهر ثلاثون يوما. وهذه الشهور الخمسة هى أقصى مدة تستغرقها كارثة الجراد، وهى تناظر المائة والخمسين عاما التى استغرقتها الفتوح الإسلامية الرئيسية من لدن ظهور محمد حتى بناء بغداد (P. 200). وللمرة التى لا أدرى كم نرى الكاتب يتخبط كتخبطات من به مس من جنون: فأولا أنَّى له بحقّ السماء بأن "اليوم" فى النبوءات يساوى عاما؟ وأين دليله إذن على هذا؟ وأية مصادفة عجيبة يا ترى تلك التى جعلت الفتوح الإسلامية تتوقف عند بناء بغداد بالضبط؟ فأين نضع مثلا الفتوح التى قام بها الغزنويون فى الهند أثناء القرن الحادى عشر الميلادى ثم السلاجقة بعدهم فى القرن الذى يليه، وكذلك الفتوح التى أحرزها العثمانيون فى شرق أوربا فى القرنين الرابع عشر والخامس عشر وأضافوا خلالها الدُّرّة القسطنطينية إلى تاج الإسلام المتلألئ، بالإضافة إلى فتوحات نادر شاه الصفوى بعد ذلك فى شبه القارة الهندية؟ وهذا فضلاً عن انتشار الإسلام عن طريق الكلمة والموعظة الحسنة والسلوك النظيف فى مناطق كثيرة جدا من العالم حين لم يفرض عليه أحد خوض المعارك والحروب مما لا يزال جاريا حتى الآن فى أجزاء كثيرة من الكرة الأرضية بما فيها أوربا الغربية وأمريكا نفسها. ثم كيف يتجاهل المؤلف أن الشهر ليس دائما ثلاثين يوما؟ إن نصف شهور السنة ثلاثون، ونصفها الآخر واحدٌ وثلاثون؟ ودَعْنا من شهر فبراير، الذى يكون عادة تسعةً وعشرين، ومرةً كلَّ أربع سنوات ثمانيةً وعشرين. وهذا كله معروف لأجهل إنسان، فكيف بالله تجاهله الكاتب بهذه البساطة؟ وفوق ذلك فهو يحسب الغزوات الإسلامية من بداية البعثة المحمدية، على حين أنها لم تبدأ فى(1/491)
الواقع إلا بعد هذا ببضعة عشر عاما كما هو معروف، لأن أولى الغزوات (وهى غزوة بدر) قد وقعت فى العام الثانى للهجرة، والهجرة لم تتم إلا بعد أن مضى على بعثة الرسول الكريم ثلاثة عشر عاما. فانظر أيها القارئ إلى ذلك الألمعىّ وما اقترفه من تدليسات حسابية للوصول بها، فيما يتوهم، إلى إقناعنا بقدرة "يوحنّاه" على التنبؤ بالغيب على مدى آلاف السنين، وربما إلى أبد الآبدين! أما أن أقصى مدة تستغرقها كارثة الجراد هى خمسة أشهر فأترك تحقيق ذلك لعلماء الحيوان!
(1/492)
ثم إن النبوءة تقول إن مدة العذاب التى كتبها الله على الناس سوف تكون خمسة أشهر، وهذا أيضا خطأ فى خطإ، إذ إن حكم المسلمين للأمم التى كانت يوما ما نصرانية ثم دخلت فى الإسلام لم يتوقف بعد الخمسة الأشهر المزعومة، بل ما زال مستمرا حتى الآن، وسوف يستمر مدة أخرى لا يدرى مداها إلا الله سبحانه، وربما تمكث إلى الأبد. فما القول فى هذا أيضا؟ كما أن تفسيره لما جاء فى الرؤيا من أن عذاب الجراد الإسلامى للبشر يشبه لدغ العقارب بأن ذلك رمز إلى ما فعله المسلمون بالأمم التى حكموها إنما هو افتراء وضلال، فحُكْم المسلمين رغم كل ما يمكن أن يوجَّه إليه من انتقاد هو أحسن حكم فى التاريخ، فهم لم يعرفوا إكراه أحد على دينهم كما فعل الغرب ببعض الشعوب التى احتل بلادها، ولا مارسوا الإبادة الجماعية التى أوقعها الغرب بعدد من الأمم التى ساقها قضاؤها للوقوع تحت سلطانه، ولا نزحوا ثروات البلاد التى حكموها كما صنع الغرب بثروات البلاد التى تولَّى أمرها، بل انصهروا فى تلك الأمم وعاش الفريقان معا على الحلوة والمرّة. أما زعم الكاتب بأن قول صاحب المنام إنه "فى تلك الأيام سيطلب الناسُ الموتَ ولا يجدونه، ويرغبون أن يموتوا فيهرب الموت منهم" من الممكن أن يكون المقصود به المسلمين الذين كتب الله لهم النصر السريع السهل على أعدائهم لدرجة أن كثيرا منهم يتمنَّوْن الشهادة فلا يجدونها، وأن هذا هو معنى قوله تعالى للمسلمين عقب غزوة بدر، التى كان كثير منهم يتطلعون إلى نيل شرف الشهادة فيها، لكنهم لم ينالوا ما يبتغون للسبب الآنف ذكره (PP. 200- 201)، فهو ضَرْبٌ فى بَيْداء الوهم والجهل، فالآية المذكورة ليس لها أية صلة بغزوة بدر، بل نزلت عقب غزوة أُحُد، كما أنها تدل على نقيض المعنى الذى فهمه جورج بوش، إذ هى تشير إلى ما وقع بالمسلمين فى تلك الغزوة من هزيمةٍ وانكسارٍ وسقوطِ عددٍ كبيرٍ من القتلى فى صفوفهم، فنزل القرآن يعاتبهم ويبين لهم أنهم(1/493)
كانوا من فرط حماستهم قبل ذلك يتمنَّوْن الموت (أى الشهادة)، لكنهم حين جاءهم الموت الذى كانوا يتمنَّوْنَه غلبتهم على أنفسهم الحيرة والأحزان. أى أنهم قد لَقُوا الموت على عكس ما فهم كاتبنا اللوذعى، بل إنهم ما زالوا يتمَنَّوْنَ الشهادة ويجدونها فى كل مكان من ديارهم يدنّسه الأعداء الأنجاس بقوات احتلالهم كما هو الحال فى فلسطين وكشمير وأفغانستان والعراق وغيرها، حتى لقد بلغوا فى هذا المضمار أَوْجًا سامقًا لم تعرفه أمة من الأمم يتمثل فى العمليات الاستشهادية التى يحاول الغربيون عبثا، عن طريق فتاوى المذلّة والضلال، إيهامهم بأنها عمليات انتحارية كى يبثوا روح التخذيل فى نفوسهم وينزعوا من أيديهم هذا السلاح العبقرى الذى لا قِبَلَ لهم ولا لأمثالهم به ممن يحبون الحياة حُبًّا جمًّا! وعلى أية حال فإشارة الرؤيا إلى تمنِّى الناس الموت وعدم لقائهم إياه مع ذلك إنما تعنى أنهم قد وصلوا من اليأس إلى درجة بعيدة لا يعودون يطيقون معها الحياة، لكن الأقدار تضنّ عليهم حتى بالموت.
(1/494)
والملاحظ أن كاتبنا، على طريقته البهلوانية فى التأويل، قد فسَّر ما جاء فى "رؤيا يوحنا" عن مشابهة الجراد للخيول بأن المراد بذلك هم العرب، لأن قوتهم فى الخيل والفروسية حسبما يقول، كما أوَّل "الأكاليل" فى العبارة التى تقول إنه كان "على رؤوسها كأكاليلَ شِبْه الذهب" بـ"العمائم" (PP. 201- 202 ). وهذا هو نص الكلام: " وشَكْل الجراد شِبْه خيلٍ مهيّأة للحرب، وعلى رؤوسها كأكاليلَ شِبْه الذهب ووجوهها كوجوه الناس* وكان لها شعر كشعر النساء وكانت أسنانها كأسنان الأسود". وقد رأينا كيف فسَّر هو الجراد بأنه العرب، فضلا عن أنه قد ذكر أنهم كانوا أصحاب شعورٍ منسابةٍ أو مضفورةٍ مثل شعور النساء كما يشير هذا الكلام المنسوب إلى يوحنا (P. 202)، ومن ثم فليس للنص من معنى إلا أن العرب أنفسهم هم الذين يشبهون الخيول، لا أنهم بارعون فى الفروسية وركوب الحصان. كذلك فليس هناك مشابهة بين العمائم والأكاليل حتى يصحّ تأويلها بها كما فعل، إذ أين هذه من تلك؟ أى أن تفسيره هنا هو أيضا كلام لا معنى له ولا منطق فيه كسائر ما يقول. وفوق هذا فلم يعرف العرب الملَكية فى الإسلام كى يقال إنهم هم المقصودون بالعبارة التالية فى الرؤيا المتعثكلة الغامضة التى لا يستطيع الإنسان العاقل أن يميز لها رأسًا من ذَنَب: "ولها مَلاَك الهاوية مَلِكًا عليها. اسمه بالعبرانية أبدّون، وله باليونانية اسم أبوليون" حسبما ادَّعَى صاحبنا (P. 203)، فضلا عن أن يكون اسم ملِكهم المزعوم "أبدّون" أو "أبوليون" (أى "المدمِّر" كما يقول)، لا على سبيل الحقيقة ولا على سبيل المجاز.
(1/495)
ومرة أخرى نجد الكاتب يخلط بين الرمز والمرموز إليه، فبينما رأيناه يؤوّل الخيول بأنها العرب والمسلمون أنفسهم إذا به يأخذ الخيول بمعناها الحرفى فى النص التالى دون تأويل: "ورؤوسُ الخيل كرؤوس الأسود، ومن أفواهها يخرج نار ودخان وكبريت* من هذه الثلاثة قُتِل ثلث الناس من النار والدخان والكبريت الخارجة من أفواهها، فإن سلطانها هو في أفواهها وفي أذنابها لأن أذنابها شِبْه الحيّات، ولها رؤوس، وبها تضرّ"، إذ يقول إن الترك قد استخدموا المدفعية بكثافة وقوة رهيبة لم تُعْرَف من قبل ضد القسطنطينية، وكانت خيولهم، وهى تتشمَّم سُحُب الدخان الخارجة من فوهات المدافع برائحتها الكبريتية على حدّ وصفه، تبدو وكأنها تنفث النار والدخان والكبريت من أفواهها كما جاء فى النص. أى أن الخيول هنا هى فعلا خيول حقيقية لا تُؤَوَّل بالعرب والمسلمين، مما يدل على أن الرجل لا يلتزم منهجا مفهوما فى تأويل هذه الرؤيا العجيبة غير المفهومة! ويؤكد ذلك أنه يأخذ وصفَ أذناب هذه الخيول الواردَ فى النبوءة على ظاهره أيضا، إذ يقول إن الإشارة إلى التشابه بين هذه الذيول وبين الحيّات يرجع إلى أن الأتراك كانوا يعقدون أذناب خيولهم فى الحرب فتبدو وكأنها حيّات، ورؤوسها هى هذه العُقَد ذاتها (PP. 206- 207)، وذلك بغض النظر عن مدى صحة المعلومة الخاصة بعادة الأتراك فى عقد أذناب خيولهم عند المعارك أَوْ لا، وكذلك عن المبالغة المقيتة فى تحديد عدد من قُتِلوا فى هذه الحروب بثلث الناس مما لا يمكن للعقل أن يهضمه، فإن الحربين العالميتين أنفسهما، على ما هو معروف من شناعتهما وقوة تدميرهما الفظيعة غير المسبوقة، لم تُفْنِيا من الأوربيين (الأوربيين وحدهم) هذه النسبة قط!
(1/496)
وبالمناسبة فبوش يرتكب خطأً تاريخيًّا عندما يزعم أن الأوربيين هم الذين اخترعوا البارود، إذ من المعروف أن البارود اختراع صينى لا أوربى، وأن المسلمين قد سبقوا الأوربيين على الأقل إلى استخدامه فى الحروب. وإلى القارئ هذه السطور التى تؤكد ما أقول، وهى مستقاة من موقع "الإسلام" على المشباك تحت عنوان "البارود": "البارود اسم أطلقه المسلمون على مادة متفجرة تتكون من نترات البوتاسيم أو الصوديم (ملح البارود) والفحم والكبريت. وكان الصينيون والهنود والفرس يستخدمونه في الألعاب النارية فى المناسبات العامة، وكذلك فى مداواة بعض الأمراض. وقد استخدمه المسلمون فى تلك الأغراض أيضا، ولكنهم كانوا أول مَنِ استخدموه في الحرب. وكان المسلمون هم أول مَن أطلق على هذه المادة اسم البارود، وعن طريقهم عرفه الغرب في بلاد البلقان وغربى أوربا. وقد ابتكر المسلمون استخدام هذه المادة في الحروب كقوة دافعة للمقذوفات النارية في القرن السابع الهجرى / الثالث عشر الميلادى. وقد جاء ذكر البارود في المغرب في كتب الكيمياء العربية وفي كتب التاريخ، وتحدث عنه ابن خلدون في تاريخه وهو يتحدث عن حصار السلطان أبى يوسف المرينى لمدينة سجلماسه عام 672 هـ /1274 م . وتحدث عنه الرَّمّاح الطرابلسى في كتاب "الفروسية"، ويعنى به المادة المتفجرة التي يُحْشَى بها المدفع، وذكر تركيبه الكيميائي واصفا إياه بدقة: فهو يتكون من عشرة أجزاء من البارود وجزأين من الفحم وجزء ونصف جزء من الكبريت. وقد تردد ذكر البارود بصفة خاصة فى تاريخ المغرب وفى حروب المسلمين مع الأسبان، كما جاء ذكره فى حروب بابر في الهند. وقد نُسِبَ خطأً استخدامُ ملح البارود إلى الراهب الألمانى برتولد شفاتزر حول عام 755 هـ /1354 م، ثم اكتشف أحد مؤرخى العلوم الغربيين كِتَاب الرَّمّاح، فاعترفوا بفضل المسلمين في ابتكار استخدام مادة البارود في أسلحة المقذوفات النارية قبل الغرب بنحو قرن من(1/497)
الزمان. ومن المتفق عليه علميا أن البارود عُرِف في الصين، واستخدم في الحروب عند العرب في القرن السابع الهجرى / الثالث عشر الميلادى، ثم نقله الغرب عنهم. كما أكد ذلك في إحدى مخطوطاته العالِمُ الغربىُّ روجر بيكون، الذي وصف البارود وكيفية استخدام العرب له في المدافع. وقد طوَّر الغربُ صناعته في القرن الثانى عشر الهجرى / الثامن عشر الميلادى على يد كل من لافوازييه وإلوينير إيرينيه مما غيَّر أساليب الحروب وأدى إلى تطورها. والبارود في تركيبه الكيميائى المستخدم حديثا يتكون من نيترات البوتاسيوم بنسبة 75 %، والكبريت بنسبة 10 %، والكربون بنسبة 15 %، وهو مزيج سريع الاشتعال لزيادة نسبة البوتاسيوم فيه". وهو نفسه ما نجده فى خطوطه العامة فى مادة "Gun and Gunpowder" فى موقع "silk_road.com"، وكذلك فى مادة "Gunpowder" فى "encyclopedia.com". ويمكن الرجوع أيضا فى هذا الموضوع إلى مقال " صفحة من تاريخ العلوم: البارود والمدافع في الحضارة الإسلامية" لخالد عزب فى موقع "الإسلام أون لاين".
(1/498)
من هذا كله يتضح بأجلى بيان أن جورج بوش قد ضلَّ ضلالا بعيدا فى محاولته التهجم على سيد الرسل والتنقص من مكانته العظيمة التى رفعه الله إليها، وأنه قد ارتكب فى سبيل ذلك كثيرا من التناقضات الفِجّة العارية، وردَّد قدرا كبيرا من الأفكار العاميّة الخرافية والأكاذيب التافهة السخيفة سُخْف عقله وفهمه، ووقع فى عددٍ غير قليل من الأخطاء العلمية والتاريخية، وظن أنه يستطيع إيهامنا بأن هذا الكلام الغامض المضحك العجيب الذى يَعِجّ به النصّان اللذان تناولهما بالتأويل هو وحى إلهى صادق فى التنبؤ بالغيب لأدهارٍ طوال. ويهمنى أن أقف قليلا إزاء تطلعه الشيطانى إلى اختفاء الإسلام من الوجود وتنصُّر المسلمين وهجرانهم التوحيد الذى هداهم الله إليه على يد نبيهم الكريم والتحول عنه إلى ما حاربه قرآنهم وحديث نبيهم من تثليثٍ ترفضه العقول والضمائر وتراه أمرا لا يليق أبدا بجلال الله وعظمته. وهذا التطلع الشيطانى الذى أدار ذلك الرجل كتابه عليه من شأنه أن يفسر لنا الجهد المحموم الذى تمارسه أمريكا وغيرها من دول الغرب فى محاربة الإسلام بقيادة حفيده وسَمِيّه جورج بوش. إنهم يَسْعَوْن إلى تحقيق تأويلهم الشيطانى لـ"رؤيا يوحنا"، ويعملون بكل قواهم وخبثهم وغفلتنا وخيانة الخائنين منا على تقويض ديننا أو على أقل تقدير: إفراغه من مضمونه آملين أن يأتى عليه يوم يسقط من تلقاء نفسه ويصبح أثرا بعد عَيْن وذِكْرَى (مجرد ذِكْرَى) تُرْوَى! إن الخونة منبثّون من حولنا فى كل مكان: ومنهم الحكام الذين يُعِينُون أعداء الإسلام على ضربه ويرددون ما يقوله المستعمرون عن المقاومين الشرفاء الشجعان الذين احتسبوا حياتهم ومالهم وراحة بالهم فى سبيل الله وسبيل الدين والأوطان من أنهم إرهابيون شريرون يعادون الحضارة والحياة ويعشقون الدمار والتقتيل، وما الإرهابيون المدمّرون إلا هؤلاء الشياطين الذين يرسمون المؤامرات ويعملون على تنفيذها مرحلةً بعد مرحلة(1/499)
لإخماد صوت التوحيد. ومنهم أيضا الكتّاب والصحفيون الذين خرجوا من جحورهم وأوكارهم وكشفوا عما تكنّه قلوبهم النجسة الدنسة من غِلٍّ أسود تجاه الإسلام ونبيه ورجاله وتاريخه وحضارته زاعمين أنه فكرٌ بدوىٌّ متخلف، ومشكّكين فى تميزه عن الأديان الأخرى وتفوقه عليها، ومتهمين كل من يهبّ من المسلمين للدفاع عن دينه ضد من يتطاول عليه بأنه يثير الفتن، وما مثيرو الفتن إلا هم، عليهم لعائن الله! ومنهم كذلك المخذّلون الذين يعملون على بث اليأس فى قلوبنا وتثبيط العزائم منا وإقناعنا أن هزيمتنا من أعداء ديننا وأوطاننا أمرٌ مفروغٌ منه ولا مَعْدَى عنه إلى سواه، وأن الحكمة والسلامة فى الاستسلام لأولئك الأعداء والانبطاح أمامهم دون رجولة أو كرامة، والزعم بأنهم إنما جاؤوا إلى بلادنا كى ينشروا فينا الحرية والإصلاح وقيم الحضارة والتنوير ويُخْرِجونا من حالة التخلف المزمنة التى نحن فيها! ومنهم...، ومنهم... مما هو مُشاهَدٌ حولنا بكل قبحه وعُرْيه وفجاجته ودون أن يكلّف أحدٌ نفسَه شيئًا من الاستتار أو التجمل!
(1/500)
وأخيرا فإذا ما أردنا أن نقارن بين النبوءات الكتابية ونظيرتها فى القرآن والحديث راعنا أن النبوءات الإسلامية، على العكس مما جاء عند أهل الكتاب، تتسم بالوضوح والتحديد والتخصيص فلا تتناول كثيرا من التفاصيل المتداخلة المربكة، بل تشير إلى المقصود منها بما لا يقبل الجدال، اللهم إلا فى تعيين الوقت على وجه الدقة: خذ مثلا قوله تعالى: "ألم* غُلِبَت الروم فى أدنى الأرض، وهم من بعد غَلَبهم سيَغْلِبون* فى بِضْع سنين" (الروم/ 1- 4). ترى هل فى هذا الكلام أية عمومية أو ضبابية أو غموض وعثكلة كالذى فى النبوءتين المنسوبتين لدانيال ويوحنا؟ وهل فيه هذا التشابك بين الأحداث أو هذا الطمع فى تفسير التاريخ كله إلى يوم يبعثون؟ كلا، ليس هناك شىء من ذلك. وقس عليه قوله سبحانه فى مراحل الدعوة المبكرة عن الكافرين وتخطيطهم لكسر الإسلام والقضاء عليه فى مهده: "أم يقولون: نحن جميعٌ منتصِر؟* سيُهْزَم الجمعُ ويُوَلُّون الدُّبُر" (القمر/ 44- 45)، وقوله تعالى عن الموضوع ذاته فى بداية المرحلة المدنية: "إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصُدّوا عن سبيل الله، فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرةً ثم يُغْلَبون. والذين كفروا إلى جَهَنّمَ يُحْشَرون" (الأنفال/ 36)، وقوله عز شأنه: "لقد صَدَق اللهُ رسولَه الرؤيا بالحقّ لتَدْخُلُنّ المسجدَ الحرامَ إن شاء الله محلِّقين رؤوسَكم ومقصِّرين لا تخافون" (الفتح/ 27)، وقوله جَلّ جَلالُه: "هو الذى أَرْسَل رسولَه بالهُدَى ودِينِ الحق ليُظْهِره على الدِّين كله" (التوبة/ 33، والصفّ/ 9)، وقوله عزّ من قائل لرسوله الكريم: "والله يعصمك من الناس"، وتنبؤ الرسول صلى الله عليه وسلم بشيوع الأمن والأمان فى بلاد العرب حتى لا يجد الراعى ما يخشاه على غنمه من المخلوقات سوى الذئب، بعد أن كانت تلك البلاد مشهورة فى الجاهلية بانتشار الفوضى وقطع الطريق، وتبشيره عليه السلام للمسلمين باستيلائهم على كنوز كسرى وقيصر،(1/501)
وفتحهم للقسطنطينية، وبلوغ دينهم ما بلغ الليلُ والنهار، ثم تحذيره لهم بعد ذلك بأن الزمن سيدور دورته فتصيب الذلّة نفوسهم ويصيرون غُثَاءً يشبه غثاء السيل رغم كثرتهم الكاثرة، وحينها سوف تتكالب الأمم عليهم وتتداعى إلى نهشهم كما يتداعى الآكلون على قَصْعة الطعام...وغير ذلك، وهو كثير جِدُّ كثير مما تحقَّقَ كله دون أدنى تخلّف ودون أن يُحْوِج المتأولين إلى ركوب متن البهلوانيات وشطط التناقضات وفجاجة الخرافات! فاعتبروا يا أولى الألباب!(1/502)
ياحسرة على حال الأمة: الشعوب قبل الحكومات!
بقلم :د. إبراهيم عوض
المستشار حسين نجم رجل من رجال القانون ، وأحد كبار الفنانين التشكيليين فى مصر والعالم العربى ، وصوت شعرى متميز. يكتب الشعر منذ أواخر الأربعينات حين كان شابا يسهم بنشاطه مع جماعة أبولو برئاسة الدكتور إبراهيم ناجى ، وله عدد من الدواوين . وقد واكب شعره الأحداث وتطور مع الزمن رؤية وأسلوبا . وفى السنوات الأخيرة كانت قصائده بمثابة ناقور يحاول إيقاظ النائمين الذين لم تفلح البلايا المتتالية المنصبة على رؤوسهم فى إخراجهم من غطيطهم المتواصل !
وجولة سريعة فى أرجاء تلك القصائد ترينا كيف يضم غالبيةَ مفرداتها وعباراتها حقلٌ دلالىٌّ واحدٌ تخيم عليه مشاعر الغيظ والقهر والعجز أمام تلاحق المصائب التى تحيق بالعرب والمسلمين فى السنوات الأخيرة كالرعود المُصِمّة والصواعق المحرقة . بل إن تلك السمة لتتجلى فى كثير من العناوين مما يصدق معه المثل القائل بأن الخطاب يبين من عنوانه . وهذه طائفة من تلك العناوين نوردها كيفما اتفق ، ولا نظنها تحتاج إلى أى تعليق : " الخزى الفصيح فى دعوات التطبيع" ، " شوكة العقرب لن تصبح وردة " ، " الدم والبالوعة "، " الخدود الصدئة "، " الذباب " ، " الهمّ البرغوثى "، " الفحم البشرى "، " من حفائر الهم العربى "، "الطوفان"، " أبو ديس والتدليس"،" أصداء النكبة"... إلخ.
