ألا له الخلق والأمر
مفهوم القدر والحرية
عند أوائل الصوفية
إعداد
الشيخ/ محمود بن عبد الرازق
الطبعة الأولى
سنة 1995م / 1416هـ
المقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره ونتوب إليه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، إنه من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادى له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله سيد المرسلين وخاتم النبيين صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين .
وبعد ... فإنه من رحمة الله سبحانه وتعالى وعظيم لطفه بخلقه أن جعل الرسالة الإسلامية خاتمة الرسالات السماوية ، وجعلها سبحانه وتعالى كاملة صافية نقية لا يزيغ عنها إلا هالك قال تعالى :(1/1)
{ اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتى ورضيت لكم الإسلام دينا } (1) .
وكتب ـ تبارك اسمه وتعالى جده ـ السعادة فى الدارين لأتباع هذه الرسالة الذين قدروها حق قدرها وقاموا بها على وفق ما أراد الله وعلى هدى نبى الله صلى الله عليه وسلم ، فكان منهم خير القرون ومن جاء بعدهم ممن زكاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فى قوله : ( خير الناس قرنى ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ) .
قال عمران بن حصين راوى الحديث : ( فلا أدرى أذكر بعد قرنه قرنين أو ثلاثة ) (1) .
ــــــــ
1- المائدة / 3 .
وبعد خير القرون كانت الفترة الزمنية التى لفتت أنظار الباحثين بما حوته من متغيرات فى الفكر الإسلامى وتأصيل للمناهج المختلفة لدى الطوائف الإسلامية حيث تشابكت فيها الأفكار وتعددت الطوائف وبدأت الشوائب تتسرب إلى النبع الإسلامى .
فقام كل باحث يأخذ شريحة من هذه الفترة يفحصها ويرد الأمور إلى نصابها ويقرر النتائج عنها ، ومما ميز الله به هذا الدين أن جعله محفوظا على الدوام منهجا ثابتا لا يتغير وواقعا مرئيا تقام به الحجة على العباد ، فقال تعالى فى حفظ منهجه :
{ إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون } (2) .
وقال صلى الله عليه وسلم فى وجوده واقعا مستمرا إلى قيام الساعة :
ــــــــــــــــــــــــ
1- أخرجه البخارى فى كتاب فضائل الصحابة ، باب فضائل أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم ومن صحب النبى أو رآه من المسلمين فهو من أصحابه حديث رقم (4650) وأخرجه مسلم فى كتاب فضائل الصحابة ، باب فصل الصحابة ثم الذين يلونهم حديث رقم (2535) وأخرجه أبو داود فى كتاب السنة ، باب فضل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حديث رقم (4657) والترمذى فى كتاب الفتن ، باب ماجاء فى القرن الثالث حديث رقم (2222) .
2- الحجر / 9 .(1/2)
( إنه سيكون فى أمتى كذابون ثلاثون كلهم يزعم أنه نبى وأنا خاتم النبيين لانبى بعدى ، ولا تزال طائفة من أمتى على الحق منصورة لا يضرهم من خذلهم حتى يأتى أمر الله تبارك وتعالى ) وفى رواية : ( لا يضرهم من خالفهم حتى تأتيهم الساعة وهم على ذلك ) (1) .
وقد جعل الله الاختلاف مقدرا فى سننه الكونية ومحلا للابتلاء بين العباد فقال تعالى : { ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم } (2) .
وعلى الرغم من ذلك نهانا عنه وحذرنا منه وأمرنا بالاعتصام بمنهجه المتمثل فى كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم فقال جل ذكره :
{ واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا } (3) .
وقال أيضا : { فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة ـــــــــــــــــــــــــــــ
1- أخرجه مسلم فى كتاب الإمارة ، باب قوله صلى الله عليه وسلم : ( لا تزال طائفة من أمتى ظاهرين على الحق ) حديث رقم (1924) وأبو داود فى كتاب الفتن ، باب ذكر الفتن ودلائلها برقم (4252) وابن ماجه فى كتاب الفتن ، باب ما يكون من الفتن برقم (3952) وأخرجه أحمد فى المسند حـ 5 ص 278 وأخرجه الحاكم فى المستدرك وصححه حـ 4 ص 456 ، ص 457 .
2- هود / 118 : 119 .
3- آل عمرا ن / 103 .
أو يصيبهم عذاب أليم } (1) .
فمن جانب السنن الكونية حدث الاختلاف بين الأمة ، ومن جانب التكليف والعلم كلفنا الله سبحانه وتعالى بأخذ الأسباب فى خدمة الكتاب والسنة .(1/3)
وقد حاولت فى هذه البحث الذى تقدمت به لنيل درجة الماجستير أن أبين موقف أوائل الصوفية من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ومدى تأثيرهم وإسهامهم سلبا أو إيجابا فى الحفاظ على العقيدة الإسلامية ، وذلك من خلال مفهومهم للقضاء والقدر ومدى حرية الإنسان ومسئوليته عن أفعاله ، كما حاولت من خلال البحث إظهار المخالفات التى وقعوا فيها والتى نتجت عنها سلبيات الواقع الصوفى المنتشرة فى البلاد الإسلامية قديما وحديثا .
* أهمية الموضوع :
من المؤسف أن الواقع الصوفى فى الماضى والحاضر قد اختلط بالشطح والبدع والخرافات ودعاء الأموات وتشييد الأضرحة والعكوف على قبور الصالحين وشد الرحال إليهم ، وانتشار الطرق الصوفية بشكل
يجر إلى البدعة ويخرج عن معنى الترابط والوحدة فى متابعة النبى صلى الله عليه وسلم .
ــــــــــــــــــــــــ
1- النور / 63 .
وقد ظهرت أمور غريبة لا تتفق وروح الإسلام امتدت قرونا طويلة تحت شعار التصوف وانصبت فى أرض الواقع ، فازدادت المخالفات باسم التصوف ووقف الناس مواقف متعدده بين منكر ومتحامل بالحق أو الباطل ، كل ذلك والعيون ترقب الأمة الإسلامية وتتربص بها من الداخل والخارج بغية فى تشويه فكرها وتشتيت شملها ومن ثم كانت أهمية الموضوع ممثلة فى الجوانب الآتية :
1- الوقوف على الحقائق الفكرية لمنهج الصوفية فى الفترة التى تلت خير القرون إذ أنها تمثل منعطفا خطيرا فى تاريخ الأمة الإسلامية .
2- واقعية الموضوع وأثره فى تصحيح الحياة الصوفية المعاصرة من خلال تقديم دراسة علمية نزيهة للمؤيدين أو المعارضين للتصوف بغية التجرد للوصول إلى الحقيقة .
3- الوقوف على مكانة الأوائل وسلوكهم ومنهجهم فى الحياة بذكر مالهم وما عليهم ليتأسى الناس بالفضيلة والأخلاق الحميدة .
4- العمل على كشف الشخصيات الصوفية التى أسهمت فى إثراء الفكر الصوفى بصفة خاصة والفكر الإسلامى بصورة عامة .(1/4)
5- تقديم رؤية إسلامية صحيحة وواضحة لأخطر القضايا الفكرية وهى قضية القضاء والقدر وعلاقتها بأفعال العباد من خلال معالجة الصوفية الأوائل لها .
6- إخراج المعانى الصوفية التى تخدم الإسلام وخاصة مفهوم الحرية بالمنظور الذى يعالج ويصحح مفهوم الحرية عند الشباب المسلم فى العصر الحاضر ، فالحرية عندهم ترتبط بالعبودية إرتباطا وثيقا لا ينفصل .
7- كشف المعانى الدخيلة على التراث الإسلامى فى الفترة التى تلت خير القرون ، والوقوف على مدخل القول بالحلول والاتحاد ووحدة الوجود وغير ذلك من المعانى التى قبحها مشايخ الصوفية .
8- العمل فى سبيل الفهم الصحيح الذى يدعو إلى وحدة الصف المسلم ونبذ المغالاة ورد الشباب المسلم إلى طريق الاعتدال من خلال نظرة الأوائل للحياة وفهم الغاية منها .
* منهج البحث :
يلتزم هذا البحث منهجا تبدو معالمه فيما يلى :
[1- استقراء تراث الصوفية فى الفترة الزمنية التى تلت عصر خير القرون وهى على وجه التقريب من بداية القرن الثالث الهجرى إلى نهاية القرن الرابع ، ثم التحليل والوصف فى عرض القضايا التى تتصل بموضوع الدراسة والبحث تحليلا يشمل التركيز على محتوى النصوص التى ثبتت عنهم ليكون الحكم حكما سليما معبرا بحق
عن رأى الصوفية .
[2- الاعتماد على الشخصيات الصوفية البارزة التى تركت بصمات واضحة فى مجال التصوف سواء بالدعوة أو الكتابة والتصنيف وتقرير القضايا المعينة مع الاستشهاد بأقوال الآخرين كلما أمكن .
[3- اعتبار الصوفى الذى أدرك جزءا مناسبا من القرنين الهجرين الثالث والرابع شخصية مؤثرة فى البحث يمكن الاستعانة برأيه وبما أدلى به فى إتمام الموضوع .
[4- إخراج المادة العلمية فى كل مبحث فى أفكار محددة جامعة للموقف الصوفى مع الاستعانة ببعض الأشكال والرسومات البيانية التى تجسد الفكرة وتقرب المراد إلى القارئ .(1/5)
[5- الرجوع المستمر إلى النصوص القرآنية والأحاديث النبوية والتعليقات السلفية لمقارنة الرأى الصوفى بالمنهج الإسلامى الصافى ومدى قربه أو بعده منه .
[6- البعد عن التهويل والتهوين والإفراط والتفريط فى عرض القضايا والاقتصار على التجرد فى طرح الحقائق الموصولة للحكم وبسط المقدمات الموصولة للنتائج مع الترجمة المختصرة والمركزة لكل شخصية صوفية عند الموضع المناسب وتخريج الآيات والأحاديث على منهج أهل الحديث .
* خطة البحث : وقد جاء البحث مرتبا على هذا النحو :
* المقدمة وقد اشتملت على مايأتى :
* سبب اختيار البحث 0 * أهمية الموضوع 0
* منهج البحث 0 * خطة البحث 0
* الباب الأول : دراسة تمهيدية فى واقع الصوفية ومفهوم القدر والحرية 0
ويشتمل على فصلين :
* الفصل الأول : واقع التصوف والصوفية فى القرنين الثالث والرابع الهجريين 0
وقد اشتمل على ثلاثة مباحث :
ا ــ المبحث الأول : التصوف نسبته ومعناه 0
ب ــ المبحث الثانى : دراسة العوامل التى أسهمت فى ظهور التصوف 0
جـ ــ المبحث الثالث : موضوع التصوف وأهم قضاياه 0
* الفصل الثانى : دراسة فى مفهوم القدر و الحرية وقد اشتمل على ثلاثة مباحث :
ا ــ المبحث الأول : الحرية لغة وشرعا 0
ب ــ المبحث الثانى : الحرية فى تاريخ الفكر الإسلامى 0
جـ ــ المبحث الثالث : الحرية ومنهج الحياة الإسلامية 0
الباب الثانى : الحرية من الجانب الاعتقادى
مفهوم القضاء والقدر وعلاقته بالحرية عند أوائل الصوفية
ويشتمل على فصلين :
* الفصل الأول : موقف أوائل الصوفية من صفات الله وعلاقته بموضوع القدر والحرية
وقد اشتمل على أربعة مباحث :
ا ــ المبحث الأول : منهج أوائل الصوفية فى فهم المسائل الاعتقادية 0
ب ــ المبحث الثانى : موقف أوائل الصوفية من صفات الذات وصفات الفعل 0
جـ ــ المبحث الثالث : إفراد الله بالفاعلية أساس العقيدة عند أوائل الصوفية 0(1/6)
د ــ المبحث الرابع : مراتب الإيمان بالقدر عند أوائل الصوفية 0
* الفصل الثانى : الحرية وأصالتها فى الذات الإنسانية عند أوائل الصوفية 0
وقد اشتمل على خمسة مباحث :
ا ــ المبحث الأول : مفهوم الذات الإنسانية عندأوائل الصوفية 0
ب ــ المبحث الثانى : الإرادة الحرة وأصالتها فى الذات الإنسانية 0
جـ ــ المبحث الثالث : دوافع الإرادة وبواعثها عند أوائل الصوفية 0
د ــ المبحث الرابع : موضوع الاختيار البشرى ومجاله عند أوائل الصوفية 0
و ــ المبحث الخامس : العلاقة بين المشيئة الإلهية والإرادة الإنسانية 0
* الباب الثالث : الحرية من الجانب العملى السلوكى
وقد اشتمل على فصلين :
* الفصل الأول : الاستطاعة البشرية والفاعلية الإلهية وقد اشتمل على أربعة مباحث :
ا ــ المبحث الأول : الاستطاعة من مقومات الحرية عندأوائل الصوفية 0
ب ــ المبحث الثانى : الاستطاعة وعلاقتها بالعلل والأسباب 0
جـ ــ المبحث الثالث : العلاقة بين الفاعلية الإلهية والفاعلية الانسانية 0
د ــ المبحث الرابع : العلة من خلق الأواسط والأسباب عند أوائل الصوفية 0
* الفصل الثانى : الحرية ومنهج العبودية وقد اشتمل على أربعة مباحث :
ا ــ المبحث الأول : العقل والعلم من مقومات الحرية 0
ب ــ المبحث الثانى : الحرية فى الاصطلاح الصوفى 0
جـ ــ المبحث الثالث : المقامات الصوفية وإرادة الحرية 0
د ــ المبحث الرابع : الأحوال الصوفية وثمرة الحرية 0
* الخاتمة : وقد اشتملت على ما يأتى :
ا ــ أهم نتائج البحث 0 ب ــ التوصيات التى تتصل بموضوع الرسالة 0
* وختاما ... أسأل الله أن يجعل عملى خالصا لوجهه صائبا وفق كتابه وسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم .
وكتبه الشيخ / محمود بن عبد الرازق بن على
غرة ربيع الأول من عام 1416 هـ
الباب الأول
دراسة فى مفهوم الحرية وواقع الصوفية
ويشتمل على فصلين
الفصل الأول
واقع التصوف والصوفية فى القرنين
الهجريين الثالث والرابع(1/7)
الفصل الثانى
دراسة فى مفهوم الحرية
الفصل الأول
واقع التصوف والصوفية فى القرنين
الهجريين الثالث والرابع
وقد اشتمل على ثلاثة مباحث :
المبحث الأول :
التصوف نسبته ومعناه
المبحث الثانى :
دراسة العوامل التى أسهمت
فى ظهور التصوف والصوفية
المبحث الثالث :
موضوع التصوف وأهم قضاياه
*** المبحث الأول ***
التصوف نسبته ومعناه
من الطبيعى أن نلجأ إلى اللغة محاولين معرفة معنى هذه اللفظة ونسبة اشتقاقها فقد قيل :
إن التصوف نسبة إلى الصوف ، وذلك لأنه لباس خشن بعيد عن النعومة والليونة وقد كان يلبسه الأنبياء والصالحون وهو لباس الصوفية ومرتبط بالزهد فى أذهانم ، فتصوف إذا لبس الصوف (1) .
وفى هذا يذكر السهروردى البغدادى فى عوارف المعارف أن اختيارهم للبس الصوف كان لتركهم زينة الدنيا وقناعتهم بسد الجوعة وستر العورة واستغراقهم فى أمر الآخرة وهذا الاختيار ملائم ومناسب من حيث الاشتقاق لأنه يقال : تصوف إذا لبس الصوف كما يقال : تقمص إذا لبس القميص .
ولأن ذلك أبين فى الإشارة إليهم وأدعى إلى حصر وصفهم إذ لبس الصوف كان غالبا على الأنبياء والمتقدمين من سلفهم فحالهم حال المقربين (2) .
ــــــــــــــــــــــــ
1- انظر قضية التصوف المنقذ من الضلال للدكتور عبد الحليم محمود ص 31 طبعة دار المعارف ، االقاهرة سنة 1985 بتصرف .
2- عوارف المعارف للسهروردى تحقيق الدكتور عبد الحليم محمود والدكتور محمود بن الشريف حـ 1 ص 211 طبعة دار الكتب الحديثة القاهرة سنة 1971.
وهذه النسبة رجحها كثير من العلماء وهى صحيحة من حيث اللغة وإن كان القوم لم يختصوا بلبس الصوف وحدهم بل كان يلبسه غيرهم يقول ابن خلدون : ( والأظهر إن قيل بالاشتقاق أنه من الصوف وهم فى الغالب مختصون بليسه لما كانوا عليه من مخالفة الناس فى لبس فاخر الثياب إلى لبس الصوف ) (1) .(1/8)
وقيل : إنه نسبة إلى أهل الصفة وهم جماعة من فقراء المهاجرين الذين كانوا فى عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك لمشاكلتهم الصوفية فى حالهم فهم الذين نزل فيهم قوله تعالى : { واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشى يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا } (2) .
وهذه الأوصاف قائمة بالاثنين إذ أن أهل الصفة الذين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا فقراء مهاجرين فى سبيل الله عاكفين على الزهد والعبادة والتقشف والنسك ، فلما كانت طائفة الصوفية متلبسين بأوصاف أهل الصفة نسبوا إليهم ، وقد انتقد القشيرى وغيره هذه النسبة لمخالفتها مقتضى اللغة (3) .
ــــــــــــــــــــــــ
1- مقدمة ابن خلدون تحقيق د/ على عبد الواحد وافى ، لجنة البيان العربى الطبعة الأولى سنة1960م ، حـ 3 ص 1062 . 2- الكهف / 52 .
3- انظر السابق حـ3 ص 1074 ، وانظر عوارف المعارف حـ 1 ص 212 والرسالة القشيرية حـ2 ص 555 ، اللمع لأبى نصر السراج الطوسى ص 41 .
وقيل : إنما سموا صوفية لأنهم بين يدى الله تعالى فى الصف الأول وذلك لارتفاع هممهم وتعلقهم به وإقبال أسرارهم وقلوبهم عليه ووقوفهم بكليتهم بين يديه تعالى وذلك لأنهم لم تمتلكهم الدنيا حتى وإن ملكوها ، فلا يفوتهم فضل الصف الأول (1) .
وقيل : إنه نسبة لبنى صوفة قبيلة من العرب لها صلة وثيقة بالبيت الحرام فلهذه الرابطة التى تتم بين القوم وبين بيوت الله تعالى نسب الصوفية إلى بنى صوفه .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية :
وهذا إن كان موافقا للنسب من جهة اللفظ فإنه ضعيف ، لأن هؤلاء غير مشهورين ولا معروفين عند أكثر النساك ، ولو نسب النساك إلى هؤلاء لكان هذا النسب فى زمن الصحابة رضى الله عنهم والتابعين وتابيعهم أولى ، ولأن غالب من تكلم باسم الصوفية لا يعرف هذه القبيلة ولا يرضى أن يكون مضافا إلى قبيلة فى الجاهلية ولا وجود ــــــــــــــــــــــــ(1/9)
1- انظر عوارف المعارف حـ 1 ص 218 وأصول الملامتية وغلطات الصوفية مقدمة التحقيق للدكتور عبد الفتاح أحمد الفاوى ص 23 طبعة مطبعة الإرشاد القاهرة سنة 1405 هـ 1985 م وانظر قضية التصوف المنقذ من الضلال للدكتور عبد الحليم محمود ص 31 .
لها فى الإسلام (1) .
وكثير من الصوفية أنفسهم نسبوا التصوف إلى الصفاء لآن مجاهداتهم ورياضاتهم إنما تنشد الصفاء فهم من أجل ذلك صوفية .
قال بشر بن الحارث : الصوفى من صفا لله قلبه (2) .
وسئل سهل التسترى من الصوفى ؟
فقال : من صفا من الكدر وامتلأ من الفكر وانقطع إلى الله من البشر واستوى عنده الذهب والمدر (3) .
وقال بعضهم (4) :
تنازع الناس فى الصوفى واختلفوا : جهلا وظنوه مأخوذا من الصوف
ولست أنحل هذا الإسم غير فتى : صافى فصوفى حتى سمى الصوفى
فهم يحاولون أن يصفوا أنفسهم بمرتبة إيمانية لا تضاهى كما جاء فى أوصاف السابقين الذين قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم :
ــــــــــــــــــــــــ
1- الصوفية والفقراء لشيخ الإسلام ابن تيمية ص 11 .
2- انظر تاريخ التصوف الإسلامى من البداية حتى نهاية القرن الثانى للدكتور عبد الرحمن بدوى ص 123 وما بعدها طبعة وكالة المطبوعات الكويت سنة 1975 م .
3- عوارف المعارف حـ 1ص 207 .
4- الدر الثمين والمورد المعين للشخ محمد بن محمد المالكى حـ 2 ص 169 طبعة مصطفى البابى الحلبى القاهرة سنة 1373 هـ 1960 م .
( يدخل من أمتى سبعون ألفا بغير حساب ثم وصفهم وقال : هم الذين لا يرقون ولا يسترقون ولا يكوون ولا يكتون وعلى ربهم يتوكلون ) (1) .
وأيا كان قولهم إلا أن واقع الصوفية يختلف كثيرا مع دعوتهم وحالهم ، ولكن ما نرجحه فى نسبة التصوف هو ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية حيث قال :(1/10)
( هؤلاء نسبوا إلى اللبسة الظاهرة وهى لباس الصوف فقيل فى أحدهم صوفى وليس طريقهم مقيدا بلباس الصوف ولا هم أوجبوا ذلك ولا علقوا الأمر به لكن أضيفوا إليه لكونه ظاهر الحال ) (2) .
أما سبب ظهور التصوف وارتباط لفظ التصوف بهم فهذا مبين فى المبحث الآتى .
ــــــــــــــــــــــــ
1- أخرجه البخارى فى كتاب الطب برقم (5270) ومسلم فى كتاب البر الصلة برقم (2586) والترمذى فى كتاب صفة القيامة برقم (2446) .
2- الصوفية والفقراء ص 30 .
*** المبحث الثانى ***
دراسة العوامل التى أسهمت فى
ظهور التصوف والصوفية
اختلف الناس فى تاريخ نشأة الصوفية فمنهم من يذكر أن هذا الإسم لم يكن فى زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم و إنما كان فى زمن التابعين .
وينقل السهروردى عن الحسن البصرى أنه قال : رأيت صوفيا فى الطواف فأعطيته شيئا فلم يأخذه وقال : معى أربعة دوانيق يكفينى ما معى .
وقيل :لم يعرف هذا الإسم قبل المائتين من الهجرة العربية (1) .
ويذكر أبو نصر عبد الله بن على السراج الطوسى المتوفى سنة 378هـ أن هذا الإسم معروف من قبل ذلك بل يذهب إلى أنه لفظ جاهلى عرفته العرب قبل ظهور الإسلام (2) .
وأيا كان الخلاف فى تاريخ النشأة إلا أن التصوف لم يظهر فى عهد الصحابة والتابعين بالصورة المتميزة والمستقرة بعد القرن الثانى الهجرى ــــــــــــــــــــــــ
1- عوارف المعارف حـ 1 ص 208 .
2- اللمع لأبى نصر السراج الطوسى تحقيق د. عبد الحليم محمود ، طه عبد الباقى سرور الطبعة الأولى سنة 1960 دار الكتب الحديثة بمصر ص 41 .
غير أن المقدمات التى أسهمت فى ظهوره واستقراره كانت مثار جدل واختلاف بين الباحثين ، ويمكن القول بأن الأمور الأساسية التى أسهمت بشكل فعال فى إظهار التصوف وإبرازه فى هيكل مميز يعرف به عن سائر الطوائف تتمثل فى الأمور الآتية :
الأمر الأول :(1/11)
هو رد الفعل الطبيعى لحياة الترف التى تأثر بها المسلمون بعد عهد الخلفاء الراشدين من جهة ، والفتن والمنازعات السياسية المتكررة من جهة أخرى ، فبعد مقتل عثمان بن عفان رضى الله عنه بدأ عصر مشحون بالصراعات والفتن الداخلية أسفرت عن موقعة الجمل ثم صفين ثم مقتل على بن أبى طالب رضى الله عنه وتولى بنى أمية للخلافة ثم كانت سلسلة الفتن والصراعات بين الأمويين ومعارضيهم من الشيعة وأبناء على ثم مقتل الحسين بكربلاء والأحداث التى لابست خروجه لمقابلة بن زياد وقتاله .
كل هذه الأحداث أوجدت فى نفوس المسلمين نوعا من رد الفعل الذى كان نتيجته عزوف بعضهم عن المشاركة فى مجريات أمور الدولة واعتزال المجتمع تصونا عما فيه من الفتن وطلبا للسلامة ، فقوى اتجاه الزهد وظهر بكثرة فى الكوفة والبصرة (1) .
ــــــــــــــــــــــــ
1- انظر العواصم والقواصم لابن العربى ص 80 : 86 بتصرف .
هذا فضلا عن أن دولة بنى العباس تغلغلت فيها روح الترف والبذخ فى كثير من بيوت الأمراء وغيرهم ، مما أتاح للإكثار من المتعة والإغداق فى الملذات وإشباع الفضول الفكرى والأدبى من الحضارات الأخرى المستجلبة من تراث الأمم الغابرة (1) حتى ظهرت المعتزلة بما خلفته من جراح وأفكار عصفت بالأمة الإسلامية وقتها ، ومن وقف على طبقات المعتزلة علم قدر ما كانوا عليه من العدد والمكانة المرموقة بين الخلفاء العباسيين (2) .
ومن ثم كان التصوف بخصائصه الأخلاقية عاملا من عومل الجذب فى الاتجاه المضاد للصورة السابقة .
غير أنه فى القرنين الثالث والرابع الهجريين لم يكن مقصورا على البصرة والكوفة كما كان شأن الزهاد والعباد فى القرنين الأوليين ، وإنما تجاوز إلى أغلب بلاد الممالك الإسلامية كفارس والشام وجزيرة العرب فقد انتشرت الصوفية فى هذه الأنحاء من العالم الإسلامى ، وكان لهم ــــــــــــــــــــــــ(1/12)
1- انظر من قضايا التصوف فى ضوء الكتاب والسنة للدكتور محمد السيد الجليند ص19 : 23 بتصرف .
2 - طبقات المعتزلة للقاضى عبد الجبار ص 132، وفيات الأعيان لابن خلكان حـ1 ص 67 وما بعدها ، وتاريخ الطبرى حـ 8 ص 290 وما بعدها ، موقف الصوفية من العقل حتى نهاية القرن الرابع للدكتور محمد عبد الله الشرقاوى ص 22 .
مشايخ وطوائف وطرق ينتسب إليها المريدون فى مختلف البلاد ، غير أن مذهبهم لم يصب من النمو والازدهار فى أى من البلاد ما أصاب بغداد التى كان ينمو فيها سريعا وحظه من الصبغة العلمية عظيما (1) .
الأمر الثانى :
السمة الظاهرة للمجتمع الإسلامى فى عصر النبوة وما بعده فقد كان الصوف منتشرا فى لباس المسلمين فى عصر الصحابة والتابعين وكان مرتبطا على الأغلب بالفقر وقلة اليد وقد دلت على ذلك مجموعة من الأحاديث النبوية منها :
ا ــ حديث جرير بن عبد الله البجلى رضى الله عنه إذ قال : جاء ناس من الأعراب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم الصوف فرأى سوء حالهم وقد أصابتهم حاجة فحث الناس على الصدقة فأبطؤا عنه حتى رؤى ذلك فى وجهة صلى الله عليه وسلم .. إلى آخر الحديث (2) .
ــــــــــــــــــــــــ
1- الحياة الروحية فى الاسلام للدكتور مصطفى حلمى ص 124 بتصرف طبعة الهيئة المصرية العامة للكتاب سنة 1984 .
2- أخرجه مسلم فى كتاب الزكاة ، باب الحث على الصدقة وأنواعها وأنها حجاب من النار برقم (70 ) وفى كتاب العلم ، باب رفع العلم وقبضه وظهور الجهل والفتن برقم (1017) .
ب ــ حديث أبى بردة بن عبد الله بن قيس عن أبيه قال : قال أبى : لوشهِدتنا ونحن مع نبينا صلى الله عليه وسلم إذا أصابتنا السماء حسبت أن ريحنا ريح الضأن إنما لباسنا الصوف (1) .(1/13)
جـ ــ حديث نافع بن عقبة رضى الله عنه قال : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فى غزوة ، فأتى النبى قوم من المغرب عليهم ثياب الصوف فوافقوه عند أكمة فإنهم لقيام ورسول الله صلى الله عليه وسلم قاعد (2) .
فهذه الأحاديث تدل على أن لبس الصوف فى عهده صلى الله عليه وسلم ارتبط غالبا بالفقر والعجز والضيق ولم يكن يوجد أو يتيسر لكل واحد منهم القطن أو غيره ، وهذا المعنى لاحظه الصوفية بعد زمنه صلى الله عليه وسلم ، فنسبوا أنفسهم إليه بغية التواضع فى الخلق والتعبد والزهد والبعد عن ملذات الدنيا وأصبح لبس الصوف مشتهرا بين الصوفية ومميزا لهم ، وقد ساد ذلك بين الناس إلى درجة أن الإمام مالك رحمه الله يعتبره مظهرا للشهرة بالزهد .
ــــــــــــــــــــــــ
1- أخرجه مسلم فى كتاب اللباس ، باب التواضع فى اللباس برقم (2801) وأبو داود كتاب اللباس ، باب فى لبس الصوف والشعر رقم (4032) والترمذى كتاب صفة القيامة ، باب لبس الصوف برقم (3562) وأحمد حـ 4 ص 419 .
2- أخرجه مسلم فى كتاب الفتن وأشراط الساعة ، حديث رقم (2900) وأحمد فى المسند حـ 2 ص 338 .
قال ابن بطال : كره مالك لبس الصوف لمن يجد غيره لما فيه من الشهرة بالزهد لأن إخفاء العمل أولى ، ولم ينحصر التواضع في لبسه بل فى القطن وغيره مما هو دون ذلك (1) .
وهذه النسبة يؤيدها السراج الطوسى فى قوله : فكذلك الصوفية عندى نسبوا إلى ظاهر اللباس ، ولم ينسوا إلي نوع من أنواع العلوم والأحوال التى بها مترسمون ، لأن لبس الصوف كان دأب الأنبياء عليهم السلام والصديقين وشعار المساكين المتنسكين (2) .
الأمر الثالث :
الذى ساعد فى إتمام البناء الصوفى فى القرنين الهجريين الثالث والرابع هو الطابع المميز للذات الصوفية ويتجلى ذلك فيما يأتى :(1/14)
ا ــ وجود مظاهر جديدة للزهد ولم تكن موجودة فى عصر الصحابة والتابعين إذ ظهرت جماعة من المسلمين لهم نمط معين من الحياة اليومية خاصة فى الكوفة والبصرة يتميزون بها عن عامة المسلمين وربما بدأت هذه الظاهرة فى أواخر القرن الأول الهجرى (3) .
ــــــــــــــــــــــــ
1- انظر فتح البارى بشرح صحيح البخارى حـ 1 ص 269 ، وانظر الصوفية والفقراء لشيخ الإسلام ابن تيمية ص 21 ، 31 .
2- اللمع ص 40 .
3- من قضايا التصوف فى ضوء الكتاب والسنة ص 31 .
فهذا إبراهيم بن أدهم (1) الذى كان سليل الملوك يترك بلده وأهله ويقيم فى غار بنيسابور تسع سنوات كاملة من عمره بعيدا عن الناس ويهيم فى الصحراء أربعة عشر عاما ، وهذا السلوك لا يوافق سنة النبى صلى الله عليه وسلم فى زهده وتحرره من قيود الحياه ، بل هو ابتداع ومظهر جديد لم يكن بين الصحابة رضوان الله عليهم .
وهذا بشرا الحافى (2) يلقب بالحافى لأنه ذهب يوما إلى الإسكاف
ــــــــــــــــــــــــ
1- انظر ترجمته فى حلية الأولياء وطبقات الأصفياء لأبى نعيم الأصفهانى حـ 7 ص367 مطبعة السعادة ، القاهرة سنة 1351 هـ ، الطبقات الكبرى للشعرانى حـ 1 ص81 طبعة بولاق سنة 1914 م وانظر الرسالة القشيرية لأبى القاسم القشيرى تحقيق الدكتورعبد الحليم محمود ، محمود بن الشريف حـ 1 ص54 ، تهذيب الكمال فى أسماء الرجال ليوسف الدمشقى حـ 1 ص 349 طبعة دار الكتب المصرية التاريخ الكبير للبخارى حـ 1 ص 200 طبعة حيدر أباد ، فوات الوفيات للكتبى حـ1 ص3 طبعة بولاق ، تذكرة الأولياء لفريد الدين العطار حـ 1 ص 44 .(1/15)
2- انظر ترجمته فى حلية الأولياء حـ 8 ص 336 وما بعدها ، وفيات الأعيان حـ1 ص112 صفة الصفوة لابن الجوزى حـ2 ص183 ، شذرات الذهب فى أخبار من ذهب لابن العماد الحنبلى حـ2 ص60 طبعة مكتبه القدس بالقاهرة سنة 1350 هـ تاريخ بغداد للخطيب البغدادى حـ 7 ص 67 مطبعة السعادة القاهرة سنة 1349هـ وانظر سير أعلام النبلاء للذهبى حـ7 ص244 طبعة دار الكتب المصرية ، البداية والنهاية لابن كثير حـ 10 ص 297 المطبعة السلفية سنة 1351 هـ .
ليصلح حذاءه فأغلظ الإسكاف القول له فقذف بشر بنعليه وأقسم ألا ينتعل طول حياته كى لا يحتاج إلى مخلوق .
وكان الأولى به أن يذهب إلى غيره أو يتولى إصلاح الحذاء بنفسه ولا يخالف السنة بترك الانتعال طول الحياة .
كما نجد ما هو أسوأ من ذلك لأبى الحسين النورى حيث يصعد قنطرة ويرمى ثلاثمائة دينار فى الماء واحدا واحدا ثمن عقار بيع له وهو يقول : ( حبيبى تريد أن تخدعنى منك بمثل هذا ) (1) .
ونلتقى أيضا بين صوفية القرن الثالث بمن يحرم على نفسه أكل ما أباح الله من الطعام حتى إنه ليقول لمريد من مريديه قد مد يده إلى قشر البطيخ : ( أنت لا يصلح لك التصوف الزم السوق ) (2) .
وغير ذلك من الأقوال والأفعال التى تدعو إلى إعجاب العامة والدهماء فى مقابل جهلهم بالسنة ، مما ساعد على شد الناس فى ــــــــــــــــــــــــ
1- اللمع ص492 ، صفة الصفوه حـ2 ص294 ، حلية الأولياء حـ10 ص250 تاريخ بغداد حـ5 ص130 ، سير أعلام النبلاء حـ 9 ص156 .
2- هو أبو تراب النخشبى واسمه عسكر بن حصين من مشايخ خرسان توفى فى البادية ، وقيل نهشته السباع سنة 245 هـ ، انظر الرسالة القشيرية حـ2 ص84 حلية الأولياء حـ10 ص45 ، طبقات الشافعية لتقى الدين السبكى حـ2 ص55 المطبعة الحسينية ، القاهرة سنة 1324 هـ ، طبقات الشعرانى حـ1 ص96 شذرات الذهب حـ2 ص 108 .(1/16)
التأسى بها رغبة فى التميز ، حتى عرف الصوفية بذلك بين العامة وأصبح مظهرا مألوفا عند الناس .
ومما يدل على ذلك أيضا ما ذكره رويم بن أحمد البغدادى حيث عطش عطشا شديدا فاستسقى جارية فقالت : ويحك صوفى يشرب بالنهار فاستحى منها ونذر ألا يفطر أبدا (1) .
فما استقر فى أذهان الناس عن الصوفية وارتباطهم بالأحوال العجيبة فى الزهد دفع رويما إلى التلبس بهذه الأوصاف .
ب ــ وجود نمط جديد من الألفاظ والمصطلحات التى لم يؤلف استعمالها من قبل فى عهد الصحابة والتابعين أضفى على الصوفية أثرا واضحا فى تكوين جماعتهم واستقرار منهجهم (2) .
فقد رُوى عن مالك بن دينار والحسن البصرى وشقيق البلخى أنهم ذهبوا لزيارة رابعة العدوية فى مرضها .
فقال لها الحسن : ليس بصادق فى دعواه من لم يصبر على ضرب مولاه
فقالت رابعة : هذا كلام يشم فيه رائحة الأنانية .
ــــــــــــــــــــــــ
1- رويم بن أحمد البغدادى ت سنة 303 هـ انظر فى ترجمته الرسالة حـ1 ص 27 وانظر ترجمته فى حلية الأولياء حـ10 ص296 صفة الصفوة حـ2 ص 49 ، طبقات الشعرانى حـ1 ص603 ، المنتظم فى تاريخ الأمم والملوك لابن الجوزى حـ6 ص136 ، تاريخ بغداد حـ8 ص430 ، والبداية والنهاية حـ1 ص125 .
2- من قضايا التصوف فى ضوء الكتاب والسنة ص 32 .
فقال شقيق : ليس بصادق فى دعواه من لم يشكر على ضرب مولاه
فقالت رابعة : يجب أن يكون أحسن من هذا .
فقال مالك : ليس بصادق فى دعواه من لم يتلذذ بضرب مولاه .
فقالت رابعة : يجب أن يقال أحسن من هذا .
فقالوا لها : تكلمى أنت يا رابعة .
فقالت : ليس بصادق فى دعواه من لم ينس الضرب فى مشاهدة مولاه (1) .(1/17)
فكانت مثل هذه الإشارات والألفاظ الغريبة الجديدة التى لم تكن من قبل سببا فى إثارة الصوفية بعد ذلك لأن يتكلموا بما هو غامض وأبعد فى الوصول إلى المعنى المراد حتى ظهر كم كبير من المصطلحات والألفاظ الجارية فى كلامهم استحوزت على أبواب وفصول لشرحها فى كتب التصوف وغيرها (1) .
ــــــــــــــــــــــــ
1- السابق ص 33 وانظر تذكرة الأولياء حـ 1 ص 71 ، 72 ، نشأة التصوف فى الاسلام للدكتور قاسم غنى ص 48 .
2- انظر على سبيل المثال ماأفرده السراج الطوسى فى اللمع بشرح الألفاظ الجارية فى كلام الصوفية من ص409 : 458 والأبواب التى أفردها الكلاباذى فى التعرف لمذهب أهل التصوف والقشيرى فى الرسالة والهجويرى فى كشف المحجوب وغيرهم فى شرح هذه الكلمات الغامضة وتبسيط معناها للقارئ العادى .
ومن ثم فقد ساعد هذا النمط الجديد فى إبراز الصوفية بصورة متميزة عن الآخرين .
حـ ــ أن التصوف لم يتعد المرحلة الفردية التى كانت فى القرنين الهجريين الأول والثانى فقط وإنما تجاوز إلى شئ أخر وهو أن الصوفية أخذوا ينظمون أنفسهم طوائف وطرقا يخضعون فيها لنظم خاصة بكل طريقة ، وكان قوام هذه الطرق طائفة من المريدين يلتفون حول شيخ مرشد يوجههم ويبصرهم على الوجه الذى يحقق لهم من وجهة نظره كمال العلم وكمال العمل ، فانتقل التصوف من المرحلة الفردية إلى مرحلة العمل الجماعى المنظم ويذكر ابن تيمية أن أول من بنى دويرة للصوفية بعض أصحاب عبد الواحد بن زيد وعبد الواحد من أصحاب الحسن البصرى ت (177هـ) .
ثم توالت بعد ذلك الطرق الصوفية المتعددة ، كل طائفة تلزم شيخا تتتلمذ على يديه (1) .
وقد صنف الهجويرى من هذه الطوائف المحاسبية والقصارية والطيفورية والجنيدية والنورية والسهلية وغيرهم (2) .
ومن ثم كانت الطرق الصوفية فى القرن الثالث الهجرى قد ذاع أمرها وكثر طالبوها ووصلت إلى درجة عالية من الاستكمال والاستقرار ــــــــــــــــــــــــ(1/18)
1- الصوفية والفقراء ص 21 ، ميزان الاعتدال للذهبى حـ 2 ص 672 .
2- كشف المحجوب للهجويرى ص 209 وما بعدها .
كما أن التنقل المستمر للصوفية فى البلاد الإسلامية المختلفة ورحيل المريدين إليهم ساعد على إيجاد رابطة قوية بين مختلف الطرق الصوفية ولا سيما فى إحداث لغة خاصة بهم يتفاهمون بواسطتها ويعبرون بها عن أحوالهم النفسية وأهدافهم الروحية (1) .
د ــ ومن أهم الأمور التى أثرت فى نشأة الحياة الصوفية بطابعها المتميز إنشاء التراث الصوفى ، فكما أن المؤلفات ظهرت فى مختلف العلوم وكانت سببا هاما فى تأصيلها وتميزها كذلك كانت علوم التصوف فنجد الحارث المحاسبى يملأ الواقع الصوفى وقتها بمؤلفاته المتعددة وعلى رأسها كتابه الرعاية ، وكذلك الحكيم الترمذى وأبا سعيد الخراز وسهلا بن عبد الله التسترى ، ثم ظهر بعد ذلك الكلاباذى بكتابه التعرف لمذهب أهل التصوف ، وقوت القلوب لأبى طالب المكى ، واللمع للسراج الطوسى ثم طبقات الصوفية لأبى عبد الرحمن السلمى .
وجاء بعد ذلك القشيرى وصنف الرسالة والهجويرى الذى ألف كشف المحجوب وتتابعت حركة التأليف والتصنيف فكان للتراث ــــــــــــــــــــــــ
1- التصوف فى الإسلام وأهم الاعتراضات الواردة عليه تأليف للدكتور عبد اللطيف العبد ص 92 الطبعة الأولى سنة 1986م ، دار الثقافة العربية ، وانظر الطرق الصوفية فى مصر نشأتها ونظمها ص 259 طبعة سنة 1978م مكتبة الأنجلو المصرية بالقاهرة .
الصوفى مكانة كبيرة بين بقية العلوم .
كل هذه الأسباب جعلت من القرنين الثالث والرابع عصرا بهيا للاستقرار الصوفى فى منهجهم وطريقتهم وأحوالهم ومقاماتهم ، وإذا كان هذان القرنان مسرحا للفوضى السياسية والفكرية التى عمت البلاد الإسلامية ، فإن جهد الباحثين لا ينقطع فى كشف الغموض وتحليل الأحداث وأثرها فى بناء الأمة أو هدمها .(1/19)
وقد كان للصوفية باع كبير فى الرد على المخالفين لأهل السنة والجماعة فى مسائل الاعتقاد وغيرها ، كما أن لهم شطحات مؤثرة فى أفكار العامة والدهماء ساعدت على انتشار البدعة والغلو فى معنى العبادة ومثلت النواه التى اجتمعت حولها كل أفكار الهدم فى التصوف الدخيل والمؤثرات الأجنبية .
ولعل البحث فى مسألة القدر والحرية يكشف عن طبيعة الصوفية وحقيقتهم فى هذه الحقبة من الزمن بما لهم وما عليهم .
*** المبحث الثالث ***
موضوع التصوف وأهم قضاياه
رغم أن أقوال المشايخ فى موضوع التصوف لا تكاد تحصى إلا أنها متقاربة المعنى وتدور فى فلك واحد ، ويذكر السهروردى البغدادى فى عوارفه أنه رغم الاختلاف فى تعريف التصوف فإن هناك قاسما مشتركا بوجوده يكون التصوف ، فالصوفى عنده هو الذى يطهر القلب من شوائب النفس على الدوام ولا يكون ذلك عنده إلا بدوام افتقاره إلى مولاه ، فبدوام الافتقار كلما تحركت النفس وظهرت بصفة من صفاتها أدركها المرء ببصيرته النافذة وفر منها إلى ربه فهو قائم بربه على قلبه وقائم بقلبه على نفسه قال تعالى :
{ يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط } (1) .
وهذه القوامة لله على النفس هى التحقق فى موضوع التصوف (2) .
وأصل التصوف عندهم الاجتهاد فى تحقيق مقام الإحسان على وجهه الأكمل بحيث يتحقق ما قرره رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه :
( أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك ) (3) .
ــــــــــــــــــــــــ
1- المائدة / 8 . 2- عوارف المعارف حـ 1 ص 132.
3- أخرجه البخارى فى كتاب التفسير ، باب { إن الله عنده علم الساعة } برقم (4777) ومسلم فى كتاب الإيمان رقم (10) النسائى فى كتاب الإيمان وشرائعه برقم (4991) وأحمد فى االمسند حـ 2 ص426 .(1/20)
وبيان ذلك أن الصفاء عندهم موطنه القلب وهو نابع منه ولذا انصب موضوع التصوف فيه ، بحيث يدور على الاجتهاد فى تحقيق الكمال الممكن لصلاح القلب عملا بقوله صلى الله عليه وسلم : ( ألا إن فى الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهى القلب ) (1) .
وإذا علم هذا فإنه من البديهى وعلى وجه الافتراض أن يبدأ الصوفى رحلته بأعمال الظاهر وأحكامها علما وعملا فمن لم يعمل بالظاهر فلا صلة له بالباطن ، ومن ثم فإن صدق التوجه مشروط بما يرضاه الحق سبحانه وتعالى وما لايرضاه ولا يصح مشروط بدون شرطه .
قال رويم بن أحمد : التصوف استرسال النفس مع الله تعالى على ما يريد (2) .
ــــــــــــــــــــــــ
1- الحديث أخرجه البخارى فى كتاب الإيمان ، باب فضل من استبرأ لدينه وعرضه برقم (52) ومسلم فى كتاب المسقاه باب أخذ الحلال وترك الشبهات رقم (1598) وأبو داود فى كتاب البيوع ، باب فى اجتناب الشبهات برقم (3329) والترمذى فى كتاب البيوع ، باب ترك الشبهات (1205) والنسائى فى كتاب الأشربة برقم (5710) وابن ماجه فى كتاب الفتن ، باب الوقوف عند الشبهات (3984) وأحمد حـ 4 ص 267 .
2- اللمع ص 45 .
وقال إمام الطائفة فى عصره الجنيد بن محمد : ( التصوف أن يميتك الحق عنك ويحييك به ) (1) .
وقال عمرو بن عثمان المكى : التصوف يكون العبد فى كل وقت مشغولا بما هو أولى فى ذلك الوقت (2) .
* أهم القضايا الصوفية :
وعن أهم القضايا التى شغلت أوائل الصوفية ودارت بينهم من خلال كتبهم ومروياتهم فيتمثل أغلبها فيما يأتى :
1- العقيدة والمنهج :
لما كان جهد الصوفية قائما على إصلاح الباطن وطهارة القلب فإن أغلب الذين كتبوا فى التصوف من الصوفية ؟ الأوائل أفردوا أبوابا وفصولا لذكر معتقدهم ومنهجهم وموقفهم من الوحى ومصدر الاعتقاد وعلاقة العقل بالنقل .(1/21)
فهذا الحارث المحاسبى يجلى بوضوح معتقده فى الله وأنه فى السماء على العرش ويرد على القائلين بوحدة الوجود (3) ويبين منهجه فى التلقى والمعرفة من خلال فهم ماهية العقل (4) .
ــــــــــــــــــــــــ
1- السابق ص45 . 2- السابق ص45 .
3- انظر كتاب فهم القرآن للحارث المحاسبى ص 367 .
4- انظر ماهية العقل للحارث المحاسبى ص 237 .
وهذا سهل بن عبد الله التسترى يذكر اعتقاده على وجه التفصيل ويرد على أهل الفرق والدعاوى فى الأحوال (1) .
ويقول الشيخ الكبير أبو عبد الله بن خفيف : ( هذا معتقدى ومعتقد الأئمة السادة والعلماء القادة الذين قبلى وفى زمانى من أهل السنة والجماعة ، ثم قال : ويعتقد أن أخبار الآحاد توجب العمل ولا توجب العلم وأخبار التواتر توجب العلم والعمل ، والعقل لا يحسن ولا يقبح والشرع حاكم على العقل والناس على العدالة حتى يظهر الجرح ثم يفصل اعتقاد أهل السنة والجماعة ) (2) .
ويشرح الكلاباذى قولهم فى التوحيد وموقفهم من الأسماء والصفات وقولهم فى الرؤية والقدر وخلق الأفعال ثم يبن منهجهم فى معرفة الله والأمور الغيبية بصفة عامة وأن مصدرها الوحى وأن العقل لا يمكنه بمفرده التعرف على أوصاف الخالق سبحانه وتعالى ، قال الكلاباذى فى الباب الحادى والعشرون : قولهم فى معرفة الله تعالى : أجمعوا على أن الدليل على الله هو الله وحده ، وسبيل العقل عندهم سبيل العاقل فى حاجته إلى الدليل ، لأنه محدث والمحدث ل ايدل إلا على مثله .
وقال رجل للنورى : ما الدليل على الله ؟
قال : الله .
ــــــــــــــــــــــــ
1- انظر كتابه الرد على أهل الفرق والدعاوى فى الأحوال .
2- سيرة الشيخ الكبير عبد الله بن خفيف ص 340 .
قال : فما العقل ؟
قال : العقل عاجز والعاجز لا يدل إلا على عاجز مثله (1) .
ويذكر المكى فى قوت القلوب كتبا وفصولا فى بيان معتقد أهل السنة والجماعة (2) .(1/22)
ومن الإنصاف أن يذكر المرء أن أقوالهم فى أمور الاعتقاد خاصة التى تتعلق بأسماء الله وصفاته وأفعاله وأمور القدر وتوحيد الربوبية حجة فى بيان منهج أهل السنة والجماعة والرد على المخالفين من الطوائف المختلفة .
وقد احتج كثير من السلف بأقوالهم ونقلوا الكثير عنهم فى مؤلفاتهم وعلى رأسهم شيخ الإسلام ابن تيمية (3) .
2- أعمال القلوب والجوارح .
تعد أعمال القلوب والجوارح من القضايا التى شغلت حيزا واسعا فى تراث أوائل الصوفية فلقد بلغ الجهد مبلغه فى دراسة أعمال القلوب ــــــــــــــــــــــــ
1- التعرف ص 78 ، ص 79 وقارن بين قول النورى هذا فى تقديم النقل وبين قوله المناقض للشرع ( حبيبى تريد أن تخدعنى منك بمثل هذا ) انظر ص 27 .
2- قوت القلوب حـ 1 ص 123 وما بعدها .
3- انظر ما نقله عنهم فى الفتوى الحموية ص 36 وما بعدها وانظر فى تفصيل ذلك كتاب ابن تيمية والتصوف للدكتور مصطفى حلمى وكتاب التصوف فى تراث ابن تيمية للدكتور الطبلاوى محمود سعد .
على وجه الخصوص ممثلة فى الأحوال الإيمانية والمقامات والنوازع والخواطر الداخلية التى تطرأ من قبل النفس والعدو أو الروح والملك ولا يكاد يخلو كتاب من كتبهم من تفصيل ما لهذه الأمور ، فوصل اهتمامهم بعبوديات القلب إلى حد يفصلون فيه خفايا الأمور فى التوبة والورع والزهد والصبر والتوكل والرضا والقرب والمحبة والخوف والرجاء واليقين والمراقبة وغير ذلك من أعمال القلوب ويفصلون درجات كل موطن من هذه الأعمال ويظهرون جوانبه وأبعاده وفى المقابل ينبهون على ما يفسد القلب من الرياء وسوء أفعال النفس والعجب والكبر والغرور والحسد والحقد وغير ذلك ، وكل منهم يدلى بدلوه من واقع إيمانه وتجربته الشخصية بما يكشف هذه الأمور ويجليها حتى وصل الأمر ببعضهم إلى أن يسمى مؤلفه المسائل فى أعمال القلوب والجوارح كالحارث المحاسبى أو قوت القلوب كأبى طالب المكى .(1/23)
ويمكن القول أن نسبه اهتمام الصوفية الأوائل بعبوديات القلب إلى سائر موضوعاتهم قد حازت الصدارة إذا ما قورنت بالموضوعات الأخرى .
فهم ما برحوا يوالون القلب بالتنقيب والتحليل والدراسة الرعاية والعناية وقد جاء اهتمامهم بعبوديات الجوارح حفاظا على سلامة القلب من ناحية ، إذ أنهم يعتبرونها ساحة للمنازلة والإقبال على الله والإعراض عمن سواه ، وتحقيقا للعبودية فى ظاهر البدن من ناحية أخرى .
ويمكن القول أن أغلب الصوفية شددوا على أنفسهم بلا هوادة فى هذا الجانب إلى درجة الإفراط والمغالاه ومخالفة الحد النبوى ، حتى إنهم تعاملوا مع المستحبات والمندوبات على أنها واجبات وفرائض فيذكر السراج الطوسى أن العامة لهم أن يقلدوا علماءهم ويسألوا فقهاءهم ويعتمدوا على أقاويلهم من الرخص والسعات والفتوى والتأويلات التى أوسع الله تعالى للخلق ، أما المتصوفة وأهل الخصوص فلا يسعهم التخلف عن استعمال الآداب ، والاهتمام والتكلف لأحكام الصلاة وأحكام فرائضها وسننها وفضائلها ونوافلها وآدابها ، لأنهم ليس لهم شغل غير ذلك ، ولا ينبغى أن يهمهم أمر أكثر من اهتمامهم بأمر الصلاة (1) .
وفى الزكاة والصدقات والعمل والمكاسب والتصرف فى الأسباب والصوم والحج والاجتماعات والضيافات واللباس والأسفار والذكر والسماع وجميع آداب اللسان حالهم أشد وجهدهم أعظم .
3- التربية الروحية .
وأعنى بها عملية تكييف المريد وتشكيله على يد شيخه ليرقى إلى ــــــــــــــــــــــــ
1- اللمع ص 203 .
المراتب الصوفية ، وقد نال هذا الجانب حيزا كبيرا من الجهد الصوفى فى البداية حيث وضعوا القواعد والأسس التى ينهجها المبتدئ وفق نظام يحدده الشيخ المعين ، ولا شك أن هذا العامل ما زال قائما بصورة سيئة من خلال المناهج المختلفة فى الطرق الصوفية وأورادها .(1/24)
وقد كان من الأوائل من يرى أن المريد يبدأ بتصحيح الاعتقاد فيما بينه وبين الله تعالى ويحاول أن يكون اعتقاده صاف عن الظنون والشبه خال من الضلالة والبدع صادر عن البراهين والحجج .
ويقبح بالمريد عندهم أن ينتسب إلى مذهب من المذاهب ليس على هذه الطريقة ولا يصح للشيوخ التجاوز عن زلات المريدين ، لأن ذلك تضييع لحقوق الله تعالى ، وما لم يتجرد المريد عن كل علاقة لا يجوز لشيخه أن يلقنه شيئا من الأذكار ، بل يجب أن يقدم التجربة له ، فإذا شهد قلبه للمريد بصحة العزم فحينئذ يشترط عليه أن يرضى بما يستقبله فى هذه الطريقة من فنون تصريف القضاء ، فيأخذ عليه العهد بأن لا ينصرف عن هذه الطريقة بما لا يستقبله من الضرر والذل والفقر والأسقام والآلام ، وأن لا يجنح بقلبه إلى السهولة ، ولا يترخص عند هجوم الفاقات وحصول الضرورات ، ولا يؤثر الدعة ، ولا يستشعر الكسل فإن وقفة المريد شر من فترته (1) .
ــــــــــــــــــــــــ
1- الرسالة القشيرية حـ2 ص 731 .
ومنهم من يضع أسسا معدودة يحتمها على المريد فيذكر أن المريد لا بد له من سبع خصال :
1- الصدق فى الإرادة وعلامته إعداد العدة .
2- ولا بد له من التسبب إلى الطاعة وعلامة ذلك هجر قرناء السوء
3- ولا بد له من المعرفة بحال نفسه وعلامة ذلك استكشاف آفات النفس .
4- ولا بد له من مجالسة عالم بالله وعلامة ذلك إيثاره على ما سواه .
5- ولا بد له من توبة نصوح فبذلك يجد حلاوة الطاعة ويثبت على المداومة ، وعلامة التوبة قطع أسباب الهوى والزهد فيما كانت النفس راغبة فيه .
6- ولا بد له من طعمة حلال لا يذمها العلم وعلامة ذلك الحلال حلول العلم فيه يكون بسبب مباح وافق فيه حكم الشرع .
7- ولا بد له من قرين صالح يؤازره على ذلك وعلامة القرين الصالح معاونته على البر والتقوى وتهيئه إياه عن الإثم والعدوان .(1/25)
فهذه الخصال السبع عنده قوت الإرادة لا قوام لها إلا بها ويستعين على هذه السبع بأربع هن أساس بنيانه وبها قوة أركانه :
أولها الجوع ثم السهر ثم الصمت ثم الخلوة .
فهذه الأربع سجن النفس وضيقها وضرب النفس وتقييدها بهن
يضعف صفاتها وعليهن تحسن معاملاتها (1) ولا يكاد يخلو كتاب من كتبهم من ذكر ما لطريقة الشيخ فى تأديب المريد وتربيته الروحية .
5- التنبيه على الشطحات التى وقع فيها أدعياء التصوف .
حفاظا على طريقة الصوفية فإن كثيرا من المشايخ ما برحوا يردون أغاليط المنتسبين إليهم أو من ضل منهم عن طريقة أهل السنة والجماعة ويتجلى هذا فى كتاب اللمع لأبى نصر السراج الطوسى وما نقله السلمى عنه فى أصول الملامتية وغلطات الصوفية ، فقد نقل أقول المشايخ على وجه التفصيل فى ذكر من غلط من المترسمين بالتصوف ومن أين يقع الغلط ؟ ثم صنف طبقاتهم وتفاوتهم فى الغلط ورده عليهم بأدلة النقل والعقل وأقوال المشايخ ، ولا تخلوا ردودهم أيضا من وجود أغاليط ملحوظة (2) .
ــــــــــــــــــــــــ
1- قوت القلوب ص 94 .
2- انظر اللمع ص 516 وما بعدها ، وانظر أصول الملامتية وغلطات الصوفية تحقيق الدكتور عبد الفتاح الفاوى ص140 وما بعدها .
الفصل الثانى
دراسة فى مفهوم الحرية
وقد اشتمل على ثلاثة مباحث :
المبحث الأول :
الحرية لغة وشرعا .
المبحث الثانى :
الحرية فى تاريخ الفكرالإسلامى .
المبحث الثالث :
الحرية ومنهج الحياة الإسلامية .
*** المبحث الأول ***
الحرية لغة وشرعا
تنبئ هذه الكلمة بتصاريفها فى اللسان العربى عن معانى كثيرة ترجع إلى معنى الخلوص والتحرر من القيود وعدم الإكراه أو الضغط على إرادة الإنسان .
يقول الراغب الأصفهانى : ( حررت القوم إذا أطلقتهم وأعتقتهم عن أسر الحبس ، والتحرر جعل الإنسان حرا والحر خلاف العبد ) (1) .
قال تعالى : { ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة } (2) .(1/26)
والرقبة اسم للعضو المعروف جعل فى التعارف علما على المملوك إذ أنه مقيد بإدارة سيده وعتق الرقبة إخراجها للحرية ورفع القيود عنها (3) .
وقد جاء الإسلام فى وقت انتشر فيه الرق فرغب فى الحرية والعتق صونا لآدمية الإنسان وتحريرا لإرادته التى منحه الله إياها .
قال الإمام البغوى فى قوله تعالى :{ فلا اقتحم العقبة وما أدراك ما العقبة فك رقبة } (4) .
ــــــــــــــــــــــــ
1- المفردات للراغب الأصفهانى تحقيق محمد السيد كيلانى طبعة الحلبى ص11.
2- النساء / 29.
3- السابق ص 201 .
4- البلد 12:11 .
قوله : { فلا اقتحم العقبة } يعنى لم يقتحم العقبة فى الدنيا أى لم يتحمل الأمر العظيم فى طاعة الله ، ثم فسر اقتحام العقبة بفك الرقاب ومنحها الحرية (1) .
وفى الحث على حرية الإرادة والترغيب فى العتق يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( أيما رجل مسلم أعتق رجلا مسلما ، فإن الله عز وجل جاعل وقاء كل عظم من عظامه عظما من عظام محرره من النار ، وأيما امرأة مسلمة أعتقت امرأة مسلمة فإن الله جاعل قاء كل عظم من عظامها عظما من عظام محررها من النار يوم القيامة ) (2) .
فالمعنى السائد للحرية بين العرب ما يقابل الرق والعبودية .
وهناك بعض المعانى التى تقابل معنى الحرية وتحقيق الرغبة استخدمت فى الشرع منها :
1- الإكراه : ويعنى سلب الإرادة وتحقيق الرغبة ولذلك اشترط الفقهاء
ــــــــــــــــــــــــ
1- شرح السنه للبغوى تحقيق زهير الشاويش وشعيب الأرناؤوط ، طبعة المكتب الإسلامى حـ 9 ص 251 .
2- أخرجه أبو داود فى سننه فى كتاب العتق باب أى الرقاب أفضل رقم الحديث (3965) والنسائى فى كتاب الجهاد ، باب ثواب من رمى فى سبيل الله برقم (3144) وابن ماجه فى كتاب الجهاد ، باب الرمى فى سبيل الله برقم (2812) .(1/27)
أن يكون العاقد فى البيع حرا مختارا فى بيع متاعه ، فإذا أكره على بيع ماله بغير حق فإن البيع لا ينعقد لقوله تعالى : { إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم } (1) ولقوله صلى الله عليه وسلم : ( رفع عن أمتى الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه ) (2) .
فحرية التصرف والاختيار من الأمور الأساسية فى البيع والشراء والرضى فى الإنسان يعنى علامة الكمال فى تحقيق حريته ومن ثم فلا بد من القبول والإيجاب فى العقود وفى الحديث : ( البيعان بالخيار ما لم يفترقا أو يقول أحدهما لصاحبه اختر ) (3) .
ــــــــــــــــــــــــ
1- النساء / 92 . 2- انظر معرفة السنن والآثار عن الإمام الشافعى تصنيف البيهقى ، طبعة دار الكتب العلمية حـ 7ص 326 ، والمغنى بالشرح الكبير لموفق الدين بن قدامه طبعة دار الكتاب العربى حـ 4 ص 3 ، والحديث أخرجه ابن ماجه فى سننه كتاب الطلاق حديث رقم (16) والبيهقى فى سننه حـ 10 ص 60 والحاكم فى المستدرك حـ 2 ص 98 وابن عدى فى الكامل حـ 2 ص 758 والخطيب البغدادى فى التاريخ حـ 7 ص 377 .
3- أخرجه البخارى فى كتاب البيوع ، باب كم يجوز الخيار حـ 3 ص 83 ومسلم فى كتاب البيوع ، باب ثبوت خيار المجلس للمتبايعين حديث رقم (1531) وأبو داود فى سننه كتاب البيوع والإجارات ، باب فى خيار المتبايعين حديث رقم (3454) والنسائى فى البيوع باب وجوب الخيار للمتابعين حديث رقم (4470) والترمذى فى البيوع حديث (1254) وأخرجه ابن ماجه فى كتاب التجارات باب البيعان بالخيار مالم يفترقا حديث رقم (2181) .
2- الحجر : وهو المنع والتضييق على المديون أو السفيه والحد من حرية التصرف فيما يملك ، قال الإمام الشافعى رحمه الله : الحجر ثابت على اليتامى حتى يجمعوا بين خصلتين :(1/28)
البلوغ والرشد لقوله تعالى :{ وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم } (1) ويختبر اليتيم فإذا أحسن التصرف فى ماله وأصلحه رفع عنه الحجر (2) .
3- وفى معنى الإكراه والحجر الغصب : وهو الاستيلاء على حقوق الغير قهرا وهو نوع من السلب لحرية الإنسان وآدميته ولذلك فإن الشرع حرمه ، قال تعالى : { يأيها الذين آمنو لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم } (3) .
وفى الحديث : ( إن دماءكم وأموالكم حرام كحرمة يومكم هذا فى شهركم هذا فى بلدكم هذا ) (4) .
ــــــــــــــــــــــــ
1- النساء / 6 . 2- الأم للإمام للشافعى حـ 3 ص 215 ومعرفة السنن والآثار حـ 4 ص 457 . 3- النساء / 29 .
4- أخرجه مسلم فى كتاب الحج ، باب حجة النبى صلى الله عليه وسلم حديث رقم (1218) وأبو داود فى كتاب المناسك ، باب صفة حجة النبى صلى الله عليه وسلم برقم (1905) والنسائى فى كتاب الحج ، باب الجمع بين الظهر والعصر بعرفه برقم (2713) وابن ماجه فى كتاب المناسك ، باب حجة النبى صلى الله عليه وسلم برقم (3074) .
ويقسم ابن منظور الحرية إلى ضربين :
الضرب الأول : من لم يجر عليه حكم الشئ كقوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص فى القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد } (1) .
الضرب الثانى : من لم تتملكه الصفات الذميمة من الحرص والشره على المقتنيات الدنيوية ، وإلى العبودية التى تضاد ذلك أشار النبى صلى الله عليه وسلم بقوله : ( تعس عبد الدينار تعس عبد الدرهم تعس عبد الخميصة تعس عبد الخميلة ) (2) .
وعلى الضرب الثانى بنى الصوفية اصطلاحهم فى إطلاق اسم الحرية على من خلع عن نفسه أمارات الشهوة ومزق سلطانها بسيوف المخالفة كل ممزق (3) .
ومن ثم فالحرية تقابل العبودية عند الصوفية بناء على المعنى اللغوى
ــــــــــــــــــــــــ
1- البقرة / 178 .(1/29)
2- جزء من حديث أبى هريرة رضى الله عنه ، أخرجه البخارى فى كتاب الجهاد باب الحراسة فى الغزو فى سبيل الله برقم (1887) وأخرجه مسلم فى كتاب البر والصلة ، باب فضل الضعفاء والخاملين برقم (2622) وانظر لسان العرب لابن منظور طبعة دار المعارف القاهرة حـ 2 ص 829 .
3- اللمع للسراج الطوسى ص 450 وانظر الحرية فى الإسلام تأليف محمد الخضر حسين طبعة دار الاعتصام القاهرة سنة 1982 ص 15 .
القيود وأوصافها ، إذ الحرية تعنى التخلص من القيود التى تحد من حركة الإنسان فى أقواله وأفعاله فى تناسب مطرد بحيث تظهر نسبة الحرية فى الإنسان إذا حددت نسبة القيود فيه ، ويقسم الراغب الأصفهانى هذه القيود على أربعة أضرب فى معنى العبودية :
[1- عبد بحكم الشرع وهو الإنسان الرقيق الذى يصح بيعه وابتياعه نحو قوله تعالى : { العبد بالعبد } (1) وقوله تعالى : { وعبدا مملوكا لا يقدر على شئ } (2) .
[2- عبد بالإيجاد وطبيعة الخلقة وذلك ليس إلا لله وأياه قصد بقوله تعالى : { إن كل من فى السماوات والأرض إلا آتى الرحمن عبدا } (3) .
[3- عبد بالعبادة والخدمة فى تطبيق شرع الله والالتزام بهديه وهو المقصود بقوله تعالى { إن عبادى ليس لك عليهم سلطان } (4) وبقوله : { وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا } (5) فكل هذه المعانى تدل على التزامهم بمنهج الله وشرعه .
[4- عبد للدنيا وأعراضها وهو المعتكف على خدمتها ومراعاتها ، وإياه ــــــــــــــــــــــــ
1- البقرة / 178 .
2- النحل / 75 . 3- مريم / 93 .
4- الحجر / 42 . 5- الفرقان / 63 .
قصد النبى بقوله فى الحديث السابق : ( تعس عبد الدينار تعس عبد الدرهم ) (1) .
والحرية فى ارتباطها بمعنى العبادة على ضربين :(1/30)
ا ــ حرية اختيار لفعل دون آخر وهى مجال الإرادة البشرية والناس بهذا الاعتبار كلهم عبيد لله إذ أنهم خلقوا خاضعين لهذه الفطرة ، ومن هذا المعنى قوله صلى الله عليه وسلم عن رب العزة : ( ياعبادى إنى حرمت الظلم على نفسى ) (2) .
ب ــ حرية تحرر من الأفعال المذمومة بوصف الشرع إلى الأفعال المحمودة وعلى هذا الاعتبار يصح أن يقال : ليس كل إنسان عبدا لله أو مسلما (3) .
وفى المعنى الأول اتسع المجال للبحث بين الفلاسفة والمتكلمين فى إثبات الحرية الإنسانية أونفيها عبر التاريخ البشرى ، وفى المعنى الثانى كانت وقفة أوئل الصوفية فى إخراج مصطلح جديد لمعنى الحرية .
ــــــــــــــــــــــــ
1- المفردات للراغب الأصفهانى ص 319 بتصرف والحديث تقدم تخريجه ص 22 .
2- جزء من حديث أبى ذر الغفارى رضى الله عنه ، أخرجه مسلم فى كتاب البر والصلة برقم (2577) وأخرجه الترمذى فى كتاب صفة القيامة برقم (2495) وأخرجه عبد الرزاق فى مصنفه برقم (2072) و ابن حبان فى صحيحه ، انظر الإحسان فى تقريب صحيح ابن حبان حديث رقم (619) .
3- المفردات بتصرف ص 318 .
*** المبحث الثانى ***
الحرية فى تاريخ الفكر الإسلامى
تعتبر مسألة القدر وعلاقته بالحرية الإنسانية من الموضوعات الهامة التى شاع الجدل حولها قديما وحديثا لدى الفرق والطوائف الإسلامية المختلفة فبعد ظهور هذه الفرق أضحت هذه المسألة حجر الزاوية فى فكر كل فرقة وعقيدتها إذ أنها تعكس أثرا واضحا على منهج التفكير فى الحياة .
وقد ظهرت وجهات نظر متتعددة ومختلفة وأدلى كل منهم بدلوه إيزاء هذه المسألة وقد كان السؤال الذى يطرح نفسه بإلحاح ويمثل جوهر الموضوع لدى كل فرد هو : إذا كان قدر الله شاملا لكل شئ وقضاؤه نافذا لا محالة فلم يحاسب الإنسان على أفعاله وهى مقدرة ومسجلة قبل أن يفعلها ؟(1/31)
* أولا : مذهب الجبرية : ويذكر القرآن منطق المشركين المغالطين فى محاولتهم التنصل من المسؤلية المتعلقة بالاختيار الحر وتجاهلهم للإرادة الإنسانية وفعلها مستندين إلى الرجوع بكل شئ وكل حادث وكل فعل إلى مشيئة الله كعلة أولى ووحيدة ومباشرة لشركهم وكفرهم .
قال تعالى فى شأنهم : { سيقول الذين أشركوا لوشاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شئ كذلك كذب الذين من قبلهم
حتى ذاقوا بأسنا قل هل عندكم من علم الله فتخرجوه لنا إن تتبعون إلا الظن إن أنتم إلا تخرصون } (1) .
{ وقالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم ما لهم بذلك من علم إن هم إلا يخرصون } (2) .
والملاحظ فى رد الله سبحانه وتعالى على قول المشركين الذين يحتجون بالجبر أنه يصفهم بالجهل والكذب ، لأن إفراد الله بالخلق والفاعلية لا يتعارض ولا يتنافى مع إثبات الإرادة الإنسانية وفاعليتها باعتبارها إرادة مختارة ، حيث أن هذه الإرادة ومدى فاعليتها وحدود عملها ومجال اختيارها كل ذلك بمشيئة الله وإذنه وقدره ، وحيث أن الله هو الذى أضلهم ولكن بناء على اختيارهم للضلال وإيثارهم له على ضده ولذلك قال فى الرد عليهم وعلى المنكرين للحرية والاختيار :
{ قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين } (3) ومعنى أن لله الحجة البالغة أن الناس لن يستطيعوا يوم القيامة الاحتجاج بالجبر (4)
والقول بالجبر عند المشركين قديم كما ورد فى القرآن الكريم إلا أنه ــــــــــــــــــــــــ
1- الأنعام / 148 . 2- الزخرف /20 .
3- الأنعام / 149 .
4- زاد المسير فى علم التفسير لأبى الفرج جمال الدين ابن الجوزى ، تحقيق محمد عبد الرحمن عبد الله ، طبعة دار الفكر سنة 1987م حـ 3 ص 99 .
نشأ على المستوى الفكرى أو فى مجال علم الكلام مرتبطا بنشأة التأويل العقلى فى المتشابه من آيات القرآن وأحاديث السنة ، فالمؤسس الأول للجبرية على المستوى الفلسفى هو الجهم بن صفوان (1) .(1/32)
ويذكر الدكتور على سامى النشار أن طائفة المجبرة نشأت فى الأصل على يد الجعد بن درهم ثم الجهم بن صفوان أثناء حكم بنى أمية (2) حيث اتخذوا من القول بالجبر منطلقا عقيديا يبررون به أعمالهم السياسية (3) .
ويقسم الشهرستانى الجبرية إلى نوعين : الجبرية الخالصة وهى التى لا تثبت للعبد فعلا ولا قدرة على الفعل أصلا ، الجبرية المتوسطة وهى التى تثبت للعبد قدرة غير مؤثرة فى الفعل (4) .
والجهمية من الصنف الأول فالإنسان عندهم معدوم الفعل والحرية ــــــــــــــــــــــــ
1- مفتاح السعادة لطاش كبرى زاده حـ 3 ص 33 .
2- انظر فى ذلك نشأة الفكر الإسلامى للدكتور على سامى النشار ، طبعة القاهرة سنة 1969 حـ 1 ص 329 .
3- المحيط بالتكاليف للقاضى عبد الجبار تحقيق عمر عزمى ، ص 422 والمنية والأمل لأحمد بن المرتضى ، تحقيق نوما آرنولد طبعة حيدر آباد سنة 1902م ص 30 .
4- الملل والنحل للشهرستانى تحقيق محمد السيد الكيلانى طبعة القاهرة سنة 1961م حـ 1 ص 87 .
ويخلق الله فيه الأفعال كما يخلقها فى سائر الجمادات ونسبة الأفعال إليه على المجاز كما يقال : زالت الشمس ودارت الرحى وأثمرت الشجرة (1) .
* ثانيا : مذهب القدرية :
وفى مقابل مذهب الجبرية يذكر القرآن الكريم طائفة ظنت أن القوانين الطبيعية التى أوجدها الله فى الكون ورتب نظام الحياة الدنيا عليها تعلو على القدرة الإلهية ، فنسبت إليها الفاعلية أصالة دون الله سبحانه وتعالى إذ يقول فى شأنهم :
{ وقالوا ما هى إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر وما لهم بذلك من علم إن هم إلا يظنون } (2) .(1/33)
فهؤلاء نسبوا الفاعلية للأشياء والأحياء على وجه الحقيقة وليس لله عز وجل ، فنتيجة الألفة والتكرار للقوانين والسنن الطبيعية وتتابع الأسباب والعلل وظهور نتائجها على الدوام بحركات رتيبة منتظمة أوحت إلى هؤلاء أن فى الطبيعة التى يحيا فيها الإنسان قوة فاعلة من دون الله ومن ثم ظهر اتجاه ينادى أنه لا قدر والأمر أنف .
ويكاد يجمع مؤرخو الفرق أن معبدا الجهنى ( توفى بعد 80 هـ ) ــــــــــــــــــــــــ
1- الفرق بين الفرق للبغدادى ، طبعة دار الكتب العلمية بيروت لبنان ص 211 .
2- الجاثية / 24 .
هو أول من قال من المسلمين بنفى القدر والفاعلية الإلهية وكان ذلك فى آخر أيام الصحابة (1) .
وكان لهؤلاء أثر كبير فى ظهور مذهب المعتزلة القدرية بالصورة المستقلة وفى ثوبهم المتميز بالأصول الخمسة ولذلك صنفوهم على رأس طبقاتهم من أهل الاعتزال (2) .
وقد كانت مسألة خلق أفعال العباد من المسائل العظام فى التاريخ الفكرى للأمة الإسلامية ، فالمعتزلة اتفقوا على أن الاستطاعة صفة جوهرية للإنسان وأنها مصدر أول لأفعاله تحدث بها الأفعال دون تدخل للقدرة الإلهية خلقا أو تسيرا ، ورفض أكثرهم القول بأن الله قوى أحدا على الكفر وأقدره باعتباره خالقا لكل شئ مستدلين بقوله تعالى :
{ وما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك } (3) .
ــــــــــــــــــــــــ
1- انظر ميزان الاعتدال فى نقد الرجال للذهبى حـ 2 ص 141 وشفاء العليل فى مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل ، طبعة دار الفكر القاهرة سنة 1978م ص 139 .
2- نشأة الفكر الإسلامى د. على سامى النشار حـ 1 ص 313 .
3- النساء / 97 وانظرالمنية والأمل لابن المرتضى ص 15 ومقالات الإسلاميين حـ 1 ص 81 والفرق بين الفرق ص 153 ، والملل والنحل حـ1 ص 66 .
ويجمع المعتزلة إلا قليلا منهم على أن الاستطاعة البشرية محدثة للفعل وليست مكتسبة له (1) .
ثالثا : المذهب السلفى :(1/34)
وقد دارت الدائرة بين الجبرية والقدرية كعقيدتين متقابلتين ومنحرفتين فى مسألة القدر والحرية من ناحية ، وبين السلف الصالح من ناحية أخرى ، حيث يؤكد السلف أن القرآن الكريم يثبت فى وضوح وجلاء بالنصوص العديدة وجود وجهين لأفعال البشر :
الأول : هو كون الفعل مخلوقا لله ومقدرا بمشيئته وواقعا ككل شئ فى الكون بفاعليته تعالى كقوله : { ألا له الخلق والأمر } (2) .
{ الله خالق كل شئ وهو على كل شئ وكيل } (3) .
الوجه الثانى : وهو كون هذا الفعل فى نفس الوقت مختارا للعبد ومكتسبا باسطاعته ومفعولا بفاعليته منسوبا إليه بهذا الاعتبار .
فقال تعالى : { لمن شاء منكم أن يستقيم } (4) وقال : { ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا } (5) .
ــــــــــــــــــــــــ
1- مقالات الإسلاميين حـ 1 ص 81 .
2- الأعراف / 54 .
3- الزمر / 62 .
4- التكوير /28 .
5- آل عمران / 97 .
وقال : { لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت } (1) .
ففرقوا بين أمر الله الكونى المتعلق بالربوبية وأمره التشريعى المتعلق بالعبودية ، ومن ثم فالفعل البشرى إذا وقع باختيار الإنسان ونيته مخالفا للشرع أو لأمر الله التشريعى كان معصية وشرا .
ووجه الشر هنا ليس منسوبا لله إلا أن الله هو خالق الفعل سواء كان خيرا أو شرا ، فالله سبحانه وتعالى هو الخالق لكل شئ حتى معاصى العباد وهو الذى أقدرهم على فعلها لأنه تعالى شاء أن يبتليهم فقال : { إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعا بصيرا } (2)
وقال سبحانه وتعالى : { تبارك الذى بيده الملك وهو على كل شئ قدير الذى خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا وهو العزيز الغفور } (3) .(1/35)
ومن ثم تصبح الاستطاعة البشرية والأشياء الطبيعية وأفعالهما المخلوقة لله كلها أفعال وتأثيرات احتمالية يتساوى بها جميعا وقوع الشر والخير ، أما حركة الأفلاك والنجوم والشمس والقمر وسائر ــــــــــــــــــــــــ
1- البقرة / 286 .
2- الإنسان / 2 .
3- الملك / 1 ، 2 .
الأجرام السماوية فلها حركة اضطرارية جبرية كما أرادها الله لها بالأمر الكونى ، فليس أمامها إلا فعل واحد وحركة واحدة مطردة ينبئ ماضيها عن مستقبلها بدقة فائقة شأن الملائكة المكرمين الذين قال الله فيهم : { لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون } (1) .
فأفعالهم ذات اتجاه واحد ولا يوجد حيالها سوى احتمال واحد بخلاف الانسان فهو فى كل موقف يبتلى فيه يجد أمامه احتمالين عليه أن يختار ويفعل واحدا منهما ولا يمكن الجمع بينهما ، على ذلك فالطريق الذى سلكه السلف الصالح والذى يعتمد فى جوهره على كتاب الله وعلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم يعد أمرا وسطا للجمع بين آراء الجبرية والقدرية (2) .
ولئن كان القدرية قد قالوا ليس فى الإمكان أبدع مما كان تنزيها لله فى فعله من أن يفعل ما هو قبيح أو ناقص أو معيب أو شر ، بل ورغبة منهم فى القول بأن الله سبحانه وتعالى بوصفه الموجود الكامل المطلق الواحد الأحد فى كماله لا يخلق أو يفعل إلا مخلوقا تاما أو فعلا حسنا ــــــــــــــــــــــــ
1- التحريم / 6 .
2- انظر فى ذلك شفاء العليل ص 280 وما بعدها ، مختصر الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة لابن القيم مكتبة المتنبى القاهرة حـ 1 ص 226 ، شرح العقيدة الطحاوية لابن أبى العز الحنفى تحقيق محمد ناصر الدين الألبانى ص 219 ، قوت القلوب لأبى طالب المكى حـ 2 ص 17 .
وخيرا اعتقادا منهم فى قوله تعالى : { الذى أحسن كل شئ خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين ثم سواه ونفخ فيه من روحه وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون } (1) .(1/36)
وقوله : { فتبارك الله أحسن الخالقين } (2) .
إلا أنهم تغافلوا عن لازم قولهم وهو نفى المشيئة المطلقة عن الله لأنه مادام لا يخلق ولا يفعل إلا الأصلح ، فهو لا يختار بين ممكنات باعتبار أن الأصلح دائما واحد ، كما أنه يضيق مجال الفاعلية الإلهية من حيث يجعل خلق العالم بهذه الكيفية التى هو عليها واجبا على الله وحتما عليه فى فعله كما أنه يحد من القدرة حيث يجعل خلق غير العالم محال عليه كما يجعل فعل ما لا يحدث محال على قدرته كذلك ، كل ذلك نتيجة لمذهب المعتزلة فى الصلاح والأصلح .
وفى مقابل مذهب المعتزلة القدرية رفع أصحاب الجبر شعارهم فقالوا : ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن إطلاقا للمشيئة الإلهية وتحقيقا للقدرة ووصفا للفاعلية الإلهية بما يليق بها ، وهذا وإن كان ــــــــــــــــــــــــ
1- السجدة / 7 : 9 .
2- المؤمنون / 14 .
حقا إلا أن الاكتفاء به يلزم أصحابه بنسبة ما يقع فى العالم من شرور وقبائح لله ، وقد وجدنا أن ذلك واقع من الناس وبفعلهم وإن كان بمشيئة الله وقدره (1) .
والحقيقة التى أثبتها السلف الصالح حيال هذا الأمر أنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن وهو ما يحدث بالأمر الكونى وواقع الربوبية وأنه ليس فى الإمكان أبدع مما كان لتحقيق الوضع الأمثل لابتلاء الإنسان فى الحياة الدنيا وتكليفه بالأمر الشرعى من قبل الله لتحقيق العبودية كما قال سبحانه :
{ وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } (2) .
فالشعاران اللذان رفعهما الفريقان صحيحان بنص القرآن وليسا متعارضين بل إن اللبس والغموض والاضطراب فى هذه الحقيقة عند كل طائفة يكمن فى أن كلا منهما يتمسك بشعاره ويرفض الآخر .
وفى حديث النبى صلى الله عليه وسلم عندما سأله سراقة بن
ــــــــــــــــــــــــ(1/37)
1- مختصر الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة ص 228 وما بعدها مختصرا وانظر اللمع فى الرد على أهل الزيغ والبدع لأبى الحسن الأشعرى ص 115، وانظر الفصل فى الملل والأهواء والنحل لابن حزم ، دار الجبل بيروت لبنان حـ 3 ص201 وما بعدها ، تاريخ المذاهب الإسلامية للإمام محمد أبو زهرة طبعة دار الفكر العربى ص121 .
2- الذاريات / 56 .
مالك بن جشعم فقال : يارسول الله أنعمل اليوم فيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير أو فيما يسثقبل ؟
فأجاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : بل فيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير ؟
قال : ففيم العمل ؟
قال : اعملوا فكل ميسر لما خلق له ، ثم قرأ صلى الله عليه وسلم :
{ فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى } (1) .
فالمتأمل فيه يجد الطريقين المتقابلين فى مسألة القدر والحرية ويجد المخرج من هذا التناقض ، فالله سبحانه وتعالى كتب مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة وفى ذات الوقت جعل الإنسان حرا مختارا بالقدر الذى يدينه ويحمله المسئولية عن أفعاله الخلقية كل ذلك فى نسق فكرى واحد نزل به الوحى ، تظهر فيه الغاية من خلق الحياة الدنيا والآخرة قال تعالى : { ولو شاء ربك لجعل الناس
ــــــــــــــــــــــــ
1- الليل / 5 : 10 .
2- أخرجه البخارى فى كتاب القدر ، باب جف القلم على علم الله برقم (6596) ومسلم فى كتاب القدر ، باب كيفية الخلق برقم (2647) وأخرجه أحمد حـ 1ص82 ، حـ4ص431 وابن حبان فى التقريب حـ 2 ص 45 برقم (334) والترمذى فى القدر ، باب ما جاء فى الشقاء والسعادة برقم (2136 ) .
أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين } (1) .(1/38)
وقد نتج عن التفاوت فى علاج هذه القضية كم كبير من التراث الفكرى الإسلامى والأقرب فيهم إلى الحق هو الأقرب فى التمسك بمجموع الأدلة فى كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ولقد كان لكثير من أوائل الصوفية فى هذه المسألة وقفة سلفية تآزرت مع الفقهاء والمحدثين فى وقوفهم أمام المخالفين لكتاب الله سوف تتضح بإذن الله من خلال هذا البحث ، وقد يكون الشائع عن أوائل الصوفية أنهم يرغبون فى إخراج أنفسهم من عواق الحياة بهجرها والزهد فيها وايثارهم للخلوة والبرارى والصحارى عن التفاعل معها والخوض فيها كما هو الحال فى صوفية اليوم ، إلا أن أوائل الصوفية على الرغم من شطحاتهم ومخالفاتهم لهم جانب لا ينكر فى خدمة العقيدة السلفية ، فلهم إبداعات قيمة فى عرض مسألة القدر وعلاقته بالحرية الإنسانية تسفر عن فهم دقيق لكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ــــــــــــــــــــــــ
1- هود / 118 ، 119 .