(1/503)
أما المفردات والعبارات التى تدور فى فلك القهر والغيظ والشعور بعدم القدرة على فعل شىء أى شىء إلا الاستسلام الشامل والانبطاح الكامل أمام أعداء لا تعرف قلوبهم شفقة ولا يرعون فى أى منا إلا ولا ذمة ، أعداء قد فرغوا منذ زمن بعيد من وضع خطة تدميرنا، وقطعوا فى تنفيذها أشواطا ، ويتطلعون إلى قطع الأشواط الباقية عما قليل ، أعداء ليس للكلل ولا للملل موضع فى قاموس سياستهم أو أخلاقهم ، أما هذه المفردات والعبارات فإلى القارئ عينة منها نسوقها حسبما تقابلنا أثناء تصفحنا للقصائد دون محاولة للترتيب : " العقول الراكعة " ، " حسابات رياء زانية " ، "غرستْ شوكا يهوديا تمشّى عقربا " ، " ساخوا فى رمال التفرقة / وصراع جاهلى بين رايات بطون وعشائر"، " أجهضْنا الضمائر فى كهوف العجز باسم التسوية " ، " قضايا كل شعوب الكون لديهم أهون من بعرة " ، " على خدودنا تراكم الصدأ/ على شفاهنا تحجرت على الذل ابتسامة ... / وكل كف سجلت على خدودنا علامة .../ كف وغد من عتاة الصافعين / مستعرضين عرينا من كل أثواب الكرامة / مهللين فى خنوعنا الفصيح / فى فضيحة تجاوبت لها السماء والدماء / إلا دماء فى بلادنا السجينة / تشربت حلاوة الصدأ / وأدمنته للنخاع"، " ما الذى نعطيه للدنيا سوى أن نتمطى / نلتصق / ببقايا ، بنفايا / كل ما أبدعه الغرب ولو كان مبيدا للذباب / للعرب ؟ "،" وتقلبتُ على شوك شعورى / وتداخلتُ من القهر، من اليأس / إلى أن صرت كهفا من عدم " ، " أمر يتحير فيه هلام المخِّ / وكل هلام الذلة والإذعان "،"مروان البرغوثى النابض بالإيمان/ هو يلذع أدبار العار الرسمىّ / وأقفية الخزى المنهار/ وكل عروش عمالتها وخيانتها / للقدس ، لصرختها الخرساء "،" كم أنظمة من دود / يغشاها بوم الخذلان "،" حسب الكلاب مهنة الحراسة / حتى على مداخل السياسة / ولا يهم من يكون السيد المهاب / ليس الفضول من طبائع الكلاب"،" ويغوص وقد الجمر كالمرساة فى القلب(1/504)
الطعين"،" ولكن موج الخطوب الدءوب / يسد علينا جميع الدروب "، "وراق لنا الموت قبل الوفاة/ لنُبْعَث قبل رجاء القيامة / مسخا قميئا / ونعلا وطيئا" ، " والأمة العصماء قد جمدت على وضع السجود / تتلو كتاب الذل / والهامات تحت النعل / والصلوات للمحتل / تتلوها كما الديدان"،" وشهرزاد لم تعد / تمارس العناد / تذوقت حلاوة الخضوع والرقاد / ليحصل المراد "، " ودنا التاريخ مشدود الخطى / وتحرى وتقصى فى حسابات العرب / فرأى أطنان شجب وعويل / تحت أقدام السنين / خلصت صفرا كبيرا/ ملء صندوق القمامة ". أترى هذه الشواهد محتاجة إلى أن أردفها بكلام من لدنّى يوضح ما تشير إليه وتدل عليه ؟ إنها إصبع يفقأ العين فقئا!
ولا تقع المسؤولية فى هذا الوضع الذى يدعو إلى الغثيان والغيظ والقهر على طرف من الأمة دون آخر، بل الأمة كلها ، حكاما ومحكومين ، مسؤولة عن هذا الهوان. وإذا كان شاعرنا فى قصيدة " الهم البرغوثى" يقول :
أمر يتحير فيه هلام المخ
وكل هلام الذلة والإذعان
عن أنظمة نامت عن كل
هموم عروبتها
...
كم أنظمة من دود
يغشاها يوم الخذلان
...
كم أنظمة جزعت
من لذعة هذا البرغوث
فلا يذهبن بأحدٍ الظن إلى أنه يضع الحساب كله على عاتق الحكومات ، فها هو ذا فى قصيدة أخرى عنوانها"الذباب" يبدى سخطه العارم على الأمة كلها غير واجد وصفا تستحقه غير كلمة "الذباب " ، التى جعلها سارتر عنوان إحدى مسرحياته :
قالها فى سعيه المحموم
سارتر:
" الذباب "
هكذا نحن على وجه الزمن
هكذا نحن على وجه العفن
هكذا نحن على وجه الحضارة
ما الذى نعطيه للدنيا سوى أن نتمطى ، نلتصق
ببقايا ، بنفايا
كل ما أبدعه الغربُ ولو كان مبيدا للذباب
للعرب ؟
...
من أنا ؟ ما أمتى ؟
يا ملايين الذباب العربى اللاصقة
إنه حقا لصمغ عربى وأصيل
كان فينا كما الداء الوبيل
مذ هوينا بالملايين ذبابا
بعضنا حط على القار
وفى الآبار مسحورا
إلى الأعماق
فى ظلمة أوهام ثراءٍ
(1/505)
ورخاء ونعيم طحلبى
ساخت الأقدام والأفهام فيه
بالذباب العربى
فى تباه جاهلى بسجايا كالعطن
...
إنما أرنو مع الآهة
والحسرة
للشمس هناك
إنما أرنو إلى شمس التحدى
والإرادة
فى بلاد الغيم
والظلمة والبرد
التى صارت مع العزم ، مع العلم
ضياء يزدرينا
وضراما من عتوِّ
يحتوينا
ومبيدا عبقريا لإرادات الذباب
كل أنواع الذباب
العربى اللاصقة
(1/506)
وهو هجاء يكشف عن بصيرة صافية لا تجرى مع أوهام الواهمين من أفواج هذا الذباب الذى يخادع نفسه متبرئا من المسؤولية ملقيا بأوزارها جميعا على كاهل الحكام ظانا أنه بذلك قد تخلص من الذنب ، مع أنه هو المسؤول الأول عن هذا الهوان المدمر الذى هو فيه . فالحكام إذا كانوا يمالئون القوى الكبرى حرصا على كراسيهم ومصالحهم ، فماذا فعلت الشعوب دفاعا عن وجودها كله لا الكراسى فقط ؟ وإذا كان من السهل رمى الحكام بالجبن أمام العدو والتسليم له بكل ما يمليه عليهم ، فأسهل من ذلك وأعدل رمى الشعوب بالجبن والمذلة أمام حكامها . ولا أحد إذن أحسن من أحد ، فالكل مدين ، والكل مجرّم . لقد بَحّت أصوات العقلاء فى محاربة ذلك الوهم الذى يعشش فى رؤوس الجماهير ويسول لها إلقاء المسؤولية كلها على رؤوس الحكومات ، مدّعيةً البراءة والبكارة ، وخالعةً على حكامها صورة الشياطين، وهى فى الحقيقة أعرق منهم فى الشيطنة والجبن والتفريط فى المصلحة والكرامة والحقوق ، فكان يقال : وماذا تستطيع الشعوب أن تفعل ، وهى ترسف فى أغلال القهر والعسف والاستبداد؟ وتجىء الإجابة باترة كالسيف أن الحكام هم أيضا يرسفون فى أغلال القهر والعسف والاستبداد التى تغلهم بها القوى المعادية للعرب والمسلمين . وإذن فإما أن نبرئ الجميع ، وإما أن ندين الجميع ، والإدانة هى الحُكم العادل ، وإلا فليس هناك مكان تحت الشمس لشىء اسمه الحرية والرجولة والكرامة : كرامة الفرد، وكرامة الشعوب جميعا، تلك الكرامة التى تبعث الأمم إلى التضحية وتهيب بها إلى الكفاح والصبر على لأوائه وضريبته الباهظة ، تلك الكرامة التى تميز شخصا عن شخص ، وجماعة عن أخرى . فلتنظر امة العرب والمسلمين أين تحب أن تكون ، ولتختر ما تراه لائقًا بها ، ولتكن على ذُكْرٍ من أن هناك أمما أخرى كانت تعيش فى ظلام دامس ودخان كثيف خانق من العسف والبطش والترويع ، ورغم ذلك استطاعت أن تتخلص من هذا كله بالإيمان بنفسها(1/507)
وحقها فى الحياة العزيزة الحرة التى تليق ببنى الإنسان ، ومنها أمم الغرب التى كانت حكوماتها قبلاً مثالا رهيبا للقسوة والتجبر والتعذيب والتقتيل ، ولم يحل ذلك كله دون حصولها على الحرية والأمان والكرامة والرفاهية والتحضر . وهاهو ذا الشاعر يدين الأمة كلها حكاما ومحكومين ، ولا يجرى فى دنيا الأوهام مع الواهمين . يقول مخاطبا طفل الحجارة ورفاقه المغاوير فى فلسطين أرض البطولات :
لم بالثورة ضد الغاصب العبرى
أحرجت عروشا ورُتَب
وجيوشا تتهادى
فى عروض للّعب
وأطرت النوم من أعين
سادات العرب؟
أولم يجتمعوا كى يبحثوا
أين المفر
من نداءات المروءة
وقلوب تستعر؟
أولم يلقوا إلى أمك
ما يكفى من المال
لنعش أو كفن ؟
ما الذى ترجوه منا
من ملايين العرب؟
أو لم نخبرك أن الساحر العبرى
قد ألقى عصاه بيننا
وعلت زمجرة الدولار
فى أسماعنا
فإذا كل الذى نحشده
من عدة الحرب حجارة
وقوى النجدة ، بل كل الخطى
نحوك شلّت
واستحالت لحجارة ؟
ففى هذا النص ، كما هو واضح جلى ، نراه يدين الحكومات والشعوب معا : فأما الحكام فقد رمز لهم بـ " العروش والرتب ، والجيوش التى تتهادى فى عروض اللعب ، وسادات العرب " ، وأما المحكومون فهم الملايين الذين سحرهم العدو الصليبهيونى بعصاه ودولاره ، فبطل ما كانوا يعملون ، واستحالت جميع إمكاناتهم البشرية والسياسية والاقتصادية والعقلية صفرا بحيث لم يعد هناك إلا الحجارة . ويا ليتهم هم الذين يستعملون هذه الحجارة فى قذف العدو ! بل القاذف هو الطفل الفلسطينى الأشم الذى لم تزايله النخوة والرجولة ، ولا تزال الدماء الملتهبة تتوثب فى عروقه على عكس دمائهم المتخثرة بل المتجمدة!
وفى واحد من أطفال الحجارة الأشاوس اسمه فارس عودة دأب على مواجهة دبابات بنى صهيون الغاصبين القتلة بحجارته حتى استُشهِد بقذيفة دبابة منها ينظم شاعرنا قصيدة كاملة عنوانها " الغلام والدبابة " يصفه فيها بأنه :
فارس لم يعرف الخيل
(1/508)
ولا ليل التغنى
بالأغانى العنترية
وأنه إذا كان قد مات فى حساب الأجساد البالية فإنه لم يمت فى حساب البطولة الخالدة .ألم يقل القرآن الكريم إن الشهداء" أحياء عند ربهم يُرْزََقون " ؟ :
ومضى الفارس
فى عرس الدم البكر شهيدا
خارج الأيام والأجسام
روحا وضياء عبقريا
لا يموت
وهذه الصورة الوضاءة بعبقرية العزة والإيمان والتضحية والشهادة تقابلها صورة أخرى لسائر العرب فى قصيدة "المزاد"، التى تصور إجراءات بيع القدس فى مزاد علنى حضرته الجموع العربية من حاكمين ومحكومين وهم يقعقعون بالكلام العنترى المدمدم مقسمين بأغلظ الأيمان إنهم لجاهزون لفدائها بأرواحهم ، لكن حين جد الجد تبخرت كل هاتيك القعقعات المجلجلة ، ولم يستطع أى واحد منهم أن يكون رجلا عند كلمته :
فُتِح المزاد ، فمن يزايد ؟
والقدس فى ثوب الشهادة تصطبر:
من يشترى شرفا ؟
ومن بقيت بجعبته دماء مروءة
أو ومض ذكرى من إباء؟
هبوا جميعا فى صهيلٍ
كالجواد العنترى المقتحم
وتناثرت حمم من الأفواه
فى سوق الكلامِ
تسوقها ريح الزمانِ
إلى العدم
...
والقدس فى ثوب الشهادة تصطبر
وجميع سكان القبيلة فى عكاظٍ يصخبونَ
ويصخبونَ
ويملأون صدورهم
بهواء أمجاد القرون
وأتى أوان الجد
فانتحر الكلام على الشفاهِ
وشلت الأقدام والأيدى
وطؤطئت الرؤوس
على الصدور الواجفة
وانفض سامرهم
يجر العجز أذيالا وأذيالا
بطول ألوف أميالٍ
من الأرض الغريرة
حين تحسب فى جموع القاطنين بها
أناسا فى قلوبهمو
بصيص من حياة
وحجارة الأطفال ترجم خزيهم
وضمائرا ضُبِطت مع الدولار
فى وكر السلام الجاهلى
بلا رداء
(1/509)
وقد بلغ من سخط الشاعر على أمته ، واشمئزازه وخزيه وعاره منها ، أن صوّرها وقد سجدت بل جمدت على وضع السجود ، لا للمولى سبحانه ، بل لأعدائها الذين يُعْمِلون فى رقبتها سكين الذبح الإجرامى . ثم هى فوق ذلك قد هجرت كتاب ربها ، كتاب العز والسؤدد ، وعكفت بدلا منه على كتاب الذل . وعوضا عن أن ترفع رأسها للسماء تدعو رب الكون أخذت تتلو صلواتها للمحتل واضعة هاماتها تحت نعاله . يقول فى القصيدة المسماة :"من حفائر الهم العربى" :
والأمة العصماء قد جمدت
على وضع السجود
تتلو كتاب الذل
والهامات تحت النعل
والصلوات للمحتل
تتلوها كما الديدان
أكواما على رأس الشهيد
إنها ، كما تصورها الأبيات ، أمة من الديدان المتكومة على رؤوس الشهداء. وفى قصيدة " الذباب " يصفها بأنها :
من أنا ؟ ما أمتى
يا ملايين الذباب العربى اللاصقة ؟
إنه حقا لصمغ عربى وأصيل
كامن فينا كما الداء الوبيل
مذ هوينا بالملايين ذبابا
بعضنا حط على القار
وفى الآبار مسحورا
إلى الأعماق
فى ظلمة أوهامِ
ثراءٍ
ورضاءٍ ونعيمٍ
طحلبىّ
ساخت الأقدام فيه
بالذباب العربى
فى تباه ٍجاهلى
بسجايا كالعطن
وفى قصيدة ثالثة يؤكد أن الأمة ليست أكثر من " كلاب حراسة " تسهر على رعاية مصالح عدوها متفانية فى مرضاته واضعة تحت تصرفه كل ما تملك من ثروات بشرية واقتصادية ، وهو الذى لا يضع نصب عينيه إلا غاية واحدة هى تقتيلها وإفناؤها من فوق وجه الأرض (من قصيدة " الحراسة الرشيدة " ) :
حسب الكلاب مهنة الحراسة
حتى على مداخل السياسة
ولا يهم من يكون السيد المهاب
ليس الفضول من طبائع الكلاب
فهمّها أن تتقن المهمة
لترتقى مراتب العمالة
وتصبح الأغلى من السلالة
خيالها مقيدٌ بعظمةٍ
من أجلها تعانق الصعاب
وتغلق العيون والأنوف والسرائر
عن كل ما يُزيغها عن خدمة المخافر
فلا ترى مصارع الأطفال والنساء
ولا تشم الموت فى ارتجافة الرياحِ
إذ تفر من ضراوة المجازر
(1/510)
وتنبح الكلاب للهدوء كى يسود
ولو بدفن الحق والضياء فى الحفائر
أما فى قصيدة " فى ذكرى قانا " فيجعل منها مجرد أصنام :
نزل التاريخ من عليائه
...
فرأى أطنان شجب وعويل
تحت أقدام السنين
خلصت صفرا كبيرا
ملء صندوق القمامة
ورأى الجزار يختالُ
بلا أدنى ملامة
رافعا نجمة صهيون
على الآفاق تزهو
فى سماء تحتها الأصنامُ
فى الألقاب تغفو
ليعود فى قصيدة " استقل يا عمرو موسى " فيمسخها جرذانا تلعق الأقدام ، وتعبد الأصنام من كل النحل : من العجل الإسرائيلى إلى الهُبَل الأمريكى ... إلى آخر قائمة الأصنام التى تجثو أمامها وتخدمها وتعبدها من دون الله .
وفى قصيدة " الخدود الصدئة " يصورها وأكفّ الأوغاد من كل أشتات الأرض تنهال بالصفع المذل المهين على وجهها الذى بلغ من جموده وتبلده أن تراكم عليه الصدأ طبقات ، فلا إحساس ولا كرامة ولا نخوة حتى لتمد أيديها إلى هؤلاء الصافعين تصافحهم فى وداد :
على خدودنا تراكم الصدأ
على شفاهنا تحجرت
على الذل ابتسامة
وكل كف فى شتات الأرض
نالت حظها البهيج من خدودنا
حتى تزاحمت على خدودنا
الأكف
وكل كف سجلت
على خدودنا علامة
ونحن فى ابتسام ٍ، فى كلام
والأيادى لا نمدها للسيف
بل كيما تلاقى فى وداد
كف وغد من عتاة الصافعين
مستعرضين عرينا
من كل أثواب الكرامة
مهللين فى خنوعنا الفصيح
ويبدو أن ذلك كله لم يشف غليل الشاعر من أمته التى لم تعد تظهر عليها أية علامة من علامات الحياة ، فضلا عن أية بادرة من بوادر الكرامة ، إذ ينبئنا فى قصيدة " بشرى " أنها ستُبْعَث يوم القيامة " مسخا قميئا ، ونعلا وطيئا " للمسيح الكذوب الأمريكانى الذى طالما سجدت له فى الدنيا دون رب العالمين. إنه لهجاء يحرك الجماد ، لكن الأمة فيما يبدو قد تخطت مرحلة الجمادية إلى ... إلى ماذا ؟ والله لا أدرى .
(1/511)
ولا يكتفى الشاعر بهذا الهجاء الحقيق بأن يشعل اللهيب فى قلب الحجر ، بل يضيف إليه التوسل ، التوسل بكل شىء : بالقرآن والإنجيل ، وبتراب الأوطان الذى ضمّخه عَرَق الرسل، وبدموع الأيتام والثكالى ودماء الشهداء الزكية ، التوسل للحكام والمحكومين والأمجاد الضائعة والشرف المهدر أن تحركوا يا عرب وكونوا رجالا ولو لمرة واحدة ( من قصيدة " رسالة بدمع الأرض المأسورة " ) :
أتوسل باسم تراب حر
صانته همم الأجداد
وضمّخه عَرَق الرسل العطرىّ
وأمجاد الأبطال الغُرّ
وأزكى ما نزفته الإنسانية
من دمع ودماء
أتوسل باسم عيون ملا يين
الوطن العربى المقهورة
أتوسل باسم عذابات الثكلى
ودم الشهداء المهدرِ
فى بالوعات الكلمات الجوفاءِ
الحيرى بين الساسة
أتوسل بالقرآن وبالإنجيل
وكل معانى الطهر المهجورة
أتوسل للحكام وللأجنادِ
وللأمجاد المطمورة
أتوسل للشرف المخنوقِ
لكى يتفجر بركانا
من بين ركام الخزى
ليكتسح العجز المتربع
فوق البر ، وفوق البحر
وفوق إرادات الشمم العربىِّ
المأسورة
أتوسل للشمس العربية
أن تتذكر أيام الإشراقِ
وأن علاها لم يبزغ يوما من أرض الغرب
ولكن من شرق الإقدام
ورايات العزم الدفاق المنصورة
أتوسل بالدم أن يتوثب
فى الشريان
وللوجدان لكى يتحرر
من رق الإدمان
لرقم الصفر الساقط
من شجر الأيام
وكل حسابات العدم الشلاء
وسائر إنجازات الوهم
وأن يستيقظ من إغماءٍ
طال عقودا ، وعقودا
...
أتوسل للعربى بكل مكان
أن يتذكر أن السيف
وليس الذلة
كان هو المتألق
يوم العسرة
فى كف الإيمان
(1/512)
ومن الواضح أن التوسل هو أيضا غير مجد، وإلا لأجدى الهجاء الكاوى الشاوى الذى صبه الشاعر على أمته. وعلى ذلك فلا أمل فى أن تثمر دعوته لعمرو موسى أمين الجامعة العربية الحالى بالاستقالة نأيا بـ " روحه الوثاب " من أن يتغشاه ضيق الحصار المضروب على العرب فى كل مكان ، وفى فلسطين الشماء على وجه الخصوص ، فها هو ذا عمرو موسى باقيا فى موقعه لم يستقل ، ولن يستقيل ، وهذه هى الجامعة العربية لا تزال على عجزها وخزيها القديم لا تهشّ ولا تنشّ . يقول شاعرنا من قصيدة " استقل يا عمرو موسى " :
استقل يا عمرو موسى
وانج بالإسم الكريم
استقل يا سيدى المرموق
من ضيق الحصار
يتغشّى روحك الوثاب
فى عصر لئيم
استقل ، يا ليتنى
يا ليت كل القابضين الجمرَ
جمر الحق، جمر العزة الشماء
والإعلاء للإنسان والأوطان
يَلْقَوْن ، ولو فى الحلم الكاذبِ،
أرضا غير هذا الكوكب المسكونِ
بالطاغوت يزنى بالضمائر
...
استقل يا عمرو
فالأرض الكسيحة
من خليج لمحيط
لم تعد أرض العروبة
لم تعد أرضا لعمرو أو لخالد
أو لزيد أو لطارق
لم يعد فيها مكان شامخٌ
يجدر أن يسكنه ذاك الزمان
لم بعد فيها مكان هانئٌ
غير للجرذان تخدم
غير للجرذان تجثو
تفتدى كل البغال الغازية
تلعق الأقدام من كل النحل
تعبد الأصنام
ويلجأ الشاعر ، ضمن ما يلجأ إليه من وسائل لإيقاظ كرامة الأمة ، إلى سلاح التهكم والسخرية : فتحت عنوان " الحل السعيد " تطالعنا هذه السطور :
وضح الحل ، وصار الرأى
ما قال به شارونُ
واهتزت له أعطاف بوش ٍطربا
فى زفاف أطرقت فيه
رؤوس الرأى فينا
مثلما يُطْلَب من كل عروسٍ
ليس ذلا ، بل حياءً، أدبا
ما لهم والقدس
والرحمن قد باركها
وهو أولى أن يقيها العطبا ؟
ومثلها قصيدة " بشرى " ، التى يزف فيها البشرى للعرب بأن كل مشاكلهم قد حُلّت، وكل معاناتهم قد ذهبت إلى غير رجعة . لكن كيف ؟ لنسمع هذه الكلمات :
ألا ألف بشرى لنا
يا عرب
وليس لنا بعدها من أرب
(1/513)
حصلنا على حقنا كاملا
من الموت من قبل أن نُحْتَضَر
...
وقمنا بفضل الخنوع
الأبىّ على أى روشتة للعلاجِ
بتحرير أيامنا والعروبةِ
من نير عبء التطلعِ
نحو غد لائق بالبشر
نواجه أيامنا بالهروبِ
إلى خارج الحاضر المنفجر
ولكن موج الخطوب الدءوب
يسد علينا جميع الدروب
فنجثو أسارى المصير الكسيحِ
المسطر فى لوحة البنتجون المهيبِ
وننسى جلالة رب الغيوب
ونرسب فى الامتحان الأريب
...
ولكنّ ماذا يهم
وهذى الرؤوس الفخيمةُ
فى نومها المفتخر
وكل الحناجر من حولها
تسبح بالحمد عند الغروب ؟
وعند الغروب ؟
فليس لنا مشرق منتظر
ولكن رغم كل هذه القتامة التى يتلبد بها الأفق حول الشاعر، وحولنا نحن أيضا فى الواقع، فإن ثمة أملا لا يزال مضيئا فى حنيّة من حنايا قلبه ، أملا لا فى حاضر الأمة الكئيب المدلهم ، بل فى المستقبل : ففى ختام قصيدة " شوكة العقرب لن تصبح وردة " نراه يؤكد أنه :
... فى التربة الخمرية العذراءِ
فى أعماقنا
تبقى بذور نابضات لا تموت
تنبت الصدق ، تنادى :
شوكة العقرب مهما خاتلوا الأيامَ
لن تصبح وردة
شوكة العقرب لن تصبح وردة
بما يعنى أن العرب والمسلمين ، وإن لم يكونوا قادرين على استرداد حقهم الآن، فإنهم بإيمانهم بهذا الحق وتأبيهم على الانخداع بما يأفك به الأعداء عن حق الصهاينة فى فلسطين وأنهم إنما يَنشُدون السلام مع العرب والعيش الآمن بين ظهرانيهم ، سوف يستردون حقهم يوما من الأيام . إنه لا يرى أى أمل فى الحاضر بل فى المستقبل . وهذا الأمل إنما تصنعه تلك الفئة القليلة النبيلة التى لم تنبطح فى الطين مع المنبطحين، بل لا تزال تحمل السلاح ، وتنتهج سنة الكفاح، ولا تعرف إلا لغة التضحية والشهادة كما تقول قصيدة " البالوعة " :
آها يا أبناء الصدق المطلول
ويا دوح الزيتون الصامد
آها يا أنفاس النخل
المترفع بالألم الخلاق
عن الوحل المترجرج
...
من لى يا أبناء الغضب العربىّ
بفيض طهارتكم
(1/514)
وحجارتكم
ينهال على الفكر المسكون
بداء العجز
كى يغسل عنه الرجس
وينضو وجه عروبتنا
كى يشرق شمسا منتصرة ؟
وفى قصيدة " أبو ديس والتدليس " نقرأ :
وعلى آفاق الغيب عباب
من عزم عربى يولد
تحت ركام العسف ، وفى رحم المحنة
يُستخلَص فيه من العرب الأكذوبة
جيلُ الصدق يرابط فى غُرَر الأيام
وعروبته تتخندق فى ناموس الكون
وفى مجرى نهر الأزمان
وغدًا ستراه الأنجمُ
جيلا من همم يتدفق عزما
يكتسح القاموس الزائف
والإفك الممهور بإمضاءات المرتجفين
ليظهر تحت طلاء القهر
نقاء الطهر بكل ضمير
كما أنه فى قصيدة " إليهم " ، أى إلى الأمريكان الذين أطاش عقولهم غرور القوة والجبروت فلم يراعوا عدلا ولم يرحموا ضعيفا ولم يبالوا بحق أو صاحب حق بل أخذوا يبطشون بطشا إجراميا بالأوطان والأمم ، نراه يذكّرهم بأنهم إذا كانوا يبطشون اليوم بالبلاد والعباد فإن للكون ربا أشد بطشا وأشد تنكيلا ، ولسوف يذيقهم من ذات الكأس التى أذاقها على مدى التاريخ كل جبار عنيد :
وإن سألتم : ما الحساب ؟
فلن أحدثكم عن الأخرى
ولكن قلّبوا الأبصار فى التاريخِ
كم عصفت رؤاهُ
بكل من جثموا عليها
فانتهوْا فى القاعِ
يزدردون أيام الصعود
ولسوف تغرقكم بحار الدهر يوما
ثم لا تجدون مرفأ نجدة
فى أى ركن فى الزمان
فما فعلتم بالزمان وبالمكان
من الأفاعيل " الذكية " والغبيةِ
لم يدع جسرا بأية مهجة
من أجلكم
وتهكموا يا نسل فاوست القديم
إن لم تكونوا تؤمنون
ببطشة الرحمن بالطاغوت
يكفى ما علمتم عن أفاعيل الليالى
فى الدُّنا علم اليقين
كذلك فإنه لا يفقد الأمل فى أن تكون لكلماته ، أو بالأحرى : صرخاته ، أثر يوما من الأيام ، فهى بذور يلقيها فى التربة مطمئنا أنه إذا كان الآن جدبٌ وجفافٌ فلسوف يهطل الغيث عليها يوما فتستحيل نباتا أخضر ريان . يقول فى قصيدة "الصرخة والفعل " :
أنا لست اليوم سوى صرخة
وجميع حصادى
منذ وُلِدتُ إلى السبعين
تحوصل فى هذى الصرخة
(1/515)
وتفجر فى هذى الصرخة
...
فليأتمر اليوم القادة
وليمضوا ما شاء السادة
لكن الصرخة ولاّدة
...
وستصحو كل كراسينا
وسنرفع كل مراسينا
ونخوض بحار العزم
إلى التحرير من الطاغوت
الجاثم بالعبرية
فوق أمانينا وأغانينا
وسنبطل سحرا طال
ونشعل نار العزم
من الصرخة
ولكن كيف يتحقق هذا الأمل ؟ إن شاعرنا لا يلمس هذه النقطة ، لكننا نستطيع القول مطمئنين إنه كلما تحركت الشعوب ولم تدع الغيارى من المصلحين والمفكرين والكتّاب يناضلون وحدهم دون أن تحمى ظهورهم وتصطف خلفهم وتناضل معهم وتعيش فى نفس الخندق الذى يعيشون كان تحقق الأمل أسرع وآكد . أما إذا استمر الوضع على ما هو عليه الآن من هبوب بعض الأفراد أو الجماعات منادين بالإصلاح والتغيير ومعرّضين أنفسهم لأخطار السجن والأذى والتضييق والقتل ، بينما جماهير الشعب غافلة عنهم غير شاعرة بوجودهم فضلا عن أن تبالى بهم، وإن شعرت بهم سخرت منهم ومن تطلعهم إلى الإصلاح متهمة إياهم بفقدان العقل ، فلن يتحقق حينئذ أمل ، ولن تشرق فى الغد شمس ! ويا ليت جموع الشعب تكتفى بإثم الصمت واللامبالاة فقط ، إذ الواقع أنها تشارك الحاكم المستبد فى عسفه وتنكيله بالداعين إلى الإصلاح متمثلة فى الشرطى الذى يعتقلهم ، والقاضى الذى يحكم عليهم بالحبس أو القتل ظلما وعدوانا ، والصحافى الذى يشنع عليهم ويفترى الأكاذيب ، والعيون التى تتجسس عليهم وتبلغ عنهم السلطات الظالمة ، والجيران الذين يقاطعونهم خوفا من أن يمسهم من وراء الاتصال بهم سوء ... إلخ ، فضلا عن أنها تعانى من ذات العيوب التى يعانى منها الحكام ، فالطرفان هما ثمرة التربة نفسها ، ولم يهبط الحكام من الفضاء الخارجى فى جنح الظلام بل نبتوا وترعرعوا فى نفس البيئة . ومن قديم قيل بحق : " كما تكونوا يُوَلَّ عليكم " !
(1/516)
هذا، ويستعين الشاعر على إبراز معانيه ومشاعره بوسائل مختلفة : منها التكثيف الموسيقى بقدر ما تسمح به قصيدة التفعيلة ، فكثيرا ما تتتالى السطور المتقافية مذكرة إيانا على نحوٍ ما بالقصيدة التقليدية . ومن ذلك قوله قى قصيدة " جزاء ورياء " :
ويصرخ النفاق فى السطور
لمصرع الشرور
...
فالموكب الفقيد
أهلّ فى السماء من بعيد
معربدا كنقمة بغير ما حدود
تعبئ الجحيم فى منمق الصُّرَر
لينزل الهلاك من مهابط المطر
بإخوة لنا وللإباء والشرف
تطهروا من لعنة الترف
ليعلنوا كرامة العرب
ويرفضوا قداسة الغرور والصلف
...
لتحصد ابتسامة الطفولة
وعزة الشباب والرجولة
...
وتخنق الصباح فى الصدور
وتغرس الحداد فى مباسم الزهور
...
لتلفظ الظلام
وتضرب اللئام باللئام
ويسقط الحطام
وقوله فى قصيدة " رمضان والإنسان " :
رمضان والشيشانُ
والجولان والإنسانْ
كم من شكايات بلا مأوى
فى عصرنا المغمور فى الطوفانْ
...
فهناك رأس تنهش الإنسان
رأس تنهش التاريخ
رأس تنهش الوجدان
رأس تنهش الأوطان
رأس تنهش الأقوات والآمال
والأفراح ، بل وحرارة الأحزانْ
ويمر مخذولا بنا رمضان
يُزْجِى ، حييًّا ، طاهر الغفران
وقوله فى قصيدة " بشرى " :
نواجه أيامنا بالهروب
إلى خارج الحاضر المنفجر
ولكن موج الخطوب الدءوب
يسد علينا جميع الدروب
فنجثو أسارى المصير الكسيحِ
المسطر فى لوحة البنتجون المهيب
وننسى جلالة رب الغيوب
ونرسب فى الامتحان الأريب
(1/517)
ولا يتوقف الأمر عند هذا الحد ، إذ تكثر القوافى الداخلية أيضا فى قصائد شاعرنا . إنه لا يكتفى بتتابع السطور المتقافية فى كثير من الحالات كما أوضحنا ، بل يضيف إلى القوافى التى تنتهى بها السطور قوافى أخرى فى داخل هذه السطور . وفى غير قليل من تلك الحالات نراه حريصا على أن تتلو الكلمتان المتقافيتان إحداهما الأخرى . وإلى القارئ بعضا من الشواهد على هذا الذى نقول : ففى قصيدة " المزاد " نقرأ : " ما الذى خلف البيارق والصواعق ...؟ " ، وفى قصيدة " الحل السعيد " : " فحتى من تماشَى وتحاشَى " ، وفى قصيدة " الحراسة الرشيدة " : " هناك فى حمى السواد والفساد " ، وفى قصيدة " الفحم البشرى " :
تلكم الكومة من أشلاءَ
من أحشاءَ ، من أثداءَ
هل كانت نساءَ ؟
وفى قصيدة " أصداء النكبة ": " سمعًا طوعًا يا جبار "... إلخ . وهذا كله علامة قوية على الحس الموسيقى المرهف لشاعرنا وحرصه على تكثيف النغم الموسيقى لقصائده مما يدل على أن النزعة الموسيقية التى تميز الأذن الشعرية العربية لا تزال على أشدها لديه رغم لجوئه إلى الشكل التفعيلى الذى يراد به عند طائفة من الشعراء إحداث قطيعة مع الشكل التقليدى بموسيقيته الثرية .
(1/518)
كما نجده ، بدافع من ذات الرغبة فى تأكيد ما يريد قوله ، يلجأ إلى تلك الأداة البلاغية التى لم ولن تفقد مقدرتها الساحرة على الاستيلاء على عقل القارئ وقلبه ، ألا وهى التكرار لكلمة أو عبارة أو جملة أو حتى سطر بأكمله يتخذ منه " قرارا " يسند إليه مهمة تذكيرنا بالقضية أو الفكرة الرئيسية التى تشغله وتلح على وجدانه ويريد لها أن تشغلنا وتلح على وجداننا نحن أيضا، كجملة " والقدس فى ثوب الشهادة تنتظر " التى كررها خمس مرات على مسافات متقاربة فى الثلثين الأولين من قصيدة " المزاد " ، وكما هو الحال أيضا فى قصيدة "استقل يا عمرو موسى" التى كرر فيها مطالبته لأمين الجامعة العربية بالاستقالة من منصبه ست مرات ، كل مرة بأسلوب مختلف ، وبإضافات جديدة ، مما يجعل التكرار تكرارا وتنويعا فى نفس الوقت ، فكأنه تكرار ولا تكرار، وهو ما من شأنه إغناء تلك الأداة البلاغية المعروفة والعبور بها فوق حدودها القديمة إلى آفاق أرحب :
استقل يا عمرو موسى
وانج بالإسم الكريم
استقل يا سيدى المرموقَ
من ضيق الحصار
...
استقل ، يا ليتنى
يا ليت كل القابضين الجمرَ
...
يَلْقَوْن ، ولو فى الحلم الكاذب ،
أرضا غير هذا الكوكب المسكونِ
بالطاغوت يزنى بالضمائر
...
استقل ، يا ليتنى
يا ليت كل الشرفاء
يستقيلون جميعا
من صباح ينقل التلفاز فيه
...
صور الأبطال والأطفال
أشلاء وصرعى
فى فلسطين الشهيدة
...
استقل يا عمرو
فالأرض الكسيحة
من خليج لمحيط
لم تعد أرض العروبة
...
استقل يا سيدى
واحفظ لنا وجه الخجل
ومثل ذلك قوله فى قصيدة " رسالة بدمع الأرض المأسورة ":
أتوسل باسم تراب حر
صانته همم الأجداد
...
أتوسل باسم عيون ملايينِ
الوطن العربى المقهورة
أتوسل باسم عذابات الثكلى
...
أتوسل بالقرآن وبالإنجيل
وكل معانى الطهر المهجورة
أتوسل للحكام وللأجناد
وللأمجاد المطمورة
...
أتوسل للشمس العربية
أن تتذكر أيام الإشراق
...
(1/519)
أتوسل للدم أن يتوثبَ
فى الشريانِ
وللوجدان لكى يتحررَ
من رق الإدمان
لرقم الصفر الساقطِ
من شجر الأيام
...
وأن يستيقظ من إغماء
طال عقودا تلو عقود
...
أتوسل للعربى بكل مكان
أن يتذكر أن السيف
وليس الذلة
كان هو المتألقَ
يوم العسرةِ
فى كف الإيمان
فانظر كيف كرر " التوسل " ثمانى مرات مع تنويعه فى نفس الوقت ، إذ جعله أربع مرات " توسلا بـ ... " وأربعا "توسلا إلى ..."، ومع تنويع الشىء المتوسل به أيضا فى المرات الأربع الأولى بحيث لا يكون هو هو أبدا ، وتنويع الشىء أو الشخص المتوسل إليه فى المرات الأربع الأخرى رغم أن المقصود هنا فى واقع الأمر شىء واحد : فالشمس العربية هى هى الدم الذى يريد له الشاعر أن يتوثب ، وهذا الدم هو هو الصفر الساقط من شجر الأيام ، وهذا الصفر هو هو العربى فى كل مكان . لكن الشاعر نوّع وخالف ، فكأنه يتوسل إلى شىء جديد فى كل مرة ، على حين أن التوسل فى جميع الأحوال هو لذلك العربى الذى غربت شمسه ودخلت فى ظلام من الذل والخنوع طويل فلا تريد أن تبزغ كرة أخرى ، والذى أصبح من عجزه بل من بلادته ورضاه بالخنوع واستعذابه للهوان واستزادته منه بمثابة دم بارد يزحف بطيئا فى العروق ، فيهيب به الشاعر أن يتلهب ويتوثب ، والذى انتهى به الأمر إلى أن أضحى صفرا ، أى عدما محضا! وفى هذا الأسلوب إغناء من نوع آخر لتلك الأداة البلاغية التقليدية يجعلها شيئا جديدا أو كالجديد .
(1/520)
ومن الوسائل التى استعملها الشاعر أيضا تنفيسًا عن غيظه وقهره ، ورغبةً منه فى إيقاظ أمته ، اللغةُ الواخزةُ التى تتحول فى بعض الأحيان إلى هجاء يسلخ الجلود : فعِرْض الأمة لا يعدل عند العدو الصهيوأمريكى عِرْض حشرة حقيرة ، ومع هذا نراها تمضى إلى حضن هذا العدو فى موكب عرس من العجز والهوان ( من قصيدة " الدم والبالوعة" ) . والأمة نفسها ليست إلا جرذانا جاثية عند أقدام العدو تلعقها ( من قصيدة "استقل يا عمرو موسى" ) ، أو ذبابا ملتصقا بالنفايات الغربية ( من قصيدة " الذباب " )، أو ديدانا متكومة على رأس الشهيد ( قصيدة "من حفائر الهم العربى ") . وأكفّ أوغاد الصافعين من كل أرجاء الأرض تنهال على وجهها فتمد يدها إلى أولئك العتاة تصافحهم فى ود ( قصيدة " الخدود الصدئة ") ... وهكذا . وشاعرنا إذ يفعل ذلك إنما يفعله من فرط حبه لأمته وتلظى قلبه غيرة على كرامتها ورغبة فى أن يراها حرة أبية ترفض الهوان وتتطلع إلى المعالى ، ولا تستسلم لسكين ذابحيها مسبحة بحمدهم مقبّلة أقدامهم . فهو كالأم التى من خيبة أملها فى ابنها تدعو عليه أن يفرمه قطار ، لكن قلبها يلعن من يؤمّن على هذا الدعاء !
(1/521)
كذلك يلفت النظر فى هذه القصائد ثراء العنصر التصويرى الذى يتكئ عليه شاعرنا بقوة لإبراز خطوط مأساة الأمة وحفرها فى قلوب قرائه بمسامير محمرة من اللهيب . وهذا العنصر التصويرى يقوم فى كثير من الأحيان على التوليد والتفريع ، حيث نجد أنفسنا فى البداية إزاء نبتة صغيرة نظن لأول وهلة أنها هى كل ما فى جعبة الشاعر ، إلا أن هذه النبتة الضئيلة سرعان ما تنمو وتستطيل وتتفرع ، فإذا هى شجرة باسقة حافلة بالأوراق والثمار والألوان والروائح والأظلال والأضواء . ولنأخذ مثالا على ذلك قصيدة " الذباب " ، التى تبدأ بإشارة سريعة وعارضة إلى عنوان مسرحية سارتر الشهيرة : " الذباب "، لننتقل عقيب ذلك إلى قول شاعرنا : " هكذا نحن على وجه الزمن " . بيد أنه لا يكتفى بهذا ، بل يكرر العبارة مرتين مع بعض التحوير فى كل منهما : " هكذا نحن على وجه العفن / هكذا نحن على وجه الحضارة ". ولو أن شاعرنا اكتفى بهذا لكان كافيا ، لكنه يمضى متسائلا : " ما الذى نعطيه للدنيا / سوى أن نتمطى ، نلتصق / ببقايا ، بنفايا / كل ما أبدعه الغربُ / ولو كان مبيدا للذباب / للعرب ؟ " . ومرة ثانية لا يكتفى الشاعر بهذا ، ولو اكتفى به لكان كافيا ، لكنه يعود إلى ذات الموضوع بعد أن ينفض لنا ما فى جعبة شعوره من هوان ويأس ، متسائلا هذه المرة أيضا لكنْ موجها سؤاله لا إلى أحد كما فى المرة السابقة بل لأمته ، التى يصفها بأنها " ذباب لاصق ". ومرة ثالثة لا يكتفى الشاعر بهذا ، ولو اكتفى به لكان كافيا ، لكنه ينتهز فرصة ذكر اللصق فيتذكر الصمغ العربى ، الذى يتحول على يديه من صمغ مادى إلى صمغ نفسى كامن فى طبيعتنا . إنه صمغ يلصق ملايين الذباب العربية بالقار والطحلب الذى تسوخ فيه أقدامها . ومرة رابعة لا يكتفى الشاعر بهذا ، ولو اكتفى به لكان كافيا، لكنه يمضى بعد أن يغوص فى أعماق النفس العربية معرّيا عوراتها فيتحدث عن روح الغرب المتوثبة المتحدية التى صارت بالعزم(1/522)
والعلم " ضياءً يزدرينا / وضراما من عتوٍّ يحتوينا " ، " ومبيدا عبقريا لإرادات الذباب " . ومرة خامسة لا يكتفى الشاعر بهذا ، ولو اكتفى به لكان كافيا ، لكنه يستمر قائلا : " كل أنواع الذباب العربى اللاصقة / كلها حطّ على وجه العسل " ، ثم يمدّ الصورة قائلا إن هذا الذباب " يتمطى فى تعالٍ واهمٍ / كلما أمعن فيه كلما زاد التصاقا / بالحضيض "، ثم يمدها مرة أخرى وأخيرة حاملة فى طيها مفاجأة صاعقة : لقد كان الذباب فى أثناء التصاقه " لاهيا عن بادرات النار / فى أطراف قيعان العسل " . فانظر كيف بدأت الصورة بإشارة سريعة عارضة إلى عنوان مسرحية سارتر ، ثم كيف تطورت فصورت التصاق ذلك الذباب بالصمغ ، ثم بالقار ، ثم بالطحلب ، ثم بالعسل ، ثم غَوْصه فيه وقد حاصرته النار من كل جانب ، بينما هو عاجز حتى عن مجرد الحركة !(1/523)
لمستشرق النمساوى محمد أسد (ليو بولد فايس) كما لا يعرفه الكثيرون
بقلم : د. إبراهيم عوض
ibrahim_awad9@yahoo.com
محمد أسد (1900- 1992م) صحفى نمساوى يهودى وُلِد بإقليم من أقاليم بولندا كان تابعا آنذاك للإمبراطورية النمساوية، وكان يسمى ليوبولد فايس. ثم دخل فى الإسلام سنة 1926م بعد أن رحل إلى الجزيرة العربية أيام الملك عبد العزيز آل سعود، ثم انتقل بعد ذلك إلى شبه القارة الهندية حيث توثقت بينه وبين العلامة إقبال عُرَى الصداقة، وظل يساعد فى إذكاء نهضة الإسلام فى تلك البلاد إلى أن انفصلت الباكستان عنها فانتقل إلى الإقامة فى الدولة المسلمة الجديدة واكتسب جنسيتها وأصبح مندوبها الدائم فى الأمم المتحدة حتى عام 1953م.
وقدتزوج أسد ثلاث مرات: أُولاها بإلزا، التى أسلمت معه ولكنها لم تُعَمَّر طويلا، فاقترن بامرأة عربية رُزِق منها ابنه الوحيد طلال الأستاذ بإحدى الجامعات الأمريكية ثم انفصل عنها، وأخيرا تزوج بولا حميدة الأمريكية التى أسلمت هى أيضا.
كما ترك أسد عدة كتب تُرْجِم بعضها إلى العربية: "الطريق إلى مكة"، و"الإسلام فى مفترق الطرق"، و"منهاج الحكم فى الإسلام"، وبعضها الآخر لم يترجم بعد إلى لغة الضاد حسب علمى، وهى ترجمته الإنجليزية للفرآن الكريم، واسمها: ”The Message of the Quran"، وترجمته لقسم من "صحيح البخارى" بعنوان "Sahih al-Bukhari _ The Early Years of Islam "، وبقية سيرته الذاتية، وعنوانها: "Coming Home of the Heart" ...إلخ.
(1/524)
والذين يعرفون أسد فى العالم العربى إنما يعرفونه فى الغالب من خلال كتبه المترجمة إلى العربية، وهذه الكتب ليس فيها تقريبا ما يمكن الاختلاف معه بسببه، لكن الأمر يختلف بالنسبة لترجمته للقرآن، وإلى حد ما بالنسبة لترجمته لـ"صحيح البخارى"، إذ نراه فى الأولى مثلا ينكر معجزات الأنبياء ويُجَوِّز عليهم الوقوع فى الأخطاء والخطايا، مثلهم فى ذلك مثل أى شخص آخر، كما يؤوّل الجن والشياطين والملائكة ونعيم الجنة وعذاب النار تأويلا رمزيا، فضلا عن أن له فى مجال الفقه آراء غريبة ليس من السهل هضمها أبدا، وهو ما يجهله قراؤه العرب وما يبدو الإسلام معه شيئا آخر غير الذى نعرف.
وكل ما أرجوه ألا أكون قد ظلمت الرجل أو أسأت إليه، فلقد كنت شديد الانبهار بقصة إسلامه وكتاباته المترجمة إلى لغتنا، إلى أن اطَّلَعْتُ على ترجمته للفرآن الكريم ووجدت فيها تلك الآراء الغريبة فخفَّ انبهارى وحَلَّتْ محلَّه نظرة نقدية تريد وضع الأمور فى نصابها الصحيح مبتغية بذلك وجه الله وحده، وهو نعم المولى ونعم النصير! وسوف أبدأ بدراسة هذه الترجمة لأنها تتضمن آراء أسد التى لا يعرفها جمهور قرائه العرب، وستكون أولى خطواتنا فى هذه الدراسة هى تناول الناحية الفنية فى الترجمة، أما آراء كاتبنا الغريبة فيجدها القارئ فى هوامش هذه الترجمة، وسوف نتعرض لها لاحقا بعد الانتهاء من الناحية الفنية
_ ترجمة أسد للقرآن الكريم
(1/525)
صدرت ترجمة محمد أسد للقرآن الكريم إلى اللغة الإنجليزية عام 1980 م عن "دار الأندلس" بجبل طارق، وكانت قد صدرت طبعة محدودة تضم السُّوَر التسع الأولى قبل ذلك بستة عشر عاما. وتقع الترجمة الكاملة فى ألف صفحة من الصفحات الكبار، ويشغل الجزءَ العلوىَّ من كل صفحة النصُّ القرآنى فى الناحية اليمنى، وترجمته الإنجليزية على اليسار، أما الجزء السفلىّ فيضم الهوامش التفسيرية والتعليقات الفنية الخاصة بعملية الترجمة...إلخ. وفى بداية كل سورة يطالع القارئ تمهيدا يتحدث عن تاريخ نزولها والموضوعات التى تتعرض لها وما إلى ذلك.
ولا شك أن ترجمة مثل هذه تحتاج إلى دراسة علمية مفصلة تليق بها وبصاحبها، ولست أعلم أحدا نهض بهذا العبء من قبل. وكنت قد رأيت نسخة من هذا الكتاب لأول مرة فى لندن فى إحدى المكتبات التى تبيع الكتب العربية والإسلامية عام 1981م، ثم وجدت نسخة أخرى فى مكتبة كلية التربية بالطائف عام 1991م واستعنت بها فى كتابى عن سورة "الرعد"، ثم لما عدت إلى مصر شرعت أبحث عنها فعثرت على نسخة منها فى مكتبة جامعة القاهرة صوَّرْتُها وأنا فى غاية الانشراح، وهذه الصورة هى التى اعتمدتُ عليها فى دراستى لسورة "المائدة"، التى خالفت فيها أسد فى بعض ما قاله عن عقوبة الحرابة. وهأنذا أجد فى الدوحة نسخة أخرى سهّل لى استعارتها من وزارة الأوقاف القطرية الأستاذ أحمد الصِّدّيق الشاعر الإسلامى المعروف، فله أجزل الشكر على هذه المعاونة القيمة، وهى النسخة التى اعتمدت عليها فى وضع هذه الدراسة. وبالمناسبة فقد وجدت، بعد أن انتهيت من تأليفها، نسخةً أخرى هنا فى مكتبةٍ يملكها رجل باكستانى، فاشتريتها.
(1/526)
وقد لاحظت أن أسد، على طول ترجمته كلها، لم يسمّ قط رب العزة باسم "الله" مُؤْثِرًا استعمال كلمة "God"، ولا أدرى السر فى ذلك. وهو نفسه ما فعله فى ترجمته لـ"صحيح البخارى". إن كلمة "الله" هى اسمُ عَلَم، وأسماء الأعلام لا تتغير فى الترجمة، بل تبقى على حالها كما هو معروف. وإذا كان سافارى وبيرك مثلا فى ترجمتيهما للقرآن إلى الفرنسية قد صنعا مثل هذا فمن السهل أن يُفَسَّر ذلك بأنه كراهية منهما لهذا الاسم الكريم الذى يُعْرَف به المولى فى دين محمد. لكن ماذا عن أسد نفسه الذى ترك دينه وأسماء الإله فيه إلى الإسلام وإلهه؟ ترى لماذا تخلى بتلك البساطة عن هذه الخصوصية الإسلامية الجميلة؟
(1/527)
ونراه أيضا يترجم "الهجرة" فى الأغلبية الساحقة من المرات بـ"Exodus"، وهى الكلمة التى ارتبطت بتاريخ اليهود وخروجهم جميعا دفعة واحدة من مصر(1). لقد تحولت اللفظة العربية إلى اسمِ عَلَم تقريبا، بل لقد دخلت اللغات الأوربية كما هى دون تغيير مع كتابة حرفها الأول "H" بالحجم الكبير دلالة على أنها تُعامَل فى تلك اللغات على أنها عَلَم من الأعلام. لقد انسلخ كاتبنا عن دينه، فلماذا يهجر الكلمة العربية المسلمة إلى تلك اللفظة الأجنبية ذات الإيحاءات اليهودية؟ ولقد انتقدتُ جاك بيرك لنفس السبب فى كتابى الذى وقفته على دراسة ترجمته الفرنسية للقرآن الكريم(2)، وأحسب أن الأستاذ أسد أولى بالعتب من بيرك لأنه مسلم، أما بيرك فلا. ومما ترجم به كاتبنا أيضا مصطلحَ "الهجرة" كلمةُ "flight: الفرار"(3)، وهى ترجمة خاطئة، بل لا إخال أننى أتجنى عليه إذا قلت إنها مسيئة فى حق الرسول عليه السلام. إن من المقبول أن يصف مثلا خروج موسى عليه السلام من مصر، بعد وَكْزه المصرىَّ وقضائه عليه، بأنه "فرار"(4) لأن القرآن الكريم نفسه يقول على لسان ذلك الرسول الكريم فى حديثه إلى فرعون بعد أن عاد إلى أرض الكِنَانَة محمَّلا برسالة السماء: "ففررت منكم لمّا خفتكم"(5). وفوق هذا فإن هذا الفرار إنما كان قبل بعثته، ولذلك لم يعقب الله سبحانه على تصرفه هذا بشىء، على عكس الحال فى قصة يونس عليه السلام حين أَبَق من قومه لعنادهم وتصلبهم فى الكفر، فركب سفينة لترسو عليه القرعة ويلقى بنفسه فى البحر من ثم فيبتلعه الحوت حيث يقاسى فى بطنه الأهوال إلى أن كتب الله له الفرج(6). أما تسمية الهجرة المحمدية "فرارا" فهى، فى الواقع، خطأٌ صُراحٌ وإساءة لا تصح. وإذا كان بعض المستشرقين من غير المسلمين يستعملون هذه اللفظة لقد كان أَقْمَنَ بأسد اختطاطُ سبيلٍ أخرى، وعنده مندوحة عريضة فى كلمة "Hegira" التى دخلت قاموس اللغة الإنجليزية وأصبحت جزءا لا يتجزأ منها. إن(1/528)
محمدا عليه الصلاة والسلام لم يهاجر من مكة إلا بإذن إلهى، فكيف تُسَمَّى هجرته "فرارا"؟ ثم إن أسد نفسه يقول إن لفظة "الهجرة" هى من الألفاظ ذات الإيحاءات الروحية، فبأى معنى طاوعته نفسه إذن لترجمتها بـ"الفرار"، مُنْزِلاً إياها من أعلى عِلِّيّين إلى أسفل سافلين؟
وقد ترجم كاتبنا أيضا عبارة "مِنْ خِلاف" فى قوله تعالى: "إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويَسْعَوْن فى الأرض فسادا أن يُقَتَّلوا أو يُصَلّبوا أو تُقَطَّع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو يُنْفَوْا من الأرض"(7)، وكذلك فى قوله سبحانه على لسان فرعون يهدّد سَحَرَته بعد انقلابهم عليه وإيمانهم بموسى: "(فـ)ـلأُقَطِّعَنَّ أيديَكم وأرجلَكم من خلاف"(8) بـ"because of (in result of) your perversness "(9)، أى بسبب الإفساد (الناشئ عن الخلاف والعصيان)، مخالفا بذلك ما قاله علماء المسلمين من أن المقصود هو قطع اليد اليمنى والقدم اليسرى، أى من جهتين مختلفتين.