*** المبحث الثالث ***
الحرية ومنهج الحياة الإسلامية
إذا كانت الحرية تعنى استقلال الإرادة الإنسانية وحريتها فى اختيار أفعالها ، فإن الوجه المقابل لاستكمالها أن يعين للإنسان حد لا يتجاوزه وأن توضع نظم تمنع التعدى على حريات الآخرين فالحرية وسيلة وليست غاية إذ الغاية تكمن فى تحقيق الكمال الإنسانى المتمثل فى عبوديته لله سبحانه وتعالى كما قال جل ذكره : { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } (1) .
ولقد حوى دين الإسلام من نظم الحياة لجميع أفرادها كل ما يحتاجه الإنسان من تشريع فى علاقته مع ربه ومع ملائكته وأنبيائه ومع أفراد نوعه من بنى البشر ، فبين لنا القرآن الكريم وفصلت لنا السنة النبوية كل ما يلزم الإنسان فى حياته اليومية من نظم تحقق الكمال الإنسانى فى اختياره وحريته ، وذلك فى مقابل النظم والتشريعات المكتسبة من التجربة واستحسان العقول فى الفلسفات الأخرى .
* الحرية فى المجال السياسى :(1/39)
ففى تنظيم العلاقة بين الراعى والرعية نجد أفكارا شتى عند السياسيين كل يدلى بدلوه ليحقق كمال الحرية من وجهة نظره وأقربهم ــــــــــــــــــــــــ
1- الذاريات / 56 .
إلى الحق أقربهم إلى النظم الإسلامية التى وضعها الله سبحانه وتعالى .
فالمبادئ الأساسية التى كفلها الإسلام فى ذلك :
1- الحرية السياسية لكل أفراد المجتمع أو حق الأمة فى اختيار الحاكم .
2- حق الأمة فى مراقبته ومحاسبته على أعماله .
3- مبدأ الشورى .
أما طريقة الاختيار للحاكم ، فإن الذى اتبعه الصحابة هو أن يبابيع أهل الحل والعقد الإمام أو الخليفة الذى تم الاتفاق عليه ، وأهل الحل والعقد هم أئمة المسلمين وفقهاؤهم ورؤساء عشائرهم وأمراء أجنادهم وذو الشوكة والمكانة والرأى فيهم (1) .
والبيعة ( هى العهد على الطاعة فقد كان المبايع يعاهد أميره على أنه يسلم له النظر فى أموره وأمور المسلمين ) (2) .
وقد تولى الخلفاء الراشدون ـ وعهدهم هو العهد الذى يمثل مبادئ القرآن أصدق تمثيل ـ بطريق البيعة من أهل الحل والعقد .
وقد قرر ابن خلدون حق الإمام فى تعيين خلفه على المسلمين مستندا ــــــــــــــــــــــــ
1- انظر غياث الأمم فى التياث الظلم لإمام الحرمين أبى المعالى الجوينى تحقيق ودراسة الدكتور مصطفى حلمى والدكتور فؤاد عبد المنعم أحمد ص 46 طبعة دار الدعوة الإسكندرية مصر سنة 1979 .
2- المقدمة لابن خلدون تحقيق الدكتور على عبد الواحد وافى حـ 2 ص719 طبعة لجنة البيان العربى .
بتولية عمر بن الخطاب ، ولكن كلامه فيه نظر ، إذ أنه أغفل التفرقة بين الترشيح والتعيين حيث رشح أبو بكر عمر ولم يعينه ، وحيث تم تنصيبه ببيعة أهل الحل والعقد بعد وفاة أبو بكر رضى الله عنه (1) .(1/40)
أما حق الأمة فى محاسبة الحاكم ، فقد نص على ذلك أبو بكر وعمر وسائر الخلفاء فى خطبتهم الأولى بعد مبايعة الناس لهم بالخلافة كما أن ما حدث من عامة المسلمين لعثمان بن عفان خير دليل على ذلك ، وإن كانوا قد جاروا عليه باستخدامهم هذا الحق فى غير موضعه ودون مبرر معقول ومقبول .
والحق الثالث للناس على الراعى حق الشورى لقوله تعالى : { والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم } (2) فبين أن تلك صفة لازمة للمجتمع المؤمن كالصلاة وسائر الطاعات ومن ثم أمر نبيه أن يعامل المسلمين فى أمورهم بهذا المبدأ : { فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم فى الأمر } (3) .
هذه الحقوق الثلاثة للرعية على الراعى مقابل حقه عليهم فى السمع والطاعة ما دام لا يأمر بمعصية تحقق المساواة التامة بين الناس من جهة وبينهم وبين الفئة الحاكمة من جهة أخرى ، وأساس هذه المساواة هى ــــــــــــــــــــــــ
1- الحرية فى الإسلام للدكتور على عبد الواحد وافى ص98 .
2- الشورى / 38 .
3- آل عمران : 159 .
حياتهم جميعا وفق شريعة الله تحقيقا للعبوديه ، و ذلك لأن المساواة الحقة بين أفراد مجتمع ما فى القيمة الإنسانية لا تكون إلا تحت لواء شرع ونظام ومنهج حكيم منزل عليهم من ربهم (1) .
* الحرية الدينية :
وقد راعى النظام الإلهى فى فطرة الناس الحرية التامة لكل فرد من الرعية فى اختيار دينه ذلك لأن الحرية هى الوسيلة لتحقيق كيان الفرد فى نفسه وفى مجتمعه ، ومن ثم فلا إنسانية بدون حرية ولذلك فإن التشريع القرآنى يكفل للفرد ضمانات صلبة وراسخة لحريته حيال المجتمع ، فجعل لكل فرد حق الاختيار فى كل أمور حياته وآخرته هزيلها وخطيرها مادام هذا الاختيار لا يتضمن اعتداء ظالما على غيره ومن ثم فحرية اختيار الإيمان بالله أو الشرك به حق لكل إنسان يتحمل نتائجه : { وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر إنا أعتدنا للظالمين نارا أحاط بهم سرادقها } (1) .(1/41)
ــــــــــــــــــــــــ
1- السياسة الشرعية ونظام الدولة الإسلامية فى الشؤن الدستورية والخارجية والمالية للشيخ عبد الوهاب خلاف ص25 وما بعدها بتصرف ، طبعة دار الأنصار القاهرة سنة 1977 م .
2- الكهف : 29 .
وذلك لأنه مخلوق حر والحرية مكون أساسى فى طبيعته التى خلقه الله بها فما دام ذلك حقه الذى أعطاه الله له ، فليس من حق أحد أو أى سلطة أن تسلبه منه حتى لو كان ذلك لصالح الإيمان والإسلام .
فلو أكره حاكم أحدا من رعيته على الإسلام لكان ذلك اعتداء منه على حق المكره الذى كفله الله له ، ورفض منه لارادة الله ومشيئته فى خلقه وذلك واضح صريح فى قوله تعالى لرسوله مبينا أنه ليس من حقه أن يكره أحدا على الإيمان : { ولو شاء ربك لآمن من فى الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين } (1) .
فما دام الله قد شاء أن يكون الناس أحرارا مختارين بين الإيمان والكفر فمن يكره إنسانا على الإيمان وهو مصر على الكفر أو الشرك ، فقد خالف مشيئة الله واعتدى على حق هذا الإنسان الذى وهبه الله له .
أما ماورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال :
( أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا اله إلا الله فمن قالها فقد عصم منى دماءه وماله ) (2) فذلك لا يعنى إكراه الناس على الإيمان ــــــــــــــــــــــــ
1- يونس 99 . 2- حديث متواتر رواه البخارى فى كتاب الزكاه ، باب وجوب الزكاة برقم (1399) ومسلم فى كتاب الإيمان ، باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا لاإله إلا الله برقم (21 ) وأبوداود فى كتاب الزكاة برقم (1556) والترمذى فى كتاب الإيمان برقم (2609) والنسائى فى كتاب المحاربة برقم (3983) وابن ماجه فى كتاب السنة والفتن برقم (3927) .(1/42)
بالقتال ، ولكن المقصود بالناس هنا من وقف فى طريق الدعوة يتصدى لها من أصحاب السلطان الجائرين فى الأرض المكرهين للناس على الضلال والشرك ، الحاكمين بينهم بشريعتهم وأهوائهم ، ولذلك فإن عمر بن الخطاب رضى الله عنه بعد النصر أعطى عهدا لأهل إيليا بالأمان والحرية التامة فى أنفسهم وأموالهم وكنائسهم وسائر ملتهم ولا يضار أحد منهم (1) .
وكذلك عهد عمرو بن العاص لأهل مصر وجميع من عهد نص على حرية العقيدة وإقامة الشعائر (2) .
ومن ثم فمهمة الجيوش الإسلامية المجاهدة تتمثل فى إزالة هذا الحاجز المانع حتى يستطيع المسلمون تبليغ رسالة الله التى كلفهم بتبليغها وحتى تبلغ كلمة الله آذان الأمم والشعوب وبعد ذلك يكون من حق كل منهم أن يؤمن أو لايؤمن ، وذلك التشريع السياسى العام فى حرية العقيدة ينسحب على تشريع الحرية العقيدية بين الزوجين ، فلا يسمح الإسلام للمسلم المتزوج باليهودية أو النصرانية أن يجبرها على ترك دينها أو أن يمنعها من آداء شعائرها التعبدية فى كنيستها ، بل تذهب بعض مذاهب الفقه الإسلامية إلى وجوب مصاحبة الزوج المسلم للزوجية ــــــــــــــــــــــــ
1-البداية والنهاية حـ 7 ص 65 طبعة دار الفكر العربى سنة 1387هـ .
2- السياسة الشرعية ونظام الدولة الإسلامية ص36 .
الكتابية إلى كنيستها أو بيعتها للصلاة إذا أرادت (1) .
ولقد أثار مخالفو الإسلام من مستشرقين وغيرهم شبهات حول انتشار الإسلام نتيجة الفتوحات الإسلامية زاعمين أن من أسلم من مواطنى البلاد المفتوحة إنما أسلم تحت السيف ، ولكن ذلك افتراء مناف للصحة والصواب فلم تكن حقيقة الحروب الإسلامية سوى تحرير للناس من أوضاع ونظم ظالمة غاشمة تستعبد الشعوب للحكام من دون الله .(1/43)
وأصدق تعبير وأوضحه على هذا المبدأ الهام هو قول ربعى بن عامر لملك الفرس عندما سأله عن سبب غزو المسلمين لبلاده قبل موقعة القادسية قال : ( إن الله ابتعثنا لنخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام ، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة ) (2) ولن تتحقق الحرية على وجهها الأمثل إلا بهذا التحرير .
* الحرية فى المجال الاقتصادى :
وتعنى حرية الإنسان فى التملك للأرض التى منحه الله إياها واستغلاله لثرواتها ومنتجاتها ، وتعبيد كل ما عليها من نبات وحيوان ومعادن لمعاشه ومتاعه المشروع وهى شعبة أخرى من شعب الحرية ــــــــــــــــــــــــ
1- الحرية فى الإسلام من سلسلة كتاب اقرأ د . عبد الواحد وافى ص 61.
2- البداية والنهاية حـ 3 ص 123 .
الإنسانية بعد الحرية السياسية والعقيدية ولا تقل خطرا عنهما (1) .
ويقدم الإسلام نظامه الاقتصادى الإسلامى المحكم كمنهج لضمانها لكل فرد فما دام الناس كلهم مستخلفون فى الأرض فقد أطلقت التشريعات الاقتصادية الإسلامية طاقات العمل عند كل الأفراد فى المجتمع للاستغلال والبناء والتعمير والإنتاج وفى شتى ضروب النشاط الاقتصادى .
فأباح الإسلام الملكية الفردية تمشيا مع الفطرة الإنسانية وإطلاقا للطاقات البشرية إلى آخر مدى مقدر لها وجعل هذه الملكية هى الأجر الطبيعى والمكافأة العادلة لمن يعمل ويجتهد لاستخراج الأرزاق للناس من الأرض .
ومن الطبيعى أن تفاوت الناس فى مواهبهم الموروثة التى خلقهم الله بها يستتبع تفاوتا بينهم فى طاقة كل منهم على العمل والإنتاج واستغلال الأرض ومن ثم يستتبع ذلك فروقا بينهم فى ملكياتهم ولا يمنع الإسلام ذلك ، ولكنه يجعله مسموحا بشروط البشرية فوجود أغنياء فى المجتمعات البشرية أمر قد أراده الله وشاءه لابتلاء الناس .(1/44)
ولكن الذى يحتمه التشريع الاقتصادى الإسلامى حماية للحرية الاقتصادية لأفراد المجتمع هو أن يكون للفقراء والمساكين واليتامى والعجزة حق فى مال هؤلاء الأغنياء بقدر كثرة هذا المال وتلك هى ــــــــــــــــــــــــ
1- الحرية فى الإسلام من سلسلة كتاب اقرأ ص 72 .
الزكاة ، ذلك أن الإسلام فى مقابل إطلاق أيدى الناس أصحاب الطاقات البناءة والعاملة فى ثروات الأرض يمتلكون من خيراتها ما يشاؤون وما يستطيعون يجعل لهؤلاء الذين لا يملكون وسائل الإنتاج والقدرات الجسدية والذهنية والعقلية من العجزة واليتامى والمساكين وأبناء السبيل وكل من أقعدته ظروفه الجبرية عن الكسب يجعل لهم حقا فى مال الأغنياء لأن ما يكسبه المستطيعون نتيجة عملهم واستغلالهم لثروات البر والبحر إنما هو رزق مقدر من الله للجميع .
ويتضح لنا ذلك الأمر بمعرفة مفهوم الملكية فى الإسلام باعتباره الأساس الفلسفى للنظام الاقتصادى الإسلامى .
وينبثق مفهوم الملكية فى الإسلام من حقيقة كبرى تتمثل فى أن المالك الحقيقى للأرض هو الله وأن الملكية الموهوبة للإنسان ليست ملكية مطلقة دائمة وحقيقية بل هى مؤقتة لعلة تنتهى بالموت أو فناء الدنيا كما قال تعالى : { له ملك السماوات والأرض ثم إليه ترجعون } (1) .
وقال سبحانه : { ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم } (2) .
ــــــــــــــــــــــــ
1- الزمر /44 .
2- الأنعام / 94 .
* الحرية فى المجال الاجتماعى :
أما الحرية الاجتماعية والتى تعنى كون المواطنين جميعا سواء فى الحقوق والواجبات بلا تميز طبقى أو تفاوت بينهم من حيث القيمة الإنسانية ، فالقرآن والسنة يشملان من النصوص العديدة ما يثبت ذلك بوضوح وجلاء .
وتنبثق فلسفة النظام الاجتماعى فى الإسلام من خلال حقيقة كبرى يبينها قوله تعالى : { وهو الذى جعلكم خلائف الأرض ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم فيما آتكم } (1) .(1/45)
فالابتلاء علة وجود التفاوت والدرجات بين الناس فى المجتمع فى شتى المجالات ، وهذه مشيئة الله سبحانه وتعالى حيث خلقهم متفاوتين فى المواهب وسعة النفوس والعقول ، وما عليه كل منهم من الجمال والصحة وأحوال البيئة والظروف الخاصة لكل أسرة ولكل فرد .
ولكن هذه الحالات الاجتماعية بين الناس ليست سوى حالات مؤقتة ومتنوعة يخلق الله العباد فيها تحقيقا للابتلاء ، وبذلك يوجب الشرع على الخادم حب مخدومه وطاعته وآداء واجبه نحوه باعتبار أن ذلك أمر الله ومشيئته لابتلائه ، كما يوجب فى الوقت عينه حب المخدوم لخادمه ــــــــــــــــــــــــ
1- الأنعام / 165 .
وحسن المعاملة واحترام آدميته وآداء حقه عليه غير منقوص باعتباره إنسانا مثله بل باعتباره أخا له وباعتبار أنه مبتلى كذلك .
ومن ثم فليس الإسلام طبقات بين الناس بمفهوم الطبقات الاجتماعية وإنما هى درجات ، ويستحيل أن يخلو مجتمع ما من الدرجات التى تعرف فى علم الاجتماع بالسلم الاجتماعى الذى يأخذ الشكل الهرمى .
وتلك الأسس تحقق الوحدة الاجتماعية بين أفراد المجتمع بالحب والإخاء ويصبح كما وصفه رسول الله صلى الله عليه وسلم فى قوله :
( ترى المؤمنين فى تراحمهم وتوادهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى عضو تداعى له سائر جسده بالسهر و الحمى ) (1) .
ــــــــــــــــــــــــ
1- أخرجه البخارى فى كتاب الأدب ، باب رحمة الناس والبهائم برقم (6011) ومسلم فى كتاب البروالصلة برقم (2586) .
Cairo Universty
Faculty of Dar El - Ulum
Department of Islamic Philosophy
MS. C. Thesis
The Concept Of Freedom In Mysticism
In The Third And Fourth Higrah Centuries
By
Mahmod Abdoh Abd Elrazix Ali
Undar Superisor
Prof. Dr. Abdo El Fattah El Ffawy
Prof. Of Islamic Philosophy
1994/1995(1/46)
الباب الثانى
مفهوم القضاء والقدر وعلاقته بالحرية
عند الصوفية
ويشتمل على فصلين :
الفصل الأول : موقف الصوفية من صفات الله
وأثره فى موضوع القدر والحرية
الفصل الثانى: الحرية وأصالتها فى الذات
الإنسانية عند الصوفية
الفصل الأول
موقف الصوفية من صفات الله وأثره
فى موضوع القدر والحرية
ويشتمل على أربعة مباحث :
المبحث الأول : منهج الصوفية فى فهم المسائل العقائدية
المبحث الثانى : موقف الصوفية من صفات الذات وصفات الفعل
المبحث الثالث : إفراد ا لله بالفاعلية أساس عقيدة القضاء والقدر
المبحث الرابع : مراتب القدر عند مشايخ الصوفية
*** المبحث الأول ***
منهج الصوفية فى فهم المسائل العقائدية
قضية الحرية وعلاقتها بالقدر من أهم القضايا التى جاءت بها الرسالات السماوية والتى عرضها القرآن الكريم وذلك لأنها تحدد علاقة الإنسان بربه وتفسر الغاية من وجوده فى الحياة ، كما أنها من أوائل المسائل الفكرية التى سببت النزاع بين الطوائف الإسلامية ، ومع أن القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة هما المصدر الغيبى الوحيد لجميع الحقائق الكونية والمبادئ التشريعية ومنها حقيقة العلاقة بين القدر والحرية ، إلا أن الفرقة قائمة بين الفرق المختلفة والمتباينة فى تاريخ الفكر الإسلامى حول التوفيق بين العقل والنقل حيال المشكلة .
والسبب الواضح فى إحداث هذه الفرقة يظهر إذا علمنا أن المعرفة الإنسانية موضوع ومنهج ، فالموضوع هو مادة البحث ومصدر المعرفة والمنهج هو السبيل الفكرى والخطوات الذهنية التى يتبعها العارف فى مساره بقصد تحصيل المعرفة ، إذا علم ذلك فإن علة اختلاف الفرق والمدارس الفكرية تكمن فى المنهج الذى تتبعه كل فرقة .(1/47)
ولما كان المنهج محددا لهوية الطائفة المعنية ومميزا لها عن الآخرين فلابد من إدراك المعالم الرئيسية للمنهج الصوفى فى فهم المسائل الاعتقادية بصفة عامة ومنهجهم فى موضوع البحث بصفة خاصة وذلك لتتضح الهوية الصوفية ومدى قربهم أو بعدهم من المنهج النبوى فى معالجة القضية ، وإحقاقا للحق يجب أن نفرق بين المنهج الذى سلكه صوفية التوحيد وهم أغلب المشايخ فى الفترة التى تلت عصر خير القرون وبين صوفية الحلول والاتحاد ووحدة الوجود الذين عكروا على أوائل الصوفية نقاوتهم من الشرك وجوهر العقيدة ، فكثير من الصوفية فى القرون الأولى سلكوا منهجا سلفيا فى أغلب أمورهم خدموا به دينهم وردوا به على أهل البدع لا سيما فى باب الصفات والتأويل العقلى المتعسف للنصوص القرآنية والأحاديث النبوية ، وقد استدل غير واحد من السلف بأقوالهم واحتج بها على مذهب السلف الصالح (1) .
فمن غير الأنصاف أن نشرك هؤلاء فى وصف واحد يجمعه التصوف مع من ضل عن طريق الحق واتبع نوعا من الفلسفة الخارجة عن الإسلام وحقيقته ممن قالوا بالحلول أو وحدة الوجود ، من أجل ذلك يمكن القول أن أغلب أوائل الصوفية لا يختلفون فى منهجهم عن منهج السلف فى باب الاعتقاد حيث سلكوا منهجا تتضح معالمه فيما يأتى :
[1] - التسليم للوحى فيما ثبت من نصوص الصفات وغيرها من المسائل الغيبية بمعنى أنهم أعطوا الوحى قدسيته والأولية التامة أو الصدارة فى إثبات الاعتقادات المتعلقة بذات الله وصفاته وأفعاله لعلمهم أن الحقائق الغيبية التى وردت فى القرآن والسنة فوق مستوى ــــــــــــــــــــــــ
1- انظرعلى سبيل المثال مانقله الذهبى عن مشايخ الصوفية فى كتاب العلو للعلى الغفار ، وما كتبه الدكتور الطبلاوى محمود سعد عن التصوف فى تراث ابن تيميه .
العقل البشرى ، ولايستطيع أن يعرفها معرفة تفصيلية بنفسه وإنما دوره حيالها هو التلقى والفهم والتصديق .(1/48)
قال الجنيد بن محمد : ( الطرق كلها مسدودة إلا على المقتفين آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم والمتبعين سنته وطريقته ، فإن طرق الخيرات كلها مفتوحة عليه كما قال : { لقد كان لكم فى رسول الله أسوة حسنة } (1) وقال أيضا : كل توحيد لا يشهد له الكتاب والسنة فهو زندقة (2) لأن العقل عندهم لا يعتبر فى مستوى الوحى إذ أن الأمور الغيبية كالحديث عن الله وملائكته والجن والسماوات وأمور الآخرة من الأمور التى لا يستطيع العقل اقتحامها بمفرده ونصيبه منها إذا اجترأ عليها بمفرده الحيرة والندم (3) .
ــــــــــــــــــــــــ
1-الأحزاب /21 والجنيد هو أبو القاسم الجنيد بن محمد الخراز القواريري ، أصله من نهاوند ومنشأه بالعراق وكان فقيها من أئمة القوم وسادتهم توفى سنة 297هـ انظر ترجمته فى صفة الصفوة لابن الجوزى حـ 2 ص 235 ، الرسالة القشيرية حـ 1 ص 105 ، حلية الأولياء حـ 2ص 255 ، وفيات الأعيان حـ 1 ص 146 ، طبقات الشافعية حـ 2 ص 28 ، تاريخ بغداد حـ 7 ص 241 ودائرة معارف البستانى حـ6 ص 367 ، سير أعلام النبلاء حـ 9 ص 155 طبقات الشعرانى حـ 1 ص 98
2- مقولتا الجنيد فى حلية الأولياء حـ 01 ص 257 ، وتلبيس إبليس ص 10 والرسالة القشيرية حـ 1ص 106 والاعتصام للشاطبى حـ 1 ص 95 والأمر بالإتباع والنهى عن الابتداع للسيوطى ص 53 .
3- انظر قوت القلوب حـ 2 ص 124 ، حلية الأولياء حـ 10 ص 255 .
ولذلك قال الجنيد : ( إذا تناهت عقول العقلاء فى التوحيد تناهت إلى الحيرة ) (1) .(1/49)
فالمناهج العقلية والأنسقة الفكرية ، ينطلق من خلالها مفكروا الفرق إلى البحث فى القرآن والسنة وهى فى أذهانهم كفروض يعملون على إثباتها ، فإن وجدوا بين الآيات ما يؤيد هذه المقررات والفروض فبها ونعمت ، وإن لم يجدوا قاموا بتأويل الآيات والأحاديث تأويلا متعسفا لا تحتمله النصوص ، أو قاموا بردها بزعم أنه من رواية الآحاد التى لا يثبت بها اليقين فى الدين ، هذا الواقع المعبر عن مذهب الجهمية والمعتزلة ، نبه الصوفية على خطورته وأثره السيئ فى هدم دين الله إذ يقول المكى (1) فى بيان اعتقاد الصوفية وطريقتهم تجاه الوحى :
ــــــــــــــــــــــــ
1- انظر التعرف لمذهب التصوف للكلاباذى ص 78 ، 79 .
2- هو محمد بن على أبو طالب المكى نشأ بمكة ورحل إلى البصرة ثم بغداد ، قال ابن الجوزى : كان زاهدا عابدا جمع الناس عليه فى الوعظ فخلط فى كلامه ، وحفظ عنه أنه قال : ليس على المخلوق أضر من الخالق ، فبدعه الناس وهجروه ، فامتنع من الكلام على الناس بعد ذلك ، وكان رجلا صالحا مجتهدا صنف كتابا سماه قوت القلوب ذكر فيه أحاديث لا أصل لها توفى سنة 386 هـ انظر ترجمته فى المنتظم حـ41 ص 385 وتاريخ بغداد حـ 2 ص 89 .
قلت : ما كتبه المكى فى قوت القلوب يدل على اعتقاد أهل السنة والجماعة فى كثير من المسائل كما سنرى أما الصوره التى ذكرها ابن الجوزى عن الرجل فالله أعلم بها
( فإنا قوم متبعون نقفوا الأثر غير مبتدعين بالرأى والمعقول نرد به الخبر ) (1) .
وقال أيضا : ( وفى رد أخبار الصفات بطلان شرائع الإسلام من قبل أن الناقلين إلينا ذلك هم ناقلو شرائع الدين وأحكام الإيمان ، فإن كانوا عدولا فيما نقلوه من الشريعة فالعدل مقبول القول فى كل ما نقلوه ، وإن كانوا كذبوا فيما نقلوا من إخبار الصفات فالكذب مردود القول فى كل ما جاء به ) (2) .(1/50)
فمصدر المعرفة بالله هو ما جاء عن الله بالخبر الصحيح وعمل العقل هو التلقى والفهم والتصديق والإجابة ، ولا شك أن الصوفى حينما يخضع عقله لقول الله إيمانا منه بأن كل الحق فيه فهو فى الواقع يحرره ولا يقلل من شأنه ، لأن الاستسلام لله وحده تحرر واستعلاء على ما سواه ، أما إذا حاولنا معرفة الحقائق الغيبية من خلال الأصول الذهنية كما فعلت المعتزلة وغيرها فالنتيجة الحتمية هى الانحراف ، وبمزيد من التوضيح يمكن القول أن المعتزلة كانت أصولهم الخمسة تمثل النسق الفكرى الذى يضعونه فى المقدمة ، فالتوحيد والعدل والمنزلة بين المنزلتين والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر والوعد والوعيد ، هذه الأصول هى السمة المميزة لمن سلك طريق الاعتزال ، ولا يستحق ــــــــــــــــــــــــ
1- انظر قوت القلوب حـ 2 ص 124 .
2- السابق حـ 2 ص 124 .
أحد أن يطلق عليه لفظ معتزلى من وجهة نظرهم إن لم تكن تلك الأصول مبنى لاعتقاده وأساسا لفكره .
ولما دخلوا بتلك الأصول المبنية بمادة العقل على كتاب الله كانت النتيجة أن ظهر مذهب التأويل العقلى لنصوص الوحيين بالمعانى الباطنة التى تحمل النصوص غير ما تحتمل حتى بدت تفسيراتهم نوعا من العبث فى كتاب الله ، وما ذلك إلا أن اللفظ المنطوق والنص المكتوب قهرهم وتعارض مع أصولهم فعجزت أصابعهم أن تمتد إليه بتغير الألفاظ فعطلوا المعنى تحت ستار التأويل .
ولذلك فإن طريقة الصوفية تتفق مع الطريقة السلفية من حيث التسليم للوحى وتقديمه على العقل وذم الكلام .
قال عبد الله بن خفيف الشيرازى (1) :
ــــــــــــــــــــــــ(1/51)
1- هو محمد بن خفيف بن اسفكشاد الضبى الشيرازى ، أمه نيسابورية وأقام بشيراز كان من الأمراء ثم تفقه وتصوف وتزهد ، صحب أبا عمر والدمشقى والحريرى ورويما ولقى الحلاج ، وعليه كثير من المآخذ من خلال سيرته إن كان اعتقاده الذى نقله عنه شيخ الإسلام ابن تيمية اعتقادا سلفيا ، وسيرته كتبها أبو الحسن على بن محمد الديلمى ، توفى سنة 371 هـ .
انظر ترجمته فى حلية الأولياء حـ 1 ص 385 والرسالة القشيرية حـ 1 ص 184 ، طبقات الشعرانى حـ 1 ص 142، شذرات الذهب حـ 3 ص 76، طبقات الشافعية حـ 2 ص 150 ، المنتظم حـ 7 ص 112 .
( والعقل لا يحسن ولا يقبح والشرع حاكم على العقل ) (1) .
وقال أبو طالب المكى : باب ذكر العلم وطريقة السلف وذم ما أحدثه المتأخرون من الكلام ..ثم تابع كلامه فقال : وقد ظهرت مصنفات الكلام وكتب المتكلمين بالرأى والهوى والعقل والقياس وذهب علم اليقين وغابت معرفة الموقنين من علم التقوى (2) .
ويذكر شيخ الإسلام ابن تيميه اتفاق طوائف السلف والأئمة من أهل الحديث والصوفية فى ذمهم العلم الكلام وطريقه الجهمية والمعتزلة فى تعطيل الصفات (3) .
[2] - جواز إعمال العقل والفكر فى الرد على الخصوم بما يؤدى إلى إفحامهم وإظهار الدين ، فإذا كان الصوفية قد حذروا من علم الكلام فإن الكلام المنهى عنه عندهم هو كلام المبتدعة من الجهمية والمعتزلة ، فقد خافوا على الضعفاء من أتباعهم أن يعلق بأذهانهم من كثرة الخوض فيه فلا يستطيعون الخلاص منه .
ــــــــــــــــــــــــ
1- سيرة الشيخ الكبير أبى عبد الله محمد بن خفيف الشيرازى ، لأبى الحسن على بن محمد الديلمى تحقيق دكتور إبراهيم الدسوقى شتا ، طبعة مجمع البحوث الإسلامية ص 359 .
2- قوت القلوب حـ 1 ص 146 وما بعدها .
3- انظر التصوف فى تراث ابن تيميه د0 الطبلاوى سعده ، الفصل الثانى ، الاتفاق بين السلفية ومشايخ الصوفية فى ذم الكلام والمتكلمين ص 74 : 86 .(1/52)
أما استخدام الكلام أداه يقاوم بها الصوفى ويدافع عن دينه فهذا ثابت فى كلام الأئمة .
وخير دليل على ذلك الحارث بن أسد المحاسبى (1) إذ أن كتبه تذخر باستخدام العقل لخدمة الشرع والذود عنه فيقول رحمه الله :
( ألا فمن رغب منكم فى العقل وأراد السبيل فى اكتسابه ، فإن أفضل ما تستفيد بالعقل أن تطيع الله فيما افترض عليك وتتجنب ما حرم الله عليك ، فمتى فعلت ذلك أخذت من العقل بنصيب فبذلك جاءت الإخبار أن العاقل من أطاع الله ولا عقل لمن عصاه ) (2) .
ويبين المحاسبى دور العقل حيال النص فيذكر أن قوما من المتكلمين قالوا :
العقل هو صفوة الروح ولبه ، ولا نقول بذلك إذ لم نجد فيه كتابا مسطورا ولا حديثا مأثورا ، إنما العقل غريزة جعلها الله فى قلوب ــــــــــــــــــــــــ
1- هو أبو عبد الله الحارث بن أسد المحاسبى من أهل البصرة من علماء مشايخ الصوفية ، له تصانيف كثيرة أهمها كتاب الرعاية لحقوق الله ، وهو أستاذ أكثر البغداديين فى عصره مات سنة 243هـ ، انظر ترجمته فى حلية الأولياء حـ 1 ص 73 ، طبقات الشافعية حـ 2 ص 37 ، ميزان الاعتدال حـ ا ص 110 ، تاريخ بغداد حـ 8 ص 211 سير أعلام النبلاء حـ 2 ص 110 ، طبقات الشعرانى حـ 1 ص87
2- الرزق الحلال وحقيقة التوكل على الله للحارث المحاسبى ، تحقيق محمد عثمان الخشت ، مكتبة القرآن طبعة 1984م ص 10 .
الممتحنين من عباده أقام به على البالغين الحجة فهو غريزة لا يعرف إلا بفعاله فى القلب والجوارح ولا يقدر أحد أن يصفه بغير فعالة (1) .
فأنكر تعريف العقل بغير دليل وأنشأ كلاما يصف به العقل ولا يعارض الدليل .(1/53)
وقد حدث أن الإمام أحمد أنكر على الحارث المحاسبى اشتغاله بالكلام مما يوهم أن المحاسبى كان على غير طريقة السلف ، والحقيقة أنه أنكر عليه أسلوبه فى الدفاع عن أهل السنة من خلال علم الكلام ونقل شبهات المخالفين ثم الرد عليها ، فلعل الشبهة التى ينقلها تكون أقوى من رده فيحدث عكس ما يريد ، فلم تكن حملته عليه شكا فى عقيدته لأنهما يتفقان فى المصدر والمسلك ولا أدل على ذلك من اسشهاد شيخ الإسلام ابن تيمة بكلامه فى كتابه الفتوى الحموية وغيرها (2) .
ويذكر الشيخ سلامه العزامى أن الذى سلك علم الكلام من مشايخ الصوفية إنما أراد بذلك نصرة أهل السنة واستخراج الأصول الدينية من ــــــــــــــــــــــــ
1- القصد والرجوع إلى الله للمحاسبى ، تحقيق عبد القادر أحمد عطا ، دار التراث العربى ، طبعة 1980م ص 11 ، أعمال القلوب والجوارح للمحاسبى ص 46 .
2- انظر تفصيل ما حدث بين أحمد والمحاسبى فى المنقذ من الضلال لأبى حامد الغزالى ص 34، 35 وتاريخ بغداد حـ 8 ص 114 ، قوت القلوب ص 168 ميزان الاعتدال حـ 1 ص 200 ، أستاذ السائرين الحارث ابن أسد المحاسبى ، للدكتور عبد الحليم محمود ص 17 ، 18 .
الكتاب والسنة للرد على المبتدعة من القدرية والجهمية وغيرهم ، وذلك لما استفحل جدلهم وقويت شوكتهم وقد كان من آثار ذلك ظهور كتب التوحيد والعقائد (1) .
وهذا المنهج سلكه الكلاباذى (2) فى التعرف فى أكثر من موضع عنده ذكره لاعتقاد الصوفية فيذكر فى قولهم فى القدر وخلق الأفعال لله تحت قوله تعالى : { إنا كل شئ خلقناه بقدر } (3) .
وأجمعوا أن الله خالق أفعال العباد كلها كما أنه خالق لأعيانهم ، ثم يتحول إلى متكلم ماهر فيبين أن الأفعال أكثر من الأعيان ، فلو كان الله خالق الأعيان والعباد خالقى الأفعال ، لكان الخلق أولى بصفة المدح فى الخلق من الله تعالى ولكان خلق العباد أكثر من خلق الله .... إلي آخر ـــــــــــــــــــــــ(1/54)
1- البراهين الساطعة فى رد بعض البدع الشائعة للشيخ سلامة العزامى ص 181 182 ، وانظر دراسات فى الفلسفة الإسلامية د . محمود قاسم ص 72 ، 73 .
2- هو محمد بن إبراهيم بن يعقوب الملقب بتاج الدين الكلاباذى البخارى ، من أهل بخارى كان حنفيا فى الفقه وصوفيا فى المسلك ، له مشاركة فى مختلف العلوم وله كتاب التعرف لمذهب أهل التصوف ، وهو من أوائل الكتب فى هذا الباب وقالوا فيه : لولا التعرف ما عرف التصوف ، توفى سنة 380 هـ انظر ترجمته فى كشف الظنون لحاجى خليفة حـ 6 ص 155 طبعة سنة 1858م والأعلام للزركلى حـ 2 ص 23 .
3- القمر / 49 .
ما ذكر (1) .
وعلى الوتيرة نفسها نجد أن المكى فى قوت القلوب يستخدم العقل فى إثبات صفة الكلام وخلق الأفعال لله عز وجل مؤيدا بذلك منهج السلف الصالح (3) .
وهم بذلك يقررون أن العقل الذى خلقه الله وأبدعه فى الإنسان لا يتعارض مع النقل الثابت بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم
[3] - الأمر الثالث فى المنهج الصوفى أنهم بدءوا طريقهم فى معرفة العقيدة بالتزام التوحيد أولا بمعنى أنهم أفردوا الله بذاته وصفاته وأفعاله عن ذوات المخلوقين وصفاتهم وأفعالهم وكل المقاييس التى تحكمهم ليثبتوا بذلك أن النصوص الواردة فى صفات الله على ظواهرها ، وأنها لا تدل على التشبيه وإنما تدل عليه وحده دون سواه .
فالمعتزلة تنكروا لصفات الله ظنا منهم أن إثباتها يدل على التشبيه وظواهرها هى المستخدمة فى حق البشر ، فتحاملوا عليها بالتعطيل والتأويل بغير دليل تحقيقا للتوحيد أو الأصل الأول من أصولهم ، فشبهوا صفات الله تعالى بصفات المخلوقين وأخضعوها للأقيسة العقلية التى تحكمهم فى عالم الشهادة ، ثم عطلوا صفات البارى حتى ــــــــــــــــــــــــ
1- التعرف ص 60 .
2- قوت القلوب حـ 2 ص 126 .
لا يخضع لهذه الأقيسة ليخرجوا من شبهة التشبيه بزعمهم (1) .(1/55)
ولكن أوائل الصوفية شأنهم فى ذلك شأن السلف الصالح حيث أخرجوا ذات الله وصفاته وأفعاله بداية من المقاييس التى تحكم ذوات المخلوقين وصفاتهم وأفعالهم على عكس طريقة المعتزلة وهذا هو مقصدنا بأنهم بدأوا بالتوحيد أولا .
يقول الجنيد : ( التوحيد إفراد القديم عن الحدث ) (2) .
يقول الهجويرى معقبا : ويعنى ذلك أنه لا يجوز لك اعتبار القديم محلا للحادث ومقاييسه ، ولا الحادث أن يكون محلا للقديم (3) .
فما يحكم المخلوق من أقيسة لا يصلح أن يطبق على ذات الله وصفاته وأفعاله عندهم ، وهذا حق يدل عليه منطق العقل ، ولذا يفصح الجنيد عن المعنى السابق بقوله :
( التوحيد هو إفراد الموحد بتحقيق وحدانيته بكمال أحديتة ، وأنه الواحد الذى لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد ، بنفى الأضداد والأنداد والأشباه بلا تشبيه ولا تكييف ولا تصوير ولا تمثيل لقوله تعالى : { ليس كمثله شئ وهو السميع البصير } (4) .
ـــــــــــــــــــــــ
1- الإبانة عن أصول الديانة ص 106 ، الانتصار للخياط ص 126 .
2- كشف المحجوب للهجويرى ص 334 ، والرسالة القشيرية حـ 1 ص 28 ، 29
3- السابق ص 334 .
4- الشورى / 11 ، وانظر التعرف لمذهب أهل التصوف ص 33 .
فهذه الأية جعلها الجنيد أساسا لاعتماده الكلى فى إبراز اعتقاده حيث تضمنت التوحيد وإفراد المتوحد أولا ثم إثبات الصفات ثانيا على ما يليق بجلال الله وعظمته .
سئل أبو على الروذبارى (1) عن التوحيد فقال :
التوحيد فى كلمة واحدة كل ما تصوره الأوهام والأفكار فالله سبحانه وتعالى بخلافه لقوله تعالى : { ليس كمثله شى وهو السميع البصير } (2) .
فاعتمد الروذبارى فى اثبات التوحيد على منع العقل من العمل فى إدراك كيفية الذات والصفات والأفعال ، لأن العقل تحكمه المقاييس والله لا يقاس على شئ من خلقه ، وما جاء شئ فى الوحى يخبر عن كيفية الذات والصفات وكل ما ورد إنما هو فى إثبات حقائق الصفات وذلك بناء على قوله تعالى :(1/56)
{ ولا يحيطون بشئ من علمه إلا بما شاء } (3)
ـــــــــــــــــــــــ
1- هو أحمد بن محمد بن القاسم الروذبارى ، من أهل بغداد سكن مصر ومات فيها من أصحاب أبى القاسم الجنيد وكان عالما فقيها حافظا للحديث توفى سنة 322 هـ انظر حلية الأولياء حـ 10 ص 356 ، البداية والنهاية حـ 11 ص 181 ، المنتظم حـ 2 ص 272 ، شذرات الذهب حـ 2 ص 296 ، صفة الصفوة حـ 2 ص 256 طبقات الشعرانى حـ 1 ص 124 ، تاريخ بغداد حـ ا ص 329 .
2- الشورى / 11 ، وانظر الرسالة القشيرية حـ 1 ص 329 . 3-البقرة / 255 .
يقول المكى : ( ونعتقد نفى التشبيه والتكييف عن الأسماء والصفات إذ لا كفوء للموصوف فيشبه به ولا مثل له فيجنس منه ولا نشبه ولا نصف (1) ولا نمثل ونعرف ولا نكيف ) (2) .
فالصوفية يعتبرون نصوص الصفات على ظاهرها وأنها موضوعة للدلالة على الخالق لا على المخلوق ، فهو منفرد بها لا يشاركه فيها غيره كما بين المكى أنه لا كفوء للموصوف فيشبه به .
[4] - إثبات الصفات على الحقيقة لا على المجاز .
ولئن كان التوحيد الذى قرره أهل الاعتزال أدى إلى أن تنكروا لأخبار الصفات بناءا على الأصل الفكرى القائل بأن إثبات الصفات شئ زائد على ذات الله لم يكن من قبل (3) .
فإن الصوفية بعد اثباتهم للمباينة بين الخالق والمخلوق وإفرادهم له بالتوحيد أثبتوا الصفات على مراد الله وعلى الحقيقة لا على المجاز
ــــــــــــــــــــــــ
1- قوله : ولا نصف عنى به تفويض العلم بكيفية الصفة إلى الله ، فهو يثبتها وجودا وينفى العلم بها إلزاما ، لأنه لن يتمكن من وصفها لقوله تعالى : { ولا يحيطون به علما } ولا يعنى بقوله ولا نصف تفويض المعنى الذى دلت عليه النصوص لأن هذا لازمه أن القرآن بلا معنى .
2- قوت القلوب حـ 2 ، ص 124 .(1/57)
3- نهاية الإقدام فى علم الكلام للشهر ستانى طبعة اكسفورد سنة 1934م ص 83 ، 84 ، المنية والأمل لابن المرتضى ص 35 ، أصول الدين لعبد القادر البغدادى طبعة اسطنبول ص 138 .
وعلموا أنه لا يصف الله أعلم بالله من الله ولا أعلم بالله من رسول الله وفى هذا يقول المكى : ( ولا يشبه بالقياس والعقل ولكن يعتقد اثبات الأسماء والصفات بمعانيها وحقائقها ) (4) .
فنبة المكى أن المعنى الذى تحمله النصوص معلوم واضح فهو وارد بلغة العرب وأنه دل علىحقيقة ثابتة وإن لم نعلم كيفيتها ، فالصفات عنده على الحقيقة لا على المجاز .
ويؤكد الكلاباذى أن الصفات التى أثبتها أهل التصوف حتى عصره هى صفات حقيقية ، وإن له سبحانه وتعالى سمعا وبصرا ووجها ويدا على الحقيقة ليس كالأسماع والأبصار والأيدى والوجوه (2) .
يقول الكلاباذى :
( ومن جعل صفة الله وصفه له من غير أن يثبت لله صفة على الحقيقة فهو كاذب عليه وذاكرا له بغير وصفه .. فهو سبحانه وتعالى موصوف بصفة قائمة به ليست ببائنة عنه ) (3) .
ويستدل فى رده على المعتزلة القائلين :عالم بعلم هو ذاته ، وأن الصفات هى عين الذات بقوله تعالى : { أنزله بعلمه } (4) .
ــــــــــــــــــــــــ
1- قوت القلوب حـ 2 ص 124 .
2- التعرف لمذهب أهل التصوف ص 05 .
3- السابق ص 51 .
4- النساء / 166.
وبقوله : { فلله العزة جميعا } (1) .
وهم بذلك يبرزون منهج السلف الصالح ويتكاتفون معهم فى نصرته جاء رجل إلى الإمام مالك رحمه الله فقال يا أبا عبد الله :
{ الرحمن على العرش استوى } (2) كيف استوى ؟ فأطرق مالك وأخذته الرحضاء ثم رفع رأسه فقال : ( الاستواء معلوم والكيف مجهول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة ، وأنت صاحب بدعة وأمر به فأخرجوه ) (3) .(1/58)
فمنهج الصوفة الأوائل لا يختلف فى شئ عن مذهب الامام مالك لأنه فرق فى كلامه كما فرق الصوفية بين إثبات حقيقة الصفة وكيفيتها التى تليق بالله من خلال المعنى الذى دل عليه النص وبين جهلنا بتلك الكيفية ، ومن ثم كان غضبة على السائل لكونه سأل عن كيفية الاستواء لامعناه .
وقال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله : ( لا يوصف الله إلا بما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله لايتجاوز القرآن والحديث ــــــــــــــــــــــــ
1- فاطر / 10 وانظر السابق ص 51 .
2- طه / 5 .
3- مختصر العلو للعلى الغفار ص 264 .
وقيل له : الله فوق السماء السابعة على العرش بائن من خلقه وقدرته وعلمه بكل مكان ؟ قال : نعم وهو على عرشه ولا يخلو شئ من علمه ) (1) .
وقد جمع ابن تيميه بين أئمة السلف ومشايخ الصوفية فى نص واحد فيقول :
( وأئمة الهدى الذين جعل الله تعالى لهم لسان صدق فى الأمة مثل سعيد بن المسبب والحسن البصرى وعد منهم مالكا والشافعى وأحمد وبشرا الحافى والجنيد بن محمد وسهلا بن عبد الله التسترى وعمر بن عثمان المكى ، وأمثال هؤلاء المشايخ ، كل هؤلاء متفقون على أن الله سبحانه ليس هو خلقه ولا جزءا من خلقه ولا صفة لخلقه ، بل هو سبحانه متميز بنفسه بائن بذاته المعظمة ) (2) .
فأثنى على عدد كبير من مشايخ الصوفية الأوائل وعدهم من أئمة السلف الصالح وأن عقيدتهم ومنهجهم واحد وهو الاقتداء والالتزام بما فى الكتاب والسنة ، وأقوالهم هى أقوال سلف الأمة (3) .
ــــــــــــــــــــــــ
1- شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة لأبى القاسم اللالكائى ص 165 .
2ــ كتاب توحيد الربوبية لابن تيمية ص 474 .
3- انظر الاستقامة لابن تيمية حـ 1 ص 142 ، وانظر الفتوى الحموية ص 35 37 ، 38 ، 42 .
ومن ثم نلخص الى القول بأن المنهج الصوفى السلفى مبنى على الأمور الآتية :
1- التسليم للوحى وتقديم النقل على العقل عند التعارض .(1/59)
2- دور العقل حيال النقل هو التلقى والفهم وجواز عمله فى إبراز معانى النصوص ومقاصدها فالعقل مطية للنقل وحامل له .
3- إفراد ذات الله وصفاته وأفعاله عن المقاييس التى تحكم ذوات المخلوقين وصفاتهم وأفعالهم .
4- إثبات الصفات على مراد الله ورسوله على الحقيقة لا على المجاز وبلا تفويض فى معانى النصوص .
5- الكف عن طلب الكيفية التى دلت عليها النصوص ، لأن هذا خارج عن مداركنا والخوض فيه قول على الله بلا علم وهو من أعظم الحرمات عند الله
*** المبحث الثانى***
موقف الصوفية من صفات الذات وصفات الفعل
سبق القول فى المبحث الأول بأن الصوفية أثبتوا صفات الله عز وجل وأفردوها عن الأقيسه والقوانين التى تحكم صفات المخلوقين مستدلين بقوله تعالى :
{ ليس كمثله شئ وهو السميع البصير } (1) .
وفى هذا المبحث يدور الكلام حول الموقف الصوفى من قدم صفات الذات وصفات الأفعال لما له من أثر واضح فى بيان مفهوم القدر وطلاقة الفاعلية الإلهية ، فالقول بقدم صفات الأفعال طرح عند البعض مشكلة فكرية مضمونها : أن قدم صفات الأفعال كالخلق والرزق والمنع والعطاء يستتبع قدم صفات المخلوقين المفعولين مما يؤدى إلى تعدد القدماء (2) .
والموقف الصوفى تجاه هذه المشكلة موقف واضح ، فمشايخ الصوفية لا يفرقون فى إثبات الصفات بين القدم فى صفات الذات والقدم فى صفات الأفعال ولا يلزم من ذلك القول بقدم المفعولات .
يقول سهل بن عبد الله التسترى :
ــــــــــــــــــــــــ
1- الشورى /11 .
2- مقالات الإسلاميين للأشعرى حـ 1 ص 164 .
( الوحدانية فى الأصل أنه كان ولم يكن شئ فهو فرد علم وشاء وقضى فقدر ووفق وخذل وتولى وعصم وأثاب وعاقب والأعمال تنسب إلى العباد والبداية منه والتمام عليه ) (1) .
فالأشياء كلها بعلم الله وقدرته وليست هى العلم والقدرة ولكنها بعلم وقدرة .
ويخاطب التسترى من أنكر قدم صفات الأفعال فيقول :(1/60)
يقال لمن أنكر هذا : أخبرنى عن الله أهو تام كامل ؟
فإن قالوا : نعم .
فيقال لهم : فهو مع تمامه وكماله هو أول وهو حى وهو عالم وهو قادر ؟
فلابد من قولهم : نعم .
فيقال لهم : هذه صفات الذات والأشياء كلها داخلة فى هذه وهذه الأفاعيل كلها فى القدرة فهو حى عالم قادر جل ثناؤه (2) .
وفكرة التسترى قائمة على أن المخلوقات كانت معلومة فى علم الله فى الأزل ، ثم شاء الله أن يكتبها فى اللوح المحفوظ فكتبها ، وبهذا تم القضاء ، فلما خلقها بقدرته تم القدر ، ومن ثم كان كل شئ ــــــــــــــــــــــــ
1- المعارضة والرد على أهل الفرق وأهل الدعاوى فى الأحوال ، لسهل بن عبد الله التسترى ، تحقيق الدكتور محمد كمال جعفر ص 80 طبعة دار الإنسان سنة 1980م
2- السابق ص 81 .
داخلا فى العلم .
فالقضاء عنده علم وكتابة ومشيئة ، والقدر علم وكتابة ومشيئة وخلق ، فمرد الأشياء إلى العلم والعلم صفة ذات وهو قديم بقدم الله .
ولهذا لما سئل الإمام أحمد رحمه الله عن القرآن وموقفه من خلقه قال للسائل : ( أخبرنى عن العلم ، فإذا كان العلم مخلوقا كان القرآن مخلوقا وإذا كان العلم صفة من صفات الله غير مخلوق ، كان كلام الله كذلك ) .
لأن القرآن كان فى علم الله فى الأزل وكتبه فى اللوح المحفوظ قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة ، كما قال تعالى : { إنه لقرآن كريم فى كتاب مكنون لا يمسه إلا المطهرون } (1) فاللوح فيه كلمات الله وكلام الله غير مخلوق وإن كان مكتوبا .
فاحتج على قدم صفات الأفعال بقدم صفات الذات مؤيدا بذلك منهج التسترى فى الاحتجاج (2) .
ويكشف الغزالى عن فكرة التسترى فى إثبات صفات الأفعال والرد على من قال :
ــــــــــــــــــــــــ
1- الواقعة / 77 : 79 .
2- انظر طبقات الشافعية حـ 2 ص 27 ، حيلة الأولياء حـ 9 ص 161 ، البداية والنهاية حـ 10 ص 270 ، والعواصم والقواسم لابن الوزير حـ 4 ص 361 .(1/61)
إن إثباتها يستلزم حدوثها ، بحجة أنه لاخلق فى الأزل فكيف يكون خالقا فى الأزل ؟
فيقول : إن السيف يسمى صارما قبل القطع وحال القطع ، وهو فى الأول صارم بالقوة وفى الثانى صارم بالفعل ، فالبمعنى الذى يسمى به السيف فى الغمد صارما يصدق اسم الخالق على الله تبارك وتعالى فى الأزل (1) .
فالله وله المثل الأعلى ما زال بصفاته قديما قبل خلقه ، ولا فرق بين صفة هى صفة ذات أو صفة هى صفة فعل .
وخلق المخلوقات لا يزيد فى صفات الله شيئا لم يكن من قبل ، فهو المسمى بالخالق قبل الخلق وحال الخلق وبعد فنائهم ، كما أنه منفرد بالربوبية قبل خلق العالمين ، وحال خلقهم وبعد فنائهم .
ويؤكد الكلاباذى أن جمهور الصوفية وكبار مشايخهم على أنه لا يجوز أن يحدث لله تعالى صفة لم يستحقها فيما لم يزل ، وأنه لم يستحق اسم الخالق لخلقه الخلق ، ولا لإحداث البراي ة استحق اسم البارى ولا بتصويره الصور استحق اسم المصور ، ولوكان كذلك لكان ناقصا فيما لم يزل وتم بالخلق (2) .
ــــــــــــــــــــــــ
1- الاقتصاد فى الاعتقاد للإمام حامد الغزالى ص 158 .
2- التعرف على مذهب أهل التصوف ص 53 .
ومن الحجج التى أوردها على ذلك أيضا :
1- أنه لما ثبت أنه سميع بصير قادر خالق بارئ مصور وأن ذلك مدح له فلو استوجب ذلك بالخلق والمصوَّر والمبرَئ لكان محتاجا إلى الخلق والحاجة أمارة الحدث .
2- أن ذلك يوجب التغيير والزوال من حال إلى حال فيكون غير خالق ثم يكون خالقا ، وغير مريد ثم يكون مريدا ، وذلك نحو الأفول الذى انتفى منه خليله إبراهيم عليه السلام فقال : { لا أحب الآفلين } (1) .
3- أن الخلق والتكوين والفعل صفات لله تعالى ، وهو بها فى الأزل موصوف ، ومعلوم أن الفعل غير المفعول وكذلك التخليق والتكوين ، لو كانا جميعا واحدا ، لكان كون المكونات بأنفسها لأنه لم يكن من الله إليها معنى سوى أنها لم تكن فكانت (2) .(1/62)
ومن ثم ينفى الكلاباذى نسبة حدوث تغيير فى الذات الإلهية عند بدء الخلق وكل ما يشترط لتحقيق الفعل موجود فى الأزل .
ويرد الصوفية المرجع فى الخلق إلى المشيئة الإلهية المطلقة لقوله تعالى : { إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون } (3)
ولقوله : { إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون } (4)
ــــــــــــــــــــــــ
1- الأنعام / 76 وانظر السابق ص 53 . 2- السابق ص 53 .
3- مريم / 35 . 4- يس / 82 وانظر المعارضة والرد ص 58 .
ولعل ذا النون المصرى (1) قد بين الفرق الواضح الدقيق بين ذات الله عز وجل وبين صفاته من ناحية وبين صفاته وبين مخلوقاته من ناحية أخرى حين قال :
( إن الله عز وجل صانع كل شئ بقدرته ، وعلة كل شئ صُنْعُه ولا علة لصنعه ) (2) .
فقوله : صانع كل شئ بقدرته وعلة كل شئ صنعه تلاشى به إلزامات المعتزلة حيث جعل علة وجود الأشياء هى صنع الله عز وجل وخلقه لها ، وليس الإله علة وجود الأشياء ، فنفى بذلك أن تكون ذات الله سبحانه وتعالى علة ، كما هو الحال عند المعتزلة حيث قالوا : خالق بذاته مريد بذاته ، ونسب العلة إلى صفاته الفاعلة القديمة (3) .
وقوله : ولا علة لصنعه تلاشى به إلزامات الفلاسفة الذين فهموا ــــــــــــــــــــــــ
1- هو أبو الفيض ثوبان بن إبراهيم المصرى ، كان أبوه نوبيا ، ثم نزل بأخميم من ديار مصر فأقام بها وأتى بأشياء غريبة فى التصوف امتحن بسببها ، توفى سنة 245هـ ، انظر تاريخ بغداد حـ 8 ص 393 ، شذرات الذهب حـ 2 ص 107 طبقات الشعرانى حـ 1 ص 81 ، حلية الأولياء حـ 9 ص 331 .
2 - الرسالة حـ 1 ص 35 .
3 - انظر مقالات الإسلاميين للأشعرى حـ 1ص 263 وما بعدها فى بيان رأى المعتزلة .
الذات الإلهية من خلال مفهوم العلية الطبيعية (1) .
ففرق بين الشئ وبين فعل الله ، ففعل الله صفة من صفاته قديم بقدم الذات وليست الذات علة لصفاته وفعله وصنعه .(1/63)
ومن ثم فرق ذو النون المصرى بين صفات الذات وصفات الفعل من ناحية ورفض أن تكون الذات علة لصفاته من ناحية أخرى لأن الصفات قديمة ملازمة للذات .
كما أنه رفع أى ضرورة عن الفاعلية الإلهية عندما رفض أن يكون ثمة علة لصنعه غير صفات الأفعال وإرادة الله فى خلقه .
وعلى كل حال فإن جمهور أوائل الصوفية الصوفية على القول بقدم صفات الذات والأفعال ولا يلزم من ذلك قدم المفعولات ، ولا عبرة بسلوك بعض الصوفية مذهب الاعتزال أو غيره حيث يقرر الكلاباذى أن بعضهم منع أن يكون الله تعالى لم يزل خالقا وقال : إن ذلك يوجب كون الخلق معه فى القدم (1) وقد تقدم جواب التسترى وموقف أغلب المشايخ من هذه القضية .
ــــــــــــــــــــــــ
1- انظر فى بيان موقف الفلاسفة الرسالة العرشية لابن سينا ص 10 : 12 ، وانظر تهافت الفلاسفة لأبى حامد الغزالى ص 37 ، 38 ، الطبعة الثالثة ، دار المعارف القاهرة سنة 1972م وانظر التعليقات ص 20 وهى رسالة من رسائل الفارابى ضمن أحد عشر رسالة ، طبعة دار المعارف العثمانية ، حيدرآباد الهند سنة 1926م .
2- التعرف ص 54 .
* صفات الأفعال وأبدية المفعولات :
وبالرغم من تصريح الصوفية بأن البقاء لله وحده ، فإنهم لا ينكرون بقاء بعض المخلوقات معه أبدا .
وقد قدم الكلاباذى صفة البقاء على الأزلية حين قال : ( باق أول ) (1) .
وهنا تظهر مشكلة فكرية حول صفة البقاء ، فلا شك أن بقاء أهل الجنة والنار أبدا يبدو لأول وهلة متعارضا مع إفراد الله عز وجل بالبقاء وإذا كان مشايخ الصوفية قد رفضوا رفضا قاطعا إشراك غيره معه فى الأزلية ، فإن ذلك يستتبع ضرورة رفضهم مشاركة غيره معه فى الأبدية مما يوحى بالتعارض مع نصوص القرآن والسنة الخاصة ببقاء أهل الخلدين أبدا .(1/64)
لقد كانت هذه المسألة مثار خلاف بين فرق الإسلام وبين طائفة المعتزلة حول مفهوم الأبدية لأهل الجنة والنار فى القرآن الكريم حتى فهمها البعض بطول الأمد وليس البقاء اللانهائى (2) .
ــــــــــــــــــــــــ
1- السابق ص 47 .
2- مقالات الإسلاميين حـ 2 ص 53 ، 55 .
ولعل أبا القاسم النصرباذى (1) قد وفق فى تقديم الحل المقنع والنابع من القرآن والسنة حين فرق بين ما يبقى ببقاء الله عز وجل وبين ما يبقى بإبقائه فقال :
( الجنة باقية بإبقائه ، وذكره ورحمته ومحبته لك باق ببقائه ، فشتان بين ما هو باق ببقائه وبين ما هو باق بإبقائه ) (2) .
فالجنة مخلوقة لله عز وجل وكائنة بأمره ورهن المشيئة الإلهية باعتبار المشيئة صفة تخصيص بين ما يبقى وما لا يبقى ، ومن ثم فإن أوائل الصوفية يعتبرون خلد الجنة وأهلها إلى ما لا نهاية إنما هو بإبقاء الله وإرادته .
فالبقاء عندهم ليس من طبيعة المخلوقات ولا من خصائصها الذاتية بل من طبيعتها جميعا كمخلوقات حادثة فى الزمان الفناء فالخلود المحدث ليس فى ذاته وإنما هو و بمدد دائم ومستمر ـــــــــــــــــــــــــ
1- هو إبراهيم بن محمد بن محمويه شيخ خراسان فى وقته نشأ فى نيسابور وكان عالما بالسيرة والتاريخ ومن أكابر مشايخ الصوفية فى عصره ، مات بمكة سنة 367هـ.
انظر شذرات الذهب حـ 3 ص 58 ، والمنتظم حـ 7 ص 89 ، تاريخ بغداد حـ6 ص 169 ، اللباب فى تهذيب الأنساب حـ 3 ص 225 .
2- الرسالة القشيرية حـ 1 ص 41 .
لا ينقطع من الله تعالى (1) .
وهذا هو ما عبر عنه النصرباذى فى قوله : الجنة باقية بإبقائه .
أما صفات الله عز وجل ومنها رحمته وذكره ، فهى باقية ببقائه سبحانه وتعالى حيث البقاء صفة ذاتية له ، كما أن الأزلية صفة ذاتية لله تعالى .(1/65)
فالنصرباذى فرق بين صفات الأفعال الإلهية وبين مخلوقات الله عز وجل وهو فى هذا لا يعبر عن رأيه فى تلك المسألة فقط ، وإنما يعبر عن رأى أغلبالأوائل من الصوفية ، حيث يعقب القشيرى على كلامه بقوله :
( وهذا الذى قاله الشيخ أبو القاسم النصرباذى ، هو غاية التحقيق فإن أهل الحق قالوا : صفات ذات القديم سبحانه وتعالى باقيات ببقائه تعالى ) (2) .
فنبه على هذه المسألة وبين أن الباقى سبحانه وتعالى باق ببقائه بخلاف ما قاله مخالفو أهل الحق ، لأنهم قالوا : لا يبقى شئ ببقائه (3)
ــــــــــــــــــــــــ
1- انظر سيرة الشيخ الكبير عبد الله خفيف الشيرازى ص 356 حيث ذكر اعتقاد مشايخ الصوفية فى هذه القضية .
2- الرسالة حـ 1 ص 42 .
3- انظر تعليق الدكتور عبد الحليم محمود على الموضوع فى الرسالة حـ 1 ص 42 .
فنفوا صفات الحق سبحانه وتعالى .
وفى هذا يفرق القرآن الكريم بين نوعين من البقاء :
الأول : فى قوله تعالى : { كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام } (1) .
وقوله : { كل شئ هالك إلا وجهه } (2) .
والثانى : فى قوله تعالى : { وما عند الله خير وأبقى للذين آمنوا وعلى بهم يتوكلون } (3) .
وقوله : { والآخرة خير وأبقى } (4) .
وقوله : { ولعذاب الآخرة أشد وأبقى } (5) .
فالأيات الأولى دلت على صفة من صفات الذات وهى صفة الوجه ودلت على بقاء الصفة ببقاء الذات ، فأثبتت بقاء الذات بصفاتها وفناء ما دونها أو إمكانية فنائه ، إذ أن الله هو الأول والآخر وهو قبل كل شئ وبعد كل شئ .
ــــــــــــــــــــــــ
1- الرحمن /26: 27 .
2- القصص /88 .
3- الشورى / 36 .
4- الأعلى / 17 .
5- طه / 127 .
قال ابن كثير فى الآية الأولى والثانية : أخبر الله بأنه الدائم الباقى الحى القيوم الذى تموت الخلائق ولا يموت ، فعبر ببقاء الوجه عن بقاء الذات لأن الوجه من صفات ذاته سبحانه وتعالى (1) .(1/66)
أما الآيات الآخرى فبقاء المخلوقات فيها لا لذاتها ولكن بعطاء من الله لإكرام أهل طاعته وإنفاذ عدله فى أهل معصيته (2) ولذلك يقول سبحانه : { إن للمتقين مفازا حدائق وأعنابا وكواعب أترابا وكأسا دهاقا لا يسمعون فيها لغوا ولا كذابا جزاءا من ربك عطاءا حسابا } (3) .
ويضيف النصرباذى فرقا آخر بين صفة الفعل وصفة الذات يغلب عليه الطابع الوجدى بالإضافة إلى ما سبق من تفريقه النابع من النظر العقلى فى الأدلة فيقول :
( أنت متردد بين صفات الذات وصفات الفعل ، وكلاهما صفته ــــــــــــــــــــــــ
1- انظر تفسير القرآن العظيم لأبى الفدا إسماعيل بن كثير ، طبعة دار إحياء الكتب العربية حـ 3 ص 403 .
2- انظر هذه المسألة فى الاعتبار ببقاء الجنة والنار للسبكى فى الرد على ابن تيمية وابن القيم القائلين بفناء النار ، تحقيق وتقديم الدكتور طه الدسوقى حبيشى ص 32 ، 33 .
3- النبأ / 34 : 36 .
تعالى على الحقيقة ، فإذا هيمك فى مقام التفرقة قرنك بصفات فعله وإذا بلغك إلى مقام الجمع قرنك بصفات ذاته ) (1) .
فجعل تعامل العبد مع الله عز وجل من خلال صفات أفعاله مقاما من المقامات ، ومعرفة صفات الذات مقاما أعلى فى التوحيد والتحقيق من معرفة صفات الأفعال ، ومن المعلوم أن مبنى هذه التفرقة قائم على تفريقه بين صفات الذات وصفات الأفعال من ناحية وبين صفات الأفعال وآثارها المتمثلة فى المخلوقات من ناحية آخرى .
وهذا الأصل هو الذى رفض به جمهور الأوائل من الصوفية القول بقدم العالم وغير ذلك من المنزلقات الفكرية المؤدية إلى وحدة الوجود ولذلك نجد لأئمة التصوف فى العصر الأول أقوالا يرفضون بها الحلول والإتحاد سواء بتصور إمكانية اتحاد النفس الإنسانية بالذات الإلهية أو بتصور جواز حلول الإله فى العالم .
يقول الجنيد بن محمد مستنكرا ذلك :(1/67)
( متى يتصل من لا شبيه له ولا نظير له بمن له شبيه ونظير ؟! هيهات هذا ظن عجيب إلا بما لطف الطيف فلا إدراك ــــــــــــــــــــــــ
1- الصوفية الأوائل يقصدون بمقام التفرقة العبادة حال النظر إلى الأسباب والاشتغال بها لكسب الضروريات التى تقيم الأبدان كالأخذ بالأسباب حال التوكل وما شابه ذلك ، ويقصدون بمقام الجمع النظر إلى مدبر الأسباب والتغافل عنها حال الصلات وبعض أنواع العبادة الأخرى ، انظر السابق حـ 1 ص 42 .
ولا وهم ولا إحاطة إلا شارة اليقين وتحقيق الإيمان ) (1) .
فهو ينفى الاتصال بين ذات الله وبين غيره من الذوات نفيا قاطعا سواء من جهة ذاته أو من جهة غيره ، ويجيز الاتصال بين الخلق وبين الله ويحصره فى الصفات الإلهية ، أما اتصال المشاعر والوجدان فيحدد له صفة اللطف الإلهية التى يمن الله بها على المؤمنين بما يشعرون بوجوده ويتمثلون عظمته ويحيون برحمته .
ويورد الجنيد الدليل على هذا الاعتقاد فيقول :
( وإن الدليل على ذلك لموجود ، أليس قد روى عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال : قال الله عز وجل : ولا يزال يتقرب إلى عبدى بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذى يسمع به وبصره الذى يبصر به (2) فإذا كان سمعه الذى يسمع به وبصره الذى يبصر به ، فكيف تصف ذلك بكيفية أو تحده بحد تعلمه ؟ ولو ادعى ذلك مدع لأبطل دعواه ، لأنا لا نعلم ذلك كائنا بجهة من الجهات تعلم أو تعرف ) (3) .
ــــــــــــــــــــــــ
1- السابق حـ 1 ص 43
2- الحديث أخرجه البخارى فى كتاب الرقاق ، باب التواضع برقم (650) وابن ماجه برقم (3989) وأبو نعيم فى الحلية حـ 1ص 252 .
3- كتاب الفناء للجنيد مخطوط شهيد على رقم 1374 ص 55 : 58 ، نشره الدكتور محمد كمال جعفر فى كتابه التصوف طريقا وتجربة ومذهبا ص 303 .
فالاتصال الذى يثبته الجنيد هو اتصال بين الصفات الإلهية وبين الخلق
دون الحلول يقول فى بيان معنى الحديث :(1/68)
( إنما معنى ذلك أنه يؤيده ويوفقه ويهديه ويشهده ما شاء كيف شاء بإصابة الصواب وموافقة الحق ، وذلك فعل الله عز وجل فيه ومواهبه له منسوبة إليه ) (1) .
* معية الله لخلقه فى مجال الصفات دون الذات :
ويرفض الجنيد فهم المعية من خلال الذات ويثبت أنها معية الصفات والأفعال ويفسرها على معنين :
[1] - مع الأنبياء بالنصر والكلاءة ويستدل لذلك بقوله تعالى : { قال لا تخافا إننى معكما أسمع وأرى } (2) .
[2] - مع العامة بالعلم والإحاطة ويستدل لذلك بقوله تعالى : { ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم } (3) .
فقصر المعية على الصفات دون أن ينسبها إلى الذات ، وأبطل بذلك القول بالحلول والإتحاد والمماسة أو القول بوحدة الوجود إبطالا تاما (4) .
ـــــــــــــــــــــــ
1- السابق ص 305 .
2- طه /46 .
3- المجادلة / 7 .
4- الرسالة القشيرية حـ 1 ص44 .
ويذكر السراج الطوسى أن الذى وقع فى القول بالحلول غلط لأنه لم يحسن أن يميز بين أوصاف الحق وأوصاف الخلق ، لأن الله تعالى لا يحل فى القلوب وإنما يحل فى القلوب الإيمان به والتصديق والتوجه له والمعرفة به ، وهذه أوصاف مصنوعاته من جهة صنع الله بهم ، لا هو بذاته أو صفاته يحل فيهم ، ثم يقول : ( والله تعالى موصوف بما وصف به نفسه كما وصف به نفسه ) (1) لقوله تعالى : { ليس كمثله شئ وهو السميع البصير } (2) .
ولعل أعمق ما وصلنا عن أوائل الصوفية بشأن الحديث عن صفات الأفعال أقوال أبى محمد سهل بن عبد الله التسترى ، حيث يحاول توضيح مفهوم الربوبية والفاعلية الإلهية من خلال مفهوم الكلام كصفة لله عز وجل (3) وحيث تتم مفعولاته بكلمة كن الإلهية .
فالفرق بين كلام الله وبين كلام الخلق أن كلام الخلق موضوع باتفاق واصطلاح ، وهى صيغة تحدث فى الهواء جزاءا جزا ثم تتقدم وتنفذ ولا تثبت البتة (4) .
ــــــــــــــــــــــــ(1/69)
1- اللمع لأبى نصر السراج الطوسى تحقيق د. عبد الحليم محمود ، طه عبد الباقى سرور ، دار الكتب الحديثة بمصر سنة 1380 / 1960م ص 542 .
2- الشورى / 11 .
3- من التراث الصوفى للدكتور محمد كمال جعفر ص 360 .
4- السابق ص 367 من رسالة الحروف لسهل بن عبد الله التسترى .
فكلام الخلق ليس له وجود ذاتى مستقل عن غيره فلا يبقى بينما كلام الله تعالى أسفر عن أعيان قائمة وأنوار روحانية ساطعة (1) .
ومعنى ذلك أن كلمات الله عز وجل موجودات قائمة فى الوجود باقية بمشيئة الله تعالى ، وهذا القول من شأنه أن يثير لدينا مسألة العلاقة بين صفات الله عز وجل وبين أفعاله حيث قد يُتوهم من أول وهلة أن التسترى يوحد بين الصفة : أى الكلمة ، وبين الفعل : أى المخلوق ، من حيث أن الكلمة : كن تصير بعد أن يقولها الله تعالى لشئ كائنا حسب المشيئة ولكن التسترى يشرح مذهبه بما ينفى عنه هذه الشبهة نفيا تاما فيقول :
إن الله تعالى ذكره وتقدست أسماؤه له صفة انفرد بها عن الأشياء وهى صفة ذاته ويفسرها قوله تعالى : { لم يلد ولم يولد ولم يكن
له كفوا أحد } (2) والثانية هى التى بها فعل وبها أوجد وبها تسمى الله (3) .
وتوضيحا لقول التسترى يقرر الدكتور كمال جعفر أن سهلا يؤكد بهذا القول التفرقة بين صفات الذات وصفة الفعل ، ثم يبين أهمية هذه التفرقة حيال العلاقة بين الله وخلقه بقوله :
ــــــــــــــــــــــــ
1- السابق ص 368 .
2- الصمد / 3 : 4 .
3- السابق ص 368 .
( وعن طريق هذه التفرقة استطاع التسترى بحق أن يثبت وجود علاقة أساسية بين كل المخلوقات وبين الله تعالى من خلال صفاته لا من خلال ذاته ) (1) .
لقد فهم أوائل الصوفية التوحيد بأنه انفراد الله عز وجل بفعل الوجود بنفس الدرجة التى فهموا بها انفراد ذاته بالأزلية ، وبالمثل فسروا الشرك بأنه إشراك فاعل حقيقى آخر معه فى الوجود .
يقول المكى :(1/70)
( وعند أهل المعرفة أن لا فاعل حقيقية إلا الله عز وجل لأن حقيقة الفاعل هو الذى لا يستيعن بغيره لا بآلة ولا سبب ، وعندهم أن فعلا لا يأتى من فاعلين وإلا كان شركا ) (2) .
وهذا الفهم للتوحيد وإن كان يثير مسألة هى جوهر مشكلة القدر والحرية وهى كيف تصدر المعاصى من العباد ؟ ولماذا يحاسبون عليها إن لم تكن فاعليتهم خاصة ومستقلة وحقيقيه ؟
إلا أننا نرجئ ذلك لمبحث آخر فما نود إثباته الآن بيان موقف الصوفية من صفات الذات وصفات الفعل ويمكن تلخيص موقفهم فى ــــــــــــــــــــــــ
1- السابق ص 369 .
2- قوت القلوب لأبى طالب المكى حـ 2 ص 12 .
النقاط الآتية بناء على ما تقدم :
1- أوائل الصوفية لا يفرقون بين القدم فى صفات الذات والقدم فى صفات الأفعال .
2- أن الصفات صفات الذات وصفات الفعل هى صفات حقيقية قائمة بالذات وليست هى عين الذات كما هو الحال عند المعتزلة ، ولا الذات علة للصفات كما هو الحال عند الفلاسفة فالصفات لا تخضع للقوانين والأسباب .
3- أن الله متصف بها قبل أن يخلق الخلق ولا يلزم من قدمها وجود مفعولات لا أول لها
4- أن الجنة والنار مخلوقتان باقيتان بإبقاء الله ومشيئته عز وجل فالبقاء ليس من طبيعتهما .
5- أنهم رفضوا القول بالحلول سواء باتحاد النفس بالذات الإلهية أو بجواز حلول الإله فى العالم ، ويثبتون الاتصال بين الإله والخلق من خلال الصفات فقط دون الذات .
6- أن بعض أوائل الصوفية خالفوا ومالوا إلى رأى المعتزلة لكن ما تقدم يمثل رأى الأغلبية .
*** المبحث الثالث ***
إفراد ا لله بالفاعلية أساس عقيدة
القضاء والقدر عند مشايخ الصوفية
يؤسس أوائل الصوفية مفهوم القدر على توحيد الربوبية وإفراد الله بصفاته المطلقة كالعلم والإدارة والقدرة ، بحيث يستحيل حدوث شئ أو فعل بدون علمه أو قدرته يقول القشيرى فى بيان اعتقاد الصوفية :(1/71)
( فلا يخرج عن قدرته مقدور ولا ينفك عن حكمه مفطور ولا يعذب عن علمه معلوم يفعل ما يريد ويذل لحمكه العبيد ولا يجرى فى سلطانه إلا ما شاء ولا يحصل فى ملكه غير ما سبق به القضاء ، ما علم أنه يكون من المحدثات أراد أن يكون وما علم أنه لا يكون مما جاز أن يكون أراد ألا يكون ) (1) .
ولا شك أن ما ذكره القشيرى يعتبر أساسا للعقيدة الصحيحة فى القضاء والقدر ولا يختلف فى كثير أو قليل عن كتاب الله أو اعتقاد أهل السنة والجماعة بالسنة لهذا الأصل الكبير من أصول الإيمان .
ـــــــــــــــــــــــ
1- الرسالة القشيرية حـ1 ص51 انظر فى المعنى الذى أورده القشيرى عن الصوفية الرزق الحلال وحقيقة التوكل على الله للمحاسبى ص 21 ، 32 سيره الشيخ الكبير عبد الله بن خفيف ص 344 قوت القلوب حـ 1 ص 125 , 126 ماهية العقل للحارث المحاسبى ص 237 والرعاية لحقوق الله للمحاسبى ص 33 ، 34 .
وعلى الرغم من أن أغلب الطوائف التى خاضت فى قضية القدر والحرية وأفعال العباد يقررون أن كل شئ بقضاء وقدر إلا أنهم يختلفون بعد ذلك حول مفهوم القضاء والقدر اختلافا يتنوع أثره قربا أو بعدا عن عقيدة السلف الصالح .
فكما هو معلوم مما سبق أن الخلاف الجوهرى كائن فى مسألة هامة ورئيسية فى الموضوع وهى مسألة أفعال الشرور والمعاصى ، حيث يبدو للناظر أن القول بنسبة أفعال الشر إلى فاعلة على الحقيقة يعنى خروج هذه الأفعال عن مجال قدرة الله عز وجل وقضائه ، لأنه نهى عنها وأمر بخلافها ، كما يبدو فى نفس الوقت أن القول بنسبة المعاصى إلى القدر الإلهى المحيط الشامل ينسب هذه الأفعال إلى الفاعلية الإلهية على الحقيقة ، وإلى الفاعلية الإنسانية على المجاز ، فيكون الإنسان مسيرا فى أفعاله لا مخيرا وهذا ينفى مسئوليتة ، ومن ثم ينشأ أمام الناظر تعارض بين الجزاء فى الآخرة وبين العدالة الإلهية .(1/72)
هذا هو لب المشكلة التى انقسم بسببها أهل الطوائف المختلفة وهم كما سبق بين طرفين ووسط كل يقرب أو يبعد عن موقف أهل السنة والجماعة ، فماذا كان موقف الصوفية الأوائل ؟
لقد كان الموقف الصوفى لأوائل الصوفية مماثلا لموقف السلف تماما حينما قرروا أن كل شئ بقضاء الله وقدرته حتى أفعال العباد فالله سبحانه وتعالى هو المنفرد بالربوبية فله الخلق والأمر والملك لايشركه فى ذلك أحد كما قاله سبحانه وتعالى : { لا يملكون مثقال ذرة فى السماوات والأرض وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير } (1) .
وقال سبحانه : { ألا له الخلق والأمر } (2) .
ويذكر المكى معقبا أن من شروط صحة إيمان العبد أن يصدق بجميع أقدار الله تعالى خيرها وشرها أنها من الله تعالى سابقة فى علمه جارية فى خلقه بحكمه ، فلا حول لهم عن معصيته إلا بعصمته ، ولا قوة لهم على طاعته إلا برحمته ، وأنهم لا يطيقون ما لهم إلا به ، ولا يستطعيون لأنفسهم ضرا ولا نفعا إلا بمشيئة الله (3) .
وليست معاصى العباد واقعة بقضاء الله ومشيئته وعلمه وحفظه فقط ، بل هى واقعة وحادثة بخلقه أيضا فلا خالق إلا الله ، يقول القشيرى فى بيان اعتقاد الصوفية : فهو سبحانه وتعالى خالق لأكساب العباد خيرها وشرها مبدع ما فى العالم من الأعيان والآثار قلها وكثرها كما قال سبحانه وتعالى :
{ ربنا الذى أعطى كل شئ خلقه ثم هدى } (4) .
ــــــــــــــــــــــــ
1- سبأ / 22 .
2- الأعراف / 54 .
3- قوت القلوب حـ 2 ص 126 .
4- طه / 50 .
ويمكن القول أن أوائل الصوفية يجمعون على خلق الله عز وجل لأفعال العباد بما فيها المعاصى حيث يفرد الكلاباذى فصلا بعنوان قولهم فى القضاء والقدر وخلق الأفعال وذلك لأن نقطة الخلاف بين الفرق حول مشكلة الجبر والاختيار أو القدر والحرية ، وصلت خلال القرن الثالث الهجرى إلى مسألة خلق أفعال العباد ، هل هى من خلق الفاعلية الإلهية أو من إحداث الفاعلية الإنسانية ؟(1/73)
وقد اتفق أهل السنة والجماعة على إفراد الله عز وجل بالخلق كأساس للتوحيد فى حين قرر القدرية والمعتزلة نسبة حدوث أفعال العباد إلى فاعليتهم وخاصة المعاصى والشرور (1) وكان ذلك منهم تقريرا للمسئولية وإثباتا للعدل الإلهى .
وفى هذا الفصل يسجل الكلاباذى رأى الصوفية حتى نهاية القرن الرابع الهجرى وأنهم على التمسك بموقف السلف مصرين على إفراد الله عز وجل بالخلق والأمر فيقول :
( أجمعوا أن الله تعالى خالق لأفعال العباد كلها ، كما أنه خالق لأعيانهم وأن كل ما يفعلونه من خير وشر فبقضاء الله وقدره وإرادته ومشيئته ولولا ذلك لم يكونوا عبيدا ولا مربويين ولا مخلوقين ) (2) .
ـــــــــــــــــــــــــ
1- لبيان مذهب المعتزلة فى ذلك ، انظر مقالات الإسلاميين حـ 1 ص 298 .
2- التعرف لمذهب التصوف ص 60 .
فقارن بين الربوبية وإفراد الله بالخالقية من ناحية وبين العبودية بخضوع العبيد لقضاء الله وقدره من ناحية أخرى .
وهو يبرهن على ذلك بأدلة نقلية وعقلية :
1- أما دليله النقلى فيستدل بقوله تعالى : { قل الله خالق كل شئ } (1) وبقوله تعالى : { إنا كل شئ خلقناه بقدر } (2) وبقوله تعالى : { وكل شئ فعلوه فى الزبر } (3) .
ويعلق الكلاباذى على الدليل النقلى بتوضيح وجه الاستدلال فيقول : ( فلما كانت أفعالهم أشياء ، وجب أن يكون الله خالقها ولو كانت الأفعال غير مخلوقة لكان الله عز وجل خالق بعض الأشياء دون جميعها ولكان قوله : { خالق كل شئ } كذبا تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا ) (4) .
2- أما دليله العقلى الذى يستدل به على أن الآثار مخلوقة لله عز وجل كالأعيان سواء بسواء فهو يتمثل فى أن الأفعال أكثر من الأعيان فلو كان الله خالق الأعيان والعباد خالقى الأفعال لكان الخلق أولى بالمدح من الله تعالى ولكان خلق العباد أكثر من خلق الله وقد قال الله ـــــــــــــــــــــــ
1- الرعد / 71 .
2- القمر / 49 .
3- لقمر / 52 .
4- التعرف ص 60 .(1/74)
تعالى : { أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم قل الله خالق كل شئ وهو الواحد القهار } (1) .
فأثبت توحيد الربوبية وإفراد الله بالفاعلية ونفى أن يكون خالقا غيره ، وهذا الدليل العقلى دعا الإمام البخارى رحمه الله أن يفرد له بابا فى كتاب التوحيد من صحيحه فقال : باب { فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون } (2) .
قال ابن حجر : المراد بيان كون أفعال العباد بخلق الله تعالى ، إذ لو كانت أفعالهم بخلقهم لكانوا أندادا لله وشركاء له فى الخلق ، وهو يرد بذلك على الجهمية والمعتزلة مما يعكس بوضوح الوحدة والترابط فى اتجاه الخط السلفى لأوائل الصوفية نحو هذه القضية (3) .
ويثبت سهل بن عبد الله التسترى شمول العلم الإلهى وإحاطته وطلاقة القدرة الإلهية لتشمل كل حدث فى الوجود حتى معاصى العباد بناءا على قوله تعالى :
{ إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون } (4) .
ــــــــــــــــــــــــ
1- الرعد / 17 وانظر التعرف ص 60 .
2- انظر فتح البارى باب فلا تجعلوا لله أنداد وأنتم تعلمون حـ 13 ص 50 .
3- انظر فتح البارى حـ 13 ص 500 وانظر خلق أفعال العباد والرد على الجهمية وأصحاب التعطل للإمام البخارى فى المقارنة بمذهب السلف ص 26 : 28 .
4- يس / 82 .
فالكن الأعظم كما يسميها سهل بن عبد الله هى أرادة الله الشاملة المطلقة المحيطة بكل ما سوى البارى تعالى ، وقد عبر الكتور كمال جعفر تعبيرا وجيزا حينما قال عن اعتقاد سهل بن عبد الله : ( فالله جل شأنه عليم لا يخفى عن علمه شئ عادل لا ينسب إليه الجور وهو سبحانه المرجع والمعول فى كل شئ ) (1) .
ويقرر التسترى أن المعاصى شئ ، وكل شئ محدد مقدر ، فالمعاصى هى الأخرى مقدرة ومحددة (2) ولقد حفظ لأكثر شيوخ الصوفية الأوائل ما يفيد إيمانهم بشمول القدر وإحاطته .