(1/529)
والحق إنه لمن الصعب جدا موافقة الأستاذ أسد على هذه الترجمة، إذ من غير المعقول أن يفهم، وهو الأجنبى وبعد كل هاتيك القرون، تعبيرا عربيا قديما أفضل مما فهمه كل المفسرين والفقهاء المسلمين تقريبا. وأيضا من الصعب جدا أن تكون عبارة "من خلاف" إشارة إلى علة تقطيع أيدى المفسدين الخارجين وأرجلهم، والسبب هو أن تلك العلة قد نُصَّ عليها قبل ذلك فى كل الآيات المذكورة: ففى آيات "المائدة" نقرأ فى أولها: "إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويَسْعَوْن فى الأرض فسادا..."، فالعلة إذن هى محاربة الله ورسوله والسعى فى الأرض فسادًا، فلماذا يعاد النص على تلك العلة بعد ذلك على هذا النحو الغامض بعبارة "من خلاف"؟ أما فى الآية الخاصة بفرعون فإننا نسمعه يقول للسَّحَرة: "آمنتم له قبل أن آذَنَ لكم؟ إن هذا لَمَكْرٌ مَكَرْتموه بالمدينة لتُخْرِجوا منها أهلها". وواضح أنه يشير إلى العلة التى أوجبت فى نظره تقطيع أيديهم وأرجلهم وتصليبهم فى جذوع النخل، ألا وهى مَكْرُهم لإخراج أهل المدينة منها. كذلك لو كانت عبارة "من خلاف" تشير إلى سبب التعذيب فلماذا لم تُذْكَر إلا عقب الصنف الأول منه فقط، ولم تؤخَّر إلى ما بعد الفراغ من ذكر كل ألوانه ما دامت هى علة هذه الضروب العقابية جميعا؟ ثم إننا لم نسمع باستخدام هذا التعبير فى المعنى المذكور، ولو كان هناك شاهد من النصوص القديمة عليه فلماذا لم يَسُقه المترجم؟ الواقع أن الذوق العربى لا يرتاح إلى مثل ذلك التوجيه، والواقع أيضا أن أسد قد اعتسف هذا التفسير أَوّلاً فى سورة "المائدة" لِيَخْلُص منه إلى إلغاء عقوبة الحرابة على ما سوف يأتى بيانه فى فصلٍ لاحق، ثم اضْطُرَّ أن يقول به فى آية فرعون والسَّحَرة حتى لا يناقض نفسه. هذا هو تفسيرى للمسألة، والله أعلم.
(1/530)
ومن الألفاظ القرآنية التى تصرَّف فيها مترجمنا تصرفا واسعا يطمس مفهومها طمسًا لفظُ "الأعراف". إن هذا اللفظ يشير إلى مفهوم قرآنى خاص، فكان ينبغى أن يُبْقِىَ أسد عليه كما هو، ولْيَشْرَحْه بعد ذلك فى الهامش على النحو الذى يفهمه فيجمع بذلك بين وفاء الترجمة للأصل وبين شرح هذا الأصل بما يعتقد أنه هو المعنى المراد. لقد ترجم كاتبنا لفظ "الأعراف" بما يعنى أنه "القدرة على معرفة الحق والباطل والتمييز بينهما"، ومن ثم صار قوله تعالى: "وعلى الأعراف رجالٌ يعرفون كُلاًّ (أى كلا من أهل الجنة وأهل النار) بسيماهم" فى الترجمة الإنجليزية هكذا:" they who (in life) were endowed with the faculty of discernment (between right and wrong)"، أى أولئك الذين كانوا يتمتعون فى الدنيا بالقدرة على التمييز بين الصواب والخطإ(10)، وهو ما يعنى أنه لا "أعراف" فى الآخرة كما يُفْهَم بكل وضوح من النص القرآنى! فكيف كان ذلك يا ترى؟
(1/531)
يوضح أسد هذا فى الهامش بقوله: "إن كلمة "الأعراف" (التى أعطت السورةَ اسمها) قد تكررت فى القرآن مرتين ليس إلا، وذلك فى الآيتين 46، 48 من هذه السورة. وهى جمع "عُرْف"، التى تعنى فى الأصل "المعرفة" أو "الاستبصار"، كما تُسْتَعْمل للدلالة على أعلى أو أسمى جزء فى الشىء (لأنه أسهل جزء يمكن رؤيته) مثل "عُرْف الديك" و"عُرْف الحصان"...إلخ. وعلى أساس من هذا الاستعمال الشائع حَسِبَ كثيرٌ من المفسرين أن "الأعراف" هنا تشير إلى "الأماكن المرتفعة" مثل أعالى الجدران والأسوار، ومن ثم ربطوا بينه وبين "الحجاب" المذكور فى الجملة السابقة (جملة "وبينهما (أى بين أهل الجنة وأهل النار) حجاب"). لكن هناك تفسيرا أصوب من ذلك يعتمد على المعنى الأصلى لكلمة "عُرْف" وجمعها، ألا وهو الاستبصار والتمييز أو القدرة عليهما. وقد أخذ بهذا التفسير بعض كبار المفسرين القدماء كالحسن البصرى والزجّاج، اللذين يوافق الرازى على ما قالاه موافقة صريحة، واللذين يؤكدان أن عبارة "على الأعراف" ترادف قولنا: "على معرفة"، أى أصحاب علم أو ذوو مقدرة على التمييز (بين الحق والباطل)، ومن ثم فالرجال الذين على الأعراف هم الذين كانوا فى دنياهم قادرين على إبصار الحق من الباطل (متعرِّفين على كل منهما بعلامته المميِّزة له)، لكنهم فى ذات الوقت لم يكونوا قادرين على اتخاذ موقف محدد منهما، أى أنهم باختصار كانوا أشخاصا غير مبالين. وهذا الموقف الفاتر قد حرمهم عمل الكثير من الخير أو الشر بحيث أدَّى ذلك فى النهاية إلى ما تقوله الآية التالية من أنهم لا يستحقون الجنة ولا النار (وهناك عدة أحاديث بهذا المعنى أوردها الطبرى وابن كثير فى تفسيريهما لهذه الآية). هذا، ويُقْصَد بكلمة "رجال" فى الآيتين المذكورتين "الأشخاص" من الجنسين: جنس الرجل وجنس المرأة على السواء"(11).
(1/532)
وواضح أن أسد ينطلق من أن المعنى الأصلى لكلمة "عُرْف" هو "المعرفة" وأن دلالتها على أعلى جزء فى الشىء هى دلالة فرعية، لكنه بهذه الطريقة يقلب، رأسًا على عقبٍ، ما نعرفه من أن المعنى المادى للكلمات هو الأساس الذى تتفرع منه المعانى المجردة. وإذن فهذا المعنى الأخير الذى ذكره على أنه المعنى الفرعى هو، فى الحقيقة، المعنى الأصلى لا العكس. وثانيا هل يمكن فى العربية أن نقول إن فلانا "على الأعراف" بإطلاق، ونحن نقصد أنه على معرفة واسعة وقدرة كبيرة على التفرقة بين الخطإ والصواب؟ الذى أعرفه هو أننا نقول مثلا: "فلان على معرفة بكذا"، لكنى لم أسمع قط بمن يقول: "فلان على عُرْف"، هكذا بإطلاق (أى على معرفة)، بله أن نقول: "فلان على أعراف"، فضلا عن "فلان على الأعراف" (بالألف واللام)! ترى أيصح أن نقول: "فلان على معارف"؟ بالطبع لا، فما بالنا بـ"على المعارف"؟ وثالثا فإن الزمن فى قوله تعالى: "وعلى الأعراف..." هو نفس الزمن الذى ينظر فيه هؤلاء الرجال إلى كل من أهل الجنة وأهل النار، أى فى الآخرة، أما الأستاذ أسد فيقول إنهم "كانوا" يتمتعون "فى الدنيا" بالمقدرة على التمييز بين الحق والباطل. وهذا غير ذاك كما هو واضح. ثم إن العرب إذا وصفوا شخصا بالتمييز بين الحق والباطل فإنهم يقصدون مدحه لا القول بأنه فاتر فى موقفه تجاههما مما يدخل فى باب الذم لا المدح! أما الملاحظة الخامسة فهى أن أصحاب الموقف الفاتر فى مثل هذه الأمور هم عادةً الأشخاص الذين لا يتمتعون بمقدرة على المقاومة، ولا يستطيعون من ثم الصمود أمام إغراءات الشهوات والأباطيل. أليس هذا ما نشاهده فى هذه الحياة؟ وعلى ذلك كان ينبغى أن يكون مكان هؤلاء مع أهل النار. وسادسا لقد تحدث القرآن كثيرا عن الكافرين الذين يصرون على كفرهم رغم علمهم أنهم على الباطل، وأن النبى على الحق، ومع ذلك لم يستعمل كلمة "أعراف" فى أى موضع من هذه المواضع، بل يستعمل عادةً كلمة "يعرفون"(1/533)
أو "يعلمون".وسابعا هل ثمة معنى لقولنا: "وعلى المعرفة رجال يعرفون كذا"؟ إن هذا كلام خواجاتى ركيك، وحاش لله أن يكون هذا هو أسلوب القرآن! وعلى أية حال فقد كان ينبغى أن يترجم محمد أسد هذه العبارة ترجمة مباشرة ، ثم فليقل بعد ذلك فى الهامش ما يشاء، وذلك احتراما للنص القرآنى وحفاظا عليه بدلا من تحيُّفه وطَمْسه قليلا قليلا وإسقاط تصوراته هو ومفاهيمه عليه فى ذات الوقت! إن النص القرآنى شىء، وفهمه وتفسيره شىء آخر، وإن مكان التفسير فى مثل هذه القضية هو الهامش الذى سيُحْسَب حينئذ على المترجم لا على القرآن نفسه.
ومما يجدر ذكره كذلك فى هذا السياق أن كاتبنا يترجم كلمة "النَّسِىء" فى قوله تعالى: "إنما النسىء زيادة فى الكفر يُضَلّ به الذين كفروا: يُحِلّونه عاما، ويُحَرِّمونه عاما ليواطئوا عِدَّة ما حَرَّم الله، فيُحِلّوا ما حَرَّم الله"(12) بـ"the intercalation of monthes" بمعنى "إضافة بعض الشهور" ليظل عدد أيام السنة القمرية مساويا لعدد أيام نظيرتها الشمسية، إذ كانوا (كما يقول) يزيدون شهرا فى السنة الثالثة والسادسة والثامنة كل ثمانى سنوات. ثم يمضى قائلا إن المسلمين لو كانوا جَرَوْا على هذه الطريقة الجاهلية لجاء الصوم والحج دائما فى نفس الموعد من السنة الشمسية كل عام، ومن ثم يكون أداؤهما إما بالغ السهولة أو شديد الصعوبة حسب الفصل الذى سيقع فيه(13).
(1/534)
والواقع أن هذا أحد المعنيين اللذين تذكرهما المعاجم كـ"لسان العرب" و"تاج العروس"مثلا لكلمة "النسىء"، أما معناه الآخر فنَقْل حُرْمة أحد الشهور الحُرُم (وهى رجب وذو القعدة وذو الحجة والمحرَّم) إلى شهر آخر، لأن العرب كانوا، إذا تقاتلوا وأتى عليهم شهرٌ حرامٌ وأرادوا أن يستمروا فى القتال ولا يتوقفوا طِبْقًا لما تقضى به حرمة تلك الأشهر، ينقلون تلك الحرمة إلى شهر آخر غير محرَّم بعد انتهاء الحرب.فالأستاذ أسد، كما نرى، قد ذكر أحد المعنيين لكمة "النسىء" وأغفل المعنى الآخر، وهو المعنى الذى أرى أنه الأنسب للسياق: فالآية تتحدث عن "الأشهر الحُرُم" لا عن الحج أو الصيام، وتذكر تحليل النسىء عاما وتحريمه عاما، ولا تشير إلى زيادة أيامٍ كل عام كى تتوافق السنة القمرية مع السنة الشمسية، وتقول إن غاية العرب من ذلك هو مواطأة عِدّة ما حرَّم الله، أى جَعْل الفترة التى يمتنعون فيها عن القتال أربعة أشهر دون أن تكون بالضرورة هى رجب وذا القعدة وذا الحجة والمحرم. ثم فليكن المعنى الذى أدار محمد أسد عليه ترجمته رغم ذلك كله هو المعنى الصحيح، أفلم يكن ينبغى أن يتعرض للمعنى الآخر فى الهامش حتى يعطى القارئ فرصة لاختيار ما يطمئن إليه عقله وضميره؟ ذلك أنه لا يفسر بل يترجم، وما دامت الآية تحتمل معنيين لقد كان ينبغى أن يذكر المعنى الثانى فى الهامش ويخرج بذلك من العهدة. أيا ما يكن الأمر فقد رأيت عددا من مترجمى القرآن يترجم "النسىء" كما ترجمه أسد، ويبدو لى أنه قد تأثر بهم. وقد رددت على بعضهم فى كتابى "المستشرقون والقرآن".
(1/535)
ويُبْعِد الأستاذ أسد النُّجْعة فى بيداء الاعتسافات الخاطئة عند ترجمته لـ"كذلك" فى قوله تعالى عن رحلة ذى القرنين فى اتجاه المشرق: "كذلك وقد أَحَطْنا بما لديه خُبْرا"(13) بـ"thus (We had made them and thus he left them)"، ومعناه : "كذلك جعلناهم، وكذلك تركهم ذو القرنين"، يقصد (كما قال فى الهامش) أن ذا القرنين لم يشأ أن يتدخل فى أسلوب حياتهم البدائية الطبيعية فى العيش عراةً حتى لا يسبب لهم الشقاء، إذ هم لا يحتاجون إلى أى نوع من الملابس(14). لكن ثمة عددا من الأسئلة لا بد من الجواب عليها عند ترجمة هذه الآية الكريمة: ترى هل هناك أى دليل على أن المقصود بعدم وجود ستر بين هؤلاء القوم وبين الشمس أنهم كانوا عراة؟ ألا يمكن أن يكون المقصود مثلا أن الجو عندهم ضاحٍ طول النهار؟ أو أنهم من أهل الصحراء حيث لا شجر ولا واقٍ طبيعى من حرارة الشمس؟ وحتى لو كان الأمر فى "الستر" هو ما قاله، فما الدليل على أن كلمة "كذلك" تعنى ما جاء فى ترجمته؟ ثم كيف لا يهتم ذو القرنين، وهو (كما يلوح من الآيات) من الحكام الصالحين المؤمنين بالله سبحانه، بأن يُخْرِجهم من حالة العُرْى ويعلِّمهم كرامة الاستتار؟ لقد امتنَّ الله فى القرآن على عباده بأنه قد أنزل عليهم لباسا يوارى سوءاتهم وريشا(15)، وهو ما يدل على أن ستر العورات وارتداء الملابس امتثال لمشيئة الله وتقبل لنعمته الكريمة، فكيف يقول أسد إن ذا القرنين قد آثر تركهم على ما هم عليه من عُرْىٍ وبدائية؟ بل إن آدم وحواء فى بداية الخليقة ما إن أكلا من الشجرة المحرمة وبدت لهما سوءاتهما حتى طَفِقا يَخْصِفان عليها من ورق الجنة رغم أنه لم يكن هناك أحد غيرهما، فما بالنا بِعُرْى الدنيا الذى يكون عُرْضة لأنظار كل من هَبَّ ودَبّ؟ وفوق ذلك فإنه سبحانه قد نسب نزع الملابس عن أبوينا الأوَّلَيْن إلى الشيطان نفسه بما يبرهن أقوى برهان على قبح ذلك وشُنْعه عند رب العالمين(16). إن هذا(1/536)
الموقف الذى ينسبه أسد إلى ذى القرنين لهو أشبه بما كان يفعله المستعمرون الأوربيون مع همج القارة الأفريقية إبان الهجمة الاستعمارية على تلك القارة، إذ كانوا يَجْهَدون فى إبقائهم على ما هم فيه من جهل وبدائية كى يستطيعوا نزح ثروات القارة السوداء دون حسيب أو رقيب!
وثمة أيضا لفظة قد ترجمها أسد بطريقة لا يمكننى هضمها، وهى تأديته حَرْفَىِ "الطاء" و"الهاء" فى مفتتح سورة "طه" بـ"O man: يا رَجُل" رغم أن ذلك أحد المعانى التى يذكرها المفسرون قائلين إن هذا هو معنى "طه" فى النبطية والسريانية وغيرهما. بل إنه قد ترجم اسم السورة بذات الطريقة أيضا فأصبحت تُعْرَف عنده باسم "سورة يا رجل"!(17)
(1/537)
ولقد سبق فى كتابى "سورة طه – دراسة لغوية أسلوبية مقارنة"، فى فصل "ملاحظات فى تفسير السورة"، أن رفضتُ أى تفسير لهذه الكلمة لا يقول إنهما حرفان مقطَّعان مثل "ألم، ألمص، طس، حم، ق". ويجد القارئ هناك بسطا لرأيى والآراء التى رددتُ عليها. والذى يهمنا هنا هو القول بأن تفسيرها بـ "يا رجل" هو قول غريب فيه إساءة إلى النبى عليه السلام، إذ لم يحدث أن ناداه ربه سبحانه فى القرآن بغير النبوة والرسالة: "يا أيها النبى، يا أيها الرسول" أو بصفة تدل على حالة خاصة به فى موقف معين: "يا أيها المُزَّمِّل، يا أيها المُدَّثِر". فالقول إذن بأن الله سبحانه قد ناداه هنا بكلمة عامة تصدق على كل البشر هو قول لا يتسق مع الطريقة التى ينادى بها المولى فى القرآن عبده محمدا. ثم فلنلاحظ أن أسلوب النداء: "يا أيها الـ..." المستعمل فى جميع المرات التى نودى فيها الرسول عليه الصلاة والسلام لا وجود له فى "طه"، فلماذا يشذّ القرآن هنا بالذات عن أسلوبه فى مناداة الرسول؟ بل لماذا يا ترى يلجأ القرآن الكريم إلى النبطية والسريانية فى نداء الرسول العربى القرشى؟ أهو ضِيقٌ فى العربية استلزم استعارة هذا اللفظ؟ أم هو لون من المباهاة بمعرفة اللغات الأخرى، حاش لله؟ أترى من المعقول أن ينادى الله سبحانه رسوله الكريم بما يضيق به صدر الواحد منا، نحن الذين لا نرتفع إلى عشر معشار مقامه صلى الله عليه وسلم، لو نُودِىَ به، إذ يرى بحقٍّ أن فيه تجهيلا له واحتقارا؟ إن بعضهم يظن أن ورود كاف الخطاب فى قوله تعالى عقب ذلك: "ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى" معناه أنه لا بد أن تكون "طه" نداء للرسول. لكن ما وجه اللزوم فى ذلك؟ إن هذه الكاف موجودة أيضا فى قوله سبحانه: "ألمص* كتابٌ أُنْزِل إليك..."، وفى "كهيعص* ذِكْرُ رحمة ربك عبده زكريا"، وفى "حم* عسق* كذلك يوحِى إليك وإلى الذين من قبلك اللهُ العزيز الحكيم" وغيرها، فلماذا لم يقل هؤلاء إن الحروف فى هذه(1/538)
المواضع أيضا هى نداء للرسول؟ لكل هذا أرفض رفضًا باتًّا أن يكون معنى "طه" هو "يا رجل"!
ومن الألفاظ التى لا أوافق أ. أسد على ترجمته لها كلمة "زُرْقًا" فى قوله تعالى: "ونحشر المجرمين يومئذ زُرْقًا"(17)، إذ يؤوّلها بالإنجليزية قائلا: "their eyes dimmed (by terror)"، ثم يضيف فى الهامش موضحا أن المعنى الحرفى هو: "blue of (eye)"، وأن المقصود هو أن أعينهم ستبدو كما لو كانت مغطاة بغشاوة معتمة زرقاء(18). وواضح أنه يصر على أن الزرقة هنا هى زرقة العيون، مع أنه ليس فى الآية ولا فى السياق ما يدل على هذا أو يُلْمِح إليه مجرد إلماح. والذى يتبادر إلى ذهنى أن تكون الزرقة هنا هى زرقة الاختناق والمعاناة الرهيبة التى سيقاسيها المجرمون يوم القيامة حين يُنْفَخ فى الصُّور. ولقد شاهدت منذ أكثر من عشرين عاما فى أوكسفورد طفلا أصابته حالة اختناق وهو يبكى من الغضب مرتميا على الأرض يرفس الهواء بقدميه من شدة بُرَحاء الألم، وقد اربدّ وجهه وازرقّ، ووقفنا حياله عاجزين لا نستطيع له شيئا، وتصورت أنه سيموت، لكن سرعان ما انجابت عنه الغاشية وعاد إلى حالته الطبيعية، فتنفسنا الصُّعَداء ورُدَّتْ إلينا أرواحنا. فهذا، فيما أفهم، هو الازرقاق المذكور فى الآية الكريمة. وقد تكون الزرقة صِبغةً يُوسَم بها المجرمون يوم القيامة فضحًا لهم على رؤوس الأشهاد، أو تكون انعكاسا لما يعانونه آنذاك من همٍّ وخِزْى وكَرْب. وقريبٌ من هذا ما جاء فى الآية 106 من "آل عمران": "يومَ تبْيَضّ وجوهٌ وتسْوَدّ وجوه"، وكذلك الآيات 38- 42 من سورة "عَبَس": "وجوهٌ يومئذٍ مُسْفِرة* ضاحكةٌ مستبشرة* ووجوهٌ يومئذٍ عليها غَبَرة* ترهقها قَتَرة* أولئك هم الكَفَرة الفَجَرة".
(1/539)
وبالمناسبة فقد جاء فى الترجمة الإنجليزية القاديانية التى حررها ملك غلام فريد أن زرقة العيون فى الآية إنما تشير إلى أن هؤلاء المجرمين هم أمم الغرب النصرانية(19)، وكأن المجرمين يوم القيامة سيكونون كلهم من الأوربيين والأمريكان فقط، فلا مجرمين أفارقة أو آسيويين أو من أمريكا الجنوبية، وكأن الغربيين جميعا سوف يدخلون النار ضربة لازب، وكأن الغربيين كلهم أصحاب عيون زرقاء، فليس فيهم من هو أخضر العينين أو أسودهما مثلا. أما لماذا انصرف ذهن هذين المترجمين إلى زرقة العيون فسببه أن ذلك هو المذكور فى كتب التفسير، التى تقول إن العرب تتشاءم بصاحب العيون الزرقاء. لكن ينبغى أن نعرف أن أذواق العرب وأوهامهم شىء، وحقائق الدار الآخرة شىء آخر.
أما ترجمة كلمة "أيام" فى قوله جل جلاله: "خَلَقَ السماواتِ والأرضَ فى ستة أيام" فتحتاج إلى وقفة خاصة. إن أسد يترجمها بـ"aeons"(20)، أى حِقَب، وهى فى حدود علمى ترجمة جديدة ولا بأس بها. لكن الإنسان يتساءل: لماذا يا ترى لم يجر على هذه الخطة فى ترجمة كلمة "يوم" فى قوله تعالى: "يوم كان مقداره ألف سنة مما تَعُدّون"(21)، أو "يوم كان مقداره خمسين ألف سنة"(22)، التى يستخدم إزاءها كلمة "Day" رغم أن اليوم هنا أيضا ليس هو اليوم العادىّ الذى نعرفه على سطح الكرة الأرضية بل حقبة متطاولة كما هو واضح، وهى الحجّة التى استند إليها فى ترجمة لفظة "يوم" فى عبارة "ستة أيام"؟ وبالمثل نراه يترجمها فى عبارة "يوم الحساب" و"يوم الدين" بـ"Day"(23)، فلماذا هذه التفرقة غير المفهومة؟ إن هذه نقطة منهجية كان ينبغى أن تحظى من المترجم باهتمام أكبر.