يقول ذو النون المصرى : ( ليس فى السموات العلى ولا فى الأرضين السفلى مدبر غير الله ) (3) .(1/75)
بل لقد وصل الإيمان بتوحيد الربوبية وإفراد الله بالخلق والتدبير الإلهى لكل شئ إلى حد اعتبارهم كل شئ مجرد موضوع لأحكام القدرة الإلهية ليس إلا فقد روى عن أبى عثمان المغربى (4) ــــــــــــــــــــــــ
1- من التراث الصوفى ص 262 . 2- السابق ص 262 .
3- الرسالة القشيرية حـ 1 ص 35 . 4- هو سعيد بن سلام المغربى من قرية بناحية قيروان يقال لها : كركنت ، أقام بمكة فترة طويلة وكان شيخ الحرم ، سافر إلى نيسابور ومات بها سنة 372 هـ انظر ترجمته فى اللباب فى تهذيب الإنسان حـ 3 ص 36 شذرات الذهب حـ 3 ص 81 تاريخ بغداد حـ 9 ص 112 طبقات الشعرانى حـ 1 ص 143 الرسالة القشيرية حـ1 ص191 .
وقد سئل عن الخلق فقال : ( قوالب وأشباح تجرى عليهم أحكام القدرة ) (1) .
وجعل الحنيد الإيمان بهذا المبدأ أصلا من أصول التوحيد بل هو مرتبط عنده بمراتب اليقين ، حيث سئل عن التوحيد ؟
فقال : هو اليقين .
فقال السائل : بين لى ما هو ؟
قال : هو معرفتك أن حركات الخلق وسكونهم فعل الله عز وجل وحده لا شريك له ، فإذا فعلت ذلك فقد وحدته (2) .
وهذه العبارة الأخيرة تدل على اعتقاد الجنيد فى شرك من ينسب لغير الله تبارك وتعالى فعلا حقيقيا على سبيل الخلق والإحداث ، وذلك لأن التوحيد عنده هو الاعتقاد بانفراد الله عز وجل بالفعل وحده حتى بالنسبة لخلق المعاصى والذنوب وإن كان لا يبيح الاحتجاج بها على القدر .
والجنيد ومعه سائر المعتدلين من أوائل الصوفية لا يقصدون بإفراد الله عز وجل بالفاعلية كشرط للتوحيد مجرد الاعتقاد النظرى فى هذا المبدأ بل هو يعنى الحياة العملية والسلوكية التى يعبد الله بها ويتحرر له ممن
ــــــــــــــــــــــــ
1- الرسالة القشيرية حـ 1 ص 38 .
2- السابق حـ 1 ص 40 .
سواه وفق هذا المبدأ علاوة على الاعتقاد النظرى ، وقد عبر الجنيد عن ذلك لما سئل عن توحيد الخاصة فقال :(1/76)
( التوحيد هو أن يكون العبد شبحا بين يدى الله ، تجرى عليه تصاريف تدبيره ، فى مجارى أحكام قدرته فى لجج بحار توحيده بالفناء عن نفسه وعن دعوى الخلق له ) (1) .
وهذا الفناء ليس فناء ذات العبد فى ذات الله فقد ثبت عنه فيما سبق النفى القاطع لهذا المفهوم (2) وإنما يقصد فناء إرادة الصوفية فى إرادة الله الشرعية بالطاعة التامة له ، وفناء شعور العبد بأى باستطاعة أو قوة أو حول ذاتى له ، لتيقنه أن كل الحول والقوة لله عز وجل وحده ثم صدور السلوك من العبد موافقا لهذا اليقين ونابعا منه ومبينا عليه .
هذا هو لب التوحيد عند الجنيد وأغلب الأوائل من مشايخ الصوفية الذين تمسكوا بالكتاب والسنة .
غير أن التوحيد عند الصوفية يتميز عن مفهوم التوحيد عند المتكلمين والفلاسفة بشرط هام وضعهوه لأنفسهم ، وهو الاستجابة السلوكية الموافقة له علاوة على عدم مخالفته لأصول الإيمان فى الكتاب والسنة .
لقد كان تأكيد الجنيد على ضرورة القول بخلق الله عز وجل وفعله لكل شئ حتى معاصى العباد كتاكيده هو وأغلب الصوفية فى عصره ــــــــــــــــــــــــ
1- السابق حـ1 ص 40 .
2- انظر ص 106 .
بإفراد الله بالأزلية سواء بسواء ، فيعرف الموحد بأنه ما لم يشرك مع الله أحدا فى تدبيره وحكمه وعلمه وأمره وقضائه وخلقه ورزقه وعطائه ومنعه كما قال تعالى تهديدا لمن أشرك معه غيره فيما له : { واعلموا أن الله برئ من المشركين ورسولُه } (1) .
ويقول : ( من أشرك مع الله فيما لله غير الله فالله ورسوله بريئان منه ) (2) .
وهكذا جعل الجنيد إفراد الله عز وجل بالخلق وشمول التدبير أصلا من أصول التوحيد تؤدى مخالفته إلى الشرك ، سواء كان ذلك شركا جليا أو خفيا إلا أنه عقب على القول السابق بما يدل على أن خفاءه دقيق يلزم منه الاحتياط والتمييز فى القول والفعل فأورد حديث النبى صلى الله عليه وسلم الذى قال فيه :(1/77)
( الشرك أخفى فى أمتى من دبيب النمل على الصخرة الصماء فى الليلة الظلماء ) (3) .
ــــــــــــــــــــــــ
1- التوبة / 3 .
2- قوت القلوب حـ 1 ص 96 .
3- الحديث أخرجه أبو بعلى ص 19 ، 20 انظر مسند أبى يعلى طبعة المكتب الإسلامى ، وابن المنذر فى الدر المنثور حـ 4 ص 541 ، ورواه أحمد فى المسند حـ4 ص 403 وزاد فى الدر المنثور : ( الشرك أن تقول : أعطانى الله وفلان ، والند أن يقول الانسان : لولا فلان لقتلنى فلان ) .
وينسب الواسطى أفعال العباد جميعا إلى فاعلية الله عز وجل فيقول :
( لما كانت الأرواح والأجساد قائمة بالله وظهرت لا بذواتها كذلك قامت الخطرات والحركات بالله لا بذواتها ، وإذا كانت الحركات فرع عن الأجساد والخطرات فرع عن الأرواح ، فإن أكساب العباد كلها مخلوقه لله ) (1) .
ويعلق القشيرى على هذا الكلام بقوله : صرح بهذا الكلام أن أجساد العباد مخلوقة لله عز وجل فكما أنه لا خالق للجواهر إلا الله فكذلك لا خالق للأعراض إلا الله (2) .
ويلاحظ الباحث بوضوح التزام أغلب مشايخ الصوفية الأوائل بالمنهج القرآنى فى ذلك ، حيث وحدوا الله وأفرادوه بالخلق والتدبير مما يفتح باب الإيمان بالمعجزات والكرامات حيث يصبح تفسير الأمور الخارقة للعادة والسنن الجارية بنسبتها إلى الربوبية كنسبة الأمور الموافقة للسنن سواء بسواء ، ومن ثم يزداد المؤمنون إيمانا برؤيتها وإن كانوا يتلقونها كما يتلقون الأمور الموافقة للسنن باعتبار أن الجميع من فعل الله وليس من فاعل غيره ، بل قد يحصل لصاحب هذا التصور عن طرق التأمل والاعتبار نتائج معينة وحقائق إيمانية تتصل بالآيات الكونية الجارية بمقتضى السنن بنفس الدرجة التى يحصل عليها من مشاهدة المعجزة
ــــــــــــــــــــــــ
1- الرسالة حـ 2 ص 38 .
2- السابق حـ 2 ص 38 .(1/78)
وربما كان ما يحصل من السابق أكثر مما يحصله من اللاحق كما قال تعالى : { إن فى خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولى الألباب الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون فى خلق السماوات وا لأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار } (1) .
مما تقدم نصل إلى أن الصوفية قد استطاعوا بحسب الاعتقاد الذى أسسوا عليه مفهوم التوحيد إرساء الأسس الفكرية الحقيقية التى يمكن أن يقوم عليها مفهوم الربوبية والفاعلية الإلهية خالصة من كل قيد رافضين أدنى ضرورة على فعله سبحانه وتعالى ، فأكدوا بذلك على طلاقة المشيئة والفاعلية الإلهية إذ أنها الأصل الذى ينبنى عليه مفهوم القضاء والقدر فى الإسلام .
ولاشك أن ذلك سيكون له أثره الواضح فى وصول هؤلاء الشيوخ إلى التصور الصحيح للقضاء والقدر واتخاذ الموقف الصحيح إيزاءه .
ــــــــــــــــــــــــ
1- آل عمران 190 / 191 .
*** المبحث الرابع ***
مراتب الإيمان بالقدر عند مشايخ الصوفية
سبق فى المبحث الثالث أن الصوفية يؤسسون مفهوم القدر على صفات الله المطلقة وإفراده بالربوبية والخلق والتدبير , وفى هذا المطلب يدور البحث حول المراتب المتدرجة التى بها يكون السبيل لظهور الأشياء أو العالم إلى الوجود .
وهنا نجد أن أوائل الصوفية سلكوا طريقا يعتمد على الأدلة القرآنية والأحاديث النبوية إيزاء هذه القضية ، فالشيخ الكبير سهل بن عبد الله التسترى يقرر فى مراتب الإيمان بالقدر أنها تبدأ بالعلم ثم الكتاب ثم القضاء والقدر،ولا يخرج الخلق من القدر ، والعلم الأصل لا يخرج منه أحد ، والكتاب فيه يمحو ما يشاء ويثبت ، والقضاء هو الحكم الذى يثبت ، والقدر إظهاره فى الخلق (1) .(1/79)
[1] - فأول هذه المراتب التى ذكرها سهل بن عبد الله التسترى هى العلم ويقصد به علم الله الذى أنشأ فيه المخلوقات فى الأزل ، فهو العلم المحيط الشامل بكل شئ من الموجودات ، وعلم ما كان وما يكون من الخلق قبل أن يخلقهم وعلمه تعالى بأرزاقهم وآجالهم
ــــــــــــــــــــــــ
1- التصوف طريقا ومذهبا وتجربة للدكتور محمد كمال جعفر ص 276 نقلا عن الشرح والبيان لما أشكل من كلام سهل لأبى القاسم الصقلى مخطوط رقم 727 كوبرولو بتركيا ص 211 أ .
وأحوالهم وأعمالهم فى جميع حركاتهم وسكناتهم وعلمه تعالى بأهل الشقاوة والسعادة أو أهل الجنة والنار (1) .
والعلم عنده صفة ذاتية لله سبحانه قديمة أزلية وباقية ببقائه ، والمشيئة عنده تلى العلم فهى أقرب صفة من الذات بعد العلم ومن ثم فهى مرتبة تلى العلم (2) بيدأ أن العلم والمشيئة سران لله عز وجل لا يطلع عليهما أحد من خلقه ولا يوجد شئ مطلق خارج العلم المحيط ولا يقع أى شئ إلا بالمشيئة المطلقة ، وهما سران لأنهما صفتان قديمتان للذات .
قال سهل بن عبد الله : ومعنى { رب العالمين } سيد الخلق المربى لهم والقائم بأمرهم ، المصلح المدبر لهم قبل كونهم وكون فعلهم المتصرف لهم لسابق علمه فيهم كيف شاء لما شاء ، وأراد وحكم وقدر وشرع من أمر ونهى لا رب لهم غيره (3) .
ويلى العلم والمشيئة ، الإرادة والقدرة وهما ليسا سرين كالعلم والمشيئة لأنهما من صفات الأفعال ، ولذلك فإن آثارهما وما يتم بهما ظاهر فى الوجود فهما علنيان باديان ، بيد أن ثمة فرق بينهما وهو أن
ــــــــــــــــــــــــ
1- تفسيرالقرآن العظيم لأبى محمد سهل بن عبد الله التسترى ص 16 طبعة ، دار الكتب العربية الكبرى مصر ص 113 .
2- السابق ص 9 .
3- السابق ص 7 وانظر الرزق الحلال وحقيقة التوكل على الله للحارث بن أسد المحاسبى ص 31 .
الإرادة تسبق القدرة فى الأثر لا فى الوجود (1) .(1/80)
[2] - المرتبة الثانية لظهور الأشياء إلى الوجود هى الكتابة ، وفيها تسجل الأحكام الصادرة بمشيئة الله فى الكتاب وعند ذلك يتم القضاء الغيبى الذى يتحول بالخلق والإنشاء إلى قدر ، فالأحكام الإلهية الصادرة بمقتضى المشيئة هى ما دون فى الكتاب وهو مظهر للإرادة ، وهذه الأحكام قابلة للمحو والإثبات لا من حيث ذاتيتها ولكن من حيث وسائل تنفيذها واتخاذها المكان المناسب للظهور ولا يكون التغيير فى قدر الله تعالى حيث يتحدد القدر بالعلم والمشيئة وهما صفتان للذات فلا يجوز التغيير فيهما (2) .
سئل سهل بن عبد الله عن معنى قوله تعالى : { وإياى فاتقون } قال : أراد بذلك وصولهم إلى موضع علمه السابق فيهم ، لعمرى إن المعرفة أدرجت فى أوطانها ليجرى عليهم ما كان من علم الله سابقا فيهم ، فلا بد من إظهاره على أوصافه ) (3) .
فالقضاء والقدر بعد الإرادة ، والمحو والإثبات يكون فى التدوين ومن ثم يكون سبيل ظهور الأشياء فى الوجود أو خروجها إليه متدرجا بحيث يبدأ بالعلم ثم الكتاب ثم القضاء والقدر .
ــــــــــــــــــــــــ
1- التصوف طريقا وتجربة ومذهبا ص 725 .
2- السابق ص 725 وانظر فى معنى كلام التسترى قوت القلوب حـ1 ص127.
3- التفسير، لسهل بن عبد الله ص 12 .
ويستدل المكى على هذه العقيدة السابقة بالأدلة النقلية ويورد الآيات التى تدل على العلم السابق كقوله تعالى :
{ قال ألم أقل لكم إنى أعلم غيب السموات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون } (1) .
ثم يقول بعدها :
( وروينا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : سبق العلم وجف القلم وقضى القضاء وتم القدر بالسعادة من الله تعالى لأهل طاعته وبالشقاء من الله تعالى لأهل معصيته ) (2) .(1/81)
كما يستدل التسترى بقوله تعالى : { كذلك الله يخلق ما يشاء إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون } (3) على أنه إذا كان فى علمه السابق الأزلى أمر قضاه فأراد إظهاره فى القدر قال له كن فيكون يضيف قائلا (4) :
ـــــــــــــــــــــــ
1- البقرة / 33 .
2- قوت القلوب حـ 1 ص 126 ، والحديث ثابت بمعناه وبألفاظ أخرى كثيرة انظر صحيح البخارى كتاب الجنائز ، باب موعظة المحدث عند القبر حـ 2 ص 120 ومسلم فى كتاب القدر ، باب الخلق برقم (2647) والترمذى فى كتاب التفسير باب من سورة الليل برقم (3341) وابن ماجه فى المقدمة ، باب القدر برقم (78) والنسائى فى كتاب الجنائز ، باب الصلاة على الصبيان حديث رقم (1949) .
3-آل عمران / 47 .
4- تفسير القرآن لسهل بن عبد الله ص 25 .
قضى قبل خلق الخلق ما هو خالق : خلائق لا يخفى عليه أمورها
هواها ونجواها ومضمر قلبها : وقبل الهوى ماذا يكون ضميرها
1- فالعلم هو الأصل الذى لا يخرج منه أحد ولا يخالف فى الكون حادث فكل ما هو كائن وما سيكون مطابق لما فى العلم .
2- وأما الكتاب فهو ما يسجل فيه العلم ، وما يتم من محو وإثبات فهو فى علم الله الشامل ومدون فى الكتاب أنه سيمحى أو سيثبت .
3- وأما القضاء فهو الذى يثبت بعد مرحلة المحو والإثبات ويستصدر منه الحكم الإلهى فى تكوين شئون المخلوقات .
[4] - أما القدر فهو إظهاره فى الخلق حيث أن العلم والمشيئة هما أصل القضاء والقدر فإن الله يخلق ما يشاء ويختار ، فيخص البعض بالفضل دون البعض ، ويصطفى فى الخلق من مخلوقاته وعباده من يشاء دون أن يكون من العبد سبب ، لكى يعرف هذا الفضل ويدعوا هذا حتى يتفضل عليه بما تفضل على غيره وإذ أعطى الله عبدا ولم يعط أخر فليس هذا ظلما منافيا للعدل الإلهى لأنه لم يمنعه شيئا هو له (1) .
ـــــــــــــــــــــــ
1- التصوف طريقا ومذهبا وتجربة ص 276 .(1/82)
ويذكر الدكتور جعفر فى كتابه التصوف أن أوائل الصوفية وعلى رأسهم سهل بن عبد الله لا يقبلون أى مذهب فى القدر إلا أن يفى بالمبادئ الآتية (1) :
1- علم الله فى الأصل .
2- عدله فى الفرع .
3- سلطانه فى النهاية .
4- عدم الاسغناء عنه فيما بين ذلك .
وإذا كانت المشكلة الصعبة التى واجهت الفكر البشرى هى كيفية انتقال العالم من كونه معلومة فى علم الله المحيط الشامل ، وكونه مرادا له بالمشيئة المطلقة إلى كونه موجودا فى العيان وكذلك الأمر بالنسبة للشئ الجزئى ، فإن سهل بن عبد الله قد وضع حلا لهذه المسألة لا ينقصه العمق والتوفيق الى حد كبير ، مع حرص التسترى على الالتزام بآيات القرآن الكريم .
وهذا الحل يعبر فيه سهل بن عبد الله عن آيات الخلق القرآنية بكلمة كن ولكى نتعرف على الحل علينا أن نتذكر تفريق سهل بن عبد الله الذى سبق فى المبحث الثانى بين صفات الذات وصفات الفعل من ناحية ، وتفريقه تبعا لذلك بين علم الله اللانهائى كصفة ذاتية وبين ــــــــــــــــــــــــ
1- الشرح والبيان لما أشكل من كلام سهل بن عبد الله ص 211 تقلا عن السابق ص 276 .
مراداته ومعلوماته المنفصلة عن غيبه أى المنفصلة عن علمه المحيط بإرادته من ناحية أخرى ، ومن ثم فإن هذا المنفصل عن العلم اللانهائى محدود باعتبار دخوله الزمان .
وأساس هذا الحل أن التسترى فهم كلمة كن الالهيه التى نقلت مراد الله من الغيب الى الشهادة على نحوين :
الأولى : الكن الأعظم .
الثانية : الكن الخاصة لكل موجود جزئى .
وتعبر الأولى فى مفهوم التسترى عن مشيئة الله وعلمه الكلى للمخلوقات ، وكل موجود جزئى له كن الخاصة به ، وكلمات الله بهذا المعنى أدت إلى ظهور المخلوقات فى الوجود خلال الزمان ، وإن كانت كلمات الله قديمة ويسميها التسترى القوة المفصلة أى المظهرة للمخلوقات .(1/83)
فعلم الله المحيط بالمخلوقات ومشيئته الكلية للموجودات هى الكن الأعظم وإرادته وقدرته بالنسبة للشئ الجزئى هى الكن المفصلة للشئ المظهرة إياه فى الوجود المحققة له فى العيان .
وعلاوة على أن هذه الفكرة كانت أساسا للتفريق بين فاعلية الله عز وجل وأثار هذه الفاعلية أى المخلوقات ، فإنها تعتبر فى نفس الوقت حلا ناجحا للمشكلة العويصة التى نحن بصددها وهى كيفية نزول الأمر الإلهى القديم ثم تحققه فى الواقع الحادث ؟
وذلك لأن حدوث الشئ أو نفاذ الحدث فى الكون ليس بمقتضى مشيئة أولى للإله ثم بمقتضى الأسباب بعد ذلك وإنما هو بمقتضى إرادة إلهية خاصة لكل حدث أو لكل شئ فى الكون ، فكل شى وكل حدث من فعل الله عز وجل ومن خلقه وليس للأسباب أو الاستطاعات المخلوقة أى دور فى الخلق والإحداث سوى أنها أدوات للقدرة الإلهية وهذا ما جعل مفهوم التوحيد عند أوائل الصوفية مفهوما راسخا يعبر عن العقيدة الاسلامية فى القضاء والقدر (1) .
وقد تقدم فى المبحث السابق قول الجنيد : ( التوحيد هو اليقين وهو معرفتك أن حركات الخلق وسكونهم فعل الله عز وجل وحده لا شريك فإذا فعلت ذلك فقد وحدته ) (2) .
ولقد عبر التسترى بتفصيله السابق فى انتقال المقادير من الغيب إلى الشهادة عند عقيدة القرآن والسنة فالكن الأعظم فى مفهوم التسترى تعبر عن علم الله ومشيئته فى تقدير أمر المخلوقات ، وهو ما دون فى اللوح المحفوظ من نوعى التقدير الأزلى والميثاقى .
قال تعالى : { ألم تر أن الله يعلم ما فى السموات والأرض إن ذلك فى كتاب إن ذلك على الله يسير } (3) .
ــــــــــــــــــــــــ
1- من التراث الصوفى للدكتور كمال جعفر ص 258 بتصرف .
2- انظر ص 119 .
3- الحج / 70 .
وقال تعالى : { ما أصاب من مصيبة فى الأرض ولا فى أنفسكم إلا فىكتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير ، لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم } (1) .(1/84)
قال ابن كثير فى تفسيره : ( يخبر سبحانه وتعالى عن قدره السابق فى خلقه قبل أن يبرأ البرية أنه ما من مصيبة تحدث فى الآفاق أو فى النفوس إلا كتبها فى اللوح المحفوظ ، وقوله : { من قبل أن نبرأها } أى من قبل أن نخلق الخليقة (2) .
ثم أورد حديث مسلم : ( قدر الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة وعرشه على الماء ) (3) .
وفى حديث أبى داود : ( أول ما خلق الله القلم فقال له اكتب قال : رب وماذا أكتب ؟ قال : اكتب مقادير كل شئ حتى تقوم الساعة ) (4) .
ــــــــــــــــــــــــ
1- الحديد / 22 : 23 .
2- تفسير القرآن العظيم لابن كثير حـ 4 ص 314 .
3- الحديث رواه مسلم فى القدر ، باب حجاج آدم وموسى عليهما السلام برقم (2653) وأحمد فى المسند حـ 2 ص 169 والترمذى فى القدر برقم (2156) والبيهقى فى الأسماء والصفات ص 374 .
4- رواه أبو داود فى كتاب السنة ، باب القدر رقم الحديث (4700) والحاكم فى المستدرك حـ 2 ص 454 ، والهيثمى فى مجمع الزوائد حـ 7 ص 190 والحديث صححه الشيخ الألبانى انظر صحيح الجامع حديث رقم (2014) .
فدلت الآيات والأحاديث على أن الله تبارك وتعالى قدر كل شئ سيحدث فى الكون سواء كان خلقا أو فعلا ، وسواء كان الفعل جبريا أو اختياريا ، إضافة إلى أن ذلك مكتوب ومدون تدوينا سابقا على الحدوث فى التقدير الأزلى واللوح المحفوظ .
وأما مراد التسترى بالكن الخاصة لكل موجود جزئى فيطابق أنواع التقدير والتدوين الأقل عموما من الكن الأعظم أو التقدير الأزلى والكلى للمخلوقات .
[1 ــ سواء كان تقديرا خاصا بعمر كل إنسان عند خلقه فى الرحم كما جاء فى قوله صلى الله عليه وسلم :
( إن أحدكم يجمع خلقه فى بطن أمه أربعين يوما نطفة ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ، ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح ، ويؤمر بأربع كلمات بكتب رزقه وأجله وعمله وشقى أم سعيد ) (1) .(1/85)
[2 ــ أو كان تقديرا أخص حيث تدون فيه المقادير سنويا مما يخص أحوال العباد كما جاء فى قوله تعالى :
ـــــــــــــــــــــــ
1- أخرجه البخارى فى كتاب التوحيد ، باب ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين برقم (7454) ومسلم فى كتاب القدر باب كيفية خلق الأدمى فى بطن أمه برقم (2643) والدرامى فى الرد على الجهمية ص 81 ، وأبو داود برقم (4708) والترمذى برقم (2137) وأحمد فى المسند حـ 1 ص 382 .
{ إنا أنزلناه فى ليلة مباركة إنا كنا منذرين فيها يفرق كل أمر حكيم أمرا عندنا أنا كنا مرسلين } (1) فيها يفصل من اللوح المحفوظ إلى الكتبة أمر السنة وما يكون فيها من الآجال والأرزاق وغير ذلك من تقديرات (2) .
[3 ــ أو كان تقديرا يوميا أخص مما تقدم من أحوال التقدير الجزئى كما جاء فى قوله تعالى : { يسأله من فى السماوات والأرض كل يوم هو فى شأن } (3) .
ويروى ابن جرير الطبرى فى معنى قوله : { كل يوم هو فى شأن } حديثا عن الرسول صلى الله عليه وسلم وقد سئل ما ذاك الشأن ؟ فقال :
( أن يغفر ذنبنا ويفرج كربنا ويرفع أقواما ويضع آخرين ) (4) .
ويذكر ابن كثير أن هذا الحديث روى موقوفا وقد ذكره البخارى على أنه من كلام أبى الدرداء .
ــــــــــــــــــــــــ
1- الدخان / 4 .
2- هكذا روى عن ابن عمر ومجاهد وأبى مالك والضحاك وغير واحد من السلف انظر فتح القدير للشوكانى حـ 4 ص 570 .
3- الرحمن / 29 .
4- انظر تفسير ابن جرير الطبرى حـ 6 ص 113 .
يقول ابن كثير : وبهذا المعنى فسر جمهور السلف الآية (1) .
وكل هذه المعانى تؤيد رأى التسترى فى نزول الأقدار على ضربين ضرب عام وضرب خاص .
لقد أقر أوائل الصوفية بأخص خصائص الربوبية فى القرآن الكريم وهو انفراد الله سبحانه وتعالى بالعلم الأزلى اللانهائى والمشيئة المطلقة حتى وصف بعض الصوفية مشيئة الله المطلقة لكونها مع العلم سران للذات ، وصفوها بأنها عرش الذات (2) .(1/86)
وذلك مع اعتقادهم أنه من كمال الربوبية اللائقة به مباشرة الله سبحانه وتعالى للكون المخلوق بإرادته وتنظيمه سواء كان لكل موجود على حدة أو للعالم أجمع ، وذلك يتم بقدرته وأمره النازل إلى العباد فى حياتهم الزمنية .
فأمر الله سبحانه وتعالى إنما ينزل بمقتضى إرادة إلهية لكل حدث أو لكل شئ فى الكون ، فكل شئ وكل حدث من فعل الله عز وجل ومن خلقه وليس للأسباب أو الاستطاعات المخلوقة أى دور فى الخلق والإحداث ، إلا باعتبار الغاية من خلقها ، فوجود العلل الغيبية أو العلل الطبيعية ليس سوى أدوات وآلات للقدرة الإلهية يتم بها قضاء الله ــــــــــــــــــــــــ
1- انظر تفسير القرآن العظيم لابن كثير حـ 4 ص 273 ، وفتح القدير الشوكانى حـ 5 ص 139 ، وزاد المسير فى علم التفسير لابن الجوزى حـ 8 ص 32 .
2- انظر التصوف طريقا وتجربة ومذهبا ص 275 .
وقدره ، وهى جميعا جنود لله تعالى تفعل بمشيئته وفاعليته دون استقلالها عن المشيئة والقدرة الإلهية ، هذا مع قدرته تعالى على الفعل بدونها كالفعل بها سواء بسواء .
ويذكر المكى أننا لا يمكن عقلا أن ننسب لمن يضرب بالسوط الضرب للسوط دونه ، وإنما الفعل منسوب للفاعل لأن السوط ليس سوى أداة يصدر تأثيره عنه حسب قصد الفاعل وإرادته (1) .
وبذلك يمكن القول أن الصوفية تجنبوا الإلزامات الشنيعة التى ترتبت على مفهوم القدر عند الفلاسفة العقليين كابن سينا حيث جعل مفهوم القدر هو إيجاب الأسباب للمسببات ، فزعم فى رسالته سر القدر أن فعل الإله لا يتم إلا بالأسباب والمسببات وهذه الأسباب والمسببات مقدرة ومرتبة ومنظمة منذ الأزل (2) .
وذلك يعنى أن كل ما يحدث وما سيحدث لازم وفيه حتمية لنفاذ القضاء ، وعدم جوازه تغييره وتلطيفه أو محوه وإثباته .(1/87)
وهذا التصور يجعل الأسباب والاستطاعات الحادثة مشاركة لله فى فعله وخلقه ، بل وصل الأمر بهؤلاء الفلاسفة إلى عزو الخلق والربوبية للأفلاك والكوكب والأجرام السماوية دون الله (3) .
ــــــــــــــــــــــــ
1- قوت القلوب حـ 2 ص 13 .
2- رسالة فى سر القدر ص 3 : 7 .
3- القضاء والقدر فى الاسلام للدكتور فاروق الدسوقى حـ 1 ص 386 .
ويذكر الدكتور كمال جعفر أن هذا ما رفضه الصوفية الأوائل وعلى رأسهم سهل بن عبد الله حيث أدى فهمه لكلمة كن على هذين النحوين السابقين إلى حل جذرى لهذه المشكلة ، فهو علاوة على إثباته القدر الشامل المحيط فإنه يثبت أيضا العناية الإلهية للكون شامله ومحيطه ويثبت الربوبية أو الفاعلية كاملة مطلقة للكلى كما هى للفردى والجزئى سواء بسواء ، فيتغير بذلك مفهوم العلاقة بين الفاعلية الإلهية والأسباب الطبيعية تماما بحيث تصبح هذه الأسباب مفعولة وليست فاعلة ، ومخلوقة وليست خالقة .
وهذا هو مفهوم القدر عند الصوفية وفى الإسلام حيث أطلق القرآن الفاعلية الإلهية وأثبت حكم الله عز وجل لقدره وهيمنته على سننه فإثبت الله عز وجل لنفسه المحو والإثبات فى القضاء على نحو لا ينسب له التغيير فى القدر أو فى علمه وصفاته وذلك فى قوله تعالى :
{ يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب } (1) .
يقول الدكتور جعفر بعد ذلك : وهذا يدع مجالا واسعا لتأكيد فكرة الإحتمال وتفنيد الحتمية الصارمة وهو ما يعنيه بعضهم من قوله عن الله عز وجل : ( يمحو الأسباب ويثبت الأقدار ) (2) .
وإذا عدنا إلى المبادئ الصوفية الأربعة لحل مشكلة القدر نجد أن ــــــــــــــــــــــــ
1- الرعد / 39 .
2- التصوف طريقا وتجربة ومذهبا ص 275 .
الدكتور جعفر يفسر الأول بقوله : ( إن الله جل شأنه عليم لا يعزب عن علمه شئ ) فيجعل علمه فى الأصل هو شمول العلم ولا نهائيته .(1/88)
والثانى بقوله : ( عادل لا يمكن أن ينسب إليه الجور ) ففعل الإنسان لمعاصيه نابع من ذاته وإن كان هذا الفعل من خلق الله عز وجل ككل شئ فى الوجود .
ويفسر أيضا المبدأين الثالث والرابع بقوله : ( وهو سبحانه المرجع والمعول فى كل شئ ) (1) .
فليس ثمة مشكلة كما مر بنا بالنسبة لخضوع كل شئ فى الكون لقدر الله المحيط ، ولكن المشكلة بالنسبة للإنسان الذى يترتب على سلوكه حساب فى الآخرة ثوابا وعقابا ، فماذا يقول سهل بن عبد الله بالنسبة للمعاصى والشرور الإنسانية هل هى من قدر الله وقضائه أم لا ؟
وهنا يتفق التسترى مع سائر السلف فى إثبات عموم القدر حتى يشمل أفعال العباد والسلوك الإنسانى الخلقى بما فى ذلك المعاصى ويستخدم التسترى لفظ القيام ليعبر به عن سلطان الله ونفاذ أمره وانطلاق صفاته وهو يستمد هذا المصطلح من القرآن الكريم حيث يقول تعالى فى سورة الرعد :
{ أمن هو قائم على كل نفس بما كسبت } (2) .
ــــــــــــــــــــــــ
1- من التراث الصوفى للدكتور كمال جعفر ص 249 .
2- الرعد / 33 .
فقيام الله عز وجل على كل نفس بما كسبت سواء كان خيرا أو شرا طاعة أو معصية هو تفسير للمبدئين الثالث والرابع من مبادئ القدر عند الصوفية وهو سلطانه فى النهاية وعدم الاستغناء عنه فيما بين البدء والمنتهى (1) .
ومن ثم تكون معاصى العباد بقدر الله وخلقه وليست واقعة بغير مشيئته أو مخالفة لإرادته التكوينية ، والتسترى يدخل أية الإشهاد فى مفهوم القدر حيث يقول : ( خلق الله الخلق على معرفته وابتلاهم بنفسه ) (2) فيفهم الإشهاد فى قوله تعالى : { ألست بربكم قالوا بلى شهدنا } (3) أن الله ابتلاهم بنفسه فى عالم الذر وزودهم بذلك بإيمان فطرى ثم أرسل لهم الرسل بقوله تعالى :
{ وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا } (4) .
وقوله : { لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا } (5) .(1/89)
فاتصل العلم السماوى النازل بالوحى ، بالعلم الفطرى المغروس فى النفوس بالإشهاد ، وهو سبحانه وتعالى قبل ذلك قد قهرهم بقدرته ـــــــــــــــــــــــ
1- السايق ص 251 .
2- السابق ص 258 بتصرف .
3- الأعراف / 172 .
4- الإسراء / 15 .
5- المائدة / 48 .
وانفذ فيهم مشيئته وأجرى عليهم أحكامه وهو القائم عليهم بملكه فإذا انصرف الإنسان عن إيمانه الفطرى باختياره فهو بالأمر الكونى لله عز وجل ، والله مقيم على نفسه بما كسبت من كفر ومعصية ويدين الإنسان على أنه اكتسب الكفر باستطاعته واختياره وذلك ما سنعرضه تفصيلا فى الباب الثالث إن شاء الله .
ولكن هذه الاستطاعة وهذا الاختيار كفيلان بإدانة الإنسان ومسئوليته عن فعله الخلقى ، وإذا كان خلق الفعل لله فإن النية التى هى مصدر الخير والشر فى الفعل منسوبة عند سهل بن عبد الله أصالة للعبد وعليها يجازى بذلك (1) .
مما يدفعنا إلى دراسة الحرية وأصالتها فى الذات الإنسانية فى الفصل الثانى من هذا الباب ، ولاشك أن هذه المبادئ الأربعة التى بنى عليها الصوفية الأوائل مفهومهم للقدر نابعة من التوحيد الخالص ولا تختلف عن اعتقاد السلف الصالح أهل السنة والجماعة .
ــــــــــــــــــــــــ
1- انظر السابق ص 258 بتصرف .(1/90)
الفصل الثانى
الحرية وأصالتها فى الذات الإنسانية عند الصوفية
وقد اشتمل على خمسة مباحث
المبحث الأول : مفهوم الذا ت الإنسانية عند أوئل الصوفية .
المبحث الثانى : الإرادة الحرة وأصالتها فى الذات الإنسانية .
المبحث الثالث : دوافع الإرادة وبوعثها عند الصوفية .
المبحث الرابع : موضوع الاختيار البشرىومجاله عند الصوفية
المبحث الخامس : العلاقة بين المشيئة الإلهية المطلقة والإرادة
الإنسانية الحادثة .
*** المبحث الأول ***
مفهوم الذا ت الإنسانية
عند الصوفية
سبق القول بأن أوائل الصوفية يقررون أن كل شئ بقضاء وقدر حتى أفعال العباد ومعاصيهم ، فهى مخلوقه لله سبحانه وتعالى ، وفى هذا الفصل نرى موقفهم من أصالة الحرية فى الذات الإنسانية ، فهل يعنى ما سبق فى الفصل الأول أن الإنسان محمول على فعله مجبر فيه مستكرة عليه أم أن له اختيارا وقدرة يلزم منهما وجود المسألة والحساب فى الدنيا والآخرة ؟!
هذا ما سنعرفه من مادة البحث فى هذا الفصل ، ونبدأ أولا بعرض نظرة الصوفية الأوائل لمفهوم الذات الإنسانية حتى نتمكن من تحديد مكانة الإنسان عندهم .
فالصوفية الأوائل كان لهم من الذات الإنسانية موقفا يختلف عن المذاهب الفلسفية والنظرية ، وذلك لأنهم لم يطلبوا معرفة نظرية للنفس على غرار مقصد الفلاسفة ومنهجهم ، بل اهتموا بالمعرفة التى لا غنى عنها للنفس لتقديم السلوك الخلقى واجتياز الطريق إلى الله ، ولذلك كان لهم موقفا أكثر من كونه دراسة ومذهبا لها ، يقول الدكتور أبوالوفا التفتازانى :
( إن أسمى غايات التصوف إنما تكمن فى تهذيب النفس وضبط الإرادة على منهج العبودية وإلزام المرء بمكارم الخلاق حتى ينفسح الطريق أمام السالكين نحو ربهم ليصللوا إلى مرضاته فى الدنيا والآخرة ) (1) .(1/91)
ومع ذلك فإن هذا الموقف ينبثق عندهم بالضرورة من مفهوم خاص للنفس وخصائصها وينبنى عليه تعامل خاص للصوفى مع نفسه ، كما يمكن القول بأن الموقف الصوفى من الذات الإنسانية ظهر منه فى النهاية مذهب خاص فى النفس ، سرى فى كتاباتهم وركزوا عليه باهتمام بالغ إذ كانت النفس الإنسانية شغلهم الشاغل ومراقبتها دأبهم المستمر .
ــــــــــــــــــــــــ
1- مدخل إلى التصوف الإسلامى د . أبو الوفا التفتازانى ص 9 طبعة دار الثقافة للنشر والتوزيع ، القاهرة سنة 1983م .
قلت : كلام التفتازانى محمول على الصوفية الأوائل لأنه إذا كانت هذه غاية التصوف عند المعاصرين من الصوفية ، فما موقف الدكتور التفتازانى من الطرق الصوفية بما حوته من أمور الشرك والعكوف على قبور الصالحين فى كل مكان واتشار البدع بكل أشكالها وأنواعها وهو شيخ مشايخ الطرق الصوفية ؟! وما موقفهم من المخالفات الصريحة التى لا يختلف عليها اثنان من وجود الأضرحة والقبور فى المساجد فى المدن والقرى ودعائها وعبادتها بالقلب والسان والجوارح ؟! هل هذه الأفعال توصل إلى مرضاة الله ؟! وهل الغاية من التصوف عند الأوائل هى ما يسعى إليه هؤلاء الجاهلون الذين يعملون لتدمير الإسلام فى قلوب الناس بالإصرار على هذا الشرك وتلك البدع ؟!
وقد غلب عليهم إثبات جانبين للنفس الإنسانية :
أحدهما : حسن طيب .
والآخر : شرير قبيح .
وهذا المبدأ ينبثق عندهم من قوله تعالى : { ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها } (1)
ولكن يبدو أن عناية الأوائل بجانب الفجور والهوى ومكمن الشهوات فى النفس كان أعظم من عنايتهم بجانب التقوى حتى يمكن القول إن بعضهم تناسوا هذا الجانب وتجاهلوه ، وليس ذلك من قبيل الحط من شأن النفس وطبيعتها والإجحاف بما فيها من خير ، ولكن من قبيل البعد عن مزالق الغرور وبقصد إنكار الذات والرجوع بالفضل كله لله عز وجل ، ولذلك بين القشيرى مراد الصوفية بالنفس فى قوله :(1/92)
( فهم إنما أرادوا بالنفس ما كان معلولا من أوصاف العباد ومذموما من أخلاقهم وأفعالهم ) (2) .
ـــــــــــــــــــــــ
1- الشمس / 8 1 وانظر تاريخ التصوف الإسلامى للدكتور قاسم غنى ص421 ترجمه عن الفارسية صادق نشأت ، طبعة النهضة المصرية القاهرة سنة 1390هـ .
2- الرسالة القشيرية حـ 1 ص 44 لاشك أن النفس المذكورة فى القرآن وصفت بأنها مطمئنة تارة ولوامة تارة وأمارة بالسوء تارة أخرى فليست كلها شر وإن كان أوائل الصوفية يلحقون النفس المطمئنة بالروح الممثلة لجانب الخير إلا أن الالتزام بالنص القرآنى أولى .
ويصور الهجويرى النفس البشرية على أنها حيوان دنىء يجب على الصوفى أن يحذر منه فيقول :
( النفس كلب باغ وجلد الكلب لا يطهر بالدباغ ) (1) .
ولقد عرض الدكتور كمال جعفر مفهوم النفس عند سهل بن عبد الله التسترى باعتباره معبرا عن مذهب أغلب الصوفية فى القرن الثالث الهجرى ، بل يعتبر مذهبه تفسير للمبدأ الأساسى الذى فهم معظم الصوفية بعده الذات الإنسانية من خلاله ، فهو يقرر أن مصدر الخير فى الإنسان هو روحه ومصدر الشر والهوى نفسه ، وكل منهما ينقسم إلى مراتب ، ولا يعنى ذلك انقسام الذات الإنسانية ، بل هى ذات واحدة بدرجات متعددة ، فالروح عليا وسفلى وأسمى نقطة فى الروح يسميها الروح النورى ذات الأصل الإلهى المباشر ، وأسفل نقطة فى الروح يمنحها هذا الصوفى يسميها تسمية غريبة وهى نفس الروح أى النقطة التى تنتهى عندها الروح وتبدأ بعدها أوصاف النفس (2) .
وتعتبر النفس العليا هى حلقة الاتصال بين الروح وبين النفس الحيوانية السفلى وهى مأوى الميول الحيوانية والشيطانية التى تظهر فى شهوة البطن والفرج واللهو واللعب ، والميول السحرية الإبليسية التى تظهر فى
ــــــــــــــــــــــــ
1- كشف المحجوب للهجويرى ص 258 .
2- من قضايا الفكر الإسلامى انظر تفريق بين مسرة بين النفس والروح ص 326 .
المكر والخداع والاستعلاء والاستكبار (1) .(1/93)
ومجاهدة أوائل الصوفية لأنفسهم ترمى إلى علاج كل ميل من هذه الميول فمنهاجهم وطرقهم كلها تقوم على أساس عدم الاستجابة لهذه الميول والعمل على تقويمها وعلاجها ومثال ذلك ما يذكره المحاسبى فى محاسبة النفس وأنها على وجهين :
أحدهما : بالنظر إلى مستقبل الأعمال .
والثانى : بالنظر إلى ما استدبره الإنسان منها .
فأما المحاسبة فى مستقبل الأعمال فقد دل عليها الكتاب والسنة وأجمع عليها علماء الأمة وفى كتاب الله تعالى :
{ واعلموا أن الله يعلم ما فى أنفسكم فاحذروه } (1) .
وهذا تحذير منه لنا وتنبيه على ما ذكره تعالى فى كل ما نأتى وما ندع ، واتقائه فى آداء فرائضه واجتناب نواهيه (2) .
وأما المحاسبة فيما مضى من الأعمال فيستدل لها المحاسبى بقوله تعالى :
{ وتوبوا إلى الله جميعا أيه المؤمنون لعلكم تفلحون } (4) .
ــــــــــــــــــــــــ
1- السابق ص 326 .
2- البقرة / 235 .
3- الرعاية لحقوق الله لأبى عبد الله الحارث بن أسد المحاسبى تحقيق د . عبد الحليم محمود ص 48 طبعة دار المعارف .
4- النور / 31 .
ويذكر القشيرى أن المعلولات من أوصاف العبيد على ضربين :
أحدهما : ما يكون كسبا له كمعاصيه ومخالفته .
والثانى : أخلاقه الدنيئة فهى نفسها مذمومة .
فإذا عالجها العبد ونازلها تنتفى عنه بالمجاهدة ، فالميل الحيوانى يعالج بالإيمان ، والشيطان يعالج بالعباد وكثرة التنفل ، والميل الإبليسى يمكن أن يداوى باللجوء إلى الله وهكذا (1) .
ومن ثم يرمى الصوفى من عمله إلى القضاء على التنازع المتعدد فى الاتجاهات الكائنة فى ذاته وإيجاد الانسجام الخلقى أو على الأقل التخفيف من الصراع الدائر بين هذين المبدأين بمراتبهما (2) .(1/94)
وعندما يتم للإنسان ذلك ينمحى الشر من نفسه ويقضى على الفجور فيها وترقى نفسه وتنتقل من كونها نفسا أمارة بالسوء إلى كونها نفسا لوامة ثم نفسا مطمئنة ، ويعتبر أوائل الصوفية الأنانية وحب الذات هما مصدر الشر فى الإنسان ، وبالتالى يعتبر مصدر الشر فى الوجود هو إبليس لعنه الله ، وذلك لحبه لذاته وأنانيته والركون إلى نفسه دون الاستعانة بالله أو الخضوع له .
والروح تمثل الانسان بما ينبغى أن يكون ، بينما النفس تمثله بما هو ـــــــــــــــــــــــ
1- الرسالة القشيرية حـ 1 ص 262 .
2- التصوف طريقا وتجربة ومذهبا ص 97 .
كائن (1) .
وهدف الصوفى فى الحياة ، هو الانتقال من ذاته الكائنة فى النفس وأنانيتها وفجورها إلى الاستضاءة بالروح باعتبارها المستوى الانسانى الأمثل ومصدر التكريم الانسانى ، ومن ثم فالصوفى يرى كمال الذات الانسانية فى الارتفاع بالخلق القويم والنجاة من أسفل السافلين .
وهذه الحالة تتمل فى المكانة التى خلق الله آدم عليها عند الامتداد الغيبى للوجود الانسانى فى الزمان حيث أسجد له ملائكته بعد أن نفخ فيه من روحه .
فالروح هى مبرر تكريم الانسان وارتفاعه إلى هذا القمة السامية بين المخلوقات ، والتى عبر عنها القرآن الكريم بالخلافة فى الأرض ، وقد سجدت الملائكة تسليما له بالخلافة واستجابة لأمره سبحانه وتعالى وامتنع الشيطان أن يقر له بها ظلما وعلوا ، قال سهل بن عبد الله فى قوله تعالى : { وإذا قال ربك للملائكة إنى جاعل فى الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إنى أعلم ما لا تعلمون } (2) .
قال : إن الله تعالى قبل أن يخلق أدم عليه السلام قال للملائكة : إنى ــــــــــــــــــــــــ
1- السابق ص 97 .
2- البقرة / 30 .(1/95)
جاعل فى الأرض خليفة ، وخلق آدم عليه السلام من طين العزة من نور محمد صلى الله عليه وسلم (1) وأعلمه أن نفسه الأمارة بالسوء أعدى عدو له ، ويستطرد التسترى فيذكر أن الله خلق النفس وجعل فيها خواطر وهمّا وإرادة وأمرها بإدامة الافتقار إليه .
فإن أبدى عليها طاعة قالت : أعنى .
وإن حركت إلى معصية قالت : اعصمنى .
وإن حركت إلى نعمة قالت : أوزعنى .
وإن قال لها اصبرى على البلاء قالت : صبرنى .
ـــــــــــــــــــــــ
1- خلق الله آدم عليه السلام من طين مكون من ماء اختلط بالتراب كما قال تعالى { وإذ قال ربك للملائكة إنى خالق بشرا من طين فإذا سويته ونفخت فيه من روحى فاقعوا له ساجدين } ص / 71 ، 72 .
أما القول بأن آدم عليه السلام خلق من نور محمد من طين العزة فهو باطل لانعدام الدليل وتعارضه مع الأدلة الصحيحة ، وكل ما ورد فى كون النبى صلى الله عليه وسلم هو أول ما خلق الله ، كالحديث الذى يروى عن جابر بن عبد الله رضى الله عنهما أنه قال : ( قلت يارسول الله : بأبى أنت وأمى أخبرنى عن أول شئ خلقه الله قبل الأشياء ، قال : إن الله تعالى خلق قبل الأشياء نور نبيك ياجابر ، ثم خلق منه كل خير وخلق بعده كل شئ ) وما فى معناه فهو باطل لا يصح ، انظر كشف الخفا ومزيل الإلباس فيما اشتهر على ألسنة الناس ، للعجلونى ص 263 وما بعدها .
ولا يساكن قبله أدنى وسوسة لها دون الرجوع عنها إلى ربه .
وقد جعل الله طبع النفس فى الأمر ساكنا وفى النهى متحركا وأمر الإنسان بأن يسكن عند المتحرك ، ويتحرك عند الساكن بلا حول ولا قوة إلا بالله ، أى لا حول له عن معصيته إلا بعصمته ولا قوة له على طاعته إلا بمعونته (1) .(1/96)
ثم أدخل الله الإنسان ممثلا فى آدم عليه السلام وزوجته تجربة لتحقيق الذات إذ خلقه وكيفه على نحو يحقق ذلك ، ليصل إلى أقصى كمال ممكن من خلال محبة الله له ورضاه عنه ، فأمره بدخول الجنة والأكل منها رغدا حيث شاء ، ونص عليه فى النهى الأكل من الشجرة التى تسبب له الهلاك .
{ وقلنا ياآدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغدا حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين } (2) .
ويفسر التسترى كيف ظهر حب النفس وكان سببا فى الهلكة عندما دبر الانسان لصالحه فيقول :
( فلما دخل الجنة ورأى ما رأى قال : لو خلدنا وإنما لنا أجل
ــــــــــــــــــــــــ
1- تفسير سهل بن عبد الله ص 10 بتصرف .
2- البقرة / 35 .
مضروب إلى غاية معلومة ، فأتاه إبليس من قبل مساكنه قبله بوسوسه نفسه فى ذلك فقال :
هل أدلك على شجرة الخلد التى تتمناها فى هذه الدار وهى سبب البقاء والخلود وملك لا يبلى ) (1) .
فكان الشيطان عاملا مساعدا للنفس فى إتمام المعصية وإحداث النسيان .
ويقول التسترى : ( ألحق الله به وسوسة العدو لسابق علمه فيه وبلوغ تقديره وحكمه العادل عليه ، وأول نسيان وقع فى الجنة نسيان آدم عليه السلام وهو نسيان عمد لا نسيان خطأ وهو المراد من تركه لعهد الله ) (2) .
والتسترى يقرر بذلك الامتداد الغيبى للإنسان فى الزمان قبل وجوده فى الحياة الدنيا وأنه لا يحيا فى الدنيا بمعزل عن السابق أو اللاحق لها فوجوده الوضعى الذى نحسه محصور بين وجودين غيبيين والعالم المشهود ليس سوى صفحة بين عالمين غيبيين ، وأن الحكمة الإلهية اقتضت ذلك لما سبق فى تقدير الله وعلمه من ابتلائهم واستخلافهم فى الأرض .
ــــــــــــــــــــــــ
1- السابق ص 10 .
2- السابق ص 10 .
قال أبو سعيد الخراز (1) :(1/97)
( إن الله إنما أهبط آدم عليه السلام إلى الدنيا عقوبة ، وجعلها سجنا له حين أخرجه من جواره وصيره إلى دار التعب والاختيار فمن ملك من أهل الصدق شيئا من الدنيا فهو معتقد أن الشئ لله عز وجل لا له إلا من طريق حق ما خوله الله تعالى ، وهو مبلى به حتى يقوم بالحق فيه ) (2) .
فالخلافة فوق أنها وظيفة الإنسان الكونية وتحقيقها يمثل الكمال الإنسانى فى إثبات الذات إلا أن الصوفى لا يعمل لتحقيق هذه المكانة الدنيوية فقط وإنما لكونها سبيل الوصول إلى الهدف الأسمى وهو محبة الله ورضاه ، ولا يكون ذلك عنده إلا باخضاع النفس للروح والخلوص بها من دار الابتلاء إلى دار البقاء فى الآخرة وبهذا يكون تحقيق الذات الإنسانية عند مشايخ الصوفية الأوائل .
ــــــــــــــــــــــــ
1- هو أبو سعيد أحمد بن عيسى الخراز ، بغدادى النشأة والمنبت ولد فى أوائل القرن الثالث الهجرى ، وهو من أئمة القوم وجلة مشايخهم ، وقيل : إنه أول من تكلم فى علم الفناء ، صحب ذا النون ونظراءه وتوفى سنة 277 هـ وقيل سنة 279 هـ ، انظر حلية الأولياء حـ 1 ص 117، الرسالة القشيرية حـ 1 ص 276 ومرآة الجنان حـ 2 ص 223 ، تاريخ الإسلام وطبقات المشاهير والأعلام حـ 16 ص 22 .
2- الطريق إلى الله أو كتاب الصدق لأبى سعيد الخراز ص 33 .
سئل الجنيد بن محمد عن غاية السائرين فقال :
( إنه الظفر بنفوسهم ) (1) .(1/98)
وتحقيق الذات الإنسانية بهذا المفهوم يأخذ معنى لدى أوائل الصوفية مخالفا عن نظيره عند الآخرين ، حيث أن تحقيق هذه الذات لا يكون ببروزها ولا يعنى ذلك استقلالها واعتدادها بنفسها ، كما أن ذلك لا يكون بتعقلها للحقائق الكونية واستطالة الانسان فيها ، ولكن تحقيق الذات الإنسانية عند الصوفية يكون بالتحرر مما سوى الله وترك العبد لنفسه فيتحرر من قيودها ويؤدى العبودية على الوجه اللائق ، ولذلك فإن التسترى يشير إلى المعنى الذى يحصل بدخول آدم إلى الجنة وخروجه منها ، فيذكر أن فعل آدم صار علما وسنة فى ذريته إلى يوم القيامة ، ولم يرد الله تعالى معانى الأكل فى الحقيقة وإنما أراد معانى مساكنه الهمة مع شئ هو غيره .
فآدم عليه السلام لم يعتصم من الهمة والفعل فى الجنة فلحقه ما لحقه . من أجل ذلك وكذلك من ادعى ما ليس له وساكنه قلبه ناظرا إلى هوى نفسه فيه ، لحقه الترك من الله عز وجل مع ما حل عليه من نفسه ، إلا أن يرحمه فيعصمه من تدبيره ، وينصره على عدوه وعليها ، فأهل الجنة معصمون فيها من التدبير الذى كانوا به فى دار الدنيا لأن آدم لم ــــــــــــــــــــــــــــــ
1- رسائل الجنيد ضمن كتاب التصوف طريقا وتجربة ومذهبا ص 303 .
يعصم من مساكنة قلبه تدبير نفسه بالخلود (1) .
فليس للإنسان عدو أشد من نفسه ، وهو يرى أن البلاء يكمن فى الانفرادية التى هى أصل الأنانية (2) .
ومن ثم فإن الذات الإنسانية فى مفهوم أوائل الصوفية وجدت فى الدنيا كامتداد لما سبق فى الغيب وتنتقل بعدها إلى خالقها ، كل ذلك للقيام بواجبها فى الدنيا على النحو الذى يرضى الله سبحانه ، فإن فعلت فقد وصلت إلى الكمال فى تحقيق الذات وتحقيق الهدف من وجودها .
وهذه الحقيقة يقررها أبو سعيد الخراز فى قوله :
( فأيقن القوم أنهم وأنفسهم لله تعالى ، و كذلك ما خولهم وملكهم فإنما هو له ، غير أنهم فى دار اختبار وبلوى وخلقوا للإختيار والبلوى فى هذه الدار ) (3) .(1/99)
ثم يروى عن عمر بن الخطاب رضى الله عنه حين سمع : { هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا } (4) .
ــــــــــــــــــــــــ
1- تفسير القرآن العظيم لسهل بن عبد الله ص11 .
2- التصوف طريقا وتجربة ومذهبا ص 98 .
3- كتاب الصدق ص 33 .
4- الإنسان / 1 .
قال : ياليتها ما تمت ؟! يعنى قبل قراءة : { إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه } (1) فهمهم عمر وعجز فى التلاء عجزا .
يقول أبو سعيد : ( ومعنى قول عمر رضى الله عنه ياليتها ما تمت يعنى لم يخلق حين سمع الله يقول : { لم يكن شيئا مذكورا } وذلك من معرفة عمر رضى الله عنه بواجب حق الله ، وقدر أمره ونهيه وعجز العباد عن القيام به ، وقيام الحجة لله تعالى عليهم عند تقصيرهم وما تواعدهم به إذا ضيعوا ) (2) .
* ويمكن أن نلخص ما سبق فى النقاط الآتية :
1- أن الإنسان له وجود غيبى قبل الزمان والمكان .
2- أن الإنسان مستخلف فى الأرض وتحقيق الذات يكمن فى طاعة الله والقيام بما أوجب عليه .
3- أن مصدر الخير فى الإنسان روحه ومصدر الشر نفسه .
4- أن نفسه الأمارة بالسوء أعدى عدو له .
5- أنه فى الجنة معصوم من التدبير الذى كان به فى الدنيا .
ــــــــــــــــــــــــ
1- الإنسان / 2 .
2-كتاب الصدق ص 33 .
وهذا الإجمال يتطلب دراسة الموقف الصوفى لأوائل الصوفية من إمكانية تحقيق الإنسان لدوره الأساسى فى الدنيا وكيف كيفه الله لتحقيقه ؟ مما يدفعنا إلى البحث عن أصالة الحرية فى الذات الإنسانية ومقومات الاختيار فيها وعلاقة الإرادة الإنسانية الحادثة بالإرادة الإلهية المطلقة ، وكيف تتحقق المساءلة ويتم توقيع الجزاء مع عدم المساس بعدل الله سبحانه وتعالى ؟ وهذا ما سيتضح من الأبحاث الأتية فى هذا الفصل إن شاء الله .
*** المبحث الثانى ***
الإرادة الحرة وأصالتها فى الذات الإنسانية(1/100)
أجمع أوائل الصوفية على أن الإنسان حر مختار لأفعاله ليس بمستكره عليها وأنها من خلق الله وتقديره قال الكلاباذى : ( وأجمعوا على أن حركة المرتعش خلق الله فكذلك حركة غيره ، غير أن الله خلق لهذا حركة واختيارا وخلق للأخر حركة ولم يخلق له اختيارا ) (1) .
ويستدل الكلاباذى على حرية الإرادة الإنسانية بالسلوك الخلقى الذى يكتسب الإنسان به الإيمان والكفر والطاعة والمعصية وهذا السلوك يستحيل الجبر فيه فيقول :
( والله خلق لهم الاختيار والاستحسان والإرادة للإيمان والبغض والكراهية والاستقباح للكفر ، قال تعالى : { ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه فى قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان } ) (2) .
فموضوع الاختيار البشرى هو الأفعال الخلقية التى يحاسب عليها الإنسان فى الدنيا بإقامة الحدود وفى الآخرة بالجزاء ، فهذا الاختيار هو أساس المسؤلية عند الصوفية وأساس الكسب فى أفعال الإنسان .
ــــــــــــــــــــــــ
1- التعرف لمذهب أهل التصوف ص 62 .
2- الحجرات / 7 .
ويذكر الكلاباذى أنهم أثبتوا للإنسان أفعالا اختيارية وأخرى جبرية وأن كل ما يحاسب عليه الإنسان هو اختيارى ، لأن الإجبار عندهم هو أن يستكره الفاعل على إتيان ما يكرهه ويترك الذى يحبه وهذه الصفة ليست فى اكتسابهم الإيمان والكفر والطاعة والمعصية ، بل اختار المؤمن الإيمان وأحبه واستحسنه وآثره على ضده وكره الكفر وأبغضه واستقبحه ولم يرده وآثر عليه ضده (1) .
كما ينقل إجماعهم على ذلك بقوله : ( وأجمعوا أنهم مختارون لأكسابهم مريدون لها ، ليسوا بمحمولين عليها ولا مجبرين فيها ولا مستكرهين عليها ، فمعنى قولنا مختارون : أن الله خلق لنا اختيارا فانتفى الإكراه وليس ذلك على التفويض ) (2) .(1/101)
ومن ثم فإننا نستطيع القول بأن الركيزة الأساسية التى قام عليها الاختيار فى الذات الإنسانية عند الصوفية هى الإرادة الحرة ، فالإرادة لها شأن كبير فى تراث أوائل الصوفية وكتاباتهم تدل على اعتقادهم أصالتها فى الذات الإنسانية ، فهم أهل إرادة لله تارة ، وأهل تجرد عن الإرادة لما سواه تارة أخرى ، وما آداب المريدين إلا توجيه لتلك الإرادة فى العمل على مرضاه الله .
ــــــــــــــــــــــــ
1- السابق 65 .
2- السابق 66 .
يقول الحكيم الترمذى فى وصف الصوفية : أهل الإرادة على ضربين :
1- منهم من سار فى طريقه إلى ثواب الله يؤدى فرائضه ويتجنب نواهيه ومحارمه ثم يتطوع من أنواع البر ما تهيأ له .
2- ومنهم من سار إلى الله ليعبده فيؤدى فرائضه ويتجنب محارمه ثم يتحرر من آفات الدنيا وحبها بقطع العلائق من باطنه (1) .
ويستدل القشيرى بقوله تعالى : { ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشى يريدون وجهه } (2) .
على أن الصوفية أثبتوا للمريدين اختيارا به ساروا فى طريق القرب إلى الله (3) .
والإرادة عندهم سابقة على الفعل بحيث يمكن اعتبارها علته والدافع لوقوعه يقول القشيرى :
( إنما سميت هذه الصفة إرادة ، لأن الإرادة مقدمة على الفعل وعلى كل أمر ، فما لم يرد العبد شيئا لم يفعله ) (4) .
ــــــــــــــــــــــــ
1- آداب المريدين للحكيم الترمذى تحقيق الدكتور عبد الفتاح عبد الله بركه ص 33 : 34 .
2- الأنعام / 52 .
3- الرسالة القشيرية حـ 2 ص 433 .
4- السابق حـ 2 ص 433 .
ولعلهم كانوا يقصدون بالنية توجيه الإرادة للعمل إلى هدف واحد مع اختلاف الأعمال والعبادات ، هذا الهدف هو إرضاء الله ومحبته ولذلك قالوا :
( إن النية هى روح العمل وقلب المؤمن ، فالنية أو القصد إنما يجئ تمام الأعمال على شبيه أول القصد منه ) (1) .
* الفرق بين النية وحديث النفس :(1/102)
ويسمى الحارث المحاسبى الإرادة وعملها قبل ظهور الفعل على الجوارح : اعتقاد القلب ، ويفرق بينه وبين حديث النفس مستدلا بقوله تعالى :
{ لا يؤاخذكم الله باللغو فى أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم } (2) .
فكسب القلب هو ماعقده داخله بفعل الإرادة ، ويأتى العمل فى الجوارح تبعا لها فإن تخلف العمل فى الجوارح مع قيام الإرادة ، فإنها عقد القلب وهو مؤاخذ بها ، ويذكر المحاسبى الدليل على ذلك وهو ماورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول فى النار قيل :
ــــــــــــــــــــــــ
1- قوت القلوب حـ 1 ص 175 .
2- البقرة / 225 .
يارسول الله هذا القاتل فما بال المقتول قال : لأنه أراد قتل صاحبه ) (1) .
يقول المحاسبى معقبا : ( ألا ترى أنه بإرادة قلبه قتل صاحبه شهد له النبى صلى الله عليه وسلم بالنار ولم يقتل وقد نوى ، والله عز وجل يؤاخذه بباطنه وبعقد قلبه إذا كان مقيما على الفعل مصرا على ذلك ) (2) .
فالإرادة عند المحاسبى محلها القلب وهى التى تكسب العمل معنى الخير والشر والصلاح والفساد وهذا الاعتقاد هو مادل عليه قوله تعالى :
{ كل نفس بما كسبت رهينة } (3) .
وقوله صلى الله عليه وسلم : ( إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ
ــــــــــــــــــــــــ
1- أخرجه البخارى فى كتاب الإيمان ، باب وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا برقم (31) ومسلم فى كتاب الفتن ، باب إذا توجه المسلمان بسيفيهما برقم (2888) والنسائى فى كتاب تحريم الدم ، باب تحريم القتل حـ 7 ص 125 ، والبيهقى حـ 8 ص 190 وأحمد حـ 5 ص 48وابن ماجه برقم (3965) .
2- القصد والرجوع إلى الله ، للحارث بن أسد المحاسبى ، تحقيق عبد القادر أحمد عطا ص 92 : 93 ، وانظر قوت القلوب حـ 2 ص 161 .
3- المدثر / 38 .(1/103)
ما نوى ، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته لما هاجر إليه ) (1) .
فالنية هى فعل القلب واعتقاده وهى فى باطن الإنسان وجذور القلب وهى موضع النظر والعمل فى متابعة الملائكة لأفعالها ففى الحديث :
( إذا أراد عبدى أن يعمل سيئة فلا تكتبوها عليه حتى يعملها فإن عملها فاكتبوها بمثلها ، وأن تركها من أجلى فاكتبوها له حسنه وإذا أراد أن يعمل حسنة فلم يعملها فاكتبوها له حسنة ، فإذا عملها فاكتبوها له بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف ) (2) .
فالحديث دل على أن الأعمال مبنية على فعل الإرادة ، وفعل الإرادة
ــــــــــــــــــــــــ
1- أخرجه البخارى فى كتاب الإيمان ، باب من هاجر فله ما نوى برقم (54) ومسلم فى كتاب الإمارة ، باب إنما الأعمال بالنية برقم (1907) وأبو داود فى كتاب الطلاق ، باب فيما عنى به الطلاق والنيات برقم (2201) والنسائى فى كتاب الطهارة ، باب النية فى الوضوء برقم (58) وابن ماجه فى كتاب الزهد باب النية برقم (4227) وابن الجارود فى المنتقى برقم (64) والدارقطنى فى سننه حـ 1 ص 50 .
2- أخرجه البخارى فى كتاب التوحيد ، باب يريدون أن يبدلوا كلام الله برقم (7501) وأخرجه مسلم فى كتاب الإيمان ، باب إذا هم العبد برقم (128) وأخرجه أحمد فى المسند حـ 2 ص 242 .
هو أساس صلاح القلب أو فساده كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( ألا إن فى الحسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهى القلب ) (1) .
وأما حديث النفس عند المحاسبى فهو مختلف عن الإرادة ، حيث ينشأ عن الخواطر التى تدور فى القلب وغالبا ما تكون من الفكر والروية ، وقد مثل له بحديث بن مظعون حيث قال :
يارسول الله نفسى تحدثنى أن أطلق خوله .
فقال : مهلا ، فإن من سنتى النكاح .
قال : نفسى تحدثنى أن أجب نفسى .
قال : مهلا ، إن خصاء أمتى دؤب الصيام .(1/104)
قال : نفسى تحدثنى أن أترهب بنفسى .
قال : مهلا ، رهبانية أمتى الحج والجهاد .
قال : نفسى تحدثنى أن أترك اللحم .
قال : مهلا ، فإنى أحبته ولو أصبته لأكلته ولو سألته ربى
ــــــــــــــــــــــــ
1- أخرجه البخارى فى كتاب البيوع ، باب الحلال بين والحرام بين برقم (2051) وأبو داود فى كتاب البيوع ، باب اجتناب الشبهات برقم (3329) والنسائى فى كتاب البيوع باب اجتناب الشبهات حـ 7 ص 241 ، وأحمد حـ 4 ص 270 .
لأطعمنى ) (1) .
يقول المحاسبى : ألا ترى أن قول النبى صلى الله عليه وسلم : مهلا حيث يقول عثمان : نفسى تحدثنى فحديث النفس إنما هو تروّيه والدليل على أنه تروّيه أنه لم يفعل ولم يمض فيما حدث به نفسه ، إذ لم يستوطن اعتقاد الفعل بقلبه ولم تسكن النفس إلى ذلك وإنما يحل بقلبه خطرات بغير استيطان (2) .
ويذكر المحاسبى أن هذه الإرادة لها وجهة واحدة بين طريقين معروضين أمامها فإذا توجهت إلى أحدهما ، ستفارق الآخر حتما ومحال أن يجمع بين نيتين ، فلا يكون قلب مصرا على معصية الله ومستعملا بكمال طاعته ، والدليل على ذلك عنده هو قوله الله تعالى : { ما جعل الله لرجل من قلبين فى جوفه } (3) .
ــــــــــــــــــــــــ
1- حديث عثمان بن مظعون ورد بألفاظ أخرى وهو حسن لغيره ، انظر الإحسان فى تقريب صحيح ابن حبان حـ 1 ص 185 ومصنف عبد الرزاق برقم (10375) ورواه البزار بإسناد صحيح برقم (1458) وأحمد فى المسند حـ 6 ص 268 والبيهقى فى مجمع الزوائد حـ 4 ص 301 وأخرجه ابن سعد فى الطبقا ت حـ 3 ص 394 .
2- القصد والرجوع إلى الله ص 95 .
3- الأحزاب / 4 .
فإذا كان القلب مشتغلا بالإصرار عمى عن البصيرة ، ولا يرى حسنا تتوق إليه النفس رغبة فى ربه ، ولا قبحا يتجنبه رهبة منه ، فتجره أسباب الفتنة إلى مصارع الهلكة (1) .
والنية عند أوائل الصوفية ركن من أركان الإيمان وهى عقد القلب كما سبق ويلزم فيها الإخلاص لقبول العمل يقول أبو سعيد الخراز :(1/105)
( إن الإخلاص الذى أمر به الله عز وجل فى قوله تعالى :
{ فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا } (2) .
هو أن يكون العبد يريد الله عز وجل بجميع أعماله وأفعاله وحركاته كلها ظاهرها وباطنها لا يريد بها إلا الله وحده ) (3) .
فإرادة العبد لمرضاة الله تنفى الشرك ، ولذلك جعل المحاسبى الإخلاص فرض فى جميع الأعمال ، فعندما سئل عن كونه فرضا أو فضيلة ؟
قال : الإخلاص لله عز وجل فرض لازم لجميع الأعمال لأن الله عز وجل يقول :
ــــــــــــــــــــــــ
1- السابق ص 95 .
2- الكهف / 110 .
3- كتاب الصدق لأبى سعيد الخراز ص 17 .
{ وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء } (1) .
فكل من داخله إعجاب أو رياء أو حب محمدة أو كراهية مذممة فى اسقاط المنزلة ، فليس بمخلص فى عمله لأن الله عز وجل لا يقبل إلا ماكان خالصا لوجهه ) (2) .
ويضيف المحاسبى فى كتابه الرعاية تفصيلا دقيقا فى بيان الإخلاص ونفى الرياء وأن إرادة العبد هى الفيصل فى ذلك ، فالرياء عنده ينافى إرادة العبد لمرضاة الله ، وصلاح النية يكمن فى إرادته للحق ، فالنية هى الممثلة لقيمة العمل وأصلها الإرادة ، والعمل مع فساد النية مردود على صاحبه ويجازى المرء عن نيته إذا تخلف عمل الجوارح بحصول العجز وفقد الاستطاعة كمن أتم العمل سواء بسواء .
ويضرب المحاسبى لذلك مثلا برجل عزم من الليل أن يقتل النفس التى حرم الله ، أو يفعل فاحشة بحرمة مسلم ، أو يكفر بالله إذا هو أصبح ونوى ذلك بقلبه وعزم بإرادته ثم مات على تلك النية وذلك الإصرار حشره الله على ما عقده عليه ونوى ، فإذا حل الإصرار عن القلب وعزم على عدم الفعل وندم على ما كان منه فهو تائب إلى الله عز وجل مأجور .
ــــــــــــــــــــــــ
1- البينة / 5 .
2- القصد والرجوع إلى الله ص 93 ، 94 وانظر الرعاية لحقوق الله ص 132 .
ودليله فى ذلك قول النبى صلى الله عليه وسلم :(1/106)
( يغزو جيش الكعبة ، فإذا كانوا ببيداء من الأرض يخسف بأولهم وآخرهم ، قالت عائشة : كيف يخسف بأولهم وآخرهم ، وفيهم أسواقهم ومن ليس منهم ، قال : يخسف بأولهم وآخرهم ثم يبعثون على نياتهم ) (1) .
وقد تعارف مشايخ الصوفية فى أواخر القرن الثالث الهجرى على مصطلح ( القصود ) ومعناه عندهم صدق الإرادات والنيات المقرونة بالنهوض إلى الله (2) .
قال أحمد بن أبى الحوارى (3) : ( من قصد فى قصوده ـــــــــــــــــــــــ
1- أخرجه البخارى فى كتاب الحج ، باب هدم الكعبة برقم (1595) وأخرجه مسلم فى كتاب الفتن ، باب اقتراب الفتن برقم (2882) وأبو داود فى كتاب المهدى برقم (4289) وانظر الرعاية لحقوق الله ص 127 والقصد والرجوع إلى الله ص 94 .
2- اللمع ص 446 ، 447 وكشف المحجوب ص 472 ، 473 .
3- هو أحمد بن ميمون المكنى بأبى الحسن من أهل دمشق ، قال عنه الجنيد : ريحانة الشام ، طلب العلم ثلاثين سنة ثم حمل كتبه إلى البحر فأغرقها ، وكان من الزاهدين الورعين ، مات سنة 230 هـ انظر الرسالة القشيرية حـ 1 ص 105 ، حلية الأولياء حـ 1 ص 32 ، صفة الصفوة حـ 4 ص21 ، طبقات الشعرانى ص 96 ، مرآة الجنان حـ 2 ص 153 ، تهذيب التهذيب حـ 1 ص 49 .
قلت : من أغرق كتب العلم فى البحر فكيف يكون ريحانه .
غير الحق فقد عظمت استهانته بالحق ) (1)
فالإنسان مثاب فى المقام الأول على إرادته وما ينشأ عنها من قصود ورغبات ونيات ، أما الحركات والسكنات التى تحدث فى أعمال الجوارح وتنشأ عنها الأفعال ، فهى عندهم فعل الله وخلقه سواءا كانت طاعة أو معصية وهى تابعة لإرادة العبد ونيته ، والنية هى التى تكسب العمل النسبة إلى معانى الخير أو الشر .(1/107)
وهذا الفهم الصوفى لأوائل الصوفية يوفق بين كون الأفعال مخلوقة لله من جهة وكون العبد مسؤلا عن فعله مكتسبا له مجازى عليه من جهة أخرى ، فالأفعال مخلوقة لله وهى على حالة محايدة لا هى بالخير ولا هى بالشر ، فإذا تلبست بها إرادة العبد ظهر معنى لأفعال الحلال والحرام .
ولبيان الفكرة من المنطق الصوفى لأوائل الصوفية نضرب مثلا بمباشرة الرجل للمرأة فهو فعل واحد ، ولكنه يكون حلالا يؤجر عليه المرء كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( وفى بضع أحدكم صدقة ) (2) .
ــــــــــــــــــــــــ
1- اللمع ص 447 .
2- أخرجه الإمام مسلم فى كتاب الزكاة ، باب فضل النفقة على الأقربين والزوج والأولاد برقم (53) وأبو داود فى كتاب التطوع برقم (13) وأحمدحـ5 ص167 .
وتارة يكون زنا يعاقب عليه كما قال تعالى :
{ الزانية والزانى فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة } (1) والفاصل بين هاتين الحالتين نية العبد وموافقة الفعل لمنهج الله .
ويشترط الصوفية الأوائل شرطين لكى يكون العمل مقبولا يحمل معنى الخير وطاعة الله :
أحدهما : مطابقة العمل للشريعة وأحكام الدين .
والثانى : توجيه الإرادة وإخلاص القصد لله بحيث يكون مبتغاه من العمل مرضاة الله ولا شئ سوى مرضاة الله.
ويحبط العمل عندهم إذا خلا من أحد هذين الشرطين (2) .
ويذكر الهجويرى فى كشف المحجوب أن أوائل الصوفية يرون اختيار الله لهم هو الذى يفصل فى معنى الخير والشر ، ويجب أن يتفوق مراد الله على مرادهم لأنفسهم ، فيرضون بكل ما اختاره لهم من خير أو بعد عن الشر (3) .
ــــــــــــــــــــــــ
1- النور /2 .
2- القصد والرجوع إلى الله ص 68 .
3- كشف المحجوب ص 470 .
سئل أبو اليزيد البسطامى (1) عن الأمير فقال : ( هو من لا اختيار له ، ومن كان اختيار الله اختياره ) (2) .(1/108)
فالإرادة التى يتم بها الفعل منسوبة إلى العبد أصالة وهى مناط الثواب والعقاب ، ويفرد الصوفية فصولا فى كتبهم عن الرياء واستجلاب رضا الناس والحكام وإرضاء النفس وغير ذلك ، كبدائل لابتغاء مرضاة الله أمام الاختيار الإنسانى ، وذلك كله يوضح اعتقادهم باختيار الانسان بين طاعة الله وبين معصيته ، أى بين الحلال والحرام وبين الخير والشر .
ويكثر الصوفية الأوائل من الكلام عن مراحل النية كالهمة والإرادة والعزيمة والتفرقة بين الرياء والمداهنة والمجاملة والنفاق وخصوصا فى كتاب المحاسبى الرعاية لحقوق الله ، وهذا الكتاب فى جمتله دستور
ــــــــــــــــــــــــ
1- هو أبو يزيد طيفور بن عيسى البسطامى ، كان جده مجوسيا ، أسلم ومعه ثلاثة إخوه كلهم زهاد عباد ، وكان أجلهم حالا ، وهو من أهل بسطام ، ورد عنه كلام بديع فى اتباع السنة ، وورد عنه أيضا كلام شنيع كقوله : ما فى الجبة إلا الله وغير ذلك والشأن فى صحته إليه ، انظر حلية الأولياء حـ 10 ص 33 ميزان الاعتدال حـ 1 ص 481 مرآة الجنان حـ 2 ص 173 والبداية والنهاية حـ 11 ص 35 طبقات الأولياء لابن ملقن ص 397 وإحياء علوم الدين لأبى حامد الغزالى حـ 4 ص 356 ، 357 .
2- كشف المحجوب ص 470 .
عميق يحمل الفهم الدقيق للخواطر النفسية والطريقة المثلى للإيمان العميق والاتصال الوثيق مع الله تعالى وعنوان الكتاب نفسه دليل على ذلك وكذلك كتاب الوصايا .
وهذان الكتابان الى جانب ما خلفه التسترى والمكى وغيرهما من تراث يشير بصورة واضحة إلى أهمية العوامل والدوافع النفسية والوجدانية فى الحياة الصوفية عند الأوائل من ناحية وأهمية النظرة إلى الضروريات والأسباب الواقعه فى حياتهم فى تشكيل مفهوم الحرية الإنسانية من ناحية أخرى .
يقول الدكتور كمال جعفر : وخلاصة الدراسات النفسية والأخلاقية فى هذا الميدان أن فى الإنسان مبدأين يتصارعان :
[1- مبدأ يدعوا إلى التسفل وقد أمر الإنسان بمخالفته .(1/109)
[2- مبدأ يدعو إلى الترقى وقد أمر الإنسان بمعاضدتة .
والناجح فى الحياة الروحية من أعطى المبدأ الثانى اليد العليا (1) .
ويربط أغلب الأوائل من مشايخ الصوفية ربطا محكما بين تطبيق الشرع والالتزام بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وبين مبدأ الترقى ، حين يصرون على أن النجاح لا يكون إلا بتطبيق شريعة الله عز وجل وعدم مخالفة الكتاب والسنة ، حيث أنه لايوجد مصدر ــــــــــــــــــــــــ
1- التصوف طريقا وتجربة ومذهبا ص 95 ، 96 .
للخير عندهم سوى طاعة الله وتطبيق شريعته .
ومن ثم فالشر والعمل بخلاف ما أمر به الوحى ولغير وجه الله عز وجل هو شرك خفى أو شرك ظاهر أو كفر أو معصية ، ويغلب الشر على الفعل بمقدار غلبه الكفر والمعصية على الإيمان والطاعة فيه ، فليس للشر معنى عقلى مستقل فى الوجود بل هو ما حرمه الله وكذلك الخير كل ما أمر الله به .
ولقد أحسن الجنيد حينما لخص ذلك فى عبارة واحدة فقال :
( الطرق كلها مسددة على الخلق إلا من اقتفى أثر النبى صلى الله عليه وسلم ، فإن طرق الخيرات مفتوحة عليه ) (1) .
ومن ثم يرفض أوائل الصوفية القول بإيجاب المعارف العقلية وينفون قدرة العقل البشرى وحده على معرفة الخير والشر ، ومعرفة ما يؤدى إلى كل منهما من الأفعال ، حيث لا يوجد خير بالذات ولا يوجد شر بالذات ، بل أوامر الله خير ونواهيه شر ، ومن ثم وجب معرفة ذلك من الوحى وليس من العقل وحده .
فمصدر الشر إذا عند مشايخ الصوفية هو اختيار العبد وإرادته من الفعل غير مرضاة الله أو مخالفته لأوامر الله التشريعية ، وحيث أن الإرادة الإنسانية أصيلة عند العبد وهو مسؤل عنها فإن أوائل الصوفية ــــــــــــــــــــــــ
1- سبق تخريجه انظر ص 78 .
نزهوا الله بذلك عن فعل الشر أو إرادته له إرادة شرعية من حيث أنه نهى عنه وإن كان الفعل مخلوقا له .(1/110)
ومما تقدم فى المبحث الأول نجد أن أوائل الصوفية قرروا أن الفعل من حيث كونه مخلوقا لله عز وجل هو فعل محايد ليس شرا ولا خيرا وإنما الذى يصبغ عليه الصبغة الخلقية هو كسب العبد له حسب اختيار ونية معينة .
فإن كان الكسب للفعل ابتغاء مرضاة الله وهو واقع حسب شرعه ومنهجه فإنه يصبح طاعة وخيرا ، فالذى جعله خيرا هو نية العبد وكسبه وإن كان الكسب لفعل ابتغاء الدنيا وحسب الهوى ورغبة للنفس وفجورها مخالفا لحكم الله وأوامره التشريعية كان شرا .
وهنا يظهر التوافق بين اعتقاد أهل السنة والجماعة ومشايخ الصوفية الأوائل فى إبرازهم لحقيقة القرآن كما هى دون مخالفة فى هذا الباب ففى قوله تعالى :
{ من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموما مدحورا ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا } (1) .
ــــــــــــــــــــــــ
1- الإسراء / 18 : 20 .
فالاعتقاد الذى حملته هذه الآيات يشهد بسلامة الاعتقاد الصوفى للأوائل إذ أنها دلت على عدة أمور :
1- إثبات الإرادة الإنسانية حرة وأصيلة فى العبد يختار بها أحد الطريقين المعروضين أمامه ، طريق ممثل فى العاجلة أو الدنيا وآخر ممثل فى الآخرة .
2- أن الله يخلق الفعل فى العبد بناءا على اختياره وإرادته حيث نسب تحقيق المراد للإنسان أو عدم تحقيقه إلى نفسه وحسب مشيئته فى الابتلاء فقال تعالى : { عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد } فليس كل ما يريده الإنسان ويتمناه يحققه الله بعد تمنيه مباشرة ، كالمثل الذى ضربه المحاسبى وذكر فيه إرادة القاتل القتل وموته قبل ذلك فحوسب على نيته .
3- أن الله سبحانه وتعالى يمد الكافر والمؤمن بالفعل على السواء فيعطى الكافر القدرة على أفعال الكفروالإيمان ويعطى المؤمن القدرة على أفعال الإيمان والكفر تحقيقا للابتلاء .(1/111)
* الصوفية وإسقاط الإرادة :
أخطأ بعض السالكين من أوائل الصوفية وظنوا أن الطريقة الكاملة للتصوف ألا يكون للعبد إرادة أصلا وليس هذا ما عناه مشايخ الصوفية لما نادوا بالتجرد عن الإرادة كقول أبى يزيد البسطامى :
( أريد ألا أريد ، لما قيل له : ماذا تريد ؟ ) (1) .
ويعلق ابن تيمية على العبارة السابقة بقوله :
( والواقع أن عبارة أبى يزيد البسطامى تبين أنه قد أراد ) (2) .
ويقول : ( بعض الصوفية حملوا كلام المشايخ الذين يمتدحون بترك الإرادة على ترك الإرادة والاختيار مطلقا ، وهذا غلط منهم على الشيوخ المستقيمين إذ أنهم لا يسوغون للسالك ولو طار فى الهواء أو مشى على الماء أن يخرج عن الأمر والنهى الشرعيين ) (3) .
وتتضح هذه الفكرة إذا علمنا أن أوائل الصوفية يحاولون فى منهجهم السعى إلى مرضاة الله ومن ثم فإنه من المفترض أن يختاروا لأنفسهم ما اختاره الله لهم ودعاهم إليه فينبذوا الدنيا ويفضلوا الآخرة كما قال تعالى : { والآخرة خير وأبقى } (4) .
ولشدة الالتزام المتوقع بهذا الطريق بدا عليهم وكأنهم مسلوبى الإرادة متجردين عنها تماما يحركهم الله كيف شاء شرعا وكونا ولذلك يقول القشيرى :
ـــــــــــــــــــــــ
1- التنوير فى إسقاط التديبر ص 110 .
2- كتاب السلوك لابن تيمية ص 494 .
3- السابق ص 516 .
4- الأعلى / 17 .
( المريد فى عرف هذه الطائفة من لا إرادة له فمن لم يتجرد عن إرادته لا يكون مريدا ) (1) .
وإن دل ذلك على شئ فإنما يدل على مدى إثبات الصوفية لأصالة الإرادة فى الذات الإنسانية يقول الواسطى : ( أول مقام المريد : إرادة الحق سبحانه وتعالى بإسقاط الإرادة ) (2) .(1/112)
فالذين نظروا إلى أن المشايخ فرغوا من الإرادة مطلقا ولم يبق لهم مراد إلا ما يقدره الرب ، وأن هذا المقام هو أكمل المقامات التى أدت بالأوائل إلى منزلتهم الرفيعة جانبوا الصواب تماما ، لأنهم لا يعنون التحلل من أوامر الشرع بإسقاط الإرادة أو الاحتجاج بالقدر ، وإنما أرادوا كمال الانضباط .
وخير دليل على ذلك من كلامهم ما ذكره أبو بكر الدقاق حيث قال : ( لا يكون المريد مريدا حتى لا يكتب عليه صاحب الشمال عشرين سنة ) (3) .
ويقصد بذلك استقامة المريد العابد بإرادته واختياره على الطريق الذى اختاره الله له والمتمثل فى الالتزام بأحكام العبودية وكثرة التطوع ــــــــــــــــــــــــ
1- الرسالة ص 433 .
2- السابق ص 473 .
3- الرسالة حـ 2 ص 434 .
والتنفل إلى أن يبلغ درجة لا يجد الملك الموكل بكتابة السيئات شيئا يكتبه عليه مدة عشرين عاما على تقدير الدقاق ، وعلى هذا أيضا يحمل قول أبى يزيد السابق : ( أريد ألا أريد ) أى أريد الالتزام بالأمر والنهى فى طريق التكليف ولا أريد غير ذلك .
فملازمته لطريق الله إنما يكون بقوة الإرادة وأصالة الاختيار فيه وصدق الباعث من الإخلاص فى القصد بالهمة والعزيمة .
ويفرد السراج الطوسى بابا فى كتابه اللمع يرد به على من غلط فى عين الجمع وظن أن المقام هو مقام القول بالجبر حتى يصل إلى شهود أفعال الربوبية فقال :
( وجماعة غلطوا فى عين الجميع فلم يضيفوا إلى الخلق ما أضاف الله تعالى إليهم ولم يضيفوا أنفسهم بالحركة فيما تحركوا فيه وظنوا أن ذلك منهم احترازا حتى لا يكون مع الله شئ سوى الله ) (1) .
فبين أن ذلك أداهم إلى الخروج من الملة وترك حدود الشريعة لقولهم أنهم مجبرون على حركاتهم حتى اسقطوا اللائمة عن أنفسهم عند مجاوزة الحدود ومخالفة الإتباع (2) .
ويذكر السراج أن من هؤلاء من أخرجه ذلك إلى الجسارة على ــــــــــــــــــــــــ
1- اللمع ص 549 .
2- السابق ص 549 .(1/113)
التعدى والبطالة وطمعته نفسه على أنه فيما هو عليه مجبور (1) .
وقد يظن بعض الصوفية أن الوقوف مع إرادة الأمر والنهى يكون فى السلوك والبداية ، أما النهاية فلا تبقى إلا إرادة القدر وهذا ضلال بين وخروج عن الطاعة والعبادة مما يؤدى بهم إلى أن يكونوا من أعوان الفجار والكفار حيث شهدوا القدر معهم ولم يشهدوا الأمر والنهى الشرعيين (2) .
وهؤلاء بعض الملاتية الذين يفعلون المعاصى والمنكرات ويقولون لا ملامة .
وقد نقل الهجويرى كثيرا من أفعالهم وبين خطأهم فى ذلك (3) إلا أن الأصل فى إسقاط الإرادة عند المستقيمين من المشايخ يختلف عن المنحرفين فى فهمها وقد سئل سهل بن عبد الله عن رجل يقول : أنا مثل الباب لا أتحرك إلا أن يحركونى ؟
فقال سهل : ( هذا لا يقوله إلا أحد رجلين : إما رجل صديق وإما رجل زنديق ) (4) .
ــــــــــــــــــــــــ
1- السابق ص 549 .
2- كتاب السلوك ص 499 .
3- كشف المحجوب 260 : 265 وانظر الفتوحات لابن عربى حـ 3 ص 46 .
4- اللمع ص 549 .
فالأول عنده صديق لأنه اختار اختيار الله له فلا يتزحرج عنه ويرجع فى كل شئ إلى الله ، والتزم الأمر على ما ينبغى من المتابعة وحسن الطاعات والقيام بشرط الأدب وسلوك المنهج على حد الاستقامة .
والثانى عنده زنديق لأنه احتج بالقدر على المعصية واسقط اختياره مطلقا تحت ستار القدر فأزال اللائمة عن نفسه فى ركوب المآثم بغواية الشيطان وتسويله وتأويله الباطل (1) .
ومن جملة ما تقدم فى هذا المبحث نخلص إلى القول بأن أوائل الصوفية يقررون فى إرادة الإنسان الأمور الآتية :
أولا : وجود الإرادة الحرة كمصدر أصيل لأفعال الإنسان ، وأنها ذاتية منه بمعنى أنها مصدر أول وأصيل لكل الحركات والسكنات فى أعمال القلوب والجوارح ومصدر للنيات والرغبات والقصود وجميع الاختيارات الإنسانية .(1/114)
ثانيا : أن هذه الإرادة إرادة مختارة وليست مجبرة أو مسيرة فالأسلوب العام الذى سلكه أوائل الصوفية يثبت الاختيار ويؤكده ، فهم يطرحون أمام الإرادة الإنسانية طريقين يختار العبد بينهما ، طريق يؤدى إلى الدنيا بصفة عامة وطريق يؤدى إلى الآخرة ، ودور هذه
ــــــــــــــــــــــــ
1- السابق ص 550 بتصرف .
الإرادة يكاد ينحصر فى الاختيار بين الأفعال التى يحصل بها الصوفى الدنيا أو الأفعال التى يفوز بها بالآخرة .
ثالثا : وجود الضدين اللازمين والضروريين لصحته عقلا حيث أثبتوا وجود شيئين مطروحين فى آن واحد إذا مال إلى أحدهما حتما سيفارق الآخر ، فهما فعلان أو سلوكان يدل اختيار العبد لأحدهما دون الآخر على رغبة فيه تجاهه وإرادة وإيثار وحب .
رابعا : أن الإرادة الإنسانية اختيارها ليس اختيارا مطلقا فلا يستطيع أن يختار على التفويض بين جميع الأشياء فى آن واحد وإنما الاختيار محدود بطريقتين لحظة حدوثه ، وهذا ما استدل له المحاسبى بقوله تعالى (1) : { ما جعل الله لرجل من قلبين فى جوفه } (2) .
خامسا : أن منهج أغلب الأوائل فى التجرد عن الإرادة إنما هو مقصد شرعى يؤدى إلى التمسك بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، ويثبت أصالة الإرادة فى الإنسان مع إعلان أغلبهم البراءة ممن استغل اسقاط الإرادة فى التحلل من الشرع والاحتجاج بالقدر على الجبر وفعل المعاصى .
ــــــــــــــــــــــــ
1- انظر القصد والرجوع إلى الله ص 95 .
2- الأحزاب / 4 .
سادسا : اتفاق المبادئ بين أوائل الصوفية وأهل السنة فى كون الدليل الشرعى هو الحجة فى هذا الباب ، وهذا بين واضح من خلال ما تقدم وما ذكره ابن تيمية وأبوعثمان الصابونى وغيرهما (1) .
ــــــــــــــــــــــــ(1/115)
1- انظر عقيدة أصحاب الحديث لأبى عثمان الصابونى ص 78 ، وما بعدها ضمن مجموعة بعنوان عقيدة الفرقة الناجية ، إعداد عبد الله حجاج القاهرة سنة 1400 هـ وانظر الصفدية لشيخ الإسلام ابن تيمية حـ 1 ص 55 وما بعدها ، والاستقامة لابن تيمية حـ 1 ص 86 : 102 .
*** المبحث الثالث ***
دوافع الإرادة وبواعثها عند الصوفية
وصلنا مما سبق إلى أن أوائل الصوفية اتفقوا على إثبات الإرادة الإنسانية حرة وأصيلة فى ذات الإنسان ، ومن الأمور التى ينبغى ذكرها إظهارا لمفهوم الحرية من الناحية الاعتقادية عند أوائل الصوفية ، تأصيل الدوافع التى تسبق الإرادة وأثرها عليها ، تلك الدوافع التى أجاد الصوفية فى إبرازها تحت تفصيلهم للخواطر وتحليلها .
فمن مقومات الحرية عندهم وجود الإرادة الحرة بين نماذج مزدوجة من الخواطر ، إما أنها تهيئ الإنسان إلى فعل الخير أو المفاضلة بين أنواعه وإما تحضه على فعل الشر أو المفاضلة بين أنواعه .
وقد أفرد أبو طالب المكى فصلا مستقلا لتفصيل هذه الخواطر فى كتابه قوت القلوب واستدل لها بقوله تعالى : { ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها } (1) .
يقول المكى مبينا المعنى : ( أى ألقى فيها وقذف فيها ) (2) .
وهذه الخواطر مبنية عند أوائل الصوفية على ركنين اثنين هما :
[1] - وجود نازعين نفسيين متقابلين ومتضادين :
ـــــــــــــــــــــــ
1- الشمس / 7، 8 .
2- قوت القلوب حـ 1 ص 113 ، وانظر الرسالة حـ 1 ص 393 .
أحدهما : يسمونه بالروح وهى عندهم نازع الخير ومكنه ومستقره وبأثرها تظهر التقوى وتظهر فطرته المؤمنة الموحدة .
والثانى : النفس وهى مكمن الشهوات ومستقرها ونازع الشر فى الذات الإنسانية وبأثرها يظهر الفجور (1) .(1/116)
ولقد سبق القول بأن اهتمام أوائل الصوفية بجانب النفس أعظم من عنايتهم بجانب الروح والتقوى ، وذلك بهدف البعد عن الغرور وإنكار الذات والرجوع بالفضل إلى الله تعالى ، غير أنهم ركزوا على الخواطر ومتابعتها ومعرفة بواعثها ومنابعها ، ليتمكنوا من الثبات على الطريق فنازعا الخير والشر حظيا باهتمام بالغ لديهم .
والصوفية الأوائل يعتبرون صفاء الروح ومخالفة النفس هما رأس التصوف والعبادة (2) .
فالصوفى عندهم هو الذى تحررت روحه من كدورة البشرية ، وصفت من الآفات النفسية ، وخلصت من الهوى .
يقول أبو الحسين النورى : ( التصوف ترك كل حظ للنفس والصوفية هم الذين صفت أرواحهم فصاروا فى الصف الأول بين ــــــــــــــــــــــــ
1- انظر التصوف طريقا وتجربة ومذهبا د. كمال جعفر ص 98 بتصرف .
2- انظر التصوف فى الإسلام د. عبد اللطيف محمد العبد ص 75 .
يدى الحق ) (1) .
ويقرر سهل بن عبد الله أن مصدر التقوى والخير فى الإنسان هو روحه ومصدر الشر والهوى نفسه وكل منهما ينقسم إلى مراتب ودرجات خاصة ، وهو لا يعنى بتقسيم النفس أو الروح تجزئتهما ، بل يعنى فقط وجود درجات فى نطاق الوحدة لكل منهما ، فالنفس واحدة ولكن لها درجات والروح واحدة ولكن لها درجات (2) .
وهذان النازعان عند أوائل الصوفية من دوافع الإرادة المؤثر فى سلوكها ويشكلان ملتقى الخواطر التى تجول فى داخل الإنسان ، يقول المحاسبى : ( فاعرف نفسك فإنك لم ترد خيرا قط ، مهما قل إلا وهى تنازعك إلى خلافة ولا عرض لك شر قط إلا كانت هى الداعية إليه ، ولا ضيعت خيرا قط إلا لهواها ، ولا ركبت مكروها قط إلا لمحبتها ، فحق عليك حذرها لأنها لا تفتر عن ــــــــــــــــــــــــ(1/117)
1- كشف المحجوب ص 232 ، وانظر الرسالة حـ 1 ص 393 والنورى هو أحمد بن محمد أبو الحسين النورى بغدادى المنشأ والمولد خرسانى الأصل توفى سنة 295هـ انظر فى ترجمته ، تاريخ بغداد حـ 5 ص 93 ، البداية والنهاية حـ 11 ص 106 المنتظم حـ 6 ص 77 ، صفة الصفوة حـ 2 ص 294 ، طبقات الشعرانى حـ 1 ص26 ، حلية الأولياء حـ 10 ص 294 .
2- من التراث الصوفى لسهل بن عبد الله التسترى د.كمال جعفر ص 236 .
الراحة إلى الدنيا والغفلة عن الآخرة ) (1) .
[2] - الركن الثانى الذى يسهم فى تشكيل الخواطر عند الصوفية هو إيمانهم بوجود هاتفين يهتفان للإنسان بفعل الخير أو فعل الشر لحظة الاختيار :
1- هاتف يهيب به أن يفعل الخير ويزينه له ويسمى عندهم بالملك .
2- هاتف يزين للإنسان أن يفعل الشر ويحضه عليه ويسمى عندهم بالعدو أو الشيطان .
والروح والنفس فى ذات الإنسان هما النازعان المقابلان لهذين الهاتفين من حيث اتفاق الروح مع الملك فى الدعوة إلى الخير واتفاق النفس مع العدو فى الدعوة إلى الشر .
يقول المكى فى وصف النازعين والهاتفين فى القلب : ( فمن السواء والتعديل والازدواج والتقويم ، أدوات الظاهر وأعراض الباطن وهى حواس الجسم والقلب ، فأدوات الجسم هى الصفات الظاهرة وأعراض القلب هى المعانى الباطنة ، قد عدلها الله بحكمته وسواها ـــــــــــــــــــــــ
1- الرعاية لحقوق الله ص 261 وانظر الصدق لأبى سعيد الخراز فى توافقه مع المحاسبى ص 25 ، 26 .
على مشيئته وقومها اتقانا بصنعته ، أولها النفس والروح وهما مكانان للقاء العدو والملك وهما شخصان ملقيان للفجور والتقوى ) (1) .
ويستند المكى إلى الدليل الشرعى فى إثبات الهاتفين فيستدل بقوله صلى الله عليه وسلم :
( ما منكم من أحد إلا وقد وكل به قرينه من الجن وقرينه من الملائكة ، قالوا : وإياك يارسول الله ؟ قال : وإياى لكن الله أعاننى عليه فأسلم فلا يأمرنى إلا بخير ) (2) .(1/118)
وبقوله : ( إن للشيطان لمة بابن آدم وللملك لمة ، فأما لمة الشيطان فإيعاذ بالشر وتكذيب بالحق ، وأما لمة الملك فإيعاذ بالخير وتصديق بالحق فمن وجد ذلك فليعلم أنه من الله تعالى فليحمد الله ، ومن وجد الأخرى فليتعوذ بالله من الشيطان ) (3) .
ــــــــــــــــــــــــ
1- قوت القلوب حـ 1 ص 114 ، وانظر كتاب الصدق ص 27 .
2- السابق حـ 1 ص 114 ، والحديث أخرجه مسلم فى كتاب صفات المنافقين باب تحريش الشيطان وبعثه سراياه لفتنة الناس برقم (2814) وأحمد فى المسند حـ 1 ص 385 ، والدارمى فى سننه حـ 2 ص 306 ، والبخارى فى التاريخ الكبير حـ 4 ص 239 .
3- السابق حـ 1 ص 114 والحديث أخرجه الترمذى فى كتاب التفسير حـ3 ص104 والهيثمى فى مجمع الزوائد حـ 8 ص 225 وأخرجه الطبرانى فى الكبير برقم (7223) .
وهذان الهاتفان كما دل الحديث ليس لهما جبر أو ضغط على الإرادة فى الإنسان فلا يلزمانها بفعل معين دون آخر ، وإنما دورهما فقط يكمن فى الإيعاذ والوسوسة والدعوة إلى فعل معين دون آخر .
أما الإرادة فهى التى تمضى الفعل وتحرك الجسد ، يقول المكى :
وروينا عن الحسن رحمه الله أنه قال : ( إنما هما همان يجولان فى القلب ، هم من الله تعالى وهم من عدوه ، فرحم الله عبدا وقف عند همه فما كان لله أمضاه وما كان من عدوه يجاهده ) (1) .
فالدور الذى يثبته أوائل الصوفية للشيطان هو الوسوسة فقط ، ومن ثم نرى عندهم تفسيرا مقبولا لعبودية الإنسان للشيطان من خلال اتباعه لما يطرحه من أفكار ، وبهذا أيضا يظهر سلطان الشيطان عليه .
وقلما يخلو تراث أوائل الصوفية بوجه عام من وصف الحذر من العدو والطريقة المثلى فى مقاومته ، وقد أجاد المحاسبى فى عرضه مجموعة من الأبواب لتحليل الحذر من العدو (2) يظهر من خلاصتها أن هذه الأفكار والوساوس التى يطرحها الشيطان إنما هى ابتلاء للعبد يجب عليه أن يردها ما استطاع وأفضل طريق لذلك هو الاشتغال بذكر الله .(1/119)
ــــــــــــــــــــــــ
1- السابق حـ 1 ص 115.
2- انظر الرعاية لحقوق الله ص 150 وما بعدها .
يقول المحاسبى فى وصف أفضل طريق يمكن الإنسان من القضاء على نوازع العدو وخطراته : ( فهم فى الاشتغال بربهم دائبون ، وبالحذر إذا عرض الخاطر متيقظون ، وبقوة الاشتغال بالله يسهل عليهم فحص الخواطر إذا عرضت بفتنة ، فسلموا أو غنموا واتبعوا واستقاموا ) (1) .
* التفاعل بين النازعين والهاتفين وعلاقة ذلك بالإرادة :
ويرى الباحث فى تراث أوائل الصوفية مدى التفاوت والتفاعل بين النوازع والخواطر وعلاقتها بالإرادة :
فتارة تختلف اللمتان من الملك والعدو ويتفاوت الإلهام والوسوسة فى طرح معانى الخير والشر ، فلربما تقدمت لمة العدو بالأمر بالشر وتقدح بعدها لمة الملك نصرة للعبد وتثبيتا على الخير وعناية من الرب تعالى فينتهى عن ذلك وعلاقة ذلك بالإرادة أنه يجب على العبد أن يعصى الخاطر الأول ويطيع الخاطر الثانى .
ولربما تقدم إلهام الملك بالأمر بالخير ثم يقدح بعده خاطر العدو بالنهى عنه والتثبيط فيه بالتأخير ، محنة من الله تعالى للعبد لينظر كيف يعمل وحسدا من العدو ، فعليه أن يطيع الخاطر الأول ويعصى الخاطر الثانى .
ــــــــــــــــــــــــ
1- السابق ص 163 .
ثم تدق الخواطر من إلهام الملك بالخير ومن وسوسة العدو بالشر وقد يتفاوت ذلك من ضعف خاطر الخير لقوة الرغبة فى الدنيا ، ومن قوة خاطر الشر لقوة الشهوة والهوى ، وفى المزيد والنقص منهما والتقديم والتأخير بهما لتفاوت الأحكام والإرادة من الحاكم (1) .
ويتساءل المحاسبى عما إذا كان الشيطان يعلم ما تحدث به النفس فيعارضها بالصد عن الخير ؟
ويقرر أن الشيطان طالت مقارنته للإنسان وتفقده لأحواله ، حتى لم يخف عليه حاله فعرف مطالبه ومذاهبه فعند كل خير صده عنه ، هذا من غير علم منه بما يحدث غير أنه علم أن خيرا قد أحدثه العبد وكذلك يعلم أن شرا قد أحدثه لا يعلم أى خير ولا أى شر (2) .(1/120)
ويرى المكى أن خلق الإنسان بازدواجية فى الخواطر ووجود الإرادة الحرة بينهما وتركيبه بهذا الوضع أية من آيات الله الكونية تدل على حكمته سبحانه وتعالى فى تعديل الإنسان بما يحقق الغاية من خلقه وابتلائه فى الدنيا ، ويستدل المكى لذلك بقوله تعالى : { يأيها الإنسان ما غرك بربك الكريم الذى خلقك فسواك فعدلك فى أى صورة ما
ــــــــــــــــــــــــ
1- انظر تفصيل ذلك فى قوت القلوب حـ 1 ص 122 : 125 .
2- انظر تفصيل ذلك فى أعمال القلوب والجوارح للحارث المحاسبى ص 80 : 83
شاء ركبك } (1) .
وبقوله : { لقد خلقنا الإنسان فى أحسن تقويم } (2) .
فكانت صورة التعديل والتقويم عند المكى أن جعل الله زوجين من الخواطر كبواعث للإرادة الإنسانية فى حثها على تحريك البدن إلى الطاعة أو المعصية .
ونجد لسهل بن عبد الله التسترى تحليلا للعلاقة بين الإرادة وبواعثها فى إظهار التوفيق الربانى للعبد المؤمن أو الإضلال الذى لا ينافى عدله سبحانه وتعالى ، فيقرر أنه إذا كانت هذه الخواطر عن أواسط الهداية وهى الملك والروح ، كانت تقوى وهدى ورشدا وكانت من خزائن الخير ومفتاح الرحمة قدحت فى قلب العبد نورا أدركه الحفظة ، وهم أملاك اليمين فأثبتوها حسنات .
وإن كانت الخواطر عن أواسط الغواة وهم العدو والنفس كانت فجورا وضلالا ، وهى من خزائن الشر ومعالق الأعراض قدحت فى القلب ظلمة ونتنا أدرك ذلك الحفظة من أملاك الشمال فكتبوها سيآت .
وكل هذا إلقاء من خالق النفس ومسويها وجبار القلوب ومقلبها حكمة منه وعدلا لمن شاء ، ومنة وفضلا لمن أحب كما قال : { وتمت
ــــــــــــــــــــــــ
1- الانفطار / 6 : 8 .
2- التين / 4 .
كلمة ربك صدقا وعدلا } (1) أى بالهداية صدقا لأوليائه ما وعدهم من ثوابه وبالإضلال عدلا على أعدائه ما أعد لهم من عقابه (2) .(1/121)
ويبين سهل بن عبد الله أن الله إذا أراد إظهار شئ من خزائن الغيب حرك النفس بلطيف القدرة فتحركت بإذنه فقدح من جوهرها بحركتها ظلمة تنكت فى القلب همة سوء ، فينظر العدو إلى القلب وهو مراصد ينتظر والقلوب له مبسوطة والنفوس لديه منشورة يرى ما فيها وما كان من عمله المتبلى به المصرف فيه ، فإذا رأى همة قدحت فى النفس فأحدثت ظلمة فى القلب ظهر مكانه فقوى بذلك سلطانه (3) .
والهمة عند التسترى ترد على واحد من ثلاثة معان لا تحصى فروعها لأن هم العبد على قدر بغيته :
1- هوى وهو عاجل حظ النفس .
2- أمنية وهذا عن الجهل الغريزى .
3- دعوى حركه أو سكون وهو آفة العقل ومحبة القلب .
فأى هذه الثلاثة قدح فى القلب فهو وسوسة نفس وحضور عدو ترد بأحد ثلاثة أصول بجهل أو غفله أو طلب فضول دنيا ، والأفضل ــــــــــــــــــــــــ
1- الأنعام / 115 .
2- من التراث الصوفى ص 172 ، وقوت القلوب حـ 1 ص 123 .
3- من التراث الصوفى ص 175 .
عنده مجاهدة النفس والعدو عن إمضائها وحبس الجوارح عن السعى فيها ، فإن أمرح قلبه فى ذكرها أو نشر خطواته فى طلبها ، كن حجابا بين قلبه وبين اليقين ، وإن كن وردن بمباحات فالأفضل له أن ينفيها عن قلبه كيلا يكون قلبه موطنا للغفلات ، كل ذلك يندرج عند سهل بن عبد الله تحت أصل كبير هو الابتلاء من الله تعالى بالتقليب والامتحان منه فى التصريف .
ويفسر لنا هذا الصوفىكيف يريد الله تعالى سلامة هذا العبد الذى أشرف على الهلاك والبعد بتسليط العدو عليه وتسويل النفس له فيقول :(1/122)
( فيطهِّر القلب عند الابتلاء ويهدى النفس بنور إيمانه إلى الله تعالى ويسر الالتجاء إليه ويخفى التوكل عليه عائدا لائذا مخلصا له ، فهناك توكل عليه فكان حسبه وعندها فوض الأمر إليه فوقاه الله مكر عدوه وجعل له مخرجا ونجاة ، فينظر الله تعالى إلى القلب نظرة تخمد النفس وتمحق الهمة وتخنس العدو لسقوط مكانه ، وتذهب لخنوسه شدة سلطانه ، فيصفوا القلب بقوة القهار العزيز الجبار ، فيخاف العبد مقام الرب ويفزع من الخطيئة ويهرب منها ويستغفر الله ويتوب ) (1) .
وفى المقابل يبين سهل بن عبد الله فى تحليل عميق أن الله تعالى إذا ــــــــــــــــــــــــ
1- من التراث الصوفى ص 174 ملخصا ، وقوت القلوب حـ 1 ص 124 .
أراد إظهار خير وإلهام تقوى من خزائن الملكوت حرك الروح وهى نازع الخير فيه بخفى اللطف فتحركت بأمره جلت قدرته ، فقدح من جوهرها نور سطع فى القلب فأنتج همة عالية .
وكما قسم الهمة فى الشر إلى ثلاثة أقسام قسم همة الخير فى المقابل كذلك لأن همة كل عبد فى الخير عنده والتى هى مبلغ علمه ومنتهى مقامه ثلاثة أنواع :
1- مسارعة إلى أمر بفرض أو ندب لفضل يكون عن عمل فى حال العبد .
2- علم يكون فطنة له ظهر عليه من مكاشفة غيب من ملك أو ملكوت .
3- تحمل مباح من تصرف يعود صلاحه عليه واستراحة النفس بما أبيح له يكون نفعه لغيره أو ما يباح من ترويحات من الأفكار لقلبه الغائص فى البحار يكون تخفيفا لكربه .
فهذه مرافق للعبد باختيار من المعبود وحكمة من الحكيم ، وفى كلها رضاه سبحانه وتعالى ، ويرى التسترى أن إمضاءها أفضل للعبد وبعضها أفضل من بعض (1) .
ثم يقول التسترى : ( وهذه الأصول الستة من الخير والشر هى ـــــــــــــــــــــــ
1- السابق ص 176 .
الفرق بين لمة الملك وبين لمة العدو ، وبين إلهام التقوى وإلهام الفجور التى هى النية والوسوسة وهما الاختيار و الاختبار ، ويتفاوت العباد فى مشاهدتها على حسب علوهم فى اليقين ) (1) .(1/123)
وعلى الوتيرة نفسها قسم أبو طالب المكى بواعث الإرادة من الخواطر إلى ستة أقسام :
1- خاطر النفس وخاطر العدو وهذان لا يعدمهما عموم المؤمنين وهما مذمومان محكوم لهما بالسوء ولا يردان الا بالهوى وضد العلم
2- خاطر الروح وخاطر الملك وهذان لايعدمهما خصوص المؤمنين وهما محمودان لايردان إلا بحق وبمادل عليه العلم .
3- خاطر العقل وهو متوسط بين هذه الأربعة :
ا ــ يصلح للمذمومين فيكون حجة على العبد لما كان من تمييز العقل وتقسيم المعقول ، لأن العبد يدخل فى هواه بشهوة جعلت له ، واختيار لايعسر عليه من حيث لايعقل و إجبار .
ب ــ ويصلح أيضا للمحمودين فيكون شاهدا للملك ومؤيدا لخاطر الروح ويثات العبد على حسن النية وصدق المقصد .
ويبن المكى أن خاطر العقل إنما كان مع النفس تارة ومع الملك تارة أخرى حكمه من الله تعالة لصنعه وإتقانا لصنعه ليدخل العبد فى الخير ــــــــــــــــــــــــ
1- السابق ص 176 .
والشر بوجود معقول وصحة شهود وتمييز، فيكون عاقبة ذلك من الجزاء والعقاب عائدا له وعليه ، فالله سبحانه وتعالى جعل الإنسان مكانا لجريان أحكامه ومحلا لنفاذ مشيئته فى مبانى حكمته .
4- خاطر اليقين وهو روح الإيمان والعمل الذى يحرك الإرادة على الطاعة والاستجابة كمحصلة للخواطر الإيمانية المتقدمة (1) .
لقد بلغ تفصيل الخواطر التى تسبق الإرادة عند أوئل الصوفية حدا يوحى بمدى الفهم الدقيق للقدر وعلاقته بحرية العبد واختياره ، ذلك لأنهم حللوا بواعث الإرادة بدرجة توجب الحذر من كل صغير أو كبير تعن فى القلب من هداية وتوفيق أو إضلال وخذلان يُبتلى من خلالها الإنسان ، يقول المكى :
وهذ كله كشف لعلم الله تعالى وإنفاذ لمشيئته وهو الابتلاء بالأسباب فالعدو يصير سببا لقوله تعالى : { ولقد صدق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه إلا فريقا من المؤمنين } (2) .(1/124)
ثم أحكم ذلك بسابق علمه فقال : { وماكان له عليهم من سلطان } يعنى بحوله وقوته ومشيئته { إلا لنعلم من يؤمن بالآخرة ممن هو ــــــــــــــــــــــــ
1- انظر قوت القلوب ملخصا حـ1 ص 114 ، 115 .
2- سبأ / 20 .
منها فى شك } (1) أى لنرى .
وقيل : لنعلم العلم الذى يجازى عليه بالصواب والعقاب .
وقيل : لنخبر ونكشف (2) .
* كيفية التعرف على مصدر الخواطر :
ويعرض المكى أيضا فى تفصيل رائع كيف يمكن للإنسان أن يفرق بين أنواع الخواطر ومصادرها والسلوك الأمثل حيالها من قبل الإرادة ويحصر ذلك فى التقسيم فيما يلى :
[1] - ما كان من لائح يلوح فى القلب من معصية ثم يتقلب فلا يثبت فهذا نزغ من قبل العدو .
[2] - ما كان فى القلب من هوى ثابت أو حال مزعج دائم لابث فهو من قبل النفس الأمارة بطبعها أو مطالبة منها بسوء عادتها .
[3] - ما ورد على العبد من همه بخطيئة ووجد العبد فيها كراهيتها فالخاطر مركب :
ا ــ الورود من قبل العدو .
ب ــ والكراهية من قبل الروح والإيمان .
[4] - ما وجد من هوى أو معصية ثم ورد عليه المنع من ذلك فالخاطر مركب أيضا :
ا ــ الهوى من قبل النفس .
ب ــ المنع من قبل الملك .
[5] - ما وجده عن خوف أو حياء أو ورع أو زهد وما شهده من تعظيم وهيبة وإجلال فهذا كله من إرادة اليقين وهو من مزيد الإيمان (1) .
ثم يقول المكى بعد ذلك : ( فما كان منها من نية وعزم ، كان محسوبا للعبد فى باب النيات مكتوبا له فى ديوان الإرادة له بها حسنات ، وما كان منها من الشر نية وعقدا وعزما فعلى العبد فيه مؤاخذة من باب أعمال القلوب ونيات السوء وعقود المعاصى ) (2)
* شكل توضيحى لبواعث الخواطر عند الصوفية :
الروح ... ... ... الملك ... ... ... نجد الخير
العقل ... ... الإرادة
النفس ... ... ... الشيطان ... ... نجد الشر
ــــــــــــــــــــــــ
1- انظر السابق حـ 1 ص 127 ملخصا .
2- انظر السابق حـ 1 ص 127 .(1/125)
نخلص من جملة ما سبق فى هذا المبحث إلى القول بأن أوائل الصوفية أثبتوا وجود بواعث للإرادة يقلبها الحق سبحانه وتعالى كيف يشاء تثير الإرادة وتهيؤها للفعل دون إجبار أو إلزام بفعل دون آخر ، وهذه ممثلة فى وجود نازعين متقابلين هما محل التقوى والفجور ، وهاتفين يهتفان له فى كل وقت ، أحدهما هو العدو أو الشيطان بوعده الكاذب من ناحية ، والثانى هو الملك ووعد الله الحق من ناحية أخرى ، وكل ذلك ثابت بدليل النقل ، كما أكدوا رفع أى سلطان أو قهر على الإنسان لحظة الاختيار وإجابته للدواعى الداخلية إلا سلطان الإرادة الذى يتربع الإنسان على عرشه ، فهى كما تقدم الفيصل فى تحريك البدن إلى ما يلحقه من ثواب أو عقاب .
وهم بذلك يضعون الشيطان فى موضعه الصحيح ويفسرون كيف أنه لا سلطان له إلا على أوليائه من خلال متابعتهم لأوامره ؟ تحقيقا لقول الله تعالى فى شأنه : { وقال الشيطان لما قضى الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لى عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لى فلا تلومونى ولوموا أنفسكم ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخى إنى كفرت بما أشركتمونى من قبل إن الظلمين لهم عذاب أليم } (1) .
ــــــــــــــــــــــــ
1- إبراهيم / 22 .
ويفسرون كيف يعبد الهوى باتباع الإرادة لدوافعه ؟ تحقيقا لقول الله تعالى فى شأنه :
{ أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله أفلا تذكرون } (1) .
وكيف يقلب الله القلوب ولا يتنافى ذلك مع عدله فى تحقيق العقاب على المسئ ؟ .
ــــــــــــــــــــــــ
1- الجاثية / 23 .(1/126)
*** المبحث الرابع ***
موضوع الاختيار البشرى ومجاله
يذكر المكى أن القرآن الكريم حدد مجال اختيار الإرادة الإنسانية وجعله بين طريقين معروضين أمام الإنسان ، أحدهما هو نجد الخير والثانى هو نجد الشر ، قال تعالى : { وهديناه النجدين } (1) .
فالنجدان طريقان معروضان خارج الإنسان ، وهما لازمان لصحة الاختيار وتحقيق معنى الحرية من الناحية العقلية ، أحدهما يعبر عنه القرآن بحرث الدنيا والآخر يعبر عنه بحرث الآخرة قال تعالى :
{ من كان يريد حرث الآخرة نزد له فى حرثه ، ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وماله فى الآخرة من نصيب } (2) .
وإذا كان القرآن قد عبر بلفظ الشراء أو الاستبدال أوالاستحباب والإيثار كما فى قوله تعالى :
{ أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فماربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين } (3) .
ــــــــــــــــــــــــ
1- البلد / 10 .
2- الشورى / 20 .
3- البقرة / 16 .
وقوله : { ومن يتبدل الكفر بالإيمان فقد ضل سواء السبيل } (1)
وقوله : { ذلك بأنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة} (2) .
فإن هذه الألفاظ تدور حول معنى واحد وهو الاستغناء عن حياة فى سبيل أخرى (3) .
فالمؤمن يضحى بالدنيا فى سبيل الحصول على الآخرة والكافر يضحى بالآخرة ويتناساها أو يغفلها استغناء عنها لحصوله على الدنيا وهذا هو عين الاختيار ومجاله فى القرآن الكريم ولا يعنى هذا الاختيار بهذا المعنى ترك الدنيا وإهمالها والسلبية حيالها وحرصه على الآخرة والإيجابية نحوها فقط ، وإنما يعنى اختيار منهج فى الحياة يؤدى إلى الجنة أو منهج يؤدى إلى فقدها ، أو أنه اختيار بين حريتين ، حرية فى الدنيا يتحرر فيها من الشرع ، أو حرية للآخرة باختياره منهج الله .
ومن ثم فإن معنى إيثار العبد للدنيا على الآخرة هو أنه فضل أن يكون حرا فى الدنيا متحللا من كل منهج يخالف مراده وهواه فقوله تعالى : { بل تؤثرون الحياة الدنيا والاخرة خير وأبقى } (4) .(1/127)
ـــــــــــــــــــــــ
1- البقرة / 108 .
2- النحل / 107 .
3- انظر قوت القلوب فى تعليق المكى على هذه الآيات حـ 1 ص 248 ، 249 .
4- الأعلى / 16 : 17 .
يعنى أن هؤلاء القوم المخاطبين إنما رفضوا أن يكونوا عبيدا لله سبحانه وتعالى مقيمين بما كلفهم به فى حياتهم مؤثرين أن يعيشوا باختيارهم وحريتهم فى الدنيا ، مفرطين فى حريتهم وملكهم الأخروى فى الجنة ، والعكس أيضا فإن المؤمن برفضه للدنيا وحرصه على الآخرة إنما يرفض الحياة الدنيا وفق شهواته ونزواته وأهوائه ، داخلا فى عبوديته لله سبحانه وإن كان دخولا اختيارا وفى ذلك يقول تعالى :
{ وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم } (1) .
فالمؤمن هوالذى يسلم قيادته ووجهه وإرادته لله ، وذلك وإن كان فقدا للاختيار بمعنى يؤدى إلى تمام العبودية لله ، إلا أنه يحقق تمام الحرية الإنسانية حيث لا حرية حقه للإنسان إلا على ما أعطاه الله واسترعاه فيه .
ومصطلح الحرية عند الصوفية لا يعنى إلا العبودية وتمامها على الوجه الأمثل ولشرح ذلك فصل مستقل إلا أننا نود أن نبين موضوع الاختيار البشرى ومجاله عندهم .
فالصوفية الأوائل أجمعوا على وجود الجنة والنار وأن لكل منهما ــــــــــــــــــــــــ
1- الأحزاب / 36 .
طريق فى الدنيا والإنسان بينهما سيصل إلى سابق علم الله فيه ، يقول الكلاباذى :
( وأجمعوا أنه لو عذب جميع من فى السماوات ومن فى الأرض لم يكن ظالما لهم ولو أدخل جميع الكافرين الجنة لم يكن ذلك محالا ، لأن الخلق خلقه والأمر أمره ولكنه أخبر أنه ينعم على المؤمنين أبدا ، ويعذب الكافرين أبدا ، وهو صادق فى قوله وخبره صدق ، فوجب أن يفعل بهم ذلك ولا يجوز غيره ، لأنه لا يكذب فى ذلك ، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا ) (1) .(1/128)
ويذكر الكلاباذى أن الصوفية حتى عصره أقروا بتأبيد الجنة والنار وأنهما مخلوقتان باقيتان أبد الآبدين ، لا تفنيان ولا تبيدان وكذلك أهلوهما ، باقون فيهما خالدون مخلدون منعمون لا ينفد نعيمهم ولا ينقطع عذابهم (2) .
والاختيار البشرى كفعل داخلى ونفسى محض للإنسان هو تحرك الإرادة الحرة لاختيار المواقف الابتلائية ولتوجية النية وتصويب القصد وتحديد العزم نحو فعل دون آخر أو نحو الفعل دون الترك أو العكس حتى يصل بالمحصول النهائى لجملة الأفعال إما إلى الجنة وإما إلى النار .
ــــــــــــــــــــــــ
1- التعرف ص 67 .
2- السابق ص 73 .
ويبرز الحكيم الترمذى (1) هذه الفكرة من خلال تردد العبد بين ابتلااءات الله بما منحه الله من اختيار وحرية ليصل فى النهاية إلى ما قضاه الله ، من كونه فى الجنة أو النار ، فيذكر أن الأحوال التى تتناوب العبد إنما هى من تدبير الله ، فيقبلها راضيا بها مبتهجا لها ، ولو كانت مكروهات لنفسه ، لأن تدبير الله له من خلال الشرع أفضل من تدبيره لنفسه ، فيجاهد نفسه مدركا أن هذه الدنيا لم تجعل للمشيئة والاختيار ولا للتجبر والاقتدار ولكن للعبودية والاضطرار ، لأن الدار دار العبيد أنشئت للعبودية والآخرة دار الأحرار والملوك ، ومن ثم وافق العبد ربه فى تدبيره وترك حظ نفسه ، فوضع نفسه لله ، وآثره على نفسه وعلم يقينا أن كل شئ قد تم وأحكم (2) .
وذلك أنه لما أبرز ملكه من غيبه إلى عرشه وسمائه وأرضه وملائكته ــــــــــــــــــــــــ(1/129)
1- هو محمد بن على الملقب بالحكيم الترمذى ويكنى بأبى عبد الله اختلفوا فى تاريخ ميلاده واتفقوا على أنه ولد فى أوائل القرن الثالث الهجرى بمدينة ترمذ ، له تصانيف كثيرة أشهرها كتابة ختم الأولياء وفيه مخالفات كثيرة فليحذر منها القارئ قيل توفى سنة 255 هـ وقيل سنة 285 هـ وقيل 320 هـ انظر حلية الأولياء حـ10 ص 233 صفة الصفوة حـ 4 ص141طبقات الشعرانى حـ 1 ص 106 طبقات الصوفية ص217 .
2- نوادر الأصول فى معرفة أخبار الرسول للحكيم الترمذى ، طبعة استانبول سنة 1293 هـ ص 397 بتصرف .
واستوى على عرشه حمد نفسه ، ثم أثنى على نفسه بالأمثال العلى والأسماء الحسنى ، وخلق اللوح والقلم وعدن الجنة بيده ، وحشاها بالإقبال عليها رحمة ولطفا ونزاهة وطيبا وبنظرة واحدة إلى خلقه أدنى وأقصى وأسعد وأشقى وبسط الرزق وأكدى كل ذلك عدل منه سبحانه ، وبإقبال واحد حشا الجنة فصارت بإقباله بهية لا تنقص على طول الأمد موادها ولا ينفذ نعيمها ولا يفنى أهلها وصارت الدنيا بنظرة واحدة محكمة لا يتفاوت تدبيره ولا ينقص ، يدور تدبيره معهم دوران الرحا حتى ينقضى كله وينفذ (1) .
ويكشف الحكيم الترمذى عن حقيقة الحكماء ويصفهم بأنهم يتدبرون كيفية خلق الآدميين لآداء مهمة العبادة ؟ وتفصيل الخواطر والإرادة ومجال أعمالها وحسن الاختيار بين ما يطرحه الله لهم من ابتلاءات فيقول :
( والحكماء عن تدبير الله يتذكرون كيف دبر شأن الآدميين ؟ وكيف ركبهم ؟ ومن أين استخرجهم ؟ وأين وضعهم ؟ وإلى أين دعاهم ؟ فينشرون منن الله ويشيعون نعمه لديهم ويصفون تركيب أجسادهم ومكامن العدو منها وسلطان الشهوات فيها ، ويمرون بين ـــــــــــــــــــــــ
1- السابق ص 398 بتصرف .(1/130)
أعمال القلوب وأعمال النفوس وجذع العدو ، فإن للنفس وسواسا يدق فى جنبه وسواس العدو ، ويصفون شأن الدارين وانقسام هذه الدار على الدار الآخرة ، ويصفون الإرادة ويعرفون المريدين مكامن النفس لإفساد العطايا الواردة على السالكين بذلك الطريق إلى الله ) (1) .
فالاختيارات والنيات التى يختارها العبد هى التى تحدد طريقه فى الحياة ، وتصبح أفعاله وأعماله بعد اختياره وبعد تلبسها بإرادته ووقوعها منه فى الواقع مكتسبة للخير أو الشر أو الحلال والحرام ، ومجال العمل الدائم عند أوائل الصوفية هو محو الرذائل والتفانى فى مجال الفضائل .
والزهد والمجاهدة والفناء وغير ذلك من المصطلحات التى أنشأها أوائل الصوفية أكبر دليل على اختيار الآخرة وعدم الإصرار على حب الدنيا .
والصوفى الحق عندهم يبغى من مجموع اختياراته فى الدنيا أن يصل إلى نعيم الله ومحبته وهو يعتبر مجاهدته فى إصلاح النفوس والتحكم فى الخواطر ونوازع السوء التى تعن له على الدوام من أشد أنواع التقوى .
يقول الترمذى :
( فإن التقوى فى هذا الطريق أصعب وأدق وأغمض وأعظم ـــــــــــــــــــــــ
1- الحكيم الترمذى ونظريته فى الولاية للدكتور عبد الفتاح عبد الله بركه حـ 2 ص 311 طبعة مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر .
مؤنة من التقوى فى طريق الشريعة ، لأن طريق الشريعة على الجوارح ، وهذا الطريق بالقلوب فى ممرها على النفوس فيحتاج إلى أن يسلك بعمل القلب على شهوات النفس بالحراسة العظيمة ، والاستعانة بالله حتى يسلم ذلك العمل الذى نهض فى القلب من آفة النفس فيخرج إلى الجوارح سليما يصعد إلى الله سليما من آفاتها ) (1) .(1/131)
ويبين الحكيم الترمذى مجال الاختيار وعمل الارادة فيما يسميه بولاية التدبير فمعنى ولاية التدبير أن الله شرع السبيل وهدى القلوب ورزق العقول وأكد الحجة بالرسل ، وبما جاءوا به من البيان وأيدهم بالملائكة يهدون ويسددون وقيل سيروا إلى الله سيرا مستقيما فى هذا الصراط ، فإن عارضتكم نفوسكم بخلاف ما أمر الله فجاهدوها وسلوا الله المعونة ، فهذا تدبيره الذى وضعه للجميع ) (2) .
ومن ثم فإن أعز العلوم على الصوفية معرفة النفس وأخلاقها ، وأقوم الناس بطريق المقربين من الصوفية أقومهم بمعرفة النفس ، ومعرفة أقسام الدنيا ودقائق الهوى وخفايا شهوات النفس ، وشرها وشرهها (3) .
ــــــــــــــــــــــــ
1- السابق ص 142 .
2- السابق ص 214 .
3- عوارف المعارف للسهروردى ص 26 .
ويذكر المكى فى تفسيره لقوله تعالى :
{ فأما من طغى وآثر الحياة الدنيا فإن الجحيم هى المأوى وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هى المأوى } (1)
أنه لما كانت الجنة ضد الجحيم كان الهوى هو الدنيا ، لأن النهى عنه ضد الإيثار له فمن نهى نفسه عن الهوى ، فإنه لم يؤثر الدنيا وإذا لم يؤثر الدنيا ظهر معنى الزهد فيها وكانت له الجنة التى هى ضد الجحيم فصارت الدنيا هى طاعة الهوى وإيثاره فى كل شئ (2) .
ويذكر المكى فى موضع تخيير العبد بين الدنيا والآخرة حديثا نبويا فيه : ( لغدوة فى سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها ) (3) .
ــــــــــــــــــــــــ
1- النازعات / 37 : 41 .
2- قوت القلوب حـ 1 ص 246 .
3- الحديث أخرجه البخارى فى كتاب الجهاد ، باب الغدوة والروحة فى سبيل الله برقم (2792) وكذلك أخرجه مسلم فى كتاب الإمارة ، باب فضل الغدوة والروحة فى سبيل الله برقم (1880) وأحمد فى المسند حـ 3 ص141 والترمذى برقم (1648) والنسائى حـ 6 ص 15 ، وابن ماجه برقم (2756) والدارمى حـ2 ص 212 والبيهقى فى السنن حـ 9 ص 159 .(1/132)
ثم يشرح المكى كيف يزهد المرء فى الدنيا من خلال ما هو مطروح لديه من أمور الابتلاء بأن الله قال فى شأن يوسف عليه السلام :
{ وشروه بثمن بخس دراهم معدودة وكانوا فيه من الزاهدين } (1) .
فهذه تسمية لهم بالزهد فلما باعوه وخرج من أيديهم صاروا زاهدين ، والعرب تقول شريت بمعنى بعت لأنهم يقولون ابتعت بمعنى اشتريت .
كذلك العبد إذا باع نفسه وماله من الله تعالى وخرج من هواه إلى سبيل مولاه فهو من الزاهدين ، وكذلك قال المولى عز وجل :
{ إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة } (2) .
وقال أيضا : { وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هى المأوى } (3) .
فإذا كان العوض واحدا وهو الجنة فى ذكر المعنين كان بيع النفس ـــــــــــــــــــــــ
1- يوسف / 20 .
2- التوبة /111 .
3- النازعات /40 .
والمال وإخراجهما لله تعالى بمعنى النهى عن الهوى فيهما ، والهوى هو الحياة الدنيا ، وهو اقتناؤه للمال وحبس النفس عليه ، فاستبدال ذلك بضده من إخراج الهوى من النفس وإدخال الفقر على المال هو الزهد فى الدنيا (1) .
يقول سهل بن عبد الله : ( من علامة حب الله تعالى حب النبى عليه السلام ومن علامة حب النبى صلى الله عليه وسلم حب السنة ومن علامة حب السنة بغض الدنيا وعلامة بغض الدنيا ألا يأخذ منها إلا زادا وبلغة ) (2) .
* موضوع الاختيار البشرى واتساع دائرته عند الصوفية :
وإذا كان موضوع الاختيار البشرى ومجاله عند أغلب أوائل الصوفية هو اختيار الدنيا فى مقابل الآخرة أو العكس ، فإن هذا المجال أخذ فى وقت مبكر بمعنى آخر يختلف عن هذا المعنى وإن اتفق معه فى بعض النتائج ، وذلك أن الزهد الذى تميز به الصوفية وبمفهومه السابق دليل واضح على اختيارهم للآخرة ورفضهم للدنيا ، ولكنه لم يلبث حتى تطور من الزهد فى الدنيا فقط إلى الزهد فى الدنيا والآخرة معا ، طمعا
ــــــــــــــــــــــــ
1- قوت القلوب حـ 1 ص 247 .(1/133)
2- السابق حـ 1 ص 259 .
فى إرضاء الله ومحبته .
فأصبح مجال الاختيار هو تفضيل الله على الدنيا والآخرة وكل شئ وقد نبتت هذه الفكرة وأينعت فى القرنين الثانى والثالث الهجريين حينما شاع قول رابعة العدوية (1) من نساء الصوفية : ( ما عبدتك خوفا من نارك ولا طمعا فى جنتك ، ولكن حبا لذاتك ) (2) .
فقد جعلت بواعث العبادة ثلاثة :
1- عبادة عن خوف .
2- عبادة عن طمع .
3- عبادة مجردة من الخوف والطمع وهى أرقاها .
ولا شك أن هذه العبادة التى دعت إليها رابعة العدوية تبدوا مخالفة للنصوص الشرعية ومنهج النبوة ، حيث جعل أصحاب هذا الاتجاه ذات الله موضوعا للاختيار فى مقابل الدنيا والآخرة .
ــــــــــــــــــــــــ
1- هى رابعة بنت إسماعيل العدوية العابدة المشهورة ، قال ابن كثير : أثنى عليها الناس وتكلم فيها أبو داود السجستانى واتهمها بالزندقة فلعله بلغه عنها أمر وقد ذكروا لها أحوالا وأعمالا صالحة وصيام نهارا وقيام ليل ، توفيت بالقدس الشريف سنة 185 هـ انظر البداية والنهاية لابن كثير حـ 10 ص 186 صفة الصفوة حـ 2 ص 249 تذكرة الأولياء لفريد الدين العطار حـ 1 ص 71 وما بعدها .
2ـ صفة الصفوة حـ 2 ص 249 .
والواقع أن بعض أوائل الصوفية تصوروا أن العبد ينبغى أن يسترسل مع الله على غير انتظار للثواب وعلى غير خوف من العقاب بل يسترسل معه على ما ينبغى له سبحانه وتعالى من العبودية حتى وصلوا إلى درجة يحتقرون فيها من عبد الله انتظار لثوابه وخوفا من عقابه .
وقد صنفوه من التجار الذين لا يعطون إلا لانتظار البدل ، بل غالى بعضهم فوصف هذا الفريق بأنهم عبيد السوء لا يوقرون الله عز وجل لذاته ولكن لما يصلهم من نفع أو نعمة (1) .(1/134)
وهذا النقد اللازع لمن طلب العوض فى العمل سوف يتوجه حتما وباللزوم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه باعتبار الأدلة الثابتة عنه فى كونه عبد ربه خوفا وطمعا مما يدل على خطأهم وسوء أدبهم ، كما أدى ذلك أيضا إلى استهجان البعض منهم لعذاب النار فصرح بعدم الخوف منها وقلل من شأنها ، قال أبو بكر الشبلى (2) :
ــــــــــــــــــــــــ
1- طبقات الصوفية ص489 والتعرف لمذهب أهل التصوف ص161، 184 .
2- هو جعفر بن يونس الشبلى وقيل اسمه دنف بن جحدر خرسانى الأصل بغدادى المنشأ والمولد صحب الجنيد ومن فى عصره من المشايخ ، له بعض الشطحات والمخالفات الشأن فى صحتها توفى سنة 334 هـ انظر شذرات الذهب حـ2 ص 338 ، اللباب حـ 2 ص 10 وفيات الأعيان جـ1 ص 225 تاريخ بغداد حـ 14 ص 389 ، الكامل لابن الأثير حـ 8 ص 350 وطبقات الصوفية ص 337 .
( إن لله عبادا لو بزقوا على جهنم لأطفئوها ) (1) .
وقال أيضا : ( لو خطر ببالى أن الجحيم بنيرانها وسعيرها تحرق منى شعره لكنت مشركا ) (2) .
والله سبحانه وتعالى جعل النار فى مقابل الجنة وجعل لكل منهما طريقا يوصف بالخير والشر ولم يجعل الطريقين الذين يمثلان موضوع الاختيار البشرى حيال الإرادة الإنسانية ، ذات الله مقابل الفوز بنعيم الجنة والنجاة من النار بحيث يقال : إن من أراد الله فقد وفق إلى الصواب ، ومن أراد الجنة فقد أراد غيره أو قع فى المحذور .
وقد بين شيخ الإسلام ابن تيمية خطأ هذه الطائفة من حيث ظنوا أن الجنة ليست إلا التنعم بالأكل والشرب والنكاح والباس وسماع أصوات طيبة وشم روائح طيبة ، ولم يدخلوا فى مسمى الجنة نعيما غير ذلك ، فجعلوا يطلبون نعيما أعلى من خلال رؤية الله تعالى والتنعم بالنظر إليه فسمت إليه همتهم وخافوا فوته .(1/135)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : ( قول أحدهم : ما عبدتك شوقا إلى جنتك أو خوفا من نارك ولكن لأنظر إليك وإجلالا لك ، وأمثال هذه الكلمات مقصودهم بذلك هو أعلى من الأكل والشرب ــــــــــــــــــــــــ
1- اللمع ص 490 .
2- السابق ص 491 .
والتمتع بالمخلوق ، ولكن غلطوا فى إخراج ذلك من الجنة ) (1) .
ويضيف ابن تيمية تعليلا لهذه الحالة فى مجال الاختيار بين الله وما دونه بأن الصوفى همته المتعلقة بمطلوبه ومحبوبه ومعبوده تفنيه عن نفسه حتى لا يشعر بنفسه وإرادتها ، فيظن أنه يفعل لغير مراده ، والذى طلب وعلق به همته غاية مراده ومطلوبه ومحبوبه ، فكثير من الصالحين والصادقين أرباب الأحوال والمقامات يكون لأحدهم وجد صحيح وذوق سليم ، لكن ليس له عبارة تبين كلامه ، فيقع فى كلامه غلط وسوء أدب مع صحة مقصوده (2) .
ويذكر العلامة ابن القيم فى تحقيقه لهذا الأمر أن الخطا نشأ عندهم لأنهم غلطوا فى مسمى الجنة ، فالجنة ليست اسما لمجرد الأشجار والفواكه والطعام والشراب والحور والقصور والأنهار ، وإنما الجنة اسم لدار النعيم المطلق الكامل ، ومن أعظم نعيم الجنة التمتع بالنظر إلى وجه الله الكريم وسماع كلامه وقرة العين بالقرب منه وبرضوانه ، فلا نسبة للذة ما فيها من المأكول والمشروب والملبوس والصور إلى هذه اللذة أبدا فأيسر يسير من رضوانه أكبر من الجنان وما فيها من ذلك (3) .
ــــــــــــــــــــــــ
1- مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية حـ 1 ص 699 .
2- السابق حـ 10 ص 70 .
3- مدارك السالكين لابن القيم الجوزية حـ 2 ص 80 .
واستدل لذلك بقوله تعالى : { ورضوان من الله أكبر } (1) .(1/136)
والرضوان فى الآية نكرة فى سياق الإثبات ، أى أىُّ شئ كان من رضاه عن عبده فهو أكبر من الجنة ، يقول ابن القيم بعدها : ( فأى نعيم وأى لذة وأى قرة عين وأى فوز يدانى نعيم تلك المعية ولذتها وقرة العين بها وهو سبحانه به طابت الجنة وعليه قامت ، فكيف يقال : لا يعبد الله طلبا لجنته ولا خوفا من ناره ؟ ) (2) .
وقد دلت نصوص القرآن والسنة على الثناء على عباد الله وأوليائه بسؤال الجنة ورجائها والاستعاذة من النار والخوف منها .
قال تعالى : { إنهم كانوا يسارعون فى الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا وكانوا لنا خاشعين } (3) .
وقال سبحانه : { والذين يقولون ربنا اصرف عنا عذاب جهنم إن عذابها كان غراما إنها ساءت مستقرا ومقاما } (4) .
وفى الحديث عن أبى هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه ــــــــــــــــــــــــ
1- التوبة / 72
2- السابق حـ 2 ص 80 .
3- الأنباء / 90 .
4- الفرقان / 65 : 66 .
وسلم لرجل : ما تقول فى الصلاة ؟
فقال : أتشهد ثم أقول : اللهم إنى أسألك الجنة وأعوذ بك من النار ، أنا والله ما أحسن دندنتك ولا دندنة معاذ .
فقال صلى الله عليه وسلم : حولها ندندن ) (1) .
وفى حديث الملائكة السيارة : ( إن الله تعالى يسأل عن عباده وهو أعلم بهم .
فيقولون : أتيناك من عند عباد لك يهللونك ويكبرونك
ويحمدونك ويمجدونك .
فيقول عز وجل : وهل رأونى ؟
فيقولون : لا يارب ما رأوك .
فيقول عز وجل : وكيف لو رأونى ؟
فيقولون : لو رأوك لكانوا أشد تمجيدا .
قالوا : يارب ويسألونك جنتك .
فيقول : هل رأوها ؟
ــــــــــــــــــــــــ
1- أخرجه أبو داود فى كتاب الصلاة ، باب تخفيف الصلاة برقم (927) وأخرجه ابن ماجه فى كتاب الإقامة ، باب ما يقال فى التشهد برقم (910) وأخرجه أحمد فى المسند حـ 3 ص 474 وصحح الألبانى إسناده فى كتابه صفة الصلاة ص 202 .
فيقولون : لا وعزتك ما رأوها .
فيقول : فكيف لو رأوها ؟(1/137)
فيقولون : لو رأوها لكانوا لها أشد طلبا .
قالوا : ويستعيذون بك من النار .
فيقول : وهل رأوها ؟
فيقولون : لا وعزتك ما رأوها .
فيقول : فكيف لو رأوها ؟
فيقولون : لو رأوها لكانوا أشد منها هربا .
فيقول : إنى أشهدكم أنى قد غفرت لهم وأعطيتهم ما سألوا
وأعذتهم مما استعاذوا ) (1) .
وقد قسم ابن القيم أصناف الناس فى هذا الموضع إلى أربعة أقسام :
ــــــــــــــــــــــــ
1- أخرجه البخارى فى كتاب الدعوات ، باب فضل ذكر الله عز وجل رقم (66) وأخرجه مسلم فى كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار ، باب فضل مجالس الذكر برقم ( 1722 ) وأخرجه الترمذى فى كتاب الدعوات ، باب ماجاء أن لله ملائكة سياحين فى الأرض برقم ، وأخرجه أحمد حـ 2 ص 358 ، 382 والحاكم فى المستدرك حـ 1 ص 495 .
1- من لا يريد ربه ولا يريد ثوابه فهؤلاء أعداؤه حقا وهم أهل العذاب الدائم وعدم إرادتهم لثوابه إما لعدم تصديقهم به وإما لإيثارهم العاجل عليه ولو كان فيه سخطه .
2- من يريده ويريد ثوابه وهؤلاء هم خواص خلقه وهم أصحاب نبيه صلى الله عليه وسلم ورضى عنهم أجمعين .
3- من يريد من الله ولا يريد الله فهذا ناقص غاية النقص وهو حال الجاهل بربه ، ويضرب لهذا النوع حال أكثر المتكلمين لأنهم أنكروا رؤيته والتلذذ بالنظر إلى وجهه فى الآخرة ، وأعلى الإرادة عندهم إرادة الأكل والشرب والنكاح واللباس فى الجنة وتوابع ذلك .
4- من يريد الله ولا يريد منه فهذا هو زعم بعض الصوفية بأنهم يطلبون الله بلا علة من طمع فى جنة أو خوف من نار (1) .
ويمكننا تعليل الوجهة الصوفية عند الأوائل لاختيارهم محبة الله على ما سواه من باب حسن الظن الذى ذكره شيخ الإسلام وهو أنهم لا يحسنون الكلام عن مرادهم وإن كان مقصدهم حسنا .
ذلك التعليل يتمثل فى المفاضلة والاختيار بين أثر من آثار صفات الذات وأثر من آثار صفات الأفعال ، فالجنة مخلوقة بفضل الله ورحمته ــــــــــــــــــــــــ(1/138)
1- مدارج السالكين حـ 2 ص 81 ، 82 مختصرا .
ففى الحديث عن أبى هريرة رضى الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( تحاجت الجنة والنار ، فقالت النار : أوثرت بالمتكبرين والمتجبرين .
وقالت النار : لا يدخلنى إلا ضعفاء الناس وسقطهم .
فقال الله للجنة : أنت رحمتى أرحم بك من أشاء من عبادى .
وقال للنار : أنت عذابى أعذب بك من أشاء من عبادى ولكل
واحد منكما ملؤها ) (1) .
فالجنة من آثار صفات الأفعال وهى عندهم باقية بإبقاء الله لها ، أما محبته ورضاه فإنهما يتعلقان بصفات إلهية باقية ببقائه ، فهم أثروا ما يبقى ببقائه على ما يبقى بإبقائه ، من ثم يعتبر الصوفى نفسه قد ارتقى درجة عندما يبتغى بعبادته محبة الله ورضاه وليس فضله وجنته ، فليس بعد الدنيا من دار إلا الجنة وهم آمنوا بوجودها ، ومع ذلك فإنهم أخطأوا
ــــــــــــــــــــــــ
1- والحديث أخرجه البخارى فى تفسير سورة ق ، باب قول الله تعالى وتقول هل من مزيد برقم (4850) ومسلم فى كتاب الجنة وصفة نعيمها ، باب النار يدخلها الجبارون والجنة يدخلها الضعفاء برقم (2846) والترمذى فى صفة الجنة باب ما جاء فى احتجاج الجنة والنار برقم (2561) وأحمد فى المسند حـ 2 ص 450 ، والبيهقى فى الاعتقاد ص 158 وابن منده فى الرد على الجهمية برقم (9) والآجرى فى الشريعة ص 391 .
لأنهم تجاوزوا الخط النبوى .
فقول أبى يزيد البسطامى : ( الجنة لا خطر لها عند أهل المحبة وأهل
المحبة محجوبون بمحبتهم ) (1) .
وقوله الآخر : ( إن الله قد أمر العباد ونهاهم فاطاعوه فخلع عليهم خلعة فاشتغلوا بالخلع عنه ، وإنى لا أريد من الله إلا الله ) (2) .
نقول فيه : يجب أن يتأدب فيه ويقف بعد قول رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يقدم بين يده قولا ولا فعلا ، وإن كان الدافع الذى حمله على اسقاط النظر إلى الثواب والعقاب هو تطلعه إلى الأفضل والارتقاء فى سلم الرضى والمحبة .(1/139)
وأيا كان موضوع الاختيار البشرى عند الصوفية الأوائل ، فإنهم جعلوا مجاله محددا بالالتزام بفعل دون آخر وفق توجيه الشرع وتدبير الله ، كما أن شيوخ الصوفية رفضوا رفضا باتا فكرة الاتحاد بالذات الإلهية وشهودها من خلال القول بالمحبة فى ذات الله ، والأقوال السابقة لمشايخ الصوفية تؤكد أنهم يعنون بحب الذات أو الفناء فى الله فناء الإرادة الإنسانية عند رؤية إرادة الله التشريعية ، وانطلاقا من محبة العبد لربه فإنه يلتزم بأوامر المحبوب ونواهييه قولا وعملا فيكون سلوكه ترجمة ــــــــــــــــــــــــ
1- طبقات الصوفية ص 70 .
2- السابق ص 71 .
لرغائب محبوبه ، محفوظا فيما لله عليه مأخوذا عما له وعن جميع المخالفات .
وعلى الرغم من أن أوائل الصوفية أجمعوا على أن القبيح ما قبحه الله والحسن ما حسنه ، وأن القبيح ما نهى والحسن ما أمر به إلا أن بعضهم انزلق إلى مفهوم يبطل دين الله كليه ويقلب مجال الاختيار الذى شرعه بالأمر والنهى إلى معان كفرية خبيثة ، فإذا كان مشايخ الصوفية قد وقفوا موقفا حازما من القائلين بالحلول والاتحاد فإن الحلاج (1) ومن سار على نهجه قد جعلوا موضوع الاختيار فى المقابلة بين القول بالحلول وبين التحلل من الشرع وانفكاك معانية واضمحلالها ، فجوز ــــــــــــــــــــــــ(1/140)
1- هو الحسين بن منصور الحلاج يكنى بأبى المغيث ، كان جده مجوسيا اسمه محمى من أهل بيضاء فارس ، نشأ بواسط وقيل بتستر وقدم بغداد فخالط الصوفية وصحب الجنيد بن محمد وأبا الحسين النورى ، وعمرو بن عثمان المكى ، والصوفية مختلفون فيه رده أكثر المشايخ ونفوه وأبوا أن يكون له قدم فى التصوف وأثنى عليه جماعة منهم وصححوا حاله وجعلوه عالما ربانيا ، مات مقتولا بسبب آرائه سنة 309 هـ انظر تاريخ بغداد حـ 8 ص 112 البداية والنهاية حـ 11 ص 144 ، طبقات الشعرانى حـ 1 ص 126 ، شذرات الذهب حـ 2 ص 233 ، وفيات الأعيان حـ 1 ص 183 ، اللباب حـ 1 ص 330 ، والمنتظم حـ 6 ص 160 ، الفهرست لابن النديم ص 283 ، وأخبار الحلاج لويس ماسينيون وبول كراوس ، باريس سنة 1936م .
الحلاج كفر فرعون وإبليس وضياع المعانى الشرعية فى مقابل القول بالحلول فنراه يدافع عن إبليس وفرعون فى عصيانهما الأمر الإلهى ويرى فيهما مثالا للفتوة الحقة ، بل لقد صرح بأن استاذه هو إبليس وفرعون ، فإبليس لما عصى الله بامتناعه من السجود لآدم ، إنما عصى الأمر لأنه أبى أن يسجد إلا لله .
ولما قال الله لإبليس : لأعذبنك عذاب الأبدية .
قال له إبليس : أو لست ترانى فى تعذيبك إياى .
قال : بلى .
قال : فرؤيتك إياى تحملنى على عدم رؤية العذاب (1) .
فهو ينسى عذابه لحلول الحق فيه ، وكان إبليس فى نظر الحلاج مجيبا لله لا عاصيا له لأن إبليس قد رأى فى جحوده للأمر تقديسا للآمر (2) .
يقول الحلاج : ( إن لم تعرفوا الله فاعرفوا آثاره ، وأنا ذلك الأثر وأنا الحق لأننى ما زلت أبدا بالحق حقا ، فصاحبى وأستاذى إبليس وفرعون ، فإبليس هدد بالنار وما رجع عن دعواه ، وفرعون أغرق
ــــــــــــــــــــــــ
1- الطواسين للحلاج نشره الأستاذ لويس ماسينيون ص 12 طبعة باريس سنة 1913 م
2- من قضايا التصوف فى ضوء الكتاب والسنة ص 105(1/141)
فى اليم وما رجع عن دعواه وإن قتلت أو صلبت أو قطعت يداى ورجلاى ما رجعت عن دعواى ) (1) .
وثبت عنه أنه قال (2) :
أنا من أهوى ومن أهوى أنا : نحن روحان حللنا بدنا
فإذا أبصرتنى أبصرته : وإذا أبصرته أبصرتنا
وقريب من فعل الحلاج ما يروى عن بعض الصوفية كأبى الحسين النورى فى تفضيله نباح الكلب على تكبير المؤذن .
فلما سمع المؤذن دعا عليه قائلا : طعنة وشم الموت .
وسمع نباح الكلاب فقال : لبيك وسعديك .
لل ذلك فقال : أما المؤذن فأنا أغار عليه أن يذكر الله وهو غافل يأخذ عليه الأجرة ، ولولا الأجرة من حطام الدنيا التى يأخذها لما ذكر الله ، فلذلك قلت له : طعنة وشم الموت .
وقد قال الله تعالى : { وإن من شئ إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم } (3) .
ــــــــــــــــــــــــ
1- الطوسين ص 51 ، 52 .
2- المنتظم حـ 6 ص 162 ، تاريخ بغداد حـ 8 ص 129 .
3- الإسراء / 44 .
فالكلب وكل شئ يذكرون الله بلا رياء ولا سمعة ولا طلب للعوض (1) .
وفى هذا الكلام وأمثاله ضياع لمعانى الكتاب والسنة فالمخلوقات تسبح بواقع الربويية ولا اختيار لها فى قبول التسبيح أو رفضه لأنها اختارت بداية قبول الطاعة الدائمة كما دلت آية الآمانة فى سورة الأحزاب فلا تكليف عليها :
قال تعالى : { ثم استوى إلى السماء وهى دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أوكرها قالتا أتينا طائعين } (2) .
أما الإنسان فهو حامل للأمانة مستخلف فى الأرض مريد حر مكلف باتباع الشرع على سبيل الابتلاء ، فلا بد من السعى والمجاهدة والحفاظ على الأمانة بأدائها .
وإذا كان المؤذن يؤدى ما أوجب الله عليه ولو تقاضى أجرا وكان جزاؤه الإعدام من وجهه نظر النورى فأى معنى للشريعة يبقى مع هذا الاعتقاد الفاسد .
ولا شك أن هذه الأقوال فتحت الباب للقول بوحدة الوجود وغيره من الفلسفات التى شوهت صورة الأوائل من الصوفية .
ــــــــــــــــــــــــ
1- اللمع ص 492 .
2- فصلت / 11 .(1/142)
وخلاصة الأمر أن أغلب المشايخ من الصوفية الأوائل جعلوا موضع الاختيار ما ذكره الله فى كتابه من وعده بالجنة ووعيده بالنار ، وأن مجال الاختيار يتمثل فى الالتزام بالأحكام التشريعية ممثلة فى الأوامر والنواهى التكليفية ، وحتى الذين جعلوا محبة الله فى مقابل التضحية بكل شئ فهم وإن أخطأوا فى ذلك إلا أنهم لم يجوزوا الخورج عن مجال الأحكام الدينية ودعوا إلى الالتزام بالسنة .
*** المبحث الخامس ***
العلاقة بين المشيئه الإلهية المطلقة والإرادة
الإنسانية الحادثة
يثبت الصوفية الأوائل بوضوح وجلاء طلاقة المشيئة الإلهية كما جاء فى قوله تعالى : { قال كذلك الله يخلق ما يشاء إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون } (1) إذ يعتبرون ذلك من أهم الأسس فى توحيد الربوبية ودعائمه ، ولذا فإننا نجدهم يؤكدون على أنه لا فاعل فى الكون إلا الله ولا خالق للعالمين سواه ، فالله سبحانه وتعالى هو خالق الخلق بما يتجدد فيه من آحاد أو يحدث فيه من فناء ، وله سبحانه وتعالى المشيئة المطلقة التى تحكم الكون دون قيود أو شئ يحد من انطلاقها أو مثيل له فيها .
وهو سبحانه وتعالى الموجود الحق وكل ما سواه مستمد وجوده منه وأوائل الصوفية يرون أنه سبحانه وتعالى دليل على وجود غيره من المخلوقات وليس غيره دليلا عليه أو على وجوده ، وإن كانوا لا ينكرون أن مخلوقات الله آيات تشهد لعظمته وقدرته وعلمه ، ولكن المسلم ليس بحاجة إلى المخلوقات لمعرفة ربه وعظمته ولكنهم عرفوا الله
ــــــــــــــــــــــــ
1- آل عمران / 47 .
بتوفيقه لهم وعبادتهم إياه .
قيل لذى النون المصرى : بماذا عرفت ربك ؟
قال : ربى أجل من أن يعرف بشئ ولكن عرفت ربى بربى وعرفت ما دون ربى بربى (1) .
وهم أفردوا الله بالخلق ، والخلق كان معلومة فى علم الله فى الأزل ثم دون الله علمه فى اللوح المحفوظ ثم أظهره بمشيئته إلى الواقع المشهود من خلال قوله : كن فكان ما أراد ، وتم ما سبق به القضاء .(1/143)
وقد تقدم أنهم استدلوا بقوله تعالى : { إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون } (2) على إثبات كلمة كن المظهرة لكل المخلوقات والتى أصبحت بعد أن لم تكن عيانا قائمة ومفعولات له سبحانه بالكلمة الأزلية والفعل القديم (3) .
يقول الحارث المحاسبى : ( هو الأول قبل الأبد والآخر إلى غير أمد المنشئ لما شاء بمشيئته ، لما سبق فى ذلك من علمه واستتر فى خفى غيبة فكان أمره جل ثناؤه :
{ إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون }
ــــــــــــــــــــــــ
1- الرسالة القشيرية حـ 2 ص 586 .
2- يس / 82 .
3- قوت القلوب حـ 1 ص 242 .
بمحكم من الصنعة وإتقان من الحكمة ) (1) .
ويعتبر ذو النون المصرى طلاقة المشيئة والفاعلية أساس التوحيد فالكل مخلوق بمشيئة مقدرة ، ومن توهم أن فعل الله محكوم بقوانين أو قوالب أو نماذج أو كيفيات محددة بحيث لا يفعل بغيرها كما قال كثير من المتكلمين والفلاسفة فما وحد الله عندهم .
فهم ما برحوا يؤكدون فى اعتقادهم أن الله على كل شئ قدير سواء أراد أن يفعل من خلال سننه أو أراد أن يفعل بكيفية أخرى فلا تمتنع أمام قدرته شئ ، سئل ذو النون المصرى عن التوحيد ؟
فقال : ( أن تعلم أن قدرة الله تعالى فى الأشياء بلا مزاج وصنعه للأشياء بلا علاج ) (2) !
فالله سبحانه وتعالى هو رب العالمين ، والرب يفعل فى ملكه ما يشاء وينفرد بتصريف ملكه وتدبير أمره يقول ذو النون :
( لو شاء لم يتكلم ولم ينقصه ترك الكلام ، ولو شاء تكلم بلا كلام ، ولو شاء تكلم بلا إلهام ، ولو شاء لقوى أبصار الناظرين على رؤيته ، وأسكن الكثير فى القليل وأسمع ــــــــــــــــــــــــ
1- الرزق الحلال وحقيقة التوكل على الله للحارث المحاسبى ص31 .
2-الرسالة القشيرية حـ 2 ص 582 .
الميت خفى الكلام الذى لا يسمعه الحى السوى ) (1) .(1/144)
وإذا تبين لنا أن المشيئة الإلهية عند أوائل الصوفية تعنى أنه لا شئ يحدث فى هذا الكون إلا بأمر الله وقضائه وقدره فإن ثمة سؤال ضرورى بعد ذلك وهو :
كيف يفسر مشايخ الصوفية العلاقة بين المشيئة الإلهية المطلقة وبين الإراده الإنسانية الحادثة ؟
أو كيف يثبتون حرية الإنسان ومسئوليته عن أفعاله فى ظل المشيئة الإلهية المطلقة مع عدم التعارض بينهما ؟
حيث أن الممنوع عقلا قيام إرادتين حرتين فى الوجود تعملان بلا تصادم أو تعارض أو تناف ، فالمشيئة الإلهية المطلقة معناها أن الله يفعل ما يشاء بلا موانع ولا عوائق وبلا حد أو معارضة أو مخالفة مهما صغرت تعوق التنفيذ أو تبطئة أو تغيير من كيفه أو تقلل من كمه أو تزيد ، إنما يأتى الخلق أو الفعل المراد له فى اللحظة التى شاءها الله بالكم والكيف المرادين له سبحانه ، فإذا ما قامت إرادة حرة حادثة لها اختيارها الذاتى وحركتها الحرة ، تبادر للذهن من أول وهلة أن هذه الإرادة الحادثة تشكل حدا يحد من المشيئة الإلهية فيمنع انطلاقها ؟!
ــــــــــــــــــــــــ
1- علم القلوب ص 89 .
هذه فحوى المشكلة التى نبحث عن حلها عند مشايخ الصوفية الأوائل .
وفى هذا الصدد يقول ابن خفيف الشيرازى فى معتقد الصوفية الأوائل : ( ويعتقد أنه تعالى فعال لما يريد ، لا ينسب الظلم إليه وأنه يحكم فى ملكوته كيف يشاء بلا اعتراض ، ولا مرد لقضائه ، ولا معقب لحكمه ، ويعتقد أنه تعالى يقرب من يشاء بغير سبب ، ويبعد من يشاء بغير سبب ، وإرادته فى عباده ما هم فيه ، وبرضاه طاعتهم ، والمعصية بمراده لا برضاه ) (1) .
فقد بين فى هذا الاعتقاد أن كل شئ بقضاء الله وقدره ، وأنه سبحانه تعالى هو الخالق لأفعال العباد ، فهو يخلق الكافر وأفعاله ويشاؤها ولكن لا يرضاها ولا يحبها فيريدها كونا ولا يرضاها دينا دل على ذلك قوله :(1/145)
( والمعصية بمراده لا برضاه ) واحترز مما ذهب إليه أهل الاعتزال من أن الله شاء الإيمان من الكافر ولكن الكافر شاء الكفر لئلا يقال : شاء الكفر من الكافر وعذبه عليه (2) .
ــــــــــــــــــــــــ
1- سيرة الشيخ الكبيرعبد الله بن خفيف ص 341 .
2- انظر قوت القلوب حـ1 ص 128 حيث يذكر المكى هذا الكلام وينسبه لإمام المعتزلة عمرو بن عبيد ويرد عليه .
فقال : ( ولا ينسب الظلم إليه ) ثم بين طلاقة المشيئة لينفى ما لزم المعتزلة مما هو أسوأ من قولهم السابق ، وهو أن مشيئة الكافر غلبت مشيئة الله فقال : ( وأنه يحكم فى ملكوته كيف يشاء بلا اعتراض ولا مرد لقضائه ولا معقب لحكمه ) .
وفى ذلك يقول تعالى : { إنا كل شئ خلقناه بقدر } (1) حتى لا يخرج خلقه عن مشيئتة وقدره
وقال : { فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد فى السماء } (2) ليدلل على أن إرادته فى عباده ما هم فيه ، فالإيمان والكفر بمشيئة الله .
وقال تعالى : { إن تكفروا فإن الله غنى عنكم ولا يرضى لعباده الكفر وإن تشكروا يرضه لكم } (3) .
وقال تعالى : { والله لا يحب الفساد } (4) ليدلل على أن
ــــــــــــــــــــــــ
1- القمر / 49 .
2- الأنعام / 125.
3- الزمر / 7 .
4- البقرة / 205 .
المعصية بمراده لا برضاه .
وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه ) (1) .
ومنشأ الضلال من التسوية بين المشيئة والإرادة الكونية من ناحية وبين المحبة والرضا وإرادته الشرعية من ناحية أخرى ،.
فالجبرية قالت : الكون كله بقضاء وقدر فيكون محبوبا له .
والقدرية قالت : ليست المعاصى محبوبة لله ولا مرضية له فهى ليست مقدره ولا مقضية بل خارجة عن مشيئته وخلقه .
أما أوائل الصوفية فإنهم قالوا : إن إرادة الله وإن كانت صفة من صفات الله الأزلية إلا أنها بين وجهين :(1/146)
* الوجه الأول : إرادة كونية قدرية ، وهى المشيئة الشاملة لجميع الحوادث ومنها مايحبه وما لا يحبه ، وبها يصدر الأمرالإنشائى التقديرى من الله إلى جميع المخلوقات من السماوات والأرض والجن والإنس والملائكة وكل ما فى الكون على سبيل الإنشاء
ــــــــــــــــــــــــ
1- أخرجه أحمد فى المسند حـ 2 ص 108 والطبرانى فى الكبير برقم (11880) وأبو نعيم فى الحلية حـ 8 ص 276 والدارمى فى مسنده برقم (990) وعبد الرزاق فى مصنفه برقم (20569) والهيثمى فى مجمع الزوائد حـ 3 ص 162 والإحسان فى تقريب صحيح ابن حبان برقم (354) .
والمتابعة ، وهذا الأمر نافذ لا محاله فلا يتخلف باعتبار معنى الربوبية الذى ذكره سهل بن عبد الله (1) والذى ورد فى قوله تعالى عن موسى عليه السلام : { ربنا الذى أعطى كل شئ خلقه ثم هدى } (2) وعن إبراهيم عليه السلام :
{ فإنهم عدو لى إلا رب العالمين الذى خلقنى فهو يهدين والذى هو يطعمنى ويسقين وإذا مرضت فهو يشفين والذى يميتنى ثم يحين } (3) .
* الوجه الثانى : إرادة شرعية إلهية يصدر بها أمر ابتلائ خاص للإنسان والجان ، قد يلتزمان به وقد يمتنعان عن تنفيذه ، وهذه الإرادة هى المتضمنة للمحبة والرضا وهى التى تستلزم أمر الله ونهيه ، فلا شك أن الفرق ثابت بين إرادة المريد أن يفعل وبين إرادته من غيره أن يفعل ، فالأولى متعلقة بفعله والثانية متعلقة بفعل الغير .
ــــــــــــــــــــــــ
1-حيث قال : ( ومعنى رب العالمين سيد الخلق المربى لهم والقائم بأمرهم المصلح المدبر لهم قبل كونهم وكون فعلهم المتصرف بهم ، لسابق علمه فيهم كيف يشاء لما شاء وأراد حكم وقدر من أمر ونهى لا رب لهم غيره ) انظر تفسير التسترى ص 7 .
2- طه / 50 .
3- الشعراء / 77 : 81 .
سئل سهل بن عبد الله عن قوله تعالى : { وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين } (1) .(1/147)
قال السائل : لما أمر إبليس بالسجود لآدم أراد منه ذلك أم لا ؟
فقال سهل : أراده ولم يرده (2) .
ويشرح أبو طالب المكى كيف فرق سهل بن عبد الله بين الوجهين فى الإرادة فقال : ( يعنى أنه أراده شرعا وإظهارا عليه إيجابا وتكليفا ولم يرده منه وقوعا ولا كونا ، إذ لا يكون فى ملكه إلا ما أراد الله تعالى ، فلو أراد كونه لكان ولو أراده فعلا لوقع بقوله تعالى :
{ إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون } (3) فلما لم يكن ، عُلم أنه لم يرده ، فقد كان الأمران معا :
1- إرادته بالتكليف والتعبد .
2- إرادته بأن لا يسجد ، فلم يقدر أن يمتنع من ألا يسجد كما لم يقدر من أن يمتنع أن يؤمن ) (4) .
ــــــــــــــــــــــــ
1- البقرة / 34 .
2- قوت القلوب حـ 1 ص 128 .
3- يس / 82 .
4- السابق حـ1 ص 218.
وثمة فرق آخر دقيق فى كلام أوائل الصوفية ، وهو تفريقهم بين المشيئة والإرادة والأمر فالمشيئة لاتكون إلا كونية فهى من مراتب القدر وسابقه لكل ما هو كائن حتى مشيئة العباد ، قال تعالى : { وما تشاءون إلا أن يشاء الله } (1) .
أما الإرادة والأمر فيحملان الوجهين السابقين :
1- وجه بالمعنى الكونى المساوى للمشيئة .
2- وجه بالمعنى الشرعى الذى يمكن للعباد مخالفته .
يقول المكى : ( والأمة مجمعة على قول : ما شاء الله كان ، وما لم يشأ لم يكن ، واجتمعت على قول : لا حول ولا قوة إلا بالله فهذا عام فى كل شئ ليس فى بعض الأشياء دون بعض ) (2) .
ثم يفرق بين الوجهين فى الإرادة والأمر فيقول بعد ذكره لسؤال السائل الذى أجاب عليه سهل بن عبد الله :
( وكذلك القول فى كل ما أمر به وأراده ، أنه أراد الأمر الشرعى ليكونوا مكلفين متعبدين ، ولم يرده ممن لم يكن فيه الامتثال لأنه سبحانه وتعالى قال : { إنما قولنا لشئ إذا أردناه أن نقول له كن
ــــــــــــــــــــــــ
1- الإنسان / 30 .
2- السابق حـ1 ص 218.
فيكون } (1) .(1/148)
فأخبر أنه إذا أراد شيئا كونه ، كما أنه إذا كون شيئا فقد أمر بتكوينه وأراده بدلالة كونه ، فلما لم يكن الأمر من العاصين علمنا أنه لم يرده إذ لوأراده كان فصار كون الشئ دليلا على إرادته ) (2) .
ثم يذكر بعد ذلك العلة فى كون هذا التقسيم فيقول :
( وهذا أصل الابتلاء وإرادة ظهور البلاء ، يأمر الله تعالى بالشئ ويريد كون ضده وقد أراد الأمر به وحسب ، وينهى عن الشئ ويريد كونه ، وقد أراد النهى عنه فقط ) (3) .
ويذكر الترمذى كيف أن الخلق لا يخرجون عن المشيئة لما سئل :
ما تقدير الله ؟
قال : إبراز علمه فى عبيده من الغيب بمشيئته ، فقد علم ما يفعل
هذا العبد فأبرز علمه (4) .
ثم يبين أن الحكمة البالغة هى التى برزت يوم المقادير من قبل خلق ــــــــــــــــــــــــ
1- النحل / 40 .
2- السابق حـ1 ص 218 .
3- السابق حـ1 ص 218 .
4- أدب النفس للحكيم الترمذى ص 94 .
السماوات والأرض بخمسين ألف عام ، وإنما كانت حكمة بالغة لأنها بلغت علم المقادير ، ومنها جرت إلى العباد وإلى الحكمة الظاهرة التى أدتها الرسل إلى الأمم ، فإن الله سبحانه وتعالى شرع لكل رسول شريعة الأمر والنهى من الحكمة البالغة ، فمن عرف ذلك فقد عرف الشرائع .
وإنما وضعت الشرائع ابتلاء للعباد ، واستخراجا لما يثبت لهم فى سابق علمه لأن المقادير وقت الابتلاء والعبودية ، فالخلق فى المشيئة والمقادير مأخوذون بالعبودية للزوم الحجة ، فمنهم من وفى ومنهم من أبق ولم ينقض العهد ، ومنهم من أبق ونقض العهد .
فإذا انتهى وقت الابتلاء والتمحيص عادت الأمور إلى ما كانت عليه فى البدء ، فهى مقادير ابتلاء وهى فى نفس الوقت مقادير تقسيم الحظوظ على العباد .
وتشمل هذه الحظوظ ما يتعلق بحياة العبد من إيمان وسعى ورزق وأجل وغير ذلك مما وضع فى جبله كل عبد ونشأته ، ولابد أن يظهر ذلك فى واقع الحياة الدنيا وأن يقوده إما إلى الجنة وإما إلى النار .(1/149)
فكل ما يبرز فى عالم الابتلاء وعالم التدبير إنما هو تحقيق لمشيئة الله وما تم لهم يوم المقادير (1) .
ـــــــــــــــــــــــ
1- الحكيم الترمذى ونظريته فى الولاية بتصرف ص 315 ، 316 ، 317 .
ويورد المكى هذا التفصيل تحت بابين اثنين باب الربوبية وباب العبودية :
* فالأمور الكونية والمعانى الحتمية الصارمة كالمشيئة والإرادة الكونية هى باب الربوبية وواجب على العبد الموحد أن يفرد الله بها .