(1/540)
وأحيانا ما يضيف أسد إلى الترجمة كلمة أو عبارة بين معقوفتين لتوضيح النص. وفى بعض المواضع قد تستدعى الحاجة فعلا مثل هذه الإضافة، لكن فى بعض المواضع الأخرى لا يستطيع الإنسان أن يبصر تلك الحاجة، بل قد تكون ذات خطورة على النص كما فى ترجمته لقوله تعالى: "النبىُّ أولى بالمؤمنين من أنفسهم، وأزواجه أمهاتهم"، الذى أضاف إليه فى الترجمة عبارة "فهو أبوهم" قبل جملة "وأزواجُه أمهاتُهم". وهو يسوّغ هذا الصنيع العجيب فى الهامش قائلا إنه اعتمد فى ذلك على أن بعض الصحابة والتابعين كانوا يقولون هذا أثناء قراءتهم على سبيل شرح الآية(24), بيد أنى، رغم ذلك، أرى أن هذا خطأٌ صُرَاح لا سبيل إلى التهوين منه، إذ إن علاقة زوجاته، صلى الله عليه وسلم، بأتباعه غير علاقته هو بهم، فقد حرَّم القرآن أن ينكحوا أزواجه من بعده، أما هو فكان يَحِلّ له أن يتزوج من نسائهم كما هو مبين فى نفس السورة(25). ثم إن الله سبحانه يقول فى السورة ذاتها: "ما كان محمد أبا أحدٍ من رجالكم"(26)، فكيف نأتى نحن ونقول إن محمدا لم يكن أبًا لواحد من المسلمين فقط بل أبًا للمسلمين كلهم أجمعين؟ أَوَبَعْد قول الله قول؟
(1/541)
أما عبارة "رب المشارق" فى سورة "الصافّات"فإنه يذهب خطوة أبعد، إذ لا يضع ما أضافه من كلمات بين معقوفتين، مما يوهم القارئ الذى لا علم له بالنص القرآنى أنه هذا هو ما يقوله القرآن فعلا، وليس تفسيرا له من لدن المترجم. وهذا هو ما قاله: "the sustainer of all the points of sunrise"، أى رب مشارق الشمس كلها(27). لكن من ذا الذى يستطيع أن يقول إن "المشارق" هنا مقصورة على مشارق الشمس وحدها؟ إن نجوم السماء لا أول لها ولا آخر حتى لفد ضُرِب بها المثل فيما يستحيل عدّه، ولكل نجم مشرقه ومغربه، وهذا هو الأحجى أن يكون تفسير العبارة القرآنية بدلا من حصرها فى الشمس وحدها دون أن يكون هناك ما يدعو إلى ذلك. وبمثل هذا أرى أنه ينبغى تفسير عبارة "ربّ المشرقين ورب المغربين"، أى ربّ مشرقَىِ الشمس والقمر ومغربيهما لا "ربّ أبعد نقطتين من نقاط شروق الشمس وغروبها" حسبما جاء فى ترجمة أسد(28).
(1/542)
أما فى ترجمة جملة "وهو فى الخصام غير مبين" من قوله تعالى عن بعض الآباء فى الجاهلية ممن كانوا يئدون بناتهم الرضيعات: "وإذا بُشِّر أحدهم بما ضَرَب للرحمن مثلا ظل وجهه مسودًّا وهو كظيم: * أَوَمَنْ يُنَشَّأ فى الحِلْيَة وهو فى الخصام غير مبين؟" يخطئ أسد خطأ من نوع آخر، إذ يظن أن الكلام فى جملة "وهو فى الخصام غير مبين" مقصود به الأب الذى بُشِّر بالبنت. وأغلب الظن أنه لما رأى أن الضمير المستعمل فى الآية هو للمذكَّر انصرف ذهنه إلى الأب لا إلى البنت، التى وُصِفَت فى العبارة السابقة، وهى عبارة "مَنْ يُنَشَّا فى الحلية". وإذا صح تفسيرى لقد كان ينبغى أن يتنبه أسد إلى أن الضمير هنا أيضا هو ضمير مذكر رغم استعماله للبنت. ووجه تذكيره أنه يعود على الاسم الموصول المبهم: "مَنْ"، الذى نحن معه بالخيار: فإما أن نذكِّر الضمير العائد عليه ونُفْرِده دائما، وإما أن نطابق بينه وبين ما يدل عليه. فنحن نستطيع أن نقول: "رأيت من النساء من أُحِبّه" أو "رأيت من النساء من أحبها". أما لو استخدمنا "التى" فلا بد من المطابقة فنقول: "رأيت من النساء التى أحبها".
(1/543)
إذن فقوله تعالى: "أَوَمَنْ يُنَشَّأ فى الحِلْيَة وهو فى الخصام غير مبين؟" هو جملة استفهامية واحدة لا جملتان: إحداهما استفهامية على لسان الأب الساخط، والثانية خبرية داخلة فى السرد كما حسب الأستاذ أسد، الذى يفهم الجزء الأخير من الجملة على أن المقصود بها الإشارة إلى الصراع النفسى المحتدم فى نفس الأب: أيُبْقِى على حياة ابنته أم يئدها؟ فهذا الصراع، فى ظن المترجم، هو الخصام المذكور فى الآية، أما "غير مبين" فمعناها أنه صراع داخلى لا ينطق به اللسان، ومن ثم ترجم هذا الجزء من الجملة على النحو التالى: "ومن هنا يجد نفسه وقد مزقه صراع داخلى خفى"(29). والواقع انها ترجمةٌ جِدّ غريبة لا يقبلها الذوق العربى ولا الأسلوب القرآنى، الذى استعمل مادة "خ ص م" سبع عشرة مرة لم تأت قَطُّ فى أى منها بالمعنى الذى فهمه مترجمنا، بل كلها فى الخصام بين شخصين أو جماعتين لا فى الصراع الباطنى بين رغبات الشخص المتعارضة. وحتى لو أردنا، رغم ذلك كله، أن نستخدم كلمة "خصام" فى هذا المعنى لكان علينا أن نقول: "فلان فى خصام مع نفسه" بزيادة عبارة "مع نفسه" مثلا.
(1/544)
وفى قوله جل شانه عن قوم لوط: "لِنُرْسِل عليهم حجارةً من طين" * مسوَّمةً عند ربك للمسرفين" يترجم كاتبنا عبارة "حجارة من طين" بـ"ضربات عقاب شديدة كالحجارة"(30). ولست أستطيع أن أجد مسوِّغا لهذا الذى فعله المترجم! لقد لاحظتُ، كما سأوضح لاحقا، أنه دائما ما يؤوِّل عذاب الآخرة ونعيمها، وهذا أمر قد يحتمل الخلاف، أما تأويل مثل هذا العذاب الدنيوى فما وجهه؟ إن حجة القائلين بتأويل الأخرويات هى أنها، بنص القرآن والحديث، شىء مختلف عما نعرفه فى الدنيا، لكن الأحداث الدنيوية هى وقائع تاريخية لا تقبل التأويل. ومثل هذا التصرف من شأنه أن يزعزع النص القرآنى، فالمرجوّ أن نحترمه، وفى الهامش متسع لما نريد أن نقول، وذلك بدلا من تثبيت النص المقدس إلى الأبد على فهمنا الذى من المحتمل جدا أن يكون خاطئا، بل هو هنا خطأ بكل يقين. ثم فلنفترض أن ترجمة أ. أسد صحيحة، فأى عقاب يا ترى ذلك الذى يشبه فى شدته الحجارة والذى أرسله الله على قوم لوط؟ ترى أيصح أن نترك مثل هذا التعبير القرآنى المُشْمِس ونذهب فنضرب فى حنادس الأوهام الغامضة؟ لقد ذكر مترجمنا فى موضع آخر من ترجمته أن هذه الحجارة الطينية تشير إلى وقوع انفجار بركانى، لكنه للأسف ترك هذا التفسير وجرى وراء الربط بين كلمة "سِجِّيل" (فى قوله تعالى عن نفس الواقعة: "حجارة من سِجِّيلٍ منضود") وكلمة "سِجِلّ"، وانتهى إلى تلك الترجمة الغريبة هنا وفى الآية 82 من سورة "هُود". فهو عقاب، لكنه ليس عقابا بالحجارة بل فى شدة الحجارة. أما "مِنْ سِجِّيل" فمعناها "مسجلة فى لوح القدر: pre-ordained". وتبقى كلمة "منضود"، التى جعلها صفة لضربات العقاب، ولا أدرى كيف، فهى مذكَّر، والضربات مؤنَّثة. وهذه عبارته فى نصها الإنجليزى: "and rained down stone-hard blows of chastisement pre-ordained one upon another". ويستطيع القارئ أن يتبين بنفسه الآن كيف تمزقت أوصال الآية بلا رحمة أو داع!
(1/545)
ومن ترجمات أسد الغريبة التى يصعب إقراره عليها ترجمته كلمة "النجم" فى قوله سبحانه: "والنجمِ إذا هَوَى* ما ضَلَّ صاحبُكم وما غَوَى" بـ"قطعة الوحى الإلهى" على اساس أن القرآن قد نزل منجَّمًا، أى على دفعات لا جملةً واحدة(31). ولكن فاته أن القرآن لا يستخدم أيًّا من "النجم" أو "هَوَى" فى الحديث عن الوحى. فكلمة "النجم" فيه إنما تدل على نجم السماء، اللهم إلا فى موضع واحد يحتمل أن يكون المقصود بها نجم النبات، وذلك فى الآية السادسة من سورة "الرحمن": "والنجم والشجر يسجدان". أما بالنسبة لمجىء الوحى فيستعمل له القرآن فعلا من مادة "ن ز ل" لا الفعل "هوى".
وأشدّ غرابةً من الترجمة السابقة تأديته لقوله تعالى فى وصف سَقَر": "لَوّاحةٌ للبشر"(32) بما معناه أنها "تُليح للبشر (أى تُرِيهم) الحقيقة كلها". يقصد، كما وضَّح فى الهامش، أنها تجعلهم يبصرون أخيرا الحقيقة التى لم يكونوا يُقِرّون بها فى الدنيا وتُرِيهم خطاياهم وشرورهم ومسؤوليتهم عن معاناتهم وآلامهم فى الجحيم، مخالفا بذلك جميع المفسرين تقريبا، الذين يقولون إن المقصود هو أنها تَسْفَع وجوه الكافرين وتغيِّر شكلهم(33). ومعروف أن من معانى الفعل "لاحَ": "غَيَّر وأضمر" كما فى قولنا: "لاح العطشُ أو السفرُ أو الحزنُ فلانا"، ومن ثم فكلمة "لوّاحة" هى صيغة مبالغة من هذا الفعل، الذى ليس من معانيه "أَرَى فلانٌ فلانًا كذا وكذا". وحتى لو قلنا إن هذا أحد معانيه، فأين المفعول الثانى لكلمة "لوّاحة"؟
(1/546)
ومما أخطأ فيه أسد بل انفرد بالخطإ حرفُ "الواو" فى قوله عز شأنه: "كلا والقمرِ* والليلِ إذا أدبر* والصبحِ إذا أسفر"، "والصافّات صَفًّا"، "والذاريات ذَرْوا"، "والطُّورِ* وكتابٍ مسطور"، "والمرسَلات عُرْفًا"...إلخ، إذ يترجمه بمعنى "تأمَّلْ واعتَبِرْ". ولا أدرى على أى أساس فعل ذلك، إذ هو قول لم يقل به أحد من المفسرين أو علماء النحو أو أصحاب المعاجم. إنه يسوّى بين "الواو" فى هذه الآيات وبين قولهم فى الإنجليزية: "by God"(34) مع أن الأمرين مختلفان، فمن الواضح أن "الواو" هنا هى للقَسَم لا للتعجب، والُمقْسَم به هو الاسم الواقع بعد "إنَّ" كما فى الشاهد التالى: "والذارياتِ ذَرْوًا* فالحاملاتِ وِقْرًا* فالجاريات يُسْرًا* فالمقسِّمات أَمْرًا* إنّ ما توعَدون لَصادق* وإن الدِّين لَواقع"(35). بل إن القرآن نفسه يصرح بأن هذا قَسَم، إذ جاء فى سورة "الفجر": "والفجرِ* وليالٍ عَشْر* والشَّفْع والوَتْر* والليل إذا يَسْرِ* هل فى ذلك قَسَمٌ لِذى حِجْر؟". كما تكرر القسم فى القرآن بالظواهر الكونية وعناصر الطبيعة بلفظ القسم الصريح أكثر من مرة مثل: "فلا أُقْسِم بالخُنَّس* الجَوار الكُنَّس* والليل إذا عَسْعَس* والصبح إذا تنفَّس* إنه لَقول رسول كريم"(35)، "فلا أقسم بالشَّفَق* والليل وما وَسَق* والقمر إذا اتَّسَق* لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عن طَبَق"(36). فماذا يبغى الأستاذ أسد أكثر من هذا؟
(1/547)
وهذه النزعة إلى الانفراد بالآراء الغريبة لدى محمد أسد هى المسؤولة أيضا عن ترجمته لقوله تعالى عن نساء الجنة: "كواعب أتراب" لا بالناهدات الصدور المساويات لأزواجهن فى السن كما تقول كتب التفسير وكما يقول الأسلوب العربى، بل بـ"splendid compagnons well matched: أصحاب رائعين متوافقين". وهو يكشف السر وراء هذه الترجمة العجيبة قائلا إن متع الجنة التى يمثّل الكواعب الأتراب لونا من ألوانها ليست حقيقية، إذ لا نساء فى الفردوس، ومن ثم فـ"الكواعب" هنا هم الأقران البارزون (لأن الفعل "كَعَبَ" يدل على البروز بإطلاق لا بروز النهدين فقط)، أما "الأتراب" فهم الذين يكون بينهم وبين أصحابهم توافق وانسجام"(37).
(1/548)
ورأيى أن هذه حجج داحضة: فأولا لو افترضنا أنه ليس هناك نساء فى الجنة فعلا كما يقول، فإن هذا لا يُسَوِّغ ترجمة الآية بالطريقة التى فسرها بها، بل كان ينبغى أن يلتزم بما جاء فيها، ثم فلْيقل فى الهامش إن هذا مجاز، وإن المقصود بالإشارة إلى النساء فى الآية هو كذا وكذا. ذلك أن نساء الجنة فى هذه النقطة لا يختلفن فى شىء عن لبنها وعسلها وخمرها وشجرها وأنهارها...إلخ، فسواء قلنا إن فى الجنة عسلا ولبنا مثلا كعسلنا ولبننا، أو عسلا ولبنا من نوع آخر يليق بالآخرة وخلودها، أو قلنا إنهما رمزان لمتع أخرى لا يمكن التعبير عن حقيقتها بلغتنا البشرية، فالواجب فى كل هذه الحالات الإبقاء على ذكر اللبن والعسل، وفى الهامش متسع لتوضيح رأينا على النحو الذى نشاء. ولقد فعل الكاتب نفسه ذلك مع "الحدائق والأعناب والكأس الدِّهاق" التى ورد ذكرها فى هذه السورة(38)، فلِمَ لَمْ يتّبع هذه الخطة هنا مع "الكواعب الأتراب"؟ وثانيا فإن كلمة "أتراب" فى كل من المرتين الأُخْرَيَيْن اللتين وردتا فى القرآن كانت وصفا لنساء الجنة، فلم تشذّ عن هذا هنا؟ وهاتان هما الآيتان المذكورتان: "وعندهم (أى عند المتقين فىجنات عَدْن) قاصرات الطَّرْف أتراب"(39)، "فجعلناهن (أى نساء الجنة) أبكارا* عُرُبًا أترابا* لأصحاب اليمين"(40). وبالمناسبة فقد فعل أسد هنا فى ترجمة "قاصرات الطرف أتراب" و"أبكارًا* عُرُبًا أترابًا" ما اقترحتُه قبل قليل فى ترجمة صفات نساء الجنة(41)، فلم هذه التفرقة التى لا مسوِّغ لها إذن؟
(1/549)
يبدو لى ، والله أعلم، أن صيغة جمع المؤنث السالم فى النص الأول، وضمير جماعة النسوة فى النص الثانى هما اللذان منعا مترجمنا من التمحُّل الذى لجأ إليه فى ترجمة "الكواعب الأتراب"، فما رأى القارئ إذا قلنا له إن كلمة "كواعب" من حيث صيغتها لا تحتمل هنا إلا أن تكون للنساء، ومن ثم لا تصلح أن يكون معناها "الأصحاب أو الأقران" كما يريد منا الأستاذ أسد أن نفهمها؟ ذلك أن صيغة جمع التكسير "فواعل" لا تُسْتَعْمَل للعقلاء الذكور، اللهم إلا فى "فوارس" و"سوابق" اللتين شذَّتا عن القاعدة(41). ثم إن "التِّرْب" هو المساوى فى السن لا المتوافق المنسجم مع رفيقه كما ترجمها أسد.
ــــ رأيه فى عصمة الأنبياء:
من القضايا ذات الأهمية الشديدة التى تناولها محمد أسد فى ترجمته التفسيرية للقرآن الكريم بَشَريَّة الرُّسُل ومدى انعكاسها على أخلاقهم وسلوكهم، فهو دائم الإشارة إلى هذه البشرية، وهى مما لا يُشاحّ فيه أحد، إذ إن رسل الله وأنبياءه كانوا كلهم فعلا بشرا: هكذا تكلم التاريخ، أما إذا زعم أصحاب بعض الأديان هنا أو ههنا أن نبيهم إله أو ابن إله فهو كلام لا يؤبَه له، وإن كان لكلٍّ أن يعتقد ما يشاء، وحسابه على الله. وهكذا أيضا تكلم القرآن، إذ ذكر مرارا أن الرسل والأنبياء كانوا جميعا بشرا من البشر، وأنهم يأكلون ويشربون ويَغْشَوْن الأسواق والمجامع، ثم فى النهاية يموتون. ولا خلاف إذن مع محمد أسد فى هذا، إلا أنه للأسف لا يتوقف عند هذا الحد، بل دائما ما يجعل إشارته إلى بشرية الرسل منطلقا للحديث عن أنهم، أيضا مثل سائر البشر، معرَّضون للخطإ كلما سنحت الفرصة. ويبدو لى بقوة أن أبواب الأخطاء كلها مفتوحة عنده أمامهم كأى إنسان آخر.
(1/550)
فعلى سبيل المثال يقول، عند تعليقه على قوله تعالى: "وما أرسلْنا من رسول ولا نبى إلا إذا تمنَّى أَلْقَى الشيطانُ فى أمنيّته، فينسخ الله ما يُلْقِى الشيطانُ ثم يُحْكِم الله آياته، والله عزيز حكيم"، إن إلقاء الشيطان فى أمنية النبى والرسول معناه أن يكون هدفهما، لا الأخذ بيد أمتهما فى معراج الرقى الروحى، بل إحراز القوة والنفوذ الشخصى. ثم يمضى فيستشهد بقوله عَزَّ من قائل: "وكذلك جعلنا لكل نبىٍّ عدوًّا شياطينَ الإنس والجن"(1) دون أن يوضح صلة هذه الآية بما نحن فيه(2). أتراه يريد أن يقول إن للشياطن من إنس وجن تأثيرا على الرسل والأنبياء حتى إنهم لَيَحْرِفونهم، عن مسارهم الذى حددته لهم السماء، إلى التطلع لغايات شخصية؟ لكنْ أىُّ نبى أو رسول يا تُرَى استطاعت الشياطين أن توسوس له بوضع مطامحه فى القوة والنفوذ الشخصى فوق الغاية النبيلة التى انتدبه لها رب العزة والجلال؟ ها هو ذا القرآن الكريم بين أيدينا، وليس فيه شىء من ذلك على الإطلاق. أما إذا كان العهد القديم ينسب إلى أنبياء الله ورسله مثل هذه التطلعات وغيرها مما يشوه صورة النبوة ويلطخها، فهذا ليس برهانا على صحة تلك الدعوى الخطيرة، لأن كتب اليهود مجرَّحة تجريحا حسبما ذكر القرآن فى أكثر من موضع، وكذلك حسبما أثبتت الدراسات النقدية التى تناولت هذه الكتب، سواءٌ تلك التى قام بها علماء المسلمين أو علماء الغرب أنفسهم. وعلى أية حال فالذى يهمنا فى هذا السياق هو القرآن لأنه هو الذى يستند إليه أسد فى تقرير ما قال.
(1/551)
وفى كلمته التمهيدية التى قدَّم بها لسورة "القَصَص" يقول إن "معظم قصة موسى فى تلك السورة تصوِّر الجانب البشرى الخالص فى حياته، أو بتعبير آخر تصوِّر الدوافعَ وألوانَ الحيرة التى تشكِّل جزءا من الطبيعة البشرية، وهو ما يبرزه القرآن إبرازًا رغبةً منه فى مقاومة أى ميل لدى المتدينين إلى عَزْو أية صفات إلهية أو شِبه إلهية إلى أحد من رسل الله"(3).ثم بعد قليل يعقِّب على اقتتال المصرى والإسرائيلى وتدخّل موسى عليه السلام ووَكْزه المصرىَّ الوكزةَ التى قضت عليه دون قصد منه، قائلا إن "الآيتين 16-17 من هذه السورة تومئان إلى أن الإسرائيلى لا المصرى هو المخطئ. ومن الواضح أن موسى قد تقدَّم لمساعدة الإسرائيلى بدافع من الميل الغريزى نحو ابن جلدته دون اعتبار للصواب والخطإ فى هذه القضية، وإن كان قد تبيَّن له أنه إنما اجترح إثما فظيعا، لا بقتله إنسانا بريئا فحسب رغم أنه قتلٌ غير مقصود، بل بإقامته تصرفَه كذلك على أساس من التحيز العنصرى"(4).
وفى أحد الهوامش التى خصصها للتعليق على قصة يونس عليه السلام وإباقه إلى الفُلْك المشحون حين لم يجد من قومه آذانا صاغية، يختم مستشرقنا تعليقه قائلا إن الهدف من هذه القصة فى القرآن هو أن تبيِّن لنا أنه ما دام قد "خُلِق الإنسان ضعيفا" كما جاء فى سورة "النساء"، فإن الأنبياء أنفسهم غير محصَّنين ضد أى لون من ألوان الضعف المركوزة فى الفطرة البشرية(5). وهو ما يعنى بوضوح أنهم، عليهم السلام، يمكن أن يرتكبوا أى شىء مما يقع فيه البشر، هان أو عَظُم. وقد كرر هذا المعنى ذاته فى تفسيره لقوله جل جلاله مخاطبا نبيه محمدا عليه الصلاة والسلام: "لِيغفرَ لك الله ما تقدَّم من ذنبك وما تأخَّر"، إذ يؤكد أن الإنسان مهما ارتقى فى معراج الخُلُق وكان حميد السجايا، فإنه عرضة للوقوع فى الخطإ بين الحين والحين، وأن الآية تشير من طَرْفٍ خَفِىٍّ إلى أن التحرر من الأخطاء مقصور على الله سبحانه(6).
(1/552)
وفى ضوء هذا نستطيع أن نفهم ما قاله بصدد الحديث عن الخَصْمَيْن اللذين تسوَّرا المحراب على داود عليه السلام وشكا أحدهما الآخر إليه بأنه طلب منه نعجته الوحيدة التى لا يملك سواها كى يضمها إلى قطيعه الذى يبلغ تسعًا وتسعين نعجة...إلخ، إذ تساءل قائلا: هل الأنبياء معصومون من الذنوب والخطايا كما يقول علماء المسلمين القدامى أو لا؟ ثم يجيب بأن أولئك العلماء يذكرون أن داود قد أحب امرأة قائده العسكرى أوريا ورسم خطة للتخلص منه كى يخلو له وجه الزوجة، إذ أمر أن يوضَع فى مكان مكشوف على خط المواجهة مع الأعداء حيث قُتِل، وبعدئذ تزوَّج داود المرأة وأنجب منها سليمان، وإن أنكروا فى ذات الوقت أن يكون قد زنى بها إنكارا شديدا(7). ومن الواضح هنا أيضا أن أسد مع عدم عصمة الأنبياء.
(1/553)
وهو يرى أن قوله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم: "ألم نَشْرَح لك صدرك* ووضعنا عنك وِزرك* الذى أَنْقَضَ ظهرك* ...؟" يشير بكل وضوح إلى الأخطاء التى اقترفها عليه السلام قبل البعثة(8). ولكنْ أية أخطاءٍ تلك التى اقترفها النبى آنذاك؟ هنا يسكت أسد! بَيْدَ أنى لست أوافقه على أن معنى "الوِزْر" فى الآيات الكريمات أخطاء ارتكبها الرسول فى الجاهلية، إذ لو كان الأمر كذلك فلماذا تنقض هذه الأخطاء ظهره، وهو لم يكن مكلّفا آنئذ ولا آخذه الله عليها فى أى موضع من القرآن ولا اتخذها قومه تكأة للنيل من سمعته أو للتشويش على أخلاقه ونبوته؟ علاوة على أنّ امتنان الله عليه بشرح صدره وطمأنته إياه بأنه ما من عسر إلا ومعه يسر إنما يشير بالأحرى إلى ضيق صدره عليه السلام بشىء من قبيل فتور الوحى عنه فى أول الدعوة أو معاندة المشركين له أو ما إلى ذلك. أى أن الوزر هنا نفسى لا أخلاقى. أما إذا كان المقصود بشرح الصدر دلالته المادية بمعنى شقّه واستخراج حظ الشيطان منه وغَسْله بالثلج أثناء طفولته الأولى فى بادية بنى سعد كما جاء فى بعض الروايات، فإن ذلك ينسف ما قاله محمد أسد عن الرسول من أساسه، إذ معناه أنه قد أصبح فى حماية تامة من الوقوع فى الذنوب والآثام.