* والأمور الشرعية والمعانى الاختيارية كالإرادة الشرعية والأمر الشرعى هى باب العبودية وواجب على العبد أن يسلم لله فيها وأن يفرده بالعبودية ولا يخضع لسواه .
يقول المكى : ( وهذا التفصيل فى هذه المعانى من الأحكام هو ظاهر العلم وفرض القدر وفحوى التنزيل والشرع والجبر للملك الجبار ، يجبر خلقه على ما شاء كما خلقهم لما شاء ويردهم إلى ما شاء ، كما ينشئهم فيما يشاء فالحكم لله العلى الكبير الواحد القهار ) (1) .
ثم يبين تعلق ذلك بالربوبية والعبودية فيقول :
1- يقهر عباده كيف شاء ويجرى عليهم مايشاء وله الحجة البالغة والعزة القاهرة والقدرة النافذة والمشيئة السابقة بوصف الربوبية وبحكم الجبرية .
ــــــــــــــــــــــــ
1- قوت القلوب ، حـ 1 ص 128 .
2- وعليهم الاستسلام والانقياد والطاعة والاجتهاد طوعا وكرها بوصف العبودية وبحق الملكة (1) .(1/150)
فمن شأن أهل اليقين أن تنسلخ نفوسهم من التدبير والاختيار الذى يخالف تدبيره تعالى واختياره ، بل قد سلموا إليه سبحانه وتعالى التدبير كله ، سواء كان تدبيرا بواقع الربوبية فى الخلق والإيجاد والإمداد والرزق والمنع والعطاء ، أو كان تدبيرا بواقع معنى العبودية فيما أمر ونهى وفرض وحرم ، فلا يزاحم تدبيرهم ولا اختيارهم اختياره لتيقنهم أنه الملك القاهر القابض على نواصى الخلق المتولى تدبير أمر العالم كله ، وتيقنهم مع ذلك أنه الحكيم فى أفعاله الذى لا تخرج أفعاله عن الحكمة والمصلحة والرحمة ، فلم يدخلوا أنفسهم معه فى تدبيره لملكه وتصريفه أمور عباده ولا اعتراضوا عليه أو تسخطوا تدبيره أو تمنوا سواه بل همهم كله فى إقامة حقه عليهم (2) .
وبدون الفهم الصحيح للعلاقة بين المشيئة الإلهية المطلقة والإرادة الإنسانية الحادثة والتفريق بين الإرادة الكونية والإرادة الابتلائية والأمر الكونى والأمر الابتلائى سيكون الأمر غامضا متناقضا ، وبالتفريق ــــــــــــــــــــــــ
1- السابق حـ 1 ص 128 ، 129 .
2- طريق الهجرتين وباب السعادتين لابن القيم الجوزية ، تحقيق محب الدين الخطيب طبعة المكتبة السلفية ص 216 بتصرف .
بينهما جميعا سيكون الأمر واضحا جليا .
فالأمر الإلهى والإرادة الكونية والمشيئة المطلقة كل ذلك عندهم يعمل فى الجانب الجبرى من الإنسان وبقية المخلوقات فى الكون .
أما الجانب الاختيارى فى الإنسان فإن الإرادة الدينية أو الأمر الإلهى الابتلائى موجه إليه ولا يعنى ذلك أن هناك من يفعل أو هناك ما يحدث فى الكون بدون أمر الله الكونى أو بخلاف ما يريد ، فإن فعل الإنسان المخالف لأمر الله الابتلائى التخييرى موافق لأمره الكونى الذى هو قضاؤه وقدره ، وأمره بجعل الإنسانحرا يفعل ما يختار لابتلائه ، هذا الأمر كونى عام وشامل وسابق على الأمر الابتلائى فى يوم التقدير وعلم التدبير قبل التكوين فى الحكمة الظاهرة (1) .(1/151)
وكذلك لا يعنى ذلك عندهم أن الأمر الإلهى متعدد ومتنوع وأن الإرادة الإلهية متعددة ومتنوعة وإنما هذه صفات الله ، فالإرادة واحدة ولكنها إذا صدرت للمخلوقات بكلمة كن المفصلة والمظهرة كما يسميها سهل بن عبد الله (2) فإنها تصبح ابتلائية تخييرية للإنسان وكونيه جبرية لغيره من المخلوقات التى لم تخلق للابتلاء .
ولذلك فإن المكى قد وفق عندما حصر أعمال العباد فى ثلاثة أنواع ــــــــــــــــــــــــ
1- انظر الحكيم الترمذى ونظريته فى الولاية ص 316 .
2- انظر ص 131 .
تبين العلاقة بين المشيئة الإلهية والإرادة الإنسانية :
[1]- الفرض وهو ما أمر به العباد على سبيل الإلزام وفيه تجتمع ثلاثة معان عند استجابة العبد :
1- المشيئة الشاملة والإرادة الكونية المطلقة .
2- الإرادة الابتلائية والأمر التشريعى المتضمن للمحبة .
3- إرادة العبد بالامتثال للشرع واختياره تدبير الله (1) .
وفى تلك الحالة يتعامل العبد مع أوامر الله التشريعية على أنه أسلم نفسه لله وانسلخ من التدبير والاختيار الذى يخالف تدبير الله واختياره ، فينخرط فى سلك سائر الكائنات العابدة ، وكأنه يقف معها فى صف واحد يجمعهم وصف العبودية ، كما قال تعالى فى جمعه للكائنات العابدة مع عبودية الإنسان : { ألم تر أن الله يسجد له من فى السماوات ومن فى الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وكثير من الناس } (2) فجعلهم صفا واحدا فى السجود مع كون المخلوقات خارجة عن الابتلاء والانسان داخل فيه .
[2]- النوع الثانى فى حصر أعمال العباد هو النفل وهو ما أمر به ــــــــــــــــــــــــ
1- قوت القلوب حـ 1 ص 127 .
2- الحج / 18 .
العباد لا على سبيل الحتم والإلزام وفيه معنيان :
1- المشيئة الشاملة والإرادة الكونية المطلقة .
2- محبة الله له إذ ندب إليه .(1/152)
فإذا فعل العبد ما ندب الله إليه فقد وافق المشيئة والمحبة يقول المكى : ( ونقول : إن النفل لا بأمر الله الإلزامى لأنه لم يوجبه ولم يعاقب على تركه ولكن بمحبة الله ومشيئة جل وعلا ، لأنه سبحانه شرعه وندب إليه ) (1) .
وكثير من أوائل الصوفية نزلوا المستحبات أو المندوباب منزلة الواجبات بغية التقرب إلى الله وسوف يأتى تفصيل ذلك إن شاء الله .
[3]- النوع الثالث فى حصر أفعال العباد المعصية وهى مخالفة العبد لإرادة الله التشريعية وفيها يجتمع من المعانى :
1- المشيئة الشاملة والإرادة الكونية المطلقة .
2- مخالفة الإرادة الإنسانية الحادثة للأمر الشرعى والإرادة الشرعية .
يقول المكى : ( إن المعصية لا بأمر الله لأنه لم يشرعها على ألسنة المرسلين ، ولا بمحبة الله لأنه قد كرهها إذ لم يأمر بها ولم يندب إليها ــــــــــــــــــــــــ
1- السابق حـ 1 ص 127.
ولكن بمشيئة الله جلت عظمته ألا يخرج شئ منها كما لم يخرج شئ من
علمه ، فقد دخل كل شئ فيها كما دخل كل شئ فى العلم ) (1) .
فالله سبحانه وتعالى أراد بإرادة نافذة وأمر أمرا كونيا سابقا على الأوامر الابتلائية فى الزمن السحيق أن يكون الإنسان حرا وأن يفعل ما يختاره حتى ولو كان معارضا وخارجا عن الأمر الابتلائى ، وكل ذلك لحكمة الابتلاء وهى الغاية القصوى من خلق عالم الشهادة وعالم الغيب ، فإذا فعل الإنسان أى فعل مخالف لأوامر الله ونواهيه التشريعية ، فإنه يمارس الحرية ويختار ما ينبع من إرادتة وينفذه بأمر الله الكونى الأول الذى أصبح به مختارا ، ويصبح معنى القدر الإلهى بالنسبة للإنسان قدرا من الإنسان العاصى لعصيانه ، أى أن الله قدر منه المعصية ومكنه منها بالأمر الكونى الذى به أصبح حرا .
ومن ثم يكون معنى الاختيار بالنسبة للإنسان عودة اختيارية من المختار إلى أمر الله الكونى الذى تسير به كل الكائنات المخلوقة لله سبحانه وتعالى .(1/153)
يقول المكى فى إجمال هذا المعنى : ( فالله سبحانه عالم بما أراد وقد ــــــــــــــــــــــــ
1- السابق حـ 1 ص 127 ولذلك أخرج الله العصاة من أية الحج رقم 18 ولم يجعلهم فى صف الساجدين فقال : { وكثير حق عليه العذاب } ثم أدخلهم فى المشيئة فقال : { ومن يهن الله فماله من مكرم إن الله يفعل ما يشاء } .
سبق به علمه ، كذلك هو مريد لما علمه أظهرت إرادته سابق علمه وكشف علم الغيب بظهور إرادته الشهادة ، فهو عالم الغيب والشهادة فالغيب علمه والشهادة معلومة ، فكيف يخالف المعلوم العلم وهو إجراؤه والإرادة نفذت العلم فى معلومات الخلق ، وهذا فرض التوحيد ) (1) .
وبذلك نصل إلى أن أوائل الصوفية وفقوا إلى تقديم الحل المقنع فى التوفيق بين المشيئة الإلهية المطلقة والإرادة الإنسانية الحادثة وأثبتوا افتقارهم إلى تدبير الله لهم ، فلا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا ولا يملكون موتا ولاحياة ولا نشورا فعادوا بفقرهم إلى ربوبيته لعلمهم بفقر المخلوقات بأسرها إلى مشيئته وتدبيره ، وعادوا بفقرهم إلى ألوهيته كما افتقر أنبياؤه ورسوله وعباده الصالحين إليه لعلمهم أن هذا هو الفقر النافع ، فرأوا أعمالهم مستحقه عليهم بمقتضى كونهم مملوكين مستعملين فى أوامر سيدهم ، فأنفسهم مملوكة وإرادتهم لسيدهم وأعمالهم مستحقة بموجب العبودية تحقيقا لقوله سبحانه :{ إياك نعبد وإياك نستعين } (2) .
ــــــــــــــــــــــــ
1- السابق حـ 1 ص 127 ، 128 .
2- انظر الرزق الحلال وحقيقة التوكل على الله للمحاسبى ص 33 : 39 وانظر مدارج السالكين حـ 2 ص 45 ، وما بعدها ، وطريق الهجرتين ص 11 .(1/154)
الباب الثالث
الحرية من الجانب العملى السلوكى
وقد اشتمل على فصلي :
الفصل الأول : الاستطاعة البشرية والفاعلية الإلهية
الفصل الثانى :الحرية ومنهج العبودية
الفصل الأول
الاستطاعة البشرية والفاعلية الإلهية
وقد اشتمل على أربعة مباحث :
المبحث الأول : الاستطاعة من مقومات الحرية عند الصوفية
المبحث الثانى: الاستطاعة وعلاقتها بالعلل والأسباب
المبحث الثالث : العلاقة بين الفاعلية الإلهية والفاعلية الإنسانية
المبحث الرابع : الحكمة من خلق الأواسط والأسباب
*** المبحث الأول ***
الاستطاعة من مقومات الحرية
سبق أن علمنا أن أوائل الصوفية أثبتوا اختيار حرا للإنسان ، بإرادة ذاتية وأصلية فيه ، وأن الذى يختاره سواء كان طاعة أو معصية فإنه لا يخرج عن مشيئة الله الشاملة وإرادته الكونية المطلقة وإن كان ذلك مخالفا كمعصية لأمره الدينى التشريعى ، وهم يعتبرون إثبات الاختيار الحر مقوما أساسيا فى إثبات حرية العبد ووقوعه تحت المساءلة وتوقيع الجزاء فى الآخرة ، وهنا نجدهم يثبتون مقوما آخر من مقومات الحرية يتمثل فى إثباتهم لاستطاعة الإنسان على تحقيق ما يختار وقدرته عليه فهم علموا وأيقنوا أن الله استخلفهم فى الأرض وخولهم واسترعاهم فيها ليبتليهم ، ويقرر أبو سعيد الخراز فى وضوح تام هذه الحقيقة الهامة فيقول : ( إعلم أن الأنبياء عليهم السلام والعلماء والصالحين من بعدهم رضى الله عنهم أمناء الله تعالى فى أرضه على سره وعلى أمره ونهيه وعلمه وموضع وديعته ، والنصحاء له فى خلقه وبريته وهم الذين عقلوا عن الله تعالى أمره ونهيه وفهموا لماذا خلقهم وما أراد منهم وإلى ما ندبهم ) (1) .
ــــــــــــــــــــــــ
1- الطريق إلى الله لأبى سعيد الخراز ص 32 .
ثم بين أنهم أصغوا إلى الله بآذان فهومهم الواعية ، وقلوبهم الطاهرة ولم يتخلفوا عن ندبته ، فسمعوا الله عز وجل يقول :
{ آمنو بالله ورسوله وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه } (1) .(1/155)
ثم قال : { ثم جعلناكم خلائف فى الأرض من بعدهم لننظر كيف تعلمون } (2) .
وقال تعالى : { لله ما فى السموات وما فى الأرض } (3) .
وقال تعالى : { ألا له الخلق والأمر } (4) .
ويصل بعد ذلك إلى الحقيقة التى أيقن بها المؤمنون وجعلوها نصب أعينهم وفى كل أفعالهم فقال : ( فأيقن القوم أنهم وأنفسهم لله تعالى وكذلك ما خولهم وملكهم فإنما هو له ، غير أنهم فى دار اختبار وبلوى ، وخلقوا للاختبار والبلوى فى هذه الدار ) (5) .
والمحاسبى يجعل هذه الحقيقة فى كتابه الرعاية أول ما يجب على العبد معرفته والفكر فيه ويبوب لها بابا مستقلا يقوله فيه :
ــــــــــــــــــــــــ
1- الحديد / 7 .
2- يونس / 4 .
3- البقرة / 284 .
4- الأعراف / 54
5- السابق ص 32 .
( فتعلم أنك لم تخلق عبثا ولم تترك سدى ، وإنما خلقت ووضعت فى هذه الدار للبلوى والاختبار لتطيع الله عز وجل أو تعصى فتنقل من هذه الدار إلى عذاب الأبد أو نعيم الأبد ) (1) .
ومن ثم فإن الاستطاعة تظهر فى المفهوم الصوفى لأوائل الصوفية من خلال فهمهم للغاية من خلق الإنسان ، ووجوده فى هذه الأرض بالكيفية التى تحقق معنى الابتلاء ، فالله سبحانه وتعالى استخلف الإنسان فى الأرض وخوله فيها ، وهذا يعنى أن طبيعة الكائنات وماهية المخلوقات المستخلف عليها فى الأرض تسمح بقبول فعل الإنسان وتأثيره فيها ، كما أن إقامة النواميس الكونية والقوانين الطبيعية بحيث تمكنه من التملك السيطرة عليها دليل حازم على إثباتهم للاستطاعة والقدرة ، ويزدار الأمر وضوحا إذا تعرفنا على الاستطاعة من خلال دراستهم للكبر والعجب والغرور .
فالله سبحانه وتعالى أعطى العبد ومكنه فأصبح قادرا مستطيعا فاعلا فأمره سبحانه بالتواضع واللين وأن يرد الفضل إلى خالقه وأن يعرف قدره فى بدايتة وحياته وعاقبته .
يقول المحاسبى : ( أحياه بعد ما كان ميتا ، وأسمعه بعد ما كان ــــــــــــــــــــــــ
1- الرعاية ص 47 .(1/156)
أصما ، وبصره بعد ما كان لا بصر له ، وقواه بعد أن كان ضعيفا وعلمه بعد أن كان جاهلا ، وأغناه بعد أن كان فقيرا ، وأشبعه بعد أن كان جائعا ، وكساه بعد أن كان عاريا ، وهداه بعد أن كان ضالا ) (1) .
فإذا تذكر العبد وتفكر فى الأشياء وعلم أن حوله وقوته من الله واستطاعته منحة وفضل منه سبحانه وتعالى ، زال عنه الكبر ولزمه الخضوع والذلة والتواضع للمولى عز وجل والشكر للمنعم تعالى والانكسار للخوف من العقاب ويذكر المحاسبى أن الكبر والاستطالة على وجهين :
أحدهما : بين العباد وربهم وذلك يكون بالامتناع عن العبادة مع القدرة عليها كما قال سبحانه :
{ وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن أنسجد لما تأمرنا وزادهم نفورا } (2) فلما امتنعوا مع الاستطاعة فى الدنيا سلبها الله منه فى الآخرة ، قال تعالى : { يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون خاشعةأبصارهم ترهقهم ذلة وقد كانوا يدعون إلى السجود
ــــــــــــــــــــــــ
1- السابق ص 317 .
2- الفرقان /60 .
وهم سالمون } (1) .
الوجه الثانى : بين العبد وبين العباد ويكون ذلك بالتعظم عليهم إما باحتقارهم أو رد الحق عليهم أن يقبله منهم وهو يعلم أنه الحق أو أمره بعضهم بخير أو نهاه عن منكر ، ويستدل لذلك بحديث سلمة بن الأكوع حيث قال النبى صلى الله عليه وسلم لرجل : كل بيمينك .
قال : لا أستطع .
فقال النبى صلى الله عليه وسلم : لا استطعت ما منعك إلا الكبر .
قال سلمة : فما رفعها بعد ذلك إلى فيه (2) .
ويقيم الحكيم الترمذى الأساس فى نظريته للولاية بغض النظر عن آرائه المنحرفة فيها على أن الآدمى دون سائر المخلوقات هو المحل الوحيد ــــــــــــــــــــــــ
1- القلم 42 ، 43 .(1/157)
2- السابق ص 305 ، 306 والحديث أخرجه مسلم فى كتاب الأشربة ، باب آداب الطعام برقم (2021) وأخرجه أحمد فى المسند حـ 4 ص 45 ، 46 والدارمى فى سننه حـ 2 ص 97 وابن حبان فى كتاب التاريخ ، باب المعجزات برقم (6512) والبيهقى فى دلائل النبوية حـ 6ص 238 ، والطبرانى فى الكبير 6235 وهذا الرجل هو بسر بن راعى العير .
لهذه الولاية ، وذلك لأن الله هيأه وأعده الإعداد المناسب لها وجوهر ولاية المخلوق لله فى الخدمة والوقوف بين يديه والمبادرة إلى تدبيره والمسارعة فى تنفيذه ، يدل على ذلك عنده قوله تعالى : { إنى جاعل فى الأرض خليفة } (1) .
وللخليفة شأن فى ملك المستخلف ، والآدمى هو المخلوق الوحيد الذى خلق لذلك (2) فقد خلق آدم بيده وعلمه الأسماء كلها ، وقد خلقنا لمحبته ، وجعلنا موضعا لتوارد مختلف أحكامه ، واقتضى منا الخدمة والوقوف بين يديه وتنفيذ هذه الأحكام .
أما سائر المخلوقات فقد خلقت بقوله : { كن } وجعلت مسخرة لنا ولا تكليف له فيها ، فالسخرة لازمة لا تزول ، وهى قائمة فيها حتى تعود إلى الأصول التى خلقت منها فما خلق من التراب عاد ترابا ، وما خلق من النار عاد إلى النار التى خلق منها ، ويبقى الآدمى فى دار البقاء فى أبديته التى خلق لها (3) .
ومن هنا يبدوا واضحا أن معنى السلطة والولاية والحكم مشتق من ــــــــــــــــــــــــ
1- البقرة / 3 .
2- الرياضة وأدب النفس للحكيم الترمذى ص 34 .
3- نوادر الأصول للحكيم الترمذى ص 382 ، 383 بتصرف .
معنى الخلافة ، وأن الخلافة تكون على أشياء دون مستوى الخليفة فى الدرجة الوجودية ، وأن الآدمى مؤهل بمؤهلات يتميز بها عن غيره تجعله أهلا لهذه المهمة من دون الآخرين ، وذلك يستتبع أيضا أن يكون الإنسان مكلفا من قبل الله بأمور خاصة .
فيذكر السراج الطوسى فى بذل الوسع والاستطاعة فى تحقيق التكليف والعبودية أن معنى قوله عز وجل :
{ اتقوا الله حق تقاته } (1) .(1/158)
راجع إلى قوله : { فاتقوا الله ما استطعتم } (2) .
والتشديد فى قوله : { فاتقوا الله ما استطعتم } لأنك لو صليت ألف ركعة واستطعت أن تصلى ركعة أخرى ، فأخرت ذلك إلى وقت آخر فقد تركت استطاعتك ، ولو ذكرت الله تعالى ألف مرة واستطعت أن تذكره مرة أخرى فتؤخر ذلك إلى وقت ثان فقد تركت استطاعتك .
وكذلك لو تصدقت على سائل بدرهم ، واستطعت أن تعطيه درهما آخر ، أوحبة أخرى فلم تفعل ذلك فقد تركت ــــــــــــــــــــــــ
1- آل عمران / 102 .
2- التغابن / 16 .
استطاعتك ، فمن أجل ذلك قلنا بالتشديد فى قوله : { ما استطعتم } (1) .
يقول الترمذى فى كتابه نوادر الأصول : ( ولما كانت سائر المخلوقات مسخرة مجبرة لا تكليف عليها وكان الآدمى على خلاف ذلك ، كان من شأنه أن يوضع فى دار ابتلاء وأن يكون ذا مشيئة يمكن أن تتعلق بأى حظ من حظوظ هذه الدار ، وأن يكون الأمر من الله علينا خاصة من طريق الكلفة والأسباب والاجتهاد والبلوى ، حتى يكون لنا اسم ومحمدة ، وفضيلة على سائر الخلق ، إذ لو لم يكن الأمر على طريق الاجتهاد والتكليف وإقامة الحدود لما كان لنا اسم ولا نعت ولا صفة ) (2) .
ــــــــــــــــــــــــ
1- اللمع ص 122 قلت : فرق بين الاستطاعة فى آداء الواجب وترك المحرم والاستطاعة فى آداء المستحب وترك المكروه فالأول يجب أن يؤديه المسلم ما استطاع أما الثانى فهو مخير فيه مع وجود الاستطاعة ولا يعد مقصرا فى تقوى الله فكلام السراج فيه نظر لأن لازمه ترك الحياة بالكلية والسلبية حيالها وليس هذا ما دل عليه الشرع وإنما دل على أن الحياة ابتلاء فيها الغنى والفقير والقوى والضعيف وغير ذلك من لوازم الابتلاء مما يعروف فى بابه ، فيجب التنبه إلى أننا أورنا كلامه للاستلال على اعتقدهم فى اثبات الاستطاعة فقط دون إقرار وتسليم .
2- السابق ص 314 .(1/159)
وكما أنهم أثبتوا استطاعة الإنسان وعلوه على ما دونه من المخلوقات المسخرات له ، فإنهم أيضا أثبتوا استطاعة ذاتية تقوم فى النفس البشرية وتتمثل فى استطاعتة على إتمام الفعل المراد له ، وهذه الاستطاعة يخلقها الله لهم مع أفعالهم ، فالجوارح الظاهرية هى أدوات الاستطاعة التى تحول الفعل الداخلى للقلب والممثل فى الإرادة وتوابعها من أمور الاختيار إلى فعل خارجى ظاهر ملموس يحاسب عليه الإنسان ويكتسب به الحسنات والسيئات .
ويحكى الكلاباذى إجماعهم علىذلك فيقول : ( وأجمعوا أنهم لا يتنفسون نفسا ، ولا يطرفون طرفة ولا يتحركون حركة إلا بقوة يحدثها الله تعالى فيهم واستطاعة يخلقها الله لهم مع أفعالهم لا يتقدمها ولا يتأخر عنها ولا يوجد الفعل إلا بها ) (1) .
وفهم الاستطاعة على هذا النحو يبطل وصف الإنسان بأن له قوة مستقلة يفعل بها ما يشاء مما يوحى بإمكانية حدوث فعل خارج عن قضاء الله وقدره ، ولذلك فالاستطاعة ليست محدثة للفعل لأن الخالق هو الله وحده وإن كانت الاستطاعة مكتسبة للإنسان .
وقد ذم المحاسبى إضافة العمل إلى النفس على سبيل الكبر ونسيان ــــــــــــــــــــــــ
1- التعرف لمذهب أهل التصوف ص 63 .
الفضل الذى من الله به على العبد إذ خلقه ووفقه إلى العمل .
قال له سائل فى ذلك : وكيف لا أضيف الشئ إلى نفسى ولم يعمل ذلك العمل غيرى ، ولو لم أعلم أنى أنا الذى عملته ما عددته نعمة ولا رجوت ثوابه من الله عز وجل ؟
فأجابه المحاسبى بأنه ليس من العجب علمك بما عملت ولكن بالإضافة إلى نفسك بالحمد لها ونسيان منة المولى بذلك ، فأما إذا علمت أن ذلك كان بمنة الله عز وجل ، وأن نفسك لو تركتها ومحبتها لركنت إلى خلاف ذلك فتفرد الله بالمنة فى ذلك ، فلست معجبا (1) .(1/160)
ويفرق المحاسبى بين معرفة العبد أن العمل تم باستطاعته ، وبين إضافة الفضل فى هذه الاستطاعة إلى نفسه وحمده عليها فيقول : ( معرفتك بأنك عملت العمل بالاستطاعة معرفة قائمة فى الطبع بالاضطرار لا تقدر أن تجحد أنك عملته ولا تحتاج إلى ذلك ولا مخاطبة نفسك به ولكنك مع ذلك تتناسى فلا تنظر فيه إلى منة الله عز وجل إذ وهبك القدرة على العمل والطاعة ، فلو كان الله عز وجل لم يمن عليك بشئ من ذلك ، أكنت تقوى عليه أو ترى لنفسك من القدرة فى القوة والاستطاعة على إنفاذه ؟ ) (2) .
ــــــــــــــــــــــــ
1- الرعاية ص 271 باب لإضافة العمل إلى النفس .
2- السابق ص 271 .
وفى إثبات الاستطاعة مخلوقة لله والعود بالفضل فيها إلى الله لا إلى شئ سواه ، ما قاله الله فى كتابه يوم حنين لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وهم خير عصابة على وجه الأرض : { ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا ، وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين } (1) .
وذلك أن قائلا منهم قال : ( لن نغلب اليوم من قلة ) فلما أعجبوا بكثرتهم واتكلوا على قوتهم ونسوا الله عز وجل فى ذلك ، رفع الله فى ذلك الوقت النصر عنهم ليعلمهم أن كثرتهم لا تغنى عنهم شيئا وأن الله عز وجل الناصر الغالب لهم على عدوهم لا عددهم ، ثم عطف الله عز وجل عليهم بالنصر إكراما لنبيه صلى الله عليه وسلم ولهم ونصرا لدينه (2) .
ــــــــــــــــــــــــ
1- التوبة / 25 .
2- انظر فى غزوة حنين : مغازى الواقدى حـ 3 ص 885 ، طبقات ابن سعد حـ 2 ص 108 ، وتاريخ الطبرى حـ 3 ص71 وسيرة ابن هشام حـ 2 ص 437 والكامل لابن عدى حـ 2 ص 135 وانظر صحيح مسلم ، كتاب الجهاد ، باب فى غزوة حنين حـ 5 ص 166 ، 167 ، والمستدرك للحاكم حـ 3 ص 327 والمسند لأحمد بن حنبل حـ 1 ص 207 ، وانظرالرعاية لحقوق الله للمحاسبى ص 272 ، 273 .
قال ابن خفيف :(1/161)
( هذا معتقدى ومعتقد الأئمة السادة والعلماء القادة الذين قبلى وفى زمانى من أهل السنة والجماعة ) (1) .
فذكر فى بيان الاستطاعة :
( ويعتقد أن الأفعال لله تعالى لا للخلق والاكتساب للخلق والاكتساب خلق الله فلا خلق لهم ) (2) .
وبيان ذلك أن الله تعالى هو المعطى ، يعطى من يشاء ما يشاء ولا يعطى لمن لا يشاء ، فالأفعال لله والكسب للعبيد فكل ما يصدر عن العبد من طاعة أو معصية ، فالله يخلقها بتمامها ، ولكن صورة الكسب للعبد ، والكسب أيضا مخلوق من الله تعالى لا من خلق العبد ، فليست للعبد قدرة على خلق شئ قط ولا يكون أبدا (3) .
أما موقع الاستطاعة من الفعل فيقول فيها :
( ويعتقد أن الاستطاعة والقدرة مع الفعل ، أى حينما يشتغل العبد به ويفعله يهبه الله القدرة ، وأنه يخلق هذا الفعل أيضا ، وذلك أن القدرة له قبل أن ينشغل العبد به ــــــــــــــــــــــــ
1- سيرة الشيخ الكبير أبى عبد الله ابن خفيف ص 342 .
2- السابق ص 349 .
2- السابق ص 349 .
ويعتقد أن الله تعالى لا يجبر عباده على معصيته ) (1) .
وهذا التصور للاستطاعة البشرية الحادثة يدل على أن أفعال العباد التى بها صاروا مطيعين أو عصاة مخلوقة لله تعالى ، وأن الله منفرد بالخلق والإيجاد كما قال تعالى : { الله خالق كل شئ } (2) .
وأوائل الصوفية لا يعتبرون الاستطاعة البشرية هى الأعضاء والجوارح بل هى ما يرد من القوة على الأعضاء السليمة ، فهى ليست قوة أو ملكة دائمة فى النفس الإنسانية .
يقول الكلاباذى : ( ولو كانت الاستطاعة هى الأعضاء السليمة لاستوى فى الفعل كل ذى أعضاء سليمة ، فلما رأينا ذوى أعضاء سليمة ولم نر أفعالهم ، ثبت أن الاستطاعة ما يرد من القوة على الأعضاء السليمة ) (3) .(1/162)
وتلك القوة متفاضلة لديهم فى الزيادة والنقصان وفى وقت دون وقت ، ويستدل الكلاباذى على أن لكل فعل استطاعة يخلقها الله عز وجل فى العبد يفعل بها هذا الفعل الذى خلقت من أجله ، وأنها لا تبقى بعده ولا تصلح لغيره من الأفعال بقوله تعالى فى قصة موسى ــــــــــــــــــــــــ
1- السابق ص 356 ، 357 .
2- الرعد / 18 .
3- التعرف ص 63 .
عن العبد الصالح : { إنك لن تستطيع معى صبرا } (1) .
ومعلوم أن ثمة استطاعات لأفعال أخرى كالتى يقوم بها موسى عليه السلام فى هذا الوقت ، فالإنسان مستطيع بالنسبة لفعل عاجز بالنسبة لغيره ، ويستطيع بالنسبة لفعل ما فى وقت عجز عنه فى وقت آخر .
ومن ثم فاستطاعة الإنسان ليست قوة أو قدرة ذاتية مستقلة ومصاحبة له طيلة حياته (2) .
فالإنسان ليس محدثا لفعله أو خالقا له بل فعله مخلوق لله ، ويقتصر دورالاستطاعة البشرية إيزاء الفعل المخلوق لله على اكتسابه فقط وبذلك يتوافق مفهوم الاستطاعة ودورها مع مفهوم الربوبية والفاعلية الإلهية المتقدم وإفراد الله بالخلق والأمر .
والكسب ليس منسوبا للعلل الطبيعية وإنما هو للفاعلية الإنسانية فقط حيث هو مناط التكليف والثواب والعقاب ، ولما كانت الطبيعات غير مكلفة أو محاسبة فليس لديها اختيار أو استطاعة ، وخلق الله عز وجل لأفعال الإنسان الخلقية لا يتعارض مع الأمر والنهى والثواب والعقاب فى الآخرة ، بل يتوافق معه لأن الإنسان لا يكتسب من الأفعال إلا ما يختاره هو اختيارا حرا ، ومن ثم فهو لا يجازى على ذات الفعل لأن ــــــــــــــــــــــــ
1- الكهف /66 .
2- السابق ص 64
ذلك من خلق الله وإنما يجازى على المعصية الخلقية للفعل المكتسب أو على الطاعة الخلقية المبنية على الاختيار والنية والقصد من حيث كونه خيرا أو شرا حسنا أوقبحا .(1/163)
والحكم بالحسن والقبح للفعل يبنى على أنه نتيجة لاختيار العبد وليس نتيجة لخلق الله لهما ، فإن وافق الشرع كان خيرا وإن خالفه كان شرا ، فعلة كون الفعل خيرا أوشرا هو الاختيار الإنسانى ، أما علة حدوث الفعل بعد أن لم يقع بصرف النظر عن كونه خيرا أو شرا فهى خلق الله عز وجل من ناحية وخلقه لصفات الإنسان المكتسبة له بناء على اختياره من ناحية أخرى .
ومن ثم يقرر الكلاباذى أن أوائل الصوفية أجمعوا على أن لهم أفعالا وأكسابا على الحقيقة هم بها مثابون وعليها معاقبون ولذلك جاء الأمر والنهى (1) .
ويكاد يفهم الكلاباذى الاكتساب بمفهوم الأشاعرة له حتى يمكن القول : إنه يبدو متكلما نحو هذه المسألة أكثر من كونه صوفيا ، ودليل ذلك قوله : ( إن معنى الاكتساب أن يفعل بقوة محدثة ) (2) .
وقد حاول الأشعرى فى هذا المجال التوفيق بين أن يحدث ــــــــــــــــــــــــ
1- السابق ص 64 .
2- السابق ص 64 .
الفعل بقدرة الله تعالى وفاعليته خلقا وإبداعا مع نسبة الفعل بوجه ما إلى الاستطاعة البشرية حتى يوجب ذلك على العبد المسئولية والجزاء .
شكل يوضح الفرق بين مذهب أوائل الصوفية ومذهب الأشعرى فى مسألة الكسب
أولا : مذهب أوئل الصوفية :
... ... ... ... ... ... ... نجد الخير
الإرادة ... ... الاستطاعة ... ... ...
... ... ... ... ... ... ... نجد الشر
( الاستطاعة صالحة للضدين من الأفعال بين الخير والشر )
ثانيا : مذهب الأشعرى :
... ... ... ... ... ... نجد الخير
... ... الاستطاعة ... ... ...
الإرادة ... ...
...
الاستطاعة
... ... ...
... ... ... ... ... ... نجد الشر
( الاستطاعة صالحة لواحد من الفعلين فقط إما الخير وإما الشر )
وملخص هذه المحاولة الفكرية أن الله حين يرى من العبد عزما بالاستطاعة البشرية التى يقتصر دورها على اكتساب الفعل المخلوق .(1/164)
فدور الاستطاعة فى فعلها ليس فى إحداثه من عدم ، أى خلقه وإيجاده وإنما هو فى اكتساب الفعل الذى يخلقه الله عز وجل للعبد حالة اختياره وعزمه وتصميمه عليه ، من أجل ذلك أصر الأشعرى على أن تكون الاستطاعة مع الفعل للفعل لا تسبق الفعل ولا تبقى بعده (1) .
إن دور المسئولية الإنسانية عند أوائل الصوفية يكمن فى امتثال الإنسان الطاعة فى الوقت الذى كان فيه مستطيعا لاكتساب المعصية والعكس كذلك ، فالاستطاعة عندهم مجردة وصالحة للضدين من الأفعال خيرا كان أو شرا ، أما الأشعرى فالاستطاعة عنده يخلقها الله لا تصلح إلا لفعل واحد ، وذلك عند إرادة العبد للخير أو الشر فهى صالحة للخير فقط أو الشر فقط وهذا فيه شبه من مذهب الجبرية .
ويذكر الكلاباذى فى اعتقاد أوائل الصوفية ، أنهم مختارون لاكتسابهم مريدون له وليسوا بمحمولين عليه ولا مجبرين ولا مستكرهين له (2) .
ولكن هذا الاختيار ليس على التفويض كليا أزليا من الله عز وجل ــــــــــــــــــــــــ
1- اللمع فى الرد على أهل الزيغ والبدع ص 72 .
2- التعرف السابق ص 64 .
للإنسان يفعل به ما يشاء ، بل هو أمر يخلقه الله عز وجل فى الإنسان إبان الفعل لينتفى به الإكراه والجبر والضرورة عن الإرادة لحظة الاختيار .
يقول الكلاباذى : ( ومعنى قولنا مختارون : أن الله تعالى خلق لنا اختيارا فانتفى الإكراه فينا وليس ذلك على التفويض ) (1) .
ثم يورد قول سهل بن عبد الله التسترى : ( إن الله لم يقو الأبرار بالجبر إنما قواهم باليقين ) (2) .
ومن ثم فإن الله لم يجبر عبدا على الاختيار ولو كان إلى الطاعة فهو سبحانه يمد المؤمن بعد اختياره للإيمان والطاعة وبعد رفضه للكفر والمعصية يمده بالاستطاعة الصالحة لما يريد ويعينه على ذلك .
كذلك يفعل مع الكافر حيث يمده ويخلق له الأفعال صلحة للكفر والإيمان كما قال سبحانه وتعالى :(1/165)
{ وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابا مؤجلا ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها وسنجزى الشاكرين } (3) .
ــــــــــــــــــــــــ
1- السابق ص 64 .
2- السابق ص 64 .
3- آل عمران /145 .
ومما يجدر ذكره أن التسترى ينفرد عن سائر الصوفية فى عصره فى فهم الاستطاعة البشرية بمعنى زائد ، حيث يقرر أنها قبل الفعل وأثناؤه وبعده ، ولكنه مع ذلك يؤكد عدم استقلال الاستطاعة البشرية عن الفاعلية الإلهية ، وذلك لأن الاستطاعة تكون خاضعة للإرادة الإلهية أثناء الفعل .
ورأى التسترى فى الاستطاعة ينطوى على عمق سببه حرصه على إثبات المسئولية الخلقية للإنسان ، وفى نفس الوقت إثبات حدوث الفعل بخلق الله عز وجل .
وقد عبر الدكتور كمال جعفر عن هذا العمق بأن الاستطاعة الفعلية ضرورية للفعل قبل الفعل بواجبه نحو ربه ، وهى ضرورية أيضا بعد الفعل من حيث القدرة على الشكر إذا كان العمل من أعمال الطاعة أو التوبة والاستغفار إذا لم يكن كذلك (1) .
ومعنى ذلك أن الاستطاعة قبل وبعد الفعل باعتبار مقدماته ونتائجه فهى أفعال متتابعة متلاحقة لا تنقطع ، بيد أنه يكون من البدء عقليا ثم سلوكيا ثم نفسيا أو وجدانيا وهكذا ، ومن ثم فالفعل نفسه لا قيمة له فى حد ذاته بل إن القيمة الحقيقية تنصب على النية والدافع الذى يسوقه إلى الفعل ، وهما فيما يرى سهل بن عبد الله فى نطاق ــــــــــــــــــــــــ
1- من التراث الصوفى ص266 .
الاستطاعة الإنسانية (1) .
ومن ثم تأكد لنا أن سهلا حينما قال بالاستطاعة قبل وأثناء وبعد الفعل ، لم يكن فى ذلك القول مختلفا من حيث الأصول والنتائج عن سائر مشايخ الصوفية الأوائل حيث لم يجعل الاستطاعة بذلك محدثة للفعل ، وجعل أهمية الفعل منحصرة فى الدافع إليه ونتائجه كما أشار إلى ذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم :(1/166)
( إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل إمرئ ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه ) (2) .
ويرى سهل بن عبد الله أن الحكمة من تزيين الله للإنسان بالاستطاعة هى الابتلاء شأنها فى ذلك شأن الأسباب الخارجية التى تتدخل فى حياة الإنسان ابتلاء واختبارا ، كالفقر والغنى والصحة والمرض والعلم والجهل والخير والشر ، والإنسان كما أنه مطالب بأن ــــــــــــــــــــــــ
1- السابق حـ 1 ص 266 .
2- أخرجه البخارى فى كتاب بدء الوحى ، باب كيف بدأ الوحى رقم (2) وأخرجه مسلم فى كتاب الإمارة برقم (1906) وأبو داود فى كتاب الطلاق برقم (20) والترمذى فى كتاب فضائل الجهاد برقم (1647) والنسائى فى كتاب الطهارة برقم (75) وابن ماجه فى كتاب الزهد برقم (4227) .
يصارع قواه الباطنية إذ أملت عليه الانحراف ، كذلك فإنه مطالب بجعل هذه الاستطاعة التى منحه الله إياها آداة يدين بها للإله الواحد (1) .
ومهما يكن من أمر فما نود تأكيده هو أن مشايخ الصوفية الأوائل قد أثبتوا للإنسان قدرة أو استطاعة حقيقية لا يمكن إنكارها ولا يؤثر ذلك عندهم فى مدى شمول قدرة الله وإرادته أو الحد منها ، كما أن تفسير العلاقة بين الفاعلية الإلهية والفاعلية الإنسانية بالكسب هو التفسير الذى ارتضوه مع أهل السنة والجماعة وسيأتى المزيد من التفصيل فى المباحث الآتية .
ــــــــــــــــــــــــ
1- انظر من التراث الصوفى ص 267 ، وانظر التصوف طريقا وتجربة ومذهبا ص 282 .
*** المبحث الثانى ***
الاستطاعة وعلاقتها بالعلل الطبيعية(1/167)
مما لا شك فيه أن مبحث العلية من المباحث الرئيسية فى الفكر الفلسفى وفى الفكر القائم على الرسالات السماوية جميعا ، ولذلك فقد أدلى مفكرو الإسلام بدلوهم فى هذا المبحث الهام والذى يمثل أساسا متينا فى اعتقاد كل مسلم ، ومما يجدر ذكره أن الصوفية الأوائل لم يبحثوا فى جلساتهم أو مأثوراتهم وأقوالهم وكتبهم موضوعا لمجرد المعرفة النظرية البحتة ، بل المعرفة عندهم مبعثها دائما العمل والسلوك ، ومؤدية دائما إلى عمل وسلوك ولذلك نجد أن النتاج الصوفى حيال الفكر الفلسفى لا يكون مباحث ونظريات صورية بحتة لكل موضوع بحيث يكون كل واحد مستقلا عن الآخر ، بل هى جميعا حصيلة موقف وجدانى نشأ عنده من خلال الترقى فى سلم الإيمان بالله .
ولذلك فإننا نجد مبحث العلية عندهم متجليا ظاهرا فى فهمهم للتوكل ، حيث يمكننا تلمس مفهومهم للأسباب الطبيعية ومدى فاعليتها وعلاقتها بالإنسان من ناحية أو بالفاعلية الإلهية والربوبية من ناحية أخرى .
وإذا كان متكلمو الإسلام قد وقفوا من مبحث العلية مواقف متباينة فمنهم من نادى بالوجوب الضرورى للمعلول عن العلة واقترانهما فى الوجود والعدم بالضرورة ، فأثبتوا استطاعة ذاتية للعلة ينتج بها المعلول ومنهم من قال بعكس ذلك فأنكر أن تكون العلاقة بين العلة والمعلول قائمة على هذا الوجوب الضرورى والاقتران الحتمى بينهما وجودا وعدما ، حتى لا يكون هناك استقلال للطبيعة فى فعلها عن الفاعلية الإلهية فتتعدد الفاعليات فى الوجود وتكون قدرة الله محكومة بالعلل والمعلولات (1) .
إذا كان هذا هو الشأن فإن الصوفية الأوائل التزموا النهج الإسلامى فى هذه القضية ، فقالوا أولا بوجود علل ومعلولات وأسباب ومسببات تؤدى فعلها فى الكون والوجود بسبب ما أودع الله فيها من قوى وتأثير لا ينبع من ذاتها بل بإرادة الله فيها .(1/168)
ويفرد المكى بابا لبيان ذلك تحت عنوان : ( ذكر الأسباب والأواسط لمعانى الحكمة ونفى أنها تحكم وتجعل لثبوت الحكم والقدرة ) (2) .
ويبين فيه أن الله عز وجل أظهر أشياء بوصف قدرته وأجرى أشياء من معانى حكمته ، فلا يسقط المتوكل ما أثبت من حكمته لأجل ــــــــــــــــــــــــ
1- انظر فى تفصيل ذلك الأمر ، الفصل فى الملل والنحل لابن حزم الأندلسى حـ3 ص 14 وما بعدها .
2- قوت القلوب حـ 2 ص 10 .
ما شهد هو من قدرته ، حيث أن الله تعالى حكيم فالحكمة صفته ولا يثبت المتوكل الأشياء حاكمة نافعة ضارة فيشرك فى توحيده ، من قبل أن الله تعالى قادر والقدرة صفته وأنه حاكم جاعل ضار نافع لا شريك له فى أسمائه ولا ظهير له فى أحكامه .
ويستدل على ذلك بقوله تعالى : { إن الحكم إلا لله } (1) .
وقوله : { ولايشرك فى حكمه أحدا } (2) .
ويذكر المكى أن الأسباب أواسط حق وصدق ، إنما جعلها الله لأن الأسماء متعلقة بها والأحكام عائدة عليها بالثواب والعقاب ، فلم يصلح ألا تذك رفتعود الأحكام على الحاكم تعالى عن هذا ، من أجل ذلك كانت الأشياء وفق هذا النظام ، وهذا سبب إظهار المكان من الموات والحيوان (3) .
فسخر الله المخلوقات وفق ثوابت وسنن ونواميس كونية تترابط فيها الأسباب وتلتقى العلل والمعلولات بحيث تسمح بقبول فعل الإنسان وتأثيره فيها لتحقيق علة الابتلاء ، والصوفية يعتبرون ترابط العلل والمعلولات وتسخير الكائنات للإنسان من موجبات الشكر ويستدل ـــــــــــــــــــــــ
1- يوسف / 40 .
2- الكهف / 26 .
3- السابق حـ 2ص 13 .
التسترى بقوله تعالى :
{ والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تأكلون ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون وتحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس ....إلى قوله تعالى ....و سخر لكم الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين } (1) .(1/169)
على أن تسخير الصنعة لنا مما بين السماء والأرض من أمهات النعم التى تستوجب شكر خالقها (2) .
ورأوا أن الله سبحانه وتعالى هو الذى يحكمها ويدبر أمرها لانفراده بالخلق والتدبير ، من أجل ذلك رفضوا حتمية الترابط بين العلة والمعلول على وجه الإطلاق ، وإن أثبتوا ضرورة ما بينهما من خلال خضوعها وقوامها بمشيئة الله عز وجل ، كما آمنوا بقدرته تعالى على الفعل بهذه الحتمية وعلى الفعل بدونها ، فإن كانت ثمة حتمية بين العلة والمعلول فهى بقدرة الله وربوبيته .
ولكنهم حرموا توجه القلب إلى هذه الأسباب لأن الله حاكم عليها وعلى حتميتها ، فالعلة لا تملك حتمية صدور معلولها عنها ، إذ ليس لها ــــــــــــــــــــــــ
1- النحل / 5 : 12.
2- السابق حـ 2 ص 15 .
فاعلية مستقلة ومن ثم ينبغى على المتوكل أن يستوى فى اعتقاده وجود السبب أو عدمه وأن يكون مطمئنا عند العدم إطمئنانه عند السبب وألا يشغله ذلك كله عن الله لعلمه أن الله من وراء الأفعال وهو الذى يهيئ الأسباب (1) .
ويذكر المكى أن الله احتجب على العموم بالأسباب فهم يرونها فى اطراد العلل والمعلولات وحجب الأسباب بنفسه عن الخصوص فهم يرونه ولا يرونها (2) .
* مقومات التوكل وعلاقة ذلك بالأسباب :
ويمكن للباحث أن يحدد مقومات التوكل عند أوائل الصوفية من خلال فهمهم للفاعلية الإلهية وعلاقتها بالأسباب والعلل فى الركائز الآتية :
[1] - توجيه القلب إلى الله على الدوام سواء كان الرزق بأسباب أو بغير أسباب كما تقدم وهذا نابع عندهم من قوله تعالى : { ومن يتق الله يجعل الله مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب } (3) .
ــــــــــــــــــــــــ
1- السابق حـ 2 ص 204 .
2- التعرف ص 15 .
3- سورة الطلاق / 2 ، 3 وانظر قوت القلوب حـ 2 ص 10 .
[2] - توجه الجوارح إلى الأسباب لما جعله الله من العلل والمعلولات المترابطة وقيام التكاليف وعود الثواب والعقاب .(1/170)
وهذا الأمر يوضحه الحكيم الترمذى فى أن لله قد أثبت الأرزاق فى اللوح على المقدار الذى يريد وعلى كيفية ما يريد فى الوقت الذى يريد والنفس تشتهى شيئا ربما يوافق ذلك المثبت فى اللوح وربما يخالف ، فلو لم تكن هذه الأسباب لكانت النفس تغلى فى شهوتها لا تقدر أن ترى ذلك التقدير حسنا ، فكان فى ذلك فساد قلوبهم فجعلت الأسباب لصرف وجوههم عن ذلك المثبت إلى وجوه المطالب والمكاسب فيرجعوا باللائمة على أنفسهم فى ذلك .
والمثال الذى ضربه لتوضيح توجيه الجوارح إلى الأسباب ، هو ملك الموت كان يقبض الأرواح عيانا فسبوه فشكا إلى الله (1) فوضعت ــــــــــــــــــــــــ
1- ثبت أن ملك الموت أتى عيانا فى صورة آدمى ، لحديث أبى هريرة أن النبى صلى الله عليه وسلم قال : ( أرسل ملك الموت إلى موسى عليهما السلام ، فلما جاءه صكه ، ففقأ عينه فرجع إلى ربه فقال : أرسلتنى إلى عبد لا يريد الموت ، فرد الله عليه عينه وقال : ارجع فقل له يضع يده على متن ثور ، فله بكل ما غطت به يده بكل شعرة سنة ، قال : أى رب ! ثم ماذا ؟ قال : ثم الموت : قال : فالآن ، فسأل الله أن يدنيه من الأرض المقدسة رمية بحجر ) متفق عليه ، أخرجه البخارى فى كتاب الجنائز ، باب من أحب الدفن فى الأرض المقدسة أونحوها برقم (1339) وأخرجه مسلم فى كتاب الفضائل باب من فضائل موسى برقم (1533) .
العلل والأسقام .
فالأسباب بمنزلة الأمراض والرزق بمنزلة الموت وبدء كليهما من عند الله (1) من أجل ذلك ربطت الجوارح بالأسباب ووجهت الجوارح إليها مع تقديرها أزلا .(1/171)
[3] - ضرورة التسليم والرضا التام بقضاء الله وقدره وهذا المقوم الأخير قد يكون مدعاة للبعض برمى أوائل الصوفية بتهمة الجبرية ونفى أى دور للاستطاعة والفاعلية الإنسانية فى الفعل ، ولكن ليس لهذا الظن نصيب من الصحة لأنه وليد نظرة سطحية عاجلة خاصة إذا ذكر هذا المقوم الثالث مجردا عما سبق وكثيرا ما يحدث هذا ، حيث كان شيوخ الصوفية يعمدون إلى إلقاء مأثوراتهم وكلماتهم فى مناسبات خاصة وردا على أسئلة معينة فتتناقلها الأجيال عنهم متبورة عن علتها وظروفها وعن سائر أقوال المشايخ الأخرى مما يحدث لبسا حول معانيها .
ومن ذلك ما ذكره الترمذى فى بيان الرد على من قال : إن بعض المقبلين على أمر الدين تركوا الطلب وقالوا : قد ضمن الله الرزق حيث جاء عن رسوله : ( إن الرزق ليطلب العبد كما
ــــــــــــــــــــــــ
1- آداب المريدين وبيان الكسب للحكيم الترمذى ص 168 ، 169.
يطلبه أجله ) (1) .
فقال : إن كانوا قعدوا ينبغى لهم أن يقوموا وأن يطلبوا تحرزا من الطمع وفساد القلب فلا يضيع حق الزوجة والولد برغم أن أرزاقهم على الله ، فهذا تارك للسبيل والسنة لقوله تعالى : { وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن } (2) .
ثم بين موقف الذين سلموا لقضاء الله وقدره مع الرضا بما قسمه لهم ، فأخذوا بالأسباب وما تركوها ولكن همهم كان فى طاعة الله والإنشغال به عما سواه فقال :
( وأما الذين أقعدوا فقوم كان سبيلهم منذ تابوا الاجتهاد فى حفظ الحدود مع الله فى طلب المكاسب ، وركبوا صعاب ــــــــــــــــــــــــ(1/172)
1- الحديث رواه الطبرانى عن الحسن بن على بصيغة : ( أيها الناس إنى والله ما أمركم إلا بما أمركم الله به ، ولا أنهاكم إلا عما نهاكم الله عنه ، فأحملوا فى الطلب فوالذى نفس أبى القاسم بيده إن أحدكم ليطلبه رزقه كما يطلبه أجله فإن تعسر عليكم شئ منه فاطلبوه بطاعة الله عز وجل ) انظر كشف الخفا ومزيل الإلباس فيما اشتهر على ألسنة الناس حـ 1 ص66 ورواه ابن عدى فى الكامل عن أبى الدرداء بصيغة ( إن الرزق ليطلب العبد أكثر مما يطلبه أجله ) وحسنه ، انظر حـ 1 ص 67 .
2- البقرة / 233 .
الأمور ودققوا النظر ، فتورعوا عن كثير من الحلال مخافة الشبهة ، فلم يزل الله لهم معينا ومؤيدا فى ذلك ) (1) .
ومن ذلك أيضا قول ابن مسروق (2) : ( التوكل الاستسلام لجريان القضاء والأحكام ) (3) فالنظرة المجردة لهذا القول توحى بالجبرية .
وإذا علمنا أن الاستسلام لقضاء الله وقدره لا يكون إلا لنتيجة الفعل ولا يأتى فى المقدمة أى فى مرحلة الأخذ بالأسباب ، فإن هذا القول يكون تعبيرا عن المرحلة الأخيرة من التوكل بعد ظهور نتيجة الفعل .
فلا يجب أن يفهم من هذا القول إلغاء الجانب الاختيارى من فعل الإنسان أو تعطيل الأسباب لعدم جدواها أمام الربوبية والفاعلية الإلهية وذلك لاختلاف حال الفاعل فى أول الفعل عن حاله بعد حدوث النتيجة المرجوة منه أوعدم حدوثها .
ــــــــــــــــــــــــ
1- انظر آداب المريدين وبيان الكسب ص 173 ، 174 .
2- هو أبو العباس أحمد بن محمد بن مسروق من أهل طوس بخراسان ، سكن بغداد ومات بها وله صحبه مع الحارث المحاسبى وهو من قدماء مشايخ القوم وجلتهم توفى سنة 299 هـ انظر مرآة الجنان حـ 2 ص 231 ، شذرات الذهب حـ 2 ص 227 ميزان الاعتدال حـ 1 ص 71 ، تاريخ بغداد حـ 5 ص 100 ، حلية الأولياء حـ10 ص 213 ، طبقات الشعرانى حـ 1 ص 109 ، طبقات الصوفية ص 237 .
3- الرسالة القشيرية حـ 1 ص421 .(1/173)
ودعوة أوائل الصوفية الاستسلام لقضاء الله وأحكامه خاص بالجانب الجبرى فى الفعل المتمثل فى النتيجة النهائية له ، وليس فى الجانب الاختيارى ، وذلك مفهومهم لوجوب الإيمان بالقدر خيره وشره كما نص عليه النبى صلى الله عليه وسلم : ( الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره ) (1) .
وهذا التوضيح هام جدا لفهم الموقف النفسى حيال القضاء والقدر حيث ينقسم هذا الموقف عندهم إلى ثلاث درجات :
( التوكل ثم التسليم ثم التفويض فالمتوكل يسكن إلى وعده ، وصاحب التسليم يكتفى بعلمه ، وصاحب التفويض يرضى بحكمه ) (2) .
وحيث أن التوكل أخذ بالأسباب وسكون القلب إلى وعد الله وليس إلى الأسباب ، فإن مبدأ الفعل أخذ بالأسباب مع الاعتماد على تقدير
ـــــــــــــــــــــــ
1- أخرجه مسلم فى كتاب الإيمان ، باب بيان الإيمان والإسلام والإحسان برقم (8) وأخرجه أبو داود فى كتاب السنة ، باب القدر برقم (4695) والترمذى فى كتاب الإيمان باب ما جاء فى وصف جبريل للنبى الإسلام والإيمان برقم (2610) والنسائى فى كتاب الإيمان حـ 8 ص 97 وابن ماجه فى المقدمة ، باب فى الإيمان برقم (63) وأخرجه أحمد فى المسند حـ 1 ص 52 ، 53 .
2- الرسالة القشيرية حـ 1 ص 422 .
الله وفاعليته وحده ، ووسطه تسليم أمره إلى الله ليقينه أنه الأعلم والأقدر ، وفى النهاية الرضا بحكم الله وقدره ، ومن ثم يكون المقصود من استخدام أصل الإيمان بالقدر خيره وشره فى النهاية وليس فى البداية فيكون ذلك مدعاة للشكر إذا كان خيرا ، معينا على الصبر إذا كان الأمر غير ذلك .
وهذه الدرجات الثلاث هى مراحل التوكل عند أبى تراب النخشى :
وأولها : طرح البدن فى العبودية وهذا تعبير عن تعامل الجوارح والاستطاعة البشرية مع الأسباب وهو يرى فى استسلام الإنسان لسنة الله فى الطبيعة أو المادة تحقيقا لعبودية البدن والجوارح .(1/174)
الثانية : تعلق القلب بالربوبية أى إفراد الله بالفاعلية وتقدير الأمور .
الثالثة : الطمأنينة إلى الكفاية فإن أعطى شكر وإن منع صبر وذلك هو الرضا والاستسلام لحكم الله (1) .
ويعبر بشر الحافى عن المقوم الثالث بقوله : ( يقول أحدهم توكلت على الله وهو يكذب على الله ، لو توكل على الله لرضى بما يفعل الله تعالى به ) (2) .
ــــــــــــــــــــــــ
1- الرسالة حـ 1 ص 418.
2- السابق حـ 1 ص 417.
ولذلك يشترط أوائل الصوفية موافقة الكسب للشريعة حتى يصبح العمل توكلا على الله ، لأن من يلزم نفسه الرضا بأمر الله الكونى لا يخالف بعمله أمره التشريعى ولو خالف أمره التشريعى أولى به ألا يرضى بأمره الكونى ، فمن سلك سبيلا محرما لا يكون متوكلا عند أوائل الصوفية .
سئل ذو النون المصرى عن التوكل ؟
فقال : خلع الأرباب وقطع الأسباب .
فقال السائل : زدنى ؟
فقال : إلقاء النفس فى العبودية وإخراجها من الربوبية (1) .
وهو يقصد بخلع الأرباب عدم توجه القلب واعتماده على الأسباب المخلوقة كفواعل مستقلة تتحكم فى رزقه ، ويقصد بإخراج النفس من الربوبية أى ربوبية ذاتها على غيرها .
ويعنى ذلك الكبر والاغتراز بالنفس وادعاء القدرة الشاملة والاستطاعة الكاملة مع تناسى قدرة الله وفاعليته ، ويكاد يجمع أوائل الصوفية من خلال مروياتهم على أن الاعتماد على الأسباب وسكون القلب إليها شرك خفى ، يقول المكى : ( الشرك الخفى هو الاعتماد ــــــــــــــــــــــــ
1- السابق حـ 1 ص 418 .
على الأسباب ) (1) .(1/175)
وإذا أدركنا أن أوائل الصوفية أثبتوا الأسباب وأنها تؤدى فعلها فى الكون بقدرة الله سبحانه وتعالى وبسبب ما أودع فيها من قوى وتأثير لا ينبع من ذاتها بل بإرادة الله فيها ، كل ذلك من خلال مفهومهم للتوكل ، والذى يعد مفهوما راقيا من الناحية الإسلامية ، فإنهم أيضا قالوا : لا يعنى اطراد الأسباب بترابط العلل والمعلولات فى عالم الواقع حدوث شئ ما أو فعل ما خارج عن قدرة الله وفاعليته ، مما يعطى مجالا واسعا لإثبات المعجزات والكرامات وخوارق العادات فى الاعتقاد الصوفى لأوائل الصوفية .
فأثبتوا إمكانية حدوث معلولات بدون عللها المعلومة ، وفى ذلك يذكر الكلاباذى موقفا لمريم ابنة عمران إذ وجدت الطعام معلولا دون علة ظاهرة ، وردها ذلك لطلاقة المشيئة الإلهية فى الرزق بأسباب أو بغير أسباب .
يقول تعالى : { كلما دخل عليها ذكريا المحراب وجد عندها رزقا قال يا مريم أنى لك هذا قالت هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب } (2) .
ــــــــــــــــــــــــ
1- قوت القلوب حـ 4 ص 13 .
2- آل عمران / 37 .
وكذلك ما كان من شأن عيسى عليه السلام حيث شاء الله أن يخالف بميلاده السنة الجارية بمشيئته فى خلق الإنسان من أب وأم فلما بشرت به أمه :
{ قالت ربى أنى يكون لى ولد ولم يمسسنى بشر قال كذلك الله يخلق ما يشاء إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون } (1) .
فبين الله هنا أنه لا يحتاج إلى إيجاد العلة لإيجاد المعلول وإنما هو إذا أراد شيئا توجهت إليه مشيئته مباشرة فأبدعه بقوله له : كن ، فيكون سواء كان ذلك الشئ مقترنا بعلته أو مجردا عنها (2) .
والصوفية الأوائل كما أثبتوا حدوث معلولات بلا عللها المعلومة كذلك أثبتوا أيضا إمكانية حدوث العلة مع تخلف المعلول .
فمن ذلك عندهم على سبيل المثال لا الحصر ما حدث لإبراهيم عليه السلام حين وضعوه فى النار ، إذ يقول تعالى فى شأنه :(1/176)
{ قالوا حرقوه وانصروا آلهتكم إن كنتم فاعلين ، قلنا يا نار كونى بردا وسلاما على إبراهيم ، وأرادوا به كيدا فجعلناهم الأسفلين } (3) .
ــــــــــــــــــــــــ
1- آل عمران / 47 .
2- التعرف لمذهب أهل التصوف ص 88 والرسالة حـ 2 ص 667 بتصرف .
3- الأنبياء / 68 ، 70 .
فالنار حسب السنة الطبيعية فى اطراد العلل والمعلولات علة للإحراق وعلى الرغم من ذلك فقد شاء الله أن يتخلف المعلول مع حدوث العلة (1) .
يقول الكلاباذى : ( وأجمعوا على إثبات كرامات الأولياء ، وإن كانت تدخل فى باب المعجزات كالمشى على الماء وكلام البهائم وطى الأرض وظهور الشئ فى غير موضعه ووقته وقد جاءت بها الأخبار وصحت الروايات ونطق بها التنزيل ) (2) .
ثم ضرب أمثلة كثيرة لا حصر لها فى ذكر معلولات بغير عللها أوعلل تخلفت عنها نتائجها ، ومن ثم يمكن أن ننتهى إلى القول بأن الصوفية يرون أن الإيمان بالله خالقا لكل شئ وفاعلا لكل شئ ، يجعل المعجزات والكرامات أمرا عاديا عند المؤمنين ، فالمؤمن يرى فى العالم الطبيعى حوله وفى القوانين التى تحكم أجزاءه وتحكمه ككل آية عظيمة من آيات الله ودلالة بالغة على القدرة المطلقة ، فإذا حدثت معجزة مخالفة للسنن أمام المؤمن ، فإن ذلك لا يثير عجبه أو دهشته بقدر ما يثير فيه دلالتة على الشعور بعظمة الله تعالى ، ويرى فيه دلالة على القدرة المطلقة كما يرى فى الأمور التى تحدث حسب سنن الله الجارية .
ــــــــــــــــــــــــ
1- التعرف ص 88 .
2- السابق ص 89 .
قال تعالى : { إن فى خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولى الألباب ، الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون فى خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار } (1) .
وفى كلا الحالين تكون النتيجة أنه يزداد أيمانا ويقينا .(1/177)
يقول القشيرى فى هذا المعنى : سألت أحمدا الطابرانى السرخسى فقلت له : هل ظهر لك شئ من الكرامات ؟
فقال : وأى خطر للكرامات ؟ إنما المقصود منه زيادة اليقين فى التوحيد (2) فمن لا يشهد غير الله خالقا فى الكون فسواء أبصر فعلا معتادا أو ناقضا للعادة ، فالأمر سواء عند أهل اليقين لأن الخالق فى الأمرين واحد .
ولذا فإن الأثر المترتب على فهم هذه النظرة الإسلامية هو الغاية عندهم من هذا اليقين كما قال سهل بن عبد الله : ( أكبر الكرامات أن تبدل خلقا مذموما من أخلاقك ) (3) .
وكذلك يقول أبو يزيد البسطامى لمن قال له : فلان يمشى فى ليلة إلى ــــــــــــــــــــــــ
1- آل عمران /189 ، 190.
2- الرسالة حـ 2 ص 665 .
3- السابق حـ 2 ص 679 .
مكة وفلان يمشى على الماء ويطير فى الهواء .
فقال : الشيطان يمشى فى ساعة من المشرق إلى المغرب فى لعنة الله والطير يطير فى الهواء والسمك يمر على وجه الماء (1) .
فالأمور عنده سواء وإنما الغاية فى اليقين والطاعة ، ومدى امتثال الإنسان فى عبودية الله سبحانه وتعالى .
وإن من أثر هذا الفهم الإسلامى العظيم أنه يفتح بابا واسعا عند أهل اليقين فى الاستعانة بالله على قضاء حوائجهم وتوفيقهم إلى عبادته سبحانه وتعالى ، فالنقطة الأساسية التى أراد الصوفية الأوائل أن يوجهوا إليها الأنظار فى آرائهم فى القدر والاستطاعة هى شد الإنسان إلى الله تعالى وإلزامه اللوذ به وضمان عدم استبداد الإنسان وتمرده بالاعتماد على طاقته وقدرته وحدهما دون أن يرشدهما هدى إلهى ويعضدهما تأييد ربانى لا يؤيد إلا الحق ولا يرفع إلا ما أريد به وجهه (2) .
* الاستطاعة وعلاقتها بما سبق :
ويمكن القول من خلال ما سبق أن الاستطاعة عند أوائل الصوفية تقوم على ركيزتين ليستا فى الحقيقة سوى لازمين من لوازم الغاية من
ــــــــــــــــــــــــ
1- السابق حـ 2 ص 679 .
2- التصوف طريقا وتجربة ومذهبا ص 280 بتصرف .
خلق الإنسان :(1/178)
الأولى : ركيزة خارج النفس البشرية وتكمن فى تكييف الكائنات والمخلوقات بالصورة التى تمكن الإنسان فى الأرض ، وفى النواميس التى تسير عليها هذه المخلوقات ، كأسباب خارجية تتدخل فى حياة الإنسان اختبارا وابتلاء (1) .
الثانية : ركيزة داخلية وتكمن فى النفس البشرية ذاتها وهى الاستطاعة الذاتية للإنسان على الفعل .
أما عن الركيزة الأولى ، فقد سبق فى هذا الفصل أن الله سبحانه وتعالى خلق المخلوقات جميعا خاضعة مسخرة للإنسان كما أقام النواميس الكونية الطبيعية وقوانينها المطردة من خلال عملية الترابط بين الأباب واطراد العلل والمعلولات بحيث تسمح بقبول فعل الإنسان وتأثيره فيها ، وكلما مكنه الله من الأسباب والعلل أظهر له النتائج والمعلولات وذلك من خلال نعمة الله عليه وتسخير الكائنات له كما ذكر سهل بن عبد الله مستدلا بآيات سورة النحل (2) .
وهذه الأسباب الخارجية إنما هى للابتلاء ، فالإنسان كما طلب منه أن يصارع النفس عند جموحها للميل والانحراف فإنه قد طلب منه ــــــــــــــــــــــــ
1- السابق ص 282 .
2- انظر ص 272 من هذا الفصل .
كذلك أن يصارع بفكرة وقلبه وسلوكه كل ما يعوق حسن آدائه للعبودية فى هذا العالم الملئ بوسائل الاختبار ، والتى تتشكل فى ضداد كثيرة كالفقر والغنى والصحة والمرض والعلم والجهل وغير ذلك من الأسباب .
وأما عن الركيزة الثانية للاستطاعة البشرية فهى تقوم أساسا فى النفس من جهة حدوثها مع الفعل أو قبله أو بعده ، فأوائل الصوفية أثبتوا للإنسان استطاعة عامله فاعلة لأعماله وأفعاله ، وقدرة حقيقية لا يمكن إنكارها ولا يؤثر ذلك مطلقا على مدى شمول قدرة الله وإرادته .
وأما حقيقة الفعل البشرى عند أوائل الصوفية فيمكن إدراكه من خلال ملاحظاتهم وتحليلاتهم النفسية فى إيضاح مذهبهم فى القدر الإلهى والاستطاعة الإنسانية .(1/179)
فيقول المكى : ( خلق الله النفس متحركة ثم أمرها بالسكون وهذا هو الابتلاء فإن تداركها بالعصمة سكنت ، وهذا خصوص وإن تركها تحركت بطبعها وجبلتها وهذا هو الخذلان ) (1) .
لقد نظر المكى إلى النفس على أنها مصدر للحركات والسكنات فى ــــــــــــــــــــــــ
1- قوت القلوب حـ 2 ص 11 .
الإنسان وهى فى ابتلاء مستمر بينهما ، فإن سكنت إلى تدبير الله كانت العصمة والتوفيق وإلا فالإضلال والخذلان ، فالأمور النفسية التى تحدث فى الذات الإنسانية والناشئة من مجموع الخواطر والاختيارات الداخلية ، تتحدد الأفعال بناء عليها فى الخارج سواء أكان خيرا أوشرا صلاحا أو فساد حسب النية الداخلية المحركة .
وقد شبه المكى أفعال الإنسان التى تمت باستطاعته بالحب أو الخرز وشبه إرادة العبد بالخيط الذى ينتظم عليه الحب أو الخرز (1) .
وهذا التشبيه بالغ الدقة ، وذلك لأنه مما لا شك فيه أن أى فعل ظاهر يقوم به الإنسان ، يتم كما هو معلوم بالضرورة من الواقع بأعضائه الجسدية أو بالأدوات الخارجية التى يستعين بها على إتمامه ، كما أنه من المعلوم أيضا أن أى فعل يحدث عبارة عن عدة أفعال صغيرة ينتهى كل منها فى حقيقتة إلى حركات وسكنات سواء كانت حركات نفسية أو جسدية أو طبيعية .
هذه الحركات والسكنات تتشكل بالضرورة فى شكل معين بتوقيت معين يفرضهما نوع الفعل المكتسب والغاية منه ، كما أن الفرق بين فعل وآخر وهو اختلاف هذه الحركات والسكنات كما وكيفا زمانا ومكانا .
ــــــــــــــــــــــــ
1- السابق حـ 2 ص 10 .(1/180)
مثال ذلك : لو فرضنا والدا يؤدب ولده ضربا ، وآخر يحتضن ولده شفقة وحنانا ، فإن كلا الفعلين يقعان بين فاعل ومفعول يستخدم كل منهما حركة الأعضاء الخارجية فى البدن مع الإحساس الداخلى فى ذات كل منهما ، بينما تتخلل حركة كل من الفاعلين والمفعولين أيضا سكنات لا تكاد ترى ولا تحس نتيجة تلاصق الحركات وتدافعها فى الفعل بسرعة ، إلا أنها موجودة قبل نهاية كل حركة وقبل بداية الحركة التى تليها ، فالفرق بين الفعلين من حيث صورة الفعل الواقعية العادية وبغض النظر عن الإرادة الموجهة للفعل أو الغاية منه ، ليس سوى اختلاف كل فعل عن الآخر من حيث الحركات وكيفيتها رقة وعنفا سرعة وبطئا ، وكذلك السكنات المتخللة للحركات وكيفية تباينها فى الفعل .
ومن ثم فمجموع الحركات والسكنات ليس فى الحقيقة سوى علة لوجود الفعل المراد ونتائجه ، وفى نفس الوقت فإن كل حركة سابقة تصبح علة وسببا للحركة التالية المعلولة ، التى ما تلبث أن تصبح هى الأخرى علة لمعلولها الذى يليها ، وهكذا حتى تأتى الحركة الأخيرة التى هى معلول وليست علة .
وعلى ذلك فالفعل البشرى يبدأ من حالة نفسية للفاعل بنية وإرادة وينتهى بعد تفاعلات بين الحركة والسكون بحالة نفسية لنفس الشخص أو لغيره من الناس .
فالفعل البشرى علته الأولى البادءة أو علة بدايته داخلية فى ذات الإنسان ومتمثلة فى إرادة الفعل ، ونهاية الفعل أو معلوله الأخير أيضا داخلى فى ذات الإنسان ومتمثل فى تحقيق المراد وإشباع الإرادة ، فهو إما ينتهى محققا لذة وسرورا ومتعة ، أو محققا ألما وضررا وبؤسا .
ومساحة ما بين العلة الأولى والمعلول الأخير من العلل والمعلولات الخارجية فى الفعل البشرى فهى من خلق الله وتوفيقه وإمداده وتيسيره وهذه المساحة هى حبات العقد أو الخرز فى المثل الذى ضربه المكى .(1/181)
أما قيام العلة الأولى وامتدادها إلى تحصيل المعلول الأخير فهو الخيط الذى ينظم الحب والخرز فى العقد ، وهذا يطابق المعنى المشار إليه فى قوله سبحانه وتعالى :
{ فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى } (1) .
وكما قال تعالى : { والله خلقكم وما تعملون } (2) .
فالفعل البشرى الاختيارى ليس سوى مجموعة من العلل والمعلولات تبدأ بعلة أولى وتنتهى بالمعلول الأخير .
ــــــــــــــــــــــــ
1- الليل / 5 : 10 .
2- الصافات / 96 .
ويمكن القول أن العلة الأولى للفعل البشرى الاختيارى عند أوائل الصوفية هى تحرك الإرادة المختارة استجابة لما يسبقها من دوافع نفسية وخواطر داخلية منبعثة من الروح أو النفس أو الملك أو الشيطان لاختيار هذا الفعل دون غيره .
وعلى ذلك فالفعل المختار نابع من ذات الإنسان وهو المسئول عنه تصديقا لقوله صلى الله عليه وسلم : ( إنما الأعمال بالنيات ) (1) .
وكذلك يمكن القول بأن المعلول الأخير للفعل هو الشئ المختار والمقصد الذى أراد الإنسان تحقيقه واكتسابه ، فالإرادة تتلبس بالفعل وتمتزج به من أوله إلى آخره ، حيث تظل مصاحبة للفعل ومتخللة فيه بين حركاته وسكناته وموجهة لعلله ومعلولاته ، حتى يقع كما أراد الإنسان حدوثه ووقوعه .
ومن ثم فلا عجب فى تشبيه المكى للإرادة البشرية بالخيط الرفيع الذى ينظم الخرز أوحبات العقد فالاستطاعة أو العلل والمعلولات تصاحب الفعل مصاحبة الخيط للعقد فكما أن فصوص العقد موجودة أصلا ودور الخيط تجميع الفصوص بالكم والكيف والشكل الذى يُنتج فى النهاية شكلا مرغوبا أو مكروها ، كذلك دور الإدارة مع الاستطاعة البشرية فى إتمام الفعل ، فدورها هو تجميع العلل والمعلولات وترتيبها ـــــــــــــــــــــــ
1- تقدم تخريجه ص267 .(1/182)
بنسب معينة كما وكيفا ، بحيث يؤدى هذا التجميع المنتظم حسب هذه النسب إلى أفعال مرغوبة ومرادة للفاعل أو مكروهة .
وأهل اليقين يرون فى قلادة التوحيد التى يجب أن يتحلى بها المريد أن خيطها هو الالتزام بشرع الله واختياره لهم ، وحباتها أو خرزها هو فعل الله بهم سواء بترابط العلل أو بانفكاكها ، وذلك يكون عندهم بالرضا والتسليم المطلق لله فى كل شئ شرعه لهم تحقيقا لمعنى العبودية وفى كل فعل قدره عليهم تحقيقا لمعنى الربوبية .
*** المبحث الثالث ***
العلاقة بين الفاعلية الإلهية والفاعلية الإنسانية
مر بنا فى المبحثين السابقين أن مشايخ الصوفية الأوائل أثبتوا قدرة للإنسان واستطاعة على الفعل كما اعترفوا بالمؤثرات الطبيعية كأسباب وعلل خلقها الله عز وجل بحيث تسمح بقبول فعل الإنسان وتأثيره فيها وعلى الوجه الآخر أفردوا الله بالخلق والفاعلية وجعلوا ذلك جوهر التوحيد عندهم حتى يحكى الكلاباذى إجماعهم على ذلك فيقول :
( وأجمعوا أن الله تعالى خالق لأفعال العباد كلها كما أنه خالق لأعيانهم ، وأن كل ما يفعلونه من خير وشر فبقضاء الله وقدره وإرادته ومشيئته ) (1) .
والسؤال الذى يطرح نفسه علينا الآن هو : كيف ينسب أوائل الصوفية الفعل الحقيقى إلى الله وفى نفس الوقت يعترفون بأثر السبب الطبيعى وبالفاعلية الإنسانية ؟ حتى يقول المكى عن الفواعل والمؤثرات والوسائط بين الفاعلية الإلهية وبين حدوث الفعل أو خلق الشئ :
( فى الأشياء أواسط حق وأسباب صدق ) (2) .
ــــــــــــــــــــــــ
1- التعرف ص 60 .
2- قوت القلوب حـ 2 ص 14 .
وذلك فى الوقت الذى أجمعوا على أنه لا فاعل على الحقيقة إلا الله ؟
وهذا يوجب على أوائل الصوفية تقديم حل لتفسير هذا التعارض الظاهرى وثمة حلان يقدمهما الفكر الإنسانى :
أولهما : أن الفعل يأتى من فاعلين الإله والمخلوق .(1/183)
ثانيهما : أن يقال إن الفاعل الحق هو الله عز وجل وأن ما سواه ليس له أدنى دور فى الفعل (1) .
فإذا كانت الجهمية قد آثرت إثبات طلاقة الفاعلية الإلهية ونفى القدرة والفاعلية البشرية ، فإن المعتزلة لم تكن إلا المذهب المقابل لها ، حيث أصروا على أن يكون الفعل البشرى نتاجا خالصا وأثرا مستقلا للإنسان عن أى أثر خارجى آخر من فعل الرب أو من غيره ، وهم لا يتهاونون فى هذا الأصل من أصولهم ولا يكادون يختلفون فيه ، ونعنى به قدرة الإنسان على إحداث الفعل (2) .
بينما رفض أوائل الصوفية شأنهم فى ذلك شأن الصحابة والتابعين من قبل ، أن يكون هناك خالق ومحدث للأشياء غير الله سبحانه وتعالى فالحل الأول مرفوض رفضا تاما ، وذلك لأن الفعل عندهم لا يأتى من ــــــــــــــــــــــــ
1- انظر فى ذلك كشف المحجوب ص 333 .
2- انظر القضاء والقدر فى الإسلام د . فارق الدسوقى حـ 2 ص 203 وانظر المحيط بالتكاليف ص 381 وما بعدها .
فاعلين وإلا كان شركا ، فالفاعل الثانى المظهر للفعل والذى فعل بيده وأجرى الفعل بواسطتة هو ثان محدث ، والأول القديم هو الفاعل الأصلى ) (1) .
فوقوع الفعل بفاعليتين أعده أوائل الصوفية شركا ، كما أنهم رفضوا الحل الثانى أيضا إذ يستدل المكى على رأى أوائل الصوفية في إثبات الأواسط ودورها كمؤثرات فعالة من صنع الله بقوله تعالى :
{ فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم } (2)
وبقوله : { علم بالقلم } (3) .
وقال في تثبيت الأملاك وبيعها منه بالأعواض كرما منه وفضلا :
{ إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة } (4) .
والحل الذى يمكن استنباطه من الكتب الرئيسية لأوائل الصوفية ومن أقوالهم ومؤثوراتهم الواردة في هذه الكتب يتلخص في الاعتقاد بأن الفعل الواحد ذو وجهين :
ــــــــــــــــــــــــ
1- قوت القلوب جـ2 ص12 وانظر كشف المحجوب ص 333 .
2- التوبه / 55 .
3- العلق /4 .
4- التوبه / 111 .(1/184)
وانظرالسابق جـ2 ص12 والتعرف ص62 .
[1] - وجه هو فيه محدث ومخلوق على الحقيقة بفاعلية الله عزوجل وحده لا شريك له .
[2] - ووجه آخر باستطاعة الإنسان .
وهذا الوجه الأخير لا يمت بأية صلة إلى إحداث الفعل أو خلقه ويسمى هذا الوجه كسبا ، والدليل على ذلك عندهم أن الفعل الواحد ينسبه القرآن الكريم للخالق قبل الإنسان فعلا باعتبار أنه سبحانه وتعالى هو الخالق المحدث له وحده وليس للإنسان أى دور فيه على الإطلاق ، أما الوجه الثانى وهو اكتساب الإنسان للفعل فليس خلقا أو إحداثا له ، وإن كان الكسب يثبت دورآ للفاعلية الإنسانية مترتبا على الاختيار .
قال تعالى : { أفرأيتم ما تمنون أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون } (1) .
وقال أيضا : { أفرأيتم ما تحرثون أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون } (2) .
فأضاف الإمناء والحرث إلينا لأنها أعمال ونحن عبيد عمال ، ولأنها صفاتنا وأحكامها عائدة علينا ، وأضاف الخلق والزرع إليه لأنها آيات ــــــــــــــــــــــــ
1- الواقعة /58 .
2- الواقعة /63 .
عن قدرته وحكمته والله هو القادر الحكيم (1) فالأشياء والأحياء والأفعال مخلوقات لله بقدره مكتسبة للعبد باستطاعته .
يقول المكى : ( ألا ترى أنك لا تقول خلقنى أبى وإن كان هو سبب خلقك ولا تقول أحيانى وأماتنى فلان وإن كان واسطة في الإحياء والقتل ، لأن هذا شرك ظاهر اشتهر قبحه فترك ) (2) .
ثم يعقب المكى على هذه الأمثله من الأفعال بقوله : ( وكذلك كل ما ذكر فى الكتاب من الأعمال والاكتساب أضيف إلي الجوارح المجترحة ونسب إلى الأدوات المكتسبة ) (3) .
وهو عنده من كسب العبيد ومن خلق الله وحده .(1/185)
وبهذا الحل استطاع أوائل الصوفية إثبات الفعل الحقيقى بمعنى الإحداث والخلق لله وحده مستندين فى ذلك إلي كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم متبعين بذلك طريقة السلف من الصحابة والمحدثين والفقهاء وأهل السنة والجماعة ، وفى نفس الوقت وفقوا بهذا الحل فى إثبات دور للفاعلية الإنسانية يكفى لإثبات المسئولية الخلقية واستحاق الجزاء ، فهم أقاموا اكتساب العبد بناء علي اختياره ، وقرروا ــــــــــــــــــــــــ
1- قوت القلوب حـ2 ص11 .
2- السابق حـ2 ص11 .
3- السابق حـ2 ص11 .
خلق الله عز وجل استطاعة العبد عند الفعل وتزويده بها ليقدر على اكتساب الفعل وضده أو اكتساب الفعل واكتساب الترك لا ليقدر على إحداث الفعل وخلقه لأن الخالق والمحدث هو الله عز وجل .
فالاستطاعة للكسب وليست للخلق والإحداث ، والله سبحانه وتعالى خالق للفعل فى الحالين سواء كان الفعل المراد للعبد طاعة أو معصية ، ومن ثم فلا يتم شىء فى الكون ولا أثر ولا فعل لهذا الشىء إلا بإذنه الله وخلقه له .
وهذا الحل يتوافق مع الكلمات البليغة للحسن بن على التي أوردها الكلاباذى في باب الاستطاعة : ( إن الله تعالى لا يطاع بإكراه ولا يعصى بغلبة ولم يهمل العباد من المملكة ) (1) .
فأثبت اختيار الإنسان للطاعة والمعصية وبين أن هذا واقع بأمر الله وفى هذا يقول سهل بن عبد الله : ( إن الله تعالى لم يقو الأبرار بالجبر إنما قواهم باليقين ) (2) .
ويرى المكى أن نسبة الفعل إلى السبب أو إلى العبد شركا ، ولا يفرق فى ذلك بين خلق الله وإحيائه وإماتته وبين الكسب فى الرزق فكما أن الله أخبرنا أنه الخالق المحى المميت أخبرنا أنه الرازق ، وقرن بين ـــــــــــــــــــــــ
1- التعرف ص64 .
2- السابق ص 64 .
هذه الأربع فى قرن واحد مع ترتيب الحكمة والقدرة لظهور الأسباب ووجود الأواسط فقال تعالى : { الله الذى خلقكم ثم رزقكم ثم يمتيكم ثم يحيكم } (1) .(1/186)
يقول المكى معقبا : ( فكما ليس فى الثلاثة جاعل ومظهر إلا الواحد فكذلك ليس فى الرابعة من رازق إلا هو ) (2) .
ثم يلخص الأمر فيقول : ( فظهرت حكمة الله فى الأشياء لعود الأحكام على المظهرين لها وبطنت قدرته فى الأشياء لرجوع الأمر كله إليه ، وهذه شهادة التوحيد للعارف المتوكل وهو مقام العلماء الربانيين ) (3) .
وهذا الفكر الذى يشرح من خلاله أوائل الصوفية مفهومهم للتوكل وغيره استطاعوا بحق أن يضعوا به الحل المناسب لتفسير العلاقة بين فعل الله وكسب العبد إلا أننا نواجه سؤالا ضروريا وهاما وهو : ما علاقة السبب الطبيعى أو غير الطبيعى الممثل فى وجود الملائكة أو الأسباب الغيبية بالربوبية والفاعلية الإلهية ؟
وذلك لأن النظرية الصوفية للكسبب عند الأوائل خاصة بتفسير ــــــــــــــــــــــــ
1- الروم / 40 .
2- قوت القلوب جـ2 ص10 .
3- السابق حـ 2 ص 10 .
العلاقة بين الفاعلية الإلهية والفاعلية الإنسانية بهدف إثبات المسؤلية الخلقية واستحقاق الجزاء دون خرق لمبدا إفراد الله عز وجل بالخلق .