(1/554)
وعلى أية حال فإنه، صلى الله عليه وسلم، لا يمكن أن يكون قد وقعت منه أخطاء مما يتحدث عنها الكاتب، وإلا لاتخذها المشركون حين جاءهم بالدين الجديد سلاحا من أسلحة الحرب النفسية التى شنوها عليه منذ البداية. ترى لو كانت هناك أخطاء من ذلك النوع أكانوا يتركونها ويتهمونه بما يعرفون هم قبل غيرهم أنه باطل، من مثل أنه ساحر أو مجنون أو كذاب أو أنه يكتب ما يحكيه من قصص الأنبياء السابقين وأممهم عن بعض الرقيق المكى من أهل الكتاب؟ أيعقل أن يكون فى يد إنسان ما عملة سليمة فيلقى بها فى عُرْض الطريق ويتخذ بدلا منها نُقُودا زُيُوفا؟ ترى لو كان النبى عليه السلام قد شرب الخمر مثلا أو ضحَّى للأوثان أو عُرِف عنه الكذب، أكان قومه يسكتون على ذلك؟ إن كل ما قالوه فى بشريته لا يتعدَّى إنكارهم عليه أنه كان يأكل الطعام ويمشى فى الأسواق، وأن له زوجًا وذرية، إذ كانوا يريدونه مَلَكًا لا بشرا، وهذا كل ما هنالك! فهل يصح أن يقول مُسْلِمٌ فى الرسول الكريم ما لم يقله المشركون؟
ولْيلاحظ القارئ أننى قد تجنبت الخوض فى الجدال النظرى البحت حول عصمته صلى الله عليه وسلم، وسلكت بدلا منه المنهج التاريخى والنفسى، واستنطقت النصوص ذاتها، فلم يصادفنا، لا فيما وصلنا عن سيرته ولا فى الآيات التى تحدثت عنه أو إليه، أَىٌّ من تلك الذنوب المزعومة. ثم هل كان من الممكن أن يصفه القرآن رغم ذلك بقوله: "وإنك لعلى خُلُقٍ عظيم" كما جاء فى الآية السادسة من سورة "القلم"؟
(1/555)
كذلك لو كان داود، عليه السلام، قد صنع بأوريا هذا الذى ادُّعِىَ عليه، أكان الله سبحانه تاركه دون مؤاخذة وعقاب، وهو الذى عَرَّض يونسَ، عليه السلام، لتلك التجربة الفظيعة المرعبة، تجربة التقام الحوت له أياما وليالى لمجرد غضبه من قومه وإباقه إلى الفُلْك المشحون بسبب صلابة رقابهم ولجاجهم فى الكفر والطغيان؟ إن التآمر على قتل رجل برىء طمعا فى زوجته الجميلة ليس بالأمر الهين الذى يمكن أن تُعَدِّىَ عنه السماء بمثل هذه البساطة، وإلا فالعفاء على الأخلاق بل على النبوة ذاتها! والمضحك فى الأمر أن من قَبِلوا من علماء المسلمين على داود هذه الدعوى الرقيعة (حسبما جاء فى كلام كاتبنا) كانوا حُرَصاء فى ذات الوقت على أن يبرِّئوه من تهمة الزنا، وكأن قتل الأبرياء بدمٍ باردٍ وتخطيطٍ مسبقٍ ودون خالجة من ضمير ليس بشىء بجانب هذه التهمة!
(1/556)
إن القصة القرآنية تقول إن الأخ الغنىّ لم يأخذ من أخيه الفقير نعجته فعلا، بل كل ما فى الأمر أنه سأله ضمَّها إلى نعاجه. فهذا كل ما هنالك، أما لو كان هذان الخصمان ملاكين أرسلهما الله إلى داود، كما جاء فى بعض كتب التفاسير، لينبهاه على سبيل التلميح إلى الجريمة التى اقترفها، فأى جدوى من ذلك التصرف ما دام قد سبق السيفُ العَذَل وتمت الجريمة ولم يعد سبيل لتداركها؟ إن هذا عبث لا تليق نسبته إلى المولى عز وجل، الذى يَقْدِر أن ينبِّه نبيَّه فى هذه الحالة تنبيها مباشرا كما كان يفعل مع محمد صلى الله عليه وسلم حين كانت تنزل عليه هذه الآية أو تلك مشيرةً إلى ما وقع منه من اجتهاد لا تقرّه عليه السماء؟ ثم إذا كان الأنبياء يمكن أن يجترحوا جريمة القتل والتآمر على هذا النحو الشيطانى الخسيس، فما الفرق بينهم وبين عُتَاة المجرمين إذن؟ إن الإنسان العادىّ لا ينحطّ فى الغالب إلى هذه الدركة، فكيف يَتَدَهْدَى إلى مثلها الأنبياء والمرسلون الذين اصطفاهم الله على سائر خلقه وصنعهم على عينه وزوّدهم بالحكمة والتقوى على أحسن حال؟ وفضلا عن ذلك فالقرآن يقول عن داود عليه السلام بعد واقعة الخصمين فى سورة "ص" ذاتها: "وإن له عندنا لَزُلْفَى وحُسْنَ مآب"(8)، فكيف يمدحه الله سبحانه هذا المديح العظيم ويأتىَ بعضٌ فيتهموه تلك التهمة الشنيعة جريا وراء اليهود الملاعين الذين لم يتركوا نبيا ولا رسولا إلا افترَوْا عليه أشنع ضروب البهتان فى كتبهم؟ أنكذّب بالقرآن ونصدّق العهد القديم؟ كذلك فالآية التى تلى قصة المتخاصمين تحضه عليه السلام أن يحكم بين الناس بالحق ولا يتَّبِع الهوى، وهو ما يرجح أن تكون القصة متعلقة بمسائل القضاء والحكم بين الناس لا بمسألة أوريا وزوجته. ولو افترضنا بعد هذا كله أن لهذه القصة ظلا من الحقيقة، ولا إخال، فإن أقصى ما يمكن قوله هو أن داود ربما سمع بجمال زوجة قائده فحدّثته نفسه قائلة: لماذا لم يُكْتَب له أن(1/557)
يرى تلك المرأة قبل أن يتزوجها أوريا فيتخذها هو لنفسه زوجة؟
أما يونس فإن ما صنعه حين ضاق صدره بما رآه من لَدَد قومه فى الكفر والعصيان قتركهم ومضى على وجهه ليس سقطة أخلاقية. لا ولا هو تهاون فى أداء الواجب. وكل ما يمكن التعليق به على تصرفه ذاك هو أن الله لم يأذن له بهجرة قومه، وإلا فإن الرسول محمدا، صلى الله عليه وسلم، قد ترك هو أيضا بلده إلى بلد آخر رجاء أن يكون حظ الدعوة فيه أحسن، لكنه مع ذلك لم يُقْدِم على هذه الخطوة إلا بعد إذن الله له.
ونأتى إلى وكزة موسى، التى ينبغى ألا يفوتنا أنها كانت قبل النبوة، وكانت مجرد وكزة أراد بها عليه السلام أن يدفع غائلة العدوان أو على الأقل ما ظنه عدوانا على ابن جلدته فى بلد كان الاضطهاد والعسف يتناوشان بنى إسرائيل فيه، لا لشىء إلا لضعفهم وهوانهم آنئذ، لكن كانت للقدر مشيئة أخرى، إذ مات المصرى بسببها رغم أن موسى لم يقصد قتله البتة! ولْنلاحظ أن موسى قد أنبه ضميره على الفور ولذَّعه تلذيعا شديدا وأخذ يبتهل لربه نادما يطلب منه الغفران.
(1/558)
ورغم كل ما أبدأ فيه محمد أسد وأعاد فإنه هو نفسه، فى حديثه عن عبوس رسول الله حين أتاه ابن أم مكتوم يسأله فى بعض أمور دينه أثناء انشغاله عليه السلام بمحاولة إقناعه بعض رؤساء المشركين فى مكة بدعوته وهدايتهم إلى الإسلام، قد قال إن ما لا يزيد عن كونه مجرد هفوة تافهة من أى إنسان آخر فى مثل هذه المسألة المتعلقة بالمجاملات الاجتماعية يُعَدّ مع ذلك فى حق الأنبياء ذنبا كبيرا يستوجب العتاب. ثم يمضى قائلا إن معاتبة القرآن للرسول على مسمع من الدنيا كلها على ذلك النحو إنما هو دليل على أنه تنزيل من لدن رب العالمين وأنه، صلى الله عليه وسلم، لا ينطق عن الهوى(9). وهذا هو الذى أتفق فيه مع أسد ليس إلا، وهو هو نفسه ما صاغه علماؤنا القدامى رضى الله عنهم عندما قالوا: "حسنات الأبرار سيئات المقرَّبين". كذلك قد صدرت عن قلم كاتبنا عبارة مهمة لا أدرى كيف لم يستصحبها دائما معه بدلا من هذا الإلحاح المستمر على فكرة الضعف البشرى الأخلاقى الذى لا يفلت منه الرسل والأنبياء وإمكان وقوعهم فى أى ذنب من الذنوب التى يقترفها البشر، ألا وهى تذكيره، بصدد التعليق على قوله جل شأنه: "ما كان على النبى من حرج فيما فرض الله له. سُنَّةَ الله فى الذين خَلَوْا من قبل، وكان أمر الله قَدَرًا مقدورا"(10)، بأن الكلام هنا إنما يدور على الأنبياء السابقين الذين تتوافق فيهم جميعا هم والرسول عليه الصلاة والسلام رغائبهم الشخصية مع إسلامهم أنفسهم إلى الله، وهو ذلك الانسجام الروحى والفطرى الذى يميز صفوة خلق الله وقَدَرُهم المقدور كما تقول خاتمة الآية(11). ترى أين كان ذلك الكلام الجميل من قبل؟ إن هذا هو أحجى ما يقال عن أنبياء الله ورسله وأقربه إلى حديث القرآن المجيد عنهم، أما تصويرهم بصورة الضعفاء المهتزين الذين لا يملكون أنفسهم من الوقوع فى أى من الذنوب والآثام كلما تهيأت الدواعى لذلك فلا ينسجم مع القرآن، الذى يرفع النبيين والمرسلين(1/559)
مكانًا عَلِيًّا ويُثْتِى عليهم أجزل الثناء ويبرزهم على صفحاته نموذجا فذًّا لا يُطال رغم بشريتهم التى يؤكدها فى ذات الوقت، بل ينسجم بالأحرى مع اتجاه العهد القديم، الذى ينسب إليهم الزنا والقتل والدِّيَاثة ومقارفة الفاحشة مع المحارم والكذب والغدر والتحايل على الله والجلافة فى مخاطبته والإغضاء عن عبادة الأوثان فى بيوتهم...إلى آخر ما سوّد به اليهود الملاعين صفحات كتبهم التى يزعمون أنها وحى من عند رب العالمين، ملطِّخين بتلك الطريقة الصُّوَر النبيلة لهؤلاء الصفوة من عباد الله!
(1/560)
ولقد رجعت، بعد الفراغ من كتابة ما تقدَّم، إلى "الفِصَل فى المِلَل والنِّحَل" للإمام الجليل ابن حزم لأستعيد ما قالت الفِرَق الإسلامية فى هذا الموضوع، فوجدته يذكر أنهم اختلفوا فى ذلك: فطائفةٌ قالت إن الرسل، عليهم السلام، يمكن أن يعصوا الله فى جميع الكبائر والصغائر عَمْدًا حاشا الكذب فى التبليغ، بل إن بعض هؤلاء قد جوَّزوا عليهم الكفر أيضا، كما جوَّزوا أن يكون فى أمة محمد من هو أفضل منه. ويؤكد ابن حزم أن هذا كفر وشرك وردة عن الإسلام. وهناك من جوَّزوا عليهم الصغائر فقط عَمْدًا، أما الكبائر فلا. أما الذى تدين به أمة الإسلام من سنّة ومعتزلة وخوارج وشيعة ونجارية كما يقول ابن حزم فهو أنه لا يمكن البتة أن يقع من نبى معصية أصلا لا كبيرة ولا صغيرة. وهذا رأيه هو أيضا، وإن قال إنه قد يقع من الأنبياء السهو عن غير قصد، كما قد يقع منهم قصد الشىء يريدون به وجه الله تعالى والتقرب إليه فيوافق خلاف مراده عزَّ وجلَّ، إلا أنه تعالى لا يُقِرّهم على شىء من هذين الوجهين أصلا، بل ينبههم على ذلك ويبيّنه، وربما عاتبهم عليه(11). وهذا الذى ذهب إليه ابن حزم هو نفسه ما وصلتُ إليه من خلال تحليل النصوص القرآنية تقريبا. وإنه ليسعدنى أن يتوافق رأيى مع رأى ذلك العلامة العظيم، وإن كنت لا أستطيع أن أُقْدِم على تكفير محمد أسد فى مثل هذا خشية أن يكون اجتهادا منه خاطئا لا يبغى به التطاول على الأنبياء أو إهانتهم والتحقير من شأنهم عليهم صلوات الله وسلامه أجمعين، لكنى فى نفس الوقت لا أستطيع أبدا أن أهضم ما قاله بأى حال!
(1/561)
وفى النهاية أود أن أضبف أننا لا نجد هذا الرأى الغريب لأسد فى الأنبياء فى الكتب التى تُرْجِمَت له إلى العربية. لقد لمس مثلا بشرية الرسول عليه الصلاة والسلام فى موضعين من كتابه "الطريق إلى الإسلام"، وهذا نص ما قاله فى الموضع الأول: "ومع ذلك فإنه (أى الرسول عليه السلام) لم يَدَّعِ يوما إلا أنه بشر، ولم ينسب المسلمون إليه الألوهية قط كما فعل الكثيرون من أتباع الأنبياء الآخرين بعد وفاة نبيهم. والحق أن القرآن نفسه يزخر بالأقوال التى تؤكد إنسانية محمد: "وما محمد إلا رسول قد خَلَتْ من قبله الرسل. أفإن مات أو قُتِل انقلبتم على أعقابكم؟". كذلك فإن القرآن الكريم قد دلَّل على عجز النبى المطلق تجاه العزة الإلهية بقوله تعالى: "قل: لا أملك لنفسى نفعًا ولا ضَرًّا إلا ما شاء الله. ولو كنتُ أعلم الغيب لاستكثرتُ من الخير وما مسَّنِىَ السوء. إنْ أنا إلا نذيرٌ وبشيرٌ لقوم يؤمنون". ولا ريب فى أن مَنْ حوله لم يحبوه هذا الحب إلا لأنه لم يكن سوى بشر فحسب ولأنه عاش كما يعيش سائر الناس، يتمتع بملذات الوجود ويعانى آلامه"(12). وهو تقريبا نفس ما نقرؤه فى الموضع الآخر حيث يقول إنه، عليه السلام، كان " كائنا بشريا مليئا بالرغبات والدوافع الإنسانية وبوعى حياته الخاصة، وفى الوقت عينه أداة طيِّعة لتلقِّى رسالته"(13). والنَّصّان، رغم حرصهما على إبراز بشرية الرسول صلى الله عليه وسلّم، لا يتطرقان إلى مسألة العصمة النبوية، بل لا نلمح فى عباراتهما ما يوحى بأن المؤلف يرى أنه، عليه السلام، عرضة للوقوع فى الذنوب والآثام كأى شخص عادىّ. فهل هذا دليل على أن فكر كاتبنا قد تطور بعد ذلك إلى القول بأن الأنبياء يذنبون ويأثمون كغيرهم من البشر؟ أم هل كانت هذه الفكرة كامنة فى أطواء نفسه آنذاك، لكنها، لسبب أو لآخر، لم تشقّ طريقها إلى الظهور فى ذلك الكتاب؟
ـــــ بعض آرائه الفقهية:
(1/562)
فيما يلى سنناقش بعض المسائل الفقهية التى عرض لها مترجمنا فى هوامش ترجمته للقرآن الكريم: فمن ذلك تكريره القول بأن الحرب المشروعة فى الإسلام هى الحرب الدفاعية فقط (الحرب الدفاعية بالمعنى الواسع)، وأن ذلك هو ما تقوله الآيات القرآنية التى تأمر المسلمين بمقاتلة من يقاتلونهم فحسب وألا يبدأوا أحدا بعدوان كما فى الآية 190 وما بعدها من سورة "البقرة"، والآية 39 من سورة "الحج"، والآية 227 من سورة "الشعراء"، والآية 39 من سورة "الممتحنة"(1). وهو يؤكد فى نفس الوقت أن "الجهاد فى سبيل الله" واجب دينى لا يتم الإيمان إلا به (an act of faith)(2)، وأن الأمم التى يخاف أبناؤها الموت الجسدى ينتهى أمرها إلى الموت المعنوى، كما أن عودتها إلى الحياة تتوقف على عودتها إلى التمسك بالأخلاق من خلال التغلب على الخشية من الموت(2).
وفى ضوء هذا نراه يفسر غزوات الرسول عليه السلام: فعند حديثه عن غزوة بدر يقول إن حالة "حرب مفتوحة" كانت قائمة بين المسلمين والمشركين منذ الهجرة، ومن هنا كان تفكير الرسول فى مهاجمة القافلة القرشية العائدة من الشام والتى لم تكن رغم ذلك هى الهدف الحقيقى، وإلا لأخفى عزمه على مهاجمتها ولانتظر حتى تمر فى ميعادها وهاجمها عندئذ دون أن تكون لديها الفرصة للاستنجاد بقريش. أما هدفه الحقيقى فهو استفزاز الجيش المكى عن طريق الإشاعات عن عزمه مهاجمة القافلة حتى يبرز إليه ويشتبك معه فى معركة يحدد هو زمانها ومكانها فيهزمه محقِّقًا بتلك الطريقة الاعتبار والأمن لأتباعه الذين كانوا ضعفاء إبانئذ، بدلا من انتظار قريش حتى تغزوهم فى الوقت والظروف المواتية لها(2).
(1/563)
وانطلاقا من مبدإ الدفاع عن النفس أيضا يعلل أسد غزوة تبوك، إذ يقول إن الأخبار قد وردت النبى عليه السلام فى المدينة حينئذ بأن الروم يجهزون جيشا لغزو الجزيرة العربية والقضاء من ثم على الإسلام خشيةً من عواقب سرعة انتشاره واستجابةً لتحريض أبى عامر الراهب، ولكن عندما لم يجد الرسول جيش الروم عاد أدراجه إلى المدينة لأن الإسلام لا يحارب إلا للدفاع عن النفس(3). ولست أظن أن عندى ما يمكن أن أعترض به على هذا الكلام.
أما ما قاله فى الحرابة فليس من السهل قبوله. لقد تحدث القرآن الكريم عن جريمة الحرابة وعقوبتها فى قوله عزّ شأنه: "إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعَوْن فى الأرض فسادًا أنْ يُقَتَّلوا أو يُصَلَّبوا أو تُفَطَّع أيديهم وأرجلهم من خِلافٍ أو يُنْفَوْا من الأرض. ذلك لهم خزى فى الدنيا، ولهم فى الآخرة عذاب عظيم* إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم"(4)، وكان تعليق أسد على ذلك أن تقطيع يَدَىِ الشخص ورجليه غالبا ما يراد به القضاء على سلطانه، وأن من الممكن أن يكون هذا هو المعنى المقصود هنا، أو قد يكون المراد تشويهه على الحقيقة والمجاز جميعا، وأن التفسير الصحيح لعبارة "مِنْ خِلاف" هو "بسبب مخالفتهم (للدولة)" أو "بسبب فسادهم". ثم أضاف قائلا إن الآية لا تمثل فى الواقع حكما تشريعيا، بل هى نبوءة بأن الذين يحاربون الله ورسوله سينتهى مطافهم حتما إلى أن يُقَتِّل أو يُعَذِّب أو يُشَوِّه بعضهم بعضا مما يترتب عليه القضاء على جماعات كثيرة من الناس بسبب تهالكهم على السلطة الدنيوية والمطالب المادية، وهذا هو معنى النفى من الأرض فى رأيه.
(1/564)
والذى جعله يقول بهذا التفسير هو أن التضعيف فى "يُقَتَّلوا" و"يُصَلَّبوا" و"تُقَطَّع" يفيد، حسب فهمه، وقوع تلك الأفعال على أعداد كبيرة منهم لا عليهم كلهم بالضرورة، وهذا (فى رأيه) محضُ تحكمٍ يعوذ بالله أن يكون تشريعا إلهيا، فضلا عن أن محاربة الله ورسوله قد تقع من فرد واحد، فكيف يمكن أن يُقْتَل أو يُصْلَب منه أعداد كبيرة؟ وفوق ذلك فهذا الحكم هو نفسه الحكم الذى أصدره فرعون على من آمن مِنْ سَحَرَته بموسى، فكيف يجعل الله سبحانه مثل هذا الحكم الفرعونى تشريعا سماويا؟ كذلك لم يحدث، كما قال، أن أصدر حاكمٌ مسلمٌ عقوبةَ النفى من بلاد المسلمين على أحد من الخارجين عليه. وفوق ذلك فإن استعمال كلمة "الأرض" بمعنى "بلاد الإسلام" هو استعمال لا يعرفه الأسلوب القرآنى. ثم إن قوله تعالى: "إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله...أن يُقَتَّلوا أو يُصَلَّبوا أو تُقَطَّع أيديهم وأرجلهم من خلافٍ أو يُنْفَوْا من الأرض" ليس على سبيل الأمر لأن الأفعال الأربعة فيها كلها إنما جاءت بصيغة المضارع(5).
(1/565)
هذا ما قاله مستشرقنا، لكن فاته أن القرآن حين يقول: "إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله... كذا وكذا" إنما يقصد النص على تحديد العقوبة بصرف النظر عن الصيغة الفعلية المستخدمة. وهذا واضح فى قوله تعالى: "ومَنْ قَتَلَه منكم (أى قتل صيد الحَرَم) متعمِّدًا فجزاءٌ مِثْلُ ما قَتَل من النَّعَم"(6)، "قالت: ما جزاء من أراد بأهلك سوءا إلا أن يُسْجَن أو عذابٌ أليم؟"(7)، "ومن يقتل مؤمنا متعمِّدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها"(8)، "قالوا: جزاؤه مَنْ وُجِدَ فى رَحْله فهو جزاؤه"(9)...إلخ. وحتى لو وافقنا كاتبنا على تفسيره للتقتيل وتقطيع الأيدى والأرجل فإن السؤال هو: إذا كان المحارب شخصا واحدا كما قال، فكيف يا ترى سيَقْتُل هذا الشخصُ أو يشوِّه بعضه بعضا؟ كذلك قد يموت الخارجون على الدولة ميتة طبيعية دون أن يقتل أو يشوه بعضهم بعضا كما يفسر محمد أسد العبارة. إن التضعيف فى هذه الأفعال إنما يشير إلى أن الخارجين يجب أن يؤخذوا بكل عنف ودون لين أو هوادة مها كثرت أعدادهم. أما حكم فرعون بهذه العقوبة على سَحَرَته المؤمنين فلا يعنى أنه فى ذاته حكم فاسد، بل يعنى أن تطبيقه فقط كان ظالما، أما حين يطَبَّق على وجهه الصحيح فإنه يكون عندئذ حكما عادلا. وبالنسبة للنفى من الأرض فقد حدث كثيرا فى التاريخ الإسلامى، وإن لم يَعْنِ بالضرورة النَّفْىَ خارج ديار الإسلام كلية بل من المكان الذى يكون للمحارب فيه شوكة أو الذى يعيش فيه أهله وأصحابه ممن يؤلمه الابتعاد عنهم مثلا(10). وإلى جانب هذا فإن الاستثناء فى الآية الثانية من النص الذى بين أيدينا يدل على أن الكلام هنا إنما هو عن عقوبة تشريعية يُعْفَى منها الذين تابوا من جريمتهم قبل أن تلقى السلطات يدها عليهم. وأخيرا، وليس آخرا، فلو جارينا محمد أسد فى رأيه هذا لما كان له من معنى إلا أن الإسلام لم يضع لهذه الجريمة الشنعاء أية عقوبة، فهل هذا ممكن؟ حقا هل هذا ممكن فى الوقت الذى قد(1/566)
حدَّد فيه للسرقة عقوبة القطع، وهى جريمة أهون من جريمة الحرابة بكل المقاييس؟ أقول هذا لأن أسد لم يحاول أن يؤوِّل آية عقوبة السرقة(11) كما صنع مع آيَتَىِ الحرابة، بل دافع عن العقوبة الواردة فيها قائلا إنها عقوبة عادلة جدا فى ضوء ما تقوم به الحكومة الإسلامية من توفير المستوى المعيشى الملائم لكل فرد فى الدولة، مسلما كان أو غير مسلم، ومن ثم فليس معقولا أن يتحجج أحد بأنه قد وقع فريسة لإغراء السرقة. ثم تابع كلامه قائلا إنه إذا لم يقم المجتمع الإسلامى بتوفير المستوى المعيشى الملائم لأفراده فلا محل عندئذ لتطبيق عقوبة القطع(12). وهو ، كما يرى القارئ، كلام معقول جدا، وقد سار عليه عمر بن الخطاب رضى الله عنه فى عام الرَّمادة، إذ سِيقَ إليه رجلان متَّهَمان بسرقة بعيرٍ وأَكلِْه، فكاد أن يطبِّق عليهما الحدّ، لكنه لما علم أنهما كانا واقعين تحت ضغط الجوع والحاجة أسقط عنهما العقوبة وهدد بها سيدهما الذى كان يضيق عليهما فى الطعام مما اضطرهما إلى الإقدام على هذه السرقة.
(1/567)
وبالنسبة لـ "الزنا" يقول أسد إنه فى الإسلام شىء واحد، سواء كان الزانيان متزوجين أو عَزَبَيْن، وذلك على عكس ما هو مقرر فى بعض اللغات الأوربية كالإنجليزية مثلا ، إذ يسمَّى النوع الأول: "adultery"، والثانى: "fornication"(13). ويجد القارئ كلامه هذا فى تعليقه على الآية الثانية من سورة "النور"، وهى الآية التى تحدد عقوبة الزانى والزانية. ورغم أنه لم يفصِّل القول فى هذه العقوبة فالمفهوم من عبارته، ما دام لا يفرق بين زنا وزنا، أنه لا يرى حدًّا للزنا إلا الجلد سواء كان مجترحه مُحْصَنا أو غير محصن. وتعليقا على اشتراط القرآن الإتيانَ بأربعة شهود على واقعة الزنا يقول كاتبنا إن ذلك من الاستحالة بمكان، مما يدل على أن الإسلام يريد استبعاد أى طرف ثالث غير مرتكبَىِ الواقعة وقَصْرها على إقرار الزانى من تلقاء نفسه(14). ونضيف نحن أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن يقبل إقرار الزانى بسهولة، بل كان يراجعه ويحاول أن يتأكد بكل السبل أنه قد اجترح فعلا هذا الإثم نفسه اجتراحا صريحا لا يقبل الشك على أى نحو من الأنحاء. بل لقد كان يمحِّص قواه العقلية، وهو ما يومئ إلى أن الإسلام يُؤْثِر فى هذا الأمر الستر وعدم المسارعة إلى تطبيق الحد أو تمزيق البناء الأسرى.
(1/568)
وبالنسبة لتعبير "ما ملكت أيمانكم"، الذى تكرر فى القرآن المجيد يؤكد أسد، خلافا لما يقوله المفسرون والفقهاء، أن الإسلام لا يُقِرّ الاتصال الجنسى بسَبِيَّةٍ أو أَمَةٍ دون زواج، وأن "ما ملكت أيمانكم" معناها: "من امتلكتموهن من النساء بحقٍّ بعقد زواج"، وأن تحديد النكاح بأربعٍ غيرُ خاص بالحرائر من النساء، بل يمتد ليشمل السبايا أيضا. ذلك أنه يقرأ قوله تعالى: "وإن خفتم ألا تَعْدِلوا فواحدةً أو ما ملكت أيمانكم" على أساس أن جملة "فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدةً" هى جملة اعتراضية، و"ما ملكت أيمانكم" معطوف على "النساء"، أى "انكحوا ما طاب لكم من النساء أو مما ملكت أيمانكم مَثْنَى وثُلاثَ ورُبَاع". ومعنى هذا أنه لا فرق على الإطلاق بين الحرائر والإماء فى مسائل الاتصال الجنسى والزواج(15).
(1/569)
لكن يبدو لى أن ما فعله أسد هو إرهاق شديد لتركيب الآية، إذ لماذا يقدِّم القرآن الكريم جملة "فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدةً" على موضعها الأصلى ويحولها إلى جملة اعتراضية مما يترتب عليه أن يفهم القارئ أن التحديد بأربع أمر خاص بالحرائر من النساء فقط، مع أن المقصود شىء آخر غير ذلك؟ إن الذى نعرفه هو أنه لا بد من استبراء السَّبِيَّة بحيضة واحدة، خلافا للحرة المطلَّقة التى تُسْتَبْرَأ بثلاث حيضات، ولم نسمع أن الرسول أو أحدا من الصحابة كان، إذا ضم إليه سبية، يعقد عليها القران ويدفع لها مهرا كما كانوا يصنعون مع الحرة. ثم إن القرآن الكريم يميِّز تمييزا واضحا بين زوجات الرجال وما ملكت أيمانهم بما يؤكد أن هؤلاء غير أولئك حيث قال تعالى فى موضعين من القرآن: "... إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم"(16) ذاكرًا هؤلاء وأولئك جنبا إلى جنب، ولو كُنّ شيئا واحدا لاكتفى بذكر الزوجات وحدهن. بل إن المهر فيه لا يُذْكَر إلا للزوجة وحدها لا لملك اليمين، إذ خاطب المولى سبحانه رسوله عليه السلام بقوله: "يا أيها النبى، إنا أحللنا لك أزواجك اللاتى آتيتَ أجورهن وما ملكتْ يمينُك مما أفاء اللهُ عليك...إلخ". فالأجور، كما هو بيّن، قد ذُكِرَتْ للزوجات وحدهن دون ملك اليمين. وهذا فضلا عن أن السبيّة يحل نكاحها لمجرد وقوعها فى السبى حتى لو كان لها زوج(17)، وذلك بعد استبرائها بحيضة كما سلف القول، أما الحرة المتزوجة فلا يمكن نكاحها إلا إذا مات عنها زوجها أو طلّقها. أما آية سورة "النساء" فالواضح من تركيبها أن على المسلم، إذا أراد التعديد، أن يعدل بين زوجاته، وإلا فلْيكتف بواحدة أو فلْيأخذ مما ملكت يمينه ما يشاء. هذا ما تقوله الآية، أما تفسيرها على طريقة المستشرق النمساوى فمن الصعب الاقتناع به. ولسنا نقول هذا لأننا ندعو إلى إفلات الشهوات، فإن الحياة الحديثة فى بلادنا تجعل من الصعب الشديد الصعوبة التزوج بأكثر من واحدة، فضلا(1/570)
عن أن "ما ملكت اليمين" لم يعد لهن الآن أى وجود بحكم التطور التاريخى، لكننا نقرر ما نعتقد أنه هو التفسير الصحيح للآية. ولا ريب أن ما يشرعه القرآن فى "ملك اليمين" هو أنبل وأشرف مما تفعله الجيوش الأوربية فى أى بلد تجتاحه من اغتصاب النساء وبقر بطونهن وتعاور عدّة ذكور على المرأة الواحدة وغير ذلك من الفظائع، فلا ينبغى إذن أن يُفْزِعنا المعيار الغربى، فهو معيار كله نفاق وغطرسة فارغة كذابة، والأستاذ أسد يعرف هذا أكثر من غيره.
(1/571)
وما دمنا بصدد الحديث عن المرأة فيحسن أن نورد هنا رأى كاتبنا فى زى النساء فى ضوء ما طالبتهن به الآية الحادية والثلاثون من سورة "النور" التى تقول: "وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ولا يُبْدين زينتهن إلا ما ظهر منها، ولْيضربن بخُمُرهن على جيوبهن..."، إذ يرى أن عبارة "إلا ما ظهر منها" عبارة غامضة قصدا كى يترك الإسلام الباب مفتوحا للتطورات الاجتماعية فى تحديد المساحة التى تظهرها المرأة من جسدها. وعلى هذا فهو يخالف العلماء الذين يحددون المقصود بـ"ما ظهر منها" بالوجه والكفين والقدمين أو أقل من ذلك، ثم يضيف مؤكدا أن المهم هو غض البصر وحفظ الفرج لأن هذا هو مقياس العفة الذى ينصبه الإسلام للحكم على سلوك المرأة ولبسها(18). ومن الواضح جدا أن محمد أسد قد فاته ما نصَّت عليه أقوال الرسول من أن المرأة إذا بلغت المحيض فلا يحل لها أن تُظْهِر من نفسها إلا الوجه والكفين. ومن الواضح أيضا أنه لم يبال كثيرا بما تقوله الآية ذاتها من وجوب ضَرْب النساء خُمُرهن على جيوبهن ولا ما جاء فى الآية 59 من سورة "الأحزاب" من قوله عزَّ شأنه: "يا أيها النبى، قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يُدْنِين عليهن من جلابيبهن"، فمن هاتين الآيتين نعرف أن المسألة ليست متروكة للتطور الاجتماعى، بل هى محددة تحديدا، وإلا فلِمَ أمر القرآن نساء المؤمنين بألا يكتفين بستر رؤوسهن بالخمار بل لا بد أن يغطين به صدورهن أيضا، أو بأن يُدْنِين عليهن من جلابيبهن، ما دام المجتمع فى ذلك الوقت كان يسمح بكشف الصدر والشعر وما إلى ذلك؟ أليس هذا دليلا على أن القرآن هو الذى يُسَيِّر المجتمع ويوجهه فى هذه المسألة لا العكس كما يريد أن يقنعنا محمد أسد؟ وهب أن العرف الاجتماعى فى بلد ما (كما هو الحال فى بعض مناطق أفريقيا الهمجية مثلا، وكذلك فى أندية العراة ومسارح الإستربتيز وكثير من الأفلام فى الغرب نفسه وبعض بلاد العالم الأخرى أيضا) لا يرى(1/572)
فى كشف المرأة أثداءها ولا سوأتها من حرج، فهل يمكن القول بأن القرآن يقرّ ذلك العرف ولا يرى به بأسا؟ فما دور الإسلام إذن فى هذه القضية الخطيرة التى لها من الآثار الاجتماعية والأخلاقية ما ليس لكثير غيرها؟ وإذا كان القفّال، الذى يستشهد به أسد، قد فسَّر حدود "ما ظهر منها" بأنه "ما تقضى به العادة الجارية"، فقد كان مقصده هو العادة الجارية فى المجتمعات الإسلامية فى عصره، إذ مهما تفاوتت العوائد وقتها فلم تكن لتخرج عن نطاق الشرع: فبعضٌ يرى أنه لا بأس بكشف الوجه واليدين مثلا، وبعضٌ آخر يوجب أن تغطى المرأة وجهها ويديها أيضا تغطية تامة، وبعضٌ ثالث يخفف قليلا فيجيز لها ارتداء البرقع بدلا من النقاب...وهكذا.
ثم كيف يا ترى يمكن وصف المرأة التى تعرِّى شعرها وذراعيها وصدرها مثلا بصفة الحشمة (decency) كما يقول أسد؟ إن هذا تمييع للمفاهيم وللحدود الفاصلة بينها. إننا لسنا من المتشددين الذين يرفضون أن يظهر من المرأة حتى ولا الوجه والكفان، لكننا لا نستطيع رغم ذلك أن نوافق على ترك الميدان دون ضابط أو كابح بحجة مسايرة "العادة الجارية". وفوق ذلك فالأستاذ أسد قد عاد فى الهامش الذى بعد ذلك فقال إن الصدر فى الإسلام هو جزء من أجزاء جسم المرأة التى لا يمكن إظهارها(19). إذن فالمسألة ليست متروكة سبهللا، بل هناك ضوابط تحكمه، وهذا أحدها. كذلك كيف يقول كاتبنا ما قال، والآية التى تلى ذلك تحرِّم على النساء إظهار زينتهن إلا لآبائهن أو آباء بعولتهن أو إخوانهن أو بنى إخوانهن...إلخ؟ إن هذا يبرهن بأجلى برهان أن زى المرأة ليس متروكا للعادة الجارية بإطلاق، بل له قواعد محددة.
(1/573)
وفى الآية 58 من سورة "النور" الخاصة بالاستئذان داخل البيت الإسلامى والتى توجب على الذين ملكتهم يمين المسلم والذين لم يبلغوا الحُلُم أن يستأذنوا أهل البيت قبل الدخول عليهم فى ثلاثة أوقات محددة: من قبل صلاة الفجر، وحين يضعون ثيابهم من الظهيرة، ومن بعد صلاة العشاء، يقول محمد أسد إن "ما ملكت أيمانكم" يمكن أن يكون المقصود بها مَنْ ملكته يد المسلم أو المسلمة من خلال الزواج (أى الزوج والزوجة)، وذلك بناء على قوله إن السبيَّة لا يصح الاتصال الجنسى بها إلا بعقد زواج ومهر. وقد فرغنا من توضيح خطئه فى هذه النقطة، ونزيد هنا أن من الغريب جدا القول بوجوب استئذان كل من الزوجين على الآخر قبل الدخول عليه مع أن كليهما يرى من رفيقه فى الفراش ما لا معنى معه لوجوب استئذانه عند الدخول عليه فى غرفة النوم. ليس ذلك فقط، بل هو يفسر "الظهيرة" فى الآية بـ"النهار كله"(20)، ومعنى ذلك أن وجوب الاستئذان سيستمر أربعا وعشرين ساعة تقريبا ما دامت الظهيرة تساوى النهار كله، على حين يتكفل بالليل جميعه تقريبا الوقتُ الممتد من بعد صلاة العشاء إلى ما قبل صلاة الفجر. لكن إذا كان الأمر كذلك فعلا فلِمَ حدَّد القرآن مرات الاستئذان بثلاث ولم يقل: "ليل نهار" فيريح ويستريح؟
(1/574)
بقيت نقطتان أختتم بهما هذا الجزء الخاص بالمسائل الفقهية فى تعليقات أسد على ترجمته للقرآن: الأولى عَزْوُه إلغاءَ التبنِّى فى الإسلام إلى "رغبةِ الرسول" وزعمُه أنه، صلى الله عليه وسلم، حين زوَّج زيدا من زينب كان فى ذهنه هذا الهدف، وكأنه عليه السلام قد رتَّب كل شىء بحيث يتزوج ربيبُه بنتَ عمته ثم يطلقها ليتزوجها هو، إذ كانت زينب (كما يقول كاتبنا) تحبه منذ طفولتها(21). ولكن كيف عرف أسد أن زينب كانت تحب الرسول منذ الطفولة؟ وكيف طاوعته نفسه على كتابة هذا الكلام الذى يرجع بعضا من التشريعات الإسلامية على الأقل إلى "رغبة الرسول" عليه السلام؟ بل كيف يرضى محمد، وهو العربى الغيور، أن يزوج بنفسه حبيبته وعلى غير هواها من عبده السابق تخطيطا للزواج بها من بعد؟ وكذلك كيف فات كاتبنا أن كلامه هذا يناقض القرآن، الذى عاتب النبىَّ صلى الله عليه وسلم فى الآية 37 من سورة "الأحزاب" لأنه "يخشى الناس" فيتباطأ فى الزواج من زينب بعد تطليق زيد لها كيلا يقول الناس إنه قد تزوج امرأة ابنه، مع أن الله أحقّ أن يخشاه؟ الواقع أننى لا أعرف سر هذا الغرام لدى أسد بمخالفة ما هو معلوم ومقرَّر دون داع والإتيان بتلك الآراء الغريبة التى يصعب على النفس والعقل هضمها!
(1/575)
والنقطة الثانية هى دعواه بأن الحكم الشرعى فى قوله عزَّ من قائل: "يا أيها الذين آمنوا، إذا ناجيتم الرسول فقدِّموا بين يَدَىْ نجواكم صدقة" لا يزال سارى المفعول، إذ الآية فى نظره أعم مما يُفْهَم من ظاهرها، وأن المقصود هو وجوب تقديم المسلم صدقة كلما أقبل على دراسة التعاليم النبوية، ماليةً كانت هذه الصدقةُ أو مجردَ كلمة طيبة...إلخ، لأن هذه التعاليم تقوم مقام النبى نفسه عليه السلام(22). وكاتبنا، بهذه الطريقة، يُضَيِّع معالم النص ويجعله ينطبق على كل شىء وأى شىء. ثم إننا لم نسمع أن أحدا من الصحابة كان يفعل هذا الذى يطالب به أسد، بل بالعكس كان بعضهم يشفقون أن يقدِّموا بين يَدَىْ نجواهم مع الرسول نفسه صدقات كما تقول الآية التى تلى ذلك، فكيف يطالَب المسلمون بعد وفاة النبى أن يقدِّموا هذه الصدقات؟ على أية حال فهذه الآية نفسها توضح أن الله قد أعفاهم من هذا الحكم، إذ تقول: "أأشفقتم أن تقدِّموا بين يَدَىْ نجواكم صدقات؟فإذ لم تفعلوا وتاب الله عليكم فأقيموا الصلاة وآتُوا الزكاة وأطيعوا الله ورسوله، والله خبير بما تعملون". لكن أسد، رغم هذا، لا يسلِّم بل ينفى أن يكون فى الآية الثانية نسخ للأولى، إذ إنه ينكر فكرة النسخ من جذورها لأنها، كما يقول، تذكِّرنا بمؤلِّف بشرى يعيد النظر فى بعض النصوص التى كتبها فيشطب ما تبيَّن له خطؤه ويستبدل به كلاما آخر(23).
(1/576)
والمعروف أن النصارى يتخذون من فكرة النسخ فى القرآن هدفا لمطاعنهم رغم وجوده فى دينهم، ويتهمون كتاب الله بالتخبط وتغيير الأحكام من آونة لأخرى(24). فهل يريد أسد أن يغلق الباب فى وجه هؤلاء وأمثالهم؟ لكننا لو نفينا من القرآن كل ما يتخذه أعداؤه مطاعن عليه فأخشى ما يُخْشَى أن نصحو ذات يوم لنجد أننا قد ألغينا القرآن كله! وايًّا ما يكن الأمر فلا بد أن نعرف أن النسخ غير "البَداء": فالبداء هو اتهام الله سبحانه بالجهل بما سيقع والاضطراب فى الأحكام بناءً على هذا كما يزعم اليهود، أما النسخ فهو المواءمة مؤقتا بين الأحكام وبعض الظروف الطارئة ثم تغيير هذه الأحكام بعد زوال الطارئ من الظروف. فالفرق بينهما، كما ترى، هو الفرق بين المشرق والمغرب(25).
والحق أن فى تفسير أسد لمفهوم النسخ ظلما وتجنيا شديدا على من يقولون به، فهم لا يقصدون هذا الذى يقول البتة، ولا يمكن أن يدور بذهنهم شىء منه، وكل ما يقولونه هو أن الظروف فى بداية الدعوة الإسلامية كانت تحتاج إلى بعض التشريعات المؤقتة التى تناسبها ثم اسْتُبْدِل بها غيرها حين زالت هذه الظروف الخاصة. وهذا مشاهَدٌ فى كل مجالات الحياة، فالطفل مثلا له معاملة تختلف عن معاملته هو نفسه حين يكبر، وليس يظن عاقل أن فى الأمر خطأ، بل هى طبيعة التطور. وعجيب أن يتصلَّب أسد فى موقفه هذا من النسخ، وهو الذى يقول باحترام التطور فى مسألة الزى النسائى على رغم خطورة الرأى الذى ينادى به.
(1/577)
ومما يعتمد عليه مترجمنا فى إنكار النسخ فى القرآن أيضا الآية 42 من سورة "فُصِّلَتْ" التى تصف القرآن المجيد بأنه "لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه"، لأنه يظن أن "إبطال" الحكم فى الآية المنسوخة هو نفسه "الباطل" الذى نفته الآية عن القرآن(26)، مع أن هذا غير ذاك. ومثله نوع الطعام الذى يقدَّم للإنسان فى فترة الرضاعة، إذ بعد أن يكبر الطفل وتنبت له أسنان ويقوى جهازه الهضمى فإن أمه تكفّ عن إرضاعه وتقدِّم له، بدلا من ذلك، أطعمة متماسكة، ولا يقال أبدا إنه قد اتضح أن اللبن كان طعاما باطلا.
ولأن مستشرقنا النمساوى يرفض القول بالنسخ نراه يلوى بعنفٍ الآيتين 6- 7 من سورة "الأعلى": "سنُقْرِئك فلا تنسى* إلا ما شاء الله" قائلا إنهما قد سببتا حيرة شديدة للمفسرين إلى يومنا هذا، وإنهم كالعادة قد لجأوا فى تفسيرهما إلى القول بالنسخ. أما هو فيفسرهما بأن المقصود بهما ليس قراءة القرآن ونسيانه بل العلم البشرى بكل أنواعه من تجريبى وتأملى واستنباطى مما يورِّثه كل جيل للجيل الذى يليه، فلا يضيع منه شىء إلا ما شاء الله أن ينساه البشر لكونه لم يعد صالحا جَرّاء تقدم العلم والتنبه إلى أنه كان خاطئا(27). وفى هذا التفسير من التمحُّل ما فيه، فالكلام فى الآيتين موجَّه للرسول عليه السلام، على حين أنه، حسب تفسير أسد، موجه للبشرية كلها دون أن يكون فى السياق ما يسوِّغ هذا التفسير!
(1/578)
على أن محمد أسد ليس هو الوحيد الذى ينكر النسخ من المسلمين، بل مجرد واحد منهم. وأذكر فى هذا الصدد أن عبد المتعال الجابرى مثلا قد أصدر منذ وقت غير بعيد كتابا بعنوان "لا نسخ فى القرآن". ولهذا الفريق حججه التى يبسطها فى الدفاع عن رأيه، وهم يؤوِّلون كل آية يقول غيرهم إنها قد نُسِخَت بحيث تبدو وكأن مفعولها لا يزال ساريا. ولست أرى فى هذا ما يجرح إيمان صاحبه، وإن كنت أخالفهم فى موقفهم. وقد أحببتُ فى ردّى على أسد أن أبين أن الأدلة التى يوردها فى الدفاع عن رأيه ليست بالأدلة القوية أو الوجيهة، وهذا كل ما هنالك. وعلى أية حال فإنى أجد الخلاف معه هنا أهون كثيرا من الخلاف حول عصمة الأنبياء أو نجاة اليهود والنصارى والصابئين بعد مجىء الرسول عليه السلام برسالته إلى جميع الإنس والجن.
وفى النهاية أحب أن أضيف أنى، بعد أن فرغت من هذه الفصول، قد اطَّلعت على ترجمة محمد أسد فى "تتمّة "الأعلام" للزِّرِكلِْىّ" لمحمد خير رمضان يوسف، الذى يقول إن أسد قد "ظل يُسْدِى النصح الصبور إلى الإسلاميين ليقنعهم بأن الموعظة الحسنة والبناء المتأنى لا الصراع المتعجل هو سبيل البناء الإسلامى الصحيح"(28). وأنا معه فى هذا، وأرى أنه ينبغى البدء بالإصلاحات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية قبل التفكير فى تطبيق الحدود، التى ينبغى أن تكون آخر ما يُطَبَّق بعد أن تكون الأرض قد مُهِّدَت تماما مثلما حدث فى عصر الرسول عليه الصلاة والسلام.(1/579)
"من بعد ما كاد الأولاد، يباعون فى المزاد"
ثرثرة لا معنى لها
بقلم :إبراهيم عوض
أثناء قراءتى فى بعض كتب الدكتور محمد أركون أستاذ تاريخ الفكر الإسلامى بجامعة السوربون من أجل إعداد دراستى التى سبق نشرها فى بعض الصحف الألكترونية عن رأيه فى القرآن الكريم صادفتنى كلمة له سريعة عن الفيلسوف الجزائرى "بلديّاته" مالك بن نبى، ذلك الرجل الذى استطاع أن يحرز نجاحا كبيرا، فى ما خلّف من دراسات، فى تحويل دراسة التاريخ الإسلامى إلى علم ذى قوانين بحيث لا تقتصر قراءتنا له على مجرد الإلمام بالمعلومات، بل تتجاوز ذلك إلى استخلاص العبرة مما وقع فيه لا على الطريقة الوعظية القديمة رغم أهميتها، بل على طريقة علماء العلوم الطبيعية والرياضية ما أمكن، وفى هيئة معادلات وقوانين. وكانت الإشارة فى معرض حديث أركون عن القرآن والدراسات التى وضعها بعض المعاصرين من الكتّاب المسلمين عن كتاب الله الكريم، ومنها كتاب مالك بن نبى: "الظاهرة القرآنية"، فوجدته يتهم الكتاب بالضحالة والبعد عن الروح العلمية ومحاولة العزف على أوتار المشاعر الدينية التى لا عقل لها، أو شىء من هذا القبيل.
(1/580)
وسرحتُ بفكرى مستغربا هذا الكلام الذى أقل ما يمكن أن يوصف به أنه بعيد عن الحقيقة تمام البعد، وفيه ظلم كبير لبن نبى ولكتابه القيم، لكنى سرعان ما فِئْتُ إلى نفسى وعقلى فلم أستطع أن أجد جوابا على هذا الاستغراب إلا أن الرجلين يمثلان نمطين مختلفين تمام الاختلاف: فأما مالك فمفكّر متحمس لدينه يتألم لأوضاع أمته ويحاول أن يطبّ لها ويأخذ بيدها من المستنقع الذى غاصت فيه أرجلها منذ قرون ولا تستطيع أن تتخلص منه، مؤمنا أن علاجها إنما يكمن فى استمساكها بالقرآن الكريم والحرص على هويتها الإسلامية، وأنها لو عادت إلى هذا الدين وفهمته وطبقته كما ينبغى أن يُفْهَم ويُطَبَّق فى هذا العصر بناء على ما يقتضيه منطق الدين والعقل ومنطق الحياة والطبيعة البشرية فهى حقيقةٌ أن تخرج من الورطة الحضارية التى ارتكست فيها، بأقل مجهود ممكن وأسرعه. وأما أركون فقد اختار أن يحمل على كاهله وِزْر التشكيك فى كتاب الله وإثارة الشبهات من كل لون فيه من خلال مغالطة الحقائق المعروفة، وتزيين الخروج على الملة واللحاق بأوربا لحاق التبعية والانقياد، مطنطنا فى تلك الأثناء بأسماء بعض العلوم الإنسانية الجديدة التى يعرف جيدا أنها تبهر كثيرا من "البُلْه" الآتين من دول العالم الثالث، ومنه عالم الإسلام، وناثرا مصطلحاته الغريبة التى من شأنها اجتذاب الآذان الضعيفة المناعة التى تظن أنه كلما كان الكلام غير مفهوم كان معنى ذلك أنه كلام عميق لا يستطيع أن يقدره حق قدره إلا ذوو الألباب. وفاتهم أنْ ليس كل ما يلمع ذهبا!