ولكن الأمر يختلف بالنسبة للفاعلية الطبيعية والأسباب غير الإنسانية بصفة عامة وهو ما يسمية أوائل الصوفية بصفة عامة والمكى بصفة خاصة بالأواسط (1) .
ويعنى بها الفاعلية الوسط بين فعل الله عز وجل وبين المفعول أو الحادث الأخير فى الفعل ، وهى عند المكى نوعان :
الأول : الأسباب الطبيعية التي تحدث على أثر حدوثها الظواهر الطبيعية والحيوية .
الثانى : أسباب غيبية غير مرئية ويعنون بها الملائكة .
لقد نسب أوائل الصوفية للإنسان دورا هاما فى الفعل حددوه بالكسب ، ولكنهم بالنسبة للأسباب الطبيعية والأحوال الغيبية رفضوا أن ينسبوا لها أى دور مستقل على الإطلاق ، وفهموا هذه الأواسط على أنها مجرد حجاب تحتجب وتستتر به الفاعلية الإلهية من ناحية وتظهر من خلاله الربوبية فيعرفونها من ناحية أخرى .(1/187)
فهم يفردون الله بالخلق والفعل ، ولكن الكسب الذى أثبثوه للإنسان
ــــــــــــــــــــــــ
1- انظر كشف المحجوب ص 466 .
ليس إلا استحقاقا للجزاء وإثباتا للعدل الإلهى ، أما بالنسبة للطبيعيات أو الغيبيات من الأسباب والأواسط فليست مسئولة أو محاسبة ، ومن ثم فلم يثبت الصوفية لها أى فاعلية مستقلة على الإطلاق ، بل الفاعلية كلها لله حيث هو الفاعل بها جميعا .
ومبدأ احتجاب الفاعلية الإلهية النافذة يتردد على أفواه الكثير من أوائل الصوفية (1) فهم ينظرون إلى الأسباب باعتبارها من مكر الله عز وجل وابتلاء للعباد لإخفاء فاعليته وعملها فلا يراها الناس رؤية مباشرة ولا يواجهونها مواجهة صريحة ، وهذا المعنى هو ما يفهمه المكى من قوله تعالى : { ولا يحيطون بشىء من علمه إلا بما شاء } (2) .
قيل : الهاء إشارة إلى الله تعالى وقال أبو العباس بن عطاء (3) :
ــــــــــــــــــــــــ
1- انظر كشف المحجوب ص10 ، 11 وانظر طبقات الصوفيه ص 51 ، 344 .
2- البقرة / 255 .
3- هو أبو العباس أحمد بن سهل بن عطاء الآدمى ، من كبار مشايخ الصوفية وعلمائهم وهو من أقران الجنيد بن محمد ، مات سنه 309 وقيل سنة311 هـ ومن أفضل ما حفظ عنه : ( من ألزم نفسه آداب السنة نور الله قلبه بنور المعرفة ، ولا مقام أشرف من مقام متابعة الحبيب صلى الله عليه وسلم فى أوامره وأفعاله وأخلاقه والتأدب بآدابه قولا وفعلا وعزما وعقدا ونية ) انظر فى ترجمته الرسالة القشيرية حـ 1 ص 146 حلية الأولياء حـ 11 ص 302 شذرات الذهب حـ 2 ص 257 البداية والنهاية حـ 11 ص 144 والمنتظم حـ 6 ص 160 .
( ولا يحيطون بشىء من ربوبيته علما ، لأنه لم يظهر شيئا إلا تحت غطاء وتلبيس ) (1) .(1/188)
وهو يقصد بربوبيته فاعلية الله فى الكون ، ومعنى ذلك أنه يقول : إن الله عز وجل هو فاعل كل شىء وخالق كل شىء وما نراه من الأسباب الطبيعية وما نعلمه من الوحى عن الملائكة وما يتم بهما ليس إلا تلبيسا لفاعليته وربوبيته وإخفاء لها اختبارا للعباد .
ويؤكد الواسطى (2) تلبيس الأسباب وحجب صفة القدرة الإلهية من ورائها بقوله :
( إن الله تعالى يحتجب عن خلقه بخلقه ثم عن صنعته بصنعه وساقهم ــــــــــــــــــــــــ
1- حلية الأولياء حـ 10 ص 305 ومعنى التلبيس عند أوائل الصوفية إخفاء الأمر على سبيل الابتلاء ، حتى يمتحن العبد فى معرفة الله وإثبات الربوبية هل الخالق المدبر هو الله أم ما أبداه لهم من أسباب ؟ سواء كانت مرئية فى الأسباب الطبيعية أو غير مرئية فى الأسباب الغيبية ؟ فأما الموحدون فيعلمون أن الله من وراء الأسباب خالق مدبر وأما المشركون فيعبدون الملائكة والشمس والقمر وغير ذلك من الأسباب .
2- هو أبو بكر محمد بن موسى الواسطى خرسانى من بلد يقال لها : فرغانة ، وهو من أقران الجنيد والنورى ، ومن علماء مشايخ القوم ، مات بمرو سنة 320 هـ وقيل بعدها انظر طبقات الصوفية ص 302 المنتظم حـ 6 ص 262 ، حلية الأولياء حـ10 ص 149 الرسالة القشيرية حـ 1 ص 152 .
بأمره إلى أمره ) (1) .
وقال أيضا : ( الموحد لا يرى إلا ربوبية صرفا تولت عبودية محضا ) (2) .
ويثبت المكى احتجاب القدرة الإلهية في فعلها بالأسباب بقوله : ( احتجب عن العموم بالأسباب فهم يرونها ) أى أنهم لضعف توكلهم وإيمانهم يعاينون النتائج والأحداث بها ، بينما لا يخدع الموحدون والمتوكلون بالأسباب لقوة إيمانهم بالله ومعرفتهم بصفاته .
يقول المكى : ( وحجب الأسباب بنفسه عن الخصوص فهم يرونه ولا يرونها ) (3) .(1/189)
ويرى الحكيم الترمذى أن كل شىء قائم بالله ومن الله ، وإن اختفى هذا السر وراء الأسباب الظاهرة ، فالله قد جعل من تدبيره أن يستر أموره بالأسباب والآدمى يرى ما ظهر عنها ابتلاء من الله وفى باطنها ربوبيته فالحكماء عن تدبير الله ينطقون وكيف دبر شأن الآدميين وكيف ركبهم يشكرون (4) .
ــــــــــــــــــــــــ
1- قوت القلوب حـ 1 ص 126 .
2- طبقات الصوفية ص 303 .
3- قوت القلوب جـ2 ص15 .
4- نوادر الأصول للحكيم الترمذى ص 398 .
ويوضح المكى مبدأ احتجاب صفة القدرة بقوله :
( وكذلك أيضا تدخل الشبهة على الغافلين من ضعف اليقين لشهود المانعين والمنفقين أوائل فى الفعل من قبل أن الله تعالى أظهر العطاء والمنع بأيديهم ، فشهدوهم معطين مانعين لنقصان توحيدهم ، فأشركوا فى أسماء الله ) (1) .
وفى هذا النص يتضح لنا من قول المكى عن الغافلين أنهم يرون الناس والأسباب أوائل فى الفعل اعتقاده بأن الأفعال المنسوبة للبشر والأسباب ليست على وجه الأصالة فى الإحداث ، لأن الفاعل الحقيقى هو الله وحده وإنما الأسباب والناس ليسوا إلا مجالا لإظهار فعل الله عز وجل ، وذلك بحجب قدرته الفاعلة بهم حتى يقع أصحاب الغفلة فى الشرك الخفى ابتلاء من الله .
فيقول العبد أعطانى ومنعنى فلان ، وهذا شرك لأن الأسباب تظهر على أيديهم وتجرى بواسطتهم فحجبوا بها عن المسبب واستتر عنهم المعطى المانع (2) .
ومن ثم فالصوفية الأوائل يفهمون علاقة الأسباب بالفاعلية الإلهية باعتبار الأسباب مجرد ستار وحجاب لقدرة الله عز وجل يسدله الخالق ــــــــــــــــــــــــ
1- قوت القلوب جـ2 ص15 .
2- السابق حـ2 ص11 .
رحمة بالناس وبخاصة الضعاف منهم من ناحية ، وابتلااء واختبارآ لهم من ناحية أخرى .(1/190)
ويعتبر التسترى فى هذه النقطة أدق من غيره ، لأن الخلق عنده لا يحجب الخالق وإنما الحجاب من قبل الخلق لا من قبل الخالق ، وذلك لأن ميدان الربوبية فى نظرة أوائل الصوفية هو الميدان الذى تتحقق فيه العلاقة بين الله وخلقه من خلال صفاته سبحانه .
يقول التسترى عن صفة الفعل : إنها الصفة التى بها احتجب وبها تسمى الله فإذا أبصر الإنسان أشعره الله بمباشرة صفاته وخفى ألطافه آثاراها فى خلقه وهذا هو استشعار العبودية التى تثمر خوف المقام استمدادا من قوله الله تعالى : { وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى } (1) .
فالوسائط التى هى أثار الصفات الإلهية لا ينظر إليها المؤمن على أنها ضروريات عقليه تدريجية لفهم طبيعة الفعل الإلهى ، ولكن ينظر إليها على أنها سلم يصعد عبرها الإنسان روحيا حتى يستقر قلبه نهائيا مع ربه (2) .
ومن هنا نشأ هذا التنوع فى موقف الصوفية فى وجهين يظهران من ــــــــــــــــــــــــ
1- النازعات / 40 .
2- من التراث الصوفى ص215 .
هذين الدعاءين المختلفين لشخص واحد وهو السرى السقطى (1) .
أحدهما : ينادى الصوفى فيه ربه اللهم لا تعذبنا بذل الحجاب (2)
والآخر : اللهم الطف بنا واسترنا بلطف الحجاب (3) .
أما الأول فيقصد أن ينعم بشهود الربوبية والفاعلية الإلهية ، وأما الآخر فيسأل الله التخفيف حتى يستمر في حياته ليرعى شئون نفسه لأنه لو ظل مشاهدا له وراء كل شىء يسبح الله حقيقة استحال عليه أن يفعل الضروريات أو يفكر فى غذائه وصلاح معيشته .
وفى ذلك توجيه نبوى للصحابى أبى ربعى حنظلة بن الربيع كاتب الوحى فى قوله :
( والذى نفسى بيده لو تدومون على ما تكونون عندى وفى الذكر لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفى طرقكم ولكن ياحنطلة ساعة ــــــــــــــــــــــــ(1/191)
1- هو أبو الحسن سرى السقطى خال الجنيد وأستاذه ، من أقران معروف الكرخى وهو إمام البغدادين مات سنة 251 هـ انظر حلية الأولياء حـ1 ص 116 طبقات الصوفية ص 48 تاريخ بغداد جـ9 ص187 طبقات الشعرانى جـ1 ص86 شذرات الذهب جـ2 ص127 البداية والنهاية جـ11 ص13 .
2- حلية الأولياء جـ10 ص120 .
3- طبقات الصوفية ص51 ، وانظرختم الأولياء ص149.
وساعة ثلاث مرات ) (1) .
إذ أن حنظلة ظن أن الانشغال بالأسباب في غير مجلس الذكر مدعاة للنفاق فقال : ( نكون عندك تذكرنا بالنار والجنة كأنا رأى العين فإذا خرجنا من عندك عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات نسينا كثيرا ) (2) وهو ما يعتبره نفاقا .
وإرشاد النبى صلى الله عليه وسلم لحنظلة يوحى بأن أهل الحقائق فى دوام الأحوال ارتقوا عن وصف التأثر بالأواسط والأسباب ، فهم يباشرونها فى ظاهر العيان ويعلمون أن الله من ورائهم محيط قادر فاعل بلطائف القدرة وخفايا المشيئة (3) .
ونخلص إلى القول بأن أوائل الصوفية أثبتوا أن الفعل يحتاج إلى فاعل واحد فى خلقه وإنشائه إذ أن وجود فاعلين يوجب استقلال الواحد عن الآخر ، ومن ثم فالفاعل يتحتم أن يكون واحدا فى الحقيقة بلا جدال ــــــــــــــــــــــــ
1- أخرجة مسلم فى كتاب التوبة ، باب فضل دوام الذكر والفكر فى أمور الآخرة برقم (2750) وابن حبان عن أنس فى كتاب البر، باب ما جاء فى الطاعات وثوابها برقم (344) وأخرجة أحمد عن أنس جـ3 ص 175 وابن المبارك فى الزهد عن أبى هريرة برقم (1075) والهيثمى فى مجمع الزوائد عن أنس حـ 10ص308 .
2- الرسالة القشيرية حـ 1 ص 254 .
3- السابق جـ1 ص 254 .
وهذه الأسباب والأواسط أدوات للقدرة خلقها الله عز وجل لتحقيق علمه فى خلقه ليس لها أثر بذاتها ولا يمكن أن توجد بنفسها (1) .(1/192)
يقول الهجويرى : ( ونحن فى هذا الصدد على طرفى نقيض مع أصحاب المذاهب الثنوية الذين يقولون بالنور والظلام ، ومع المجوس الذين يعتقدون ببزدان وأهريمن ، ومع الفلاسفة الطبيعيين الذين يقولون بالطبع والقوة ، والفلكيين الذين يصدقون بالأفلاك السبعة والمعتزلة الذين يقولون بتعدد الخالقية والصانع بدون حد ) (2) .
وقد نبه سهل بن عبد الله إلى أن ذلك لا يعنى القول بالجبر ، لأن قوما ممن ضلوا فى هذا الباب زعموا أنهم يغرقون فى بحار التوحيد ، ولا يثبتون لنفوسهم حركة وفعلا ويسقطون ذلك ظنا منهم أنهم يفردون الله بالفاعلية فيزعمون أنهم مجبورون على الأشياء وأنه لا فعل لهم مع فعل الله ويسترسلون فى المعاصى وكل ما تدعوا النفوس إليه من ترك الحدود والأحكام والحلال والحرم .
ــــــــــــــــــــــــ
1- كشف المحجوب ص333 .
2- السابق ص 333 ، 334 .
*** المبحث الرابع ***
الحكمة من خلق الأواسط والأسباب
إذا كان أوائل الصوفية قد أفردوا الله بخلق أفعال العباد وأثبتوا دور الإنسان فى كسب أفعاله الخلقية وأكدوا أن الأسباب لا تستقل عن الفاعلية الإلهية بأى أثر يذكر ، فكيف وعلى أى وجه تنسب النتائج إلى الأسباب ؟ وكيف تكون الأسباب بذلك حقا وأثرها صدقا وهى ليست فاعلة أو مؤثرة بذاتها مما يجعلها أقرب إلى الوهم ؟ فى حين أن المكى يقول : ( فى الأشياء أواسط حق وأسباب وصدق ) ؟!
وفى الحقيقة قوله هذا يدل على إثباته لحقيقة الأسباب ونفى وهميتها وبطلانها وجوديا ، إذ أنه استطرد بعد ذلك مبينا موقع هذه الحقيقة من قدرة الله المطلقة فيقول : ( لما كانت الأشياء بعد أن لم تكن ولا تكون بعد أن كانت ، أشبهت الباطل الذى لا حقيقة له أولية ، ولا ثبات له آخرية ، وكان الله تعالى الأول الأزلى الآخر الأبدى فهو الحق ولا هكذا سواه ) (1) .(1/193)
وهذا الكلام يبدوا متناقضا مع سابقه ، حيث أثبت الوجود الحق للأسباب ثم جعله باطلا ولكنه لا يعد فى حقيقه الأمر تناقضا ، وذلك ــــــــــــــــــــــــ
1- قوت القلوب حـ2 ص 14.
لأن الحقيقة التى أثبتها للأسباب غير الحقيقة التى أثبتها لله عز وجل ، فالله هو الحق وكل ما سواه حقائق نسبية أو حقائق وجودية مشروطة ومتعلقة بالمشيئة الإلهية وبقدرة الله وربوبيته ورعايته ، كما قال سبحانه وتعالى : { الله خالق كل شىء وهو على كل شىء وكيل } (1) .
فكل ما سوى الله عز وجل باطل بالنظر إليه فى ذاته إذا قيست حقيقته بوجود الحق سبحانه وتعالى ، ولذلك استدال المكى على هذه الحقيقة بقول النبى صلى الله عليه وسلم : ( أصدق بيت قاله الشاعر ألا كل شىء ما خلا الله باطل ) (2) .
يقول المكى معقبا على الحديث : ( وهو صلى الله عليه وسلم يعلم أن فى الأشياء أواسط حق وأسباب صدق ثم لم يمنعه ذلك ــــــــــــــــــــــــ
1- الزمر / 62 .
2- هو أبو عقيل لبيد بن ربيعة ، قال ابن حجر : ( المراد بقول الشاعر ما عدا الله أى ما عداه وعدا صفاته الذاتية والفعلية ، فكل شىء سوى الله جائز عليه الفناء لذاتة حتى الجنة والنار ، وإنما يبقيان بإبقاء الله لهما وخلق الدوام لأهلهما ، والحق على الحقيقة لا يجوز عليه الزوال ) انظر فتح البارى جـ7 ص188 والحديث أخرجه البخارى فى كتاب مناقب الأنصار ، باب أيام الجاهلية برقم (3841) ومسلم فى كتاب البر والصلة والآداب برقم (63) وأحمد فى المسند حـ3 ص 248 .
أن قال : أصدق بيت قاله الشاعر كذا ، إيثارآ منه للتوحيد وتوحيدآ للمتوحد ) (1) .(1/194)
وعلى هذه النظرة العميقة ، فإن الأغيار والأسباب إنما هى حق بالنظر إلى القدر الإلهى ، وباعتبار مشيئة الله تعالى فى وجودها وبقائها وتأثيرها ، وبهذا النحو الذى فسر به المكى علاقة الأسباب أو الأغيار بالله عز وجل من حيث الوجود فسر به أيضا علاقة فاعلية الأسباب والأواسط بفاعلية الله عز وجل وربوبيته فيقول :
( ومثله الأسباب أيضا فى ثوانيها وأواسطها إلى جنب الأول المسبب مثل ما يقول فى القرآن قال الله كذا ، ولك أنه تقول : قال نوح وقال يوسف كذا فكل صواب ) (2) .
فالأسباب فاعليتها إذا بالقياس إلى فاعلية الله باطلة ولا حقيقة لفعلها فى ذاتها وإن كانت لها فاعلية واقعة بإذن الله وخلقه لها .
فالسبب والنتيجة مخلوقان له واقعان بفاعليته ، ومن ثم تكون فاعلية السبب ليست حقيقية وليست مجازية ، بل ليست فاعلية على الإطلاق لأنه فى كل مرة يقع منه أثره يكون هذا الأثر بخلق الله وإرادته وقدرته كشأنهم فى إضافة الاستطاعة للإنسان يخلقها الله عز وجل فى السبب
ــــــــــــــــــــــــ
1- السابق حـ2 ص 14 .
2- السابق حـ2 ص 14 .
مرة بمرة وفعلا بفعل ، فلا يكون السبب فيها فاعلا فى الحقيقة ، أو مستقلا بفاعليته برؤية وحتمية بينة كعلة وبين الفعل التابع له كمعلول بل هو مؤثر ليس بالنظر لذاته ولكن بالنظر إلى خالقه وخالق معلوله على السواء .
ويستدل المكى على ذلك فيقول : ( وقال فى إثبات الأسباب ورفع حقائقها : { وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى } (1) .
فنسب الرمى لله عز وجل وليس لرسوله حين رمى ، وقال تعالى فى ذكر الأواسط : { فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم إنما يريد الله ليعذبهم بها } (2) .(1/195)
فالأموال والأولاد علل وأسباب وأواسط ، يظن الكافر أنها أوائل ذات فاعلية مستقله لإسعادهم ، ولكن القدرة الإلهية احتجبت وراءها ليعذبهم الله بها ، وذلك يدل على أنها ليست فاعلة على الإطلاق حقيقة أو مجازا لأنها لو كانت كذلك لما كانت سببا فى عكس ما توهم الكافرون أنها سبب له ، وكذلك يضرب المكى مثلا بالفعل يخلقه الله ويكسبه العبد يقول :
ــــــــــــــــــــــــ
1- الأنفال / 17 .
2- التوبة / 55
وانظر السابق حـ2 ص 12وانظر كشف المحجوب ص304، ص305 وقارن .
وكذلك قال سبحانه فى التفصيل والأمر : { فاقتلوا المشركين } (1) وقال فى مثله عند ذكر واسطة الأمر : { قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم } (2) .
ثم قال التوحيد : { فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم } (3) .
وكل ذلك دليل على أن الله عز وجل هوالخالق والفاعل بالأسباب أو بالناس فهو يعذب الكافرين بأيدى المؤمنين ويخلق النتيجة بسبها وهو قادر على أن يفعل النتيجة بلا سبب والمعلول بلا علة ، ولكنه شاء أن يحجب قدرته بإيجاد المعلول بالعلة تحقيقا لمعنى الابتلاء وإظهارا لقدرة العبد على القتل فينال الأجر والثواب .
أما بالنسبة للأسباب الطبيعية فيورد المكى قوله تعالى : { أفرأيتم ما تحرثون أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون } (4) .
فذكر الأواسط ثم قال : { أنا صببنا الماء صبا ثم شققنا الأرض شقا } (5) .
ــــــــــــــــــــــــ
1- التوبة / 5 .
2- التوبة / 14 .
3- الأنفال / 17 وانظر السابق حـ 2 ص 12 وكشف المحجوب ص 305 .
4- الواقعة / 63 .
5- عبس / 25 ، 26 وانظر السابق حـ 2 ص 12 .
أى أنه أثبت للإنسان حرثا وهو سبب غير مؤثر بذاته لإثبات الزرع بل مؤثر بأمر الله وبخلقه عز وجل للإنبات ، كما أثبت لنفسه خلق الأسباب أيضا بإنزال الماء وشق الأرض .
وهكذا فهو الفاعل للعلة والمعلول على الحقيقة ومن ثم يثبت أوائل الصوفية الأسباب كستار لحجب القدرة الإلهية فقط .(1/196)
يقول المقدسى : ( إن الإنسان إذا انكشف عن بصيرته أن لا فاعل سوى الله ، فإنه لا ينظر إلى غيره ، فلا يعتمد على المطر فى خروج الزرع ، ولا على الغيم فى نزول المطر ، ولا على الريح فى سير السفينة ، فإن الاعتماد على ذلك جهل بحقائق الأمور ) (1) .
ويمثل المكى العلاقة بين فاعلية الأسباب وفاعلية الله بقوله :
( ومثل الأواسط مثل الآلة بيد الصانع ألا ترى أنه لا يقال الشفرة حذت النعل ولا الصوت ضرب العبد ) وذلك لافتقار الشفرة والصوت إلى المشيئة والعلم والاختيار ، مما ينفى كونها فاعلة .
ومن ثم يقول المكى : ( إنما يقال الحذاء حذ النعل وفلان ضرب عبده بالسوط وإن كانت هذه الأواسط مباشرة للأفعال إلا أنها آلة بيد صانعها ) (2) .
ــــــــــــــــــــــــ
1- مختصر منهاج القاصدين ص 346 ، 347 .
2- قوت القلوب حـ 2 ص 13 .
وإذا كان الأمر كذلك فإن الخليقة يباشرون الأسباب فى ظاهر العيان والله من ورائهم محيط وهو القادر الفاعل بلطائف القدرة وخفايا المشيئة .
أما بالنسبة للأسباب الغيبية أى الملائكة ، فإن العلاقة بين فاعليتهم والفاعلية الإلهية هى نفس العلاقة بين العلل الطبيعية وفاعلية الله عز وجل ، ذلك أن الملائكة : { لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون } (1) .
وهم وإن كانوا يعملون فى حدود ما أوكل الله إليهم أعمالا ، إلا أنهم ليسوا أصحاب إرادة واختيار كالإنسان بحيث لا يحدث منهم ما هو مخالف للأمر بعبودية الله عز وجل ، ومن ثم تصبح أفعالهم تنفيذا وإمضاءا لأمر الله عز وجل وقدرته ومشيئته .
فيكون الفعل لله عز وجل على الحقيقة ، والملائكة ليسوا سوى ححاب أو ستار ثان للربوبية عن الناس ، وذلك باعتبار أن العلل الطبيعية ستار أولى ، ويدلل المكى على ذلك أيضا بالكثير من الأمثلة الواردة فى كتاب الله عز وجل مثل قوله تعالى : { قل يتوفاكم ملك الموت الذى وكل بكم ثم إلى ربكم ترجعون } (2) .
ــــــــــــــــــــــــ(1/197)
1- التحريم / 6 .
2-السجدة / 11 .
فهنا يثبت الفعل الإلهى محتجبا بالملائكة كأسباب غيبية ، وأظهر نفسه سبحانه فقال : { الله يتوفى الأنفس حين موتها والتى لم تمت فى منامها } (1) .
وبالنسبة لخلق الإنسان ونفخ الروح فيه قال تعالى : { فأرسلنا إليها روحنا } (2) .
ثم قال فى التوحيد : { فنفخنا فيه من روحنا } (3) .
وكان النافخ جبريل (4) ولكن الفعل لا يقع من جبريل ومن كل الملائكة إلا حسب مشيئة الله وإرادته وقدرته ، لأن جبريل والملائكة من خلق الله عز وجل فإن الفعل لله وحده ، ولذلك نسبه لنفسه على هذا النحو وأثبت وقوعه من جبريل كسبب غيبى تحتجب وراءه القدرة الإلهية .
ويرفض المكى القول بخلق القرآن بمبدأ العلل أو الوسائط والأسباب الثوانى التى تحتجب بها الفاعلية الإلهية فيقول : ( إذا قلت : قال الله سبحانه وتعالى كذا فهو القائل الأول قبل القائلين متكلما بوصفه مخبرا
ــــــــــــــــــــــــ
1- الزمر / 42 وانظر قوت القلوب حـ 2 ص 13 .
2- مريم / 17 .
3- التحريم / 12 .
4- السابق حـ 2 ص14 .
عن علمه بغير وقت لموقت ولا حد لمحدود ولا حد ثان .
وإن قلت : قال صالح وقال شعيب فقد قالوه بأنهم ثوان فى القول وأواسط به ، قالوا ذلك عنه بحدوث أوقات وظهور أسباب ) (1) .
أى أن كل ما أخبر الله عز وجل به ، فهو قوله القديم دون تحديد لوقت وعندما حدث فى الزمان صالح وشعيب ، قال كل منهما قوله باعتباره مجرد علة تظهر من خلالها كلمات الله عز وجل .
فالأنبياء والرسل قالوا ذلك عنه بحدوث أوقات وظهور أسباب فشأن الرسل فى ذلك شأن العلل الطبيعية والعلل الغيبية حيث أنه ليس لهم إرادة واختيار خاص مستقل إزاء ما أراده الله عز وجل وأمرهم به من فعل وتبليغ .
كما قال سبحانه عن نبينا صلى الله عليه وسلم : { وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحى يوحى علمه شديد القوى } (2) .(1/198)
وقال عن الأنبياء جميعا : { وإذا أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم وأخذنا منهم ميثاقا غليظا ليسئل الصادقين عن صدقهم وأعد للكافرين ــــــــــــــــــــــــ
1- السابق حـ 2 ص 14.
2-النجم / 3 : 5 .
عذابا أليما } (1) .
وقال عن نبيه صلى الله عليه وسلم : { ولو تقول علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين } (2) .
ويعقب المكى على النص السابق بما يفيد هذا المعنى ويقرره فيقول : ( وكذلك الأسباب وأواسطها ثوان عن الأول المبدئ ) (3) .
ويعلل المكى قول المبتدعين بخلق القرآن بأنهم نسبوا فاعلية ذاتية مستقلة للأسباب والإنسان مما جعلهم ينسبون أقوال الأنبياء والرسل إليهم أولا ، ثم إخبار الله عنهم بذلك ثانيا ، فاضطروا إلى القول بحدوث القرآن وخلقه من حيث احتوائه على حوادث يقول :
( ومن هنا وفى مثله دخلت الشبهة على المبتدعين فقالوا بخلق القرآن ) (4) .
ويرى المكى أنهم وقعوا فى أشنع مما هربوا منه حيث أثبتوا كلام المحدثين قبل كلام رب العالمين القديم الأزلى .
وقد دخل الشبهة أيضا على أمثال هؤلاء المبتدعين فوقعوا فى الشرك ــــــــــــــــــــــــ
1- الأحزاب / 7 ، 8 .
2- الحاقة / 44 : 46 .
3- السابق حـ 2 ص 14 .
4- السابق حـ 2 ص 15.
الخفى أيضا من حيث شهدوا المانعين والمنفقين أوائل فى الفعل من قبل أن الله تعالى أظهر المنع والعطاء بأيديهم (1) وجهلوا حقيقة ستر الفاعلية الإلهية بالأسباب والوسائط ، وهو شرك خفى نتيجة ضعف اليقين والغفلة والجهل وذلك لا يخرج عن الملة عندهم .
وفى هذا المعنى يقول الواسطى فيمن نسب الفعل إلى السبب أو الفاعلية ونسى نسبته إلى الله عز وجل :
( ادعى فرعون الربوبية على الكشف وادعت المعتزلة علىالستر تقول : ما شئت فعلت ) (2) .
ولذلك يرى أوائل الصوفية وجوب اعتقاد المسلم بأن الله هو الفاعل الخالق وحده لأن ذلك عندهم أصل من أصول التوحيد .(1/199)
وقال بعضهم : ( التوحيد هو إضافة كل شئ إلى الأصل ، وإن كان الله فعل ذلك فى الفرع ) (3) .
وهو يقصد بالأصل فعل الله تعالى بكلمة كن ويقصد بالفرع ظهور الفعل أو نتيجته بالأسباب واحتجاب قدرته الخالقة والمحدثة والفاعلة بالكن وراء هذه الأسباب بدليل قوله بعد ذلك :
ــــــــــــــــــــــــ
1- السابق حـ 2 ص 15 .
2- الرسالة حـ 2 ص 35 .
3- كشف المحجوب ص 246 .
( لا تنظر إلى أهل الأعراض والغفلة بادعاء ما ليس لهم فى دعواهم بحق .
قال فرعون : { أليس لى ملك مصر } (1) .
وقال قارون : { إنما أوتيته على علم عندى } (2) .
وقال المنافقون : { شغلتنا أموالنا وأهلونا } (3) .
وكلها نماذج قرآنية للتدليل على أن نسبة الفعل على سبيل الإيجاد إلى السبب أو الإنسان باطله ، لأنه تجاهل للفاعلية الحقة فى الوجود .
ثم يبين بطلان هذه الفاعليات والأسباب بقوله : ثم لما رجع الفرع إلى الأصل قال عز وجل : { لمن الملك اليوم } (4) فخرست الألسن ولم يجترئ أحد على دعوى الملك فقال الله تعالى : {لله الواحد القهار } (5) .
وهذا يتمشى مع قولهم باحتجاب القدرة الإلهية حيث أنها الأصل فى حدوث الأشياء والأحياء والعالم كله ، ثم احتجابها بالأسباب على ــــــــــــــــــــــــ
1- الزخرف / 51 .
2- القصص /78.
3- الفتح /11 .
4- غافر / 16 .
5- غافر / 16 وانظر السابق ص 247 .
سبيل الاستثناء ، وهذا الاستثناء لحكمة شاءها الله تعالى .
ويدلل المكى على نسبة الفعل بكماله إلى الله عز وجل سواء وقع بالأسباب أو بدونها فيقول : هب أن الله تعالى أمر رسوله بالدعوة إليه فدعا لقوله تعالى : { ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتى هى أحسن } (1) فمن الذى أسمع الآذان دعوته وفتح أقفال القلوب ووفق للاستجابة أليس ذاك الله ؟ واحد فى صنعه (2) .(1/200)
أى إذا عرفنا فاعلية الله عز وجل من خلال الوسائط فذاك التفصيل أما التوحيد فهو تخطى هذه الأسباب إلى فاعليته ، وهذا هو توحيد الربوبية ، والنظر إلى الحالتين يتوقف على وجهة الناظر .
وقال بعضهم : ( إذا نظرت إلى التفصيل أثبت الوسائط والرسل وإذا نظرت إلى التوحيد لم تر فى الدارين مع الله أحدا غيره ) (3) .
أى أن الله عز وجل واحد لا يتغير فى ذاته وفعله ، واحد فى قدرته منفرد بالفعل أولا وأخيرا ، والاختلاف بين الأصل والفرع يرجع إلى الناظر ودرجته من التوحيد ليس إلا ، ويعلق ابن القيم على هذه القضية ــــــــــــــــــــــــ
1- النحل / 125 .
2- قوت القلوب حـ 2 ص 13 .
3- السابق حـ 2 ص 14 .
بأن الأسباب مخلوقة لله وليست لها أفعال مستقلة ، فالفعل الذى لا يعقل الناس سواه هو الفعل الاختيارى الإرادى الحاصل بقدرة الفاعل وإرادته ومشيئته ، وما يصدر عن الذات من غير قدرة منها ولا إرادة لا يسميه أحد من العقلاء فعلا ، وإن كان أثرا من آثارها ومتولدا عنها كتأثير النار فى الإحراق والماء فى الإغراق ، والشمس فى الحرارة ، فهذه آثار صادرة عن هذه الأجسام وليست أفعالا لها ، وإن كانت بقوى وطبائع جعلها الله فيها ، فالفعل والعمل من الحى العالم لا يقع إلا بمشيئته وقدرته (1) .
وهنا نجد أنفسنا أمام سؤال هام لا نتجاهله وهو : ما الحكمة التى شاء الله عز وجل من أجلها أن يحجب قدرته وفاعليته المطلقة خلف العلل والأسباب سواء كانت مشهودة أو غيبية ؟
والجواب على ذلك عندهم ينبع من كتاب الله عز وجل ، حيث بين الله سبحانه وتعالى أن الحكمة من مشيئة ذلك هى الحكمة من خلقه للدنيا والآخرة والإنسان والجان ، هذه الحكمة هى الابتلاء .
فالله سبحانه وتعالى ربط الأسباب بمسبباتها شرعا وقدرا ، وجعل الأسباب محل حكمته فى أمره الدينى الشرعى ، ومحل ملكه وتصربفه فى ــــــــــــــــــــــــ
1- شفاء العليل ص 188 بتصرف .(1/201)
أمره الكونى القدرى ، فإنكار الأسباب والقوى والطبائع جحد للضروريات ، وقدح فى العقول والفطر ، فقد جعل الله سبحانه مصالح العباد فى معاشهم ومعادهم والثواب والعقاب والحدود والكفارات والأوامر والنواهى ، كل ذلك مرتبطا بالأسباب قائما بها .
بل العبد نفسه وصفاته وأفعاله سبب لما يصدر عنه ، بل الموجودات كلها أسباب ومسببات والشرع كله أسباب ومسببات والمقادير أسباب ومسببات والقدر جار عليها متصرف فيها ، فالأسباب محل الشرع والقدر ، يقول الترمذى : ( فهذه كلها أسباب والآدمى يرى ما ظهر عنها وفى باطنها ربوبيتة ، وهو الذى دبر هذا كله من القدر وأمضى التدبير بمشيئته تحقيقا للابتلاء ) (1) .
والقرآن مملوء من إثبات الأسباب وتعليق الأحكام عليها بالتكليف والابتلاء .
قال تعالى : { كلوا واشربوا هنيئا بما أسلفتم فى الأيام الخالية } (2) .
وقال تعالى : { فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم وبصدهم عن سبيل الله كثيرا وأخذهم الربا وقد نهوا ــــــــــــــــــــــــ
1- نوادر الأصول ص 397 .
2- الحاقة / 24 .
عنه وأكلهم أموال الناس بالباطل و أعتدنا للكافرين منهم عذابا أليما } (1) .
والآيات كثيرة فى هذا الباب لا تكاد تحصى ، وكلها تدل على أن الأسباب إنما جعلت لحكمة وغاية .
قال تعالى : { أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون فتعالى الله الملك الحق لا إله إلا هو رب العرش الكريم } (2) .
وقال تعالى : { وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما لاعبين ما خلقناهما إلا بالحق } (3) .
يقول ابن القيم : ( والحق هو الحكمة والغايات المحمودة التى لأجلها خلق ذلك كله ) (4) .
وذكر من هذه الحكم والغايات :
1- أن يعرف الحق سبحانه وتعالى بأسمائه وصفاته وأفعاله وآياته0
2- أن يحب ويعبد ويشكر ويذكر ويطاع .
3- أن يأمر وينهى ويشرع الشرائع .
ــــــــــــــــــــــــ
1- النساء / 160 ، 161 .
2- المؤمنون / 115 .(1/202)
3- الدخان / 38 : 39 .
4- شفاء العليل ص 189 ، وانظر قوت القلوب حـ 2 ص 4 .
4- أن يدبر الأمر ويتم القضاء ويتصرف فى ملكه بأنواع التصرفات .
5- أن يثيت ويعاقب فيجازى المحسن بإحسانه والمسئ بإساءته فيوجد أثرا لعدله وفضله موجودا مشهودا فيحمد على ذلك ويشكر ، إلى غير ذلك من الحكم التى تضمنتها الأسباب فى خلق السماوات والأرض (1) .
وقال تعالى : { وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار } (2) .
ومن أوائل الذين انتبهوا إلى هذه الحقيقة سهل بن عبد الله التسترى حيث يقول : ( إن الله عز وجل خلق الخلق وفطرهم على معرفته وابتلاهم بنفسه وقهرهم بقدرته وأمضى فيهم حكمه وهو فى علاه قائم عليهم ) (3) .
وفضلا عن ذلك فإن التسترى يرى أن أوامر الله ونواهيه إن هى إلا ابتلاء حقيقى وامتحان خطير للإنسان (4) .
ــــــــــــــــــــــــ
1- السابق ص 189 بتصرف .
2- ص / 27 .
3- من التراث الصوفى ص 268 .
4- السابق ص 269 .
وهذا الابتلاء يظهر من تصريف الحق لجميع الخلق حيث أنه منشئ ذواتهم ومجرى صفاتهم ، وبالابتلاء نوعهم فريقا أسعدهم ، وفريقا أبعدهم وأشقاهم ، وفريقا هداهم ، وفريقا أضلهم وأعماهم وفريقا حجبهم عنه ، وفريقا جذبهم إليه ، وفريقا آنسهم بوصله ، وفريقا أيسهم من رحمته ، وأنواع أفعاله لا يحيط بها حصر ، سواء احتجب عنهم بالأسباب ابتلاء ، أو شاهدوا قدرته من خلفها (1) .
ولكن ما علاقة الحكمة من احتجاب القدرة بالابتلاء ؟ يقول الدكتور جعفر :
( إن سهلا لا يعترف بحقيقة الاستطاعة وفقط ، بل يرى كذلك أنها محل البلاء ومحك الابتلاء ، ولقد صرح فى مواضع كثيرة أن خلق الإنسان فى الأصل بدأ بالابتلاء ، فالخلائق فى نظره وجهوا للابتلاء فتحركت نفوسهم نحو التدبير لصالحها ) (2) .(1/203)
وعلى ذلك فإن الإنسان إذا تعامل مع هذه القدرة وجها لوجه ، فإن ذلك سيبطل معنى الابتلاء ، فالابتلاء بمعنى الامتحان والاختبار يقتضى وجود عالم غائب عن الإنسان تحتجب فيه القدرة الإلهية ، فليس من المعقول أن يكون على الأرض ابتلاء ، والإنسان المبتلى يستطيع أن يرى ــــــــــــــــــــــــ
1- الرسالة القشيرية حـ 1 ص 226 .
2- من التراث الصوفى ص 268 .
النار وعذابها ، أو يحسها أو يسمع صراخ المعذبين فى القبور أو يرى رب العزة والجلال ، وبرهان ذلك قوله صلى الله عليه وسلم :
( إن العبد إذا وضع فى قبره ، وتولى عنه أصحابه ، وإنه ليسمع قرع نعالهم ، أتاه ملكان فيقعدانه ، فيقولان له : ما كنت تقول فى هذا الرجل لمحمد صلى الله عليه وسلم ؟ فأما المؤمن فيقول : أشهد أنه عبد الله ورسوله ، فيقال له : انظر إلى مقعدك من النار ، قد أبدلك الله به مقعدا من الجنة ، فيراهما جميعا .
قال قتادة : وذكر لنا أنه يفسح فى قبره ، ثم رجع إلى حديث أنس فقال : وأما المنافق أو الكافر فيقال له : ما كنت تقول فى هذا الرجل ؟ فيقول : لا أدرى ، كنت أقول ما يقول الناس ، فيقال : لا دريت ولا تليت ويضرب بمطارق من حديد فيصيح صيحة يسمعها من يليه غير الثقلين ) (1) .
والشاهد فى هذا الحديث ، أن كل الكائنات الحية على الأرض تسمع ــــــــــــــــــــــــ
1- أخرجه البخارى فى كتاب الجنائز ، باب الميت يسمع خفق النعال برقم (1338) وأخرجه مسلم فى كتاب الجنة ، باب عرض مقعد الميت من الجنة أو النار وإثبات عذاب القبر والتعوز منه برقم (2870) والنسائى فى كتاب الجنائز ، باب مساءلة الكافر حـ 4 ص 97 ، 98 وابن حبان فى كتاب الجنائز فصل فى أحوال الميت فى قبره برقم (3120) وأخرجه أحمد فى المسند حـ 3 ص 126 .(1/204)
صوت المعذب إلا الإنس والجن ، لأنهما المخلوقان المبتليان على الأرض أما ما عداهما من الأحياء فليسوا واقعين تحت الابتلاء ولم يخلقوا له ومن ثم فهم يعيشون بغير هذا الغطاء الكونى الذى يمنع عن الثقلين معرفة الأمور الغيبية التى تقع فى الأرض ، كصراخ المعذبين فى القبور وكرؤية الملائكة المحيطة بالإنسان ورؤية الشياطين الملتفة حوله ، لأنه لو حدث ذلك للإنس والجن لآمنوا جميعا ، وما كان هناك فضل منهم ولا مبادرة ولا اجتهاد لمجتهد يستحق عليه الثواب ولما تبين الظالم من المحسن حيث يكون إيمانهم جميعا كنتيجة مباشرة لاطلاعهم على هذه الأمور الغيبية .
ولذلك فإن هذا الغطاء يرفع عن الإنسان بمجرد انتهاء فترة الابتلاء الخاصة بالمخلوق المبتلى فيقال للكافر حين ذاك : { لقد كنت فى غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد } (1) .
وعلى ذلك فلا يصح امتحان الإنسان إلا بستار القدرة المطلقة ، حتى يظهر إيمان الإنسان بالغيب أو كفره ، ومن ثم جعل الله فعله غيبيا غيبة عنا بالعلل والأسباب وتوالى النتائج والمعلولات .
ويؤكد المكى على رأى التسترى فى إثبات الابتلاء ومعانى الحكمة ـــــــــــــــــــــــ
1- ق / 22 .
فيذكر أن الله عز وجل ذو قدرة وحكمة ، فأظهر أشياء عن وصف القدرة ، وأجرى أشياء عن معانى الحكمة ، فلا يسقط المتوكل ما أثبت من حكمته لأجل ما شهد هو من قدرته .
وذلك من قبل أن الله تعالى حكيم فالحكمة صفته ، ولا يثبت المتوكل الأشياء حاكمة جاعلة نافعة ضارة فيشرك فى توحيده .
ومن قبل أن الله قادر والقدرة صفته ، وأنه حاكم جاعل ضار نافع لا شريك له فى أسمائة ولاظهير له فى أحكامه .
كما قال عز وجل : { إن الحكم إلا لله } (1) .
وقال تعالى : { ولايشرك فى حكمه أحدا } (2) .
وكما قال تعالى : { وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير } (3) .(1/205)
والظهير المعين على الشئ ، فالمتوكل مع مشاهدته قدرة الله على الأشياء ، وأنه منفرد بالتقدير والتدبير قائم بالملك ، والمملوك هو أيضا عالم بوجوه الحكمة فى التصرف والتقليب بإظهار الأسباب والأواسط لإظهار الأشخاص والأشباح ، لإيقاع الأحكام على المحكوم ، وعود
ــــــــــــــــــــــــ
1- يوسف / 67 .
2- الكهف / 26 .
3- سبأ / 22 .
الثواب والعقاب على المرسوم ، من حيث كان المتوكل قائما بأحكام الشريعة ملتزما لمطالبات العلم ، مع تسليمه الحكم الأول لله واعترافه أن كلا بقدر الله إذ سمع الله تعالى يقول : { لا يسئل عما يفعل وهم يسئلون } (1) .
ثم يروى عن ابن مسعود رضى الله عنه ما يوضح الحكمة من إخفاء فاعلية الله عز وجل وحجبها عن العباد بالأسباب فيقول ابن مسعود :
( فى إعطاء هذا المال فتنة وفى منعه فتنة ، فإن أعطاه عبدا مدح غير الذى أعطاه وإن منعه عبدا ذم غير الذى منعه ) (2) .
ومراد الله من ذلك أن يختبر المنكرين للخير والغافلين لينظر كيف يعملون ، أما أهل اليقين فيعتبرون بالأسباب ويعجبون من المسبب فيزدادون بذلك هدى وإيمانا لشهودهم المعطى المانع واحدا فى العطاء والمنع ، وفوزهم فى هذا الابتلاء أو هذه الفتنة هو معرفتهم بجريان الحكمة فيما جاءت به الشريعة فتثبت لهم مقامات الشكر لله والصبر عليه (3) أما الغافلون الخاسرون فى الابتلاء والفتنة فيغترون بنظرهم إلى الأسباب والأيدى فيمدحون المعطين ويذمون المانعين (4) .
ــــــــــــــــــــــــ
1- الأنبياء / 23 .
2- قوت القلوب حـ 2 ص 10 بتصرف .
3- السابق حـ 2 ص 11 . 4- السابق حـ 2 ص 12 .(1/206)
ومن ثم فإن الأسباب المادية الطبيعية والغيبية ما جعلها الله إلا فتنة للناس وابتلاء ، وهذا هو مكر الله عز وجل يخفى به قدرته ويستر فاعليته لكل شئ لينكشف الكافر من المؤمن ، ولذلك يعقب المكى بعد ذلك بقوله : ( لقد صار المال فتنة للفريقين يكشف إيمانهم ويمتحن للتقوى قلوبهم ) (1) وهو لا يقصد المال وحده ولكنه يقصد كل الأسباب وعلى رأسها المال .
ويذكر المحاسبى أن الله يستدرج بالمال من أراد أن يهلكه ويعذبه من خلال الابتلاء به وبغيره فيقول : ( أخبرنا الله أن الدنيا فتنة وبلوى واختبار وأنها ليست بدليل على رضى الله عن عباده ) (2) .
ثم يستدل بقوله تعالى : { فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه فيقول ربى أكرمن وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول ربى أهانن كلا بل لا تكرمون اليتيم } (3) .
فكذبهما الله جميعا ونفى أن يكون فى هذا كرامته أو فى ذاك إهانته فالكريم من أكرمه الله بطاعته على أى حال كان ، فقيرا أو غنيا والمهان من أهانه بمعصيته على أى حال كان فقيرا أوغنيا ، فاغتر ــــــــــــــــــــــــ
1- السابق حـ 2 ص 12 .
2- الرعاية حـ 2 ص 13 .
3- الفجر / 15 ، 16 .
الكافرون بظاهر نعم الله عز وجل وظنوا أن ذلك من كرامتهم على الله فقال فى وصفهم : { أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين نسارع لهم فى الخيرات بل لا يشعرون } (1) .
فالأسباب فتنة ، تحتجب قدرة الله بستارها ، والمؤمن صامد لا يتاثر بها كما جاء فى حديث صهيب أنه صلى الله عليه وسلم قال :
( عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله خير ، إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له ، وإن أصابته ضراء صبر وكان خيرا له وليس ذلك إلا للمؤمن ) (2) .(1/207)
ويذكر أبو سعيد الخراز أن أهل الصدق إذا ملكوا شيئا من الأسباب فهم يعتقدون أن الشئ لله لا لهم وأن الله خولهم فيها ، وهم مبتلون به حتى يقوموا بالحق فيه ، لأن النعمة بلاء حتى يقوم العبد بالشكر فيها ويستعين بها على طاعة الله تعالى ، وكذلك البلوى والضراء هو اختبار وابتلاء حتى يصبر عليه ويقوم بحق الله تعالى فيه .
ــــــــــــــــــــــــ
1- المؤمنون / 55 .
2- أخرجه مسلم فى كتاب الزهد ، باب المؤمن أمره كله خير برقم (2999) وأخرجه أحمد فى المسند حـ 4 ص 332 ، 333 ، والدرامى فى سننه حـ 3 ص 375 ، وابن حبان فى كتاب الجنائز ، باب ما جاء فى الصبر وثواب الأمراض برقم (2896) .
ودليله فى ذلك قوله تعالى : { ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم } (1) .
والخلاصة أن أن أوائل الصوفية يعتبرون حقيقة العلل وحدوث الأسباب وتعلق معلولاتها بها وجودا وعدما هى مصدر كل ابتلاء .
والناظر فى تاريخ الأمم السابقة التى قص علينا القرآن الكريم أخبارها يجد أن الباب الذى دخل فيه الشر على هذه الأمم هو إيمانهم بحتمية العلاقة بين العلة والمعلول كسيف صارم يعلو قدرة الله تعالى فعبادة الكواكب والأفلاك والشمس والقمر أولها الاعتراف بفعلها وكذلك ما كانت الأوثان المعبودة إلا رموزا لفاعليات متعددة لها آثارها فى حياة الناس (2) .
وكذلك الأمر بالنسبة للملائكة كعلل غيبية حيث وقع كثير من الأمم فى عبادتها من دون الله عز وجل ومنهم العرب قبل الإسلام ، والباب الذى أدى بهم إلى ذلك هو إثباتهم فاعلية مستقلة لهم عن فاعلية الله .
ولا شك أن انتباه الصوفية الأوائل إلى حقيقة العلاقة بين الفاعلية الإلهية وبين الأسباب الطبيعية والبشرية من ناحية ، وإلى معرفة حقيقة ــــــــــــــــــــــــ
1- محمد / 31 وانظر الصدق لأبى سعيد الخراز ص 34 .
2- كشف المحجوب ص 245 .(1/208)
الأسباب والاستطاعة البشرية من ناحية أخرى ، كان له أثر كبير فى تثبيت قاعدة هامة من قواعد التوحيد الإسلامى ، مما كان له دوره الواضح فى إبعاد المسلمين عن مزالق الوثنية التى وقع فيها غيرهم من الأمم أو بتعبير أدق نقول : إن أوائل الصوفية قدموا أسبابا واضحة فى هذا كله .(1/209)
الفصل الثانى
الحرية ومنهج العبودية
وقد اشتمل على أربعة مباحث :
المبحث الأول : العقل والعلم من مقومات الحرية
المبحت الثانى : الحرية فى الاصطلاح الصوفى
المبحث الثالث : المقامات الصوفية وإرادة الحرية
المبحث الرابع : الأحوال الصوفية وثمرة الحرية
*** المبحث الأول ***
العقل والعلم من مقومات الحرية
من المقومات الأساسيةعند أوائل الصوفية لتكامل مسألة القدر والحرية ضرورة وجود العقل والعلم بالنسبة للعابد ، فكما أنهم أثبتوا له إرادة حرة واستطاعة على تحقيق مراده فى حدود ما منحه الله وخوله فيه ، فإنهم أيضا آمنوا بضرورة وجود العقل واستخدامه فى العلم بالله سبحانه وتعالى .
يقول ابن خفبف : ( ونعتقد أن العبودية لا تسقط عن العبد ما عقل وعلم ما له وما عليه على أحكام القوة والاستطاعة ، إذ لم يسقط الله ذلك عن الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين ، ومن زعم أنه قد خرج عن رق العبودية إلى فضاء الحرية بإسقاط العبودية والخروج إلى أحكام الأحدية المسدية بعلائق الآخرية فهو كافر لا محالة إلا من اعتراه علة أو رقة فصار معتوها أو مجنونا أو مبرسما وقد اختلط عقله أو لحقه غشية ارتفع عنه بها أحكام العقل وذهب عنه التمييز والمعرفة فذلك خارج عن الملة مفارق للشريعة ) (1) .
فالتزام المرء بالعبودية يتطلب مقومات أساسية حددها عبد الله بن ــــــــــــــــــــــــ
1- الفتوى الحموية الكبرى لشيخ الإسلام ابن تيمية ص 48 ، 49 .
خفيف فيما يأتى :
1- وجود الاختيار الذى يؤدى إلى التزام العبودية أو إسقاطها .
2- وجود الاستطاعة والقوة على إتمام الفعل المختار .
3- وجود العقل والعلم ليحدد الطريق للسالكين .(1/210)
وهذه المقومات ليست منفصلة عن بعضها إلا فى عالم الذهن فقط أما فى عالم الواقع والحقيقة فالحرية الإنسانية تتجلى واضحة فى الفعل الاختيارى واستجابة العبد للسلوك الخلقى المعين ، فكما علمنا مما سبق أن الاختيار البشرى عند أوائل الصوفية يوجد متلبسا وممتزجا بالاستطاعة ومصاحبا لها فى الفعل كذلك العقل والعلم .
فالعقل مقوم أساسى من مقومات الحرية كالإرادة والاستطاعة وحيث أن السلوك الخلقى لا يمكن أن يقوم بدون أحدهما فهو أيضا لا يقوم بدون إدراك صاحبه ووعيه ، لأنه إذا كانت الاستطاعة مرتبطة بالعلل والمعلولات والأسباب والنتائج ، فإنه يلزم أن يكون لديه العلم الضرورى بالأسباب وما تنتجه من مسببات أوبالعلل ونتائجها من ناحية ، وأن يكون لديه المعرفة الضرورية بالأخلاق المحمودة والمذمومة من الأفعال المختارة من ناحية أخرى .
ومن ثم فمقومات الحرية الإنسانية فى نفس الإنسان عند أوائل الصوفية إنما هى قوة ذاتية واحدة وإن كانت ذات شعب ثلاث ، وإذا كان أوائل الصوفية أثبتوا اختيارا واستطاعة للإنسان فما موقفهم من العلم ؟
هذا الموقف يتجلى من خلال نظرتهم للغاية من خلق الإنسان ، فكما انبثق الاختيار وظهرت الاستطاعة من معنى الابتلاء والاستخلاف ، كذلك ينبثق العلم عندهم .
فالله سبحانه وتعالى علم آدم الأسماء كلها وفضله على غيره بها إذ سأل الملائكة عنها فأقرت بعجزها ، والتزمت أمر ربها وسجدت لآدم بسببها (1) .
قال تعالى : { وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئونى بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ، قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إنى أعلم غيب السموات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون } (2) .
يقول الترمذى معقبا على تلك الآية :
ــــــــــــــــــــــــ(1/211)
1- انظر الحكيم الترمذى ونظريته فى الولاية ص 325 نقلا عن علم الأولياء للحكيم الترمذى ص 41 ب مخطوطة بمكتبة الجمعية الأسيوية برقم 1056 .
2- البقرة / 30 ، 33 .
( فأبرز الله فضيلة آدم عليه السلام على الملائكة بما علمه من الأسماء ، ولو كان سوى الاسم شئ من العلم يحتاج إليه لعلمه آدم صلى الله عليه وسلم ، فلما علمه الأسماء كلها علمت الملائكة أن جميع العلم داخل فيها ) (1) .
والاسم لفظ يطلق على شئ لتميزه عن شئ آخر ، فالأسماء هنا معناها الأشياء وأسماء الأشياء ، ففى علم اسم الشئ علم بخصائصه ، لأن الخصائص لها أسماء ، وبهذا العلم يحقق الإنسان معرفة الخالق سبحانه وتعالى ومعرفة الخلق من أشياء وأحياء وخصائص وأفعال وتأثيرات .
ويذكر الترمذى أن جميع العلم فى الأسماء ، والأسماء دالة على الأشياء ، وليس من شئ إلا وله اسم ، واسمه دليل على ذلك الشئ والاسم مأخوذ من السمة وكل اسم دليل على صاحبه حتى إن نفس الإسم دليل على الاسم ، فليس من شئ إلا وقد وسمه الله باسم يدل على مكنون ما فيه من جواهر وأوصاف (2) .
فمن علم الأسماء وعلم دلالاتها فقد علم جميع العلوم ، وعلى ذلك فإن أسماء الله تعالى تدل على ذاته وصفاته ، وأسماء خلقه تدل على ما ــــــــــــــــــــــــ
1- السابق ص 325 نقلا عن علم الأولياء مخطوط ص 40 ب وأبواب فى صفة العلم ص 2 ا .
2- السابق ص 321 نقلا عن علم الأولياء ص 39 ا وأبواب فى صفة العلم ص11
أودع فيهم من أفعالهم وصفاتهم (1) .
ويرى الترمذى أن الله الذى خلق الخلق وكونهم بما هو به أعلم وسم كل شئ من خلقه بسمته ، ووضع الحروف التى تشير إلى هذه الخاصية أو هذه السمة ، وتدل عليها دلالة كاملة بالمطابقة ، ثم ركب منها كيف شاء وعلى الهيئة التى أراد أسماء لهذه المخلوقات ، لذلك كانت هذه الأسماء الأصلية التى وضعها الله لمخلوقاته هى التى تدل على جوهر مسمياتها ، ومكنون ما فيها (2) .(1/212)
وفضلا عن كونه الأسماء وضعت للدلالة على مسمياتها عند الترمذى فإنه يرى أن أسماء الله هى مبتدأ العلم ومنها خرج الخلق والتدبير فى أحكام الله وحلاله وحرامه ، فأسماء الله دلت على صفاته وصفاته تابعة للموصوف فالاسم يعود إلى الموصوف ، ولكن الموصوف لا يدرك فى الدنيا ، ولا سبيل إلى إدراكه إلا لمعرفة صفاته ، وصفاته لا يمكن كذلك معرفتها إلا بما يبدوا لهم من آثارها ، ولا التعبير عنها إلا بأسماء تدل عليها ، فتعرف الصفة عند ذكر اسمها ، كما يعرف ــــــــــــــــــــــــ
1- السابق ص 321 .
2- نوادر الأصول ص 185 ، 186 بتصرف وانظر اللمع للسراج الطوسى ص 125.
الموصوف بصفته (1) .
يقول الترمذى : ( إن ربنا تبارك اسمه لا يدرك حسا ولا مسا ولا ذوقا ولا شما ولا رؤية ، فأخرج للعباد من قبل أن يخلق الخلق صفات ولكل صفة نوع من الصنع والفعل والعمل ، ثم جعل لكل صفة سمة بحروف مؤلفة وجعل فى كل حرف منها ما وضع فيه من الصنع ، ثم ألفها فصارت اسما لتلك الصفة ) (2) .
ثم يذكر الترمذى أن الأسماء من أجل ذلك رجعت إلى الصفة والصفة رجعت إلى الموصوف لأنها منه بدت ، فالموصوف موجودة عنده تلك الصفة ، فإذا نظرت إلى الصفة تراءت لعيون القلوب الصافية الطاهرة كل صفة على حدتها باسمها وبحروفها المؤلفة ، وإذا نظرت إليه سبحانه غابت صفات الخلق عن عين قلبك لأنه وقعت فى البحر الذى منه خرجت الأنهار (3) .
وقد آثار بعض المتصوفة والمتكلمين فى شأن الأسماء والصفات قضايا ــــــــــــــــــــــــ
1- الحكيم الترمذى ونظريته فى الولاية ص 324 نقلا عن خلق هذا الآدمى للحكيم الترمذى مخطوط مكتبة ولى الدين برقم 770 ص 95.
2- المخطوط السابق ص 95 ا ــ ب وانظر الحكيم الترمذى ونظريته فى الولاية ص 324 .
3- السابق ص 324 .
جدلية فى كون الاسم هو المسمى أو هو غيره ، وقد حكى الكلاباذى اختلافهم فى ذلك (1) .(1/213)
غير أن الترمذى يرى أن الصفة قائمة بالموصوف والاسم دال على المسمى منطبق عليه ولا يقال الاسم هو المسمى أو هو غير ، وهو مع ما سبق ينفى نظرية الفيض والصدور ويلتزم بإثبات المباينة بين الخالق والمخلوق والصانع والمصنوع ، ولا يقصد إلا الاعتراف للخالق جل شأنه بأثره المباشر فى كل شى وعنايته ولطفه بخلقه .
ويبين الترمذى بدو أسماء المخلوقات وصفاتها من أسماء الله عز وجل وصفاته ، بأنه سبحانه أعطانا الحياة من حياته ، والرأفة من رأفته والعلم من علمه ، وكل شئ من هذه الأشياء التى هى ممدوحة ، والتى تليق به أبرزها صفة من نفسه وهى أنوار ، فنور منها للحياة ونور للرحمة ونور للرأفة ونور للفرج ونور للصبر ونور للرضا ونور للكبر ونور للعظمة ونور للسلطان ونور للمحبة ونور للغنى فهذه أنوار كل نور صار مُلكا على حدته ، كل ملك خرج منه ذلك الشئ الذى ظهر فى الخلق ، وهذه كلها خرجت من مالك الملك من باب القدرة والوحدانية
فهو واحد فرد أحد ولقد جعل الله فى أسمائه تعالى قضاء حوائج عباده ــــــــــــــــــــــــ
1- التعرف لمذهب أهل التصوف 54 .
ولعل السر فى تعدد الحوائج لدى العباد لاعتبار التعدد فى أسمائه سبحانه وتعالى التى تعرف بها إلى خلقه (1) .
يقول الترمذى : ( فأخرج إلى العباد من كل اسم حوائجهم ، ومن كل اسم أهدى إليهم ما وضع فى ذلك ، لأنه من أجلهم أخرج لهم الأسماء ، فينبغى على العبد مراعاة المعانى فى أسمائه تعالى عند الدعاء ومن نال هذا العلم فقد نال العلم الذى تقضى به الحوائج ) (2) .
وقد ورد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
( إن لله تسعة وتسعين اسما من أحصاها دخل الجنة) (3) .
وقال صلى الله عليه وسلم :
( أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته فى كتابك ــــــــــــــــــــــــ
1- الصلاة ومقاصدها للحكيم الترمذى ص 165 ، تحقيق الأستاذ حسنى نصر زيدان طبعة القاهرة سنة 1965م ، نوادر الأصول للحكيم الترمذى ص 395 .(1/214)
2- نوادر الأصول ص 188 ، وانظر فى ذلك أيضا اللمع ص 124 .
3- الحديث أخرجه البخارى فى كتاب التوحيد ، باب إن لله مائة اسم إلا واحدا برقم (7392) ومسلم فى كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار ، باب فى أسماء الله تعالى وفضل من أحصاها برقم (2062) والترمذى فى كتاب الدعوات برقم (3506) وابن ماجه فى كتاب الدعاء ، باب أسماء الله عز وجل برقم (3860 ) .
أو علمته أحدا من خلقك أو استأثرت به فى علم الغيب عندك ) (1) .
وأمرنا الله أن نتوسل إليه بأسمائه وصفاته فقال تعالى : { ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها } (2) .
وقال أيضا : { قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى } (3) .
ويفرد المحاسبى كتابا للعقل وشرح جوهره وماهيته ووظائفه وفائدته فى إدراك الأسماء ومدلولاتها وارتباط التكليف بفهمها ودوره الأساسى فى المعرفة وتحقيق العبادة ، ويفرق بين دورين للعقل أو مجالين لعمله :
1- المجال الأول : ويتمثل فى عالم الشهادة بما فيه من ثبات للسنن وآيات مرئية وإبداعات إلهية ، يحصل من خلالها معرفة ربانية وآثار إيمانية .
ــــــــــــــــــــــــ
1- الحديث رواه احمد عن ابن مسعود حـ 1 ص 394 ، 452 والحاكم فى المستدرك حـ 1 ص 519 والهيثمى فى مجمع الزوائد حـ 10 ص 136 وصححه ابن القيم فى شفاء العليل ص 274 والشيخ الألبانى فى تحقيقه للكلم الطيب ص 73 .
2- الأعراف / 180 .
3- الإسراء / 110 .
يقول المحاسبى : ( دعا العقول إلى النظر فى آياته والفكر فى عجائب صنعه ، لأن فى ذلك سبيلا لهم إلى معرفته ، وإلى العلم بأنه الخالق الرازق الإله الواحد سبحانه وأن من دونه خلق له ، وأن الخلق كلهم مألوهون مستعبدون لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا ولا يملكون موتا ولا حياة ولا نشورا ) (1)(1/215)
ويستدل لذلك بقوله تعالى : { إن فى خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولى الألباب الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون فى خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار } (2) .
وبقوله : { سنريهم آياتنا فى الآفاق وفى أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق } (3) .
فعقل عن الله آياته فى تدبيره وحكمته فى آثار صنعته ، ودلائل حسن تقديره فعلم أنه بقدرة نافذة قدرها وبحكمة كاملة أتقنها وبعلم محيط اخترعها وبسمع نافذ سمع حركتها وببصر مدرك لها دبر لطائف
ــــــــــــــــــــــــ
1- ماهية العقل ومعناه للحارث المحاسبى تحقيق الدكتور حسين القوتلى ص 164 طبعة بيروت ، سنة 1972 ، وانظر اللمع ص 154 .
2- آل عمران / 190 : 191 .
3- فصلت / 53 .
خلقها وغوامض كوامنها ، فاستدل بذلك أنه الإله العظيم الذى لا إله غيره ولا رب سواه فكأن جميع الأشياء عين يعتبر بها (1) .
ويرى المحاسبى أن العقل من مقومات الحرية وإسقاطه يلغى دور الإنسان فى تحقيق الغاية من خلقه أو مساءلته عن أفعاله المكتسبة (2) .
يقول المحاسبى : ( العقل غريزة فى قلوب الممتحنين من عباده أقام به على البالغين الحجة ، يولد العبد بها ثم يزيد معنى ) (3) .
ويستدل على ذلك بحديث ابن عباس حيث قال : مر على بن أبى طالب رضى الله عنه بمجنونة بنى فلان قد زنت أمر عمر بن الخطاب برجمها .
فردها على وقال لعمر : ياأمير المؤمنين ، أترجم هذه ؟
قال : نعم .
قال : أو ما تذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : رفع القلم عن ثلاثة : عن المجنون المغلوب على عقله ، وعن النائم حتى يستيقظ وعن الصبى حتى يحتلم .
ــــــــــــــــــــــــ
1- السابق ص 68 بتصرف ، وانظر سيرة بن خفيف ص 355 .
2- أعمال القلوب والجوارح للحارث المحاسبى ص 237 .
3- القصد والرجوع إلى الله للحارث المحاسبى ص 58 مسألة فى بيان العقل وصفته
قال : صدقت فخلى عنها (1) .(1/216)
فالمجنون فقد عقله فلا يميز بين الأشياء أو أسمائها ، كما أن النائم مسلوب العقل والإرادة حال النوم ، أما الصبى فعلمه محدود وعقله لا يستوعب الأسماء دفعة واحدة كما علمها الله لآدم عليه السلام أو لعيسى بن مريم حين خرج من بطن أمه ، وإنما يستوعب الأسماء ومدلولاتها على مدار الفترة الزمنية بين ولادته وسن بلوغه الرشد .
يقول المحاسبى : ( فالعقل الذى منحنا الله قادرا على التفكير وعلى معرفة ما أنزل الله وكل إنسان بلغ سن الرشد فقد تحمل مسئولية ناتجة من أنه عاقل ) (2) .
وقال فى موضع آخر من كتابه ماهية العقل :
( والله لا يهلك قوما إلا ويذكرهم ويخاطب عقلهم بما يفهم من عبر ، وإذا كان الله قد من علينا بالعقل فلكى ــــــــــــــــــــــــ
1- أخرجه أبو داود فى كتاب الحدود ، باب فى المجنون يسرق أو يصب حدا برقم (4401) والنسائى عن عائشة فى كتاب الطلاق ، باب من لا يقع طلاقه من الأزواج حـ 6 ص 156 وابن ماجه عن عائشة فى كتاب الطلاق ، باب طلاق المعتوه والنائم والصغير برقم (2041) وأحمد فى المسند حـ 6 ص 144 والحاكم فى المستدرك حـ 2 ص 59 .
2- ماهية العقل ص 105 .
يخاطبنا بواسطته ) (1) .
وإذا كان مجال العقل فى الدنيا هو عالم الشهادة ، والعمل فى فهم السنن والنواميس الموضوعة بحيث يتمكن منها ويسيطر عليها ويقوى أفعاله بها ويزيد من قدرته واستطاعته ، فإن أوائل الصوفية ربطوا العقل بزيادة المعرفة بالله والنظر خلف الأسباب لإظهار قدرته على تسييرها ليزدادوا بذلك إيمانا ، فالعلوم الدنيوية طلبها عندهم لا لذاتها ولكن للتقوى بها على طاعة الله .(1/217)
يقول الهجويرى : ( اعلم أن المعرفة واسعة ، والحياة قصيرة لذلك لم يفرض علينا تعلم كل الفنون ، كالفلك والطب والرياضة وعلم البديع وغيرها ، بل وجب أن نأخذ من كل علم ما نحن بحاجة إليه فى إقامة فرائض الشريعة السمحاء فمن الفلك علم مواقيت الصلاة مثلا ، ومن الطب ما يمنعنا من الوقوع فى التهلكة ، ومن الرياضة ما يمكننا من قسمة المواريث واحتساب العدد وغيرها ) (2) .
ــــــــــــــــــــــــ
1- السابق ص 206 ، 207
2- كشف المحجوب ص 14 ، 15 .
فالمعرفة مفروضة لسلوك طريق الحق وما دون ذلك فهو مذموم لأن الله ذم قوما اشتغلوا بزائف المعرفة إذ قال تعالى : { ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم } (1) .
وكما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( اللهم إنى أعوذ بك من علم لا ينفع ، وعمل لا يرفع ، وقلب لا يخشع وقول لا يسمع ) (2) .
ويقسم الهجويرى المعرفة على منهج المحاسبى فهى عنده على نوعين لمجال العقل :
[1]- المعرفة الإنسانية ومجال العقل فيها النظر والقياس لمعرفة نظام صنعه والظواهر المحيطة به ، وهذا يحصله الإنسان بجهده فينمو ويتطور مع نمو البحث وزيادة الخبرة فى مختلف العلوم كالفلك والطب والهندسة والرياضة وغير ذلك مما يكسب الإنسان قوة وهذا متاح لكل إنسان سواء كان مؤمنا أو كافرا فالأكثر
ــــــــــــــــــــــــ
1- البقرة / 102 .
2- أخرجه النسائى فى كتاب الاستعاذة ، باب فى الشقاق والنفاق وسوء الأخلاق حـ 8 ص 264 ، وأحمد فى المسند حـ 3 ص 283 والحاكم فى المستدرك حـ 1 ص104 وعبد الرزاق فى مصنفه برقم (19635) وأبو نعيم فى الحلية حـ 6 ص 252 .
خبرة فى هذا المجال العقلى هو الأكثر قوة ومنعة .(1/218)
[2] - المجال الثانى لعمل العقل والذى يحدده المحاسبى فى كتابه ماهية العقل هو مجال العمل فى معرفة النقل أو الوحى ، أو ما يذكره الهجويرى فى كشف المحجوب بأنه مجال العقل فى المعرفة الربانية كمعرفة ذات الله ووحدانيته ومعرفة العلم بصفاته وأحكامها ومعرفة العلم بأفعاله وكلمته ، ومعرفة الشريعة بأركانها الثلاثة :
1- معرفة الكتاب لقوله تعالى : { منه آيات محكمات } (1) .
2- معرفة السنة لقوله تعالى : { وما آتاكم الرسول فخذوه وما
نهاكم عنه فانتهوا } (2) .
3- معرفة إجماع الأمة لقوله صلى الله عليه وسلم : ( لا تجتمع
أمتى على ضلالة وعليكم بالسواد الأعظم ) (3) .
ــــــــــــــــــــــــ
1- آل عمران / 7 .
2- الحشر / 7 .
3- كشف المحجوب ص 18 ، 19 ، 20 بتصرف والحديث رواه ابن ماجه فى سننه كتاب الفتن ، باب السواد الأعظم برقم (3950) ونص الحديث : ( إن إمتى لا تجتمع على ضلالة ، فإذا رأيتم اختلافا فعليكم بالسواد الأعظم ) والحديث فى إسناده أبو خليفة الأعمى وهو ضعيف ، انظر ابن ماجه حـ 2 ص 133 .
ويرى المحاسبى أن دور العقل وعمله حيال الوحى أو الأمور الغيبية يجب أن يقتصر على التلقى والتسليم ثم الدعوة والتبشير بما أنزل الله لا أن يستبد بالفكر ويقدم الرأى على كتاب الله ، ولكن يثبت صحة ما أنزل الله من خلال الرواية والدراية (1) .(1/219)
ومن ثم فالمعرفة الدينية ليس للعقل البشرى من دور حيالها سوى التلقى والفهم ، وهذه المعرفة ضرورية لاستكمال معنى الحرية عند أوائل الصوفية ، ذلك لأن السلوك الخلقى يتم بمقومين أساسين هما الاختيار والاستطاعة ، فالاختيار كما سبق هو تحرك إرادة العبد وعقد النية وتحديد القصد لفعل من ضدين أحدهما حسن والآخر قبيح ، ومن ثم فيلزم لصحة الاختيار وتمام شروطه فى الإنسان أن تكون المعرفة بالحسن والقبيح أو الخير والشر مصاحبة لهذا الاختيار وهادية له تبيينا وتوضيحا وترشيدا ، وبذلك تكون المعرفة التى يتلقى العقل من الوحى موضوعاتها ، ويعرف منها الحلال والحرام هى دليل الاختيار البشرى وهذا ما يؤكده عبد الله بن خفيف بقوله :
( ينبغى أن يعتقد العبد أن النبوة والرسالة حق ، وأنها الحجة على الخلق من جن وإنس ، وحجة ناصعة ، قاطعة للعذر ، أى لم يبق لشخص قط عذر كأن يقول : لم أعلم كذا ، أو لم يبلغنى ــــــــــــــــــــــــ
1- ماهية العقل للحارث المحاسبى ص 108 .
ذلك أن الأنبياء قد أتوا وبينوا جميعا بين الخلق أحوال الدنيا والآخرة من الخير والشر ، وما ينبغى فعله وما لا ينبغى ، وما ينبغى قوله وما لا ينبغى ، وما ينبغى التفكير فيه وما لا ينبغى ) (1) .
فالله سبحانه وتعالى جعل العلم من مقومات الحرية فى اختيار فعل على آخر أو منهج على آخر حتى يتحقق العدل الإلهى إذا عذب الكافر ويظهر الفضل إذا أنعم على المؤمن .
قال تعالى : { ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك من قبل أن نذل ونخزى قل كل متربص فتربصوا فستعلمون من أصحاب الصراط السوى ومن اهتدى } (2) .
فالدين بكليته سواء العقائد النظرية أو الشعائر التعبدية أو التنظيمات الاجتماعية والأسرية كل ذلك يدخل تحت منهج العبودية والمعرفة الدينية التى هى هادية للاختيار البشرى ، ولا مجال للعقل فيها ، بل الشرع هو القائد الموجه للعقل .(1/220)
يقول ابن خفيف : ( العقل لا يحسن ولا يقبح والشرع حاكم على العقل ) (3) .
ــــــــــــــــــــــــ
1- سيرة الشيخ الكبير عبد الله بن خفيف ص 352 .
2- طه / 134 ، 135 . 3- السابق ص 359 .
ولقد فصل رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المجالين فى عمل العقل .
مجال المعرفة الدينية التى هى دليل الاختيار ومصدر المعرفة للخير والشر .
مجال المعرفة الدنيوية التى هى دليل الاستطاعة ومعرفة الآثار فى الأشياء بالخبرة والتفاعل مع الأسباب ونتائجها .
فقد مر رسول الله صلى الله عليه وسلم فى المدينة على قوم يؤبرون النخل فقال : لو لم يفعلوا لصلح له فامتنع القوم عن تلقيح النخل ذلك العام ظنا منهم أن ذلك من أمر الوحى .
فلما لم ينتج النخل إلا شيصا ، سأل رسول الله عما حدث له ؟
فقالوا : قلت كذا وكذا .
قال : أنتم أعلم بأمور دنياكم .
وفى رواية قال : إن كان ينفعهم ذلك فليصنعون فإنى إنما ظننت ظنا فلا تؤاخذونى بالظن ولكن إذا حدثتكم عن الله شيئا فخذوا به (1)
ــــــــــــــــــــــــ
1- الحديث أخرجه مسلم فى كتاب الفضائل ، باب وجوب امتثال ما قاله شرعا دون ما ذكره صلى الله عليه وسلم من معايش الدنيا على سبيل الرأى برقم (2361) وابن ماجه فى كتاب الرهون ، باب تلقيح النخل برقم (2471) وأحمد فى المسند حـ 6 ص 123 .
فأمور الدنيا والعلم بها موكول إلى العقل البشرى وبحثه وتنقيبه فأصحاب النخل قد عرفوا بالتجربة أنه لا بد من تلقيحه كل عام ليثمر وبذلك عرفوا علة الإثمار فى النخل ، وعلى ذلك يصبح إثمار النخل من استطاعتهم أما نصيحة الرسول لهم أو تعليقه على فعلهم ، فلم يكن عن وحى من الله وإنما كان اجتهاد شخصى ولذلك قال لهم : أنتم أعلم بأمور دنياكم .(1/221)
وفى هذه العبارة الصغيرة تفويض كامل من الله ورسوله أن يعتمد اعتمادا كليا على ما أوتى من أجهزة الإدراك والعلم البشرى فى البحث والتنقيب فى كل ما على الأرض والعمل فى سبيل العلم بحرية تامة بعيدا عن منهج العبودية أو تحريمات الدين وتعليماته .
ويمكن القول بناء على التوافق الصوفى النبوى أن المجالين الموضوعين لعمل العقل وتحصيل المعرفة ينحصران فى نوعين من العلوم :
1- علوم مؤثرة فى قوة الأفعال وزيادة الوسع والاستطاعة .
2- علوم مؤثرة فى توجيه الأفعال بالإرادة والاختيار .
وكلا النوعين إن لم تكن الغاية منهما عبودية الله ومعرفته فلا قيمة لهما عند أوائل الصوفية لأنهم من أزهد الناس فى الدنيا وما يتبعها من علوم مادية .
وهم أيضا من أبعد الناس عن تحكيم غير منهج الله وشرعه فى أنفسهم .
فحقا وصدقا أن العاقل من صحح اعتقاده حتى لا يخجل حينما يلقى الله تعالى ، ويخلص نيته ويصفيها حتى يشرع فى أعماله وأفعاله طاهرا كما ينبغى أن يكون ، ويشتغل بالأعمال الحسنة ويمضى أيامه فى الطاعة حتى يكون ذلك عونا له وذخرا فى الغد حين تقوم الساعة .
وينبغى أن يعلم العبد أن الله تعالى لم يخلقه عبثا ، ولن يتركه سدى فما دام كذلك ينبغى عليه أن يجتهد ويكافح فى تثبيت دينه وأحكامه وتصفية اعتقاده وأعماله وأفعاله وتصحيح عبادته حتى تتم له العبودية (1) .
ويذكر المحاسبى أن العاقل هو من عقل أى رب يعبد ، وأى ثواب يطلب ، ومن أى عقاب وعذاب يهرب وأى نعيم يشكر ، والشكر أيضا ممن هو ، ومن منَّ به فإذا عقل ذلك كله عن ربه استقل واستصغر جميع دؤوبه واجتهاده لعظيم ما عقل من جميع ذلك (2) .
فمعرفة الصانع ضرورة ، لا يستطيع المؤمن أن يعرف الصانع الخالق ــــــــــــــــــــــــ
1- سيرة الشيخ الكبير عبد الله بن خفيف ص 431 ، 432 بتصرف .
2- ماهية العقل للحارث المحاسبى ص 221 ، 229 بتصرف .
دون أن ينتبه ويعمل العقل والفكر بالتدبير والتفكير (1) .(1/222)
ومتابعة النبى صلى الله عليه وسلم ضرورة لاحتياج المؤمن إلى طريق الهداية (2) .
فدلهم الله على الاهتداء باتباعه فقال : { واتبعوه لعلكم تهتدون } (3) .
ووعدهم الهداية بطاعته فقال : { وإن تطيعوه تهتدوا } (4) .
وحذرهم الفتنة والعذاب الأليم إن خالفوا أمره فقال تعالى :
{ فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم } (5) .
وعلى الرغم من أن الهداية الشرعية مقوم من مقومات الاختيار وضرورة لتحقيق معنى الحرية ، إلا أنهم أجمعوا أن جميع ما فرض الله تعالى على العباد فى كتابه وأوجبه رسول الله صلى الله عليه وسلم فرض واجب وحتم لازم على العقلاء البالغين من صديق وولى وعارف ــــــــــــــــــــــــ
1- السابق ص 222 بتصرف .
2-سيرة الشيخ الكبير عبد الله بن خفيف ص 355 بتصرف .
3- الأعراف / 158 .
4- النور / 54 .
5- النور /63 وانظر اللمع للسراج الطوسى ص 131 .
وإن بلغ أعلى المراتب وأعلى الدرجات وأشرف المقامات وأرفع المنازل (1) وأنه لا مقام للعبد تسقط معه آداب الشريعة ، من إباحة ما حذر الله أو تحليل ما حرم الله ، أو تحريم ما أحل الله ، أوسقوط فرض من غير عذر ولا علة ، والعذر والعلة ما أجمع عليه المسلون وجاءت به أحكام الشريعة (2) .
يقول عبد الله بن خفيف : ( والحرية من العبودية باطلة ، أى إذا تصور امرؤ أن العبد يجوز له فى حياته أن يتمرد من قيد العبودية وأن تسقط عنه التكاليف الشرعية فهو باطل ) (3) .
وقد أنشأ أوائل الصوفية مصطلحا خاصا للحرية قرنوه بعبودية الله والتزام منهجه ظاهرا وباطنا وضبطوا الحرية فى اصطلاحهم على ذلك المعنى ، لعلمهم أن الوحى جاء بما يصح أن تعيه العقول من الأخلاق الحميدة والسلوك القويم وأنه دعا إلى فضائل تيسر الحياة ونهى عن رزائل تحيل الإنسان إلى الدرك الحيوانى والتدنى الخلقى ، وكان هذا الاهتمام بالإنسان ليتحمل مسئوليته فى عمارة الكون وضبط ــــــــــــــــــــــــ(1/223)
1- التعرف لمذهب أهل التصوف ص 75 ، 76 .
2- السابق ص 76 .
3- سيرة الشيخ الكبير عبد الله بن خفيف ص 361 .
حركته (1) .
وعلاقة الأفراد ببعضهم بدءا من الأسرة ومرورا بالمجتمع وانتهاء بآصرة الإنسانية تحتاج إلى ضوابط أخلاقية كى لا تتعارض الحريات وتتصادم الرغبات والمصالح (2) .
والله فطر الناس على ضرورة ذلك ، فما العقد الاجتماعى والاتفاق الصامت الكائن بين أفراد الجماعة الواحدة إلا مظهر من مظاهر هذا الضبط ، لأن حركة الفرد يجب ألا تمثل قيدا على الآخر ، ومصلحة الفرد يجب ألا تكون استغلالا للآخرين فلا تستقيم حياة الأفراد ، أو علاقات الجماعات والأمم بدون ضوابط تحكم الحريات ، فالإنسان تحكمه عوامل متعددة بعضها خير وبعضها نزوع إلى الشر من أجل هذا كانت حاجة الإنسان إلى نظام يحد من حركته ويحكم علاقاته ويقود خطاه ويضع قواعد سلوكه على المنهج السليم .
ولقد أحسن أوائل الصوفية عندما ربطوا معنى الحرية عند الإنسان بعبودية الله سبحانه وتعالى ، وهذا ما سيأتى فى المبحث التالى .
ــــــــــــــــــــــــ
1- الفكر الأخلاقى دراسة ومقارنة ، تأليف د. محمد عبد الله الشرقاوى ص 17 بتصرف مكتية الزهراء سنة 1987 م .
2- الأخلاق بين العقل والنقل تأليف د. أبو اليزيد العجمى ص 27 بتصرف ، دار الثقافة العربية القاهرة سنة 1988 م .
*** المبحث الثانى ***
الحرية فى اصطلاح أوائل الصوفية(1/224)
انفرد أوائل الصوفية عن غيرهم باصطلاح خاص للحرية ومدلول معين للكلمة يختلف تماما عن اصطلاح المتكلمين ، فالمتكلمون تناولوا فى بحثهم مدى حرية الإرادة الإنسانية وموقعها من المشيئة والإرادة الإلهية ثم الاستطاعة الحادثة وعلاقتها بالقدر الإلهى ، وهذا المصطلح الصوفى وإن كان يحمل فى طياته تكامل المذهب الصوفى فى فهم القدر وعلاقته بالحرية إلا أنه أضاف معنى جديدا للفكر الإسلامى ، فقد ربطوا الحرية بالعبادة بحيث تصبح العبادة هى الوجه الآخر للحرية ، أو بمعنى آخر تصبح الحرية والعبادة وجهين لحقيقة واحدة .
وهذا الاصطلاح مع كونه من حيث الفكرة يعد سبقا فكريا وإضافة جديدة للتراث الإسلامى ، فإن النصوص الثابتة فى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم تؤيده ولا تعارضه ، بشرط أن يكون منهج العبودية معبرا عن المنهج الإسلامى الخالص ، كما يمكن القول إن هذا الاصطلاح الصوفى لأوائل الصوفية يصلح أن يقدم كمفهوم عصرى لدعاة الحرية والمتشدقين بها .
فالحرية عند الأوائل تضع الإنسان فى موضعه الصحيح الذى يحقق به الغاية من خلقه ويصل من خلاله إلى مرضاة ربه وذلك يكون بتحقيق العبودية لله كما قال سبحانه وتعالى : { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } (1) .
يقول أحمد بن خضرويه (2) : ( فى الحرية تمام العبودية وفى تحقيق العبودية تمام الحرية ) (3) .
وهذا الاصطلاح الصوفى يؤثر فى موضوع البحث من وجهين :
[1] - الوجه الأول : تكامل المذهب الصوفى فى فهم الحرية ومقوماتها .
[2] - الوجه الثانى : إبراز الحرية كسلوك علمى ودستور صوفى يمكن أن ينفذ فى أرض الواقع .