(1/581)
وشىء آخر: أن بن نبى لم يستطع أن يلتقطه المستشرقون لأنه لم يرض لنفسه أن يلتقطوه، وكان واعيا بما يفعلونه للإيقاع به وبأمثاله من شبان المسلمين ممن ساقتهم الأقدار للاقتراب من دوائرهم، وبخاصة فى فرنسا. وقد حكى لنا، رحمه الله، فى الجزء الثانى من كتابه الرائع الخطير: "مذكرات شاهد للقرن" بعض ألاعيبهم وأساليبهم لالتقاط من لا يبالون من شباب العرب والمسلمين بدين أو وطن، وكل همهم الوصول إلى المناصب والحصول على الأموال والشهرة والاستمتاع بالنساء، ثم فليذهب كل شىء بعد ذلك إلى الجحيم. ومن بين من جاء ذكرهم من هؤلاء المستشرقين لويس ماسينيون، الذى كان يزعم أنه صديق للعرب وللمسلمين، والذى قال الأستاذ محمد لطفى جمعة (الكاتب والمحامى المصرى المعروف) عنه فى بعض ما كتب إنه قد اعتنق الإسلام، وهو ما سارعتُ إلى مناقشته فى مقدمة كتبتها لأحد كتبه قائلا إن مسألة كهذه لا يمكن أن نتقبلها بهذه البساطة، بل لا بد من دليل واضح مقنع، وبخاصة أن ما نعرفه عن الرجل يقول عكس هذا. ثم وجدت جمعة نفسه قد عاد فى موضع آخر من كتاباته فأبدى تشككه فى الرجل، فعرفت أن اتجاه ذهنى فى هذه المسألة كان سليما بحمد الله. وبن نبى فى هذا يختلف تمام الاختلاف عن أركون، الذى قرَّبه الفرنسيون وعيّنوه فى جامعة من أعرق جامعاتهم، وهم يعرفون أنه استثمار نافع ومفيد أشد النفع والإفادة، إذ يمكن أن يكون مخلبا لاصطياد الطلاب العرب والمسلمين الذين تسوقهم الأقدار إلى الاحتكاك به فى محاضراته أو أثناء العمل فى رسائلهم العلمية تحت إشرافه، فينطلقون يمجّدونه ويعلون من شأنه دون تحفظ بل دون تفكير، وهو ما استفزنى فكتبت الدراسة التى لم يبعد بها العهد والتى نُشِرت فى بعض المجلات الألكترونية مؤخرا. لقد آلمتنى مزاعم الرجل التافهة المتهافتة ضد القرآن من أنه نتاج للمخيال الجماعى العربى لا وحى إلهى، وذلك رغم قلة إلمامه بالتراث الإسلامى وعدم تعمقه فى فهمه، مع(1/582)
الاستعاضة عن ذلك فى نفس الوقت بلَوْك كثير من العبارات التى لا رأس لها ولا ذيل، وسَوْق طائفة من المصطلحات العجيبة التى يريد بها أن يحرف العقول عن القرآن والإسلام، والتخفى وراء قدر من الغموض مقصود ليُوقِع فى رُوع القارئ المسكين أنه بصدد فكرٍ عميقٍ لمفكرٍ عملاق، وهو ما يروّج له بعض من الطلاب الذين درسوا على يديه فى باريس وحصلوا على درجة الدكتورية فى تخصص غير تخصصهم الأصلى، وأخذوا يرددون دعاواه السخيفة فى الدين الذى أتى به محمد عليه السلام والكتاب الذى أُنْزِل عليه. وهل هناك خدمة أفضل من هذه يمكن أن يؤديها أى منا للغرب، الذى يعمل بكل قواه منذ أن بزغت شمس الإسلام حتى الآن على خنق نور الله، مستعينا بعلمائه وساسته ورحّاليه وصحفييه وإدارييه وعسكرييه ومستشرقيه ومبشريه، وبالاستعانة كذلك بتلامذته وحوارييه من بين أظهرنا؟
(1/583)
وقد بدأ اهتمامى بمالك بن نبى منذ أن كنت طالبا فى الجامعة، فقرأت له أنا وأصدقائى آنذاك كل ما وقعت عليه أيدينا من كُتُبه التى ترجم كثيرا منها الدكتور عبد الصبور شاهين. وقد راعنى وأعجبنى منها تلك الروح العلمية التى تريد أن تقنّن كل شىء، مما ذكّرنى بابن خلدون ومقدمته التى نحا فيها نفس المنحى، مع الفارق المتمثل فى أن بن نبى قد ركَّز كلامه وفكره الفلسفى على المجتمعات الإسلامية القديم منها والحديث، بخلاف ابن خلدون، الذى جاء كلامه فى هذا الصدد عامًّا يهدف من ورائه إلى أن يصدق على كل مجتمع مسلما كان أو غير مسلم. وهو ما كتبته فى مقال لى عن هذا المفكر الجزائرى حاولت نشره فى أواسط السبعينات من القرن الماضى فى مجلة "الإذاعة والتليفزيون" المصرية متشجعا بوجود الأستاذ أحمد بهجت على رئاسة تحريرها، وإن لم أستطع رغم ذلك أن أقابله (بل لم أره أو أتصل به حتى الآن)، إذ كنت فى كل مرة من المرات القليلة التى ترددت فيها على المجلة أقابل سكرتير التحرير، الذى كان يبيع لى الكلام المعسول مستغربا (أو قل: مستنكرا)، فيما يبدو، أن يتجرأ شاب صغير لا هو فى العير ولا فى النفير على التفكير فى النشر فى أشهر مجلة فى مصر فى ذلك الحين وأوسعها انتشارا، لكنه فى ذات الوقت أخذ يسوّف فى مسألة النشر، إلى أن ضاق صدرى بعد المرة الثالثة، فصممت أن أذهب فأسترد المقال بأى ثمن، ولم يشفع للرجل، وكان مسؤولا فى وزارة الإعلام، أنه أخذ يطيب خاطرى ويؤكد لى أن أحمد بهجت قد أصدر أمره بنشر المقال، لكنْ كان العفريت قد ركبنى فلم أَلِنْ لكلامه، وأخذت عيناى تقذفان بالشرر، ورفضتُ أن أتفاهم أو أبقى معه لحظة، وصممت على أخذ المقال بأى ثمن، فلم يجد بدا من أن يناولنيه، وانصرفت دون أن ألقى عليه تحية الانصراف. وقد أعطيت المقال بعد ذلك للأستاذ نصر عبد اللطيف مدير التحرير فى مجلة "الهلال" قبل أن أترك مصر بعدها بقليل إلى بريطانيا فى بعثة للحصول على(1/584)
الدكتورية فى النقد الأدبى، ولم أعد أعرف عن مصير المقال شيئا، وبخاصة أن الدكتور حسين مؤنس قد تولى عقب ذلك رئاسة التحرير بعد الشاعر صالح جودت وغيّر من نظام المجلة ملغيا ملحق "الزهور" الذى كان الأستاذ نصر عبد اللطيف ينشر لنا فيه مقالاتنا بكل مودة ورقة وترحاب كشخصيته الكريمة رغم أنه لم يكن يعرف واحدا مثلى معرفة شخصية، لأفاجأ بعد عودتى من البعثة بعد ست سنوات (فى عام اثنين وثمانين) بأحد الأصدقاء يزفّ لى النبأ بأن مجلة "الهلال" قد نشرت المقال، فظللت أبحث عن العدد الذى ظهر فيه إلى أن وجدته.
(1/585)
وإنى لأذكر الظروف التى كتبت فيها المقال. لقد كان ذلك فى شقة الصديق المذكور بالإسكندرية حيث كنت، وأنا لا أزال فى العشرينات من عمرى، أسافر من قريتى "كُتَامة الغابة" فى محافظة الغربية إلى عروس البحر المتوسط كل صيفٍ وأنزل ضيفًا على أخى وأختى وصديقى هذا فأقضى هناك أوقاتا هانئة رغم قلة المال فى ذلك الوقت. وأذكر أنى انتهيت من المقال فى جلسة واحدة معتمدا على كتابين أو ثلاثة لمالك بن نبى وعلى الذاكرة أكثر مما اعتمدتُ على نصوص الكتب مباشرة. وكان يخيَّل لى حينها أننى أضحيت كاتبا كبيرا! ألست أكتب عن فيلسوف كمالك بن نبى، وأنتهى من كتابة مقالى عنه فى شوط واحد وأنا جالس ممددا بطول الأريكة فى بيت صديقى السكندرى؟ وقد أبرزتُ فى ذلك الفكرة التى كانت وما زالت تسكن عقلى منذ تعرفى بكتابات المفكر الجزائرى من أن مالك بن نبى هو فيلسوف القوانين التاريخية كابن خلدون، وإن لم أذكر الفرق الذى أومأت إليه قبل قليل بين المفكّرَيْن. ويبدو أن هذه الفكرة هى التى شفعت للمقال عند الدكتور مؤنس، إذ كان، كما هو معروف، أستاذا للتاريخ، وكان مستغرقا فى أخريات حياته فى البحث فى أحوال المسلمين ومحاولة العثور على دواء لأمراضهم الحضارية والنفسية والاجتماعية من خلال الدين المحمدى العظيم مثلما كان يصنع مالك بن نبى، فنشره مشكورا رغم أنه لم يسمع بى لا قبل ذلك ولا بعده لأنى لم أعاود الكرّة فى محاولة نشر أى مقالات لى لا فى "الهلال" ولا فى غيرها من المجلات المصرية بعد الذى جرى، اللهم إلا مقالا فى مجلة "الشعر" منذ عدة أعوام نشره لى أحد الأصدقاء، وإلا مقالا آخر أرد فيه على أستاذ مصرى يعيش فى سويسرا منذ وقت طويل كنت وضعت كتابا عن رسالته التى حصل بها على درجة الدكتورية من فرنسا وشكَّك فيها فى أحداث السيرة وأخذ يتخيل من عند نفسه بدلا منها أحداثا ما أنزل الله بها من سلطان، فبدلا من أن يتعرض لأدلتى الصلبة التى نقضت بها فكرة كتابه(1/586)
المحورية وهلهلتُ ما تفرع منها من أفكار جزئية، وجد أن من السهل عليه الاكتفاء بمقال فى مجلة "المصوّر" يدّعى علىّ فيه أنى مارست معه الإرهاب الفكرى وأنى استهدفت عقيدته بالتشكيك أو ما إلى ذلك مما لست أذكره بمضى الزمن، ظنا منه أن ذلك سيصرفنى عن التعرض له ولما كتب، فحبّرت ردا على هذا الذى كتبه متحديا إياه أن يدلنى على أى شىء فى كتابى يعضد ما ادّعاه علىّ، وحكّمت القراء فى المسألة تاركا لهم الرجوع للكتاب المذكور والبحث فيه عما يمكن أن يكون مصداقا لدعواه ضدى إن استطاعوا. وأغلب الظن أننى لو رجعت الآن للمقال الذى كتبته عن مالك بن نبى فلن أرضى عنه، أو على الأقل لن يكون له فى عينى ذلك البريق القديم، إذ لن يخرج فى أحسن الأحوال عن أن يكون تمرينا مبكرا لما أصبحت أكتبه فيما بعد ولا أستطيع مع ذلك أن أحس تجاهه بالرضا التام مهما بذلتُ فيه من جهد وتجويد. ولكن ما هذا الذى جرى يا ترى مما جعلنى أعزف عن التفكير فى النشر بالمجلات؟
(1/587)
بعد عودتى من بريطانيا إثر حصولى على الدكتورية من جامعة أوكسفورد عام 1982م بشهور جاءنى خطاب حكومى صغير أحسست، لا أدرى لماذا، عند تسلمه بشىء من الانقباض فى صدرى، ففتحته لأجد أنه من مأمورية الضرائب التى فى قصر العينى تطالبنى فيه بتسديد نحو سبعمائة جنيه عن المقالات التى أكتبها فى المجلات المصرية، وهو ما يعنى أننى كنت أكتب كل شهر فى كل مجلة من هذه المجلات مقالا طوال السنوات التى قضيتها فى بريطانيا، وأننى كونت ثروة من هذا النشاط، فى حين أن الحقيقة عكس ذلك تماما، فإنى لم أكن قد نشرت أى شىء منذ سفرى إلى المملكة المتحدة فى عام 1976م، ببساطة لأننى كنت خارج البلاد، فضلا عن انشغالى التام هناك بدراستى. وقد ذهبت ثانى يوم إلى مأمورية الضرائب وكُلّى اطمئنان إلى أننى متى أريتهم جواز السفر فسوف تنتهى المشكلة على الفور ويقولون لى: "نحن آسفون على هذا الإزعاج". ومن يدرى؟ ربما عوّضونى كذلك عما سببوه لى من توتر. ولكن من الواضح أننى كنت واهما، إذ إننا نتعامل مع إدارة حكومية تنتمى إلى العالم الثالث. فطلبوا منى أن أوافيهم بخطاب من كليتى تقول فيه إننى كنت فعلا بالخارج طوال السنوات الماضية التى يطالبوننى بتسديد ضرائب عما يُفْتَرَض أننى كتبته أثناءها من مقالات. ورغم استغرابى هذا الطلب لاعتقادى أن جواز السفر يجيب على ما يطلبون بأجلى بيان، علاوة على أنه لا يمكن أن يكذب بينما يمكن أن يزوِّر الواحد، لو أراد، مثل هذا الخطاب الذى يطلبونه، فقد قلت لنفسى: "بسيطة! تاهت ولقيناها". وذهبت للكلية فأعطتنى الخطاب المطلوب الذى سلمتُه بدورى للضرائب منتظرا أن يعتذروا لى عن وجع الدماغ الذى سببوه لى ظلما. لكننى كنت واهما مرة أخرى، إذ أحالونى إلى لجنة للنظر فى الخطاب والجواز، لتقول اللجنة لى بعد مدة لا أدرى كم طالت إننى ينبغى أن أدفع المبلغ مضافا إليه الفوائد. وعبثا حاولت على مدار سنتين أو أكثر أن أتفادى دفع هذا المبلغ(1/588)
الكبير عن عدة مقالات كان كل ما قبضته مكافأة لها هو بضع عشرات من الجنيهات لا تزيد عن الخمسين إلا قليلا... إلى أن وصلنى ذات يوم خطاب حكومى أصفر صغير، فانقبض قلبى مرة أخرى، وفتحته لأجدهم ينذروننى إنذارا نهائيا بالدفع خلال خمسة عشر يوما أو يحجزوا على أثاث الشقة الذى أمرونى ألا أتصرف فيه، وإلا اتُّهِمْتُ بالتبديد. وكان المبلغ قد بلغ فى تلك الأثناء بسبب الفوائد ألف جنيه، وهو مبلغ ضخم جدا بالنسبة لواحد مثلى فى ذلك الحين من منتصف ثمانينات القرن الماضى. وقد شعرت بالعرق ينساب غزيرا من كل مكان فى جسدى، لا لفداحة المبلغ فقط، بل لما فى الأمر من غَبْنٍ جلف، فإنى لم أكسب من العملية كلها كما قلت إلا نحو خمسين جنيها من عدة مقالات لا راحت ولا جاءت ولا قيمة لها. لكن: هذا "ألله"، وهذه حكمته، وهذه هى الأوضاع فى بلادنا المحروسة، بينما يهرب اللصوص بالملايين التى سرقوها من جيبى وجيبك وجيوب الآخرين المساكين دون أن يهددهم أحد بشىء بل معززين مكرمين، وعلى خدّ كل واحد منهم بوسة (بوسة شرعية طبعا. أخويّة يعنى، وليست من التى بالى بالك). وأذكر أنى قضيت آنذاك "ليلة ليلاء" كما نقول نحن أساتذة العربى، الله يلعن العربى وسنينه الذى يغرى بكتابة مقالات لا معنى لها ولا فائدة من ورائها وتوقع فى مشاكل ضريبية من هذا النوع، ثم فى نهاية المطاف لا يقرؤها أحد إلا من يرومون إثارة الجدال والمماحكة!
(1/589)
وذهبت ثانى يوم من الفجر بعد أن ضاعفت جرعة الدعاء عقب الصلاة بأن يجىء الله بالفرج هذه المرة، ووصلت لمأمورية الضرائب التى أصبحتُ أحفظ موقعها ومكاتبها كما أحفظ بيتى، وسألت فى الاستقبال عن مكان تصدير الخطاب فقالوا لى: الأرشيف. وكان فى الطابق الأرضى على يمين الداخل، فدخلتُ فوجدتُ موظفا شابا يقضم شطيرة (شطيرة، وليس كما يتظرف السخفاء: "شاطر ومشطور وبينهما طازج")، فقت له وأنا أطلعه على الرسالة: من فضلك، من الذى أرسل لى هذا الخطاب؟ فقال على الفور بعد أن ألقى نظرة سريعة عليه: أنا. فقلت ضاحكا من شدة البلية: وهل ستحجزون فعلا على أثاث شقتى؟ فقال: نعم بكل تأكيد. فقلت وأنا لا أزال أضحك من فداحة الهم: وأين أنام أنا وأولادى إذن؟ فقال: ولكن هذه هى التعليمات، وأنا العبد المأمور. فتخيلتُ الفضيحة أم جلاجل التى ستتسبب لى فيها مأمورية الضرائب بين الجيران عندما يأتون ويقيمون مزادا علنيا للأنتريه وغرفة النوم والسفرة التى فى الشقة، وهى أشياء ليست ذات قيمة. ثم من يدرى؟ربما أضافوا الأولاد أيضا إلى المزاد إذا لم تَكْفِ هذه الأشياء لتغطية المبلغ المطلوب. وتصورت أولادى وقد اشتراهم أحد الجيران وألحقهم باسمه ولم يعد لى فيهم نصيب ولا أستطيع أن أقول لهم: "ثلث الثلاثة كم؟" وهم يروحون ويجيئون أمام عينى، فقلت له كمن هبط عليه الإلهام فجأة: يا أخى الفاضل، دعنا من الرسميات والقانون، وتعال نتكلم من الناحية الإنسانية. فوجدته يتوقف عن الطعام لينصت، فشجعنى هذا على المضى فى الكلام، وقلت له الحكاية من "طق طق" لـ"سلام عليكم"، ثم عقبت قائلا: "والآن ضع نفسك فى مكانى، وقل لى من فضلك كيف تتصرف". وإذا به يضع الشطيرة جانبا (الشطيرة لا الشاطر والمشطور والطازج الذى بينهما كما يقول السخفاء للتهكم بلساننا القومى، بلاهم الله بمأمورية الضرائب كما بلانى وأرانى فيهم يوما) ويقول: تعال معى. فقلت له: إلى أين؟ فقال: لأحلّ لك المشكلة. قلت(1/590)
له وأنا غير مصدق، وفى نفس الوقت فرحان لأن أولادى لن يباعوا منى فى المزاد، هؤلاء الأولاد الذين كلفونى الكثير ووُلِدوا وتربَّوْا فى إنجلترا، و"يضربون بالقُلَّة" بلسان جون بول وينادوننى بـ"دادِى"، التى أصوّبها لهم قائلا: "ضاضِى لا دادِى" بحجة أن لغتنا هى لغة "الضاد" لا "الداد" (باختصار: أولاد عمولة، وليسوا شُغْل سُوق): هل من المعقول أن المشكلة التى حيرتنى طوال السنوات الماضية سوف تنحلّ الآن وبهذه السهولة؟ فأكد لى أنْ نعم. فقلت له (وأنا أكاد أطير من الفرح لولا أننى قلت لنفسى: انتظر حتى تنحل المشكلة فعلا، وبعدها يصير لكل حادث حديث كما نقول نحن أهل العربى، وعندك يا أبا خليل برج الجزيرة على مقربة منك يمكنك أن تصعد فوقه وتطير كما تحبّ وتفعل مثلما فعل عباس بن فرناس فتنزل على جذور رقبتك بالطريقة التى تُشْمِت بك أمة محمد وعيسى وموسى جميعا): الله ينعم عليك! ولكن لم لا تنتهى من الشطيرة أولا؟ (الشطيرة لا الشاطر والمشطور والـ... إلخ كما يقول الـ... إلخ للتهكم بالـ...إلخ أيضا). فقال بارك الله فيه: دعنا من الشطيرة الآن (بطبيعة الحال حتى أكون صادقا، فالكذب خيبة، لقد قال: "الساندويتش". ولم يكن من اللياقة ولا اللباقة فى شىء كما لا يخفى عليكم، ولا كان عندى نفس، أن أنبهه إلى أن الصواب هو أن يقول: "شطيرة". ألا لعنة الله على الشطيرة والساندويتش معا! هل هذا وقته؟).
(1/591)
المهم: أخذنى الشاب ابن الحلال فى المصعد إلى السيدة التى كانت تتولى ملف الضرائب الخاص بى والذى كانت مشكلته فى ذلك الوقت قد صارت أعقد من مشكلة الملف النووى للعراق وإيران وكوريا الشمالية (التى منها صديقى "ريانج" الكافر) جميعا، ولم يبق إلا أن تقرر أمريكا ومعها بريطانيا وأستراليا ضربى بالقنابل والصواريخ بكل أنواعها أثناء المزاد العلنى، لينبرى الفصحاء ممن يحملون أسماءنا ويدينون رسميا بديننا ويتكلمون لغتنا (لغة الشاطر والمشطور وبينهما ما تعرفون فلا داعى لتكملة الكلام)، وهم الآن أكثر من الهم على القلب ويعرضون خدماتهم بحرارة فى كل مجلة وجريدة ورقية أو ألكترونية وفى كل إذاعة مرئية أو صوتية، فيتهموننى بالإرهاب والكباب والهباب وتقطيع الرقاب واستحقاق العقاب والعذاب بسبب التخلف الدينى (أى الإسلامى طبعا، وهل هناك غيره؟) وتعكير صفو الأمن الدولى، ويطالبون بمحوى من على الخريطة محوا تاما لا يبقى ولا يذر إكراما للأمريكان والأسترال والإنجليز. يا حفيظ، يا حفيظ! شىء يجنّن، شىء يغيظ! وكل هذا من أجل شوية "لحاليح" لا تساوى شيئا بجنب الملايين والمليارات التى يسرقها اللصوص الذين لا يستطيع أن يحملق فى وجوههم أحد من هؤلاء الأذيال الأنذال، وإلا كان مصيره النكال والوبال والضرب بالنعال! لكن ماذا تقول فى الضمير الحَرِج والعَسِر للمتدلّهين فى غرام أمريكا؟ حساسيتهم الأخلاقية حساسية من الطراز الأول! أم تريدونها فوضى؟ لا يا سادة، ألم تسمعوا بقول الشاعر الشاطرىّ المشطورىّ الطازجىّ وهو يقول:
لا يَسْلَم الشرف الرفيع من الأذى *** حتى يُراق على جوانبه الدَّمُ؟
فلماذا إذن المعاظلة؟ أومن يقول الحق فى هذه البلاد كِخّة؟
(1/592)
وعند وصولنا فاتَحَ الرجلُ الطيبُ الموظفةَ المسؤولةَ عن الملف النووى الإبراهيمى "مسز إكس" (على وزن هانز بليكس) فى الموضوع فقالت له إنها تعرف القصة، وإن عليه (أى علىّ أنا العبد لله) أن يدفع الألف جنيه... إلى آخر ما تعرفونه الآن أكثر منى من كثرة ما تابعتم الموضوع على شاشات التلفاز وفى الصحف ومحطات الإذاعة المحلية والعالمية، فما كان منه إلا أن قال لها بكل بساطة وعبقرية: "دعيك مما فات، وخلِّنا أولاد اليوم، وابدئى معه من هذه اللحظة، وخذى أقواله فى كل ما تحتاجين أن تكتبيه فى التقرير". يعنى أننى سأكون مصدر المعلومات المطلوبة منى. والعجيب الغريب أنها استجابت لما قال! الله أكبر! ولماذا لم يكن الكلام هكذا من الأوّل؟ إذن لَكُنّا وفّرنا الوقت الذى ضاع، والأعصاب التى تهرّأت، والمال الذى أُهْدِر على البنزين والزيت الذى أكلته السيارة، ودوخة البحث كل مرة عن مكان أضع فيه سيارتى لحين الانتهاء من السبع دوخات فى متاهة الضرائب! ثم بعد كلمتين من هنا وكلمتين من هناك، وحسبة ولا حسبة برما (وبالمناسبة فبرما هذه لا تبعد عن قريتى أكثر من ثمانية كيلومترات، وتقع فى منتصف الطريق بينها وبين طنطا)، أعطتنى ورقة لأدفع المبلغ الذى يجب علىّ أن أسدده فى الخزينة. ترى كم كان هذا المبلغ أيها القارئ الكريم؟ أحد عشر جنيها وكسور! يا أخى قل: اثنا عشر جنيها، وخَلِّ الباقى لأجلك، فما بين الجيّدين حساب. لا والله يا أخى القارئ لن يرجع الباقى إلى جيبى، فهو لك حلاوة البراءة! وذهبتُ ودفعتُ وعدتُ ونزلت مع الرجل الطيب وأنا أتوقع أن يلمح لى بشىء لقاء هذه الخدمة العظيمة التى لم تكن تخطر لى على بال، لكن الرجل الطيب لم ينطق ولم يلمح، فحاولت أنا أن أومئ، لكن الرجل الطيب ولا هو هنا. فأخذت أشكره وأطيل الشكر على عادتى مع كل من أدَّى إلىّ معروفا وأعود فأشكره من جديد متوقعا أنه سوف يستجمع شجاعته ويقول أى شىء. لكن يبدو أن الجرعة المضاعفة(1/593)
من الدعاء فى أعقاب صلاة الفجر قد آتت مفعولها، فمد الرجل الطيب يده يصافحنى إيذانا لى بالانصراف مطمئنّا أنه لا شىء مطلوب منى لا تحت الترابيزة ولا فوق الترابيزة، ثم دخل واستأنف أكل الشطيرة (الشطيرة لا الشاطر ولا المشطور ولا الطازج الذى بينهما يا مفترين الكذبَ على المجمع اللغوى مثلما يفترى الكذبَ على المقاومة والمتدينين المسلمين من يواطئون أمريكا على إجرامها وفحشها). سبحان الله! وأين كان هذا الرجل الطيب من البداية؟ ولماذا لم يخطر لأى من الذين تعاملت معهم على مدار السنتين وزيادة الماضيتين أن يفكر بهذه الطريقة العبقرية والبسيطة والعادلة فى آن؟ وكيف يستطيع هذا الرجل الطيب الجالس فى الأرشيف أن يحل المشكلة بتلك المهارة وتلك الثقة، ولا يستطيع الموظفون المختصون والمديرون الذين فوقهم واللجان التى تشكلت أن يصنعوا مثل صنيعه؟ بل كيف استجابت الموظفة لتوجيهه ولم تأخذها العزة بالإثم فتصر على موقفها، ومن لا يعجبه الكلام فليشرب من البحر (الشارب هو أنا بطبيعة الحال، أم هناك رأى آخر؟)؟ حكمتك يا رب! تضع سرك فى أضعف خلقك!
(1/594)
أخذنى الكلام فنسيت أن أقول لكم إنهم، عندما شكلوا لجنة لدراسة حالتى، كلفونى أن أدور على كل المجلات المصرية (والحمد لله أنْ لم يطلبوا منى أن أدور أيضا على مجلات الوطن العربى كله) وأحضر من كل منها بيانا بما يمكن أن أكون قد أخذته منها من مكافآت (أى بصريح العبارة "كعب دائر"، ولكنى اكتفيت بالمجلات التى تعاملتُ معها فعلا لا كل المجلات كما طلبوا، وإلا لكنت لا أزال إلى يومنا هذا أجمع تلك البيانات ومعى عسكرىّ أُمّىّ لا يعرف الرحمة ولا يمكن التفاهم معه: ننتقل من قطار إلى قطار، ونرتحل من قسم شرطة فى كل محافظة إلى آخر وقد رُبِطَت يده بالقيد الحديدى فى يدى كيلا أهرب قبل أن أدفع الأحد عشر جنيها وكُسُورا التى كانت فى ذمتى للحكومة والتى كانت كفيلة بإصلاح أحوال ميزانية الدولة آنذاك، فإن أحدا لا يدرى أين تكون البركة حسبما قال سيدنا رسول الله! كما نسيت أيضا أن أخبركم أننى لم أغادر مأمورية الضرائب فى ذلك اليوم إلا بعد أن مزقت البطاقة الضريبية ستمائة ألف حتّة بعدد الحِتَت التى دعا السودانىُّ (المفقوعُ المرارة مما وقع له من سرقة محفظته فى قلب القاهرة) أن يمزق الله دولة السودان ومصر إليها بعد أن كان يهتف من أعماق قلبه قبلها مباشرة وبعُلُوّ حِسّه أن السودان ومصر حِتّة (هِتّة) واحدة! ثم رميتها بعد ذلك فى صندوق الزبالة كما لا أحتاج أن أقول. وكان هذا آخر عهدى بكتابة شىء فى أية مجلة مصرية بفلوس، اللهم إلا المقال الوحيد الذى أشرت إليه قبل قليل. وكانت الضرائب على الكتب والمقالات قد ألغيت قبل ذلك! عجايب! بعد خراب بصرة؟ أما كان من الأول(1/595)