* أما عن الوجه الأول فاصطلاح الحرية بمعنى العبودية يحمل فى طياته كل المقومات اللازمة لتحقيق الحرية الإنسانية ، إذ الحرية فى هذا الاصطلاح ليست مسألة نظرية محل دراستها فى الأذهان ، ولكنها ــــــــــــــــــــــــ
1- الذاريات / 56 .(1/225)
2- أحمد بن خضرويه البلخى كنيته أبو حامد وهو من كبار المشايخ بخرسان ومن قرناء أبى تراب النخشبى وأبى يزيد البسطامى توفى سنة 240 هـ انظر ترجمته التفصيلية فى تاريخ بغداد حـ 4 ص 137 حلية الأولياء حـ 10 ص 42 صفة الصفوة حـ 4 ص 137 الرسالة القشيرية حـ 1 ص 103 .
3- اللمع للسراج الطوسى ص 448 طبقات الصوفية ص 104 .
تطبيق عملى يؤثر على القلب واللسان والجوارح والأركان ، ومن ثم فإنهم بإخراجهم لهذا المصطلح آمنوا بوجود الإرادة الحرة والاختيار الذاتى للإنسان إذ لو كان مجبرا لانتفى معناه وانعدم تحقيقه ، وآمنوا بقدرة الإنسان على تنفيذه وآدائه كواجب يسعى المرء بكل سبيل إلى بروزه فى سلوكه وعمله ولو لم تكن لديهم الاستطاعة على تنفيذه لأصبح فكرة عالقة فى الذهن لا حقيقة لها ولما أصبحت الحرية سلوكا ملموسا يتحقق بالعبودية لله .
كما أنهم أثبتوا بهذا الاصطلاح المقوم الثالث من مقومات الحرية وهو العلم بنوعيه :
ــ علم التمييز والإدراك إذ يسقط التكليف عن الأطفال حتى يصلوا إلى سن الرشد والبلوغ ، كما يسقط أيضا عن النائم والمجنون يقول الكلاباذى : ( لا يعذب الله بالنار إلا بعد لزوم الحجة على من عاند وكفر ووجبت عليه الأحكام ، ولا تجب الأحكام إلا على العقلاء البالغين ) (1) .
ــ وعلم الهداية والإرشاد لطريق العبودية ، والممثل فى العلم بمنهج
ــــــــــــــــــــــــ
1- التعرف على منهج أهل التصوف ص 75 ، 76 وانظر اللمع ص 116 وسيرة الشيخ الكبير عبد الله بن خفيف ص 351 .
التكليف الذى جاءت به الرسل ، ولو انعدم هذا العلم لاختلفت الضوابط وتصادمت الحريات ، ولما تحققت عبودية الله ، فهذا العلم هو الوسيلة للحرية وهو شرط فى الوصول إليها قال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة } (1) .
وقال أيضا : { وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا } (2) .(1/226)
* أما عن الوجه الآخر للحرية فى الاصطلاح الصوفى لأوائل الصوفية فهى تتطبيق علمى لقيام الإنسان بدوره فى الحياة والالتزام بعبودية الله كما أداها رسول الله صلى الله عليه وسلم .
يقول صاحب اللمع : ( الحرية عند الصوفية ألا يملكك شئ من المكونات ، وغيرها فتكون حرا إذا كنت لله عبدا فلا يكون العبد عبدا حقا ويكون لما سوى الله مسترقا ) (3) .
فالحرية إبراز لتوحيد العبادة على وجه الكمال ، أو دعوة لعدم الخضوع والذل والطاعة لأحد سوى الله ، فهى قائمة على القاعدة الأساسية لدعوة الرسل جميعا فى إفراد الله بالعبودية قال تعالى :
{ وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحى إليه أنه لا إله إلا أنا ــــــــــــــــــــــــ
1- المائدة / 35 .
2- الإسراء / 15 .
3- السابق ص 450 .
فاعبدون } (1) .
ويقول أيضا : { ولقد بعثنا فى كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت } (2) .
والطاغوت هو كل ما عبد من دون الله (3) .
فالحر فى المفهوم الصوفى لأوائل الصوفية هو المتحرر من عبودية الدنيا وعبودية النفس والشيطان وكل ما استرقه وصرفه عن عبودية الله أو هو المتحرر من عبادة الطاغوت كما قال الله تعالى :
{ فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها } (4) .
وعلى ذلك فإن الصوفية الأوائل أبعد ما يكون عن الشرك بالله وصرف شئ من أقوالهم أو أفعالهم الباطنة والظاهرة لغير الله بعكس ما نرى من أحوال الصوفية فى الواقع المعاصر الذين قيدوا أنفسهم بالخوف والرجاء من ساكنى الأضرحة والقبور فعلقوا دعاءهم بهم وأخضعوا أنفسهم لهم ولم يتحرروا لله كما فعل اللأوائل ، وقد تقدم موقف ــــــــــــــــــــــــ
1- الأنبياء / 25 .
2- النحل / 36
3- المفردات فى غريب القرآن للراغب الأصفهانى ص 305 .
4- البقرة / 256 .(1/227)
الأوائل من النظر إلى الأسباب فى الفصل السابق وأن الاعتماد عليها شرك خفى يقع فيه الغافلون لضعف اليقين فى التوكل على الله ، فإذا كان هذا موقفهم من الشرك الأصغر فما بالنا بموقفهم من دعاء الأموات والتوسل بهم وصرف العبادة إليهم كالاستغاثة والنذر والذبح والطواف والركوع والسجود وغير ذلك من ألوان الشرك الأكبر مما يحدث فى مختلف الطرق الصوفية المتتشرة فى البلاد ، وإنما ذكرت ذلك حتى لا يكون البحث بمعزل عن الواقع وليتجلى الفرق بين معتقد الأوائل ومعتقد الصوفية فى العصر الحاضر .
فالصوفية الأوائل أنشأوا مصطلح الحرية رغبة فى تأصيل العبادة وإظهارا لدقائق التوحيد ، وفى المقابل التنبيه على دقائق الشرك وخفايا الرياء ، ووجوب التحرر من الضروريات النفسية والطبيعية التى تسترق الإنسان ، قال أبو على الدقاق (1) : ( أنت عبد من أنت فى رقه وأسره ، فإن كنت فى أسر نفسك فأنت عبد نفسك ، وإن كنت فى ــــــــــــــــــــــــ
1- هو أبو على الحسن الدقاق النيسابورى أستاذ القشيرى صاحب الرسالة برع فى العلوم الصوفية وفى الفقه واللغة وتوفى ودفن بنيسابور سنة 410 هـ انظر وفيات الأعيان لابن خلكان حـ 2 ص 375 ، طبقات الشافعية حـ 3 ص 112 والكواكب الدرية فى تراجم السادة الصوفية لعبد الرؤف المناوى حـ 1 ص 225 طبعة القاهرة .
أسر دنياك فأنت عبد دنياك ) (1) .
لقد أوجب الرسول صلى الله عليه وسلم التخلص من رق معبودات الدنيا ، وبين أن التعلق بها على حساب عبودية الله استرقاق منها للإنسان ، لأنه يوالى فيها ويعادى فيها ، ويجعل رضاه مرتبطا بها وهذه أوصاف تؤثر فى عبوديته لله ، فوجب عليه التحرر منها .(1/228)
قال صلى الله عليه وسلم : ( تعس عبد الدينار ، تعس عبد الدرهم تعس عبد الخميصة ، تعس عبد الخميلة ، إن أعطى رضى ، وإن لم يعط سخط ، تعس وانتكس ، وإذا شيك فلا انتقش ، طوبى لعبد آخذ بعنان فرسه فى سبيل الله أشعث رأسه مغبرة قدماه ، إن كان فى الحراسة كان فى الحراسة ، وإن كان فى الساقة كان فى الساقة ، إن استأذن لم يؤذن له ، وإن شفع لم يشفع له ) (2) .
ــــــــــــــــــــــــ
1- الرسالة حـ 2 ص 430 .
2- أخرجه البخارى فى كتاب الجهاد ، باب الحراسة فى الغرز وفى سبيل الله برقم (2886) وأخرجه مسلم فى كتاب البر والصلة ، باب فضل الضعفاء والخاملين برقم (2622) وابن ماجه فى كتاب الزهد ، باب فى المكثرين برقم (4135) وابن حبان فى كتاب الزكاة ، باب جمع المال من حله وما يتعلق بذلك برقم (3218) وأخرجه البيهقى فى سننه حـ 9 ص 159 وتعس دعاء عليه بالهلاك أى انكب وعثر والخميصة ثوب خز أو صوف معلم ، والخميلة ثياب لها خمل من أى شئ كان ، وإذا شيك فلا انتقش أى إذا أصابته شوكة فلا أخرجت منه .
فسماه النبى صلى الله عليه وسلم عبد الدينار وعبد الدرهم ، لأن رضاه لغير الله وسخطه لغير الله فهو عبد لما يهو اه وهو رقيق له .
فالرق والعبودية فى الحقيقة تبدأ برق القلب وعبوديته ثم يظهر أثرها فى البدن والجوارح .
أما ما يحتاجه العبد من طعام وشراب وملبس ومنكح ومسكن فهذا يطلب من الله ويستعين به عليه من خلال أخذه بالأسباب ، فيكون المال عنده يستعمله فى حاجته بمنزلة الدابة التى يركبها وبساطه الذى يجلس عليه من غير أن يستعبده أو يكون هلوعا بقصده فرحا بحصوله لأن هذه الضروريات لا بد منها ، إذ أن الله أوجد حاجتهم إليها بأمره الكونى فى تركيبهم وقدرته سبحانه فى إظهار ابتلائهم ، وجعلها مجالا لإظهار فضله على أوليائه وسخطه على أعدائه .(1/229)
فما لا يحتاج إليه العبد من أمور الدنيا فلا يعلق قلبه به ، وإذا فعل صار مستعبدا ومقيدا بهذه الأمور لا يبقى خالصا على حقيقة العبودية لله أو على حقيقة التوكل على الله بل فيه شعبة من العبادة لغير الله .
وهذا هو المستحق لدعاء النبى صلى الله عليه وسلم عليه بالتعاسة والانتكاسة .
ويرى الجنيد بن محمد أن الحرية آخر مقام للعارف ، وقلما يصل إليه إلا المخلصون الصادقون فقال متمنيا أن يرى عابدا بحق :
أتمنى على الزمان محالا : أن ترى مقلتاى طلعة حر (1) .
فالحرية يقطع العابد فيها أشواطا من المجاهدة فى التزام الشرع والتعبد بالنوافل وفى كل مرحلة يؤدى فيها شيئا من العبادة ، ينحل عنه قيد من قيود الرق لغير الله حتى يصل بأدائها إلى انفكاك جميع القيود ، كالعبد المكاتب يظل عبدا وإن دفع إلى سيده كل ما كاتب عليه واستثنى درهما واحدا ، فلا بد من دفع الكل حتى يخرج إلى الحرية .
سئل الجنيد عن لم يبق عليه من الدنيا إلا مقدار مص نواة ، أيكون حرا ؟ فقال : ( المكاتب عبد ما بقى عليه درهم ) (2) .
ولا شك أن هذا المفهوم ارتقاء بالذات الإنسانية إلى مرتبة الكمال فدخول الإنسان فى عبودية الله اختيارا هو السبيل الوحيد للمحافظة على حريته وتحقيق ذاته ، وهذا يتطلب سلوكا يناظر سلوك النبى صلى الله عليه وسلم المثل الأعلى للمسلمين ، ومتابعته فى كل صغيرة أو كبيرة ، وكلام الجنيد يأتى فى المرحلة النهائية من التدرج فى المقامات الصوفية ، وهذا المقام يدل على أنه على قدر كبير من الحرية لأنه قطع فى الإيمان والعمل أشواطا ومجاهدات ، ينهيها بالتخلص من ــــــــــــــــــــــــ
1- الرسالة حـ 2 ص 461 .
2- السابق حـ 2 ص 462 .(1/230)
قيود الصغائر والشرك الخفى وما شابه ذلك مما يخفى على العامة ولا يخفى عليهم ، قال بشر بن الحارث للسرى السقطى : ( إن الله تعالى خلقك حرا فكن كما خلقك ، لا ترائى أهلك فى الحضر ولا رفقتك فى السفر ، اعمل لله ودع عنك الناس ) (1) .
ويبين فى موضع آخر أن الإخلاص وتطهير السريرة بين العبد وربه يجعل الإنسان حرا من الأغيار وعبوديتها ، حرا بآداء العبودية لله من جانب آخر ، يقول بشر : ( من أراد أن يذوق طعم الحرية ويستريح من العبودية [ لغير الله ] فليطهر السريرة بينه وبين الله تعالى ) (2) .
* حرية الباطن وحرية الظاهر :
ولما كانت الحرية مرتبطة بالعبودية عند أوائل الصوفية ، فإن عبودية الباطن هى حرية الباطن وهى التخلص من كل القيود النفسية والنوازع الداخلية وهذا الجانب قد نال حظا وفيرا من الدراسة عندهم ، أما عبودية الظاهر فهى مرتبطة بمدى الحرية التى تتحقق فى الباطن ، فهى مبنية عليها لقوله صلى الله عليه وسلم :
( ألا إن فى الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا ــــــــــــــــــــــــ
1- اللمع ص 450 .
2- الرسالة القشيرية حـ 2 ص 262 .
فسدت فسد الجسد كله إلا وهى القلب ) (1) .
وينبغى الإشارة إلى أن حرية الباطن والظاهر عند أوائل الصوفية ما هى إلا محاولة منهم لتحقيق العبودية فى أعمال القلوب والجوارح على المنهج الإسلامى والمفهوم الشرعى ، ولا يقصدون التحلل من الشرع تحت شعار الشريعة لأهل الظاهر والحقيقة لأهل الباطن أو بأى وجه من الوجوه ، ولذا نبه أغلب الصوفية على ضرورة الفهم السليم لمعنى الظاهر والباطن .
يقول السراج الطوسى : ( أنكرت طائفة من أهل الظاهر وقالوا : لا نعرف إلا علم الشريعة الظاهرة التى جاء بها الكتاب والسنة وقالوا : لا معنى لقولكم علم الباطن وعلم التصوف ) (2) .(1/231)
فأجاب بأن علم الشريعة واحد ، والشريعة دعت إلى الأعمال الظاهرة والباطنة ، والعلم مادام فى القلب فهو باطن فيه إلى أن يجرى ويظهر على اللسان والجواراح فيكون ظاهرا ، فعلم الشريعة فيه عبودية ظاهرة متعلقة باللسان والجوارح وعبودية باطنة متعلقة بالقلب (3) .
ــــــــــــــــــــــــ
1- انظر اللمع ص 43 والحديث سبق تخريجه ص 164 .
2- اللمع ص 43 .
3- السابق ص 43 ، 44 .
ومن ثم فلا يجوز بحال من الأحوال التحرر من عبودية الله عندهم .
قال عبد الله بن خفيف : ( والحرية من العبودية باطلة : أى إذا تصور امرؤ أن العبد يجوز له فى حياته أن يتحرر من قيد العبودية وأن تسقط عنه التكاليف الشرعية فهو على باطل ) (1) .
ثم يبين أنه يجوز له أن يتحرر من رق النفوسية الباطنة فقال : ( ولكن التحرر جائز من رق النفوسية ، أى يجوز للعبد أن يتحرر من قيد نفسه وغلها والرق والعبودية لا يسقطان من العبد بحال ولا يسقط عنه اسم العبودية ) (2) .
وقد أخطأ بعض السالكين فى فهم الحرية والعبودية :
[1] - فمنهم من استهجن معنى الحرية معللا أن الحر إذا عمل عمل لطلب العوض والجزاء فلا تخلو معاملة الأحرار عن طلب الأعواض والعبد ليس له طلب جزاء ولا عوض ولكن سيده إذا أعطاه أعطاه متفضلا وإن لم يعط لم يستحق عليه شيئا (3) وقد بين السراج الطوسى خطأهم ، لأن اسم الحرية أطلقه من أطلقه
ــــــــــــــــــــــــ
1- سيرة الشيخ الكبير عبد الله بن خفيف ص 361 .
2- السابق ص 361 .
3- أصول الملامتيه وغلطات الصوفية لأبى عبد الرحمن السلمى تحقيق د. عبد الفتاح أحمد الفاوى ص 184 .
لتحقيق العبودية لله على النهج النبوى (1) أما الزهد فى الجنة فليس من زهد الأوائل ، ولذا لم يوفق القشيرى فى قوله :
( وأن الذى أشار إليه القوم من الحرية هو ألا يكون العبد تحت رق شئ من المخلوقات لا من أعراض الدنيا ولا من أعراض الآخرة فيعبده فردا لفرد ) (2) .(1/232)
إذ أنه سحب هذا القول على عامة الأوائل من الصوفية وهو مصروف لبعضهم فقط .
[2] - وممن أخطأوا فى فهم الحرية من توهم أن العبد ما دام بينه وبين الله تعبد فهو مسمى باسم العبودية ، فإذا وصل إلى الله صار حرا وإذا صار حرا سقطت عنه العبودية وأمكنه عند ذلك التحلل من الشرع وإسقاط التكاليف (3) .
يقول الحلاج :
( اعلم أن المرء قائم على بساط الشريعة ما لم يصل إلى التوحيد ، فإذا وصل إليه سقطت من عينه ، وصارت
ــــــــــــــــــــــــ
1- السابق ص 185 .
2- الرسالة حـ 2 ص 461 .
3- اللمع ص 531 .
عنده هوسا ) (1) .
وقد بين السراج الطوسى ضلالهم من قِبل أنهم خفيت عليهم أن العبد لا يكون فى الحقيقة عبدا حتى يكون قلبه حرا من عبودية الأغبار (2) ولذا قال الشبلى : ( الحرية هى حرية القلب لا غير ) (3) .
* حرية الباطن والتحرر من الضرورات النفسية :
يرى أوائل الصوفية فى الضرورات النفسية التى ركبها الله فيهم بابا واسعا للمنازلة والمجاهدة وتطهير النفس ، فهو يقاومها ويحاول محاولة ملحة التحرر منها بكسر شهوتى البطن والفرج ، وهذا دليل حازم على رفضه الخضوع لتلك الضروريات .
قال سهل بن عبد الله : ( لما خلق الله تعالى الدنيا جعل فى الشبع المعصية والجهل وجعل فى الجوع العلم والحكمة ) (4) .
فالشبع والجوع من الأمور الضرورية التى تواجه الإنسان بأمر الله وليس لهما وجودا ذاتيا وإن كان لهما قياما وأثرا فى الوجود ، ولكنهما عن إرادة الله وفعله فى ميدان الربوبية ابتلاء للإنسان ، ومن ثم فإن ــــــــــــــــــــــــ
1- أخبار الحلاج نشرة ماسينون ، بول كرواس مكتبة باريس سنة 1936 ص 55 .
2- ا للمع ص 532 .
3- طبقات الصوفية ص 343 .
4- الرسالة حـ 1 ص 373 .
الاحتماء أو الحمية كما يسميها أوائل الصوفية وسيلة الإنسان فى مكافحة شهوتى البطن ومخالفة الهوى وسائر الشهوات .
قال الدقاق : ( إن أهل النار غلبت شهوتهم حميتهم فلذلك افتضحوا ) (1)(1/233)
ويذكر السلمى من عيوب النفس أنك لا تحييها حتى تميتها (2) ويقصد بذلك لا تحييها للآخرة حتى تميتها عن الدنيا ، ولا تحى بالله حتى تموت عن الأغيار ، فإذا أمات مذموم الأوصاف فى النفس تحررت النفس من عبودية الأغيار .
قال يحى بن معاذ (3) : ( من تقرب إلى الجنة بتلف نفسه حفظ الله عليه نفسه ) (4) وذلك أن يمنعها شهوتها ويحملها على مكارهها ــــــــــــــــــــــــ
1- السابق حـ 1 ص 78 .
2- عيوب النفس لأبى عبد الرحمن السلمى ، تحقيق مجدى فتحى السيد ص 9 طبعة مكتبة الصحابة .
3- هو يحى بن معاذ بن جعفر الرازى يكنى أبا زكريا من الزهاد والعباد سمع من اسحاق بن إبراهيم الرازى ، ومكى بن إبراهيم مات فى نيسابور سنة 258 هـ انظر حلية الأولياء حـ 1 ص 51 ، صفة الصفوة 4 ص 17 الرسالة القشيرية حـ 1 ص91 تذكرة الأولياء حـ 1 ص 298 نفحات الأنس ص 56 وفيات الأعيان حـ 2 ص 396 تاريخ بغداد حـ 14 ص 218 شذرات الذهب حـ 2 ، ص 138 .
4- عيوب النفس ص 9 .
فالنفس لا تألف الحق أبدا .
ويبين السلمى أن خلاصها من هذه الآفة يكمن فى السهر والجوع والظمأ وركوب مخالفة الطبع والنفس ومنعها عن الشهوات ، فالجوع طعام به يقوى الله أبدان الصديقين (1) .
ومن ثم فإن الصوفى عندهم يقف من الاشتهاء موقف الرافض محاولا التغلب على الضرورات النفسية بعد أن استجاب لها .
قيل لبعضهم : ألا تشتهى ؟
فقال : أشتهى ولكن أحتمى (2) .
فهو لا ينكر وجود الشهوة والرغبات فى نفسه ولا يزعم القضاء عليها تماما ولكنه يقف منها موقفا إيجابيا لا سلبيا فيمنع ذاته من أن تستجيب لكل الشهوات إلا بالقدر الذى يرغم النفس ، حتى وصل البعض منهم فى ذلك إلى محاولة منع النفس من مجرد الاشتهاء .
قال أبو على الدقاق :
قيل لبعضهم : ألا تشتهى ؟
فقال : أشتهى ألا أشتهى ؟ (3) .
ــــــــــــــــــــــــ
1- السابق ص 9 .
2- الرسالة حـ 1 ص 378 .
3- السابق حـ 1 ص 378 .(1/234)
فهم يعلمون أن الله ابتلاهم بالاشتهاء للابتلاء وأراد منهم التحرر منه .
يقول القشيرى معلقا على المقولة السابقة : ( وذلك أكمل فى المجاهدة ، وأتم فى كسب الضروريات ) (1) .
وهذا موقف شديد الإيجابية ، لأنه لا يحرر الشهوة ذاتها ولكنه يحارب مبدأها ، ولإن كان أوائل الصوفية يرون فى الجوع وترك الشهوة نوعا من الحرية ومقاومة للضرورة النفسية فإنهم أيضا دعوا إلى حث النفس على التواضع والخشوع والقناعة فى مقابل ترك الرياء والكبر والعجب والطمع والعظمة وغير ذلك من الأوصاف المذمومة ، وأفردوا لذلك مساحات كبيرة من كلامهم تذخر بها مصنفاتهم .
يقول إبرهيم ابن شيبان (2) : ( الشرف فى التواضع والعز فى التقوى والحرية فى القناعة ) (3) .
ــــــــــــــــــــــــ
1- السابق حـ 1 ص 379 .
2- هو أبواسحاق إبراهيم بن شعبان القرميسنى عابد زاهد ، له مقامات فى الورع والتقوى وكان شديدا على المدعين متمسكا بالكتاب والسنة لازما للطريقة الصوفية توفى سنة 330 هـ انظر حلية الأولياء ، حـ10 ، ص 361 شذرات الذهب حـ 2 ص 344 الرسالة القشيرية حـ 1 ص 174طبقات الشعرانى حـ 1 ص 132 .
3- الرسالة حـ 1 ص 386 .
وفى مجموع هذه المعانى يقول : ( من أراد أن يكون حرا من الكون فليخلص فى عبادة ربه فمن تحقق فى عبادة ربه صار حرا مما سواه ) (1) .
* مخالفة النفس رأس العبادة ومظهر الحرية :
ويكاد يجمع أوائل الصوفية على أن مخالفة النفس رأس العبادة ومظهر الحرية فالنفس تجرى بطبعها فى ميدان المخالفة والعبد يردها بجهدها عن سوء المطالبة ، فمن أطلق عنانها فهو شريك معها فى فسادها .
قال تعالى : { وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هى المأوى } (2) .(1/235)
ويصف المحاسبى رغبتها وسوء تصرفها فيقول : ( فإذا غضبت فطلبت منه الحلم امتنعت منه فظهر منها السفه والحقد وسوء الخلق ولو طلبت الإخلاص هاجت شهوتها بالرياء ، وعند طلب الرضا تمتنع منه وتهيج للجزع والتسخط ، وعند الزهد والتوكل والصدق جاشت الشهوات فى ضد ذلك كله ) (3) .
ــــــــــــــــــــــــ
1- طبقات الصوفية ص 404 .
2- النازعات /40 :41 وانظر الرسالة حـ 1 ص 394 وأعمال القلوب والجوارح ص 64 .
3- الرعاية ص 260 .
ويرى المحاسبى أن الحذر من نوازعها يكون بمخاصمتها إلى الكتاب والسنة وإقامة الحجة عليها والتفتيش عن عيوبها وقيودها ، وذكر خبثها وكذبها ، فإذا أذعنت بالإقرار والاعتراف بالحق وانقطعت معاذيرها وحججها الكاذبة ، فإن انقادت إلى الحق ، وإلا رفع أمرها وهمها إلى النار وتوهم شدة عذابها ، وأنه واجب عليها فى نزع الموت وكربه وسكراته وغمه وقلقه (1) .
ويجمع السلمى عيوب النفس وقيودها والسبيل إلى مداواتها والتحرر منها من خلال ما ورد فى الشرع مقرونا بالأدلة فيذكر من عيوبها :
[1] - الفتور فى الطاعة ، وعلاج ذلك بدوام الالتجاء إلى الله وملازمة ذكره وقراءة كتابه .
[2] - عدم الشعور بلذة الطاعة ، ومداواتها فى الإخلاص وملازمة السنة فى الأفعال وتصحيح مبادئ أموره ليصح منتهاها .
[3] - النفس لا تألف الحق ، ومداواتها الخروج منها بالكلية إلى ربها .
[4] - النفس تألف الخواطر الرديئة ، ومداواتها فى الاستعاذة بالله والاستغفار
[5] - طلب الرياسة بالعلم والتكبر ، ومداواتها فى رؤية منة الله عليه فى أن جعله وعاءا لأحكامه .
ــــــــــــــــــــــــ
1- انظر السابق ص 263 كتاب التوهم للمحاسبى ص 7 .
[6] - الرضا عند المدح والغضب عند الذم ، ومداواتها فى قوله صلى الله عليه وسلم : ( احثوا فى وجوه المادحين التراب ) (1) .
[7] - الخوض فى أسباب الدنيا بلا ضرورة وعلاجها فى قول النبى صلى الله عليه وسلم :(1/236)
( من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه ) (2) .
ويستمر السلمى فى عرض آفات النفس والسبل الشرعية فى مداوتها إلى أن يقرر أن إصلاح الظاهر والباطن يمكن فى اتباع سنة النبى صلى الله عليه وسلم فى كل الأفعال والأقوال والأسباب والمقامات والأحوال ثم قال :
( وإياك ومخالفة السنة ، فيما دق وجل ، واقتدى بسيرة السلف الصالح من الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ، وابدأ فى ذلك بنفسك ــــــــــــــــــــــــ
1- أخرجه أبو داود فى الأدب ، باب كراهية التمادح برقم (4804) والترمذى فى الزهد ، باب كراهية المدحة والمداحين برقم (2505) وابن ماجه فى كتاب الأدب ، باب المدح برقم (2420) وأحمد فى المسند حـ 6 ص 56 وأبو نعيم فى الحلية حـ 6 ص 99 .
2- انظر عيوب النفس للسلمى من ص 9 : 19 واحديث أخرجه الترمذى فى الزهد برقم (3419) وابن ماجه فى الفتن ، باب كف اللسان فى الفتنة برقم (2420) والبغوى فى شرح السنه حـ 14 ص 320 .
وأوصيك بايثار طاعة الله والإقبال عليه بالكلية والرجوع فى كل هم ونائبة إليه ) (1) .
* حرية الظاهر والتحرر من الضروريات الطبيعية :
وإذا كان جهد أوائل الصوفية ينصب فى المقام الأول على إصلاح الباطن والعمل لتحرير القلب من آفات النفس وعيوبها ، فذلك لكون القلب هو المحرك الفعلى للسان والجوارح ، فإذا انصلح القلب وتحرر الباطن بالعبودية فإن الجسد تابع له فى الحرية ، وقد سبق قول أبى بكر الشبلى : ( الحرية حرية القلب لا غير ) (2) .
ويذكر المكى فى ترابط القلب مع أعمال اللسان والجوارح أن الإسلام هو ظاهر الإيمان وهو أعمال الجوارح ، فالإيمان فى القلب والإسلام أعلام الإيمان ، والإيمان عقود الإسلام ، فلا إيمان إلا بعمل ولا عمل إلا بعقد ، ومثل ذلك مثل العلم الظاهر والباطن أحدهما مرتبط بصاحبه من أعمال القلوب وأعمال الجوارح ، ويستدل بقوله صلى الله عليه سلم : ( إنما الأعمال بالنيات ) (3) .(1/237)
ويؤكد السلمى على هذه الحقيقة ، وأن الأعمال الظاهرة لا تحصل
ــــــــــــــــــــــــ
1- عيوب النفس ص 14 ص42 .
2- طبقات الصوفية ص 343 .
3- قوت القلوب حـ2 ص 129 والحديث تقدم تخريجه ص 163 .
بها التقوى وإنما تحصل بما يقع فى القلب من عبودية الله وخشيته ومراقبته ، فإذا تم ذلك فإن الأعمال الظاهرة ستكون هى المعبرة عن تقوى القلوب فالاعتبار فى هذا كله بالقلب (1) .
أما دليله فى ذلك فهو قوله صلى الله عليه وسلم : ( إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم ) (2) .
وكما جعل الله الضرورات النفسية قى القلب ابتلاء كذلك جعل أعمال الظاهر ، فأعمال الجوارح ضرورة يجب إخضاعها لطاعة الله وعبوديته فاللسان من ضرورته الكلام وقد يكب الناس فى النار على مناخرهم بسبب ما حصده من الكلام (3) والعاقل هو الذى يتحرر من سوء أفعاله .
فالإنسان يزرع بقوله وعمله الحسنات والسيئات ثم يحصد يوم القيامة ما زرع ، فمن زرع خيرا من قول أو عمل حصد الكرامة ، ومن زرع ــــــــــــــــــــــــ
1- عيوب النفس ص10 واللمع ص 44 .
2- أخرجه مسلم فى كتاب البر والصلة ، باب تحريم ظلم المسلم وخذله برقم (121) وأخرجه أحمد فى المسند حـ2 ص285 وابن ماجه فى كتاب الزهد ، باب القناعة برقم (4143) والبغوى فى شرح السنة حـ 14ص141 .
3- رسالة المسترشدين ص 116 .
شرا من قول أو عمل حصد الندامة (1) .
ويضرب المحاسبى مثلا لعبودية القلب والجوارح وكيفية الترابط بينها بأن القلب مثل بيت له ستة أبواب والعبد يجب عليه الحذر ألا يدخل عليه من أحد هذه الأبواب شئ فيفسد عليه البيت ، فالقلب هو البيت والأبواب : العينان واللسان والسمع والبصر واليدان والرجلان فمتى انفتح باب من هذه الأبواب بغير علم ضاع البيت (2) .(1/238)
وهذه الأمثلة والمحاولات التى يسعى من خلالها أوائل الصوفية لتجسيد العبادة وكيفية إظهارها فى أعمال القلوب والجوارح ، ما هى إلا محاولة للتحرر من الضروريات الداخلية والخارجية فى ذاته ، ويكمن القول إن الحرية التى يبغى أوائل الصوفية تحقيقها تكمن فى استسلام القلب واللسان والجوارح لمنهج العبودية بكل جزئياته ومحتوياته وأحكامه ومعاملاته التى تنمحى كل ضرورة أو إرادة تخالف منهج العبودية .
ولقد بلغ ذلك إلى حد أن يبحثوا فى الأحكام التى تتعلق بكل جزئية من الباطن والظاهر فى القلب واللسان والجوارح .
ــــــــــــــــــــــــ
1- جامع العلوم والحكم للحافظ بن رجب الحنبلى ص242طبعة مصطفى البابى الحلبى ص1369 بتصرف .
2- رسالة المسترشدين ص115 .
ويحاول ابن القيم فى شرحه لمنازل السائرين أن يحصى قواعد العبادة فى أعمال الظاهر والباطن أو المنهج الذى يحدد معنى العبودية لله وكيف يحققه الإنسان على نفسه فيقول :
( العبادة منقسمة على القلب واللسان والجوارح ، والأحكام التى للعبودية خمسة واجب ومستحب ومباح ومكروه ومحرم ، وهن لكل واحد من القلب واللسان والجوارح ) (1) .
* عبوديات القلب واللسان والجوارح :
... القلب ... ... اللسان ... ... الجوارح
واجب ... ... مستحب ... مباح مكروه محرم
[ شكل توضيحى لقواعد العبادة فى تصوير ابن القيم لها ]
ــــــــــــــــــــــــ
1- مدارج السالكين حـ 1 ص 109 .
ولكل قاعدة من هذه الأعمال الظاهرة والباطنة علم وفقه وبيان وفهم وحقيقة ووجد ، ويدل على صحة كل عمل منها من الظاهر والباطن آيات من القرآن وأخبار عن الرسول صلى الله عليه وسلم علمه من علمه وجهله من جهله (1) .
*الغلو فى العبادة وموقف أوائل الصوفية منه :(1/239)
وقد نزل كثير من أوائل الصوفية كثيرا من أنواع الأحكام على سبيل الحتم والإلزام ، فجعل المستحب فى منزلة الواجب والمكروه فى منزلة المحرم لا من حيث الرغبة فى تبديل الأحكام والابتداع فى دين الله ولكن من حيث التشدد فى الوصول إلى الحرية والتحرر من كل ما سوى الله والعمل فى مرضاته على وجه الاضطرار ، وهذا وإن دل على علو الهمة إلا أن المنهج النبوى فى العبادة فيه مجال للتنفيس وانسجام مع الضروريات يؤدى إلى القيام بما عهد به المرء على نفسه .
يقول الشبلى : ( كنت فى أول بدايتى إذا غلبنى النوم أكتحل بالملح ، فإذا زاد على الأمر أحميت الميل فأكتحل به ) (2) .
فهو يؤدى قيام الليل على أنه ملزم ، وإن أدرك أن حكمه الاستحباب ، ولكنه كصوفى ينزل المندوب منزلة الواجب .
ــــــــــــــــــــــــ
1- اللمع ص44 وانظر فى تفصيل هذه الأركان عند المحاسبى أعمال القلوب والجوارح ، ورسالة المسترشدين . 2- اللمع ص 204 .
* الموقف النبوى : ووجه المخالفة يظهر عنده بحديث أنس رضى الله عنه إذ قال : ( دخل النبى صلى الله عليه وسلم المسجد فإذا حبل ممدود بين الساريتين فقال : ما هذا الحبل ؟
قالوا : هذا حبل لزينب إذا فترت تعلقت به .
فقال النبى صلى الله عيه وسلم : حلوه ليصل أحدكم نشاطه فإذا فتر فليرقد ) (1) .
ولو أمرها النبى بالاكتحال لكانت المشقة التى يعز على العبد أن يداوم عليها إلا على حساب التقصير فى أمور أخرى سوف تؤدى إليها الضرورة الفطرية فى خلق الإنسان .
قال إبراهيم بن شيبان للشبلى : كم فى خمس من الإبل ؟ أى مقدار الزكاة فيها .
فقال الشبلى : فى واجب الأمر شاة ، وفيما يلزمنا كلها .
ــــــــــــــــــــــــ(1/240)
1- أخرجه البخارى فى كتاب التهجد ، باب ما يكره من التشديد فى العبادة برقم (1150 ) ومسلم فى كتاب صلاة المسافرين ، باب أمر من نعس فى صلاته أو استعجم عليه القرآن أو الذكر بأن يرقد أو يقعد حتى يذهب عنه ذلك برقم (784) وأبو داود فى كتاب الصلاة ، باب النعاس فى الصلاة برقم (1312) وابن ماجه فى كتاب الصلاة ، باب ما جاء فى المصلى إذا نعس برقم (1371) وأحمد فى المسند حـ3 ص101 .
فقال له إبراهيم : ألك فى هذا إمام ؟
قال : نعم أبو بكر الصديق رضى الله عنه حيث خرج من ماله كله فقال النبى صلى الله عليه وسلم : ما خلفت لعيالك ؟
فقال : الله ورسوله (1) .
ولا شك أن الضرورة قد تدعو المسلم إلى التضحية بما يملك فى بعض الأوقات والأزمات كما فعل أبو بكر الصديق رضى الله عنه ولكن التضحية على الدوام وفى أوقات الرحاء بكل ما يملك مخالفة لسنة النبى صلى الله عليه وسلم لما ثبت عنه من حديث سعد بن أبى وقاص حيث قال : ( جاءنى رسول الله صلى الله عليه وسلم يعودنى عام حجة الوداع من وجع اشتد بى .
فقلت : يارسول الله إنى قد بلغ بى الوجع ما ترى ، وأنا ذو مال ولا يرثنى إلا إبنة لى ، أفأتصدق بثلثى مالى ؟
قال : لا .
قلت : فالشطر يارسول الله ؟
فقال : لا .
قلت : فالثلث يارسول الله ؟
ـــــــــــــــــــــــــ
1- اللمع ص210 .
قال : الثلث والثلث كثير ـ أو كبير ـ إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس وإنك لن تنفق نفقة تبتغى بها وجه الله إلا أجرت عليها حتى ما تجعل فى فى امرأتك ) (1) .
فلو كان خروجه من جميع المال فيه صلاح له لأمره النبى بذلك .
فالسنة فيها مرعاة للضروريات بالقدر الذى يتناسب مع ماهية الإنسان وتركيبه الذاتى ، فالإنسان لايعتاد شيئا إلا ويشعر بالسآمة من تكراره ومزاولته فهى ضرورة فطرية ترويضها يكون على الطريقة النبوية .(1/241)
وقد جعل الله فطرة الإنسان ميدانا للربوبية ، وجعل المنهج النبوى ميدانا لتحقيق العبودية على ما يستطيعه الإنسان ويطيقه ، ومن ثم كان النبى صلى الله عليه وسلم يتخول أصحابه وهم خير الناس فى خير ــــــــــــــــــــــــ
1- أخرجه البخارى فى كتاب الوصايا ، باب أن يترك ورثته أغنياء برقم (2742) ومسلم فى كتاب الوصية ، باب الوصية بالثلث برقم (1628) والترمذى فى كتاب الوصايا ، باب الوصية بالثلث برقم (2117) والنسائى فى كتاب الوصايا ، باب الوصية بالثلث برقم (3656) وابن ماجه فى كتاب الوصايا ، باب الوصية بالثلث برقم (2708) .
القرون بالموعظة مخافة السآمة (1) .
وكان يقول لحنظلة بن الربيع رضى الله عنه : ( والذى نفسى بيده لو تدومون على ما تكونون عندى وفى الذكر لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفى طرقكم ، ولكن ياحنظلة ساعة وساعة ثلاث مرات ) (2) .
وقال لعمرو بن العاص : صم وافطر وقم ونم ، فإن لجسدك عليك حقا ، وإن لعينك عليك حقا ، وإن لزوجك عليك حقا .
فلما قال عمرو : إنى أطيق أفضل من ذلك .
قال : لا أفضل من ذلك .
وقد صدق عمرو قول النبى فى آخر حياته لأنه لم يقو على ما ــــــــــــــــــ
1- أخرجه البخارى فى كتاب العلم ، باب ما كان النبى صلى الله عليه وسلم يتخولهم بالموعظة والعلم كى لا ينفروا برقم (68) ومسلم فى كتاب صفات المنافقين وأحكامهم ، باب الاقتصاد فى الموعظة برقم (1696) والترمذى فى كتاب الأدب برقم (73) وأحمد فى المسند حـ1ص377 .
2- أخرجه مسلم فى كتاب التوبة ، باب فضل دوام الذكر والفكر فى أمور الآخرة والمراقبة وجواز ترك ذلك فى بعض الأوقات والاشتغال بالدنيا برقم (2750) والترمذى فى كتاب صفة القيامة برقم (2513) وابن ماجه فى كتاب الزهد ، باب المداومة على العمل برقم (4239) وأحمد فى المسند حـ2 ص305.
كان يطيقه فى شبابه فقال :(1/242)
قال النبى صلى الله عليه وسلم : إنك لا تدرى لعلك يطول بك العمر ، ثم قال : فلما كبرت وددت أنى كنت قبلت رخصة نبى الله صلى الله عليه وسلم (1) .
وقال صلى اله عليه وسلم فى شأن المغالين فى العبادة : ( أما والله إنى لأخشاكم لله وأتقاكم له ، ولكنى أصوم وأفطر وأصلى وأرقد وأتزوج النساء ، فمن رغب عن سنتى فليس منى ) (2) .
ومعلوم أن الشمولية فى فهم العبادة وصف لا يلحق إلا من سلك السبيل النبوى فى كل متعلقات الحياة ، وعمل فى نظام الحكام على ــــــــــــــــــــــ
1- أخرجه البخارى فى كتاب الصوم ، باب صوم الدهر برقم (1976) ومسلم فى كتاب الصيام ، باب النهى عن صوم الدهر برقم (1059) وأبو داود فى كتاب الصوم ، باب فى صوم الدهر تطوعا برقم (2427 ) وأحمد فى المسند حـ2 ص201 والنسائى حـ2 ص 22 وابن حبان فى كتاب البر والإحسان ، باب الأمر بإتيان الطاعات على الرفق من غير ترك حظ النفس فيها برقم (352) والبيهقى فى سننه حـ3 ص16 .
2- أخرجه البخارى فى كتاب النكاح ، باب الترغيب فى النكاح برقم (5063) ومسلم فى كتاب النكاح ، باب استحباب النكاح لمن تاقت نفسه إليه ووجد المؤنة برقم (1401 ) والنسائى فى كتاب النكاح ، باب النهى عن التبتل حـ6 ص60 وأحمد حـ3 ص 241 ، والبيهقى فى سننه حـ7 ص77 .
مراد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فالتوازن قائم ومنسجم فى كل النواحى المتعلقة بأحكام العبودية ، فإذا بالغ العبد فى آداء جانب سيظهر تقصيره فى جانب آخر دون أن يشعر ، فالطاقة والوسع مجالهما محدود وهما من أمور القدر الذى يحكمنا فى كل وقت .(1/243)
ومن ثم فإن بعض أوائل الصوفية لما بالغوا فى تحقيق العبودية وتكلفوا أمور السعة والتخيير على وجه الإلزام ، وأسقطوا النظر إلى الدرجات الحكمية السابقة ، لم تطرد المبالغة ولم تنسحب على مختلف الأحكام فبرز جانب على حساب آخر ، ففى الوقت الذى ظهرت المغالاة فى بعض العبادات كالصلاة والصوم والذكر وبعض النواحى الأخرى لم تظهر همتهم فى تعبيد الدنيا واستخلافها وإعداد القوة لإرهاب العدو والجهاد فى سبيل الله وتنظيم الروابط الأسرية والاجتماعية بل أثروا الرباط والخلوة والسياحة فى البوادى وقام بالأمور الأخرى غيرهم .
والقصد من ذكر هذا الكلام التنبيه على ضرورة اتباع السنة فى تحقيق معنى الحرية والالتزام بمنهج العبودية بمختلف أحكامه وأن هذا هو الوضع الأمثل لتحقيق السعادة فى الدارين كما قال سبحانه : { فإما يأتينكم منى هدى فمن اتبع هداى فلا يضل ولا يشقى ومن أعرض عن ذكرى فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى } (1) .
ــــــــــــــــــــــــ
1- طه /123 .
وأن بعض أوائل الصوفية جعل العبودية اضطرارا لاختيار فيه (1) .
أو كما قال الآخر : ( من ادعى العبودية وله مراد باق فيه فهو كاذب فى دعواه ) (2) .
* العبادة وتعلقها بالقلب واللسان والجوارح حال الغلو :
الأمر النهى
القلب اللسان الجوارح
ــــــــــــــــــــــــ
1- قائل هذه العبارة هو عبد الله بن محمد بن منازل وكنيته أبو محمد صحب حمدون القصار وأخذ عنه طريقته وأسند الحديث مات بنيسابورسنة 329 هـ انظر طبقات الصوفية ص336 والرسالة القشيرية حـ1 ص163 وشذرات الذهب حـ2 ص330 وانظر فى قوله السابق طبقات الصوفية ص 368 .(1/244)
2- القائل هو عبد الله محمد بن اسماعيل شيخ إبراهيم الخواص وإبراهيم بن شيبان عاش مائة وعشرين سنة ومات على جبل الطور بسيناء أسند الحديث وتوفى سنة 299 هـ انظر طبقات الصوفية ص242 حلية الأولياء حـ1 ص335 والبداية والنهاية حـ11 ص117 والمنتظم حـ6 ص113 وانظر فى قوله السابق طبقات الصوفية ص44 ، 245 .
يقصدون بذلك الالتزام بالأمر والنهى على سبيل الحتم والإلزام سواء كان الأمر على سبيل الوجوب أو على سبيل الاستحباب والإباحة وسواء كان النهى على سبيل التحريم أو الكراهة ، وكل ذلك مغالاة فى حب الله ليس إلا ، ورغبة منهم فى القرب منه والحصول على مرضاته وإن تنكبوا الطريق وأخطأوا فى ذلك .
وقد نبه السراج الطوسى على أن كل من ترسم برسوم هذه العصابة الصوفية ، أو أشار إلى نفسه بأن له قدما فى هذه القصة ، أو توهم أنه متمسك ببعض آداب هذه الطائفة ، ولم يحكم أساسه على ثلاثة أشياء فهو مخدوع ولو مشى فى الهواء ونطق بالحكمة أو وقع له قبول عند الخاصة أو العامة وهذه الثلاثة أشياء :
أولها : اجتناب جميع المحارم كبيرها وصغيرها .
والثانى :أداء جميع الفرائض عسيرها ويسيرها .
الثالث : ترك الدنيا على أهلها قليلها وكثيرها إلا ما لا بد للمؤمن منها .
وهو ما روى عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( أربعة فى الدنيا وليست هى من الدنيا :
1- كسرة تسد بها جوعتك .
2- وثوب توارى به عورتك .
3- وبيت تكن فيه .
4- وزوجة صالحة تسكن إليها (1) .
فأما سوى ذلك من الجمع والمنع والإمساك وحب التكاثر والمباهاة فجميع ذلك حجاب قاطع يقطع العبد عن الله (2) .
فلا يصح الدخول فى السعات إلا لمن قام فى الأسباب بحقوقها لا بحظوظها ، فإذا أذن الله لهم بالإنفاق أنفقوا ، وإذا أذن لهم بالإمساك أمسكوا ، فمن لم يعرف الإذن ولم يكن من أهل الكمال والنهايات غلط عند دخوله فى السعات بالغرور والتأويلات (3) .(1/245)
ويشير السراج إلى غلط طائفة تعلقوا بالتقشف والتقلل واعتادوا الدون من اللباس والقليل من القوت ، وظنوا أن كل من رفق بنفسه أو تناول شيئا من المباحات أو أكل شيئا من الطيبات ، أن ذلك علة وسقوط من المنزلة ، وكل حال غير الحال الذى هم عليه عندهم ذلة ــــــــــــــــــ
1- الحديث ورد بالمعنى فى مسند أحمد حـ1 ص168 وفى الحلية حـ1 ص388 وأخرجه الخطيب البغدادى فى تاريخ بغداد حـ12 ص 99 والبزار فى مسنده برقم (1412) والحاكم فى المستدرك حـ2 ص162 والطبرانى فى المعجم حـ1 ص329 والهيثمى فى مجمع الزوائد حـ10 ص 289 .
2- اللمع ص516،517 .
3- السابق ص523.
وقد غلطوا فى ذلك ، لأن العلة كائنة فى التقشف والتقلل كما أن العلة كائنة فى الترفع والترفه ) (1) .
ــــــــــــــــــــــ
1- السابق ص523 .
*** المبحث الثالث ***
المقامات الصوفية وإرادة الحرية
ترتبط الحرية فى الاصطلاح الصوفى بالعبودية ودرجتها فى الإنسان فالعبودية هى الوجه الآخر للحرية ، وتتجلى العبودية عند الصوفية فيما يسمى بالمقامات والأحوال ، فالمقامات تفسر لنا منازل الحرية ودرجات العبودية التى يمر بها الصوفى فى تجربته ، فالمقام من الإقامة وهو عمل كسبى يقوم به العبد ويلتزم به لا يتجاوزه إلى مقام آخر إلا إذا استوفى شروط إقامته به (1) .
ويستمر العبد فى انتقاله بين منازل السائرين كلما انتقل إلى منزل جديد علت عبوديته وازدادت حريته وقلت قيوده إلى أن يصل إلى آخر مقام للعارفين عند أوائل الصوفية وهو مقام الحرية .
قال الجنيد بن محمد : ( الحرية آخر مقام للعارف ) (2) .
ويمكن القول أن المقامات الصوفية درجات إيمانية تزيد وتنقص كما هو معتقد أهل السنة والجماعة فى الإيمان ، وكل درجة إيمانية ثمثل بوجه آخر درجة الحرية التى عليها العبد أو درجته فى عبودية الله ، فانتقاله ــــــــــــــــــــــــ
1- الرسالة حـ 1 ص 204 .
2- السابق حـ 2 ص 461 .(1/246)
بين هذه الدرجات يكون بقدر المجاهدة وبذل الهمة فى الترقى إلى أعلى مقام ممكن .
أما الأحوال الصوفية فهى عندهم ثمرة للجهد الكسبى المبذول فى المقامات وهى لوائح تحل بالقلب وسرعان ما تزول ولكنها من العوامل المساعدة لتخطى الدرجات فى المقامات وانتقال العبد من مقام إلى مقام أعلى فهى كالمرجح الداعى إلى الانتقال والتدرج .
يقول الجرجانى : ( الحال عند أهل الحق معنى يرد على القلب من غير تصنع ولا اجتلاب ولا اكتساب من طرب أوحزن أو قبض أو بسط أو هيبة ويزول بظهور صفات النفس ، فإذا دام وصار ملكة يسمى مقاما ، فالأحوال مواهب والمقامات مكاسب ، والأحوال تأتى من عين الجود والمقامات تحصل ببذل المجهود ) (1) .
ويذكر ابن القيم أن هذه المقامات الواردة والمنازل المتعددة لها عندهم أسماء باعتبار أحوالها ، فتكون لوامع وبوارق ، ولوائح عند ظهورها كما يلمع البرق ، ويلوح عن بعد ، فإذا نازلته وباشرها فهى أحوال ، فإذا تمكنت منه وثبتت له من غير انتقال فهى مقامات (2) .
ــــــــــــــــــــــــ
1- التعريفات لعلى بن محمد بن على الجرجانى طبعة مصطفى الحلبى القاهرة سنة 1938م ص 145 .
2- مدارج السالكين حـ 1 ص 35 .
ويرى السراج الطوسى أن المقام هو مقام الرجل بظاهره وباطنه فى حقائق الطاعات ، والحال ينزل بالقلوب فلا يدوم ، وليس الحال من طريق المجاهدات والعبادات كالمقامات ، ولكنه ثمرة إيمانية واستشعار بحلاوة الجهد الإيمانى المبذول فى سلم المقامات (1) .
ويمكن حصر آراء أوائل الصوفية فى مبحث المقامات واتجاهاتهم فيها ثم ترتيبها بصورة تقريبية إلى حد ما فى ظل تقسيمها إلى المقامات الآتية :(1/247)
[1] - التوبة : فهى أول منازل الطريق عندهم ، وأول مقام من مقامات الطالبين فى تعبير القشيرى (2) وأول مقام من مقامات المنقطعين إلى الله فى تعبير السراج الطوسى (3) ويجعل الهروى اليقظة فى مقدمة التوبة ، فهى قومه لله من الغفلة ، ونهوض عن ورطة الفترة وهى أول ما يستنير قلب العبد بالحياة لرؤية نور التنبيه (4) .
ــــــــــــــــــــــــ
1- اللمع ص 66 .
2- الرسالة حـ1ص 275 .
3- اللمع ص 68 .
4- مدارك السالكين حـ 1 ص 178 .
وإذا كانت التوبة فى لغة العرب تعنى الرجوع (1) أى الرجوع عن المذموم فى الشرع ، فإن الرجوع لا يكون إلا بعد تيقظ لسوء ما وصل إليه الإنسان وإدراك لضرورة التغيير ، وإحساس بالحاجة إلى هذا التغير وبمقدار ما تشتد الحاجة تكون سرعة الرجوع واللهفة على النجاة .
والقشيرى أدخل اليقظة ضمن محتوى التوبة وفى بداية مراحلها يقول : ( أول التوبة انتباه القلب عن رقدة الغفلة ورؤية العبد ما هو عليه من سوء الحال ، أما التوبة فبدايتها الحقيقية ، الندم وترك الزلة فى الحال والعزم على ألا يعود إلى مثل ما عمل من المعاصى ) (2) .
ويمكن القول أن التوبة هى نقطة الانطلاق والبدء للسير فى طريق الحرية ، والركن الأساسى فيها حل عقدة الإصرار عن القلب ، ثم القيام بجميع حقوق الأمر على وجه الاستقصاء (3) .
ويقول الطوسى فى تعلقات التوبة التى يتحرر منها بتركها :
( شتان بين تائب وتائب فتائب يتوب عن الذنوب والسيئات ــــــــــــــــــــــــ
1- المفردات للراغب الأصفهانى ص 76 .
2- الرسالة حـ 1 ص 276 .
3- السابق حـ 1 ص 277 .
وتائب يتوب من الزلل والغفلات وتائب يتوب من رؤية الحسنات والطاعات ) (1) .(1/248)
والتوبة مع كونها أول مقام من المقامات عندهم إلا أنها لا تزول بالانتقال إلى مقام آخر ولكنها محمولة معه ضمنا مجموعة تحت لوائه وهكذا القول فى سائر المقامات ، فكل مقام يحمل فى طياته المقامات السابقة ، ومن ثم فقد اعتبر ابن القيم منزلة التوبة أوسط المنازل وآخرها كما أنها أولها ، وذلك لأن العبد السالك لا يفارقها ولا يزال فيها إلى الممات ، وإن ارتحل إلى منزل أو مقام آخر ارتحل به واستصحبه معه ونزل به يقول ابن القيم :
( فالتوبة هى بداية العبد ونهايته وحاجته إليها فى النهاية ضرورية كما أن حاجته إليها فى البداية كذلك ) (2) .
ودليل ذلك عنده ما قاله الحق سبحانه وتعالى مخاطبا المؤمنين التائبين :
{ وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون } (3) .
ــــــــــــــــــــــــ
1- اللمع ص 69 .
2- مدارج السالكين حـ 1 ص 178 .
3- النور / 31 .
وقال أيضا : { يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحا } (1) وإنما أراد من التائبين الاستمرار فى التوبة عند الترقى فى سلم المقامات (2) .
ومن ثم فإن التوبة مفتاح باب المقامات ، فتوجب للتائب آثارا عجيبة لا تحصل بدونها ، فتوجب له من المحبة والرقة واللطف وشكر الله وحمده ورضا عنه عبوديات أخر ، فإنه إذا تاب إلى الله تقبل الله توبته ، فرتب له على ذلك القبول أنواعا من النعم ، لا يهتدى العبد إلى تفاصيلها ، بل يزال يتقلب فى بركتها وآثارها مالم ينقضها ويفسدها (3) .
وفى هذا يقول تعالى عن نوح عليه السلام وهو ينصح قومه بالتوبة لكثرة بركاتها : { فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا يرسل السماء عليكم مدرارا ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارا } (4) .
ــــــــــــــــــــــــ
1- التحريم / 8 .
2- السابق حـ 1 ص 178 .
3- مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة لابن القيم الجوزية حـ 1 ص294 مكتبة المتنبى القاهرة بدون تاريخ .
4- نوح / 9 : 12 .(1/249)
والتائب عليه أن يعيش فى صراع دائم مع نفسه ، دون أن يكون الجسد موضع احتقار أو تعذيب أو إهانة ، فله أن يباشر ما احلت الشريعة من زواج ونسل وغير ذلك (1) .
وربما يصيب التائب فى بدايته أن ينتابه اليأس إذا حدث أن عاد إلى المعصية ذات مرة فينبغى ألا يقنط فى حمل إرادته على تجديد التوبة مرة بعد مرة ليرد الانتكاسة ويبدأ من جديد فالرسول صلى الله عليه وسلم هو سيد العابدين التائبين ومع ذلك يقول : ( إنه ليغان على قلبى فأستغفر الله فى اليوم سبعين مرة ) (2) .
فكان من سنته صلى الله عليه وسلم دوام الاستغفار (3) .
فإذا استوفى العبد مقام التوبة ووصل إلى نهاية الطريق فيه انتقل إلى المقام الذى يليه وهو مقام الورع .
ــــــــــــــــــــــــ
1- الرسالة حـ 1 ص 277 .
2- أخرجه مسلم فى كتاب الذكر والدعاء ، باب استحباب الاستغفار والاستكثار منه برقم (3702) وأبو داود فى كتاب الصلاة ، باب فى الاستغفار برقم (1515) والنسائى فى عمل اليوم والليلة برقم (442) وأحمد فى المسند حـ 4 ص 260 والطبرانى فى المعجم برقم (888) .
3- الرسالة حـ 1 ص 287 .
قال السراج الطوسى : ( والتوبة تقتضى الورع ) (1) .
وفى انتقاله إلى الورع يستصحب معه مقام التوبة ويرتقى درجة فى طريقه إلى مقام الحرية .
[2] - الورع : وهومقام بين التوبة والزهد ، فبعد أن سلم المرء نفسه لله بالتوبة الصادقة والأسى على ماض ضاع منه فى معصية الله يعزم عزما أكيدا على تجنب ما حرم الله والتمسك بما أحل وأباح وبعدئذ يرتقى درجة إيمانية أخرى وهى أن يعتاد قياس الحلال والحرام بمقاييس فيها تشديد وقوة هذه المقاييس هى مقاييس الورع فليس كل الحلال فى نظر الورع سواء ، فهناك حلال لا يعصى الله فيه وحلال لا ينسى الله فيه ، وهناك حلال بين ، وحلال فيه اشتباه وينبغى على العبد أن يتورع عن كل ما فيه دخن (2) .(1/250)
فالورع هو الأساس والأصل وعليه يدور الأمر كله وهو أعز الصفات وأجلها وأولاها بالرعايات وهو أجدرها ، لأنه وصف ذاتى لا يمكن استعارته أو الوصول إلى تحصيله من جهة الغير (3) .
ــــــــــــــــــ
1- اللمع ص 70 وانظر الرسالة حـ 1 ص 287 الصدق لأبى سعيد الخراز ص 29
2- الرسالة حـ 1 ص 287 بتصرف .
3- فضائح الباطنية لأبى حامد الغزالى ص 187 بتصرف تحقيق وتقديم د . عبد الرحمن بدوى ، نشر الدار القومية للطباعة والنشر بالقاهرة سنة 1383 هـ .
* الورع درجات فى موطنه :
ويقسم السراج الطوسى الورع إلى ثلاث مراحل ذاتية يقطعها الصوفى لينتقل من مقام التوبة إلى مقام الزهد (1) :
أولها : تورع عن الشبهات التى اشتبهت عليه وهى ما بين الحرام البين والحلال البين وفيها قوله صلى الله عليه وسلم : ( الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمها كثير من الناس فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه ومن وقع فى الشبهات فقد وقع فى الحرام كالراعى يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه ) (2) .
ثانيها : تورع عما يقف عنده القلب ويؤلم الصدر ، فإذا حاك فى صدره شئ لم يقدم على إتيانه يقول السراج : ( وهذا لا يعرفه إلا ــــــــــــــــــــــــ
1- اللمع ص 70 ، 71 بتصرف .
2- أخرجه البخارى فى كتاب الإيمان باب فضل من استبرأ لدينه وعرضه برقم (52) وأخرجه مسلم فى كتاب المساقاة ، باب أخذ الحلال وترك الشبهات برقم (1599) وأبو داود فى كتاب البيوع ، باب فى اجتناب الشبهات برقم (3329) والنسائى فى كتاب البيوع باب اجتناب الشبهات فى الكسب حـ 7 ص241 وابن ماجه فى كتاب القتن ، باب الوقوف عند الشبهات برقم (3984) وأحمد فى مسنده حـ 4 ص 269.
أرباب القلوب والمتحققون ) (1) .
وهو كما يروى عن النبى صلى الله عليه وسلم : ( والإثم ما حاك فى صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس ) (2) .(1/251)
فالرسول جعل الإنسان حارسا على نفسه ومصدرا من مصادر الرقابة على ذاته ومميزا للحلال والحرام ، إضافة إلى ما سبق فى المرحلة الأولى من مقاييس التمييز المنقولة والمعقولة .
ثالثها : تورع عن كل ما شغل عن الله وهو ما سئل عنه الشبلى
فقيل له : يا أبا بكر ما الرع ؟
فقال : أن تتورع ألا يتشتت قلبك عن الله طرفة عين (3) .
فإذا ألف العبد بمرور الأيام هذا اللون من التربية المتفوقة فى مراحل الورع أمكن عند ذلك أن يدخل فى صف الزاهدين حيث الدنيا بأسرها لا تساوى شيئا ، فالقلب متعلق بالله ومجموع على طاعته ، وهنا يكون ــــــــــــــــــــــــ
1- اللمع ص70 .
2- أخرجه مسلم فى كتاب البر والصلة ، باب تفسير البر برقم (2553) والترمذى فى كتاب الزهد ، باب ما جاء فى البر والإثم برقم (2389) وابن حبان فى كتاب البر والإحسان ، باب الإخلاص وأعمال السر برقم (397) وأحمد فى المسند حـ 4 ص 182 والبيهقى فى سننه حـ 10 ص 192 وأبو نعيم فى الحلية حـ 2 ص 3 .
3- اللمع ص 71 .
المرء قد ارتقى درجة أخرى فى طريق الحرية عند أوائل الصوفية فيستصحب مقام الورع بما حمل من التوبة إلى مقام الزاهدين .
قال السراج الطوسى : ( والورع يقتضى الزهد ) (1) .
[3] - الزهد :
هو أشهر المقامات الصوفية لأنه يتوسطها (2) فهو بمثابة المرحلة الوسط فى طريق الحرية ، فكل ما سبقه من تيقظ وتوبة وورع يجعل العبد طموحا فى التخلى عن متع الدنيا والتقليل من طيبها رغبة فى تصفية النفس ، وكل ما يتلوه من صبر وتوكل ورضا هى بمثابة الضمانات التى تحفظ هذه النتيجة ، وقد نتج عن توسط الزهد للمقامات أنه احتوى معانيها جميعا ، حتى سلك كثير منهم فى تعريفه سبلا مختلفة ، أشبه بدرجات فى ميدانه أكثر من كونها اختلافا فيه .
فكل تعريف يعبر عن المنزلة التى يقف عندها الصوفى أو التى تشد اهتمامه أكثر من غيرها ، فمرة يعرف بالزهد بالتوكل ومرة بالرضا ومرة بالشكر أو الصبر (3) .(1/252)
ــــــــــــــــــــــــ
1- السابق ص 71 .
2- مدخل إلى التصوف الإسلامى للدكتور أبو الوفا التفتازانى ص 60 .
3- الرسالة القشرية حـ 1 ص 325 : 330 .
فالزهد يتسع لكثير من المعانى ويتقبل العديد من وجهات النظر وأصوب الآراء فيه ما كان مرتبطا بفهم الكتاب متسقا مع السنة ملاصقا للدليل .
ويرى المحاسبى أن الزهد لا يعنى السلبية فى مواجهة الحياة ، فالحياة دار ابتلاء وامتحان يخوض المرء فيها تجارب متعددة يقلبها الله له فى كل وقت ، فالغنى قد يكون زاهدا فى غناه والفقير قد يكون راغبا حال فقره (1) .
فالغنى الصادق المطيع خازن من خزان الله ليس حبسه للأموال ضنا بها وحرصا عليها ، فهو زاهد وإن كثر عنده المتاع ، فالرسول صلى الله عليه وسلم نال حظوظا تسعد وتبهج من الزواج واللبس والمظهر وكان يستدين لحوائجه ويرهن فى مقابل الدين ويأكل اللحم والحلوى وغير ذلك من المباحات وكان صلى الله عليه وسلم قدوة للزاهدين لا زهد يفوق زهده (2) .
يقول المحاسبى : ( واعلم أن محبة الغنى مع اختيار الله لعبده الفقر تسخط ومحبة الفقر مع اختيار الله لعبده الغنى جور ، وكل ــــــــــــــــــــــــ
1- أعمال القلوب والجوارح ص 44 .
2- صيد الخاطر لابن الجوزى ص 27 مطبعة دار الفكر بدمشق سوريا سنة 1380 وانظر الرزق الحلال وحقيقة التوكل على الله ص 101 : 109 .
ذلك هرب من الشكر لقلة المعرفة وتضييع للأوقات من قصر العلم ) (1) .
ويذكر المحاسبى أنه لا يأمر بالشبع فالزهد واجب فيه ، ولكنه يحرم الجوع الذى ينهك القوى ويضعف الجسد ، فإذا ضعف الجسد ضعفت العبادة (2) .
فمن دعا الناس إلى الجوع فقد عصى الله سبحانه وتعالى ، فالله رغب فى الصوم ، وقد فرض رمضان على نبيه ولم يفرض عليه الجوع ولا العطش فالذى ينال جوعا أو عطشا بلا صوم فليس بمأجور (3) .(1/253)
فالزهد عند المحاسبى عبودية وتربية روحية من خلال المعرفة والالتزام بالأحكام التكليفية (4) وهو مرتبط عند المحاسبى بالمقام السابق وهو مقام الورع ، فالورع ليس سوى مرتبة فى تدرج القيم الروحية تعلوه ــــــــــــــــــــــــ
1- رسالة المسترشدين ص 163 .
2- تلبيس إبليس لابن الجوزى ص 216 نشر دار الكتب العلمية ، بيروت لبنان بدون تاريخ .
3- المسائل فى الزهد للحارث المحاسبى ص 227 .
4- فصول فى التصوف للدكتور حسن محمود عبد اللطيف الشافعى ص 105 نشر دار الثقافة للنشر والتوزيع القاهرة سنة 1991 ، 1992 .
مرتبة أخرى هى الزهد ، فمحاسبة النفس لتمييز الحلال الطيب من الحرام أو المشتبة فى أمره عمل لا جدال فيما يعود به من نفع على العبد ولكن خيار منه أن يترك العبد الدنيا ويزهد فيها .
فالدنيا ليست سوى بلاء لا عودة إليه والاشتغال بالدنيا ابتعاد عن الله والتحرر من الدنيا وسيلة إلى التقرب من الله والتفرغ لعبادتة فلا قيمة لها فى الحقيقة ولذا وجب الزهد فيها (1) .
* الزهد عند أبى سعيد الخراز :
لا تختلف نظرة الخراز عن نظرة المحاسبى للزهد ، فالقلب الزاهد هو الذى استحيا من الله أن يرى نفسه خادما للدنيا فضن بنفسه على خدمتها ، فرمى بها عن قلبه وأعتق نفسه من رق عبوديتها واعتز أن يكون خادما لها بعزة العزيز الذى أعزه بالاعتزاز عنها (2) .
فإذا كانت حريته منها تزيده قربة وعبودية لله ، كانت الدنيا طوع يديه لا تؤثر فيه مهما بلغ عنده مقدارها ، لأن قانون الإخضاع والاستعلاء عليها سيسرى فى هذه الحالة على الذهب والحجر فيستويان فى نظر المؤمن وهذه الحقيقة يعبر عنها أبو سعيد بقوله : ( لايكون العبد زاهدا مستكمل الزهد حتى يستوى عنده الحجارة والذهب ، عندها ــــــــــــــــــــــــ
1- استاذ السائرين الحارث بن أسد المحاسبى للدكتور عبد الحليم محمود ص 293 .
2- الصدق لأبى سعيد الخراز ص 43 .
تخرج قيمة الأشياء من قلبه ) (1) .(1/254)
وذلك أخذا من قوله صلى الله عليه وسلم : ( ما يسرنى أن لى مثل أحد ذهبا أنفقه فى سبيل الله تعالى ، تأتى على ثالثة يكون منه عندى شئ إلا دينار أرصده لدين على ) (2) .
فمن ملك من أهل العمل والصدق شيئا من الدنيا فهو معتقد أن الشئ لله عز وجل لا له ، وأن الله خوله فيه وهو مبلى به حتى يقوم بالحق فيه ، فالنعمة بلاء حتى يقوم العبد بالشكر فيها ويستعين بها على طاعة الله ، وكذلك البلوى والضراء اختبار وابتلاء حتى يصبر ويقوم بحق الله فيه (3) .
فالأنبياء صلوات الله عليهم والصالحون من بعدهم الذين أشعرهم الله بأن أبلاهم فى الدنيا بالسعة وخولهم ، كانوا إلى الله عز وجل ــــــــــــــــــــــــ
1- السابق ص 32 .
2- أخرجه البخارى فى كتاب الرقاق ، باب قول النبى صلى الله عليه وسلم : ( ما يسرنى أن عندى مثل أحد ذهبا ) برقم (6445) ومسلم فى كتاب الزكاة ، باب تغليظ عقوبة من لا يؤدى الزكاة برقم (991) وابن ماجه فى كتاب الزهد ، باب فى المكثرين برقم (4231) وابن حبان فى كتاب الزكاة ، باب جمع المال من حله وما يتعلق بذلك برقم (3213) وأحمد فى المسند حـ 2 ص 467 وانظر السابق ص 44
3- السابق ص 33 .
ساكنين لا إلى الشئ وكانوا خزانا لله جل ذكره فى الشئ الذى ملكهم ينفذونه فى حقوق الله تعالى غير مقصرين ولا مفرطين ولا متأولين على الله ، وكانوا غير متلذذين بما ملكوا ولا مشغولى القلوب بما ملكوا ولا مستأثرين به دون عباد الله (1) .
* الزهد عند المكى : أما المكى فيستند فى معرفة الزهد فى الدنيا إلى مفهوم الدنيا فى القرآن الكريم فيقول : ( لا يمكن لعبد أن يعرف الزهد حتى يعرف الدنيا أى شئ هى فقد قال الناس فى الزهد أشياء كثيرة ، ونحن غير محتاجين إلى ذكر أقوالهم بما بين الله تعالى وأغنى بكتابه الذى جعل فيه الشفاء والغنى ) (2) .(1/255)
ويعتمد المكى فى معرفة الدنيا على مجموعة من الآيات يختزل فيها أوصاف كل آية ثم يسلمها إلى آية أخرى إلى أن يصل إلى وصف واحد يبين حقيقة الدنيا .
1- الآية الأولى : { زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب } (3) .
ــــــــــــــــــــــــ
1- السابق ص 34 .
2- قوت القلوب حـ 1 ص 245 .
3- آ ل عمران / 14 .
فهذه سبعة أوصاف هى جملة متاع الدنيا ، وما تفرع من الشهوات رد إلى أصل من أصول هذه الجمل ، فمن أحب جميعها فقد أحب جملة الدنيا ومن أحب أصلا منها أو فرعا من أصل فقد أحب بعض الدنيا (1) .
يقول المكى : ( فعلمنا بنص كلام الله أن الشهوة دنيا ، وفهمنا من دليله أن الحاجات ليست بدنيا لأنها تقع ضرورات ، فإذا لم تكن الحاجة دنيا دل أنها لا تسمى شهوة وإن كانت قد تشتهى ) (2) .
2- الآية الثانية : { اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر فى الأموال والأولاد } (3) فرد الأوصاف السبعة إلى خمسة معان .
3- الآية الثالثة : { إنما الحياة الدنيا لعب ولهو } (4) فاختصر الخمسة فى معنين منهما جامعان .
4- الآية الرابعة : { وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس ــــــــــــــــــــــــ
1- السابق حـ 1 ص 245 .
2- السابق حـ 1 ص 246 .
3- الحديد / 20 .
4- محمد / 36 .
عن الهوى } (1) .(1/256)
فصارت الدنيا طاعة النفس للهوى ، فمن نهى نفسه عن الهوى فهو لم يؤثر الدنيا ، وإذا لم يؤثر الدنيا فهذا هو الزاهد الذى لا يفرح بعاجل موجود من حظ النفس ولا يحزن على مفقود من ذلك ، يأخذ الحاجة من كل شئ عند الحاجة إلى الشئ ، ولا يتناول عند الحاجة إلا سد الفاقة ، ولا يطلب الشئ قبل الحاجة ، فأول الزهد دخول غم الآخرة فى القلب ثم وجود حلاوة المعاملة لله تعالى ، ولا يدخل هم الآخرة حتى يخرج هم الدنيا ولا تدخل حلاوة المعاملة حتى تخرج حلاوة الهوى (2) .
وإذا كان رأى أغلب المشايخ من أوائل الصوفية فى مسألة الزهد معبرا عن الزهد فى الإسلام فإن بعضهم جعل الزهد فى صورة تبرز نوعا من الغلو والرهبانية التى لم تكتب علينا فخلط بين الاستمتاع بنصيب من الدنيا لسد الضروريات وبين التكالب عليها مما دفعهم إلى التنحى عنها وضرورياتها بالكلية وأساءوا لا إلى التصوف وحسب بل إلى روح الإسلام .
ــــــــــــــــــــــــ
1- النازعات /40 .
2- السابق حـ 1ص 246 .
فهذا أبو بكر الشبلى ربما يلبس الثياب المثمنة ثم ينزعها ويضعها فوق النار أو يأخذ السكر واللوز ويحرقهما بالنار (1) .
وهذا أبو الحسين النورى يأخذ ثلاثمائة دينار ثمن عقار بيع له ثم يصعد قنطرة ويرمى بها واحدا واحدا إلى الماء قائلا : حبيبى تريد أن تخدعنى منك بمثل هذا (2) وغيرهما ممن وضعوا النواة التى أنبتت أشكالا غريبة وبدعا عجيبة فى الزهد والتصوف .(1/257)
وقد رأينا كيف نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن الغلو والمسالك المتشددة التى التزم بها الملتزمون ، وأنه رأى فى تعذيبهم لأبدانهم وفى عزوفهم عن الزواج والنوم والطعام رهبانية لا تمثل روح الدين ولا تمتثل له فلم يحمس على ذلك ونهى عنه ، لأن أبسط نتائجه أن يزبل العود وينحل الجسم وتضعف القوة فيقعد الإنسان عن العمل ويمد يده بالسؤال ترده اللقمة واللقمتان ، ونحن نرى فى عصرنا اجتماعا لمثل هذه النوعية حول المساجد والأضرحة لا يعملون ولا يضربون فى الأرض بالسعى على أرزاقهم ومعاشهم ، متظاهرين بالتنسك والتعبد مدعين التزهد والتصوف حيث أصبحوا عالة على ــــــــــــــــــــــــ
1- اللمع ص 483 .
2- السابق ص 493 .
المجتمع ووصمة عار على الإسلام والتصوف فهل تكون الزهادة على حساب الكرامة ؟
لا ... ما هكذا أراد مشايخ الصوفية الأوائل أو دعى الإسلام وكل ما أرادوه أن يعرف المؤمن الدنيا وأن يعلم أنها دار فناء فيقطع الطمع فيها ودار ابتلاء فيقاومها بالمجاهدة والفلاح فيها ومحاولة التحرر من قيودها وعوائقها .
فإذا قطع الصوفى عندهم مرحلة الزهد فى رحلة الحرية انتقل إلى مقام الصبر مستصحبا ما سبق من المقامات .
[4] - الصبر :
فعندما يزهد الانسان فيما سوى الله يكون قد قطع منتصف الطريق ولهذا كان لازما أن توضع إرادته على المحك وأن يختبر مدى احتماله لمشقة الرحلة فالرحلة قام بها الكثير ، ولكن القليل هم الذين استمروا فيها ووصلوا إلى منتهاها .. إلى مقام الحرية وإن كان صعبا ، ولكن بمقدار صعوبة المسير فيه يكون الشعور بقيمة الحرية .
والبلايا التى تلم بالعبد لا تقصد لذاتها ولكن لاختبار مدى القدرة على الاحتمال ولتجديد العزيمة وشحذ الهمة على مواصلة السير فى طريق التقوى قال تعالى :
{ لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله
التقوى منكم } (1) .
يقول الخواص (2) :
( الصبر هو الثبات على أحكام الكتاب والسنة ) (3) .(1/258)
وقال عمرو بن عثمان المكى (4) :
( الصبر هو الثياب مع الله سبحانه وتعالى وتلقى بلائه بالرحب والدعة ) (5) .
ــــــــــــــــــــــــ
1- الحج / 37 .
2- هو أبو اسحاق إبراهيم بن أحمد بن إسماعيل الخواص من أقران الجنيد والنورى له سياحات ورياضات وباع كبير فى التصوف ، مات فى جامع الرى سنة 291 هـ انظر حلية الأولياء حـ 1 ص 325طبقات المناوى ص 184 ، تاريخ بغداد حـ 6 ص7 طبقات الشعرانى حـ 1 ص 325 صفة الصفوة حـ 4 ص 80 .
3- الرسالة حـ 1 ص 455 .
4- هو أبو عبد الله عمر بن عثمان بن كرب بن غصص ، صحب الجنيد وأبا سعيد الخراز وغيرهما من المشايخ ، له كلام حسن فى الزهد والتصوف ، مات ببغداد سنة 297هـ انظر تاريخ بغداد حـ 2 ص 223 شذرات الذهب حـ 2 ص 225 حلية الأولياء حـ 10 ص 291 طبقات الشعرانى حـ 1 ص 104 المنتظم حـ 6 ص 93 صفة الصفوة حـ 2 ص 248 .
5- الرسالة حـ 1 ص 455 .
* والصبر له درجات فى موطنه :
[1] - أولها : الصبر على آداء فرائض الله تعالى على كل حال فى الشدة والرخاء والعافية والبلاء طوعا وكرها .
[2] - ثانيها : الصبر عن كل ما نهى الله تعالى عنه ، ومنع النفس من كل ما مالت إليه بهواها مما لا يرضى الله وهذه الدرجة وما سبقها هما فرض على العباد أن يعملوا بهما .
[3] - ثالثها : الصبر على النوافل ، وأعمال البر وما يقرب العبد إلى الله تعالى فيحمل نفسه على بلوغ الغاية للذى رجاه من ثواب الله عز وجل .
[4] - رابعها : الصبر على قبول الحق ممن جاء به من الناس ودعا إليه بالنصيحة فيقبل منه ، لأن الحق رسول من الله جل ذكره إلى العباد ولا يجوز لهم رده فمن ترك قبول الحق ورده فإنما يرد على الله تعالى أمره .
[5] - خامسها : الصبر على احتمال مكروه النفس فإذا وقع بها ما تكرهه تجرع العبد ذلك وترك البث والشكوى وكتم ما نزل بها كما قال تعالى : { والكاظمين الغيظ والعافين عن
الناس } (1) .(1/259)
فالعبد كتم ما كره وشق على نفسه احتماله فصار بذلك صابرا (2) .
فالصبر درجات يقطع الصوفى فيه أشواطا يلتزم فيها بالثبات والثقة مع الله وهو مقام صعب المنال سريع الزوال إلا على من ثبت الله قلبه .
يقول الجنيد بن محمد :
( المسير من الدنيا إلى الآخرة سهل هين على المؤمن ، وهجران الخلق فى طاعة الله تعالى شديد ، والمسير من النفس إلى الله تعالى صعب شديد ، والصبر مع الله أشد ) (3) .
فالله إذا ابتلى العبد بقدر مفاجئ فيه ألم وبلوى ثم ثبت عند أول الصدمة ولم يهتز وتجرع البلاء من غير شكوى ولم يعترض بقليه على قضاء الله وقدره فإنه يصل بذلك إلى منتهى المقام فى الصبر (4) .
وفى هذا يقول النبى صلى الله عليه وسلم : ( إنما الصبر عند ــــــــــــــــــــــــ
1- آل عمران / 134 .
2- انظر فى درجات الصبر كتاب الصدق لأبى سعيد الخراز ص 19 : 21 بتصرف
3- الرسالة حـ 1 ص 454 .
4- السابق حـ 1 ص455 .
الصدمة الأولى ) (1) .
فإذا صبر على بداية البلوى فإن ما بعدها يقويه ويثبته ويزيد من عبوديته وبذلك يقطع مرحلة أخرى فى طريق الحرية ينتقل بعدها إلى تفويض الأمور لله لعلمه بأن الحادثات كلها حاصلة من الله تعالى ولا يقدر على الإيجاد غيره .
[5] - التوكل :
وهو الاستعانة بالله فى الثبات على طريق الحرية ، فيختار الله وكيلا له ولن يكون هذا إلا بقطع العلائق عن الدنيا والخلائق والخلوص منها إلى الثقة التامة فى كفيله ووكيله حيث يتولى الله أحواله ويصرفها على ما يشاء ويختار (2) وإذا تولى أمر عبد بجميل عنايته كفاه كل شغل وأغناه عن كل غير ، فلا يستكثر العبد حوائجه لعلمه أن كافيه مولاه ، ومن جعل الله عز وجل وكيله لزمه أن يكون ــــــــــــــــــــــــ(1/260)
1- أخرجه البخارى فى كتاب الجنائز ، باب الصبر عند الصدمة الأولى برقم (1302) ومسلم فى كتاب الجنائز ، باب البكاء على الميت برقم (923) وأبو داود فى كتاب الجنائز ، باب البكاء على الميت برقم (3125) والترمذى فى كتاب الجنائز ، باب الصبر فى الصدمة الأولى برقم (987) والنسائى فى الجنائز باب شق الجيوب (1870) وابن ماجه فى الجنائز ، باب الصبر إلى المصيبه برقم (1596) .
2- الصدق لأبى سعيد الخراز ص 48 بتصرف .
وكيلا لله على نفسه فى إقامة حقوقه وفرائضه وكل ما يلزمه فيخاصم نفسه فى ذلك ليلا ونهارا لا يفتر لحظة ولا يقصر طرفه (1) .
وفى هذا سأل رجل ذا النون المصرى : ما التوكل ؟
فقال : خلع الأرباب وقطع الأسباب .
فقال السائل : زدنى ؟
فقال : إلقاء النفس فى العبودية وإخراجها من الربوبية (2) .
وهذا يعنى أن التوكل ترك السكون إلى أسباب الدنيا ونفى الطمع من المخلوقين والإياس منهم لأنهم لا وصف لهم بالربوبية فالمنفرد بالخلق والتدبير هو الله ، فحين علم المتوكل أنه صائر إلى المعلوم المقدر رضى بالله تعالى وعلم أنه لا يدرك بالتوكل تعجيل ما أخر الله تعالى ولا تأخير ما عجل ، ولكنه اكتسب إسقاط الهلع والجزع واستراح من عذاب الحرص وراض نفسه بآداب الشريعة وألقاها فى العبودية وانشغل
بها وأيقن أن ما قدر سيكون ، وما يكون فهو آت (3) .
* التوكل درجات فى موطنه :
والتوكل له درجات فى موطنه يقطعها الصوفى بالمجاهدة ليصل إلى ــــــــــــــــــــــــ
1- الرسالة حـ 1 ص 418 بتصرف .
2- السابق حـ 1 ص 420 .
3- الصدق ص 53 بتصرف .
المقام الأعلى الذى يليه :
فأولها : سكون القلب بضمان الرب فيتجرد عن الأشياء لأن الله صدقه فى ضمانه ، فيسكن قلبه عند فقد الأسباب ثقة منه بوعد ربه وهذه بداية التوكل (1) .
وثانيها : درجة التسليم حيث يوقن العبد بعلم الله بحاله ، فيشتغل بما أمره الله ويعمل على طاعته ولا يراعى إنجاز موعده (2) .(1/261)
وثالثها : درجة التفويض حيث يكل أمره إلى الله ولا يختار فيستوى عنده وجود الأسباب وعدمها ويشتغل بآداء ما ألزم به ولا يفكر فى حال نفسه ويعلم أنه مملوك لسيده ، والسيد أولى بعبده من نفسه فهذه هى حالة التفويض .
وإذا ارتقى عن هذه الدرجة فوجد الراحة فى المنع واستعذاب ما يستقبله من الرد فقد وقع فى مقام الرضا (3) وقد تقدم موقف أوائل الصوفية من النظر إلى الأسباب وأبرزوا دورها بما يكفى لعدم الإطالة .
[6] - الرضا : وهو يقع عند كثير من أوائل الصوفية بعد التوكل
ــــــــــــــــــــــــ
1- الرسالة حـ 1 ص 422 .
2- السابق حـ 1 ص 422 .
3- الرسالة ص 422 .
ويشمل فىطياته المقامات السابقة ، فالعبد لما صدق مع الله فيما سبق ووقع بينه وبين الله التسليم والتفويض زالت عن قلبه التهم وسكن إلى حسن اختيار الله له ، ونزل فى حسن تدبيره وذاق طعم الوجود به فامتلاء قلبه فرحا ونعما وسرورا ، فغلب ذلك ألم المصائب والمكروه والبلوى ، وصار اسم البلوى خزانة يستخرج منها إذا نزل به أمورا كثيرة :
1- فتارة يتنعم بعلم الله به إذ علم أنه يراه فى البلوى .
2- وتارة يعلم أنه ذكره فابتلاه ولم يغفل عنه .
3- وتارة ولاه الله من أمره ما فيه الصلاح ففوض الأمر إلى الله وطمع أن يراه راضيا عنه كما قال جل ذكره : { يأيتها النفس المطمئنة ارجعى إلى ربك راضية مرضية } (1) فخرجوا من الرضا إلى الرضا (2) .
ويصف القشيرى المشاعر التى تحدث لصاحب الرضا بأنه يحصل له فوائد ولطائف لا تحصل لمن دونه من الحلاوة عند وجود المقصود وهو لا يجد الراحة فى المنع فقط بل يشعر بزوائد الأنس ونسيان كل أرب ــــــــــــــــــــــــ
1- الفجر / 27 ، 28 .
2- الصدق ص 66 بتصرف .
وحلاوة الطاعة تتصاغر عند حلول لذة الرضا حتى يؤخذ العبد عن جملته بالكلية وهذا عين التوحيد ومقام الحرية (1) .(1/262)
ويتضح جليا أن مقام الرضا ينهى سلسلة المقامات ، فالرضا نهاية الجهود وبذل المجهود من قبل الإرادة فى الوصول إلى الحرية والتى عبر عنها الجنيد بقوله : ( الحرية آخر مقام للعارف ) (2) .
وفى الوقت ذاته تبدأ رحلة جديد من أحوال الجود من منة المعبود وقد اختلف أوائل الصوفية فى ترتيب الرضا أهو آخر المقامات أم أول الأحوال ؟ فقال بعضهم : الرضا من جملة المقامات وهو نهاية التوكل فالرضا كسبى ، وقال بعضهم : الرضا من جملة الأحوال وليس ذلك كسبا للعبد بل هو نازلة تحل بالقلب .
قال القشيرى : ويمكن الجمع بين اللسانين فيقال : بداية الرضا مكتسبة للعبد وهى من المقامات ونهايته بداية الأحوال (3) .
ووقوع الرضا فى هذا الموقع يدل على أن كل المقامات السابقة كانت مجاهدات ومكابدات القصد منها قطع كل طريق على النفس حتى لا تستروح متع الحياة ، أو تستكن لمطالبها وأطيابها وأن يستعد ــــــــــــــــــــــــ
1- الرسالة حـ 1 ص 423 .
2- سبق تخريجه ص 395 .
3- الرسالة حـ 1 ص 423 .
القلب للامتلاء بعبودية الله وحده أو بالوجه الآخر يستعد للامتلاء بالحرية من كل ما سوى الله .
فالرضا محصلة نهائية لقوتين متصارعتين مختلفتين فى الاتجاه ، اتجاه يمثل عبودية الله والحرية مما سواه ، واتجاه يمثل عبودة المخلوق والتحرر من منهج الله ويقاس مقدار الرضا بمقدار تفوق القوة المتجهة نحو الحق على القوة الجاذبة إلى الخلق .
وهذا فى حد ذاته اثبات للحرية بمقوماتها وأصالتها فى الذات الإنسانية من جانب ، وتحقيق للذات الإنسانية بالوصول إلى الكمال البشرى من جانب آخر .
فالرضا عند أوئل الصوفية يعد من أحسن الحلول التى تقدم لحل المشاكل التى آثارها المتكلمون حول الجبر والاختيار أو الفعل الإلهى والفعل الإنسانى وغير ذلك مما حمل العقول ما لا تطيق .(1/263)
فإن الراضى حين يسلم نفسه وعمره لخالقه قد أقر بحريته وإرادته المحضة فى هذا الاستسلام وأدى غايته القصوى فى الحياة باتباعه الكامل لمنهج الله واستسلامه لتدبيره .
قال تعالى : { فإما يأتيانكم منى هدى فمن اتبع هداى فلا يضل ولا يشقى ومن أعرض عن ذكرى فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى قال رب لما حشرتنى أعمى وقد كنت بصيرا قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى } (1) .
* شكل تلخيصى للمقامات الصوفية وإرادة الحرية :
[ الحرية آخر مقام للعارف ]
( نهاية الرحلة )
[7] ــــــــــــــــ الحرية
الطريق [6] ــــــــــــــ الرضا
إلى مقام الحرية [5] ـــــــــــــ التوكل
[4] ــــــــــــ الصبر
[3] ـــــــــــــ الزهد
[2] ـــــــــــــ الورع
[1] ــــــــــــــ التوبة
ـــــــــــــــــــــ
( بداية الرحلة ) [ نهاية المقامات ]
[ بداية الأحوال ]
ــــــــــــــــــــــــ
1- طه / 123 : 125 .(1/264)
*** المبحث الرابع ***
الأحوال الصوفية وثمرة الحرية
يمكن القول أن المقامات الصوفية السابقة هى بمثابة الإعداد النفسى والروحى الذى يهيئ العبد من خلال المجاهدات والرياضات لكى تصح بدايته وتنصقل إرادته ، وهذه المهمة تعد وصفا للمبتدئين والمريدين عند أوائل الصوفية ، وللسراج الطوسى عبارة يمكن أن تلخص تلك المرحلة حثن يوضح تدرج المبتدئ والمريد فى طريقهما إلى الانقطاع إلى الله والتحرر مما سواه حيث يقول :
( المبتدئ هو الذى يبتدئ بقوة العزم فى سلوك طريق المنقطعين إلى الله ويتكلف لآداب ذلك ، ويتأهب بالخدمة والقبول من الذى يعرف الحال الذى ابتدأ به وأشرف عليه من بدايته إلى نهايته والمريد هو الذى صح له الابتداء ودخل فى جماعة جملة المنقطعين إلى الله تعالى وشهدت له قلوب الصادقين بصحة الإرادة ) (1) .
وهو فى كل مرحلة يقطعها تنفك عنه القيود شيئا فشيئا حتى تتلاشى بوصوله إلى عبودية الله أو الحرية التى هى آخر المقامات ، وأيا كان اختلافهم فى ترتيب المقامات ، فإن هذه المرحلة تعتمد على الجهود ــــــــــــــــــــــــ
1- اللمع ص 47 ، 48 .
الكسبية التى يمارسها العبد ، فإذا استوفى العبد شرائطها وأحكامها يصبح مستحقا لاجتناء ثمارها ، فكما يشعر العابد بحلاوة الطاعة إذا قام بما فرض عليه من عبادات ، وكما يشعر الإنسان براحة الضمير إذا نهض بعمل من أعمال الخير ، كذلك يستشعر المزيد إذا خلصت إرادته بذوق ما يجد من المعانى الروحية السامية والتى تتمثل فى حلاوة الإيمان وثماره .
* الثمرة الأولى للحرية :
وأول هذه الثمار عند أوائل الصوفية ثمرة الحب يقول المحاسبى :
( المحبة ميلك إلى الشئ بكليتك ثم إيثارك له على نفسك وروحك ومالك ثم موافقتك له سرا وجهرا ثم علمك بتقصيرك فى حبه ) (1)
وقال محمد بن الفضل (2) : ( المحبة سقوط كل محبة من القلب إلا محبة الحبيب ) (3) .
ــــــــــــــــــــــــ
1- الرسالة حـ 2 ص 618 .(1/265)
2- هو أبو عبد الله محمد بن الفضل بن العباس بن حفص البلخى ، سكن سمرقند وأصله من بلخ ، وهو من كبار المشايخ بخراسان ، صحب أحمد بن خضرويه وغيره من المشايخ توفى سنة 319 هـ انظر شذرات الذهب حـ 2 ص 282 ، المنتظم حـ 6 ص 239 ، حلية الأولياء حـ 10 ص232 ، معجم البلدان حـ ص 713 .
3- انظر الرسالة حـ 2 ص 617 .
وللحب أحوال تبدأ بعد تمام الرضا ، أو قبيل أن يتم الرضا بوقت لأن بداية الرضا عندهم من المقامات ونهايته من الأحوال كما سبق .
فإذا اجتاز العبد منطقة الرضا ، وثبت حبه على أساس يلتقى فيه الصدق والتجرد عما سوى الله أصبح جديرا بأن تنهال عليه أحوال الحب .
ومن لطف الله أن كل حال يؤدى بالعبد إلى الابتلاء يعقبه حال من الرخاء وكشف البلاء فبعد الهجر وصل وبعد القبض بسط وبعد الهيبة أنس وبعد الخوف رجاء وبعد الفقر وجد وبعد البعد قرب وهكذا مجموعة من الثنائيات تتسمى بحسب التغيرات النفسية التى تعقبها وتتفاوت فيها المسميات وتختلف فيها أنظار العابدين فكل يعبر عن حاله وعن إحساسه وشعوره ، وكل ذلك يرجع إلى أن الله يقلب القلوب فى جهتين بين إصبعين من أصابعه (1) .
وفى الأحوال تتجدد مذاقات العارفين لحلاوة الإيمان ، فلكل مذاق طعم يزيد على سابقه شيهة وحلاوة .
ويمكن أن نصل إلى ترتيب الأحوال عند أوائل الصوفية بصورة
ــــــــــــــــــــــــ
1- عوارف المعارف ص 327 ، لطائف الإشارات للقشيرى ص 109 .
2- الرسالة حـ 1 ص 112 .
تقريبية إلى حد ما من خلال ما يأتى :
أولا : الخوف والرجاء
ويعتبرهما القشيرى من أحوال البداية أى من أحوال الدرجة الأولى فى مجال الحب إذ يخاف العبد من العقوبة ويرجوا من الله المثوبة (1) ويترجم يحى بن معاذ هذا الشعور والإحساس بقوله مخاطبا ربه :(1/266)
( يكاد رجائى لك مع الذنوب يغلب رجائى لك مع الأعمال لأنى أجدنى أعتمد فى الأعمال على الإخلاص ، وكيف أحفظه وأنا بالآفة معروف وأجدنى فى الذنوب أعتمد على عفوك ، وكيف لا تغفرها وأنت بالجود موصوف ) (2) .
والخوف والرجاء هما كجناحى الطائر إذا استويا استوى الطائر وتم الطيران ، وإذا نقص أحدهما وقع فيه النقص ، وإذا ذهبنا صار الطائر فى حد الموت (3) .
وعندما ينتقل العبد من درجة إلى درجة أعلى فى حال الحب يأخذ الخوف والرجاء معانى جديدة عندهم تتفق وهذا الانتقال ، وفى ذلك يقول الواسطى : ( إذا ظهر الحق على السرائر لا يبقى فيها فضيلة ــــــــــــــــــــــــ
1- السابق حـ 1 ص 110 .
2- السابق حـ 1 ص 358 .
3- السابق حـ 1 ص 357 .
لرجاء أو لخوف ) (1) وذلك لأنه ينتقل إلى حال أعلى من حالى الخوف والرجاء .
ثانيا : القبض والبسط
وهما حالان بعد ترقى العبد عن حال الخوف والرجاء ، فالقبض للعارف بمنزلة الخوف للمريد والبسط للعارف بمنزلة الرجاء (2) .
ومن اجتهادهم فى الفصل بين القبض والخوف والبسط والرجاء أن الخوف إنما يكون من شئ فى المستقبل إما أن يخاف من فوت محبوب أو هجوم محذور وكذلك الرجاء إنما يكون بتأميل محبوب فى المستقبل أو بتطلع زوال محذور وكفاية مكروه فى المريد المستأنف ، أما القبض فلمعنى حاصل فى الوقت وكذلك البسط ، فصاحب الخوف والرجاء تعلق قلبه فى حالتيه بآجله وصاحب القبض والبسط أخذ وقته بوارد غلب عليه عاجله (3) .
ويذكر الجنيد بن محمد أن القبض والبسط بمعنى الخوف والرجاء ولكن الاختلاف فى تعلقهما بالآجل أو العاجل (4) .
ــــــــــــــــــــــــ
1- السابق حـ 1 ص 349 .
2- السابق حـ 1 ص 209 .
3- السابق حـ 1 ص 209 واللمع ص 419 .
4- اللمع ص 420 .(1/267)
وتتفاوت أوصافهم فى القبض والبسط حسب تفاوتهم فى أحوالهم فمن وارد يوجب قبضا ولكن يبقى مساغا للأشياء الأُخر لأنه غير مستوف ، ومن مقبوض لا مساغ لغير وارد فيه لأنه مأخوذ عنه بالكلية بوادره .
وذلك كما قال بعضهم : ( أنا ردم ) بمعنى مردوم أى لا مساغ فيه (1) .
وكذلك المبسوط قد يكون فيه بسط يسع الخلق فلا يستوحش من أكثر الأشياء ويكون مبسوطا لا يؤثر فيه شئ بحال من الأحوال (2) .
ثالثا : الهيبة والأنس
وهما درجتان فى أحوال الحب أعلى قدرا من الخوف والرجاء ومن القبض والبسط ، فالهيبة أعلى من القبض وحق الهيبة عند القشيرى الغيبة ، فكل هائب غائب ، والأنس أتم من البسط وحق الأنس صحو بحق ، فكل مستأنس صاح ، ثم يتباينون حسب تباينهم فى الشرب (3) .
قال الجنيد : كنت أسمع السرى السقطى يقول : ( يبلغ العبد إلى ــــــــــــــــــــــــ
1- الرسالة حـ 1 ص 210 .
2- السابق حـ 1 ص 210 .
3- السابق حـ 1 ص 213 .
ربه إلى حد لو ضرب وجهه بالسيف لم يشعر ) وكان فى قلبى منه شئ حتى بان لى أن الأمر كذلك (1) .
فالهيبة تنشأ من القبض الناشئ من الخوف لأن من خاف الله وعرف تقصيره فى حقه تعالى انقبض قلبه وبقى مشغولا بالله فتحصل له الهيبة منه ومن أمل وصوله إلى الخير بالرخاء انبسط قلبه ، وبقى مشغولا بالله فيحصل له الأنس به ، وحال الهيبة والإنس وإن جلتا ، فأهل الحقيقة يعدونهما نقصا لتضمنهما تغير العبد ، فإن أهل التمكين سمت أحوالهم عن التغيير والتلوين (2) .
رابعا : التواجد والوجد والوجود
[1] - التواجد : يقول القشيرى : فالتواجد استدعاء الوجد بضرب
ــــــــــــــــــــــــ(1/268)
1- السابق حـ 1 ص 213 قلت : الأمر عند أوائل الصوفية فى المقامات والأحوال مبنى على التجربة الإيمانية ووصف أدائهم للعبودية ، فأحدهم يعبر ببعض الألفاظ عن إحساس ما وجده فى الصلاة مثلا أو قيام الليل أو الذكر أو غير ذلك ، والآخر يفعل مثله كذلك ، فقد يتفقوا فى الرأى وقد يختلفوا وهكذا حتى تتشكل ألفاظ الصوفية ومصطلحاتهم فى الأحوال والمقامات بالقاسم المشترك عند أغلبهم ، فكلام السرى السقطى دليله فيه العقل والتجربة الإيمانية واستبيان الجنيد من كلامه ثم تصديقه إياه دليله أيضا العقل والتجربة ، وهذا الكلام قد يصح أو لا يصح لأنه رأى بشر قابل للخطأ والصواب ، أما إذا عارض الدليل الشرعى فلا .
2- السابق حـ 1 ص 214 .
اختيار ، وليس لصاحبه كمال الوجد إذ لو كان ، لكان واجدا (1) فهو أقرب ما يكون إلى الكسيبات التى تؤدى إلى الأحوال وفى هذا يذكر القشيرى حديثا نبويا : ( ابكوا فإن لم تبكوا فتباكوا ) (2) .
[2] - الوجد :
وهو ما يصادف القلب ويرد عليك بلا تعهد ولا كلفة ، وهو يعقب التواجد فى الدرجة (3) ويربط الدقاق بين الوارد والورد أى بين الباطن والظاهر ليثبت ارتباط مذاقات الحب بالطاعات ، وبأن الكسبيات وسائل لاستجلاب الوهيبات فيقول : ( من لا ورد له بظاهره ، لا وارد له فى سرائره وكما أن ما يتكلفه العبد من معاملات ظاهرة يوجب له حلاوة الطاعات ، فما ينازله من أحكام باطنة يوجب له المواجيد ، فالحلاوة ثمرات المعاملات والمواجيد نتائج المنازلات ) (4) .
ــــــــــــــــــــــــ
1- السابق حـ 1 ص 215 وانظر اللمع ص 418 .
2- رواه ابن ماجه فى كتاب الزهد برقم (19) .
3- الرسالة حـ 1 ص 217 .
4- السابق حـ 1 ص 217 .
[3] - أما الوجود : فهو حالة أرقى من الوجد ، ولا يكون وجود الحق إلا بعد خمود البشرية لأنه لا يكون للبشرية بقاء عند ظهور سلطان الحقيقة .(1/269)
وهذه الدرجات الثلاث يشبهها القشيرى بمن شهد البحر ثم ركب البحر ثم غرق فى البحر ، فالتواجد بداية والوجود نهاية والوجد واسطة بين البداية والنهاية (1) .
فالعبد يغرق فى بحار الحب حتى يصل إلى الثمرة الثانية وهى محصلة لطريقين :
الأول : الطريق إلى الحرية وهو طريق الجهد والكسب من خلال المقامات التى يدفع فيها كل محاولة لاسترقاقه .
الثانى : طريق الحب وهو ثمرة للطريق الأول يؤثر فى العبد من خلال الأحوال .
ــــــــــــــــــــــــ
1- السابق حـ 1 ص 217 .
* شكل تلخيصى للثمرة الأولى من ثمرات الحرية :
( الثمرة الأولى للحرية )
[5] ــــــــــــ الفناء والبقاء
[4] ـــــــــــ التواجد والوجد والوجود
[3] ـــــــــــــــ الهيبة والأنس
[2] ـــــــــــــــ القبض والبسط
[1] ــــــــــــــ الخوف والرجاء
ــــــــــــــــ
[ طريق الحب ] [ نهاية الحب بداية الفناء ]
* الثمرة الثانية للحرية : أحوال الفناء
انتهينا إلى أن أوائل الصوفية وصلوا إلى درجة فى الحب يغرق المرء فيها فى بحار ه لوجود الإيمان بالحق سبحانه وتعالى وفى المقابل نرى خمود البشرية وفنائها ، فالعبد قد يكون عالما بالتوحيد من خلال الاستدلال بالآثار ولا يكون واجدا له مستشعرا لحلاوته فى القلب فوجوده الحقيقى لا يبقى للعبد معه إحساس بنفسه فضلا عن علمه به واستدلاله عليه ، فترتيب أمر الأحوال للوصول إلى المعرفة بتوحيد الله يفصح عنه القشيرى بقوله :
وترتيب هذا الأمر قصود ثم ورود ثم شهود ثم جمود ثم خمود وبمقدار الوجود يحصل الخمود .
وصاحب الوجود له صحو ومحو فحال صحوه بقاؤه بالحق وحال محوه فناؤه بالحق ، وهاتان الحالتان أبدا متعاقبتان عليه فإذا غلب عليه الصحو بالحق ، فبه يصول وبه يقول قال صلى الله عليه وسلم فيما أخبر عن الحق :
( فبى يسمع وبى يبصر ) (1) .
وهذا الكلام يعنى أنه بمقدار تضاؤل إحساس العبد بنفسه يكون الوجود الحق للعبد .(1/270)
وفى سبيل أن يوضح القشيرى موقف المشايخ من تدرج هذا التضاؤل شيئا فشيئا عرض لنا نماذج من الأحوال التى تتآلف كأحوال الحب من أزواج تبدأ من الفناء وتنتهى عند التحقق .
[1] - أولها : الفناء والبقاء :
ويمكن القول أن أوائل الصوفية يميزون بين نوعين من الفناء :
1- أحدهما يمكن اكتسابه بالمران المنظم والتدريب الروحى ويكون ذلك بالجهد المستمر فى المقامات (2) .
ــــــــــــــــــــــــ
1- السابق حـ 1 ص 219 .
2- السابق حـ 1 ص 218 .
2- والثانى لا ينال بمران بل يطرأ على القلب ويأتى قاهرا جبارا يفقد الإنسان إحساسه بالعالم من حوله (1) .
* فالأول : فناء فى امتثال الأمر التشريعى الذى يعرف به المحمود والمذموم من الأفعال يقول فيه القشيرى :
( أشار القوم بالفناء إلى سقوط الأوصاف المذمومة وأشاروا بالبقاء إلى قيام الأوصاف المحمودة ) (2) .
ومعلوم أنه إذا لم يكن أحد القسمين كان القسم الآخر لا محالة وهذا يتوقف أساسا على دور الإرادة نحو أى منهما ، فالوجود الذاتى للإنسان كائن من خلال اختياره الحر للتصرف المحمود فى أفعاله وبقائه دائما على الصفات الحميدة .
فمن ترك مذموم أفعاله بلسان الشريعة يقال :
( إنه فنى عن شهواته ، فإذا فنى عن شهواته بقى بنيته وإخلاصه فى عبوديته ومن زهد فى دنياه بقلبه فنى عن رغبته ، ومن فنى عن رغبته فيها بقى بصدق إنابته فيكون بذلك فانيا بأفعاله ، ومن عالج أخلاقه فنفى عن قلبه الحسد والحقد والبخل والشح والكبر والعجب
ــــــــــــــــــــــ
1- التعريفات للجرجانى ص 185 .
2- الرسالة حـ 1 ص 229 .
وأمثال هذا من رعونات النفس فإنه بذلك يكون فانيا بأخلاقه ) (1) .(1/271)
* أما الثانى : فهو فناء فى الأحوال ، وفلسفته أن من شاهد الربوبية فى جربان القدر وتصاريف الأحكام فنى عن أى حسبان ، فإذا فنى عن توهم الآثار من الأغيار بقى بصفات الحق ، فلا يشهد من الأغيار عينا ولا أثرا ولا رسما ولا طللا لانعدام أثرها عليه وعند ذلك يقال فى عرفهم : ( إنه فنى عن الخلق وبقى بالحق ) (2) .
وهذا الفناء لا يعتبر مسلكا سلبيا أو انمحاء مطلقا للذات الإنسانية فالصوفى لا يصل إلى النوع الثانى إلا إذا اجتاز النوع الأول من خلال المقامات السابقة ومن ثم نبه القشيرى إلى أن الفناء الصوفى لا يؤدى إلى الحلول أو إلى الاتحاد بالذات الإلهية ، فإذا قيل : فنى عن نفسه وعن الخلق فنفسه موجودة والخلق موجودون ولكنه لا علم له بهم ولا به ولا إحساس ولا خبر فتكون نفسه موجودة والخلق موجودين ولكنه غافل عن نفسه وعن الخلق أجمعين (3) .
ــــــــــــــــــــــــ
1- الرسالة ص 229 بتصرف .
2- السابق ص 229 بتصرف ، وانظر التعرف ص 152 ، 152 .
3- السابق حـ 1 ص 330 بتصرف .
وهذا وإن كان يحدث للبعض إذا دخل على سلطان من أهل الدنيا فيصيبه الذهول وتهيمن عليه الدهشة حتى يغفل عن مجلسه وهيئته ، وإذا سئل بعد خروجه عن شئ كان فى موقفه لما تمكن من الجواب ، فإذا كان هذا تغافل مخلوق عن أحواله عند لقاء مخلوق ، فما الظن لو أنه فنى عن كل شئ فجأة إذا كاشفه شهود الحق حال الذكر والطاعة (1) .
ويرى سهل بن عبدالله التسترى أن الفناء نوع من الاتصال الدائم بالله لإحساس العبد بمعية الله فى كل وقت أخذا من قوله صلى الله عليه وسلم فى الحديث الصحيح : ( أن تعبد الله كأنك تراه ) (2) .
فالأقوال والأفعال يحددهما الشعور المتصل بمراقبة الله فى كل آن ــــــــــــــــــــــــ
1- السابق حـ 1ص 330 بتصرف .(1/272)
2-الحديث أخرجه مسلم فى كتاب الإيمان ، باب بيان الإيمان والإسلام والإحسان برقم (8) وأبو داود فى كتاب السنة ، باب فى القدر برقم (4695) وأخرجه الترمذى فى كتاب الإيمان ، باب ما جاء فى وصف جبريل للنبى الإسلام والإيمان برقم (2610) والنسانئ حـ 8 ص 97 وابن ماجه فى المقدمة ، باب فى الإيمان برقم (63) وابن حبان فى كتاب الإيمان ، باب فرض الإيمان برقم (168) وأحمد فى المسند حـ 1 ص52 .
وانظر التصوف طريقا وتجربة ومذهبا ص 311 .
من خلال التزامه بالعبودية على وجهها الأمثل ، يقول سهل بن عبد الله : ( من لم يكن يعبد الله كأنه يراه أو علم العبد بأن الله يراه فهو غافل ) (1) .
ومن ثم فإن العلاقة بين الفانى وبين ربه هى علاقة مشاهدة ومراقبة تدفعه إلى مزيد من الحرية والانضباط فى العبودية دون خلط بين العبد وربه .
ومن صفات الفانى عند سهل بن عبد الله ، أنه عبد لا يغفل عن ذكر حبيبه آنس نفسه بأن الله مشاهده فوقع بصره على مقامه من إيمانه حتى استمكن مقامه من القرب منه ، وأوصل أذنه بالاستماع إليه وصير لسانه رطبا من ذكره ، وطلب مرضاته وأقام عروقه وعصبه وأعضاءه وعظامه وجميع جوارحه وحركاته وسكونه بطاعتة حتى أدركه المدد بالمزيد من ربه فصار قلبه فى رحمة الله كما قال عز وجل :
{ إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون } (2) .
فاستغراق العبد من ذكر محبوبه يجعله منصرفا عن كل لفظ يردده اللسان إلى حضور قلبى ينسى الذاكر فيه نفسه ، ويتأنس بحضوره مع
ــــــــــــــــــــــــ
1- السابق ص 312 .
2- المؤمنون / 57 .
وانظر تفسير التسترى ص 10 .
ربه فيفنى عن نفسه ببقائه مع ربه ، يقول سهل : ( حياة الروح بالذكر ، وحياة الذكر بالذاكر ، وحياة الذاكر بالمذكور ) (1) .
ويلاحظ أن كلام التسترى فى الفناء يدور فى فلك المحبة واقتطاف الثمرة الأولى للحرية من جهة واتباع السنة والارتقاء بالنفس البشرية إلى مكانها الصحيح من جهة أخرى .(1/273)
فعند التسترى أن من اقتدى بالنبى صلى الله عليه وسلم لم يكن فى قلبه اختيار لشئ من الأشياء سوى ما أحب الله ورسوله (2) .
وإذا كان الفناء عند التسترى مرتبطا بالمحبة وأثره قائم عليها ، يظهر ذلك من أفعال المحب ، وأثر المحبة على الجوارح فى اتباع أوامر المحبوب واجتناب نواهيه بحيث تتحد رغبة المحب مع رغبة المحبوب ، فإن الفناء عند الجنيد يأخذ طريقا آخر حيث يرتبط الفناء بالتوحيد بصورة تتسق فى النهاية مع مفهوم التسترى .
فالفناء الذى دعا إليه لا علاقة له بفناء الحلول والاتحاد ، وإنما يحتفظ بالصحو ويرفض الشطح ويؤثر البقاء (3) .
وذلك لأنه دعا فى التوحيد إلى تطابق الإرادات ، إردة العبد وفنائه
ــــــــــــــــــــــــ
1- حلية الأولياء حـ 10 ص 190 مرآة الجنان حـ 2 ص 148 .
2- من قضايا التصوف فى ضوء الكتاب والسنة ص 19 .
3- الرسالة حـ 1 ص 584 .
مع إرداة الله الدينية الشرعية ، وذلك يدخل تحت إرادة الله الكونية وهو نهاية التوحيد الحقيقى الذى عبر عنه بقوله :
( أن يكون العبد شبحا بين يدى الله سبحانه وتعالى ، تجرى عليه تصاريف تدبيره فى مجارى أحكام قدرته ، فى لجج بحار توحيده بالفناء عن نفسه وعن دعوى الخلق له ، وعن استجابته بحقائق وجوده ووحدانيته فى حقيقة قربه بذهاب حسه وحركته لقيام الحق سبحانه فيما أراد منه ) (1) .
وهو يشير بذلك إلى الحديث القدسى :
( فإذا أحببته كنت سمعه الذى يسمع به ، وبصره الذى يبصر به ويده التى يبطش بها ، ورجله التى يمشى عليها ) (2) .
وإذا أضفنا لقوله السابق قوله : ( التوحيد هو إفراد القديم عن الحدث ) (3) .
علمنا بأنه إنما يريد التحرر من رق الأغيار وشهودها لاستغراق القلب فى الذكر والمداومة عليه بغية الوصول إلى نهاية العبودية والتحقق .
ــــــــــــــــــــــــ
1- الرسالة حـ 1 ص 584 .
2- سبق تخريجه .
3- انظر ص 87 .
وقد بين ذلك باستفاضة فى كتابه الفناء (1) .(1/274)
ومن ثم فهو لا يعنى إسقاط الإرادة الدينية لرؤيتة للإرادة الكونية وإنما يعنى تمام القيام بالإرادة الدينية التى يخضع من خلالها لله كما تخضع سائر الأشياء لإرادته الكونية .
وقد دافع الكلاباذى والسراج الطوسى عن مفهوم الصوفية للفناء حتى القرن الرابع الهجرى ، وردوا أى خروج عن الحد السابق ، بل أعلنوا براءتهم ممن قال بفناء الحلول والاتحاد ، ووصفوه بالجهل والضلال (2) .
وتجدر الإشارة إلى حقيقة هامة فى فهم السبب الذى أدى إلى القول بالحلول أو الاتحاد ، ففى مرحلة شرح التجربة التى خاضها الصوفى فى آدائه العبودية الله والتعبير عنها كنظرية مطعمة بالعناصر الفلسفية ، شاع الاضطراب والخلط والتعقيد مما نجم عنه أخطاء وانحرافات فكرية جمة .
فمثلا كان يقصد بالصفات الإنسانية التى يجب أن تقتلع أو تهجر ويجب على الصوفى أن يتحرر منها ويفنى عنها ، تلك الصفات التى تحول بين الإنسان وكماله الروحى ، تلك الصفات التى تشد الإنسان ــــــــــــــــــــــــ
1- كتاب الفناء للجنيد ص 350 ضمن نصوص صوفية إسلامية نشرها د. كمال جعفر فى كتابه التصوف طريقة وتجربة ومذهبا .
2- التعرف ص 151 واللمع ص 541 : 544 .
إلى الرغبة والشهوة والطمع ، وتجعله يخلد إلى الأرض ويتبع هواه ، وإلى هذا الحد فالهدف قرآنى محض لا اعتراض عليه ، ولكن سرعان ما فهم المقصود بالصفات الإنسانية هنا الطبيعة البشرية ، ومن ثم فقد ادعى بعضهم أن بالإمكان الانسلاخ من الطبيعة البشرية والتحقق بالصفات الإلهية ، وقد يؤدى هذا إلى تأليه الإنسان وجعله إلها آخر (1) .
ويفرد السراج الطوسى بابا فى ذكر من غلط فى فناء البشرية بين فيه أن الذين غلطوا فى فناء البشرية سمعوا كلام المتحققين فى الفناء فظنوا أنه فناء البشرية ، فوقعوا فى الوسوسة ، فمنهم من ترك الطعام والشراب وتوهم أن البشرية هى القالب والجثة إذا ضعفت زالت بشريتها ، فيجوز أن يكون موصوفا بصفات الإلهية (2) .(1/275)
يقول السراج : ( ولم تحس هذه الفرقة الجاهلة الضالة أن تفرق بين البشرية وأخلاق البشرية ، لأن البشرية لا تزول عن البشر كما أن السواد لا يزول عن الأسود ولا لون البياض عن الأبيض ، وأخلاق البشرية تتبدل وتتغير بما يرد عليها من أنوار الحقائق ، وصفات البشرية ليست هى عين البشرية ) (3) .
ــــــــــــــــــــــــ
1- التصوف طريقا وتجربة ومذهبا ص 231 .
2- اللمع ص 543 .
3- السابق ص 543 .
وتعد هذه النقطة من النقاط الهامة التى تفصل بين معنى إرادة الحرية وتنقية الأوصاف البشرية المذمومة بالفناء عنها وبين الجبرية وانعدام الإرادة الإنسانية أو انمحاء الطبيعة البشرية .
[2] - ثانيها : الجمع والفرق :
فالجمع فى تعريف أبى على الدقاق ما سلب عنك والفرق ما نسب إليك (1) ومعنى ذلك أن ما يكون كسبا للعبد من إقامة العبودية وما يليق بأحوال البشرية فهو فرق ، وما يكون من قبل الحق من إبداء معان وإسداء لطف وإحسان فهو جمع ، فمن أشهده الحق سبحانه وتعالى أفعاله من طاعاته وانتقاء مخالفاته فهو عبد بوصف التفرقة ، ومن أشهده الحق ما يوليه من أفعال فهو عبد بشاهد الجمع ، فإثبات الخلق من باب التفرقة ، وإثبات الحق نعت الجمع ، ولا بد للعبد من الجمع والفرق ، فإن من لا تفرقة له لا عبودية له ومن لا جمع له لا معرفة له (2) .
ويطبق القشيرى فكرة الجمع والفرق فى تفسير قوله تعالى : { إياك نعبد وإياك نستعين } حيث يقول : ( إياك نعبد إشارة إلى الفرق وإياك نستعين إشارة إلى الجمع ) (3) .
ــــــــــــــــــــــــ
1- الرسالة حـ 1 ص 218 . 2- السابق حـ 1 ص 222 بتصرف .
3- لطائف الإشارات ص 226 .
فالفرق إبراز لتوحيد العبادة على وجه الكمال ، والجمع إبراز لتوحيد الربوبية على وجه الكمال ، يقول القشيرى :(1/276)
( فالفرق صفة العبودية والجمع نعت الربوبية ، وكل فرق لم يكن مضمنا بجمع وكل جمع لم يكن فى صفة العبد مؤيدا بفرق فصاحبه غير سديد الوتيرة ، وإن الحق سبحانه وتعالى يكل الأغيار إلى ظنونهم فيتيهون فى أودية الحسبان ويتوهمون أنهم منفردون بإجراء ما منهم وذلك منه سبحانه وتعالى مكر بهم ) (1) .
وهو يغمز الجبرية والقدرية ويدعوا إلى السلفية وإلى إثبات الحرية الإنسانية ، وتعويل المسئولية على أفعال الإنسان واعتقاد خلقها لله من جانب آخر ، وقد تقدم جواب سهل بن عبد الله لما سئل عن الجمع والفرق فقيل له :
ما تقول فى رجل يقول : أنا مثل الباب لا أتحرك إلا أن يحركونى ؟
فقال سهل : هذا لا يقوله إلا أحد رجلين : إما رجل صديق وإما رجل زنديق (2) .
ويذكر السراج الطوسى أن المعنى فيما قال سهل رحمه الله أن الصديق يرى قوام الأشياء بالله ويرى كل شئ من الله تعالى ويرجع فى ــــــــــــــــــــــــ
1- السابق ص 226 .
2- اللمع ص 549 .
كل شئ إلى الله عز وجل ، مع معرفة ما يحتاج إليه من الأصول والفروع والحقوق والحظوظ والمعرفة بين الحق والباطل ومتابعة الأمر والنهى وحسن الطاعات والقيام بشرط الأدب وسلوك المنهج على حد الاستقامة .
وأما معنى قول الزنديق بهذه المقالة فإنما يقول ذلك حتى لا يزجره شئ عن ركوب المعاصى ، وأنه أداه جهله إلى الجسارة والاعتداء بإضافة أفعاله وجميع حركاته إلى الله تعالى ، حتى زال اللائمة عن نفسه فى ركوب المآثم بغواية الشيطان وتسويله وتأويله الباطل (1) .(1/277)
ولذلك عاب السراج الطوسى على جماعة غلطوا فى عين الجمع فلم يضيفوا إلى الخلق ما أضاف الله تعالى إليهم ، ولم يصفوا أنفسهم بالحركة فيما تحركوا فيه وظنوا أن ذلك منهم احتراز حتى لا يكون مع الله شئ سوى الله عز وجل فأداهم ذلك إلى الخروج من الملة وترك حدود الشريعة لقولهم إنهم مجبورون على حركاتهم حتى أسقطوا اللائمة عن أنفسهم عند مجاوزة الحدود ومخالفة الاتباع ومنهم من أخرجه ذلك إلى الجسارة على التعدى والبطالة وطمعته نفسه على أنه معذور فيما هو عليه مجبور ، وإنما غلط هؤلاء لقلة معرفتهم بالأصول والفروع ، ولم يعرفوا الجمع والتفرقة ، فأضافوا إلى الأصل ما هو ــــــــــــــــــــــــ
1- السابق ص 549 بتصرف .
مضاف إلى الفرع ، وأضافوا إلى الجمع ما هو مضاف إلى التفرقة فلم يحسنوا وضع الأشياء فى مواضعها فهلكوا (1) .
وهذا الاتجاه الصوفى يكشف عن تأثير مصطلح الحرية فى التوفيق بين القدر واتباع الشرع ، وفى حل المشكلات التى استمرت بين طوائف المتكلمين وأثقلت المسلمين دون جدوى أو طائل .
[3] - ثالثها : الغيبة والحضور :
حالان متقابلان أرقى نوعا ما مما سبق ، فالغيبة هى غيبة القلب عن علم ما يجرى من أحوال الخلق ، لاشتغال الحس بما ورد عليه ، ثم قد يغيب إحساسه بنفسه وغيره بوادر من تذكر ثواب أو تفكر عقاب والحضور قد يكون حاضرا بالحق لأنه إذا غاب عن الخلق حضر بالحق على معنى أنه يكون كأنه حاضر ، وذلك لاستيلاء ذكر الحق على قلبه فهو حاضر بقلبه بين يدى ربه .
وعلى حسب غيبته عن الخلق يكون حضوره بالحق ، فإن غاب بالكلية كان الحضور على حسب الغيبة ويكون مكاشفا فى حضوره على حسب رتبته بمعان يخصه الحق سبحانه بها (2) .
ــــــــــــــــــــــــ
1- السابق ص 549 ، 550 بتصرف .
2- الرسالة حـ 1 ص241 .
[4] - رابعها : المحو والإثبات
وهما على نوعين :
[1- محو وإثبات يتعلقان بالمقامات :(1/278)
فالمحو رفع أوصاف العادة ، والإثبات إقامة أحكام العبادة فمن نفى عن أحواله الخصال الذميمة وأتى بدلها بالأفعال والأحوال الحميدة فهو صاحب محو وإثبات ، وتدخل ضمن الخصال الذميمة الزلة فى الظاهر والغفلة فى الضمائر والعلة فى السرائر ، وعلاجها باثبات المعاملات والمنازلات والمواصلات فالمحو والإثبات هنا لهما صبغة أخلاقية مكتسبه للعبد .
[2 - محو وإثبات يتعلقان بالأحوال :
فحقيقة المحو والإثبات فى الأحوال صادرة عن القدرة ، فالمحو ما ستره الحق ونفاه ، الإثبات ما أظهره الحق وأبداه ، والمحو والإثبات مقصورات على المشيئة (1) قال أبو الحسين النورى : ( الخاص والعام فى قميص العبودية إلا من يكون منهم أرفع ، جذبهم الحق ومحاهم عن نفوسهم فى حركاتهم وأثبتهم عند نفسه بنظرهم الى قيام الله لهم فى أفعالهم وحركاتهم ) (2) .
ــــــــــــــــــــــــ
1- السابق حـ ص 242 .
2- اللمع ص 431 .
ومحو الحق لكل أحد وإثباته على ما يليق بحاله (1) .
[5] - خامسها : التلوين والتمكين
وهما حالان يلقيان الضوء على أرباب المرحلة الختامية من مراحل السفر فى التجربة الإيمانية لأوائل الصوفية ، فالتلوين صفة أرباب الأحوال والتمكين صفة أهل الحقائق ، فما دام العبد فى الطريق فهو صاحب تلوين ، لأنه يرتقى من حال إلى حال وينتقل من وصف إلى وصف ، ويخرج إلى مرحلة أخرى ، فإذا وصل تمكن ، وصاحب التلوين أبدا فى الزيادة ، وصاحب التمكن وصل ثم اتصل ، وأمارة أنه اتصل ، أنه بالكلية عن كليته بطل (2) .
يقول القشيرى :
( العبد مادام فى الترقى ، فصاحب تلوين يصح فى نعته الزيادة فى الأحوال والنقصان منها ، فإذا وصل إلىالحق بانخناس أحكام البشرية مكنه الحق سبحانه وتعالى بألا يرده إلى معلولات النفس فهو متمكن فى حاله على حسب حاله واستحقاقه ) (3) .
فالتمكين يدل على مقام السالك الروحانى فى أفق الكمال وأعلى ــــــــــــــــــــــــ
1- الرسالة حـ 1 ص 242 .(1/279)
2- السابق حـ1 ص 252 .
3- السابق حـ ص 255 .
الدرجات ، فمن كانوا فى مقاماتهم وأحوالهم أمكنهم الانتقال من مقام إلى آخر ومن حال إلى آخر ، لكن صاحب التمكين ثابت لا ينتقل فالمقام رتبة أهل البداية ، والتمكين هو سكن أهل النهاية (1) .
يقول الهجويرى مشبها حال التمكين وما قبله : ( الماء يجرى فى مجرى النهر حتى يصل إلى المحيط ، فإذا وصل إلى المحيط وقف تياره وتغير طعمه ، فمن طلب الماء لشربه ابتعد عنه ، أما فى طلب اللؤلؤ فإنه يجاهد نفسه ويضع حبل الطلب فى رأسه ويغوص تحت الماء برأسه مجدا فى نيل اللؤلؤ فإما يجده وإما يفقد نفسه العزيزة ) (2) .
ففى التمكين رفع التلوين (3) لأن العبد انتقل إلى درجة النهاية التى يتلقى فيها الأفضال الإلهية التى لا نهاية لها (4) .
* بين الفناء والتحقق :
يوضح الهجويرى موقع مرحلة الفناء بالنسبة للمراحل التى تسبقه والتى تليه فى السلسلة المتدرجة للتصوف فيقول : ( الفناء درجة كمال يبلغها العارفون الذين تحرروا من آلام المجاهدات وخلصوا من سجن ــــــــــــــــــــــــ
1- كشف المحجوب ص 450 بتصرف .
2- السابق ص 450 .
3- السابق ص 451 .
4- الرسالة حـ 1 ص 255 .
المقامات والأحوال وانتهى بهم الطلب إلى الكشف والحقيقة فرأوا كل مرئى وسمعوا كل مسموع وأدركوا كل أسرار القلب وأعرضوا عن كل شئ وفنوا عن مقصدهم ، فثبت فى هذا المقصد كل مقاصدهم ) حتى ظهر فيهم قوله : ( كنت له سمعا وكنت له بصرا ) (1) .
فالفناء بدايته نهاية طريق الحب ويزادد بالأحوال السابقة قوة حتى تذهب المحدثات فى شهود العبد وتغيب فى أفق العدم كما كانت قبل أن توجد ويبقى الحق تعالى كما لم يزل (2) .(1/280)
وقد نبه الهجويرى إلى الاحتفاظ بالكينونة الذاتية للإنسان دون تلاشى أو اضمحلال فقال : ( إذا قالوا إن إرادة العبد قد فنيت فى إرادة الله فليس معنى ذلك فناء وجود العبد فى وجود الله ، تماما كما يذوب الحديد فى النار ، لأن النار قد تؤثر فى صفات الحديد ولكنها لا تمس جوهره أو تغيره ) (3) .
فهو ينفى عن الفناء كل ما من شأنه أن يمس الذات الإلهية من قريب أو بعيد ، فالفناء فناء شهودى ذوقى وليس فيه أثر لتداخل البشرية ــــــــــــــــــــــــ
1- كشف المحجوب ص 243 .
2- مدارج السالكين حـ 1 ص 80 .
3- كشف المحجوب ص 243 .
فى الذات الإلهية على أية صورة من الصور ، ونهاية الفناء تؤدى إلى التحقق ، والتحقق هو المرحلة النهائية فى الحياة الصوفية ، وما كانت المرحلتان السابقتان إلا مقدمتين لهذا التحقيق .
* فالمرحلة الأولى :
مرحلة المقامات التى تنتهى بمقام الحرية ، حيث يبدأ الصوفى اجتياز الطريق بالرياضيات والمجاهدات وتصفية النفس من كدورتها ومحو الأوصاف الذميمة عنها حتى يتحرر من رقها .
* المرحلة الثانية :
مرحلة الأحوال والتذوق حيث يجنى منها الصوفى ثمرة المرحلة الأولى فيستشعر حلاوة الإيمان من خلال الأذواق والمواجيد التى تظهر فى طريق الحب ثم طريق الفناء .
وبعد ما تهيأ الأمر إلى أن خضعت حياته الروحية بأسرها لحقيقة واحدة استوعبته وأخضعته لسلطانها قلبا ولسانا وجوارحا أصبح مستحقا لتلقى المعارف والحقائق التى ينور الله بها قلبه ، فيرى بنور الله ويتحرك فى ولايته .
* شكل تلخيصى للثمرة الثانية من ثمرات الحرية
[ طريق الفناء ]
... ... ... ... [6] ـــــــــــــــ الحقيقة والشريعة
... ... [5] ـــــــــــــــ التلوين والتمكين
... ... [4] ـــــــــــــــ المحو والإثبات
... [3] ـــــــــــــــ الغيبة والحضور
... [2] ـــــــــــــــ الجمع والفرق
[1] ـــــــــــــــ الفناء والبقاء
ــــــــــــــ ... ... ... ... ... ...(1/281)
[ بداية الطريق ] ... [ نهاية الفناء بداية الحقيقة ]
* الحقيقة والشريعة :
تتضح ملامح الشخصية النموذجية التى يسعى أوائل الصوفية لتحقيقها من خلال الترابط بين الحقيقة والشريعة ، فالشريعة أمر بالتزام العبودية والحقيقة مشاهدة الربوبية ، والشريعة أن تعبده والحقيقة أن تشهده ، والشريعة قيام بما أمر والحقيقة شهود لما قصى وقدر (1) .
ــــــــــــــــــــــــ
1- الرسالة حـ 1 ص 261 .
وليس معنى هذا أن الشريعة فى جانب والحقيقة فى جانب آخر ولكنهما يلتقيان ويرتبطان ويترتب أحدهما على الآخر ، فكلاهما واجب بأمر الله ، فلن يصل العبد إلى مرضاة الله إلا إذا سلم بنوعين من تدبير الله فى ملكه ، وفيهما ملتقى سعى أوائل الصوفية :
1- أن يسلم بتدبيره الشرعى .
2 - أن يسلم بتدبيره الكونى .
ففى تدبيره الشرعى كانت محاولات الأوائل فى نفى تدبيرهم إلى تدبير الله ، ومن هنا يظهر الكمال فى تحقيق الحرية بإسقاط التدبير واتباع الشريعة .
وفى تدبيره الكونى يظهر الرضا بقضاء الله وقدره ، ليشاهدوا الحقيقة الربانية فى فهم العلة الغائية من خلقه وخلق العالم بأسره وليدرك إبداع الله فى صنعه فى ترتيب الابتلاء وتدافعه وتلاحقه على العبد .
يقول القشيرى : ( كل شريعة غير مؤيدة بالحقيقة فغير مقبول كل حقيقة غير مقيدة بالشريعة فغير محصول ، والشريعة جاءت بتكليف الخلق والحقيقة إنباء عن تصريف الحق ، وإذا علم أن الشريعة حقيقة من حيث أنها وجبت بأمره ، فالحقيقة أيضا شريعة من حيث أن المعارف به سبحانه وتعالى وجبت بأمره ) (1) .
ــــــــــــــــــــــــ
1- السابق حـ 1 ص 261 .
فالحقيقة والشريعة ركنان أساسيان فى الحياة عند أوائل الصوفية يدوران على فلك الحرية ، حرية عقائدية فى فهمهم لخلقهم وتركيبهم وإبداعهم أحرارا بوصف الحرية ، وحرية عملية تطبيقية فى التزامهم بمنهج العبودية .(1/282)
فالأمر إفراد لله وتوحيد له فى العبودية ، وإفراد لله وتوحيد له فى الربوبية والتزاما بقوله تعالى : { إياك نعبد وإياك نستعين } فإياك نعبد حفظ للشريعة وإياك نستعين إقرار بالحقيقة (1) .
وإذا كانت الحقيقة الصوفية مبنية على المشاهدة والمعرفة ، والمشاهدة فيها أحوال ومعان صادقة ، والمعرفة فيها صفة من عرف الحق سبحانه وتعالى بأسمائه وصفاته وصدق فى معاملاته ، فالأمر كله لا يخرج عن الغاية السابقة فإذا صار العبد من الخلق أجنبيا ، ومن آفات النفس بريا ومن المساكنات والملاحظات نقيا ، وصار ملهما من قبل الحق سبحانه وتعالى بمعرفة أسراره فيما يجريه من تصاريف أقداره فإنه يسمى عند ذلك عارفا ، وتسمى حالته معرفة (2) .
وإلى هنا فيما أعتقد ينكشف مفهوم القدر والحرية عند أوائل الصوفية فإن وفقت فالحمد لله وإن أخطأت فأستغفر الله لذنبى وأدعو الله أن يهئ الأسباب لخدمة الكتاب والسنة .
ــــــــــــــــــــــــ
1- السابق حـ 1 ص 261 . 2- السابق حـ 2 ص 600 .
الخاتمة
قائمة المراجع
فهرس الموضوعات
*** الخاتمة ***
بعد عرض مفهوم القدر والحرية عند أوائل الصوفية سواء كان من الناحية الاعتقادية أو الناحية العملية السلوكية ، فإن البحث جاء فى مقدمة وثلاثة أبواب ، كل باب اشتمل على فصلين ، ففى المقدمة بيان سبب اختيار البحث وأهمية الموضوع ثم منهج البحث وخطته .
وفى الباب الأول تعرفنا على مفهوم الحرية وواقع أوائل الصوفية من خلال فصلين :
أولهما جاء فيه نسبة التصوف ومعناه ودراسة العوامل التى أسهمت فى ظهوره ثم موضوع التصوف وأهم قضاياه .
وثانيهما جاء فيه معنى الحرية لغة وشرعا ثم الحرية فى تاريخ الفكرالإسلامى وكيف تكون منهجا للحياة الإسلامية الفاضلة فى شتى المجالات 0
وفى الباب الثانى تعرفنا على الحرية من الجانب الاعتقادى عند الصوفية من خلال مفهوم القضاء والقدر وعلاقته بالحرية ، وقد جاء ذلك فى فصلين :(1/283)
أولهما عن موقف أوائل الصوفية من صفات الله وعلاقته بموضوع القدر والحرية وجاء فيه منهج أوائل الصوفية فى فهم المسائل الاعتقادية وموقفهم من صفات الذات وصفات الفعل وكيف كان إفراد الله بالفاعلية من خلال فهمهم لمراتب الإيمان بالقدر هو أساس العقيدة عندهم .
وثانيهما عن الحرية وأصالتها فى الذات الإنسانية عند أوائل الصوفية من خلال ذكر مفهوم الذات الإنسانية عندهم ، وكيف أن الإرادة الحرة أصيلة فى الإنسان ؟ ثم دوافع الإرادة وموضوع الاختيار البشرى ومجاله عندهم ، وكيف يفسرون العلاقة بين المشيئة الإلهية المطلقة والإرادة الإنسانية الحادثة ؟
وفى الباب الثالث تعرفنا على الحرية من الجانب العملى السلوكى من خلال فصلين أيضا :
أولهما عن الاستطاعة البشرية والفاعلية الإلهية ، وقد جاء فيه أن الاستطاعة من مقومات الحرية عند أوائل الصوفية ، وكيف فسروا علاقتها بالعلل والأسباب ؟ وكيف تكون العلاقة بين الفاعلية الإلهية والفاعلية الانسانية ؟ وما هى العلة من خلق الأواسط والأسباب ؟
وفى الفصل الثانى جاء الحديث عن الحرية ومنهج العبودية من خلال اعتبارهم للعقل وما يحصله من علم ضرورة لقيام معنى الحرية ، ثم بيان الحرية فى الاصطلاح الخاص الذى قرنوه وكيف أن المقامات الصوفية فيها إرادة الحرية والأحوال الصوفية فيها ثمار الحرية ؟
* نتائج البحث وأهم التوصيات :
*أولا : نتائج البحث
يمكن تقسيم النتائج التى توصلت إليها إلى نوعين :
* النوع الأول : نتائج على مستوى موضوع البحث ، فمن خلال ما ورد فى أبواب الرسالة وفصولها وما يتعلق بموضوع الحرية يمكن أن نصل إلى النتائج الآتية :(1/284)
[1] - اتفاق المنهج الصوفى لأوائل الصوفية مع المنهج السلفى فى دراسة موضوعات العقيدة ، فكلاهما أعطى نصوص الوحى الأولوية والصدارة فى تقرير العقيدة ، وجعلوا العقل فى منزلة المتلقى الذى يستوعب ما جاء فى النقل دون اعتراض ، لأنهم أيقنوا أن الله الذى خلق العقل من المحال أن يوحى إليه ما يصادمه أو يعارضه ، كما أنهم جعلوا العقل حارسا على النقل يسير معه فى اتجاه واحد ، فلم يمنعوا إعمال العقل فى خدمة الكتاب والسنة ، ولكنهم منعوا أن يستخدم النقل للعقل مطية يوجهها هوى الإنسان كما فعل كثير من المتكلمين والفلاسفة .
[2] - أن أوائل الصوفية أثبتوا القدم فى صفات الأفعال كما أثبتوا القدم فى صفات الذات ولم يفرقوا من حيث وحدة المنهج بين صفة هى صفة ذات أو صفة هى صفة فعل ، فالقول فى صفات الذات كالقول فى صفات الأفعال ، ولا يلزم من ذلك القول بقدم العالم أو القول بأبدية المفعولات ، فالمقاييس العقلية التى تخضع لها المخلوقات لا تحكم الخالق بحال من الأحوال .
[3] - أنهم أثبتوا معية الله لخلقه فى مجال الصفات وإن شذ بعضهم وقال بالحلول والاتحاد ، إلا أن أغلب أوائل الصوفية قبحوا هذا القول وفندوه بالردود المختلفة وبيان الحق .
[4] - أنهم أفردوا الله بالخلق والفعل وجعلوا ذلك أساسا لعقيدة التوحيد وركيزة للإيمان بقضاء الله وقدره ، ومن ثم أفردوا الله بخلق أفعال العباد سواء كانت طاعة أو معصية ، كما أنهم قالوا بالتدرج فى ظهور الأشياء من كونها معلومة فى علم الله فى الأزل إلى تدوينها فى اللوح المحفوظ ثم انتقالها إلى القدر فى الخلق بالمشيئة والقضاء .
[5] - أنهم أثبتوا الاختيار الإنسانى كمقوم أول من مقومات الحرية وذلك من خلال وجود الإرادة الحرة وأصالتها فى الإنسان ، حيث تعمل فى مجال محدد بين طريقين معروضين لحظة الاختيار أحدهما يمثل طريق الخير والآخر يمثل طريق الشر .(1/285)
[6] - أنهم آمنوا بوجود زوجين متقابلين من الخواطر والبواعث الداعية إلى حث الإرادة وحضها على الحركة والعمل ، وأن هذه الخواطر مصدرها وجود نازعين نفسيين متقابلين ومتضادين ، وهما النفس فى مقابل الروح ، ثم وجود هاتفين بلمتين ودعوتين وهما الملك فى مقابل الشيطان ، حيث يتشكل حديث النفس من متابعة العقل لهذه الأركان ، كما أنهم فرقوا بين حديث النفس وكسب الإرادة بالنية وعقد القلب ، كل ذلك إثباتا لحرية الإنسان ، وتوقيعا للمسؤلية على أفعاله .
[7] - أن أغلب أوائل الصوفية جعلوا موضوع الاختيار البشرى الجنة فى مقابل النار أو تفضيل الآخرة على الدنيا ، وجعلوا مجال الاختيار محصورا فى اتباع السنة والالتزام بأحكام التكليف ، وأن بعضهم جعل موضوع الاختيار البشرى ذات الله فى مقابل التخلى عن الدنيا والآخرة وأن تكون العبادة مقطوعة عن العوض وقد خطاهم كثير من أقرانهم .
[8] - أنهم فرقوا بين مشيئة الله وإرادته ، فالمشيئة عندهم لا تكون إلا كونية ، أما الإرادة فهى على وجهين وجه كونى ووجه تشريعى فالعلاقة بين الوجه الكونى والأفعال الإنسانية علاقة إيجاد وإنفاذ فلا تتخلف فإذا أراد الله شيئا أن يقول له كن فيكون ، أما العلاقة بين الوجه التشريعى والإرادة الإنسانية فهى علاقة تكليف وابتلاء فقد تتخلف فالإرادة الكونية والإرادة التشريعية تجتمعان فى المؤمن وتفترقان فى الكافر .
[9] - أن أوائل الصوفية أثبتوا استطاعة الإنسان الذاتية على تنفيذ الفعل المختار وجعلوا ذلك من مقومات الحرية وأنها تكون مع الفعل لا تتقدمه ولا تتأخر عنه ، وأن الله سخر الأشياء للإنسان بحيث تسمح بقبول فعل الإنسان وتأثيره فيها واستعلائه عليها ، ليتحقق معنى الابتلاء باستخلافه فى الأرض .(1/286)
[10] - أن عقيدة الصوفية الأوائل فى التوكل تنفى عنهم تهمة التواكل والاعتماد على الجبرية الإلهية ، فهم نظروا للأسباب على أنها أدوات بيد القدرة لتنفيذ مراد الله ، فليس لها فاعلية مستقلة عن فعل الله ولكن الله نظمها لإبراز الحكمة من خلق السماوات والأرض فجعل فى الأشياء أسباب حق وأواسط صدق تحتجب من خلالها صفاته الفاعله عن الخلق ليبتليهم .
فالجوارح تتوجه عندهم إلى الأسباب والقلب يتوجه إلى الله على الدوام راضيا بما سيمنحه الله له من خزائن القدرة ، ومن ثم فإن نفوسهم تسكن إلى الله قبل كل شئ سواء كان الرزق بأسباب أو بغير أسباب ، وهذا المفهوم يعد بحق معبرا عن عقيدة السلف الصالح المبنية على القرآن والسنة فى إظهار دقائق التوحيد ونفى الشرك الجلى والخفى فى السكون إلى الأسباب أو نسبة الإيجاد والامداد إليها .
وكما أنهم أثبتوا وجهين لإرادة الله كذلك أثبتوا وجهين للأفعال البشرية ، وجه الفعل فيه مخلوق لله ، ووجه الفعل فيه مكتسب للعبد يمثل سلوكا خلقيا له ، فبالوجه الأول يظهر معنى كونهم مربوبين لله ، وبالوجه الثانى يظهر معنى كونهم متعبدين بمنهج الله .
وكل ذلك موافقة لقوله تعالى : ( فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى ) (1) .
[12] - أنهم أثبتوا العلم كمقوم ثالث للحرية ، فالإنسان معذور بجهله عندهم حتى يعلم الأحكام ويعقل مدلول الكلام ، وفى إيمانهم بتعليم الله لآدم الأسماء دعوة إلى العلم والبحث والنظر واستخدام العقول لخدمة دين الله وبما يعود على العبد من الوصول إلى مرضاة الله .(1/287)
[13] - أن أوائل الصوفية لهم السبق فى إنشاء اصطلاح للحرية يغاير المفاهيم الفلسفية والكلامية ويحمل فى طياته تكامل المذهب فى إثبات الحرية بالعبودية لله والتحرر مما سواه ، سواءا كانت الحرية فى القلب أو اللسان أو الجوارح ، فمقدار الحرية فى الإنسان يتحدد بمقدار العبودية لله والخروج من عبودية ما سواه .
[14] - أن أوائل الصوفية رسموا طريقا للحرية من خلال المقامات
ــــــــــــــــــــــــ
1- الليل / 5 : 10 .
والمجاهدات التى تزيد الإيمان شيئا فشيئا حتى يصل إلى الكمال فيه ويبدأ الطريق بمقام التوبة ثم الورع والزهد والصبر والتوكل والرضا وينتهى بالحرية ، فالحرية عندهم آخر مقام للعارف ، ثم جعلوا لحلاوة الإيمان مذاقا يتمثل فى طريق الحب وطريق الفناء إلى أن يصل العارف إلى التحقق ، وكل ذلك ليس نحتا من أذهانهم لخدمة قضايا الإيمان وفقط ولكن تعبيرا عن وجدانهم وتجربتهم التى خاضوها ، فأسفرت عن هذه المعانى والحقائق ، وعلى ذلك فإنهم وفقوا إلى التخلص من المتناقضات واللوازم فى العلاقة التى تربط بين الله وبين الإنسان من ناحية وبين الله والعالم من ناحية أخرى بحيث يمكن القول إن مذهب أوائل الصوفية يعبر بصدق عن حقيقة هذه العلاقة ، فهو لا يختلف إلى حد ما عن منهج الكتاب والسنة فى عرض الموضوع ، فالعلاقة بين الله وبين الإنسان هى علاقة عبودية يؤديها الإنسان لربه من خلال معنى الابتلاء فى الأرض والاستخلاف فيها ، والله سبحانه وتعالى كيفه بالصورة التى تمكنه من تحقيق هذه الغاية ووهبه كل مقومات الحرية السابقة ليعى دوره فى الحياة ، ويعقل الأشياء عن الله ويتحمل المسئولية عن أفعاله الخلقية ، فيتحقق معنى العدل والجزاء .(1/288)
كما أن العلاقة بين الله والعالم فى تصورهم هى علاقة ربوبية فالخلق كله مربوب لله انفرد الله بإيجاده وتسييره بقدرته وانفرد برعايته وعنياته ولطفه ، فلم يخلق الخلق وينعزل عنه كما هو الحال عند الفلاسفة أو خلقه وجعل عقولا فعالة تنفرد بتسييره وتدبير حاله من دونه كما هو الحال فى اعتقاد غلاة الصوفية فى الأقطاب التى تتحكم فى الكون بتفويض من الله ، أو أن الطبيعة هى التى تحكم قدرته سبحانه وتعالى فلا يفعل إلا من خلال قوانينها وكل هذه المنزلقات الفكرية ردها أوائل الصوفية وأمنوا بأن الأسباب الموضوعة فى الكون سواء كانت أسبابا غيبية أو أسبابا مشهودة ما هى إلا مجرد أدوات فى يد القدرة يفعل الله بها أو بغيرها .
فمن جانب ينصر بها أولياءه على أعدائه فيؤيدهم بالأسباب وغيرها فتظهر المعجزات للرسل والكرامات للأولياء ، ومن جانب ينظرون فى بديع الصنع فيزدادون إيمانا ، كل ذلك يضاف إلى أن الله خلق الدنيا وسيلة إلى الآخرة وليست غاية ، فإذا أدرك الإنسان ذلك جعل اهتمامه منصبا فى الغاية من خلقه ، وتملكته عبودية ربه فلا يحزن لفوت لذة أو يفرح بتحصيل عاجل لعلمه أن الله يقلب الأمور ويصرفها ابتلاءا واختبارا ، فيعمل للإعداد لدار البقاء حيث النعيم المقيم والفرح الدائم الذى لا ينقطع .
إن الحرية الحقيقية للذات الإنسانية لا تؤتى ثمارها عند أوائل الصوفية إلا إذا أدرجت فى الحسبان موقفها من الموت وما بعده فالذى يرى الموت عدما يحاول أن يغتنم الحياة كدار للنعيم يلتهم منها على قدر ما يستطيع ويغفل الجانب الحقيقى لمعنى الحياة والحكمة الإلهية من إنشائها ، فيتخبط فى سلوكه مرة بين الحسرة ومرة بين التناسى ، ولا بد من حتمية اللقاء المرتقب الذى حاول أن يتملص منه بالهروب إلى هوى النفس والخضوع له .(1/289)
ومن ثم يمكن القول أن خلق الإنسان بإرادة حرة يمثل عند أوائل الصوفية وسيلة لإبراز هذه الغاية الحقيقية فى ميدان العبودية والمجاهدات أو ميدان إرادة الحرية .
فالكمال الإنسانى يكمن فى ارتقاء الانسان إلى ما فوق سلطان الشيطان والشر والنفس ، ودخول الانسان فى عبودية الله بإرادته هو السبيل الوحيد عند أوائل الصوفية للمحافظة على حريته وتحقيق ذاته ، إذ أنه يضع نفسه فى موقعه الصحيح بين الكائنات فينضم إليها ويشاهدها عابدة بحقيقة الربوبية فينخرط معها بنفى تدبيره إلى تدبير الله ، وخضوعه وإخضاعه لما منحه الله من نعم وفضل مما يجعل الإنسان كائنا على قمة الكائنات .
وإذا كانت المطالب الإنسانية إما مادية تخدم حاجات الانسان الجسمية كالأكل والشرب والملبس وغيرها أو مطالب روحية تخدم حاجة الروح فى الاستقامة وراحة الضمير ، فإن أوائل الصوفية بينوا الموقف الصحيح من خلال رؤيتهم للخلاص من كل الضروريات النفسية والطبيعية التى ابتلاهم الله بها وقدموا رؤية ناجحة لاستعلاء الإنسان على الحياة وحفظ كرامته بين خلق الله ، وذلك من خلال اختياره لربه دون غيره ليسلم له نفسه وماله وكل ما يملك .
* النوع الثانى :
نتائج على مستوى موضوع التصوف ، فمن خلال البحث عن مادة الموضوع فى تراث التصوف يمكن استخلاص النتائج التالية :(1/290)
[1] - أن العلوم الموروثة عن أوائل الصوفية نتاج للتعبيرات الوجدانية الناشئة من دخول المسلم للمعامل الإيمانية ، فهو اجتهاد لطائفة من المسلمين الأوائل فى شرح طبيعة الحالة الإيمانية عند المرور بها أو الوصول إلى منتهاها ، فهو فكر قائم على خدمة العقل والوجدان لإبراز مصطلحات خاصة بالمراحل الإيمانية ممثلة فى المقامات والمذاقات الإيمانية ممثلة فى الأحوال ، وهذا الفكر قد يلتقى مع الوحى وقد يفترق عنه شأنه فى ذلك شأن العلوم الأخرى ، ومن الخطأ الكبير أن يتصور البعض أن فكر أوائل الصوفية هو الإسلام فالإسلام فاضت منه العلوم بغزارة كان التصوف واحدا من تلك العلوم .
ومن ثم فإن التصوف من حيث المبدأ أصيل المنشأ فى البيئة الإسلامية ، فلا مؤثرات أجنبية ملحوظة حتى القرن التالث الهجرى على الأقل ، فالأمر طالما أنه اجتهاد لخدمة الدين وتجسيد لمذاقات العبودية فى صورة نظرية فمن المعقول أن يختلف الأمر من شخص إلى آخر ومن مذاق إلى آخر ، ومن ثم فسوف يأخذ منه ويرد وسوف يخضع لعوامل التطور واحتمال الخطأ والصواب والنقد والمخالفة .
[2] - أن التوحيد الصوفى عند أغلب أوائل الصوفية لا يجافى التوحيد السنى بل يتآزران فى التعبير عن عقيدة الكتاب والسنة فالتوحيد الصوفى لأوائل الصوفية شدد على ضرورة التخلص من خفايا الشرك والرياء والكبر وعبودية الدرهم والدنيار والنفس والشيطان ، ولم يثبت عن واحد منهم أنه بنى مسجدا على قبر شيخ من شيوخه أو أقام مولدا أوفعل ما يفعله كثير من أصحاب الطرق الصوفية فى العصر الحاضر من دعاء الأموات والعكوف على قبور المشايخ والنذر لهم والاستعانة بهم والتوكل عليهم أو شد الرحال إليهم بل أقوالهم فى التوحيد تدل على السمو فى تحقيقه وتجسيده .(1/291)
[3] - مقاومة أغلب أوائل الصوفية بصورة شديدة للتقصير فى العبادات بدعوى الإنمحاء وسقوط أوصاف البشرية ، وكذلك منعوا النظر إلى الأحداث والإجتماع بهم ورأوا أن ذلك محرم وكل من أجاز ذلك
فهو مشرك على حد تعبير الهجويرى فى كشف المحجوب (1) .
وكذلك قاوموا بشدة مرافقة النسوان والاختلاط بهم والاستتار تحت المرقعات والتواكل وسؤال الناس والذكر بالرقص المعهود على عكس ما هو قائم فى الطرق الصوفية حاليا وأنه لا أساس للرقص فى الدين ولا فى طريق أوائل الصوفية ولا قال به أحد من المشايخ .
وكذلك قاوموا كل ما يحدث فى مجالس السماع من حركات تحت اسم الانجذاب أو الولاية فالتصوف كان يحمل المعانى الإيجابية ويحض على الاتباع دون الإبتداع .
[4] - أن السلبيات الصوفية التى وجدت عند الأوائل وأثرت على الزيادة فى زاوية الانحراف عبر القرون ثثمثل فيما يأتى :
ا - الغلو فى الطاعة والالتزام بما ليس بلازم من الأحكام ، فكثير منهم نزل المندوب منزلة الوجوب وشق على نفسه فى كثير من النواحى التى جعل الشرع فيها مندوحة وسعة فأصبحت هذه الالتزامات سنة عند المتأخرين لا يسعهم الخروج عنها وكل طريقة شددت على المريدين فى الالتزام بمنهجها الخاص وإن لم ينسجم مع السنة فى كثير من النواحى .
ب ــ اتباع الكثير من العامة للتصوف عن جهل بحقيته فتشبهوا ــــــــــــــــــــــــ
1- كشف المحجوب ص 502 .
بالمشايخ فى ظاهر اللباس ومعظم الشطحات والزلات ثم اجتهدوا فى نماء ذلك بجهلهم فضلوا وأضلوا وحسب ذلك على التصوف .
وقد كان لهذا العامل من التأثير ما فتح الباب لدخول عوامل الهدم والمكيدة للإسلام والمسلين تحت عباءة التصوف فدخلت المؤثرات الأجنبية واختلطت الأمور .(1/292)
جـ ــ وجود بعض الآراء المتطرفة التى ألصقها الناس فى أذهانهم بعامة الصوفية دون بعضهم ، فآراء الحلاج وشطحات أبى يزيد البسطامى والشبلى والنورى وغيرهم جعلت الناس يرفعونها على حساب التصوف من ناحية ، وإهمال الموقف الإيجابى للمشايخ فى التبرؤ منها وتقبيحها من ناحية أخرى ومما زاد فى الصاق هذه الأفكار بهم أنها وجدت قوة لتثبيتها وإظهار شوكتها عند ابن عربى وابن الفارض وغيرهما فأثمرت هذه الآراء علقما وحنظلا ذاق المسلمون مرارته .
د ــ الاستغلال السيئ لبعض المصطلحات الصوفية من قبل المرتسمين بالتصوف أو المعادين له ، فمن خلال عرض أوائل الصوفية لأقوال المخطئين فى فهم هذه المصطلحات ، يستطيع الباحث أن يرى مدى الجهد المبذول لكشف المقصود فى استعمال المصطلح المعين من ناحية ، وفهم الأثر السيئ لهذه المصطلحات والجهد المطلوب لرده من ناحية أخرى .
* ثانيا أهم التوصيات
[1] - أوصى المسلم أن يتبع الشرع بميزان الاعتدال ، لأن الغلو ابتداع فى دين الله وقدح فى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ووصف لأصحابه بالتقصير فى الالتزام ولذلك قال حذيفة بن اليمان : ( كل عبادة لم يتعبد بها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلا تتعبدوا بها فإن الأول لم يدع للآخر مقالا ، فاتقوا الله يامعشر القراء خذوا طريق من كان قبلكم ) (1) .
كما أن الغلو فى جانب سوف يؤدى إلى التقصير فى جانب آخر على وجه الضرورة ، فاستطاعة الإنسان محدودة وقدرته مهما بلغت تتأثر بضعفه فى النواحى الأخرى ، والله سبحانه كلفنا بمنهج يتناسب مع فطرتنا فقال سبحانه: { لا يكلف الله نفسا إلا وسعها } (2) فالمنهج الإسلامى فيه الخير
ــــــــــــــــــــــــ(1/293)
1- انظر شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة لللالكائى حـ 1 ص90 ، وحلية الأولياء حـ 1 ص 280 ، وأخرج البخارى نحوه عن حذيفة رضى الله عنه انظر كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة باب الاقتداء بسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم برقم (7282 ) .
2- البقرة / 286 .
ولا خير أفضل منه .
[2] - وجوب الاعتدال فى النظر إلى التصوف ورجاله ، فكل يأخذ من كلامه ويرد ولا يصح التحامل عليهم مطلقا ولا الموافقة لهم مطلقا صحيح أن الواقع الصوفى فى العصر الحاضر يكوِّن صورة بغيضة عن الصوفية وأبناء جنسهم مطلقا ، لكن الله أمرنا بالعدل فقال سبحانه : { يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون } (1) .
فمشايخ الصوفية الأوائل لهم كلام بديع يعبر عن حقيقة الدين ولبعضهم شطحات فى بعض الأوقات تخرج عن حد الدين .
قد أحسن شيخ الإسلام ابن تيمية حين قال : ( تنازع الناس فى طريقتهم ، فطائفة ذمت الصوفية والتصوف وقالوا : إنهم مبتدعون خارجون عن السنة ، وطائفة غالت فيهم وادعو أنهم أفضل الخلق وأكملهم بعد الأنبياء ، والصواب أنهم مجتهدون فى طاعة الله كما اجتهد غيرهم من أهل طاعة الله ففيهم السابق المقرب بحسب اجتهاده ، وفيهم المقتصد الذى هو من أهل اليمين ، وفى كل من الصنفين من قد يجتهد
ــــــــــــــــــــــــ
1- المائدة / 8 .
فيخطئ ، وفيهم من يذنب فيتوب أو لايتوب (1) .(1/294)
[3] - ضرورة إبراز المعانى الاسلامية من خلال مصطلح الحرية للشباب المسلم فى العصر الحاضر حتى يتمكن من فهم الطريقة السليمة للتفكير فى الحياة واجتياز عوائقها إلى السعادة فى الدنيا والآخرة فقد نجح الصوفية الأوائل عندما ربطوا الحرية بالعبودية فى رفع الضغوط النفسية والتحرر منها ، ورفع تأثير الضروريات المادية عن سلوكهم وحياتهم ، ومن جانب آخر حققوا الغاية من خلقهم ووضعوا أنفسهم فى الموضع الصحيح من هذا الكون حيث قال تعالى :
{ وما خلقت الجن والانس إلا ليعبدون } (2) .
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
** ** **
ــــــــــــــــــــــــ
1- الصوفية والفقراء ص 6 ، 7 .
2- الذاريات / 56 .
*** مراجع الرسالة ***
الإبانة عن أصول الديانة ، للإمام أبى الحسن الأشعرى تحقيق الدكتورة فوقية حسين محمود ، طبعة دار الأنصار ، القاهرة سنة 1397 هـ .
الإحسان فى تقريب صحيح ابن حبان ، تأليف الإمام ابن أبى حاتم محمد بن حبان البستى ، تحقيق شعيب الأرنؤوط ، طبعة مؤسسة الرسالة ، بيروت سنة 1988م .
إحياء علوم الدين ، للإمام أبى حامد الغزالى ، طبعة دار إحياء الكتب العربية ، عيسى الحلبى ، القاهرة سنة 1377 هـ ، 1957م .
أخبار الحلاج ، جمع الأستاذين : لويس ماسينيون ، وبول كراوس طبع فى باريس سنة 1936م .
آداب المريدين ، تأليف أبى النحيب ضياء الدين السهروردى تحقيق فهيم محمد شلتوت ، طبعة دار الوطن العربى ، القاهرة ، بدون تاريخ .
آداب المريدين وبيان الكسب ، للإمام الحكيم الترمذى ، تحقيق الدكتور عبد الفتاح عبدالله بركة ، طبعة مطبعة السعادة ، القاهرة بدون تاريخ .
أدب النفس ، للإمام الحكيم الترمذى ، تحقيق الأستاذ ج أربرى والدكتور على حسن عبد القادر ، طبعة مصطفى البابى الحلبى القاهرة سنة 1974 م(1/295)
- المقدمة
- أهمية الموضوع .
- منهج البحث
- خطة البحث
- الباب الأول
دراسة فى مفهوم الحرية وواقع الصوفية
- الفصل الأول:
واقع التصوف والصوفية
- المبحث الأول
التصوف نسبته ومعناه
- المبحث الثانى
دراسة العوامل التى أسهمت فى ظهور التصوف
والصوفية
- المبحث الثالث
موضوع التصوف وأهم قضاياه
الفصل الثانى :
دراسة فى مفهوم الحرية
- المبحث الأول
الحرية لغة وشرعا
- المبحث الثانى
الحرية فى تاريخ الفكر الإسلامى
- أولا مذهب الجبرية .
- ثانيا مذهب القدرية
- ثالثا المذهب السلفى
- المبحث الثالث ..
الحرية ومنهج الحياة الإسلامية
- الحرية فى المجال السياسى .
- الحرية فى المجال الدينى
- الحرية فى المجال الاقتصادى
- الحرية فى المجال الاجتماعى(1/309)
- الباب الأول :
مفهوم القضاء والقدر وعلاقته بالحرية عند أوائل الصوفية
- الفصل الأول :
موقف أوائل الصوفية من صفات الله وعلاقته بموضوع القدر والحرية .
- المبحث الأول
منهج أوائل الصوفية فى فهم المسائل الاعتقادية
1- التسليم للوحى فيما ثبت من نصوص الصفات وغيرها
2- جواز إعمال العقل فى خدمة النقل.
3- إفراد ذات الله وصفاته وأفعاله عن المقاييس
التى تحكم المخلوق
4- إثبات الصفات على الحقيقة لا على المجاز....
- المبحث الثانى :
موقف أوائل الصوفية من صفات الذات وصفات الفعل
- اثبات القدم فى صفات الذات وفى صفات الأفعال
- صفات الأفعال وأبدية المفعولات
- معية الله فى مجال الصفات دون الذات
- المبحث الثالث :
إفراد الله بالفاعلية أساس عقيدة القضاء والقدر عند مشايخ الصوفية
- الصوفية أجمعوا على خلق الله لأفعال العباد
- رأى الكلاباذى
- رأى التسترى
- رأى الجنيد بن محمد
- رأى الواسطى
- المبحث الرابع :
مراتب الإيمان بالقدر عند مشايخ الصوفية......
1- العلم.(1/310)
2- الكتابة
3- القضاء
4- القدر
- أنواع التقدير
- الفصل الثانى :.
الحرية وأصالتها فى الذات الإنسانية عند أوائل الصوفية .
- المبحث الأول :
مفهوم الذات الإنسانية عند أوائل الصوفية
- موقف أوائل الصوفية من الذات الانسانية يختلف عن المذاهب الفلسفية والنظرية
- الجهد الصوفى قائم على إصلاح النفس فى ذات الإنسان
- الامتداد الغيبى للوجود الإنسانى فى الزمان
تحقيق الذات الإنسانية عند مشاغ الصوفية
- المبحث الثانى :
الإرادة الحرة وأصالتها فى الذات الإنسانية
- الإرادة الحرة هى الركيزة الأولى فى الاختيار
عند أوائل الصوفية.
- الإرادة هى علة الفعل والدافع لوقوعه.
- الفرق بين النية وحديث النفس
- الصوفية اشترطوا شرطين لقبول العمل
- الصوفية وإسقاط الإرادة
- المبحث الثالث :
دوافع الإرادة وبواعثها عند أوائل الصوفية
- الخواطر عند الصوفية مبنية على ركنين
1- الروح فى مقابل النفس
2- الملك فى مقابل الشيطان
- التفاعل بين النازعين والهاتفين وعلاقة ذلك بالإرادة.
- رأى التسترى
- رأى أبى طالب المكى
- كيفية التعرف على مصدر الخواطر(1/311)
- شكل توضيحى لبواعث الخواطر عند الصوفية
- المبحث الرابع .
موضوع الاختيار البشرى ومجاله عند الصوفية..
- موضوع الاختيار البشرى فى القرآن
- أوائل الصوفية يجمعون على الإيمان بوجود الجنة والنار
- موضوع الاختيار البشرى واتساع دائرته عند أوائل الصوفية .
- رأى ابن تيمية فى ذلك.
- رأى ابن القيم..
- الحلاج وموقفه من موضوع الاختيار ومجاله
- المبحث الخامس :
العلاقة بين المشيئه الإلهية المطلقة والإرادة الإنسانية الحادثة .
- رأى ابن خفيف الشيرازى
- الصوفية فرقوا بين وجهين لإرادة الله ......
- الوجه الأول
- الوجه الثانى
- رأى سهل بن عبد الله التسترى
- رأى الحكيم الترمذى
- تفصيل المكى لأعمال العباد وتعلقها بالمشيئة .
- الفرض.
- النفل
- المعصية
- الباب الثانى
الحرية من الجانب العملى السلوكى
- الفصل الأول :
الاستطاعة البشرية والفاعلية الإلهية
- المبحث الأول :
الاستطاعة من مقومات الحرية عند أوائل
الصوفية..
- رأى الخراز.(1/312)
- رأى المحاسبى.
- رأى الترمذى.
- أوائل الصوفية أجمعوا على إثبات الاستطاعه الذاتية للإنسان
- عودة إلى رأى المحاسبى.
- رأى ابن خفيف الشيرازى
- رأى الكلاباذى
- شكل توضيحى للفرق بين الكسب عند الأشعرى والكسب عند أوائل الصوفية..
- الاستطاعة عند التسترى قبل الفعل وأثناؤه وبعده
- المبحث الثانى :
الاستطاعة وعلاقتها بالعلل الطبيعية.
- أوائل الصوفية التزموا النهج الإسلامى فى مبحث العلية.
- مقومات التوكل وعلاقة ذلك بالأسباب
- معلولات بلا علة
- علل بلا معلولات.
- الاستطاعة وعلاقتها بما سبق
- رأى المكى
- المبحث الثالث :
العلاقة بين الفاعلية الإلهية والفاعلية الإنسانية
- الصوفية أثبتوا وجهين للفعل البشرى
- الأدلة من القرآن على ذلك.
- رأى المكى
- مفهوم المكى للأواسط المشهودة والغيبية..
- رأى الحكيم الترمذى
- رأى التسترى .
- ذل الحجاب ولطف الحجاب.
- رأى الهجويرى.
- المبحث الرابع :(1/313)
الحكمة من خلق الأواسط والأسباب عند مشايخ الصوفية.
- الأسباب حق بالنظر إلى القدر الإلهى فى وجودها
- القرآن يثبت الأسباب باعتبار وينفيها باعتبار آخر
- موقع الأسباب بالنسبة للقدرة كموقع الآلة بيد الصانع
- المكى يرد على القائلين بخلق القرآن من خلال استتار الفاعلية الإلهية بالأسباب
- الابتلاء علة احتجاب القدرة بالأواسط والأسباب .
- تعليق ابن القيم
- رأى سهل بن عبد الله
- المكى يؤكد على رأى التسترى
- الفصل الثانى :.
الحرية ومنهج العبودية.
- المبحث الأول :
العقل والعلم من مقومات الحرية عند أوائل الصوفية.
- الترابط بين مقومات الحرية
- العلم ينبثق من معنى الإبتلاء
- رأى الترمذى
- رأى المحاسبى
- المحاسبى يحدد مجالين لعمل العقل .
- المجال الأول
- الهجويرى يتفق مع المحاسبى فى تقسيمه...
- المجال الثانى
- الرسول صلى الله عليه وسلم فصل بين المجالين
- العلوم نوعان
عودة إلى كلام المحاسبى
- المبحث الثانى :(1/314)
الحرية فى الإصطلاح الصوفى
- الإصطلاح الصوفى للحرية إضافة جديدة للتراث الإسلامى.
- الاصطلاح الصوفى للحرية مؤثر فى البحث من وجهين.
- الوجه الأول
- الوجه الثانى
- الحرية وارتباطها بالعبوديه فى الحديث النبوى
- رأى الجنيد فى مصطلح الحرية
- رأى بشر بن الحارث.
- حرية الباطن وحرية الظاهر
- التحرر من طلب العوض.
- التحرر من التكاليف الشرعية.
- حرية الباطن والتحرر من الضرورات النفسية
- مخالفة النفس رأس العبادة ومظهر الحرية ....
- رأى المحاسبى فى ذلك
- رأى السلمى فى ذلك ........................
- حرية الظاهر والتحرر من الضروريات الطبيعية.......................................
- عبوديات القلب واللسان والجوارح ...........
- الغلو فى العبادة وموقف الصوفية منه .......
- الموقف النبوى...............................
- شكل توضيحى للغلو فى العبادة ..............
- المبحث الثالث :............................
المقامات الصوفية وإرادة الحرية...............
- المقامات الصوفية درجات فى طريق الحرية
1- التوبة......................................
2- الورع .....................................
- الورع درجات فى موطنه....................
3- الزهد......................................
- الزهد عند المحاسبى.........................
- الزهد عند أبى سعيد الخراز.................
- الزهد عند المكى ...........................(1/315)
4- الصبر ....................................
- الصبر درجات فى موطنه ..................
5- التوكل ....................................
- التوكل درجات فى موطنه ..................
6- الرضا ....................................
7- الحرية ....................................
- شكل توضيحى للمقامات الصوفية من التوبة إلى الحرية......................................
- المبحث الرابع : .............................
الأحوال الصوفية وثمرة الحرية.................
- الثمرة الأولى للحرية.........................
أحوال الحب....................................
1- الخوف والرجاء ..........................
2- القبض والبسط ............................
3- الهيبة والأنس.............................
4- التواجد والوجد والوجود....................
شكل توضيحى................................
- الثمرة الثانية للحرية.........................
أحوال الفناء....................................
1- الفناء والبقاء..............................
- الفناء عند سهل بن عبد الله التسترى........
- الفناء عند الجنيد ...........................
- حقيقه هامة فى فهم الفناء ...................
2- الجمع والفرق ............................
3- الغيبة والحضور ..........................
4- المحو والإثبات ...........................
5- التلوين والتمكين ..........................
6- بين الفناء والتحقق ........................
- شكل توضيحى..............................
- الحقيقة والشريعة وبيان الهدف من علوم التصوف.(1/316)
- الخاتمة :...................................
- ملخص البحث .............................
- أولا : نتائج البحث .........................
- نتائج على مستوى موضوع البحث .........
- نتائج على مستوى موضوع التصوف ......
- ثانيا : أهم التوصيات ......................
- فهرس المراجع............................
- فهرس الموضوعات .......................
- ملخص البحث باللغة الإنكليزية ............
تم بحمد الله
** ** **(1/317)
الباب الأول
دراسة فى مفهوم الحرية وواقع الصوفية
ويشتمل على فصلين :
الفصل الأول : واقع التصوف والصوفية فى القرنين
الهجريين الثالث والرابع .
الفصل الثانى : دراسة فى مفهوم الحرية .
الفصل الأول
واقع التصوف والصوفية
وقد اشتمل على ثلاثة مباحث :
المبحث الأول : التصوف نسبته ومعناه .
المبحث الثانى: دراسة العوامل التى أسهمت فى
ظهور التصوف والصوفية .
المبحث الثالث : موضوع التصوف وأهم قضاياه .
الفصل الثانى
دراسة فى مفهوم الحرية
وقد اشتمل على ثلاثة مباحث :
المبحث الأول : الحرية لغة وشرعا .
المبحث الثانى : الحرية فى تاريخ الفكرالإسلامى .
المبحث الثالث : الحرية ومنهج الحياة الإسلامية .
المقدمة(1/318)